شرح الحموية لابن تيمية - الراجحي

عبد العزيز الراجحي

[1]

شرح الحموية لابن تيمية [1] من عقيدة السلف الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، ومن ذلك الإيمان بصفة الاستواء لله تعالى، فهذه الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة، وقد خالف هذه العقيدة كثير من أهل البدع، وادعوا أن مذهبهم أحكم من مذهب السلف، والصواب أن مذهب السلف أعلم وأحكم وأسلم.

سائل من بلدة حماة الشام يسأل ابن تيمية

سائل من بلدة حماة الشام يسأل ابن تيمية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: [سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية وذلك في سنة ثمان وتسعين وستمائة، وجرى بسبب هذا الجواب أمور ومحن، وهو جواب عظيم النفع جداً]. يسمى جواب هذا Q الحموية؛ لأن السائل من بلدة حماة الشام. [فقال السائل: ما قولكم في آيات الصفات كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11]، إلى غير ذلك من الآيات. وأحاديث الصفات كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن)، وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار)، إلى غير ذلك من الأحاديث. وما قالت العلماء؟ وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى] قوله: إن شاء الله، من باب الخبر؛ لأن الدعاء لا يستثنى فيه، كما في الحديث: (لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له)، وجاء في الحديث الآخر: (لا بأس طهور إن شاء الله)؛ لأن هذا من باب الخبر.

مقدمة لابن تيمية بين يدي جوابه على السائل

مقدمة لابن تيمية بين يدي جوابه على السائل [فأجاب: الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه، وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله والى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر أنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، فلم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا وما يجوز عليه وما يمتنع عليه. فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟]. لأن باب الأسماء والصفات هو أصل الدين.

تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته كل شيء

تعليمه صلى الله عليه وسلم لأمته كل شيء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المحال أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة] أي: حتى أحكام الاستنجاء وكيفية إزالة النجاسة، فكيف يعلمهم ذلك، ولا يعلمهم باب أصل الدين، وباب الأسماء والصفات، وهذا فيه رد على أهل البدع الذين يتأولون بعقولهم وينفون الصفات، ويقولون: إن هذا متروك للعقول: وهذا محال؛ لأن الرسول قد علم أمته كل شيء حتى أحكام الاستنجاء حتى الخراءة، قال بعضهم لـ سلمان: علمكم نبيكم كل شيء، قال: نعم، علمنا نبينا كل شيء حتى أحكام الاستنجاء، والوضوء. فلا يمكن أن يعلمهم أحكام الاستنجاء، وأحكام غسل النجاسة، ولا يعلمهم أصل الدين! لا يمكن هذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المحال أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال فيما صح عنه أيضاً: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم). وقال أبو ذر رضي الله عنه: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (قام فينا رسول الله مقاماً فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) رواه البخاري. محال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين]. قوله: وإن دقت أن يترك تعليمه أي: وإن كان شيئاً صغيراً، أو شيئاً قليلاً. وقوله: يقولونه بألسنتهم أي: يقولون مثلاً: إن الله استوى على العرش، والله سميع بصير، والله عليم حكيم، ويعتقدون هذا بقلوبهم، فلا يمكن أن يترك هذا الأمر -الذي يقوله إنسان بلسانه ويعتقده بقلبه- إلى العقول. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام]. أي: باب أصول الدين، ومنه الأسماء والصفات.

استحالة كون أصحاب القرون المفضلة يجهلون تلك الأمور أو يتكلمون فيها بغير الحق

استحالة كون أصحاب القرون المفضلة يجهلون تلك الأمور أو يتكلمون فيها بغير الحق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه، ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة، القرن الذي بعث فيهم رسول صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق، وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع]. أي: إما كونهم يجهلون باب أصل الدين، أو يتكلمون فيه بغير الحق، وهذا ممتنع، ومن الممتنع أيضاً أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين أصل الدين، وإذا كان ممتنعاً فممتنع كذلك أن تكون خير الأمة وأفضل الأمة، وهم القرون المفضلة بعده صلى الله عليه وسلم لم يحكموا هذا الأصل، أو جهلوه، أو تكلموا فيه بغير الحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، فلابد أن يحكموا هذا الباب، ويتكلموا فيه بالحق. وعلى هذا تكون أقوال أهل البدع الذين جاءوا بعد تلك القرون المفضلة، كلها أقوال باطلة ومردودة، ومناقضة لما عليه السلف الصالح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أما الأول فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته. وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر]. وهذا الكلام مقدمة عظيمة للمؤلف رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي]. قوله: المقتضي أي: الموجب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع من أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله، فكيف يقع من أولئك؟!]. أي: إن كونهم لا يتكلمون بهذا الدين، ولا يحكمون أصل الدين، ولا يعرفونه، ولا يتكلمون به، هذا مستحيل، والأمر الثاني أنه يستحيل أيضاً أن يتكلموا بغير الحق، إذ يستحيل ألا يفهموا أصل الدين ولا يحكموه ولا يتكلموا به، ولا يتكلم فيه إلا المتأخرون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق، أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم. ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء -ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها-: من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم]. الخالفون: هم الخلف المتأخرون، الذين جاءوا بعد السلف الصالح. وهذه مقالة معروفة عن أهل البدع، وهي أن طريقة السلف أسلم والخلف أعلم وأحكم، وهذا باطل، فالسلف أسلم وأعلم وأحكم، والخلف ليس عندهم شيء من العلم والحكمة، وإنما هم على جهل واعتماد على العقول والآراء وزبالة الأذهان ومحادثة الأفكار، فطريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم.

ضلال المبتدعة بتفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف

ضلال المبتدعة بتفضيل طريقة الخلف على طريقة السلف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن هؤلاء المبتدعة، الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث، من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف، وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة]. إذاً: فالسبب أنهم قرروا في أنفسهم أن النصوص لا تدل على الصفات، فقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، لا يدل على صفة الاستواء، وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم:2]، لا يدل على صفة العلم والحكمة، هذا هو قصدهم، فلما قرروا هذا الأمر صاروا تجاه نصوص الصفات بين أمرين: الأمر الأول: أن يصرفوها إلى معان ابتدعوها من عند أنفسهم: يقولون: استوى معناها: استولى. والأمر الثاني: التصوير، يقولون: نصورها ولا ندري ما معناها، مع أننا نجزم بأنها لا تدل على إثبات الصفات، فهم بين طريقة التصوير وبين طريقة التأويل والتحريف، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة، التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف- فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات]. قوله: بالسمع أي: بالأدلة السمعية، كفروا بالنصوص واعتمدوا على عقولهم الفاسدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه. فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين، بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله]. أي: ظنوا أن السلف قوم سذج، لا يفهمون إلا مجرد التلاوة فقط، وليس عندهم عقول يفهمون بها النصوص ويعرفون بها اللغة، بل يؤمنون بمجرد اللفظ، فلهذا قالوا: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وعندهم أن طريقة السلف هي التفويض، وطريقة الخلف هي التحريف. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة، كيف يكون هؤلاء المتأخرون لاسيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وأقروا على نفوسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي]. هذا كله من كلام الرازي، وانظر السير والفتاوى وطبقات الشافعية، وفيه زيادة، ثم قال: وأقول من صميم القلب، من داخل الروح: إني مقر بأن كل ما هو الأكمل الأفضل الأعظم الأجل فهو لك، وكل ما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه. يقول شيخ الإسلام تعليقاً على عبارته التي جاءت في النص: [وهو صادق فيما أخبر به، أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفة، سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلاً ولا يروي غليلاً، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره!] انتهى من منهاج السنة. [ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وهأنذا أموت على عقيدة أمي]. هذه مقالة أبي محمد الجويني وهو من الأشاعرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام]. أشار شيخ الإسلام في موضع إلى أن قائل هذا الكلام هو أبو حمزة الغزالي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المفضولون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان. من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب، وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة]. وبه قاموا: أي عملوا بالكتاب وتلوه ونفذوه، وطبع الكتاب بهم، والكتاب قام بهم بمدحهم والثناء عليهم، وبهم نطق أي: بفضلهم، وبه نطقوا أي: تلوه وعملوا به. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة. ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لاسيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم، أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين، وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!].

سبب هذه المقدمة

سبب هذه المقدمة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما قدمت هذه المقدمة؛ لأن من استقرت هذه المقدمة عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة، وليس غرضي واحداً معيناً، وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء]. المقصود وصف النوع، وليس الأشخاص بعينهم.

إثبات صفة العلو لله عز وجل

إثبات صفة العلو لله عز وجل

صفة العلو في كتاب الله

صفة العلو في كتاب الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا كان كذلك، فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء، وهو على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء، مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]]. يصعد أي: يرفع، والرفع يكون من أسفل إلى أعلى، والصعود يكون من أسفل إلى أعلى، فدل على ثبوت العلو. قال المؤلف رحمه الله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:17]]. ومن في السماء: أي في العلو. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]]. الشيخ: والعروج يكون من أسفل إلى أعلى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37]، {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام:114] إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة]. والنزول يكون من أعلى إلى أسفل، فدل على أن الله في العلو.

صفة العلو في سنة رسول الله

صفة العلو في سنة رسول الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بكلفة، مثل قصة معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقول الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: (فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم)]. والعروج يكون من أسفل إلى أعلى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح في حديث الخوارج: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟!). وإذا أطلق لفظ (السماء) كان المراد به: العلو. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: (ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع)، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتكى أحد منكم، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء) وذكره. وقوله في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه)، رواه أحمد أبو داود وغيرهما. وهذا الحديث مع أنه قد رواه أهل السنن، كـ أبي داود وابن ماجة والترمذي وغيرهم، وهو مروي من طريقين مشهورين، فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، وقد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه: ألا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم]. أي: إن هذا أن الحديث وإن كان فيه ضعف إلا أنه مروي من طريقين يشد بعضهما بعضاً، فيكون حسناً لغيره، وله أيضاً شواهد كثيرة من الكتاب والسنة؛ لأن بعض الناس يطعن في حديث الأوعال. ولو فرضنا أنهم طعنوا فيه، أو أنه لم يصح فنصوص العلو كما قال ابن القيم: تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف، ومع ذلك فله طريقان وله شواهد كثيرة من الكتاب والسنة كثيرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الصحيح للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة)]. دل على السؤال عن الله بأين، وأين إنما يسأل بها عن المكان، ولما قالت: في السماء، أقرها على ذلك، ولهذا فإن أهل البدع يجلبون بخيلهم ورجلهم على كلمة أين، ويقولون: هذا خطأ من الجارية، والرسول صلى الله عليه وسلم أقرها على الخطأ مراعاة لعقلها، وخاطبها على مقدار عقلها؛ لأنها لن تفطن لكلامه. يقولون: لأن السؤال عنه بأين معناه: أنه في مكان، وإذا كان في مكان يكون محدوداً متحيزاً، وهذا كفر عند أهل البدع، ومن قال: إن الله في السماء كفروه، وإذا رفعت أصبعك إلى السماء قطعها الجهمي؛ لأنه يقول: هذا تنقص لله. فهم يخطئون الجارية، ويقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرها على جواب فاسد، وسألها سؤالاً فاسداً؛ وذلك مراعاة لعقلها، فهكذا اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم! فمقصود الرسول صلى الله عليه وسلم -كما يزعمون- بقوله: (أين الله؟) أي: من الله، فخاطبها على مقدار عقلها. والرسول كان أفصح الناس فهل من المعقول أنه لم يستطع أن يقول: من الله؟ أو لم يفرق بين (من) المكونة من حرفين وبين (أين) المكونة من ثلاثة أحرف؟ ولكن لما أرادوا الفرار قالوا: لا يسأل عن الله بكلمة أين. وهذا حديث ثابت في صحيح مسلم، لكن غلبة الهوى، ومتابعة أهل البدع والضلال حملهم على هذا. هذا يخشى أن يكون كفراً، لكن قد يقال: إنهم متأولون، وقد كفر الجهمية بعض أهل العلم كما ذكر ابن القيم، والمعتزلة كفرهم أيضاً جمع من أهل العلم، ومن العلماء من قال: إنهم مبتدعة متأولون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الصحيح: (أن الله لما خلق الخلق كتب فى كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبى)]. فدل على أن الله عز وجل فوق العرش. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله فى حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله) إسناده على شرط الصحيحين. وقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الذى أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقره عليه. شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا]. فأثبت أن الله فوق العرش، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. أورد هذه الأبيات ابن عبد البر في الاستيعاب وقال: وقصته مع زوجته حين وقع على أمته مشهورة، رويناها من وجوه صحاح، ورواه الدارمي في الرد على الجهمية وابن عساكر في تهذيب دمشق، والذهبي في السير وفي العلو، وقال: روي من وجوه مرسلة، منها: يحيى بن أيوب المصري قال: حدثنا عمارة بن غزية عن قدامة بن محمد بن إبراهيم الحطابي فذكره، فالمعروف أنه منقطع. وقصته مع زوجته ذكرها ابن قدامة في العلو، وانظر اجتماع الجيوش الإسلامية، وشرح العقيدة الطحاوية، وروى القصة الدارقطني في سننه، مع اختلاف الأبيات، فمجمل قصته مع زوجته (أنه كان لـ عبد الله رضي الله عنه جارية، فأبصرته زوجته يوماً وقد خلا بها، فقالت: لقد اخترت أمتك على حرتك! فأنكر ذلك، قالت: إن كنت صادقاً فاقرأ آية من القرآن، وكانت تعلم أن الجنب لا يقرأ القرآن على هذه الحالة، قال: فأسمعها البيت الأول من الأبيات الواردة في النص، وكانت لا تعرف القرآن، فظنت أن ما قرأه قرآناً، قالت: فزدني آية، فقال: وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة كرام ملائكة الإله مقربينا. فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فضحك من صنيعه). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه، وقال: (آمن شعره وكفر قلبه). مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء العالي الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريراً شرجعاً ما يناله بصر العين يرى دونه الملائك صوراً]. فقوله: شرجعاً أي: مرتفعاً. ورد هذا الأثر في البداية والنهاية، والتهذيب. والظاهر من قوله: (آمن شعره وكفر قلبه) أن أمية لم يؤمن، والحديث بهذا اللفظ رواه ابن عبد البر في التمهيد، وابن عساكر في تاريخ دمشق، والقرطبي في التفسير، والحافظ في الفتح، وسكت عنه، وابن كثير في التفسير، وفي البداية والنهاية، وقال عقبه: لا أعرفه والله أعلم. وذكره العجلوني في كشف الخفا، وقال: قال المناوي: وسند الحديث ضعيف، والحديث له شاهد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم) رواه البخاري ومسلم]. فالظاهر أن أمية كاد أن يسلم لكنه ما أسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الذي في السنن: (إن الله حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً)]. وهذا الحديث رواه أبو داود، والترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجة، وابن أبي شيبة، وابن حبان، والحافظ في المستدرك، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والبغوي في شرح السنة، وابن عدي في الكامل، والخطيب في تاريخ بغداد، وقال عنه الحافظ في الفتح: سنده جيد، وصححه الألباني. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب)، إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، التي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين]. أي أن هذه النصوص من الكتاب والسنة تفيد العلم واليقين بأن الله تعالى في السماء، كما تفيد المسلم اعتقاداً وتيقناً أن الله تعالى في العلو، إلا من اجتالتهم الشياطين عن فطرتهم وأفسدتها بسبب انحرافهم فلا عبرة بهم. وكما ذكر ابن القيم أن النصوص كثيرة لا حصر لها، بحيث تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف.

طريقة السلف في إثبات صفة العلو، وذكر شبهات المبتدعة

طريقة السلف في إثبات صفة العلو، وذكر شبهات المبتدعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئات أو ألوفاً. ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة -لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا عن أئمة الدين الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف- حرف واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه بذاته في كل مكان، ولا إن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها]. وكل هذه الأقوال لأهل الكلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل يقول: ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكتها إليهم، ويقول: اللهم فاشهد، غير مرة)، وأمثال ذلك كثير. فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً، فكيف يجوز على الله ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق؟ ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً، حتى يجيء أنباط الفرس والروم، وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة، التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها!]. أي أنه من المستحيل وغير الممكن على الله ورسوله ثم على سلف الأمة أن يتكلموا بخلاف الحق، أو يكتمونه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين]. إن العقيدة الصحيحة عند هؤلاء الخالفين من أهل البدع: أن ظواهر النصوص كفر، فقول الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، الذي يأخذ بظاهره ويقول: إن الله استوى على العرش في الحقيقة، فقد كفر عندهم، بل يجب أن تتأول هذه النصوص، وأنها وكلت إلى العقول، وأن الواجب تأويلها على ما يليق بالله بزعمهم، فيقولون: معنى (استوى): استولى. فالمؤلف رحمه الله تعالى يقول: إذا كان لا يعتمد على نصوص الكتاب والسنة وأقوال السلف في بيان العقيدة الصحيحة، كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أحسن، فعلى كلام هؤلاء: أن نصوص الكتاب والسنة لا تزيد الناس إلا ضلال؛ لأنها تكلفهم تأويلها! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل، وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم، فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات، فصفوه به]. أي: بعقولكم وآرائكم الفاسدة. ولكن العقول متضاربة، فعقل هذا يخالف هذا، وعقل هذا يخالف هذا، فلا يوجد عقل يعتمد عليه. نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات فصفوه به، سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم، فلا تصفوه به]. اهتموا بالأدب واللغة العربية، وبثوا فيها السموم، وأدخلوا فيها الإلحاد والحداثة، وهذه قلة في الأدب، وهذا حسن السقاف جهمي يدعو إلى طريقة الجهمية على طريقته، وهو موجود الآن في الشام، وله مؤلفات في الدعوة إلى الضلال والإلحاد، ويقول: إن الإمام أحمد مؤول، وإن من أثبت العلو فهو على مذهب فرعون! نعوذ بالله.

[2]

شرح الحموية لابن تيمية [2] قدرات عقل الإنسان محدودة فلا يمكن أن يدرك كل شيء على حقيقته، فصفات الله تعالى يجب على الإنسان أن يؤمن بها كما جاءت، فإن حكم فيها عقله فإنه سوف يضل ويقع في البدعة وربما في الكفر، وليس معنى ذلك أن يفوض معناها، بل المعنى أن يفوض كيفيتها إلى الله ولا يقحم عقله في التفكير في الكيفية، فكثير من أهل البدع كان سبب ضلالهم أنهم أعملوا عقولهم في التفكير في ذات الله وكيفية صفاته.

فريقان حكموا عقولهم في صفات الله

فريقان حكموا عقولهم في صفات الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هم ههنا فريقان، أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه، -ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه- وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض فانفوه]. الشيخ: أي: أن الذين نفوا الصفات حكموا عقولهم، وقالوا: ننظر في عقولنا في قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] فإذا كان العقل يرى أن هذه الصفة تصلح أن تثبت لله نثبتها، وإذا كان يرى أنها لا تصلح وأن فيها تنقص من الله، وأن فيه مشابهة للمخلوق، فالواجب نفيها عن الله تعالى، ولهذا فإنهم يقولون: إن الاستواء فيه مشابهة للمخلوق، ويلزم منه أن يكون الله محدوداً متحيزاً، فلهذا نفوه بعقولهم. إذاً: فالعقول متضاربة، فأي عقل يرجع إليه؟ ثم لماذا أنزل الله علينا الكتاب؟ وما الفائدة منه إذا كنا لا نعمل به، فنقول في قول الله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]: إن العقل يقول: لا يصح أن يوصف الله بالاستواء؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ثم هم ههنا فريقان أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه -ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه- وما نفاه قياس عقولكم الذي أنتم فيه مختلفون مضطربون اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام]. الشيخ: هذا حال أهل الكلام فأكثرهم ينفون ما تثبته عقولهم، وبعضهم يقول: إن ما نفاه العقل يجب نفيه، وبعضهم يتوقف، فيقول في (استوى): لم يستو، بل نتوقف فيه. فإن قيل: وماذا نعمل بالنصوص؟ قالوا: نحرفها، ونخرجها على وجوه اللغة الشاذة الغربية، ونحملها على معانيها البعيدة المحتملة، ونفسرها بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لكن لتجهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ وغرائب الكلام، أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين]. الشيخ: أي: أن المتكلمين بين أحد أمرين: إما محرفين أو مؤلين، فبعضهم يحرف ويقول: إن استوى معناه: استولى؛ لأن الاستواء لا يليق بالله؛ لأنه يلزم منه أن يكون محدوداً متحيزاً، وأن يكون مشابهاً للمخلوق فننفيه، ونقول: إن معنى استوى: استولى. فيجاب عليهم بأن الاستيلاء الذي فررتم إليه كذلك فيه مشابهة للمخلوق، ويلزم محذور آخر، هو أنه كان مغلوباً ثم غلب. هذا المعنى، المعنى الثاني: السكوت عن معناه، فبعضهم ذهب إلى التفويض -وهو الإيمان باللفظ والسكوت عن المعنى وتفويض المعنى إلى الله- فيقول: لا أدري ما معنى استوى، فأفوض معناها إلى الله. فكأن الألف والسين والتاء والواو والألف حروف أعجمية لا يفهم معناها. ولذلك قال بعض العلماء: المفوضة شر من المعطلة، فهم إما أن ينفوا الصفات ويعطلوها ويحرفوها ويفسروها بتفسيرات باطلة، أو يفوضوا المعنى إلى الله ويكتفوا بالإيمان بالله، فهم بين هذين النقيصتين وهذين الداءين، وهذين الباطلين، إما تحريف وإما تفويض. وهذا هو الذي يذكره النووي في شرح صحيح مسلم وغيره، حيث يقول: للعلماء في صفات الله طريقان: طريقة السلف وهي الإيمان باللفظ، وتفويض المعنى، والطريقة الثانية: طريقة الخلف، وهي التأويل. ولا يذكرون منهج السلف الصالح وهو إثبات الألفاظ والمعاني وتفويض الكيفية إلى الله. والتفويض: هو الإيمان باللفظ والسكوت عن المعنى، مع الجزم بأن الصفات منفية عن الله وأهل التفويض يقولون: نؤمن باللفظ، ولكن المعنى لا نجده بل نفوضه إلى الله، مع الجزم بأن الصفات منفية غير مرادة، وغير ثابتة، لما فيها من التنقص من الله عز وجل بزعمهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه ومضمونه: أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثلما كانوا عليه في الجاهيلة وإلى مثلما يتحاكموا إليه من لا يؤمن بالأنبياء، كالبراهمة والفلاسفة وهم المشركون والمجوس وبعض الصابئين. وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت، يريدون إن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم. وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:60 - 62]. فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول -والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته- أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقيلة والنقلية. ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تقلدوا أكثرها عن طواغيت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم، مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه قلوبهم، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213]. ولازم هذه المقالة: ألا يكون الكتاب هدى للناس ولا بياناً ولا شفاء لما في الصدور ولا نوراً، ولا مرداً عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون: أنه الحق الذي يجب اعتقاده، لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصاً ولا ظاهراً، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. وبالاضطرار يعلم كل عاقل، أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش ولا فوق السموات ونحو ذلك بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، قد أبعد النجعة، وهو إما ملغز أو مدلس، لم يخاطبهم بلسان عربي مبين]. الشيخ: استدلالهم بقول الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] فإنهم يريدون به أن الله ليس فوق العرش؛ لأنه لو صار فوق العرش لصار مشابهاً لأحد من الناس، وصار شيئاً على محسوس، ومشابهاً للمخلوق الذي يكون محدوداً على محدود، فيزعمون أن الله إما أن يكون في كل مكان، أو يكون لا داخل العالم ولا خارجه نعوذ بالله. ولا شك أن الاستدلال بمثل هذا من أبطل الباطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمى وضلالة. يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم -يوماً من الدهر- ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه.

نشأة الفرق وصفات الفرقة الناجية

نشأة الفرق وصفات الفرقة الناجية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق ثلاثاً وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله)، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هو من كان على مثلما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد، فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم]. الشيخ: وفي نسخة: فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن. أي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: من تمسك بالقرآن فهو ضال، وإنما قال في وصف الفرقة الناجية: (من كان على مثلما أنا عليه وأصحابي). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد، فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين. ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين].

أول من تكلم في نفي الصفات

أول من تكلم في نفي الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه]. الشيخ: إذاً: فالذي ابتدع عقيدة نفي الصفات: المخترع والمبتدع الجعد بن درهم، والذي نشرها وأظهرها وتوسع فيها: الجهم، فنسبت إليه ولم تنسب إلى الجعد فالأصل أن يقال: الجعدية نسبة للجعد لا الجهمية؛ لأن الجعد هو أول من اخترعها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود، والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك القبط الكفار، والنجاشي ملك الحبشة النصارى، فهو اسم جنس لا اسم علم]. الشيخ: فيكون الجعد أخذ أصل مقالته عن اليهود والنصارى والوثنين والصابئة عباد الكواكب، فسندها اتصل إليهم. وقوله: فهو اسم جنس، أي: أن النجاشي والنمرود وكسرى أسماء أجناس وليست علماً على أشخاص، ففرعون جنس لمن ملك مصر، ومن ملك اليمن يقال له تبع، ومن ملك الحبشة يقال له: النجاشي، ومن ملك الروم يقال له: قيصر، من ملك الفرس يقال له: كسرى.

الصابئة وعلماؤهم ومن أخذ من مذهبهم

الصابئة وعلماؤهم ومن أخذ من مذهبهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكانت الصابئة إلا قليلاً منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم: الفلاسفة، وإن كان الصابئي قد لا يكون مشركاً، بل مؤمناً بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69]، لكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين، كما أن كثير من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفاراً مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل إليهم]. الشيخ: وهذا هو هذا مذهب الصابئة، وهو أنهم يصفون الله بصفات سلبية أو إضافية أو مركبة، والصفات السلبية بالنفي، ليس بجوهر كقولهم: ولا جسم ولا عرض ولا كذا، وليس له كذا، والإضافية هي الأمور المضافة إلى بعضها والتي لا يعقل معناها إلا مع غيرها، كقولهم في الله: هو مبدأ لهذه الكثرة، وعلة لحركة الفلك، هذه أمور متضايفه لا تثبت وجود الله إلا من جهة كونه محرك لهذا الفلك، بالإضافة إلى الفلك، أو لهذه الكثرة، والمركبة من النفي ومن الإضافة، وهذا هو مذهب الفلاسفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكون الجعد أخذها عن الصابئة الفلاسفة]. الشيخ: يصلح أن نقول الصابئة هم فلاسفة، لكن الفلاسفة هم علماء الصابئة، والصابئة عامتهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضاً]. الشيخ: المعلم الأول هو أرسطو، وهو أول من شاع القول بقدم العالم من الفلاسفة المشائين، ثم جاء المعلم الثاني: أبو نصر الفارابي من رؤساء اليونان، ثم المعلم الثالث: أبو علي بن سيناء، والثلاثة كلهم ملاحدة، وابن سيناء هو الذي حاول أن يقرب الفلسفة من الإسلام، وهو في محاولته الشديدة لم يصل إلى ما وصلت إليه الجهمية الغالية في التجهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضاً فيما ذكره الإمام أحمد وغيره، لما ناظر السمنة بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات]. الشيخ: السمنة: طائفة من فلاسفة الهند لا يؤمنون إلا بالحسيات، ناظروا الجهم وقالوا له: إلهك هذا الذي تعبد، هل رأيته، قال: لا، قالوا: هل سمعته بإذنك، قال: لا، قالوا: هل شممته بأنفك؟ قال: لا، قالوا: هل ذقته بلسانك؟ قال: لا، قالوا: هل جسسته بيدك؟ قالوا: لا، قال: إذاً هو معدوم، فشك في ربه، وترك الصلاة أربعين يوماً، ثم نقش الشيطان في ذهنه، إثبات وجود في الذهن، فأثبت وجوداً لربه، ونفى عنه جميع الأسماء والصفات. وأما القول بقدم العالم فهو كفر، ومعناه: أنه ليس له موجب، وهو إنكار لوجود الله، ومضمونه أن هذا العالم ليس له خالق، وليس بمخلوق. وهذا هو الذي قاله أرسطو، وهو أول من قال بقدم العالم، وكان الفلاسفة قبله لا يقولون بذلك، بل يعظمون الشرائع، ويؤمنون بحدوث العالم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه أسانيد الجهم، ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالين، إما من الصابئين وإما من المشركين]. الشيخ: أي: إن الفلاسفة الضالين إما أن يكونوا من الصائبين، وإما أن يكونوا من المشركين.

الجهمية وبشر المريسي

الجهمية وبشر المريسي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم، ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها: مقالة الجهمية؛ بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته]. الشيخ: فـ بشر المريسي تنسب إليه الطائفة المريسية، والطائفة المريسية هم جهمية، واشتهر المريسي بإظهار مقالة الجهمية، ونسبت إليه المريسية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمهم وتضليلهم]. الشيخ: ولهم مؤلفات في الرد عليهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه التأويلات الموجودة اليوم. بأيدي الناس -مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات، وذكرها أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس، ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمداني وأبي حسين البصري وأبي الوفاء بن عقيل وأبي حامد الغزالي وغيرهم- هي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً، ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي]. الشيخ: قوله: وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني: نسبة إلى قبيلة همدان، وهو عبد الجبار بن أحمد بن الخليل أبو الحسن الهمداني المشهور بالقاضي عبد الجبار من أئمة المعتزلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي، أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري، صنف كتاباً سماه: رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد فيما افتراه على الله في التوحيد، حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين، الذين اتصلت إليهم من جهته وجهة غيره. ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة في طريقهم، وضعف حجة من خالفهم. ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم]. الشيخ: والمريسية جهمية، على مذهب الجهم، لكنهم نسبوا إلى المريسي؛ لأنه تزعم هذه الطائفة فنسبوا إليه وهم جهمية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسية، تبين الهدى لمن يريد الله هدايته ولا حول ولا قوة إلا بالله، والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما نشير إشارة إلى مبادئ الأمور، والعاقل يسير فينظر]. الشيخ: وعلى هذا ذهب أكثر العلماء إلى تكفيرهم، ومنهم من بدعهم، ومن العلماء من كفر رؤساءهم وبدع عامتهم. جاءوا في القرون المتأخرة على مذهب المريسية في القرن الثالث كلهم أنكر أسماء الله وصفاته، فكفرهم العلماء. لكن المعين منهم لابد أن تقوم عليه الحجة. وقوله: والفتوى لا تحتمل البسط، أي: الفتوى الحموية.

الكتب التي ألفت في مناظرة الجهمية والرد عليهم

الكتب التي ألفت في مناظرة الجهمية والرد عليهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة، لا يمكن أن نذكر هنا إلا قليلاً منه، مثل كتاب السنن لللالكائي، والإبانة لـ ابن بطة، والسنة لـ أبي ذر الهروي، والأصول لـ أبي عمر الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي، وقبل ذلك السنة للطبراني، ولـ أبي الشيخ الأصبهاني، ولـ أبي عبد الله بن مندة، ولـ أبي أحمد العسال الأصبهاني]. الشيخ: لكل واحد من هؤلاء كتاب يسمى: السنة، أي: كتاب السنة لفلان، وكتاب السنة لفلان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقبل ذلك السنة للخلال والتوحيد لـ ابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن شريج، والرد على الجهمية للجماعة، وقبل ذلك السنة لـ عبد الله بن أحمد، والسنة لـ أبي بكر بن الأثرم، والسنة لـ حنبل وللمروزي ولـ أبي داود السجستاني، ولـ ابن أبي شيبة، والسنة لـ أبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب خلق أفعال العباد لـ أبي عبد الله البخاري، وكتاب الرد على الجهمية لـ عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم، وكلام أبي العباس عبد العزيز المكي، صاحب الحيدة في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن حماد الخزاعي، وكلام غيرهم]. الشيخ: المؤلف رحمه الله يرى أن كتاب الحيدة في الرد على الجهمية لـ عبد العزيز المكي ثابت؛ لأن بعض الناس تشكك في نسبة كتاب الحيدة لـ عبد العزيز بن المكي. وهذا يدل على أن كثيراً من العلماء ألفوا في الرد على هؤلاء البدع، وقد سرد المؤلف رحمه الله كتباً كثيرة منها. والأئمة كلهم ردوا على الجهمية والمعطلة، فدل هذا على أن السلف أجمعوا على بطلان مذهبهم، وأنهم على الباطل. أما نسبة كتاب الحيدة إلى المؤلف عبد العزيز المكي فليس موضع اتفاق، فـ الذهبي يشكك في نسبة الكتاب إليه ويقول: لم يصح إسناد كتاب الحيدة إليه، فكأنه وضع عليه والله أعلم. ويوافقه على ذلك السبكي، بينما نجد الخطيب البغدادي وكذا ابن حجر نسبا الكتاب إليه، وجزما بذلك، وأيضاً: ابن العماد الحنبلي، كما أن الإمام ابن بطة ساق المناظرة بإسناده في كتابه الإبانة في الرد على الجهمية. وقد نقل الشيخ من هذا الكتاب كثيراً ونسبه إلى مؤلفه. ولكن شيخ الإسلام، يرى صحة نسبته إليه، وهو حجة في هذا وإمام متقدم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم، وقبل هؤلاء عبد الله بن المبارك وأمثاله، وأشياء كثيرة، وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة، لكن لا يمكن ذكرها في فتوى، فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه، فإنه يسير. وإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذاً عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل أن يأخذ سبل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، وأن يدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين].

[3]

شرح الحموية لابن تيمية [3] يعتقد أهل السنة والجماعة أنه يجب الإيمان بصفات الله عز وجل التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل، وسبب ضلال بعض الفرق في باب الصفات هو قياسهم ما يكون للخلق على ما يكون للخالق، فأهل التأويل والتعطيل نفوا عن الله صفة الضحك أو اليد أو الوجه مثلاً؛ لاعتقادهم أنهم إن أثبتوا ذلك له فقد شبهوه بالمخلوق، والحق أن هذه الصفات ثابتة لله كما يليق بجلاله وكماله لا كما هي في المخلوقين.

القاعدة الصحيحة في باب الأسماء والصفات

القاعدة الصحيحة في باب الأسماء والصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فصل: ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبما وصفه به السابقون الأولون، لا يتجاوز القرآن والحديث]. الشيخ: هذه هي القاعدة الأصل في باب الأسماء والصفات، وهي أن يوصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه، ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. فكل ما لم يذكر في كتاب الله أو في سنة رسوله من الأسماء والصفات لا يجوز إثباتها لله. وقد سار السلف الصالح على هذا المنهج، وعلى هذه القاعدة في الأسماء والصفات، وهي أنه لا يثبت لله إلا ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله. وأما الأشياء والألفاظ التي لم ترد في في الكتاب أو السنة لا نفياً ولا إثباتاً فيتوقف عندها، كالجسم والحيز والعرض والجهة، وما أشبه ذلك، فإن هذه لا تثبت ولا تنفى، ومن أطلقها نفياً أو إثباتاً فيستفصل ويسأل فإذا أراد معنى حق قبل، ويرد اللفظ، فإذا أطلق أن الله جسم، نقول: ما هو المراد بالجسم؟ فإن قال: إن المراد به حسن الصفات، قلنا: هذا حق، لكن لا تقل: إنه جسم، فإنه لم يرد في الكتاب والسنة، وإذا قال: ليس بجسم، قلنا: ما مرادك؟ فإن قال: مرادي أنه منزه عن النقائص والعيوب، قلنا: هذا حق، لكن لا تقل ليس بجسم. وإذا قال: مرادي أنه ليس بجسم، وليس له صفات، قلنا: هذا باطل، اللفظ باطل والمعنى باطل وهكذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يتجاوز القرآن والحديث. ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل]. الشيخ: أي: لا يحرفون اللفظ ولا المعنى، ولا يعطلون الصفات أو ينفونها، ولا يكيفون بأن يقولوا: إن الله تعالى على كيفية كذا، ولا يمثلونه بشيء من مخلوقاته، كما قال الله سبحانه عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعلم أنما وصف الله به من ذلك فهو حق، ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأنصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد]. الشيخ: وهذا هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو أفصح الناس، وأما المبتدعة الذين يقولون: إن الرسول أراد معنى آخر، فهؤلاء يؤولون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحملونه على غير وجهه، فيقولون: إن الرسول أراد معنى آخر، فأراد من الناس أن يفهموا قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] بمعنى آخر، والجواب عليهم بأن الرسول هو أفصح الخلق، فلو أراد المعنى الآخر لبين أن معنى استوى: استولى، أما قولكم أن الرسول أراد من الناس أن يتفهموا ويتأملوا ويخترعوا معاني أخرى، وأنه وكلهم إلى عقولهم فهو من أبطل الباطل، وكذلك من قال: أنا لا أعرف المعنى وإنما أفوض المعنى إلى الله، فقوله باطل أيضاً؛ لأن الله قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82]، ولم يقل: إلا آيات الصفات لا تتدبروها، فالمعاني معروفة، والألفاظ معروفة، وإنما الكيفية هي التي تفوض إلى الله تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما يتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة: فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه، واستلزام الحدوث سابقة العدم؛ ولافتقار المحدث إلى محدث، ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى. ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعطلون أسماءه الحسنى وصفاته العلى ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وآياته. وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين والتمثيل والتعطيل، فمثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى. فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً، وكل ذلك محال ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم. أما استواء يليق بجلال الله ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع، فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً، وكلاهما محال؛ إذ لا يعقل موجود إلا هذان، أو قوله: إذا كان مستوياً على العرش وهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك؛ إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا فإن كليهما مثل وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين. والقول الفاصل: هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير ونحو ذلك، ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي كعلم المخلوقين وقدرتهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق وملزوماتها. واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلاً لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق، فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير، ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين لهذا الباب في أمر مريج]. الشيخ: قوله: في أمر مريج، أي: في أمر مختلط، أما طريقة السلف فهي واضحة بينة لا إشكال فيها ولا غموض وهي: إثبات الأسماء والصفات لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته، وأهل البدع في ذلك في أمر مريج مختلط فهم متناقضون، غير متفقين على شيء.

الاعتماد على العقل سبب من أسباب الضلال في باب صفات الله

الاعتماد على العقل سبب من أسباب الضلال في باب صفات الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل]. الشيخ: أي: أن كل طائفة تدعي أن عقلها اضطرها إلى التأويل، فالذي ينكر رؤية الله يوم القيامة يقول: العقل يحيل أن يرى الله يوم القيامة؛ لأن الرؤية لا تكون إلا لجسم متحيز، والله ليس جسماً ولا متحيزاً، فإذا كان كذلك فيستحيل أن يرى، فنفوا الرؤية. والذين يقولون: ليس لله علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر، قالوا: يستحيل أن نصف الله بهذه الصفات؛ لأن هذا فيه تشبيه بالمخلوقات، فكل طائفة تدعي أن عقلها أحال ذلك، وهم في أمر مختلط، لا يضبطهم ضابط؛ لأنهم رجعوا إلى العقول والعقول متباينة متضادة متضاربة. على أن الله سبحانه وتعالى لم يحلهم إلى العقول، وإنما أنزل كتابه، ثم أنزل على نبيه الوحي الثاني وهي السنة؛ ليرجع الناس إلى الكتاب والسنة ويعملوا بهما؛ لئلا يرجعوا إلى عقولهم، وزبالة أذهانهم، وحاسة أفكارهم الغير منضبطة فينحرفوا عن الجادة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة: يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل]. الشيخ: حتى الكفرة ممن ينكر البعث وحشر الأجساد، يقولون: العقل يحيل هذا، ومن هؤلاء الكفرة ابن سينا وغيره، فقد أنكر أن الأجساد تعاد، بل قال: كيف تعاد الأجساد بعد أن بليت وصارت تراباً، وزعم أن ذلك مستحيل، وقال: إنما الذي يعاد الروح، ومثل هذا الباب إذا فتح ضاع الدين. وكذلك الذين ينفون الفوقية والعلو يقولون: يستحيل أن يكون الله فوق العرش؛ لأنه إذا صار فوق العرش، صار متحيزاً ومحدوداً وجسماً، وهذا تنقص، والله أعلى من أن يكون جسماً، وأن يكون محدوداً، فإذاً يستحيل أن يكون فوق العرش. ولو سئلوا: أين يكون؟ أجابوا فقال: بعضهم: يكون في كل مكان. وقال آخرون: ننفي النقيضين فنقول: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصل به ولا منفصل عنه. وليت شعري ما يكون بزعمكم وإن لم يكن العدم، وهذا أعظم من سابقيه، وهؤلاء قوم قد استحوذ عليهم الشيطان، وأوصلهم إلى هذه الحالة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء: أن ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل, بل منهم من يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله]. الشيخ: يريد أصحاب العقول المتضاربة، فهذا يدعي أن العقل يجيز هذا، والآخر يدعي أن العقل يمنع هذا، وهو شيء واحد، بعضهم يدعي أن العقل أجازه وبعضهم يدعي أن العقل منعه، فالآراء متضاربة، هم يقولون: إن الله أحالنا إلى العقول، فأي عقل نرجع إليه؟! إن رجعنا إلى عقول المشبهة قالوا: إن الله له صفات مثل صفات المخلوقين، وإن رجعنا إلى عقول المعطلة، قالوا: إن الله ليس له صفات، فإلى أي عقل نرجع؟ كفاهم وصفاً فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب متضارب، فبعضهم يزعم أن العقل يوجب إثبات الصفات مثل صفات المخلوقين، وبعضهم يقول: إن العقل يحيل أن تثبت صفات الله.

الرد على من احتج بالعقل في نفي الصفات

الرد على من احتج بالعقل في نفي الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟! فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أوكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء، وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر، وهو من وجوه: أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك. الثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل. قوله: أجدل يعني: أشد جدلاً، وأكثر جدلاً، والمعنى: كل ما جاءنا رجل جدلي نترك الكتاب والسنة لجدله، ويأتي واحد آخر أجدل منه أشد جدل وهكذا]. الشيخ: أما دعوى أن العقل يحيل ذلك فنحن نبين أن العقل لا يحيل ذلك، إذ أي إحالة في كون الله فوق العرش؟ بل العقل يوجب هذا، فالله تعالى فوق مخلوقاته سبحانه وتعالى، فإنه بعد أن تنتهي المخلوقات التي سقفها عرش الرحمن، فالله فوق العرش، مطلع على عباده محيط بهم، تنفذ فيهم قدرته ومشيئته، يعلم أحوالهم ويراهم، وهو مع كل إنسان بعلمه وإحاطته واطلاعه، وهو مع المؤمنين بنصره وعونه وتأييده، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى. فأي إحالة في هذا؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها بالاضطرار، كما علم أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، فالتأويل الذي يحيلها عن هذا، بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصوم، وسائر ما جاءت به النبوات]. الشيخ: أي: لو فتح باب التأويل، فإن القرامطة والباطنية سيتسلطون على الجهمية والمعتزلة، فالجهمية والمعتزلة قالوا: ننفي صفات الله: العلم والسمع والبصر، ولا نقول: إنه يسمى بهذه الأسماء، فإذا قيل لهم: لماذا تنفوها؟ قالوا: لأن هذا يحيله العقل، فإذا سئلوا ما المراد؟ قالوا: المراد المعاني المجازية، فمعنى استوى: استولى، فإذا قالوا ذلك تسلط عليهم القرامطة والباطنية، فقالوا: ليس هناك صلاة ولا صوم ولا زكاة ولا حج ولا بعث، وقالوا: الصلاة معناه أسماء خمسة: علي وفاطمة وحسن وحسين ومحمد، فهذه الصلوات الخمس. والصوم: كتمان سر المشايخ، والحج: السفر إلى الشيوخ، ويزعمون أن لا بعث للأجساد، وإنما بعث للأرواح، فقال لهم الجهمية والمعتزلة: لماذا تنكرون ذلك، فإن هذا كفر: لأنكم بدلتم الدين، وأولتم نصوصاً صريحة لا يمكن أن تؤول، فاحتجوا عليهم وقالوا: أنتم أولتم الاستواء والعلم والرحمة فما الفرق بين هذا وهذا؟ وإذا كان هذا التأويل يجوز لكم فمن الذي يمنع التأويل هنا؟ وبذلك تسلطوا عليهم، وفتحوا باب الشر لهم، أي: أن المعتزلة والجهمية فتحوا باباً للقرامطة والباطنية، فأولوا الصلاة والزكاة والصوم والحج والبعث والجنة النار، وقالوا: كل هذه ليست على ظاهرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص؛ وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك تفصيلة وإنما عقله مجملاً إلى غير ذلك من الوجوه]. الشيخ: وذلك؛ لأن العقل الصحيح يوافق النقل الصريح، والشريعة ما جاءت بشيء ينافي العقول الصحيحة، وإن جاءت بما تتحير فيه العقول، ولا تدركه على استقلاله، فالشريعة لم تأت بشيء تحيله العقول، وإنما جاءت بشيء تتحير فيه العقول. وهذا هو معنى قول العلماء: الشريعة جاءت بمحارات العقول لا بمحالاتها، فالعقل الصريح يوافق النقل الصريح، ولهذا ألف شيخ الإسلام رحمه الله كتاباً سماه: موافقة النقل الصحيح للعقل الصريح، وهو كتاب عظيم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [على أن الأساطين من هؤلاء والفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية]. الشيخ: إذ الأساطين والفحول والعقلاء من الفلاسفة القدامى وغيرهم معترفون بأن العقل لا يمكن أن يدرك تفاصيل ما جاءت به الشريعة، وكلهم يعظم الشرائع والإلهيات، ويقولون: إن الرسل جاءت بالآلاهيات، ونحن اختصاصنا بالرياضيات والطبيعيات، فلا نتدخل في ما هو من شأنهم، وهم في الجملة يسلمون للرسل الإلهيات، حتى جاء الفلاسفة المشائيون، ورئيسهم أرسطو ثم الفارابي ثم أبو علي بن سيناء فابتدعوا القول بقدم العالم، وقالوا: إن العالم قديم، وهذا معناه إنكاراً لوجود الله نعوذ بالله. وقطعاً العقل لا يصل إلى اليقين، وإنما هذا من خواص الوحي، ومما جاء به الوحي.

بيان كمال علم النبي صلى الله عليه وسلم وفصاحته ونصحه

بيان كمال علم النبي صلى الله عليه وسلم وفصاحته ونصحه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه، ومن المعلوم للمؤمنين أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وأنه بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر. والإيمان بالله واليوم الآخر: يتضمن الإيمان بالمبدأ والمعاد، وهو الإيمان بالخلق والبعث كما جمع بينهما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]]. الشيخ: إن الله تعالى بعث رسوله بالهدى ودين الحق، والهدى ودين الحق أصله الإيمان بالمبدأ والمعاد، والخالق والرازق والمدبر والمحيي والمميت والمستحق للعبادة، وأن الله يبعث من في القبور، ويجازيهم ويحاسبهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [لقمان:28]، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27]، وقد بين الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى الله به عباده، وكشف به مراده. ومعلوم للمؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بذلك من غيره، وأنصح للأمة من غيره وأفصح من غيره عبارة وبياناً، بل هو أعلم الخلق بذلك، وأنصح الخلق للأمة وأفصحهم، وقد اجتمع في حقه صلى الله عليه وسلم كمال العلم والقدرة والإرادة]. الشيخ: قوله: كمال العلم، أي: فهو عالم ليس بجاهل عليه الصلاة والسلام، وكمال القدرة، أي: القدرة على الإفصاح، وعنده إرادة ورغبة فهو يريد أن يبلغ رسالة ربه، حتى إن الله تعالى قال لنبيه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6]، أي: كاد يهلك نفسه في إبلاغهم وهدايتهم أسفاً عليهم إذا لم يؤمنوا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته كمل كلامه وفعله، وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه، وإما من عجزه عن بيان علمه، وإما لعدم إرادته البيان]. وهذا في حق الرسول محال فهو أعلم الخلق وأنصح الخلق وأفصحهم، وعنده قدرة على البيان، فقد علمه الله تعالى وسدده، وعنده إرادة ورغبة وقوة في تبليغ رسالة ربه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والرسول صلى الله عليه وسلم هو الغاية في كمال العلم، والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين، والغاية في القدرة على البلاغ المبين، ومع وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المراد؛ فعلم قطعاً أن ما بينه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر حصل به مراده من البيان، وما أراده من البيان هو مطابق لعلمه، وعلمه بذلك أكمل العلوم. فكل من ظن أن غير الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بهذه منه، أو أكمل بياناً منه، أو أحرص على هدي الخلق منه فهو من الملحدين لا من المؤمنين]. الشيخ: من ذلك ما يقوله بعض الفلاسفة، حيث يقولون: إن الرسول ما علم، وبعض المجهلة يقولون: الرسول لا يعلم معاني الصفات، ولكن الفلاسفة يعلمونها، وكذلك الأولياء، وبعضهم يقول: علمها ولكن ما بينها، وإنما كتمها؛ لأن مصلحة الناس في أن يكتمها؛ لأنه يخاطبهم من باب الخطاب الجمهوري، فهو يخاطبهم بما يصلح الجمهور وإن كان كذباً، وبعضهم يقول: إن الرسول ما بين الحقائق، وهو يعلمها؛ لأن مصلحة الناس في هذا، فهو وإن كان كاذباً، لكنه كذب لهم ولم يكذب عليهم، فهو كذب لمصحلة. وهذا كلام باطل، فالرسول عليه الصلاة والسلام أكمل الخلق وأعلم الخلق وأنصح الخلق وأقدرهم على البيان، وأتمهم إرادة عليه الصلاة والسلام. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيل السلف هم في هذا الباب على سبيل الاستقامة]. الشيخ: أي: أنهم في باب الأسماء والصفات، وباب المعاد والجزاء والحساب على سبيل الاستقامة، يعملون بالنصوص، فيثبتون لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته رسوله من الأسماء والصفات، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ويثبتون البعث والمعاد والجزاء والنشور، وأما أعداؤهم، أعداء الرسل فهم على طبقات ثلاث: أهل التخييل؛ وأهل التأويل؛ وأهل التجهيل.

بيان المنحرفين عن طريقة السلف وطوائفهم

بيان المنحرفين عن طريقة السلف وطوائفهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما المنحرفون عن طريقهم. فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل، فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف، فإنهم يقولون: إن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق ولا أوضح الحقائق]. الشيخ: يريدون أن ما أخبر به النبي من الغيب من باب التخييل، فالنبي يخيل لهم أنها حقائق حتى تستقيم أمورهم وتصلح أحوالهم، ولا يعتدي بعضهم على بعض، فإنهم إن اعتقدوا أن هناك جنة ونار وبعث ونشور يخافون، ولا يعتدي بعضهم على بعض، وإلا في الحقيقة ليس هناك لا جنة ولا نار ولا بعث، وأهل التخييل كفرة ملاحدة نعوذ بالله من ذلك. ويقولون عن النبي: إنه رجل عبقري، فليست النبوة عندهم هبة من الله، بل النبي رجل عبقري يسوس الناس. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هم على قسمين: منهم من يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة أو الأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين. وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية. ومنهم من يقول: بل الرسول صلى الله عليه وسلم علمها لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق]. الشيخ: فتبين أن أهل التخييل طائفتان، طائفة تقول: الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم الحقائق التي جاء بها، ولكن الذي يعلمها بزعمهم هم الذين يسمون بالفلاسفة أو الأولياء. والطائفة الثانية تقول: بل الرسول علم معناها لكنه لم يبنيها فقد كتمها وإن كانت هي الحق؛ لأن مصلحة الناس إنما هي في الكتمان، فمصلحة الناس أن يخبرهم بغير الحقائق وبغير الواقع. فهم على طائفتين وكلهم ملاحدة. فالطائفة الأولى يقولون: إن الرسول يقرأ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ويقرأ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وهو لا يعرف معنى يصعد، ولا يعرف معنى استوى. وإنما يعلم هذا بزعمهم الفلاسفة والأولياء فهم عندهم يعرفون المعاني، فيجعلونهم أعلم بالله من الأنبياء والمرسلين. وقد أراد من قال إن الرسول عبقري أن يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أكمل الناس في الصفات وفي الشجاعة والفهم والعلم، لكن كلمة عبقري فيها ما فيها. يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقول هؤلاء: يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريق التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد]. الشيخ: فهم لزيغهم وجهلهم يقولون: الرسول كذب لكن كذب لهم لا عليهم، وفرق بين من يكذب لك ويكذب عليك، فقد كذب عليهم فقال: هناك معاد، لكنه كذب لهم، أي: لمصلحتهم، والمصلحة تقتضي هذا، فهو يخبر أن هناك معاد وجنة ونار ووكل ذلك ليس حقيقة، وهو يثبت الصفات لله حتى يعتقد الناس أن لله صفات، ومع ذلك فلا صفات على الحقيقة، وإذا سئلوا لماذا يعمل هذا؟ قالوا: لأن هذا من باب السياسة، فهذا هو الذي يصلح الناس، وهو كذب لهم لا عليهم، وما دام الكذب لمصلحة فلا بأس، وهذا من أبطل الباطل، واعتقاد هذا من أعظم الكفر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر، وأما الأعمال فمنهم من يقرها ومنهم من يجريها هذا المجرى، ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض ويؤمر بها العامة دون الخاصة فهذه طريقة الباطنية والملاحدة والإسماعيلية ونحوهم]. الشيخ: فالأعمال كالصلاة والصيام والزكاة يأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي ليست بواجبة، ومنهم من يقول: الصلاة والزكاة إنما يأمر بها العامة من الناس دون الخاصة والأولياء.

أهل التأويل وقولهم في الصفات

أهل التأويل وقولهم في الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما أهل التأويل فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها؛ ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم إتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته، وهذا قول المتكلمة والجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك]. الشيخ: فهذا قول أهل الكلام، ويسمون أهل التأويل، وهم أهل التحريف من الجهمية والمعتزلة وغيرهم، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين معاني النصوص، فقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، ولم يبين ذلك، بل وكلها إلى أهل العقول ممن يأتي بعده، الذين يتأملون وينظرون ويؤولون الكلام حتى يعرفون معناها الباطن، فقوله: (استوى)، مقصودها الاستيلاء، وأن العلماء بعد ذلك أتعبوا أذهانهم حتى استخرجوا المعاني الباطنية، فعرفوا أن معنى استوى: استولى، ومعنى اليد: القدرة وهكذا يتأولون. وهذه تأويلات باطلة لنصوص الصفات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهوراً بخلاف هؤلاء، فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة وهم -في الحقيقة- لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا]. الشيخ: أي: الذين قصدنا الرد عليهم هم الجهمية والمعتزلة الذين يحرفون نصوص الصفات، ويقولون: معنى (استوى): استولى، أما أهل التخييل فالمعروف أنهم كفرة وملاحدة، والناس يعرفون عنهم ذلك، وإنما المصيبة في الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين يحرفون نصوص الصفات وينطلي تحريفهم على كثير من الناس، ويظنون أنهم أهل الحق. فالجهمية والمعتزلة تظاهروا بنصر السنة، ويقول الشيخ رحمه الله: وهم في الحقيقة: لا نصروا الإسلام ولا كسروا أهل الشرك، من الفلاسفة الملاحدة، فما كسروهم ولا ناظروهم ولا أبطلوا حججهم، ولا يعرف عن الجهمية والمعتزلة أن منهم عباد، وأنهم أهل الخشية وأهل التقى، ولا أيضاً استفيد منهم في ردهم على الفلاسفة، بل إنهم أخذوا عن الفلاسفة، فلا فائدة منهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولكن أولئك الفلاسفة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات]. الشيخ: لما حرف الجهمية والمعتزلة فقالوا: استوى، معناها: استولى، وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، معنى اليد: النعمة والقدرة، فدخل من هذا الباب الفلاسفة، وقالوا: إن البعث المراد به بعث الأرواح لا الأبدان، والصلاة ليست ما تفعلونه من ركوع وسجود وقيام، وإنما الصلوات الخمس خمسة أسماء: علي وفاطمة وحسن وحسين ومحمد، والصيام: كتمان سر المشايخ، والحج: السفر إلى الشيوخ والجنة: خيال لا حقيقة، عندما احتج عليهم الجهمية والمعتزلة أن ما يفعلونه حرام لا يجوز في التعامل مع نصوص الشرع، أجابوهم: كيف يجوز لكم أن تؤولوا النصوص ونحن لا يجوز لنا أن نؤول نصوص المعاد، إن كان التأويل حراماً علينا فهو حرام عليكم أيضاً، وإن كان جائزاً لكم فهو جائز لنا أيضاً، وبذلك تسلطوا عليهم وكانوا سبباً في فتح باب الكفر لهؤلاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان، وقد علمنا الشبه المانعة منه، وأهل السنة يقولون لهؤلاء: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد]. الشيخ: لما أول الفلاسفة نصوص البعث والمعاد والجنة والنار، رد عليهم الجهمية والمعتزلة، فقالوا: نحن نعلم بالاضطرار بدون الرسول أن المعاد ثابت، وأن الجنة والنار ثابتتان، فهذا أمر ضروري، لا جدال فيه. فقال لهم أهل السنة: ونحن نعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بإثبات الأسماء والصفات وأن هذه الأسماء ثابتة في جميع الكتب وأن الشبهة التي تدل على تأويلها باطلة. فاحتجوا عليهم بمثل ما احتجوا هم به على الفلاسفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقولون لهم -أهل السنة-: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد، وقد أنكروه على الرسول صلى الله عليه وسلم وناظروه عليه؛ بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئاً منها أحد من العرب]. الشيخ: أي: نثبت الصفات فنقول: أولاً: إنها -أي نصوص إثبات الأسماء والصفات- أكثر من نصوص المعاد. ثانياً: إن المشركين كانوا يقرون بها، وإنما كانوا ينكرون المعاد ولم ينكروها، فكيف يسوغ لكم أن تؤولوا الصفات، وهي في الكتب المنزلة أكثر من نصوص البعث والمعاد، ولم ينكرها أحد حتى من المشركين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات، وكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به، وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به]. الشيخ: وهذا فيه رد على الجهمية والمعتزلة، فإذا كانت نصوص الصفات أكثر من نصوص البعث والوعيد فإن إقرار العقول بها سيكون أكثر من إقرارها بالوعد والمعاد، فكيف يسوغ لكم أن تؤولوا الصفات مع أن إقرار العقول بها أكثر، وأنتم تعترفون بأن نصوص البعث والمعاد لا يمكن أن تؤول، مع أن نصوص الصفات أكثر وإقرار العقول بها أكثر، فإذا كان لا يسوغ ولا يجوز تأويل نصوص المعاد، فلا يجوز من باب أولى تأويل نصوص الصفات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فقد علم أنه صلى الله عليه وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا مما حرف وبدل لكان إنكار ذلك عليهم أولى]. الشيخ: أي: أن أهل الكتاب حرفوا التوراة والإنجيل وأنكر الله عليهم التحريف، ولم يذكر أنهم حرفوا الصفات، فلو حرفوا الصفات لأنكر الله عليهم، فإذا كان المشركون يقرون بالصفات، وأهل الكتاب يقرون بالصفات، فما الذي يدعوكم أيها المؤولون إلى تأويل الصفات، مع أن إقرار العقول بها أكثر، وقد أقر بها المشركون وأهل الكتاب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو كان هذا مما حرف وبدل لكان إنكار ذلك عليهم أولى، فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجباً منهم وتصديقاً]. الشيخ: كما في قصة الحبر الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (يا محمد! إننا نجد في التوراة أن الله يضع السموات على ذه - وأشار إلى أصبع - والأرضين على ذه والماء والثرى على ذه، والجبال على ذه، والشجر على ذه، خمسة أصابع، ثم يهزهن بيده فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر). فأهل الكتاب مقرون بالصفات، وبذلك يكونون أحسن حالاً من الجهمية والمعتزلة في الإيمان بالصفات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجباً منهم وتصديقاً، ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة لأهل الإثبات]. الشيخ: فما عاب النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود في إثباتهم للصفات، كما تعيب نفاة الصفات أهل السنة في إثباتهم للصفات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مثل لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك]. الشيخ: فما عابهم بإثبات الصفات، ولا سماهم مجسمة ولا مشبهة، وإنما عابهم بالكفريات التي كانوا يقولونها والتنقص الذي نسبوه إلى الرب سبحانه كقولهم: (إن الله فقير) أو (يد الله مغلولوة). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل عابهم بقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]، وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]، وقولهم: استراح لما خلق السموات والأرض، فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن، فإذا جاز أن نتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني: مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه باطل فالأول أولى بالبطلان]. الشيخ: أي: إذا كانت الصفات هي المتفق عليها في التوراة والإنجيل، وانفرد القرآن بالبيان للمعاد، وأقررتم أنه لا يجوز تأويل المعاد، وهو مما انفرد به القرآن فمن باب أولى ألا يجوز تأويل الصفات.

[4]

شرح الحموية لابن تيمية [4] إن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بما وصف الله به نفسه، وقد أخطأ من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف معاني ما أنزل الله، والسلف من الصحابة والتابعين كانوا يمرون الصفات كما جاءت، فلا يتكلفون في تأويلها ولا يقحمون عقولهم في حقائقها، بل يؤمنون بها كما يليق بجلال الله وعظمته من غير تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل. وما جاء عن الله ورسوله في بيان الصفات آمنوا به ولم يزيدوا عليه ولم ينقصوا.

أهل التجهيل والتأويل والرد عليهم

أهل التجهيل والتأويل والرد عليهم

بيان مذهب أهل التجهيل

بيان مذهب أهل التجهيل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما الصنف الثالث: وهم أهل التجهيل فهم كثير من المنتسبين إلى السنة واتباع السلف، يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف معاني ما أنزل الله عليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني تلك الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك]. وهذا سبق بيانه عند الحديث عن أهل التأويل وأهل التخييل الذين يقولون: إن الرسول يخيل للناس، وأهل التأويل الذين تأولوا النصوص وحرفوها وهم: المعتزلة والجهمية، وأهل التخييل والفلاسفة وغيرهم الذين يقولون: إن الأنبياء يخيلون على الناس. وسموا أهل التجهيل؛ لأنهم يجهلون الرسول عليه الصلاة والسلام ويجهلون جبريل، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندهم لا يعرف معاني الصفات، وكذا جبريل لا يعرف معانيها ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ولا يدري معنى استوى، ولا جبريل يعرف معنى استوى، فزعموا جهل النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل لمعاني الصفات والنصوص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قولهم في أحاديث الصفات. إن معناها لا يعلمه إلا الله، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم بهذا ابتداء، فعلى قولهم: تكلم بكلام لا يعرف معناه، وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، فإنه وقف أكثر السلف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]]. أي: أنهم ظنوا أنهم لما فوضوا إلى الله وجهلوا النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم قد عملوا بهذه الآية: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، فجهلوا الرسول وجهلوا جبريل، وزعموا أن الرسول لا يعرف معاني الآيات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات ولا معاني الصفات؛ لأنها لا يعلمها بزعمهم: إلا الله.

بيان معنى التأويل

بيان معنى التأويل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقف كثير من السلف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، وهو وقف صحيح لكن لم يفرقوا بين معنى الكلام وتفسيره وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه، وظنوا أن التأويل المذكور في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك. فإن التأويل يراد به ثلاث معان: فالتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين: هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك]. وهذا تأويل حادث باطل، فيقولون في تعريف التأويل: أنه صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، فمثلاً يقولون عند تفسيرهم الاستواء: الاستواء معناه: الاستقرار، فنصرفه عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح وهو استولى؛ لدليل يقترن به وهو العقل، فالعقل دل على أن الاستواء لا يليق بالله بزعمهم، وهذا باطل، وإنما التأويل عند السلف له معنيان: المعنى الأول: التفسير، ومنه قول ابن جرير القول في تأويل قول الله تعالى أي: في تفسيرها. والثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، يعني: حقيقتها التي يؤول إليها، حقائق الصفات، وحقائق الجنة وما أخبر الله به في الجنة، كل هذا لا يعلمه إلا الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة ظاهره تأويلاً على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً مخالف لمدلولها لا يعلمه إلا الله أو يعلمه المتأولون، والأقرب ولا يعلمه المتأولون؛ لأن هذا ظاهر الآية. ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجرى على ظاهرها، فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله، وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم]. ووجه التناقض في قولهم: تجرى على ظاهرها ثم يقولون، لها تأويل لا يعلمه إلا الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمعنى الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام -سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه- وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم]. قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:7]، أي: تفسيره {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، فالتأويل على هذا المعنى يكون معناه التفسير. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، كما نقل ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، ومحمد بن جعفر بن الزبير، ومحمد بن إسحاق، وابن قتيبة، وغيرهم، وكلا القولين حق باعتبار، كما قد بسطناه في موضع آخر، ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا، وكلاهما حق. والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها، وإن وافقت ظاهره، فتأويل ما أخبر به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها، لا ما يتصور من معانيها في الأذهان ويعبر عنه باللسان]. فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب هو نفس الأكل والشرب، فإذا دخل المؤمنون الجنة وباشروا الأكل والشرب كانت هذه هي الحقيقة، وما أخبر الله به من قيام الساعة، فتأويله قيام الساعة نفسها. ومنه قول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه سورة الفتح يكثر أن يقول: (سبحانك الله ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن)، فقولها: (يتأول) أي: يعمل به، ومنه قول يوسف عليه الصلاة والسلام لما سجد له أبواه وإخوته: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، فكما هو معلوم أنه رأى رؤيا وهو صغير فأخبر بها أباه قال تعالى عنه: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، ثم ذهب به إخوته وألقوه في الجب، وباعوه، وذهب به إلى امرأة العزيز، فراودته ثم سجن، ثم صار على خزائن الملك، ثم جاء إليه أبواه وإخوته وسجدوا له، فحدث تأويل الرؤيا، وذلك قوله تعالى: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، أي: حقيقتها وما آلت إليه فوقوعها هو تأويلها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100]، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]. وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله. وتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله بعلمها وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف -كـ مالك وغيره-: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فالاستواء معلوم يعلم معناه وتفسيره ويترجم بلغة أخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما ذكره عبد الرزاق وغيره، في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، من ادعى علمه فهو كاذب. وهذا كما قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17]]. قوله: تفسير لا يعلمه إلا الله، يريد الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، فلا يعلم حقائق الصفات إلا الله عز وجل، ولا يعلم حقائق ما يكون في الآخرة إلا الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)]. وهذا حديث قدسي من كلام الله، رواه البخاري ومسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك علم الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به، ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه كما قال تعالى]. قوله: ما قصد إفهامنا إياه، أي أن الإنسان يفهم ما أريد به، لكن الحقيقة والكنه، لا يعلمها إلا الله؛ لأننا نفهم إذا أخبرنا الله أن في الجنة ماء ولبن وخمر وعسل، إذ لا بد من قدر مشترك، يفهم به الإنسان الخطاب. لكن كيفية هذا الماء وكيفية هذا اللبن، وكيفية هذا الخمر، وكيفية هذا العسل، والحقيقة التي هو عليها لا يعلمها إلا الله.

الصحابة والسلف أعلم الناس بعد رسول الله بمعاني الصفات والمعاد وسائر معاني القرآن

الصحابة والسلف أعلم الناس بعد رسول الله بمعاني الصفات والمعاد وسائر معاني القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68]، فأمر بتدبر القرآن كله لا بتدبر بعضه. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن: عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته، أقف عند كل آية أسأله عنها. وقال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفى كتاب الله بيانها، وقال مسروق: ما قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصر عنه، وهذا باب واسع قد بسط في موضعه]. فالإنسان يفهم القرآن ويفهم ما خوطب به، وهذا لا بد منه، أما الحقائق والكنه لما أخبر الله به في الآخرة وللصفات فلا يعلمه إلا الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلال في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن من جعل الرسول صلى الله عليه وسلم غير عالم بمعاني القرآن الذي أنزل إليه، ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات، لم يجعل القرآن هدى ولا بياناً للناس]. إذ أن هذا لازم قولهم، فإنه إذا قال عن الرسول: إنه لا يعلم المعنى، وقال عن جبريل: إنه لا يعلم المعنى، فكيف يكون القرآن هدى وبياناً للناس! وهذا من أبطل الباطل، فهؤلاء الملاحدة الذين يقولون: إن جبريل لا يعلم معاني القرآن ولا محمد، يريدون أن يجعلوا القرآن في معزل عن الهداية والبيان.

عبارات السلف في إثبات الصفات

عبارات السلف في إثبات الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية، فلا يجعلون عند الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته في باب معرفة الله عز وجل لا علوماً عقلية ولا سمعية، وهم قد شاركوا في هذا الملاحدة من وجوه متعددة، وهم مخطئون فيما نسبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى السلف من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة. ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها، وألفاظ من نقل مذهبهم بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم. روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون المتوافرون نقول: إن الله -تعالى ذكره- فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. فقد حكى الأوزاعي وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين، الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش وبصفاته السمعية. وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقالا: أمروها كما جاءت. وروى أيضاً عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثورى والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات، فقال: أمروها كما جاءت، وفى رواية فقالوا: أمرها كما جاءت بلا كيف]. أي: أمروها كما جاءت بلا تأويل للكيفية، فأفهموا معناها وأمروها ولا تكيفوا الصفات، إذ المعنى لا بد منه، فإمرارها فهم لمعناها، فالمراد إمرار اللفظ مع فهم المعنى، وتفويض الكيفية إلى الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقولهم رضي الله عنهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف رد على الممثلة]. وإنما قالوا: إمرارها كما جاءت؛ لأنها جاءت ليفهم الناس المعنى، وهذا رد على المعطلة الذين يعطلون الصفات، وقوله: بلا كيف، رد على الممثلة الذين يشبهون ويمثلون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين]. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن طبقتهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهما. روى أبو القاسم الأزدي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد من خلق الله تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا]. روى هذا الأثر الآجري، وابن بطة، واللالكائي، والخطيب البغدادي، وأبو يعلى، وأبو نعيم، ورواه الخلال في السنة، وهكذا الذهبي، والسيوطي، وذكره القاضي عياض في ترتيب المدائن. وروى البخاري شيئاً منه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبى عبد الرحمن عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق]. وروي عن الإمام مالك أنه قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وروي عنه أنه قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وروي هذا أيضاً عن أم سلمة، لكن لا يصح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة من غير وجه، منها ما رواه أبو الشيخ الاصبهاني، وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال يا أبا عبد الله!: الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء - العرق من شدة إنكاره لهذا السؤال- ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول]. قوله: الاستواء غير مجهول، أي: معلوم، ففي اللغة العربية استوى بمعنى: استقر وعلا وصعد وارتفع، وكيفية استواء الرب غير معقول، أي: لا نعقله ولا نكيفه، وقوله: والإيمان به واجب، أي: الإيمان بهذه الصفة واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة، وهذا يقال في جميع الصفات فيقال في العلم: العلم معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ويقال في يد الله: اليد معلومه، والكيف مجهول، والإيمان بها واجب والسؤال عنها بدعة، وهكذا في جميع الصفات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، فأمر به أن يخرج. فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة]. والمفوضة يفوضون معنى الصفة، فيقولون عن الاستواء لا نعرف ما معنى الاستواء، فلا يثبتون إلا اللفظ فقط، أما المعنى فيقولون: لا ندري، كأنه كلمات أعجمية، فالكلمة العربية والأعجمية عندهم سواء، وهذا غلط، قال بعض العلماء: المفوضة شر من المعطلة، إذ التفويض للمعنى شر من التعطيل، حتى قال بعضهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفهم معنى الاستواء، ولا جبريل ولا غيره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ فان الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حروف المعجم. وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات]. يعني: إذا أثبت المعنى نفيت علم الكيفية، أما إذا كان المعنى ليس بمعلوم فلا يحتاج أن يقال بلا كيف، إذ الكيف غير معقول، واللفظ أيضاً غير مفهوم المعنى، إذ لو كان المعنى غير مفهوم، لما احتاج إلى نفي الكيفية، فلما نفى الكيفية دل على أن المعنى معلوم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأيضاً فإن من ينفي الصفات الخبرية -أو الصفات مطلقاً- لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف]. الصفات الخبرية هي: التي جاءت في الخبر، جاءت في النصوص، الخبرية، أما الصفات العقيلة: فهي التي دل عليها العقل عندهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن قال إن الله سبحانه ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا بلا كيف. وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف إذ نفي الكيفية عما ليس بثابت لغو من القول]. فكيف ينفى الكيف والمعنى منفي! فإنه إذا كان المعنى غير مفهوم، فلا داعي لنفي الكيفية، ولكنه لما نفي الكيف دل على أن المعنى معلوم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى الأثرم في السنة، وأبو عبد الله بن بطة في الإبانة، وأبو عمر الطلمنكى، وغيرهم بإسناد صحيح عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبى سلمة الماجشون -وهو أحد أئمة المدينة الثلاثة، الذين هم مالك بن أنس وابن الماجشون وابن أبى ذئب - وقد سئل فيما جحدت به الجهمية؟ أما بعد: فقد فهمت ما سألت عنه فيما تتابعت -أي: استمرت عليه وتتابعت- الجهمية ومن خالفها -وفي نسخة ومن خلفها- في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتقدير وكلت الألسن عن تفسير صفته، وانحصرت العقول دون معرفة قدره، وردت عظمته العقول، فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهى حسيرة. وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير، وإنما يقال: كيف لمن لم يكن مرة ثم كان]. أي: أن الذي أمر بالتفكير فيه إنما هي المخلوقات التي قدرها معلوم وهي التي كانت معدومة ثم أوجدها الله، أما الله فإنه واجب الوجود لذاته سبحانه، لا يحيط الخلق بعظمته ولا بعلمه، قال سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما يقال: كيف لمن لم يكن مرة ثم كان، فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فانه لا يعلم كيف هو إلا هو، وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يمت ولا يبلى]. قوله: من لم يبدأ، أي: ليس له بداية، فهو الأول الذ

عجز العقول عن إدراك صفات الله

عجز العقول عن إدراك صفات الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه، لا تكاد تراه صغراً يجول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر]. وذلك مثل الذرة والبعوضة، وغيرها أصغر من المخلوقات، لا تستطيع أن تصفها أو تعرف كنهها، فهي تزول وتحول وتمشي ولها مخ ولها أعصاب ولها أعضاء وأمعاء: يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى نياط عروقها في نحرها من بين هاتيك العظام النحل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لما يتقلب به ويحتال من عقله، أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين]. قوله: من عقله، أي: مما أعطاه الله من العقل ما يحتال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وخالقهم وسيد السادة وربهم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. اعرف -رحمك الله- غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه، بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها، إذا لم تعرف قدر ما وصف، فما تكلفك علم ما لم يصف، هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته]. فالناس لا تستطيع أن تحيط بعلمه، ومن ذلك أن الله وصف نفسه بالقدرة، فهل تستطيع أن تحيط بقدرته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقاً وتكلفاً فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفي، وجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم منها]. أي: عمي عن البين بالخفي؛ لأن الله تعالى وصف نفسه بالعلم والقدرة والسمع، وهذا بين واضح، فكيف يعمى عن هذا الشيء الواضح بشيء يقدره من نفسه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الرب عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فقال: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظرته إياهم في مقعد صدق عن مليك مقتدر]. إذ أن أعظم نعيم يعطاه أهل الجنة، رؤيتهم لربهم عز وجل، حين يكشف الحجاب عنه فيرى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، حتى إن أهل الجنة ينسوا ما هم فيه من النعيم، ومع ذلك جحدها هؤلاء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قضى أنهم لا يموتون، فهم بالنظر إليه ينظرون، إلى أن قال: وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة؛ لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة، رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين، وكان له جاحداً]. يعني: هو جحد رؤية الله في الدنيا؛ لذلك جحد رؤية الله يوم القيامة لتقوم عليه الحجة الضالة في إنكار رؤية الله، لما أنكرها في الدنيا أنكر رؤية الله في الآخرة ما أنكر ذلك في الدنيا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال المسلمون يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم كذلك) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه). وهذه النصوص واضحة بأن المراد: رؤية بالبصر خلاف المعتزلة الذين قالوا المراد بالرؤية العلم، لكن هذه النصوص واضحة أنهم يرون ربهم كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر. والأسماء والصفات توقيفية لا يجوز إثباتها إلا بدليل، ما ورد في النصوص نثبته، وما لم يرد لا نثبته. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدماه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض)]. وهذا فيه صفة القدم لله عز وجل والرد على من أنكره والله أعلم بهذا، والله تعالى لا يظلم أحداً من خلقه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال لـ ثابت بن قيس رضي الله عنه: (لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة)]. وهذا فيه صفة الضحك لله كما يليق بجلاله وعظمته، وأهل البدع لا يستطيعون أن يثبتوا هذه الصفة، والرد عليهم في الحديث: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة) يعني: إثبات الضحك لله كما يليق بجلاله وعظمته لا يماثل أحداً من خلقه، لا يشبه ضحك المخلوقين. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال فيما بلغنا: (إن الله ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم، فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: نعم. قال: لا نعدم من ربٍّ يضحك خيراً). قال: أزلكم، والأزل: الضيق والشدة، يقال: هم في أزل العيش، وآزلت السنة أي: اشتدت وأصبح القوم أزلين، أي: في شدة. يضحك من أزلكم يعني: من شدتكم وقنوطكم ويأسكم، يعلم أن فرجكم قريب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [في أشباه لهذا مما لم نحصه، وقال الله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]]. وهذه الآية فيها إثبات السمع والبصر لله سبحانه فهو سميع وبصير، فالسميع والبصير من أسماء الله المشتقة، وكل اسم مشتمل على صفة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]. يعني: على مرأىً منا وكلأ وحفظ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]]. أي: على مرأىً مني. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]]. وهذه الآية فيها إثبات اليدين لله سبحانه، لأن اليدين أضافهما إلى ضمير نفسه سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]]. قوله: (قبضته) يعني: بيده سبحانه وتعالى. فقوله: (بأعيننا) يعني: بالمرأى منا، أما إثبات العين فهذا مأخوذ من حديث الدجال: (إن ربكم ليس بأعور) ففيه إثبات العينين لله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: {وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]]. فيه إثبات اليمين له، وكلتا يديه يمين في الشرف والفضل والبركة سبحانه وتعالى وتنزه عن النقص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(فوالله ما دلهم على عظم ما يوصفه من نفسه، وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقى في روعهم)]. والروع: هو القلب، ومعناها كذلك: الوجل والخوف، قال تعالى عن إبراهيم: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكفي رزقها وأجلها) والروع هنا: القلب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إن ذلك الذي أُلقي في روعهم، وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه فسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه - لا هذا ولا هذا - ولا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف]. هذا هو الواجب، ألا يتكلف الإنسان معرفة ما وصف الله به نفسه، ولا يجحد صفاته، بل يثبت صفات الله عز وجل ولا يتكلف فيثبت صفات لم تثبت لله، فالأسماء والصفات توقيفية.

الأسماء والصفات توقيفية

الأسماء والصفات توقيفية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [اعلم -رحمك الله- أن في العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك، ولا تجاوز ما حَدَّ لك، فإن من قوام الدين معرفة المعروف، وإنكار المنكر، فما بُسطت عليه المعرفة، وسكنت إليه الأفئدة، وذكر أصله في الكتاب والسنة، وتوارثت علمه الأمة، فلا تَخافنَّ في ذكره وصفته من ربك ما وصفه من نفسه عيباً، ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدراً. وما أنكرته نفسك، ولم تجد ذكره في كتاب ربك، ولا في الحديث عن نبيك صلى الله عليه وسلم - من ذكر ربك - فلا تكلفن علمه بعقلك، ولا تصفه بلسانك واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه، فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه كإنكارك ما وصف منها، فكما أعظمت ما جحد الجاحدون مما وصف من نفسه، فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها]. هذا هو العدل كما أنه لا يجوز له أن ينفي شيئاً من أسماء الله وصفاته فليس له أن يخترع لله أسماء وصفات من عند نفسه لأن الأسماء والصفات توقيفية، ما يثبت لله إلا ما ثبت في الكتاب والسنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقد والله عز المسلمون الذين يعرفون المعروف وبمعرفتهم يعرف، وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر، يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه، وما بلغهم مثله عن نبيه، فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم، ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن]. يعني: لا يمرض من التسمية والذكر قلب مسلم ما دام أنه ذكر وتسمية من الكتاب والسنة. فالأسماء والصفات التي وردت في الكتاب والسنة يسميها الإنسان ولا يمرض من ذكرها ولكن المصيبة أن يسمي الله بأسماء وصفات لم ترد في الكتاب ولا في السنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه، فهو بمنزلة ما سمى وما وصف الرب من نفسه]. ما سماه الرسول أو وصفه فهو مثل ما سماه الله أو وصفه في نفسه؛ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وحي. (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) الراسخون حيث انتهى علمهم، الواصفون لربهم بما وصف من نفسه، التاركون لما ترك من ذكرها - لا ينكرون صفة ما سُمِّيَ منها جحداً، ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقاً؛ لأن الحق ترك ما ترك، وتسمية ما سمى، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] وهبَ الله لنا ولكم حكماً، وألحقنا بالصالحين. وهذا كله كلام ابن الماجشون الإمام فتدبره وانظر كيف أثبت الصفات، ونفى علم الكيفية - موافقةً لغيره من الأئمة - وكيف أنكر على من نفى الصفات بأنه يلزمهم من إثباتها كذا وكذا كما تقوله الجهمية، أنه يلزم أن يكون جسماً أو عرضاً فيكون محدثاً].

[5]

شرح الحموية لابن تيمية [5] أهل السنة والجماعة لا يكفرون أحداً بذنب ولا ينفون عنه اسم الإيمان، كما يعتقد أهل السنة أن الله في السماء، ومن أنكر أو شك أن الله في السماء فقد كفر، وذلك لتواتر النصوص الدالة على أن الله في السماء ولإجماع أهل العلم على ذلك، ولما دلت عليه العقول السليمة والفطر المستقيمة.

الفقه الأكبر وتعلقه بالتوحيد وأصول الدين

الفقه الأكبر وتعلقه بالتوحيد وأصول الدين قال المصنف رحمه الله: [وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال: لا تكفرن أحداً بذنب، ولا تنفِ أحداً من الإيمان به، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر]. الفقه الأكبر هو ما يتعلق بالتوحيد وأصول الدين، ويقابله الفقه الأصغر، وهو فقه الأحكام الفرعية، قال: (لا تكفرن أحداً بذنب) هذا هو معتقد السنة والجماعة لا يكفروا المسلم بالذنب الذي دون الشرك، فلا يكفر إلا بالشركين. قال: [وتعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك]. هذا هو الإيمان بقدر الله. أما مسألة التكفير بالذنب فقد جاء في الطحاوية ذكر عموم السلب وسلب العموم، فعموم السلب هو قول القائلين: نكفر بكل ذنب وهو مذهب الخوارج، أما سلب العموم فهو قول القائلين: كل ذنب لا يكفر به، وهو مذهب المرجئة، والقول الوسط قول القائلين: لا نكفر بكل ذنب وهو قول أهل السنة، فمذهب أهل السنة ألا نكفر بكل ذنب بل نكفر بالذنوب الكفرية، أما المرجئة فإنهم لا يكفرون مطلقاً حتى بالذنوب الكفرية، والخوارج يكفرون بكل ذنب وكل كبيرة، وأهل السنة يقولون: لا نكفر بكل ذنب، إنما إذا كان هذا الذنب يوصل إلى الكفر فإنه لا يكفر إلا بعد قيام الحجة. وإذا استحل المرء الكبائر صار كافراً، كأن يكون استحل الكبيرة واستحل الزنا والربا والخمر هذا كفر. قال: [ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا توالِ أحداً دون أحد]. هذا كما يفعل الرافضة فإنهم تبرءوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: ولا توالِ أحداً دون أحد، أي: لا توالِ بعض الصحابة دون البعض الآخر، كالشيعة والرافضة فإنهم يوالون علياً وأهل البيت، ويتبرءون من بقية الصحابة]. قال: [وأن ترد أمر عثمان وعلي رضي الله عنهما إلى الله عز وجل]. أي: لا تتكلم فيما شجر بينهم واعلم أن لهم من الفضل والسوابق ما تغطي ما صدر عنهم، وما صدر عنهم اجتهاد، وهم مابين مجتهد مصيب له أجران، وما بين مجتهد مخطئ له أجر، فـ علي رضي الله عنه في قتاله مع معاوية كلً منهما مجتهد لكن دلت النصوص على أن علياً ومن معه هم المصيبون فلهم أجران، ومعاوية وأهل الشام مخطئون فاتهم أجر الصواب ولهم أجر الاجتهاد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمار تقتله الفئة الباغية فقتله جيش معاوية (وتمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق) فخرجت الخوارج فقتلهم علي رضي الله عنه. قال: [قال أبو حنيفة رحمه الله: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم، ولأن يفقه الرجلُ كيف يعبد ربَّه خير له من أن يجمع العلم الكثير]. الفقه الأكبر في الدين يعني: الفقه في عبادة الله وتوحيده، وأن يتفقه كيف يعبد ربه، وهذا الفقه يشبه علوماً أخرى في الفروع، كما في سورة البقرة في غير التوحيد والعبادة - هذا فقه وهذا فقه - لكن هذا هو الفقه الأكبر، وهو الفقه في عبادة الله وتوحيده، وفي أسمائه وصفاته. قال: [قال أبو مطيع: قلت: فأخبرني عن أفضل الفقه، قال: يتعلّم الرجلُ الإيمانَ والشرائع والسننَ والحدودَ واختلافَ الأئمة، وذكر مسائل في الإيمان، ثم ذكر مسائل في القدر، والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه. ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيتبعه على ذلك أناس، فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال: لا، قلت: ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال: هو كذلك؛ لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون]. من أكبر الكبائر الخروج على جماعة المسلمين بدعوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثال ذلك كأن يرى في البلد مثلاً شرب خمر أو فجوراً فيحرص على الخروج على جماعة المسلمين وعلى ولي الأمر بدعوى أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإذا ذكرته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس هذا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يبايع ولي الأمر ثم يخرج عليه؛ لأنه إذا خرج على الجماعة وعلى ولي الأمر قد يغير شرب الخمر أو سفور النساء، لكن يقع في إراقة الدماء وتفريق المسلمين وفي إفزاع الناس، ويتربص بهم العدو الدوائر، وتأتي فتن تقضي على الأكثر، فأيها أعظم هذه، أو شرب الخمر؟ ولذلك بين أبو حنيفة رحمه الله أنه يفسد في الأرض؛ لأن الخروج على جماعة المسلمين وولاة الأمر يترتب عليه ما لا يحمد عقباه، فينبغي للإنسان أن لا يرتكب المفاسد العظيمة من أجل أن يزيل مفسدة صغرى وهي إنكار المنكر، فإن إنكار المنكر يحل بطرق إيجابية لا بالوسائل السلبية ولا بالعنف، ولا بالخروج، ولا بالقتال، بل بالبيان والإيضاح والمناصحة ومشاورة أهل الحل والعقد، فإن منعوا هذا المنكر وإلا فقد أديت ما عليك وهذا هو الفقه، وهذا هو البصيرة، أما كون إنسان يكون عنده غيرة غير موافقة للشرع تؤدي به إلى القتال وإلى منكر أكبر فهذا نشاط مخالف للشرع وهو باطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: هو كذلك، ولكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام].

كفر من أنكر أن الله في السماء أو شك في ذلك

كفر من أنكر أن الله في السماء أو شك في ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض، فقد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سموات]. ومن أنكر أن الله فوق العرش فقد كفر. قال: [قلت: فإن قال: إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل]. يقول: إذا قال: إذا أقر بأن الله فوق العرش فإن ذلك يقتضي أن العرش في السماء؛ لأن العرش فوق السماء ولأن الله فوق العرش، يقول: فمن أنكر أن يكون الله استوى على العرش هذا كفر، ومن قال: لا أدري: ربي في السماء أو في الأرض هذا يكفر؛ لأن الله في السماء، ومن قال: إن الله على العرش استوى، لكن لا أدري العرش في الأرض أو في السماء كفر؛ لأن عرشه في السماء، ولأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل. قال: [وفي لفظ - سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ قال: قد كفر. قال: لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وعرشه فوق سبع سموات قلت: فإن قال إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال هو كافر؛ لأنه أنكر أن يكون في السماء؛ لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وفي لفظ سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض قال: قد كفر، قال؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وعرشه فوق سبع سموات، قال: فإنه يقول: إنه على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء؟ قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؛ فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء؛ أو ليس في الأرض ولا في السماء؟]. يعني يقول: إذا كان الإمام كفر المتوقف وهو يثبت أن الله فوق العرش لكنه لا يدري هل العرش في السماء أو الأرض فتراه متردداً فهذا يكفي لكفره، فإذا كان هذا المثبت لوجود الله وأثبت النوع والأصل لكنه متوسط وكفر، فكيف بمن قال: ليس فوق العرش إله وليس في السماء إله من الملاحدة، والذي يقول: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته؟ هذا مبني على الكفر بعض على بعض. قال: [واحتج على كفره بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. قال: وعرشه فوق سبع سموات، وبين بهذا أن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. يبين أن الله فوق السموات فوق العرش، وأن الاستواء على العرش دل على أن الله نفسه فوق العرش ثم أردف ذلك بتكفير من قال: إنه على العرش استوى، ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض قال: لأنه أنكر أنه في السماء؛ لأن الله في أعلى عليين؛ وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء. واحتج على ذلك بأن الله تعالى في أعلى عليين، وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية، فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل، وقد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر]. فهو معلوم أن الله يدعى من أعلى لا من أسفل يعني: إذا كنت تعلم أن هذا أمر فطري أن الله فوق العرش، وفطر الله الخلق على أنهم يدعونه من أعلى ولا يدعونه من أسفل، فإذا قال: لا أدري العرش في السماء أو في الأرض أنكر أن يكون الله يدعى من أعلى فيكفر بذلك. وحيث قال: إن الله فوق العرش، لكن لا أدري العرش في السماء أو في الأرض فهذا يكفر؛ لأن الله يدعى من أعلى لا من أسفل؛ ولأن الله في أعلى عليين، وهذا الشاك لا يدري هل هو فوق أو هو تحت فيكفر.

تصريح الأئمة بعلو الله على العرش ومباينته للخلق

تصريح الأئمة بعلو الله على العرش ومباينته للخلق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق، وروى أيضاً ابن أبي حاتم أن هشام بن عبيد الله الرازي - صاحب محمد بن الحسن - قاضي الري حبس رجلاً في التجهم فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد الله على التوبة؛ فامتحنه هشام؛ فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه، ولا أدري ما بائن من خلقه فقال: ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب]. يعني: هو مقر أن الله على عرشه، ولكنه قال: ما أدري بائن من خلقه، أي: نفى أن يكون بائناً من خلقه، فجعل الله مختلطاً مع المخلوقات نعوذ بالله فردوه إلى الحبس. قال: [وروى أيضاً عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق، وقد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً، لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل وهالك مرتاب، يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. وروي أيضاً عن ابن المديني لما سئل: ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام وأن الله فوق السموات على العرش استوى، فسئل عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] فقال: اقرأ ما قبلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7]]. يعني: لا يكون إلا هو معهم بعلمه، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى. قال: [وروى أيضاً عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان. وروى عن أبي زرعة الرازي أنه سئل عن تفسير قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: تفسيره كما تقرؤه، هو على العرش وعلمه في كل مكان، ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله].

حكاية محمد بن الحسن اتفاق الفقهاء على ما جاءت به النصوص من صفات الله

حكاية محمد بن الحسن اتفاق الفقهاء على ما جاءت به النصوص من صفات الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى أبو القاسم اللالكائي، صاحب أبي حامد الإسفرائيني (في كتابه المشهور) في أصول السنة بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث؛ التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل: من غير تفسير، ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئا منها فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا فمن قال: بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ فأنه قد وصفه بصفة لا شيء]. إن جهم عطًّلَ الصفات عن الله عز وجل، ووصفه بصفة لا شيء، وهو المعدوم فخصص أنه شيء ليس له صفات، لا سمع ولا بصر ولا علم ولا قدرة ولا فوق ولا تحت، يعني: هذا لا شيء هذا معدوم. قال: [محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء]. يبين أن محمد بن حسن من العلماء ويأخذ عن أهل العلم، وهو قد حكا الإجماع على كفر الجهمية. قال: [محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء، وقد حكا هذا الإجماع، وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالباً أو دائماً وقوله من غير تفسير: أراد به تفسير الجهمية المعطلة، الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات. وروى البيهقي وغيره بأسانيد صحيحة عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غِيَرِه) (وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه) (والكرسي موضع القدمين)، وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حق، حملها الثقات بعضهم عن بعض؛ غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها، وما أدركنا أحدا يفسرها]. يعني: لا نفسر تفسير الجهمية، ولا نكيف. قال: [أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة: الذين هم الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد، وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف، وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء، وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها أي: تفسير الجهمية. وروى اللالكائي والبيهقي عن عبد الله بن المبارك: أن رجلاً قال له: يا أبا عبد الرحمن! إني أكره الصفة - عنى صفة الرب - فقال له عبد الله بن المبارك: وأنا أشد الناس كراهة لذلك، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به، وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه، ونحو هذا]. يعني: أنا مثلك أكره الصفة التي لم تثبت فلا أثبتها لله، فالأسماء والصفات توقيفية، فلا يخترع الناس لله أسماء وصفات من عند أنفسهم، فما جاء في الكتاب والسنة يسمى به ويثبت، لأن الله تعالى أعلم بنفسه من عباده، وهو الذي أثبت هذه الصفة لنفسه، فنثبتها له وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]. فإذا أثبت رسول النبي صلى الله عليه وسلم لله تعالى الصفات والأسماء أثبتنا ما أثبته النبي صلى الله عليه وسلم. قال: [أراد ابن المبارك أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من ذات أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار]. قال المحشي: وقد طبع الكتاب عدة طبعات إلى أن قالوا: وفي صحة نسبته إلى أبي حنيفه نظر، أما من ناحية السند فإن كلاً من الروايتين لا تخلو من مقال، وحماد بن أبي حنيفة، وأبو مطيع كلاهما متكلم فيه من ناحية الرواية، فمن العلماء من ينسب الكتاب لأبي حنيفة مطلقاً مثل: شيخ الإسلام وابن أبي العز الحنفي والبغدادي وحاجب خليفة، بينما نجد الإمام الذهبي واللكنوي ينسبان الفقه الأكبر الذي في رواية أبي مطيع إلى أبي مطيع نفسه ولعل هذا أصله من أمالي أبي حنيفة، جمعها ودونها أبو مطيع ويذكر بروكل مان أن الفقه الأكبر ما دون إلا بعد وفاة أبي حنيفة. هذا كتاب ويقول: أما هؤلاء فهم ثقات.

تصريح أكابر السلف بتكفير الجهمية وتضليلهم

تصريح أكابر السلف بتكفير الجهمية وتضليلهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، ولا نقول كما تقول الجهمية: إنه هاهنا في الأرض وهكذا قال الإمام أحمد وغيره]. وهذا قول عبد الله بن المبارك أن الله فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه، ولا نقول: إنه هاهنا، يعني: إسقاط المخلوقات كما تقول الجهمية، فالجهمية قاتلهم الله يقولون: إن الله في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً وقالوا: هو موجود في بطون السباع وفي أجواف الطيور تعالى الله عما يقول الظالمون علواًَ كبيراً، وهذا كفر وضلال نعوذ بالله، وقالت طائفة أخرى من الجهمية بنفي النقيضين، قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، ولا مبين له ولا محيط له، ولا متصل به ولا منفصل عنه هذا أشد كفراً نعوذ بالله. قال: [وروى بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام: سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية فقال: إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء]. أي: ينكرون وجود الله، وهذه محاولتهم لما أنكروا العلو وقالوا: لا داخل عليه ولا خارج أنكروا وجود الله، وكذلك الذين يقولون: إنه حل في كل مكان، فقد جعل الرب مثل الهواء نعوذ بالله. قال: [وروى ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علماً وديناً من شيوخ أحمد أنه ذكر عنده الجهمية فقال: هم أشر قولاً من اليهود والنصارى، وقد اجتمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش، وهم قالوا: ليس على شيء]. فاليهود والنصارى وأهل الأوثان أقروا بأن الله موجود، وبأنه فوق العرش، وهؤلاء أنكروا وجود الله؛ لأنه لما أنكروا العلو وقالوا في كل مكان، أو قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه أنكروا وجود الله، فمن أقوالهم كما قال عبد الملك بن مروان أنهم يقولون: ليس على العرش إله، فاليهود تحت هذه الحالة ومن هذه الناحية من جهة اعترافهم بالرب وأنه في العلو هم أفضل من هؤلاء الجهمية الذين قالوا: ليس هناك رب فوق نعوذ بالله. قال: [وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقي على مزبلة، لئلا يتأذى بنسم ريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح]. وهذا يدل على أن الإمام ابن خزيمة رحمه الله يرى أن من أنكر علو الله فهو مرتد، فيكون أشد من اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى يدفعون الجزية، أما هؤلاء لا يدفعون الجزية، بل يعيشون تحت راية الإسلام، ولذلك لا بد من ضرب أعناقهم، ولهذا قال: يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة من مكان مرتفع، وهي مزبلة بعيدة عن البلد حتى لا يتأذى بنتن ريحه أهل الإسلام ولا أهل الذمة، فلا يتأذى به المسلمون، ولا يتأذى به اليهود والنصارى؛ فعلى ذلك دل على أنهم أشد كفراً من اليهود والنصارى. قال: [وقد روى عبد الله بن أحمد عن عباد بن العوام الواسطي إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد قال: كلمت بشراً المريسي، وأصحاب بشر؛ فرأيت آخر كلامهم أن يقولوا: ليس في السماء شيء]. وبشر المريسي هذا جهمي، زعيم طائفة المريسية في القرن الثالث الهجري، قال الإمام عباد: إني تأملت كلامهم فرأيت أن مكسب كلامهم إنكار أن الله في السماء، وهذا الكلام يدور على أنه ليس فوق العرش نعوذ بالله هذا مقتضى قول الجهمية. قال: [وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال: ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم، يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا]. وليس هناك أشد في البدع من الجهمية يدور كلامهم على إنكار الرب، قوله: أرى أن لا يناكحوا ولا يورثوا لأنهم كفار، يعني: حكم عليهم بالكفر. قال: [وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى، ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء، وإن الله ليس على العرش، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا. وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت الدباغين، فقال رجل عندها: الله على عرشه فقالت: محدود على محدود فقال الأصمعي: كافرة بهذه المقالة]. امرأة جهمية لما دخلت الدباغين وسمعت رجلاً يقول: الرحمن على العرش استوى، قالت: محدود على محدود تقصد بذلك إنكار علو الرب، يعني: كيف يكون محدوداً وهو الرب على محدود وهو العرش، يعني: هذا تنقص لله، وبذلك يكون محدوداً على محدود، وقصدهم من ذلك: نفي أن يكون الله فوق العرش؛ فلهذا قال الأصمعي: كفرت بهذه المقالة؛ لأنها أنكرت علو الله على عرشه، وإنكارها ذلك بمعنى: أن الله ساقط في المخلوقات وهذا كفر وضلال، ولهذا كفرها الأصمعي. قال: [وعن عاصم بن علي بن عاصم - شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما - قال: ناظرت جهماً؛ فتبين من كلامه أن لا يؤمن أن في السماء رباً. وروى الإمام أحمد قال: أخبرنا سريج بن النعمان قال: سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء، وعلمه في كل مكان؛ لا يخلو من علمه مكان]. هذا هو قول أهل السنة والجماعة، فالله فوق العرش، وعلمه في كل مكان، وهو سبحانه وتعالى فوق العرش ويعلم كل شيء، ويسمع كلام عباده ويراهم من فوق العرش سبحانه وتعالى بتوفيق قدرته ومشيئته فيها، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى. قال: [وقال الشافعي: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء وجمع عليه قلوب عباده]. فقوله: قضاها الله في سمائه، أي: إثبات أن الله في السماء، والرد على الجهمية. قال: [وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات وهذا مثل قول الشافعي]. وهذا فيه أنَّ الله فوق العرش فوق سبع سماوات، وذلك أن الله سبحانه وتعالى زوج نبيَّه زينب لما طلقها زيد بن حارثة، وقد زوجها الله من فوق سبع سماوات من دون ولي، فوليها الله، ولهذا كانت تفخر على أزواج النبي وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب:37] وهذا من مناقب زينب رضي الله عنها، ودخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم بدون ولي وبدون شهود، كذا بدون الشروط المعتبرة من ولي وشاهد ومهر. قال: [وقصة أبي يوسف - صاحب أبي حنيفة - مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه لما أنكر الصفات وأظهر قول جهم، قد ذكرها ابن أبي حاتم وغيره].

الإيمان بالعرش

الإيمان بالعرش قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن أبي زمنين الإمام المشهور من أئمة المالكية في كتابه الذي صنفه في أصول السنة قال فيه: باب الإيمان بالعرش، قال: ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء]. أي: أن العرش سقف المخلوقات. قال: [كما أخبر عن نفسه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} [الحديد:4]. فسبحان من بَعُدَ وَقرُبَ بعلمه، فسمع النجوى، وذكر حديث أبي رزين العقيلي (قلت: يا رسول الله! أين ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء)]. والعماء هو السحاب الرقيق، كان في عماء ما فوقه هواء ولا تحته؛ لأن الذي فوقه هو، والذي تحته هو، وهذا الحديث فيه وكيع بن الحدس ويقال: عدس وفيه ضعف، فالحديث في سنده ضعيف، لكن هناك نصوص كثيرة كلها تدل على علو الله على خلقه. قال: [قال محمد: العماء: السحاب الكثيف المطبق فيما ذكره الخليل وذكر آثاراً أخر].

الإيمان بالكرسي

الإيمان بالكرسي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: باب الإيمان بالكرسي، قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش، وأنه موضع القدمين]. هكذا صح عن ابن عباس، فقد صح عن ابن عباس أنه قال: يكون في موضع القدمين، والعرش لا يعلم قدره إلا الله عز وجل. قال: [ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة، وفيه: (فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه، ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر؛ ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها). وهذا الحديث فيه إثبات العلو. قال: [وذكر ما ذكره يحيى بن سلام صاحب التفسير المشهور حدثني المعلى بن هلال عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين، ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه)]. من رواة الحديث عمار الذهني، هو عمار بن معاوية بن أسلم البجلي وثقه الإمام أحمد والجماعة. قال: [وذكر من حديث أسد بن موسى حدثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)].

الإيمان بالحجب

الإيمان بالحجب قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: باب الإيمان بالحجب، قال: ومن قول أهل السنة. أن الله بائن من خلقه يحتجب عنهم بالحجب، فتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5] وذكر آثاراً في الحجب، ثم قال -في باب (الإيمان بالنزول) -: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا في حداً، وذكر الحديث من طريق مالك وغيره إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد، قال: ومن أدركت من المشايخ مالك وسفيان الثوري وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع: كانوا يقولون: إن النزول حق، قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي عن النزول قال: نعم أؤمن به ولا أحد فيه حداً، وسألت عنه ابن معين فقال: نعم، أقر به، ولا أحد فيه حداً. قال محمد: وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض، وهو أيضاً بين في كتاب الله، وفي غير حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]. وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]. وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]. وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]. وقال تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]. وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]. وذكر من طريق مالك: قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة)]. كل هذه أدلة واضحة، فالرفع يكون من أسفل إلى أعلى والصعود كذلك، والجارية أجابت أن الله في السماء، فدل على أن الله في العلو، وقال: وأهل البدع أنكروا أن يسأل عن الله بأين، قالوا: هذا سؤالٌ فاسد، وأقرها على الجواب الفاسد، هكذا اتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام. قال: [قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جداً فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض، لا إله إلا هو العلي العظيم. وقال قبل ذلك في باب (الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه) قال: واعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علماً والعجز عن ما لم يدع إليه إيماناً، وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم]. يعني: يقفون عند هذا الحد ينتهون إليه ولا يزيدون. قال: [وقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]]. يثبت أن لله وجهاً. قال: [وقال تعالى: {قُلْ أي شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]]. يثبت أن الله شيء. قال: [{وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]]. فيها إثبات النفس لله. قال: [وقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]]. فيها أثبات أن لله روح. قال: [{رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48]]. فيها إثبات أن الله يرى. قال: [وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]]. فيها إثبات أن الله يرى. قال: [وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]]. فيها إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى. قال: [وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر:67]]. فيها إثبات القبضة لله. قال: [وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]]. فيها إثبات السمع والرؤية. قال: [{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]]. فيها إثبات أن الله يتكلم مع من شاء من خلقه. قال: وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]. وقال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] ومثل هذا فالقرآن كثير. فهو تبارك وتعالى نور السموات والأرض، كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع ويرى ويتكلم، هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء، والباطن، بطن علمه بخلقه فقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]]. وهذا كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح هذه الأسماء (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء). قال: [قيوم حيٌّ {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]. وذكر أحاديث الصفات ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها نبيه، وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] لم تره العيون فتحده كيف هو؟ ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان].

[6]

شرح الحموية لابن تيمية [6] إن أهل البدع يثبتون لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين وكذلك أهل السنة والجماعة، لكن أهل البدع ينفون عن الله الأسماء والصفات والأفعال التي أثبتها لنفسه وأثبتها له نبيه بحجة أن إثباتها فيه تشبيه للخالق بالمخلوقات غير أن أهل السنة أثبتوها لله كما أثبتها لنفسه وقالوا كما أن ذاته تختلف عن ذوات المخلوقات كذلك أسماؤه وصفاته وأفعاله.

القول في الصفات فرع على القول في الذات

القول في الصفات فرع على القول في الذات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم. مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في (الغنية عن الكلام وأهله) قال: فأما ما سألت عنه من الصفات، وما جاء منها في الكتاب والسنة، فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤُها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله، وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف]. يعني: قوم نفوها وعطلوا الرب عن صفاته، وقوم غلوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه ومثلوه بعباده، وقوله: حققها يعني: معناها، يعني: زادوا في الإثبات حتى وصلوا إلى التشبيه. قال: [وإنما الفصل في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين، ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه]. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة أثبتوا الصفات، ونفوا مماثلة ومشابهة المخلوقات، وهو وسط بين مذهب المعطلة الذين غلوا في التنزيه حتى عطلوا صفات الله وصفات كماله، وبين المشبهة من الشيعة والرافضة غلوا في الإثبات حتى مثلوا الله بخلقه. مداخلة: وإنما الفصل في سلوك الطريق المستقيمة بين الأمران. يعني: القصد في التوسط والاعتدال. قال: [ودين الله تعالى بين الغالي فيه والمقصر عنه، والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، ويحتذى في ذلك حذوه وأمثاله]. أي: كما أن الله له ذات لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات. قال: [فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا: يد وسمع وبصر وما أشبهها، فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه، ولسنا نقول: إن معنى اليد: القوة أو النعمة. وهذا قول المعطلة، فسروا اليد بالقوة وبالنعمة، وهذا من أبطل الباطل، قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. وهذا يقول: بقوتي وبنعمتي يفسد المعنى، لأن نعم الله كثيرة. قال: [ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة، ولا معنى السمع والبصر: العلم، ولا نقول: إنها جوارح]. يقولون: السمع والبصر يعني: العلم وهذا باطل، الله يسمع ويبصر يقولون: يعني: يعلم. وقوله: [ولا نقول: إنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل]. لا نقول لها: جوارح هذا مما أطلقه أهل البدع، يقولون: اليد هي الجارحة. ولا نشبهها بأبصار المخلوقين وأسماعهم التي هي الجوارح بالفعل وأدوات للفعل، فهو سبحانه متنزه بجلاله وعظمته لا يماثله أحد من خلقه، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وقال سبحانه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. فعلى ذلك فإن الأشياء التي لم ترد ولم تثبت لا تكيَّف ولا يقال: لله جوارح، ولا يقال: له جسمٌ أو حجم أو حيز أو جهة، لا ننفي ولا نثبت. قال: [ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات؛ لأن التوقيف ورد بها، ووجب نفي التشبيه عنها؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وعلى هذا ترى قول السلف في أحاديث الصفات انتهى هذا كله كلام الخطابي وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك، وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحواً منه من العلماء من لا يحصى عددهم، مثل: أبي بكر الإسماعيلي، والإمام يحيى بن عمار السجزي وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين وذم الكلام وهو أشهر من أن يوصف، وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب وغيرهم].

كلام أبي نعيم الأصبهاني في إثبات صفة العلو والاستواء لله جل وعلا

كلام أبي نعيم الأصبهاني في إثبات صفة العلو والاستواء لله جل وعلا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية في عقيدة له في أولها طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال: فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها، ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستوٍ على عرشه في سمائه، دون أرضه وخلقه. ]. سبحان الله العظيم، وفيه رد على أهل البدع الذي يقولون: إنه مختلط في المخلوقات وهذا كفر، بل هو مستو على عرشه بائن من خلقه. قال: [وقال الحافظ أبو نعيم في كتاب محجة الواثقين ومدرجة الوامقين تأليفه: وأجمعوا أن الله فوق سمواته، عالٍ على عرشه، مستوٍ عليه، لا مستولٍ عليه كما تقول الجهمية: إنه بكل مكان، خلافاً لما نزل في كتابه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]]. والصعود من أسفل إلى أعلى فدل على أن الله في العلو. قال: [{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السماوات والأرض، وهو قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]. وكرسيه جسم، والسماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة]. والكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في فلاة أيضاً. فالكرسي جسم، كما جاء عن ابن عباس: وموضع قدميه الكرسي والعرش لا يعلم قدره إلا الله. قال: [وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية]. وليس الكرسي هو علمه كما قالت الجهمية: وهذا قول من الأقوال وهو مروي عن ابن عباس فقد روي عنه روايات في الكرسي قيل: الكرسي العرش وقيل: الكرسي موضع القدمين، وقيل: الكرسي العلم فهذه ثلاث روايات لكن رواية فكرسيه: علمه باطله ويوافق تفسير الجهمية، ويفسد بها المعنى فإذا قرأت: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]. أي: وسع علمه السماوات والأرض وعلم الله وسع كل شيء فإذا فسر الكرسي بالعلم صار {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] صار العلم ما يسع إلا السماوات والأرض مع أن العلم كما قال الله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]. قال: [وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية؛ بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه؛ كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأنه - تعالى وتقدس - يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفاًّ صفاًّ كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]]. وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين ويعذب من يشاء. كما قال تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284].

وصية معمر بن أحمد للصوفية باتباع منهج أهل الحديث في إثبات العلو والنزول

وصية معمر بن أحمد للصوفية باتباع منهج أهل الحديث في إثبات العلو والنزول قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني - شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده - قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة، وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف، وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين، قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف فيه مجهول، وأنه عز وجل بائن من خلقه، والخلق منه بائنون بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة؛ لأنه الفرد البائن من الخلق، الواحد الغني عن الخلق]. أثبت استواء الرب بلا حلول ولا ممازجة، وهذا فيه رد على الجهمية القائلين بالحلول والاختلاط، مثلاً يقولون: إن الله مختلط بالمخلوقات نعوذ بالله، وهذا كفر وضلال، فالجهمية نفوا أن يكون الله في العلو، وقالوا: إنه حال في كل مكان، وهذا اختلاط في ذاته نعوذ بالله، ولهذا قال: بلا حلول ولا اختلاط ولا ممازجة. قال: [وأن الله عز وجل سميع بصير عليمٌ خبيرٌ يتكلم، ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء (فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من تائبٍ فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر)، ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على هذا]. قد يقال: إن ثلث الليل يختلف من دولة إلى دولة وهذا يقتضي نزول الرب أكثر من مرة. هذا بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فلا يقال هذا، نقول له إنما قال: يزداد الليل والنهار في الأمكنة لأنك شبهت نزول الخالق بنزول المخلوق فظننت أن نزول الخالق كنزول المخلوق، ولذلك اشتبه عليك الأمر أن تقول: يختلف الليل فقد يكون مثلاً ثلث الليل هنا الآن، وهو ثلث مثلاً في أمكنة بعيدة في أمريكا بعد اثنتي عشرةَ ساعة وفي ثلث الليل بعد كذا فلا يزال الرب كل وقت ينزل نقول هذا الإشكال إنما نشأ لكونك لم تفهم من نزول الخالق إلا كما فهمت من نزول المخلوق لكن نقول الله ينزل بلا كيف، فلا نعلم الكيفية ففي أي مكان أنت في أرض الله إذا جاء ثلث الليل فإنه وقت تنزل الله سبحانه ولا نعلم الكيفية، ولا إشكال هنا.

قول الفضيل بن عياض في وصف الله بما وصف به نفسه دون تكييف أو تمثيل

قول الفضيل بن عياض في وصف الله بما وصف به نفسه دون تكييف أو تمثيل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب السنة: حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا إبراهيم بن الحارث يعني: العبادي حدثنا الليث بن يحيى قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث قال أبو بكر -وهو صاحب الفضيل - قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؟ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه]. فلا يشبهه الإنسان ولا يمثل، وكل ما توهمه الإنسان فالله بخلاف ذلك، فلا يكيفه الإنسان ولا يمثل ولا يتوهم، وإنما يصف الله بما وصف به نفسه ويسميه بما سمى به نفسه. قال: [وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع كما يشاء أن ينزل، وكما يشاء أن يباهي، وكما يشاء أن يضحك، وكما يشاء أن يطلع فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟ فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء]. وهذا قاله بعض السلف، يعني: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول من مكانه فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء. قال: [ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في أفعال العباد].

كلام أبي إسماعيل الهروي في إثبات الأسماء والصفات

كلام أبي إسماعيل الهروي في إثبات الأسماء والصفات قال المؤلف رحمه الله: [ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه الفاروق]. أي: شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي الحنبلي الصوفي. وكتاب الفاروق هو كتاب في إثبات الصفات، وهذا شيخ الإسلام أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الهروي الصوفي الحنبلي وهو الذي صنف كتاب (منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين)، وشرحه ابن القيم في كتاب مدارج السالكين وكتاب شيخ الإسلام الفاروق كتاب جيد في إثبات الأسماء والصفات، وفيه رد على المعطلة وأهل البدع ونفاة الصفات، حتى حصل بينهم مشادة، حتى أنهم أرادوا قتله، وسعوا به إلى السلطان. لكن لما جاء في باب السلوك عطل العبادة، وصار يتعلق بالفناء ويشير إليه، فكما أن أولئك عطلوا الخالق من الصفات، فهذا عطل الخالق من العبادة، فوافقهم من حيث لا يشعر، وافقهم في التعطيل، فالذين أنكروا الأسماء والصفات عطلوا الخالق من صفاته وهو لما جاء في باب السلوك عطل الخالق من العبادة واكتفى بالشهود والنظر إلى الله، وابن القيم يعتذر عنه كثيراً في مدارج السالكين، ويقول شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه. قال: [ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه (الفاروق) فقال: حدثنا يحيى بن عمار، حدثنا أبي، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل، وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه: (التعرف بأحوال العباد والمتعبدين) قال: (باب ما يجيء به الشيطان للتائبين)، وذكر أنه يوقعهم في القنوط، ثم في الغرور وطول الأمل، ثم في التوحيد، فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكيك، أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه، أو بالجحد لها والتعطيل. فقال بعد ذكر حديث الوسوسة: واعلم رحمك الله تعالى، أن كل ما توهمه قلبك، أو سنح في مجاري فكرك، أو خطر في معارضات قلبك، من حسن، أو بهاء، أو ضياء، أو إشراق أو جمال، أو شبح مائل، أو شخص متمثل، فالله تعالى بغير ذلك، بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر، ألا تسمع لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، أي: لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل، أولم تعلم أنه تعالى لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك، كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك، فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل، والنظير والكفء]. وفي نسخة أخرى: فرد بما بين الله في كتابه من نفيه عن نفسه، وهي مثل قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، فيمكن تصلح هنا، وهذه العبارة لها وجهان، فالله سبحانه رد عن نفسه النفي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74]، وقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا} [البقرة:22]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن اعتصمت بها، وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تبارك وتعالى وتقدس، في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لك: إذا كان موصوفاً بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه؛ لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك، ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى. واعلم -رحمك الله تعالى- أن الله تعالى واحد لا كالآحاد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، إلى أن قال: خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كان منها خلياً، واسماً كان منه برياً، تبارك وتعالى، فكان هادياً سيهدي، وخالقاً سيخلق، ورازقاً سيرزق، وغافراً سيغفر، وفاعلاً سيفعل، لم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل فهو يسمى به في جملة فعله. قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، بمعنى أنه سيجيء، فلم يستحدث الاسم بالمجيء، وتخلف الفعل لوقت المجيء، فهو جاء سيجيء، ويكون المجيء منه موجوداً بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه؛ لأن ذلك فعل الربوبية، فتستحسر العقول، وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود، فلا تذهب في أحد الجانبين، لا معطلاً ولا مشبهاً، وارض لله بما رضي به لنفسه، وقف عند خبره لنفسه مسلماً، مستسلماً، مصدقاً، بلا مباحثة التنفير، ولا مناسبة التنقير، إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: {أَنَا اللَّهُ} [القصص:30]، لا الشجرة، الجائي قبل أن يكون جائياً]. في نسخة أخرى فيستحسر العقل، بدلاً من: فتستحسر العقول، يعني: تنقطع وتعجز. وقوله: فهو تبارك وتعالى القائل: {أَنَا اللَّهُ} [القصص:30] لا الشجرة، رد على الجهمية والمعتزلة حيث يقولون: إن الشجرة هي التي قالت: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وذلك في قصة موسى عليه السلام، المذكورة في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:29 - 30]. فالجهمية والمعتزلة يقولون: إن الشجرة هي التي قالت: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، أي: خلق الله الكلام في الشجرة، فالمؤلف هنا يقصد الرد عليهم فيقول: إن الله هو الذي قال: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30]، لا الشجرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الجائي قبل أن يكون جائياً، لا أمره]. كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22]، يعني: هو الجائي بنفسه سبحانه وتعالى، ليس المراد جاء أمره، كما تقول ذلك الأشاعرة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [المتجلي لأوليائه في الميعاد، فتبيض به وجوههم، وتفلج به على الجاحدين حجتهم، المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان، تبارك وتعالى، الذي كلم موسى تكليماً، وأراه من آياته فسمع موسى كلام الله؛ لأنه قربه نجياً، تقدس أن يكون كلامه مخلوقاً أو محدثاً أو مربوباً، الوارث بخلقه، السميع لأصواتهم، الناظر بعينه إلى أجسادهم، يداه مبسوطتان، وهما غير نعمته، خلق آدم ونفخ فيه من روحه، وهو أمره -تعالى وتقدس- أن يحل بجسم، أو يمازج بجسم، أو يلاصق به تعالى عن ذلك علواً كبيراً. أي: أنه تعالى نفخ فيه من روحه، وهو أمره، أي: أن الروح مأمورة، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، فالروح من مخلوقاته سبحانه وتعالى، أي: من الأرواح التي خلقها، وأضيفت إلى الله للتشريف، مثل قوله: عيسى روح الله، يعني: روح من الأرواح التي خلقها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [الشائي له المشيئة]. هنا المؤلف رحمه الله اشتق الشائي من المشيئة، وهذا الاشتقاق وإن كان فيه نظر، إلا أن المؤلف رحمه الله ينقل النقول ولا يعني هذا أنه يوافق أهل البدع في كل ما يقولون، فهو إنما يبين أن العلماء كلهم يخالفون مذهب المعطلة ويردون عليهم، فكلمة الشائي، اشتقاق من المشيئة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [العالم له العلم، الباسط يديه بالرحمة، النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة، وليرغبوا إليه بالوسيلة، القريب في قربه من حبل الوريد، البعيد في علوه من كل مكان بعيد، ولا يشبه بالناس، إلى أن قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، القائل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك:16 - 17]، تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء، جل عن ذلك علواً كبيراً].

كلام الحارث المحاسبي في أن الأخبار التي فيها ذكر الأسماء والصفات لا يدخلها النسخ

كلام الحارث المحاسبي في أن الأخبار التي فيها ذكر الأسماء والصفات لا يدخلها النسخ قال المؤلف رحمه الله: [قال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي، في كتابه المسمى: (فهم القرآن) قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ، وأن النسخ لا يجوز في الأخبار قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وأسمائه وصفاته يجوز أن ينسخ منها شيء]. هذا الكلام فيه فائدة: وهي أن الأخبار لا يدخلها النسخ، إنما النسخ يدخل على الأوامر والنواهي، أما الأخبار فلا يدخلها النسخ، فمثلاً ما أخبر الله عن قصص الأنبياء وقصص المنافقين، هذا لا يدخله النسخ؛ لأنه أخبار، والنسخ إنما يكون في الأوامر والنواهي، فإذا أمر الله بأمر، أو نهى عن شيء، فإنه قد ينسخ للتخفيف، مثل: (نهى النبي عن الشرب قائماً، ثم شرب قائماً)، فهذا قد يقال إنه نسخ، لكن هنا يمكن الجمع بينهما بأن النهي محمول على التنزيه، والفعل محمول على الجواز. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى، فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب، وأنه لا يبصر ما قد كان، ولا يسمع الأصوات، ولا قدرة له، ولا يتكلم، ولا كلام كان منه، وأنه تحت الأرض، لا على العرش، جل وعلا عن ذلك]. أي: أن هذه الأخبار لا يمكن أن تنسخ بعد أن أخبر الله بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا عرفت ذلك واستيقنته؛ علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز]. أي: ستعلم أنه يجوز النسخ على الأوامر والنواهي دون الأخبار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} [يونس:90] الآيات، وقال تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31]، وقال: قد تأول قوم أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار؛ لأنه آمن عند الغرق، وقالوا: إنما ذكر الله أن قوم فرعون يدخلون النار دونه، وقال: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98]، وقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45]، ولم يقل بفرعون. وقال: وهكذا الكذب على الله؛ لأن الله تعالى يقول: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25]]. فهذه شبهة وضعها بعض الملاحدة بعد أن تأولوا الآيات، فقالوا: إن فرعون مؤمن، ولن يدخل النار؛ لأن الله يقول: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:92]، فقالوا: هذه نجاة من النار، بدليل أنه آمن، فالله قد قال عنه: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} [يونس:90]، وقالوا: أما قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فهو خطاب لآل فرعون وهو لا يدخل معهم. وهذا من أبطل الباطل، فهو أول من يدخل مع آل فرعون، فكما أن آل إبراهيم أول من يدخل فيهم وعلى رأسهم إبراهيم عليه السلام، فكذلك آل فرعون على رأسهم فرعون، وأما النجاة المذكورة في الآية، فهي نجاة من الغرق في البحر حتى يراه الناس: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:92]، وليس المراد بها النجاة من النار كما زعموا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:3]، فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علماً بشيء؛ لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر عليه أن يصنعه -تجده ضرورة-]. يعني: لا يمكن أن يخلق الشيء إلا إذا تقدم العلم به، أي: يسبق الخلق علم بالمخلوق. فالمراد أن الله سبحانه سبق علمه بالأشياء قبل كونها، والإنسان مثلاً إذا لم يعلم عن شيء فلا يمكن أن يكونه، فلو قيل لك مثلاً: اصنع سيارة من كذا وكذا، وأنت لم تر سيارة من قبل، ولا علمتها، ولا سبق في ذهنك شيء عنها، فلا يمكن أن تصنعها، فلا بد أن يسبق علمك بشيء، فالله تعالى خلق الأشياء التي سبق علمه بها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، قال: وإنما قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31]، إنما يريد: حتى نراه فيكون معلوماً موجوداً]. وهذا هو علم الظهور، أي: يظهر علمه سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ} [محمد:31]، يعني: حتى نعلمه موجوداً وظاهراً، وإلا فقد علمه قبل ذلك سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوماً من قبل أن يكون، ويعلمه موجوداً كان قد كان، فيعلم في وقت واحد معدوماً موجوداً وإن لم يكن، وهذا محال]. وهذا لا يمكن؛ لأنه جمع بين النقيضين، والجمع بين النقيضين محال، وذلك بأن يعلم الشيء موجوداً معدوماً في نفس الوقت. والمراد أن الله تعالى سبق علمه بالأشياء قبل كونها، ولا يقال: سبق علمه بالعدم، أي: علمه معدوماً، ثم علمه موجوداً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر كلاماً في هذا في الإرادة، إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، ليس معناه: أن يحدث له سمعاً، ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم، وقد ذهب قوم من أهل السنة أن لله استماعاً حادثاً في ذاته، فذهبوا إلى أن ما يعقل من الخلق أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول؛ لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقد فهم عما أدركته أذنه من الصوت. وكذلك قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105]، لا يستحدث بصراً محدثاً في ذاته، وإنما يحدث الشيء فيراه مكوناً، كما لم يزل يعلمه قبل كونه].

الأدلة على صفة العلو لله سبحانه وتعالى

الأدلة على صفة العلو لله سبحانه وتعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]. وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، وقال لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]]. وهذه وما بعدها كلها أدلة تدل على صفة العلو للرب سبحانه وتعالى، فالعروج يكون من أسفل إلى أعلى، والصعود كذلك من أسفل إلى أعلى، والرفع كذلك، فدل على أن الله في العلو. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف:206]]. فقوله تعالى: {عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف:206]، يعني في العلو؛ لأن تخصيصهم بها يدل على أنهم في العلو. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر الآلهة: أن لو كانوا آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً، إلى طلبه حيث هو، فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]]. فهذا فيه إثبات العلو وأن الله تعالى فوق العرش. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]]. فاسمه الأعلى سبحانه وتعالى يثبت العلو. وهناك آلاف الأدلة، كما قال ابن القيم، بأن هناك ما يزيد على ثلاثة آلاف دليل، كلها تدل على إثبات علو الرب سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبد الله: فلن ينسخ ذلك أبداً]. أي: الأخبار التي أخبر الله بها عن نفسه، ووصف بها نفسه لن تنسخ.

نصوص المعية لا تعارض ولا تنسخ نصوص الفوقية

نصوص المعية لا تعارض ولا تنسخ نصوص الفوقية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، فليس هذا بناسخ لهذا، ولا هذا ضد لذلك]. يعني: نصوص المعية ليست ناسخة لنصوص العلو والفوقية، وليست ضدها؛ لأن المعية ليس معناها أنه مختلط بالخلق سبحانه وتعالى، فإن معنى المعية في اللغة: المصاحبة، يقال: فلان مع فلان، يعني: مصاحب له، ولا يلزم منه المحاذاة أو الاختلاط والامتزاج، تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا، وما زلنا نسير والنجم معنا، مع أن القمر والنجم في الأعلى، فهذه المعية هي بمعنى: المصاحبة. فالمبتدعة من الجهمية أبطلوا نصوص الفوقية بنصوص المعية، وقالوا: نصوص المعية تدل على أن الله مختلط بالمخلوقات، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وهذا يبطل نصوص العلو، فضربوا النصوص بعضها ببعض، ولهذا قالوا: إن نصوص المعية تبطل نصوص الفوقية وتنقضها، فقالوا: إن الله مختلط بالمخلوقات. وهذا من أبطل الباطل، فالشيخ رحمه الله يقول: ليس هناك معارضة بين هذه النصوص، فإن نصوص المعية حق، ونصوص العلو حق، فنصوص العلو محكمة، بأن الله فوق العرش، وفوق المخلوقات، ونصوص المعية معناها: المصاحبة، فهو سبحانه مع المخلوقات بعلمه واطلاعه وإحاطته، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، فلا منافاة، وهو مع المؤمنين بنصره وتأييده وتوفيقه وتسديده، ومعهم بعلمه وإحاطته واطلاعه، وهو فوق العرش، وفوق المخلوقات ولا منافاة، فالمعية لا تفيد اختلاط المخلوقات، فقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7]، يعني: بعلمه، بدليل أن الله استفتح الآية بالعلم وختمها بالعلم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7]، ثم قال في آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فهذه معية علم واطلاع وإحاطة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته، فيكون في أسفل الأشياء، أو ينتقل فيها لانتقالها، ويتبعض فيها على أقدارها، ويزول عنها عند فنائها، جل وعز عن ذلك]. يقصد المؤلف رحمه الله أن آيات المعية لا تدل على أن الله تعالى خلق المخلوقات بذاته، فينقل بانتقالها، أو يتبعض فيها على أقدارها، أو يزول عند زوالها، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فهو سبحانه وتعالى فوق عرشه، بائن من خلقه، وينزل إلى السماء الدنيا، نزولاً حقيقياً، كما يليق بجلاله وعظمته، لا نزول أمره، ولا نعلم الكيفية، فالنزول معلوم، والكيف مجهول. فهو سبحانه ينزل كما يشاء سبحانه وتعالى، فلا نكيف، ولا نقول: إنه ينزل ويكون بين طبقتين، مثل نزول المخلوق، فإن هذا تشبيه وتمثيل، ولا يقوله إلا المشبهة والممثلة، فإنهم يقولون: إن الله تعالى بين طبقتين، فهذا لا يقوله مسلم، إنما هو قول الجهمية والمعتزلة، حيث يقولون: إنه سبحانه مختلط بالمخلوقات، فهذا الكلام الذي رده الشيخ وقال: لا توجد منافاة، فنصوص العلو محكمة، والنزول يليق بجلاله وعظمته، لا نعلم كيفيته، نزوله معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال، فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائناً، كما هو على العرش، ولا فرقان بين ذلك عندهم]. هذا قول الجهمية الملاحدة الحلولية نعوذ بالله، فقد قالوا: إن الله في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، حتى قالوا إنه في أجواف الطيور، وبطون السباع، وفي كل مكان، ولم ينزهوه عن شيء نعوذ بالله، وهل يجرؤ عاقل أن يقول مثل هذا الكلام، قالوا: إنه مثل الهواء الذي ما يخلو منه مكان، نعوذ بالله من الزيغ والضلال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه؛ لأن كل من يثبت شيئاً في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه، واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائناً، ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا: لا كالشيء في الشيء]. يعني: هم قالوا: إنه في كل مكان، ثم قالوا: إنه يستحيل عليه أن يكون في كذا، ويستحيل أن يكون في كذا، وهذا لا يفيدهم؛ لأنهم أثبتوا أنه في كل مكان، فما يفيدهم قولهم إنه يجوز عليه كذا، ولا يجوز عليه كذا. والآيات التي احتجوا بها هي آيات المعية مثل قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84]، قالوا: هذا يدل على أنه مختلط بكل المخلوقات. فهم يقولون: إنه في كل مكان، ثم قالوا: لا كالشيء في الشيء، يعني: لا كالماء حينما يكون في الكوز. فهذا تناقض عجيب عندهم، وأحياناً يقولون: إنه مثل الهواء، وأحياناً يقولون: إنه لا يكون كالشيء بالشيء، يعني: لا يكون ملاصقاً، فهو في كل مكان لكن ليس ملاصقاً، لا كالشيء في الشيء، لا كالماء إذا حل في الكوز، وهذا من تناقضهم، كما قال أبو عبد الله المحاسبي رحمه الله: هذا تناقض، فإنهم قد أثبتوا أنه داخل المخلوقات، فلا يفيدهم قولهم: إنه لا كالشيء في الشيء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبد الله: أما قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31]، {وَسَيَرَى اللَّهُ} [التوبة:94]، {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15]، فإنما معناه: حتى يكون الموجود، فيعلمه موجوداً، ويسمعه مسموعاً، ويبصره مبصراً، لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر. وأما قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا} [الإسراء:16] إذا جاء وقت كون المراد فيه. وأن قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، {إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42] فهذا وغيره مثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، هذا مقطع يوجب أنه فوق العرش]. يعني: أن الأدلة على صفة العلو أنواع، منها قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ} [فاطر:10]، فهذا نوع من الأدلة؛ لأن الصعود يكون من أسفل إلى أعلى. وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، هذا نوع آخر من الأدلة، فهي أنواع متعددة. وقوله: مقطع، أقرب من قوله: منقطع، والله أعلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [هذا مقطع يوجب أنه فوق العرش، فوق الأشياء كلها، منزه عن الدخول في خلقه، لا يخفى عليه منهم خافية؛ لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده؛ لأنه قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، يعنى: فوق العرش، والعرش على السماء؛ لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء]. قوله: من كان فوق كل شيء على السماء فهو في السماء، يعني: في العلو، فهنا (في) ظرفية، ولا يلزم من ذلك أن يكون داخل السماوات، فالعلو: كل ما كان فوق العرش، والله تعالى له أعلى العلو وهو فوق العرش. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد قال مثل ذلك في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2]، يعنى: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]، يعني: على الأرض، لا يريد الدخول في جوفها، وكذلك قوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، يعني: فوقها عليها]. ومثله قولهم: فلان في السطح، ليس المراد: أنه داخل الجدران، بل المراد: أنه موجود فوق السطح. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، ثم فصل فقال: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، ولم يصل فلم يكن لذلك معنى -إذ فصل قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، ثم استأنف التخويف بالخسف- إلا أنه على عرشه فوق السماء]. أي: قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، يعني: في العلو، ويعني: على السماء، فالسماء تطلق على إطلاقين: على العلو فتكون (في) ظرفية، وهذا هو الأصل، وتطلق السماء على الطباق المبنية، وهنا تكون (في) بمعنى على. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، فبين عروج الأمر وعروج الملائكة، ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فقال: صعودها إليه، وفصله بقوله: (إليه)، كقول القائل: أصعد إلى فلان في ليلة أو يوم، وذلك أنه في العلو، وأن صعودك إليه في يوم، فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل، وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع

[7]

شرح الحموية لابن تيمية [7] عقيدة أهل السنة والجماعة الطائفة المنصورة والناجية إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء وصفات دون تحريف أو تشبيه أو تكييف أو تفويض للمعاني، وقد أثبت الله لنفسه صفات كثيرة منها: صفة السمع والبصر واليدين والرجل والقدم وغيرها، فما على المسلم إلا أن يسلم للنصوص فبها توفيقه ونجاته.

بيان إجماع الصحابة والتابعين على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتكفير من أنكرها

بيان إجماع الصحابة والتابعين على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتكفير من أنكرها قال المصنف رحمه الله: [وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه: (اعتقاد التوحيد في إثبات الأسماء والصفات)، قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه، قولاً واحداً وشرعاً ظاهراً، وهم الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال: (عليكم بسنتي)، وذكر الحديث، وحديث: (لعن الله من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً)، قال: فكانت كلمة الصحابة على اتفاق من غير اختلاف، وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم، إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد، وأصول الدين -من الأسماء والصفات- كما اختلفوا في فروعه]. الصحابة بفضل الله ومنه اتفقوا على إثبات الأسماء والصفات لله عز وجل، وأن الله في العلو، وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون، والأئمة والعلماء من بعدهم، حتى جاءت الجهمية والمبتدعة فابتدعوا هذه الأقوال الفاسدة الباطلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا، كما نقل سائر الاختلاف، فاستقر صحة ذلك عن خاصتهم وعامتهم، حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان، فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين حتى نقلوا ذلك قرناً بعد قرن؛ لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر، ولله المنة]. يعني: من خالف في هذا -بأن الله في العلو- وأنكر ذلك فقد كفر؛ ولهذا كفر السلف من قال بذلك، أي: أنكر أن الله في العلو، كما قال الإمام أبو حنيفة عندما سئل عمن قال: لا أدري هل الله في السماء أم في الأرض؟ قال: كفر، فإن قال: إن الله في السماء، ولكن لا أدري هل السماء في الأرض أم في العلو؟ قال: كفر؛ لأن السماء في العلو.

إثبات صفة النفس لله جل وعلا

إثبات صفة النفس لله جل وعلا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم إني قائل -وبالله أقول-: إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد، وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين، فخاض في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار، ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار، وصار معولهم على أحكام هواجس النفوس المستخرجة من سوء الطوية ما وافق على مخالفة السنة]. قوله: سوء الطوية، يعني: النية السيئة، أي: سبب القصد السيئ. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وصار معولهم على أحكام هواجس النفوس المستخرجة من سوء الطوية؛ ما وافق على مخالفة السنة، والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس، فتأولوا على ما وافق هواهم، وصححوا بذلك مذاهبهم؛ احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين، ومأخذ المؤمنين، ومنهاج الأولين، خوفاً من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ومنع المستجيبين له حتى حذرهم. ثم ذكر أبو عبد الله خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتنازعون في القدر وغضبه، وحديث: (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته)، والحديث هو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج على الصحابة وهم يتنازعون في القدر، فغضب وقال: (أبهذا أمرتم؟ أبهذا وكلتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، ما علمتم منه فاعملوا به، وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه)، وهذا الحديث لا بأس بسنده، والحديث الآخر: (لا ألفين أحدكم جالساً على أريكته يأتيه الحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا في كتاب الله عملنا به، وما لم يوجد في كتاب الله فلا نعمل به، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحديث: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، وأن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه؛ ثم قال: فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة، ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان، المعروفين بنقل الأخبار، ممن لا يقبل المذاهب المحدثة، فيتصل ذلك قرناً بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة، الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة. إلى أن قال: فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجلها: ذكر أسماء الله عز وجل وصفاته مما ذكر الله في كتابه، وما بين صلى الله عليه وسلم من صفاته في سنته، وما وصف به عز وجل نفسه مما سنذكر قول القائلين بذلك، مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك، ومما قد أمرنا بالاستسلام له، إلى أن قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية وإقرار الألولهية: أن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق بما بدأ به من أسمائه وصفاته، وأكده صلى الله عليه وسلم بقوله، فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله: لا إله إلا الله. إلى أن قال: بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل، فقال لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وقال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، ولصحة ذلك واستقراره ناجاه المسيح عليه السلام فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقال عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وأكد عليه الصلاة والسلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال: (يقول الله عز وجل: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (كتب كتاباً بيده على نفسه: إن رحمتي سبقت غضبي)، وقال: (سبحان الله رضا نفسه)، وقال في محاجة آدم لموسى: (أنت الذى اصطفاك الله، واصطنعك لنفسه)]. كل هذه النصوص تثبت النفس لله عز وجل، وبأن لله نفساً كريمة، موصوفة بالصفات العظيمة التي وصف بها نفسه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فقد صح -وفي نسخة: صرح- بظاهر قوله أنه أثبت لنفسه نفساً، وأثبت له الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر الله به عن نفسه، ويكون ذلك مبنياً على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. ثم قال: فعلى المؤمنين -خاصتهم وعامتهم- قبول كل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم بنقل العدل عن العدل حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم].

إثبات صفة النور لله سبحانه وتعالى

إثبات صفة النور لله سبحانه وتعالى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن مما قص الله علينا في كتابه، ووصف به نفسه، ووردت السنة بصحة ذلك أن قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]، ثم قال عقيب ذلك: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، وبذلك دعاه صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السماوات والأرض)]. وهذا حديث الاستفتاح، عن ابن عباس: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض)، وهو حديث الاستفتاح الطويل لقيام الليل، وهو ثابت في البخاري ومسلم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ذكر حديث أبي موسى: (حجابه النور -أو النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وقال: سبحات وجهه: جلاله ونوره، نقله عن الخليل وأبى عبيد، وقال: قال عبد الله بن مسعود: نور السماوات من نور وجهه].

ثبوت اسمي الله عز وجل الحي القيوم والصفة المتضمنة لهما

ثبوت اسمي الله عز وجل الحي القيوم والصفة المتضمنة لهما قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم قال: ومما ورد به النص أنه حي، وذكر قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، والحديث: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)]. وهذا فيه إثبات اسمين من أسمائه سبحانه وتعالى وهما: الحي القيوم، وهذا نقله المؤلف رحمه الله من الآية والحديث، ففي الآية والحديث إثبات الحي القيوم، وهما اسمان من أسمائه سبحانه وتعالى، وقد ذكر الله تعالى الحي القيوم وجمع بينهما في ثلاثة مواضع من كتابه، قال سبحانه: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، في آية الكرسي من سورة البقرة، وفي الآية الثانية من سورة آل عمران قال: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]، وفي سورة طه يقول عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111]، فجمع الله عز وجل بين هذا الاسمين في هذه الثلاثة المواضع من كتابه الكريم، حتى قيل إنهما اسم الله الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب. وكذلك الحديث: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)، ففيه: استغاثة بصفة من صفاته سبحانه وتعالى، والاستغاثة والاستعاذة بصفاته سبحانه وتعالى جائزة وقد وردت، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك)، وفي هذا الحديث: (برحمتك أستغيث). أما سؤال الصفة فهذا لا يجوز، وذلك بأن يقول: يا رحمة الله أغيثيني! أو يا قدرة الله أنقذيني!، حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا كفر، فلا يجوز نداء الصفة.

إثبات صفات الوجه والسمع والبصر وكمال الحياة والقيومية

إثبات صفات الوجه والسمع والبصر وكمال الحياة والقيومية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ومما تعرف الله إلى عباده أن وصف نفسه أن له وجهاً، موصوفاً بالجلال والإكرام، فأثبت لنفسه وجهاً، وذكر الآيات]. فقوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فيها إثبات الوجه لله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم، فقال في هذا الحديث: من أوصاف الله عز وجل (لا ينام) موافق لظاهر الكتاب: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]]. ونفي النوم يستلزم كمال الحياة والقيومية؛ لأن صفات الله نوعان: صفات إثبات، وصفات نفي، فصفات الإثبات مستلزمة للكمال في إثبات ضدها، فهو سبحانه وتعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، لكمال حياته وقيوميته، {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255]، لكمال قوته واقتداره، وهو: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:3]، لكمال علمه، {َلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]، لكمال عدله، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، لكمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء. فالنفي يستلزم إثبات ضده من الكمال، وليس نفياً محضاً؛ لأن النفي المحض -الصرف- لا يفيد مدحاً، ولهذا يوصف الجماد بالنفي الصرف، أما النفي الوارد في باب الأسماء والصفات فهو يستلزم إثبات ضده من الكمال. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن له وجهاً موصوفاً بالأنوار وأن له بصراً كما علمنا في كتابه أنه سميع بصير، ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه، وفي إثبات السمع والبصر، والآيات الدالة على ذلك]. فقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فيه إثبات اسمين من أسمائه سبحانه: السميع والبصير، وأسماء الله تعالى مشتقة، فكل اسم مشتمل على صفة، فالسميع مشتمل على صفة السمع، والبصير مشتمل على صفة البصر.

إثبات صفة اليدين والرجل والقدم لله سبحانه

إثبات صفة اليدين والرجل والقدم لله سبحانه [ثم قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين، أن قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة، وذكر الأحاديث في ذلك، ثم ذكر شعر أمية بن أبى الصلت]. هذا فيه إثبات اليدين لله عز وجل، كما أثبتهما لنفسه سبحانه وتعالى في كتابه فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ذكر حديث: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رجله)، وهي رواية البخاري، وفي رواية أخرى: (يضع عليها قدمه)]. ففي الرواية الأولى: إثبات الرجل لله عز وجل، والله تعالى لا يضره أحد من خلقه. وفي الرواية الثانية: إثبات القدم لله سبحانه وتعالى، وكلا الروايتين ثابتتان، فالقدم والرجل من صفاته سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ما رواه مسلم البطين عن ابن عباس: أن الكرسي موضع القدمين، وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله]. وهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر قول مسلم البطين نفسه، وقول السدي وقول وهب بن منبه، وأبي مالك، وبعضهم يقول: موضع قدميه، وبعضهم يقول: واضع رجليه عليه. ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة، موافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم، متداولة في الأقوال، ومحفوظة في الصدور، ولا ينكر خلف عن السلف، ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم، نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم، إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم، ممن حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم ومكالمتهم، وأمرنا ألا نعود مرضاهم، ولا نشيع جنائزهم، فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه، وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس، وكفر المتقدمين، وأنكروا على الصحابة والتابعين، وردوا على الأئمة الراشدين، فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل]. هذا يعني: أن هذه النصوص -التي فيها إثبات الصفات- ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، متداولة ومعلومة عند السلف، وعند الأئمة، وعند العلماء، وعند الصدر الأول، حتى جاء أهل البدع فضربوها بالتأويل، وضربوا لها المقاييس، وقالوا: إن فيها تشبيهاً، فأبطلوها، وقالوا: إنها أخبار آحاد لا يحتج بها، وأولوها، وأهل البدع هؤلاء هم الذين نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعود مرضاهم، وأن نتبع جنائزهم، وقد سبقهم أهل العلم وأهل البصيرة إلى إثباتها وقبولها والعمل بها، فلا يلتفت إلى هؤلاء -أهل البدع- الذين أحدثوا بعد السلف وبعد الصحابة والتابعين. وقول المؤلف عن أهل البدع هؤلاء: قلل الله عددهم، يعني: لا كثرهم الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ذكر المأثور عن ابن عباس، وجوابه لـ نجدة الحروري، ثم حديث الصورة، وذكر أنه صنف فيها كتاباً مفرداً، واختلاف الناس في تأويله]. حديث الصورة: هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته)، كأن ابن خفيف ألف فيه كتاباً مستقلاً. وشيخ الإسلام رحمه الله تكلم على حديث الصورة هذا، وأطال فيه، وبين تلبيس الجهمية في هذا، والكتاب بلغ ما يقارب رسالة، وفيه بين المؤلف رحمه الله أن القول الحق الذي عليه الأئمة وأهل العلم، أن الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم (خلق الله آدم على صورته)، يعود إلى الله، كما تدل عليه الرواية الأخرى: (خلق الله آدم على صورة الرحمن). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن الرواية ثابتة وسندها لا بأس به. وقال بعضهم: إن الضمير يعود إلى آدم، أي: خلق الله آدم على صورة آدم، وهذا القول نفاه الإمام أحمد وأبطله، فلما سأله ابنه قال: (خلق الله آدم على صورته)، هل هي صورة آدم؟ قال: هذا قول الجهمية، أي على صورة آدم قبل أن يخلقه الله. والقول الثالث: قالوا: إن الضمير يعود إلى المضروب؛ لأن الحديث له سبب، فالحديث ورد فيه: (لا تضرب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته)، فقالوا: هذا من باب التشبيه المقلوب، فالضمير يعود إلى المضروب. والصواب من هذه الأقوال: أنه يعود إلى الله، وفيه: إثبات الصورة لله عز وجل، بل كل موجود له صورة، فهو يقتضي نوعاً من المشابهة، وهي المشابهة في مطلق الصورة، لكنها لا تقتضي مشابهة في الجنس، ولا في الذات والصفات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده فيما خالفنا فيه أهل الزيغ وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة إن شاء الله، ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم الصديق وأنه أفضل الأمة]. الشيخ: هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة خلافاً للرافضة الذين يرون أن خلافة الصديق وخلافة عمر وعثمان باطلة.

بعض المسائل العقدية التي فيها الخلاف بين أهل السنة وغيرهم، وقول أهل السنة فيها

بعض المسائل العقدية التي فيها الخلاف بين أهل السنة وغيرهم، وقول أهل السنة فيها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: وكان الاختلاف في (خلق الأفعال)، هل هي مقدرة أم لا؟ قال: وقولنا فيها: أن أفعال العباد مقدرة معلومة، وذكر إثبات القدر]. يعني: أن الله تعالى قدر الأشياء كلها: الذوات والصفات والأفعال، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فهي مقدرة مخلوقة، خلقها الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ذكر الخلاف في أهل (الكبائر) ومسألة (الأسماء والأحكام)، وقال: قولنا فيها: أنهم مؤمنون على الإطلاق، وأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم]. يعني: أن أهل الكبائر إذا كانت الكبيرة لا تخرجه عن دائرة الإيمان؛ فإنها لا تخرجه من الإسلام، بل يكون مؤمناً ضعيف الإيمان، كالزاني والسارق وشارب الخمر والعاق لوالديه وقاطع الرحم، وهذا إذا لم يستحل هذه الكبيرة، وهو تحت مشيئة الله؛ إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وكذلك البدع التي لا توصل إلى الكفر كلها تضعف الإيمان، ولا تخرج منه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: أصل الإيمان موهوبة يتولد منها أفعال العباد، فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال، وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه، وقال: قولنا: أنه يزيد وينقص]. وهذا قول أهل السنة والجماعة، أن الإيمان يزيد وينقص، وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، خلافاً لمرجئة الفقهاء كأهل الكوفة وأبي حنيفة وأصحابه، فإنهم قالوا: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، وهذا قول مرجوح، والصواب: أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: ثم كان الاختلاف في القرآن، مخلوقاً وغير مخلوق، فقولنا وقول أئمتنا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وإنه صفة الله، منه بدأ قولاً، وإليه يعود حكماً]. هذا هو الصواب: أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وقد كفر الأئمة من قال إنه مخلوق، قالوا: من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر، وممن قال ذلك الإمام أحمد وجماعة، وهذا على العموم، أما المعين فلا بد أن تقوم عليه الحجة. ومعنى (منه بدأ): أن الله تكلم به، و (إليه يعود) أي: في آخر الزمان حينما يترك الناس العمل به فينزع من الصدور، ومن المصاحف، نسأل الله السلامة والعافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم ذكر الخلاف في الرؤية، وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد أن الله يرى في القيامة، وذكر الحجة]. والنصوص الواردة في إثبات الرؤية في القرآن واضحة، وفي السنة متواترة؛ ولهذا قال الأئمة: من أنكر رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة كفر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة، وقد بدأت أن أذكر أحكام الجمل من العقود، فأقول: ونعتقد أن الله عز وجل له عرش، وهو على عرشه فوق سبع سماواته، بكل أسمائه وصفاته، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأَرْضِ} [السجدة:5]، ولا نقول: إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه؛ لأنه عالم بما يجري على عباده، {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]]. وهذا فيه إثبات العرش، وإثبات أن الله فوق العرش، وإثبات العلو لله عز وجل، وهذا ثابت بالأدلة الكثيرة الواضحة من الكتاب والسنة، حتى إن العلماء بينوا أن نصوص العلو والفوقية تزيد أفرادها على ثلاثة آلاف دليل: منها: أن الله قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، في سبعة مواضع، وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وقال: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، وقال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، إلى غير ذلك من أنواع الأدلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى أن قال: ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان للبقاء لا للفناء، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، خلافاً للمعتزلة الذين قالوا: إنهما معدومتان الآن، وإنما تخلقان يوم القيامة؛ لأن وجودهما الآن ولا جزاء عبث، والعبث محال على الله، هكذا يزعمون، وهذا من أبطل الباطل، فالنصوص دلت على أنهما موجودتان، قال الله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] وقال عن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]، والمؤمن في قبره يفتح له باب إلى الجنة فيأتيه من روحها وطيبها، والكافر يفتح له في قبره باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، والجنة فيها الحور، فهما موجودتان الآن، وهما دائمتان لا تفنيان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى أن قال: ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى، إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار]. عرج به عليه الصلاة والسلام حتى جاوز السبع الطباق، ووصل إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، ذلك الإيمان بالقدر، وأنه قبض قبضتين قال في إحداهما: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي، وكل صائر إلى ما قدر الله، فأهل السعادة ييسرهم الله لأهل السعادة، وأهل الشقاوة ييسرهم لعمل أهل الشقاوة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعتقد أن للرسول صلى الله عليه وسلم حوضاً، ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع]. من حيث إثبات الحوض، هذا ثابت في النصوص المتواترة، وأن له هذا الحوض في يوم القيامة، يصب فيه ميزابان من ماء الكوثر، طوله مسافة شهر وعرضه مسافة شهر، وأوانيه عدد نجوم السماء، ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. وهو عليه الصلاة والسلام الشافع المشفع في المحشر، فهو عليه الصلاة والسلام له الشفاعة العظمى يوم القيامة عامة، يشفع في الخلائق مؤمنهم وكافرهم، عامة للمؤمنين والكفار؛ لأنها لراحة النفس من موقف الحساب، ثم الشفاعة لأهل الجنة الذين يؤذن لهم في دخولها، ثم الشفاعة لرفع درجات القوم من أهل الجنة، ثم الشفاعة في قوم استحقوا دخول النار ألا يدخلوها، وفيمن دخلها حتى يخرج منها من العصاة، وهذه تواترت بها النصوص ووردت فيها الأحاديث، ومع ذلك أنكرها الخوارج والمعتزلة؛ لجهلهم وضلالهم. قال: [وذكر الصراط والميزان والموت، وأن المقتول قتل بأجله واستوفى رزقه]. هذا الصراط والميزان أثبتهما الله في كتابه، وأن الصراط صراط حسي والميزان ميزان حسي؛ لأنه توزن فيه الأعمال والأشخاص، والصراط يمر الناس عليه على متن جهنم. وقوله: (قتل بأجله) هذا هو الصواب؛ لأن الله تعالى قدر الآجال خلاف المعتزلة القائلين: المقتول قتل عليه أجله، وأنه لو لم يقتل لعاش، وهذا باطل. قال: [ومما نعتقد: (أن الله ينزل كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيبسط يده فيقول: ألا هل من سائل) الحديث. وليلة النصف، وعشية عرفة، وذكر الحديث في ذلك]. هذا كلام أبي عبد الله بن خفيف، واسمه: محمد بن خفيف الضبي الفارسي الشيرازي أبو عبد الله من مشايخ الصوفية، وقد رحل وحج مراراً، وله مؤلفات كثيرة، قال أبو عباس الفسوي: صنف شيخنا ابن خفيف من الكتب ما لم يصنفه أحد، وانتفع به جماعة صاروا أئمة يقتدى بهم، وعمر حتى عم نفعه البلدان، وقال الذهبي عنه: قد كان هذا الشيخ جمع بين العلم والعمل، وعلو السند، والتمسك بالسنن، ومتع بطول العمر في الطاعة، ولد حوالي سنة (268) وتوفي سنة (371)، من مؤلفاته: الوصية، العقيدة أو المعتقد، كتاب الاقتصاد. وهذا الحديث رواه الشيخان وأصحاب السنن، ونزول الرب من الأحاديث المتواترة، وهو من الصفات التي تكون لله جل جلاله كسائر الصفات. وأما نزوله في ليلة النصف من شعبان فغير صحيح، هذا قول ضعيف، والأحاديث التي فيها باطلة أو ضعيفة جداً، فإن الله ينزل ليلة النصف وغيرها في كل ليلة، أما تخصيص ليلة النصف فلا أعلم له أصلاً، وبعضهم قال: إنها ليلة القدر، وقال بعضهم متخصص بقيام خاص وباستفادة خاصة أو بأركان خاصة يقرأ فيها ويصلي فيها اثني عشر ركعة، والركعة الأولى يقرأ: قل هو الله أحد ثلاثين مرة، والفاتحة كذا عشر مرات، كل هذا من البدع وليس له أصل، والصواب: أن الشيخ رحمه الله ينقل عن غيره، وقصد بذلك مبيناً معتقد أهل السنة والجماعة، وقد يكون في بعض ما ينقل ملحوظات، أو قصد أنه يرد على هذا ويبينها رحمه الله، فهو ما أراد أن يتتبع بعض الأقوال الضعيفة، إنما قصده من ذلك أن ينقل نقولاً تؤيد معتقد أهل السنة والجماعة في الصفات وفي النزول، أما فيما أخبر فيه من مسألة فرعية في نزول ليلة النصف فهذا قول ضعيف. وأما نزوله سبحانه عشية عرفة فهذا ثابت، أنه ينزل عشية عرفة يباهي بأهل الموقف الملائكة. قال: [ونعتقد: أن الله كلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً]. وهذا كذلك فيه إثبات الكلام لله بنص القرآن الكريم، وقد أنكر الجعد بن درهم هاتين الصفتين، وهو أول من حفظ عنه في الإسلام نفي الصفات، وكان ممن تكلم عن الخلة والتكليم، فادعى أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواصل وقتله، وكان هذا بفتوى من علماء زمانه، وكان أكثرهم من التابعين، وشكر له العلماء ذلك، فقد قتله يوم عيد الأضحى، وذل

[8]

شرح الحموية لابن تيمية [8] يعتقد أهل السنة الصبر على السلطان وإن جار ما أقام الصلاة، والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة، ومن ترك الصلاة عمداً فهو كافر، والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، ويسكتون عما شجر بين الصحابة ويترضون عنهم جميعاً، ويحلون ما أحله الله ورسوله ويحرمون ما حرم الله ورسوله.

الصبر على السلطان وإن جار ما أقام الصلاة

الصبر على السلطان وإن جار ما أقام الصلاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعتقد: الصبر على السلطان من قريش، ما كان من جور أو عدل، ما أقام الصلاة من الجمع والأعياد]. وهذا هو مقصد أهل السنة والجماعة الصبر على جور السلطان، وعدم الخروج على ولاة الأمور، ولو فعل المعاصي والظلم، إلا إذا وجد الكفر الصريح مع القدرة والاستطاعة، ومع وجود البديل، أي: إذا كفر كفراً صريحاً واضحاً لا برهان به، كما في الحديث الآخر: (إلا أن ترى كفراً بواحاً عندك من الله برهان) جاز الخروج بشرطين: الشرط الأول: وجود البديل، فيزال الكافر ويؤتى بدله بمسلم، أما إذا كان يزال الكافر ويؤتى بدله كافر ما حصل المقصود. الشرط الثاني: القدرة، فإن عجز فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. هذا إذا وجد الكفر، أما المعاصي والظلم والجور فلا يجوز الخروج، فمعتقد أهل السنة والجماعة: أن الخروج من كبائر الذنوب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية) والخروج على ولاة الأمور من كبائر الذنوب، ولا يجوز، ولأن الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي يترتب عليه مفسدة أكبر، فمن منكرات ولاة الأمور مثلاً الظلم، كأن يكون ظلم بعض الناس، أو قتل بعض الناس، أو سجن بعض الناس، أو ما أشبه ذلك، ولكن يحصل من الخروج أن تراق الدماء، وتنتهك الأعراض، ويتسلط الأعداء، ويختل الأمن، ويختل الاقتصاد والزراعة والتجارة والدراسة، وتختل أمور الناس كلها، وتأتي فتن تقضي على الأخضر واليابس، فأيهما أعظم؟ فالجور والمعصية مفسدة صغرى، وهذه مفاسد متعدية، فلهذا جاء الإسلام بالمنع. ولهذا قال المؤلف: نعتقد نحن أهل السنة والجماعة الصبر على السلطان ما داموا يقيمون الصلاة والجمع والأعياد، يعني: ما داموا مؤمنين موحدين. وقوله: (الأئمة من قريش) يعني: إذا كان اختيار المسلمين يختارون إماماً من قريش؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش)، ولما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال هذا الأمر في قريش) وفي لفظ: (ما بقي منه اثنان ما أقاموا الدين) يعني: ما داموا يقيمون الدين، فيكون الأمر فيهم والولاية فيهم ما داوموا على إقامة الدين، أما إذا لم يقيموا الدين فإنه يختار المناسب، وهذا إذا كان باختيار المسلمين، كما اختار الصحابة أبا بكر من قريش، ثم عمر من قريش، ثم عثمان من قريش، ثم علياً من قريش، هذا إذا كان باختيار المسلمين. أما إذا غلبهم بسيفه وقوته وسلطانه ثبتت له الولاية ولو كان عبداً حبشياً، كما في الحديث: (أمرني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف) أي: مقطع اليدين والرجلين فتثبت له الولاية بالقوة والغلبة، فالخلافة تثبت بواحد من ثلاثة أمور: الاختيار والانتخاب كما في خلافة الصديق وعثمان. والثاني: بولاية العهد من الخليفة السابق، كما عهد الصديق لـ عمر. والثالث: بالقوة والغلبة. ولم تثبتت الخلافة بالاختيار والانتخاب إلا في زمن الخلفاء الراشدين، أما بعدهم فكلها بالقوة والغلبة، فخلفاء بني أمية، وخلفاء بني العباس والأتراك والمماليك، كلها بالقوة والغلبة إلى الآن. فهذا إذا كان باختيار المسلمين يختارون من قريش، أما إذا كان ليس الاختيار لهم وغلبهم بقوته وسيفه وسلطانه ثبتت له الخلافة، ووجب السمع له والطاعة، وحرم الخروج عليه، إلا إذا كفر كفراً صريحاً كما في الحديث الذي في صحيح مسلم قال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) بهذا القيد، أي: كفر موصوف بثلاثة أوصاف: كفر، بواح، عندكم من الله فيه برهان، مع القدرة، ومع وجود البديل. ومن هنا يتبين أن الخروج على ولاة الأمور من المعاصي، وأن هذا من طريقة أهل البدع والخوراج والمعتزلة، والرافضة هم الذين يخرجون على ولاة الأمور، والخوارج يخرجون على ولاة الأمور بالمعاصي، فإذا عصى عندهم كفر وخلد في النار، ووجب قتله؛ لأنه مخلد في النار، والمعتزلة يرون الخروج على ولاة الأمور بالمعاصي؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرافضة يخرجون على ولاة الأمور بالمعاصي؛ لأنهم لا يرون الإمامة إلا للإمام المعصوم، والإمام المعصوم عندهم هم الأئمة الاثنا عشر ويزعمون أنه نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تصح الإمامة لغيرهم ويجب الخروج عليهم، أما أهل السنة فيخالفون الخوارج والمعتزلة والروافض، يرون الصبر على ولاة الأمور، وعدم الخروج عليهم بالمعاصي. قال: [والجهاد معهم ماض إلى يوم القيامة]. كذلك الجهاد ماض مع ولاة الأمور أبراراً كانوا أو فجاراً إلى يوم القيامة؟

وجوب صلاة الجماعة وكفر تارك الصلاة عمدا

وجوب صلاة الجماعة وكفر تارك الصلاة عمداً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والصلاة في الجماعة حيث ينادى لها واجب إذا لم يكن عذر مانع]. كذلك الصلاة حيث ينادى لها واجب، يجب أن يصلي المسلم خلف ولاة الأمور الجمع والجماعة إذا لم يكن هناك مانع، أما إذا كان لعذر من الأعذار فلا. يعني: سواء كان جائراً أو عادلاً يجب السمع والطاعة وعدم الخذلان. إذاً: الصواب الذي دلت عليه النصوص: أن الصلاة في الجماعة واجبة، دليل ذلك حديث الأعمى، وقال: (من سمع النداء ولم يجب فلا صلاة له إلا بعذر). والخروج على السلطان الكافر قد يقال بوجوبه إذا وجدت القدرة والاستطاعة والبديل، لكن هذا صعب التحقق، أما مثل الحكومات العسكرية في الجمهوريات والانقلابات، تذهب الدولة الكافرة وتجيء دولة كافرة أخرى، فهنا لم يحصل المقصود، وليس هناك فرق بين الأولى والثانية؛ كلها كافرة. قال: [والتراويح سنة]. التراويح سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية، فعلها النبي ثلاثة أيام ثم تركها خشية أن تفرض، وكان الناس في بقية حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر وفي صدر من خلافة عمر يصلونها أوزاعاً، ثم جمعهم عمر على إمام واحد، فاستمر الناس على ذلك إلى عهدنا الحاضر، فهي سنة نبوية عمرية. قال: [ونشهد أن من ترك الصلاة عمداً فهو كافر]. يعني: هذا يدل على أنه يكفر تارك الصلاة، يعني: من تركها كسلاً، أما من تركها جاحداً لوجوبها فهذا كافر بإجماع المسلمين وليس فيه خلاف، لكن المراد من تركها كسلاً وتهاوناً، وفيه رد على المرجئة الذين لا يكفرون تارك الصلاة ويقولون: إن من كفر تارك الصلاة فهو من الذين يسارعون في الكفر ويكفرون بغير دليل، والذي دلت عليه النصوص أن ترك الصلاة كسلاً وتهاوناً كفر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر حبط عمله)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). وبعض المرجئة يقولون: من كفر تارك الصلاة فهو من الثوريين الذين يكفرون الناس بغير دليل.

الشهادة بالجنة لأحد بلا دليل بدعة

الشهادة بالجنة لأحد بلا دليل بدعة قال: [والشهادة والبراءة بدعة]. أي: الشهادة للمحسن بالجنة بغير دليل بدعة، والبراءة من الشيخين من أبي بكر وعمر بدعة، كما تفعل الرافضة، فالشهادة بدعة، والبراءة بدعة، فالشهادة لمعين بغير دليل بأنه في الجنة بدعة، فلا يشهد إلا لمن شهدت له النصوص كالعشرة المبشرين في الجنة، وكذلك أيضاً الحسن والحسين وبلال وعبد الله بن سلام وغيرهم ممن شهدت لهم النصوص. والبراءة من أبي بكر وعمر بدعة كما تقول الشيعة: لا ولاء إلا ببراء، والمعنى: لا يتولى أحد علياً إلا ببراءة من أبي بكر وعمر، لا ولاء لـ علي إلا بالبراءة من أبي بكر وعمر، وهذا بدعة وهو قول الرافضة، ومن أبطل الباطل، فأهل السنة يتولون أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً جميعاً، وكلهم يترضون عنهم، ولا يقال: لا ولاء إلا ببراء، ربط هذا بهذا، فلا يتولى أحد علياً حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر! هذا من أبطل الباطل. لذلك نذر سرائر الناس إلى الله، فالشهيد يسمى شهيداً في أحكام الدنيا، أما في أحكام الآخرة فالله أعلم، ولهذا بوب البخاري فقال: باب: لا يقال: فلان شهيد، يعني: في أحكام الآخرة، ويقال له: شهيد في أحكام الدنيا، فقد يكون شهيداً في أحكام الدنيا وليس شهيداً عند الله، فمن رأيناه قتل في معركة يقاتل في سبيل الله، ولا نعلم عنه إلا الخير نقول: شهيد في أحكام الدنيا، أما في أحكام الآخرة فالله أعلم به. قال: [والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة]. أي: كل من مات من أهل القبلة ولا يعلم عنه كفر ولا نفاق يصلى عليه، ومن علم كفره ونفاقه فلا يصلى عليه؛ لقول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84] وبهذا القيد: إذا لم يعلم منه الكفر والنفاق؛ لأن الله نص على هذا. وبعض الشباب لا يصلي بالحرم على أي جنازة عملاً بقول الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ} [التوبة:84] الآية، وهذا غلط، وهذا تنطع، فالأصل أن من يقدم من المسلمين فيصلى عليه، حتى تعلم يقيناً أنه ليس بمسلم، فهذا تنطع وحرمان للخير، إذ إن الصلاة فيها أجر عظيم قيراط من الأجر. قال: [ولا ننزل أحداً جنةً ولا ناراً حتى يكون الله ينزلهم]. أي: فلا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار إلا لمن شهدت له النصوص. وهناك قول لبعض العلماء أنه من شهد له بعض أهل الخير فإنه يشهد له، وقال آخرون: لا يشهد إلا للأنبياء، والقول الصواب الذي عليه الجمهور: أنه يشهد لمن شهدت له النصوص خاصة، وأما الحديث الذي قال فيه: (أنتم شهداء الله في الأرض) قيل: إنه خاص بأولئك النفر. فالمسلم إذا مات يصلى عليه؛ لأنه يتجه إلى القبلة بالصلاة والذبح، إذا لم يعلم منه كفر أو نفاق، بهذا القيد؛ لأن الله قيد وقال: (إنهم كفروا بالله ورسوله) فإذا كان من أهل القبلة ولم يعلم منه كفر ولا نفاق صلينا عليه، أما إذا لم يكن من أهل القبلة فهذا لا يصلى عليه، أو كان من أهل القبلة ولكن علم نفاقه أو كفره فلا يصلى عليه. وهو مسلم إذا التزم أن يتجه إلى القبلة في الصلاة والذبح، ويلتزم بأحكام الإسلام ظاهراً، يقال: هذا من أهل القبلة، خلاف اليهود والنصارى فليسوا من أهل القبلة، وكذلك المجوس والوثنيون ليسوا من أهل القبلة، ولا يتجهون للصلاة إلى القبلة ولا يلتزمون بأحكام الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا) الحديث فسموا أهل القبلة. وإذا لم نعلم إسلامه فأمره إلى الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجرى على المنافقين أحكام الإسلام إذا التزموا، وهم منافقون في الدرك الأسفل من النار، فـ عبد الله بن أبي رئيس المنافقين لما مات ودلي في حفرته جاءه النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجه من حفرته، وألبسه قميصاً، ونفث فيه من ريقه، وصلى عليه، فلما أراد أن يصلي أخذ عمر بثوبه، وقال: تصلي على منافق؟! فقال النبي (يا عمر فإني خيرت، فقيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، قال: لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت على السبعين، ثم صلى عليه)، وهذا قبل أن ينهى، وقبل أن تنزل الآية، ثم نزلت الآية بعد ذلك: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ} [التوبة:84] فلم يصل بعد ذلك على منافق. والمقصود: أن المنافق الذي يلتزم بالأحكام ولا ندري عن نفاقه أمره إلى الله، وتجرى عليه أحكام الإسلام وأمره إلى الله، ويدفن ويصلى عليه، لكن في الآخرة حكمه إلى الله، أما نحن فما لنا إلا الظاهر، أما إذا علمنا نفاقه وكفره فلا يصلى عليه.

ترك الجدال في الدين والخوض فيما شجر بين الصحابة

ترك الجدال في الدين والخوض فيما شجر بين الصحابة قال: [والمراء والجدال في الدين بدعة]. كذلك المراء والجدال في دين الله، فلا يجوز للإنسان أن يجادل في الدين، قال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] والجدال لإظهار الحق وإبطال الباطل مقبول، أما الجدال في الدين لأجل الخصومة، أو لأجل الباطل، أو لأجل الإيذاء والإغواء فلا يجوز. قال: [ونعتقد: أن ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم إلى الله، ونترحم على عائشة ونترضى عنها]. ما شجر بين الصحابة من خلاف فأمره إلى الله، ونعتقد أنهم ما بين مجتهد مصيب له أجران، وبين مخطئ له أجر، ونعتقد أن الأخبار التي رويت عنهم منها ما هو كذب لا أصل له من الصحة، ومنها ما له أصل ولكن زيد فيه وغير عن وجهه، ومنها ما هو صحيح ثابت؛ فالصحيح الثابت هم ما بين مجتهد مصيب له أجران وما بين مخطئ له أجر، كما حقق ذلك شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية رحمه الله. وكذلك نترحم على عائشة رضي الله عنها، ونعتقد أنها أم المؤمنين، وأنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وأنها صديقة، وأن الله برأها من فوق سبع سماوات، فمن رماها بما برأها الله منه قد كفر بالله العظيم بإجماع المسلمين؛ لأنه مكذب لله، وهي الصديقة بنت الصديق، وهي زوجة النبي صلى الله عليه وسلم في الآخرة رضي الله عنها وأرضاها.

حكم القول في اللفظ والملفوظ وفي الاسم والمسمى

حكم القول في اللفظ والملفوظ وفي الاسم والمسمى قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقول في اللفظ والملفوظ، وكذلك في الاسم والمسمى بدعة]. قوله: في اللفظ، وهو قول اللفظ في القرآن مخلوق، أو يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، هذا من البدعة؛ لأن القرآن كلام الله، ونزله على رسوله، ولا فرق بين لفظ وبين ملفوظ؛ لأن بعض الناس يشبه ويريد باللفظ الملفوظ، فيقع في المحظور، فهذا من البدع، والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وهذه التفصيلات من البدع. كذلك اسم الله، الاسم والمسمى، فمثلاً: اسم (الله) فقوله: اسم الله، الاسم مخلوق، أو ما أشبه ذلك، لأن الاسم قد يطلق على المسمى، والمسمى يطلق على الاسم، فإذا قيل: الله اسم عربي، هذا يريد به الاسم، وإذا قيل: الله فالمراد به المسمى، علم على الذات المقدسة، فالتفريق بين الاسم والمسمى والتفريق بين اللفظ والملفوظ كل هذا من البدع. قال في الحاشية: [وأما القول في الاسم أهو المسمى أم غير المسمى؟ فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيستمع، فالقول فيه شين، والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الله عز وجل ثناؤه الصادق وهو قوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]. فإذا قيل: هل الاسم هو المسمى أو غيره؟ فمنهم من قال: هو المسمى، ومنهم من قال: بل الاسم غير المسمى، والصحيح: أن الاسم للمسمى، ولا يطلق بأنه المسمى ولا غيره، بل لابد من التفصيل، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه تارة أخرى، فإذا قيل: القرآن كلام الرحمن، فإن المراد به هنا: المسمى، وإذا قيل: الرحمن اسم عربي فالاسم هنا للمسمى، ولا يقال غير المسمى لما في لفظ غير من إيهام]. وأما في اللفظ والملفوظ، قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر القائلين: لفظي بالقرآن مخلوق، وأن حقيقة قولهم هو قول الجهمية قال: [فقابلهم قوم أرادوا تقويم السنة، فوقعوا في البدعة، وردوا باطلاً بباطل، وقابلوا الفاشل بالفاشل، فقالوا: تلاوتنا للقرآن غير مخلوقة، وألفاظنا به غير مخلوقة؛ لأن هذا هو القرآن، إلى أن قال: فأنكر الإمام أحمد أيضاً على من قال: إن تلاوة العبادة وقراءتهم وألفاظهم وأصواتهم غير مخلوقة، وأمر بهجران هؤلاء كما جهم الأولين وبدعهم].

حكم القول بأن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق

حكم القول بأن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقول في أن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة]. لأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، فالله تعالى خلق الإنسان وخلق عمله فلا يقال: إن العمل غير مخلوق والإنسان مخلوق، والمقصود: أن هذا حكمه مثل ما سبق اللفظ والملفوظ. قال في الحاشية: [وهذه المسألة أيضاً شبيهة بالمسألتين السابقتين، وهي: أنه لما ظهرت مقولة اللفظية القائلين: لفظنا بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، تكلم الناس فيها حينئذ بالإيمان، وقالت طائفة: الإيمان مخلوق، ودخل في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان كقول: لا إله إلا الله، فصار مقتضى قولهم: أن نفس هذه الكلمة مخلوقة، ولم يتكلم الله بها. فبدع الإمام أحمد هؤلاء، قال شيخ الإسلام بعد إيراد هذه المسألة والكلام عليها وهذه الأقوال كلها مبتدعة مخترعة لم يقل السلف شيئاً منها، وكلها باطلة شرعاً وعقلاً، ثم ذكر في نهاية البحث أنه من قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، فلابد من الاستفسار منه، وما يريد بالإيمان، فإن أراد بالإيمان شيئاً من صفات الله كقوله: لا إله إلا الله، وإيمانه الذي دل عليه اسم المؤمن فهو غير مخلوق، وإن أراد شيئاً من أفعال العباد وصفاتهم، فالعباد كلهم مخلوقون، وجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المحدث المخلوق صفة قديمة غير مخلوقة].

الرد على من زعم رؤية الله في الدنيا

الرد على من زعم رؤية الله في الدنيا قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أني ذكرت اعتقاد أهل السنة على ظاهر ما ورد عن الصحابة والتابعين مجملاً من غير استقصاء، إذ قد تقدم القول عن مشايخنا المعروفين من أهل الإمامة والديانة، إلا أني أحببت أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثه طائفة انتسبوا إليهم، ما قد تخرصوا من القول مما نزه الله المذهب وأهله من ذلك، إلى أن قال: وقرأت لـ محمد بن جرير الطبري في كتاب سماه: التبصير، كتب بذلك إلى أهل طبرستان في اختلاف عندهم، وسألوه أن يصنف لهم ما يعتقده ويذهب إليه، فذكر في كتابه اختلاف القائلين برؤية الله تعالى، فذكر عن طائفة إثبات الرؤية في الدنيا والآخرة، ونسب هذه المقالة إلى الصوفية قاطبة، لم يخص طائفة دون طائفة، فتبين أن ذلك على جهالة منه بأقوال المخلصين منهم، وكان من نسب إليه ذلك القول بعد أن ادعى على الطائفة ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم بمحله عند المخلصين، فكيف بابن أخته؟!]. القول برؤية الله في الدنيا قول باطل، وصادر من الصوفية وهو أبطل الباطل، قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]. وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: (واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا) فالقول برؤية الله في الدنيا من أبطل الباطل، ولا يستطيع أحد من الناس رؤية الله، ولما تجلى الله للجبل تدكدك وصعق موسى، وخر موسى صعقاً، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي ذر في صحيح مسلم لما قيل: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟) وفي لفظ: (رأيت نوراً)، وفي حديث أبي موسى الأشعري في صحيح مسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي لفظ: النار- لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51]، فرؤية الله في الدنيا من أبطل الباطل، وهذا كلام الصوفية، وقد أجمعت الأمة قاطبة على أن الله لا يرى في الدنيا، إلا ما زعمته الصوفية، والصوفية عندهم تخريف، فقد كان بعضهم يقول إذا رأى الصدف: لا ندري لعل ربنا يكون في هذه الصدف! نسأل الله العافية، فقد أجمعت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا، وأجمعوا على أنه لم يره أحد في الدنيا، ولم يختلفوا إلا في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأجمعوا على أنه لم يره في الأرض، وإنما اختلفوا في رؤيته ليلة المعراج على قولين، والصواب: أنه لم يره نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهذه الأحاديث التي سبقت، وإنما رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه، وهذا هو الصواب الذي عليه المحققون، والذي تدل عليه النصوص، فكيف يقول هؤلاء الصوفية هذا الكلام؟! قال في ترجمة عبد الواحد بن زيد: [أما عبد الواحد بن زيد فهو عبد الواحد بن زيد أبو عبيدة البصري حدث عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح من مشايخ الصوفية، صاحب وعظ رمي بالقدر، قال عنه الذهبي: وحديثه من قبيل الواهي عندهم، انتهى، توفي بعد الخمسين ومائة]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان من نسب إليه ذلك القول بعد أن ادعى على الطائفة ابن أخت عبد الواحد بن زيد، والله أعلم بمحله عند المخلصين، فكيف بابن أخته؟! وليس إذا أحدث الزائغ في نحلته قولاً نسب إلى الجملة، كذلك في الفقهاء والمحدثين ليس من أحدث قولاً في الفقه، وليس فيه حديث يناسب ذلك، ينسب ذلك إلى جملة الفقهاء والمحدثين. يعني: مقصود ابن خفيف أن ما تكلم به الصوفية هذا لا ينسب إلينا، ونحن برآء منه، فهذا الكلام الذي يقوله لا نطلقه، فالإنسان إذا أتى بقول شاذ، لا ينسب إلى الصوفية، كما أن الفقهاء من تكلم منهم بالقول الشاذ لا ينسب إلى الفقهاء. قال: [واعلم أن ألفاظ الصوفية وعلومهم تختلف فيطلقون ألفاظهم على موضوعات لهم، ومرموزات وإشارات تجري فيما بينهم، فمن لم يداخلهم على التحقيق ونازل ما هم عليه رجع عنهم خاسئاً وهو حسير]. أي: لهم إشارات تعرف في الخفاء، ولهم اصطلاحات وألفاظ خاصة بهم مثل: التحقيق، والإيقاع، والقبض، والبسط، والجمع، كل هذه ألفاظ الصوفية. قال: [فمن لم يداخلهم على التحقيق، ونازل ما هم عليه، رجع عنهم خاسئاً وهو حسير، ثم ذكر إطلاقهم لفظ الرؤية بالتقييد، فقال: كثيراً ما يقولون: رأيت الله، وذكر عن جعفر بن محمد قوله لما سئل: هل رأيت الله حين عبدته؟ قال: رأيت الله ثم عبدته. فقال السائل: كيف رأيته؟ فقال: لم تره العيون بتحديد العيان، ولكن رأته القلوب بتحقيق الإيقان، ثم قال: يرى في الآخرة كما أخبر في كتابه وذكره رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا قولنا وقول أئمتنا دون الجهال من أهل الغباوة فينا].

ما حرمه الله فهو حرام على كل أحد، ولا يوصف الله بالعشق ولا الحلول

ما حرمه الله فهو حرام على كل أحد، ولا يوصف الله بالعشق ولا الحلول قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن مما نعتقد: أن الله حرم على المؤمنين دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وذكر ذلك في حجة الوداع، فمن زعم أنه يبلغ مع الله إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين، إلا المضطر على حال يلزمه إحياء النفس، وإن بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادة فذلك كفر بالله]. يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام) قال ذلك في أعظم مجمع. وقوله: [فمن زعم أنه يبلغ مع الله إلى درجة يبيح الحق له ما حظر على المؤمنين، إلا المضطر على حال يلزمه إحياء النفس، وإن بلغ العبد ما بلغ من العلم والعبادة فذلك كفر بالله]. يعني: من زعم أن الله أحل له شيئاً من الدماء أو الأموال أو الأعراض غير ما جاءت به الشريعة إلا المضطر فيما يحيي به نفسه، إذ يأكل المضطر الميتة حتى ينقذ نفسه، وليس له أن يستسلم للموت، يقول: من زعم ذلك فهذا كفر وردة؛ لأنه يزعم أنه في هذه الحالة أخذ عن الله، كما يقول أحد الصوفية: حدثني قلبي عن ربي، وأنه لا يحتاج إلى الرسالة ولا يحتاج إلى جبريل، يقول: يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه جبريل، كما يقول الاتحادية، وهذا كفر وضلال، معناها: لا ألتزم بالشريعة، نسأل الله السلامة والعافية، والله تعالى حرم الدماء والأموال والأعراض في أعظم مجمع، حرمها النبي صلى الله عليه وسلم، وحرمها الله تعالى في القرآن العظيم، فمن زعم أن الله أباح له غير ما كان مضطراً إليه فقد تعدى شرع الله، وتعدى حدود الله، وهو كفر وردة. قال: [والقائل بذلك قائل بالإلحاد، وهم المنسلخون من الديانة]. وهم الصوفية يقول أحدهم: حدثني قلبي عن ربي ولا يلتزم بالشرع، ويقولون: لا حاجة إلى أن يأخذ عن الله مباشرة، أو من المعدن الذي يأخذ منه جبريل، وهذا قول غلاة الصوفية الملاحدة، الذين وصلوا إلى القول بوحدة الوجود. قال: [وأن مما نعتقده: ترك إطلاق العشق على الله، وبين أن ذلك لا يجوز لاشتقاقه، ولعدم ورود الشرع به]. إطلاق العشق على الله هذه من عبارات الصوفية الباطلة، فالله إنما ورد في حقه المحبة والخلة فقط، أما العشق فهذا باطل.

القرآن كلام الله غير مخلوق

القرآن كلام الله غير مخلوق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن مما نعتقده: أن الله لا يحل في المرئيات، وأنه المنفرد بكمال أسمائه وصفاته بائن من خلقه، مستو على عرشه، وأن القرآن كلامه غير مخلوق]. وهذا قول أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لا يحل في أحد من خلقه، كما تقول الحلولية، وهو كفر وضلال، بل هو سبحانه وتعالى بائن من خلقه ومستو على العرش، له الأسماء الحسنى والصفات العلى سبحانه وتعالى، وله الكمال في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن القرآن كلامه غير مخلوق -حيث ما تلي وحفظ ودرس-]. كلام الله حيث ما تلي، إن تلي فهو كلام الله، وإن قرئ فالمقروء كلام الله، وإن سمع فالمسموع كلام الله، وإن حفظ فالمحفوظ كلام الله، وإن كتب فالمكتوب كلام الله، وهو في هذه المواضع كلها حقيقة.

إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام خليلا الرحمن

إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام خليلا الرحمن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعتقد: أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خليلاً وحبيباً، والخلة لهما منه على خلاف ما قال المعتزلة: أن الخلة الفقر والحاجة]. كلام المعتزلة من أبطل الباطل فالخلة: هي نهاية المحبة وكمالها، فأهل السنة يثبتون المحبة لله عز وجل والخلة على ما يليق بجلال الله وعظمته، فالله تعالى له صفة الخلة وله صفة المحبة، والله تعالى اتخذ الخليلين إبراهيم ومحمداً، والخلة: هي تمام المحبة وكمالها، وهي بالنسبة للمخلوق لا يتسع القلب بأكثر من خليل واحد، وسميت خلة؛ لأنها تتخلل شغاف القلب وتصل إلى السويداء، أي: إلى نهاية المحبة وغايتها، ولا يتسع القلب لأكثر من خليل واحد، بخلاف المحبة فإن القلب يتسع لمحبات كثير، ولهذا لما امتلأ قلب نبينا صلى الله عليه وسلم بخلة الله قال: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) يعني: لو كان في القلب متسع لكان لـ أبي بكر، لكن ليس فيه متسع، لكن المحبة فيه، ولهذا كان النبي يحب أسامة، وأباه زيداً، ويحب عائشة، ويحب عمرو بن العاص، ويحب جماعة كثيرين، أما الخلة فليس فيه متسع، فقد امتلأ قلبه بخلة الله، وصرف الخلة والمحبة لله عز وجل، أما الخلة والمحبة بالنسبة لله فهي صفتان تليقان بجلال الله وعظمته، وصفة الخلة وصفة المحبة هي كسائر الصفات لا تختلف، وأنكر المعتزلة والجهمية الخلة والمحبة، قالوا: لا خلة، ولا محبة؛ لأن الخلة والمحبة لابد أن تكون لمناسبة أو لمشاكلة بين المحب والمحبوب، وليس هناك مشاكلة بين الرب والعبد، وهذا من جهلهم وضلالهم، فإن أعظم ما فيه صلة بين الخالق والمخلوق، وهي أعظم صلة بين رب وعبد، فالله تعالى يربي عباده بنعمة والعبد يتأله ربه ويعبده، وفسروا الخلة بالفقير والمحتاج، قالوا: الله اتخذ إبراهيم خليلاً، يعني: فقيراً محتاجاً إليه، وهذا من جهلهم وضلالهم، فكل واحد فقير إلى الله، حتى الكفرة فقراء إلى الله، معناه: أنها ليست خاصة، فعلى المعنى هذا: الكفرة شاركوا إبراهيم بالخلة، وهذا من جهلهم وضلالهم، ففسروا الخليل بالفقير المحتاج، ومعلوم أن كل الناس فقراء إلى الله، بل كل المخلوقات فقيرة إلى الله. إلى أن قال: [والخلة والمحبة صفتان لله هو موصوف بهما، ولا تدخل أوصافه تحت التكييف والتشبيه، وصفات الخلق من المحبة والخلة جائز عليهم الكيف، وأما صفات الله تعالى فمعلومة في العلم وموجودة في التعريف قد انتفى عنهما التشبيه، فالإيمان به واجب، واسم الكيفية عن ذلك ساقط]. يعني: صفة المخلوق تتكيف وتعلم، أما صفة الخالق لا تتكيف، لكنها تعلم وتثبت، ونعتقد أن له كيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى.

إباحة المكاسب والتجارات، والرد على من حرم ذلك، أو اعتقد أن الأرض تخلو من الحلال

إباحة المكاسب والتجارات، والرد على من حرم ذلك، أو اعتقد أن الأرض تخلو من الحلال قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما نعتقده: أن الله أباح المكاسب والتجارات والصناعات، وإنما حرم الله الغش والظلم وأما من قال بتحريم تلك المكاسب فهو ضال مضل مبتدع، إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، إنما حرم الله ورسوله الفساد، لا الكسب والتجارات]. ولهذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الكسب أفضل؟ قال: كسب الرجل بيده، وكل بيع مبرور) كسب الرجل بيده مثل الصناعات، فالصناعات كلها مباحة، كالصناعات الحديثة الآن: البناء والدهان والسباك والكهرباء، كل هذه صناعات جديدة، والنجار والحداد والجزار والخياط، كلها الأصل فيها الإباحة، والبيوع كذلك. قال: [وأن من قال بتحريم المكاسب فهو ضال مضل مبتدع]. لأنه أنكر ما دلت عليه السنة، وما دلت عليه النصوص، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282]. قال: [إذ ليس الفساد والظلم والغش من التجارات والصناعات في شيء، وإنما حرم الله ورسوله الفساد لا الكسب والتجارة، فإن ذلك على أصل الكتاب والسنة جائز إلى يوم القيامة. وأن مما نعتقده: أن الله لا يأمر بأكل الحلال ثم يعدمهم الوصول إليه من جميع الجهات]. فالله تعالى أمر بالكسب الحلال، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:172]، ((وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا} [المائدة:88]. فالله تعالى يأمر بالأكل الحلال، فلابد أن يكون الحلال موجوداً، ولا يمكن أن يأمر الله بشيء يستحيل وجوده، فالحلال موجود والحرام موجود، وكسب الحلال في الصناعات والأجور، فمن حرم الصناعات معناه أنه صادم النصوص. قال: [لأن ما طالبهم به موجود إلى يوم القيامة، والمعتقد أن الأرض تخلو من الحلال والناس يتقلبون في الحرام فهو مبتدع ضال، إلا أنه يقل في موضع ويكثر في موضع، لا أنه مفقود من الأرض]. لا يمكن أن يفقد من الأرض، وجاء في الحديث: (في آخر الزمان من لم يأكل الربا ناله من غباره) لكن هذا لا ينفي وجود الحلال.

جواز أكل طعام من لا يتهم في مكسبه

جواز أكل طعام من لا يتهم في مكسبه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومما نعتقده: أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عن ماله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط جاز إلا من داخل الظلمة]. فلا نقول: إن هذا مظهره جميل؛ لأنه يكسب مكاسب محرمة، لا نتهمه. [جائز أن يؤكل طعامه والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عن ماله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط جاز إلا من داخل الظلمة]. ولا ينبغي السؤال في مثل هذا، إلا إذا عرف أن هذا الطعام أو هذا الشيء الذي أعطاك إياه مسروق حرام، فهذا لا تأخذه، أو رأيته يتعامل بالربا فأعطاك منه فلا تأخذه، مثل ما فعل الغلام لـ أبي بكر، أتى غلام له وأعطاه الطعام، قال: أتدري ممن هذا؟ تكهن لرجل في الجاهلية وأعطاه ثمن الكهانة، هذا حرام، ولهذا أدخل أبو بكر أصبعه في حلقه حتى قاء ما في بطنه وقال: كدت أن تهلكنا. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه إذا اختلط الحلال بالحرام فلا بأس، إذا كانت له مكاسب من حلال وحرام فتأكل لا بأس، والنبي أكل طعام اليهود وقبل هديتهم وهم يأكلون السحت، وأخبر أنهم يأكلون السحت، يعني: إذا لم تعلم أن هذا الشيء بعينه حرام فلا بأس. [ومما نعتقده: أنا إذا رأينا من ظاهره جميل لا نتهمه في مكسبه وماله وطعامه، جائز أن يؤكل طعامه والمعاملة في تجارته، فليس علينا الكشف عن ماله]. في نسخة المجموع: [فليس علينا الكشف عما قاله، فإن سأل سائل على سبيل الاحتياط جاز إلا من داخل الظلمة]. إلا من داخل الظلمة يعني: يتهم في مكسبه، وهذا فيه نظر، مداخل الظلمة إذا كان مكسبه محرماً، فهذا له حكم آخر، وإذا عرف أن هذا المال بعينه محرم فلا يأكله، أو هذا الطعام محرم فلا يأكله. قال رحمه الله تعالى: [ومن لا يزغ عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك فالسؤال والتوقي كما سأل الصديق غلامه]. الظاهر أنه إذا كان معه غير ذلك فالسؤال والتوقي، يعني: كما حصل لـ أبي بكر، يعني: إذا لم تعلم أن هذا الطعام الذي قدمه بعينه مسروقاً أو مأخوذاً ظلماً فإنك تأكل إذا اختلط، مثل بيت المال الآن، فإن بيت المال يختلط فيه الحلال والحرام، ومع ذلك لا بأس في أخذ المرتبات وغيرها، كما قال شيخ الإسلام، لكن لو كان شيء بعينه تعرف أنه حرام وأنه مسروق، فإذا سرق سلعة من شخص وذهب يبيعها، لا يجوز أن تشتريها؛ لأنك تعرف أن هذا حرام، أما إذا لم تعلم فالإثم عليه. وقوله: [ومن لا يزغ عن الظلم وأخذ الأموال بالباطل ومعه غير ذلك فالسؤال والتوقي، كما سأل الصديق غلامه]. أي: عرف أبو بكر قصة الغلام عندما تكهن لرجل في الجاهلية وأعطاه أجرة الكهانة. قال: [فإن كان معه من المال سوى ذلك مما هو خارج عن تلك الأموال فاختلطا، فلا يطلق عليه اسم الحلال ولا الحرام إلا أنه مشتبه، فمن سأل استبرأ لدينه كما فعل الصديق، وأجاز ابن مسعود وسلمان وقالا: كل منه وعليه التبعة]. أي: كل منه وعليه الإثم، إذا لم تعلم يكون عليه الإثم.

[9]

شرح الحموية لابن تيمية [9] بعث الله نبيه بالحنيفية السمحة، ولا يسقط التكليف عن العبد ما دام حياً، والناس طبقات في التمسك بهذا الدين كما أنهم طبقات في الذكاء والفراسة، وكم من ذكي غير زكي، مثل بعض من يجادل في تحريم استماع الأغاني المصحوبة بآلات اللهو، ويجيز الرقص تعبداً وتنسكاً.

عدم سقوط التكليف عن العاقل المستطيع

عدم سقوط التكليف عن العاقل المستطيع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والناس طبقات والدين الحنيفية السمحة. وإن مما نعتقده: أن العبد ما دام أحكام الدار جارية عليه فلا يسقط عنه الخوف والرجاء]. وتكون أحكام الدار جارية عليه إذا كان حياً ولم تصل الروح إلى الحلقوم، فأحكام الدار جارية عليه، فإذا كان عقله ثابتاً لا يسقط عنه الخوف والرجاء، فيخاف من الله، ويخاف من عقابه ويرجو، ويجمع بين الخوف والرجاء. فالقنوط واليأس من روح الله هذا شؤم، فالمؤمن بين الخوف والرجاء، يعبد الله بالخوف والرجاء، فهو يخاف؛ حتى لا يسترسل في المعاصي، فيمنعه الخوف من ارتكاب المعاصي، وهو أيضاً يرجو رحمة الله وثوابه؛ حتى لا يتشاءم ولا يقنط ولا يسيء الظن بالله، فهو خائف غير مرتكب المعاصي، وراج غير قانط وغير متشائم وغير مسيء الظن بالله، بل يكون يرجو رحمة الله، فلا يطغى به الأمن حتى يرتكب المعاصي، ولا يزيد في الخوف حتى يقنط ويتشاءم ويسيء الظن بالله، بل بين الخوف والرجاء، يعبد الله بين الخوف والرجاء كجناحي الطائر، قال تعالى عن عباده المؤمنين: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، وقال عن أنبيائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90]، وقال سبحانه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]. قال: [وكل من ادعى الأمن فهو جاهل بالله وبما أخبر به عن نفسه، {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99]، وقد أفردت كشف عورات كل من قال بذلك. ونعتقد: أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه]. وهذا أجمع عليه المسلمون، وهو مقتضى النصوص: أن كل عاقل عالم لا تسقط عنه التكاليف؛ لقول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وإذا مات سقط عنه التكاليف، ولا تسقط التكاليف إلا بأحد أمرين: إما رفع العقل، فإذا رفع العقل سواء كان صغيراً لم يبلغ أو مجنوناً أو مغمى عليه، فهذا تسقط عنه التكاليف، والثاني: الموت إذا مات، أما ما دام العقل ثابتاً والحياة موجودة، فإنه يكلف ولا تسقط عنه التكاليف، وقالت الصوفية بترك التكاليف عن بعض الخواص الذين وصلوا إلى مرتبة عالية، وتجاوزوا مرتبة العوام، وزعموا بأن التكاليف تسقط عنهم، واستدلوا بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] قالوا: اليقين: العلم، لو وصل العلم فقد رفع عنه التكاليف، وهذا كفر وضلال، أن يقسم الناس إلى طبقات، فالعامة عليهم التكاليف، ومن العامة الأنبياء والرسل، والخاصة تسقط عنهم التكاليف؛ لأنه وصل إلى الله، وتجاوز مرتبة العوام، وخاصة الخاصة عندهم والعياذ بالله الملاحدة الذين يقولون بالحلولية، وهذا كفر وضلال. وقد أجمع العلماء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أن من قال: هناك أحد تسقط عنه التكاليف وعقله ثابت في زمن الحياة يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً نعوذ بالله، إلا إذا فقد العقل فهو معذور لأنه قد رفع عنه القلم، قال الله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] يعني: الموت. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونعتقد: أن العبودية لا تسقط عن العبد ما عقل وعلم ما له وما عليه، فيبقى على أحكام القوة والاستطاعة، إذ لم يسقط الله ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين]. والأنبياء هم خير الناس، ومع ذلك هم أعظم الناس عبودية لله، وهم الذين وفوا مقام العبودية حقها عليهم الصلاة والسلام، وأشرف مقامات نبينا صلى الله عليه وسلم العبودية خاصة والرسالة، ولهذا وفى الله بالعبودية في المقامات العالية في مقام التحدي: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]. وفي الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1]. وفي مقام الدعوة: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]. فأشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم العبودية خاصة والرسالة، فكيف بغيره؟! فإن قيل: ما حكم تزويج الأب ابنته من شخص يعتقد اعتقاداً كفرياً؟ A إذا زوج الأب شخصاً يعتقد اعتقاداً كفرياً فالزواج باطل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة:10]، فالمؤمنات لسن حلاً للكافرين ولا هم يحلون لهن، قال الله: {وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] يعني: المشرك لا يزوج بمؤمنة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذ لم يسقط ذلك عن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن زعم أنه قد خرج من رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية والخروج إلى أحكام الأحدية المبدئية بعلائق الآخرية فهو كافر لا محالة]. هذا اعتقاد الصوفية، يخرج إلى الفضاء ويتحرر من الدين، ويتحرر من الأوامر والنواهي؛ لأن الصوفية يزعمون أنه وصل إلى الله، فقد تحرر وخرج من العبودية والرق إلى فضاء الحرية، فيعمل ما يشاء، وتسقط عنه التكاليف: فيزني، ويسرق، وهكذا، ولهذا بعض الصوفية والعياذ بالله يعملون مع شيوخهم الصوفية ما يشاءون، وشيخ الصوفية لا يمنع من شيء، قد يدخل على ابنته ولا يمنعه، يدخل على بيته وعلى أهله ويفعل ما يشاء ولا يمنع؛ لأنه سقطت عنه التكاليف، وهذا كفر وضلال، وإذا كانوا يزعمون أنه يصل إلى الأحدية، يعني: الأحد، يكون واحداً، يعني: يتحد مع الله، هذا قول الاتحادية، وهذا كفر، يقول: الموحد في الوجود، الرب عبد والعبد رب، أنت الرب وأنت العبد، لا فرق بينهما، ورئيس الاتحادية هو ابن عربي الذي يقول: الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف يقول: لا أدري أيهما العبد وأيهما الرب، العبد هو الرب والرب هو العبد، إن قلت: رب كيف يكلف، وإن قلت: عبد فهو ميت، فالعبد هو الرب والرب هو العبد، ويقول: رب مالك وعبد هالك وأنتم ذلك. والعبد فقط هو كثرة الوهم، يقول: هذا توهم التعبد لله ويقول عن الله: الله العلي الأعلى، يقول: علي على من؟ العلي على من؟ وما ثم إلا هو، وما هو إلا هو، نسأل الله العافية، ويقول: سر حيث شئت فإن الله ثم وقل ما شئت فالواسع الله أي: فكل شيء تراه في هذا الوجود هو الله، نعوذ بالله، ويقول هؤلاء الملاحدة: هذا التعدد وهم، وأنت لا تفهم مذهب الاتحادية إلا إذا خرقت العقل، وخرقت الشرع، وخرقت الحس، يعني: ألغ هذه، ألغ عقلك حتى تكون مجنوناً، وألغ الشرع حتى تفهم الأبيات ثم تفهم مذهب الاتحادية، نسأل الله السلامة والعافية، نعوذ بالله من زيغ القلوب. والعامة على الفطرة وفي عافية من هذه الأشياء، لكن لما ذكر محمد بن خفيف رحمه الله ذلك، لابد أن نبين لطلبة العلم، وهذا موجود الآن، والاتحادية موجودون الآن، ولهم من يدافع عنهم، وابن عربي له كتب، له: الفتوحات المكية، وفصوص الحكم، وله أيضاً معارضة في القرآن في قصصه، يأتي بقصة قوم نوح ويعارضها ويفسرها بتفسيرات وإشارات ورموز إلحادية، ثم يأتي بقصة هود وهكذا، نسأل الله السلامة والعافية. فقوله: [ومن زعم أنه قد خرج من رق العبودية إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية]. يعني: سقطت عنه التكاليف، فليس عليه تكاليف ولا هو برقيق لله، إذاً: رقيق للشيطان، خرج من رق العبودية لله فيكون عبداً للشيطان، ولابد. خرج إلى فضاء الحرية بإسقاط العبودية، فلا يتعبد لله بأي عبودية: لا صلاة ولا صيام ولا زكاة ولا حج ولا اجتناب محرمات. وقوله: [والخروج إلى أحكام الأحدية المبدئية]. أي: الاتحاد بالله نعوذ بالله. قوله: [لعلائق الآخرية فهو كافر لا محالة، إلا من اعتراه علة أو رأفة فصار معتوهاً أو مجنوناً أو مبرسماً]. هذا معذور، رفع عنه القلم، معتوه يعني: نقص في العقل، أو مجنون معروف، أو مبرسم: يهذي هذياناً لخلل في رأسه. قال: [وقد اختلط عقله أو لحقه غشية ارتفع عنه بها أحكام العقل، وذهب عنه التمييز والمعرفة، فذلك خارج عن الملة مفارق للشريعة]. هذا مرفوع عنه التكاليف. فإن قيل: ما حكم المدافع عن مثل هؤلاء الاتحادية؟ الجواب: إذا كان المدافع عنه يعلم حقيقة حاله فهو كافر مثله نعوذ بالله، ومن دافع عن الكفرة فهو كافر مثلهم، نسأل الله العافية. وإن قيل: ما الفرق بين الحلولية والاتحادية؟ فالجواب: الفرق واضح، الحلولية: شيء حل محل الآخر، كالماء حل في الكوب، والاتحادية يقولون: الوجود شيء واحد، ولهذا يقال عن الاتحادية إنها لم تتعدد، ولم تقل باثنين أحدهما حل في الآخر، لا اثنينية ولا تعددية، الوجود واحد، وأما الحلولية تقول: اثنان حل أحدهما في الآخر، كالماء في الكوب، والاتحادية أشد كفراً من الحلولية، وكلهم كفرة وكلهم من الصوفية، وأصلهم منبثق عن مذهب الجهمية الذين أنكروا الأسماء والصفات، وأتوا بالقول بالحلول، ثم القول بالاتحاد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن زعم الإشراف على الخلق: يعلم مقاماتهم ومقدارهم عند الله -بغير الوحي المنزل من قول الرسول صلى الله عليه وسلم- فهو خارج عن الملة]. من زعم أنه يشرف على الخلق ويعلم أحوال الناس، بدون الوحي وبدون شيء أخبر به النبي فهذا كافر؛ لأن هذا من دعوى علم الغيب، والذي يزعم أنه يشرف على الناس، وأنه يعلم أحوالهم، ويعلم المؤمن وغير المؤمن، ويعرف الصحيح من

الفراسة وأنواعها

الفراسة وأنواعها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والفراسة حق على أصول ذكرناها، وليس ذلك مما سميناه في شيء]. الفراسة يعني: خاطر يهجم على الإنسان هجوم الأسد على الفريسة، وتشتق الفراسة من الفريسة، يعني: يهجم عليه فيعطيه الله نوراً، وفي الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) وسببه نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن، وهناك فراسة رياضية، وهذه يعملها الصوفية والفلاسفة، وهي أن يجوع نفسه ويقلل من الأكل؛ حتى يصح بدنه، وكذلك يقلل من النوم، مثل ما يسميه بعض الناس: رجيماً، وهذه يفعلها كثيروا الوهم والأطباء. وهناك فراسة أيضاً خلقية، وهي: الاستدلال بالخلق على الخلق، وهذه أيضاً دائرة بين المدح والذم، وهناك فراسة إيمانية وهي التي ذكرها المؤلف، وهي نور يقذفه الله في قلب العبد، فالفراسة الرياضية دائرة بين المدح والذم، وقد تصدق وقد لا تصدق، وهي مشتركة بين المؤمن والكافر، بأن يقلل الأكل ويقلل النوم؛ حتى يصح بدنه، والفراسة الخلقية: الاستدلال بالخلق على الخلق، كأن يقول: طول الرقبة دليل على الغباوة وقصر الرقبة على الحماقة، وجمود العينين على بلادة صاحبها، وسعة الصدر على سعة الخلق، وهذه الفراسة قد تصيب وقد لا تصيب، ومشتركة بين المؤمن والكافر، ويقال لها: فراسة خلقية، والمهم الفراسة الإيمانية، فقد ورد الحديث: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) والحديث ذكره الألباني رحمه الله وقال: إنه ضعيف، ولكن الحديث له طرق ساقها الحافظ ابن كثير رحمه الله في سورة الحجر، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] وساق له عدة طرق يشد بعضها بعضاً لا بأس بها، وإن ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله، وهو محدث كبير، فالحديث معروف عند أهل العلم وهو حسن. قال في التحقيق: [وأشهر دليل يستدل به على الفراسة حديث ابن عمر وأبي سعيد وأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) رواه الترمذي، وقال الترمذي: وهذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وقد روي عن بعض أهل العلم، ورواه ابن جرير في تفسيره، والطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والعقيلي في الضعفاء، وذكره الهيثمي في المجمع وحسن إسناده، وذكره الكناني في تنزيه الشريعة وحسنه، وذكره أيضاً العجلوني في كشف الخفاء وحسن إسناده. وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة بعد ذكر الحديث: وعندي أن الحديث حسن لغيره، وأما صحيح فلا، وذكر بعض الشواهد، وذكره ابن حجر في الفتح، وسكت عنه، هذا مجمل ما قيل في هذا الحديث الذي يعتبر أشهر الأدلة على الفراسة، وقد علق ابن القيم على هذا الحديث بقوله: وهذه الفراسة نشأت له من قربه من الله]. وفات على المحقق ما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسير آية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]. وقال أيضاً: [ومما يستدل به على الفراسة قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] قال مجاهد وغيره: أي للمتفرسين. وإلى هذا القول ذهب ابن جرير وأبو عيسى الترمذي، ونسب ابن القيم هذا القول لـ ابن عباس، وقد علق ابن القيم على هذا الحديث بقوله: وهذه الفراسة نشأت له من قربه من الله، فإن القلب إذا قرب من الله انقطعت عنه معارضات السوء المانعة من معرفة الحق وإدراكه، وكان تلاقيهم من مشكاة قريبة من الله؛ بحسب قربه منه، وأضاء له النور بقدر قربه، فرأى في ذلك النور ما لم يره البعيد والمحجوب. وقسم الفراسة إلى ثلاثة أقسام: الأولى: الفراسة الإيمانية، وهي التي سبقت الإشارة إليها. الثانية: فراسة الرياضة، والجوع، والسهر والتخلي. وقال: فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وذكر أن هذا القسم مشترك بين الكافر والمؤمن، وهي ليست دليلاً على إيمان أو ولاية. الثالثة: فراسة خلقية: وهي التي يستدل بالخلق على الخلق، نحو قولهم: من كان كثير لحم الخدين فهو غليظ الطبع، ومن كان عنقه قصيراً جداً فهو ذو مكر ونحو ذلك]. ومن كان طويل الرقبة فهو غبي، ومن كان قصيرها فهو ذكي يعني: كل هذه استدلالات قد تصيب وقد تخطئ، فهي مشتركة دائرة بين المدح وبين الذم، وبين الصدق والكذب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والفراسة حق على أصول ذكرناها وليس ذلك مما سميناه في شيء، ومن زعم أن صفاته قائمة بصفاته ويشير في ذلك إلى غير آية العصمة والتوفيق والهداية، وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة فهو حلولي]. قوله: (ومن زعم أن صفاته قائمة بصفاته). يعني: صفات المخلوق قائمة في صفات الخالق، فهو حلولي. قال: [ومن زعم أن صفاته قائمة بصفاته، ويشير في ذلك إلى غير آية العصمة والتوفيق والهداية، وأشار إلى صفاته عز وجل القديمة فهو حلولي قائل باللاهوتية والالتحام، وذلك كفر لا محالة]. يعني: شابه قول النصارى الذين يقولون: اللاهوت حل في الناسوت، بمعنى: حل جزء من الله في جزء من الناس، وقالوا: إن الله حل في عيسى نعوذ بالله، وهذا هو معنى أن اللاهوت حل في الناسوت كحلول الماء في الإناء، وكذلك قول غلاة الرافضة: إن الله حل في علي أو في أئمة آل البيت، وهذا حلول خاص، والحلول العام كقول الحلولية: إن الله حل بالناس وبكل مكان، وهناك اتحاد خاص، وهو قول النصارى: إن الرب اتحد بعيسى.

بيان اعتقاد ابن خفيف

بيان اعتقاد ابن خفيف

بيان حال الروح

بيان حال الروح قال المؤلف رحمه الله تعالى ناقلاً عن ابن خفيف قال: [ونعتقد أن الأرواح كلها مخلوقة، فمن قال: إنها غير مخلوقة فقد ضاهى قول النصارى النسطورية في المسيح؛ وذلك كفر بالله العظيم، ومن قال: إن شيئاً من صفات الله عز وجل حال في العبد، أو قال بالتبعيض على الله فقد كفر].

حكم القول بخلق القرآن

حكم القول بخلق القرآن قال رحمه الله تعالى: [والقرآن كلام الله ليس بمخلوق ولا حال في مخلوق]. اعتقاد أن كلام الله منزل غير مخلوق ولا حال في مخلوق هو قول أهل السنة والجماعة. قال: [وأنه كيفما تلي وقرئ وحفظ فهو صفة الله عز وجل]. أي: إن تلي فهو كلام الله نتلوه، وإن حفظ فكلام الله محفوظ، وإن سمع فكلام الله مسموع، وإن كتب ونسخ فكلام الله منسوخ، هو في هذه الحقائق كلها حقيقة ليس مجازاً. قال: [وليس الدرس من المدروس، ولا التلاوة من المتلو؛ لأنه عز وجل بجميع أسمائه وصفاته غير مخلوق]. أي: أن الدرس: القراءة، والمدروس: كلام الله، كما قال تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79]. فالدرس غير المدروس، والتلاوة غير المتلو، فالتلاوة: فعلك أنت، والمتلو: كلام الله، والدرس: درسك أنت، والمدروس: كلام الله. قال: [وليس الدرس من المدروس، ولا التلاوة من المتلو؛ لأنه عز وجل بجميع أسمائه وصفاته غير مخلوق، ومن قال بغير ذلك فهو كافر، ونعتقد أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة، وأن القصائد بدعة]. قوله: (القراءة الملحنة) يعني: من يلحنها ويطرب بها كتلحين الغناء والأذان، فإن تلحين الأذان مكروه وبدعة، والقراءة الملحنة كتمطيط القراءة وتلحينها بما يشبه ألحان الغناء من لحون الأعاجم بدعة أيضاً، فقد ثبت في البخاري أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال لمؤذن: أذن أذاناً سمحاً وإلا فاعتزلنا، أي: لا تطرب ولا تلحن، فتلحين الأذان والقراءة مكروه ومثله التطريب. وعلى من يرى مثل ذلك أن ينبه على هذا الخطأ، فإن انتهوا وإلا فقد أدى واجبه.

حكم تلحين القراءة

حكم تلحين القراءة قال رحمه الله تعالى: [ونعتقد أن القراءة الملحنة بدعة وضلالة، وأن القصائد بدعة ومجراها على قسمين: فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه، وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين فذلك جائز، وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به، وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر، واستماع الغناء والربعيات على الله كفر، والرقص بالإيقاع ونعت الراقصين على أحكام الدين فسق، وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب]. قوله: (وأن القصائد بدعة) يعني: كالقصائد التي يفعلها الصوفية وهي ما تسمى الآن بالأناشيد، والناس اليوم صاروا يتشبهون بالصوفية. وقوله: (وأن القصائد بدعة ومجراها على قسمين: فالحسن من ذلك من ذكر آلاء الله ونعمائه، وإظهار نعت الصالحين وصفة المتقين فذلك جائز، وتركه والاشتغال بذكر الله والقرآن والعلم أولى به]. يعني: النوع الأول من القصائد هي التي فيها ذكر آلاء الله ونعمه، وذكر أخبار الصالحين، وصفات المتقين، فكل هذا جائز ولا بأس به، لكن كلام الله أفضل من ذلك، وتعلم العلم أيضاً أفضل، لكن لا بأس به بشرط أن يكون خالياً من الدف، فإن الدف ممنوع على الرجال، وإنما هو للنساء في الأعراس أو يوم العيد، وكذلك للجواري الصغار، كما حصل مع الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وما جرى على وصف المرئيات ونعت المخلوقات فاستماع ذلك على الله كفر) وكون ذلك كفراً؛ لأنه وصف لله بصفات المخلوقات من المرئيات وغيرها، وهذا هو قول الاتحادية القائلين بأن الأوصاف المخلوقة هي أوصاف لله، وهو قول الحلولية أيضاً، فاستماع ذلك مع اعتقاد أنها وصف لله كفر أكبر. قوله: (واستماع الغناء والرباعيات على الله كفر) الرباعيات: هي منظومة شعرية تتألف من وحدات كل وحدة منها أربعة أشطر، تستقل بقافيتها فقط. فاستماع مثل هذه القصائد واعتقاد أنها كلام الله، أو أنها من صفات الله كفر.

حكم الرقص والإيقاع والأناشيد

حكم الرقص والإيقاع والأناشيد قوله: (والرقص بالإيقاع ونعت الراقصين على أحكام الدين فسق) أي: أن الرقص بالإيقاع كالعود مثلاً فسق. وقوله: (على أحكام الدين) أي: وصف أهل الرقص بالتقى والزهد والإيمان، وهذا موجود عند بعض الصوفية. قوله: (وعلى أحكام التواجد والغناء لهو ولعب). التواجد والغناء من طرق الصوفية، والتواجد من وجد وجداً بالفتح يطلق على الحب، وبالكسر على الحزن، والتواجد عند الصوفية: استجلاب الوجد بالذكر والتفكر، أي: ادعاء المحبة عن طريق ترديد الأذكار، ويزعمون أن هذا وجد، وأنه محبة، وهو من الفسق. ويقولون: الوجد ما يرد على الباطن من الله يكسبه فرحاً أو حزناً ويغيره عن هيئته ويتطلع إلى الله تعالى، وهو فرحة يجدها المغلوب عليه بصفات نفسية يأمر منها إلى الله تعالى. وهو من كلام الصوفية الباطل. وفي نسخة قال: (وعلى أحكام التواجد والنغام لهواً ولعب). والنغام من النغمة وجمعها أنغام. فترى بعضهم يتعبد الله بالرقص والغناء، وينسب هذا إلى الدين، مثلما يتدين الخوارج بحلق الرأس، ويبالغون في حلقه، ومثل هذا لم يثبت في دين الله، فالتدين به فسق. والغناء والرقص عبادة عند الصوفية، وبعض الشباب اليوم يعملون القصائد الجماعية وصاروا يتلذذون بها، وبعضهم يلحنها ويتأوه، ثم يسمونه بعد ذلك بالأناشيد الجماعية، ولا يعجبهم منها إلا النغمات فقط مثل الصوفية، فترى بعضهم ينظر متى يرفع المنشد صوته أو يخفضه، ولا يهتم بالمعنى، فهذا صار تلذذاً بالصوت فقط، وليس المقصود المعنى، وهذه هي طريقة الصوفية، وصاروا أيضاً يتوسعون في هذا حتى إن بعضهم يلحن تلحيناً لا تشك أنه مثل التلحين الذي يسمع في الإذاعة، وهذا من إسدال الشيطان عليهم بالتدرج، ولربما سمعت من يسمع مثل هذا في الطريق فتقول له: هذا غناء؟ فيرد مسرعاً: هذه أناشيد، وقد أجازها فلان وفلان. وأمثال هذه الأناشيد لا تفرق بينها وبين الغناء أبداً، ومع ذلك تجد من يرد عليك قولك، مستظهراً قوته وشجاعته، وكل هذا بسبب انتشار هذه القصائد، نسأل الله السلامة والعافية، وليس وراء ذلك كله من فائدة أو نفع إلا إضاعة الأوقات والتلذذ بالأصوات، بل وجد بعض الناس يغني: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والعياذ بالله، وترى بعض الفسقة يقلد فلاناً وفلاناً من القراء، فتراه مرة يقرأ ومرة يغني، وتراه يطيل الصوت في الغناء والقراءة سواء بلا فرق! ومثل هذا الذي يغني بالقرآن يخشى عليه من الردة، فإذا كان ساخراً مستهزئاً ومستهيناً بالقرآن، فهو ردة والعياذ بالله. ولا يصح الاستدلال على مثل هذه الأناشيد بالحدو المذكور في الأحاديث؛ لأن ذلك مذكور في حدو الإبل وهو شيء واحد وبألفاظ خاصة، ولا يصح بالشعر أيضاً؛ لأن هذه الأناشيد يقصد منها الأنغام والأصوات فقط، والشعر يقصد منه المعنى والفائدة. ولا يدخل في ذلك تحسين الصوت بالقراءة، سواء كانت قراءة قرآن أو غيره، فتحسين الصوت مطلوب، وتلحينه غير مطلوب.

حكم سماع القصائد والربعيات الملحنة

حكم سماع القصائد والربعيات الملحنة قال رحمه الله تعالى: [وحرام على كل من سمع القصائد والرباعيات الملحنة الجاري بين أهل الأطباع على أحكام الذكر، إلا لمن تقدم له العلم بأحكام التوحيد، ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يضاف إلى الله تعالى من ذلك مما لا يليق به عز وجل بما هو منزه عنه، فيكون استماعه كما قال: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر:18] الآية]. يعني: ليس له أن يستمع إلا إذا عظم الله وميزه فهذا كلام فيه إجمال. قال رحمه الله تعالى: [وكل من جهل ذلك وقصد استماعه على الله على غير تفصيله فهو كفر لا محالة، فكل من جمع القول وأصغى بالإضافة إلى الله فغير جائز إلا لمن عرف بما وصفت من ذكر الله ونعمائه، وما هو موصوف به عز وجل ما ليس للمخلوق فيه نعت ولا وصف، بل ترك ذلك أولى وأحوط، والأصل في ذلك أنها بدعة، والفتنة بها غير مأمونة على استماع الغناء والربعيات بدعة، وذلك مما أنكره المطلبي -أي: الشافعي - ومالك والثوري ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وإسحاق، والاقتداء بهم أولى من الاقتداء بمن لا يعرفون في الدين، ولا لهم قدم عند المخلصين، وبلغني أنه قيل لـ بشر بن الحارث: إن أصحابك قد أحدثوا شيئاً يقال له القصائد، قال: مثل أيش؟ قال: مثل قوله: اصبري يا نفس حتى تسكني دار الجليل فقال: حسن، وأين يكون هؤلاء الذين يستمعون ذلك؟ قال: قلت: ببغداد، فقال: كذبوا، والله الذي لا إله غيره لا يسكن بغداد من يسمع ذلك. يقول ياقوت الحموي: ذم بغداد قد ذكره جماعة من أهل الورع والصلاح والزهاد والعباد، ووردت فيه أحاديث خبيثة وعلتهم في الكراهية ما عاينوه بها من الفجور والظلم والعسف، وكان الناس وقت كراهيتهم للمقام ببغداد غير ناس زماننا، فأما أهل عصرنا فأجلس خيارهم في الحش وأعطهم فلساً فما يبالون بعد تحصيل الحطام أين كان المقام، وكان بعض الصالحين إذا ذكرت عنده بغداد يتمثل: قل لمن أظهر التنسك في الناس وأمسى يعد في الزهاد الزم الثغر والتواضع فيه ليس بغداد منزل العباد إن بغداد للملوك محل ومناخ للقارئ الصياد]. بغداد كانت في أزمان محل العباد والعلماء، وفي أزمان محل الرقص والغناء والصوفية.

بيان منزلة الفقير الصابر والفقير السائل

بيان منزلة الفقير الصابر والفقير السائل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عبد الله -أي: ابن خفيف -: ومما نقول وهو قول أئمتنا: أن الفقير إذا احتاج وصبر ولم يتكفف إلى وقت يفتح الله له كان أعلى، فمن عجز عن الصبر كان السؤال أولى به على قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم حبله) الحديث]. يعني: الفقير إذا صبر ولم يسأل الناس فهذا خير له وأفضل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله)، فإذا استعف وتصبر وصبر فهو أفضل، وإن عجز واستعان فله أن يسأل؛ لأن الوعيد إنما جاء فيمن سأل من غير حاجة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً) وهذا سأل لضرورة فلا بأس بذلك. ومما جاء في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لأن يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب فيبيع فيكف الله به وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وجاء في حديث آخر: (لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم). ويشير الله تعالى إلى المضطر لذلك بقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25]. وأما ما حدث في زماننا هذا من وقوف السائل في المساجد فهذا فيه تفصيل: إن كان يُعلم أنه ليس محتاجاً فيجب أن يمنع ويزجر ويؤدب، وإن كان يعلم أنه محتاج فلا يمنع، وإن كان يجهل حاله ترك؛ لاحتمال أن يكون محتاجاً، لكن لا ينبغي له أن يشوش على الناس في المسجد بوقوفه وسؤال الناس بعد الصلاة، بل الأفضل أن يجلس عند الباب أو في مكان ما؛ حتى يبتعد عن التشويش. فإن قال قائل: وهل يجوز السؤال في المسجد؟ قلنا: نعم، يجوز؛ لأنه قد لا يجد حاجته إلا في المسجد، ولما جاء عن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (من تصدق منكم اليوم على مسكين، قال أبو بكر: أنا، دخلت المسجد فوجدت سائلاً أو مسكيناً فأعطيته رغيفاً).

حكم ترك التكسب

حكم ترك التكسب قال رحمه الله تعالى: [ونقول: إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط مرسومة من التعفف والاستغناء عما في أيدي الناس]. يعني: ترك المكاسب لوجود شبهة أو ما شابهها تورعاً من ذلك لا بأس به، فإن الورع لا حد له، أما الوجوب فلا يجب عليه الترك إلا إذا علم أن هذا الشيء محرم. ولا شك أن التكسب مع العبادة أفضل من العبادة وحدها، وذلك لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأخوين، حيث كان أحدهما يتعبد والآخر يكسب فينفق على نفسه وعلى أخيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمتعبد: (إنه أفضل منك). قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونقول: إن ترك المكاسب غير جائز إلا بشرائط مرسومة من التعفف والاستغناء عما في أيدي الناس. ومن جعل السؤال حرفة وهو صحيح فهو مذموم في الحقيقة خارج]. أي: خارج عن الطرق المستقيم، أو خارج عما عليه أهل الحق أهل السنة والجماعة. ومثل هذا الرجل لا شك أنه مذموم، ويجب عقوبته ومنعه من قبل ولاة الأمور بالسجن، ويضرب أيضاً حتى يترك حرفة السؤال.

حكم استماع الغناء والملاهي

حكم استماع الغناء والملاهي قال رحمه الله تعالى: [ونقول: إن المستمع إلى الغناء والملاهي فإن ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: (الغناء ينبت النفاق في القلب)، وإن لم يكفر فهو فسق لا محالة]. الغناء لا شك أنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل، وأن السامع له فاسق. وهذا الأثر روي مرفوعاً بألفاظ متقاربة، وروي موقوفاً على عبد الله بن مسعود وغيره، ولعل الموقوف أصح من المرفوع، أما المرفوع فروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الغناء ينبت النفاق في القلب) رواه أبو داود والبيهقي وابن أبي الدنيا. ونقل المناوي في فيض القدير عن العراقي قوله: وصله غير صحيح؛ لأن في إسناده من لم يسم. وذكره ابن حجر الهيثمي في كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع. وروي عن أنس مرفوعاً بلفظ: (الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب) رواه الديلمي في الفردوس، وروي أيضاً مرفوعاً نحواً من هذا عن جابر وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنهم، ولعل المرفوع لا يخلو من مقال. وروي موقوفاً على ابن مسعود، ورواه البيهقي في السنن الكبرى وابن أبي الدنيا، والخلال في السنة، قال العراقي في كلامه على هذا الأثر: روي مرفوعاً من عدة طرق كلها ضعيفة، قال البيهقي: والصحيح أنه من قول ابن مسعود.

حكم الجدال في الدين

حكم الجدال في الدين قال رحمه الله تعالى: [والذي نختاره قول أئمتنا: ترك المراء في الدين، والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق، ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم واسط يؤدي وأن المرسل إليهم أفضل فهو كافر بالله]. قوله: (والذي نختاره قول أئمتنا: ترك المراء في الدين) يعني: الجدال، وينبغي على الناس أن يتركوا الجدال في الدين، فقد جاء في بعضها الوعيد، ومن تلك الأحاديث: (والمراء في الدين كفر) فأصل الجدال في الدين كفر، لكن الجدال يختلف، فإن كان في أصل العقيدة والتوحيد، مع الشك في تلك الأمور فهو كفر وردة، أما إن كان جدالاً في أمور شرعية فهذا هو الذي عليه الوعيد. وقوله: (والذي نختار قول أئمتنا ترك المراء في الدين والكلام في الإيمان مخلوق أو غير مخلوق) يعني: يسأل هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ لما في ذلك من الإيهام، وإلا من المعلوم أن أعمال العباد أفعالهم وأقوالهم مخلوقة. فهو يقول: نختار السكوت عن هذا، وغيره يختار التفصيل في هذا، ويقول: أعمال العباد مخلوقة، وأما كلام الله فهو منزل غير مخلوق.

حكم من فضل الولي على النبي

حكم من فضل الولي على النبي قال رحمه الله تعالى: [ومن زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم واسط يؤدي وأن المرسل إليهم أفضل فهو كافر بالله]. ذهب بعض أهل وحدة الوجود وعلى رأسهم ابن عربي الطائي وابن الفارض وغيرهم إلى تفضيل الأولياء على الأنبياء! ولا شك أنه إن كان المراد أن الرسول واسطة بين الله حتى يؤدي عنه ويبلغ عنه فهذا صحيح. أما أن يكون واسطة بين الله بمعنى: يدعى مع الله، أو أنه يتصرف في الكون، فهذا كفر والعياذ بالله. ومن قال إن المتقين أفضل من الأنبياء فقد كفر؛ لأنه فضل الناس على الأنبياء، وهذا يقوله الصوفية الذين يرون أن الفلاسفة أفضل من الأنبياء والرسل؛ لأن النبي نبي العامة، والفيلسوف نبي الخاصة، فهو أفضل. وهذا كفر وضلال نعوذ بالله. ويقول الصوفية: إن الأنبياء ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام، وأما الولاية فلم تختم، وبعضهم ادعى أنه خاتم الأولياء، وقال: إن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء؛ وذلك أن خاتم الأولياء تابع لخاتم الأنبياء في الظاهر، وخاتم الأنبياء تابع لخاتم الأولياء في الباطن، ويقول بعضهم: ابن عربي تابع لمحمد في الأمور الظاهرة، ولذلك يظهر الأحكام حتى لا يقتل، فتراه في الظاهر يصلي أمام الناس، وفي الباطن محمد تابع له؛ لأن محمداً يأخذ الوحي بواسطة جبريل، أما هو فهو يأخذ عن الله مباشرة أو عن نفسه ولا يحتاج إلى واسطة! نسأل الله السلامة والعافية. قال رحمه الله تعالى: [ومن قال بإسقاط الوسائط على الجملة فقد كفر].

[10]

شرح الحموية لابن تيمية [10] عقيدة أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات مأخوذة من القرآن والسنة، وهي عقيدة السلف الصالح، وتبعهم عليها أئمة الخلف من بعد القرون الثلاثة المفضلة كالجيلاني وابن عبد البر والبيهقي وأبي يعلى وأبي الحسن الأشعري وغيرهم ممن لا يحصون لكثرتهم.

اعتقاد عبد القادر الجيلاني في العلو

اعتقاد عبد القادر الجيلاني في العلو قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن متأخريهم الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي قال في كتاب الغنية:]. يقال الجيلي والجيلاني وكلاهما واحد. وهو عبد القادر بن أبي صالح عبد الله الجيلي الحنبلي أبو محمد مولده بجيلان سنة إحدى وسبعين وأربع مائة، اشتهر بالزهد والعبادة، وكان يأكل من عمل يده، ذاع صيته واشتهر، من كبار الصوفية حتى نسبت له الطريقة القادرية، وهي من طرق الصوفية المشهورة، قال عنه الذهبي: الشيخ الإمام العالم الزاهد العارف القدوة شيخ الإسلام علم الأولياء. وقال في نهاية ترجمته: وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن وعليه مآخذ في بعض أقاويله ودعاويه، والله الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه. انتهى. وهو حنبلي معروف يثني عليه شيخ الإسلام كثيراً، له كتاب الغنية، وله قبر في العراق يعبد ويدعى من دون الله إلى الآن نسأل الله السلامة. وقد نقل شيخ الإسلام عنه -أي: عبد القادر - أنه سئل: هل كان لله ولي على اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: لا كان ولا يكون. انتهى. وقال عنه ابن كثير: ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً، إلى أن قال: وبالجملة كان من سادات المشايخ. وقال الشيخ عبد الله بن جبرين: إن أكثر ما ينقل عن مثل هؤلاء من أمور لا تتوافق مع الشرع فهو لم يقلها ولم يفعلها وما هي إلا من تلاميذهم وأتباعهم. وقال عنه ابن رجب بعد أن ذكر أن بعض ما ينقل عنه لا يصح، قال: وللشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى كلام حسن في التوحيد والصفات والقدر، وفي علوم المعرفة موافق للسنة. انتهى. توفي سنة إحدى وستين وخمسمائة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن متأخريهم الإمام أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلي قال في كتاب الغنية: أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد]. قوله: (الصانع) هو من باب الخبر لا من باب التسمية كما أطلق ذلك شيخ الإسلام. قال: [أما معرفة الصانع بالآيات والدلالات على وجه الاختصار فهو أن يعرف ويتقين أن الله واحد أحد إلى أن قال: وهو بجهة العلو مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5]]. الشاهد أنه يثبت الصفات، وأثبت الاستواء على العرش، وفيه الرد على أهل البدع من الجهمية وغيرهم. قال: [ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان]. لأن هذا قول الحلولية وهو كفر نعوذ بالله. قال: [بل يقال: إنه في السماء على العرش، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وذكر آيات وأحاديث إلى أن قال: وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش، قال: وكونه على العرش مذكور في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا كيف]. هذا يدل على أن له كلاماً جيداً في الاعتقاد والعلو رحمه الله. قال: [وذكر كلاماً طويلاً لا يحتمله هذا الموضع، وذكر في سائر الصفات نحو هذا، ولو ذكرت ما قال العلماء في ذلك لطال الكتاب جداً].

بيان اعتقاد الإمام ابن عبد البر في الصفات الإلهية

بيان اعتقاد الإمام ابن عبد البر في الصفات الإلهية

اعتقاد ابن عبد البر في العلو

اعتقاد ابن عبد البر في العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أبو عمر بن عبد البر: روينا عن مالك بن أنس وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي ومعمر بن راشد في أحاديث الصفات أنهم كلهم قالوا: أمروها كما جاءت، قال أبو عمر: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من نقل الثقات أو جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فهو علم يدان به، وما حدث بعدهم ولم يكن له أصل فيما جاء عنهم فهو بدعة وضلالة. وقال في شرح الموطأ لما تكلم على حديث النزول قال: هذا حديث ثابت من جهة النقل صحيح الإسناد، لا يختلف أهل الحديث في صحته، وهو منقول من طرق سوى هذه، من أخبار العدول عن النبي صلى الله عليه وسلم]. الظاهر أن حديث النزول من الأحاديث المتواترة. قال: [وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش استوى من فوق سبع سماوات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم: إن الله في كل مكان. قال والدليل على صحة قول أهل الحق قول الله وذكر بعض الآيات إلى أن قال: وهذا أشهر وأعرف عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار، لم يوقفهم عليه أحد ولا أنكره عليهم مسلم]. قوله: (لم يوقفهم عليه أحد) في نسخة يتبعهم، ونسخة يوافقهم، ونسخة يؤنبهم، وكل هذا جيد. قال: [وقال أبو عمر بن عبد البر أيضاً: أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] هو على العرش وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله]. أي: كون قوله تعالى: (إلا هو معهم) يعني: بعلمه وهو فوق العرش سبحانه وتعالى، وبهذا يجمع بين النصوص.

اعتقاد ابن عبد البر في الصفات

اعتقاد ابن عبد البر في الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو عمر أيضاً: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز]. وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، حيث يقرون بالصفات، ويؤمنون بها، ويعتقدون معناها، أما الكيفية فيفوضونها إلى الله، ويؤمنون بها على حقيقتها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول، فيؤمنون بالاستواء باللفظ والمعنى على حقيقته وأنه استواء حقيقي، أما الكيفية فلا يعلمها إلا الله. قال: [وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك]. أما أهل البدعة فيقولون: الاستواء مجاز، ومعناه الاستيلاء وهذا باطل. قال: [إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع من الجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرونها ولا يحملون شيئاً منها على الحقيقة]. بل يحملوها على المجاز، والخوارج يغلب عليهم اتباع المعتزلة، ولاسيما المتأخرون. قال: [ويزعمون أن من أقر بها مشبه]. هكذا يزعمون، أن من أثبت الاستواء والعلم والقدرة فهو مشبه. قال: [ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود]. وهم -يعني: المعطلة- عند من أقر بها -وهم أهل السنة- نافون للمعبود أي: الله، والمعنى: أن المعطلة هم عند أهل السنة نافون للرب واصفوه بالعدم؛ لأنهم لما نفوا الأسماء والصفات أنتج النفي أنهم نفوا الرب فلم يثبتوا معبودهم. نسأل الله السلامة والعافية. قال: [والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهم أئمة الجماعة. هذا كلام ابن عبد البر إمام أهل المغرب].

بيان اعتقاد الحافظ أبي بكر البيهقي في الصفات

بيان اعتقاد الحافظ أبي بكر البيهقي في الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي عصره الحافظ أبو بكر البيهقي مع توليه للمتكلمين من أصحاب أبي الحسن الأشعري وذبه عنهم قال في كتاب الأسماء والصفات: باب ما جاء في إثبات اليدين صفتين لا من حيث الجارحة لورود خبر الصادق به. قال الله تعالى: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وذكر الأحاديث الصحاح في هذا الباب، مثل قوله في غير حديث في حديث الشفاعة: (يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه)، ومثل قوله في الحديث المتفق عليه: (أنت موسى اصطفاك الله بكلامه، وخط لك الألواح بيده -وفى لفظ- وكتب لك التوراة بيده) ومثل ما في صحيح مسلم: (وغرس كرامة أوليائه في جنة عدن بيده)، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: (تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يكتفأ أحدكم خبزته في السفر؛ نزلاً لأهل الجنة)]. هذه النصوص كلها تثبت اليدين لله عز وجل، وأبو بكر البيهقي يتولى أهل الكلام الأشاعرة ومع ذلك أثبت اليدين، ومعروف أن الأشاعرة لا يثبتون اليدين، بل يثبتون الصفات السبع، لكن أبو بكر البيهقي كان يميل لأهل السنة وإن كان يوافق الأشاعرة في بعض ما يقررونه، لكنه هنا وافق أهل السنة وأثبت أن اليدين من صفات الله، لكن قوله: (ليستا جارحتين) مما يؤخذ عليه. والمؤلف رحمه الله ينقل عن العلماء النقول وقد لا يوافقهم في كل ما يقولون، لكنه يبين موافقتهم أهل السنة والجماعة، فقوله: لا على الجارحتين، لا ينبغي التكلم به لا نفياً ولا إثباتاً، فلا يقال: جارحة، ولا يقال: غير جارحة؛ لعدم ورود النص بذلك. قال: [وذكر أحاديث مثل قوله: (بيدي الأمر)، (والخير في يديك)، (والذي نفس محمد بيده) (إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)، وقوله: (المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين)]. هذه النصوص فيها إثبات اليدين من الكتاب والسنة. قال: [وقوله: (يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)]. وهذا الحديث فيه إثبات اليمين والشمال. والحديث رواه مسلم، لكن بعضهم طعن في قوله: (بشماله)؛ لتفرد بعض الرواة فيها. والصواب أنها ثابتة، وهو معروف من الأحاديث الأخرى أيضاً، يعني: إثبات اليمين يدل على إثبات الشمال، فله يمين وله شمال سبحانه وتعالى، أما حديث (كلتا يديه يمين) يعني: في الفضل والشرف والبركة وعدم النقص، بخلاف المخلوق، فإن يده الشمال فيها نقص عن اليمين، أما الرب سبحانه وتعالى فكلتا يديه يمين في الشرف والفضل والبركة وعدم النقص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: (يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فانه لم يغض ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع)]. وجاء في رواية بلفظ: (بيده الأخرى القبض) وفي الأخرى بلفظ: (بيده الخير). وفي الأصل القسط، وكذا في نسخة الفتاوي وغيرها، وما أثبت من الصحيحين والأسماء والصفات للبيهقي. وفيه: إثبات صفة القبض والبسط. قال: [وكل هذه الأحاديث في الصحيح. وذكر أيضاً قوله: (إن الله لما خلق آدم قال له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت قال: اخترت يمين ربى يمين مباركة)]. والحديث أخرجه الترمذي في كتاب التفسير، قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. انتهى. وابن أبي عاصم في السنة، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم وذكر له شاهداً ووافقه الذهبي والبيهقي في الأسماء والصفات وابن حبان. قال: [وحديث: (إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيده) إلى أحاديث أخر ذكرها من هذا النوع. ثم قال البيهقي: أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار في هذا الباب، وكذلك قال في الاستواء على العرش وسائر الصفات الخبرية، مع أنه يحكي قول بعض المتأخرين]. قوله: (لم يفسروا ما كتبنا من الآيات والأخبار). يعني: لم يفسروا الكيفية ولم يتأولوها، أما المعنى ففسروه ووضحوه.

بيان اعتقاد القاضي أبي يعلى في الصفات الإلهية

بيان اعتقاد القاضي أبي يعلى في الصفات الإلهية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق]. وهذا الكلام من أبي يعلى جيد، وهو من الحنابلة، وقد يؤول أحياناً. قال: [وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل: لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها، والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله لا تشبه بسائر الموصوفين بها من الخلق -وفي نسخة مجموع الفتاوي: لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق- ولا يعتقد التشبيه فيها، لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة، وذكر بعض كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن عيينة والفضيل بن عياض ووكيع وعبد الرحمن بن مهدى والأسود بن سالم وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب، وفى حكاية ألفاظهم طول إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغاً لكانوا إليه أسبق لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة]. ولأن الصحابة هم أعرف الناس بما يجب على الله، وأدرى بمعاني هذه النصوص، فهم شاهدوا التنزيل، وهم أهل اللغة، وعندهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عما أشكل عليهم. ولو كان في هذا تشبيه لبينوا ذلك، فالشبهة تختلف عند بعض الناس.

بيان اعتقاد أبي الحسن الأشعري

بيان اعتقاد أبي الحسن الأشعري قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال أبو الحسن علي بن الحسن الأشعري المتكلم صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين: ذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم]. وكان قد رجع عن قول المعتزلة حيث كان على مذهبهم، وقال: إنه مكث أربعين سنة ثم أعلن رجوعه، وخلع ثوباً في الجامع على المنبر، وقال: إني رجعت عن أقوال المعتزلة، خلعتها كما أخلع هذا الثوب، ثم تحول إلى مذهب وسط وهو مذهب الأشاعرة، ثم تحول إلى مذهب أهل السنة والجماعة، إلا أنه بقي عليه أشياء يسيرة من المذهب السابق، له كتاب الإبانة في أصول الديانة، قال فيه: إنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. قال: [وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم، ثم قال: مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة. قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون شيئاً من ذلك، وأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله على عرشه كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وكما قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وأن له عينين بلا كيف؛ كما قال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وأن له وجهاً كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]]. إثباته لصفة العينين من آية: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، غير سديد، فإن معنى الآية: بمرأى منا، والمعروف أن إثبات العينين لله عز وجل مأخوذ من حديث الدجال: (إن ربكم ليس بأعور، وإن الدجال أعور العين اليمنى)، ففيه إثبات أن لله عينان سليمتان، وأن الله ليس بأعور، وأن الدجال أعور، والأعور هو الذي له عين واحدة، وغير الأعور هو الذي له عينان. قول البخاري في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]: إلا ملكه، هذا من التأويل، والبخاري لم يقل هذا، بل يمكن أنه نقل قولاً من الأقوال، وفي هذه الآية إثبات الوجه لله تعالى، وجهه وذاته سبحانه وتعالى. قال رحمه الله تعالى: [وأن أسماء الله تعالى لا يقال أنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً كما قال تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، وكما قال تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]، وأثبتوا له السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15]، وذكر مذهبهم في القدر إلى أن قال: ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف، من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم]. على مذهب أهل السنة والجماعة أن من قال: القرآن مخلوق فقد كفر.

اعتقاد أبي الحسن الأشعري في القرآن

اعتقاد أبي الحسن الأشعري في القرآن قال رحمه الله تعالى: [ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في اللفظ والوقف، من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق]. وهذا هو الصواب، أن يقال: كلام الله لفظه ومعناه منزل غير مخلوق، ومن قال باللفظ أي: قال: لفظي بالقرآن مخلوق أو قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع؛ لأنه لا يخصص اللفظ، كما لو قال إنسان: السبع الطوال من القرآن ليست مخلوقة نقول: هذا بدعة؛ لأنه لا تخصص السبع الطوال، فكلام الله منزل غير مخلوق السبع الطوال وغيرها، وكذلك إذا قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فنقول: هذا بدعة؛ لأن التخصيص هذا بدعة، وكذلك التوقف، من قال: أنا أتوقف في اللفظ، فلا أقول: مخلوق ولا غير مخلوق، فهذا مبتدع، فالتوقف بدعة. قال بعض السلف: اللفظية شر من الجهمية، أي: من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق، وكذلك من توقف. فالمقصود أن معتقد أهل السنة والجماعة: أن كلام الله منزل غير مخلوق، ولا يقال في اللفظ، ولا يتوقف، ولا يخصص اللفظ بشيء.

اعتقاد أبي الحسن الأشعري في رؤية الله

اعتقاد أبي الحسن الأشعري في رؤية الله قال رحمه الله تعالى: [ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون؛ لأنهم عن الله محجوبون، قال عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]]. وكما قال الله تعالى عن المؤمنين: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته) فهو أعظم نعيم يعطاه المؤمن في الجنة، فيراه المؤمنون ويحتجب على الكفرة، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]. والمنافقون كفرة محجوبون عن الله، أما في الموقف فهناك اختلاف بين أهل العلم فيهم على ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يراه أهل الموقف كلهم المؤمنون والكافرون ثم يحتجب عن الكفرة. القول الثاني: أنه يراه المؤمنون والمنافقون، كما جاء في الحديث: أنه يقال يوم القيامة لكل من كان يعبد شيئاً: (ليتبع كل من كان يعبد شيئاً من يعبده، فمن كان يعبد القمر يتبع القمر، ومن كان يعبد الشمس يتبعها، ثم يتساقطون في النار، وتبقى هذا الأمة فيتجلى الله لهم) فظاهره أن المنافقين معهم، فيسجد له المؤمنون، والمنافقون يكون ظهر الواحد منهم طبقة لا يستطيع السجود، ثم إذا ساروا انطفأ نور المنافقين وضرب بينهم بسور له باب، وهذا حديث طويل. والقول الثالث: أنه لا يراه إلا المؤمنون في الموقف. وظاهر الحديث الطويل أن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الدنيا، وتنزل عليهم أحكام الإسلام في الظاهر، وظاهره أنهم يرون الله في الموقف ثم يحتجب عنهم بعد ذلك، فيكون هذا عذاباً لهم نسأل الله السلامة والعافية.

اعتقاد أبي الحسن الأشعري في الإيمان

اعتقاد أبي الحسن الأشعري في الإيمان قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء، إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص]. خلافاً للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان تصديق القلب فقط. قال: [ولا يقولون: مخلوق، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار]. قوله: (ولا يقولون: مخلوق) يعني: العمل، وكأن المقصود التخصيص، وإلا فقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] والقول في أن الإيمان مخلوق أو غير مخلوق بدعة، وهذه المسألة أيضاً شبيهة بالمسألتين السابقتين، وهي أنه لما ظهرت مقولة القائلين: لفظنا بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق تكلم الناس حينئذ في الإيمان، فقال طائفة: الإيمان مخلوق، ودخل في ذلك ما تكلم الله به من الإيمان وقول: لا إله إلا الله، فصار مقتضى قولهم: أن نفس هذه الكلمة مخلوقة، ولم يتكلم الله بها، فبدع الإمام أحمد هؤلاء، قال شيخ الإسلام بعد إيراد هذه المسألة والكلام عليها: وهذه الأقوال كلها مبتدعة مخترعة لم يقل السلف شيئاً منها، وكلها باطلة شرعاً وعقلاً، ثم ذكر في نهاية البحث أنه من قال: الإيمان مخلوق أو غير مخلوق فلابد من الاستفصال منه ما يريد بالإيمان؟ فإن أراد بالإيمان شيئاً من صفات الله كقوله: لا إله إلا الله، وإيمانه الذي دل عليه اسم المؤمن فهو غير مخلوق، وإن أراد شيئاً من أفعال العباد وصفاتهم فالعباد كلهم مخلوقون، فجميع أفعالهم وصفاتهم مخلوقة، ولا يكون للعبد المخلوق صفة قديمة.

حكم أهل الكبائر عند الأشعري

حكم أهل الكبائر عند الأشعري قال رحمه الله تعالى: [ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار]. بل هم تحت مشيئة الله عند أهل السنة والجماعة، لا يشهد عليهم بالنار المعين، لكن العموم لا بأس به، فيشهد عليه بما شهدت له النصوص كحديث: (من أكل مال اليتيم فهو في النار) أي: أن من أكل مال اليتيم فهو في النار على العموم، وكذلك اللعن كحديث: (لعن الله شارب الخمر) فهو على العموم، أما فلان ابن فلان الذي أكل مال اليتيم فلا يحكم عليه بالنار، أو فلان ابن فلان السارق فلا نلعنه؛ لأنه قد يكون معذوراً، كأن لم يبلغه النص، أو قد يكون له إيمان عظيم وحسنات تقضي على ما صدر منه. والمسألة فيها خلاف، فبعض العلماء يرى لعن المعين، لكن الصواب عدم لعنه.

حكم الجدال والخصومة في الدين

حكم الجدال والخصومة في الدين قال: [إلى أن قال: وينكرون الجدال والمراء في الدين والخصومة فيه والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم]. ولا شك أن الجدل والجدال يؤدي إلى الخصومات والشحناء والبغضاء، ولاسيما الجدال في الدين، والمراء في القرآن، فكل هذا ينكره أهل السنة والجماعة وينهون عنه.

قبول أبي الحسن الأشعري للأحاديث الصحيحة في باب العقائد

قبول أبي الحسن الأشعري للأحاديث الصحيحة في باب العقائد قال: [ويسلمون للروايات الصحيحة، كما جاءت بها الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يقولون: كيف؟ ولا لم؟ لأن ذلك بدعة عندهم]. أي: أن أهل السنة يسلمون ويقبلون النصوص، ويثبتون الصفات التي ثبتت في النصوص الصحيحة التي رواها الشيخان عن الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث النزول: (ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر) إذ هذا من الأحاديث المتواترة، ومثل حديث الرؤية، ولا يقولون: كيف؟ ولا لم؟ لا يقولون في الصفات: كيف؟ ولا يقولون في أفعال الله: لم؟ فإنه لا يعترض على الله، قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء:23]؛ لأنه حكيم سبحانه، ولا يقال: لم فعل كذا؟ ولا يقال في صفاته: كيف، فلا يقال: كيف نزوله؟ كيف استواؤه؟ كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة.

إثبات أبي الحسن الأشعري صفة المجيء لله

إثبات أبي الحسن الأشعري صفة المجيء لله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]، وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]]. هذا على أحد القولين. والقول الثاني: أن هذا قرب الملائكة فقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ} [ق:16]، يعني: أقرب إليه بملائكتنا من حبل الوريد، بدليل قيده بالظرف؛ لقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق:17]، وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، أي: نحن أقرب إليه بملائكتنا، ولو كان المراد قرب الله لما كان مقيداً بالوصف وهو تلقي الملكين؛ لأن قرب الله عام وليس خاصاً، وهذا هو الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية. والقول الثالث: أن المراد قرب علم الله، وهو قول مرجوح عند شيخ الإسلام وابن القيم، لكن المؤلف رحمه الله ينقل عن أبي الحسن وعن غيره، وقد ينقل عن غيره مسائل فيوافقه في بعضها وقد لا يوافقه، لكن قصده من ذلك تبيين أن السلف والعلماء كلهم يثبتون الصفات ويردون على أهل البدع، ومن ذلك أبو الحسن الأشعري حينما رجع إلى أهل السنة والجماعة وألف هذه المؤلفات القيمة بعد أن هداه الله. فإن قال قائل فقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22] هل هو من هذا الباب أم لا؟ قلنا: معنى قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}، يعني: يجيء الله والملائكة، فإن الواو لا تقتضي الترتيب، بل الواو لمطلق الجمع، والمعنى: أن الملائكة يجيئون كما جاء في الحديث: تشقق السماوات فتنزل الملائكة، ثم يجيء الله لفصل القضاء سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته. فالنصوص دلت على تشقق السماوات على الملائكة، وأنهم يصفون، ثم يجيء الله، كما قال سبحانه وتعالى في الآية: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} [البقرة:210]. وفي الآية الأخرى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام:158]، فالإتيان ثابت لله عز وجل كما يليق بجلالته وعظمته.

نظرة أبي الحسن الأشعري إلى أهل البدع

نظرة أبي الحسن الأشعري إلى أهل البدع قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى أن قال: فيرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن]. يعني: مجانبة أهل البدع، والبعد عنهم، وعدم الاختلاط بهم ومعاشرتهم وجالستهم؛ لئلا يضروك. ولا شك أن الروافض من أشد الناس بدعاً، فالواجب البعد عنهم، والحذر منهم، وعدم الاختلاط بهم وهجرهم، فإن الزندقة تكثر فيهم كما قال شيخ الإسلام. فإن قيل: وهل يرد على أهل البدع السلام؟ قلنا: كما يرد على أهل الكتاب، فإنه إذا سلم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم، وإن كان مسلماً فترد عليه السلام. أما المبتدع إذا لم يظهر بدعته، ولا يعلم عن حاله فيعامل بالظاهر مثل المنافقين الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كانت تنزل عليهم أحكام الإسلام.

صفات أهل السنة عند أبي الحسن الأشعري

صفات أهل السنة عند أبي الحسن الأشعري قال: [ويرون مجانبة كل داع إلى بدعته، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار]. ينبغي الاشتغال بكتابة القرآن وكتابة الأحاديث والآثار؛ لأنها هي الطريق إلى ثبوت السنة. قال: [وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع الاستكانة والتواضع وحسن الخلق، مع بذل المعروف، وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية]. كل هذا من معتقد أهل السنة والجماعة ويأمرون به. قوله: (والسعاية) في مجموع الفتاوي: وترك الغيبة والنميمة والشكاية. وعلى الأول يكون المعنى: يسعى في الباطل، وعلى الثاني يكون المعنى: الشكاية إلى المخلوق. قال: [وتفقد المآكل والمشارب]. أي: حتى لا يكون فيها شبهة أو حرام، فمن معتقد أهل السنة والجماعة أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد مأكله ومشربه ومركبة، ويبتعد عن المكاسب الخبيثة كالقمار، أو الربا، أو الغش، أو تنفيق السلع بالحلف الكاذب، فهذه الصفات الخبيثة والرديئة يبتعد عنها المسلم. قال: [قال: فهذه جملة ما يأمرون به، ويستسلمون إليه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول]. قوله: (ويستسلمون إليه) في المقالات: ويستعملونه، ولعلها أحسن. قال: [وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو المستعان]. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال الأشعري أيضاً في اختلاف أهل القبلة في العرش: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش]. هذا الكلام من الأشياء التي بقيت على الأشعري، فإن إثبات الجسم ونفيه ليس له أصل، وأهل السنة والجماعة لا ينفون هذه الأشياء ولا يثبتونها، فلا يقال: إن الله جسم، ولا يقال: إن الله ليس بجسم؛ لأنه لم يرد في النصوص. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه استوى على العرش، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ولا نتقدم بين يدي الله في القول]. عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1]. قال: [بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له وجهاً، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وأن له يدين، كما قال تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وأن له عينين، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]]. وهذا كله ثابت بالأدلة، ولكن الدليل على صفة العينين حديث الدجال: (إن ربكم ليس بأعور))، وهو استدل عليهما بآية: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] لكن معناها: بمرأى منا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]]. يعني: في الآية إثبات صفة المجيء لله تعالى. قال: [وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، كما جاء في الحديث]. أي: نزولاً يليق بجلاله وعظمته. قال: [ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب وجاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش، بمعنى: استولى، وذكر مقالات أخرى].

[11]

شرح الحموية لابن تيمية [11] أبو الحسن الأشعري رحمه الله رجع إلى مذهب السلف وصرح بكونه على عقيدة أحمد بن حنبل وألف في ذلك كتابه الإبانة في أصول الديانة، ومع هذا فالأشاعرة المنتسبون لأبي الحسن باقون على ما كان عليه قبل رجوعه إلى مذهب السلف، والعجيب أن بعض أئمتهم أثبتوا جميع الصفات ومنهم الباقلاني وأبو محمد الجويني.

موافقة الأشعري لمعتقد أحمد بن حنبل في الصفات

موافقة الأشعري لمعتقد أحمد بن حنبل في الصفات قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه الإبانة في أصول الديانة]. وهو من آخر كتبه، ألفه لما رجع إلى معتقد أهل السنة والجماعة. قال: [وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه، فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة]. ومعنى إبانة يعني: إظهار. قال رحمه الله تعالى: [فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد الله أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وعجل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلالة، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين]. يقصد الإمام أحمد إمام السنة والجماعة، وقوله: (الكامل) فيه مبالغة بالكمال، وإنما هذا وصف للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو الرئيس الكامل، يعني: الكمال البشري، فالكمال لله عز وجل، لكن الكمال البشري رئيسه وصاحبه هو الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام أحمد هو إمام السنة والجماعة، لكن ليس بمعصوم. قال: [فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم]. وكبير مفهم أي: فهمه الله تعالى. قال: [وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاءوا به من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً]. قوله: (فرد) ليس من أسماء الله، وإنما هو من باب الخبر. قال: [وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله مستو على عرشه، كما قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. وأن له وجهاً، كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]. وأن له يدين بلا كيف، كما قال تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وكما قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]. وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]. وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاً، وذكر نحواً مما ذكر في الفرق]. يعني: لا يجوز أن يقال: أسماء الله منفصلة أو صفات منفصلة، فالله تعالى بذاته وأسمائه وصفاته هو الخالق وغيره مخلوق. قال: [وذكر نحواً مما ذكر في الفرق إلى أن قال: ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان، وليس كل إسلام إيماناً]. الإسلام أوسع من الإيمان، فالعاصي يقال له: مسلم ولا يقال له: مؤمن بإطلاق، وإذا قلت: مؤمن وسكت فتكون قد أخطأت، وإذا قلت: ليس بمؤمن فقد أخطأت، بل لا بد من القيد، فتقول: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وفي النفي لا تقول: ليس بمؤمن، فإنك إن قلت: مؤمن بإطلاق وافقت المرجئة، وإذا قلت: ليس بمؤمن وافقت الخوارج والمعتزلة، بل تقول في النفي: ليس بصادق الإيمان، أو ليس بمؤمن حقاً. قال: [وندين بأن الله يقلب القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل]. وذلك كما جاء في الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، تقول له عائشة: (يا رسول الله تكثر أن تدعو بهذا فهل تخاف؟ قال: وما يؤمني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء؟)، فإذا أراد أن يقلب قلب عبد قلبه، هذا وهو سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وهو المعصوم عليه الصلاة والسلام. والأصابع لله ثابتة كما يليق بالله العظيم، وهي كسائر الصفات، جاء في الحديث: (إن الله يضع السموات على أصبع، والأرضين على أصبع، والماء والثرى على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن بيده ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟) فهناك خمسة أصابع ثابتة لله كما يليق بجلاله وعظمته. قال رحمه الله تعالى: [وأنه عز وجل يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، كما جاءت الرواية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: والإيمان قول وعمل، يزيد وينقص]. وهذا خلافاً للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان تصديق بالقلب فقط، فقوله: الإيمان قول وعمل، أي: قول اللسان وقول القلب، فاللسان بالنطق والقلب بالإقرار، والعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، والمرجئة يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، وإنما الإيمان هو تصديق القلب فقط. وقوله: (يزيد وينقص) أي: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والمرجئة يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، بل إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد.

قبول الأشعري لأحاديث الآحاد الصحيحة في العقائد

قبول الأشعري لأحاديث الآحاد الصحيحة في العقائد قال رحمه الله تعالى: [ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم]. يعني: نقبل الحديث إذا عدلت رواته واتصل سنده. يعني: خلافاً لأهل البدع الذين يقولون: أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد، أما نحن فنقول: إذا ثبت الحديث بسند صحيح وعدلت رواته واتصل سنده قبل في العقائد والأعمال والأخلاق وفي كل شيء، خلافاً للمعتزلة وأهل البدع القائلين بأن أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد، وهذا باطل، ويعللون قولهم بأن خبر الآحاد ظني الثبوت ظني الدلالة، وهذا كله مما أحدثه أهل البدع، فقولهم: ظني الثبوت، يعني: مشكوك في ثبوته، فلا يقبل، وإذا كان الدليل من القرآن أو كان متواتراً قالوا: هذا قطعي الثبوت، لكنه ظني الدلالة، فلا نجزم بأن قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] يفيد الاستواء، لجواز أن يكون معناها استولى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قال أهل الزيغ والتضليل. ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين، وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول: إن الله يجيء يوم القيامة، كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:22]. وأن الله يقرب من عباده كيف شاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]]. وهذا الأصل فيه أن الضمير يعود إلى الله، فقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق:16] يعني: أقرب إليه بالعلم والقدرة والإحاطة. والقول الثاني: أن المراد قرب الملائكة، والمعنى: قرب الملائكة من قلب العبد، بحيث تكون ذوات الملائكة أقرب إلى العبد من حبل الوريد، ولهذا قيده بالظرف، فقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق:16 - 17]. يعني: أقرب إليه من حبل الوريد وقت تلقي المتلقيان، ولو كان المراد قرب الرب لكان عام التعلق ولم يخصص ولم يقيد بوقت تلقي المتلقيان، هكذا ذهب إلى هذا القول شيخ الإسلام رحمه الله وجماعة. وآخرون من أهل العلم كمثل أبي الحسن الأشعري قالوا: إن القرب يعود إلى الله، والمراد قرب الله في العلم، مثل قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16]، فهو قرب بالعلم. وبعضهم قال: قرب بالعلم والقدرة والرؤية والإحاطة. قال رحمه الله تعالى: [وأن الله يقرب من عباده كيف شاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، وكما قال {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9]]. هذا القول بأن هذا يعود إلى الله، والراجح أنه يعود إلى جبريل، فقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا} [النجم:8] أي: جبريل {فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9]. وجاء في حديث الإسراء أنه يعود إلى الله لكن قال العلماء: إن هذا من أفراد شريك بن أبي نمر وله أوهام وأغلاط في حديث الإسراء، ولهذا لما روى مسلم في الصحيح حديث شريك قال: فقدم وأخر وزاد ونقص، وهذا أبو الحسن يقرر أن قوله: (ثم دنى فتدلى) يعود إلى الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره باباً باباً. ثم تكلم على أن الله يرى، واستدل على ذلك، ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك، ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال: لا أقول: إنه مخلوق ولا غير مخلوق]. هذا التوقف باطل، وهو أحد مذاهب أهل البدع إذ بعضهم يقول: القرآن مخلوق، وبعضهم يقول: أتوقف فلا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، وهذا مذهب الواقفة قال بعضهم: الواقفة شر من الجهمية، فعلى الإنسان أن يجزم بأن القرآن كلام الله، غير مخلوق، أما التوقف فبدعة.

بيان عقيدة الإمام الأشعري في الاستواء

بيان عقيدة الإمام الأشعري في الاستواء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش. إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: إن الله مستو على عرشه، كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقد قال الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، وقال تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} [غافر:36]]. كل هذا فيه إثبات العلو، إذ الصعود يكون من أسفل إلى أعلى، وفرعون لما أعلمه موسى بأن الله في العلو أمر وزيره هامان أن يبني صرحاً ليكذب موسى فيما ادعاه بزعمه من أن الله في العلو، وليس المراد أن فرعون أثبت العلو، إذ بعض الجهمية يغالط ويقول: إن فرعون أثبت العلو، ومن أثبت العلو فهو على مذهب فرعون، وهذا باطل، ففرعون منكر للعلو، وهو منكر للرب، ولذلك يقول: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] فكيف يثبت العلو؟! قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37]، كذب موسى في قوله: إن الله فوق السماوات، وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:16]، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]؛ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، فكل ما علا فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات، وليس إذا قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: جميع السماء، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات، ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السماوات فقال: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح:16]، فلم يرد أن القمر يملأهن وأنه فيهن جميعاً، ورأينا المسلمين جميعاً يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض].

رد الإمام الأشعري على منكري الاستواء

رد الإمام الأشعري على منكري الاستواء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم قال: فصل، وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية]. الحرورية هم الخوارج، سموا بذلك؛ لأنهم سكنوا بلدة تسمى حروراء. [إن معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، أنه استولى وملك وقهر، وأن الله عز وجل في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن الله قادر على كل شيء، والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم، فلو كان الله مستوياً على العرش، بمعنى: الاستيلاء، وهو عز وجل مستوياً على الأشياء كلها، لكان مستوياً على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار؛ لأنه قادر على الأشياء مستول عليها، وإذا كان قادراً على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش بمعنى الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، ووجب أن يكون معنى الاستواء يخص العرش دون الأشياء كلها. وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل. ثم قال: باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين. وذكر الآيات في ذلك، ورد على المتأولين بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته، مثل قوله: فإن سئلنا: أتقولون ذلك: لله يدان؟ قيل: نقول ذلك. وقد دل عليه قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10]، وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله مسح ظهر آدم بيده، واستخرج منه ذريته)، وقد جاء في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده)، وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي ويريد به النعمة]. والمؤلف رحمه الله قصده من هذا تبيين أن أهل السنة كلهم متفقون على إثبات الصفات لله عز وجل، وأن إنكار الجهمية والأشاعرة والمعتزلة في الصفات مخالفة لما أجمع عليه أهل السنة والجماعة والعلماء والأئمة. قال رحمه الله تعالى: [وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل: عملت كذا بيدي ويريد به النعمة، وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها، وما يجري مفهوماً من كلامها ومعقولاً في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي ويعني به النعمة، بطل أن يكون معنى قوله تعالى: (بيدي) النعمة، وذكر كلاماً طويلاً في تقرير هذا ونحوه].

إثبات الإمام الباقلاني للصفات

إثبات الإمام الباقلاني للصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم، وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري ليس فيهم مثله، لا قبله ولا بعده]. يعني: أن الباقلاني من الأشاعرة المعتدلين، ولهذا أثنى عليه المؤلف رحمه الله. قال: [وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده، قال في كتاب الإبانة تصنيفه: فإن قال: فما الدليل على أن]. الأشعري له كتاب الإبانة، والباقلاني له كتاب الإبانة أيضاً. قال: [فإن قال: فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قيل له: قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، فأثبت لنفسه وجهاً ويداً]. والأشاعرة المتأخرون لا يثبتون هذه الصفات لله وهو يثبتها الآن؛ لأنه ليس كالأشاعرة المتأخرين، بل هو من المعتدلين، ولذا تراه يثبت كثيراً من الصفات. قال: [فإن قال: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذا كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا، كما لا يجب إذا لم نعقل حياً عالماً قادراً إلا جسماً أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه، وكما لا يجب في كل شيء كان قائماً بذاته أن يكون جوهراً؛ لأنا وإياكم لا نجد قائماً بنفسه في شاهدنا إلا كذلك، وكذلك الجواب لهم إن قالوا: فيجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفاته عرضاً واعتلوا بالوجود. قال: فإن قال: تقولون: إنه في كل مكان؟ قيل له: معاذ الله! بل هو مستو على العرش، كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16]، قال: ولو كان في كل مكان، لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها، ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان، ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض]. يعني: يدعى من جهة الأرض ولا يدعى من جهة السماء لعلة كونه في كل مكان، نعوذ بالله. قال: [ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض، وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا، وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. وقال أيضاً في هذا الكتاب: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفاً بها، وهي: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا، وقال في كتاب التمهيد كلاماً أكثر من هذا]. كتاب التمهيد هو كتاب الباقلاني، وهناك التمهيد لـ ابن عبد البر وهذا غير ذاك. قال: [فقال في كتاب التمهيد كلاماً أكثر من هذا، لكن ليست النسخة حاضرة عندي، وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في هذا الباب]. هذا يدل على أن المؤلف ينقل حرفياً، ويدل على أن المؤلف رحمه الله كانت عنده كتب كثيرة من المتقدمين والمتأخرين ينقل منها. قال: [وقال في كتاب التمهيد كلاماً أكثر من هذا لكن ليست النسخة حاضرة عندي، وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في هذا الباب مثل هذا كثير لمن يطلبه، وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام]. لكن من باب الرد على الخصوم بأقوال أئمتهم وعلمائهم، وإلا فالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والعلماء كافية، لكن لا ينقل عن أهل الكلام، إلا لإقناع الخصوم من الأشاعرة، فيقال: هذا القاضي منكم، وهذا الأشعري تنتسبون إليه، فانظروا إلى كلامه، إذ كلامه يبطل ما تدعونه من إنكار الصفات وتأويلها.

مخالفة متأخري الأشاعرة لأئمتهم المتقدمين

مخالفة متأخري الأشاعرة لأئمتهم المتقدمين قال: [وملاك الأمر: أن يهب الله للعبد حكمة وإيماناً بحيث يكون له عقل ودين حتى يفهم ويدين]. ومن كان كذلك تمت النعمة عليه. قال: [وملاك الأمر: أن يهب الله للعبد حكمة وإيماناً بحيث يكون له عقل ودين؛ حتى يفهم ويدين، ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء، ولكن كثيراً من الناس قد صار منتسباً إلى بعض طوائف المتكلمين ومحسن للظن بهم دون غيرهم، ومتوهماً أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم، فلو أوتي بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم]. ولهذا أكثر المؤلف رحمه الله من النقول عنهم للرد على الخصوم بأقوال أئمتهم وأتباعهم. قال: [ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم]. يعني: مثل الأشاعرة الآن، فهم مخالفون لأتباعهم، فهذا القاضي الباقلاني وأبو الحسن الأشعري وهذه أقوالهم، والأشاعرة يخالفونهم. قال: [ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم، فلو أنهم أخذوا بالهدى الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى، ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة ثم لا يستمسك بما جاءت به من الحق ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91]، فإن اليهود قالوا: لا نؤمن إلا بما أنزل الله علينا، قال الله لهم: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91] بما أنزل عليكم]. أي: أن هؤلاء يقولون: لا نقبل إلا أقوال أئمتنا، ومع ذلك لا يقبلون الحق الذي مع أئمتهم. فهذا الأشعري أثبت الوجه واليدين، فلماذا تنكرونها؟ ففيكم شبه من اليهود، فإن اليهود يقولون: لا نقبل إلا ما أنزل علينا، ومع ذلك خلفوا ما أنزل عليهم، وأنتم تقولون: لا نقبل إلا أقوال أئمتنا، وهذه أقوال القاضي والأشعري قد أثبتت اليد والوجه وغيرها وأنتم لم تثبتوا شيئاً، فلم لا تقولون الحق الذي مع أئمتكم؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يقول سبحانه: لا لما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون، ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون، ولكن إنما تتبعون أهواءكم، فهذا حال من لم يتبع الحق لا من طائفته ولا من غيرهم، مع كونه يتعصب لطائفة دون طائفة بلا برهان من الله ولا بيان].

بيان رأي الجويني في آيات الصفات

بيان رأي الجويني في آيات الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتاب الرسالة النظامية: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب]. يعني: ظواهر النصوص وآيات الكتاب كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وقوله تعالى: (يحبهم ويحبونه)، هل تؤول أو لا تؤول؟ وأبو المعالي الجويني من متأخري الأشاعرة، وهو الذي تكلم في مسألة الاستواء وقرر نفي استواء الرب على عرشه بين تلاميذه، حيث يقول: إن الرب كان قبل أن يخلق العرش وهو الآن على ما كان، وقصده بذلك إنكار الاستواء، فلما أكثر من هذا قام إليه أحد تلاميذه وقال: يا أستاذ! دعنا من هذا الكلام، لكن كيف ندفع هذه الضرورة على المسلم؟ ما قال أحد قط: يا الله! إلا اتجه إلى العلو وجهه وقال: حيرني الهمداني حيرني الهمداني والهمداني هذا هو من تلاميذه. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال في كتاب الرسالة النظامية: اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب]. وهؤلاء هم الأشاعرة والمعتزلة والجهمية، أما أهل السنة فلم يؤولونها، بل أجروها على ظاهرها، وأمروها كما جاءت، كما قال الإمام أحمد رحمه لله. قال: [فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب]. وهذا غلط، فإن أئمة السلف يفوضون الكيفية ولا يفوضون المعاني. أما مذهب المفوضة فقال بعض العلماء عنهم: المفوضة أشر من الجهمية، فالمفوضة يقولون: لا نعرف المعنى، بل هي حروف تجري على اللسان ولا يعرف معناها، وهذا غلط، فإن الله تعالى أمر بتدبر القرآن، فقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:82] وقال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، ولم يقل: لا تفسروها ولا تدبروها فإنها غير معلومة المعنى، بل قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، فقوله ذاك إنما قاله ظناً منه أن السلف يفوضون المعنى، مثل ما قال النووي رحمه الله في صحيح مسلم: مذهب الخلف التأويل، ومذهب السلف تفويض المعنى، وهذا غلط، إذ ليس من مذهب أهل السنة والجماعة تفويض المعنى، بل عندهم تفويض الكيفية، والمعنى معلوم كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم -أي: في اللغة العربية- والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب. قال: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة، والدليل السمعي القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها]. شيخ الإسلام ينقل هذه النصوص ليبين أن مذهب السلف وأهل السنة والجماعة هو إثبات الصفات وتفويض الكيفية، ونقل الشيخ كلام أبي المعالي ولم يرد عليه، فيحمل كلام أبي المعالي في تفويض المعنى على أن المقصود معنى الكيفية، لكن المعروف من أبي المعالي غير ذلك، ولهذا فهذا إشكال من نقل الشيخ رحمه الله هذا الكلام ضمن نقولات العلماء في إثبات مذهب السلف. قال: [وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الله عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات، ويكل معناها إلى الرب، فليجر آية الاستواء والمجيء، وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]، وما صح من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا].

نقل الصواب من الآخرين ليس قبولا بكل أقوالهم

نقل الصواب من الآخرين ليس قبولاً بكل أقوالهم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قلت: وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره]. يعني: هذا الكلام تعقيب من المؤلف على جميع النصوص لا خاصاً بالنقل هذا، فيقول: نقلنا عنهم؛ لنبين أن هذا مذهب السلف، لكن في بعض النقول التي ننقلها عنهم أشياء لا نوافقهم عليها، فمقصود المؤلف رحمه الله النقل عن السلف في أنهم يجرون الصفات على ظاهر الكتاب. أما قوله: نفوض المعنى، فهذا ليس بصحيح، فالمعنى لا يفوض، وهذا لا يقول به المؤلف رحمه الله، لكن قصده من النقل عن أبي المعالي الجويني هو قوله: أن السلف لا يتعرضون للتأويل، بل يجرونها على ظاهرها، ولا يلزم من هذا أنهم يفوضون المعنى، بل هذا من الأغلاط عليهم. ويقول الشيخ: ليس كل من نقلنا عنه نوافقه في كل ما يقول؛ لأن الاستفادة من نقوله لكلام العلماء، أما ما يعتقده فلا نوافقه في كل ما يقول. وقوله: (وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره. في نسخة: (نقول بجميع ما يقوله) الأولى بالنون والثانية بالياء، وهي الصواب. قال: [وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله من المتكلمين وغيرهم نقول بجميع ما يقوله في هذا الباب وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به]. أي: من تكلم بكلام الحق قبلناه منه ورددنا الباطل الذي معه؛ لأن الحق يقبل ممن جاء به. فإذا تكلم أبو المعالي الجويني بكلام الحق قبلنا منه ورددنا الباطل الذي معه. قال: [كان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في سننه: اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافراً أو قال: فاجراً، واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول الحق؟ قال: إن على الحق نوراً. أو كلاماً هذا معناه]. هذا الأثر في سنن أبي داود من كتاب السنة حيث قال: باب لزوم السنة. عن ابن شهاب: أن أبا إدريس الخولاني أخبره: أن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل أخبره قال: كان لا يجلس مجلساً للذكر حين يجلس إلا قال: الله حكم قسط، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يوماً: إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال، ويفتح فيها القرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت لـ معاذ: ما يدريني رحمك الله إن كان الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه؟! ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله أن يراجع، وتلق الحق إذا سمعته، فإن على الحق نوراً. وأخرجه الحاكم في مستدركه مع اختلاف يسير في الألفاظ.

سبيل النجاة في باب الصفات

سبيل النجاة في باب الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال: فأما تقرير ذلك بالدليل وإماطة ما يعرض من الشبه وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرد به من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه، فما تتسع له هذه الفتوى. وقد كتبت شيئاً من ذلك قبل هذا، وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا، وربما أكتب إن شاء الله في ذلك ما يحصل المقصود به].

[12]

شرح الحموية لابن تيمية [12] لقد وردت النصوص الكثيرة الصريحة التي تدل بما لا يدع مجالاً للشك أن الله عالٍ علواً يليق بجلال قدره وعظمته، وأنه مع الخلق بمعية خاصة وعامة بعلمه، ومعيته جل في علاه لا يلزم منها مخالطة ومماسة ومحاذاة، وهذا ما يثبته النص الصريح، واللسان العربي الفصيح، وهو سبحانه على العرش استوى، فسبحان من علا فارتفع، وعز فامتنع

نصوص المعية لا تنافي نصوص العلو والفوقية

نصوص المعية لا تنافي نصوص العلو والفوقية قال المصنف رحمه الله تعالى: [وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم]. وما يدل على أن الكتاب والسنة فيهما الكفاية والهدى والنور قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] وقوله: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منهما كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته. ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً البتة، مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه في الظاهر قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ونحو ذلك]. أي: أن نصوص المعية ونصوص العلو والفوقية لا يتنافيان ولا يتناقضان، فهو سبحانه وتعالى فوق العرش، وهو مع عباده بعلمه وقدرته وإحاطته، ومع المؤمنين بنصره وتأييده، فلا منافاة؛ لأن المعية ليس معناها: الاختلاط والامتزاج، والمعية لا تقتضي المماسة والمحاذاة، وإنما هي لمطلق المصاحبة، فالمعية معناها المصاحبة، وعليه فيصح القول بأن الله تعالى فوق العرش وهو مع عباده. تقول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا والنجم معنا أي: وهو فوقهم، وليس هناك اختلاط ولا امتزاج ولا محاذاة ولا مماسة. ويقال: فلان زوجته معه، وقد تكون في المشرق وهو في المغرب، والمقصود: أنها في عصمته، فهذه المعية المقصودة وهي بمعنى المصاحبة، ولهذا يقول الأحناف: إذا تزوج مشرقي مغربية ولم يثبت أنهما التقيا، ثم أتت بولد في ستة أشهر يلحق الولد بأبيه، أي: بالنسب، في جواز أن يكون من أهل الخطوة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ونحو ذلك. فإن هذا غلط]. يعني: القول بأن هناك منافاة بين العلو والمعية غلط كبير؛ لأن المعية معناها: المصاحبة، والله تعالى فوق العرش. قال المصنف ر حمه الله تعالى: [وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة، كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه). وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين وشمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، أو النجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي بمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة].

اختلاف المعية باختلاف مواردها

اختلاف المعية باختلاف مواردها قال المصنف رحمه الله: [ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]، دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه]. ولا يعتبر هذا تأويل؛ لأن الله تعالى نص على هذا المعنى فقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} [الحديد:4]، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4]، فدل على معية علم، وكما في سورة المجادلة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]، فافتتح الآيات بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أنها معية العلم بنص الكتاب لا كما يزعمه البعض أن هذا تأويل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته، وكذلك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7]، إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7]، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد]. أي: أن قوله: (لا تحزن إن الله معنا) يدل على المعية الخاصة وهي معية نصر وتأييد وحفظ وكلاءة مع العلم والإحاطة، ويجتمع في المؤمن معيتان: معية عامة، وهي معية الإحاطة والعلم، ونفوذ القدرة والمشيئة، وهذه عامة للمؤمن والكافر، يقول تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7]، وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:108]، وقد تأتي المعية العامة في سياق المحاسبة والمجازاة والتخويف، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7]. أما المعية الخاصة فهي خاصة بالمؤمنين وتأتي في سياق المدح والثناء، كقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153]. وتجتمع المعيتان في حق المؤمن، فالله تعالى مع المؤمنين بنصره وتأييده، وهو معهم بعلمه وإحاطته، وينفرد الكافر بالمعية العامة فقط. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]، وكذلك قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]، هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن: النصر والتأييد. وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي، فيشرف عليه أبوه من فوق السقف ويقول: لا تخف أنا معك، أو أنا حاضر ونحو ذلك، ينبهه على المعية الموجبة بحكم الحال دفع المكروه، ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها، وربما صار مقتضاها من معناها، فتختلف باختلاف المواضع. فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها -وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب مختلطة بالخلق حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها]. لكن بعض أهل البدع فهموا فهماً معكوساً من عند أنفسهم، فهم لا يدل عليه دليل لا من العقل، ولا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من مدلولات المعية ودلالتها، فقالوا: إن معنى (وهو معكم) أي: مختلط بكم وهؤلاء هم الجهمية، حيث أبطلوا نصوص العلو والفوقية بنصوص المعية، وضربوا النصوص بعضها ببعض، وقالوا: معنى (وهو معكم) أي: أنه مشتق من مخلوقاته، وأن ذاته في كل مكان، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

أنواع قرب الله من عباده

أنواع قرب الله من عباده واختلف أهل العلم في أنواع القرب الوارد في الآيات فذكر الإمام شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يأتي إلا خاصاً، أما قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16]، فهذا قرب ذوات الملائكة من العبد، بدليل أنه قيدها بوقت تلقي الملكين، فقال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق:16 - 17] يعني: حين وقت تلقي الملكين، ولو كان المقصد قرب الرب لم يتقيد بوقت تلقي الملكين، وكذلك قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85]، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يرد القرب إلا خاصاً، وهو نوعان: قرب من الداعين بالإجابة، وقرب من العابدين بالإثابة. وقال آخرون: إن القرب يكون عاماً وخاصاً، وذهب إلى هذا بعض العلماء، وفسروا قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] يعني: أقرب إليه بالعلم. وقال بعضهم: بالقدرة. وقال بعضهم: بالقدرة والرؤية. ومن أمثلة تقسيم شيخ الإسلام: تقسيم القرب الخاص إلى نوعين: فقوله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، فالساجد قريب من الله، والنوع الثاني: القرب من الداعي بالإجابة، كقوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]، فلم يقل: قريب من كل أحد، ولكن قريب لإجابة الداعي، ومثله حديث أبي موسى الأشعري في الصحيح لما قال: (كنا في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إن الذي تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، قوله: (إن الذين تدعونه سميع قريب) أي: قريب من الداعي، ومثل قوله تعالى على لسان نبي الله صالح: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61] يعني: قريب لإجابة الداعي. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونظيرها من بعض الوجوه الربوبية والعبودية، فإنهما وإن اشتركتا في أصل الربوبية والتعبيد، فلما قال: {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122]، كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره: فقد ربه ورباه ربوبية وتربية أكمل من غيره].

أقسام الألفاظ باعتبار غيرها

أقسام الألفاظ باعتبار غيرها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] و {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء:1]، فإن العبد تارة يعني به المعبد فيعم الخلق، كما في قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]]. العبد يراد به العبودية العامة والعبودية الخاصة، فالعبودية العامة هي أن كل الناس عبيد لله ومعبدون مربوبون مقهورون مذللون، تنفذ فيهم قدرة الله، مؤمنهم وكافرهم، أما العبودية الخاصة فهي خاصة بالمؤمن الذي يعبد الله باختياره. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتارة يعنى به العابد فيخص، ثم يختلفون: فمن كان أعبد علماً وحالاً كانت عبوديته أكمل، فكانت الإضافة في حقه أكمل مع أنها حقيقة في جميع المواضع، ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشكِكة لتشكيك المستمع فيها]. الألفاظ المشكِكة: هي أن تكون الألفاظ متفقة المعنى، لكن المعنى متفاضل، مثل اتفاق زيد وعمرو في أن كلاً منهما إنسان، لكن زيد يزيد عن عمرو في بعض الخواص الإنسانية. فإن كان المعنى متفق في الشيئين يقال له: مترادف، وإن كانا متفاضلين يقال: مشكِك، وإن كان المعنى مختلف عن الآخر يقال: مشترك. فالمشترك: هو أن يتفقا في اللفظ ويختلفا في المعنى، مثل العين، فإنها تطلق على العين الباصرة، وتطلق على عين الذهب، وتطلق على الجاسوس، وكلها بلفظ واحد والمعنى مختلف. ومثال المترادف: قام ووقف، فاللفظان مختلفان والمعنى واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشككة لتشكيك المستمع فيها، هل هي من قبل الأسماء المتواطئة، أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط؟]. يعني: يشكك السامع، هل هي من قبيل الألفاظ المتواطئة المتفقة في المعنى، أو من قبيل المتفقة في اللفظ دون المعنى؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة]. وهي متفقة في المعنى مثل الربوبية، قال تعالى: {عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6]، فالعبودية يتفق فيها المؤمنون ولكنهم يتفاوتون فيها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة، إذ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدر المشترك، وإن كانت نوعاً مختصاً من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ، ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات كإضافة الربوبية مثلاً، وأن الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش، وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية، ولا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط، لا حقيقة ولا مجازاً علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف].

معنى كون الله في السماء

معنى كون الله في السماء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم من توهم أن كون الله في السماء، بمعنى: أن السماء تحيط به وتحويه، فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهمه من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن أحد]. قوله: (ما سمعنا أحداً يفهمه من اللفظ) أي: من أمثال آية: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وهذه الآية وأمثالها إن أريد بالسماء الطباق المبنية فـ (في) بمعنى على، ويكون المعنى: من على السماء، وإن أريد بـ (في) الظرفية فالسماء معناها: العلو، والأصل أن (في) للظرفية فيكون معنى قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: من في العلو، والله تعالى في أعلى العلو وهو ما فوق العرش. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم من توهم أن كون الله في السماء، بمعنى: أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه، وما سمعنا أحداً يفهمه من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن أحد، ولو سئل سائر المسلمين: هل تفهمون من قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم: إن الله في السماء أن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا، وإذا كان الأمر هكذا، فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله، بل عند المسلمين أن الله في السماء، وهو على العرش واحد، إذ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى: أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره ويحويه، وقد قال سبحانه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، وقال تعالى: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] بمعنى: على ونحو ذلك]. قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] أي: على جذوع النخل، ويقال: فلان في السطح، وإن كان أعلى شيء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو كلام عربي حقيقة لا مجازاً، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني الحروف، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة]. يعني: أن الحروف متفقة في أصل المعنى، وإن كان المعنى متفاوت.

مقابلة الشيء لا تنفي علوه

مقابلة الشيء لا تنفي علوه قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه، فلا يبصق قبل وجهه)، الحديث. حق على ظاهره، وهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه ينادي السماء وينادي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضاً قبل وجهه وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك، ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق]. أي: بيان أن من فوقك هو أمامك، فلا منافاة، فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإن الله قبل وجهه) لا ينافي أن الله في العلو، وأنه فوق المخلوقات كما يظن بعض الناس. ومثَّل المؤلف على ذلك بأن الإنسان إذا نادى السماء أو الشمس فهما فوقه وأمامه، والمقصود من هذا التقريب لا التشبيه، فالله تعالى لا يشابه أحداً من خلقه، لا الشمس ولا القمر ولا غيرها، وإنما المراد أن من كان فوقك فهو أمامك، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله قبل وجهه)، لا ينافي العلو، فهو فوق العرش، وهو قبل المصلي سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخلياً به، فقال له أبو رزين العقلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخلَياً به وهو آية من آيات الله، فالله أكبر) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم]. يصح مخلِياً على أنه اسم فاعل، ويصح مخلَياً بالفتح، ومخلِياً بالكسر هو الأقرب. يعني: إذا كان الإنسان يستطيع أن يرى القمر وحده، ويستطيع أن يراه وهو مع قوم دون أن يزاحمهم، فكذلك المؤمنون يرون ربهم يوم القيامة دون مزاحمة، وكذلك يرى الإنسان ربه مخلياً به كما أنه يرى القمر مخلياً به. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقال: (إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر) فشبه الرؤية بالرؤية، وإن لم يكن المرئي مشابهاً للمرئي]. يعني: ليس المراد أن الله تعالى يشابه القمر والشمس، فالله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ولكن المراد تشبيه الرؤية بالرؤية، يعني: كما أن الإنسان في الدنيا يرى الشمس والقمر رؤية واضحة، فكذلك سيرى الله يوم القيامة فهذا هو المراد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فشبه الرؤية بالرؤية وإن لم يكن المرئي مشابهاً للمرئي، فالمؤمنون إذا رأوا ربهم يوم القيامة وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه كما يرى الشمس والقمر ولا منافاة أصلاً ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد].

حكم القول: بأن ظاهر النصوص مراد أو القول بأنه غير مراد

حكم القول: بأن ظاهر النصوص مراد أو القول بأنه غير مراد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد]. وهذا الكلام مجمل يحتمل الحق ويحتمل الباطل. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا اللفظ مجمل، فإن قوله: ظاهرها غير مراد، يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين، مثل: أن يراد بكون الله قبل وجه المصلي أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه]. وهذا غير مراد فعلاً، بل هو باطل، فليس المراد من هذا أن الله مستقر في الجدار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد. ومن قال: إن مذهب السلف: أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى، لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا هو المحال ليس هو الأظهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس، فيكون القائل بذلك مصيباً بهذا الاعتبار معذوراً في هذا الإطلاق]. أي: من أجل هؤلاء الناس الذين يظنون أن هذا هو الظاهر، وإن كان هذا ليس هو الظاهر من النصوص، لكن هم فهموا هذا الفهم الخاطئ، فلما فهموا فهماً خاطئاً قال لهم: إن الظاهر غير مراد، فهو معذور في هذه الحالة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حقه لفظاً ومعنى. وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله الظاهر غير مراد عندهم أن المعاني التي ظهرت من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته لا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازاً ذهنياً أو جوازاً خارجياً غير مراد فقد أخطأ فيما نقله عن السلف أو تعمد الكذب، فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل لا نصاً ولا ظاهراً أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع وبصر ويد حقيقة]. يعني: إذا قال: الظاهر غير مراد، وقصد بالظاهر ما يليق بجلال الله وعظمته، وأنه فوق العرش، وأنه لا يماثل المخلوقين، فقوله هذا باطل، بل ظاهرها مراد، فالله سبحانه وتعالى متصف بالصفات التي تليق بجلاله وعظمته، وهو تعالى لا يماثل أحداً من مخلوقاته، وهو فوق العرش حقيقة، وهو مع عباده حقيقة، وليس المراد اختلاطه بالمخلوقات، وليس المراد بفوقيته واستوائه على العرش، مماثلة المخلوقين، وإنما ما يليق بجلال الله وعظمته هو المراد.

بيان ضلال من ينسب طريقة تأويل الصفات إلى السلف

بيان ضلال من ينسب طريقة تأويل الصفات إلى السلف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف -بمعنى: أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى- ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون؛ لجواز أن يراد غيره]. وهذا يعني: أن هناك مذاهب في صفات الله ذكر المؤلف منها: الأول: مذهب المفوضة، والثاني: مذهب المؤولة، وهذا هو الذي يذكره النووي وغيره في شرح صحيح مسلم بقوله: والعلماء لهم في هذا طريقتان: الطريقة الأولى: الإمساك والسكوت عن المعنى، يعني: تفويض المعنى إلى الله. والطريقة الثانية: طريقة الخلف، وهي: تأويل الصفات بمعانٍ تليق بالنصوص، فيقول: هذه طريقة السلف وهذه طريقة الخلف، وهذا في الحقيقة ليس مذهب السلف. فهو يقول: والعلماء لهم طريقتان: طريقة السلف وهي طريقة المفوضة الذين يفوضون المعاني، وطريقة الخلف وهي التأويل، وطريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وكل منهما مذهب باطل، بل طريقة الصحابة والتابعين هي إثبات المعاني، فمعاني النصوص والصفات معروفة، لكن الكيفية هي التي ليست معلومة لنا. فنعرف أن الاستواء معناه: الاستقرار والصعود والعلو والارتفاع، ونعرف أن العلم ضد الجهل، والسمع ضد الصمم، والحياة ضد الموت، فالمعاني معروفة، كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكثير من الشُرَّاح يذكرون هذين المذهبين، فيقولون: للعلماء مذهبان، ويذكرون مذهب المفوضة ومذهب المؤولة، ولا يذكرون مذهب السلف رضي الله عنهم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: (الظاهر غير مراد عندهم): أن المعاني التي ظهرت من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازاً ذهنياًَ أو جوازاً خارجياً غير مراد، فقد أخطأ فيما نقله عن السلف أو تعمد الكذب، فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل - لا نصاً ولا ظاهراً - أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة، وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف، بمعنى: أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها؛ لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق أن هؤلاء يعينون المراد بالتأويل]. هؤلاء هم الخلف المتأخرون الذين تأولوا صفاته سبحانه فقالوا: بأن المراد مثلاً بالمحبة: الإرادة، والمراد بالرحمة: النعمة، والمراد بالغضب: الانتقام، والمراد بالرضا: الثواب، فهم يعينون، والأولون أولئك قالوا: لا نعين. ففوضوا، وهؤلاء خصصوا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويقولون: الفرق أن هؤلاء يعينون المراد بالتأويل، وأولئك لا يعينون؛ لجواز أن يراد غيره. وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعاً، مثل: أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم - الذي لم نحك هنا عشره - علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك]. يقول المؤلف: إن ما ذكره من النقول الكثيرة التي ذكرها لا يصل إلى عشر ما نقل عن العلماء، فهناك نُقُول كثيرة لا حصر لها.

إثبات السلف للصفات ومعانيها وبعدهم عن التشبيه والتفويض

إثبات السلف للصفات ومعانيها وبعدهم عن التشبيه والتفويض قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل - لا نصاً ولا ظاهراً ولا بالقرائن - على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر، بل الذي رأيته أن كثيراً من كلامهم يدل - إما نصاً وإما ظاهراً - على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة، بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة، وما رأيت أحداً منهم نفاها، وإنما ينفون التشبيه وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه مع إنكارهم على من نفى الصفات، كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً. وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: جهمي معطل، وهذا كثير جداً في كلامهم]. يعني: أنه إذا غلا الرجل في نفي التشبيه أوصله هذا الغلو إلى نفي الصفات؛ فالمعطلة غالوا في التنزيه حتى نفوا الصفات، والمشبهة غالوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، وهذا باطل، والمذهب الحق بين هذين الباطلين هو إثبات الصفات من غير تشبيه، وتنزيه الرب عن مماثلة المخلوقات من غير نفي للصفات ولا تعطيل لها، فلا تغلوا في التنزيه حتى تصيروا إلى تعطيل الصفات، ولا تغلو في الإثبات حتى تشبهوا، بل إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل.

تسمية الجهمية والمعتزلة لمن أثبت شيئا من الصفات مشبها

تسمية الجهمية والمعتزلة لمن أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً؛ كذباً منهم وافتراءً]. أي: أن من أثبت الصفات قالوا: هذا مشبه؛ لأجل التنفير عنه، وهكذا من نهى عن دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام وعن الزيارة البدعية قالوا: هذا وهابي لا يحب الرسول؛ لأجل التنفير عنه، فالذي ينهى عن التعطيل يقولون: هذا لم ينزه الله جل وعلا، ومن أثبت الصفات فهو عند الجهمية والمعتزلة مشبه، وقصدهم من ذلك تنفير الناس من إثبات الصفات، فالذي يثبت ما أثبته الله ورسوله يصير من المشبهة عندهم.

خطر عقيدة الجهمية وقدحهم في الأنبياء

خطر عقيدة الجهمية وقدحهم في الأنبياء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك، حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية: ثلاثة من الأنبياء مشبهة: موسى حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف:155] وعيسى حيث قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ومحمد حيث قال: (ينزل ربنا)!]. فوصل بهم الحال إلى هذا الحد والعياذ بالله! فوصفوا الأنبياء بالتشبيه، فهذا ثمامة بن الأشرس قبحه الله من المعتزلة يقول: ثلاثة من الأنبياء مشبهة: موسى حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ} [الأعراف:155]، وعيسى حينما قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] فأثبت لله نفساً، ومحمد حين قال (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) فأثبت النزول وهو من صفات المخلوقين كما يدعون، ولهذا أكثر هؤلاء زنادقة، فقد تمنى الجهم بن صفوان أن هذه الآية لم تنزل، وهي قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وهذا يدل على نفاقهم وزندقتهم، ولذلك يكثر النفاق والزندقة في المعتزلة، نسأل الله السلامة والعافية. وثمامة بن الأشرس هو أبو معن النميري البصري من كبار المعتزلة بل من غلاتهم قبحه الله، وتروى عنه بعض الأقوال الجسيمة، كقوله: المقلدون من أهل الكتاب وعبدة الأوثان لا يدخلون النار، بل يصيرون تراباً، أما من مات مسلماً وهو مصرٌّ على كبيرته خلد في النار! ويقول إن أطفال المؤمنين يصيرون تراباً، إلى غير ذلك من الأقوال الشنيعة. وقال عنه ابن قتيبة: ثم نصير إلى ثمامة فنجده من رقة الدين، ونقص الإسلام، والاستهزاء به، وإرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف الله ويؤمن به، وقال عنه ابن حجر: ثمامة بن الأشرس من كبار المعتزلة ومن رءوس الضلالة، توفي سنة (213هـ). وهو معتزلي، ولكن المؤلف رحمه الله يسمي الجميع جهمية، ويقسمهم إلى الجهمية المحضة، وجهمية المعتزلة، وجهمية الأشاعرة، فكلهم جهمية عنده رحمه الله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وحتى إن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة]. والمؤلف يسميهم جهمية؛ لأنهم وافقوا الجهم في إنكار بقية الصفات؛ لأن أصل هذا المذهب لـ الجهم، فنفي الصفات أتى منه، لكن منهم من غلا في نفي الأسماء والصفات كـ الجهم، فمن أثبت الأسماء ونفى الصفات عنده من نوع التجهم، ومن أثبت سبع صفات وأنكر باقي الصفات فعنده نوع تجهم، وكل من أنكر شيئاً من الصفات ففيه نوع من التجهم، يعني: نوع من موافقة لـ الجهم في مذهبه.

نعت الفرق الضالة لأهل السنة بالنعوت الكاذبة والشنيعة

نعت الفرق الضالة لأهل السنة بالنعوت الكاذبة والشنيعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءاً سماه: (تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة) وذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذه الألقاب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يلقب أهل السنة بلقب افتراه، يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد، كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بألقاب افتروها، فالروافض تسميهم نواصب]. والروافض يكفرون الصحابة ويعبدون آل البيت، ويسمون أهل السنة نواصب، ويقولون: إنهم نصبوا العداوة لأهل البيت، وهم كذبة؛ فأهل السنة يتولون ويحبون أهل البيت والصحابة جميعاً، لكن لما كان أهل السنة يوالون الصحابة سموهم نواصب؛ لأنهم يقولون: لا ولاء إلا ببراء، وهذه قاعدة عندهم، فلا يتولى أحد آل البيت إلا بعد أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فمن لم يتبرأ منهما سموه ناصبياً، وأهل السنة لا يتبرءون منهما بل يوالون الصحابة وأهل البيت، وهذه الآن طريقة الروافض، فكل طائفة الآن ترمي أهل السنة بلقب، فالنفاة من المعطلة يسمون أهل السنة مشبهة؛ لأنهم يثبتون الأسماء والصفات، والروافض يسمون أهل السنة نواصب؛ لأنهم نصبوا العداوة لأهل البيت كما يزعمون؛ ولأنهم والوا الصحابة، فالذي يوالي الصحابة لا بد أن يعادي أهل البيت عندهم، والذي يوالي أهل البيت ويوالي الصحابة فهو ناصبي ولا ينتفي عنه هذا الوصف إلا إذا تبرأ من الصحابة، وأهل السنة يقولون: نتولى هؤلاء جميعاً، فنحب أهل البيت ونحب الصحابة جميعاً. فمن طريقة أهل البدع أنهم يرمون أهل السنة، وينبزونهم بالعيوب والألقاب تنفيراً للناس عن الحق والعياذ بالله! والروافض فئة واحدة، لكن الشيعة طبقات كثيرة قد تصل إلى أربع وعشرين طبقة منهم الكافر ومنهم المؤمن على حسب الاعتقاد، فالزيدية مثلاً يفضلون علياً على عثمان، وهم مبتدعة، لكن الروافض يسبون الصحابة ويكفرونهم، ويعبدون آل البيت، ويدعون أن القرآن ناقص، وهناك طائفة من طوائف الرافضة وهم أشدهم وأخطرهم وهم المخطئة الذين يخطئون جبريل ويقولون: إنه أخطأ في الرسالة فأوصلها إلى محمد وقد أرسله الله إلى علي، وهؤلاء كفرة، وهم غلاة النصيرية الذين يعبدون آل البيت ويؤلهون علياً ويقولون: إن الله حل في علي، والعياذ بالله. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقدرية يسمونهم مجبرة]. القدرية هم الذين ينفون القدر، ويقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، وهؤلاء يسمون أهل السنة مجبرة، أي: أنهم يقولون: إن العبد مجبور، فكيف يفعل شيئاً مجبوراً عليه ثم يعذبه الله عليه؟ قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمرجئة تسميهم شكاكاً]. المرجئة هم الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق والأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، ويقولون: إن الذي يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، ويستثني في إيمانه فهو شاك؛ لأنه لا يجزم بأن عنده إيماناً كاملاً، فيسمونهم الشكاك، وأهل السنة يقولون: إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، والإنسان حينما قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فإنه لا يزكي نفسه؛ ولأن شعب الإيمان متعددة، وهو لا يجزم بأنه أدى ما عليه، فيقول: إن شاء الله، يعني: إن شاء الله أني أديت ما أوجب الله علي، أما هم فيقولون: إن الإيمان هو: التصديق بالقلب فقط، وأما الأعمال فليست من الإيمان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والجهمية تسميهم مشبهة، وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاءً وغثراً، إلى أمثال ذلك]. الحشوية: مأخوذة من الحشو، وحشو الكلام هو: الفضل الذي لا يعتمد عليه، فيعنون بذلك أن كلام أهل السنة لا قيمة له، وحشو الناس أرذلهم. معنى نوابت: أي الصغار، يقال: نبتت لهم نابتة إذا نشأ لهم نشء صغار. والغثاء في الأصل: ما يحتمله السيل من القماش والقمائم، ويشبه به كل شيء رديء من الناس وغيرهم، وغثراً: الغثرة الجماعة الجهال، يقال: رجل أغثر إذا كان جاهلاً، وقد قال عثمان رضي الله عنه حينما دخل عليه القوم ليقتلوه: إن هؤلاء رعاع غثرة. أي: جهالاً، وفي أثر أويس: (أكون في غثراء الناس) إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم، فيعنون أن أهل السنة جهالاً لا يعرفون المعاني، ولهذا تجدهم يأخذون بالظاهر فقط لجهلهم.

وسطية منهج أهل السنة والجماعة

وسطية منهج أهل السنة والجماعة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنوناً وتارة شاعراً وتارة كاهناً وتارة مفترياً، قالوا: فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة؛ فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقاداً واقتصاداً وقولاً وعملاً]. قوله: (اقتصاداً) يعني: توسطاً من غير غلو في الأمور، بخلاف غيرهم من أهل البدع؛ لأنهم بين غالٍ وجافٍ، فالمعطلة غلوا حتى نفوا الصفات، والمشبهة جفوا حتى شبهوا صفات الله بصفات المخلوقين، وأهل السنة توسطوا واقتصدوا فأثبتوا الصفات من غير مماثلة المخلوقات، ونزهوا من غير تعطيل للصفات، فالتوسط والاقتصاد هو مذهب أهل السنة والجماعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فكما أن المنحرفين عنه يسمونه بأسماء مذمومة مكذوبة - وإن اعتقدوا صدقها بناءً على عقيدتهم الفاسدة - فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات باطناً وظاهراً. وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن، والذين وافقوه ظاهراً وباطناً بحسب الإمكان، فلا بد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصاً يذمونهم به]. يعني: وافقوا السنة ببواطنهم وعجزوا عن العمل بها في الظاهر.

قاعدة عقيدة الولاء والبراء عند الروافض

قاعدة عقيدة الولاء والبراء عند الروافض قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويسمونهم بأسماء مكذوبة وإن اعتقدوا صدقها كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر وعمر فقد أبغض علياً]. وهذه قاعدة عندهم: لا ولاء إلا ببراء، فلا تتولى علياً إلا إذا تبرأت من أبي بكر وعمر، ولهذا يقول بعض السلف: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، أي: الشهادة لمعين بالجنة ممن لم يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بدعة، والبراءة بدعة، يعني: البراءة من أبي بكر وعمر فقولهم هذا بدعة وباطل، وأهل السنة يتولون الجميع، فيتولون أبا بكر وعمر، ويتولون الصحابة، ويتولون أهل البيت جميعاً، فيوالونهم كلهم ويحبونهم ويترضون عنهم وينزلونهم منازلهم التي أنزلهم الله تعالى إياها بالعدل والإنصاف لا بالهوى والتعصب، وهذا هو الحق، وهذا هو طريق الصحابة والتابعين وأتباعهم والأئمة والعلماء. والرافضة حجتهم في هذا النفاق الذي وقر في قلوبهم، نسأل الله السلامة والعافية. والوَلاية بالفتح تعني: المحبة، والوِلاية بالكسر تعني: الإمارة، هذا هو الأفصح، وقد يطلق أحدهما على الآخر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر وعمر فقد أبغض علياً؛ لأنه لا ولاية لـ علي إلا بالبراءة منهما، ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبياً بناءً على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها، وهو الغالب]. وهذه ملازمة باطلة، وهم يلقنونهم إياها منذ الصغر، فينشأ الرافضي وهو لا يشك في هذا أبداً، فعندهم أن كل من أحب أبا بكر وعمر لا بد أن يبغض علياً فينشئون على هذا، نسأل الله السلامة والعافية. وهم لجهلهم يعتقدون أنها صحيحة، والغالب على رؤسائهم وكبارهم أنهم يعلمون أن اعتقادهم هذا باطل ولكنه العناد.

بيان فساد عقيدة القدرية

بيان فساد عقيدة القدرية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات وخلق أفعال العباد فقد سلب العباد القدرة والاختيار، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة]. القدرية هم مجوس هذه الأمة، وهم يرون أن العباد خالقون لأفعالهم، وأحدهم يقول: من اعتقد أن الله خلق العباد وخلق أفعالهم فقد سلب العباد قدرتهم واختيارهم، أي: قال بالجبر فمن قال: إن الله خلق أفعال العباد فقد قال بأنهم مجبورون، وهذا باطل؛ لأنه لا ملازمة، فالمؤمنون وأهل السنة والجماعة يقولون: إن الله تعالى خالق كل شيء، كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16] فخلق العباد وخلق أفعالهم، ولكن الله سبحانه أعطى العباد مشيئة وقدرة واختياراً، وجعل مشيئتهم تابعة لمشيئته، فالإنسان يعلم من نفسه أنه قادر يستطيع أن يأكل ويستطيع أن يمتنع عن الأكل ولا أحد يمنعه، ولكنك إذا شئت شيئاً فلا بد أن تكون مشيئتك تابعة لمشيئة الله كما قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].

بيان فساد عقيدة الجهمية والمعتزلة

بيان فساد عقيدة الجهمية والمعتزلة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكقول الجهمي: من قال: إن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور، وأنه جسم مركب، وأنه مشابه لخلقه]. هذه ملازمة باطلة، فالجهمي يقول: من قال: إن الله فوق العرش فقد تنقص الرب بأن جعله جسماً محدوداً ومتحيزاً، فلا تقل: إن الله فوق العرش؛ لأنك إذا قلت: إنه فوق العرش فقد جعلته جسماً؛ لأنه لا يمكن أن يكون شيء فوق شيء إلا أن يكون جسماً، وإذا كان جسماً صار مركباً من أجزاء، وهذا باطل، وكل جسم مركب فهو مشابه للمخلوقات، والأجسام متماثلة، وقد جعلته أيضاً محصوراً في جهة واحدة، وهذا تنقص لله؛ لأن هذا المحصور هو المخلوق الضعيف الذي يكون في جهة واحدة! أما هو فهو ذاهب في جميع الجهات! ونقول: إن هذا من أبطل الباطل، فالعرش هو سقف المخلوقات ونهايتها، والله تعالى فوق العرش، وهو سبحانه ليس كالمخلوقات، فهو أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء سبحانه وتعالى، وليس مماثلاً للمخلوقات، فهذه الملازمة باطلة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكقول الجهمية والمعتزلة: من قال: إن لله علماً وقدرة فقد زعم أنه جسم مركب وهو مشبه؛ لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز، وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد، ومن قال ذلك فهو مشبه؛ لأن الأجسام متماثلة]. عند المعتزلة والجهمية وغيرهم أن من أثبت الصفات لله فهو مشبه؛ لأن الصفات تكون أعراضاً، والعرض لا يقوم إلا بجسم، والأجسام لا بد أن تكون مركبة ومتشابهة، فيلزم من إثبات الصفات أن يكون الرب مشابهاً للمخلوقات؛ لأن الصفات عرض، والعرض لا يقوم إلا بجوهر أو بجسم، والجوهر أو الجسم هو: الشيء القائم بنفسه مثل الجدار، والصفات مثل البياض في الجدار وهي الأعراض، فالبياض لا يمكن أن يقوم وحده، بل لا يقوم إلا بجسم، والأجسام يشبه بعضها بعضاً، فلو كان الله متصفاً بصفات لكان جسماً، ولو كان جسماً لكان مشابهاً للمخلوقات، والله ليس كمثله شيء، إذاً ليس له صفات، هكذا يقولون! وهذا من أبطل الباطل. فنقول: من قال لكم: إنه يلزم من الصفات التشبيه؟! فالله تعالى لا يماثل أحداً من المخلوقات، بل له صفات تخصه، والمخلوق له صفات تخصه، فهذه الملازمة إنما هي في المخلوقات، فالمخلوقات متصفة بصفات لا شك أنها أجسام وذوات يشبه بعضها بعضاً، لكن الله تعالى لا يماثل أحداً من مخلوقاته، فالمخلوق له ذات تخصه وله صفات تخصه، والخالق له ذات تخصه وله صفات تخصه. والجوهر الفرد هو: الذي لا يقبل الانقسام، وأهل البدع بنوا دينهم على الجوهر الفرد، ولم يثبتوا وجود الله إلا من جهة الجوهر الفرد، فدينهم مبني على الجوهر الفرد، والجوهر الفرد من أهل النظر من قال بأنه لا وجود له كما ذكر المؤلف رحمه الله، وهم يقولون بأن الجوهر الفرد هو: الجسم الذي لا يقبل الانقسام، إذ كل شيء الآن من الممكن أن يتجزأ حتى يصل إلى جسم صغير، وقد دلت النصوص على أن جسم الإنسان يبلى، وأنه لا يبقى منه إلا عجب الذنب، وقد ذكر شيخ الإسلام عن بعض العقلاء بأنه لا وجود لشيء اسمه الجوهر الفرد وهم مختلفون في هذا.

تفويض شأن من طعن في أهل السنة إلى الله

تفويض شأن من طعن في أهل السنة إلى الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة -بناءً على عقيدته التي هم مخالفون له فيها- فهو وربه والله من ورائه بالمرصاد، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله]. يعني: أن من قال: إن من أثبت الصفات مشبه، ومن قال: إن من أثبت القدر فهو من المجبرة، يعني بذلك أهل السنة فهو وربه، يعني: أن الله سيحاسبه وهذا تهديد له، فهؤلاء الذين يلبسون على الناس وينبزون أهل السنة بهذه الألقاب الله تعالى رقيب عليهم، وسيجازيهم يوم القيامة، وسيوقفهم بين يديه سبحانه، فالواجب على العاقل أن يتأمل وينظر في هذه الأقوال المنحرفة ولا يسعى وراءها، بل يتأمل وينظر بعين بصيرته، ولا ينظر في أقوال أهل البدع. قوله: (ومن حكا هذه المقالات) أي: سمى أهل السنة بالمشبهة أو الحشوية أو النوابت أو النواصب، فالله وراءه بالمرصاد ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وهذا تهديد ووعيد.

[13]

شرح الحموية لابن تيمية [13] انقسم الناس في صفات الله عز وجل إلى عدة أقسام، والصواب ما كان على منهج أهل السنة والجماعة والسلف من قبلهم، وأهل الكلام والفلاسفة والمعطلة والمشبهة ممن أضلهم الله بسبب أهوائهم الضالة، وعقولهم الفاسدة.

أقسام أهل القبلة في آيات الصفات

أقسام أهل القبلة في آيات الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة: قسمان يقولان: تجُرى على ظواهرها. وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها. وقسمان يسكتان]. قوله: (يسكتان) أي: يفوضون، وكل قسم ينقسم إلى أقسام سيأتي ذكرها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أما الأولون فقسمان: أحدهما: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليه توجه الرد بالحق]. هذا القسم الأول: الذي يقول أصاحبه: تجرى على ظاهرها، ومقصودهم بظاهرها: أن صفات الله مثل صفات المخلوقين: له سمع كسمع المخلوقين، وبصر كبصر المخلوقين، واستواء كاستوائهم، فهؤلاء مشبهة. والأدلة على بطلان قول المشبهة كثيرة منها قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65] وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:74] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] فكل هذه النصوص دالة على بطلان هذا القول. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله، كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير، والرب والإله، والموجود والذات، ونحو ذلك على ظاهرها اللائق بجلال الله]. وهؤلاء أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يجرونها على ظاهرها اللائق بجلال الله وعظمته، فالذين يقولون: تجرى على ظاهرها قسمان: قسم يفسرون الظاهر بصفات المخلوقين، وهؤلاء هم المشبهة. وقسم يفسرون الظاهر بما يليق بجلال الله وعظمته، ولا نعلم الكيفية، وهؤلاء هم أهل الحق وأهل السنة والجماعة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به]. الجوهر المحدث: هو الجسم الذي أحدثه الله وخلقه، وقوله: (وإما عرض قائم به) أي: صفة قائمة بالجسم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالعلم والقدرة، والكلام والمشيئة، والرحمة والرضا، والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه أجسام]. أي: أعراض قائمة بجسمه، فكون الإنسان يغضب ويرضى ويقوم ويقعد ويتحرك هذه صفات قائمة في جسمه، والجسم حادث خلقه الله بعد أن لم يكن، هذا بالنسبة للمخلوق. أما الخالق فلا يقاس عليه، ولا يقال: إن صفاته أعراض، بل هي صفات تليق بجلاله وعظمته وليست كصفات المخلوقين، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهو سبحانه واجب الوجود لذاته قال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4] سبحانه وتعالى، أما المخلوق فقد خلقه الله بعد أن كان عدماً، والصفات والأعراض قائمة به. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علماً وقدرة، وكلاماً ومشيئة -وإن لم يكن ذلك عرضاً- يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه صفاتٍ ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين]. قوله: (عامة أهل الإثبات) يدخل في ذلك أهل السنة، ويدخل في ذلك الأشاعرة في إثباتهم للصفات السبع: العلم والقدرة والكلام والإرادة والحياة والسمع والبصر. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح]. يعني: ليست أجسام يجوز عليه، فكلمة (يجوز) منفية، يعني: أن النفي منصب على (أجسام ويجوز) جميعاً، والمعنى: ليست أجساماً موصوفة بأنه يجوز عليها.

بيان كون القول في الصفات كالقول في الذات

بيان كون القول في الصفات كالقول في الذات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات]. هناك قاعدة تقول: القول في الصفات كالقول في الذات، فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات فله صفات لا تشبه الصفات. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فمن قال: لا أعقل علماً ويداً إلا من جنس العلم واليد المعهودين، قيل له: فكيف تعقل ذاتاً من غير جنس من غير جنس ذوات المخلوقين؟]. يعني: إذا كنت تثبت لله ذاتاً لا تشبه الذوات وتعقل هذا، فأثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقين واعقل هذا؛ فإن الباب واحد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه]. قوله: (فقد ضل في عقله ودينه) أما في دينه فلأنه خالف الكتاب والسنة، وأما في عقله فلأنه لو تأمل بعقله وكان عقله سليماً لعلم أن الخالق لا يشابه المخلوق، فهو مصاب في عقله ودينه، ولا حول ولا قوة إلا بالله! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى سماء الدنيا؟ أو كيف يداه؟ ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال لك: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم بكيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته؟]. أي: كيف لم تعلم كيفية الصفة ولا تعلم كيفية الذات؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك. بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء)]. يعني: أن الجنة فيها لبن وفيها خمر وفيها عسل وفيها ذهب وفضة، وفيها نساء وفيها حور لكن الكنه والكيفية على ما هي عليه لا نعلمها، وليست سمائها ما نعلم في الدنيا فإذا كانت المخلوقات الآن بعضها لا نعرف كيفيتها فكيف نعلم كيفية صفات المخلوقات التي في الجنة؟! ففي الجنة لبن، لكنه ليس مثل لبن الدنيا في الكيفية والطعم والحقيقة وإن كنا نعلم أصل المعنى، كذلك خمر الجنة ليس كخمر الدنيا، وأنهار العسل المصفى كذلك وهكذا، بل الروح التي بين جنبي الإنسان لا يعلم كيفيتها ولا كنهها ولا حقيقتها على ما هي عليه، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] فإن كانت الروح التي بين جنبيك لا تعلم كنهها ولا كيفيتها فكيف يمكنك أن تعلم كيفية صفات الخالق وحقيقتها على ما هي عليه؟ فلا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقد أخبر الله أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله كذلك فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى]. إذا كان نعيم الجنة على ما هو عليه، يعني: إذا كان الإنسان لا يدرك الإنسان كيفية الجنة وكنهها فالخالق أولى وأولى ألا يُعلم كيفية صفاته وكنه ذاته سبحانه وتعالى.

الكلام في الروح وحقيقتها

الكلام في الروح وحقيقتها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى؟]. اضطرب أهل الكلام في الروح فمنهم من قال: إنها صفة من صفات بني آدم، ومنهم من قال: هي الحياة، ومنهم من قال: هي الدم، ومنهم من قال غير ذلك، فاضطربوا فيها كثيراً، وكما قال الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:85] فإذا كان الإنسان لا يعلم كيفيتها فكيف يمكن أن يعلم كنه صفات الله عز وجل وكيفيتها؟! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مع أنَّا نقطع بأن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعود إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة، لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم]. المقصود: القبض والإمساك، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} [الزمر:42] فتوصف القبض والإرسال والإمساك والتوفي، فالله تعالى يتوفى الأنفس، فكل هذه صفات لها، فدل على أنها ذات، لكن الله أعلم بكيفيتها. والمتفلسفة يقولون: الروح لا توصف بأي وصف، وأن الملائكة مخلوقات مجردة لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت، فيصفون الروح بأنها آلة مجردة لا وجود لها، وكذلك الملائكة، وهذا غلو، وبعضهم يزيد ويقول عن الروح: أنها هي نفس دم الإنسان، وهي نفس الحياة، وهذا قول على الله بلا علم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم، حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه، وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا ينفي أن تكون الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافق النصوص؛ فيكونون قد أخطئوا في اللفظ وأنى لهم بذلك؟]. يعني: أن كونها لا تماثل البدن لا ينفي أن تكون لها صفات تناسبها، لكن لا نعلمها، ولها كنه ولها حقيقة ولها صفات تناسبها، والنصوص وصفتها بالقبض والإمساك والإرسال، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى} [الزمر:42] وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا قبضت تبعها البصر) فهذه كلها تدل على أن الروح حقيقة، والله أعلم بكنهها وكيفيتها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نقول: إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلاً، أو صفة من صفات البدن والحياة، وأنها مختلفة الأجساد، ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة، كما يقول طوائف من أهل الكلام، بل نتيقن أن الروح عين موجودة غير البدن، وأنها ليست مماثلة له]. قوله: (عين موجودة) أي: ذات غير البدن، لكنها جسم لطيف، ولا منافاة، فمثلاً: الماء يمشي في العروق وفي الشجر، وكذلك الدم في الجسم، والنار تسري في الفحم وفي الحطب، فهي جسم في جسم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهي موصوفة بما نطقت به النصوص حقيقة لا مجازاً، فإذا كان مذهبنا في حقيقة الروح وصفاتها بين المعطلة والممثلة فكيف الظن بصفات رب العالمين؟]. يعني: أن مذهبنا بين المعطلة الذين عطلوا الروح من الصفات، وبين الممثلة الذين مثلوها بالبدن وجعلوها مثل البدن، فنحن لا نوافقهم كلهم؛ فإن منهم من عطل الروح وقال: إنها مجردة لا داخل العالم ولا خارجه، فوصفها بالمجردات، ومنهم من غلا ووصفها بأنها نفس الدم وهي كذا، ونحن نقول: مذهبنا بين المعطلة والممثلة، وكذلك في صفات الرب نحن بين المعطلة والممثلة، فلا نوافق المعطلة في تعطيلهم، ولا نوافق الممثلة المشبهة في تشبيههم، بل نثبت الصفات لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته مع نفي العلم بالكيفية.

تابع أقسام أهل القبلة في آيات الصفات

تابع أقسام أهل القبلة في آيات الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني: الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله تعالى قط، وأن الله لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما]. قوله: (إضافية) أي التي لا تثبت إلا من جهة إضافتها إلى الرب سبحانه وتعالى، كما يقول الفلاسفة - مثلاً -: إن الرب علة لهذا الكون، والفلاسفة لا يثبتون صفات الله إلا من جهة الإضافة وكون الخالق علة لهذه المخلوقات، أو أنه هو المحرك، أو أنه هو المبدئ لهذه المخلوقات، ومبدأ التكاثر- كما تقول الفلاسفة كـ أرسطو وغيره - قائم على نفي الصفات إلا من جهة الإضافة، أما من دون الإضافة فلا، فإذا أضفته إلى المخلوقات كان هو أول المخلوقات ومبدؤها. وقوله: (وإما مركبة منهما) أي: مركبة من هذه وهذه، فهؤلاء المبتدعة إما أن يصفوا الله بالسلب؛ فلا يثبتون الصفات إلا من جهة السلب أي: النفي، أو يثبتونها من جهة الإضافة، أي: إذا أضافوا الخالق إلى المخلوقات، أو مركبة من النفي والإضافة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة أو الثمانية أو الخمسة عشر]. قوله: (الصفات السبعة): يشير إلى الأشاعرة الذين لا يثبتون إلا سبع صفات فقط.

ماهية الأحوال وحقيقتها

ماهية الأحوال وحقيقتها قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو يثبتون الأحوال دون الصفات]. الأحوال لا وجود لها، بل تعد من الأشياء المحالة والمعدومة، وهذا مذهب أبي هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي أحد كبار المعتزلة، وإليه تنسب فرقة البهشمية من فرق المعتزلة، وأبو هاشم هو أول من قال بأن الصفات أحوال، وقد أثبت الأحوال من الأشاعرة إمام الحرمين الجويني والباقلاني، قال الآمدي: والأحوال عبارة عن صفات إثباتية غير متصفة بالوجود ولا بالعدم. يعني: أنها تثبت في الذهن فقط، وقد يمكن أن يُعبر عنها بما به الاتفاق والافتراق بين الذوات، وهذا لا وجود له إلا في الجنة، وعرفها الإيجي: بأنها الواسطة بين الموجود والمعدوم. وأما الشهرستاني فقد ذكر أنه ليس للحال حد حقيقي يذكر حتى تعرف بحدها وحقيقتها على وجه يشمل جميع الأحوال، وقال: بل لها ضابط وحاصر بالقسمة، وهي تنقسم إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل، وما يعلل هي أحكام لمعانٍ قائمة بذوات، وما لا يعلل هي صفات ليس أحكاماً للمعاني. وقال: ابن حزم: وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا: إنها هنا أحوال ليست حقاً ولا باطلاً، ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة، ولا هي موجودة ولا معدومة، ولا هي مجهولة ولا معلومة، ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء، وقالوا: ومن هذا علم العالم بأن له علماً. وهذا مثل قولهم: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، ولا مباين له ولا محايد له، ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، وهكذا الجهمية المتأخرون فإنهم يصفون الرب بهذا، فيقولون: الرب لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا مداخل ولا محايد، ولا يمكن أن يتصور شيء بهذا الوصف إلا العدم، وهم يقولون: إن البنوة تنطبق عليها هذه الصفات، وهذا من باب المغالطة. وأسهب أبو محمد في الرد عليهم وعد هذا سفسطة وهذياناً محضاً. وقد أشكلت على العلماء أحوال أبي هاشم هذه وجهلوه بها وشنعوا عليه، يقول البغدادي في كلامه عن هذه الأحوال: وزعم أن الله عالم لكونه على حال، وقادر لكونه على حال، وزعم أنه لكونه عالماً بكل معلوم حالاً دون الحال التي لأجلها كان عالماً بالمعلوم الآخر، وكذلك لكونه قادراً على المقدور الحال، ولا يقال: إنها الحال التي بكونها عليها كان قادراً على المقدور الآخر. والمقصود: أن هذه من المحالات الثلاث المعروفة وهي: طفرة النظام، وكسب الأشعري، وأحوال أبي هاشم الجبائي؛ لأنه لا وجود لها، ومنها كسب الأشعري؛ لأن الأشعري يقول: العبد لا قدرة له، والله تعالى هو الخالق، فكيف يكون العبد لا قدرة له وله كسب؟ هذا غير معقول، وقد بين شيخ الإسلام في التدمرية أن هذه الأحوال لا وجود لها. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أو يثبتون الأحوال دون الصفات، كما عرف من مذاهب المتكلمين، فهؤلاء قسمان: قسم: يتأولونها ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى: استولى، أو بمعنى: علو المكانة والقدر، أو بمعنى: ظهور نوره للعرش، أو بمعنى: انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلفين. وقسم: يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه]. يعني: أنهم يقولون: الله أعلم بالمراد بها، مع أنهم يجزمون بأنها بنفس المعنى الحق، فيقولون: نجزم بأن الله لا يتصف بالصفات حقيقة، لكننا نعلم أن ظاهره غير مراد، لكن نجزم بأنه لا يتصف بصفات حقيقة، نسأل الله العافية، فهم يفوضون مع نفيهم للمعنى الحق. ونحن لا يفوتنا المعنى، فإنه سبحانه لم يذكر لنا صفة لا نعلمها نحن، بل ما ذكر صفة إلا وهو يتصف بها كما يليق بجلاله وعظمته.

مذهب الواقفة في آيات الصفات

مذهب الواقفة في آيات الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأما القسمان الواقفان فقسم يقولون: يجوز أن يكون المراد ظاهرها الأليق بجلال الله، ويجوز ألا يكون المراد صفة لله ونحو ذلك، وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم. وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها]. أي: أن هذه الأقسام الستة التي يحصرها العقل لا بد لأي إنسان أن يدخل ضمن هذه الأقسام المحصورة.

الصواب في التعامل مع آيات الصفات

الصواب في التعامل مع آيات الصفات قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه فوق عرشه، وتعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك؛ دلالة لا تحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي من الليل يقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وفي رواية لـ أبي داود (كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك). فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين انفتح له طريق الهدى، ثم إن كان قد خبر نهاية إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب، وعرف أن غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة]. أي: أن نهايتهم كانت الحيرة والاضطراب؛ فقد تمنى كثير منهم أن يموت على عقيدة العجائز، فقال: يا ليتني أموت على عقيدة أمي، وقال بعضهم: يا ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور. وهم من كبار المتكلمين، نسأل الله العافية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعرف أن غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة، ورأى أن غالب ما يعتمدونه يئول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد، أو قضية كلية لا تصلح إلا جزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقة له، أو التمسك في المذهب والدليل بالألفاظ المشتركة. ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عمن لم يعرف سلاحهم أوهمت الغر]. الغر هو: الإنسان ضعيف البصيرة، الذي ليس عنده تمعن في الأمور. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان، ازداد إيماناً وعلماً بما جاء به الكتاب والسنة، فإن الضد يظهر حسن الضد وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيماً وبقدره أعرف إذا هدي إليه. فأما المتوسط من المتكلمين فيخاف عليه ما لا يخاف على من لم يدخل فيه، وعلى من قد أنهاه نهايته، فإن من لم يدخل فيه هو في عافية، ومن أنهاه قد عرف الغاية، فما بقي يخاف من شيء آخر]. يعني: أنه إذا وصل إلى النهاية، فقد عرف غاية هذا العلم، ومن لم يدخل في هذا فهو في عافية.

خطر التعالم والقول على الله بلا علم

خطر التعالم والقول على الله بلا علم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن ظهر له الحق وهو عطشان إليه قبله، وأما المتوسط فمتوهم بما تلقاه من المقالات المأخوذة تقليداً لمعظمه تهويلاً. وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي، هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان]. لأن هذا النصف متفقه يفتي بلا علم وبدون بصيرة فيفسد البلدان، والمتطبب المتعالم يفسد الأبدان، والنحوي المتعالم كذلك يفسد اللسان.

فساد عقيدة المتفلسفة المتكلمين

فساد عقيدة المتفلسفة المتكلمين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن علم أن المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم -في الغالب- في قول مختلف يؤفك عنه من أفك يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأن حجته ليست ببينة، وإنما هي كما قيل فيها حجج تهافت كالزجاج تخالها حقاً وكل كاسر مكسور]. أي: أن كل واحد راد ومردود عليه، فهناك من يرد عليه ويبطل مذهبه، وهو يرد على غيره، فهو يرد وهو مردود عليه أيضاً.

حكم الشافعي على أهل الكلام

حكم الشافعي على أهل الكلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام]. يعني: أن الإنسان ينظر إليهم بالمنظارين: منظار إذا نظر إليهم وجد أنهم أعرضوا عن الكتاب والسنة وأقبلوا على الكلام فيستحقون التأديب والضرب كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: حكمي أن يضربوا بالجريد والنعال. ومنظار آخر: أن ينظر إليهم بعين الرحمة والشفقة، وأنهم مبتلون ومصابون، فنسأل الله لنا ولهم الهداية، فالإنسان ينظر بهذين المنظارين: نظر الرحمة فيرحمهم؛ لأنهم مبتلون بهؤلاء الأئمة والشيوخ الذين أضلوهم، ومن جهة أخرى ينظر إليهم نظر العقوبة والتأديب؛ لأنهم أعرضوا عن الكتاب والسنة، فهم يحتاجون إلى زجر وتأديب. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر - والحيرة مستولية عليهم والشيطان مستحوذ عليهم - رحمتهم ورفقت عليهم؛ أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف:26] ومن كان عليماً بهذه الأمور تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم؛ حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعداً. فنسأل الله العظيم أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. آمين والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين، وآله وصحبه أجمعين].

§1/1