شرح الحموية - عبد الرحيم السلمي

عبد الرحيم السلمي

شرح الفتوى الحموية [1]

شرح الفتوى الحموية [1] حاجة الإنسان إلى العقيدة الصحيحة حاجة عظيمة وملحة، بل هي أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، ولما كان الأمر كذلك كان لابد من أخذ العقيدة من موطنها وهو الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، كما بين ذلك وقعده علماء أهل السنة، ومن ضمن هؤلاء وأجلهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فإن له العديد من الكتب المصنفة في بيان العقيدة وتوضيحها، ومن تلك الكتب كتاب الفتوى الحموية الكبرى.

حاجة الإنسان إلى العقيدة الصحيحة

حاجة الإنسان إلى العقيدة الصحيحة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، اللهم صل على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: فإن الحاجة إلى العقيدة الصحيحة حاجة ملحة وعظيمة، وذلك أنه لا حياة للقلب ولا طمأنينة ولا راحة ولا سرور ولا سعادة إلا بصحة العقيدة، وذلك عندما يعرف ربه ومعبوده سبحانه وتعالى معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته. وحاجة الإنسان إلى العقيدة حاجة عظيمة، فهو لا يمكن أن ينجو في الآخرة إلا بصحة العقيدة، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]. كما أن حاجته النفسية إلى هذا الدين وإلى العقيدة الصحيحة حاجة ضرورية، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]. وكذلك حاجته الاجتماعية إلى العقيدة الصحيحة حاجة ملحة، فإن الإنسان في هذه الدنيا لا يمكن أن يجتمع، وأن يكون له أعوان وأتباع إلا عندما يكون على عقيدة، والعالم كما تعلمون اليوم تقتسمه المذاهب والأفكار، والفلسفات والمناهج والطرق المختلفة، فلا بد للإنسان أمام هذه الفرق والمذاهب والآراء والمناهج المتعددة المختلفة المتناحرة من موقف صحيح يرضي ربه، ويعطي النفس الإنسانية حاجتها وفطرتها التي فطرها الله سبحانه وتعالى عليها. ولهذا لا بد من دراسة العقيدة، ولا بد من الاعتناء بها، وهي مهمة جداً، وحاجتها تتأكد بالنسبة للداعية إلى الله عز وجل، وحاجتها ملحة بالنسبة للمصلحين؛ لأن العقيدة هي أول ما يوصل إلى الله عز وجل، وهي أول واجب على المكلف، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، فبدأ بالعلم، وبدأ من المعلومات بالتوحيد فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، ولهذا لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن قال: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) إلى آخر الحديث. وورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى)، وفي بعض الألفاظ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله تعالى)، فالتوحيد والعبادة والإيمان كلها بمعنىً واحد، وهو العقيدة الصحيحة التي أشرنا إلى حاجة الإنسان إليها. فهذا العالم اليوم يمتلئ بمذاهب متعددة، وأفكار مختلفة، ومناهج وفلسفات متباينة، فلابد للمسلم أمام هذه المذاهب والأفكار والمنهاج أن يكون لديه علم صحيح بالعقيدة، وأن يكون لديه فهم صحيح بها؛ حتى ينجو، وحتى ينجي من استطاع أن ينجيه من هذه الفتن التي تموج كموج البحر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة)، فلما بينها النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).

مكانة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

مكانة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ونحن في هذا الدرس سنتحدث -بإذن الله تعالى- عن العقيدة، وعن أعظم أمر من أمور العقيدة وهو أمر الإلوهية، وما يتعلق بالله سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته وأفعاله، وعندما ننظر في المكتبة الإسلامية نجد أن الكتب التي في مجال الاعتقاد كثيرة، وإذا استبعدنا الكتب التي في مجال الاعتقاد على غير منهج السلف رضوان الله عليهم فإننا نجد أن الكتب التي في اعتقاد السلف رضوان الله عليهم كثيرة ومتعددة أيضاً. ومن أبرز هذه الكتب كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد تميزت هذه الكتب بما تميز به شيخ الإسلام رحمه الله من ناحية القوة العلمية، والقدرات والإمكانات الضخمة التي وهبه الله سبحانه وتعالى إياها، والتي سخرها في دراسة العقيدة دراسة صحيحة؛ فقد تميز شيخ الإسلام رحمه الله عن غيره من المشتغلين بقضايا الاعتقاد بأنه درس العقيدة دراسة متأنية، ومقارنة في نفس الوقت، فإنه شرح العقيدة السلفية الصحيحة شرحاً مستفيضاً وفي نفس الوقت قارن ذلك وناقش الفرق الضالة مناقشة متأنية أيضاً، ونقد شيخ الإسلام رحمه الله تلك الفرق نقداً علمياً دقيقاً يعرفه من اطلع على كتبه. كما تميزت كتب شيخ الإسلام رحمه الله بالقوة في عرض الحق، والجرأة في الرد على الباطل؛ فإنه رحمه الله تعالى كان قوياً في دعوته إلى الحق، وكان صريحاً في مناقشة الفرق الضالة، فهو يناقش أسماء كبيرة لها وجود في حياة المسلمين ولها محبة في حياة المسلمين كبيرة؛ بسبب بعض التأثيرات التي حصلت في بعض العصور المتقدمة على زمنه، ومع هذا لم يتهيب شيخ الإسلام رحمه الله من نقد هذه الأقوال، ومن التعرض لتقويم الكتب، وتقويم الشخصيات التي كان لها أثر كبير جداً في حياة المسلمين، فنقد زعماء الأشاعرة، وزعماء الصوفية، وزعماء الفلاسفة، وغيرهم من الفرق الضالة التي انحرفت عن الصراط المستقيم. كما أن شيخ الإسلام رحمه الله يتميز بأنه عالم وداعية ومجاهد في نفس الوقت، فإنه لم يكن عالماً ينظر ويتكلم بالعلم في الجانب النظري فقط، بل كان عالماً وداعية إلى هذا العلم، وكان مجاهداً في نفس الوقت، وهذه الأمور الثلاثة مجتمعة كونت من مؤلفاته عالماً مؤثراً في كل من يقرأ كتبه رحمه الله تعالى؛ فهناك فرق بين العالم الذي يتحدث عن القضية من الناحية النظرية التجريدية فقط، والعالم الذي يخلط ذلك بالجهاد، ويربط ذلك بالحق، وبوجوب الرد على الباطل، وبالدعوة إلى الحق، ولهذا استطاع شيخ الإسلام رحمه الله أن يكون مدرسة فذة نادرة، كان من أعلامها ابن قيم الجوزية رحمه الله، وابن رجب الحنبلي، والمزي وغيرهم من أهل العلم الكبار الذين أثر فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تأثيراً بليغاً وكبيراً. كما أن كتب شيخ الإسلام رحمه الله تميزت بكثرتها وتنوع المادة العلمية الموجودة فيها، فإن المادة العلمية الموجودة في كتب ابن تيمية رحمه الله متنوعة وموثقة، فهو ينقل من أصح النسخ التي يتحصل عليها، وهو رحمه الله خبير بكتب أهل الكلام، وبكتب الصوفية، وبكتب الفلاسفة، بل إنه كان رحمه الله يتقن بعض اللغات الأجنبية، فكان رحمه الله يتقن اللغة اللاتينية، وأيضاً يتقن اللغة العبرية، فمن اطلع -مثلاً- على كتابه الجواب الصحيح يدرك أن ابن تيمية رحمه الله كان مدركاً، وكان عالماً، وكان مجيداً للغة العبرية التي هي لغة الكتاب المقدس المحرف الذي رد عليه وعلى أتباعه في كتاب الجواب الصحيح. فتنوع المادة العلمية الموجودة في كتبه رحمه الله جعلت من كتبه مادة خصبة لمن أراد القراءة والدراسة والتأمل، ومن هنا فإن دراسة أحد كتب ابن تيمية رحمه الله يفيدنا الفوائد المتعددة التي أشرنا إليها. ونحن لسنا من أهل التعصب لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإن ابن تيمية رحمه الله عالم من علماء أهل السنة له مكانته، وله تقديره، وله منزلته، لكن هذا لا يعني أنه لا يخطئ؛ فكل إنسان يخطئ ويصيب، والحق هو الذي ينبغي أن يعلو ولا يعلى عليه، ولا يصح لإنسان أن يستعجل ويتجرأ فينتقد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بدعوى التحرر العلمي، أو بدعوى عدم التقليد، أو بدعوى أننا لسنا متعصبين لـ ابن تيمية، ويكون في نقده مستعجلاً، وغير متأن، فالقاعدة صحيحة، لكن في بعض الأحيان يخطئ بعض الناس في التطبيق. فإن علماً كشيخ الإسلام ابن تيمية ليس من السهل أن ينقد، وليس من السهل أن يرد عليه، ولا يعني هذا أنه لا يرد عليه، بل كل عالم يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن ينبغي عندما يرد الإنسان أن يرد بمنهج علمي منضبط دقيق متأنٍ بعيد عن الهوى، وهذه الحالة ينبغي أن تكون مع كل عالم من علماء المسلمين، ولا يصح للإنسان أن

نبذة عن كتاب الحموية الكبرى

نبذة عن كتاب الحموية الكبرى ومن هنا وقع اختيارنا على هذا الكتاب المهم الذي هو الفتوى الحموية الكبرى، لاسيّما أننا سبق أن درسنا كتاب (العقيدة الواسطية)، وهي معتقد مختصر اشتمل على مجموعة من أبواب العقيدة في الأسماء والصفات، وفي الإيمان، وفي القدر، وفي اليوم الآخر، وفي الغيبيات، وفي النبوات، وفي الصحابة ونحو ذلك من الأبواب العظيمة من أبواب الاعتقاد. وهذا الكتاب -الفتوى الحموية- يعتبر في سلم التعلم في الدرجة الثانية قبل دراسة شرح العقيدة الطحاوية التي هي من أكبر كتب الاعتقاد تفصيلاً، وليست هي أكبرها، فيوجد كتب أكبر منها، لكن هي من أكبر الكتب التي تدرس دراسة مفصلة في مجال الاعتقاد. وكما سبق أن أشرنا في درس العقيدة الواسطية: أن كثيراً من الكتب تسمى إما باسم السائل، أو باسم البقعة والمدينة التي جاء منها السؤال، أو باسم الكاتب في بعض الأحيان. فمثلاً: كتاب العقيدة الواسطية سمي بذلك نسبة إلى القاضي الذي جاء من واسط من العراق وطلب من ابن تيمية رحمه الله أن يكتب له ملخصاً في الاعتقاد، فاعتذر في بداية الأمر وقال: الناس كتبوا رسائل في الاعتقاد كثيرة، فقال: لا أريد أن أقرأ أو أحفظ إلا ما تكتبه أنت، فكتب له الرسالة المشهورة التي هي العقيدة الواسطية. وهذه الرسالة التي هي الفتوى الحموية الكبرى هي عبارة عن جواب كتبه شيخ الإسلام رحمه الله لسؤال قدم إليه من حماه، وهي مدينة مشهورة في بلاد الشام وفي شمال سوريا بشكل محدد. والعقيدة الطحاوية هي نسبة إلى أبي جعفر الطحاوي رحمه الله، العالم الحنفي المشهور، وهكذا مثلاً كتاب التسعينية، سمي بسبب أنه رد على الأشاعرة في موضوع الكلام النفسي من تسعين وجهاً تقريباً، وهكذا بقية الرسائل التي لـ ابن تيمية رحمه الله مثل: الكليلانية، ومثل: شرح العقيدة الأصفهانية، وغيرها من كتبه رحمه الله، فإنها كانت تسمى في بعض الأحيان باسم البقعة التي جاء منها السؤال، أو باسم السائل، أو باسم المردود عليه، أو نحو ذلك من الأسماء المتعددة. فهذا إذاً هو سبب تسمية هذا الكتاب بالفتوى الحموية الكبرى، وسبب تسميتها بالكبرى هو أن ابن تيمية رحمه الله كتب في بداية الأمر هذه الرسالة مختصرة، ولما حصلت لـ شيخ الإسلام الفتنة التي سنتعرض للكلام عليها -بإذن الله- أضاف بعد ذلك مجموعة من النقول عن السلف رضوان الله عليهم، ومجموعة من النقول عن الأشاعرة والصوفية في موضوع الصفات، فسميت كبرى؛ لأنه انتشر عند الناس نسختان: نسخة بدون هذه النصوص، ونسخة بهذه النصوص، فسميت الأولى التي بدون هذه النصوص الصغرى، وسميت هذه الموجودة بالنصوص الكبرى، هذا ما أفاده الشيخ عبد الرزاق حمزة رحمه الله في تحقيقه لهذا الكتاب، وكان رحمه الله تعالى من أوائل من أظهر هذا الكتاب. أما تاريخ تأليفها فقد أشار إليه المحقق بأنها كانت في سنة ستمائة وثمانية وتسعين هجرية، ورد أنه جاء إلى شيخ الإسلام رحمه الله سؤال من حماه يسأل فيه صاحبه عن آيات الصفات، ويسأل عن أحاديث الصفات، وينص على صفة العلو بشكل خاص، فرد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه الرسالة الموجودة والتي انتشرت في الناس انتشاراً كبيراً بعد ذلك. وشيخ الإسلام رحمه الله ولد في سنة ستمائة وواحد وستين فيكون عمر ابن تيمية رحمه الله عندما كتب هذه الرسالة سبعة وثلاثين سنة، يعني: دون الأربعين.

ذكر ما جرى لشيخ الإسلام من فتنة بسبب تأليفه الحموية

ذكر ما جرى لشيخ الإسلام من فتنة بسبب تأليفه الحموية وهذه الرسالة جرت بسبب تأليفها فتنة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ وذلك بسبب نقده لمناهج المتكلمين ورده عليهم، وبيانه لاضطرابهم وتناقضهم، وشكهم وحيرتهم وضلال منهجهم، فقد رد رحمه الله عليهم رداً قوياً ونقدهم نقداً قوياً بكل طوائفهم، سواء أصحاب مذهب التفويض أو مذهب التأويل الذي يجتمع فيه المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، ومن وافقهم من الصوفية والشيعة وغيرهم. فرد عليهم رداً قوياً، ونقدهم نقداً قوياً حاراً، فغضب عليه الذين كانوا يعظمون مناهج المتكلمين في تلك الفترة، وقد ذكر تلميذه ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى في كتابه العقود الدرية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ملخصاً لهذه الفتنة التي وقعت، وقد نقلها المحقق في بداية دراسته لهذا الكتاب. يقول الشيخ ابن عبد الهادي رحمه الله في كلامه عن المحنة: إنه -يعني: شيخ الإسلام رحمه الله- كتب جواباً سئل عنه من حماة في الصفات، فذكر فيه مذهب السلف، ورجحه على مذهب المتكلمين، وكان قبل ذلك بقليل أنكر أمر المنجمين، واجتمع بـ سيف الدين جاغان في ذلك في حال نيابته بدمشق، وكان شيخ الإسلام رحمه الله مشتغلاً بإنكار المنكر عملياً، فكان ينكر على السحرة والكهنة والمشعوذين عملياً، وكان أيضاً ينكر أمر المنجمين عملياً، فاجتمع بأمير دمشق النائب للدولة في تلك الفترة، وقد كانت الدولة في تلك الفترة هي دولة المماليك التي كانت موجودة في بلاد الشام، وفي مصر، وكانت عاصمتها مصر، وذلك بعد سقوط الدولة الفاطمية على أيدي الأيوبيين، وبعد سقوط الدولة الأيوبية على أيدي المماليك، صارت بلاد الشام تابعة لمصر، وصار في بلاد الشام نائب يتبع الحكومة المركزية الموجودة في مصر، فـ شيخ الإسلام رحمه الله عندما أنكر أمر المنجمين اجتمع بأمير دمشق ونائبها وهو سيف الدين جاغان، فقام نائب السلطنة -كما يقول ابن عبد الهادي رحمه الله- وامتثل أمره وقبل قوله، والتمس منه كثرة الاجتماع به، فحصل بسبب ذلك ضيق لبعض المشتغلين بالعلم والقضاء مع ما كان عندهم قبل ذلك من كراهية للشيخ، وتألمهم لظهوره وذكره الحسن، فانضاف شيء إلى أشياء، ولم يجدوا مساغاً إلى الكلام فيه؛ لزهده وعدم إقباله على الدنيا، وترك المزاحمة على المناصب، وكثرة علمه، وجودة أجوبته وفتاويه، فعمدوا إلى الكلام في العقيدة؛ لكونهم يرجحون مذهب المتكلمين في الصفات والقرآن على مذهب السلف، ويعتقدونه الصواب، فأخذوا الجواب الذي كتبه، وعملوا عليه أوراقاً في رده، ثم سعوا السعي الشديد إلى القضاة والفقهاء واحداً واحداً، وأغروا خواطرهم وحرفوا الكلام وكذبوا الكذب الفاحش، وجعلوه يقول بالتجسيم حاشاه عن ذلك، وأنه قد أوعز ذلك المذهب إلى أصحابه، وأن العوام قد فسدت عقائدهم بذلك، وسعوا في ذلك سعياً شديداً. ثم ذكر ابن عبد الهادي رحمه الله أن جلال الدين الحنفي قاضي الحنفية وافقهم يومئذ على ذلك، ومشى معهم إلى دار الحديث الأشرفية، وطلب حضور ابن تيمية رحمه الله، وأرسل إليه فلم يحضر، وأرسل إليه ابن تيمية في A إن العقائد ليس أمرها إليك، يعني: إلى القاضي، وإن السلطان إنما ولاك لتحكم بين الناس، وإن إنكار المنكرات ليس مما يختص به القاضي، يعني: إذا كنت تعتبر أن هذا منكراً فإن هذا ليس من تخصصك، وليس داخلاً في ولايتك، فوصلت إليه هذه الرسالة، فأغروا خاطره، وشوشوا قلبه، وقالوا: لم يحضر، ورد عليك، فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة؛ لأن القاضي في العادة والٍ، فعندما يأمر ولا يطاع أمره يشعر أن فيه نقصاً، فأمر بالنداء على بطلان عقيدته في البلدة، فنودي في بعض البلد بذلك، لكن سيف الدين جاغان الذي هو نائب السلطان الذي في مصر انتصر للشيخ، وعاقب أولئك معاقبة شديدة جداً، وحاول القبض عليهم، وضربوا كما يذكر ذلك ابن عبد الهادي رحمه الله. ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله جلس كعادته يوم الجمعة في الجامع، وكان درس ابن تيمية رحمه الله بعد صلاة الجمعة، يعني: بعد أن ينتهي خطيب الجامع الأموي، وتنتهي الصلاة يجلس شيخ الإسلام رحمه الله، ويدرس التفسير، ففسر بعد هذه الفتنة قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وأمر بالحلم، وحث على استعماله، ثم إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله اجتمع مع القاضي الشافعي إمام الدين رحمه الله تعالى، وكان هذا القاضي حسن العقيدة، فلما اجتمع به بعض العلماء، وبحثوا معه رسالة ابن تيمية الحموية وطال النقاش حولها، وقرئت من أولها إلى آخرها، وأوضح الشيخ بعض موارد النزاع فيها، وبعض المواضع التي حصل فيها الإشكال، وأقر الحضور بصحة هذه

ذكر طبعات كتاب الحموية

ذكر طبعات كتاب الحموية وقد طبع هذا الكتاب عدة طبعات، منها الطبعة الموجودة في المجلد الخامس من مجموع الفتاوى، ومنها طبعة طبعت في كتاب مجموع الرسائل الكبرى الذي طبع في مجلدين، وأيضاًً طبعت في مطبعة المدني بتحقيق محمد عبد الرزاق حمزة وهو من علماء مكة، وممن كان له دور في إنشاء دار الحديث الخيرية في مكة، وطبعت أيضاً مرة أخرى بتحقيق شريف هزاع، وأخيراً: طبعت بتحقيق حمد التويجري حققت في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وكل هذه الطبعات يوجد فيها أخطاء في أثناء النسخ في كتابة النص المحقق لـ ابن تيمية رحمه الله، والطبعات السابقة خدمتها ضعيفة، ومن أقوى الطبعات التي خدمت هذا الكتاب طبعة التويجري، إلا أن طبعة التويجري فيها أخطاء في النص المحقق، وبعضها يظهر أنها أخطاء مطبعية، وبعضها يظهر أنها أخطاء لم يتنبه لها أثناء النسخ، ولهذا تصحح تلك الأخطاء بالمقارنة بين النسخ.

موضوع العقيدة الحموية

موضوع العقيدة الحموية بقي أن نتحدث عن موضوع العقيدة الحموية، فما هو الموضوع الذي يتحدث عنه الكتاب؟ الموضوع العام الذي يتحدث عنه الكتاب هو موضوع صفات الله سبحانه وتعالى، وبالذات صفة العلو، والصفات الخبرية، وتعرض ابن تيمية رحمه الله للمعطلة ونقدهم، وتعرض أيضاً لنشأة التعطيل. ولأن هذه الرسالة جواب على سؤال فإن ابن تيمية رحمه الله لم يرتب الموضوعات العقدية في هذه الرسالة ترتيباً موضوعياً، فهو لم يحدد موضوعاً ثم يناقشه حتى ينتهي منه ثم ينتقل إلى موضوع آخر بشكل مرتب، لم يحصل هذا لا سيّما وأن ابن تيمية رحمه الله في طريقته في الكتابة يتميز بكثرة الاستطرادات، فهو قد يستطرد في بعض الأحيان ويدخل في موضوع، ويتكلم فيه في مائة صفحة ثم يعود مرة أخرى، وقد لاحظت هذا في كتابه: درء تعارض العقل والنقل، فإنه في المجلد الأول -مثلاً- تحدث في استطراد ووصل إلى قريب مائة صفحة، ثم رجع بعد ذلك إلى أصل القضية وناقشه. فالذي لا يعرف طريقة ابن تيمية رحمه الله في الكتابة أو لم يتمرس عليها يتعب في معرفة ترابط الموضوعات بالنسبة له؛ لأنه يدخل في موضوع ثم ينتقل إلى موضوع آخر، ثم يعود إلى الموضوع الأول، ثم يناقش الموضوع الثاني بهذه الطريقة، فيتعب القارئ عندما يقرأ لـ شيخ الإسلام، والعلاج لهذه المشكلة يكون عن طريق التمرس على قراءة كتبه رحمه الله، فإن الإنسان إذا تمرس عليها وتدرب عليها استطاع أن يعرف طريقته، واستطاع أن يستفيد من كتبه رحمه الله تعالى. ولهذا لما رأيت أن طريقته هي هذه قرأت الكتاب ثم رتبته على شكل وحدات موضوعية، يعني: إذا تحدث ابن تيمية مثلاً عن موضوع في مكان بشكل موسع ثم أشار إليه في مكانين أو ثلاثة، فسنتحدث عنه في المكان الذي وسع فيه الكلام عليه، ثم في الإشارات نشير إلى أننا تحدثنا عنه سابقاً، فتحصل لي تقريباً أربعة عشر وحدة موضوعية لهذا الكتاب، يمكن أن أذكرها هنا، وسندرسها -إن شاء الله- بشكل مفصل. أولاً: يقينية منهج السلف وعصمته، هذا هو الموضوع الأول، وطبعاً العناوين مني أنا. ثانياً: بطلان مذهب التفويض، ومقالة: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم. ثالثاً: ضلال المتكلمين، وشكهم وحيرتهم. رابعاً: إثبات العلو لله تعالى، وذكر أدلته. خامساً: منهج النفاة وشبهاتهم في نفي الصفات. سادساً: نشأة التعطيل، والقول بنفي الصفات. سابعاً: منهج السلف الصالح في إثبات الصفات. ثامناً: الرد على نفاة العلو. تاسعاً: مواقف الطوائف من نصوص الأنبياء. عاشراً: التأويل معناه وحكمه. حادي عشر: نقل أقوال السلف في إثبات الصفات. ثاني عشر: نقل أقوال الأشاعرة والصوفية في الصفات الخبرية، وأراد به ابن تيمية رحمه الله بيان تناقض المتكلمين. ثالث عشر: درء التعارض بين نصوص المعية والعلو. رابع عشر: مسألة ظاهر نصوص الصفات، هل هو مراد أم غير مراد؟ تقريباً هذه الموضوعات هي لب هذا الكتاب، لكن بعض هذه الموضوعات يشير إليه في مواقع مختلفة، فمثلاً: موضوع منهج السلف الصالح في إثبات الصفات، سنجد أنه تحدث عنه في أول الكتاب، وفي وسط الكتاب، وفي آخر الكتاب، وأيضاً الرد على النفاة، والكلام على المعطلة، نجد أنه أيضاً تكلم على ذلك في أول الكتاب، وفي وسط الكتاب، وفي آخر الكتاب؛ ولكن حتى نقرب المادة العلمية نرتبها بهذه الطريقة، ثم أثناء القراءة التفصيلية نعرف كل إشارة لـ شيخ الإسلام تعود إلى أي موضوع من هذه الموضوعات، وسنجد أن منها ما يعود إلى الأول، ومنها ما يعود إلى الثالث. والحقيقة أن هذه الموضوعات بعد أن رتبتها بهذه الطريقة هي بحاجة إلى ترتيب؛ لأن الكلام -مثلاً- على منهج السلف الصالح في إثبات الصفات ينبغي أن يكون قبل الرد على النفاة، وقبل الرد على هذه الفرق، لكن طبيعة الكتاب اضطرتنا لإبقاء هذه الموضوعات على هذا الترتيب، وكل واحد من الإخوة يجتهد في ربط الموضوعات بعضها ببعض. والموضوع الأول الذي سنتحدث عنه بإذن الله تعالى هو: يقينية منهج السلف الصالح وعصمته، وسنتحدث عنه -إن شاء الله- في ست مسائل.

شرح الفتوى الحموية [2]

شرح الفتوى الحموية [2] منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم منهج معصوم، والمراد بذلك ما أجمعوا عليه، وإنما كان معصوماً لأنه مأخوذ من الكتاب والسنة، والكتاب والسنة مصدر معصوم بلا خلاف، وما كان مأخوذاً من معصوم فهو معصوم.

يقينية منهج السلف الصالح وعصمته

يقينية منهج السلف الصالح وعصمته في الدرس الماضي تحدثنا عن الحاجة لدراسة العقيدة، وعن منزلة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بشكل خاص من بين كتب العقيدة الأخرى، وعن كتاب (الفتوى الحموية الكبرى) الذي نحن بصدد شرحه، وأيضاً عن طبيعة تأليف هذا الكتاب وكونه جواباً لسؤال، ومن طبيعة الجواب على السؤال أن يكون فيه تكرار، وأن يكون فيه تقديم وتأخير، وتكلمنا عن طبيعة تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو أنه يستطرد كثيراً، وأيضاً تحدثنا عن الطريقة التي سنشرح بها هذا الكتاب بإذن الله تعالى، وهو تقسيم الكتاب على شكل وحدات موضوعية، ثم بعد ذلك نشرح هذه الوحدات ونعرف مواقعها في الكتاب، وسنقرأ وسنشرح الكتاب -بإذن الله- بشكل مفصل. وإنما اخترنا هذه الطريقة التي هي طريقة الوحدات الموضوعية لما فيها من ربط المسائل بعضها ببعض، فإن ربط المسائل بعضها ببعض مهم جداً لطالب العلم، وفي هذا حل للإشكال الذي يذكره كثير من الإخوة من أن طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية في التأليف طريقة صعبة، ويشق على بعض القارئين لها أن يستفيدوا منها، وقد أمليت في اللقاء الماضي الوحدات الموضوعية التي سنتحدث عنها بإذن الله. والموضوع الأول هو: موضوع يقينية منهج السلف الصالح وعصتمه. وسنتحدث عن هذا الموضوع في ست مسائل بإذن الله.

المراد بمنهج السلف الصالح المحكوم له باليقينية والعصمة

المراد بمنهج السلف الصالح المحكوم له باليقينية والعصمة المسألة الأولى: المراد بمنهج السلف الصالح المحكوم له باليقينية والعصمة: منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم المقصود به: ما أجمعوا عليه من مسائل الاعتقاد وأصول الأحكام. والمراد بمنهج السلف الصالح المعصوم هو المنهج الذي أجمعوا عليه، وليس المقصود به آحاد السلف الصالح رضوان الله عليهم، فليس قول الواحد من السلف حجة، وإنما الحجة فيما أجمعوا عليه. والمراد بحديثنا في هذه الفقرة هو ما أجمع عليه السلف رضوان الله عليهم من مسائل العقيدة وما أجمعوا عليه من أصول الأحكام، فقد أجمع السلف رضوان الله عليهم في مسائل العقيدة على أن الله يرى يوم القيامة، وهذا المعنى الذي أجمعوا عليه معصوم ويقيني لا شك فيه، كما أنهم أجمعوا على أن الزاني المحصن المتزوج إذا وجدت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع فإنه يرجم بالحجارة حتى الموت، وهذا أمر أجمعوا عليه، وهو يقيني ومعصوم أيضاً في نفس الوقت. إذاً: ينبغي أن نستصحب هذا المعنى في دراستنا لهذه الفقرة، وهو أنه ليس المراد بعصمة منهج السلف أن أقوال السلف على شكل أفراد معصومة، فإذا جاء أحد -مثلاً- وقرأ في بعض كتب السلف وقرأ نصاً لأحدهم ظن أنه معصوم وظن أنه يقيني، ليس هذا هو المراد، وإنما المراد ما أجمعوا عليه جميعاً، وعندما تعامل بعض الناس مع أقوال السلف مفردة على أنها معصومة أخطئوا خطأ كبيراً في التعامل مع الناس، وألزموهم بما لم يلزمهم الله سبحانه وتعالى به! فليس قول واحد من الصحابة أو قول واحد من التابعين، أو قول واحد من علماء الأمة أو ممن له قدم صدق فيها حجة دون غيره، وإنما الحجة تكون في إجماعهم وفي اتفاقهم على معنى من المعاني، أو على قول من الأقوال، أو على إرادة من الإرادات، أو على فعل من الأفعال، فإذا أجمعوا عليه فإن إجماعهم حجة.

يقينية منهج السلف وعصمته مأخوذة من يقينية مصدره

يقينية منهج السلف وعصمته مأخوذة من يقينية مصدره المسألة الثانية هي: يقينية منهج السلف وعصمته مأخوذة من يقينية مصدره. وذلك أن مصدر السلف الصالح رضوان الله عليهم هو الكتاب والسنة، ولا شك أن الكتاب والسنة مصدر معصوم، وفي نفس الوقت مصدر يقيني، والدليل على أن الكتاب والسنة معصومان وأن ما فيهما حق لا شك فيه بأي وجه من الوجوه هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم وهو الذي جاء بالقرآن وجاء بالحكمة، وهي السنة، وهذا القرآن حق، وما دل عليه القرآن فهو حق، ومنهج السلف مأخوذ من القرآن ومأخوذ من السنة، فتلحقه اليقينية، وتلحقه العصمة التي لحقت أصله وهو القرآن والسنة.

يقينية وصدق القرآن الكريم والسنة المطهرة

يقينية وصدق القرآن الكريم والسنة المطهرة ومن لا يعتقد بيقينية القرآن وعصمة القرآن فلا شك أنه ليس من المسلمين، فإذا ناقش أحد في يقينية القرآن، وأنه حق من عند الله عز وجل فإننا نثبت له ذلك من أدلة صدق النبي وصدق ما جاء به، والرسول صلى الله عليه وسلم وجب اتباعه علينا؛ لأن ما جاء به حق، ومعرفتنا بكون ما جاء به حق لم تأت بمجرد دعواه أن ما جاء به حق، فإنه ليس كل من ادعى أنه نبي يكون كذلك، فقد ادعى أشخاص كثيرون النبوة وهم ليسوا من الأنبياء، كـ مسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة الأسدي والأسود العنسي وغيرهم ممن ادعوا النبوة وهم كذابون، فإذا كان الأمر كذلك فكيف نعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل وضح للمشركين الذين جاء إليهم يقينية دعوته وأنها معصومة أو لم يوضحه؟ وللجواب على هذا السؤال نقول: لقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم عصمة رسالته، ووضح للناس أن رسالته يقينية وأنها حق لا تقبل الجدال ولا تقبل النقاش، وقد عرفوا ذلك وأيقنوا به ولم يشكوا فيه، وذلك أنه يمكن أن نلخص أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أمور: الأمر الأول: تضمن الوحي الذي جاء به لما يدل على عصمته وصدقه ونبوته؛ فإن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن أنه حق، وأنه صادق، وأن ما جاء به من عند الله ليس من وساوس الشياطين؛ لأن القرآن الموجود بين أيدينا يدل دلالة يقينية على أن هذا الكلام الموجود فيه إنما هو كلام الله، ويدل على ذلك ثلاثة أمور: الأمر الأول: أن الله عز وجل تحدى المكذبين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، بل تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله، بل تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله، وهذا التحدي ما زال مستمراً إلى قيام الساعة، ومع هذا لم يأت أحد بمثل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن، يقول الله عز وجل: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، ويقول سبحانه وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]، ولا يزال هذا التحدي مستمراً إلى قيام الساعة، ولم يأت أحد بمثل هذا القرآن ولا بشيء منه، وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن هذا القرآن من كلام الله، وليس من كلام البشر. فإذا كان القرآن من كلام الله وليس من كلام البشر فله مميزات تختلف عن كلام البشر، كما أن لصفاته مميزات تختلف عن صفات البشر، وبناءً على هذا نعلم أن هذا الوحي حق، وأنه يتضمن بيان أنه حق. ومما يدل على أن القرآن يتضمن الحق في نفسه وأنه يدل على صدق الرسول أنه أخبر عن مغيبات فوقعت كما أخبر، ومن تلك المغيبات التي أخبر عنها القرآن ونحن نراها: حفظ القرآن، فقد أخبر الله عز وجل أن هذا القرآن محفوظ، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]. وهذا القرآن محفوظ إلى اليوم، وقد مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً ولم يتغير ولم يتبدل، ولم يزد فيه أحد حرفاً واحداً، وهذا يدل دلالة يقينية على أن القرآن حق؛ لأنه أخبر سبحانه أنه محفوظ، مع أن الكتب الماضية التي أنزلها الله عز وجل على أنبيائه كالتوراة والإنجيل وغيرها لما لم يخبر الله عز وجل أنها محفوظة بدلها أتباعها في وقت قصير جداً، فمثلاً: بعد وفاة المسيح بفترة بسيطة تغيرت الأناجيل، وأصبحت أربعة أناجيل بعد أن كان إنجيلاً واحداً هو الذي نزل من السماء، وهذا يدل على أن هذا القرآن حق، فإنه أخبر عن هذا الأمر الغيبي الذي سيحصل في المستقبل، فوقع كما هو، وسيستمر حفظ الله لهذا القرآن إلى قيام الساعة. ومن الأمور المغيبات التي أخبر الله عز وجل عنها: ظهور الدين وتمكينه للصحابة رضوان الله عليهم فقادوا الأمم، وقد أخبر الله عز وجل عن هذا الأمر في فترة كانوا فيها من المستضعفين، فوقع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، وظهر الصحابة رضوان الله عليهم حتى إنه في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتحت الأندلس في أوروبا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم باثنتين وثمانين سنة، ففتحت الأندلس وهي جزء من أوروبا في سنة 92هـ، يقول الله عز وجل: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8]. وهناك مغيبات متعددة أخبر عنها القرآن فوقعت كما هي، مثل غلبة الروم للفرس، كما ذكر ذلك عز وجل في سورة الروم، ويمكن مراجعة ذلك في

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالعقيدة

اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالعقيدة المسألة الثالثة: هل تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم في العقيدة أم أهملها؟ لأننا نرى أن كثيراً من المتأخرين من أهل الكلام ومن الصوفية ومن الفلاسفة ومن العصرانيين الجدد يتكلمون في العقائد بعيداً عن النصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن نتساءل: هل النبي صلى الله عليه وسلم وضح أمر العقيدة والإيمان بالله في أسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته وفي أمر القدر والغيبيات، وفي أمر الموالاة والمعاداة وغير ذلك من الأمور المهمة المتعلقة بهذه الأمة، أم أهملها؟! وللجواب على هذا السؤال نقول: لقد تضمنت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الحق في أصول الدين وفروعه، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33]، والهدى المقصود به: العلم الصحيح النافع، ودين الحق المقصود به: العمل الصالح، وهذا العمل الصالح لا يكون صالحاً إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى لله عليه وسلم، وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى. فرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت متضمنة لبيان الحق في أصول الدين وفروعه، وفي المسائل وفي الدلائل، ولهذا يقول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، ويقول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بكل شيء، وما ترك طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لأصحابه رضوان الله عليهم منه خبراً، وسيأتي معنا مجموعة من الأدلة عند قراءتنا للمقطع الذي يتعلق بيقينية منهج السلف رضوان الله عليهم، وهذه الأدلة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كل شيء، حتى آداب قضاء الحاجة، فقد علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب أحدهم إلى الخلاء ماذا يقول، وإذا خرج من الخلاء ماذا يقول، وإذا نام ماذا يقول، وإذا استيقظ ماذا يقول، وإذا جامع زوجته ماذا يقول، فهل تتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أصحابه هذه الأمور الدقيقة ولم يعلمهم الأمور العظيمة التي فيها صلاح عقائدهم وصلاح دينهم، ومعرفتهم لربهم وخالقهم سبحانه وتعالى؟ وهل تتصورون أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه آداب قضاء الحاجة ولم يعلمهم الصفات حتى احتجنا إلى مصدر آخر نأخذ منه الصفات؟ لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرح لأصحابه أمور العقائد شرحاً مفصلاً أكثر من أي باب من أبواب الدين الأخرى؛ لأنها هي الأصول والقواعد الأساسية التي يرتكز عليها الدين، فهل تتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه صفات الملائكة وصفات الرسل والكتب السابقة ويعرض عن صفات المعبود التي تتوق إلى معرفته كل نفس صالحة طيبة؟ لا يمكن أن يعرض عن ذلك. إذاً: عندما ندرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أصحابه الأمور اليسيرة فلا شك أنه علمهم الأمور العظيمة من باب أولى، وهذا قياس صحيح قوي، وهو الذي يسميه أهل العلم: قياس الأولى. وكذلك يستحيل أن يهمل الرسول صلى الله عليه وسلم بيان الحق المغني في باب الأسماء والصفات وفي باب أفعال الله عز وجل وعبادته، ويدل على ذلك عدة أمور: الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه القرآن، ووصف الله عز وجل هذا القرآن بأنه نور، وأنه هدى، وأنه شفاء، وأنه روح، وهذه الأسماء تدل على موصوفات هي وصف للقرآن الكريم، فلا يمكن أن يكون روحاً وهو لم يبين الأسماء والصفات، ولا يمكن أن يكون نوراً وهو لم يبين الأسماء والصفات، ولا يمكن أن يكون هدى وهو لم يبين الأسماء والصفات. ونستنبط من أسماء القرآن الكريم وما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن ما يدلنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضح العقيدة توضيحاً كافياً شافياً لا إشكال فيه. الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كل شيء، ومن ذلك الأمور الصغيرة، فالأمور الكبيرة من باب أولى. الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بربه، وهو أكثرهم بياناً وأبلغهم فصاحة، وهو أنصحهم لهذه الأمة، فلا يمكن أن تجتمع هذه مع كتمه لبيان العقيدة لهم؛ لوجود العلم عنده، لوجود البيان والفصاحة عنده، ولوجود المحبة والنصح للأمة؛ فينتج عن هذه الثلاث المقدمات استحالة عدم بيان النبي صلى الله عليه وسلم للعقائد الصحيحة، فلا يمكن أن يبقي الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر مشتبهاً ملتبساً على الناس.

اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بالعقيدة

اهتمام الصحابة رضوان الله عليهم بالعقيدة المسألة الرابعة: هل تكلم الصحابة رضوان الله عليهم في باب الصفات كلاماً كافياً وشافياً أم أنهم لم يتكلموا في ذلك؟ والجواب على هذا أن نقول: إنهم تكلموا بكلام كاف شاف يدل عليه عدة أمور: الأمر الأول: واقع الآثار الموجودة في كتب التفسير وفي كتب العقائد المسندة التي نقلت بالأسانيد الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. الأمر الثاني: يستحيل أن يسكت الصحابة رضوان الله عليهم عن بيان العقيدة الصحيحة أيضاً، ووجه استحالة ذلك هو أنه إن سكتوا فإنا نقول: إما أن يسكتوا لجهلهم بالعقيدة أو يسكتوا لأنهم قالوا الباطل فيها والعياذ بالله! فأما سكوتهم للجهل بالعقيدة فهذا لا يمكن أن يتصور من جيل الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنهم كانوا أحرص الناس على الخير، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (من أسعد الناس بحسن شفاعتك يا رسول الله؟ فيقول: لقد علمت أنك ستسألني عن ذلك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بحسن شفاعتي من قال: لا إله إلا الله، مخلصاً من قلبه). وأبو هريرة أيضاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر فيسكت، ثم يقرأ بعد ذلك، فسأله عن هذه السكتة. فلا يمكن أن يحرص الصحابة على الأمور الصغيرة فيسألون عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسألونه في الأمور الكبيرة، وهم أعلم الأمة -ولا شك- بقضايا الدين وأعلمهم أيضاً بقضايا العقيدة على وجه الخصوص؛ لأنهم لما تمثلوها علماً وعملاً نصرهم الله سبحانه وتعالى. وأما قولهم بالباطل فإنه لا يمكن أن يقولوا بالباطل؛ لأن الصحابة أنصح الناس لهذه الأمة، ولا يمكن أن يجتمعوا على باطل، وإن من عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وزكاء قلوبهم وطيب نفوسهم وأخلاقهم وحرصهم رضوان الله عليهم على نشر الدعوة والدين، وبذل أنفسهم في سبيل الله، يعلم أنه لا يمكن أن يتصور مع هذه القرائن جميعاً أن يقولوا الباطل ويكذبوا على الله عز وجل وعلى رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم. وحينئذ نقول: الصحابة رضوان الله عليهم هم أعلم الناس بالعقيدة الصحيحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدلة التي سبق أن أشرنا إليها هي أدلة برهانية يقينية يحتج بها أهل السنة، ويقبلها كل إنسان يريد الحق، لكن المعاند لو جئت له بالنهار لقال لك: إنه ليل. والعياذ بالله! فالمعاند ليس له دواء إلا السيف، لكن طالب الحق الذي لا يكون متبعاً لهواه سيدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين العقيدة بياناً كافياً، وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد بينوها بياناً كافياً واضحاً، ولهذا لم يحصل الاختلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا الاعتقاد، ولا وقع في أصول الأحكام أبداً، وإنما وقع الخلاف بينهم في أمور فقهية محتملة؛ وذلك إذا كان النص يحتمل مجموعة من المعاني، ثم إن الله عز وجل يرزق البعض حفظاً أو فقهاً أقوى من البعض الآخر، وحينئذ قد يقع البعض في الخطأ والبعض الآخر يقع في الصواب، فهذه هي حدود دائرة الاختلاف التي وقع فيها الصحابة رضوان الله عليهم، أما العقائد وأصول الأحكام فإنه لم يقع فيها خلاف ألبتة.

براءة الصحابة رضوان الله عليهم من المسائل الفلسفية والكلامية ونحوها

براءة الصحابة رضوان الله عليهم من المسائل الفلسفية والكلامية ونحوها المسألة الخامسة: هل أدرك الصحابة رضوان الله عليهم المسائل الفلسفية والكلامية والإشارات الصوفية التي وقعت في من بعدهم أم أنهم لم يعرفوها؟ الذين يرون أن الصحابة كانوا مفوضة -يفوضون معاني الأسماء والصفات ولا يفهمون لها معنى- يظنون أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفهمون للصفات معنى، وبناءً على هذا فإنهم لم يغوصوا في معانيها، وإنما جاء المتأخرون من المتكلمين والفلاسفة وأثروا العقيدة بمعقولاتهم التي جاءوا بها، وكذلك الصوفية أثروا الجانب الروحي في الإسلام بما جاءوا به من إشارات لطيفة ودقيقة في العبادات والإرادات لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم على علم بها، وهذا الفهم باطل. والجواب على هذه المسألة أن نقول: إن المسائل الفلسفية والكلامية وقعت بعدهم، فما كان فيها من الحق فلا شك أن الصحابة يعرفونه ويعتقدونه، وما كان من الباطل فلا شك أن الصحابة ينكرون الباطل حتى لو لم يعرفوا هذا الباطل المعين، فإن المنكرات لا يمكن للإنسان أن يحيط بها، وبناءً على هذا نقول: إن ما حصل من الباطل بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد يعلمونه وقد لا يعلمونه، مثل نفي العلو ومثل تأويل الصفات ومثل القول بقدم العالم، أو القول بأن البعث الجسماني لا يكون أبداً، وإنما يكون البعث بالأرواح، ونحو ذلك، فنقول: هذه المعاني الباطلة الضالة والتعبيرات التي تدل عليها قد يعلمها الصحابة أو قد لا يعلمونها، وهذا لا يضرهم في شيء؛ لأن هذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو مثل ما لا ينقض الوضوء، فلو قال لك إنسان: عدد لي ما لا ينقض الوضوء، فستعدد له أشياءً كثيرة لا تنقض الوضوء، وما ينقض الوضوء محصور، لكن ما لا ينقضه كثير، فمثلاً: لمس الورقة لا ينقض الوضوء، وشرب الماء لا ينقض الوضوء، والمسح بالمنديل لا ينقض الوضوء، ولو عددنا لاستغرقنا ليلة أو ليلتين فيما لا فائدة فيه من الكلام عما لا ينقض الوضوء، فالكلام لا ينقض الوضوء، ولمس الغترة لا ينقض الوضوء، ولمس الشعر لا ينقض الوضوء ولهذا ما لا ينقض الوضوء لا يمكن حصره. ويمكن أن أذكر هنا كلام شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) فإنه علق على كلام ابن عقيل الحنبلي رحمه الله في نصيحته لمن أراد أن يشتغل بعلم الكلام وقد أحس في نفسه ذكاءً، فقال له: إن هذا الأمر لا ينفعك، فإن الصحابة ما كانوا يعرفون الجوهر والعرض ونحو ذلك، فعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذه العبارة فقال: قلت: (قول القائل: إن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا ذلك فيه تفصيل، وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل) أي: أن الكلام الذي حصل بعد الصحابة مشتمل على حق وباطل. قال: (أو أن هذا الكلام) يعني: الذي أشار إليه المتكلم. قال: (قد يراد به حق وقد يراد به باطل، فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد وطفرة النظام وامتناع بقاء العرض زمانين، ونحو ذلك، فقد لا يخطر ببال الأنبياء والأولياء من الصحابة وغيرهم، وإن خطر ببال أحدهم تبين له أنه كذب، فإن القول الباطل الكذب هو من باب: "ما لا ينقض الوضوء" ليس له ضابط، وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع) أي: أنه لا يشترط للإنسان أن يعرف كل باطل، لكن يشترط أن يعرف كل حق يمكن أن يعرفه، أو يعرف القدر الواجب منه. قال: (وصار هذا كالنهي عن المنكر وجهاد العدو، فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه) أي: أنهم لم يروا كل منكر، فالصحابة لم يروا القنوات الفضائية، ولا يعني هذا أنه ليس بمنكر، بل إنه منكر، ولا يعني أيضاً أنه نقص في علم الصحابة بالحق؛ لأن الحق كانوا يعرفونه. قال: (وهكذا المقالات الفلسفية والكلامية والإشارات الصوفية التي وقعت بعدهم. ومع هذا فلا يقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها، فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان، وكان بهذه البلاد من الكفار والمشركين والصابئة وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال والفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة، فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات وبينوا بطلانها لمن سألهم، والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال ويسألونه عن أنواع من المسائل ويوردون عليه أنواعاً من الأسئلة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه، والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة قد ناظروا أنواعاً من الجهمية أهل الكلام وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل، ولكن من عرف طرق المناظرين لهم والمسائل التي ناظروهم فيها علم ما كانوا يقولونه، كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسائل الفقه مثل مسألة قتل المسلم بالذمي، أو القتل بالمثقل ونحو ذلك، فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه، فيعرف الفقيه الفاضل مما نقل ما لم ينقل). والشيء كما تعلمون يعرف بالشيء، والشاهد من هذا القول هو

شبهات حول منهج السلف والرد عليهم

شبهات حول منهج السلف والرد عليهم المسألة السادسة: شبهات حول منهج السلف رضوان الله عليهم. لا يخفى أن هذه الأمة افترقت وانقسمت واختلفت وأصبحت طوائف، وتفرقت إلى آراء وأفكار ومناهج وفلسفات متعددة ومختلفة، وأهل الحق هم من سار على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن سار على طريقتهم في الاعتقاد والعمل. وهناك عدد كبير من أصحاب هذه المذاهب والأفكار ينتقدون منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، ونحن في هذا الزمان نسمع هنا وهناك من ينتقد منهج السلف، فقد نسمعه في شريط أو نقرأه في كتاب أو نراه في قناة، أو نقرؤه في صحيفة من الصحف، أو نسمعه في منتدى من المنتديات أو في أي مكان من الأماكن التي يجلس فيها الناس ويتكلمون فيها، فنرى أشخاصاً ينتقدون منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، فلنذكر هذه الشبهات الآن بشكل سريع ومختصر، ونذكر البديل الذي يريده هؤلاء، ثم نبين بطلان ما قالوا به بشكل مختصر أيضاً.

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج قديم لا يواكب الحضارة

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج قديم لا يواكب الحضارة من الشبهات التي أثيرت حول منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم: أنه منهج قديم لا يواكب الحضارة والعولمة! فهؤلاء يقولون: منهج السلف منهج قديم قد انتهى، فقد كان في وقت من الأوقات يصلح، لكن الآن لم يعد يصلح مع التقنية المعاصرة الكبيرة التي يشهدها العالم اليوم، ومع عصر العولمة وتقارب الناس تقنياً وفكرياً إلى آخره. والبديل عند هؤلاء هو الحداثة، وهو أن نهدم القديم ونبني مجتمعاً جديداً من أفكارنا نحن، فمادام منهج السلف قديماً فهو لا يصلح عندهم للتطبيق الآن في مجال الاعتقاد، ولا يصلح للتطبيق في مجال السياسة، ولا يصلح للتطبيق في الاقتصاد العالمي، ولا يصلح للتطبيق في الأدب، ولا يصلح للتطبيق في أي مجال من المجالات، فما هو الحل؟ قالوا: الحل هو أن نخترع لأنفسنا ديناً جديداً ومنهجاً جديداً نواكب به الحضارة في كل مجالاتها، فنخترع منهجاً عقائدياً جديداً، ومنهجاً سياسياً جديداً، ومنهجاً اقتصادياً جديداً، ومنهجاً تعليمياً، ومنهجاً فنياً، ومنهجاً أدبياً، ومنهجاً في أي باب من الأبواب، وهكذا نخترع منهجاً جديداً بعيداً عن كل قديم. وهذا يدل على أن هؤلاء يريدون أن يهدموا الأديان، وهي فكرة في الحقيقة ماسونية ويهودية، فهم يريدون أن يهدموا الأديان جميعاً، ويدخل في الهدم اليهودية والنصرانية والإسلام، ويدخل في الهدم الأنبياء، ويدخل في الهدم كل التفاصيل السابقة، ويدخل في الهدم التاريخ الإسلامي كله، ويدخل في الهدم علماء المسلمين والصحابة رضوان الله عليهم، وهذه الفكرة فكرة إلحادية كفرية خطيرة على الإسلام والمسلمين، ويمثل هذه الفكرة الحداثيون. ولهذا نحن نقول ونكرر دائماً: إن أهل الحداثة ليس الخلاف بيننا وبينهم في التركيب الشعري، فهم ينثرون الشعر ونحن نقول: ينظم، وهم يقولون كلاماً غير مفهوم، ونحن نقول كلاماً مفهوماً، ليس الخلاف هنا، بل هم يرون أن الحداثة منهج تغييري جديد يقتضي هدم كل ما هو قديم، وبناء حياة جديدة، وبالتالي فإن أهل الحداثة ينتقدون منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم. والرد على هؤلاء هو أن نخاطبهم مخاطبة الكفار، فنقول لهؤلاء: هل تثبتون أموراً يقينية في الحياة أو ليس هناك شيء يقيني عندكم؟ فإن كانوا يثبتون أموراً عقلية يقينية خاطبناهم بأدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم التي سبق أن أشرنا إليها، فإذا بينا لهم أن المنهج العقلي يدل على أن الرسول صادق فإن من العقل أن ما جاء به صدق وحق، فإذا عرفنا أن ما جاء به صدق وحق عرفنا أن هذا الدين سيستمر إلى قيام الساعة، وعرفنا أن هناك يوماً آخر يجتمع فيه الخلق ويعذبون أو ينعمون، وعرفنا ما هو من حقائق هذا الدين. أما إذا كانوا لا يثبتون قواعد عقلية مشتركة عند كل الناس فمثل هؤلاء مرضى لا ينفع معهم الخطاب، ولهذا لو أن إنساناً تنزل معهم وقال: دعونا نهدم كل ما هو قديم، ودعونا نؤسس منهجاً جديداً، فكيف يكون ذلك وقد يختلف الناس، هذا يطرح فكرة وهذا يطرح فكرة؟ ما هو المنطق الذي تحتكمون إليه عند اختلافكم؟ فسيقولون: نحكم المنطق العقلي والمنفعة! فيقال لهم: قد يأتيكم شخص فيقول: إن الرسول القديم الذي أردتم هدم شريعته حق من منطلق عقلي، فإذا أرادوا مناقشته أثبت لهم صدق الرسول بالأدلة السابقة، وحينئذ سيضطرون للإيمان بالرسول، وسيلزمهم كل ما تضمنه دين الرسول من احترام منهج السلف واحترام هذا الدين، وإثبات اليوم الآخر إلى آخره من العقائد المعروفة.

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج يقف عند ظاهر النص فقط

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج يقف عند ظاهر النص فقط الشبهة الثانية: يقول بعض الناس: إن منهج السلف منهج نصي يقف عند حدود ظاهر النص ولا يغوص في المعاني ولا مدخل للعقل فيه! والذي يردد هذه العبارات هم أهل الكلام، فأهل الكلام يؤسسون العقائد على العقل مجرداً عن الدين وعن النقل، فإذا قيل لهم: لماذا تؤسسون العقائد على العقل مع أن الدين فيه بيان للعقائد، قالوا: الدين إيمان مجرد ليس فيه إقناع عقلي، وليس كل الناس عندهم استطاعة أن يؤمنوا؛ لأننا نخاطب كفاراً ونخاطب ناساً لا يحترمون الدين، فلا بد أن نؤسس العقائد على العقل بغض النظر عن الدين! وهؤلاء جهلوا جهلاً ذريعاً أن هذا الدين فيه أدلة عقلية لو جمعها الإنسان لاستطاع أن يحارب بها كل مشرك وضال ومبتدع، ولهذا سبق أن أشرت إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله عليه هذا الدين جاء بمصلحة المسلمين في أصول الدين وفروعه وفي مسائل الدين ودلائله، ففي القرآن الكريم أدلة عقلية قاطعة لا تقبل الجدال ولا تقبل الخلاف، وهي تدل على إثبات العقائد، سواء في موضوع وجود الله، أو في موضوع العبودية لله، أو في موضوع اليوم الآخر، أو في موضوع النبوات، أو في أي موضوع من موضوعات العقائد. والحقيقة أن أهل الكلام جاءوا بهذه الفكرة من الفلاسفة، والفلاسفة -خاصة المتأخرين منهم- بنوا عقيدتهم على أن الدين إيمان مجرد على أمرين: الأمر الأول: أن النصارى وأرباب الكنيسة كانوا يطالبون الناس بالإيمان المجرد بعيداً عن العقل، لوجود عقائد لا يقبلها العقل، مثل الثالوثية، ومثل العشاء الرباني، وبعض أنواع العقائد التي جاءوا بها مما لا يقبلها العقل، ولهذا قالوا للناس: لا بد أن تؤمنوا إيماناً مجرداً عن العقل. الأمر الثاني: أن هناك أصلاً فلسفياً يرى أصحابه أن الأديان لا مدخل لها في العقليات ولا مدخل لها في البراهين، ولهذا لو رجعتم -مثلاً- إلى كتاب زكي نجيب محمود محفوظ لوجدتم ذلك، وزكي من الفلاسفة الكبار الأحياء الآن، وله كتاب اسمه (موقف من الميتافيزيقيا) والمقصود بالميتافيزيقيا: الغيبيات أو ما وراء الطبيعة، وهو لا يؤمن بالغيبيات؛ لأنه على نظرية المنطقية الوضعية، ويرى أن الدين هو مجرد الإيمان والتسليم بدون برهان وبدون دليل، ولهذا لا يرى أن الدين مشتمل على البراهين، ولا يرى أن الدين مشتمل على الأدلة العقلية المقنعة، ومن هنا كان هو والمتكلمون ممن تأثر بالمنهج الفسلفي يقولون: إن منهج السلف منهج نصي لا يتضمن العقائد اليقينية المقامة على البراهين العقلية، ونحن نقول: إن منهج السلف مأخوذ من القرآن والسنة، وقد اشتمل القرآن والسنة على أدلة عقلية لا شك فيها. ونضرب على هذا مثلاً، وذلك في قوله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، جاء المشرك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففت عظماً عنده وقال: يا محمد! هل تعتقد أن الله يحييها بعد أن صارت رميماً؟ فقال الله عز وجل: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا} [يس:78] يعني: بحركته هذه. {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] يعني: نسي أن الله عز وجل خلقه من قبل وهو لم يك شيئاً. {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] فرد عليه سبحانه: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، فأنت الآن أتيت بعظم رميم وفتته أمام النبي صلى الله عليه وسلم تقول: من يحيي هذا؟ فنقول: يحييه الذي جاء به وهو لم يكن شيئاً؟! فرد عليه بدليل يقيني عقلي: أن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل إن البدء أصعب من الإعادة؛ لأن البدء ليس له مادة يتكون منها، بينما الإعادة لها مادة موجودة ممكن أن يكون الشيء منها، ولو رجع واحد منا إلى كتاب (درء تعارض العقل والنقل) مثلاً، واستقرأه لاستطاع أن يجمع كثيراً من الأدلة العقلية التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله من النصوص القرآنية، كقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، وهذا فيه بيان أن الله هو الخالق، فكيف البيان العقلي لهذه الآية؟ يقول الله لهم: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، فهل تتصورون أن أحداً يخلق من غير شيء هكذا صدفة؟ هذا لا يمكن، فإن الإنسان مفطور على أن المحدث لا بد له من محدِثٍ، وأنت ترى الطفل الصغير إذا كان متجهاً نحو جهة وجئته وحركته من ورائه التفت إليك، كيف عرف الصبي أن هذه الضربة لها محدث وهو أنت، مع أنه لم يكن كبيراً بحيث إنه يعلم هذا الأمر؟ هذه فطرة موجودة، وهي مقدمات عقلية ثابتة في كل الناس. قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) وهم يعرفون أنهم ليسوا هم الخالقين، وتحصل من هذا أن الله هو الخالق، وهذا برهان عقلي لا شك فيه. وقال عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج جاف لا عناية له بالروحانيات

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج جاف لا عناية له بالروحانيات الشبهة الثالثة: أن منهج السلف منهج جاف لا عناية له بالروحانيات، ولهذا اتجه هؤلاء نحو التصوف كحل لعلاج هذه المشكلة، ونجد أن بعض أصحاب الدعوات المعاصرة الآن يقولون: نحن دعوة سلفية صوفية رياضية! فقيل: كيف تكون دعوة سلفية وصوفية في نفس الوقت؟ قالوا: نأخذ من السلفية العقائد الصحيحة، ونأخذ من الصوفية الروحانيات. فقيل: هل السلفية لا يوجد بها روحانيات؟ قالوا: لا، بل فيها جمود، وفيها جفاف، فنقول: هذا هو الفهم الباطل الذي دفع الصوفية في بداية الأمر للمسالك المنحرفة عن منهج السلف رضوان الله عليهم، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كيف يتعبدون لله، وما هو الطريق الذي يسلكونه إلى الله عز وجل. فلما جاء الصوفية ظنوا أن هذا الدين ليس فيه منهج للتعبد، فاخترعوا منهجاً وقالوا: إن الإنسان يتعبد في خلوة ويذكر الله عز وجل بطريقة معينة، ثم بعد ذلك تأتيه كشوفات، فإذا جاءته الكشوفات هي كرامات، وفي آخر هذه الكرامات تسقط عنه التكاليف! ويمكن مراجعة كتب الصوفية في هذا الأمر. إذاً: الصوفية ما التجئوا إلى منهج مخترع في التعبد إلا لاعتقادهم بأن منهج السلف منهج ناقص وجاف، وهكذا أصحاب هذه الدعوة التي أشرنا إليها، والتي يقولون فيها: إن دعوتنا دعوة سلفية صوفية رياضية، هؤلاء ما قالوا: إن دعوتهم صوفية بهذه الطريقة، إلا أنهم يظنون أن منهج السلف لا يتضمن منهج التعبد لله سبحانه وتعالى، وحينئذ فإن هذا فهم ناقص لمنهج السلف، فإن منهج السلف كما أنه منهج في تصحيح قضايا الاعتقاد في الله عز وجل وصفاته وأفعاله، فكذلك هو منهج في السلوك، وهو منهج في تزكية النفوس، ومنهج في التعبد لله، ومنهج في الدعوة إلى الله، ومنهج في الإصلاح والتغيير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهج في كل باب، منهج السلف هو حقيقة الدين نفسه، فالدين الصحيح هو منهج السلف رضوان الله عليهم.

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج متشدد

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج متشدد الشبهة الرابعة: أن منهج السلف منهج متشدد: يقولون: إن منهج السلف منهج متشدد متعصب، لا يتعامل مع الناس بمرونة، وليس عنده مرونة، وأصحاب هذا الفكر هم الذين يسمون بالعصرانيين. والعصرانيون هم طائفة لهم امتداد تاريخي قديم، ولهم وجود معاصر الآن، وتختلف مقالاتهم، لكن بالجملة تشملهم روح واحدة وهي أنهم يعتقدون أن منهج السلف منهج قاس متشدد، لا يصلح في هذه العصور المتأخرة التي تمكن الغرب من الحضارة، وتمكنوا أيضاً من العالم الإسلامي، وتمكنت أمريكا من العالم عن طريق هيئة الأمم المتحدة، وعن طريق قواعدها العسكرية التي نثرتها في كل مكان في العالم، فهم يقولون: إنه لا يمكن أن نأخذ منهج السلف والحالة هذه، قالوا: والحل أن نكون مرنين في الغناء، فإن الغناء قضية أصبحت جزءاً من حياتنا، واختلاط المرأة بالرجل هي أيضاً جزء آخر، فهي حلال. وكذلك الأموال الربوية لو جئت تطالب البنوك في كل العالم أن تغلق لم يسمع لك أحد، ولهذا يسمون أصحاب المنهج السلفي أصحاب فقه المنع، فعندهم كل شيء ممنوع ممنوع ممنوع، ولهذا يقولون: لابد أن نكون مرنين في التعامل مع الناس. وأصحاب هذا الفكر خطيرون على الأمة الإسلامية؛ لأنهم يجعلون الأمة تذوب في غيرها من الأمم، وتتخلى عن مقوماتها وعن عقائدها وعن مناهجها الأساسية في الحياة التي تميزت بها عن غيرها؛ بحجة أن الضغط قوي، وأن البلاء كبير. والحقيقة أنه مهما حصل الضغط على المسلمين ومهما ابتلي المسلمون، ومهما انتشر الفساد في الأرض، فالواجب ألا يتغير المنهج وألا تتغير العقيدة، فالعقيدة هي العقيدة، والأحكام هي الأحكام لا تتغير لانتشار أمر من الأمور في زمن من الأزمان، وإنما الأحكام هي الأحكام والعقيدة هي العقيدة والدين هو الدين، حتى لو لم يبق إلا عشرة مسلمين والبقية ليسوا على ذلك فيجب أن تبقى العقيدة الصحيحة معهم وأن تبقى الأحكام معهم، فالغناء حرام والاختلاط حرام والربا حرام، فهذه الأشياء حرام جميعاً، حتى لو أن العالم جميعه مارس هذه الأمور. ولهذا هؤلاء يريدون اليوم أن يلتفوا على الصحوة الإسلامية، وأن يلتفوا على الشباب الصالحين الجدد الذين لهم حركة في الدعوة إلى الله عز وجل وإلى الإصلاح، فيقولون: إنكم مهما تحركتم فإنكم لا تستطيعون زحزحة الدب الغربي الذي يجثم على صدر المسلمين، فلا تستطيعون حينئذ أن تغيروا الحياة، لكن حتى تغيروا الحياة لابد أن تكونوا مرنين، وأن تحتكوا بالمجتمع، ولا يكون هناك عوازل بينكم وبين المجتمع، ونحن نقول: إنه ليست هناك عوازل -ولله الحمد- بين الشباب السلفي والمجتمع، لكن هذا الاتصال يتضمن إنكار المنكرات، ويتضمن النصيحة، ويتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتضمن التعليم، ويتضمن الثبات على الحق وعدم قبول المساومة في أي عقيدة من العقائد.

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج منغلق

الرد على من يقول: إن منهج السلف منهج منغلق الشبهة الخامسة: أن منهج السلف منهج منغلق: وهذه تابعة للطائفة الأولى العصرانية، فإنهم يقولون: إنه منهج منغلق عن المعطيات الإنسانية المعاصرة التي أفرزتها الحضارة الغربية، فيقولون: هناك نظريات أوروبية ومذاهب ومناهج فلماذا لا نستفيد منها؟ ولماذا لا نأخذ من هؤلاء ونأخذ من هؤلاء ونأخذ من هؤلاء؟ وللجواب على هؤلاء نقول: إن ديننا غني -ولله الحمد- بالحق، وديننا واضح لا يحتاج أن يستمد من غيره، وهذه العقائد والنظريات والأفكار والمناهج الغربية أو الشرقية إن كان ما فيها حقاً فقد دلنا الله عليه قبل أن يأتي هؤلاء، وإن كان ما فيها باطلاً فنحن نرده ولا نقبله. إذاً: ليس هناك داع إلى أن نقول: نحن نريد أن نأخذ من الآخرين، فأنت لا تأخذ إلا عندما تكون فقيراً، لكن عندما تكون غنياً فإنك تعطي، ونحن أعطانا الله عز وجل الحق ووضحه وبينه لنا، وحينئذ نحن نعطي ولا نأخذ. وهناك أمور في الحياة العادية مثل الميكرفونات ومثل اللمبات لا علاقة لها بالتدين والمناهج والعقائد، فمثل هذه الأمور أمور إنسانية عامة ليست خاصة بالغرب ولا خاصة بالشرق، ويمكن للإنسان إذا تعلمها أن يصنعها وأن يمارسها وأن يستفيد منها؛ فليس في ذلك شيء، لكن المناهج والعقائد والأفكار لا يجوز للإنسان بأي حال من الأحوال أن يستقيها إلا من الوحي المعصوم بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.

الرد على من يقول: إن منهج السلف يركز على جانب ويهمل جانبا

الرد على من يقول: إن منهج السلف يركز على جانب ويهمل جانباً الشبهة السادسة: أن منهج السلف يركز على جانب ويهمل جانباً. وينسبون ذلك إلى بعض المنتسبين إلى منهج السلف رضوان الله عليهم، فقد يجدون شاباً منتسباً إلى منهج السلف عنده ضعف في التفكير مثلاً، فيقولون: إذاً المنهج السلفي ضعيف في التفكير. فنقول: ليس كذلك، فهذا الشخص مسكين ضعيف في التفكير، ولا يلزم أن يكون البقية كذلك، ولو كانوا كلهم كذلك -ولا يمكن أن يكون- لما جاز أن يوصف المنهج نفسه بأنه كذلك، فلا يجوز أبداً أن يوصف المنهج أنه كذلك، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتعلم الأسلوب الصحيح في اعتناق العقائد. والأسلوب الصحيح في اعتناق العقائد هو أن الإنسان يعتنق العقيدة الصحيحة التي دل عليها الكتاب والسنة، وأما ما عداها فليس لنا فيها حاجة. وأما الذين يرددون الحرية الفكرية أو حرية التفكير، ويناقشون قضايا العقائد بغير منهج مستقيم فهؤلاء من الضالين المنحرفين الذين يريدون هدم هذا الدين ويجب أن نقف في وجوههم، وأن نرفض مناهجهم. هذا ما أحببت أن أشير إليه في هذه المسائل المتعلقة بموضوع يقينية منهج السلف الصالح وعصتمه، وسنقرأ -إن شاء الله- في اللقاء القادم المقطع المتعلق بهذا الباب ونعلق عليه؛ لنبدأ في لقاءات أخرى بموضوعات ثانية. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

شرح الفتوى الحموية [3]

شرح الفتوى الحموية [3] لقد ورد في القرآن الكريم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أسماء وصفات لله تعالى، فآمن بها الصحابة وتابعوهم على مراد الله ورسوله، واتبعهم أهل السنة في كل عصر من العصور على ذلك، ثم جاءت الفرق الضالة المنحرفة، فمنهم من أولها، ومنهم من فوضها، ومنهم من أثبت بعضها وأول بعضها كالأشاعرة ومن حذا حذوهم.

عصمة منهج السلف

عصمة منهج السلف إن المراد بمنهج السلف الصالح رضوان الله عليهم هو ما اتفقوا عليه من العقائد والأعمال والإرادات، وأما أقوال السلف كأفراد فليست معصومة، بل هي كغيرها من أقوال البشر يعتريها الخطأ والصواب، والمراد بالعصمة هي ما أجمعوا عليه واتفقوا عليه من العقائد والإرادات والأقوال والأعمال، فكل ذلك معصوم. ومن هنا فإن الذين يستهترون بأقوال السلف ولا يلقون لها بالاً، ويخالفون إجماعات السلف رضوان الله عليهم فإنهم مخالفون لأمر معصوم ومتفق عليه، فهم من أهل البدع والضلالة والانحراف. إذا نظرنا إلى كثير من الكتابات التي تكتب في الصحف اليوم مثلاً، أو في بعض الكتب، خصوصاً من العصرانيين الذين تأثروا تأثراً كبيراً بالحضارة الغربية نجد أنهم لا يوقرون كتب السلف ولا أعلام السلف، ولا يحترمونهم أو يقدرونهم، وإنما ينتقدونهم انتقاداً لاذعاً سيئاً؛ بحجة أن هذا الإنسان الناقد رجل والمنقود رجل أيضاً. وصحيح أن الناقد رجل والمنقود رجل، ولكن الرجال ليسوا على مرتبة واحدة ولا على منزلة واحدة، بل هم متفاوتون كالتفاوت الموجود بين الثرى والثريا، ولهذا ينبغي للإنسان أن يعظم السلف رضوان الله عليهم، ويعرف لهم قدرهم ومكانتهم. وأصل منهج السلف مأخوذ من القرآن والسنة، والسنة معصومة، ولا إشكال في كونها معصومة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إجماع هذه الأمة لا يحصل على ضلالة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى من اتباع غير سبيل المؤمنين، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].

سبب تأليف شيخ الإسلام للفتوى الحموية

سبب تأليف شيخ الإسلام للفتوى الحموية [بسم الله الرحمن الرحيم سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، وذلك في سنة ثمان وتسعين وستمائة، وجرى بسبب هذا الجواب أمور ومحن، وهو جواب عظيم النفع جداً، فقال السائل: ما قولكم في آيات الصفات كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11]، إلى غير ذلك من الآيات وأحاديث الصفات، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن)، وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار)، إلى غير ذلك من الأحاديث، وما قالت العلماء، وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى؟]. ويظهر من خلال قراءتنا للسؤال الموضوع الذي سيتحدث عنه الشيخ في هذا الكتاب، وهو موضوع آيات وأحاديث الصفات خاصة، وهناك موضوعات عقدية أخرى متعددة، كموضوع القدر، وموضوع الإيمان، وموضوع مصدر التلقي، وغيرها من الموضوعات كما هو المعروف من عادة شيخ الإسلام رحمه الله.

الفرق بين مذهب أهل السنة وأهل البدع في تأصيل العقائد

الفرق بين مذهب أهل السنة وأهل البدع في تأصيل العقائد قال المؤلف رحمه الله: [الحمد لله رب العالمين. قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم. وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]]. والطريقة التي بدأ بها الشيخ رحمه الله هي: تأصيل هذا الموضوع. وهكذا ينبغي أن يكون كل طالب علم عندما يريد أن يبدأ في تقرير قضية اعتقادية، أن يرجع إلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطريقة الصحابة رضوان الله عليهم، ومناهجهم ومذهبهم في هذا الأمر. وأما المتأخرون فإنهم لا يرجعون إلى مذاهب الصحابة، بل يؤسسون العقائد على غير طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريفه للمتكلمين: هم الذين يتحدثون في الدين بغير طريق المرسلين، فيخترعون العقائد، ويخترعون الأدلة لهذه العقائد اختراعاً. ونحن ملزمون باتباع منهاج السلف في المسائل وفي الأدلة أيضاً. وقول المؤلف: (فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق)، الهدى: العلم النافع. ودين الحق: العمل الصالح، الذي لا يحصل إلا بالإخلاص والاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم.

الأدلة على استحالة إهمال القرآن والسنة لمسائل الإيمان بالله وأسمائه وصفاته

الأدلة على استحالة إهمال القرآن والسنة لمسائل الإيمان بالله وأسمائه وصفاته

القرآن العظيم والرسول الكريم لم يتركا العقيدة من غير بيان

القرآن العظيم والرسول الكريم لم يتركا العقيدة من غير بيان قال المؤلف رحمه الله: [فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته؛ محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، فلم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه]. فاستدل على امتناع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكر الحق في مسائل الأسماء والصفات بما أخبر الله سبحانه وتعالى عنه صلى الله عليه وسلم من أنه بعثه الله بالهدى ودين الحق، وأن هذا القرآن الذي جاء به نور وهدى وشفاء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على توضيح الحق، وكان من أكثر الناس قدرة على البيان والتبيين والتوضيح والفصاحة. وكل هذه المقومات يستحيل معها أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أغفل أو سكت أو نسي أو أهمل باب توحيد الأسماء والصفات، فإن مقتضى كون هذا القرآن الكريم بياناً وشفاء وهدى وذكرى وروحاً ونوراً، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52]، فلما كان القرآن بهذه الصفة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم من أفصح الناس، وأقدرهم على البيان، وأحرصهم على نجاة أمته، وأكثر الناس بذلاً وجهداً وجهاداً لإصلاح أمته، فهذه المقومات مجتمعة لا يمكن معها بأي حال من الأحوال أن يكون رسول الله قد سكت عن باب الإيمان بأسماء الله الحسنى وبصفاته العلى؛ لأن حاجة الإنسان إلى توحيد الله في أسمائه وفي صفاته أعلى، وإذا كانت أعلى حاجة فإن من ضروريات البيان والفصاحة والهدى الذي هو وصف للقرآن، ومن ضروريات والشفاء أن يكون قد وضح ذلك توضيحاً كافياً وبيناً، فلسنا بحاجة إذاً إلى منهج غير القرآن الكريم في الاستدلال على أسماء الله وصفاته، وعلى ما أخبر به سبحانه وتعالى. هذا برهان قوي عقلي متقن بشكل كبير، وهذا البرهان العقلي المتقن المنظم بهذا الأسلوب ينتج عنه استحالة أن يكون القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبينا الأسماء الحسنى والصفات العلى. قال المؤلف رحمه الله: [فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب، وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟!]. وهذا واضح وبين. وكل فقرة من هذه الفقرات عليها دليل من القرآن والسنة، فقوله: (فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير)، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45 - 46]. وقوله: (الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور)، عليه أيضاً دليل من القرآن. وقوله: (وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) مقطع من آية. وقوله: (وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة)، أخذه من قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} [النساء:59]، وقوله سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، إلى آخر الآية، وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]، إلى آخر ما يدل على وجوب طاعة الرسول. وقوله: (وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة)، مأخوذ من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، إلى آخر الآية. وقوله: (وقد أخبر الله أنه أكمل له ولأمته دينهم)، مأخوذ من قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة:3]. ففقرات هذا الدليل، كل فقرة منها يدل عليها دليل من القرآن أو دليل من السنة. والواجب لله من الأسماء والصفات الكمال المطلق له سبحانه وتعالى، وكل صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه واجبة لله عز وجل، وما يجوز عليه هي صفات الأفعال، فإن صفات الأفعال يجوز أن يفعلها ويجوز ألا يفعلها. وأما قوله: (وما يمتنع عليه)، فهي صفات النقص جميعاً، كالنوم وا

دليل الأولى على تعليم الرسول للصحابة معاني الأسماء والصفات

دليل الأولى على تعليم الرسول للصحابة معاني الأسماء والصفات قال المؤلف رحمه الله: [ومن المحال أيضاً أن يكون النبي قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة]. وهذا يشير فيه إلى ما رواه الإمام مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قيل له: (قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟ قال: أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو بعظم). فالنبي صلى الله عليه وسلم ما ترك أمراً من الأمور إلا دلّ أمته عليه حتى الأمور البسيطة، مثل موضوع الذهاب إلى قضاء الحاجة. قال المؤلف رحمه الله: [وقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)]. وهذا الحديث رواه بهذا اللفظ الإمام ابن ماجة رحمه الله في سننه من حديث العرباض بن سارية، في الحديث المشهور الذي قال فيه: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! إن هذه لموعظة مودع، فماذا تعهد إلينا) وفي بعض الألفاظ: فأوصنا. فذكر هذا الحديث. وهذا الحديث إسناده صحيح، صححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة. قال المؤلف رحمه الله: [وقال فيما صح عنه أيضاً: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)]. وهذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وهذا الحديث فيه بيان أن الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبر الله عز وجل عنه كان حريصاً على أمته، قال تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]. قال المؤلف رحمه الله: [وقال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: (لقد توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)]. وهذا الأثر رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد فيه نظر، ورواه الطبراني، وقال الهيثمي رحمه الله: إن رجال الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، وهو ثقة. قال المؤلف رحمه الله: [وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (قام فينا رسول الله مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه). رواه البخاري]. ورواه أيضاً مسلم في صحيحه. قال المؤلف رحمه الله: [ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم على غاية التمام؟! إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه]. وهذا برهان من البراهين التي تدل على أن القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم قد وضحوا باب الأسماء والصفات توضيحاً كافياً شافياً بيناً، بحيث لا يمكن أن يكون مع هذا البيان إشكال على الناس. وهذا الدليل يسمى قياس الأولى. وشيخ الإسلام رحمه الله نقل هنا من الأحاديث والآثار ما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه أموراً صغيرة ودقيقة وعادية، في صلاح الإنسان وفلاحه ونجاحه وسعادته في دنياه وأخراه، فمن المحال أن يبين لهم هذه الأمور الصغيرة ويهمل تلك الأمور الكبيرة. وهذا دليل عقلي يقيني، لا شك فيه؛ فإنه يستحيل أن يوضح لهم الصغيرة ويهمل الكبيرة إلا إذا قدح أحد في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه غير مستقيم العقل مثلاً، ففي هذه الحالة نبطل قوله بأن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم صحيحة، ونثبت صحة رسالته بدلائل النبوة المعروفة المفصلة. وهذا الدليل الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله دليل قياس الأولى، وهو: أنه بين الأمور الصغيرة فبيانه للأمور الكبيرة من باب أولى.

الرد على العلمانيين في قولهم إن الدين لا دخل له في السياسة

الرد على العلمانيين في قولهم إن الدين لا دخل له في السياسة وبمثل هذا يمكن أن نرد على العلمانيين الذي يقولون: إن هذا الدين لا دخل له في السياسية. فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أصحابه آداب قضاء الحاجة، وقال أبو ذر: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً)، فكيف يوضح الرسول صلى الله عليه وسلم دقائق الأمور للصحابة، مثل آداب قضاء الحاجة، وآداب النوم، وآداب الاستئذان، ونحو ذلك، ويهمل قضايا الأمة العامة الأساسية المهمة، مثل قضية سياسة الناس وتطبيق أحكام الله عز وجل؟! هذا لا يمكن أبداً. فهذا نوع من أنواع الأدلة التي يمكن أن يستدل بها في الرد على العلمانيين الذين يقولون: إن الشرع أهمل قضية سياسة الناس. وفيه الرد أيضاً على المتكلمين الذين يقولون: إنه لا يوجد في القرآن ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة بما يغني ويفي ويكفي في موضوع الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته.

استحالة عدم علم الصحابة بمعاني الأسماء والصفات

استحالة عدم علم الصحابة بمعاني الأسماء والصفات قال المؤلف رحمه الله: [ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة القرن الذي بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم؛ كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع. أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه. أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده، لا معرفة كيفية الرب وصفاته، وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر]. يقول: إن الصحابة رضوان الله عليهم لابد أن يكونوا قد تحدثوا في مسائل الإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العلى حديثاً كافياً؛ لأن من لم يتكلم في هذا الموضوع ويوضحه توضيحاً تاماً فله حالتان: إما أن يكون سكت لأنه ليس عنده علم بالحق، فلم يتكلم فيه، وإما أن يكون قال بالباطل ونقيض الحق. فرد الأول، وقال: لا يمكن أن تكون الحالة الأولى موجودة عند الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأن أي إنسان عنده محبة لطلب العلم، ونهمة في العبادة لابد أن يسأل عما يتعلق بصفات الله وأسمائه وأفعاله. وأي إنسان عادي عنده محبة لطلب العلم فإنه عندما يدخل في هذا الدين مباشرة يسأل عن إله هذا الدين وعن صفاته وعن أفعاله وعن عبادته، فمن المستحيل أن يكون الصحابة الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله وقتلوا وجاهدوا في سبيل الله جاهلين بالله وأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى. وقوله رحمه الله: (أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته)، هذا استدراك؛ لأن بعض الناس قد يفهم من قوله: (أنه يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده)، أن من أكبر المقاصد البحث عن كيفية صفات الله عز وجل، فاستدرك على هذا الفهم الذي قد يطرأ على قارئ كلامه، فقال: أعني: ما ينبغي اعتقاده من الحق، وتصور الحق في هذه المسألة، وليس المقصود معرفة الكيفية؛ فإن معرفة الكيفية غير مدركة للإنسان. قال المؤلف رحمه الله: [وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضى -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم، هذا لا يكاد يقع من أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا، والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع من أولئك؟! وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم]. فقوله: (وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق)، أي: هذا فيه تضليل للصحابة وتجهيل لهم، وهذا الاعتقاد لا شك أنه اعتقاد باطل، وقائله ضال منحرف، والكلام عليه كالكلام على الشيعة في سبهم للصحابة رضوان الله عليهم.

كلام الصحابة في الأسماء والصفات

كلام الصحابة في الأسماء والصفات قال المؤلف رحمه الله: [ثم الكلام عنهم في هذا الباب أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى أو أضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه]. أي: أن كلام الصحابة رضوان الله عليهم في موضوع صفات الله عز وجل كلام كثير واسع، ومنه ما نقل وانتشر حتى وصل إلينا، ومنه ما لم ينقل، فمثلاً: كتب التفسير مليئة بنقل أقوال الصحابة رضوان الله عليهم في تفسير آيات الصفات، وكذلك الذي يرجع إلى كتب السلف رضوان الله عليهم في أصول الاعتقاد مثل: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي، والسنة لـ عبد الله ابن الإمام أحمد، والشريعة للآجري، وأصول السنة لـ ابن أبي زمنين، وغيرها من الكتب التي ألفت في العقيدة سيجد أقوالاً كثيرة للصحابة رضوان الله عليهم في موضوع صفات الله سبحانه وتعالى. فمنهج السلف معصوم يقيني، وأصل يقينية منهجهم وعصمته مأخوذة من أصل يقينية مصدرهم وهو الوحي. وما يشغب به المنحرفون المجترئون على السلف الصالح رضوان الله عليهم هو ضلال وانحراف في حقيقته، وليس هو فكرة موضوعية مدروسة دراسة كافية، ولأجل هذا كان كثير ممن يتحدث عن الحرية الفكرية يريد أن يدخل من هذه الكلمة الفضفاضة العامة للطعن في السلف رضوان الله عليهم، وفي رجالهم وأئمتهم رضوان الله عليهم. ولا نقول: إن أحداً من أفراد السلف لا يقع في الخطأ، فهم بشر يقعون في الخطأ، ولكن مجموعهم لا يمكن أن يتفقوا على الوقوع في الخطأ، فلو أخطأ واحد منهم في قرن فسيرد عليه آخر في قرن آخر، أو في بلد آخر، فلا يمكن أن يتفقوا على خطأ يعمهم ويتفقون عليه. فالمعصوم هو منهجهم، وليس أفرادهم. وهذه القضية يقع فيها نوعان من الناس في الخطأ، نوع لا يقر بعصمة منهج السلف بالمرة، فيخالف عقائده الأساسية، وإذا احتج عليه أحد بقول السلف في ذلك أعرض عنه، وقال: هذا كلام رجال لا ينبغي أن تستدل به، وليس استدلالك بصحيح، ولا يوقرهم ولا يقدرهم. ونوع آخر يقع في خطأ مضاد، وهو: أنه يستدل على الناس بأقوال آحاد السلف، وهذا لا شك أنه غير ملزم؛ لأنها اجتهادات يجتهدونها، وقد تكون صحيحة وقد لا تكون صحيحة، والعبرة هي بإجماعهم. ثم أشار الشيخ إلى قضية مهمة جداً، وهي بطلان نسبة التفويض إلى عقيدة أهل السنة والسلف الصالح رضوان الله عليهم، وقد أشار إليها الشيخ رحمه الله ضمن الاستدلال على يقينية منهج السلف وأنه معصوم، وأن الصحابة رضوان الله عليهم تحدثوا في العقائد حديثاً مستفيضاً وواضحاً وبيناً ولا إشكال فيه، وفي ضمن ذلك أشار إلى مقالة بعض المتكلمين الذين نسبوا إلى منهج السلف التفويض.

مذهب التفويض وبيان بطلانه

مذهب التفويض وبيان بطلانه

معنى التفويض

معنى التفويض ومذهب التفويض معناه وحقيقته هو: أن نصوص الصفات الواردة في القرآن وفي السنة ليست على ظاهرها، وإنما لها معان أخرى تخالف الظاهر، فهم يعتقدون أن ظاهر نصوص الصفات الواردة في القرآن وفي السنة التشبيه، فيقولون: إن هذه النصوص ليست على ظاهرها، وإنما لها معانٍ أخرى غير هذه المعاني، ثم قالوا: إن هذه المعاني الأخرى مجهولة بالنسبة لنا ولا نعرفها ولا نستطيع أن نعرفها. وقال المفوضة: إن الإنسان لا يستطيع أن يتفهم نصوص الصفات، وليس هناك فرق في المعنى بين قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، يقولون: لا نفهم من الأول معنى كما لا نفهم من الثاني معنى.

أصول مذهب التفويض

أصول مذهب التفويض وقول المفوضة هذا مبني على أصول: الأصل الأول: هو أن نصوص الصفات ليست على ظاهرها؛ لأن ظاهرها يقتضي التشبيه والتمثيل. والأصل الثاني: هو أنهم قالوا: إن نصوص الصفات لا يمكن للإنسان أن يتدبرها وأن يتفهمها؛ لأنه لا فرق بين هذه الآية وتلك الآية؛ لأن الجميع لا نفهمه ولا نعرفه، ثم قالوا: بأن هذا هو معتقد السلف الصالح رضوان الله عليهم. وإذا أردنا أن نلخص مذهب التفويض ونضم مسائله بعضها إلى بعض، فإنه يتلخص في أمرين: الأمر الأول: إنكار الصفات. والأمر الثاني: عدم تحديد معنىً لنصوص الصفات. فالذين أنكروا الصفات، قالوا: هذه ليست على ظاهرها قطعاً، فقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، لم يستو. وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، ليس لله يدان على حقيقتها. وقوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم:42]، ليس لله ساق على حقيقتها، وهكذا بقية النصوص الشرعية. فهم ينفون الصفات التي تضمنتها هذه النصوص. ثم إذا سألت: ما هو المعنى إذاً؟ فلا يعطونك معنى محدداً وإنما يقولون: نفوض ذلك إلى الله عز وجل، يعني: نرد هذا إلى الله، ولا نستطيع أن نفهم لها معنى، هذا هو حقيقة مذهب التفويض.

أسباب نشأة مذهب التفويض

أسباب نشأة مذهب التفويض وقد نشأ مذهب التفويض عندما وقعت الخصومة بين أهل السنة والمعتزلة، فإنه عندما ظهر المعتزلة وأولوا أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى، وقالوا بخلق القرآن، ثم تبنى المأمون القول بخلق القرآن وفتن العلماء، وسجن من سجن منهم، وقتل من قتل منهم، وشرد من شرد منهم، وثبت الإمام أحمد ونصره الله سبحانه وتعالى، كان الناس في تلك الفترة في موضوع صفات الله عز وجل على رأيين: رأي النفاة، ويمثله المعتزلة، ورأي المثبتين، ويمثله أهل السنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. وفي هذه الأثناء ظهرت طائفة ثالثة وهم أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب. فـ عبد الله بن سعيد بن كلاب ظهر بمقالة ثالثة وهي: أنه أثبت بعض صفات الله ونفى بعضها، فأثبت بعض الصفات الخبرية الواردة في القرآن، ونفى الصفات الاختيارية. ولما ظهر عبد الله بن سعيد بن كلاب انتسب إلى الإمام أحمد وإلى المعارضة التي كانت ضد المعتزلة، وكانت المعارضة ضد المعتزلة في بداية الأمر يمثلها الإمام أحمد وجمهور أهل السنة.

منهج ابن كلاب في مناظرة المعتزلة

منهج ابن كلاب في مناظرة المعتزلة ولما ظهر عبد الله بن سعيد بن كلاب ظهر في مناقشته للمعتزلة بمنهج غريب عن منهج السلف الصالح، وهذا المنهج الغريب هو: الاستدلال على مسائل الاعتقاد بالعقل المجرد، وأقر للمعتزلة بكثير من المقدمات العقلية التي قالوا بها، ومن أعظمها وأشهرها: الاستدلال على وجود الله عز وجل بدليل حدوث العالم، وأن العالم مركب من جواهر وأعراض، وأن الدليل على أن هذا العالم محدث هو الحدوث، الذي هو حصول الشيء بعد أن لم يكن، فالتزم أن الشيء إذا حصل بعد أن لم يكن أن هذا يسمى حدوثاً، وإذا كان هذا حدوثاً فهو دليل على أنه مُحدث والإله قديم، ولا يمكن أن يكون محدثاً، فالتزم بناء على ذلك أن الأفعال الاختيارية التي يفعلها الله عز وجل متى شاء من هذا القبيل، وأن الله عز وجل قديم بذاته وصفاته، وليس هناك حدوث في صفات الله عز وجل. فلما رأى أن النصوص الشرعية تتضمن إثبات أفعال لله عز وجل، وأنها حدثت بعد أن لم تكن موجودة من قبل قال: إذاً هذا يلزمنا أن نبطل دليل حدوث العالم الذي هو دليل وجود الله عز وجل، ولا يمكن أن نبطله؛ لأن في إبطاله إبطالاً لأصل وجود الله عز وجل، وبناءً على هذا قال: لابد من تأويل النصوص الواردة في إثبات أفعال الله عز وجل، فعندما يقرأ مثلاً: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، يكون معناها: أنه لم يكن مستوياً ثم استوى؛ لأن (ثم) تقتضي الترتيب، فمعنى هذا أن الاستواء حدث بعد أن لم يكن موجوداً، وهذا دليل الحدوث، والله عز وجل قديم، فأول الاستواء وقال: إنه بمعنى استولى، فالتزم بتأويلات المعتزلة في موضوع الصفات الاختيارية.

ردود أهل السنة على منهج المعتزلة في إثبات وجود الله

ردود أهل السنة على منهج المعتزلة في إثبات وجود الله والمذهب الحق في هذه المسألة هو مذهب أهل السنة، فإن أهل السنة قالوا: إن دليل المعتزلة في إثبات وجود الله دليل فاسد باطل، ونحن لسنا محتاجين في إثبات وجود الله عز وجل للاستدلال بدليل حدوث العالم، وهو: أن العالم مكون من جواهر وأعراض، وأن الجواهر تتعلق بها الأعراض، فإذا تعلقت بها الأعراض فإن هذا يكون دليلاً على حدوثه، وأنه يصبح محدثاً، وكل مُحدَث لا بد أن يكون له من مُحدِث، وإنما نستطيع أن نثبت وجود الله بغير هذا الطريق، فهذا طريق مبتدع مخترع، ولسنا محتاجين إليه. فنستدل على وجوده بدليل الفطرة، وهو أن الإنسان يشعر من نفسه أن الله عز وجل موجود، وهذه الفطرة يعرفها الإنسان من نفسه. وأيضاً هناك أدلة عقلية أخرى، وهي: أن هذه المخلوقات إما أن تكون خلقت نفسها، وهذا محال؛ لأننا نعرف أنها لم تخلق نفسها، وإما أن تكون خلقت من غير شيء، وهذا غير مقبول عقلاً؛ فإنه لا يمكن أن يوجد مخلوق بدون خالق، وبناءً على هذا فلا بد أن يثبت الخالق، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. فنحن لسنا محتاجين إلى هذا الدليل، ولكن المشكلة التي وقع فيها الكلابية هي أنهم التزموا بأدلة المعتزلة الكلامية فأثر ذلك عليهم، فأصبحوا من نفاة الصفات.

تأويل الأشعرية

تأويل الأشعرية ثم بعد ذلك ظهر أبو الحسن الأشعري، وكان معتزلياً لمدة أربعين سنة ثم ترك الاعتزال، فلما ترك الاعتزال وجد أمامه طريقين: الطريق الأول: هو طريق الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وعامة السلف. بعد تركه لمنهج المعتزلة إلى طريقة الكلابية والكلابية كانوا يردون على المعتزلة بقوة مع التزامهم بعض أصولهم، فالتزم أبو الحسن طريقة الكلابية وألف كتاب (اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع)، ويقصد بـ (أهل الزيغ والبدع) المعتزلة، وألف رسالة أخرى سماها (رسالة إلى أهل الثغر) ثم ألف بعد ذلك كتاباً سماه (الإبانة). وفي الكتابين الأولين كان على طريقة الكلابية، فإنه نفى الصفات الاختيارية، ونفى بعض ما يتعلق بالصفات العقلية من التجدد، فمثلاً في صفة العلم نفى أن يكون هناك تجدد للعلم مع تجدد المعلومات، وهكذا البصر والإرادة، ونحوها، فهو يقول في الإرادة مثلاً: إن إرادة الله إرادة واحدة كانت فكانت هذه المرادات. وحين مناقشة أبي الحسن الأشعري في هذه المسألة، وهو أن الأمور التي حصلت بعد مائة سنة مثلاً ولم تكن موجودة قبل ذلك ألم يردها الله عز وجل في ذلك الوقت؟ قال: لا، أرادها الله إرادة واحدة في بداية الأمر فكانت. ولهذا وقع في أخطاء كبيرة. والمعتقد الصحيح هو أن الله عز وجل يريد كل أمر من الأفعال في وقته الذي يريده فيفعله، فإن ما شاءه الله عز وجل كان، وما لم يشأ لم يكن في أي وقت وفي أي مكان، ولكن دليل الحدوث أثر عليهم تأثيراً كبيراً، بحيث إنهم كانوا لا يثبتون أي أمر من الأمور التي تكون بعد أن لم تكن موجودة سابقاً. وعندما ظهر أبو الحسن الأشعري وتلاميذه من بعده رأوا أن هناك كثيراً من الصفات لابد لها من تأويل فأولوها، فمثلاً: أولوا النزول بأنه نزول الأمر، وأولوا الاستواء بأنه الاستيلاء، وأولوا المجيء بأنه مجيء الأمر، وكذلك الإتيان، وهكذا فلما اشتغلوا بالتأويل ظهرت طائفة منهم قالت: إن الناس على قسمين: القسم الأول: السلف الصالح رضوان الله عليهم، ويعنون بهم الصحابة والتابعين، وهؤلاء كانوا على مذهب التسليم المطلق، الذي يكون بعد نفي ظواهر آيات الصفات وأحاديثها. والقسم الثاني: طائفة المتأخرين الذين اشتغلوا بالتأويل.

بعض الأشاعرة الذين قسموا السلف إلى مفوضة ومؤولة

بعض الأشاعرة الذين قسموا السلف إلى مفوضة ومؤولة ومن الأشاعرة الذين أشاروا إلى مسألة انقسام أهل السنة حسب زعمهم إلى: مفوضة ومؤولة أبو سليمان الخطابي رحمه الله في كتابه (أعلام الحديث) في شرح صحيح البخاري وهو كتاب مطبوع. ومنهم أيضاً: أبو بكر بن فورك في كتاب (مشكل الحديث وبيانه)، وهذا الكتاب ألفه في الرد على كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة رحمه الله، فإنه استعرض الأحاديث التي أثبت فيها الصفات فأولها جميعاً، وذكر في بداية كتابه أن الناس على قسمين: قسم فوضوا، وقسم أولوا، وكلاهما على الحق، هكذا يقول. ومنهم أيضاً البيهقي في كتابه الأسماء الحسنى، ومنهم أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية، ومنهم ابن خلدون في مقدمة تاريخه المشهور. ومنهم مفوضة الحنابلة وهم مجموعة من الحنابلة كـ أبي يعلى القاضي رحمه الله تعالى وابن الزاغوني والكلوذاني ومنهم ابن الجوزي ومنهم مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي والسفاريني صاحب لوامع الأنوار البهية وغيرهم، فهؤلاء فهموا أن مذهب السلف هو التفويض. والحقيقة أنه ليس هناك فرق بين مذهب المؤولة ومذهب المفوضة من جهة نفي الصفات من الجميع، فإن المفوضة والمؤولة جميعاً ينفون الصفات، ولكن اختلفوا في المعنى، فالمفوضة قالت: نفوضه لله، والمؤولة قالت: نؤوله بما نستطيع، فالجميع من نفاة الصفات. ولهذا يرى الأشاعرة أن المفوضة والمؤولة ليس بينهما فرق، ويقولون: إن المفوضة اتبعوا طريقة السلف، والمؤولة اتبعوا طريقة الخلف. وظهرت المقالة المشهورة التي أشار إليها ابن تيمية رحمه الله وهي: (إن مقالة السلف أسلم)، يعني: حتى لا نتورط في أن ننسب للقرآن والسنة معنى غير متأكد منه، فهي أسلم، (وأما طريقة الخلف فهي أعلم وأحكم) يعني: أدق. ولهذا يرى هؤلاء أن السلف الصالح رضوان الله عليهم وهم الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتحدثوا في موضوع الصفات بما يغني ويشفي، وأن كلام المتأخرين أقوى وأدل على موضوع الصفات من كلام الصحابة رضوان الله عليهم، ويرون أن هؤلاء الصحابة والتابعين والسلف رضوان الله عليهم مثل العوام الذين يقرءون القرآن ولا يفهمون منه إلا المعاني العامة فقط، وأما الغوص في المعاني والمدلولات فإن هؤلاء لم يصلوا إليه، وإنما وصل إليه الخلف كما يقولون وكما يزعمون. ولهذا فإن أهل السنة يسمون المفوضة: أهل التجهيل، يعني: الذين جهلوا السلف، وقالوا: إنهم جهلوا معاني النصوص، فلم يفهموها ولم يفقهوها.

الفرق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية

الفرق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية وننبه إلى قضية مهمة جداً، وهي أن هناك فرقاً بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية، يعني: عندما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، فإن هذه الآية لها معنى ولها كيفية، فالمعنى أن لله عز وجل يدين تليقان بجلاله لا تشبهان أيدي المخلوقين، وأن هاتين اليدين يدان حقيقيتان لا تشبهان أيدي المخلوقين، وهذا ما يفهمه الإنسان. فاليد في هذه الآية غير الاستواء، فالاستواء فعل واليد صفة، وليست فعلاً، هكذا نفهمها مع إثباتنا لنفي المشابهة، وأما الكيفية التي هي تحديد كيفية الصفة فلا نعلمها؛ لأن هذا الأمر ليس إلينا، وإنما هو إلى الله عز وجل، وإن كان لها كيفية محددة في نفس الأمر، ولكن لا نفهمها؛ لأن الله لم يعلمنا إياها. فالله عز وجل يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ويقول: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، فنفى عن نفسه مشابهة المخلوقين، ولم يعلمنا بكيفية صفته، وإنما علمنا معناها، فإن هذه الكلمات الموجودة في القرآن من لغة العرب، ولغة العرب واضحة يفهمها الإنسان، ويستطيع أن يدرك معانيها، ولا يلزم من إدراك معناها إدراك حقيقتها على التفصيل، ولهذا نحن نقول: نفهم المعنى ونفوض الكيفية، بينما المفوضة يفوضون المعنى والكيفية، فلا يفهمون لآيات الصفات وأحاديثها معنى.

الرد على المفوضة الذين يفوضون المعنى والكيفية

الرد على المفوضة الذين يفوضون المعنى والكيفية نرد على هؤلاء بأن نقول: إن الله عز وجل أمرنا بتدبر كتابه ولم يفرق بين الآيات التي في القصص والأحكام والآيات التي في الصفات، قال الله عز وجل: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]. ويقول سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. إذاً: فالقرآن يمكن لنا أن نتدبره ونتفهمه، ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من يفقه الدين، وفقه الدين يكون بفقه القرآن والسنة، ويدخل في الفقه هنا فقه العقيدة وفقه الأحكام، فالله عز وجل لم يقل لنا: اتركوا آيات الصفات ولا تتدبروها؛ لأنكم لن تفهموا لها معنى، وتدبروا الآيات المتعلقة بالأحكام. وبناء على هذا نقول: إن الله أمرنا بأن نتدبر آياته، فيجب أن نلتزم ذلك ونفهم أن لنصوص الصفات معنى، ونفوض الكيفية لله سبحانه وتعالى، هذا أولاً. وثانياً: أنه يلزم من عدم معرفة معاني آيات الصفات الجهل بالله عز وجل، والجهل بالله عز وجل لا شك أنه من أخطر الأمور المتعلقة بالعقيدة، فالإنسان إذا جهل الله، وجهل صفاته، وجهل أسمائه، وقع -والعياذ بالله- في عدم معرفته لله وصفاته وأسمائه، وهذا نقص عظيم في العقيدة، إن لم يصل بالإنسان إلى الشرك. وثالثاً: إن لازم مقالة التفويض أن الله عز وجل خاطبنا بالألغاز والأحاجي، ومعاذ الله أن يكون هذا القرآن فيه خطاب لنا بالألغاز والأحاجي، فإن الله عز وجل سمى هذا القرآن بياناً، فقال: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]، والبيان يقتضي أن يكون واضحاً بيناً لا إشكال فيه، ومقالة المفوضة تدل على أنّ هذا القرآن فيه ألغاز وأحاجي لا يمكن للإنسان أن يفهمها، والله عز وجل أراد لنا معرفة الحق، ولم يرد بنا التضليل وعدم تأمل آياته وأحكامه.

القائلون بالتفويض في هذا العصر

القائلون بالتفويض في هذا العصر وممن قال بمقالة المفوضة من المتأخرين الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية)، والأستاذ حسن البنا، والأستاذ عبد الرحمن حبنكة الميداني في كتابه (العقيدة الإسلامية وأسسها). ومقالة المفوضة لها رواج ضخم عند كثير ممن يجهل أمر الاعتقاد، وعند كثير ممن يتبع بعض المشايخ بدون بصيرة وعلم، فبعض من يتبع الأستاذ حسن البنا يقولون بمقالته بدون علم. وقد قرأت مقالة طويلة في مجلة المجتمع كتبها الدكتور يوسف القرضاوي يقرر فيها أن مذهب التفويض هو مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم، ويقول: إن السلف رضوان الله عليهم لم يتكلموا في معاني صفات الله عز وجل، ويقول: إن الخلاف مع الأشاعرة خلاف بسيط، والسبب في كونه بسيطاً هو أن الأشاعرة اختاروا أحد قولي أهل السنة، هكذا يقول، فهو يقول: أهل السنة لهم قولان: القول الأول: التفويض، والقول الثاني: التأويل. فكون الأشاعرة اختاروا مقالة التأويل لا يعني أنهم مخطئون. والحقيقة: أن الجميع مذهب واحد منحرف عن جادة أهل السنة والجماعة.

شرح الفتوى الحموية [4]

شرح الفتوى الحموية [4] مذهب التفويض مذهب خطير، وتكمن خطورته في أنه قد تبناه أعلام مشهورون كالأشعري والخطابي والسفاريني وغيرهم من الأئمة، وأيضاً لأن الناس يحبون السهولة، والنفس البشرية تركن إلى الراحة، فهذا المذهب يوفر عليهم عناء البحث عن الحقيقة، فلجئوا إلى نفي الصفات، وفوضوا معناها وحقيقتها، مع أن السلف الصالح أثبتوا معانيها وفوضوا حقائقها وكيفيتها، فينبغي للمسلم أن يحذر من مذهب التفويض المفضي إلى نفي صفات الله تعالى.

موقف المفوضة من صفات الله تعالى والنصوص الواردة في ذلك

موقف المفوضة من صفات الله تعالى والنصوص الواردة في ذلك في الدرس الماضي تحدثنا عن المفوضة وبطلان مذهب التفويض، ومقالة: أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الناس انقسموا في نصوص صفات الله سبحانه وتعالى من القرآن والسنة إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: هم أهل الحق وهم أهل السنة والجماعة الذين أجروا هذه النصوص على ظاهرها، وقالوا: إن ظاهرها مراد، وإن الله عز وجل خاطبنا بلغة بينة وواضحة، ونفوا عن معانيها مشابهة المخلوقين؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وغيرها من الآيات التي تدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن مشابهة المخلوقين. الطائفة الثانية: هم المؤولة، وهم الذين قالوا: إن نصوص صفات الله سبحانه وتعالى ليست على ظاهرها. وقالوا: إن ظاهرها تشبيه الله عز وجل بخلقه، وإن هذه النصوص لا يمكن أن تكون على ظاهرها، وإن لها معاني مجازية أخرى يمكن أن نستخرجها، ثم بدءوا يؤولون صفات الله سبحانه وتعالى على معان أخرى غير المعاني الحقيقية التي يدل عليها ظاهر النص، وهؤلاء هم المؤولة وهم الجهمية والمعتزلة، وهم المتأخرون من الأشاعرة والماتريدية. الطائفة الثالثة: هم المفوضة، وهم الذين قالوا: إن نصوص الصفات ليست على ظاهرها، وإن ظاهرها يدل على التشبيه، فاشتركوا مع المؤولة في هذا الأمر، وهو أن ظاهر نصوص الصفات ليست مرادة، وإنما هي تدل على التشبيه، ثم افترقوا عن المؤولة بأنهم قالوا: إن معانيها مجهولة لنا لا نعلمها، وإنما يعلمها الله سبحانه وتعالى وحده. وأنكروا على المؤولة الذين زعموا أن لها معاني مجازية يعلمونها، وقالوا: إن لها معاني أخرى غير معناها الظاهر، لكن نحن لا نعلمها، وسموا ذلك تفويضاً. وهذه الطائفة هي المعنية بالحديث معنا في الدرس الماضي، وفي هذا الدرس سنكمل الحديث بإذن الله تعالى عن هذه الطائفة. وتعرضنا في الدرس الماضي للفرق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية، وقلنا: إن هذه الطائفة الضالة فوضت المعاني، وقالت: نحن لا نفهم لنصوص الصفات معاني محددة، ولا يفرقون بين النصوص، فعندهم أن قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وكغيرها من الآيات التي تدل على صفات الله سبحانه وتعالى، فهم لا يفرقون بين معانيها؛ لأنهم يجهلون المعاني، ولا يرون أن هناك فرقاً بين هذا المعنى وذاك. وأما السلف الصالح رضوان الله عليهم فإنهم يقولون: المعنى مفهوم ومعروف، وهو ما تدل عليه لغة العرب، وأما كيفيات صفات الله عز وجل، فنحن لا نعلمها؛ لأن الله عز وجل علمنا هذه الصفات، ونفى عن نفسه كيفية مشابهة المخلوقات، ولم يعلمنا كيفية محددة لصفاته سبحانه وتعالى، فهي ليست من جنس صفات البشر، ولا يمكن أن يدركها الإنسان بعقله المجرد إلا بخبر الله عز وجل، والله لم يخبرنا عن ذلك. إذاً: هناك فرق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية، تفويض الكيفية هو منهج السلف مع إقرار المعنى وإثباته، وأما تفويض المعنى وقولهم بأن نصوص الصفات ليس لها معان نفهمها فهذا قول باطل، وهو مذهب التفويض الباطل الذي نتحدث عنه. وقد أشرنا في الدرس الماضي إلى مجموعة من الأعلام الذين قالوا بمذهب التفويض، ونشأة هذا المذهب، وأنه ترعرع في صفوف الكلابية في بداية الأمر، ثم ظهر بقوة على يد أبي الحسن الأشعري بعد تراجعه عن مذهب المعتزلة، ثم سار عليه مجموعة من تلاميذ أبي الحسن، ثم بعد ذلك ظهرت مقالة المؤولة وأنكروا على المفوضة، وبعضهم اعتبر أن مذهب التفويض هو مذهب السلف، وأن مذهب الخلف هو الغوص في المعاني لإدراك المعاني الغامضة التي لا تدل عليها ظواهر النصوص الشرعية.

أسباب خطورة مذهب التفويض

أسباب خطورة مذهب التفويض إن مذهب التفويض مذهب خطير، وخطورة التفويض تعود إلى عدة أسباب: السبب الأول: أن مذهب التفويض تبناه أعلام مشهورون كـ أبي الحسن مثلاً وأبي سليمان الخطابي، وأيضاً مفوضة الحنابلة كـ القاضي أبي يعلى وابن الزاغوني والسفاريني وغيرهم. وأيضاً تبناه من المتأخرين الأستاذ محمد أبو زهرة وهو باحث كبير ومشهور في الدراسات الإسلامية، تبناه في كتابه (تاريخ المذاهب الإسلامية)، وكذلك تبناه مجموعة من الباحثين المتأخرين، وبالذات بعض المشتهرين والمشتغلين بالدعوة الإسلامية مثل: الأستاذ حسن البنا في كتابه (العقائد) ونصره بعض تلاميذه ممن تعصب له وحاول أن يدافع عنه، وبعضهم أول كلامه ليجعله موافقاً لكلام السلف، وبعضهم نصره حتى مع معرفته بالمخالفة لمنهج السلف، كما فعل الدكتور يوسف القرضاوي في مجموعة المقالات التي نشرت في مجلة (المجتمع) مؤخراً. ومن هنا فإن هذا السبب يجعل للتفويض رواجاً عند من يحب مثل هؤلاء ويقدرهم ويعظمهم، ولهم مكانة في نفسه. السبب الثاني: هو أن مذهب التفويض مذهب سهل؛ لأن فيه تخلياً عن البحث وعن الدراسة، والنفس تحب أن يتخلى الإنسان ويقول: هذه أمور غيبية لا نعلمها فنتركها كما هي. لكن الحقيقة التي ينبغي أن نعلمها هي أن أهل التأويل وأهل التفويض اجتمعوا في نفي الصفات، فأنت إذا سألك سائل: هل المفوضة ينفون الصفات؟ تقول: نعم، ينفون الصفات. فإذا قال قائل: كيف تقول: إنهم ينفون الصفات، مع أنهم يفوضون معانيها؟ فقل: لم يفوضوا إلا بعد أن نفوا، ولهذا فإن مذهب التفويض مبني على مقدمتين: المقدمة الأولى: هي أن ظواهر النصوص ليست مرادة، والمعاني التي يفهمها الإنسان من ظاهر النص ليس مراداً، فلما اتفقوا هم والمؤولة على أن الظاهر ليس مراداً، خالفوا في هذا منهج السلف الذين يقولون إن الظاهر مراد، وإن الله خاطبنا بلغة العرب، ولا يمكن أن يكون ظواهر النصوص الشرعية كفراً؛ لأن التشبيه كفر، ولا يمكن أن يكون ظاهر النص الشرعي كفراً. والمفوضة لما خالفوا منهج السلف في هذا افترقوا هم وأهل التأويل، فأهل التأويل حددوا معاني اجتهدوا فيها، والمفوضة قالوا: نفوض المعاني ولا نجتهد فيها. وبعض الباحثين عندما يقرأ في قضايا الألوهية وفي الصفات قد لا يرتاح نفسياً خصوصاً إذا كان منطلق البحث عنده منطلقاً خاطئاً. أعني أن بعض الناس عندما يبحث في هذا الموضوع يتجه إلى الكتب الموجودة في الساحة الإسلامية بشكل عام، فيقرأ كتب المؤولة وكتب المثبتة وكتب المفوضة، فيجد حيرة، وحينئذ إذا وجد الحيرة يجد من نفسه ميلاً إلى الإهمال والإعراض، والترك، وحينئذ يتبنى مذهب التفويض، لكن لو أنه أسس نفسه من بداية الأمر تأسيساً صحيحاً بدراسته لمعتقد السلف، وأن الله عز وجل خاطبنا بلغة عربية معلومة مفهومة، وأنه لا يمكن أبداً أن يخاطبنا الله عز وجل بألغاز أو أحاجي أو أغلوطات؛ حينئذ سيجد أن نصوص الصفات سهلة وميسورة، وأنه إذا قلنا: إن لله يداً، فهو كقولنا: لله علم، إذا قلنا: لله علم، فمعنى ذلك: أنه علم لا يشبه علم المخلوقين، فكذلك له يد لا تشبه أيدي المخلوقين. ولماذا نثبت صفة العلم لله عز وجل وننفي عنه المشابهة، ولا نستطيع أن نثبت اليد وننفي عنها المشابهة، مع أن الحالة واحدة؟ ليس هناك فرق بين هذه وهذه. ومن هنا فنحن ربما نطيل في الحديث عن هذا المذهب؛ لخطورته ولانتشاره عند كثير من الدارسين. والحقيقة أن ابن تيمية رحمه الله من أكثر أهل العلم الذين ردوا على مذهب هؤلاء رداً مفصلاً، ومثله أيضاً الإمام أحمد رحمه الله من قبل، فقد رد عليهم رداً مفصلاً في كتابه (الرد على الجهمية والمعطلة) وكذلك ابن قتيبة في كتابه (مشكل القرآن) رد عليهم أيضاً رداً مفصلاً وواضحاً.

المحكم والمتشابه وموقف الفرق منه

المحكم والمتشابه وموقف الفرق منه

معنى المحكم والمتشابه في كلام الله عز وجل

معنى المحكم والمتشابه في كلام الله عز وجل صار المفوضة إلى هذا المذهب؛ لسوء فهمهم لآية من أشهر الآيات في معاني كلام الله عز وجل، وهي آية المتشابه التي في سورة آل عمران، وآية المتشابه التي في سورة آل عمران سنتحدث عنها الآن، وسنتحدث عنها في فقرة قادمة بإذن الله عند حديثنا عن التأويل من حيث المعنى، ومن حيث الرد عليه بإذن الله تعالى. وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً عن هذه الآية، وتحدث من قبله من أهل العلم عن هذه الآية، وبينوا الخلل الذي دخل على المفوضة والمؤولة في فهمهم لهذه الآية. وقبل أن نخوض في كيفية فهم المفوضة لهذه الآية والرد عليهم نبين أولاً المعنى الصحيح لهذه الآية: يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران:7]. والحقيقة أن هذه آية عظيمة لاشتمالها على كثير من الأحكام والفوائد المتعددة. وقد وردت آيات في بيان أن القرآن جميعه محكم، منها قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1]. وأيضاً وردت آيات أن القرآن جميعاً متشابه. وكذلك وردت آية وهي هذه الآية في أن بعضه محكم، وبعضه متشابه. والتحقيق أن الآية التي وردت في أن القرآن جميعه محكم، فالمعنى: أن جميعه متقن، وأنه ليس فيه خطأ ولا زلل، وأنه منضبط في أخباره وقصصه وأحكامه وعقائده. وأما الآية التي وردت في أن القرآن كله متشابه: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر:23] فالمعنى: أنه يشبه بعضه بعضاً، فإن الحق يشبه بعضه بعضاً. فأنت تقرأ في سورة البقرة في توحيد الله عز وجل، تجد أن المعنى نفسه موجود في سورة الأنعام، وأن المعنى نفسه موجود في سورة الزمر التي تسمى سورة الإخلاص الكبرى، ونحوها من السور. فتجد أن معاني القرآن متشابهة، فهذا هو معنى المتشابه. وأما معنى أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فقد تحدث عنها أهل العلم كثيراً، ومختصر القول فيها هو: أن المحكم هو الواضح المعنى الواضح الدلالة بحيث يفهمه الإنسان، والذي ليس فيه إشكال، هذا معنى المحكم، وقال الله عز وجل في وصفه للمحكم: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7] يعني: أصل الكتاب. فأساس القرآن محكم وواضح وبين وليس فيه إشكال، وليس متعدد الدلالة بحيث إنه يشكل على الآخرين. والمتشابه هو: المعنى الغامض الذي يحتمل أكثر من معنى.

أقسام الناس في المحكم والمتشابه

أقسام الناس في المحكم والمتشابه ينقسم الناس أمام المحكم والمتشابه إلى طائفتين: الطائفة الأولى: أهل الحق الذين يريدون اتباع الحق، فهؤلاء يتبعون المحكم الواضح، وإذا وجدوا متشابهاً في الآيات فإنهم يردونه إلى المحكم. مثاله: قول الله عز وجل: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} [الواقعة:57] فقوله: (نحن) قد يأتي إنسان ويقول: هذه الآية تدل على تعدد الآلهة، وأن الإله ليس واحداً وإنما هو مجموعة، ولهذا عبر بلفظ (نحن) التي تدل على الجماعة. للرد على هذا نقول: إن الله عز وجل في آيات كثيرة لا تحصى، وهي من مقررات هذا الدين الذي لاشك فيه أن الإله واحد: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163] فهذه الآية وغيرها تدل على أن الإله واحد فقط، وهذه هي كلمة التوحيد، وهذه هي الكلمة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا لما دعا قومه قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]. إذاً: كيف نفهم (نحن) التي تدل على الجماعة؟. نفهمها بأن (نحن) تدل تارة على المجموعة، وتارة تدل على الواحد المعظم. فأنت عندما تأتي إلى مثل هذه الآية التي قد يفهم منها أن الآلهة متعددة تقول: هذه الآية المتشابهة نحملها على الآية المحكمة، وهي قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] وغيرها من الآيات، فنفهمها على أن قوله: (نحن) يعني: الواحد المعظم وهو الله سبحانه وتعالى. وهكذا يكون طريق أهل السنة وطريق الصالحين، أنهم في بحثهم وفي نظرهم وفي اجتهادهم وفي اشتغالهم بالعلم يعرفون المحكم ويدرسونه دراسة واضحة، وعليه من الأدلة والبراهين والحجج الشيء الكثير، فإذا وجدوا المتشابه حملوه على المحكم وردوه إليه؛ لأن من العبث أن يهمل الإنسان المحكم والواضح متعدد الأدلة، فيترك هذا المحكم ويأخذ متشابهاً من المتشابهات ويبني عليه عقيدة، أو يبني عليه أدباً أو خلقاً أو حكماً من الأحكام. الطائفة الثانية: أهل الأهواء الذين لهم أهواء معينة في نفوسهم: وهي أنهم يتبعون ما تشابه منه، تجد أنهم في تأويلهم للصفات يقولون: أنتم إذا أثبتم أن لله يداً وأن له وجهاً وأن له قدماً وأن له رحمة ونحو ذلك فأنتم شبهتموه بخلقه، والله عز وجل يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. نقول: لماذا تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ لأن القائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] هو القائل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وهو القائل: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]. وهو القائل غيرها من النصوص التي فيها إثبات الصفات، فلماذا نضرب هذه بهذه؟ أو لماذا نلغي النصوص التي في الإثبات ونأخذ هذا النص الذي نفهم منه النفي فنجعله نفياً مطلقاً، ونترك تلك النصوص؟ هذا من العبث. ولهذا فإن أهل الأهواء قد يستدلون في بعض الأحيان بالمتشابه، ولهذا عندما أرسل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج قال له: إن القرآن حمال وجوه، فاستدل عليهم بالسنة. معنى هذا أن الخوارج سيأتون إلى نصوص معينة ويستدلون بها على ما يعتقدون، وحينئذ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لـ ابن عباس: إن القرآن حمال وجوه فاستدل عليهم بالسنة، يعني: ردهم إلى المحكم. ولهذا فأي ضال أو مبتدع يمكن أن يستدل، فمثلاً: الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة كالذي يغش في البيع، إذا قيل لهم: ما الدليل على التكفير؟ يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غش فليس من) يعني: ليس من جماعتنا نحن المسلمين، وهذا دليل واضح على أنه من الكافرين إذا كان ليس من المسلمين. انظروا كيف أن الإنسان إذا كان عنده عقيدة يمكن أن يأخذ من هنا وهنا ويحاول أن يحصل لنفسه أدلة ليسوغ مذهبه وفكره وطريقته التي يراها، لكن الطريقة الصحيحة هي أنك إذا وجدت متشابهاً ترده إلى المحكم، ولا تهمل المحكم. فأنت إذا كنت معظماً لكلام الله ومعظماً لكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف تعتني بنص واحد وتهمل عشرات النصوص الأخرى؟

مذهب العصرانيين في المحكم والمتشابه والرد عليهم

مذهب العصرانيين في المحكم والمتشابه والرد عليهم إن أكثر من يستدل بالمتشابه في هذا العصر هم العصرانيون الجدد، وهم الذين يأتون ويفتون الناس بتحليل المحرمات، فالربا عندهم حلال، والغناء حلال، والاختلاط بين الرجال والنساء حلال ونحو ذلك، حتى إنك تعجب في بعض الأحيان من استدلالاتهم ومن طريقتهم في البحث. فمثلاً يقول أحدهم في مقابلة أو في برنامج تلفزيوني مشهور: لماذا تجعلون هناك حاجزاً بين الرجال والنساء؟ إلى متى نصبح بهذه الطريقة القديمة التقليدية؟ لماذا لا نجعل الرجال مع النساء يجتمعون ويحضرون المحاضرة سوياً؟ الحجاب عنده أن تكشف المرأة وجهها، هذا على أصله وفكره! فإذا قيل له: ما هي المصلحة من اختلاط الرجال بالنساء؟ قال: لعل شاباً عزباً يرى فتاة فتعجبه فيتكون من هذه الرؤية منزل وأسرة مسلمة. انظروا العبث، وهذا يقوله الدكتور يوسف القرضاوي مع الأسف! نقول: لماذا تفترض أن هذا الرجل لابد أن تقع عينه على امرأة غير متزوجة، فقد ينظر إلى امرأة متزوجة ويراها جميلة فتعجبه، فماذا سيقول الدكتور القرضاوي لمثل هذا الشاب؟ هل يطالب زوج هذه المرأة أن يطلقها ليتزوجها هذا، أم أنه ستقع الحسرة في نفسه بسبب هذه الرؤية وبسبب هذا الاقتراح الذي اقترحه؟ إذاً: يا إخواني هذا الفكر الذي يسهل للناس الفساد، هو يعتمد في الأصل على المتشابه ويهمل المحكم، فإن من قواعد الدين الأساسية سد الذرائع، سواء في مجال العقائد أو في مجال الأحكام. ولهذا تجدون هؤلاء الناس دائماً يريدون نسف هذه القاعدة من الدين بالكلية، فيقولون: ليس هناك سد ذرائع، إما حلال وإما حرام، وينسون أن الطريق المؤدية للحرام حرام، وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وغير ذلك من البينات والقواعد الأساسية في دين الله عز وجل، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] هنا النهي عن قرب الزنا، وليس النهي عن الزنا نفسه، فالنهي عن الزنا نفسه له نصوص أخرى. وهكذا يأتون في موضوع الغناء مثلاً، فتجد من يستدل على إباحة الغناء بحديث في صحيح البخاري وهو: (أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جاريتان في يوم عيد تغنيان بغناء بعا) وبعاث: هي معركة كانت قديمة بين الأوس والخزرج، قيل فيها أشعار. فيأتي هؤلاء فيقولون: أرأيتم الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع الغناء، إذاً: الغناء حلال، فكيف تقولون: إن الغناء حرام؟ ونسي هذا الجاهل أن الغناء المراد به في هذا الحديث هو الغناء اللغوي، وهو تزيين الصوت، وليس المقصود به وجود موسيقى ووجود آلات للطرب، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم عنده جاريتان تنشدان إنشاداً عادياً بدون موسيقى وبدون آلات عزف، وهذا يسمى غناء في لغة العرب. ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يتغن بالقرآن فليس من). إذاً: هذا الفهم الأعوج لنصوص الكتاب والسنة هو الذي يركبه هؤلاء العصرانيون. ولهذا نسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري يقول: (يأتي في آخر الزمان أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، ويسمونها بغير اسمه). والمعازف: هي آلات العزف. ثم بعضهم يأتي ويقول: إن العالم الفلاني أفتى بإباحة الغناء، مثل ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى، وهؤلاء لاشك أنهم أصحاب هوى؛ لأنهم لو أرادوا أن يلتزموا بمذهب ابن حزم الأندلسي لشق ذلك عليهم؛ لأن مذهب ابن حزم قوي، يعمل بالظواهر، وفيه شدة عليهم، لكنهم يتلاعبون بدين الله، يأخذون من ابن حزم هذه الفتوى التي شذ فيها، ويأخذون من زفر ما شذ فيه، ويأخذون من فلان ما شذ فيه، ويقولون: هذا عالم يقول بهذا القول. ثم لو وافقنا على أن هذا العالم قال بهذا القول، فنقول: ما هو الغناء الذي أباحه؟ فإن الغناء في زمانه كان بآلة واحدة، وكانت جارية تغني فأباح هذا الغناء؛ لعدم قناعته بالنصوص الشرعية، ولخطأ رأيه. مع هذا ينزلون هذا الحكم على الأغاني الموجودة الآن التي تكون فيها فرقة موسيقية، ويكون فيها مجموعة من الرجال، ومجموعة من النساء يرددون، والآن مع وجود القنوات الفضائية كما يذكرون في الصحف يأتون بفيديو يسمونه فيديو كليب، ينقل صورة المرأة راقصة هنا وهناك، ثم ينزلون هذه الفتوى على هذه الواقعة الشنيعة الموجودة في هذا الزمان، وهو الغناء الموجود في هذا الزمان. ولهذا أي إنسان عنده ريح التدين، ويريد أن يكون صادقاً مع نفسه، لو رأى الغناء الموجود في هذا العصر واشتراك النساء فيه، والعبث الموجود بالنساء فيه، لعرف أنه محرم، وأن علاقته بأصول الدين واضحة؛ لأن هذا الدين ليس لعباً، يأتي بالمرأة ويلعب بها وهي لابسة بناطيل مثلاً، وشعرها مكشوف ووجهها مكشوف ونحرها مكشوف، ويتلاعب بها وقد يرفعها وقد يضعها، ونحو ذلك، ثم يقولون بعد ذلك: ابن حزم رحمه ا

أقوال السلف في الوقف في قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله)

أقوال السلف في الوقف في قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله) يقول الله عز وجل: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران:7] يعني: أهل الأهواء {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:7] كما سبق. ذكر الله عز وجل لذلك سببين: السبب الأول: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران:7] لأنهم أهل أهواء. والسبب الثاني: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] يعني: ابتغاء حقيقته وحقيقة معناه. وفي هذه الآية وهي قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] اختلف السلف في الوقف فيها، هل يكون الوقف فيها على لفظ الجلالة وتكون الواو في قوله: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) للاستئناف، أم أن الوقف يكون على نهاية قوله: ((فِيْ الْعِلْمِ))؟ للسلف في هذا قولان: الأول: هو أن الوقف في قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) وأن الواو في قوله ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) هي للاستئناف وليست للعطف. وبناء على هذا فهم يفسرون التأويل في قوله: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ)) بأن التأويل هنا المراد به حقيقة الشيء، والتأويل في لغة العرب يأتي لمعنيين: المعنى الأول: الحقيقة، والمعنى الثاني: التفسير. فمن أمثلة مجيء التأويل بمعنى الحقيقة والكنه قول عائشة رضي الله عنها: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع يقول: سبحانك اللهم اغفر لي، يتأول القرآ) يعني: يأتي بحقيقة ما أمره الله عز وجل به من التسبيح والاستغفار في سورة النصر: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3]. ومن مجيء التأويل بمعنى التفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لـ ابن عباس: (اللهم علمه التأوي) يعني: علمه التفسير. ومنه أيضاً قول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله في كتابه (جامع البيان في تأويل القرآن) يعني: في تفسير القرآن، فهو يأتي إلى الآية ويقول: تأويل هذه الآية كذا وكذا، يعني: تفسيرها كذا وكذا. هذا معنى التأويل في لغة العرب، وهو المعنى الذي استخدم في النصوص الشرعية. لكن المتأخرون لهم معنى خاص في التأويل، وسنتحدث بشكل مفصل عن موضوع التأويل ومعانيه في هذا الكتاب في موضعه بإذن الله تعالى، لكن نحن ذكرنا هذه المعاني ليسهل علينا فهم الآية. فمن وقف على لفظ الجلالة (الله) واعتبر أن الواو للاستئناف أراد بالتأويل هنا الحقيقة، فيصبح المعنى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] يعني: وما يعلم حقيقته إلا الله سبحانه وتعالى. فإن حقيقة صفاته وحقيقة المتشابه لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ومن وقف على (العلم) واعتبر الواو عاطفة فسر التأويل بأنه التفسير، فقال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} [آل عمران:7] يعني: ما يعلم تفسير المتشابه إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، يعني: الراسخون في العلم يعلمون تفسيره أيضاً، وهذا من رسوخهم في العلم. ولهذا ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أنا ممن يعلم تأويله) فهذا يدل على أن مذهب ابن عباس رضي الله عنهما هو الوصل، وروي عنه أنه يرى الوقف على لفظ الجلالة. وكلا القولين مرويان عن السلف الصالح رضوان الله عليهم. فالوقف على لفظ الجلالة مروي عن أبي بن كعب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها وابن عباس رضي الله عنهما. والوصل والوقف على لفظ (العلم) واعتبار الواو للعطف مروي عن ابن عباس أيضاً، ومروي عن الربيع بن أنس وعن مجاهد بن جبر تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما.

معنى تأويل المتشابه عند المفوضة والرد عليهم

معنى تأويل المتشابه عند المفوضة والرد عليهم المفوضة فسروا التأويل هنا بأنه التفسير بصورة خاصة، فعندهم التأويل: هو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لقرينة، وهذا اصطلاح خاص في تعريف التأويل عند المفوضة، وليس له علاقة بلغة العرب، كما أنه ليس له علاقة بالاصطلاح الشرعي. فقالوا: إن التأويل بهذا المعنى هو التفسير، فجاءوا إلى الآية فقالوا: إن التأويل فيها بمعنى التفسير، ثم حكوا الإجماع على الوقف على لفظ الجلالة. وبناء على هذا يكون فهمهم للآية هو أن الله عز وجل يقول: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] يعني: ما يعلم تفسيره إلا الله، ثم قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7] يعني: أن موقف الراسخين في العلم التفويض والتسليم. هكذا وصلوا إلى التفويض من خلال هذه الآية. بينما نحن نقول: إن الوقف على لفظ الجلالة هو أحد قولي السلف، وبناء على هذا يكون المعنى للتأويل: حقيقة الشيء، فيكون: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] يعني: لا يعلم حقائق المتشابه، وما يعلم حقائق صفات الله عز وجل إلا الله، وموقف أهل العلم في معرفة هذه الحقائق التسليم. ولهذا سبق أن أشرنا إلى الفرق بين تفويض المعنى وتفويض الكيفية، وهي حقيقة الصفة، فنحن نفوضها؛ لأن الله ما أخبرنا بها، لكن المعنى لا نفوضه؛ لأن المعنى واضح في لغة العرب، وقد دلت عليه النصوص. إذاً: الشيء الذي نفوضه على قراءة الوقف على لفظ الجلالة هو حقيقة وكيفية صفات الله عز وجل، وحقائق المتشابه هذه نفوضها إلى الله، هذا على القول بالوقف. وعلى القول بالوصل يصبح التأويل بمعنى التفسير، ويكون الراسخون في العلم ممن يعلمون تفسيره، وحينئذ يردون متشابه القرآن إلى محكمه. لكن هم جاءوا ووحدوا المعنى في لفظة التأويل، وقالوا: إن التأويل في هذه الآية المراد به التفسير، وليس التفسير عموماً، وإنما التفسير بمعنى معين، وهو صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لقرينة. وسيأتي معنا نقد هذا المعنى الاصطلاحي بالتفصيل إن شاء الله تعالى في موضعه. ثم حكوا الإجماع على الوقف على لفظ الجلالة، وحينئذ اعتبروا أن الراسخين في العلم يفوضون التفسير، فلا يفهمون لصفات الله عز وجل معاني، وهذه جاءت بعد أن اعتبروا صفات الله عز وجل من المتشابه. انظروا كيف رتبوا الأمور؟! أولاً: اعتبروا صفات الله عز وجل من المتشابه، ثم جاءوا إلى لفظ التأويل وقالوا: إن معناه التفسير فقط، وألزموا بالوقف على لفظ الجلالة، وحكوا الإجماع على ذلك، ثم اعتبروا أن مذهب السلف ومذهب أهل العلم الراسخين في العلم التفويض المطلق، فالتقى جعلهم الصفات من المتشابه مع اعتبارهم موقف الراسخين في العلم من المتشابه التفويض المطلق، فقالوا: إذاً مذهب السلف هو التفويض المطلق، وأنكروا على المؤولة، وقالوا: كيف تؤولون، والله عز وجل يقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]؟ فالمفوضة انحرفوا في عدة أشياء: أولاً: انحرفوا أصلاً في اعتبارهم الصفات من المتشابه، فإن معانيها ليست من المتشابه، بل هي واضحة وبينة. ثانياً: انحرفوا أيضاً في اعتبار التأويل صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى آخر مرجوح لقرينة. ثالثاً: رتبوا على هاتين الضلالتين أنهم قالوا: إن مذهب الراسخين في العلم وهم السلف الصالح رضوان الله عليهم هو التفويض لمعاني صفات الله عز وجل، وهي من جنس المتشابه، والراسخون في العلم يفوضون معنى المتشابه إلى الله عز وجل. هكذا وصلوا إلى هذه النتيجة من هذا المنطلق ويمكن مراجعة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب (الإكليل في المتشابه والتأويل) وهو مطبوع في مجموع فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله التي جمعها ابن قاسم العاصمي رحمه الله تعالى.

أوجه استدلال المفوضة بآية المتشابه والرد عليهم

أوجه استدلال المفوضة بآية المتشابه والرد عليهم نسوق بعض أوجه الاستدلال التي أخذها المفوضة من هذه الآية بإذن الله تعالى. هذا كتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) وهو لـ أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء وهو عالم من علماء الحنابلة، وهو من مفوضة الحنابلة. فإن علماء الحنابلة كانوا على طريقة الإمام أحمد في التزامهم بالأثر وتعظيمهم للسنة، لكن المتأخرون منهم خلطوا مقالات أهل السنة بمقالات أهل الكلام، فلما خلطوها تكونت طائفة ليس من أهل السنة المحضة ولا من أهل التأويل والمعطلة المحضة، وهم ما يطلق عليهم بمفوضة الحنابلة، منهم أبو يعلى هذا، ومنهم ابن الزاغوني، ومنهم الكلوذاني، ومنهم السفاريني وغيرهم من علماء الحنابلة. فكتاب (إبطال التأويلات لأخبار الصفات) لـ أبي يعلى ألفه في الرد على عالم من علماء الأشاعرة وهو ابن فورك الأشعري في كتاب له بعنوان (مشكل الحديث وبيانه)، وكتاب (مشكل الحديث وبيانه) مطبوع في مجلد واحد، وهو في الرد على كتاب التوحيد لـ ابن خزيمة رحمه الله، فإن ابن خزيمة رحمه الله لما ألف كتابه (التوحيد) ساق فيه إثبات الصفات، فجاء ابن فورك وأول هذه الأحاديث جميعاً في كتابه (مشكل الحديث وبيانه) فجاء أبو يعلى فرد على ابن فورك وأثبت الصفات، لكنه أثبتها على طريقة المفوضة بتفويض معانيها وأنه لا معنى لها، وأن طريقة ابن فورك في التأويل خطأ. فـ أبو يعلى لم ينكر على ابن فورك نفي معاني الصفات التي تدل عليها ظواهر النصوص، وإنما أنكر عليه التأويل، قال: لأن التأويل لا يعلمه إلا الله على طريقة المفوضة. وعقد فصلاً يقول: فصل في الدلالة على أنه لا يجوز الاشتغال بتأويلها وتفسيرها يعني: بتأويل الصفات وتفسيرها. ثم استدل بآية آل عمران، فمن أوجه الأدلة، يقول: «فإن قيل: من أصحابنا من قال: لا متشابه في القرآن إلا والراسخون في العلم يعلمون تأويله، والواو هاهنا للعطف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] فسقط هذا الدليل». معنى قول أبي يعلى: (فإن قيل) يعني: إذا اعترض معترض على طريقة المفوضة فقال لهم: إنه لا متشابه في القرآن إلا والراسخون في العلم يعلمونه، فصاحب هذا الاعتراض يرى أن الوقف يصح أن يكون على لفظ (العلم) وأن الواو تكون عاطفة، وقد ذكر هذا ابن قتيبة. وابن قتيبة عالم من علماء السلف، وقد عظمه ابن تيمية رحمه الله كثيراً، وقال: إنه خطيب أهل السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة. يقول المعترض: سقط دليلكم عندما استدللتم بآية آل عمران. قال أبو يعلى: (قيل:) يعني في الرد: (هذا قول يخالف إجماع الصحابة). أقول: قول أبي يعلى فيه مصادرة للحقيقة، أعني: قوله: إن هذا يخالف إجماع الصحابة؛ لأن ابن عباس رضي الله عنهما من الصحابة روى عنه ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية أنه قال بالوقوف على لفظة (العلم). ثم قال: (قال أبو بكر الأنباري في كتاب (الرد على أهل الإلحاد): قد ذهب إلى هذا الذي أنكره -يعني: ابن قتيبة - جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم: أُبي وابن مسعود وابن عباس، ففي قراءة عبد الله: (إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون). يعني: هذا الوقف، وهذا في قراءة شاذة وليست متواترة في مصحف ابن عباس وفي قراءة أُبي: (ويقول الراسخون في العلم) يعني: مما يدل على أن الوقف يكون على لفظ الجلالة. والحقيقة أن الخلاف بيننا وبين المفوضة ليس هو في أين يكون الوقف، وإنما هو في معنى التأويل ما هو وفي صفات الله هل هي من المتشابه أو ليست من المتشابه من حيث المعنى؟ لأن الوقف على لفظ الجلالة، والوقف على (العلم) واعتبار أن الواو عاطفة أو استئنافية، ليس فيها إشكال بالنسبة لنا؛ لأنه لو كان الوقف على لفظ الجلالة كما يقول هؤلاء فإن التأويل يكون بمعنى حقيقة الشيء، فلا يعلمه إلا الله عز وجل، والراسخون في العلم يفوضون حقيقته. وإذا كان الوقف على العلم فإن التأويل يكون بمعنى التفسير، وهذا ما حققه شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه (الإكليل). المهم أنه ذكر بعض الأدلة على أن الوقف يكون على لفظ الجلالة، وهذا لاشك أنه حتى ولو كان الوقف على لفظ الجلالة فإنه لا يسعفهم في أن المقصود بالتأويل هنا التفسير، وأنه يفوض فلا يفهم له معنى. وجه الدلالة الثاني الذي أشار إليه، يقول: (ولأن الله قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران:7] ومعناه:

الأسئلة

الأسئلة

الرد على القرضاوي في إباحة الغناء

الرد على القرضاوي في إباحة الغناء Q يقول السائل: قرأت في فتاوى للشيخ القرضاوي أنه جعل حدوداً للغناء الذي أباحه، وقد حرم ما يوجد الآن من أغان ماجنة؟ A الحقيقة أن الشيخ القرضاوي اشتهر عنه إباحته للغناء، ولم يشتهر عنه وضع حدود، وأنا لا أقول: إنه ليست عنده حدود؛ لأني لا أعرف هذه الحدود التي أشار إليها الأخ، لكن أقول: لماذا لا يقوم القرضاوي بحملة ضد الأغاني الماجنة التي تنشرها القنوات الفضائية، وهي التي تسمى بالفن في هذا الزمن، وهي الأصل؟ والغناء الذي أباحه لا وجود له، يعني: إذا حاول القرضاوي أن يضبط الغناء بضوابط نقول: هل الساحة الفنية فيها شيء من هذه الضوابط؟ ليس فيها شيء. إذاً: لماذا تبيح الغناء إباحة مطلقة هكذا؟ والإفتاء إنما يكون على شيء له واقع، أما الإفتاء على شيء موجود في الخيال، فهذا لا حقيقة له، ولهذا تجد أن الناس يفهمون أن القرضاوي يبيح الأغاني الموجودة الآن في القنوات الفضائية وفي الأشرطة وفي غيرها؛ لأنه تكلم عن الغناء بشكل عام وأباحه، فإذا وضع له ضوابط نقول: هل هذه الضوابط موجودة في الساحة الفنية؟ وهل يلتزم بها أحد من المغنين حتى يكون لكلامك معنى؟! ثم لو التزم بها أين هو من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي في آخر الزمان أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) نص على المعازف، وهو نص ظاهر وواضح.

حكم الغناء بالأغنيات الماجنة بدون آلات عزف

حكم الغناء بالأغنيات الماجنة بدون آلات عزف Q يقول بعض الناس: بأن الغناء بالأغنيات الماجنة بدون آلات عزف ليس فيه شيء؟. A هذا كلام غير صحيح؛ فالغناء يتكون من شقين: آلات عزف، وكلام يتكلم به. أضيف إليه الصورة كما هو في طريقة فيديو كليب، فصار ثلاثة أشياء، وربما تضاف أشياء فيما بعد. فأما المعازف وحدها فهي محرمة مطلقاً؛ لأن الحديث ورد بإطلاق التحريم فيها حتى لو كانت هادئة، وحتى لو كانت حزينة، وحتى لو كانت رومانسية، وحتى لو كانت بأي إضافة من الإضافات، المهم أنها محرمة؛ لنص النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم المعازف عموماً، ويدخل في آلات العزف عموماً الطبل، ويدخل فيها الدف، واستثني من ذلك الدف للنساء في الأفراح وفي الأعياد فقط، وبعض أهل العلم يبيح الدف للنساء مطلقاً. أما آلات العزف الأخرى للنساء فهي محرمة؛ لأنها باقية على أصل التحريم. هذا بالنسبة لآلات المعازف. وأما الكلام الذي يتكلم به، فإنه بحسب الكلام، فإذا كان الكلام حقاً فهو حق، وإذا كان الكلام باطلاً فهو باطل، فهو من جنس الشعر الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبي). فإذا كان الكلام قبيحاً وفيه إغراء بالفاحشة حتى لو كان بدون معازف فإنه محرم. وأما الصور فهي محرمة لذاتها؛ لوجود التبرج والسفور، ووجود الفسق فيها في التعامل أو الرقص أو نحو ذلك.

ضوابط الاستدلال بالسيرة النبوية وتاريخ الصحابة

ضوابط الاستدلال بالسيرة النبوية وتاريخ الصحابة Q هل هناك ضوابط في الاستدلال بالوقائع التاريخية مثل السيرة النبوية وبعض الأحداث فيها، وتاريخ الصحابة أيضاً، أم أنها مسألة لا ضوابط فيها فيستدل بها على حق أو على باطل؟ A أما السيرة النبوية فهي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وهي حجة، وهي من الحكمة، والله عز وجل يقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]. (ويعلمهم الكتاب) يعني: يعلمهم القرآن، (والحكمة) يعني: السنة، والسنة تشمل السنة القولية وتشمل السنة الفعلية، كما تشمل السنة التركية إذا كانت الترك مقصوداً. فالسيرة النبوية هي عبارة عن هذه الأحداث. وأما تاريخ الصحابة فإن تاريخ الصحابة بشكل عام هو التطبيق الحقيقي لحقيقة الدين وحقيقة الإسلام، لكن كحالات فردية: قصة فلان وقصة فلان وقصة فلان لا تعتبر حجة في ذاتها، لكن تاريخ الصحابة بشكل عام يدل على تطبيقهم للإسلام، وكيفية هذا التطبيق سواء في مجال الدولة والسياسة، أو في مجال طريقة العلم والتعلم، أو في مجال الجهاد في سبيل الله، أو في مجال الإنفاق والبذل، أو التعبد والسلوك، أو نحو ذلك من المجالات. ولهذا قد يحتج بطريقتهم في السلوك، وهذا يجعلنا نعود إلى الإشارة إلى الفقرة الأولى التي شرحناها سابقاً وهي: يقينية منهج السلف وعصمته، يدخل في هذا منهج الصحابة، فإن منهج الصحابة كمنهج وتاريخهم كتاريخ يعتبر تطبيقاً لحقيقة الدين. لكن كأفراد لا يصح أن تحتج على فلان بفرد من الأفراد، إلا إذا كان هذا المعنى الذي في هذا الفرد موجوداً عند الجميع، فيكون حينئذ يقيناً ومعصوماً.

حقيقة العصرانيين

حقيقة العصرانيين Q هل العصرانيون هم أصحاب الفقه المستنير كما يسمون؟ A العصرانيون لهم أسماء كثيرة، لكن المهم الحقيقة، يعني: بعض الناس يسميهم أصحاب الفكر المستنير مثلاً؛ لأنهم يعتبرون أنفسهم من أصحاب الفكر المستنير، ويعتقدون أنهم هم أهل العصر، وأنهم هم الذين جمعوا بين الأصالة والمعاصرة، وأنهم هم الذين طبقوا روح الدين في هذا العصر المختلف التقنية والإمكانيات الموجودة وفي عصر (الإنترنت)، وفي عصر الإعلام الفضائي، والمواصلات التي جعلت العالم كقرية واحدة، ويتكلمون كلاماً كثيراً، مع أن الدين في الحقيقة لا يتغير، هو واحد في المجتمع البدوي وفي المجتمع القروي، وفي المجتمع الزراعي وفي المجتمع الصناعي. نعم، في بعض الأحيان تتغير تطبيقات لكن ليست تطبيقات أساسية متعلقة بالدين نفسه، وهذا الكلام عام، لكن لابد أن يطبق الدين كما أمر الله عز وجل به. لنفترض أنه مثلاً من وسائل العصر الآن (الإنترنت) فهل ندعو إلى الله عن طريق (الإنترنت)؟ نقول: ليس هناك مانع، ندعو إلى الله عن طريق (الإنترنت) والإنترنت ليست موجودة في المجتمع الزراعي، وكونها ليست موجودة في المجتمع البدوي هل هذا يعني أننا لا نستفيد منها؟ لا، نستفيد منها، وهذه هي العصرنة الصحيحة. أما تغيير حقائق الدين باسم العصرنة فهذا هو الباطل، وتغيير حقائق الدين وإباحة المحرمات ونسف قواعد الدين مثل سد الذرائع وغيرها باسم العصرنة، فهذا هو الباطل الذي لا يقبل وهو مرفوض.

ذم التعصب للمشايخ وغيرهم

ذم التعصب للمشايخ وغيرهم Q يتعصب بعض طلاب العلم لعالم أو داعية تعصباً أعمى، وإن كان هذا العالم له أخطاء واضحة لاشك فيها، ومع ذلك لا يقتنع هؤلاء الطلاب، فبماذا تفسر هذا التعصب؟ وما هو موقف الآخرين من هؤلاء الطلبة ومن هذا العالم أو الداعية؟ A التعصب خلة قبيحة ومذمومة في الإنسان، فالذي ينبغي للإنسان المسلم ألا يتعصب إلا للدليل الصحيح، وللحجة البينة الواضحة، ومصادر الاستدلال عندنا معدودة: هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، فهذه هي مصادر الاستدلال، وغيرها يعود إليها. بل هذه الأربع جميعاً تعود إلى القرآن، هذه هي الحجة فقط. فإذا استدل عليك بدليل من القرآن أو من السنة فهذا دليل صحيح، لكن يبقى مسألة طريقة الاستدلال، لابد أن تكون طريقة الاستدلال صحيحة؛ لأن هناك طرائق في الاستدلال باطلة، مثل طريقة العصرانيين في أخذهم المتشابه وردهم للمحكم. فأولاً: إذا استدل الإنسان بدليل من الكتاب أو السنة، وكانت طريقته في الاستدلال طريقة صحيحة، فإننا نقبل دليله ولو خالفه من خالفه، حتى ولو كان المخالف عالماً. ثانياً: لا ينبغي أبداً للإنسان المسلم أن يعلق نفسه بعالم أو داعية، لا تعلق نفسك إلا بالدليل الصحيح، وبالمنهج الرباني الصحيح. والدعاة والعلماء بشر يتعريهم ما يعتري البشر من الخطأ والزلل، وبعض الناس قد يتعرض لفتنة فيتغير منهجه وطريقته، وبعض الناس قد تأتيه فتنة المال فتحرف منهجه وطريقته، وبعض الناس قد تأتيه فتنة الجاه، وبعض الناس فتنة الشهوة، وبعض الناس قد يكون على منهج ثم لسبب أو لآخر ينتقل انتقالاً كلياً عن هذا المنهج إلى منهج آخر، بل قد يعتنق ديناً آخر. ولهذا فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، فأنت إذا جعلت دينك معلقاً بشخص من الأشخاص فإنه إذا ضل ستضل، وإذا انحرف ستنحرف، وإذا ابتعد عن الصراط المستقيم ستبتعد أنت. والصحيح أن الله عز وجل خاطبنا نحن جميعاً علماء ودعاة وأفراداً، وجعل مناط الخطاب بالنسبة لنا العقل، ولهذا يعتبر العقل بعد البلوغ هو مناط التكليف؛ لأن المجنون غير مكلف، وحينئذ لابد أن تدرس هذه المسألة إن كنت من أهل العلم، وإن كنت لست من أهل العلم فلا تقل في هذه المسألة بإيجاب ولا بسلب، وانظر إلى أهل العلم وخذ من حيث أخذوا، وهذا لا يعني أن الإنسان لا يكون عنده احترام لأهل العلم ولا يقدرهم ولا يحبهم، فإن المحبة شيء والتعصب شيء آخر، والإجلال والتقدير شيء، والتعظيم إلى درجة التعبد شيء آخر. فلا شك أن أهل العلم لهم منزلة عظيمة، ولهم محبة في قلوبنا، وقد تحدث أهل العلم عن آداب تعامل التلميذ مع شيخه حديثاً كبيراً، مثل: الخطيب البغدادي رحمه الله، ومثل: ابن جماعة في كتاب (تذكرة السامع والمتكلم) وغيرهما، تكلموا كلاماً طويلاً في التأدب مع أهل العلم؛ لأنه في بعض الأحيان عندما لا يكون هناك تأدب قد يأتي جاهل من الجهال فيستدل بحديث على غير وجهه، ثم يصبح زعيماً من زعماء الانحراف والعياذ بالله، بحجة الاستقلال الفكري. ولهذا فإن كلمة (الاستقلال الفكري، وحرية الفكر، وعدم التعصب) كلمات صحيحة في ذاتها، لكن قد يراد بها في بعض الأحيان أمر باطل، وحينئذ ينبغي للإنسان أن يكون متزناً، وألا يكون مختلطاً. فإذا أخذنا حرية التفكير، فنقول: لابد أن يكون للإنسان حرية في التفكير، وأن يطلب العلم، وأن يطلب الدليل، وأن يعرف الحجة، وأن يأخذ من حيث أخذ أهل العلم، وأن يدرب نفسه على الفقه والتفقه، لكن لا يعني هذا أن يستبد برأيه وأن يعظم نفسه، فإن بعض الناس يأخذ هذه الطريقة فيفهم من طرف العلم شيئاً ثم يتعصب هو لنفسه، فنحن نذم التعصب للعلماء، وبعض الناس قد يتعصب لذاته هو أو لشخصه، وهذه خصلة ذميمة أيضاً، وحينئذ لابد للإنسان أن يتوازن، فإن هذه مزلات، والشيطان حريص على إغواء الإنسان. إذاً: ينبغي للإنسان أن يكون منضبطاً، والانضباط يكون كالآتي: أولاً: أن يحترم أهل العلم ويقدرهم، وأن يعرف لفتواهم مكانتها، وألا يستعجل في انتقاد قول عالم من العلماء إلا ببينة وبوضوح، وألا يكون الانتقاد إلا بعد بحث وتحر. ثانياً: إذا خالف عالماً من العلماء فإنه يتأدب معه، ونتأدب مع أهل البدع لكن لا يعني التأدب معهم الاحترام المطلق الذي يكون لأهل السنة. بهذه الطريقة يكون الإنسان متوازناً ومنضبطاً بإذن الله تعالى.

حكم مشاهدة البرامج التي تعرض الشبهات والشهوات في القنوات الفضائية

حكم مشاهدة البرامج التي تعرض الشبهات والشهوات في القنوات الفضائية Q هل يجوز مشاهدة البرامج التي تعرض في بعض القنوات الفضائية، حول نقاشات في أمور مسلّمة، أو بعض الأحيان أمور مشتبهة؟ A هذه القنوات التي تعرض المناقشات للناس تنشر الشبهات، كما أن القنوات الأخرى تنشر الشهوات، ففي هذا الزمان ابتلينا بالشبهات والشهوات. فالشهوات تنشر من خلال هذه القنوات عن طريق تجريد المرأة من ملابسها، واستخدامها استخداماً رخيصاً لإثارة الشهوات، وفيها تعليم النساء الخيانة والغدر مع الأزواج، وتعليمهن العلاقات المحرمة والفساد بكل صوره وألوانه. وأيضاً القنوات الفضائية الأخرى عندها مصيبة أخرى، وهي أنهم لما شعروا أن الشهوات استهلكت عدداً كبيراً من الناس، لكن هناك بقية باقية لم تستهلكها هذه الشهوات، أتوا لها بالشبهات والعياذ بالله. وهذه هي طريقة الشيطان، فيأتون بمناظرات عامة، أو يأتون بأشخاص ينشرون أفكارهم وعقائدهم الباطلة، ويستمع لها كثير من الناس ممن ليس عنده علم شرعي، وليس عنده فهم دقيق لدين الله عز وجل، فقد تكون هذه سبباً لضلاله لأنه قد يأتي إنسان ملحد وينكر وجود الله، أو يستهزئ بالدين، أو يتلاعب بأحكامه، ويخلطه خلطاً غريباً، فيجعل الموالاة للكفار مباحة، ويجعل ويجعل إلى غير ذلك. وقد يأتي آخر ويلبس الحق بالباطل، فيكون هذا سبباً في ضلال كثير من المشاهدين الذين ليس عندهم علم صحيح، وليس عندهم فهم، وليس عنده دراية. ولهذا لا ينبغي للإنسان أن يشاهد هذه البرامج، كما أنه لا ينبغي له أن يشاهد البرامج التي تثير الشهوات. نسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح.

شرح الفتوى الحموية [5]

شرح الفتوى الحموية [5] لقد تشبث المفوضة ببعض كلمات وردت عن السلف وفسروها بما يوافق مذهبهم في الصفات، وهو تفويض معانيها الثابتة لها في الكتاب والسنة، وهذا مذهب باطل لم يفهم أصحابه معنى كلام السلف؛ إذ مقصود السلف هو تفويض كيفية الصفات لا معانيها، فإنهم أثبتوها كما جاءت في الكتاب والسنة على حقيقتها.

المفوضة تقدح في منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم

المفوضة تقدح في منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم توقفنا عند موضوع مذهب أهل التفويض، وبطلان مقالة: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وارتباط هذه المقالة بما سبق الحديث عنه من أن منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم معصوم، والمقصود بمنهج السلف، يعني: ما أجمعوا عليه، واتفقوا عليه من العقائد، وطريقة النظر، وطريقة الاستدلال، وتمييز الأحكام بعضها عن بعض، هذه الطريقة المجمع عليها معصومة، لا يتطرق إليها البطلان بأي وجه من الوجوه، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم وضح قضايا العقائد من حيث المسائل، ومن حيث الدلائل توضيحاً كافياً، ومغنياً عن الرجوع إلى غير طريقته عليه الصلاة والسلام، وهكذا أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تكلموا في قضايا العقائد، ولا يمكن بأي وجه من الوجوه أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم يجهلون الحق في هذه المسألة، كما أنهم لا يمكن أبداً أن يكونوا قد عرفوا العقائد الصحيحة وكتموها عن الناس، ولم يوضحوها لهم، فإن من عرف حال القوم، وجهادهم في سبيل الله، وإتباعهم لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك إدراكاً جازماً أن هؤلاء لا يمكن أبداً أن يعرفوا الحق ثم يكتموه، ولو جاز ذلك عقلاً من واحد لما جاز من الجميع كما هو معلوم. ولهذا تطرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى الذين يقدحون في السلف، وإلى الذين يتكلمون فيهم، ويذمون السلف الصالح رضوان الله عليهم، وذكر هذه المقالة، وهؤلاء القوم -أعني: المفوضة- هم طائفة من الطوائف التي تقدح في علوم السلف، وتقدح في مناهجهم، أما الذين يقدحون في علوم السلف فهم كثر، يمكن أن نذكر رءوس أقلام في هذا، منهم الشيعة الذين يسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويكفرونهم، ويطعنون في أمانتهم وفي عدالتهم. ومنهم أيضاً الذين يتعصبون للأئمة في المسائل التي تكون متعلقة بالفروع حتى لو خالفوا طريقة السلف رضوان الله عليهم، أو خالفوا بعض فتاوى الصحابة الذين هم أشهر منهم، ومنهم الذين يقدحون في منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم ويقولون: إنه منهج قديم، وإنه منهج تقليدي، وإنه لا يصلح أن يواكب الحضارة المعاصرة التي تقدمت اليوم من الناحية المادية، ومن ناحية التكنولوجيا، ويرون أن هذا منهج قديم لا يصلح لمواكبة العصر، ولا بد من هدم هذا المنهج وبناء مناهج حداثية جديدة تختلف عنه. ومنهم من يذم السلف ويقول: إن هؤلاء فرقوا الأمة، ومزقوها، وجعلوها شيعاً وشعباً وأنواعاً، وقدح بعضهم في بعض بسببهم، ولا شك أن مثل هؤلاء من أهل الظلم والعدوان على فضلاء هذه الأمة الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، ثم بعد ذلك ذم من يأتي من القرون بعدهم. ولهذا لا تجد أحداً يقدح في علوم السلف وفي منهج السلف وهو على السنة أبداً، فلا يقدح فيهم إلا من يكون زائغ الاعتقاد بأي وجه من وجوه الزيغ، فالذين يقولون: إن علوم السلف ومناهج السلف الصالح رضوان الله عليهم تفرق الأمة وتمزقهم، هؤلاء ما عرفوا هذه العلوم ولا أدركوها، ولم يعلموا أن السلف الصالح رضوان الله عليهم يتبعون الحق في كل مكان، وفي كل مسألة يجتهدون فيها وفي البحث عنها. ثم الذين يخالفون الحق ليسوا سواءً بل هم أنواع، منهم من يخالف الحق فيقع في الكفر المبين، ومنهم من يخالف الحق فيقع في البدعة المضلة، ومنهم من يخالف الحق فيقع في المعصية، ومنهم من يخالف الحق بأي وجه من الوجوه، ولهذا لم يحكم السلف رضوان الله عليهم على كل من خالف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم واحد، بل تقوم هذه المخالفة تقويماً شرعياًَ ثم يحكم عليها، ولهذا عندما تحدثوا عن الفرق الضالة قديماً سموا أصحابها أصحاب المقالات، ومعنى أصحاب المقالات: الذين لهم أقوال يخالفون بها الحق، ثم يبينون حكم هذه الأقوال، وأنها تختلف، وأنها ليست حكماً واحداً. فمذهب أهل التفويض هؤلاء هو القدح في علم السلف رضوان الله عليهم، وجعلهم أناساً سطحيين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وأنهم كالصالحين العوام السذج، الذين فيهم غفلة، وفيهم سطحية، ولا يفهمون الكلام بسرعة، ونحو ذلك من الصفات التي ألصقوها بهم كما سيأتي معنا إن شاء الله. وجعلوا طريقة المتأخرين من أهل الكلام الذين خلطوا علوم الإسلام بالفلسفة اليونانية، واخترعوا دلائل أخرى لقضايا الاعتقاد، خالفوا بها الكتاب والسنة، جعلوا طريقة هؤلاء المتأخرين خيراً من طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم.

تشبث أهل التفويض ببعض النصوص المنقولة عن السلف

تشبث أهل التفويض ببعض النصوص المنقولة عن السلف من الأمور التي تشبث بها أهل التفويض بعض النصوص التي نقلت عن السلف الصالح رضوان الله عليهم، وهذه النصوص التي استدلوا بها هي نصوص وردت عن السلف رضوان الله عليهم، عندما يسألون عن أحاديث الصفات، وعن آيات الصفات. وقد تنوعت عبارات السلف عندما سئلوا عن أحاديث الصفات، فمنهم من قال: أمروها كما جاءت بلا كيف، وروي هذا عن ربيعة، وعن سفيان الثوري، وعن مالك وعن غيرهم، ويمكن أن تراجع كتب العقائد المسندة مثل شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، والإبانة لـ ابن بطة، والشريعة للآجري، ستجدونهم يسندون إلى عدد كبير من السلف رضوان الله عليهم عندما يسألون عن أحاديث الصفات أنهم يقولون: أمروها كما جاءت بلا كيف، فيفهمون من كلمة (أمروها) أنها ليست معنى، وهذا فهم باطل، لأن السلف قالوا: أمروها كما جاءت، و Q كيف جاءت؟ جاءت في الكتاب والسنة ولها معان واضحة وبينة، فإن الله خاطبنا بلسان العرب، ولم يخاطبنا بالأحاجي والألغاز. فقول السلف: أمروها كما جاءت، يعني: لا تتصرفوا في معناها بتغييرها عما جاءت عليه، فهي جاءت على لسان العرب وعلى معنى اللغة العربية، فلا يصح التصرف فيها بالمعاني الباطلة، هذا معنى الإمرار، فإن السلف رضوان الله عليهم واجهوا الجهمية الذين لا يمرون نصوص الصفات كما جاءت، وإنما يحرفون معانيها لتوافق الأصول العقلية التي جاءوا بها، وسنتحدث عن هذه الأصول بإذن الله بشكل مفصل، فإنهم أصلوا أصولاً عقلية في الاستدلال على وجود الله، وعلى وحدانية الله عز وجل، وعلى ثبوت نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه الأصول العقلية التي استدلوا بها على هذه القضايا الشرعية قواعد لا تقبل التغيير ولا التبديل، ثم حاكموا نصوص الصفات إليها، فإن وجدوا ما يتعارض معها حرفوا معناه، وبدلوا معناه بالتأويلات الغريبة، فالسلف يقولون: (أمروها)، يعني: لا تتصرفوا فيها بالتأويلات الباطلة. قولهم: (كما جاءت)، يعني: كما جاءت في القرآن والسنة، وهي جاءت بلسان عربي مبين كما أخبر الله عز وجل. ولهذا قولهم: (بلا كيف)، يدل على أن لها معنى، وإلا لم يكن لكلمة (بلا كيف) فائدة؛ لأنهم قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، يعني: لا تكيفوا معناها، بل التزموا بالمعنى الذي دلت عليه هذه الصفات.

إشارة ابن تيمية إلى كلام السلف في إمرار الصفات كما جاءت ومعنى ذلك

إشارة ابن تيمية إلى كلام السلف في إمرار الصفات كما جاءت ومعنى ذلك وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب إلى هذا الموضوع في موضعين: الموضع الأول: فإن شيخ الإسلام رحمه الله عندما نقل أقوال السلف في الصفات قال: وروى أيضاً عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات؟ فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية: فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. وتخريجها موجود في كتب السلف المسندة. فقولهم رضوان الله عليهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة، والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور أمر جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك. الموضع الثاني: يقول: فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول. والمفوضة يؤولون كلام الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، وفي بعض الألفاظ: غير مجهول، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فجاءوا إلى قوله: الاستواء معلوم، فقالوا: يقصد الإمام مالك أنه معلوم في كتاب الله، وهذا تأويل لكلامه، فإنه لم يقل: آية الاستواء معلومة، لو قال: آية الاستواء معلومة، لكان لهم وجهة في هذا، لكنه قال: الاستواء، يعني: الصفة معلومة، فهو لم يتحدث عن الآية؛ هذا أولاً. وثانياً: إذا كان قصده أن آية الاستواء معلومة، فإن هذا تحصيل حاصل ليس فيه ثمرة؛ لأن الرجل عندما سأله ذكر له الآية: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ثم قال: كيف استوى؟ ولهذا فإن قولهم تأويل باطل، وتعسف بالنصوص لا وجه له. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن قول مالك وقول ربيعة وهو ربيعة الرأي شيخ مالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الآخرين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً، كيف يكون معلوماً وهم لا يفهمون له معنىً؟ بل يكون مجهولاً بمنزلة حروف المعجم، يعني: التي لا معاني لها مفردة، أب ت ث ج، فإنه لا فائدة فيها كحروف مفردة، وإنما تكون الفائدة إذا تركبت وكونت كلمة، وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنىً؛ لأنه إذا كان لا يفهم له معنىً فهذا بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون له كيفية مفهومة لدى الشخص، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات، وسبق أن تحدثنا عن أقسام الصفات، وقلنا: إن الصفات باعتبار الأدلة تنقسم إلى صفات عقلية، وهي: ما يدل عليها العقل استقلالاً مع ورودها في الشرع، وصفات خبرية، وهي ما لا يدل عليها العقل استقلالاً، مثل صفة الوجه والاستواء، والنزول، والإتيان والمجيء، وغيرها. قال: [فإن من ينفي الصفات الخبرية -يعني: مثل المتأخرين من الأشاعرة- أو الصفات مطلقاً -يعني: كالمعتزلة- لا يحتاج أن يقول: بلا كيف؛ لأنه ليس هناك شيء يثبته حتى يكون له كيف، وإنما ينفي الكيف من يثبت أمراً وهو المعنى] فمن قال: إن الله سبحانه ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، يعني: كما يقول المفوضة؛ لأن المفوضة يقولون: السلف لا يثبتون الصفات كما هي في ظواهر النصوص، وإنما يقولون: إن ظواهرها غير مرادة، فينفون ظواهرها، وأما معانيها فلا يفهمون لها معنىً ويفوضونها إلى الله عز وجل، هكذا يتصورون. ثم يقول: [وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان] كما سبق أن أشرنا، وقلنا: كيف جاءت؟ جاءت ألفاظاً عربية لها معان يمكن للإنسان أن يتدبرها، وهذه المعاني لا يمكن أن تشابه المخلوقين؛ لأنها منسوبة إلى الخالق، وقد تقرر عقلاً وشرعاً في حس المسلم أن الخالق غير المخلوق، وأنه لا يمكن أن يشابهه بأي وجه من الوجوه. ثم قال: [فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير ال

استدلال المفوضة بما ورد عن بعض السلف من نفي المعنى والرد عليه

استدلال المفوضة بما ورد عن بعض السلف من نفي المعنى والرد عليه واستدلوا أيضاً بلفظ آخر عن السلف، وهو أن بعضهم نفى المعنى، وقالوا: إن هذا صريح في الموضوع، فروى ابن قدامة رحمه الله في كتابه ذم التأويل -وهو كتاب صغير مطبوع- عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث النزول، وعن حديث في الرؤية، وعن حديث في صفة القدم لله سبحانه وتعالى، فقال: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا كيف ولا معنى، قالوا: هذا صريح ينفي المعنى، ولهذا علق محمد زاهد الكوثري على ذلك، هذا الرجل المجترئ على أهل السنة، والذي ضعف زهاء ثلاثمائة عالم من علماء أهل الحديث في كتاب له سماه: تأنيب الخطيب فيما ساق في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب، ورد عليه عبد الرحمن بن يحيى المعلمي رحمه الله بكتاب سماه: التنكيل، لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل، والكوثري هذا من أئمة الجهمية في العصر الحديث، وله تعليقات على مجموعة من الكتب، منها: كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وكتاب الإنصاف للباقلاني، وكتاب التنبيه والرد للمطي، وكتاب تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي رحمه الله، وطبع مجموعة من الكتب وعلق عليها، وملأ حواشيها بنقد مذهب السلف، وذم أئمة السلف، وكان يسمي كتاب التوحيد للإمام ابن خزيمة كتاب الشرك، قبحه الله. فـ الكوثري لما جاء إلى هذا النص علق في كتاب الأسماء والصفات وقال: هذا نص صريح، بمعنى: أن هذا الكلام نص صريح في نفي المعنى، وهذا هو اعتقاد السلف، خلافاً للذين يقولون: إن اعتقاد السلف أن لها معاني، فيشبهون الله بخلقه، قبحه الله. ولا شك أنه لم يفهم كلام الإمام أحمد على وجهه الصحيح، فإن الإمام أحمد رحمه الله لم ينف المعنى الظاهر لنصوص الصفات، وإنما نفى المعاني الباطلة التي يؤولون إليها الصفات، وقد يقول قائل: كيف عرفت؟ و A هو أن الإمام أحمد رحمه الله له نصوص كثيرة في كتب أهل السنة، وفي كتابه الرد على الجهمية، توضح أنه يعتقد أن لظواهر النصوص معاني، فكيف نلغي هذه النصوص الكثيرة التي تملأ كتبه رحمه الله، ثم نأخذ كلمة واحدة ونقول: إن هذا هو مذهبه. وهذه طريقة أهل البدع والضلالة، فإنهم يأتون إلى عالم من العلماء فيأخذون بعض أقواله التي فيها احتمال، ثم يروجون عنه أن هذا هو مذهبه، وينسون أن له مقالات صريحة واضحة بينة ترد هذا الاعتقاد الذي زعموا، ولهذا فإن الإمام أحمد رحمه الله له كتاب واضح اسمه: الرد على الجهمية والزنادقة، وواضح من كتابه ومن خلال النصوص التي نقلت عنه في كتب أئمة أهل السنة، أنه يعتقد أن ظواهر النصوص مرادة، وأنها على حقيقتها بلا كيف. إذاً: قوله: ولا كيف ولا معنى، فيه رد على المشبهة الذين كيفوا صفات الله عز وجل بصفات خلقه، وفيه رد على المعطلة الذين جاءوا بتأويلات باطلة من عند أنفسهم، وفسروا بها معاني النصوص، وجاءوا بمعان باطلة. وقول الإمام أحمد: (ولا معنى)، ليس المقصود: أن نصوص الصفات ليس لها معنى في الحقيقة، ليس هذا مقصوده رحمه الله كما تدل عليه نصوصه الأخرى. وأيضاً استدلوا بنفي بعض السلف تفسير نصوص الصفات، قالوا: إن بعض السلف نفوا تفسير نصوص الصفات، قالوا: ما دام أنه لا تفسير لها فلا معنى لها، فزعموا أن السلف يرون التفويض، وهذا أيضاً باطل، فإن التفسير الذي نفاه السلف هو التفسير الباطل، وهو المعنى الباطل، وهو الذي قالوا عنه: أمروها كما جاءت، يعني: لا تفسروها بمعان باطلة. ونقل اللالكائي رحمه الله عن أبي عبيد القاسم بن سلام عندما سئل عن بعض أحاديث الصفات قال: هذه الأحاديث عندنا حق يرويه الثقات بعضهم عن بعض، إلا أنا إذا سئلنا عن تفسيرها قلنا: ما أدركنا أحداً يفسر منها شيئاً، ونحن لا نفسر منها شيئاً، نصدق بها ونسكت، قالوا: ما دام أنه لا يفسر شيئاً فلا معنى لها! قلنا: لا، أنتم مبطلون في هذا، كيف تأخذون نصاً واحداً عن عالم، وتتركون بقية نصوصه الأخرى؟! هذا باطل وهذا من الظلم، ثم إن الدارقطني رحمه الله روى في كتابه الصفات نفس هذا الخبر، بما يدل على أن البيهقي رحمه الله يقول: لا نفسر، يعني: لا نكيف صفات الله، ولا نأتي بتفسير باطل لها، فساق الدارقطني بإسناده عن أبي عبيد رحمه الله أنه قال نفس النص بلفظ آخر، قال: هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا شك فيه، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يفسر هذا، ولا سمعنا أحداً يفسره. إذاً: ما هو الشيء الذي قال عنه أبو عبيد: إنا لا نفسره؟ هو قوله: وإذا قيل: كيف؛ لأن الكيف مجهول لا يمكن أن نعرفه، وإن كان للصفات كيفية في نفس الأمر. إذاً: نخلص من هذا أن استدلال المفوضة بما ورد عن السلف رضوان الله

الأدلة على بطلان مذهب المفوضة

الأدلة على بطلان مذهب المفوضة الأدلة على بطلان مذهب المفوضة متنوعة، يمكن أن نشير لبعضها، ثم نذكر مراجع للرد على أهل التفويض، ويمكن الرجوع إليها والاستفادة منها، فمن الردود أن نقول: إن مذهب المفوضة مخالف لكثير من نصوص القرآن الكريم، ومن هذه النصوص: النصوص الواردة في أن القرآن أنزله الله بياناً للناس، وأنه هدىً للناس، ووصف القرآن بأنه شفاء، وبأنه روح، فقد كان المفوضة يقولون: إن الصفات ليس لها معان، فلا يمكن أن تكون هدىً، ولا يمكن أن تكون بياناً، فإن البيان هو الواضح المعنى، والألغاز والأحاجي ليس لها بيان، والله عز وجل يقول: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138]، ويقول عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]. ويقول سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185]، فقول: (بينات) جمع بينة، وهي الحجة الواضحة، التي لا يعتريها شك ولا ريب، وكذلك عقيدة المفوضة فيها رد للآيات الواردة في وجوب تدبر القرآن، فإن الله عز وجل يقول: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص:29]، ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، ويقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]. وذم الله عز وجل الذين لا يفقهون، ولا يعقلون، ولا يعلمون، يعني: لا يفقهون القرآن، ولا يعقلون آياته، ولا يفهمون ما تدل عليه. وكذلك عقيدة المفوضة فيها إبطال لتيسير القرآن، فإن الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]. وهم يعتقدون أن كثيراً من معاني القرآن ليست واضحة ولا مفهومة، ولا شك أن الشيء إذا كان غير واضح ولا مفهوم لا يكون يسيراً بل يكون عسيراً. وكذلك عقيدة المفوضة كما أن فيها إبطالاً لنصوص القرآن الكريم، ففيها أيضاً انتقاص لحكمة الله عز وجل ولرحمته، فإن من حكمة الله عز وجل ومن رحمته أن هدى الناس بهذا القرآن، ولو كان هذا القرآن فيه معان لا تفهم، وخصوصاً ما يتعلق بصفات الله عز وجل، فإنه لا شك أن في هذا قدحاً في حكمته، وقدحاً في رحمته سبحانه وتعالى. بالإضافة إلى أن هذا القول الذي قالوه: إن نصوص الصفات ليست لها معان واضحة، مخالف لإخبار الله عز وجل أن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي المبين هو الواضح الذي يفهمه كل أحد. ثم إن من الردود عليهم أنهم قطعوا مقوماً من أعظم مقومات الإيمان، وهو تدبر أسماء الله عز وجل وصفاته، فإن الإنسان عندما يتدبر أسماء الله عز وجل، ويتدبر صفاته سبحانه وتعالى، تنبت شجرة الإيمان في قلبه، وذلك عندما يعرف علم الله وحكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمة الله عز وجل، ويدرك معانيها ويفهم حقيقتها، لكن إذا كان لا يتصور لها معنىً، ولا يفهم الفرق بين العلم والحكمة والرحمة ونحو ذلك، فلا شك أن هؤلاء حجبوا عن أنفسهم وعن الأمة باباً عظيماً من أبواب الإيمان، بل هو أصل الإيمان، وهو التدبر في أسماء الله وصفاته، ومعرفتها على وجهها الحق. هذه بعض الأوجه التي يمكن أن نرد بها على هؤلاء، ويمكن أن يراجع كتاب الإكليل في المتشابه والتأويل، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي رسالة مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى، وطبعت أيضاً ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، وقد رد عليهم شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن متعددة من كتبه، لكن في هذا الكتاب رده بشكل مركز، ومن الكتب التي ردت على هؤلاء في العصر الحاضر: كتاب للدكتور رضا نعسان اسمه علاقة الإثبات بالتفويض في صفات رب العالمين، وهو كتاب مطبوع، وأيضاً هناك رسالة ماجستير للأستاذ أحمد القاضي بعنوان: مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات، وهي رسالة ممتازة جمع أطراف كلام شيخ الإسلام رحمه الله فيها، ويمكن أيضاً أن يراجع المجلد الثالث من كتاب موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور عبد الرحمن المحمود، فقد عقد فصلاً أو مبحثاً صغيراً بعنوان: هل مذهب السلف التفويض، وناقشه مناقشة لا بأس بها.

معنى كلمتي السلف والخلف في الاصطلاح العرفي

معنى كلمتي السلف والخلف في الاصطلاح العرفي قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها، من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم]. هنا تعليق ممتاز للمحقق، وهو أنه وجد في بعض النسخ إضافة كلمة، وإن كانت هذه العبارة صدرت من بعض العلماء لكنه يعني بها معنى صحيحاً، فهذه العبارة في بعض النسخ أضيفت إلى رسالة ابن تيمية هذه، وقد أثبت المحقق أن هذه العبارة ليست من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من عدة اعتبارات، منها: أن هذه العبارة ليست موجودةً في جميع النسخ الخطية لهذا الكتاب، وهي تصل إلى تسع نسخ، عدا واحدة هي النسخة الظاهرية الموجودة فيها هذه العبارة. والاعتبار الثاني: أن هناك نسخة هندية وجدت هذه العبارة معلقة على الهامش، مما يدل على أنها ليست من كلام الشيخ، ومنها أيضاً أن ابن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية نقل نصاً طويلاً من الحموية في كتابه العقود الدرية، ولم يذكر هذه العبارة، وكذلك مرعي بن يوسف الكرمي في ترجمته لـ شيخ الإسلام. أيضاً يقول: إن هذه العبارة باطلة في معناها، وقد تكون مدخلاً لتسويغ مقولة باطلة، وكلامه هذا صحيح، قال: [فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات]. وهنا يمكن أن نشير إلى فائدتين: الفائدة الأولى: هو تحديد معنى مصطلح السلف ومصطلح الخلف، فمصطلح السلف تكلموا عليه من ناحيتين: من الناحية اللغوية، ومن الناحية العرفية. فمن الناحية اللغوية، سلف يعني: مضى، فكل من تقدم فهو من السلف، وبناءً على هذا المعنى اللغوي يشمل كل من تقدم سواءً كان صالحاً أو طالحاً، خيراً أو شريراً، والخلف: هو كل من تأخر، لكن ليس مقصود من تكلم على موضوع السلف وموضوع الخلف في كتب العقائد أنه المعنى اللغوي، وإنما مقصودهم المعنى العرفي. والمعنى العرفي: أن السلف هم الذين تقدموا من الصحابة والتابعين والصالحين، ويندرج معهم من سار على نهجهم حتى لو كان من المتأخرين، فإنهم يسمون أتباع السلف، ولهذا قد يسميهم البعض: السلفيين، أي: أتباع للسلف المتقدمين الذين كانوا على عقيدة معينة، وهي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة. والخلف له معنى عرفي، وهو: من كان مخالفاً لطريقة السلف من أهل الكلام كالصوفية مثلاً، والفلاسفة الباطنية وغيرهم، فهؤلاء من الخلف، وإن كان قد يراد بكلمة الخلف في مثل هذا الموطن الأشاعرة، يعني: عندما يقال: منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم وأحكم، قائل هذه العبارة يقصد بالسلف المتقدمين من الصحابة والتابعين وغيرهم، ويقصد بالخلف الأشاعرة من أهل الكلام. والحقيقة أن كلمة السلف تطلق على كل من كان معتقداً للحق من الناحية العرفية، والخلف تطلق على كل من كان معتقداً للباطل، لا سيما في موضوع نصوص الصفات. الفائدة الثانية: أن السبب الذي جعل هؤلاء ينسبون إلى السلف أنهم لا يفهمون للنصوص معاني، وأن الخلف المتأخرين الذين يؤولون النصوص هم أعلم؛ السبب في هذا هو الغرور، وهكذا فإن هذه الصفة إذا وجدت في أشخاص فإنهم يتجرءون على السلف، وسأذكر الخصلة التي وجدت عند هؤلاء، ثم أربطها بمجموعة موجودة في الواقع المعاصر الآن. هؤلاء -أقصد الخلفيين- الذين يقولون: إن طريقة السلف أسلم، وأنهم مثل عوام الصالحين الذين لا يفهمون الكلام بشكل دقيق، ويصورونهم مثل الدراويش، يعني: ليسوا أصحاب عقليات، وأصحاب تفكير، وأصحاب منطق مثلاًً، نشأت هذه المشكلة عندهم من كتب اليونان، عندما ترجمت إلى الأمة الإسلامية درست، فلما درست تبناها مجموعة سموا بالفلاسفة، وهؤلاء الفلاسفة اعتقدوا عقائد باطلة، وقلدوا اليونانيين، فظهرت طائفة في المجتمع الإسلامي سميت المعتزلة فيما بعد، هؤلاء الطائفة ردوا على الفلاسفة، وقالوا: إنكم أنتم أصلاً مخالفون للعقليات. ثم بعد إنكار السلف رضوان الله عليهم على هذه الطائفة الجديدة المنتسبة إلى الإسلام، الذين هم المعتزلة، وحصلت الفتنة التي هي فتنة خلق القرآن، وانتصر فيها أهل السنة، ظهرت طائفة من المنتسبين إلى السنة عظمت العقليات، وأعجبت بما عند المعتزلة وما عند الفلاسفة من استخدام العقل والتفكير، وظنوا أن من مقتضى استخدام العقل والتفكير أن ينقد السلف الصالح، وأن تنقد النصوص الشرعية؛ لأنهم فهموا أن السلف ليس عندهم عقليات، وأنهم أناس نصيون، يعني: يأتيه الأمر من الله أو من الرسول، ولا يفكر فيهما، وأن عقائد هؤلاء ليست مبنية على أمور يقينية

ظهور طائفة العصريين

ظهور طائفة العصريين يشابه هؤلاء في الواقع المعاصر اليوم العصريون، الذين جاءوا بالاتجاه العصري، والاتجاه العصري ليس اتجاهاً له أصول عقدية يمكن أن يحاكم إليها هؤلاء، وإنما عندهم فكرة عامة وهي: أن كل ما هو عصري فلا بد أن يكون فيه فائدة، ونحاول أن نقرب بين كل ما هو عصري، حتى لو كان مخالفاً للشرع، ولهذا ظهر بعضهم بفقه في مجال الإفتاء سماه فقه التيسير، وأصبح كل أمر يجد له مذهباً ولو شاذاً عند العلماء قديماً، يفتي به في الواقع المعاصر، فيبيح كشف الوجه والاختلاط، وسفر المرأة بدون محرم، وسماع الأغاني، ونحو ذلك من الأمور التي يفتي بها مثل هؤلاء. ويشبه هذا بعض العصريين الذين أصبحوا ينتقدون المشايخ، وينتقدون أهل العلم، وينتقدون السلفيين، ويقولون: إن هؤلاء تقليديون، ويقولون: نحن في عصر الديمقراطية الآن، ويقولون: إن عمر بن الخطاب كان ديمقراطياً، ويبدءون يأخذون بعض النصوص، ويلوون أعناقها كما فعل المتكلمون السابقون، إذاً: هذه الفئة تشبه تلك، فقد هان في نفوس العصريين الآن علوم المشايخ وأهل العلم من السلفيين، فلما هانت في نفوسهم تجرءوا عليهم، ومن ثم تجرءوا على النصوص، وبدءوا يلعبون بالنصوص الشرعية في مجال الإفتاء، وفي مجال العقائد، وفي النظم الاجتماعية، وفي النظم السياسية، وفي النظم الاقتصادية، وأصبحنا نسمع من يفتي بإباحة الربا، ومن يفتي بجواز الخلوة، ومن يفتي للناس بكل ما يريدون، بل أصبحنا نسمع من يقول من هؤلاء: هل يمكن أن يدخل الفلاح الجاهل الأحمق الذي لا يفهم شيئاً الجنة؛ لأنه يقول: لا إله إلا الله، وفلان وفلان من أئمة الغربيين العمالقة الفكريين يدخلون النار؛ لأنهم ما قالوا: لا إله إلا الله؟ هكذا يفهمون، ولهذا دعوا إلى حوار الأديان، ودعوا إلى التقارب معها، ودعوا إلى الاجتماع في الملة الإبراهيمية، كما يريدون وكما يتصورون، وهؤلاء خطر حقيقي على المجتمع الإسلامي الآن، كما أن أهل الكلام كانوا قديماً -وما زالوا- خطراً على المجتمع الإسلامي أيضاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف]. ولا تتصوروا أن هذا الكلام سب فقط بل هم كذبوا حقيقة؛ لأنهم نسبوا إلى السلف شيئاً ما قالوه، ولا اعتقدوه، وهم جهلوا؛ وهذا أمر واقع، فإنه لا يمكن أن يكون من اعتقاد السلف أن هذه النصوص لا معاني لها، وما زال السلف رضوان الله عليهم يفسرون معاني النصوص، وارجعوا مثلاً إلى كتاب التوحيد والرد على الجهمية في صحيح البخاري، وهو آخر كتاب من كتب صحيح البخاري، وإلى باب قول الله عز وجل: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، ستجدون السلف رضوان الله عليهم يفسرون آيات الاستواء تفسيراً واضحاً، بأن معناه: العلو، والاستقرار، والارتفاع، ونحو ذلك، وهكذا يفسرون غيرها من النصوص الشرعية. قال المؤلف رحمه الله: [وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين]. هذا سبق أن أشرنا إليه، وقلنا: إن هؤلاء يعتقدون أنه ليس هناك صفات حقيقة تؤخذ من ظواهر النصوص، والسبب هو أصول عقلية أصلوها في إثبات وجود الله، وفي وحدانية الله، وفي إثبات النبوة، وفي إثبات البعث، والجزاء، والمعاد، وجعلوا هذه الأصول العقلية هي الأصول التي تحاكم إليها النصوص، فأولوا النصوص وحرفوها بناءً على ذلك. قال المؤلف رحمه الله: [فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنىً، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف- فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه، فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم]. استبلاههم يعني: يعتقدون أنهم بله لا يفهمون شيئاً. قال المؤلف رحمه الله: [واعتقاد أنهم كانوا أميين بمنزلة الصالحين من العامةلم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا]. حتى إن بعضهم يبرر لهذا القول، يعني: عندما يستبلهون السلف السابقين ويرون أنهم مساكين، وأنهم يفهمون فهماً سطحياً للنصوص، يبررون هذا ويقولون: لأنهم اشتغلوا بالجهاد وانشغلوا فصاروا يقاتلون الرومان، ويقاتلون الفرس، ولم يتفرغوا لتأصيل العلم وتقعيد العلم ونحو ذلك، وما دروا أن اشتغال السلف رضوان الله عليهم بالجهاد، هو الذي أعز الله عز وجل به هذا الدين, وهو الذي منع الأمة من الابتداع حتى تركت الجهاد، ورضيت بأذناب البقر، واشتغلت بالعقليات الفاسدة، فأخرجوا

الأسئلة

الأسئلة

قدح المفوضة في حكمة الله تعالى

قدح المفوضة في حكمة الله تعالى Q لقد ذكرت أن من الرد على مذهب المفوضة أنهم بكلامهم قد قدحوا في حكمة الله؟ A نعم، وجه القدح في حكمة الله عز وجل هو أن الله عز وجل من حكمته أنه عندما أرسل الرسول وأنزل الكتاب أنزله هداية للناس، وهذا أمر واضح، فإذا كانت هذه النصوص التي أنزلها الله ليست لها معان، فهذا قدح في حكمته، في كونه ينزل هذا القرآن على الناس، من أجل أن يكون هداية للناس ثم لا يكون.

تعلم الأسماء والصفات واجب على المسلم للرد على أهل البدع

تعلم الأسماء والصفات واجب على المسلم للرد على أهل البدع Q ما رأيك فيمن يقول: إن تعلم الأسماء والصفات لا يجدي، ولا الخوض فيها، ومعرفة أقوال المخالفين والرد عليهم، وإنما الاقتصار على كلمة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]؟ A المشكلة أن كثيراً من الناس يتكلمون بغير علم، ولو أن كل إنسان ليس عنده علم سكت -حتى لو كان كبيراً وحتى لو كان شخصيةً معروفة- لارتاحت هذه الأمة، ولارتاح هو وأراح الناس، لكن المشكلة أن مثل هذه العبارات تخرج من أشخاص لم يفهموا العلم ولم يدرسوه ولم يقرءوه، ولا فهموا مقاصده، فتجد أنه شخص سطحي بسيط تربى على كتب المثقفين، وعلى بعض الكتابات التي كتبها بعض شيوخه وأساتذته، فإذا جاء إلى موضوع عميق في أصول الدين مثل موضوع الأسماء والصفات تكلم فيه بمثل هذا الكلام. كيف يقول هذا الرجل: إن تعلم الأسماء والصفات لا يجدي مع أن القرآن والسنة مليئان بالأسماء والصفات، فلو جمعنا الآيات الموجودة في القرآن التي فيها أسماء وصفات لزادت عن نصف القرآن، فقوله: يعني أن نصف القرآن أو ثلث القرآن غير مهم، ولا يجدي تعلمه، كيف يقول مثل هذا القول؟ ثم يقول: ولا الخوض فيها، مع أننا نعلم أن هذه من أصول الإيمان، كيف لا يجدي الخوض في صفات ربك الذي تعبده؟ كيف لا يجدي الخوض في أسماء ربك التي سمى بها نفسه؟ لكن الخوض بالحق وليس بالباطل، فإن قصد أنه لا يجدي الخوض فيها بالباطل، فنحن لا نقول: لا يجدي، بل نقول: هذا بدعة وضلالة، وقد تصل بالإنسان إلى الكفر. ولهذا فإن هذه القضية قضية حيوية؛ لأنها متعلقة بالمعبود الذي نعبده، والذي نصلي له كل يوم، ونصوم له، ونتعبد له سبحانه وتعالى، فهي قضية حيوية ومهمة، وقد امتلأت بأسمائه وصفاته نصوص القرآن والسنة، حتى الآيات المتعلقة بالأحكام الفقهية بالحيض والنفاس، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، فهذه فيها صفة المحبة، هل الله عز وجل يحب؟ نعم، كما تدل عليه نصوص أخرى، فعندما يأتيني جهمي ويقول: إن الله لا يحب، فإني أرد عليه وأقول: إن عقيدتك باطلة وفاسدة، فلا شك أن هذا الإنسان تكلم في هذه المسألة بغير علم، ولو أنه قرأ كتب أهل العلم، وفكر في المسألة، وراجع القرآن والسنة لما قال مثل هذا الكلام.

معرفة بطلان بعض الأحاديث من حيث اللفظ أو المعنى

معرفة بطلان بعض الأحاديث من حيث اللفظ أو المعنى Q نرجو التوجيه بالحديث الذي ينسبونه للرسول صلى الله عليه وسلم: (ما وسعتني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)؟ A هذا حديث باطل ليس بصحيح، ويمكن مراجعة كتاب المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للإمام السخاوي رحمه الله، فقد ذكر هذا الحديث وبين بطلانه.

مشاركة المفوضة للكافرين في مقالتهم لا يعني تكفيرهم

مشاركة المفوضة للكافرين في مقالتهم لا يعني تكفيرهم Q أشكل علي قول ابن تيمية رحمه الله في ثنايا قوله في الرد على مقولة المفوضة: شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فهل يرى ابن تيمية رحمه الله تكفير أصحاب هذه المقالة؟ A لا يلزم من قول ابن تيمية هذا أنه يكفر أصحاب هذه المقالة، لكن المقصود: أن هؤلاء شاركوا الكافرين في مقالتهم، ثم الحكم عليهم يحتاج إلى وجود الشروط التامة فيهم، وانتفاء الموانع عنهم حتى يكونوا من الكافرين، ولهذا قد يشارك الإنسان أحياناً إبليس في صفة الحسد والكبر، فلا يكون مثل إبليس مائة بالمائة. وهكذا لما شاركوا هؤلاء الكفار في هذه الفكرة لا يلزم أن يكونوا كفاراً مثلهم، وبعض الناس الآن قد يشارك بعض الكفار في بعض الصفات، سواء كانت صفات خلقية أو خلقية، فيصح أن يقال: شاركوا الكفار في كذا، ولا يلزم من هذا التكفير. أما قوله: (إخوانهم)، فلا يلزم من ذلك أنه يكفرهم، لأمرين: لاحتمال أن يقصد بإخوانهم: أصحابهم ممن ناقشوهم وناظروهم، فإن الله عز وجل يقول: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الأحقاف:21]، وليس مقصوده أنه أخوهم في الدين، وإنما المقصود: صاحبهم في السكن، وفي النسب، وفي الدعوة والإصلاح، هذا من وجه. والوجه الثاني: أنه ربما أراد ابن تيمية رحمه الله التنكيل بهم؛ لأنهم شاركوا الكافرين، فنسبهم إليهم في مثل هذه الحالة، والمقام الذي تحدث عنه ابن تيمية ليس مقام حكم، ولهذا لا يصح أن نأخذ من كلام أهل العلم أحكاماً وهو ليس في سياق الأحكام، فقد نفهم أن هذا الكلام جاء به ابن تيمية وكتبه وهو مغضب على هؤلاء، وليس قصده تقرير الحكم الشرعي فيهم، فإنه إذا أراد أن يقرر الحكم الشرعي فيهم تغيرت طريقته بالمرة، وحينئذ لا يصح أن يقتنص الإنسان كلمة ويقول: إن ابن تيمية يكفرهم، هذا لا يصح، وقد تكلم ابن تيمية على مسألة تكفير الفرق في رسالة له مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى.

بيان المقصود بأصول أهل السنة والجماعة

بيان المقصود بأصول أهل السنة والجماعة Q كثيراً ما نسمع عن أصول أهل السنة، ومن ذلك: طاعة ولي الأمر، فما هي أصول السنة والجماعة، وكم عددها؟ A المقصود بأصول أهل السنة والجماعة القواعد العامة في الأبواب المتنوعة التي يعتقدها أهل السنة رضوان الله عليهم، ففي باب الإيمان بأسماء الله لهم أصول، وفي الإيمان بالصفات لهم أصول، وفي الإيمان بالقدر لهم أصول، وفي الإيمان بالملائكة والغيبيات لهم أصول، وفي الإيمان بالبعث واليوم الآخر لهم أصول، وهكذا لهم أصول متنوعة، ويمكن أن نعرفها من خلال الدراسة والبحث والاستقصاء، وهي ليست محصورة في عدد معين؛ لأن التقسيم العلمي يختلف من كاتب إلى آخر، فقد يضم بعض العلماء أصلين أو ثلاثة أصول ويجمعها سوياً ويجعلها تحت أصل واحد، وبعضهم قد يوزعها ويفرقها، فالسؤال عن العدد لا يمكن الإجابة عنه؛ لأن طريقة أهل العلم تختلف من كتاب إلى كتاب آخر، لكن هذا هو المقصود.

كيفية الرد على العصريين في قولهم: إن السلف الصالح سطحيون

كيفية الرد على العصريين في قولهم: إن السلف الصالح سطحيون Q كيف نرد على العصريين وانتقادهم للسلف الصالح، وقولهم: إنهم سطحيون؟ A هذا قول باطل؛ لأن السلف الصالح ليسوا سطحيين، عرفنا ذلك من خلال هذه الحضارة الكبرى التي أسسها السلف رضوان الله عليهم، منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا المعاصر، فإن هذه الحضارة لا يمكن أن تنتج عن سطحيين في مجال السياسة، وفي مجال المال، وفي مجال الدعوة والإصلاح، وفي مجال التعليم، فقد كانت بغداد فيها أكثر من ثلاثة مليون نسمة، وفي الوقت نفسه كانت باريس ليس فيها إلا ثلاثة آلاف نسمة، فضلاً عن الجامعات الكبرى التي كانت موجودة في بغداد، والجهل الذريع الذي كان موجوداً في باريس، ونحن لا يهمنا أن نقارن أنفسنا بالغرب، فالغرب لا يستحق أن نقارن أنفسنا بهم، لكن نقول هذا الكلام في الرد على العصريين؛ لأنهم يعظمون الغرب، ولأنهم يرون أن الحضارة هي حضارة الغرب، نقول: هذه الحضارة الضخمة الكبيرة التي بناها المسلمون هل تنتج عن سطحيين؟ لا يمكن أن تنتج عن سطحيين.

شرح الفتوى الحموية [6]

شرح الفتوى الحموية [6] ظهرت المذاهب الضالة والمنحرفة بسبب تبني كثير من أبناء المسلمين لعلم الكلام والفلسفة اليونانية وعلم المنطق، وأصبح لدى كثير من المفوضة فكرة أنَّ طريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا قول باطل، وقد عرف كثير من المتكلمين الحق ورجعوا إليه، لما في علم الكلام من شكوك وضلال وحيرة.

علم الكلام

علم الكلام

تعريف علم الكلام

تعريف علم الكلام انتهينا في الدرس الماضي من موضوع بطلان مذهب أهل التفويض، وقلنا: إن مذهب أهل التفويض مبني على أن ظواهر النصوص الشرعية من الكتاب والسنة ليست مقصودة، وإنها ليست على ظاهرها، وإن ظاهرها غير مراد، ومبني أيضاً على أنها ليست لها معانٍ مفهومة يمكن أن يفهم الإنسان لها معانٍ توضحها وتبين حقيقتها. وأيضاً تحدثنا عن إبطال المقالة المشهورة وهي المقالة التي جاء بها أهل الكلام من المتأخرين، وهي قولهم: إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وقرأنا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وبينا الرد على هذه الفرقة وعلى هذه الطائفة، وفي أثناء رد شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على هذه الطائفة نبه إلى أن هؤلاء الخلف هم أهل الكلام الذي ذمه السلف الصالح رضوان الله عليهم، والذي فيه المقالات الباطلة المشهورة، والذي رجع كثير من أصحابه عن أقوالهم وعن عقائدهم، ومن هنا كانت هذه نقطة مهمة تحتاج إلى وقفة وتحتاج إلى تأمل، ولهذا اعتبرناها وحدة موضوعية مستقلة، وقد سبق أن قسمنا الكتاب إلى مجموعة من الوحدات الموضوعية، فمنها ضلال المتكلمين وحيرتهم وشكهم واضطرابهم. وأول ما ينبغي أن نبدأ به هو تعريف علم الكلام فنقول: علم الكلام: هو علم يبحث في أصول الدين بالطرق العقلية والجدلية، ويزعم أصحابه أنهم يصلون إلى اليقين من خلاله. والذين عَرَّفوا علم الكلام هم أصحابه؛ ولهذا مدحوه، فتجد أن الإيجي يعرف علم الكلام: بأنه علمٌ يبحث في أصول الدين بالدلائل اليقينية، ويعرفه غيره بقريب من هذا التعريف، كـ التفتازاني مثلاً في شرح العقائد النسفية، وأيضاً في شرح المقاصد، وغيرهم يعرفونه ويمدحونه ويثنون عليه. وهم في تعريفهم له على منهجين، منهج يصور علم الكلام بأنه علم العقائد وعلم أصول الدين وعلم التوحيد، ومنهج آخر يصور علم الكلام بأنه علمٌ للدفاع عن قضايا العقيدة بالمنهج العقلي.

نشأة علم الكلام

نشأة علم الكلام أما نشأة علم الكلام فإن أصحاب علم الكلام يقولون: إنه نشأ من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الآيات القرآنية، وإنه تطور بعد ترجمة الكتب اليونانية. هكذا يصورونه! والحقيقة أن علم الكلام علمٌ نشأ بسبب العلاقة التي حصلت بين أبناء البلدان المفتوحة من أصحاب الديانات المختلفة وبين بعض المسلمين، عندما انتشرت الفتوحات الإسلامية، ودخل الفرس والهند في دين الله، ودخلت ممالك كبيرة في دين الله عز وجل، كانت هذه الأماكن لها أديان وتصورات وأفكار ومناهج وعقائد، فبقي بعضهم على ما هم عليه، وآمن بعضهم بهذا الدين الحق والتزمه بصدق وعقيدة، وبعضهم أظهر الالتزام بالإسلام نفاقاً. فظهرت طائفة من المسلمين تناقش الطوائف والأديان والعقائد والفلسفات المختلفة التي واجهها المسلمون، فظهر من ناقش السومنية وهم طائفة من الهنود، وظهر من ناقش الزرادشتية مثلاً، وظهر من ناقش فلاسفة اليونان، وغيرهم من أصحاب المذاهب والفلسفات المختلفة، الذين ظهروا لمناقشة هؤلاء، وليس هم أهل الحديث وأهل العلم الأئمة الكبار الذين كان لهم قدم صدق في الأمة، وكانت الأمة ملتفة حولهم، وإنما هم مجموعات بسيطة من الذين يهوون العقليات، وتأثروا بالجلوس مع أبناء البلدان المفتوحة، ولم يكونوا من أهل العلم. وبرز منهم أشخاص اشتهروا اشتهاراً كبيراً مثل الجعد بن درهم، وكان ذلك في أوائل المائة الثانية تقريباً وفي أواخر الدولة الأموية، فـ الجعد بن درهم هو شيخ مروان بن محمد الأموي آخر ملوك الدولة الأموية، وأنتم تعلمون أن الدولة الأموية سقطت في سنة مائة واثنين وثلاثين. والجعد بن درهم أظهر القول بخلق القرآن وأظهر إنكار الرؤية، وأظهر أن الله عز وجل ليست له الصفات المثبتة، وأيضاً أظهر عقائد متعددة أخذها عنه مجموعات أيضاً، لكن أشهرهم الجهم بن صفوان، واشتهر الجهم بن صفوان بعد ذلك، وانتسبت له الطائفة المشهورة بالجهمية، وساعد على الأمر ترجمة الكتب اليونانية في زمن الدولة العباسية قبل زمن المأمون، وساعدها بشكل كبير المأمون، وكان المأمون رجلاً ذكياً متكلماً، فقد كان المأمون من أهل الكلام الذين يعرفون المنطق ويعرفون الفلسفة اليونانية بشكل دقيق، فظهرت كما قلت هذه المجموعات وهذه الطوائف التي انتحت منحىً عقلياً في دراسة أصول الدين بعيداً عن النصوص الشرعية تأثراً بالفلسفات المختلفة، ويحتجون على ذلك كما ذكر التفتازاني أن المخاصم والمعاند لا يقر بالأحكام الشرعية ولا يقر بالنصوص الشرعية، فأنت إذا أردت أن تتكلم مع الخصم وقلت له: قال الله تعالى، لا يقر لك بأن قول الله عز وجل يقيني وأنه حجة في ذاته، ولهذا فنحن بحاجة -كما يقولون- إلى أن نخترع وأن نبتكر دلائل عقلية لإقناع الخصوم. وإلى هذا الحد ليست هناك مشكلة، ولكنَّ المشكلة جاءت من عدة أمور: الأمر الأول: أنهم ليسوا من أهل العلم بالشريعة، ولهذا اخترعوا أدلة تناقض الأحكام الشرعية. الأمر الثاني: أن هؤلاء اخترعوا أدلة عقلية وجعلوها أصولاً اعتقادية، وجعلوها ملزمة، وكل النصوص الشرعية المخالفة لهذه الأصول العقلية كما يسمونها، والتي هي في حقيقتها شبهات أولوه أو حرفوه أو ردوه بأي وسيلة من الوسائل. ومن هنا ظهرت هذه الطائفة مخالفة لمنهج عامة الأمة، التي كانت تعظم الكتاب وتعظم السنة، وإذا وجدت ملحداً - وعدد الملحدين قليل جداً في تاريخ الأمة المسلمة - يناقشه أهل العلم بما يقنعه، وبما يؤثر فيه، وبما يصلحه، خصوصاً أن القرآن والسنة امتلأت بالأدلة العقلية المقنعة للمنكر والمعاند، ولا يشترط أن يقول: قال الله تعالى كذا؛ لكن يمكن أن يستنبط من الآيات ومن الأحاديث النبوية أدلة عقلية يمكن أن يقنع بها أي خصم من الخصوم، لكن هؤلاء لم يكونوا من أهل العلم ولم يشتغلوا به ولم يدرسوه؛ ولهذا اخترعوا أدلة معقدة بشكل غريب. وقد تأثروا في أدلتهم هذه بأدلة الفلسفة اليونانية أو الهندية أو غيرها، فإن اليونان أمة وثنية ما كانت تدين لله عز وجل، وظهر فيها حكماء وأذكياء، أرادوا أن يستدلوا على الأمور الغيبية ويسمونها الميتافيزيقيا، وليس عندهم أداة من أدوات كشف الغيبيات إلا العقل، وأرادوا أن يستدلوا بالمحسوس على الغائب، ويسمونه الاستدلال بالشاهد على الغائب، فأرادوا الاستدلال بهذه الطريقة فوقعوا في أمور كثيرة تعثروا فيها، وإذا كانت هناك إصابة خفيفة جداً، فهي ليس لها أي قيمة أمام الأخطاء الفادحة الكبيرة التي أخطئوا فيها، في مسائل الألوهية، وفي مسألة النبوة، وفي مسألة اليوم الآخر، وغيرها من المسائل العقدية المهمة التي تصح بها عقيدة العبد أو تفسد، ولهذا عندما نأتي للحديث عن الأصول العقلية التي نفى أهل الكلام من أجلها الصفات، سنجد أنهم تأثروا تأثراً كبيراً بأدلة الفلاسفة وغيرهم من الأمم الأخرى. إذاً: هذه الطائفة الجديدة التي سميت بأهل ا

تعريف ابن تيمية الدقيق الصحيح لطائفة المتكلمين

تعريف ابن تيمية الدقيق الصحيح لطائفة المتكلمين هذا بالنسبة لهذه الطائفة الجديدة التي هي طائفة أهل الكلام أو من يسمى بالمتكلمين، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعريفاً دقيقاً صحيحاً للمتكلمين فقال: المتكلمون: مصطلح عرفي لكل من تكلم في الدين بغير طريق المرسلين]. قوله: (مصطلح عرفي) يعني أنه لغوي لا شرعي، وإنما هو عرفي تعارف عليه أصحاب هذه الأفكار وغيرهم، على أن هذه الطائفة التي لها هذه السمات ولها هذه الطبيعة يسمون بالمتكلمين، وهم الذين يتكلمون في قضايا الدين بغير طريق المرسلين، ويمكن أن نضيف إليها: بالأسلوب الجدلي العقلي.

أسباب تسمية أهل الكلام بالمتكلمين

أسباب تسمية أهل الكلام بالمتكلمين لماذا سمي أهل الكلام بالمتكلمين؟ ذكروا أسباباً كثيرة جداً تصل إلى عشرة أسباب تقريباً، منها: أنهم يقولون: لما أرادوا تصنيف الكتب بدءوها بقولهم: فصل الكلام في الصفات، فصل الكلام في القدر، فصل الكلام في كذا، وهذا قول. والقول الثاني: أن أول مسألة أثارها هؤلاء هي مسألة كلام الله عز وجل، وهل هو مخلوق أو ليس بمخلوق؟ وهذا القول رد عليه ابن تيمية رحمه الله وقال: إن هناك أشخاصاً ينسبون إلى الكلام مع أنهم ظهروا قبل أن تظهر قضية كلام الله عز وجل، والقول بخلق القرآن. القول الثالث: أنهم يتكلمون كلاماً جدلياً ليس فيه شيء عملي، فقيل: هؤلاء من المتكلمين، بمعنى: أن كلامهم كلامٌ نظري. وقيل: إن المتكلمين سموا بهذا الاسم لأن الكلام الذي يذكرونه كلام مفيد، وهذا يذكره أصحاب هذا الشأن حتى يمدحوا مذهبهم، فيقولون: إنه علم الكلام سمي بهذا الاسم لأنه كلام دقيق، كأنك تقول: هذا هو الكلام المقبول. وذكروا عدة أسباب أخرى يمكن مراجعة هذه الأسباب جميعاً في كتاب شرح العقائد النسفية للتفتازاني فقد ذكرها كاملة. والحقيقة أنه ليس هناك سبب واحد مباشر تستطيع أن تقول هو السبب الأساسي في التسمية، لكن تعارفوا على أن هؤلاء اشتغلوا بالكلام في القضايا العقدية، وأنه لما اشتغلوا بذلك وردد على الأفواه كثيراً، على هذه الطائفة التي سبق أن أشرنا إليها.

طوائف علم الكلام

طوائف علم الكلام إنَّ أهل الكلام ليسوا طائفة واحدة، وليسوا متفقين اتفاقاً تاماً في العقائد، فمن أهل الكلام المعتزلة، ومن أهل الكلام الأشاعرة، ومن أهل الكلام الماتريدية، ومن أهل الكلام السالمية، ومن أهل الكلام الجبرية، ومنهم القدرية، والقدرية تعود إلى المعتزلة. والحقيقة أن كثيراً من هذه الأسماء يتداخل بعضها مع بعض، يعني: أول ما نشأت الفرق سميت بأسماء، إما بأسماء من أظهر البدعة مثل الجهمية، أو بأسماء الموضوع الذي ناقشوا فيه مثل القدرية، أو بصفة من الصفات مثل المعتزلة؛ لأنهم اعتزلوا مجلس الحسن البصري، اعتزله واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد. المهم أن هذه الأسماء لا ينبغي أن تشغل بال الباحث؛ لأنها لأوصاف متعددة، أحياناً قد تكون طائفة واحدة ويمكن أن توصف بأكثر من وصف، خذوا على سبيل المثال المعتزلة، يمكن أن نسميهم المعتزلة، ويمكن أن نسميهم القدرية، ويمكن أن نسميهم المعطلة، لأنهم يعطلون الصفات، وهذه الأسماء هي التي يرددها أهل السنة كثيراً، ويمكن أن يسموا مثلاً بمتأخري الشيعة، فالشيعة المتأخرون معتزلة تماماً، وممكن أن يسموا بالأباضية والخوارج؛ لأن المتأخرين من الأباضية والخوارج معتزلة تماماً، فتجدون أكثر من اسم مع أن المسمى واحد، وممكن أن يسموا متكلمين؛ لأن هذه الأوصاف مجتمعة فيهم، فينبغي أن لا تشغل الإنسان كثرة هذه الأسماء، فإنها يرجع بعضها إلى بعض.

مصنفات علم الكلام

مصنفات علم الكلام هناك مصنفات كثيرة جداً صنفت باسم هذا العلم (علم الكلام)، فهناك مصنفات للمعتزلة، فمن أشهر المصنفات: رسائل العدل والتوحيد، وهي مجموعة رسائل جمعها الدكتور محمد عمارة، وهو من العصريين، وأيضاً هناك كتاب اسمه: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، وهو من كتب المعتزلة التي يرجع العامة إليها، ومنها: المغني في أبواب العدل والتوحيد وهو كتاب كبير جداً يصل إلى العشرين مجلداً تقريباً للقاضي عبد الجبار الهمداني أيضاً. ومن كتب المعتزلة أيضاً كتب الشيعة المتأخرين، فكتاب التوحيد لـ ابن بابويه القمي يعتبر من كتب المعتزلة. ومن كتب علم الكلام أيضاً كتب الأشاعرة، مثل كتاب المواقف في علم الكلام لـ عضد الدين الإيجي، ومنها كتاب نهاية الإقدام في علم الكلام لـ أبي الفتح الشهرستاني، ومن هذه الكتب أيضاً كتاب العقائد النسفية وما دار حوله من شروح وحواشٍ، مثل شرح التفتازاني عليه، وهناك حواش كثيرة ومتعددة على شرح التفتازاني لعلماء الأحناف، ومنها كتاب الإنصاف للقاضي أبي بكر الباقلاني، ومنها كتاب التمهيد لعلم التوحيد له، ومنها أيضاً كتب الجويني مثل الشامل في أصول الدين، ومثل كتاب الإرشاد، ومنها كتاب الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي، والمقدمة التي طبعت مع إحياء علوم الدين في البداية هي كلها من كتب هؤلاء المتكلمين. وهناك كتب منهجية تدرس مثل شرح الموقف الخامس تقريباً من مواقف الإيجي في الإلهيات، فالشرح للجرجاني والمواقف للإيجي كما سبق، وحققها الدكتور أحمد المهدي، وهو كتاب يدرس لطلاب أصول الدين في مصر، وأيضاً كتاب كبرى اليقينيات الكونية للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وهو من كتب علم الكلام والأشاعرة المتأخرين، وأيضاً كتاب الله جل جلاله لـ سعيد حواء وهو من كتب أهل الكلام المتأخرين أيضاً، وكتاب أركان الإيمان لـ وهبي غاووجي الألباني، وهو من كتب أهل الكلام المتأخرين، وهناك كتب متعددة ألفت على شكل مناهج مدرسية للطلاب، وأيضاً هي من كتب علم الكلام.

ذم السلف الصالح لعلم الكلام

ذم السلف الصالح لعلم الكلام إن هذا العلم علم مذموم ذمه السلف رضوان الله عليهم، والسبب في ذم السلف الصالح رضوان الله عليهم لهذا العلم، ليس هو كون هذا العلم جاء باصطلاحات جديدة ليست معروفة، مثل اصطلاح الأعراض والجواهر، والجوهر الفرد، وغيرها من المصطلحات الحادثة الجديدة، وليس هذا هو السبب، وإنما السبب هو أن هذه المصطلحات تتضمن عقائد بدعية؛ ولأن المسائل التي ذكرها أهل الكلام هي مسائل مخالفة لنصوص الوحيين، ولأن الأدلة التي استدلوا بها هي أدلة مبتدعة، وليس قولنا: أدلة مبتدعة يعني أنها أدلة مخترعة، فإنه أحياناً قد يكون الدليل مخترعاً لكن يكون صحيحاً، لكن هذه أدلة مخترعة وباطلة في نفس الوقت، مثل دليل حدوث الأجسام، وغيره من الأدلة التي استدلوا بها، وهي أدلة باطلة تتضمن عقائد باطلة. إذاً: السلف رضوان الله عليهم لم يذموا علم الكلام لأنه علم جاء بمصطلحات جديدة، وإنما ذموه لأنه يتضمن عقائد باطلة ومخالفة للحق ولهذا ذموه، وكذلك عندما ذموا التصوف هم لم يذمو لأن فيه عبارات وإشارات غير معروفة لم يستعملها الصحابة، وإنما ذموه لأن هذه العبارات وهذه الإشارات تتضمن عقائد معنوية، وهذه العقائد المعنوية عندما نزنها بالكتاب والسنة نجد أنها إما في قاموس البدعة، وإما أن توضع في الشرك.

نقل ما ذكر عن السلف الصالح في ذم أهل الكلام

نقل ما ذكر عن السلف الصالح في ذم أهل الكلام وبناءً على هذا فإن السلف رضوان الله عليهم أجمعوا على ذم علم الكلام. ويمكن أن أنقل كلام الحافظ أبي عمر بن عبد البر رحمه الله تعالى في كتابه جامع بيان العلم وفضله، يقول أبو عمر: أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه، ويتفاضلون فيه بالإتقان والفهم. انتهى كلامه. ونقل أيضاً إجماع السلف الصالح على ذم علم الكلام الغزالي في إحياء علوم الدين، مع أنه من أهل الكلام، إلا أنه نقل إجماعهم على ذمه لأنه كان في مرحلة التصوف. والغزالي كما تعلمون له مراحل، فقد كان رجلاً ذكياً فاشتغل في العقليات حتى وصل إلى درجة الفلسفة، ثم ترك ذلك واتجه إلى علم الكلام، ثم ترك ذلك واتجه إلى التصوف، ثم في آخر أمره رجع إلى السنة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله أنه توفي وصحيح البخاري على صدره رحمه الله، لكنه لم يؤلف شيئاً بعد أن رجع إلى السنة، وكتابه إلجام العوام عن علم الكلام ألفه في مرحلته الصوفية؛ لأنه رأى أن أدلة علماء الكلام لا توصل إلى اليقين، وأن الذي يوصل إلى اليقين هو تجريد النفس لله عز وجل والتعلق بالله عز وجل، عن طريق الأذكار التي اخترعها ويخترعها الصوفية، وملأ بها كتابه الإحياء، لكنه نقل إجماع السلف على ذم علم الكلام. ويمكن أن ننقل ذم الأئمة الأربعة لعلم الكلام، وهذا كافٍ في حد ذاته؛ لأن عامة المتأخرين ينتسبون إلى واحد من هؤلاء الأئمة، إما يكون حنفياً أو يكون مالكياً أو يكون شافعياً أو يكون حنبلياً، فالمتأخرون أكثرهم ينتسبون إلى الأئمة في الفقهيات ويخالفونهم في العقائد. فمن أقوال الأئمة قول لـ أبي حنيفة رحمه الله، خصوصاً أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان متخصصاً في علم الكلام وعرفه، وكان يوماً من الأيام يقول بخلق القرآن ثم رجع عنه وتاب رحمه الله تعالى، سئل الإمام أبو حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ - هذه مصطلحات عند أهل الكلام وهي متعلقة بدليل الحدوث، وهو أكبر دليل موجود عندهم، عطلوا من أجله الصفات - فقال: مقالات الفلاسفة؟! عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة! هذا قول الإمام أبي حنيفة، ففيه رد على الماتريدية الذين ألفوا الكتب في علم الكلام، وهم ينتسبون إليه في الفقهيات والفروع. وأما الإمام مالك رحمه الله فروى عبد الرحمن بن مهدي قال: دخلت على مالك وعنده رجلٌ يسأله عن القرآن، فقال: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد! وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء هما أول المعتزلة الذين خرجوا عن منهج السلف عندما ناقشا الحسن البصري رحمه الله تعالى في مسألة الفاسق الملي وقالا: إنه في منزلة بين المنزلتين، ثم اعتقدوا عقائد الجهمية بعد ذلك في موضوع الصفات، قال مالك: لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد، لعن الله عمراً فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام، ولو كان الكلام علماً لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل. وهذا رواه أبو إسماعيل الهروي في كتابه ذم الكلام وأهله. وأما الشافعي فقد تواتر عنه ذم علم الكلام، منها مقولته المشهورة: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وذهب إلى علم الكلام. ويقول: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يُفَرُّ من الأسد. وهذا رواه أبو عمر بن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. وأما الإمام أحمد فإنه مشهور في ثباته في موضوع خلق القرآن، والذين جاءوا بذكر خلق القرآن هم أهل الكلام، وعندما كان القاضي أحمد بن أبي دؤاد قريباً من المأمون أقنعه بفتنة الناس على خلق القرآن، فأخر المأمون قوله، يعني: أخر فتنة العلماء في قضية خلق القرآن إلى آخر عمره، مع أنه كان يعتقد هذا الاعتقاد من فترة مبكرة، والسبب في هذا أن شيخ الإمام أحمد وهو يزيد بن هارون رحمه الله تعالى كان إماماً محبباً إلى العامة، فقال المأمون يوماً لجلسائه: لولا منزلة يزيد بن هارون لأعلنت القول بخلق القرآن، وامتحنت الناس عليه، فقال له أحد جلسائه: ومن يزيد بن هارون حتى يمنع أمير المؤمنين من إعلان ما يريد؟ فقال: ويلك أخشى أن يعارضني، فتكون فتنة وأنا لا أحب الفتنة، فقال: دعني أجرب ذلك مع يزيد بن هارون! فذهب هذا الجليس إلى

السمات الظاهرة من خلال اشتغال المتكلمين بعلم الكلام

السمات الظاهرة من خلال اشتغال المتكلمين بعلم الكلام هناك سمات وأمور ظهرت من خلال اشتغال هؤلاء بعلم الكلام، منها: التناقض، فتجد أنهم يتناقضون، أي: يقول القول ثم ينقضه في وقت آخر، وأضرب لكم مثالاً على هذا، فإنك تجد أن الأشاعرة ينفون الجهة ويقولون: الله عز وجل ليس في جهة، وإنما هو في كل مكان، ومع هذا يثبتون الرؤية ويقولون: الله عز وجل يُرى يوم القيامة، وهذا تناقض صريح. وأيضاً يقولون بأن العقل لا يعرف حسن الأشياء، ولا يعرف قبحها، وإنما يكون ذلك بالشرع، ومع هذا يجعلون العقل هو الأصل في العقائد، ويرون أن الشرع تابع له وليس أصلاً فيه. وأيضاً: الغلو في تعظيم العقل، ولهذا فإن الرازي ألَّف كتاباً سماه أساس التقديس، ذكر فيه قانوناً في رد النصوص الشرعية، وقال: إن الأصل في تلقي العقائد العقل، والشرع تابع له، فإذا افترضنا تعارض العقل والنقل، فإننا نقدم العقل على النقل ونرد النقل، أو نؤوله على سبيل التبرع كما يقول. ومن ذلك أيضاً عدم تعظيم النصوص الشرعية، ولهذا يروى عن عمرو بن عبيد وغيره من المعتزلة أنه قال عندما رأى قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] قال: وددت أني حككتها من المصحف، يعني: قوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) لأن قوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) أكثر تأثيراً فيهم من قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [إبراهيم:4] وهم يريدون: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) لأن: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) فيه إثبات مباشر للصفات الذاتية، ولهذا تمنى أن يحكها، عليه من الله ما يستحق! ومن ذلك كثرة الشك والحيرة والاضطراب، وسننقل في ذلك نصوصاً ذكرها ابن تيمية رحمه الله في هذا الكتاب. ومن جهلهم بالسنة فإن كثيراً منهم لا يميز بين الآية والحديث، حتى إنك ربما تعترض عليه بآية فيقول: لا نسلم بصحة الحديث، يظن أنه حديث، فهم لا يفرقون لأنهم لا يشتغلون بذلك، ولهذا لو قلبت بعض كتبهم لا تجد الاستدلال فيها بالنصوص إلا قليلاً جداً، وأكثر هذه الكتب مبنية على قولهم: إن قالوا كذا فنقول كذا، ولنا كذا، فإن قالوا قلنا، وهكذا، هذه طريقتهم في مناقشة قضايا الاعتقاد. نكتفي بهذا التعريف العام لأهل الكلام وللمتكلمين، وبالمناسبة فإنَّ عامة كتب شيخ الإسلام رحمه الله في الرد على هؤلاء، ومنها هذا الكتاب، والصراع بين أهل السنة وأهل الكلام صراع طويل جداً، سواء في موضوع إثبات وجود الله، أو في موضوع أول واجب على المكلف، أو في موضوع التوحيد، أو في موضوع الأسماء والصفات، أو في موضوع الحكمة والتعليل، أو في موضوع الإيمان، فالخلاف بيننا وبينهم متعدد الجهات ومتعدد النواحي.

الحيرة والشك من صفات المتكلمين

الحيرة والشك من صفات المتكلمين

اعتراف الشهرستاني

اعتراف الشهرستاني يقول المؤلف رحمه الله: [ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة بل في غاية الضلالة]. المقصود بالقول هو قولهم: إن منهج السلف أسلم ومنهج الخلف أعلم وأحكم. قال رحمه الله: [كيف يكون هؤلاء المتأخرون؟ لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضربٍ من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه مرامهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالمِ فلم أر إلا واضعاً كف حائرٍ على ذقنٍ أو قارعاً سن نادمِ] قائل هذا القول لم يذكره ابن تيمية رحمه الله صراحةً، لكن هو الشهرستاني، فإنه ذكر هذا في بداية كتابه نهاية الإقدام من علم الكلام، وبعض العلماء ينسب هذا القول للشهرستاني، وبعضهم ينسبه إلى غيره كما ذكر المحقق، وهو أنهما لـ أبي بكر محمد بن باجة والله أعلم بالصواب، وهذه الأبيات رد عليها العلامة الصنعاني اليماني رحمه الله، فقال: لعلك أهملت الطواف بمعهد الر سول ومن والاه من كل عالمِ فما حار من يهدي بهدي محمد ولست تراه قارعاً سن نادمِ وواضح من خلال البيتين السابقين للشهرستاني أنه في حيرة، لأن علم الكلام علم يحير في الحقيقة، إذْ يأتون بأدلة عقلية، وأحياناً تتكافأ عندهم هذه الأدلة، ولهذا يروى عن بعضهم أنه التقى برجل فقال: هل أنت مرتاح لما تعتقد؟ - يعني: من قضايا وجود الله وإثبات الصفات له واليوم الآخر وغيرها - قال: نعم، فبكى، وقال: والله إنني لا أجد ذلك - يعني: في نفسه - لأن الأدلة العقلية خصوصاً إذا كانت من شخص غير مهيأ للاستدلال تتكافأ عنده. فهذا الآمدي مثلاً، والغزالي أيضاً يحارون في المسائل الكبار، إذْ يأتون إلى مسألة كبيرة جداً مثل موضوع إثبات وجود الله، فيرتبون المسائل بعضها على بعض، حتى يأتوا إلى نقطة يحتارون فيها، فإذا احتاروا فيها توقف الآمدي في إثبات وجود الله! فانظروا كيف يتورطون، فهو يرتب إثبات وجود الله على دليل الحدوث، ويرتب دليل الحدوث على تماثل الأجسام، ويرتب مسألة الأجسام على الجوهر الفرد، ثم يأتي إلى الجوهر الفرد ويجد فيه إشكالاً، فإذا وجد فيه إشكالاً توقف واحتار، لكنْ إذا احتار هل معنى هذا أن الأصل الكبير الذي هو وجود الله عز وجل لا يثبته؟ ولهذا يشعرون بالحيرة ويشعرون بالتعاسة والنكادة؛ بسبب هذه الطرق التي اشتغلوا بها. والحقيقة أن مرد هذه الأشياء، يعود إلى أمرين: عدم طلب العلم الشرعي من بداية الحياة - يعني: من بداية النشأة - والسبب الثاني: عدم تعظيم الله عز وجل، وعدم تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، بحيث إنه يهتدي بالكتاب ويهتدي بالسنة، ولهذا تجدون أن كل من يعتمد على نفسه في قضايا العقائد أو قضايا الأعمال يضل. وانظروا الآن إلى الحياة المعاصرة الموجودة، فالذين يعتمدون في تشريعاتهم على غير الله عز وجل، يأتون إلى قضية الإنسان ويقولون: كيف نحكم الإنسان؟ والمقصود جنس الإنسان، فيقولون: كيف يمكن إذا تخاصم اثنان أن نحل المشكلة بينهما، سواء في العقار أو في الميراث أو في التجارات أو في الديون أو في أي باب من الأبواب، فبدءوا يخترعون لأنفسهم قانوناً، وهو عبارة عن تشريعات جاهلية يأتون بها، ولهذا تجد أن بعضهم يجورُ على بعض، وبعضهم يظلم بعضاً، وتجد أن هذه التشريعات لا تحقق راحة الإنسان في الدنيا، مع أنها وضعت له في الدنيا، فالبلاء الذي وقع فيه أهل الكلام هو في موضوعات نظرية. وكذلك وقعوا في موضوعات عملية في محاولة إراحة الإنسان بأنه هو الذي يشكل القانون لنفسه، والإنسان كما تعلمون ظلوم جهول، لا يمكن أن يحل الأزمات التي تعترضه لضعف علمه ولرغبته في البغي، وتسلط الناس بعضهم على بعضهم، ولهذا لا يمكن أن يحل هذه الأزمة إلا التشريع الرباني من الله عز وجل، والعقائد الربانية من الله عز وجل، وحينئذٍ يسير الناس في وئام وفي راحة، دنيونية وانبساط قبل الراحة الأخروية والانبساط الأخروي.

اعتراف الرازي

اعتراف الرازي قال رحمه الله: [وأقروا على نفوسهم بما قالوه، متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم]. المقصود بهذا القائل: هو الفخر الرازي، وهو إمام عظيم من أئمة الأشاعرة يعظمونه كثيراً، وذكر هذا في كتابه أقسام اللذات، ونقله ابن تيمية رحمه الله في درء التعارض في غيره. قال رحمه الله: [نهاية إقدام العقول عِقَالُ وأكثر سعي العالمين ضلال]. سبحان الله! تأملوا نهاية إقدام العقول، وعندما تريد أن تصل إلى عقائد صحيحة أو تشريعات صحيحة فنهايتها عقال، يعني: أنها مكبلة؛ لأنها محدودة وضيقة وصغيرة لا يمكن أن تسعى للكمال ولا يمكن أن تصل إليه. قال رحمه الله: [وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا وغاية دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سِوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي]. قول الرازي هذا فيه عبرة لكل من سار على نهجه وطريقته، فإن الرازي اشتغل بدراسة المعقولات في حياته كلها، وأمضى حياته بأكملها في هذا الموضوع، وانظروا في آخر الأمر ماذا يقول! إذاً: كان الواجب على المشتغلين بعلم الكلام المتأخرين أن يعتبروا، فهذه الكلمات خلاصة لعمر كامل نهايته حيرة وشك وشعور بالضلال، وشعور بالوحشة وعدم الارتياح، ولهذا صدق عندما قال: (لقد تأملت الطرق الكلامية)، فـ الرازي كان من الكبار، وله كتب كبيرة جداً في علم الكلام، منها كتاب الأربعين في أصول الدين، ومعالم في أصول الدين، وله أيضاً كتاب المطالب العالية في العلم الإلهي، وله مجموعة كثيرة من الكتب في قضايا الكلام.

اعتراف إمام الحرمين الجويني

اعتراف إمام الحرمين الجويني قال المؤلف رحمه الله: [ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمة منه فالويل لفلان، وهاأنذا أموت على عقيدة أمي]. قائل هذا الكلام هو إمام الحرمين الجويني، وتلاحظون أن ابن تيمية رحمه الله لا يصرح بأسمائهم، والسبب أن الجو الذي كان يعيشه ابن تيمية عندما كتب هذا الكتاب - وخصوصاً أن هذا الكتاب من بواكير كتب ابن تيمية - كان ملغماً بأهل الكلام بشكل كبير فلم يصرح بأسمائهم، ومع هذا أوذي وامتحن كما سبق أن أشرنا إليه في المقدمة.

قول الغزالي

قول الغزالي قال المؤلف رحمه الله: [ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام]. القائل هو الغزالي.

استحالة أن يكون الخلف أعلم من السلف

استحالة أن يكون الخلف أعلم من السلف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف، إذا حقق عليهم الأمر، لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقفوا من ذلك على عين ولا أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته]. المقصود بالمتهوك: الذي يتكلم بدون علم، وإنما يتكلم بالظن فقط. قال المؤلف رحمه الله: [كيف هؤلاء المحجوبون المنقوصون المسبوقون الحيارى المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته، وأحكم في باب آياته وذاته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى ومصابيح الدجى، الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم، وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة، ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة - لا سيما العلم بالله وأحكام آياته وأسمائه - من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟ أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان، وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟!]. هذا الكلام سبق معناه، وسبق ما يدل على ما تضمنه من تعظيم السلف رضوان الله عليهم، عندما تحدثنا في النقطة الأولى وهي عصمة منهج السلف رضوان الله عليهم، وقلنا: إن أهل الكلام لا يعظمون السلف، بل إن بعضهم يحتقر علوم السلف، ويرى أنهم من السطحيين والنصيين الذين لم يشتغلوا بالعقليات، ولم يمحصوا فيها، وأن العقليات انفرد بها هؤلاء المتأخرون، وبعضهم يجعل السبب في كون السلف لم يشتغلوا بالعقليات أنهم كانوا يشتغلون بالجهاد في سبيل الله، فيقول: إنهم انشغلوا بالجهاد، ويرى أنهم كعوام الصالحين الذين يصلون في المسجد في الصف الأول ويعتنون بالعبادة. مع أن السلف أكثر حكمة وعلماً وإدراكاً وفهماً واستنباطاً وتحليلاً للقضايا ومناقشةً لها أكثر من هؤلاء بمراحل كثيرة متعددة، ولهذا فإن هؤلاء لم يأتوا بشيء جديد، إنما قرءوا تراث الأمم الأخرى، وناقشوه واحتاروا فيه، ثم رجع بعضهم إلى السنة مرة أخرى، أما أهل الإسلام وأهل العلم وأهل الحديث والصحابة والتابعون، فاستطاعوا أن يدلوا الأمة ويرشدوها في قضايا العقائد الكبرى إلى أوضح دليل وأصح منهج، ولم يتناقض منهجهم منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، ولا يستطيع أحد أبداً أن يشير أو يذكر تناقضاً وقع فيه الصحابة أو التابعون أو من جاء بعدهم. حتى في مسائل الفقهيات ما يحصل من خلاف إلا وله ما يبرره، وله قواعده التي تنظمه وتضبطه، بينما هؤلاء ليس لديهم قواعد تضبطهم، وليس لديهم انضباط في النظر، ولهذا تجدهم يختصمون، فتجد بعضهم ينقض أصل قوله من أساسه وهو لا يشعر، فـ الرازي مثلاً في كتابه الأربعين في أصول الدين ناقش مسألة أفعال الله الاختيارية، وعامة مذهب أهل الكلام هو نفي أفعال الله عز وجل وصفاته الاختيارية، ويقولون: إن السبب في ذلك هو أنه يلزم من إثبات أفعال الله الاختيارية حلول الحوادث بذاته. فالرازي تكلم في كتابه الأربعين وقال: إن حلول الحوادث بذات الله لازم لكل طائفة، ثم ذكر المعتزلة وبين لزومهم له، وذكر الأشاعرة وبين لزومهم له، وذكر غيرهم من الطوائف، وهذا يدل على أنهم متناقضون، ولهذا عندما ذكر الرازي هذه المقالة أخذ ينسف أصلاً عظيماً جداً من أصولهم وهو دليل حدوث الأجسام الذي استدلوا به على وجود الله عز وجل، فإما أن تبطل الدليل، وإما أن ترجع عن هذا الكلام الذي ذكرته، وهو أن كل طائفة يلزمها حلول الحوادث بذات الله عز وجل. ولهذا تجد بعض هؤلاء يذكر المسائل ولا يذكر لها جواباً، يعني: لا يذكر فيها اختياراً، بل ينقل وينقل ثم يهمل الموضوع ويتركه، مع أنه موضوع حيوي وحساس يتعلق بقضايا العقائد وفي موضوع الله عز وجل ذاتاً ووجوداً وأسماءً وصفاتٍ وألوهيةً وعبوديةً. قول شيخ الإسلام رحمه الله: (أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين وأشكالهم وأشباههم أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان)، هذا فيه إشارة مهمة إلى أن كثيراً من عقائد الفرق الضالة لها أصول من الأديان السماوية المحرفة، أو الأديان التي هي من أديان المشركين، كأديان الهند واليونان وغيرهم، سواء كان هذا التأثر في الأقوال والعقائد نفسها، أو كان في الطريقة التي اتبعوها، أو كان ذلك في التعامل مع الكتب المقدسة، فمثلاً نجد أنهم تأثروا بالمتفلسفة في الاعتماد على العقل واتخاذه مصدراً للتلقي، وتهوين النصوص الشرعية، وأيضاً اعتمدوا عليه في شبهة كبيرة من شبهاتهم في نفي الصفات، وهي شبهة التركيب، ولهذا يقول

خلاصة الرد على من فضل طريقة الخلف على طريق السلف

خلاصة الرد على من فضل طريقة الخلف على طريق السلف قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإنما قدمت هذه المقدمة لأن من استقرت هذه المقدمة عنده علم طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره، وعلم أن الضلالة والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة، وليس غرضي واحداً وإنما أصف نوع هؤلاء، ونوع هؤلاء]. هذا الكلام الذي ذكره رحمه الله يدل على أن جميع ما سبق هو عبارة عن مقدمة أراد أن يبين فيها طريقة السلف وطريقة الخلف باختصار، وهذه المقدمة تنقسم كما سبق أن أشرنا إلى ثلاثة أقسام: الأول: يقينية منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم وأنه معصوم، وأن السلف تكلموا في العقائد بكلام مغنٍ كافٍ واضح. والأمر الثاني: بطلان التفويض، وقد سبق أن أشرنا إليه. والأمر الثالث: شك المتكلمين وحيرتهم واضطرابهم وتناقضهم، وقد سبق الإشارة إلى ذلك. وبهذا الكلام ينتهي إبطال شيخ الإسلام رحمه الله لمقولة أن منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم وأحكم، ويمكن أن نلخص الرد الذي سبق أن أشار إليه في ثلاث نقاط: النقطة الأولى: أن منهج السلف إثبات الصفات، وفهم معانيها، وليس كما يظنه هؤلاء من أن منهجهم الإيمان بألفاظها مجردة، وهذا يدل عليه نصوص السلف رضوان الله عليهم التي تثبت إيمانهم بهذه الصفات، وأنهم يثبتون ظواهرها ولا يغيرون معناها. النقطة الثانية: أن طريقة الخلف مخالفة لنصوص الوحي، وتعطيلهم لمعانيها الظاهرة بدعة منكرة. النقطة الثالثة: أن الخلف الذين هم أهل الكلام صرحوا بأنهم حيارى مضطربون لم يوصلهم علم الكلام إلى شيء، فكيف يكون هؤلاء أعلم وأحكم من السلف الصالح أهل العلم والجهاد والإيمان والصدق والتقوى؟ هذه ثلاث نقاط تلخص ما سبق أن أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله. وقوله: (وليس غرضي واحداً وإنما أصف نوع هؤلاء، ونوع هؤلاء) المقصود بقوله (نوع هؤلاء) الأول: السلف، (ونوع هؤلاء): الآخر يعني: الخلف، ومقصوده بهذه الفقرة أن المقدمة هي في الوصف العام للسلف الصالح رضوان الله عليهم، والوصف العام للخلف المتكلمين، وأنه لا يريد التفصيل في هذه الأمور وليس هذا موطنه.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين أهل الكلام وأهل الفلسفة

الفرق بين أهل الكلام وأهل الفلسفة Q ما الفرق بين أهل الكلام وأهل الفلسفة؟ A كنت أحب أن أنبه إلى الفرق بين أهل الكلام وأهل الفلسفة: علم الكلام وعلم الفلسفة وعلم المنطق: الفرق هو: أن علم الفلسفة المقصود بكلمة فيلسوف يعني: عاشق الحكمة، أو محب الحكمة، وهي كلمة يونانية، وعلم الفلسفة علم نشأ عند اليونان، واليونان هم أمة كانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم وقبل عيسى عليه السلام، وهؤلاء اليونان وثنيون لا يعتمدون على الرسالة السماوية كما هو الحاصل عند اليهود أو النصارى، وإنما هم وثنيون، لكنهم حاولوا أن يحركوا عقولهم وأذهانهم في الاستدلال على ما وراء الطبيعة التي يسمونها الميتافيزيقيا كما قلت سابقاً، فتكلموا في قضايا الغيبيات كثيراً، وتكلموا في خالق هذا الكون، وتكلموا في هذا الكون هل يبعث مرة أخرى؟ وهل يعود الناس؟ والعلاقة بين الذي يخلق هذا الكون، وبين المخلوقات سواء الإنسان أو غيره؟ تكلموا كثيراً في هذا الموضوع وأطالوا، ولهم مقالات محددة ومعينة. وأبرز هؤلاء الفلاسفة أرسطو، وقد نقل ابن سينا الملحد مقالات أرسطو ولخصها وهذبها ونشرها في صفوف المسلمين في كتاب سماه النجاة، وفي كتاب سماه الإشارات والتنبيهات، وفي كتاب سماه الشفاء، وهو مرض، ولهذا يقولون: إن الغزالي أمرضه الشفاء، يعني: أمرضه كتاب الشفاء لـ ابن سينا، أمرضه في عقيدته، هذا ما يتعلق بعلم الفلسفة في بدايته. ثم لما ظهر سقراط تحدث عن الإنسان، وتحدث عن النفس الإنسانية، وتحدث عن الأخلاق، وتحدث عن الآداب، وتحدث عن الطباع، وتحدث عن القضايا التي يعايشها الإنسان، سواءً قضايا نفسية أو اجتماعية، ولهذا يقولون: إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، فيقصدون أنه نقل الفلسفة - من حيث الموضوع - من الكلام في قضايا الغيبيات السماوية: الملائكة، النبوة، الله، البعث إلى غير ذلك؛ إلى الكلام عن الإنسان وأخلاق الإنسان وآداب الإنسان، إذاً: هذا ما يتعلق بالفلسفة. الفلسفة اليونانية نقلها مجموعة من المنتسبين إلى الإسلام مثل الفارابي وابن سينا والكندي وابن النفيس وابن رشد وغيرهم، نقلوها كما هي واعتقدوا مقتضاها مع وجود تغييرات وتحسينات ومحاولة للربط بين هذه الفلسفة وبين النصوص الشرعية، فظهرت طائفة من المنتسبين للإسلام يعتقدون عقائد هؤلاء الوثنيين تماماً، ومثلهم مثل أصحاب المذاهب الفكرية المعاصرة، والآن ألَاَ يوجد في منتسبي الإسلام شيوعيون وأناس يعتقدون عقائد الوجودية، وأناس يعتقدون عقائد الحداثة، وأناس يعتقدون العقائد الأوروبية تماماً؟! مع أن الأوروبيين كفار مثل اليونان. فهؤلاء جاءوا بهذه العقائد وأرادوا تنزيلها على المسلمين، لكن كانوا عدداً محصوراً وقليلاً ليست لهم صولة وجولة اجتماعية، مثل الواقع المعاصر لأصحاب المذاهب الفكرية الآن، فقام مجموعة من المسلمين وردوا على هؤلاء الفلاسفة المنتسبين للإسلام، وردوا على فلاسفة اليونان بعلم قليل كما سبق، وتكون من هؤلاء من خلال الحوارات والمناقشات طائفة جديدة يمكن أن نسميها بأهل الكلام مثل العصريين الآن، فالعصريُّون الآن هم عبارة عن مجموعة من المتحمسين لقضايا الدين، ومن أصحاب الدعوة الإسلامية، أرادوا الرد على الذين نقلوا المذاهب الفكرية الأوروبية إلى المجتمعات الإسلامية، وأرادوا تعميمها على المجتمعات في قضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع والنفس والمرأة مثلاً إلى غير ذلك، فقام مجموعة من الدعاة للرد على هؤلاء كما قام المتكلمون للرد على الفلاسفة ابن سينا والكندي والفارابي. أولئك ليس عندهم علم شرعي فتأثروا وجاءوا ببدع، وهؤلاء العصريُّون أيضاً ليس عندهم علم شرعي، فقاموا للرد على هؤلاء فتأثروا ببعض مناهجهم، وقالوا بمقالات خطيرة ليست موافقة للسنة ولا لمنهج السلف الصالح رضوان الله عليهم. فأنت إذا قارنت بين القديم والحديث تجد أن اليونان يشابهون الأوروبيين الآن، وأن الفلاسفة الإسلاميين -كما يسمونهم- ابن سينا والكندي والفارابي يشابهون العلمانيين أصحاب الطروحات الفكرية، الذين يتبنون مذاهب الغرب فيها، مثل الحداثة ومثل العلمانية في السياسة والاقتصاد، ومثل الوجودية، ومثل أي مذهب من المذاهب الفكرية، فهؤلاء مثل هؤلاء. فأهل الكلام الذين ردوا على الفلاسفة الإسلاميين، ردوا على ابن سينا، وردوا على الفارابي، فهم مثل العصريين في الواقع المعاصر، الذين ردوا على أصحاب المذاهب الفكرية، مثل الأستاذ محمد الغزالي المتوفى رحمه الله، هذا رد على أصحاب المذاهب الفكرية، لكنه لوجود الضغط الحضاري الكبير على الأمة المسلمة من خلال الغرب ومن خلال العلمانيين الذين ينتسبون إلى الإسلام؛ ولَّد

تحريم مشاهدة وقراءة بعض الكتب والبرامج التي تبث الشبه في الدين

تحريم مشاهدة وقراءة بعض الكتب والبرامج التي تبث الشبه في الدين Q قول العلماء وتحريمهم في ذم الكلام وأهله، وتحريم مطالعته لما له من أثر على العقيدة سلباً، ألا يدل هذا على تحريم مشاهدة وقراءة بعض الكتب والبرامج التي تبث الشبه في الدين؟ A بلى، لا شك أن البرامج الإعلامية أو الكتب التي تبث التشكيك في قضايا الدين وتنشر الشبهات، لا يجوز الاستماع إليها ولا النظر إليها.

يحيى بن معين من أهل السنة وليس من المعتزلة

يحيى بن معين من أهل السنة وليس من المعتزلة Q هل يعد يحيى بن معين من المعتزلة؟ A لا يعد من المعتزلة، فـ يحيى بن معين من أهل السنة، لكنه امتحن وابتلي، إذْ جيء به إلى مخفر الشرطة، فطلب أن يقر بأن القرآن مخلوق، أو يضرب ويجلد، فاتقى؛ ولهذا جاء إلى الإمام أحمد رحمه الله واستدل بقصة عمار رضي الله عنه عندما ابتلي بالمشركين فتكلم بالكفر، فذكر له الإمام أحمد أن عماراً ضرب وهو لم يُضرب، فهو استعجل في مسألة الاتقاء، لكنه ليس من المعتزلة.

حكم التحذير ممن يحلل أمورا ليست محل خلاف

حكم التحذير ممن يحلل أموراً ليست محل خلاف Q إنه مما لا يخفى وجود بعض من ينتسبون إلى العلم، ويفتون ويحللون أموراً ليست محل خلاف مثل الغناء والخلوة، هل الأفضل التحذير من أشخاصهم، أم نكتفي بإبطال كلامهم بدون ذكر أسمائهم؟ A هذه المسألة في الحقيقة مسألة راجعة إلى الحالة التي يتكلم فيها الشخص، فقد يكون من المصلحة أن يسمي الإنسان بعض هؤلاء للتحذير من قوله ومقالته، ويرد عليه ويبين خطأه، وربما يكون من المصلحة عدم ذكر اسمه، كما فعل ابن تيمية رحمه الله في هذا الكتاب حيث أخفى أسماء المتكلمين، فهي راجعة إلى اعتبار المصلحة والمفسدة، وهنا أحب أن أنبه إلى قضية مهمة جداً، وهي أن كثيراً من الناس بالغ مبالغة كبيرة جداً في قضية الموازنة بين الحسنات والسيئات في تقويمه للأشخاص، فتجد أن كل شخص يريد أن يوازن بين حسناته وسيئاته، ويقول: بناءً على هذا فهذه أخطاء تحتمل وهي بسيطة، ويكون هناك تساهل في الرد على المبتدعة أو أصحاب المقالات الباطلة. والحقيقة أن هذه المقالة -مقالة الموازنة بين الحسنات والسيئات- هي مقالة عامة فضفاضة ليست مقالة محددة ومنضبطة، وإذا كان المقصود الموازنة بين الحسنات والسيئات في تقويم شخص ملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة عقيدة وعملاً، إلا أنه لديه أخطاء اجتهادية، وقد تكون هناك زلات في بعض الأحيان، فمثل هذا يمكن أن نقول بالموازنة بين الحسنات والسيئات، لكن لا يصح أبداً أن نأخذ أهل البدع ونوازن بين حسناتهم وسيئاتهم؛ لأن أهل البدع نهجوا منهجاً مخالفاً لمنهج أهل السنة، ولهذا عندما ترجعون إلى كتاب الرد على الجهمية للدرامي رحمه الله، أو رد الإمام الدارمي نفسه على بشر المريسي، فإنه لما جاء للرد على بشر المريسي لم يذكر حسنات بشر المريسي، وإنما ذكر الأمور التي خالف بها السنة لتحذير الناس منها وتعليم الناس خطورة هذه الأقوال، وهكذا الحال في شأن الطوائف وفي شأن الرموز، التي تظهر على أنها تتبنى قولاً مخالفاً لأصول العقيدة الصحيحة، فمثل هذا يجب أن يرد عليه، وكثيراً من الأحيان لا يكون من الحكمة أن تذكر حسناته؛ لأن المجال ليس مجالاً لذكر الحسنات، وإنما هو مجال لبيان الخطأ الذي أخطأ فيه لإصلاحه، وعدم اعتقاده بالنسبة للناس، ولهذا تجد أن مثل من يقول هذا القول قد يتناقض في تقويمه لأمور أخرى، وشخصيات وهيئات ومؤسسات أخرى.

شرح الفتوى الحموية [7]

شرح الفتوى الحموية [7] صفة العلو لله تعالى ثابتة بالكتاب والسنة، وإجماع السلف الصالح، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية أن علو الله عز وجل ثابت في القرآن بألف دليل، فمن أنكر صفة العلو لله سبحانه وتعالى فهو على ضلال مبين وخطر عظيم.

صفة علو الله سبحانه وتعالى

صفة علو الله سبحانه وتعالى موضوع علو الله سبحانه وتعالى موضوع مهم، دلت عليه مئات النصوص من القرآن والسنة، وأجمع عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم، ودل عليه العقل الصحيح، والفطرة المستقيمة. ولم يكن هذا الموضوع محل جدل ونقاش في القرون المفضلة الأولى، وموضوع مثل موضوع العلو يستغرب الإنسان أن يكون مجالاً للجدل والنقاش، فهو واضح وضوحاً كبيراً؛ ولهذا حكى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بعض علماء الشافعية أنه قال: إن علو الله عز وجل ثابت في القرآن بألف دليل، وقال بعضهم: إنه ثابت بثلاثمائة دليل، فهو واضح وضوحاً كبيراً، لكن الجهمية التي ابتليت بها الأمة انحرفوا في مجالات متعددة في العقيدة، فانحرفوا في الإيمان، وانحرفوا في القدر، وانحرفوا في نفي صفات الله سبحانه وتعالى، ونفوا علو الله عز وجل على خلقه، فرد عليهم أئمة السنة رضوان الله عليهم جميعاً.

ذكر بعض المؤلفات لأهل السنة والجماعة في الرد على نفاة علو الله على خلقه

ذكر بعض المؤلفات لأهل السنة والجماعة في الرد على نفاة علو الله على خلقه وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذا الموضوع مجلداً كاملاً من درء تعارض العقل والنقل، وهو المجلد السادس وجزء من المجلد السابع، وقد استعرض شبهات أكبر عالم من علماء الجهمية الأشاعرة المتأخرين، وهو الفخر الرازي في كتابيه: الأربعين في أصول الدين، وأساس التقديس، ورد عليها رداً مفصلاً ومبيناً. وممن ألف في موضوع العلو الإمام الذهبي رحمه الله، المؤرخ المشهور، ألف كتاباً سماه: العلو للعلي الغفار، واختصره الشيخ الألباني رحمه الله تعالى في كتاب سماه: مختصر العلو للعلي الغفار، ومختصر الشيخ الألباني شرطه فيه أنه لا يثبت إلا ما ثبت إسناده عنده، وأما ما ضعف إسناده ولم يصح فإنه حذفه جميعاً، سواء ما يتعلق بالأحاديث أو الآثار الواردة عن الصحابة أو التابعين أو من جاء بعدهم. وممن ألف في العلو الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله، صاحب كتاب المغني، له كتاب سماه: إثبات علو الله على خلقه. وأيضاً كتبت رسائل لبعض المعاصرين، منها رسالة علو الله على خلقه في مجلد للدكتور موسى الدويش، وأيضاً رسالة أسامة القصاص بعنوان علو الله على خلقه، في جزءين، وقد توفي أسامة القصاص بسبب هذا الكتاب، حيث قتلته الطائفة الحبشية الموجودة في لبنان بسبب إثباته لعلو الله عز وجل، وهم من الجهمية الذين ينفون علو الله عز وجل على خلقه. ومن أفضل الكتب في هذا الموضوع كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية في غزو المعطلة والجهمية، للإمام ابن القيم رحمه الله، فهذا الكتاب مفرد في إثبات علو الله عز وجل على خلقه، وقد طبع قديماً وطبع محققاً في السنوات الأخيرة. وكتاب ابن القيم رحمه الله له مقدمة طويلة في موضوع النعمة، ثم بعد ذلك بدأ في موضوع إثبات العلو، ونقل الآيات الواردة، والأحاديث وأقوال الصحابة الواردة في ذلك، وأقوال الأئمة الأربعة، وأتباع الأئمة الأربعة. فمن المالكية نقل مجموعة من النصوص عن عبد الوهاب المالكي وعن ابن الباقلاني الأشعري المشهور، ونقل أيضاً عن ابن أبي زيد القيرواني صاحب كتاب الرسالة، وهو الذي يلقب بالإمام مالك الصغير. ونقل كذلك عن أئمة الشافعية، نقل عن الشافعي رحمه الله، ونقل عن أبي نصر الكرجي، ونقل عن جماعة، وكذلك الحال في الأحناف، نقل عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف وعن غيرهم، وكذلك الحال في الحنابلة، ونقل أقوال الشعراء في إثبات العلو، ونقل أيضاً أقوال الفقهاء، وهكذا نقل أقوالاً كثيرة وحشد نصوصاً كبيرة جداً في إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه. وكما قلت: إن أول من أثار نفي العلو هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، ثم لم يحصل أن حصل نفي العلو إلا عند المتأخرين، فمتقدمو الأشاعرة والكلابية كانوا يثبتون علو الله عز وجل على خلقه كما تدل النصوص، منهم: أبو الحسن الأشعري والباقلاني، وابن مجاهد تلميذ أبي الحسن الأشعري، وغيرهم، ثم حصل النفي عند المتأخرين الذين قلدوا الجهمية الأولى.

النصوص الدالة على إثبات علو الله على خلقه

النصوص الدالة على إثبات علو الله على خلقه

الأدلة من الكتاب الحكيم

الأدلة من الكتاب الحكيم والنصوص الواردة في إثبات علو الله عز وجل على خلقه كثيرة جداً، حتى إن الإمام ابن القيم رحمه الله صنفها على أنواع، فذكر أكثر من عشرين أو ثلاثين نوعاً، كل نوع من هذه الأنواع يشتمل على مجموعة من الأدلة من القرآن. وهناك بعض الصفات الثابتة لله عز وجل تدل على صفة العلو، مثل إثبات صفة الاستواء لله عز وجل، فإنها تدل على صفة العلو، والآيات الواردة فيها تدل على صفة العلو، وكذلك الأحاديث الواردة في صفة النزول تدل على إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى. وسننقل بعض هذه الأدلة ونبين وجه الاستدلال منها، من خلال ما ذكره ابن تيمية رحمه الله، فهو يقول: مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]، ووجه الدلالة في قوله: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ))، فإنه يدل على أنه عال، والكلم الطيب يصعد إليه، وقوله: ((يَرْفَعُهُ)) أيضاً يدل على إثبات العلو، والصعود والارتفاع لا يكون إلا من أسفل إلى أعلى. وقوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]. وقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:16 - 17]. ووجه الدلالة في قوله: (من في السماء) في كلا الآيتين، و (في) هنا ليست للظرفية، وإنما المراد بها على، فيكون معنى الآية: أأمنتم من على السماء، وحروف الجر ينوب بعضها عن بعض، ونظير هذا قول الله عز وجل: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71]، فليس المقصود لأصلبنكم داخل النخلة، وإنما المقصود: عليها. وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] والرفع من الأسفل إلى الأعلى وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، والعروج: هو الصعود من الأسفل إلى الأعلى. وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5]، فقوله: ((يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ)) يعني: من على السماء إلى الأرض، ((ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ)) يعني: يعود إليه صاعداً. وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وهذا تصريح بالفوقية. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وكما سبق أن الأدلة الواردة في إثبات استواء الله عز وجل على عرشه هي كلها أدلة على علو الله على خلقه، فإن العرش فوق السماوات، والله سبحانه وتعالى فوق العرش، وليس فوقه شيء سبحانه وتعالى. وقد جاء ذلك في ستة مواضع كما هو معلوم، وكما سيأتي معنا إن شاء الله في الكلام على موضوع الاستواء مفصلة. وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، ووجه الدلالة مثل وجه الدلالة الأولى، ونحن نستطيع أن نأخذ العلو من قوله: (على)، فإن قوله: ((عَلَى الْعَرْشِ))، والعرش فوق العالم، فهو سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات. ويقول الله عز وجل: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر:36 - 37]. هذه الآيات وردت في قصة موسى عليه السلام، وأن فرعون يقول متهكماً ومستهزئاً: ((يَا هَامَانُ)) وهو وزيره، ((ابْنِ لِي صَرْحًا))، والصرح يبنى من الأسفل إلى الأعلى، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ} [غافر:36 - 37]، إذاً: هو يريد من هامان أن يبني له صرحاً من الأرض إلى السماء؛ لأن فرعون يعتقد أن الله عز وجل في السماء. وهذا يدل على الفطرة الموجودة عند الإنسان، فـ فرعون مع كونه كافراً ملحداً منكراً لوجود الله عز وجل، مع هذا نطق بهذه العبارة، ومع أن سياقها هو في سياق الاستهزاء؛ إلا أنها تضمنت إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، فلا شك أن من كان فرعون أعلم بالله منه فهو أضل من حمار أهله. والدلالة في الآية من وجوه: أولاً: اعترافه أن الإله لا بد أن يكون في السماء؛ لأن من الطبيعي أن يكون الإله في السماء، وهذا يتضمن بطلان دعواه للألوهية؛ لأنه في الأرض وليس في السماء. الأمر الثاني: أنه صريح في أن موسى عليه السلام دعاه إلى عبادة الإله الذي في السماء؛ ولهذا قال: {ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:36 - 37]، فإله موسى في السماء، فهو لم يطلب أي جهة من ال

دلالة حديث المعراج على العلو

دلالة حديث المعراج على العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى]. وصدق، فهي كثيرة جداً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت لو أخذت تستقرئ صحيح البخاري تريد أن تتلمس الأحاديث التي يفهم منها علو الله عز وجل تجدها كثيرة جداً، في أبواب متعددة، حتى في موضوعات العتاق والطلاق والنكاح وغير ذلك. ثم مثَّل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى للأحاديث التي تدل على ذلك بقصة معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه، والمعراج لم يأت في القرآن، فالوارد في القرآن هو الإسراء، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، وأما المعراج فهو وارد في السنة، لكن تواترت الأحاديث في معراج النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء، ولكن وردت أحاديث فيها أمور مفصلة، وأحاديث فيها أمور مجملة، ووردت بعض الزيادات في أحاديث لم ترد في أحاديث أخرى، فهذه الزيادات ليست متواترة، لكن المتواتر هو قصة المعراج، وهذا يسمى التواتر المعنوي، فإن التواتر -كما هو معلوم- نقل جمع عن جمع يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى أمر محسوس. فالتواتر يقسمه العلماء إلى قسمين: تواتر نصي أو لفظي مثل حديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار). وهناك تواتر معنوي، وهذا هو الأكثر في السنة، مثل أحاديث المسح على الخفين، ومثل أحاديث المعراج وغيرها، فإنها تواترت تواتراً معنوياً. وقصة المعراج تدل على علو الله عز وجل، فإنه عرج به من السماء إلى الأرض، وسمع كلام الله عز وجل في السماء.

صعود الملائكة إلى السماء دليل على العلو

صعود الملائكة إلى السماء دليل على العلو ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وهذا كثير في الأحاديث، منها ما ذكره المحقق في الحاشية، وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سيارة، يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكر قعدوا معهم، وحف بعضهم بعضاً بأجنحتهم، حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، فيسألهم الله)، يعني: بعد عروجهم. وهذا واضح في أن الله عز وجل على السماء، وقول الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، وهذا حديث صحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذين كانوا فيهم فيسألهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ فقالوا: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)، وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم.

حديث الخوارج وحديث الرقية يدلان على العلو

حديث الخوارج وحديث الرقية يدلان على العلو وفي الصحيح في حديث الخوارج: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً)، وهذا الحديث رواه البخاري ورواه مسلم أيضاً عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو حديث صريح بأن الله عز وجل في السماء, ومقصوده بأمين من في السماء أنه أمين على الوحي، وهو كلام الله عز وجل الذي يأتي من عنده من السماء. وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك، وشفاءً من شفائك على هذا الوجع)، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا اشتكى أحد منكم، أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء، وذكره)، هذا الحديث رواه أبو داود، واختلف العلماء في صحته وضعفه، وقد حسنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والصحيح أن هذا الحديث ضعيف؛ لأن في إسناده زياد بن محمد المصري، قال عنه أبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن حبان وابن عدي والذهبي وغيرهم: إنه انفرد بهذا الحديث، وبناءً على هذا يكون هذا الحديث ضعيفاً، وإن كان هذا الحديث ضعيفاً فقد دل على علو الله عز وجل ما هو أوضح منه من النصوص الثابتة في صحيح البخاري ومسلم وفي القرآن الكريم.

حديث الأوعال يدل على العلو

حديث الأوعال يدل على العلو وقوله في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه) رواه أبو داود. يقول ابن تيمية رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: [وهذا الحديث مع أنه قد رواه أهل السنن كـ أبي داود وابن ماجة والترمذي وغيرهم، فهو مروي من طريقين مشهورين، والقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر، وقد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم]. حديث الأوعال حديث مشهور، اختلف أهل العلم قديماً وحديثاً في صحته، ونقله المحقق هنا، وهو من رواية العباس بن عبد المطلب، قال: (كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرت سحابة، فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن؟ قالوا: والمزن، قال: والعنان؟ قالوا: والعنان، قال: هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها ثلاثة، حتى عد سبع سموات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك). هذا الحديث حديث مشهور، وقد نقل المحقق من خرجه من أهل العلم، وبين أن مدار إسناده على الوليد بن أبي ثور، وقد اختلف العلماء في توثيقه، وكذلك الانقطاع الحاصل بين عبد الله بن عميرة والأحنف بن قيس، ويبدو لي والله تعالى أعلم أن هذا الحديث لا يصح من حيث السند، وإن كان ابن خزيمة رحمه الله لا يورد في كتابه التوحيد حديثاً ويسكت عليه إلا لأنه حديث صحيح، وذلك أن ابن خزيمة رحمه الله كما أنه اشترط الصحة في كتابه الصحيح المشهور الذي طبع جزء منه اشترط الصحة أيضاً في كتابه التوحيد، وأكثر الناس لا يعرفون عنوان هذا الكتاب إلا كتاب التوحيد، مع أن تكملة العنوان يدل فيه على اشتراط الصحة فيما ينقله من الآثار والأخبار، لا سيما ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقول ابن تيمية رحمه الله الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل، هو جزء من عنوان الكتاب. لكن يبدو لي والله تعالى أعلم أن هذا الحديث ضعيف وغير صحيح من جهة إسناده ومن جهة متنه، أما من جهة إسناده فكما سبق أن مداره على الوليد بن أبي ثور، وأكثر أهل العلم على تضعيفه. وأما من جهة متنه فهو مخالفته للأحاديث الصحيحة في موضعين: أما الموضع الأول: فهو في بعد المسافة بين السماء والأرض، فإنه ذكر هنا أنها واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، وورد في الأحاديث الصحيحة أن المسافة بين الأرض والسماء الدنيا خمسمائة سنة. والموضع الثاني: هو في قوله: (ثم فوق ذلك ثمانية أوعال)، والصحيح: أن حملة العرش قبل يوم القيامة أربعة، ويوم القيامة ثمانية، كما قال الله عز وجل: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، فهذه الآية تدل على أن حملة العرش يوم القيامة ثمانية، وهذا صريح في ذلك، وأما في الدنيا فقد وردت أحاديث صحاح، صححها الشيخ الألباني وغيره في مختصر العلو وغيره، أن عدد حملة العرش أربعة وليسوا ثمانية.

دلالة حديث الجارية على العلو لله سبحانه والرد على من أنكره

دلالة حديث الجارية على العلو لله سبحانه والرد على من أنكره والحقيقة أن صفة العلو لا تفتقر إلى هذين الحديثين، وهناك أحاديث كثيرة تدل على ذلك، منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن معاوية السلمي رضي الله عنه، عندما ضرب جاريته فصكها بسبب أنه جاء فوجد الذئب قد أخذ واحدة من الشياه، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم نادماً على فعله، وفيه: (فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة). وهذا حديث صحيح ذكره الذهبي هنا، وهو في كتاب مختصر العلو للعلي الغفار بتحقيق الشيخ الألباني، والأصل قد طبع، لكن المختصر اشترط فيه الشيخ رحمه الله أنه لا يورد فيه إلا ما صح إسناده عنده، وهذه الطبعة فيها رداءة لكن يمكن الاستفادة منها. فأول حديث نقله من أحاديث العلو هو هذا الحديث، حديث معاوية بن الحكم السلمي، قال: (كانت لي غنم بين أحد والجوانية، وهي موضع قرب المدينة فيها جارية لي -وفي بعض الألفاظ: سوداء كما رواه الدارمي في الرد على المريسي بسند صحيح- فأطلعتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم، فأسفت، -يعني: غضبت- فصككتها -يعني: ضربتها ضرباً شديداً- فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ادعها، فدعوتها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة). هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، وغير واحد من الأئمة في تصانيفهم، يمرونه كما جاء، ولا يتعرضون له بتأويل ولا تحريف. وهذا الحديث فيه عدة فوائد: الفائدة الأولى: جواز السؤال عن الله عز وجل بأين، فإذا قال الإنسان: أين الله؟ فإنه يجاب: في السماء. الثانية: جواز أن يقول المسئول: إنه في السماء، يعني: على السماء، وهذا فيه إثبات صفة العلو لله تعالى. والحديث إسناده ثابت وقوي؛ ولهذا يعتبر هذا الحديث حجة على المبتدعة، لكن أهل البدع اتخذوا في رد هذا الحديث وسيلتين: الوسيلة الأولى: الإقرار بصحته وتأويل معناه. والوسيلة الثانية: محاولة القدح في صحته. أما الوسيلة الأولى: فقال بعض أهل البدع: إن هذا الحديث ليس صريحاً في إثبات العلو؛ لأن قول الجارية: (في السماء)، المقصود أن الجارية عظمت الله عز وجل، وأنها أرادت أن تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أن منزلة الله عندها عظيمة، فقالت: (في السماء)، مثلما تقول لشخص: كيف فلان؟ فيقول لك: في السماء، يعني: وارتفعت مكانته. ولا شك أن هذا تأويل فاسد لا حاجة إليه، وتكلف وتعسف ظاهر، لا يدل عليه دليل من نص الحديث. وذكر أن أحد أهل البدع ناقش بعض أهل السنة في حديث النزول، فأقر بصحة حديث النزول، ثم أوله بأنه نزول أمره، فقال له هذا الرجل الذي من أهل السنة: ينزل أمره؟ قال: نعم، قال: من أين ينزل؟ قال: من العلو، قال: إذاً: أنت تثبت أن الله في العلو، يعني: ألزمه بإثبات العلو بعد أن أول النص؛ لأنه قال: ينزل أمره، يعني: دع عنك مناقشة هذا المبتدع في إثبات صفة النزول، فإثبات صفة النزول مرحلة ثانية، لكن نقول له: ما دام أنك أولت الحديث بأنه ينزل أمره، فهذا دليل على أنك معترف بأنه في السماء، وأن أمره ينزل من السماء إلى الأرض؛ لأنه إذا كان ينزل أمره وهو ليس في السماء فما فائدة: (ينزل) فستقول: جاء أمره، سواء من هنا أو من هنا أو من أسفل أو من فوق، لكن قولك: (ينزل)، دليل على أنك اعترفت بالعلو. ثم نأتي بعد ذلك نناقشه في مسألة تأويله للنزول وإبطال قوله، هذا العمل الأول الذي يقوم به أهل البدع. والأمر الثاني: من تأويلاتهم أنهم قالوا: إن هذا Q أين الله؟ وقول الجارية: في السماء، المقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم سألها كيف تتوجهين في دعائك، فأخبرته أن قبلة الدعاء السماء، كما أن قبلة المصلي الكعبة، وليس هناك ما يثبت أنه في السماء، وكما قلت: وهذا تأويل أيضاً متكلف وظاهر.

نقد الكوثري حديث الجارية والرد عليه

نقد الكوثري حديث الجارية والرد عليه وأما نقد هذا الحديث من حيث الإسناد، فقد نقد الشيخ الألباني كلاماً للكوثري يريد أن يبطل هذا الإسناد. يقول الكوثري في تعليقه على الأسماء والصفات للبيهقي بعد أن صححه البيهقي وقال: وهذا صحيح قد أخرجه مسلم، فقال الكوثري في الحاشية: انفرد عطاء بن يسار برواية حديث القوم -يعني: حديث أهل السنة- عن معاوية بن الحكم، وقد وقع في لفظ له كما في كتاب العلو للذهبي ما يدل على أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجارية لم يكن إلا بالإشارة، وورد في بعض ألفاظ هذا الحديث أن هذه الجارية أعجمية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم معها بالإشارة، (فسألها: أين الله؟ فأشارت إلى السماء، وسألها: من أنا؟ فأشارت إليه ثم أشارت إلى السماء)، يعني: أنت رسول الله. يقول: وسبك الراوي ما فهم من الإشارة في لفظ اختاره، فلفظ عطاء الذي يدل على قولنا هو: حدثني صاحب الجارية نفسه الحديث، وفيه: (فمد النبي صلى الله عليه وسلم يده إليها مستفهماً: من في السماء؟ قالت: الله، قال: فمن أنا؟ فقالت: رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مسلمة)، وهذا من الدليل على أن (أين الله) لم يكن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد فعلت رواية (في) بالمعنى في الحديث ما تراه من الاضطراب. وهذا قول فاسد باطل؛ لأن الرواية التي وردت بأن الجارية كانت أعجمية هي رواية ضعيفة رواها الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن، وفي إسنادها عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي، وهذا الرجل اختلط في آخره، ويقول أحد العلماء وهو ابن نمير: كان ثقة واختلط بآخره، سمع منه ابن مهدي ويزيد بن هارون أحاديث مختلطة، وهذا الحديث من رواية يزيد بن عمرو عنه، فهذا يدل على أن هذه الرواية ضعيفة، وليست صحيحة، ثم عامة الروايات وردت بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (أين الله؟ قالت: في السماء). ثم لو تنزلنا مع الكوثري هذا، وقلنا: إن رواية الإشارة صحيحة، فهذا نص في أن الله عز وجل في السماء، فإنه باعتراف الكوثري بعد هذا التعنت وهذا التأول نقول: ماذا قال لها رسول الله بالإشارة؟ فسيقول: أشار هكذا، يعني: (أين الله؟ فأشارت إلى السماء، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك)، وكونه أقرها على ذلك دليل على أنه في العلو، ثم إن الحديث الوارد في صحيح مسلم في حديث جابر في الحج أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال لهم: (هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد)، يرفع إصبعه إلى السماء وينكتها عليهم، وهذا أيضاً دليل أن الله سبحانه وتعالى في السماء، وأن تأويلات الكوثري وغيره تأويلات فاسدة لا مكان لها. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله في الحديث الصحيح: (إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي)]. الشاهد من هذا الحديث هو قوله: (موضوع عنده فوق العرش)، فالله عز وجل فوق العرش كما هو معلوم، وهو صريح في إثبات العلو، وهذا الحديث رواه مسلم. قال المؤلف رحمه الله: [وقوله في حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله)]. وهذا الحديث رواه ابن ماجة وأحمد وابن خزيمة في التوحيد، وإسناده صحيح. يقول شيخ الإسلام تعليقاً على هذا الحديث: [إسناده على شرط الصحيحين].

الأدلة على صفة العلو من الشعر

الأدلة على صفة العلو من الشعر قال المؤلف رحمه الله: [وقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، الذي أنشده النبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا]. وهذا الحديث مختلف في صحته، فبعض أهل العلم يرى أنه ضعيف، وأن إسناده لا يثبت، وصححه ابن عبد البر رحمه الله، فإنه قال: رويناه من وجوه صحاح. وهذا ورد في قصة عبد الله بن رواحة عندما خرج من عند جارية له، فشكت زوجته فيه أنه كان عندها، فقالت: اقرأ القرآن، قال لها هذا الشعر، فقالت: صدقت الله وكذبت بصري. وعلى كل حال يمكن أن مسألة الصفة تثبت بغير هذا الحديث كما سبق. قال المؤلف رحمه الله: [وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي مات في الجاهلية، الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه، وقال: (آمن شعره وكفر قلبه)، يقول: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيرا بالبنا الأعلى الذي سبق الناس وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العين يرى دونه الملائك صورا]. وهذا الحديث حديث صحيح عندما قال: (آمن شعره وكفر قلبه)، وهي منسوبة له، نقلها ابن عساكر في تاريخ دمشق وغيره. إذاً: هذه العقيدة، عقيدة ثابتة، لا شك فيها بوجه من الوجوه، وكل من اعتقد خلافها فعقيدته باطلة فاسدة، مخالفة للسنة.

الأسئلة

الأسئلة

ممن تأثر بأهل الكلام ابن الجوزي

ممن تأثر بأهل الكلام ابن الجوزي Q ما رأيكم في كتاب ذم الكلام لـ ابن الجوزي، وهل تطرق لأهل الكلام؟ A ليس هناك كتاب لـ ابن الجوزي في ذم الكلام، وإنما الكتاب في ذم الهوى، وابن الجوزي ممن تأثر بعلم الكلام، وله كتاب دفع شبه التشبيه، وهو متأثر فيه بأهل الكلام.

أهل الكلام في العصر الحاضر

أهل الكلام في العصر الحاضر Q هل يوجد أحد من أهل الكلام في العصر الحاضر؟ A نعم، ما زالت كتبهم موجودة، تدرس وتدرس، وتلخص وتحقق، وما زال كثير من الأطروحات الجامعية، مثل الماجستير والدكتوراه في كثير من أنحاء العالم الإسلامي على هذا المنهج وعلى هذه العقيدة، وهناك مفكرون مشاهير، منهم الدكتور علي سام النشار، ألف كتاباً كبيراً من ثلاث مجلدات تقريباً سماه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، وهو من كبار المدافعين عن علم الكلام والذابين عنه. والحقيقة أن هذه الفرق المعتزلة والأشاعرة والماتريدية فرق موجودة ولها واقع معاصر في مجال التعليم، فكثير من الكليات التي تدرس أصول الدين والعقائد في العالم الإسلامي تدرس عقائد هذه الفرق، وكذلك كثير من مناهج التعليم في الثانويات يدرسون هذه المناهج، هذا في مجال التعليم. وفي مجال التأليف فإن الكتب التي في علم الكلام كثيرة جداً لمن أراد أن يراجع، مثلاً كتاب النشار الذي سبق ذكره، وكتابات الدكتور عرفان عبد الحميد، وكتابات عمار الطالبي، وكتابات محمد أبي ريان وغيرهم، هؤلاء كلهم يدافعون عن علم الكلام ويمجدونه، ومنهم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، له كتاب اسمه العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر، كتاب طبع في عام ألف وأربعمائة وعشرة تقريباً، وهذا الكتاب يدافع فيه عن علم الكلام، ووضع مقدمة طويلة في مدح علم الكلام والثناء عليه، وممن يدافع عن علم الكلام الدكتور: حسن الشافعي، وهو مدير الجامعة الإسلامية في إسلام أباد، له كتاب اسمه الآمدي وآراؤه الكلامية، وحقق بعض كتب أهل الكلام.

الشيخ علي الطنطاوي ليس من أهل الكلام

الشيخ علي الطنطاوي ليس من أهل الكلام Q هل الشيخ علي الطنطاوي من أهل الكلام علماً بأنه أثنى على ابن أبي دؤاد المعتزلي في كتابه رجال من التاريخ؟ A أهل الكلام أناس متخصصون فيه، الشيخ علي الطنطاوي رجل أديب وكاتب وبحاثة، وهو ليس من أهل الكلام، لكنه قد يقع في أخطاء وزلات، ومنها مدحه لـ ابن أبي دؤاد المعتزلي في هذا الكتاب، لكنه بالجملة ليس من أهل الكلام فيما أظن، وهو في الحقيقة أكثر كتاباته في الأدب وليست في العقائد، ولا أعرف للشيخ علي الطنطاوي كتاباً مستقلاً في مجال العقائد.

رجوع أبي حنيفة رحمه الله عن القول بالإرجاء

رجوع أبي حنيفة رحمه الله عن القول بالإرجاء Q على ماذا يحمل ذم كثير من السلف لـ أبي حنيفة، ومن قال عنه: مبتدع؟ A أكثر الكلام الذي حصل حول الإمام أبي حنيفة في كتب السلف هو بسبب الإرجاء، وهو المسمى بإرجاء الفقهاء، ويقال: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله رجع عن هذا الإرجاء، نقل ذلك ابن عبد البر في قصة يفهم منها أنه رجع عن الإرجاء في مناظرة له مع بعض أهل السنة، وكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول بخلق القرآن، لكن يقول تلميذه أبو يوسف: ناظرته ستة أشهر، فاتفقنا على أن من قال القرآن مخلوق فقد كفر، ذكر ذلك الذهبي في العلو للعلي الغفار، وصححه الشيخ الألباني في المختصر.

كتاب بداية المجتهد لابن رشد مفيد ونافع

كتاب بداية المجتهد لابن رشد مفيد ونافع Q ما رأيك في مؤلفات ابن رشد الأندلسي مثل كتاب بداية المجتهد؟ A الكتب التي كتبها ابن رشد الأندلسي في العقائد كتبها على منهج الفلاسفة، لكن كتابه بداية المجتهد كتاب فقهي مفيد ونافع.

كتاب إحياء علوم الدين منهج تربوي يدرسه الطالب المتمكن

كتاب إحياء علوم الدين منهج تربوي يدرسه الطالب المتمكن Q ما رأيك في كتاب إحياء علوم الدين؟ وتهذيب إحياء علوم الدين لـ أحمد صالح الشامي؟ A كتاب إحياء علوم الدين كتاب كبير، فيه فوائد كثيرة من الجوانب التربوية، يمكن للإنسان أن يستفيد منه في هذا الباب، ولكن عليه مجموعة من الملاحظات، منها: أن الأحاديث التي في كتاب إحياء علوم الدين كثير منها واهية وموضوعة وضعيفة. والملاحظة الثانية: هو أنه ناقش كثيراً من القضايا بمنهج الصوفية، مثل الكلام على الخلوات ونحو ذلك، والكلام على الكشف وما يتعلق به، كل ذلك على مذهب الصوفية، فينبغي الحذر منه. أيضاً من الملاحظات على كتاب إحياء علوم الدين: أن هذا الكتاب ألف في فترة عصيبة من تاريخ المسلمين، وهي فترة استيلاء الصليبيين على المسجد الأقصى، ومع هذا لا يوجد في الكتاب شيء عن الجهاد في سبيل الله، مع أن قضية الجهاد في سبيل الله كانت من أولى المسائل التي ينبغي أن يبحثها وأن يلهب حماس المسلمين لها، وأن يذكرهم بفضل الجهاد، وأن يشجعهم عليه، وأنه من أفضل العبادات، لكن لأنه ينتهج منهج الصوفية فإنه لم يذكر شيئاً عن الجهاد في سبيل الله. فالنصيحة للإخوة هو أن الإنسان إذا كان متمكناً في العلم الشرعي يمكن له أن يستفيد من هذا الكتاب مع معرفته لهذه الملاحظات، لكن إذا كان مبتدئاً في طلب العلم أو ليس متمكناً، ولا يستطيع أن يميز الصحيح من غير الصحيح فلا ينبغي له أن يشتغل بهذه الكتب التي فيها ملاحظات، وقد اختصر هذا الكتاب جمال الدين القاسمي في كتاب سماه: موعظة المؤمنين في تهذيب إحياء علوم الدين، وكذلك منهاج القاصدين لـ ابن الجوزي مختصر إحياء علوم الدين، واختصره ابن قدامة المقدسي في كتاب سماه مختصر إحياء علوم الدين، فيمكن الرجوع لهذه المختصرات، فهي أنفع.

كيفية معرفة أن المؤلف من أهل الكلام

كيفية معرفة أن المؤلف من أهل الكلام Q كيف نعرف عند قراءة كتاب ما أن صاحب هذا الكتاب من أهل الكلام؟ A يعرف من تصريح صاحبه بالعنوان مثل: المواقف في علم الكلام، أو من مدحه لعلم الكلام في المقدمة، أو في بعض الكتاب، أو من المسائل العقدية التي يبحثها، فهناك مسائل عقدية معينة يبحثونها، فيمكن للإنسان أن يعرف، فإذا بحث مثلاً وقال: هذا النص يؤول، ونفى صفة العلو والاستواء وغيرها عن الله عز وجل، فهذا يعرف منه أن الكتاب من كتب الأشاعرة، وأنه على طريقة علماء الكلام منهم.

علم الكلام ليس هو علم أصول الدين

علم الكلام ليس هو علم أصول الدين Q ما علاقة علم الكلام بأصول الفقه، وهل علم الكلام هو نفسه علم أصول الدين؟ A أولاً: علم الكلام ليس هو علم أصول الدين؛ لأن كلمة (علم أصول الدين)، كلمة مدح، وقد تجد بعض المتكلمين يسمي علم الكلام بعلم التوحيد، أو علم أصول الدين أو علم العقيدة، يمدحون بها مذهبهم، لكن الحقيقة أن علم الكلام ليس هو علم أصول الدين؛ لأن علم أصول الدين مأخوذ من الكتاب والسنة، وبينه وبين علم الكلام فوارق كبيرة جداً. أما من ناحية العلاقة بين علم الكلام وعلم أصول الفقه، فإن أول من أدخل علم الكلام في أصول الفقه هو أبو حامد الغزالي، عندما ألف كتابه المستصفى، وبعض المعتزلة كـ أبي الحسين البصري وغيره. ثم تتابع أهل الكلام فألفوا في أصول الفقه، وجعلوا من مصادر علم أصول الفقه علم الكلام، وبحثوا كثيراً من المسائل الكلامية في ظل أصول الفقه، والحقيقة أنهم أضروا بعلم أصول الفقه عندما بحثوا مسائله، وأدخلوا معها علم الكلام؛ لأنهم يبحثون في مسائل التحسين والتقبيح العقليين مثلاً، ويبحثون في مسائل الأمر مثلاً، هل هو باللفظ بحيث يكون له صيغ، أو بالمعنى فلا يكون له صيغ، ونحو هذا، وكل هذا من المسائل التي لا يستفيد منها طالب الفقه، بحيث إنه يؤهله للاجتهاد والاستنباط، فهي مسائل جدلية؛ ولهذا يختمون كثيراً من المسائل بقولهم: والخلاف في هذه المسألة لفظي، مثل الخلاف بين المندوب والمستحب. إذاً: ينبغي أن تدرس الكتب في أصول الفقه التي لم تشتغل بعلم الكلام، والسبب في هذا أن الكتب التي جعلت علم الكلام مصدراً من مصادرها عليها ثلاث ملاحظات: الملاحظة الأولى: تضمنها لكثير من العقائد الباطلة والمخالفة للسنة؛ ولهذا تجد بعض الذين يشتغلون في أصول الفقه قد يناقش مسألة أصولية، فيقع في خطأ عقدي وهو لا يشعر؛ لأن اعتماده على الكتب التي بحثت أصول الفقه بمنهج أهل الكلام. الملاحظة الثانية: الاشتغال بالتجرد النظري عن التطبيق العملي على المسائل الفقهية. والثالثة وهي نتيجة للثانية: قلة الأمثلة في مجال الفروع الفقهية، فتجد أكثرها مسائل نظرية، ليست لها أمثلة فقهية، فينبغي الرجوع إلى الكتب التي عنيت بالأمثلة الفقهية، مثل كتاب قواطع الأدلة لـ أبي المظفر السمعاني، وهو كتاب كبير، ومثل مقدمة الشيخ الشنقيطي التي شرح بها روضة الناظر، فهي مليئة بالأمثلة، ومثل شرح الورقات للأستاذ عبد الله الفوزان، وهو كتاب منظم يستفيد منه طالب العلم.

الفرق بين من ينكر الصفة ومن يؤول الصفة

الفرق بين من ينكر الصفة ومن يؤول الصفة Q هل يكفر من أنكر علو الله مع وضوح الأدلة على ذلك، وإذا كان لا يكفر فهل يعذر بتأويله؟ A أما من أنكر علو الله عز وجل فلا شك أنه كافر، لوضوح الأدلة فيه، لكن من أول العلو بمعنى آخر يخالف معناه الحقيقي، مثل تأويل متأخري الأشاعرة، فهذا قد يقال: إنه لا يكفر لوجود شبهة عنده. وهناك فرق بين من ينكر صفة العلو إنكاراً تاماً، وبين من يؤول الصفة، وهكذا في سائر الصفات، فهناك فرق بين من ينكر الصفة ومن يؤول الصفة، فمن يؤولها عنده إنكار ضمني، لكنه لا ينكر الصفة من حيث الأساس.

شرح الفتوى الحموية [8]

شرح الفتوى الحموية [8] علو الله تعالى ثابت بالكتاب والسنة وإجماع السلف، وقد بلغت أدلة العلو مبلغاً عظيماً في التواتر بما لا يدع مجالاً لأدنى شك فيه، ومع ذلك فقد نفى العلو بعض طوائف المبتدعة، سالكين في ذلك طرقاً معوجة وأدلة عقلية معارضة لنصوص الوحيين، فنفوا عن الله تعالى ما يجب له، وعطلوه عن صفات الكمال الثابتة له سبحانه وتعالى.

إجماع السلف على إثبات العلو لله تعالى

إجماع السلف على إثبات العلو لله تعالى انتهينا في الدرس الماضي من موضوع إثبات علو الله تعالى على خلقه في القرآن والسنة، وقد نقل الشيخ رحمه الله في كتابه هذا كثيراً من النصوص الدالة على علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، ثم بعد ذلك تحدث عن مسألة مهمة وهي مسألة منهج نفاة صفات الله سبحانه وتعالى، ويمكن أن نقرأ الكلام الذي تحدث به عن هذا الموضوع، ثم نتحدث عن أبرز الشبهات التي من أجلها نفى المعطلة صفات الله سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله في الحديث الذي في السنن: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً)، وقوله: (يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب) إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله، مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية، التي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية، أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلّغ عن الله، ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه فوق العرش، وأنه فوق السماء، كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته. ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جُمع لبلغ مئات أو ألوفاً ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة الدين الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصبع ونحوها. بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول: (ألا هل بلغت؟) فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: (اللهم اشهد) غير مرة، وأمثال ذلك كثير. فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصاً وإما ظاهراً، فكيف يجوز على الله ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق الذي يجب اعتقاده، ولا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً، حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها. لئن كان ما يقول هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين. فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: أنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفياً ولا إثباتاً، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الأسماء والصفات فصفوه به، سواء كان موجوداً في الكتاب والسنة أو لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به] هذا الحديث الذي في السنن وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً) هو من جملة الأحاديث التي فيها إثبات صفة العلو لله سبحانه وتعالى، ووجه الدلالة من هذا الحديث هو قوله: (إذا رفع إليه يديه) فإن رفع اليدين يدل على أن المسئول في السماء. ولهذا لما ذكر بعض أهل العلم أن رفع اليدين في الدعاء يدل على علو الله عز وجل، أجابهم هؤلاء المعطلة بأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ولكن بقية الأحاديث والآيات الضرورية الواضحة تدل على علو الله عز وجل؛ ولهذا إذا جادلنا أحداً في حديث واحد أحلناه إلى حديث آخر، حتى لو كان الحق معنا في نفس الحديث. مثل إبراهيم عليه السلام عندما قال للنمرود: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] فكان بإمكان إبراهيم عليه السلام أن يرد على هذا الطاغية الكذاب بقوله: كيف ذلك؟ وقد قال له ذلك فطلب اثنين من السجن، فلما جيء بهما أطلق رجلاً وذبح الآخر، وقال: أنا أمت هذا وأحييت هذا، وكان بإمكان إبراهيم أن يقول: احي هذا الذي أمته أنت الآن، فلا يستطيع؛ لكن إبراهيم عليه السلام تجاوز النقاش في هذه النقطة إلى ما هو أوضح منها فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [ال

استحالة ورود ما يخالف ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف من علو الله تعالى

استحالة ورود ما يخالف ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف من علو الله تعالى قال: (ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة والتابعين، ولا عن أئمة الدين، الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك، لا نصاً ولا ظاهراً). ولهذا لا يوجد أي نص عن أحد من الصحابة، أو أحد من التابعين، أو أحد من الأئمة المعروفين ينفي في علو الله عز وجل على خلقه، وهذه كلها من المعضّدات الدالة على إثبات هذه القضية وهي من القضايا البدهية الأساسية. قال: (ولم يقل أحد منهم قط إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش). لأن هذا مخالفة صريحة لنصوص القرآن والسنة. قال: (ولا أنه بذاته في كل مكان) أي: كما يقول الحلولية المتصوفة، والجهمية المتأخرون. قال: (ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء) يعني: أنه في العلو وفي السفل. قال: (ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا منفصل) أي: كما يقوله عامة الأشعرية المتأخرين. قال: (ولا أنه لا تجوز الإشارة إليه بالأصبع، ونحوها؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات، في أعظم مجمع حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقول: (ألا هل بلغت؟) فيقولون: نعم، فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم، ويقول: (اللهم اشهد) غير مرة). وهذا أمر ثابت في الصحيح، وهو يدل على جواز الإشارة في إثبات علو الله عز وجل على خلقه، فتجوز الإشارة إلى السماء بخلاف ما يقوله الأشاعرة من تحريم الإشارة إلى الله عز وجل، وأنه في السماء. وهذا أيضاً يدل على إثبات العقائد بالفعل، فإن إثبات العقائد يكون بالفعل، ويكون بالإقرار، ويكون بالقول؛ فأما القول فهو الأصل في إثبات العقائد، وأما الفعل فمثل هذا، وأما الإقرار فهو مثل حديث الجارية عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم الجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، أو أشارت إلى السماء، وقال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة) وهذا إقرار لما تضمنه هذا الحديث من العقائد. وإلى هنا انتهى شيخ الإسلام من تقرير إثبات علو الله عز وجل على خلقه، وقد استخدم في هذا التقرير الاستدلال بالقرآن، والاستدلال بالسنة، والاستدلال بإجماع الصحابة، والاستدلال بنفي المخالف في هذا الموضوع، والاستدلال بالقول، والاستدلال بالفعل، والاستدلال بالتقرير، والاستدلال ببيان أن قول المخالف لم يكون موجوداً في القرون الثلاثة المفضّلة، هذا الاستدلال كله على إثبات هذه الحقيقة التي هي إثبات علو الله عز وجل على خلقه.

مناقشة الفرق الضالة المنحرفة في مسألة علو الله على خلقه

مناقشة الفرق الضالة المنحرفة في مسألة علو الله على خلقه ثم بدأ يناقش الفرق الضالة المنحرفة في هذا الموضوع، وقد سبق أن ذكرنا أن الذين انحرفوا في علو الله عز وجل على خلقه، أول ما بدأ الانحراف بدأ عن طريق الجعد بن درهم الذي نفى أسماء الله عز وجل وصفاته، ونفى علو الله عز وجل على خلقه، وقال إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وقال بخلق القرآن، ثم تلقّف هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان وقال بنفس هذه المقالة، ونسبت إليه الطائفة المعروفة بالجهمية، ثم أخذها عن الجهم بشر المريسي، ثم أخذها عن بشر أحمد بن أبي دؤاد الذي وقعت على يديه الفتنة المشهورة بفتنة خلق القرآن. والأشاعرة المتقدمون كـ أبي الحسن الأشعري والباقلاني كانوا يثبتون علو الله عز وجل على خلقه، وإنما حصل النفي من زمن الجويني فما بعد عندما اقتربوا من المعتزلة، وأصبحوا مثل المعتزلة، حتى جاءت مرحلة الفخر الرازي الذي يقول: إن الله عز وجل لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا منفصل عنه ولا متصل به. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات) يعني: الجهمية، والمعتزلة ومتأخري الأشاعرة، والماتريدية. قال: (فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في كتاب الله وسنة رسوله من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة، إما نصاً وإما ظاهراً، فكيف يجوز على الله ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم على خير الأمة أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر، في خلاف الحق). يعني: إذا كان الحق فيما يقوله هؤلاء من نفي علو الله عز وجل على خلقه، فكيف يجوز أن يملأ القرآن بإثبات علو الله عز وجل على خلقه! ويتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً! ويعتقده الصحابة ويتكلمون به دائماً! وهكذا التابعون! وهكذا من بعدهم في القرون الثلاثة المفضّلة، كيف يجوز أن يقول هؤلاء ويتكلمون بما يخالف الحق الذي عليه هؤلاء النفاة؟ لا يمكن أبداً؛ ولهذا فإن هذا الإشكال الذي أورده شيخ الإسلام عليهم، وهو أن القرآن مشحون بإثبات علو الله على خلقه، وكذلك السنة، وكذلك أقوال الصحابة، وكذلك أقوال التابعين وغيرهم، بماذا أجاب عنه هؤلاء؟ قالوا: إن الله عز وجل عندما ذكر علوه على خلقه، وعندما ذكره الرسول، وذكره الصحابة، فهذا ابتلاء من الله للخلق حتى يؤولوا هذه النصوص عن ظاهرها، ويجتهدوا في الوصول إلى معنى مجازي غير هذا الظاهر الذي دل عليه الكتاب والسنة. والجواب بسيط جداً، فنقول: كيف يُمْلأ القرآن بإثبات علو الله على خلقه! وكيف يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم به دائماً ولا يشير ولو إشارة إلى أنه ليس في العلو، وأنه كلّف العباد أن يؤولوا هذه النصوص، فمن أين جئتم بها؟ ولهذا فهؤلاء في الحقيقة لم ينطلقوا في نفي علو الله عز وجل على خلقه من النصوص الشرعية، وإنما حكّموا عقولهم في صفات الله عز وجل، وجاءتهم شبهات أوصلتهم إلى أن الله عز وجل لا يوصف بأنه عال على خلقه، هذه الشبهات عندما أوصلتهم إلى هذه النتيجة اعترض عليهم أهل السنة بالنصوص، فما استطاعوا إنكار النصوص مطلقاً، لأنهم إن أنكروها مطلقاً كفروا، فماذا قالوا؟ قالوا: إن الله ابتلى الناس بهذه النصوص حتى يؤولوها. ونحن نقول: لكن القرآن ليس فيه إشارة إلى أن الله ابتلى الناس بهذه النصوص حتى يؤولوها. قالوا: هذا ما يدل عليه العقل! قلنا: إن الله عز وجل لم يشر في القرآن، ولا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة أنكم تأخذون الأسماء والصفات وقضايا الاعتقاد من العقل، وإنما تؤخذ من النصوص، والنصوص موافقة للعقل وليست مخالفة له! ولهذا تعتبر شبهة هؤلاء من أفسد الشبهات. وعلى كل حال فأنتم تعلمون أن كل صاحب بدعة لديه كلام يتكلم به، ولديه شيء يتحدث به، حتى المشرك الذي يعبد غير الله عز وجل لديه كلام يتكلم به، ولديه شبهة يستند إليها، لكن ليست كل شبهة يكون صاحبها معذوراً، وليس كل كلام يكون صاحبه مصيباً فيه، وليس كل كلام يكون موافقاً للحق؛ فينبغي للإنسان أن يدرك هذه الحقيقة، ولهذا لما تحدث الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كشف الشبهات ذكر أن أصحاب الشبهات من أصحاب القبور لديهم علوم وعندهم أدلة، ولديهم كلام يتكلمون به، فإن لم يكن الموحد لديه من العلم والفهم لدين الله عز وجل ما يدفع به هذه الشبهات فإنه سيضل وينحرف والعياذ بالله، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتزود بالعلم. والموحد الذي لديه علم شرعي يستطيع أن يغلب الألف من هؤلاء؛ لأن حججهم كما قال شيخ الإسلام حجج تهافت كالزجاج وكل كاسر مكسور، يعني: كل حجة تكسر الأخرى وتحطّم الأخرى، فلا يتصور أحد أن المشرك ليس لديه كلام يتكلم به، وأن القبوري ليس لديه كلام يتكلم به، وأن العصري الذي يتلاعب بالنصوص الشرعية ليس لديه كلام

نفات الصفات يقدمون العقل على النقل

نفات الصفات يقدمون العقل على النقل ومصدر المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية هو محض العقل. ذكر الرازي في كتابه أساس التقديس قانوناً كلياً في تلقي العقائد، وناقشه من خلال ذكره للتعارض بين العقل والنقل؛ فقال: إن تعارض العقل مع النقل فإما أن نأخذ العقل وندع النقل، أو نأخذ النقل وندع العقل. قال: إن أخذنا النقل فمعنى هذا أننا أبطلنا العقل، والعقل هو أساس التفكير الذي فهمنا به النقل، وحينئذٍ لا يصح أن نأخذ النقل ونبطل العقل، ما هو العمل إذاً؟ قال: نأخذ العقل؛ لأن العقل هو الأساس الذي فهمنا به النقل. فإن قلنا له: وما كان ظاهره مخالفاً للعقل من النقل؟ قال: ما كان ظاهره مخالفاً للعقل من النقل فإننا نؤوله على سبيل التبرع، أو نرده ولا نقبله ونعتقد أن الراوي أخطأ في نقله، ولهذا ضعفت أهمية النصوص الشرعية عند هؤلاء، فألغوا كونها مصدراً للتلقي، وقالوا: إن النصوص تنقسم إلى قسمين: القرآن والسنة، والاستدلال بها يكون من جهتين: من حيث الثبوت، ومن حيث الدلالة. قالوا: فأما من حيث الثبوت فإننا لا نقبل في العقائد إلا المتواتر، فأخرجوا ثلاثة أرباع السنة التي نقلت بالآحاد وقالوا: لا نقبل هذه في مجال العقائد. ثم بقي القرآن المنقول بالتواتر، وبقي المتواتر من السنة، فانتقلوا من الثبوت إلى الدلالة، وقالوا: إن الدلالة اللفظية التي نقلت من الكتاب والسنة لا تدل على اليقين حتى تتجاوز عشر عقبات. يقول: وعقبة من هذه العقبات كافية في عدم الاستدلال بها، وهو وجود المعارض العقلي لها. يعني: العقبات التي ذكرها منها احتمال المجاز، ومنها احتمال التخصيص، ومنها العقل فيقول: إذا تجاوزت هذه الاستدلالات جميعاً استدللنا بها، ويكفي المنهج العقلي -أي: المعارض العقلي- في رد النص الشرعي إذا خالفه. طبعاً هذا كلام باطل وخطير جداً في التعامل مع النصوص الشرعية، وهو الأساس الذي بنى عليه الجهمية والمعتزلة ومتأخرو الأشاعرة والماتريدية مذهبهم، والرازي وإن كان من الأشاعرة إلا أنه أخذه من المعتزلة، والمعتزلة أخذوه من الجهمية؛ ولهذا سماهم شيخ الإسلام رحمه الله جهمية، والجهمية تنقسم عند السلف إلى ثلاثة أقسام: الجهمية الأولى: وهم أتباع جهم بن صفوان مثل بشر المريسي وغيره. والنوع الثاني من الجهمية: المعتزلة. والنوع الثالث من الجهمية: الأشاعرة والماتريدية.

العلاقة بين النقل والعقل علاقة توافق وتعاون

العلاقة بين النقل والعقل علاقة توافق وتعاون هذا الكلام الذي سبق نقله عن الرازي في كتابه أساس التقديس كلام خطير جداً، لأنه أورد احتمال تعارض النقل والعقل، والحقيقة أنه لا يوجد أصلاً احتمال تعارض النقل والعقل؛ فإنه إذا أراد بالعقل العقل الصحيح نقول: من خلق العقل؟ الله، ومن أنزل النقل؟ الله. فمصدرهما واحد، فإذا كان مصدرهما واحداً فإنه يستحيل حصول التعارض بينهما، ووجود احتمال أن هناك تعارضاً يشعر بأن العقل من غير الله وأن النقل من الله! والعياذ بالله، ولهذا إذا كان العقل من الله خلقاً، والنقل من الله أمراً، والله عز وجل يقول: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] فلا يمكن حصول التعارض بينهما أبداً، وإذا وجدنا في النصوص الشرعية ما ظاهره معارض للعقل فنقول في الرد حينئذ: إما أن يكون العقل غير صريح، وإما أن يكون النقل غير صحيح؛ أما العقل الصريح الواضح الذي ابتعد عن الشبهات والأوهام والهواجيس الضالة، والنقل الصحيح لا يمكن حصول التعارض بينهما، ولهذا يذكر أهل العلم العلاقة بين العقل والنقل، فيقولون: النقل مثل العين، والعقل مثل الضوء، فلا يمكن للعين أن تبصر بدون الضوء، وهكذا لا يمكن للنقل أن يستفاد منه بغير عقل؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والفقه: هو الفهم، والفهم مصدره العقل، والمقصود بالعقل هنا العقل المجرد، وليس العقل الذي يقصده أهل الكلام كما سيأتي معنا. والضوء بدون عين لا ينفع، لأنه لا بد له من عين تبصر، فالعلاقة بين العقل والنقل هي علاقة توافق وتعاون؛ لأن مصدرهما واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ولهذا إذا جاء أحد من أهل الكلام وافترض التعارض! نقول: هذا الافتراض فاسد، إما فاسد من جهة ما ذكرته من الأدلة العقلية، بمعنى: أن هذه الأدلة ليست صريحة، وليست عقلية صحيحة، وإنما هي شبهات ضالة، أو يكون النص الذي تصورت العقل مخالفاً له نصاً غير صحيح، فإذا كان غير صحيح فهو لا يعتبر نقلاً ثابتاً عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال فهذه القضية اقتضت من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يؤلف فيها كتاباً كبيراً سماه درء تعارض العقل والنقل في أكثر من عشرة مجلدات تقريباً، ناقش فيها هؤلاء نقاشاً مستفيضاً ومطولاً.

نفي المبتدعة ما لا تثبته عقولهم من العقائد

نفي المبتدعة ما لا تثبته عقولهم من العقائد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم هم ها هنا فريقان، أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه. ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض- فانفوه]. بعد أن بيّن شيخ الإسلام رحمه الله أن مصدر هؤلاء في تلقي العقائد هو العقل من جهة الإثبات، ذكر موقفهم من جهة النفي، فقال: إنهم فيما لم يثبته العقل انقسموا إلى فريقين: الفريق الأول: قال: (ما لم تثبته عقولكم فانفوه) وهم المعتزلة، ولهذا نفوا الميزان، ونفوا الصراط، ونفوا كثيراً من الغيبيات التي لم يستطيعوا الاستدلال عليها بالعقل، ونفوا عذاب القبر ونعيمه، وهكذا. ومنهم من يقول: (بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم -الذي أنتم فيه مختلفون مضطربون، اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض- فانفوه). هذه الطائفة الثانية هم عامة الأشاعرة، وهم الذين يقولون: إذا لم يثبت العقل هذا الأمر، فإننا لا ننفيه إلا إذا اقتضى العقل نفيه فإننا ننفيه، أما إذا لم يقتض العقل نفيه فإننا لا ننفيه؛ ولهذا أثبتوا السمعيات التي هي الغيبيات. قال رحمه الله: [وإليه عند التنازع فارجعوا، فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم -على طريقة أكثرهم- فاعلموا أني أمتحنكم بتنزيله، لا لتأخذوا الهدى منه، لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام، وأن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله، مع نفي دلالته على شيء من الصفات، هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين. ] سبق أن بيّنا أن هؤلاء حاروا فيما يفعلون بالنصوص الشرعية الدالة على خلاف عقائدهم، فأصبحوا على فريقين، اتفقوا أولاً على أن هذه النصوص مخالفة للعقيدة الصحيحة، وأنها ليست على ظاهرها، ثم انقسموا إلى فريقين: فريق قالوا: لها معنى امتحننا الله عز وجل بتحصيله، وهم أهل التأويل، وفريق آخر قالوا: نكل علمه إلى الله عز وجل، ولا ندري ما معناه وهم أهل التفويض، وقد سبق أن أشرنا إلى هذا عند كلامنا على آية آل عمران. وإلزام شيخ الإسلام رحمه الله لهم هو من جهة أن الله عز وجل كأنه لم ينزل القرآن، ولم يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقائد إلا ليحرفه هؤلاء، وهذا غير معقول، فهذا القرآن الذي هو هدى وبيان وذكرى، والذي أنزله الله عز وجل ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، لا يمكن أن يأتي بما ظاهره الباطل، حتى نحتاج إلى أن يحرفوه عن معناه الظاهر إلى معنىً آخر. ولو كان هذا المعنى مقصوداً لجاء به مباشرة، ولأخبر الله عز وجل بأنه ليس في السماء، وأنه لا داخل العالم ولا خارجه، وارتاح الناس، ولهذا فدلائل بطلان مقالة هؤلاء ودلائل انحرافهم ظاهرة وواضحة؛ سواء من جهة مصدر تلقيهم للعقائد، أو من جهة مخالفتهم الصريحة للنصوص والإجماع، أو من جهة تعاملهم مع النصوص الشرعية وكيفية تأويلها، فكل هذه المعاني الثلاث تدل على أن ما جاءوا به باطل، وأنهم على ضلالة وعلى انحراف، وأصل الضلالة عندهم نشأت من زاويتين: الزاوية الأولى: هو عدم طلبهم للعلم الشرعي، وعدم تعظيم النصوص الشرعية في نفوسهم. والزاوية الثانية: هو مناقشتهم لأهل الملل والأهواء بالمنهج العقلي بعيداً عن النصوص، فلما ناقشوا أهل الهواء بالمنهج العقلي بعيداً عن النصوص بنوا عقيدة كاملة بالقياسات العقلية من خلال المناظرة والمناقشة، فلما بنوا هذا العقيدة الكاملة من خلال مناظراتهم رجعوا فوجدوا أهل السنة يخالفونهم فحصل احتكاك. فلما حصل النقاش بينهم، لم يتركوا هذا البناء العظيم الذي بنوه من خلال الأدلة العقلية، لا سيما أنهم يعظمون العقليات ويعتقدون أنها العلم، وأصبحوا يؤولون النصوص الشرعية وينتقدون الصحابة والتابعين وأنهم لم يشتغلوا بالفلسفة، ولم يعتنوا بالعقليات، ولم يبحثوا بحثاً دقيقاً، وإنما اشتغلوا بالجهاد واشتغلوا بالمحاربة مع الكفار، وأصبحوا يرمزون لهم من هذه الزاوية، ولا شك أن هؤلاء كونوا مذهباً وفرقة بعيدة عن النصوص الشرعية، فتنزيل الحديث عليهم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) والمقصود بالواحدة الصحابة والتابعون ومن كان على طريقتهم، هذا واضح لكل أحد تأمل منهج هؤلاء وأسلوب هؤلاء في التعامل، وطريقة هؤلاء في بناء العقائد، وموقفهم من القرآن والسنة. ولهذا لو بحثنا موقف أهل الكلام: الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية من النصوص الشرعية! لكان هذا وحده كافياً في أن هؤلاء مبتدعة وأنهم ضالون ومنحرفون، ومع هذا يردد كثير من الناس أن الأشاعرة اليوم من أهل السنة والجماعة، وأن الخلاف بيننا وبينهم في مجموعة قليلة من الصفات، وأنهم اجتهدوا، وأنهم كانوا علماء كباراً، ولا ينبغي أن ينقدوا بهذه الطريقة الشديدة، وأنكم أنتم فرقتم الأمة ومزقتم وحدتها، وكأن أهل السنة هم الذين فرقوا هذه الأمة، والأشاعرة هم الذين يسعون إلى ج

مشابهة النفاة للمشركين والمنافقين

مشابهة النفاة للمشركين والمنافقين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه، ومضمونه أن كتاب الله لا يهتدَى به في معرفة الله، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردّون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه مَن لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين] وهذا واضح لمن عرف طريقتهم ومن عرف منهجهم، فهم لا يتحاكمون في اعتقاد إثبات الصفات أو نفيها، أو إثبات الأسماء أو نفيها، أو الكلام في الإيمان أو القدر إلى النصوص أصلاً، ولهذا فإلزام شيخ الإسلام لهم بأنهم يشبهون أهل الجاهلية، ويشبهون أهل الشرك والمشركين، أولاً: هذا ليس تكفيراً لهم، والكلام على موضوع التكفير له شأن آخر، وله طريقة أخرى ودراسة أخرى، وإنما أراد شيخ الإسلام رحمه الله أن يبيّن أن هؤلاء الذين انحرفوا عن هدي الكتاب والسنة شابهوا الكفار وشابهوا أهل الجاهلية، لأن أهل الجاهلية لا يؤمنون بالقرآن ولا السنة، ولا يتخذونه مصدراً في التحاكم، سواء في مجال التصورات والعقائد، أو في مجال الأحكام والتشريعات؛ وكذلك غيرهم ممن شبههم بهم. قال رحمه الله: [وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم] شيخ الإسلام رحمه الله أراد أن يبيّن أن هؤلاء عندما انحرفوا، فرقوا الأمة تفريقاً كبيراً، حيث جاءت الصوفية واتخذوا الكشف مصدراً للتلقي، وجاءت الشيعة واتخذوا أئمتهم مصدراً للتلقي، وجاء أهل المذاهب المتعصبين واتخذوا أئمتهم مصدراً للتلقي، وجاء عدد كبير ممن يعارض النصوص الشرعية ولا يعطي لها مقداراً. واتخذوا مصادر للتلقي، ولما جاء العصر الحديث اتخذ كثير من الناس القوانين الغربية مصدراً من مصادر التلقي والتشريعات، وأصبح كثيرٌ من هؤلاء يحاول أن يجمع بين الشرع وبين ما اتخذه مصدراً. فتجد أن أهل الكلام يقولون: نحن نريد التوفيق بين النصوص الشرعية والمعقولات، وذلك بتأويل النصوص الشرعية وتحريفها، ويأتي الصوفية، ويقولون: نحن نريد التوفيق بين الكشف والنصوص الشرعية، فيحرفون النصوص الشرعية ويفسرون قول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] يعني: حتى يحصل لك الكشف، ثم لا تعبد الله عز وجل؛ لأنك قد سقطت عنك التكاليف، ويأتي الشيعة ويجعلون الأئمة مصدراً للتلقي، ويقولون: نحن مع هذا نؤمن بالكتاب والسنة، ويحاولون أن يفسروا أن وجوب طاعة الأئمة مأخوذ من النصوص الشرعية. ولما جاء هؤلاء الذين طبقوا القوانين الوضعية، قالوا: إن هذا الدين وهذه التشريعات جاءت لإصلاح الإنسان في صلاته وصيامه وحجه، وفي تهذيبه وأخلاقه، وأما سياسة الناس والأموال والتعليم والحضارة، فإنها تبنى بناء آخر لا علاقة له بهذا الدين، ونحن بهذه الطريقة نوفق بين الدين والعلم، ولهذا سموا علمانية؛ وتصوروا أن الدين ليس فيه علم وليس شاملاً للحياة بأكملها، ولهذا أشبهوا المنافقين الذين يظهرون جانباً من الدين ويخفون جانباً آخر. قال المؤلف: [وما أشبه حال هؤلاء المتكلفين بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء:60 - 62]]. سبحان الله! هذه الآية يمكن أن تنزلها على المنافقين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تنزلها على أهل الكلام الذين عارضوا النصوص بالعقل، وأن تنزلها على الصوفية الذين عارضوا النصوص بالكشف، وأن تنزلها على الشيعة الذين عارضوا النصوص بالأئمة، وأن تنزلها على متعصبة المذاهب، وأن تنزلها على العلمانيين اليوم الذين يسنون للناس التشريعات، وهي مخالفة للكتاب والسنة. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [النساء:60] كل هذه الفئات التي ذكرناها تزعم أنها آمنت بما أنزل إليك، ((وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)) والطاغوت: هو الذي نصّبوه لتلقي العقائد، أو للتحاكم عند النزاع وعند الخلاف غير الكتاب والسنة؛ فطاغوت الم

الأسئلة

الأسئلة

حكم تحطيم الأصنام

حكم تحطيم الأصنام Q بعض العلماء يقولون: ما فعلته دولة الطالبان في أفغانستان من تحطيم الأصنام فعل خاطئ؟ A سبحان الله! الآن هذه الأصنام التي وجدت عندهم إما أنها تعبد أو لا تعبد، فإن كانت تعبد فتحطيمها واجب، وإن كانت لا تعبد فهي حجارة حطموها، ولو أن إنساناً حطّم جبلاً من الجبال، فهل يذم؟ وهل يشنع عليه؟ هل يتكلم عليه بهذه الطريقة، ويسب بهذا الأسلوب؟ فهذا جبل من حجارة أنا أريد تحطيمها، فإذا سئلت: لماذا تريد تحطيمها؟ أقول: أحب أن أحطم الحجارة، فهل يذم الإنسان على هذا؟ غاية ما هنالك أن يقال: كان الأولى أن يشتغل بغيره. إذاً: لا شك أن من يخطئ هؤلاء هو مخطئ مائة بالمائة؛ لأنه إن كانت تعبد فإزالتها واجبة، وإن كانت لا تعبد، وقيست على الأحجار! فالإنسان إذا حطم أحجاراً ليس مذموماً ولا مخطئاً، ولهذا لا يصح تخطئة هؤلاء فيما فعلوا. هذا مع أن النصوص الشرعية جاءت بإزالة الأوثان، وإزالة الأصنام، ووجوب تحطيمها، وهذه واضحة في النصوص الشرعية، في القرآن وفي السنة، وفي أفعال الصحابة رضوان الله عليهم، واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؛ فإن قال بعض الناس: إنها لا تعبد، فلماذا هم يشتغلون بتحطيمها؟ نقول: لو لم تكن معبودة لما تحرك العالم بهذا الأسلوب، فإنه لا يشترط من العبادة أن يكون سجوداً وانحناءً، قد يكون تعظيماً في بعض الأحيان باسم التراث وباسم الحضارة مثلاً. فالحاصل: أن هؤلاء مصيبون فيما فعلوه، والنصوص الشرعية تدل على ذلك، وغاية ما هنالك أن يقال: إنهم اشتغلوا بأمر مباح، ولا يذم الإنسان على اشتغاله بالأمر المباح، فهو لم يرتكب منكراً، ولم يعص الله بتحطيمه، فلماذا ينكر عليه؟ ولهذا لا شك أن من يخطّئ هؤلاء مخطئ، وخطؤه ظاهر وواضح. وهذا مؤشرة يدل على أن العالم اليوم متجه لتعظيم الآثار، ومتجه لتعظيم الحضارات البائدة القديمة، ولربط الأمم بها؛ ولهذا كان من أعظم سياسات الإنجليز عندما استعمروا مصر، وكذلك الفرنسيون من قبل أن ربطوا المسلمين الموجودين في مصر بالتراث الفرعوني، وأخرجوا الأصنام التي كانت موجودة في الأهرامات، ووضعوا لها متحفاً، وعندما جاء نابليون في حملته إلى مصر جاء بمعهد للتراث الفرعوني، وما يزال المعهد موجوداً إلى الآن، فالاتجاه إلى إحياء الملل والعقائد البائدة القديمة التي قبل الإسلام! مقصد من مقاصد الغزو الفكري، وهذا واضح في كل بلاد المسلمين التي استعمرت من جهة هؤلاء الكفار، هذا من جهة. ومن جهة أخرى: هؤلاء الذين يدافعون عن هذه الأصنام المحطمة، لو قيل: نريد أن نزيل القباب التي على القبور، ماذا سيقولون؟ سيشغبون علينا أيضاً، ويقولون أنتم تحطمون القباب التي على قبور الصالحين والأولياء! لماذا لا تجعلونها موجودة، حتى نذكر الناس بصلاح هؤلاء، وبتقواهم وبعبادتهم لله، فنأخذ منهم القدوة الصالحة والحسنة؟ ثم يعطونك موضوعاً طويلاً، وموعظة طويلة في القدوة والاقتداء، ولا شك أن هؤلاء الذين يتكلمون بهذه الطريقة ليس عندهم علم شرعي صحيح ينطلقون منه، وإنما هي مجرد عواطف ومجرد تصرفات، في بعض الأحيان يكون لها مغازٍ سياسية معنونة عند صاحبها، وفي بعض الأحيان يكون انحراف فكري موجود عند هذا الإنسان.

الفرق بين قولنا: القرآن منزل وقولنا: القرآن مخلوق

الفرق بين قولنا: القرآن منزل وقولنا: القرآن مخلوق Q ما الفرق بين قولنا القرآن منزّل، والقرآن مخلوق؛ حيث إني أرى أن الاختلاف في ذلك لا يؤدي إلى الاختلاف في العبادة والاتباع؟ A هناك فرق كبير جداً، فإذا قلنا: القرآن منزّل، فالمعنى: أن الله عز وجل تكلم بهذا القرآن، وأن الكلام صفة من صفات الله عز وجل، سمع جبريل هذا القرآن وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونزل به، وليس المقصود بالقرآن المنزّل المصحف المطبوع، وأنه كان في السماء ثم نزل إلى الأرض، وإنما المقصود بقوله: (منزّل): أن جبريل عليه السلام سمع الكلام من الله سبحانه وتعالى ثم نزل إلى الأرض وبلغه للرسول صلى الله عليه وسلم. وإذا قلنا إنه مخلوق: فمعنى هذا أن الله لم يتكلم، وهذا هو الذي يريدون الوصول إليه، قالوا: لأن الكلام يستلزم حلول الحوادث بذاته، وحلول الحوادث بذات الله عز وجل منتف؛ لأنه يستلزم أن يكون جسماً، وهكذا يرتبونها بهذه الطريقة التي سيأتي شرحها بإذن الله تعالى. وأما قولك: إن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى الاختلاف في العبادة والاتباع، فعليك أن تدرس الموضوع دراسة كافية، حينئذ ستفهم هذه القضية، لكن مجرد أن يسمع الإنسان كلمة أن القرآن المخلوق، والقرآن منزّل! ويفكر فيها وهو لم يقرأ فيها ولم يبحث ولم يعرف تاريخها ولم يناقش فيها، ولم يقرأ فيها قراءة تفصيلية فسيرى أنه أمر، فشيء عادي أن يقول: ما الفرق بينهما؟ وأنا لا أقصد هذا الأخ، لكن أكثر من يتكلم في قضايا العقائد فيضل فيها، سبب ضلاله أنه ما درس أصلاً، ولا بحث ولا قرأ ولا تفهّم ولا تفقه في الدين، وحينئذٍ قد يصبح دكتوراً ويصبح إنساناً كبيراً ويؤلف كتاباً ثم يقول: ما الفرق بين كذا وكذا؟ ولماذا لا يقال: كذا؟ طبعاً أنا لا أتكلم على الأخ، فغير هذا الأخ قد يؤلف كتاباً ويقول: ماذا على المعتزلة عندما قالوا: إن القرآن مخلوق؟ لماذا نحيي هذا الخلاف ونجعل هذه المصيبة الكبرى في الفكر الإسلامي، وفي الحضارة الإسلامية من أجل كلمة؟ لكننا نقول له: إن الإمام أحمد صبر على التعذيب من أجل القرآن! وهو قد يستغرب ويقول: لماذا يصبر الإمام أحمد؟ لماذا يتعب نفسه؟ يقول ذلك لأنه أصلاً لم يفهم الموضوع؛ إذاً: بدلاً من أن تستغرب بهذه الطريقة، وتجعل استغرابك أصلاً وتكتبه وتجاهد عليه! ابحث، وتفقه، وادرس، حينئذ ستعرف لماذا وقف أهل العلم موقفاً قوياً من هذا الموضوع.

شرح الفتوى الحموية [9]

شرح الفتوى الحموية [9] لقد اعتمد نفاة الصفات في نفي صفات الله على العقل المجرد، فأتوا بأدلة عقلية ثم حاكموا النصوص الشرعية إليها، فما وافق شبههم وأدلتهم العقلية أخذوا به، وما خالفها ردوه أو أولوه، فضلوا وأضلوا.

أدلة المتكلمين العقلية في نفي الصفات

أدلة المتكلمين العقلية في نفي الصفات تحدثنا في الدروس الماضية عن مسألة إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وأن العلو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين والفطرة والعقل، وأنه لم يكن هناك خلاف في هذه المسألة الكبيرة من مسائل العقيدة في بداية تاريخ هذه الأمة، في زمن الصحابة رضوان الله عليهم وفي زمن التابعين، حتى ظهرت الفرق الضالة المنحرفة عن السنة، وأول من أنكر علو الله عز وجل على خلقه هم الجهمية أتباع جهم بن صفوان، واعتمد هؤلاء في نفيهم صفات الله عز وجل عموماً، على العقل المجرد، ولم تكن الشبهة عندهم منذ أول لحظة هي أنه أشكل عليهم فهم النصوص الشرعية، فيحتاجون أن يكشف عنهم هذا الإشكال، وإنما كان الأمر منذ أول لحظة أنهم اتخذوا العقل مصدراً للتلقي في العقيدة ومنها صفات الله سبحانه وتعالى، وتركوا الكتاب والسنة. وقد بينا في دروس ماضية عن السبب الذي جعل هؤلاء المبتدعة يتخذون العقل مصدراً للتلقي، وهو: مناقشتهم للفلاسفة والملاحدة، وأصحاب الديانات الأخرى، والسبب في ذلك أيضاً: جهلهم بكون النصوص الشرعية متضمنة للأدلة العقلية الكافية، التي لا تتضمن شيئاً من إبطال العقائد الأخرى، فهم ظنوا أن النصوص الشرعية إنما هي مجرد إخبار عن الغيب فقط، وأن الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وسلم يخبران عن الغيب مجرد إخبار بدون برهان، وبدون دليل كاف في الإقناع، فبدءوا يطلبون الأدلة المقنعة حسب تصوراتهم من العقل المجرد، فكانت هذه الشبهات الموجودة عندهم التي منعوا من أجلها وصف الله عز وجل بما وصف به نفسه في الكتاب، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة. والشبهات أو الأصول العقلية التي لأجلها أولوا أو نفوا الصفات أو بعضها، مردها إلى أربع شبهات، أو أربعة أدلة عقلية كبرى: الدليل الأول: هو دليل تعدد القدماء، وهذا دليل المعتزلة. الدليل الثاني: هو دليل التركيب، وهذا دليل للمعتزلة والأشاعرة والماتريدية. الدليل الثالث: دليل منع حلول الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى، وهذا دليل يشمل جميع طوائف أهل الكلام من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية أيضاً. الدليل الرابع: دليل التشبيه والتمثيل، وهو يشمل جميع الطوائف السابقة. نأخذ هذه الأدلة التي ذكروها دليلاً دليلاً؛ لنبين بطلان هذه الأدلة.

معنى دليل تعدد القدماء عند المعتزلة والرد عليه

معنى دليل تعدد القدماء عند المعتزلة والرد عليه فأما دليل تعدد القدماء فإن المعتزلة يرون أن أخص وصف للإله الذي يجب أن يعبد هو كونه قديماً وليس بمحدث، وأن أي شيء يشاركه في القدم، فإنه يعتبر إلهاً آخر، وهذا شرك بالله رب العالمين. ومن هنا اعتقدوا أن إخلاص التوحيد لله عز وجل هو إفراد الله عز وجل بالقدم، ولا يوصف غيره بالقدم أبداً، فإذا وصف غيره بالقدم، فإنه يعتبر شركاً بالله سبحانه وتعالى. فجاءوا إلى الصفات الشرعية التي أثبتها الله عز وجل لنفسه في القرآن، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة، مثل صفة اليد {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] فقالوا: هذه الصفة وغيرها من الصفات مثل: العلم والحياة والإرادة والسمع والبصر، سواء منها الصفات التي لا تنفك عن الذات وهي الصفات الموسومة بالصفات الذاتية، أو الصفات التي يسميها الأشاعرة صفات المعاني وهي الصفات العقلية؛ قالوا: هذه الصفات لا تخلو أن تكون قديمة أو حادثة. فإذا كانت حادثة فهذه لا يصح وصف الله بها؛ لأن الله عز وجل لا يوصف بالحادث. وإذا كانت قديمة فإن وصف هذه الصفة بأنها قديمة مشاركة لوصف الإله بكونه قديماً، فإذا اعتبرنا العلم قديماً، والسمع قديماً، والحياة قديمة والإرادة قديمة، فنحن أثبتنا خمسة آلهة: العلم، والسمع، والإرادة، والكلام، والحياة، وكل صفة يعتبرونها إلهاً مستقلاً بناءً على هذا. وبعض الأحيان يستخدم بعض الناس مصطلحاً لمعنى، وأنت تفهمه على معنىً آخر، فينبغي للإنسان أن يكون دقيقاً في معرفته للمصطلحات، فليس كل أحد يستخدم مصطلحاً يكون هو نفس المفهوم الذي عند الآخر، لكن المصطلحات الشرعية واحدة عند أهل السنة، وأما مصطلحات أهل البدع والضلالة، فإنا لا ننفيها مطلقاً، ولا نثبتها مطلقاً؛ لأن مصطلحاتهم في بعض الأحيان تكون ممزوجة بالحق والباطل، وقد تحدثت عن موضوع المصطلحات في أكثر من لقاء، وسنتحدث عنه في أثناء الرد التفصيلي لهذه الشبه. وبناءً على هذا فقد عرفوا التوحيد بأنه الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي لا يقبل التجزئة، ولا يقبل التعدد، ولا يقبل التبعيض، ولا يقبل الانفصال، وقالوا: إن وصف الإله بالصفات الواردة في الكتاب والسنة يستلزم وجود آلهة مع الله عز وجل، فاستدلوا بهذه الشبهة -التي هي تعدد القدماء- على نفي الصفات، وقالوا: إن هذه الصفات جميعاً لا يصح أن تنسب إلى الله عز وجل على أنها صفات وجودية، لكن هل معنى هذا أنهم يصفون الله بضدها؟ لا يلزم أنهم يصفون الله بضدها. وهم في صفة العلم يقولون: هو عليم وعلمه هو ذاته، وقدير وقدرته هي ذاته، وكريم وكرمه هو ذاته، وسميع وسمعه هو ذاته، وبصير وبصره هو ذاته، وهكذا فيما يتعلق بالصفات العقلية الثابتة التي لابد أن يتصف بها الإله، ويستحيل أن يتصف بضدها، فيستحيل أن يتصف الإله بالموت، ويستحيل أن يتصف الإله بالجهل، فيثبتون هذه الصفة من حيث الاسم، لكن ينفونها في الحقيقة؛ فيقولون: هو عليم وعلمه هو ذاته، إذا قلنا لهم: هل له علم؟ قالوا: علمه ذاته، فهل له سمع؟ قالوا: سمعه ذاته، إذا قلنا لهم: هل هناك فرق بين العلم والسمع؟ قالوا: لا، هو ذات واحدة فقط، فالحياة عندهم هي العلم بالضبط مائة بالمائة، ليس هناك فرق، ولاشك أن هؤلاء ضالون، وذلك أن الله عز وجل سمى نفسه بالأسماء الحسنى، ووصف نفسه بالصفات العليا وهو أعلم بنفسه سبحانه وتعالى منا، فلو كانت تستلزم تعدد الآلهة، لما سمى نفسه عز وجل بهذه الأسماء، ولا وصف نفسه بهذه الأوصاف. ولهذا عندما يقول الله عز وجل عن نفسه: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]. وعندما يقول الله سبحانه وتعالى: {الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ} [الفاتحة:1] تتضمن صفة الرحمة. وعندما يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى عليم كريم حيي، وهكذا. فالله عز وجل أعلم بنفسه، ثم نبيه أعلم بربه منا، فهذه مقدمة واضحة في الرد على هؤلاء المبتدعة.

الرد على دليل تعدد القدماء بأنه مخالف للغة

الرد على دليل تعدد القدماء بأنه مخالف للغة إذا جئنا إلى المناقشة لهؤلاء، نقول: إن إثبات هذه الصفات لا يلزم منه كما تقولون تعدد الآلهة، فإن هذه الصفات صفات لموصوف واحد، فالعلم والسمع والحياة كلها صفات بعضها يختلف عن بعض، لكنها لموصوف واحد، ولا يلزم من تعدد هذه الصفات تعدد الآلهة، ولا يصح أبداً إذا قلنا: إن إلهاً واحداً موصوف بكذا وبكذا وبكذا أن هذا خطأ، فإن الوحدانية لا تمانع من تعدد الصفات لغة وشرعاً. أما لغة: فإنه يمكن أن تقول عن كتاب واحد في اللغة وتصفه بعدة صفات فتقول: لونه أحمر وهو سميك وقوي ومتعدد الأوراق ومكتوب بخط صغير وخط كبير، ومرقم الصفحات، فيمكن أن تصف هذا الكتاب بعدة صفات، مع أنك تستطيع أن تقول: هذا كتاب واحد، ولا يناقشك أحد من أهل اللغة. ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم وسمى كثيراً من الأشياء بالواحد وهي متعددة الصفات، فأنت تقول: فرس واحد، ورجل واحد، والله عز وجل يقول: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] وهو يقصد الوليد بن المغيرة، قال الله عز وجل عنه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر:11] فسماه وحيداً، ووصفه بأنه واحد، مع أن له رأساً وله قدمين، وله يدين، وله فهماً وله عينين، وله وله وله، فليس هناك مانع في لغة العرب من وصف الشيء بكونه واحداً، ومن تسميته بالواحد مثلاً مع كونه متعدد الصفات، فهذه الصفات ليست ذوات مستقلة منفصلة عن الإله، بل هي صفات لموصوف واحد. فنحن نقول: الله واحد وهو موصوف بالعلم، وموصوف بالحياة، وموصوف باليدين، وموصوف بالقدم، وموصوف بكل ما وصف به نفسه في الكتاب ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة، ولا مانع من هذا، ولا يلزم من هذا تعدد الآلهة. فإذا قلنا: إنه عليم فليس معنى ذلك أن العلم إله مستقل منفصل عن الإله؛ ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: (لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد) فسمى الثوب واحداً، مع أن الثوب له كمان، وله قدام وله خلف، ولهذا يقول أهل العلم: لا يمكن أن يوجد في لغة العرب استخدام كلمة (واحد) لشيء غير موصوف، فكل ما هو موجود في خارج العقل موصوف بالصفات، ولا يعرف العرب أبداً في لغتهم شيئاً يسمى واحداً ليس له صفات أبداً، ولهذا العرب تقول: بيت واحد، مع أن له باباً وله نوافذ، وله حوشاً وله غرفاً، وغير ذلك، هذا من الناحية اللغوية. إذاً: هم خالفوا اللغة في مفهومهم للتوحيد، وظنوا أن التوحيد يستلزم نفي الصفات، ولهذا قالوا: بنظرية تعدد القدماء التي سبقت الإشارة إليها.

الرد على دليل تعدد القدماء بأنه مخالف للشرع

الرد على دليل تعدد القدماء بأنه مخالف للشرع الرد الثاني من الناحية الشرعية: أنه لا يمنع أن يسمى الشيء واحداً مع وصفه بمجموعة صفات، فالله عز وجل يقول: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163] مع أنه وصف نفسه بالعلم والحياة، وأن له يدين، وأن له قدماً، وأنه سبحانه وتعالى ينزل، وأن له صفات متعددة، وليس هناك مانع من وصف الواحد بمجموعة صفات. والله عز وجل يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:255] فنفى وجود آلهة إلا هو، وهو وصف نفسه بمجموعة من الصفات مبثوثة في الكتاب والسنة. إذاً: مفهومهم للتوحيد مفهوم باطل، ولهذا لو رجعتم مثلاً إلى شرح العقيدة الطحاوية فستجدون أن أول ما يشرح الفقرة الأولى من فقرات العقيدة الطحاوية، وهي قول الإمام الطحاوي رحمه الله: "نقول في توحيد الله مستعينين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له" فهو بدأ الكلام عن التوحيد، ثم انتقد هؤلاء الضالين وقال: إن هؤلاء أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد؛ وذلك أنهم ظنوا أن معنى واحد، يعني: لا يتجزأ، وجعلوا الجزء عندهم هو الوصف، فإذا وصفت الإله بمجموعة صفات، قالوا: هذه أجزاء وهذه أقسام، ولا يجوز وصف الإله بهذه الطريقة، وهذا لاشك أنه قول باطل في اللغة وفي الشرع أيضاً.

الرد على دليل تعدد القدماء بأنه استعمل مصطلحات لم ترد في الكتاب والسنة

الرد على دليل تعدد القدماء بأنه استعمل مصطلحات لم ترد في الكتاب والسنة الرد الثالث: هو أن نقول: إن كلمة (قديم) وكلمة (حادث) مصطلحات جديدة لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فإن الله عز وجل لم يصف نفسه في القرآن بأنه قديم، ولم يصف الرسول صلى الله عليه وسلم ربه بأنه قديم، ولا يصف بأنه حادث. فهذه المصطلحات الجديدة لا يصح أن نقبلها بإطلاق، ولا أن نردها بإطلاق؛ لأن هذه المصطلحات بحسب ما يدخل فيها من المعنى الاصطلاحي، فإن كان حقاً كله قبلناه كله، وإن كان فيه حق وباطل قبلنا الحق ورددنا الباطل. وعلى كل اعتبار فإنه لا يصح أن يستخدم في الأمور الغيبية إلا المصطلحات الشرعية، وهذه المصطلحات الحادثة لا يصح استخدامها، وهذه إحدى الأوجه الطويلة التي رد بها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على قانون الرازي الذي يرد فيه الشرع إذا خالفه العقل، في المجلد الأول من (درء التعارض) ولو رجعتم إليه ستجدون أنه فصل الكلام في هذا الموضوع الحساس والمهم تفصيلاً طويلاً. وكذلك أشار إلى هذا المعنى في (التدمرية) أيضاً، وفي غيرها من الكتب، فهو يشير وينبه إلى ضابط استعمال هذه المصطلحات مثل: قديم، حادث، متحيز، جوهر، عرض، جزء، تركيب. والتوحيد له عندهم مفهوم وله عندنا مفهوم، والإله له مفهوم عندنا، وله مفهوم عندهم، وهكذا، فهذه مجموعة من المصطلحات يقول ابن تيمية رحمه الله: لا يجوز أن تقبل هذه المصطلحات مطلقاً لأنك قد تقبل جزءاً من الباطل، ولا تردها مطلقاً لأنك قد ترد جزءاً من الحق، وحينئذ مثل هذه المصطلحات ننظر لها من جهتين: من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى. فأما من جهة اللفظ: فلا نقبل مصطلحات جديدة في النصوص الشرعية الغيبية التي لم نرها بأعيننا، وإنما أخبرنا الله عز وجل عنها في القرآن الكريم، وأخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية، ويكفينا ما في القرآن والسنة من المصطلحات، فنحن في غنى عن هذه المصطلحات، والغني لا يطلب الصدقة، نحن لا نطلب من أحد أن يتصدق علينا بمصطلحات، حتى نمارس هذا العلم الشريف الذي هو علم التوحيد. وأما من جهة المعنى: فإن هذا المعنى نستفصل صاحبه عنه، فإذا قال لك مثلاً: هل تثبت أن الله جسم؟ بعض الناس يقول: لا أقول: إن الله جسم مطلقاً، وهذا خطأ؛ لأنه هو يعتقد أن إثبات العلم تجسيم، وأن إثبات اليدين تجسيم، فيلزمك بنفي الصفات، وحينئذ الطريقة الصحيحة هي أن نقول: ماذا تعني بكلمة جسم؟ إن كنت تعني بالجسم معناه اللغوي -ومعنى الجسم في اللغة: البدن أو الجسد- فنحن نقول: إن هذا لا يوصف به الله عز وجل؛ لأن هذا فيه مشابهة للمخلوقين، وهذا أمر ظاهر، وإن كنت تعني بالجسم الموصوف بالصفات، فلاشك أن الله موصوف بصفات، ونحن لا نقول: إن الله جسم؛ لأن هذه كلمة لم تستخدم في القرآن والسنة. فهؤلاء لا يأتون بهذه الكلمات مثل: جسم متحيز جهة بمعانيها اللغوية، وإنما يأتون بمعان اصطلاحية محددة يضعون هذه الكلمات عليها، فهم يقولون: الجسم هو الذي يقبل التجزئة والانقسام، فيسمون هذا جسماً مع أن هذا لا يسمى جسماً في لغة العرب، فالكتاب لا يسمى جسماً وإنما يسمى كتاباً، لو أن أحدكم مثلاً: جاء وقال: جسم سيارتك ممتاز لما كان سائغاً في لغة العرب؛ لأن كلمة (جسم) في لغة العرب معناها: البدن. إذاً لا يصح استخدام كلمة (جسم) من جهة اللفظ ومن جهة المعنى على نحو ما سبق. وهكذا إذا قلنا: إن الله في العلو، قالوا: هل تثبت أن الله في جهة؟ فنقول: الجهة كلمة جديدة، فماذا تعني بكلمة جهة؟ هل تعني بالجهة أن الله في العلو؟ إذا قال: نعم، الجهة أن الله في العلو، نقول: لقد نص الكتاب والسنة على أن الله في العلو، وهذا ما تثبته الفطرة والعقل، فأنا أصف الله بالعلو. وإن كان لا يقصد هذا المعنى، فنقول: هل تعني أن الله محصور ومحدد في مكان فقط؟ فهذا لا يصح؛ لأن الله عز وجل فوق العالم، وهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه، ولا يقال إنه محصور في جهة، وهذا لا يجوز استخدامه في وصف الله عز وجل. إذاً: نأتي إلى المعتزلة في موضوع تعدد القدماء ونقول: ماذا تعنون بالقديم؟ هل تعنون بالقديم الأول فليس قبله شيء؟ فإذا قالوا: نعم، قلنا: نعم، الله عز وجل هو الأول فليس قبله شيء، وهو منذ كان موصوف بالصفات، ولا مانع من وصفه بالأول وأيضاً وصفه بسائر الصفات. وإن كنتم تقصدون بقديم أنه ليس موصوفاً بالصفات، فنقول: هذا فهم باطل؛ لأن لله عز وجل وصف نفسه بالصفات، ولا يمكن أن يصف نفسه بالباطل، ولو كان الحق هو المعنى الغامض الذي جئتم به، وهو أن له علماً وعلمه هو ذاته، وأنه سميع وسمعه هو ذاته لنص عليه القرآن.

الرد على دليل تعدد القدماء بنقد مصطلح (ذات)

الرد على دليل تعدد القدماء بنقد مصطلح (ذات) الرد الرابع: نقول: إنكم قلتم إن القديم هو ذات الله فقط، فنقول: كلمة (ذات) مؤنث (ذو) في لغة العرب، وذو في لغة العرب بمعنى صاحب، وكلمة (ذو) لا يصح أن تستخدم بدون إضافة، فأنا مثلاً أقول: رجل ذو عينين، وامرأة ذات علم، ورجل ذو مال، وامرأة ذات جمال، وهكذا، ولو أن إنساناً جاءك يريد أن يخبر فقال لك: فلان ذو، لقلت: ذو ماذا؟ وإذا قال لك: فلانة ذات، لقلت: ذات ماذا؟ لأنه لم يكمل الجملة. وحينئذ نقول: إن كلمة (ذات) مصطلح جديد استخدم في غير محله في اللغة العربية، فإن (ذات) لابد أن تضاف، فأنت تقول: ذات علم وذات كرم وذات يد وذات عين وذات كذا، أما أن تقول: (ذات) ثم تسكت فهذه جملة غير مفهومة، ولا يمكن أن يكون لها معنى محدد، ولهذا تلاحظون أن أهل البدع عندما ناقشوا أهل السنة انحرفوا في جهات متعددة، انحرفوا في المصطلحات، وانحرفوا في العقائد، وانحرفوا في اتخاذ مصادر جديدة لتلقي العقائد غير المصادر الشرعية، وانحرفوا حتى في اللغة، فهم يستخدمون الكلمات في غير معانيها اللغوية، ولهذا تخبطوا تخبطاً كبيراً. وحينئذ نقول: هذا الدليل الذي استدللتم به، وهو أن وصف الله عز وجل لنفسه بالصفات يستلزم تعدد القدماء، هذه شبهة ضالة منحرفة لا فائدة منها، فإن وصف الله عز وجل بالصفات لا يعني تعدد الآلهة، فإن هذه الصفات ليست آلهة مستقلة، وإنما هي صفات لموصوف واحد.

معنى دليل التركيب عند المتكلمين والرد عليه

معنى دليل التركيب عند المتكلمين والرد عليه

الدليل الثاني للمتكلمين هو دليل التركيب

الدليل الثاني للمتكلمين هو دليل التركيب فهو الدليل العقلي الثاني من الأدلة المسماة: قواطع عقلية، يعني: هم عندما يتكلمون يقولون: وهذا الأمر تحيله القواطع العقلية، ويقصدون بالقواطع العقلية هي هذه التي ذكرناها. فالشبهة الثانية هي شبهة التركيب، وشبهة التركيب هي التي نفوا من أجلها الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله عز وجل، وهذه الشبهة تشمل المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، لكن اختلفوا في التطبيق كما سيأتي. حقيقة هذه الشبهة هي أنهم قالوا: إن وصف الله عز وجل بالصفات يلزم منه أن الله عز وجل مركب من مجموعة صفات، فإذا قلنا: إن لله يدين، وإن له قدماً، وإن له علماً، وإن له سمعاً، فإذاً هو إله مركب من هذه الأشياء. يقولون: والتركيب يفتقر فيه الجزء إلى جزئه، فإذا افتقر فيه الجزء إلى جزئه دل ذلك على النقص، وهذا لا يمكن أن يكون في صفات الله عز وجل، وبناءً على هذا فلا نصف الله عز وجل بهذه الصفات التي يلزم منها تركيب الله سبحانه وتعالى من هذه الصفات. وهم لما جاءوا إلى التطبيق على الصفات الموجودة في القرآن والسنة، فالمعتزلة نفوا جميع الصفات بدون استثناء، وقالوا: إن إثبات الصفات العقلية مثل: العلم والحياة والسمع والبصر يستلزم التركيب، وإن وصف الله بالصفات الذاتية مثل: اليدين والعينين والقدم والساق وغير ذلك من الصفات تستلزم التركيب أيضاً. فجاء الأشاعرة وفرقوا بين الاثنين، وقالوا: لا، الصفات العقلية مثل: العلم والسمع والبصر والحياة والكلام والإرادة لا تستلزم التركيب، وأما الصفات السمعية التي هي العينان واليدان والقدم فهذه تستلزم التركيب فيجب أن ننفيها. والمعتزلة والأشاعرة بينهم صراع كبير في هذه الصفات السبع التي أثبتها الأشاعرة، وهي: العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، فالمعتزلة ينفون هذه الصفات جميعاً، ويقولون إنها تستلزم تعدد القدماء، فيرد عليهم الأشاعرة فيقولون: لا تستلزم تعدد القدماء، وإنما هي صفات من لوازم الموصوف وهو الله سبحانه وتعالى، فلابد أن يكون حياً، ولابد أن يكون عالماً، ولابد أن يكون قديراً، ولابد أن يكون بصيراً، وهكذا. وكلام الأشاعرة في ردهم على المعتزلة حول هذه الصفات رد صحيح، حتى إن عندهم ردوداً لطيفة جداً يقولون: إن الواقع والحياة فيها مسموعات ومبصرات ومقدورات ومرادات، فإما أن تثبتوا الصفات لوجود أثرها، أو تنفوا الأثر، فإذا نفيتم القدرة يلزمكم نفي المقدور، وإلا فكيف حصل هذا المقدور؟ ويستدلون بوجود المقدور على وجود القدرة، وبوجود المعلوم على وجود العلم، وبوجود المراد على وجود الإرادة، وبوجود المسموع على وجود السمع، وبوجود المبصرات على وجود صفة البصر وهكذا، فيستدلون بالمحدثات المخلوقات على وجود مقتضياتها من الصفات. والنقاش مع الأشاعرة في إثبات الصفات التي ينفونها سهل جداً، نقول: إن وجود الرحمات في الأرض، رحمة المحتاج والفقير والمسكين يدل على صفة الرحمة، قالوا: لا يدل عليها، قلنا: وكذلك المقدور لا يدل على القدرة من الناحية الجدلية، فقالوا: بل يدل عليها، ففرقوا بين المتماثلات، فبين لهم أهل السنة والجماعة أنهم منحرفون في هذه المسألة، قالوا: كيف تفرقون بين الأمور المتماثلة؟ هذا من جهة الاستدلال العقلي المجرد، وأما من جهة النصوص الشرعية فهم لا يرجعون إليها أصلاً؛ لأنهم لا يعتقدون أنها مصدر مستقل في تلقي العقائد. نعود إلى مسألة التركيب، فالمعتزلة يعممون هذا الدليل الذي هو التركيب على جميع الصفات، فينفون به صفات المعاني العقلية التي سبق أن ذكرناها، وينفون به أيضاً الصفات الذاتية التي سبق أن ذكرناها، بينما الأشاعرة يميزون ويقولون: الصفات العقلية التي يسمونها صفات المعاني ليست داخلة في التركيب، ولا تستلزم التركيب، بينما الصفات الذاتية تستلزم التركيب. وللرد على هؤلاء نقول: أولاً: بالنسبة للمصطلحات سبق أن تحدثنا عنها، وقلنا: هذا مصطلح جديد يتضمن معاني جديدة مخالفة للنصوص الشرعية فلا نقبله من جهة اللفظ، ولا نقبل جميع معانيه. ثانياً: أن وصف الله عز وجل بهذه الصفات لا يستلزم التركيب؛ لأنكم إذا كنتم تعتقدون أنها تستلزم التركيب فهذا باطل وخطير في مجال العقائد، وهذا لا يقول به أهل السنة، فهذه الصفات لا أول لها، كما أن الله عز وجل لا أول له، وهي ليست ذوات مستقلة، بل هي صفات لموصوف واحد وهو الله سبحانه وتعالى. وإن كنتم تقصدون بالتركيب من حيث الفهم أن صفة اليد ليست هي صفة الساق وليست هي صفة العينين، فهذا لا إشكال فيه من جهة المعنى، وتسميتك له تركيباً باطل، فالتسميات التي يطلقها الناس لا تغير الحقائق، فالحقائق أنها صفات لموصوف واحد وصف الله بها نفسه وهي صحيحة وحقيقة ولا إشكال فيها، فإذا سميتها تركيباً نقول: إن أردت بها أن أحداً ركبه فهذا باطل، فإن الله عز وجل متقدس متنزه عن هذا المعنى الباطل، وإن كنت تعني أن بعضها يختلف عن بعض فهذا معنى صحيح. فإذا جاء أحد مثلاً وسمى الربا فوائد، هل يصبح فوائد؟ لا يصبح فوائد، بل هو ربا محرم، وإذا جاء أحد وسمى

معنى دليل منع حلول الحوادث عند المتكلمين والرد عليه

معنى دليل منع حلول الحوادث عند المتكلمين والرد عليه

معنى دليل منع حلول الحوادث والرد عليه بالجملة

معنى دليل منع حلول الحوادث والرد عليه بالجملة الشبهة الثالثة: هي شبهة منع حلول الحوادث بذات الله عز وجل. وهذه الشبهة نفوا بها الصفات الفعلية، مثل صفة النزول، والاستواء، وصفة المجيء، والإتيان، ونحوها من الصفات الفعلية، وهي التي يفعلها الله عز وجل متى شاء وكيف شاء، على الوجه الذي يشاؤه سبحانه وتعالى. قالوا: هذه الصفات لا يصح أن يوصف الله عز وجل بها؛ لأنها تستلزم حلول الحوادث بذات الله، والحال هنا هو نفس الحال هناك، نقول: ماذا تعنون بالحادث؟ قالوا: نعني بالحادث وجود الشيء بعد أن لم يكن موجوداً، قالوا: فإذا قلنا ينزل الله عز وجل هذه الليلة، ثم ينزل الليلة التي بعدها، فنزوله الليلة التي بعدها لم يكن موجوداً سابقاً فيلزم منه وجود حادث في الله عز وجل، وهذا لا يصح أن يوصف به الإله سبحانه وتعالى. قلنا: هذا باطل؛ فإن الله عز وجل وصف نفسه بهذه الصفات، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سميتموه أنتم معنى حادثاً، وهو وجود هذه الصفة بعد أن لم تكن موجودة لا نقص فيه بالنسبة للإله، فلا مانع من أن يتكلم الله عز وجل الآن، ويتكلم بعد سنة، ويتكلم يوم القيامة، ويتكلم إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وليس فيه نقص. قالوا: هذه فيها حدوث بذات الله، قلنا: هذه الكلمة جديدة لم نعرفها في النصوص الشرعية، فماذا تعنون بالحدوث؟ قالوا: الحدوث هو وجود الشيء بعد أن لم يكن موجوداً. قلنا: ولا مانع منه حتى لو وجد الشيء بعد أن لم يكن موجوداً سابقاً؛ لأن الله عز وجل له إرادة يفعل الشيء متى شاء سبحانه وتعالى، في الوقت الذي يشاء. قالوا: لكن أنتم إذا قلتم بهذا القول فمعنى هذا أنكم تبطلون حدوث العالم! قلنا: وماذا تعنون بحدوث العالم؟ إذا كنتم تعنون أن العالم مخلوق فإن صفة الله عز وجل التي تكون بعد أن لم تكن موجودة سابقاً ليست خلقاً، وإنما هي صفة يفعلها الله عز وجل في الوقت الذي يشاؤه سبحانه وتعالى، والعالم مخلوق وهو أثر من آثار خلق الله عز وجل له، والمخلوق ليس كالخالق. ولهذا فإن اضطراب المصطلحات عند هؤلاء جعلهم يتلاعبون بالنصوص الشرعية، بناء على مصطلحاتهم التي استخدموها، فهم جاءوا إلى المنكرين لوجود الله عز وجل، فأرادوا أن يثبتوا لهؤلاء المنكرين وجود الله عز وجل، فركبوا لهم دليلاً صعباً غامضاً وعر المسالك، فيه فقرات يخالفهم فيها كثير من العقلاء، وسموه دليل حدوث العالم، هذا الدليل دليل يتيم عندهم، وهو أبرز دليل من أدلة أهل الكلام على إثبات وجود الله عز وجل، فأي قدح في هذا الدليل بأي وجه من الوجوه ينفونه دفاعاً عن هذا الدليل. ولهذا عندما تحدث الإمام الشاطبي رحمه الله في كتاب (الاعتصام) عن مأخذ أهل البدع في الاستدلال ذكر قاعدة لطيفة جداً، وهي: أن أهل البدع يقعدون المسألة التي يريدونها ويقررون فيها حكماً قبل النظر في الكتاب والسنة، ثم ينظرون في الكتاب والسنة، فما وجدوا أن ظاهره يخالف ما ذكروه وما أصلوه أولوا نصوص الكتاب والسنة حتى توافق ما أصلوه وقعدوه. وهذا تلاعب بالكتاب والسنة، وهذا لاشك أنه ضعف في التسليم للكتاب والسنة، فالله عز وجل يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. والله عز وجل يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]. ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60] وهو أهواؤهم وعقولهم، {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:60]. إذاً: لا يصح للإنسان أبداً أن يقعد القاعدة ويطلق فيها الحكم قبل النظر في الكتاب والسنة. هؤلاء جاءوا وأرادوا أن يثبتوا وجود الله بالعقل، فقعدوا هذا الدليل الذي سموه دليل الأعراض، أو دليل حدوث العالم، وكل صفة من الصفات تعارض هذا الدليل في الظاهر فإنهم يؤولونها ويحرفونها عن معناها الحقيقي، وكان الواجب ألا يعتمدوا على دليل واحد، لأن وجود الله عز وجل أمر واضح، ومن حكمة الله عز وجل أن الشيء إذا كان واضحاً هيأ له أسباباً كثيرة جداً غير محصورة، فهل تتصورون قضية حساسة مثل قضية وجود الإله لا يكون عليها دليل إلا دليلاً واحداً يخترعه أبو الهذيل العلاف من المعتزلة، ويقلده عامة المعتزلة فيه، ثم يصير إليه عامة الأشاعرة؟ فهل كان أبو بكر الصديق لا يعرف هذا الدليل وغيره من الصحابة ومن أهل العلم، حتى تأتوا أنتم وتستدلوا بهذا الدليل، وقد ناقشوا المشركين وناقشوا الملاحدة وبينوا لهم الحق بدون هذا الدليل؟ ثم إن موضوعاً كموضوع إثبات وجود الله عز وجل من الوضوح بحيث إنه لا يجوز أن يكتفى

المقدمات التي يتركب منها دليل منع حلول الحوادث والاستدلال به على أن الله هو الخالق

المقدمات التي يتركب منها دليل منع حلول الحوادث والاستدلال به على أن الله هو الخالق إن دليل منع حلول الحوادث الذي استخدمه أهل البدع يبنونه على ثلاث مقدمات: المقدمة الأولى: إثبات أن هذا العالم حادث. المقدمة الثانية: إثبات أن كل حادث لابد له من محدث. المقدمة الثالثة: أن المحدث هو الله عز وجل. فإذا جاءوا إلى إثبات حدوث العالم، قالوا: العالم ينقسم إلى قسمين: جواهر وأعراض. الجواهر: هي التي تقوم بذاتها. والأعراض: هي التي تقوم بغيرها. مثال الجواهر: الجوهر الفرد، وسيأتي معنا الحديث عنه، فإنه لا يتجزأ، ومثال الجواهر أيضاً: الأمور التي تقوم بذاتها مثل الكتاب والإنسان وأي شيء يقوم بذاته، فهذا يسمى عندهم جوهراً. أما الأعراض فجمع عرض، وهذا العرض هو الذي يقوم بغيره ولا يمكن أن يكون منفصلاً عن الجوهر، مثل: الألوان والطعوم والروائح، وهذه لا يمكن أن تقوم بذاتها. فمثلاً: رائحة العطر، هل يمكن أن يكون مستقلاً بذاته هكذا؟ لا، كذلك: هل البياض ممكن أن يكون بياضاً لوحده مستقلاً؟ لابد أن يكون مركباً مع غيره. فيقولون: إننا سبرنا هذا العالم الموجود فإذا هو مكون من جواهر وأعراض، ثم يستدلون على حدوث الجوهر، وعلى حدوث العرض، فيستدلون على أن الجوهر حادث، فيقولون: إن الجوهر مفتقر إلى غيره؛ لأن الجسم يتكون من مجموعة جواهر، والجوهر إذا قسمته أجزاء بسيطة وصغيرة، فإنك ستجد أنه مقسم إلى ذرات صغيرة، وهذه الذرات الصغيرة يتركب بعضها مع بعض حتى تكون الجسم، وتركب بعضها مع بعض يدل على حدوثها، والسبب في دلالته على حدوثها أن كل جزء من هذه الأجزاء مفتقر إلى الجزء الآخر المكون للجسم بشكل عام، هذا من جهة. ومن جهة ثانية: فإن الجوهر لا يمكن أن يعرف إلا إذا تلبس به العرض، والعرض حادث، وما قام به الحادث فهو حادث، هذا الاستدلال على حدوث الجواهر. وأما الأعراض، فيقولون: الأعراض هي حادثة ولابد؛ لأنها محتاجة إلى غيرها، فاللون محتاج إلى جسم حتى يتضح، وهكذا الروائح، وهكذا الطعوم، فهي بحاجة إلى غيرها، وهذا الاحتياج يدل على افتقارها، والافتقار يدل على حدوثها. إذاً: تحصل من هذا أن العالم حادث. المقدمة الثانية: لابد من إثبات أن أي أمر حادث لابد له من وجود محدث وراءه. وهذه مقدمة فطرية عند الإنسان، فالطفل الصغير إذا كان متجهاً إلى جهة وحركته التفت مباشرة؛ لأنه مفطور على أنه لا يمكن أن يحصل شيء إلا بسبب. فاستدلوا عليها بما يسمى قياس الغائب على الشاهد، قالوا: إن المشاهد أن كل حدث لابد له من محدث، وهذه قضية فطرية ليس فيها مشكلة، لكن يتعبون حين يستدلون بالعقل حتى يصلوا إليها. المقدمة الثالثة: أن محدث العالم هو الله عز وجل: كيف يستدلون على هذه المقدمة؟ يسمون الدليل الذي يستخدمونه: دليل السبر والتقسيم، فيستعرضون أنواع المحدثات الممكنة المحتملة، فيقولون: هل من الممكن أن يكون العالم أحدثته الطبيعة هكذا؟ لا يمكن، والدليل على ذلك أن هذا النظام الموجود لابد أن يكون وراءه مدبر، له علم وله كذا وله كذا حتى يكون محدثه، هذا أولاً. فهل يمكن أن تُكوِّن هذه المحدثات بعضها بعضاً إلى ما لا نهاية؟ قالوا: لا يجوز. وهل يمكن أن يكون أحد غير الله محدثاً لهذا الكون، مثل الآلهة المزعومة؟ قالوا: لا يصح، ويستدلون على هذه القضية. بعد هذه المقدمات الطويلة فالنتيجة تساوي أن الله موجود.

الردود على مقدمات أهل البدع في حلول الحوادث

الردود على مقدمات أهل البدع في حلول الحوادث ووجه الاعتراض على هذا الدليل من عدة جهات: الجهة الأولى: أن المعنى المستدل عليه أوضح من الدليل: لأن الدليل فيه تعقيدات، والمعنى المستدل عليه -وهو وجود الله- واضح لا يحتاج أن تستدل عليه بهذه التعقيدات، فهو موجود فطري في نفس الإنسان، وقد دل على وجوده في نفس الإنسان من حيث الفطرة القرآن، والسنة، والأدلة العقلية. وهذه القضية لها مجال طويل جداً وهو فطرية معرفة وجود الله عز وجل، وقد تحدث عنها ابن تيمية رحمه الله في مجلد كبير من كتاب (درء تعارض العقل والنقل). الجهة الثانية: أن هناك أدلة أوضح من هذا الدليل الذي استخدمتموه وأحسن منه يمكن الاستدلال بها: كقوله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، فهذا دليل قرآني كاف في الاستدلال على وجود الله عز وجل، فإن الإنسان يعرف من نفسه أنه إما أن يكون خُلِقَ من غير شيء، وهذا مستحيل تأباه الفطرة، ويأباه العقل، وإما أن يكون هو الذي خلق نفسه، وهذا أوضح في الاستحالة؛ لأن العبد يعرف أنه ليس هو الخالق لنفسه، وبناءً على هذا يكون الله هو خالقه، وهذا أسهل وأوضح وأبين، ولا يستلزم لوازم باطلة كنفي الصفات. الجهة الثالثة: أن الدليل إذا استلزم مدلولاً باطلاً فهو دليل على بطلانه: فالدليل الصحيح يستلزم ملزوماً صحيحاً، فإذا كان الدليل يستلزم ملزوماً باطلاً فهذا دليل على بطلان الدليل نفسه، ولهذا نفى المعتزلة بسببه الرؤية، ونفى جميع المعتزلة والأشاعرة الصفات، ونفوا أيضاً بسبب هذا الدليل كثيراً من القضايا المجمع عليها، حتى إن بعض المعتزلة يقول بانقطاع حركات أهل الجنة، وإنه ستكون هناك فترة على أهل الجنة يتوقفون فيها عن الحركة. فبعض الناس لما ألزمه باللوازم قال: إنه يلزم من هذا أن الرجل إذا كان قد أخذ اللقمة وأراد أن يضعها في فيه فإنه يقف هكذا، فقال المعتزلي: لابد أن تتوقف هذه الحركات؛ لأنه إذا لم تتوقف فتستلزم أن هذه المحدثات لا نهاية لها، وهذا قدح في الألوهية على حد تعبيرهم ومناقشتهم، فالتزم بانقطاع حركات أهل الجنة، وأنه لا يمكن أن تستمر إلى المستقبل الذي لا نهاية له. ويستلزم لوازم باطلة كثيرة جداً، وهذا يدل على بطلان الدليل. الجهة الرابعة: أن هذا الدليل فيه بعض المسائل فمثلاً: قولهم بأن الأجسام تتكون من جواهر، وإذا قسمت هذا الجسم فإنك لابد أن تصل إلى إحدى حالتين: الأولى: إما أن تقسم إلى ما لا نهاية، وهذا مستحيل؛ لأن هذه الدنيا محدودة لابد أن يكون لها نهاية. الثانية: أن تصل إلى جزء لا يتجزأ، وهذا الجزء الذي لا يتجزأ سموه: الجوهر الفرد، وهو الذي يتركب منه الجسم. فناقشهم الناس، لأن بعضهم يرى أن أصل الدين هو الإيمان بالجوهر الفرد الذي تتكون منه الأجسام، فإذا تكونت الأجسام استدللنا بالجسم على حدوث العالم. ويمكن أن نناقش هذه المسألة فنقول: هذا الجوهر الذي وصلتم إليه لو أننا الآن قسمنا الكتاب وقسمنا وقسمنا وقسمنا حتى نصل إلى جزء لا يتجزأ، ويصبح الكتاب أجزاء بسيطة لا تتجزأ، وهذه الأجزاء يتكون منها هذا الكتاب بأكمله، فنقول: هذا الجزء الصغير الذي لا يتجزأ لها جهات، فالجهة الأولى يمكن أن نطلق عليها (أ) والجهة الثانية نطلق عليها (ب)، وهذا يدل على أنه يمكن انقسام هذا الجوهر الصغير الذي لا يتجزأ، فإذا جئنا إلى الجوهر الصغير الآخر الذي تقولون: إنه لا يتجزأ، نقول: مجرد إثباتكم لتركب هذا الجزء مع جزء آخر دليل كاف على انقسام هذا الجزء؛ لأن هذا الجزء الصغير إذا تركب مع هذا الجزء الصغير دل على أن له طرفين: الطرف الأول: مع هذا الجزء، والطرف الثاني: مع الجزء الآخر، فينقسم حينئذ. ولهذا اختلف الناس في قضية الجوهر الفرد اختلافاً كبيراً جداً، وعامة المتكلمين يقولون: إن الأجسام مكونة من الجوهر الفرد، وإن هناك جزءاً لا يتجزأ وهو الجوهر الفرد، وخالفهم إبراهيم النظام وكان من دهاة العالم لكن أضله الله والعياذ بالله، ولهذا يكفره كثير من الطوائف، حتى من المعتزلة، وهذا النظام التزم بأن التقسيم يستمر إلى ما لا نهاية، يقول: إذا أخذت مثلاً: كتاباً وقسمته فسينقسم، وينقسم وينقسم وينقسم إلى ما لا نهاية، يعني: كلما قسمت فإنك ستصل إلى جزء قابل للقسمة؛ لأنه يتصور هذا النقد الذي وجهناه للدليل الذي ذكرناه. والحق في هذه المسألة من الناحية العقلية المجردة أنه لا يستلزم عند الانقسام أن نصل إلى جزء لا يتجزأ، ولا يستلزم تجزؤاً إلى ما لا نهاية له، وإنما الشيء إذا قسمته ينتقل إلى غيره ويستحيل إلى غيره، ولا يسمى بنفس الاسم السابق، فمثلاً الماء إذا جاءت عليه الشمس تبخر وصار جسماً آخر. وهذه النظرية ذكرها ابن تيمية رحمه الله في أكثر من كتاب، وسماها: نظرية الاستحالة، يعني: أن هذا الجزء يستحيل إلى جزء آخر، وإلى شيء آخر، وقد يفنى ويذهب ويصبح لا وجود له، وقد ينتقل إلى شيء آخر غير الجسم السابق الذي كان موجوداً. ولهذا كان من الأمور

بطلان استدلال المتكلمين بدليل التشبيه والتمثيل

بطلان استدلال المتكلمين بدليل التشبيه والتمثيل أما دليل التشبيه والتمثيل فقد سبق أن أشرنا إليه: وهو أنهم يرون أن كل هذه الصفات إذا أثبتناها تستلزم مشابهة الله للمخلوقات، ونحن ذكرنا أن إثبات الصفات لله لا تستلزم مشابهة الخالق سبحانه للمخلوق في شيء، وربما يأتي لها موضع آخر بإذن الله تعالى. الذي أريد أن أصل إليه هو أن هؤلاء اعتمدوا في نفي الصفات على الأدلة العقلية التي سبق أن ذكرناها، وأنه لم يكن نفيهم لهذه الصفات بسبب التباس بعض الأدلة الشرعية في أذهانهم، ولكن الذي حصل هو الاستدلال بالأدلة العقلية هذا أولاً. ثانياً: أن هذه الأدلة العقلية مخالفة للحق من ثلاث جهات: من جهة اللغة، فقد استخدموا معاني جديدة غير موافقة للغة، كالتركيب والانقسام، وأيضاً التوحيد استخدموه في معان غامضة ما كان العرب يعرفونها. ومن جهة ثانية هي مخالفة للشرع، ومن جهة ثالثة مخالفة للعقل. ولهذا عندما تحدثنا عن شبهة التركيب قلنا: إما أن يقصدوا أن غير الله ركبه، وهذا لاشك أنه باطل، وهم لا يقصدونه، وإما أن تكون هناك اعتبارات ذهنية في فهم التركيب، وأن اليدين جهة، والعين جهة أخرى وهكذا، وهذا التركيب الذهني لا يصح أن ننفي الصفات من أجله.

نقد القواعد المخالفة للكتاب والسنة

نقد القواعد المخالفة للكتاب والسنة المعنى الآخر الذي أريد أن أصل إليه: هو أن الإنسان لا يجوز له أن يقعد القاعدة التي لا دليل عليها من الكتاب والسنة، ثم يحاكم النصوص ويحاكم أقوال أهل العلم عليها، وقد وجد في الدعوة الإسلامية، ووجد في الحياة المعاصرة أشخاص وضعوا قواعد، وحاكموا الآخرين إليها، فوقعوا في شيء من البدعة، وبعض الأحيان قد تكون بدعة مغلظة، وبعض الأحيان قد تكون بدعة غير مغلظة. أضرب لهذا بأمثلة: الأول: عندما جاء الباطنية وقالوا: إن نصوص الوحيين لها ظاهر وباطن، وإن الظاهر هو ما يفهمه العامة، والباطن هو ما يفهمه الخاصة. هذه القاعدة التي ذكروها فتحوا بها باباً عظيماً من أبواب الشر، حيث جاء الزنادقة منهم فتلاعبوا بما يسمونه المعاني الخاصة، وغيروا الشريعة تغييراً كبيراً، فالصلوات عندهم أن تذكر خمسة أشخاص وهم: محمد، وعلي، وفاطمة، وحسن وحسين. والحج أن تقصد قبور الأولياء، والصيام أن تكتم أسرارهم، وهكذا تجدهم يتلاعبون بالدين، ويسمون هذا علم الخاصة.

نقد الاستخدام السيئ لقاعدة اليسر والسماحة في الشريعة

نقد الاستخدام السيئ لقاعدة اليسر والسماحة في الشريعة المثال الثاني: هو وجود طائفة ممن ينتسبون إلى العلم الشرعي، يقولون: نحن نرى فقه التيسير على الأمة، وأن هذه الشريعة شريعة سمحاء، وإن من القواعد الشرعية المعروفة أنه إذا ضاق الأمر اتسع، وهكذا يكررون ما يتردد على ألسنة الفقهاء من سماحة هذا الدين، وأيضاً ما هو موجود في القرآن والسنة، ويضعون لأنفسهم قاعدة: أن المسألة إذا كان فيها رأي لعالم سابق وفيه مصلحة للناس فإنا نقول به. فأصبحوا يتتبعون شواذ الفتاوى القديمة، ويتتبعون السقطات التي حصلت عند بعض أهل العلم قديماً، ويتتبعون رخص الفقهاء والعلماء، ويفتون الناس بها. وهذه القاعدة التي وضعوها قاعدة باطلة منحرفة تشبه قاعدة: الحلول والحوادث وتشبه قاعدة: التركيب، وتشبه القواعد البدعية الأخرى، وما من مسألة من المسائل إلا ويوجد فيها مخالف، وإنما تعبدنا الله عز وجل بالقرآن والسنة، فإذا كانت المسألة واضحة في الكتاب والسنة، وأفتى عالم من العلماء على خلاف هذه المسألة فنحن لا نقبل كلامه، ولهذا نص الأئمة الأربعة وغيرهم على لزوم الكتاب والسنة. قال الإمام الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي. ويقول أبو حنيفة وغيره: إذا خالف قولي قول الله ورسوله فارموا بقولي عرض الحائط! وهذا يدل على أن العبرة بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. إذاً: هذه القاعدة خطيرة جداً، وقد تحدث أهل العلم عن تتبع رخص العلماء، ولهم كلمة مشهورة في هذه المسألة: وهي أن من تتبع رخص أهل العلم تزندق. أما الجاهل الذي لا علم له فإنه يأتي إلى من يثق فيه من أهل العلم ويسأله، وهذا هو الفرض الذي أوجبه الله عليه، فقد فرض على العامي سؤال أهل الذكر؛ لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا سأل أحداً من أهل الذكر يثق فيه فإنه يلتزم بقوله، والعامي الذي يتلاعب فيسأل هذا ويسأل هذا، ثم يأخذ أسهل شيء له، فهو مثل هؤلاء، فلا يصح أن يتلاعب الإنسان بالدين بهذه الطريقة.

نقد قاعدة نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه

نقد قاعدة نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه المثال الثالث: أن الأستاذ حسن البنا رحمه الله تعالى ذكر قاعدة أخذها أتباعه ووسعوها توسيعاً كبيراً، وهو أخطأ في إطلاق هذه القاعدة، والقاعدة هي: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. ووجه الخطأ في هذه القاعدة هو قوله: (ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه)، وذلك لأن الناس يختلفون في أمور متعددة، بعضها يعذر الخلاف فيه، وبعضها لا يعذر، فالذي يخالفنا في العقائد هل نقول في حقه: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه؟ لا يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فنحن لا نعذر الشيعة عندما خالفونا؛ لأن خلافهم في العقائد وهو باطل، وقد وصل إلى الشرك، كذلك لا نعذر القبوريين الذين يطوفون حول القبور ويذبحون لها، وينذرون لغير الله عز وجل، مثل دعوى محمد علوي المالكي وأمثاله؟ كذلك هل نعذر الأشاعرة والمعتزلة في أمور العقائد؟ لا نعذرهم، وهذا أمر بإجماع أهل العلم من أهل السنة أي: أن هذه القضايا لا يعذر فيها. والمخالف للإجماع لا يعذر صاحبه؛ لكن إذا جئنا لنحكم عليه فإننا ننظر إلى مقالته ثم نقيس مدى بعده أو قربه من الكتاب والسنة، ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: إن أهل السنة هم أرحم الخلق بالخلق؛ لأن ميزانهم منضبط ليس مبنياً على الهوى والتعصب والآراء الشخصية. إذاً: هذه قاعدة عامة، ولهذا وجد في أتباع الأستاذ حسن البنا الرجل الصوفي والشيعي، ووجد في أتباعه كثير من أهل البدع، ووجد في أتباعه أيضاً من يتبنى مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم. والعذر يكون في الخلاف في مسائل الاجتهاد، وهي المسائل الفقهية في الغالب، ويمكن مراجعة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لمعرفة حدود الإعذار لهؤلاء العلماء المختلفين، لكن هل الخطأ والانحراف في هذه القاعدة مثل الانحراف في قاعدة الأشاعرة؟ لا، ليس مثلها، وهل هي مثل الانحراف في قاعدة الباطنية؟ لا، ليس مثلها.

نقد قاعدة الموازنة بين الحسنات والسيئات عند نقد الآخرين

نقد قاعدة الموازنة بين الحسنات والسيئات عند نقد الآخرين مثال رابع على القواعد التي تخالف الكتاب والسنة، وقد يلتزم بها أصحابها ويتحاكمون إليها، وهذا خطأ، فإنه لا يصح للإنسان أن يقعد قاعدة حتى تكون محررة من الكتاب والسنة. فمثلاً ذكر بعض المصلحين من الدعاة قاعدة: وهي أنه عند كلامك على الآخرين لابد أن توازن بين الحسنات والسيئات، وأطلقها هكذا. وهذا خطأ، إذ لا يلزم عند نقدك للآخرين أياً كانوا أن توازن بين الحسنات والسيئات، نعم قد يقتضي المقام الموازنة، وذلك عندما يكون هذا الإنسان إماماً من أئمة أهل السنة، والخلاف معه في مسألة معتبرة، فتنقد ما عنده من الخطأ في جانب، وتعترف له بالفضل العظيم في جانب آخر. لكن عندما يكون إماماً من أئمة أهل البدع، ورمزاً من رموزهم، ورأساً من رءوسهم، وينشر الفساد العقدي في كل مكان، فمثل هذا كيف توازن بين الحسنات والسيئات، فإذا جئت لتنتقد الجهم بن صفوان فهل تقول: إن الجهم بن صفوان إنسان، والإنسان له احترام عند الإنسان آخر، وهو أيضاً ينتسب إلى الإسلام، وانتسابه للإسلام يعتبر منقبة؟! ثم بعد ذلك ننتقد عليه كيت وكيت وكيت؟ لا، هذا خطأ في العرض وخطأ في المناقشة، ولهذا لم يستخدم هذا الأسلوب أهل السنة والجماعة في التعامل مع رءوس أهل البدع، والخطأ في هذه القاعدة كما تلاحظون هو التعميم، كالخطأ في القاعدة التي قبلها. فالتعميم بهذه الطريقة ووضع هذه القاعدة والتزامها سلوكاً ودعوة خطأ كبير جداً، ومؤثر على سير الدعوة الإسلامية، ويؤثر على الضوابط الشرعية المعروفة عند أهل السنة في التعامل مع المخالف، ومعرفة حجم مخالفته، وقياسها بالنسبة للمنهج القرآني، لكن الخطأ في هذه القاعدة ليس مثل الخطأ في التي قبلها، والخطأ في التي قبلها ليس مثل الخطأ في التي قبلها وهكذا. إذاً: المقصود من هذا الكلام هو ألا يأتي إنسان ويضع قاعدة ليست محررة أو هي مخالفة للقرآن والسنة، ثم يحاكم النصوص والآخرين إليها، هذا خطأ كبير جداً، حتى إن بعض الذين قالوا بالموازنة بين الحسنات والسيئات ذكروا أمثلة غريبة جداً في الموازنة، فيقولون مثلاً: إن الله سبحانه وتعالى عندما يذكر بعض الكفار قد يذكر بعض الإيجابيات الموجودة عندهم. نقول: إن ذكر الإيجابيات هنا ليس المقصود منه الموازنة أصلاً، في بعض الأحيان يكون المقصود منه بيان قوتهم، وبعض الأحيان يكون المقصود منه بيان استفادته من بعض الأسباب الطبيعية، وقد يكون له أكثر من معنى، وليس المقصود الموازنة، وإنما تكون الموازنة في الرجل الذي يكون من أهل السنة، فمثلاً: الشيخ الألباني رحمه الله تعالى كان إماماً من أئمة الهدى، ومن أئمة أهل السنة والجماعة، ومن المصلحين والدعاة، وأخطأ في مسألة كشف المرأة لوجهها فأباحه، وقال: لا أقول بوجوبه، ولا أقول إن المرأة الكاشفة لوجهها عليها إثم في ذلك، واستدل ببعض الأدلة التي كان له شبهة فيها، فمثل هذا الإمام يمكن أن أنتقد قوله في هذه المسألة، وأقول: إن قوله غير صحيح ومخالف للأدلة الشرعية، والدليل هو كذا وكذا وكذا، ثم بعد ذلك أقول: وهذا لا ينقص من قدر الشيخ الألباني رحمه الله؛ فإنه كان إماماً من أئمة الهدى، وقد نشر العلم، وخدم السنة، ودعا إلى الله عز وجل، ورد على أهل البدع والضلالة، هكذا وتذكر ما عنده من الحسنات. لكن عندما ينصب إنسان نفسه للبدعة، فهذا لا يعرف من أهل السنة التزام بمسألة الموازنة فيه، وردود أهل السنة على أهل البدع كثيرة جداً، فقد رد الدارمي رحمه الله على بشر المريسي، ورد الإمام ابن تيمية على الرازي، ورد على الغزالي، ورد على غيرهما، فليس هناك موازنة، وما يذكره ابن تيمية رحمه الله بعض الأحيان من حسنات للأشاعرة فإنما هو في مقابلة سيئات المعتزلة؛ حتى يبين أن هؤلاء أخف من هؤلاء، وليس مقصوده أن يوازن بين حسناتهم وسيئاتهم. ثم إن الموازنة لابد أن يكون منها نتيجة، أما أن توازن وتسكت فهذا ليست له نتيجة، عندما تقول: هذا له كذا وله كذا، وله كذا، وهذا له وله، فما هي النتيجة؟ بحسب ما غلب عليه، ولهذا تكون الموازنة يوم القيامة عندما توزن حسنات الإنسان وسيئاته، من المعروف أنه إذا كثرت سيئاته فإنه يحكم عليه بأنه في النار، وإذا كثرت حسناته فإنه يحكم عليه بأنه في الجنة، فهل يريد هؤلاء الموازنون أن يوازنوا ثم يحكموا على الشخص بعد ذلك؟ والواقع أنه لا يوجد حكم على الأشخاص، وإنما هو إبراز لسلبيات هؤلاء وحسناتهم، ولعل الداعي لهذه المقالة هو وجود أشخاص يخطئون في نقد الآخرين فيظلمونهم، ويحملون أقوالهم ما لا تحتمل، فاقتضى هذا وجود من يدفع هذا التحامل بهذه الطريقة، أعني بفكرة الموازنة بهذا الأسلوب، ولاشك أن العدل واجب، لكن الموازنة المطلقة حتى مع أهل البدع واليهود والنصارى بهذه الطريقة ليست صحيحة على إطلاقها كما سبق أن أشرنا. والله أعلم.

شرح الفتوى الحموية [10]

شرح الفتوى الحموية [10] أصول الإسلام وقواعده العظام ليست مجال نقد أو مناقشة، لأنها مأخوذة من الكتاب والسنة، وما ضل من ضل من الفرق إلا لتركهم للكتاب والسنة إلى غيرهما، كأهل التعطيل فإن أصل مقالتهم مأخوذة من تلاميذ اليهود والمشركين والضلال الصابئين.

شبهات نفاة الصفات مأخوذة عن طواغيت الشرك والصابئة

شبهات نفاة الصفات مأخوذة عن طواغيت الشرك والصابئة تحدثنا في الدرس الماضي عن شبهات المعطلة أهل الكلام كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية في نفي الصفات، وقلنا: إن مجموع هذه الشبه تدور على أربع شبه: الشبهة الأولى: شبهة تعدد القدماء، وقد بينا معناها والرد عليها، وهي شبهة المعتزلة. والشبهة الثانية: شبهة التركيب، وهي شبهة المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وهي شبهة عامة أهل الكلام. وقد بينا حقيقة هذه الشبهة، وأنه بسببها نفى أهل الكلام صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية، وبينا الرد عليها. والشبهة الثالثة: شبهة منع حلول الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى، وقلنا: إن هذه الشبهة هي شبهة عامة المتكلمين أيضاً، وبينا الرد عليها. والشبهة الرابعة: شبهة التشبيه والتمثيل، وكذلك بينا حقيقتها والرد عليها. وبعد بيان هذه الشبه بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أصل مقالة التعطيل ونفي الصفات، وأرخ لبدايتها، كما أنه بين جذورها العقدية والفكرية، وبين رحمه الله تعالى المنطلق الذي كان سبباً في نفي هؤلاء المعطلة لصفات الله سبحانه وتعالى. وذكر رموز أهل التعطيل في عصور مختلفة ومتنوعة، وسيكون حديثنا هنا بإذن الله تعالى حول هذا الموضوع. وقبل أن نبدأ في هذا الموضوع أحب أن نقرأ أولاً كلام شيخ الإسلام بشكل مختصر حول شبهات هؤلاء ضمن كلامه حول اللوازم التي تلزم المعطلة في نفيهم لصفات الله سبحانه وتعالى، ثم نتحدث مباشرة عن هذا الموضوع الذي سيكون محور حديثنا بإذن الله تعالى. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل، إنما تقلدوا أكثرها عن طواغيت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم، مثل: فلان! وفلان! أو عن من قال كقولهم لتشابه قلوبهم، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:213]. ولازم هذه المقالة: أن لا يكون الكتاب هدى للناس، ولا بياناً ولا شفاء لما في الصدور، ولا نوراً ولا مرداً عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقول هؤلاء المتكلفون إنه الحق الذي يجب اعتقاده لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصاً ولا ظاهراً، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]]. سبق أن بينا السبب في كون هؤلاء لا يعتمدون أصلاً في تلقيهم لقضايا العقائد على النصوص الشرعية، فإنهم يؤصلون العقائد أولاً بالأدلة العقلية حسب ظنهم، وهي ليست أدلة عقلية، وإنما هي جهالات وشبهات، ولهذا عندما التزموا هذه الأدلة العقلية فيما ظنوا ترتب على هذه الأدلة العقلية أنهم نفوا صفات الله سبحانه وتعالى، بعضها أو كلها. فهؤلاء أصلاً من حيث المنطلق لم يكن المنطلق الأساسي في نفي الصفات والنصوص آيات أشكلت عليهم وفهموها على غير وجهها، وإنما انطلقوا في بداية أمرهم من تأصيل فاسد، وهو أن العقل هو المصدر الأساسي في تلقي العقائد، فلما أسسوا هذه العقائد على العقل بعيداً عن الشرع، ترتب على هذا أنهم استخدموا أدلة عقلية كانت مؤثرة على النصوص الشرعية؛ لأنهم عندما استخدموا هذه الأدلة العقلية قال لهم الناس: أنتم بدليلكم العقلي هذا خالفتم النص الفلاني، والنص الفلاني، وخالفتم الصفة الفلانية. فقاموا بتأويل هذه النصوص الشرعية حتى توافق القواطع العقلية، ولهذا إذا ناقشوا شخصاً لا يعترف بغير الكتاب والسنة ويقول: الكتاب والسنة فيها أدلة عقلية كافية، يقول هؤلاء: إن نفي الصفات موجود ضمن الكتاب والسنة، ويأتون بالعمومات مثل: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. وكأن الإنسان إذا أثبت الصفات لزم منه أن يكون مشبهاً لله عز وجل بخلقه، وهذا فاسد فإنه {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]، و {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ولا سمي له، ومع هذا هو موصوف بالصفات، ولا تعارض بين إثباتنا للصفات ونفي المشابهة عن المخلوقات، فالله أثبت لنفسه الصفات ونفى المشابهة عن المخلوقات. فهذه الصفات التي نثبتها لله لا تشبه صفات المخلوقين؛ لأن الخالق لا يشبه المخلوقين بأي وجه من الوجوه، ولهذا ظن هؤلاء أن مجرد إثبات الصفات يلزم منه مشابهة المخلوقات، ولهذا اضطربوا اضط

أصول الإسلام وقواعده العظام ليست مجال نقد أو مناقشة

أصول الإسلام وقواعده العظام ليست مجال نقد أو مناقشة وبناءً على هذا يصبح أهل السنة هم أهل الحجة، وهكذا قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، يعني: ظاهرين بالحجة، وبالبرهان، وبالدليل العقلي، والنقل، وموافقة الكتاب والسنة دائماً، وفي كل حال ومع كل فرقة من فرق الضلال، وقد يكون لهم في بعض الأحيان سيف ودولة، وقد يكونون في بعض الأحيان أفراداً مبثوثين في العالم. وحينئذ نقول: إن أهل الحجة الصحيحة والمستقيمة هم أهل السنة والجماعة فقط ليس غيرهم، ونحن نؤمن بهذا عن علم ويقين، وهذا أمر لا يقبل الشك ولا يقبل الخلاف. وكثير من أصحاب الحوارات الذين يتكلمون عن الحوار، والذين يتكلمون عن التعددية في الآراء وفي الأفكار يقولون: كيف تجزم بأن رأيك هو الحق؟ نقول: هذا ليس رأيي، هذا إجماع أجمع عليه المسلمون، وهذا الإجماع الذي أجمع عليه المسلمون هو مقتضى الكتاب والسنة، والكتاب والسنة هما الحق الذي ما عداه فهو الباطل كما قال الله عز وجل: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32]. قال: ينبغي أن تقول إن هذا رأيي، ويمكن أن يكون رأي غيري صواباً. نقول: هذا الكلام لو قلناه لكفرنا بالله عز وجل، فإذا جاءك من يناقشك في أصول الإسلام أو في قواعده الكلية، أو في مسائل الدين، أو في الرأي، والأفكار، والاجتهادات، لا يفرقون بين القضايا اليقينية الإجماعية المتفق عليها، والقضايا التي لا تقبل الجدل ولا تقبل الخلاف بأي وجه من الوجوه، وبين القضايا التي هي مجال آراء واجتهاد، فالقضايا التي هي مجال آراء واجتهاد مثل القضايا الحياتية اليومية، هذه تناقش فيها حتى تتعب، ولا يهمنا هذا، لأن الذي يهمنا هو أن أصول الإسلام وقواعده العظام ليست مجال نقد ولا مناقشة. نحن نعتقد أن هذه الأصول من أصول الإسلام لم تأت اعتباطاً، وإنما هي مبنية بناءً عقلياً يقينياً لا يقبل النقاش، قد يتوصل إليه أحد فيكون عالماً، وقد يجهله البعض فيكون غير عالم، لكن أن نجعلها مجالاً للنقاش والحوار هذا غير صحيح، ولا يمكن أن يصح أبداً بأي وجه من الوجوه. قال المؤلف رحمه الله: [وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش، ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، لقد أبعد النجعة وهو إما ملغز أو مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين]. أي: إذا قلنا: إن الله مستو على عرشه في العلو، فقال لنا شخص: لا، قلنا: ما هو الدليل؟ قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، قلنا: وهل هذه الآية التي تتضمن أن الله لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا مثيل له تدل على أنه ليس في العلو؟ A لا تدل على هذا، بل على العكس، تدل على أنه لتميزه سبحانه وتعالى، وأنه لا سمي له ولا كفؤ له فهو فوق العالم جميعاً، وأن هذه السماوات والأرض -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- هي عبارة عن حلقة ألقيت في فلاة بالنسبة للكرسي الذي هو موضع قدمي الرب، والكرسي كحلقة ألقيت في فلاة بالنسبة للعرش الذي استوى عليه الله سبحانه وتعالى، وحينئذ فهو فوق العالم بكل ما تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة، والعقل، والفطرة، بل فطرة الدواب كما ذكر ابن القيم ذلك في اجتماع الجيوش الإسلامية. قال رحمه الله: [ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالاً. يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا! وكذا! فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها، فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه؟].

افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية

افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته ستفترق ثلاثة وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله)، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هو من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)]. حديث الافتراق حديث مشهور مروي عن عدد كبير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح صححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وصححه أيضاً الشاطبي في الاعتصام، وصححه عدد كبير من أهل العلم كـ الترمذي رحمه الله، والحاكم، وابن حبان وغيرهم، وهو حديث صحيح ومشهور. وقد يوجد في بعض الأسانيد في بعض رواياته ضعف، لكن مجمل الروايات التي رويت عن مجموعة كبيرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن هذا الحديث حديث صحيح لا شك فيه، وقد ضعف هذا الحديث ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى، وابن الوزير في كتابه العواصم والقواصم، ولا حجة لهم في تضعيف هذا الحديث، وبالذات تضعيف ابن الوزير في العواصم والقواصم مبني على ذكر هذا في خطبة كتابه، عندما تحدث عن عظمة هذه الأمة ومكانتها ومنزلتها، فأشار إلى هذا الحديث الذي فهم منه أن عامة الأمة من الضالين المهددين بالهلاك إلا مجموعة بسيطة، وهذا خطأ، فإنه ليس مفهوم الحديث أن هذه الأمة عندما تفترق على ثلاث وسبعين فرقة وأن الواحدة منها هي الناجية أن أكثر الأمة من الضالين. فإن هذه الفرقة الواحدة هي في الحقيقة أكثر الأمة، والاثنتان والسبعون فرقة الأخرى هي عبارة عن أعداد إذا قيست بالنسبة لحجم الأمة بالكلية هي قليلة وضعيفة لا سيما في الصدر الأول، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا هم أهل السنة والجماعة، فلما ظهرت الفرق ظهرت أعداد بسيطة جداً وقليلة، مع أن لها أسماء، فالخوارج كان عددهم محدوداً، ومعطلة الصفات كانوا أربعةً أو خمسةً منتشرين في البلاد الإسلامية، ولهذا كان يتتبعهم الخلفاء ويقتلونهم كما سيأتي معنا. وهكذا الحال بالنسبة للمرجئة، وهكذا الحال بالنسبة للمعتزلة، ولهذا فإن كل فرقة خرجت عن السنة من حيث العدد ومن حيث الكم ومن حيث انتساب مجموعة كبيرة من الأمة إليها؛ هم عدد قليل لا يمثل عامة الأمة التي التزمت بالسنة والجماعة، ثم أصبحت هذه الفرق تزيد قليلاً قليلاً، وفي عصور الجهل الذي انتشر في الأزمان المتأخرة كثرت هذه الطوائف وصاروا عدداً كبيراً، لكن من كان من هذه الأمة على طريقة عامة أهل السنة ولم يختلط بالقبوريين ولا بالتصوف ولم يكن من عامتهم فإنه من أهل السنة، وهم عدد كثير من الناس ولله الحمد، لا سيما في هذه الأزمان ممن ولد على الفطرة، ولم يكن له ارتباط بفرقة من هذه الفرق بحيث يكون من عامتهم. ولهذا كما قلت: إن هذه الفرق في بدايتها وإن كانت من حيث العدد كثيرة -باعتبار أن أهل الحق فرقة واحدة- لكن هذه الفرقة هم عامة المسلمين، وهؤلاء فرق بسيطة مع الزمن أصبح لهم أعداد كثيرة، لكن أيضاً مع عامة المسلمين يبقون مهما كثرت أعدادهم ليسوا بالكثرة التي تغطي عامة المسلمين. وكثير ممن تحدث ودافع عن الأشاعرة تكلم وقال: إن خمسة وتسعين في المائة من الأمة على طريقة الأشاعرة، وهذا قول فاسد باطل، ودندن عليه بعض المتأخرين وقال: لماذا يتكلم على الأشاعرة بهذه الطريقة مع أن عامة الأمة أشاعرة؟ وهذا ليس صحيحاً أبداً؛ لأن عقيدة الأشاعرة عقيدة دقيقة كلامية لا يفقهها إلا الدارس، والدارسون المتخصصون في العقائد وفي علم الكلام والمشتغلون بذلك قلة، حتى لو أن عدداً كثير من الناس درسوا هذه المناهج في المتوسطة أو في الجامعة أو في غيرها، ينساها في بعض الأحيان، وحينئذ فالقول بأن أكثر الأمة على عقيدة الأشاعرة قول باطل؛ لأن الرجل الذي يبقى على فطرته إذا سألته أين الله؟ أجابك أنه في السماء مباشرة، وهذا نقد كبير جداً في عقيدة الأشاعرة الذين ينفون علو الله عز وجل على خلقه. وهكذا الحال في بقية صفات الله عز وجل، عندما تتحدث مع الإنسان المسلم الذي لم يختلط بهذه الشبهات، أو ربما درسها في بعض فترات حياته ونسيها إذا أجاب بفطرته سيجيبك بمقتضى الكتاب والسنة. وهذا لا يعني أن هذه الفرق ليست خطراً، بل هي خطر؛ لأنه عندما توجد هذه الفرق، وخاصة عندما تتبناها دول ستنشرها في الناس نشراً كبيراً من خلال المساجد، والخطباء الذين يتبنون هذه المذاهب، ومن خلال حلقات التعليم في المدارس مثلاً، ومناهج الجامعات؛ لأن الأجيال عندنا كلها تمر على التعليم. ولهذا فإن المخطط دنلوب الإنجليزي عندما جاء أيام الاستعمار الإنجليزي على مصر وضع خطة لمناهج التعليم، وتأثر بها الناس تأثيراً كبيراً؛ لأن الأجيال كلها تمر على التعليم، وحينئذ ستتأثر ولو بنوع من التأثر، فإذا دعم ذلك اهتمام من الشخص بهذه القضية، حينئذ ربما يكون هذا مؤثراً عليه

أصل مقالة التعطيل وذكر رءوس أصحابها

أصل مقالة التعطيل وذكر رءوس أصحابها قال المؤلف رحمه الله: [فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة؟ وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين. ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، والضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام هو الجعد بن درهم، وأخذ عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه].

ترجمة الجعد بن درهم

ترجمة الجعد بن درهم أول من أظهر نفي الصفات هو الجعد بن درهم، ولو أخذنا ترجمة الجعد بن درهم، وتتبعنا كلام العلماء عليه، لوجدنا أن هذا الرجل ليس من أهل العلم، مع أنه نشأ في أماكن العلم وانتشار الحديث وانتشار السنة وظهورها. هذا الرجل لم يكن رجلاً عالماً مشهوراً، ولا إماماً، ولا داعية مصلحاً، وإنما هو رجل اشتغل بتتبع المتشابهات، وتأثر تأثراً كبيراً بأصحاب الأديان الأخرى، فنتج من ذلك هذه المقالة الخبيثة التي هي مقالة: خلق القرآن، ونفي صفات الله سبحانه وتعالى. يمكن أن نأتي بترجمة الجعد بن درهم من لسان الميزان للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، هذا الكتاب هو عبارة عن إكمال أو تذييل على كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال للحافظ الذهبي رحمه الله، يقول رحمه الله في ترجمة الجعد بن درهم: الجعد بن درهم عداده في التابعين. يعني: كان في طبقة التابعين، فلو أن هذا الرجل استغل هذه الفرصة وطلب العلم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكبار التابعين لصار من كبار التابعين كـ سعيد بن المسيب والزهري وغيره؛ لأنه كان في زمن الدولة الأموية وهو المربي لآخر حكام الدولة الأموية الذي هو مروان بن محمد، الذي يلقب بـ مروان الحمار، وسبب تلقيبه بـ مروان الحمار أنه كان رجلاً صبوراً يتحمل، فلقب بهذا اللقب، وله لقب آخر وهو الجعدي نسبة إلى المربي له الجعد بن درهم، فيسمى مروان الحمار، ويلقب: بـ الجعدي أيضاً. يقول: مبتدع ضال زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر، والقصة مشهورة. وهي قصة قتل خالد بن عبد الله القسري له، وكان خالد بن عبد الله القسري من عمال الأمويين على العراق. وهذه القصة رواها البخاري رحمه الله في خلق أفعال العباد، ورواها غيره، وفي بعض أسانيدها مقال من ناحية الصناعة الحديثية، إلا أن القصة لشهرتها وتناقل الناس لها صارت قصة مشهورة، ولهذا عبر الحافظ بقوله: والقصة مشهورة، يعني: أنه لا يتوقف على ثبوتها بالإسناد فقط. ومن هنا ننبه إلى قاعدة مهمة جداً: بعض الناس يظن أن ثبوت الرواية وعدم ثبوتها يتوقف على الإسناد فقط، وهذا خطأ، فإن الإسناد وسيلة من وسائل ثبوت الرواية، وهناك وسيلة أخرى وهي: أن القصة أو الحدث إذا كان مشهوراً عاماً يتناقله الناس جيلاً بعد جيل، فإن هذا يسمى الرواية المستفيضة المتناقلة، وهذه الرواية ثابتة، ومقتضاها صحيح، حتى لو كانت من ناحية الصناعة الحديثية ليست صحيحة؛ لأن كتب الرواية لأهل السنة أحرق كثير منها في زمن التتار، ودمر كثير من دور العلم، ومزقت كثير من كتب أهل العلم، وقتل كثير منهم وأحرقت مكتباتهم، وقد كانت تحمل كثيراً من الطرق والرواية، لكن هل يعني هذا أن هناك أحاديث أو أخباراً كثيرة صحيحة يحتاجها الإنسان في عبادته لم تصل إلينا؟ لا، فإن حجة الله عز وجل كافية للعباد إلى قيام الساعة، لكن المقصود هو أن الرواية في بعض الأحيان قد تروى عند أكثر من ألف عالم أو ألفين أو ثلاثة آلاف أو أقل من ذلك. فإذا كان هناك مثلاً حرق وتدمير للكتب حسب المعروف تاريخياً، فستدمر من طرق هذه الرواية مائتان أو أكثر أو أقل مثلاً، وحينئذ تقل عدد الطرق لهذا الحديث أو ذاك، وحينئذ فالصحيح بالذات في القضايا الإخبارية والقصص المشهورة لا يصح الاعتماد فيه على مجرد الإسناد المنقول، فقد يكون هناك أسانيد أخرى منقولة تثبت هذه الرواية لكنها أحرقت، والذي يجعلنا نذكر هذا الاحتمال هو شهرة القصة وانتشارها في كتب أهل العلم، وكونهم يسوقونها في مجال الاحتجاج، ومجال أخذ العبرة والفائدة منها، مثل هذه القصة التي هي قصة خالد بن عبد الله القسري، فقد ذكر بعض طلاب العلم في كتاب له اسمه: قصص لا تثبت، ونقل أنها من حيث الإسناد فيها ضعف، وكلامه صحيح، لكن مثل هذه القصة لا يتوقف ثبوتها على نقلها بالإسناد. وهكذا الحال في مثل شخصية عبد الله بن سبأ اليهودي الذي جاء من اليمن، والذي تكونت له طائفة تسمى: الطائفة السبئية، وأثر تأثيراً كبيراً في عقائد الشيعة، هذا الرجل عندما ترجعون إلى كتب أهل السنة المتقدمة تجدون أنهم يثبتونه، وأنهم يتكلمون عنه على أنه حقيقة تاريخية، وأن له تأثيراً، وهكذا المتقدمون من الشيعة. فلما جاء المتأخرون أراد بعض الشيعة نفي ارتباط الشيعة باليهود، فتتبع شخصية عبد الله بن سبأ، فعندما جمع الطرق من حيث الإسناد، ومن حيث الصناعة الحديثية وجد أنها من رواية سيف بن عمر التميمي وهو مؤرخ مشهور له كثير من الكتب التاريخية، إلا أن أهل الحديث يضعفونه من جهة الرواية، وحاله أحسن من حال الو

ترجمة الجهم بن صفوان

ترجمة الجهم بن صفوان يقول الذهبي رحمه الله: الجهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمت أنه روى شيئاً لكنه زرع شراً عظيماً. إذاً: هو ليس من أهل الرواية، وليس من المشتغلين بالعلم الشرعي، وليس من طلاب العلم الذين يبحثون عنه ثم حصل عنده زيغ، فالقضية أن هذا الرجل كان عامياً من العوام، دخل مع مجموعة من الفلاسفة والضالين وتأثر بهم، فصارت هذه المقالة التي ظهرت عنده. وكان قتل جهم بن صفوان سنة ثمان وعشرين -يعني: بعد المائة- وسببه أنه كان يقضي في عسكر الحارث بن شريح الخارج على أمراء خراسان، فقبض عليه نصر بن سيار، فقال له: استبقني -يعني: اجعلني حياً- فقال: لو ملأت هذا الملأ كواكب وأنزلت إلي عيسى بن مريم ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، ولا تقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت! وأمر بقتله، وكان جهم من موالي بني راسب، وكتب للحارث. والصحيح: أن قتل الجهم كان بسبب عقيدته الضالة، وليس بسبب خروجه على بني أمية، وإن كان خروجه على بني أمية من ضمن الأسباب التي كانت سبباً في قتله؛ لأن بني أمية وإن كان عندهم انحرافات في الأموال مثلاً، وعندهم انحرافات في تولية المناصب ونحو ذلك، إلا أنهم كانوا يتتبعون هؤلاء الزنادقة ويقتلونهم، فقتل غيلان الدمشقي القدري المشهور، وقتل الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان وغير هؤلاء على يد الأمويين؛ بسبب عقائدهم الضالة والمنحرفة. إذاً: هؤلاء ليسوا من طلاب العلم كما قلت، وذكر الإمام أحمد رحمه الله في كتابه الرد على الجهمية قصة للجهم بن صفوان، وهو أنه التقى بطائفة من السمنية من فلاسفة الهند وجلس معهم، وهؤلاء كانوا ينكرون العقليات، ولا يثبتون إلا الحسيات، فسألوه عن ربه: هل ذاقه؟ هل شمه؟ هل رآه؟ هل لمسه؟ فنفى ذلك فقالوا: إذاً: أنت ليس لك إله، فعكف في بيته أربعين يوماً لا يصلي، ثم خرج إلى الناس وقال: ربي هو هذا الهواء الموجود في كل مكان ليس له اسم ولا صفة.

إسناد عقائد التعطيل والنفي

إسناد عقائد التعطيل والنفي قال رحمه الله: [وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم]. هذا إسناد نفاة الصفات وارتباطه باليهود، أراد ابن تيمية رحمه الله أن يربط بين هذه المقالات التي ظهرت في الأمة، مع أنها لم تكن معروفة، فيريد أن يعرف من أين جاءت هذه المقالات؟ فبدأ يتتبع رحمه الله مصادر هذه المقالات. فذكر من مصادرها: أن هؤلاء أخذوها من اليهود هذا مصدر. المصدر الثاني: أنهم أخذوها من الصابئة. المصدر الثالث: أنهم أخذوها من الوثنيين المشركين، مثل فلاسفة اليونان. هذه ثلاثة مصادر أشار ابن تيمية رحمه الله إلى أن نفاة الصفات أخذوا منها.

علاقة القول بخلق القرآن باليهود

علاقة القول بخلق القرآن باليهود فأما اليهود فذكر ابن تيمية رحمه الله أن الجهم أخذ هذه المقالة عن الجعد، وأن الجعد أخذ هذه المقالة عن بيان بن سمعان، وأن بياناً أخذها عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم، وأن طالوت أخذ مقالته عن لبيد بن الأعصم الذي هو من بني زريق، وهو الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا الإسناد ذكره بإسناد لا بأس به ابن عساكر الدمشقي في تاريخ دمشق، وابن عساكر رحمه الله له كتاب كبير في تاريخ دمشق يصل إلى ستين مجلداً تقريباً أو سبعين مجلداً، نقل بإسناده أن الجهم أخذ عن الجعد، وأن الجعد أخذ عن بيان وهكذا. وبيان بن سمعان الذي أخذ عنه الجعد هو رجل من غلاة الشيعة كان يقول إن علياً هو الإله، وإن الله عز وجل حل في علي، فلما مات علي حل في ابنه محمد بن الحنفية، وادعى النبوة واستدل على نبوته بقوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:138]، هكذا يفسر النصوص كما يهوى وكما يشتهي، وهو زنديق من الزنادقة المعروفين. وطالوت هذا رجل يهودي ذكر المحقق أنه لم يجد له ترجمة، وقد أشار ابن عساكر الدمشقي رحمه الله في تاريخ دمشق إلى أن طالوت هذا صنف كتاباً في خلق التوراة، وأن التوراة ليست من كلام الله بل هي مخلوقة. وهذا يؤكد أن بياناً أخذ خلق القرآن من طالوت الذي قال بخلق التوراة عند اليهود، فحول مقالة خلق التوراة إلى خلق القرآن، ومن هنا أدخلت في الديانة الإسلامية من بيان الذي نقلها عن اليهوديين: طالوت ولبيد، اللذان كانا يقولان بخلق التوراة، يقول ابن عساكر: ولـ طالوت هذا كتاب في خلق التوراة. لكن هنا إشكال عرضه بعض الباحثين، وهو أن المعروف عن اليهود هو التشبيه، وقد سبق أن تحدثنا عن هذا الموضوع وقلنا إن اليهود مشبهة، وإن أوائل الشيعة كانوا مشبهة؛ لأنهم قريبو عهد بالسبئية الذين هم من اليهود كما هو معلوم، وأول من أشاع التشبيه في الأمة الإسلامية هو هشام بن الحكم الرافضي الذي هو على عقيدة الشيعة، وكان يرى أن الله عز وجل في صورة إنسان. فإذا كانت عقيدة اليهود التشبيه فكيف أخذ هؤلاء نفي الصفات من اليهود؟ والجواب على هذا: أن اليهود ليسوا طائفة واحدة في هذا الموضوع، فالذين بدلوا التوراة وحرفوها في بداية الأمر كانوا على عقيدة المشبهة، لكن هناك طوائف من اليهود لا سيما الذين كانوا يسكنون في حوض البحر الأبيض المتوسط، كانوا معطلة تأثروا بالفلسفة اليونانية. ولهذا يذكر ابن تيمية رحمه الله في مواضع من كتبه أن المتأخرين من اليهود ممن كان في زمن الإسلام مثل: الميمون بن موسى -وذكر نماذج من اليهود الذين كانوا في الأندلس- كانوا على عقيدة المعتزلة والجهمية في نفي الصفات. وهذا يدل على أنهم أخذوا العقيدة الموجودة عند نفاة الصفات من اليهود. إذاً اليهود يمكن تقسيمهم إلى قسمين: قسم كانوا مشبهة وهم الأغلب الذين حرفوا التوراة، وقسم تأثروا بالفلسفة اليونانية وهم المعطلة، ومنهم هؤلاء.

العلاقة بين عقائد الجهمية والصابئة

العلاقة بين عقائد الجهمية والصابئة هذا ما يتعلق بعلاقة هذه المقالة باليهود، وأما علاقة هذه المقالة بالصابئة، فالصابئة هم الذين يعبدون الكواكب، وعلماء الصابئة فلاسفة كانوا يرون أن هذه الكواكب جزء من الإله، وأنها عبارة عن نفس وروح مجتمعة في الكواكب السبعة الموجودة في السماء، وإلى الآن توجد لهم آثار في بلاد الشام على شكل هياكل يبنونها، بعض هذه الهياكل يتعبدون فيها للزهرة، وبعضها يتعبدون فيها للمريخ، وبعضها يتعبدون فيها للشمس. وهم الذين بعث الله عز وجل فيهم إبراهيم عليه السلام، وكل حاكم فيهم يلقب بالنمرود فالنمرود ليس علماً على شخص محدد، وإنما هو لقب لكل ملك من ملوك الصابئة مثل: النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، فغلبه وبهته إبراهيم بالحجة والبرهان. فاسم النمرود كما سيأتي معنا مثل: اسم كسرى، ومثل: اسم هرقل، ومثل: اسم النجاشي، هذه الأسماء أسماء لكل من حكم طائفة من الأمة، فكسرى اسم لكل من حكم الفرس كما سيأتي معنا، فالنمرود هو اسم لكل من حكم الصابئة، والصابئة علماؤهم فلاسفة يرون أن هذه الكواكب جزء من الإله، فيتعبدون لها وينقسمون إلى قسمين: عباد الهياكل، وعباد الأصنام. فعباد الهياكل هم الذين يتعبدون مباشرة لهذه الكواكب، وعباد الأصنام يقولون: لا يمكن أن نتعبد لهذه الكواكب مباشرة، ولكن نصنع على هيأتها صنماً، هذا الصنم الذي نصنعه يقرب أعمالنا لهذه الكواكب، وهذه الكواكب تنقل أعمالنا للإله الأعظم الذي هو الله حسب ظنهم. ولهذا كان قوم إبراهيم على طائفتين، وناقشهم إبراهيم في الجهتين، عندما أراد أن يناقش أصحاب عباد الكواكب، {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، ويقول العلماء: إن إبراهيم استدل بسقمه حسب قولهم بأن هذا السقم من النجوم التي في السماء، ومناقشة إبراهيم لهؤلاء موجودة في سورة الأنعام عندما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي، وهذا ليس نظراً من إبراهيم للوصول إلى إثبات وجود الله عز وجل، وإنما هي مناظرة ومناقشة لقومه عندما رأى الشمس بازغة، {قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ} [الأنعام:78]، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]. فهذه مناقشة كان يظهرها أمام قومه الذين يعظمون الكواكب، فإذا نظر إلى القمر قال: هذا ربي يعني: أنتم تقولون إن هذا ربي، ((فَلَمَّا أَفَلَ))، فينظر إلى قومه ويقول: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76]، يعني: كيف يأفل الرب ويختفي عن عبيده؟ ولهذا فإن الصحيح كما رجح ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في التفسير أنه كان مناظراً وليس ناظراً، خلافاً لما رجحه الطبري رحمه الله في جامع البيان، فإنه رجح أنه ناظر يريد أن يستدل، وهذا غير صحيح، فإن سياق الآية لا يدل على ذلك. هذا بالنسبة لمناقشته للصابئة في موضوع الكواكب، وأما مناقشته للصابئة في موضوع الأصنام فإن والد إبراهيم الذي هو آزر كان ينحت الأصنام، وهذا يدل على أنهم من الطائفة الثانية الذين هم عباد الأشخاص أو عباد الأصنام، ومناقشة إبراهيم لهم هو عندما حطم هذه الأصنام وكسرها، وعلق فأسه على الصنم الكبير منهم، فلما أقبلوا إليه، {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء:59]، قال: {فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:63 - 64]، ثم رجعت إليهم حمية الجاهلية وقالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، ثم أرادوا تحريقه بالنار كما هي في القصة المشهورة. كان الجعد بن درهم من أهل حران، وكانت حران مليئة بالصابئة، فتأثر بهم؛ لأن هؤلاء الصابئة نفاة للصفات.

ترجمة للفارابي من سير أعلام النبلاء

ترجمة للفارابي من سير أعلام النبلاء هذه ترجمة للفارابي من سير أعلام النبلاء فيها درس عظيم جداً نبهت عليه في دروس متعددة، وهو أن هؤلاء الفلاسفة أمثال الفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن الطفيل وغيرهم من الفلاسفة، لم يدرسوا العلم عند أهله من المتخصصين، وإنما درسوا على اليهود والنصارى، فتأثروا بهم، فهم يشبهون العلمانيين الآن، فهم يمثلون هذه الطبقة الملحدة التي تريد تغيير عقائد المسلمين. كما أن العلمانيين الآن يريدون تغيير عقائد المسلمين في قضايا الحكم، وفي قضايا الأموال، وفي قضايا المرأة، وفي قضايا متعددة، كما هو معروف من صراع أصحاب الدعوة الإسلامية مع هؤلاء المجرمين الذين يريدون تضليل هذه الأمة. هذه ترجمة فيلسوف من هؤلاء الفلاسفة ذكره الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء، يقول رحمه الله: الفارابي شيخ الفلسفة الحكيم -الحكيم ليس مدحاً له وإنما هو وصف؛ لأنهم يسمونهم الحكماء- أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أزلغ التركي الفارابي المنطقي، أحد الأذكياء -كان ذكياً لكن لم يكن زكياً- له تصانيف مشهورة، من ابتغى الهدى منها ضل وحار، منها تخرج ابن سينا، نسأل الله التوفيق. وقد أحكم أبو نصر العربية بالعراق -لأنه ليس عربياً- ولقي مكتب بن يونس صاحب المنطق. متى بن يونس رجل نصراني كان رئيس المناطقة في زمانه، توفي في بغداد في سنة ثلاثمائة وثمانية وعشرين -يعني: في فترة مبكرة، في زمن الإمام النسائي رحمه الله، وزمن الأئمة الكبار أصحاب الكتب المعروفة. قال: لقي متى بن يونس صاحب المنطق فأخذ عنه، وسار إلى حران عند الصابئة، فلزم بها يوحنا بن جيلان النصراني، وسار إلى مصر، وسكن دمشق. أين هذا من أئمة أهل الحديث في زمانه؟ فقد كانت دمشق مليئة بالعلماء الكبار، علماء اللغة، وعلماء الفقه، وعلماء الحديث. لو تنظرون لهذه الفترة التي يدرس فيها على النصارى، ويذهب إلى أماكن الصابئة والمشركين لوجدتم كبار العلماء المشهورين مثل ابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم من أهل العلم الكبار كانوا في تلك الفترة، وكانوا قريبين من الفارابي، لكن العلم الذي يدرسه الفارابي غير العلم الذي يدرسه هؤلاء. فهو لا يريد علم أهل الحديث المعقدين كما يتصور، وإنما يريد علماً جديداً كان من أعظم أسباب انحراف هذه الأمة في مجال العقائد، كما يفعل أشباهه من العلمانيين في هذا العصر، فأنت تجد العلماء في كل بلد من بلاد المسلمين، لكنهم يتركونهم ويعتقدون أنهم من المتخلفين الرجعيين الذين لا يفقهون شيئاً، ثم يذهبون إلى أوروبا ويدرسون على المستشرقين، ويأتي أحدهم ويؤلف الكتب في الإسلام، ويتكلم باسم الإسلام، ويحرف أحكام الإسلام، ويظن أنه على هدى كما يفعل هذا الضال. فقيل: إنه دخل على الملك سيف الدولة ابن حمدان وهو بزي الترك، وكان فيما يقال يعرف سبعين لساناً، أي: سبعين لغة، وكان والده من أمراء الأتراك فجلس في صدر المجلس، ولا يشترط أن يكون الضال أحمق، فهناك أذكياء كثيرون ضالون منحرفون، فالذكاء وحده ليس مدحاً ولا قدحاً، وإنما بحسب ما يستعمل فيه، فإذا استعمل في الخير صار مدحاً لصاحبه، وإذا استعمل في الشر صار ضلالاً والعياذ بالله وخطراً عليه. وأخذ يناظر العلماء في فنون، يعني: ناظر العلماء الذين كانوا في زمانه في المنطق وفي الآداب بالذات، فعلا كلامه، وبان فضله، وأنصتوا له، ثم إذا هو أبرع من يضرب بالعود، إذ كان موسيقياً كبيراً، وكان له ألحان اخترعها، وكان من المتقنين للعود، إذاً: هذا مغن وليس بعالم. ولهذا تجدون أنه أمثال هؤلاء الذين تكلمون في الدين من العلمانيين وبعضهم شغال في الموسيقى، وبعضهم شغال في الأفلام، وبعضهم شغال في أي بلوى من هذه البلايا التي هي من صنع الفساق. فأخرج عوداً من خريطة وشده ولعب به ففرح كل أهل المجلس. وهنا يكون الخطر، فانظروا كيف كانت مجالس هؤلاء مع الأسف، يعني: مجالس سيف الدولة ابن حمدان، بدلاً من أن تكون مجالس ذكر جعلوها مجالس لهو وغناء وسماع للمنطق والفلسفة والعقائد الضالة. فأخرج عوداً من خريطة وشده ولعب به ففرح كل أهل المجلس وضحكوا من الطرب، ثم غير الطرب فنام كل من هناك حتى البواب، فقام وذهب. يعني: لديه من الألحان الموسيقية ما هي مبنية على دراسة نفسية، فعندما يضرب بالعود من الممكن أن يجعلهم يضحكون، ومن الممكن أن يضرب ويجعلهم كلهم يبكون، ومن الممكن أن يضرب ويجعلهم كلهم ينامون، يعني: مبنية بناءً دقيقاً من الناحية النفسية، فهي علم من العلوم. ويقال: إنه أول من اخترع قانون الآلة المشهورة. وكان يحب الوحدة، ويصنف في مواضع النزهة، وقل ما يبيض منها، وكان يتزهد زهد الفلاسفة، ولا يحتفل بملبس و

شرح الفتوى الحموية [11]

شرح الفتوى الحموية [11] لقد دأب اليهود وأهل النفاق على إفساد الأمم والشعوب والعقائد والأخلاق ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، وقد كان لهم دور كبير في ظهور الفرق الضالة في حياة المسلمين، مثل الجهمية والشيعة، وقد غذوها بالأفكار الهدامة التي تكفل لهم ضلالهم وخروجهم من الدين.

أهمية الكشف عن جذور الفرق الضالة

أهمية الكشف عن جذور الفرق الضالة تحدثنا في الدرس الماضي عن أصل مقالة التعطيل، وبينا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه هذا وفي غيره من كتبه عندما يناقش آراء الفرق الضالة يبين جذور هذه الفرق؛ لأن الفكرة قد تكون مأخوذة من اليهود أو النصارى أو من بعض المشركين، مثل أصحاب الفلسفة اليونانية أو الهندية أو غيرها، فهو يحرص رحمه الله تعالى كثيراً على بيان جذور هذه الأفكار والمناهج. وهذه الطريقة طريقة علمية وممتازة، وهي تدل على عمق كبير في دراسة الأفكار والمناهج والآراء والفلسفات؛ لأن الأفكار تنتقل مع الناس ويتناقلها الناس جيلاً بعد جيل، وتنمو وتتطور كما تنمو الكائنات الحية، وقد تكون الفكرة بصورة ما في جيل من الأجيال ثم تنتقل إلى جيل آخر بصورة أخرى، وأصلها واحد. ولهذا نلاحظ أن شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه منهاج السنة ربط ربطاً كبيراً بين مذاهب الشيعة ومذاهب اليهود، وهذه الطريقة أصلاً كانت معروفة عند السلف رضوان الله عليهم، فقد نقل ابن شاهين في كتابه اللطيف في السنة -وهو كتاب مطبوع- عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول عن أبيه عن الشعبي رضي الله عنه أثراً طويلاً في المقارنة بين الشيعة وبين اليهود في الآراء والأفكار والمقالات ونحو ذلك. وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما تلمس أصل هذه المقالة الطارئة على المجتمع الإسلامي، فإن المجتمع الإسلامي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفي زمن التابعين من بعدهم على طريقة واحدة، ومنهج واحد، وأسلوب واحد في التعامل مع الكتاب والسنة، وفي الآراء العقدية، خاصة ما يتعلق بالله عز وجل وربوبيته وأسمائه وصفاته وألوهيته، والإيمان بالملائكة والرسل والكتب، وما يتعلق بقضايا العقائد فقد كانوا على طريقة واضحة وبينة، ولم تكن هناك مجادلات ومناظرات وخلافات بين الجيل الأول في مسائل العقائد.

سند أهل البدع

سند أهل البدع فأراد شيخ الإسلام رحمه الله أن يتلمس منشأ هذه المقالة وجذورها الفكرية، فذكر أن أول من قال بهذه المقالة في الإسلام هو الجعد بن درهم، ثم نقل ما ذكره ابن عساكر الدمشقي في تاريخ بغداد من أن الجعد بن درهم أخذ مقالته هذه عن بيان بن سمعان الشيعي المعروف الذي ادعى النبوة، وأخذها بيان بن سمعان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم (في مشط ومشاطة)، كما ثبت ذلك في صحيح الإمام البخاري رحمه الله تعالى.

بيان أن أصل التعطيل والتشبيه من اليهود

بيان أن أصل التعطيل والتشبيه من اليهود وهذا الإسناد ليس هو الوحيد الذي يبين أن مقالة التعطيل مأخوذة عن اليهود، بل إن الإنسان عندما يقرأ في أفكار اليهود ومناهجهم يجد أن اليهود كانوا على طريقتين فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وما يتعلق بالتعامل مع نصوص الكتاب المنزل عليهم. المنهج الأول: وهو منهج أكثر اليهود، وهو أنهم كانوا يشبهون الله بخلقه، ويرون أنه على صورة إنسان، كما قال ذلك هشام بن الحكم الرافضي المشهور، الذي كان أول من أتى بالتشبيه في الأمة، وكان أول المشبهة من فرق الأمة هم الشيعة الذين أخذوا مقالتهم عن عبد الله بن سبأ اليهودي المعروف. المنهج الثاني: منهج التعطيل، وهذا الاتجاه كان اتجاهاً معروفاً وكبيراً، ولهذا نجد أن المتأخرين من اليهود الذين كانوا في الأندلس وفي المشرق الإسلامي يميل إلى مذهب الجهمية ومذهب المعتزلة، كما ذكر ذلك ابن تيمية رحمه الله في الجواب الصحيح، وفي غيره من كتبه. مما يؤكد أيضاً صحة هذا الإسناد أن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم ألف كتاباً في القول بخلق التوراة، فنقلت عنه إلى المسلمين عن طريق بيان بن سمعان، ونقلها عنه الجعد بن درهم، ونقلها عن الجعد بن درهم جهم بن صفوان، فقالوا بخلق القرآن، والتوراة هناك يقابلها القرآن عند المسلمين، وهذا يؤكد كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.

الكلام على الصابئة

الكلام على الصابئة وقد أشار ابن تيمية رحمه الله إلى أن الجعد بن درهم كان من أهل حران -وحران هذه مدينة من مدن العراق الآن- وهي منطقة مشهورة بالصابئة، والصابئة هم القوم الذين بعث إليهم إبراهيم عليه السلام، وقد ذكر الله عز وجل في القرآن عن طائفة من الصابئة أنهم من المؤمنين، وأنهم ليسوا كلهم كفاراً، ولكن المقصود بالصابئة هنا هم الكفار الذين كانوا يعبدون الكواكب والأصنام، وهؤلاء الصابئة كان علماؤهم فلاسفة، وكان هؤلاء الفلاسفة يعتقدون أن الأجرام التي في السماء ليست مواد محسوسة وإنما هي روحانيات، وأنها عبارة عن عقل ونفس، وكانوا يرون أن هذه الكواكب الموجودة في السماء صدرت عن الإله المبدع الأول، الذي أبدع بقية الكائنات بعد ذلك، وأن هذه الكواكب صدرت عنه كصدور الشعاع من الشمس، فهو يحمل جميع مقومات المبدع الأول من القدرة والتأثير والخلق والعلم والحياة، وما إلى ذلك من صفات المبدع الأول.

أقسام الصابئة

أقسام الصابئة ثم انقسموا بعد ذلك إلى قسمين في كيفية التعبد لهذه الكواكب: فقسم منهم عباد الكواكب الذين قالوا: بأنه يجب علينا أن نعبد هذه الكواكب مباشرة، وأنه بإمكان الإنسان أن يعبدها مباشرة بدون وسائط بينه وبينها، وهؤلاء هم عباد الكواكب الذين ناظرهم إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام، عندما: {رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ} [الأنعام:78]، وما بعدها من الآيات المتعلقة بمناظرة إبراهيم لقومه، فهذه المناظرة كانت لهذا الصنف من الصابئة. والقسم الثاني: كانوا يرون أن الإنسان لا يمكن له أن يتعبد لهذه الكواكب مباشرة، وإنما ينبغي له أن يتخذ أصناماً وهياكل يتعبد لها، وهذه الهياكل والأصنام تنقل هذا التعبد لهذه الكواكب، وهذه الكواكب تنقل هذا التعبد بطبيعة الحال إلى المبدع الأول الذي هو الله سبحانه وتعالى، ومن هنا ظهر صنف من الصابئة يعبدون الأصنام، وكان منهم أبو إبراهيم عليه السلام الذي كان ينحت الأصنام، ومناظرة إبراهيم لهذا الصنف معروفة، فإنه دخل عليها وهي في بهو عظيم وحطمها وكسرها، ثم وضع الفأس على الكبير الذي هو زعيمهم؛ ليكون هو مدار المناظرة والمناقشة التي صارت بينه وبينهم، فلما أقبلوا ووجدوا هذه الأصنام مكسرة: {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا} [الأنبياء:59]؟ فذكر رجل أنه سمع فتى يذكرهم -يعني: يذكر هذه الأصنام- يقال له: إبراهيم، فناقشوه فقال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63]، فطلب منهم أن يسألوا هذه الآلهة إن كانوا ينطقون، فقالوا له {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65] فاحتج عليهم بكيف تعبدون هذه الأصنام وهذه الآلهة التي لا تنطق ولا تتكلم؟ فرجعوا {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} [الأنبياء:65]، وقالوا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:65]، ثم هددوه بأن يضعوه في النار الكبرى التي أوقدوها، في قصة مشهورة لإبراهيم عليه السلام.

عقيدة الصابئة في الله سبحانه وتعالى

عقيدة الصابئة في الله سبحانه وتعالى وهؤلاء الصابئة كانوا يرون أن الإله ليس له وصف ثبوتي، وإنما ينبغي أن يجرد من جميع الأوصاف كما هي طريقة الفلاسفة، فأخذ الجعد بن درهم فكرة نفي الصفات عن المعبود من الصابئة، وقال: هذه الصفات التي ذكرها الله عز وجل في القرآن أنها له ليست صفات ثبوتية يستحقها سبحانه وتعالى، وينبغي علينا أن نؤولها وننفيها جميعاً.

بيان أن أهل البدع لم يعلموا العلم الشرعي وإنما درسوا عند اليهود والنصارى

بيان أن أهل البدع لم يعلموا العلم الشرعي وإنما درسوا عند اليهود والنصارى والذي يدل على صحة هذا التحليل الذي أشار إليه شيخ الإسلام رحمه الله هو: أن طريقة الجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيرهما من الفلاسفة في التلقي والمناقشة وفي استمداد الأفكار ليست كطريقة عامة المسلمين في زمانهم، فإن عامة المسلمين في زمانهم كانوا يتفقهون على النصوص الشرعية ويدرسونها، وقد يختلفون في فهمهم لنص من النصوص، ولكن الطريقة التي ابتدعها هؤلاء هي أنهم كانوا يدرسون على اليهود وعلى النصارى، -كما كان يدرس الفارابي - ومع وجود أئمة السنة وعلمائها في ذلك الزمان فقد كانوا يرون أن هؤلاء ليسوا من أهل العلم، وأنهم سطحيون وسذج لا يفهمون شيئاً، وأن العلم الحقيقي هو دراسة العلوم الإنسانية الموجودة عند اليهود والنصارى والوثنيين والفلاسفة والمشركين، فكونوا من خلال هذه الدراسات عقيدة جديدة، ثم أتوا إلى النصوص الشرعية فتلاعبوا بها بالتأويل، حتى توافق المعتقد الجديد الذي كونوه بتلك الطريقة الجديدة من الدراسة. فكلام شيخ الإسلام ابن تيمية هذا كلام دقيق، وهو رحمه الله قد سبر حال هؤلاء وعرف طريقتهم في الدراسة والتلقي، وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله في كتابه الرد على الزنادقة والجهمية أن الجهم بن صفوان أصلاً لم يكن معروفاً بطلب العلم النبوي الصحيح وعلم الإسلام، ولم يحفظ القرآن والسنة ثم طلب العلم وحصل له الانحراف بعد ذلك، فلم يعرف بهذا، وإنما عرف بذهابه إلى السمنية، وهم طائفة من فلاسفة الهنود، وكانوا لا يؤمنون إلا بالحسيات التي يمكن للإنسان أن يشعر بها، مثل الرؤية والسماع والتذوق والشم واللمس، وأما الغيبيات فكانوا لا يؤمنون بذلك، وكانوا يرون أنها خرافات وأوهام يتصورها الناس وهي لا حقيقة لها -وما زال جزء من الفلاسفة الآن في الغرب يدينون بهذه الفكرة التي كانت عليها هذه الطائفة- فلما جلس معهم الجهم بن صفوان شككوه وقالوا: إلهك هذا الذي تعبده هل ذقته؟ هل لمسته؟ هل رأيته؟ هل شممته؟ هل سمعته؟ فأجاب بالنفي في كل سؤال من هذه الأسئلة، قالوا: إذاً ليس لك إله، فاعتكف في بيته أربعين يوماً لا يصلي، ولا يشهد الصلاة مع المسلمين، ثم خرج على الناس يفكر بما هو مخزون ذاكرته، ولم تكن مادة تفكيره القرآن والسنة وغير ذلك، وإنما كانت مجرد الفهم الذي يتصوره، فخرج إلى الناس وقال: إلهي هو هذا الهواء ليس له اسم ولا صفة، وكون هذه الطائفة الجهمية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة، بقايا أهل دين النمرود، والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم]. وهؤلاء الصابئة كانوا من أهل السحر، والذي يعرف كتب السحر يجد أنهم دائماً يرددون نفس الكلمات التي يرددها أولئك الصابئة، مثل كلمة الروحانيات مثلاً، وتجد أن كثيراً من كتب السحر دائماً ترتبط بالكواكب السبعة مثلاً، أو بالأجرام السماوية، أو بتصور تأثير هذه الأجرام على الحوادث الأرضية، فكان الصابئة من أهل السحر كما كان اليهود من أهل السحر أيضاً.

ألقاب الملوك

ألقاب الملوك قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والنمرود هو ملك الصابئة الكنعانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك القبط الكفار، والنجاشي ملك الحبشة النصارى، فهو اسم جنس لا اسم علم]. والفرق بين اسم الجنس واسم العلم: أن اسم الجنس يدل على معنى غير معين، فهو معنى كلي عام يشمل كل ما يصدق عليه هذا الوصف، مثل: إنسان، فكلمة الإنسان اسم جنس، وليس اسم علم لشخص معين، فهو يشمل أعداداً كبيرة جداً مقول فيهم هذا الاسم وهو الإنسان، وأما اسم العلم فمثل محمد وخالد وسعيد وهكذا. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [كانت الصابئة إلا قليلاً منهم إذ ذاك على الشرك، وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً]. فقد يكون موحداً، آمن بدين إبراهيم عليه السلام الذي بعث إليهم، كما وصفهم الله عز وجل في سور البقرة والمائدة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [بل مؤمناً بالله واليوم الآخر، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69]. ولكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين، كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا، وصاروا كفاراً أو مشركين، فأولئك الصابئون -الذين كانوا إذ ذاك- كانوا كفاراً مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل]. وما زال مجموعة كبيرة من الصابئة موجودة إلى الآن في بلاد الشام وفي العراق، وهم مجموعة قليلة جداً بالنسبة للأديان الأخرى، وهم باقون على الشرك، والعلمانيون الذين يمسكون بكثير من مقاليد الإعلام في بلاد المسلمين عندما يتحدثون عن الحرية الفكرية ينقلون أخبار هؤلاء وعقائدهم سواء من خلال القنوات الفضائية أو من خلال الصحافة أو التحقيقات والتقارير التي تكتب باسم حرية الأديان وتنقل عبادات هؤلاء وأفكارهم، ويعقدون معهم المقابلات، ويرون أن هذا تراث إنساني قابل للتفكير، وأن الإنسان حر فيما يختار من الأفكار والآراء والمناهج ونحو ذلك، وهذه الطريقة والفكرة التي يعيش عليها -مع الأسف- كثير من الكتاب والصحفيين، أو أصحاب القنوات وغيرهم فكرة علمانية، فكون الإنسان يتجرد من الأديان وينقلها جميعها على أنها تراث إنساني، وكأن الصابئة واليهود والنصارى على حق، كما أن المسلمين على حق، ويصحح أديان الناس جميعاً، والعياذ بالله، فلا شك أن هذا فكر فاسد من حيث حكم الشريعة فيه، وفاسد من حيث واقع هذا الأمر؛ فإنه لا يمكن أن تكون الأفكار المتناقضة والمتعادية والمتحاربة كلها على الحق، ولا يمكن أن تجتمع هذه الأفكار على الحق أبداً.

بيان أن أهل البدع يصفون الله بالصفات السلبية

بيان أن أهل البدع يصفون الله بالصفات السلبية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها، وهم الذين بعث إبراهيم الخليل إليهم]. والصفات السلبية هي الصفات المنفية، أي: أنه ليس بجسم ولا عرض ولا طويل ولا قصير ولا متين، فهذه الصفات المنفية ليس فيها إثبات لأمر وجودي يتعلق بالله سبحانه وتعالى، وإنما هي معانٍ منفية، والمعنى المنفي ليس له تعلق وجودي بذات الإله، ولهذا تجد أن هؤلاء يصفون الرب بالصفات السلبية، والمعتزلة يثبتون عشرات بل مئات الصفات السلبية وينقلونها على التفصيل، وأنه ليس بذي رطوبة ولا بذي كذا ولا بذي كذا، وهكذا. وأما الصفات الإضافية فهي في الاصطلاح الصفات الخبرية التي تخبر بها، مثل قولك: هذا عنده حكمة، أو: هذا عنده فهم، أو: إنه يرحم الخلق، ونحو ذلك، بدون أن تؤخذ منها صفة مصدرية، ويوصف بها الموصوف على الحقيقة، وهي مثل إضافة الأبوة أو البنوة أو نحوها.

تعريب كتب الفلسفة وأثره في ضلال الجهمية

تعريب كتب الفلسفة وأثره في ضلال الجهمية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فيكون الجعد أخذها عن الصابئة الفلاسفة، وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته، وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره- لما ناظر السمنية -بعض فلاسفة الهند، وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات- فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين، والفلاسفة الضالين إما من الصابئين وإما من المشركين، ثم لما عربت الكتب الرومية في حدود المائة الثانية زاد البلاء، مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء، من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم. ولما كان في حدود المائة الثانية انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية، بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم، في هؤلاء كثير في ذمهم وتضليلهم]. وتعريب الكتب الرومانية كان في زمن المأمون، عندما بنى دار الحكمة وعرب الكتب اليونانية، وكان أخذها من حاكم الرومان في ذلك الزمان، وكان حاكم الرومان وملكهم -كما ذكر ذلك السيوطي في صون المنطق والكلام عن علم المنطق والكلام- في تلك الفترة قد جمع هذه الكتب واستشار قومه فيها، فقال له قومه: هذه الكتب ما قرأها أحد إلا ضل في دينه؛ لأن الرومان كانوا على عقيدة النصارى، وكان اليونان على عقيدة وثنية قبل ذلك، فجمع هذه الكتب جميعاً ثم بنى عليها داراً وأغلقها ومنع الناس من النظر فيها، فلما جاءته رسالة المأمون نظر إليها وقرأها وجمع أهل مملكته وسألهم عن ذلك فقالوا له: إن هذه الكتب ما انتشرت في أمة من الأمم إلا أفسدت عليهم دينهم، فأرسل إليهم هذه الكتب. فلما جاءت الكتب إلى المأمون اشتغل بتعريبها، وكان كل الذين اشتغلوا بتعريبها هم من الطبقة الجديدة التي ظهرت في المجتمع الإسلامي، ولم يكونوا من أهل الحديث وليس لهم عناية بالسنة، ولا درسوا في هذا المجال، فقد كانوا ما بين نصراني مثل حنيين بن إسحاق وغيره، أو رجل ينتسب إلى الإسلام، ولم يشتغل من أهل العلم بتعريبها، وإنما أكثر من اشتغل بتعريبها هذه الطبقة، وهذا التعريب كان في نهاية المائة الثانية في نهاية سنة مائة وتسعين وما بعدها، أي: في نهاية القرن الثاني تقريباً، فعربت هذه الكتب مع وجود علماء كبار من أهل السنة الذين كتبوا الكتب الكبار الموجودة مثل صحيح البخاري ومسلم، وقد كان الترمذي في تلك الفترة موجوداً. وكان أبو داود والنسائي وابن ماجة موجودين في أزمان متقاربة، وكان الإمام أحمد والشافعي موجودين، وكذلك الأئمة الكبار كانوا موجودين في تلك الفترة ولم يشتغل منهم أحد في هذا الموضوع أبداً، ولم يعرف أن أحداً منهم اشتغل في هذا الأمر أبداً ولو على سبيل التأييد.

عرض تاريخي للمؤامرة على الإسلام وعقائده

عرض تاريخي للمؤامرة على الإسلام وعقائده وعند النظر إلى تاريخ هذه القضية بشكل مبسط نجد أن الأمة المسلمة كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على العقيدة الصحيحة، ولم يكن هناك إشكال عندهم في هذا، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة ينشرون العلم والجهاد في سبيل الله في كل مكان، ففتحوا كثيراً من البلدان، فلما فُتحت الكثير من البلدان وحطمت دولة كسرى أغاظ ذلك كثيراً من أهل هذه الأديان التي سحقها الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولم يكن كل الذين دخلوا في دين الله أفواجاً في زمن الصحابة دخلوه عن قناعة، بل بعضهم كان عن قناعة، وهم الأكثر، والبعض الآخر لم يدخلوا فيه عن قناعة، وإنما تستروا باسم الإسلام خوفاً على أنفسهم وبقوا على عقائدهم السابقة، وكان أول مؤامرة كشفت وجود هؤلاء الأفاعي الذين تستروا بالإسلام مع اعتقادهم عقائدهم السابقة هي مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فمقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان مؤشراً واضحاً على وجود أناس مندسين في صفوف المسلمين يتظاهرون بالإسلام وهم في الحقيقة ليسوا عليه، فإن الذي قتل عمر بن الخطاب أبو لؤلؤة المجوسي، وساعده الهرمزان وكان مجوسياً أيضاً، وجفينة النصراني. فقد كان هناك تآمر مجموع من اليهود والنصارى والمجوس، فقتل عمر على يد أبي لؤلؤة المجوسي، ثم قتل أبو لؤلؤة نفسه في ذلك المكان. والمؤامرة الثانية التي تظهر حجم هذه المؤامرة الخفية المندسة في صفوف المسلمين كانت عندما ظهر عبد الله بن سبأ اليهودي، وتحرك تحركاً واسعاً في الجزيرة وبلاد الشام والعراق ومصر، وكون الطائفة السبئية، ثم حصلت الفتنة التي قدر الله عز وجل لها أن تحصل اختباراً للناس، ثم ظهرت العقائد الجديدة التي سمع بها المسلمون لأول مرة، فظهر الخوارج فكفروا المسلمين، وظهرت الشيعة وقالوا لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنت أنت، يعني: أنت الله، وقد كان هذا الشيء لا يعرفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي تربى مع الصحابة الأولين على الخضوع لله عز وجل، فلما ظهرت هذه الأشياء شعر المجتمع الإسلامي أن هناك جهات مندسة تريد إفساد المسلمين. ولضخامة المجتمع الإسلامي، وقرب عهده بالنبوة، وتماسكه، وقوة العقيدة الصحيحة، ولأن حكامه ووزراءه كانوا من المجاهدين كانت هذه الفتن مثل الأشياء البسيطة القذرة على نهر كبير حلو ومفيد، له ثمرته وسقياه للناس. وقد استمر وجود هذه المجموعة من اليهود والنصارى والمجوس حتى كثروا في زمن الدولة العباسية، حتى إن المهدي اتخذ ديواناً سماه: ديوان الزنادقة، وتتبع فيه مجموعة من الأدباء والفلاسفة وبعض المشتغلين بالمهن الحرفية الذين كانوا زنادقة، وقد كان بعضهم له مناصب عسكرية، مثل أبي مسلم الخرساني وغيره، فتتبعهم وقتل عدداً كبيراً جداً منهم. وهذا يدل على أن هناك مجموعات كانت تخطط تخطيطاً ماكراً لهذه الأمة، ومن هذه المجموعات: الجهم بن صفوان والجعد بن درهم وبشر المريسي وأبو شجاع الثلجي وأحمد بن أبي دؤاد، الذين أقنعوا المأمون بفكرة الترجمة، وترجمت هذه الكتب، وعقدت مجالس المناظرة. وكان عددهم يتوسع في كل جيل أكثر وأكثر، حتى وصلوا إلى درجة إقناع خليفة المسلمين بهذه الأفكار، وكان المأمون رجلاً مثقفاً يحب المعرفة، فاقتنع بعقائد المعتزلة، وامتحن الأمة عليها في فتنة مشهورة وهي فتنة القول بخلق القرآن. والحقيقة أن فتنة القول بخلق القرآن ليست مقالة عقدية فحسب امتحن الناس عليها، وقد كان السلف الصالح يدركون حجم المؤامرة، ويعرفون أن هذه الفتنة موجودة في المجتمع الإسلامي، وأن المجتمع كبير، فمع وجود هؤلاء الأعداد الكبيرة من المفسدين إلا أن سرايا الجهاد مستمرة في كل مكان، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً، وطلاب الحديث في كل مكان، حتى أن قرطبة في ذلك الزمان كان فيها أربعة آلاف عالم، وهي مدينة واحدة، فكيف ببغداد؟! فقد كان فيها ألوف مؤلفة من العلماء، فضلاً عن طلاب العلم، فضلاً عن الصالحين والزهاد، فضلاً عن المجاهدين، فضلاً عن الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، فقد كان شيئاً يفوق الخيال. فقد كانت الأمة كلها متحركة في الخير، ومع هذا كانت توجد فيها هذه الطائفة، وقد كان السلف رضوان الله عليهم وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله يدرك حجم هذه المؤامرة، وأن المسألة ليست مسألة مقالة اسمها مقالة القول بخلق القرآن يمتحن الناس عليها، وإنما هي صراع بين منهجين عقديين، منهج السلف المتمثل في طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن سار على نهجه في فهم النصوص، وفي معرفتهم لله ولربوبيته وصفاته وأسمائه وألوهيته، وفي منهج جديد منحرف يراد

§1/1