شرح الحديث المقتفى في مبعث النبي المصطفى

المقدسي، أبو شامة

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم قَالَ الشَّيْخ الْفَقِيه الإِمَام الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم شهَاب الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم الْمَقْدِسِي الشَّافِعِي نفع الله الْمُسلمين بطول بَقَائِهِ، وأشركنا فِي صَالح دُعَائِهِ: الْحَمد لله مولي كل نعْمَة، ومؤتي من يَشَاء إِيمَانًا وَحِكْمَة، أَحْمَده على أَن جعلنَا من خير أمة، ووفقنا للاشتغال بكتابه وَسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فلنا بهما أتم حُرْمَة، وجنبنا طَريقَة الَّذِي لَا يرقبون فِي الله إِلَّا وَلَا ذمَّة، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ شَهَادَة دافعة لكل نقمة، مَانِعَة من كل وصمة، جالبة للفوز فِي الْآخِرَة بالنضرة وَالنعْمَة، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله نَبِي الرَّحْمَة، وَكَاشف الْغُمَّة، وسراج الْأمة، الْمنور لكل ظلمَة، الَّذِي امتن الله تَعَالَى بِهِ على هَذِه الْأمة، فَقَالَ: {لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذا بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم يَتْلُوا عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة} ، صلى الله عَلَيْهِ وعَلى جَمِيع الْمَلَائِكَة والنبيين

المؤيدين بالزلفى والعصمة، وعَلى آله وَأَصْحَابه أولي الْعَزْم والهمة، الَّذين أَحْسنُوا لَهُ الْخدمَة ونقلوا إِلَيْنَا علمه، ووصفوا لنا حكمه وهديه وحلمه، وشبههم بالنجوم النيرة فِي اللَّيَالِي المدلهمة، فَرضِي الله عَن تابعيهم وَمن بعدهمْ من الْعلمَاء الْأَئِمَّة، الَّذين جعل اخْتلَافهمْ لنا رَحْمَة، وَقسم لَهُم مَعَ الْعلم طَاعَته الَّتِي هِيَ أجل قسْمَة. أما بعد: فقد صنف فِي علم الحَدِيث وَشرف أَهله كتب حَسَنَة مهمة، والعلوم الْمُتَعَلّقَة بِهِ كَثِيرَة يقصر الزَّمَان عَن تَحْصِيلهَا كَمَا يَنْبَغِي، مَعَ فَتْرَة أَهله وكسلهم حَتَّى قَالَ بعض من تقدم: " يَكْفِي من الحَدِيث شمه " فقنع الْجُمْهُور مِنْهُم بالإجازات وَالسَّمَاع من عوام الشُّيُوخ فَلهم فِي ذَلِك نهمة، وتجري بَينهم فِي ذَلِك منافسات وزحمة، وأعرضوا عَن علومه النافعة

الْمَأْمُور بهَا فَمَا يحركهم إِلَيْهَا همة، وَلَا لَهُم عَلَيْهَا عَزمَة، حَتَّى استولت على خواطرهم العجمة، وَلَو كَانَ أحدهم فِي الفصاحة جَارِيا مجْرى ذِي الرمة، أَو إِبْرَاهِيم بن هرمة، أَو ابْن قيس بن صرمة، وَأطلق بَعضهم على بعض اسْم الْمُحدث والحافظ فاغتر بِهَذَا الْإِطْلَاق كل غر يحْسب أَن كل سَوْدَاء تَمْرَة وكل بَيْضَاء شحمة، وَلم يدر أَن هَذَا الِاسْم قد هان على مطلقيه كَمَا هان على قوم آخَرين اسْم الْفَقِيه الَّذِي لم يكن يُطلق إِلَّا على الْمُجْتَهد النبيه الَّذِي أتقن علمه، وشكر الواصفون من أهل الْحل وَالْعقد فهمه. فَاعْلَم أَن عُلُوم الحَدِيث الْآن على ثَلَاث دَرَجَات: الدرجَة الأولى: أَعْلَاهَا وَأَشْرَفهَا وَهِي حفظ متونه وَمَعْرِفَة غريبها وَالنَّفقَة فِيهَا، فَفِي فهمها مَعَ فهم كتاب الله تَعَالَى عَن غَيرهمَا شغل شاغل، وَلَا يضيع الزَّمَان فِيمَا لَا فَائِدَة فِيهِ الْآن من السماع فِي الْبلدَانِ فَإِن الْأَحَادِيث قد دونت وبينت ورتبت وَقسمت وتعب عَلَيْهَا وأتقنها الْأَوَائِل، فَلم تبْق ضَرُورَة تَدْعُو إِلَى تَحْصِيل مَا هُوَ حَاصِل.

الدرجَة الثَّانِيَة: حفظ أسانيدها وَمَعْرِفَة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها، وَهَذَا كَانَ الأهم فِي الزَّمن الأول حَيْثُ لم تكن كتب مسطرة، وَلَا أُمُور محررة، وَقد كفى المشتغل بِالْعلمِ هَذَا التَّعَب بِمَا قد صنف وَألف من الْكتب.

الدرجَة الثَّالِثَة: الِاشْتِغَال بجمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وَطلب الْعُلُوّ فِيهِ والرحلة فِي ذَلِك، فالمشتغل بِهَذَا مشتغل عَمَّا هُوَ الأهم من علومه النافعة فضلا عَن الْعَمَل بِهِ الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوب الْأَصْلِيّ من الْمُكَلّفين قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} . وَمَا أحسن مَا قَالَ جَعْفَر بن أَحْمد السراج: (إِذا كُنْتُم تكتبون الحَدِيث ... لَيْلًا وَفِي صبحكم تسمعونا) (وأفنيتم فِيهِ أعماركم ... فَأَي زمَان بِهِ تعملونا) إِلَّا أَن هَذَا لَا بَأْس بِهِ للبطالين لما فِيهِ من إبْقَاء سلسلة العنعنة الْمُتَّصِلَة بأشرف الْبشر فَهِيَ من خَصَائِص هَذِه الْأمة المرحومة.

وَمِمَّا يزهد من كَانَ لَهُ لب فِي هَذِه الطَّرِيقَة مَا تشْتَمل عَلَيْهِ من مُشَاركَة الصَّغِير فِيهَا للكبير، والفدم للفاهم، وَالْجَاهِل للْعَالم، بل أهل هَذِه الدرجَة لَا يبالون بِتَقْدِيم المسمع الْجَاهِل، فَإِذا كَانَ علو السَّنَد مَعَ النَّاقِص لم يلفت إِلَى الْكَامِل. وَاعْلَم أَن أَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين، لم يَكُونُوا إِلَى هَذَا ملتفتين، قَالَ عبد الله بن هَاشم الطوسي وَغَيره: " كُنَّا عِنْد وَكِيع فَقَالَ: الْأَعْمَش أحب إِلَيْكُم عَن أبي وَائِل عَن عبد الله، أَو سُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله، وهما شيخاه الْأَعْمَش وسُفْيَان؟ قَالَ: فَقُلْنَا: الْأَعْمَش عَن أبي وَائِل أقرب، فَقَالَ: الْأَعْمَش شيخ وَأبي وَائِل شيخ، وسُفْيَان عَن مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله فَقِيه عَن فَقِيه عَن فَقِيه عَن فَقِيه عَن فَقِيه، وَحَدِيث يتداوله الْفُقَهَاء خير مِمَّا يتداوله الشُّيُوخ ".

(واخرج أَبُو سعد السَّمْعَانِيّ فِي مُقَدّمَة " تذييله لتاريخ بَغْدَاد " عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم قَالَ: قيل لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة: إِن فلَانا يحدث بنزول، فَقَالَ: يزينها الصدْق) . وروينا فِي " التَّارِيخ " فِي تَرْجَمَة الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن أَحْمد بن حَنْبَل لامه فِي حُضُوره مجْلِس الشَّافِعِي وَتَركه مجْلِس سُفْيَان بن عُيَيْنَة رَضِي الله عَنْهُم، فَقَالَ لَهُ أَحْمد: اسْكُتْ، فَإِن فاتك حَدِيث بعلو تَجدهُ بنزول، وَلَا يَضرك فِي دينك وَلَا فِي عقلك وَلَا فِي فهمك، وَإِن فاتك عقل هَذَا الْفَتى أَخَاف أَن لَا تَجدهُ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، مَا رَأَيْت أحدا أفقه فِي كتاب الله عز وَجل من هَذَا الْفَتى. وَسُئِلَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن عمر الجعابي الْحَافِظ: " أَكَانَ ابْن صاعد يحفظ؟ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: لَا يُقَال لأبي بكر يحفظ، كَانَ يدْرِي ".

قَالَ حَمْزَة بن يُوسُف السَّهْمِي: " قلت لأبي بكر بن عَبْدَانِ: أيش الْفرق بَين الدِّرَايَة وَالْحِفْظ؟ فَقَالَ: الدِّرَايَة فَوق الْحِفْظ ". قَالَ الْحَاكِم أَبُو عبد الله: سَمِعت أَبَا عَليّ الْحُسَيْن بن عَليّ الْحَافِظ يَقُول: " لم يكن فِي أَقْرَان أبي مُحَمَّد بن صاعد فِي فهمه وَكَانَ أحفظ مِنْهُ، أَي وَكَانَ يُوجد من هُوَ أحفظ مِنْهُ، قَالَ: والفهم عندنَا أجل من الْحِفْظ ". قلت: فانظروا إِلَى كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة الْحفاظ حَقًا كَيفَ كَانَ الْأَمر فِي نظرهم على مَا ذكرنَا، وَإِن كَانَ هَذَا مِمَّا لَا يخفى على عَالم إِلَّا أَنِّي أحب أَن اسْتدلَّ على كل طَائِفَة بِكَلَام أئمتها لتَكون الْحجَّة عَلَيْهِم أبلغ، وَلِأَن ذَلِك أقرب إِلَى تحريكهم إِلَى سلوك طريقهم. ثمَّ اعْلَم أَن كل مَا جَاءَ عَن السّلف رَضِي الله عَنْهُم من الثَّنَاء على أهل الحَدِيث ووصفهم ومدح علمهمْ إِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَار مَا ذَكرْنَاهُ من حفظ متونه والتفقه فِيهَا وتمييز صَحِيحه من سقيمه، والتمسك بِهِ علما وَعَملا، وَإِن كَانُوا متفاوتين فِي ذَلِك، فبعضهم برز فِي الْحِفْظ، وَبَعْضهمْ فِي

الْفِقْه، وَبَعْضهمْ فِي التَّمْيِيز مَعَ الْمُشَاركَة كل فريق للباقين بِمَا لم يبرز فِيهِ، (وَلِهَذَا جَاءَ عَن أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام أَنه قَالَ: " انْتهى علم الحَدِيث فِي زَمَاننَا إِلَى أَرْبَعَة: أَحْمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَأبي بكر بن أبي شيبَة، ثمَّ وصف أَحْمد بِأَنَّهُ أفقههم فِيهِ، وَوصف يحيى بِأَنَّهُ أعلمهم بِصَحِيح الحَدِيث وسقيمه، وَوصف ابْن الْمَدِينِيّ بِأَنَّهُ أعلمهم بِهِ أَي يعلله، وَوصف أَبَا بكر بِأَنَّهُ أحفظهم لَهُ ". قَالَ يحيى بن أبي بكير: " قيل لِسُفْيَان الثَّوْريّ، إِلَى مَتى تطلب الحَدِيث؟ قَالَ: وَأي خير أَنا فِيهِ خير من الحَدِيث فنصير إِلَيْهِ - يَعْنِي بَدَلا من الحَدِيث - إِن الحَدِيث خير عُلُوم الدُّنْيَا، وَإِن نور الْآخِرَة الحَدِيث ". قَالَ مُوسَى بن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي: سَمِعت أبي يَقُول: " رَأَيْت سُفْيَان الثَّوْريّ فِي الْمَنَام فَقلت: أَي شَيْء وجدت أفضل؟ قَالَ: الحَدِيث ". (وَجَاء عَن ابْن الْمُبَارك وَغَيره: مَا أعلم شَيْئا أفضل من طلب الحَدِيث لمن أَرَادَ الله بِهِ ". وَقَالَ وَكِيع: " لَوْلَا أَن الحَدِيث أفضل عِنْدِي من التَّسْبِيح مَا حدثت ".

قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة: سَمِعت يُونُس بن عبد الْأَعْلَى يَقُول: سَمِعت الشَّافِعِي يَقُول: " إِذا رَأَيْت رجلا من أَصْحَاب الحَدِيث فَكَأَنِّي رَأَيْت رجلا من أَصْحَاب النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ". وروينا عَن الإِمَام الشَّافِعِي رَحمَه الله أَيْضا أَنه قَالَ: " عَلَيْكُم بأصحاب الحَدِيث فهم النَّاس ". قَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن جَعْفَر الْخَبَّازِي: سَمِعت أَبَا أَحْمد عبد الله ابْن بكر بن مُحَمَّد الْعَالم الزَّاهِد بِالشَّام فِي جبل لبنان يَقُول: " أبرك الْعُلُوم وأفضلها وأكثرها نفعا فِي الدّين وَالدُّنْيَا بعد كتاب الله عز وَجل أَحَادِيث رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، لما فِيهَا من كَثْرَة الصَّلَوَات عَلَيْهِ، وَإِنَّهَا كالرياض والبساتين تَجِد فِيهَا كل خير وبر، وَفضل وَذكر ". (وَفِي " جَامع التِّرْمِذِيّ " من حَدِيث ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنه قَالَ: " أولى النَّاس بِي يَوْم الْقِيَامَة أَكْثَرهم عَليّ صَلَاة "، - صلى الله عليه وسلم -.

وَقَالَ الْفَقِيه أَبُو زيد الْمروزِي الزَّاهِد: " كنت نَائِما بَين الرُّكْن وَالْمقَام فَرَأَيْت النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا أَبَا زيد، إِلَى مَتى تدرس كتاب الشَّافِعِي وَلَا تدرس كتابي؟ فَقلت: يَا رَسُول الله، وَمَا كتابك؟ قَالَ: جَامع مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل - يَعْنِي البُخَارِيّ ". وَكَانَ أَبُو زيد يرويهِ عَن الْفربرِي وَهُوَ أجل من رَوَاهُ عَنهُ) . وَللَّه در الْقَائِل: (طلب الحَدِيث طَريقَة ... الماضين من أهل الرشاد) (فاسلك سبيلهم تنَلْ ... درجاتهم يَوْم الْمعَاد) وللحافظ أبي طَاهِر السلَفِي رَحمَه الله: (دين النَّبِي وشرعه أخباره ... وَأجل علم يقتنى آثاره) (من كَانَ مشتغلا بهَا وبنشرها ... بَين الْبَريَّة لَا عفت آثاره)

فسهل الله علينا الِاسْتِمْرَار على الِاشْتِغَال بِهِ على الْوَجْه المرضي، وَإِن كَانَ قد أصبح أَكثر النَّاس عَنهُ معرضين، فَمَا ذَاك بمانع لمن سبق لَهُ الْوَعْد بالنصر من سيد الْمُرْسلين، فقد صَحَّ عَنهُ - صلى الله عليه وسلم - من طرق أَنه قَالَ: " لَا يزَال نَاس من أمتِي منصورين، لَا يضرهم من خذلهم حَتَّى تقوم السَّاعَة ". وَذكر (أَبُو بكر مُحَمَّد بن مَنْصُور السَّمْعَانِيّ فِي " أَمَالِيهِ " عَن) غير وَاحِد من الْأَئِمَّة مِنْهُم: عبد الله بن الْمُبَارك وَيزِيد بن هَارُون وَأحمد بن حَنْبَل وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَالْبُخَارِيّ وَغَيرهم أَن هَذِه الطَّائِفَة المنصورة هم أَصْحَاب الحَدِيث. قلت: وَأَصْحَاب الحَدِيث جند الله وَرَسُوله لاعتنائهم بنشر شَرِيعَته وإعلاء كَلمته، فالفأل لَهُم بالفوز والنصر وَالْغَلَبَة من كَلَام رب الْعَالمين قَوْله سُبْحَانَهُ: {وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} .

وَقد رَأَيْت أَن أذكر فِي هَذَا الْكتاب حَدِيثا من الْأَخْبَار النَّبَوِيَّة، وأشرحه شرحا متقنا، مستوعبا للْكَلَام عَلَيْهِ متْنا وإسنادا فِي كل مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة بجهدي وطاقتي، وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، أجعَل ذَلِك عنوانا وأنموذجا لما يَنْبَغِي أَن تعرف الْأَخْبَار عَلَيْهِ. وَوَقع اخْتِيَاري على حَدِيث مبعث النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - الَّذِي فِي " الصَّحِيحَيْنِ " من رِوَايَة عَائِشَة وَجَابِر رَضِي الله عَنْهُمَا. وسميته: شرح الحَدِيث المقتفى فِي مبعث النَّبِي الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه وَسلم، كَمَا يجلهم وشرفهم وكرم.

فصل

فصل أخبرنَا الشَّيْخَانِ البغداديان أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن عبد الله بن عبد الصَّمد بن عبد الرَّزَّاق السّلمِيّ الْعَطَّار وَأَبُو البركات دَاوُد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن ملاعب رحمهمَا الله قِرَاءَة عَلَيْهِمَا وَأَنا أسمع سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة بِدِمَشْق، قَالَا: أخبرنَا أَبُو الْوَقْت عبد الأول بن عِيسَى بن شُعَيْب السجْزِي الصُّوفِي، أخنا أَبُو الْحسن الدَّاودِيّ، أخنا أَبُو مُحَمَّد بن حمويه، أخنا مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر الْفربرِي، أخنا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ رَحمَه الله قَالَ: حَدثنِي يحيى بن بكير، ثَنَا اللَّيْث، عَن عقيل، عَن ابْن شهَاب، عَن عُرْوَة، وَزَاد فِي أول كتاب التَّعْبِير: وحَدثني عبد الله بن مُحَمَّد، ثَنَا عبد الرَّزَّاق، أخنا معمر، قَالَ الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي عُرْوَة، عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا قَالَت. ح وأنبأنا أَبُو الْحسن الْمُؤَيد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْمُقْرِئ الطوسي فِي إِجَازَته سنة تسع وسِتمِائَة، وَأخْبرنَا عَنهُ وَعَن غَيره غير وَاحِد قَالُوا: أخنا أَبُو عبد الله الفراوي، أخبرنَا عبد الغافر بن مُحَمَّد الْفَارِسِي، أخنا أَبُو أَحْمد الجلودي، أَنا إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن سُفْيَان، ثَنَا أَبُو الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج

قَالَ: حَدثنِي أَبُو الطَّاهِر أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الله بن عَمْرو بن سرح، أخنا ابْن وهب، أَخْبرنِي يُونُس، عَن ابْن شهَاب، حَدثنِي عُرْوَة بن الزبير أَن عَائِشَة زوج النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أخْبرته أَنَّهَا قَالَت: كَانَ أول مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فِي النّوم، فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح، ثمَّ حبب إِلَيّ الْخَلَاء، فَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء يَتَحَنَّث فِيهِ، وَهُوَ التَّعَبُّد اللَّيَالِي ألات الْعدَد قبل أَن يرجع إِلَى أَهله، ويتزود لذَلِك، ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثلهَا، حَتَّى فجئه الْحق وَهُوَ فِي غَار حراء فَجَاءَهُ الْملك فَقَالَ: اقْرَأ، قَالَ: قلت: مَا أَنا بقارئ، قَالَ: فأخذني فغطني حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ: اقْرَأ، فَقلت: مَا أَنا بقارئ، فأخذني فغطني الثَّانِيَة حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ: اقْرَأ، فَقلت: مَا أَنا بقارئ قَالَ: فأخذني فغطني الثَّالِثَة حَتَّى بلغ مني الْجهد، ثمَّ أَرْسلنِي فَقَالَ: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق خلق الْإِنْسَان من علق اقْرَأ وَرَبك الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} ، فَرجع بهَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ترجف بوادره حَتَّى دخل على

خَدِيجَة فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع، ثمَّ قَالَ لِخَدِيجَة: أَي خَدِيجَة مَالِي، وأخبرها الْخَبَر قَالَ: لقد خشيت على نَفسِي، قَالَت لَهُ خَدِيجَة: كلا أبشر، فوَاللَّه لَا يخزيك الله أبدا، وَالله إِنَّك لتصل الرَّحِم وَتصدق الحَدِيث، وَتحمل الْكل، وتكسب الْمَعْدُوم، وتقري الضَّيْف، وَتعين على نَوَائِب الْحق، فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة ابْن نَوْفَل بن أَسد بن عبد الْعُزَّى، وَهُوَ ابْن عَم خَدِيجَة أخي أَبِيهَا، وَكَانَ امْرَءًا تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ، وَيكْتب من الْإِنْجِيل بِالْعَرَبِيَّةِ، مَا شَاءَ الله أَن يكْتب، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمي، فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة: أَي عَم، اسْمَع من ابْن أَخِيك، فَقَالَ ورقة: يَا بن أخي، مَاذَا ترى؟ فَأخْبرهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر مَا رأى، فَقَالَ لَهُ ورقة: هَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا، يَا لَيْتَني أكون حَيا حِين يخْرجك قَوْمك فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَو مخرجي هم؟ قَالَ ورقة: نعم، لم يَأْتِ رجل قطّ بِمَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي، وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا. انْتهى متن الحَدِيث إِلَى هُنَا فِي " كتاب مُسلم " وَاللَّفْظ لَهُ، وَأخرجه البُخَارِيّ فِي أول " صَحِيحه "، ثمَّ فِي تَفْسِير سُورَة اقْرَأ، وَفِي

أول كتاب التَّعْبِير، وَقد علمت على أَلْفَاظه الْمُخَالفَة بِالْخَاءِ، وَله فِيهِ إِسْنَاد آخر نَازل ذكره فِي التَّفْسِير. وَزَاد البُخَارِيّ على مُسلم بِإِخْرَاج تَتِمَّة هَذَا الحَدِيث فَقَالَ - بعد قَوْله: " نصرا مؤزرا ": " ثمَّ لم ينشب ورقة أَن توفّي، وفتر الْوَحْي ". زَاد فِي كتاب التَّعْبِير: " فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا بلغنَا حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا كي يتردى من رُؤُوس شَوَاهِق الْجبَال، فَكلما أوفى بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي نَفسه مِنْهُ تبدا لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، إِنَّك رَسُول الله حَقًا، فيسكن لذَلِك جأشه، وتقر نَفسه، فَيرجع فَإِذا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك، فَإِذا أوفى بِذرْوَةِ جبل تبدا لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك ".

وَزَاد البُخَارِيّ فِي أول " الصَّحِيح " وَفِي التَّفْسِير وَهُوَ أَيْضا فِي " صَحِيح مُسلم ": قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَن جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - - وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي قَالَ فِي حَدِيثه: " فَبينا أَنا أَمْشِي سَمِعت صَوتا من السَّمَاء، فَرفعت رَأْسِي فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء جَالِسا على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، فجثئت مِنْهُ فرقا، فَرَجَعت فَقلت: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي فَأنْزل الله تبَارك وَتَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر وثيابك فطهر وَالرجز فاهجر} ، ثمَّ تتَابع الْوَحْي " لفظ حَدِيث مُسلم. وَفِي البُخَارِيّ: " فَرُعِبْت مِنْهُ "، وَفِي مَوضِع: " فجثئت مِنْهُ رعْبًا "، وَفِي آخر: " فجثيت مِنْهُ حَتَّى هويت إِلَى الأَرْض، ثمَّ حمي الْوَحْي وتتابع ".

سَاق البُخَارِيّ رَحمَه الله متن الحَدِيث من رِوَايَة عقيل عَن الزُّهْرِيّ فِي أول " صَحِيحه " ثمَّ قَالَ فِي آخِره، " تَابعه عبد الله بن يُوسُف وَأَبُو صَالح عَن اللَّيْث، وَتَابعه هِلَال بن رداد عَن الزُّهْرِيّ، وَقَالَ يُونُس وَمعمر: ترجف بوادره ". وسَاق مُسلم رَحمَه الله الحَدِيث من رِوَايَة يُونُس عَن الزُّهْرِيّ، ثمَّ قَالَ: وحَدثني مُحَمَّد بن رَافع، حَدثنَا عبد الرَّزَّاق، أخنا معمر قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيّ: فَذكره، غير أَنه قَالَ: " فوَاللَّه لَا يحزنك الله أبدا " بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون، وَزَاد - بعد: {وَالرجز فاهجر} -: " قبل أَن تفرض الصَّلَاة ".

قَالَ: وحَدثني عبد الْملك بن شُعَيْب بن اللَّيْث، حَدثنِي أبي، عَن جدي، حَدثنِي عقيل بن خَالِد، قَالَ ابْن شهَاب: سَمِعت أَبَا سَلمَة قَالَ: أَخْبرنِي جَابر فَذكره، وَزَاد: قَالَ أَبُو سَلمَة: وَالرجز: الْأَوْثَان ". قلت: فَتحصل لنا من مَجْمُوع مَا ذكرنَا أَن الَّذين رووا حَدِيث عَائِشَة عَن الزُّهْرِيّ ثَلَاثَة وهم: عقيل بن خَالِد وَيُونُس بن يزِيد وَمعمر بن رَاشد، إِلَّا أَن البُخَارِيّ سَاق متن عقيل، وَمُسلمًا سَاق متن يُونُس وأحال عَلَيْهِ متن معمر وَعقيل، وَكِلَاهُمَا قَالَ: " فجثثت " بثاءين، وَقَالَ يُونُس: " جثثت " بِالْهَمْزَةِ. " ويحزنك " بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون رِوَايَة معمر وَحده، وَعقيل وَيُونُس روياه بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَالْيَاء. وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة أَيْضا رووا عَن الزُّهْرِيّ حَدِيث جَابر، إِلَّا أَن حَدِيث جَابر جَاءَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَيْضا من رِوَايَة غير الزُّهْرِيّ من طَرِيق يحيى بن أبي كثير رَوَاهُ عَنهُ الإِمَام الْأَوْزَاعِيّ وَعلي بن الْمُبَارك وَحرب بن شَدَّاد، ذكر البُخَارِيّ فِي تَفْسِير سُورَة المدثر من " صَحِيحه " رِوَايَة عَليّ بن الْمُبَارك وَحرب بن شَدَّاد. وَذكر فِي كتاب بَدْء الْوَحْي رِوَايَة عقيل عَن الزُّهْرِيّ، وَأَشَارَ بعْدهَا إِلَى رِوَايَة يُونُس وَمعمر عَنهُ.

وَأخرج فِي تَفْسِير سُورَة المدثر رِوَايَة معمر وَعقيل عَن الزُّهْرِيّ وَلم يذكر رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى، وَلم يذكر مُسلم رِوَايَة حَرْب بن شَدَّاد عَنهُ وَذكر رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ وَعلي بن الْمُبَارك. قَالَ مُسلم: ثَنَا زُهَيْر بن حَرْب، ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، حَدثنِي الْأَوْزَاعِيّ قَالَ: سَمِعت يحيى يَقُول: سَأَلت أَبَا سَلمَة أَي الْقُرْآن أنزل قبل؟ قَالَ: {يَا أَيهَا المدثر} ، فَقلت: أَو {اقْرَأ} قَالَ جَابر: أحدثكُم مَا حَدثنَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: جَاوَرت بحراء شهرا، فَلَمَّا قضيت جواري نزلت فَاسْتَبْطَنْت الْوَادي، فنوديت فَنَظَرت أَمَامِي وَخَلْفِي، وَعَن يَمِيني وَعَن شمَالي، فَلم أر أحدا، ثمَّ نوديت فَنَظَرت فَلم أر أحدا، ثمَّ نوديت فَرفعت رَأْسِي فَإِذا هُوَ على الْعَرْش فِي الْهَوَاء - يَعْنِي جِبْرِيل - صلى الله عليه وسلم - - فَأَخَذَتْنِي رَجْفَة شَدِيدَة، فَأتيت خَدِيجَة فَقلت: دَثرُونِي، فَدَثَّرُونِي وَصبُّوا عَليّ مَاء، فَأنْزل الله عز وَجل: {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر وثيابك فطهر} . حَدثنَا مُحَمَّد بن مثنى، ثَنَا عُثْمَان بن عمر، أخنا عَليّ بن الْمُبَارك، عَن يحيى بن أبي كثير بِهَذَا الْإِسْنَاد قَالَ: " فَإِذا هُوَ جَالس على عرش بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ".

وَقَالَ البُخَارِيّ: ثَنَا يحيى، ثَنَا وَكِيع، عَن عَليّ بن الْمُبَارك، عَن يحيى ابْن أبي كثير فَذكره بِنَحْوِهِ وَقَالَ: " فَرفعت رَأْسِي فَرَأَيْت شَيْئا، فَأتيت خَدِيجَة فَقلت: دَثرُونِي وَصبُّوا عَليّ مَاء بَارِدًا، فَدَثَّرُونِي وَصبُّوا عَليّ مَاء بَارِدًا ". حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار، ثَنَا عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَغَيره قَالَا: حَدثنَا حَرْب بن شَدَّاد، عَن يحيى بن أبي كثير فَذكره. حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور، ثَنَا عبد الصَّمد، ثَنَا حَرْب، ثَنَا يحيى فَذكره، وَقَالَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ: فَقلت: " أنبئت أَنه {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد، ثَنَا عبد الرَّزَّاق أخنا معمر. ح وَحدثنَا عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، ثَنَا اللَّيْث، عَن عقيل كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة، عَن جَابر فَذكر الحَدِيث بِنَحْوِ مَا تقدم.

قلت: هَذَا حَدِيث صَحِيح مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث الزُّهْرِيّ وَيحيى بن أبي كثير - أَعنِي حَدِيث جَابر -. وَأما حَدِيث عَائِشَة الَّذِي تقدم فَصَحِيح أَيْضا مُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث الزُّهْرِيّ وَحده، وَقد جمعت هُنَا طرقهما المخرجة فِي " الصَّحِيحَيْنِ ". وسنتكلم على رجالهما على طَرِيق الِاخْتِصَار بعد الْفَرَاغ من شرح متنهما. وَنحن بعون الله وتوفيقه نورد فِي شرح هاذين الْحَدِيثين من كَلَام أهل الْعلم وَمَا يَفْتَحهُ الله تَعَالَى على مَنْهَج أهل الحَدِيث وأرباب اللُّغَة وأئمة الْفِقْه وَالْأُصُول، ونوضحهما بطرق أخر لَهما مخرجة فِي غير " الصَّحِيحَيْنِ "، ونأتي بِكُل شَيْء فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى، ونشرح أَلْفَاظ الْحَدِيثين مُفْردَة ومركبة شَيْئا بعد شئ.

فصل

فصل فَأول ذَلِك قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: " أول مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - من الْوَحْي الرُّؤْيَا ". قَالَ القَاضِي أَبُو الْفضل عِيَاض بن مُوسَى: " فِي هَذَا حِكْمَة من الله تَعَالَى وتدريج لنَبيه - صلى الله عليه وسلم - لما أَرَادَهُ الله بِهِ جلّ اسْمه، لِئَلَّا يفجأه الْملك ويأتيه صَرِيح النُّبُوَّة بَغْتَة فَلَا تحتملها قوى البشرية، فَبَدَأَ أمره بأوائل خِصَال النُّبُوَّة وتباشير الْكَرَامَة، من صدق الرُّؤْيَا، وَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الآخر من رُؤْيَة الضَّوْء وَسَمَاع الصَّوْت، وَسَلام الْحجر وَالشَّجر عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، حَتَّى استشعر عَظِيم مَا يُرَاد بِهِ، واستعد لما ينتظره فَلم يَأْته الْملك إِلَّا لأمر عِنْده مقدماته وبشاراته. وَفِيه أَن الرُّؤْيَا الصادقة أحد خِصَال النُّبُوَّة وجزء مِنْهَا وَأول منَازِل الْوَحْي، وَأَن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحي وَحقّ صدق، لَا أضغاث فِيهَا وَلَا تخييل وَلَا سَبِيل للشَّيْطَان إِلَيْهَا.

وَقَالَ أَبُو عبد الله الْقَزاز: قَوْله: " من الْوَحْي " " من " هُنَا لإبانة الْجِنْس كَأَنَّهُ قَالَ: من جنس الْوَحْي وَلَيْسَت من الْوَحْي فَتكون " من " للتَّبْعِيض وَلذَلِك قَالَت " فِي النّوم " فقرنتها بِالنَّوْمِ لِئَلَّا تكون من رُؤْيَة الْملك فِي الْيَقَظَة، وَنحن نقُول: إِن رُؤْيا الْأَنْبِيَاء فِي الصِّحَّة كالوحي. قَالَ القَاضِي: قد جَاءَ فِي حَدِيث آخر: " إِنَّهَا جُزْء من أَجزَاء النُّبُوَّة "، وَقد بَينا أَنَّهَا من جملَة خصالها، فالوحي أَنْوَاع وضروب وينطلق على معَان، فَلَا يبعد أَن تكون " من " للتَّبْعِيض على هَذَا، وَأَصله الْإِعْلَام، ورؤيا الْمَنَام إِعْلَام وإنذار وَبشَارَة ". قلت: أصل الْوَحْي فِي اللُّغَة إِعْلَام بِسُرْعَة فِي خَفَاء، فَتَارَة مُبَاشرَة، وَتارَة بإرسال، وَتارَة بإلهام، وَقد جمع الثَّلَاثَة قَوْله تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لبشر أَن

يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا ثمَّ، يَعْنِي الإلهام أَو فِي الْمَنَام، ثمَّ قَالَ: {أَو من وَرَاء حجاب} كَمَا كلم مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - {أَو يُرْسل رَسُولا} الْآيَة، فَحَيْثُ اسْتعْمل الْوَحْي فَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنى نَحْو: {وأوحينا إِلَى أم مُوسَى} ، {وَإِذ أوحيت إِلَى الحواريين} ، {وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْل} ، {بِأَن رَبك أوحى لَهَا} ، {وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} ، وَكَذَلِكَ أطلق على الْإِشَارَة فِي نَحْو {فَأوحى إِلَيْهِم أَن سبحوا} . وَقَالَ بعض الْعلمَاء: الْوَحْي قذف فِي الْقُلُوب، وَكَأن الْقُرْآن سمي وَحيا لِأَن الْملك كَانَ يفهمهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَلَا يفهمهُ عَنهُ سواهُ، كَمَا سموا ضرب الْأَمْثَال وَحيا من جِهَة اللَّفْظ، وَذَلِكَ أَن يضْرب الرجل لِأَخِيهِ مثلا فَيعرف بِهِ أمرا بَينهمَا وَلَا يفهمهُ سواهُ، وكل من أَشَارَ إِلَى معنى من غير إفصاح قبله بذلك المُرَاد فقد أوحى.

قلت: يُقَال: أوحى ووحى لُغَتَانِ مثل: أومى وومى بِمَعْنَاهُ، وَأَصله: أَوْمَأ وومأ بِالْهَمْز، وَإِنَّمَا بَعضهم خفف همزه، حكى ذَلِك الْهَرَوِيّ، وأجود اللغتين: أوحى وَأَوْمَأَ بِالْألف، فَأوحى: هِيَ الْمَشْهُورَة المستعملة فِي الْقُرْآن وَالْكَلَام الفصيح، وَإِن كَانَ اسْتِعْمَال مصدرها قَلِيلا، وَالْوَحي مصدر وحى وَإِن كَانَ اسْتِعْمَال فعله قَلِيلا، وَأنْشد فِيهِ قَول العجاج: (وحى لَهَا الْقَرار فاستقرت ... ) أَي أَمر الأَرْض بالقرار. وَأنْشد الْجَوْهَرِي: (لقدر كَانَ وحاه الواحي ... ) قَالَ: " وَالْوَحي أَيْضا الْإِشَارَة، وَالْكِتَابَة، والرسالة، والإلهام، وَالْكَلَام الْخَفي، وكل مَا أَلقيته إِلَى غَيْرك، يُقَال: وحيت إِلَيْهِ الْكَلَام وأوحيت وَهُوَ أَن يكلمهُ بِكَلَام يخفيه ".

وَأنْشد غَيره: (وحى للطير فارتفعت وخلا ... طَرِيق الرّيح وابتعث السفينا) قلت: وَمن هَذِه اللُّغَة مجئ اسْم الْفَاعِل على واح كبيت الْعرُوض: (مَا هيج الشوق من أطلال ... أضحت خلاء كوحي الواحي) وَقَالَ الْفراء: " أهل الْحجاز يَقُولُونَ: أوحيت، وَأسد وحيت ". وَكَانَ جؤية بن أبي إِيَاس أحد بني نصر بن مُعَاوِيَة يقْرَأ: {قل أُحي إِلَيّ} يُرِيد: وَحي بِضَم الْوَاو لَا لانضمامها كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذا الرُّسُل أقتت} . قلت: ثمَّ قد أطلق الْوَحْي على الموحى قَالَ الله تَعَالَى: {إِن هُوَ وَحي يُوحى} ، وَقَالَ: {قل إِنَّمَا أنذركم بِالْوَحْي} ، وَفِي " الصَّحِيح " عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتهُ وَحي أوحاه الله إِلَيّ " - يَعْنِي الْقُرْآن -، وَهَذَا كَمَا أطلق الْعلم على الْمَعْلُوم وَالْقُدْرَة على الْمَقْدُور.

وَلما كَانَت المعالم والمعارف الَّتِي وصلت إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - من جِهَة ربه عز وَجل مُخْتَلفَة الطّرق والأسباب على مَا نبينه أخْبرت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن أول سَبَب وَطَرِيق حصل لَهُ مِنْهَا وَكَيف كَانَ ابْتِدَاء ذَلِك. وَقد جمع الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم السُّهيْلي تِلْكَ الطّرق وحصرها فِي سبع صور، وَتكلم الْفَقِيه أَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ على بَعْضهَا. فَمِنْهَا النّوم كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة هَذَا، وكقول إِبْرَاهِيم خَلِيل الله لِابْنِهِ ذبيح الله صلى الله عَلَيْهِمَا: {إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك قَالَ يَا أَبَت افْعَل مَا تُؤمر} ، فَدلَّ على أَن الْوَحْي كَانَ يَأْتِيهم فِي النّوم كَمَا يَأْتِيهم فِي الْيَقَظَة، وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ " عَن عبيد بن عُمَيْر قَالَ: " رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحي، وَقَرَأَ هَذِه الْآيَة ". وَمِنْهَا أَن ينفث فِي روعه الْكَلَام نفثا كَمَا قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " إِن روح الْقُدس نفث فِي روعي: إِن نفسا لن تَمُوت حَتَّى تستكمل رزقها وأجلها، فَاتَّقُوا الله وأجملوا فِي الطّلب ".

قَالَ أَبُو عبيد: " النفث بالفم شَبيه بالنفخ، فَأَما التفل فَلَا يكون إِلَّا وَمَعَهُ شَيْء من الرِّيق، وَمَعْنَاهُ: أوحى إِلَيّ، والروع بِضَم الرَّاء أَي فِي خلدي وَنَفْسِي ". قَالَ الْحَلِيمِيّ: " وَهَذَا هُوَ الْوَحْي الَّذِي يخص الْقلب دون السّمع، وَحمل على ذَلِك قَوْله تَعَالَى: {إِذا يوحي رَبك إِلَى الْمَلَائِكَة إِنِّي مَعكُمْ فثبتوا الَّذين آمنُوا} . قَالَ: " وَذَلِكَ - وَالله أعلم - أَن ينفث الْملك فِي روع الْمُؤمن الإطماع فِي الظفر بالعدو، وَالتَّرْغِيب فِي الثَّوَاب وَالْأَجْر، والاستنكاف من الْفِرَار، فيحمله مَا يجده فِي قلبه من هَذِه الْمعَانِي على الثَّبَات. وَمِنْهَا أَن يَأْتِيهِ الْوَحْي مثل صلصلة الجرس وَهُوَ أشده عَلَيْهِ كَمَا أخبر - صلى الله عليه وسلم - عَن ذَلِك فِي حَدِيث صَحِيح سَيَأْتِي. وَقيل: إِن ذَلِك كَانَ ليستجمع قله عِنْد تِلْكَ الصلصلة فَيكون أوعى لما يسمع، وألقن لما يلقى عَلَيْهِ.

وَمِنْهَا أَن يتَمَثَّل لَهُ الْملك رجلا وَقد كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ رَضِي الله عَنهُ، وَرَآهُ كَذَلِك جمَاعَة من الصَّحَابَة على مَا نَقَلْنَاهُ فِي " شرح ذَات الدُّرَر "، فَفِي أول " صَحِيح البُخَارِيّ " مقدما على هَذَا الحَدِيث المعتنى بشرحه فِي هَذَا الْكتاب عَن عَائِشَة أَيْضا: " أَن الْحَارِث بن هِشَام سَأَلَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُول الله كَيفَ يَأْتِيك الْوَحْي؟ فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَحْيَانًا يأتيني فِي مثل صلصلة الجرس وَهُوَ أشده عَليّ، فَيفْصم عني وَقد وعيت عَنهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانا يتَمَثَّل لي الْملك (رجلا) فيكلمني فأعي مَا يَقُول، قَالَت عَائِشَة: وَلَقَد رَأَيْته ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فِي الْيَوْم الشَّديد الْبرد فَيفْصم عَنهُ وَإِن جَبينه ليتفصد عرقا ". قلت وَهَذَا الْعرق الَّذِي كَانَ يَغْشَاهُ - صلى الله عليه وسلم - كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث، واحمرار الْوَجْه والغطيط الْمَذْكُورَان فِي حَدِيث يعلى بن أُميَّة، وَثقله على الرَّاحِلَة وعَلى فَخذ زيد بن ثَابت كَمَا ورد فِي حديثين آخَرين، إِنَّمَا

كَانَت لثقل الْوَحْي عَلَيْهِ كَمَا أخبرهُ سُبْحَانَهُ فِي ابْتِدَاء أمره بقوله: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا} ، وَذَلِكَ لضعف الْقُوَّة البشرية عَن تحمل مثل ذَلِك الْوَارِد الْعَظِيم من ذَلِك الجناب الْجَلِيل، وللوجل من توقع تَقْصِير فِيمَا يُخَاطب بِهِ من قَول أَو فعل. قَالَ ابْن إِسْحَاق: " وللنبوة أثقال وَمؤنَة لَا يحملهما وَلَا يَسْتَطِيع لَهَا إِلَّا أهل الْقُوَّة والعزم من الرُّسُل بعون الله عز وَجل ". ويفصم: أَي يقْلع، من تفصم الْمَطَر أَي أقلع، وأفصمت عَنهُ الْحمى، وأفصم الْفَحْل عَن الضراب أَي كف. وَحكى ابْن بطال عَن صَاحب " الْأَفْعَال ": " فَصم الشَّيْء عَنهُ ذهب، قَالَ: " فَيُقَال مِنْهُ: فعل وأفعل ".

ويتفصد: أَي يسيل سيلان الدَّم من الفصاد. وَمِنْهَا أَن يظْهر لَهُ الْملك فِي الصُّورَة الَّتِي خلقه الله تَعَالَى فِيهَا لَهُ سِتّمائَة جنَاح، رَآهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كَذَلِك مرَّتَيْنِ على مَا أخبر الله تَعَالَى بِهِ فِي قَوْله: {وَلَقَد رَآهُ بالأفق الْمُبين} ، {وَلَقَد رَآهُ نزلة أُخْرَى عِنْد سِدْرَة المنتهي} ، وَقد أوضحت ذَلِك بِتَوْفِيق الله عز وَجل فِي " شرح الشقراطيسية ". وَفِي " الصَّحِيح " أَن عَائِشَة سَأَلت النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - عَن هَاتين الْآيَتَيْنِ؟ فَقَالَ: هُوَ جِبْرِيل لم أره على صورته الَّتِي خلق عَلَيْهَا غير هَاتين الْمَرَّتَيْنِ، رَأَيْته منهبطا من السَّمَاء سَادًّا عظم خلقه مَا بَين السَّمَاء إِلَى الأَرْض ".

وَمِنْهَا أَن يكلمهُ الله تَعَالَى من وَرَاء حجاب، وَذَلِكَ على ضَرْبَيْنِ: أَحدهمَا: فِي الْيَقَظَة وَهُوَ أَعلَى دَرَجَات الْوَحْي، كَمَا كَلمه فِي لَيْلَة الْإِسْرَاء قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " فَأوحى إِلَيّ مَا أوحى، فَفرض عَليّ خمسين صَلَاة ". فَقيل: كَانَ ذَلِك بِلَا وَاسِطَة، وَقيل: بِوَاسِطَة، وَأما مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فقد اخْتصَّ بِتَكْلِيم الله إِيَّاه بِلَا وَاسِطَة. وَالثَّانِي: أَن يكلمهُ فِي النّوم كَمَا فِي حَدِيث معَاذ الَّذِي خرجه التِّرْمِذِيّ، قَالَ: " أَتَانِي رَبِّي فِي أحسن صُورَة فَقَالَ: فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ فَقلت: لَا أَدْرِي، فَوضع كَفه بَين كَتِفي فَوجدت بردهَا بَين ثندوني، وتجلى لي علم كل شَيْء ". هَذِه الْوُجُوه السِّتَّة من كَيْفيَّة الْوَحْي إِلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - ذكرهَا السُّهيْلي وزدتها أَنا بَيَانا وإيضاحا. ثمَّ ذكر وَجها آخر وَجعله سابعا فَقَالَ: " قد بَينا الطّرق الصِّحَاح عَن عَامر الشّعبِيّ أَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل بِهِ إسْرَافيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَكَانَ

يتَرَاءَى لَهُ ثَلَاث سِنِين، ويأتيه بِالْكَلِمَةِ من الْوَحْي، ثمَّ وكل بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَجَاءَهُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحي ". قلت: لَا يَنْبَغِي أَن تعد هَذِه حَالَة سابعة بِاعْتِبَار اخْتِلَاف مَا بَين جِبْرِيل وإسرافيل عَلَيْهِمَا السَّلَام، لِأَن كِلَاهُمَا ملك جَاءَهُ بِالْوَحْي من الله تَعَالَى، على أَن هَذِه رِوَايَة مُرْسلَة، وَحَدِيث عَائِشَة لَا ينافيها فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون أول أمره الرُّؤْيَا، ثمَّ وكل بِهِ إسْرَافيل فِي تِلْكَ الْمدَّة الَّتِي كَانَ يَخْلُو فِيهَا بحراء، فَكَانَ يلقِي إِلَيْهِ الْكَلِمَة بِسُرْعَة وَلَا يُقيم مَعَه تدريجا لَهُ وتمرينا وتدريبا، إِلَى أَن جَاءَهُ جِبْرِيل فَعلمه بَعْدَمَا غطه ثَلَاث مَرَّات، فحكت عَائِشَة مَا جرى لَهُ مَعَ جِبْرِيل وَلم تحك مَا جرى لَهُ مَعَ إسْرَافيل اختصارا للْحَدِيث، أَو لم تكن وقفت على قصَّة إسْرَافيل، فَمَا كل مَا جرى للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - من الْآيَات والعجائب قبل الْبعْثَة وَبعدهَا روته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَقد

كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يرى عجائب قبل بعثته، فَمن ذَلِك مَا فِي " صَحِيح مُسلم " من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة قَالَ: قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " إِنِّي لأعرف حجرا كَانَ يسلم عَليّ قبل أَن أبْعث، إِنِّي لأعرفه الْآن ". وَوَقع فِي " سير ابْن إِسْحَاق " عَن عبيد بن عُمَيْر أَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " فَجَاءَنِي جِبْرِيل وَأَنا نَائِم بنمط من ديباج فِيهِ كتاب، فَقَالَ: اقْرَأ، قلت: مَا أَقرَأ، فغتني حَتَّى ظَنَنْت أَنه الْمَوْت "، فَذكر نَحْو حَدِيث عَائِشَة. وَلَيْسَ فِي حَدِيث عَائِشَة أَن ذَلِك كَانَ فِي النّوم، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنَافِيهِ، وَيجمع بَين الْحَدِيثين من وَجه حسن قَالَه السُّهيْلي وَهُوَ أَن يكون النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - رأى جِبْرِيل فِي الْمَنَام قبل أَن يَأْتِيهِ فِي الْيَقَظَة تَوْطِئَة وتيسيرا عَلَيْهِ ورفقا بِهِ، لِأَن أَمر النُّبُوَّة عَظِيم، وعبأها ثقيل والبشر ضَعِيف، وَهَذَا كَمَا ذكره فِي حَدِيث الْإِسْرَاء وَاخْتَارَهُ ثمَّ جمَاعَة من الْعلمَاء، وَفِي حَدِيث عَائِشَة مَا كَأَنَّهُ يرشد إِلَى ذَلِك إِذْ أخْبرت أَنه - صلى الله عليه وسلم - كلان لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح، تُرِيدُ فِي صِحَّتهَا وظهورها، فَكَانَت رُؤْيَته جِبْرِيل عَلَيْهِمَا السَّلَام فِي النّوم من ذَلِك لما رَآهُ يقظة وَالله أعلم.

فَإِن قلت: هَذِه التوطئة هَل فعلت مَعَ غير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ؟ قلت: لم يبلغنِي بعد فِي ذَلِك شَيْء، وَالْأَمر مُحْتَمل، فَيجوز أَن تكون فعلت مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم أَو مَعَ بَعضهم، وَيجوز أَن يكون ذَلِك من خَصَائِص مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - عناية من ربه بِهِ، وَزِيَادَة فِي إكرامه، وتفضيلا لَهُ على غَيره، وإظهارا لعلو مَنْزِلَته عِنْده وَشرف مَحَله، كَمَا عرف ذَلِك مِنْهُ بِهِ فِي غير ذَلِك، وَالله أعلم. ثن إِنِّي وجدت فِي " كتاب دَلَائِل النُّبُوَّة " لِلْحَافِظِ أبي نعيم أَحْمد بن عبد الله الْأَصْبَهَانِيّ: ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْحسن، ثَنَا مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي شيبَة، ثَنَا منْجَاب بن الْحَارِث، ثَنَا عبد الله بن الْأَجْلَح، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عَلْقَمَة بن قيس قَالَ: " إِن أول مَا يُؤْتى بِهِ الْأَنْبِيَاء فِي الْمَنَام حَتَّى تهدأ قُلُوبهم، ثمَّ ينزل الْوَحْي بعد ". وَقد ذكر الْحَلِيمِيّ من وُجُوه الْوَحْي أمرأ آخر فَقَالَ: " وَمِنْهَا أَن يلهم الله عز وَجل أحدا - يَعْنِي من الْأَنْبِيَاء - بِلَا كَلَام يسمعهُ علم شَيْء فيجده فِي نَفسه من غير توصل تقدم مِنْهُ إِلَيْهِ بِخَبَر أَو اسْتِدْلَال ".

ثمَّ قَالَ: " وَمِنْهَا أَن يُؤمر الْملك فينفث فِي روعه ". قلت " فجعلهما قسمَيْنِ وَلم يمثل الْقسم الأول، فَالله أعلم. وَقَالَ: " قد رُوِيَ فِي قَول الله عز وَجل: {حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم} أَن الله تَعَالَى إِذا تكلم بِالْوَحْي سمع أهل السَّمَوَات مثل صَوت السلسلة على الصفوان ففزعوا ". قَالَ: " فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إِذا أُوحِي إِلَيْهِ بِصَوْت مثل صلصلة الجرس كَانَ تَشْبِيها بِالْوَحْي الَّذِي يُوحى إِلَى الْمَلَائِكَة، فَيُشبه - وَالله أعلم - أَنه فِي تِلْكَ الْحَال كَانَ يكرم بإدنائه من طباع الْمَلَائِكَة، وتمثيله من بعض الْوُجُوه بهم، كَمَا كَانَ الْملك فِي بعض الْأَحْوَال يمثل رجلا لتكليمه ومخاطبته ". قَالَ: " وَمِنْهَا أَن يسمع النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - صَوتا وَلَا يرى مكلما، فَيَقَع لَهُ الْعلم بِمَا قيل لَهُ، ذكر وهب فِي كِتَابه أَنه كَانَت للأنبياء منَازِل، فَمنهمْ من كَانَ يسمع الصَّوْت فيفهمه ".

قَالَ الإِمَام أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ - وَهُوَ شيخ السُّهيْلي: " كَانَ الْوَحْي يَأْتِي رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهمَا: كَدَوِيِّ النَّحْل، رَوَاهُ عمر رَضِي الله عَنهُ. الثَّانِي: مثل صلصلة الجرس فِي شدَّة الصَّوْت وَهُوَ أشده. وَقد كَانَ رجل يَأْتِيهِ فيكلمه وَهُوَ أخفه ". قَالَ: " وَإِنَّمَا كَانَ البارئ عز وَجل يقلب عَلَيْهِ هَذِه الْأَحْوَال زِيَادَة فِي الِاعْتِبَار، وَقُوَّة فِي الاستبصار ".

فصل

فصل: والرؤيا: مصدر كالرجعى والبشرى، وَهِي فِي الْأَغْلَب مُخْتَصَّة بِمَا يرى مناما، ووصفت الرُّؤْيَا بِالصّدقِ لتحققها وظهورها على وفْق مَا رئي، وَفِي رِوَايَة عقيل " الرُّؤْيَا الصَّالِحَة "، وَهَذَا مُوَافق لما صَحَّ أَيْضا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْء من سبعين جُزْءا من النُّبُوَّة ". وَصَحَّ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَة جُزْء من سِتَّة وَأَرْبَعين جُزْءا من النُّبُوَّة ". أخرجهُمَا مُسلم فِي " صَحِيحه ". قَالَ ابْن عبد الْبر: " يحْتَمل أَن تكون الرُّؤْيَا نوعا من سِتَّة وَأَرْبَعين نوعا من نزُول الْوَحْي، فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَأْتِيهِ الْوَحْي على ضروب - فَذكر حَدِيث عَائِشَة

وَحَدِيث الْحَارِث بن هِشَام الْمُتَقَدِّمين - قَالَ -: وَقد كَانَ يتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيل بَين السَّمَاء وَالْأَرْض كالسحاب، وَذَلِكَ بَين فِي حَدِيث جَابر، وَأَحْيَانا يَأْتِيهِ فِي صُورَة إِنْسَان فيكلمه، وَفِي غير مَا حَدِيث أَنه كَانَ إِذا نزل عَلَيْهِ الْوَحْي يغط غطيط الْبكر وينفخ، إِلَى ضروب وأنواع لَا أحصيها. قَالَ أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن: " لَو كَانَت الرُّؤْيَا - يَعْنِي من النُّبُوَّة - كحصاة من عدد الْحَصَى كَانَ كثيرا ". وَقَوْلها: " فِي النّوم ": مُتَعَلق بالرؤيا، وَهُوَ تَأْكِيد إِن قُلْنَا: الرُّؤْيَا مُخْتَصَّة بِمَا وَقع مناما، ومبين إِن قُلْنَا: إِنَّهَا تسْتَعْمل أَيْضا فِي غير الْمَنَام، وَقد سبق تَقْرِير ذَلِك فِي " تَفْسِير آيَة سُبْحَانَ ".

ثمَّ فسرت مَا كنت عَنهُ بِذكر الصدْق فِي الرُّؤْيَا بقولِهَا: " فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح " هَكَذَا فِي رِوَايَة يُونُس عَن الزُّهْرِيّ الَّتِي ذكر مُسلم متنها " فَكَانَ " بِالْفَاءِ، وَفِي رِوَايَة عقيل عَن الزُّهْرِيّ وَهِي الَّتِي أخرج البُخَارِيّ متنها " وَكَانَ " بِالْوَاو، وَفَائِدَة الْوَاو أَن عَادَته - صلى الله عليه وسلم - فِي مناماته صَلَاحهَا وصدقها، وَلم يخْتَص ذَلِك بِمَا رَآهُ قبيل المبعث، وَلما كَانَت المنامات من قبل الله تَعَالَى وَمن ابتلائه بتمكين الشَّيَاطِين من التهاويل فِيهَا والتخويف كَانَ الْفرق الْفَاصِل بَين مَا جَاءَ من عِنْد الله مِنْهَا وَبَين أضعاث الشَّيَاطِين صَلَاح الرُّؤْيَا وحسنها وصدقها. وَمن وُجُوه الْحِكْمَة فِي بداءته بالمنامات الْحَسَنَة تدريجه من رُؤْيَة النّوم الْمُعْتَادَة إِلَى خطاب الْملك لَهُ فِي الْيَقَظَة فَذَلِك أسهل على النَّفس وَأبْعد عَن الفتور. قَالَ ابْن بطال: " قَالَ الْمُهلب: هِيَ تباشير النُّبُوَّة وَكَيْفِيَّة بدئها، لِأَنَّهُ لم يَقع لَهُ فِيهَا ضغث فيتساوى مَعَ النَّاس فِي ذَلِك بل خص بصدقها كلهَا ". و" فلق الصُّبْح " ضياؤه إِذا انْفَلق وتميز عَن ظلمَة اللَّيْل وَظهر نوره وانبلج، يُقَال: فلق الصُّبْح وَفرق الصُّبْح بِاللَّامِ وَالرَّاء المفتوحتين، وَهَذَا الْأَمر أبين من فلق الصُّبْح وَفرق الصُّبْح لُغَتَانِ صحيحتان فصيحتان

ذكرهمَا أَبُو الْعَبَّاس ثَعْلَب وَغَيره هَكَذَا مضافين إِلَى الصُّبْح، وَهَذَا إِنَّمَا يُقَال فِي الشَّيْء الْوَاضِح الْبَين، ضربت عَائِشَة ذَلِك مثلا فِي إتقانه مَا يُشَاهِدهُ وَصِحَّة تَأْوِيله. وَقَوْلها: " جَاءَت ": على حذف مُضَاف أَي جَاءَ تَأْوِيلهَا أَو مرئيها، وَقد اسْتعْمل " الفلق " غير مُضَاف إِلَى الصُّبْح كَقَوْلِه تَعَالَى: {قل أعوذ بِرَبّ الفلق} فِي قَول أَكثر الْمُفَسّرين فَإِن بَعضهم قد زعم أَنه الْخلق قَالَ الشَّاعِر: (يَا لَيْلَة لم أنمها بت مرتفقا ... أرعى النُّجُوم إِلَى أَن نور الفلق) وَلم أظفر بعد اسْتِعْمَال " الْفرق " بالراء غي مُضَاف إِلَى " الصُّبْح " إِلَّا فِي معنى غير هَذَا. قَوْلهَا: " ثمَّ حبب إِلَيّ الْخَلَاء ": الْخَلَاء بِالْمدِّ الْخلْوَة، وَفِي " الصَّحِيح " أَيْضا: " كَانَ إِذا أَتَى الْخَلَاء " أَي مَوَاضِع الْخَلَاء، كنى بِهِ عَن قَضَاء الْحَاجة الْمُلَازمَة الْخلْوَة لَهَا.

وَفَائِدَة " ثمَّ " هُنَا أَن حبه - صلى الله عليه وسلم - للخلوة كَانَ بَعْدَمَا ذكرته من صدق الرُّؤْيَا أَو فِي أَثْنَائِهَا، وَيجوز أَن تكون " ثمَّ " للتَّرْتِيب فِي الْخَبَر وَأَن مَا كَانَ يرَاهُ (كَانَ) فِي أَيَّام الْخلْوَة. وَفِي " سير ابْن إِسْحَاق " قَالَ: فَذكر الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة فَذكر الحَدِيث وَقَالَ: " وحبب الله إِلَيْهِ الْخلْوَة فَلم يكن شَيْء أحب إِلَيْهِ من أَن يَخْلُو وَحده ". قلت: فَلهَذَا وَقع فِي " الصَّحِيح ": " وحبب إِلَيْهِ الْخلْوَة " على لفظ مَا لم يسم فَاعله، وَلم يقل: " وَأحب الْخُلُو " " وَإِن كَانَ كل الْأَفْعَال من الله تَعَالَى لما فِي لفظ " وحبب " من الْإِشْعَار بِأَن ذَلِك لم يكن من جنس محبوبات النَّفس الَّتِي تقع على وفْق الْمُعْتَاد بل كَانَت تِلْكَ الدَّوَاعِي مِنْهُ من قبل توفيق الله تَعَالَى لَهُ وإلهامه إِيَّاه ذَلِك وعنايته بِهِ. قَوْلهَا: " فَكَانَ يَخْلُو بِغَار حراء ": فِي رِوَايَة يُونُس بِالْفَاءِ، وَفِي وَرِوَايَة عقيل بِالْوَاو، وفيهَا: " يلْحق " مَكَان " يَخْلُو " بيّنت بِهَذَا الْمَكَان الَّذِي كَانَ يَخْلُو فِيهِ وَهُوَ مَزَار مَعْرُوف بِمَكَّة.

وَفِي حَدِيث ابْن إِسْحَاق عَن عبد الْملك بن عبد الله بن أبي سُفْيَان ابْن الْعَلَاء بن جَارِيَة الثَّقَفِيّ قَالَ: وَكَانَ وَاعِيَة عَن بعض أهل الْعلم قَالَ: وَكَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إِلَى حراء فِي كل عَام شهرا من السّنة يتنسك فِيهِ، وَكَانَ من نسك من قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة يطعم من جَاءَ من الْمَسَاكِين حَتَّى إِذا انْصَرف من مجاورته لم يدْخل بَيته حَتَّى يطوف بِالْكَعْبَةِ. والغار والمغار - بِزِيَادَة مِيم - والمغارة - بِزِيَادَة هَاء -: هُوَ الْكَهْف فِي الجيل وَهُوَ النقب فِيهِ، سمي بذلك لِأَن الدَّاخِل فِيهِ يستنر بِهِ، فَكَأَنَّهُ قد غَار فِيهِ أَي تغيب، وَهَذَا غير الْغَار الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن ذَاك فِي جبل ثَوْر بِأَسْفَل مَكَّة، وَهَذَا فِي جبل حراء بِأَعْلَى مَكَّة، كِلَاهُمَا من جبال الْحرم. قَالَ مُسلم بن خَالِد: حراء جبل مبارك قد كَانَ يُؤْتى. قَالَ السُّهيْلي: " وَهُوَ الْجَبَل الَّذِي نَادَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حِين قَالَ لَهُ ثبير وَهُوَ على ظَهره: اهبط عني فَإِنِّي أَخَاف ان تقتل على ظَهْري فأعذب، فناداه حراء: إِلَيّ يَا رَسُول الله ".

وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم الْمَازرِيّ فِي كِتَابه " الْمعلم ": " حراء بِالْمدِّ جبل بَينه وَبَين مَكَّة قدر ثَلَاثَة أَمْيَال عَن يسارك إِذا سرت إِلَى منى. وَيجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث، وتذكيره أَكثر ". قَالَ القَاضِي عِيَاض: " فَمن ذكره صرفه، وَمن أنثه لم يصرفهُ، وَأَرَادَ الْبقْعَة الَّتِي فِيهَا الْجَبَل أَو الْجِهَة. قَالَ: وَقد قَالَ بَعضهم فِيهِ: " حرى " بِالْقصرِ وَفتح الْحَاء، وَكَذَا ضَبطهَا الْأصيلِيّ فِي " كتاب البُخَارِيّ " بِخَطِّهِ بِالْوَجْهَيْنِ. قَالَ: وَالْأول أعرف، وَهُوَ الصَّحِيح. قَالَ: وَقَالَ الْخطابِيّ: أَصْحَاب الحَدِيث يخطؤون فِيهِ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: يفتحون الْحَاء وَهِي مَكْسُورَة، ويكسرون الرَّاء وَهِي مَفْتُوحَة، ويقصرون الْألف وَهِي ممدوة ".

قلت: وجدت هَذِه الْحِكَايَة (فِي " درة الغواص " منسوبة إِلَى أبي عمر الزَّاهِد، ووجدتها) فِي مَوَاضِع أخر بِغَيْر هَذَا اللَّفْظ عَن بعض أهل الْعلم قَالَ: " الْعَامَّة لحنت (فِي " حراء ") فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: فتحت حاءه وَهِي مَكْسُورَة، وقصرته وَهُوَ مَمْدُود، وَتركت صرفه وَهُوَ مَصْرُوف فِي الِاخْتِيَار لِأَنَّهُ اسْم جبل ". قلت: وَلَو ضم إِلَيْهِ أَنهم كتبوه بِالْيَاءِ لَصَارَتْ أَرْبَعَة، إِلَّا أَن ذَلِك من تَفْرِيع كَونهم يقصرونه، وَالصَّوَاب مده وَكتبه بِالْألف، وحراء: جبل بِأَعْلَى مَكَّة لَهُ قلَّة مشرفة منحنية، والغار مشرف فِي رَأسه مِمَّا يَلِي الْقبْلَة، وَمَا أحسن مَا وَصفه بِهِ رؤبة بن العجاج الراجز فِي قَوْله: (فَلَا وَرب الْأَمَانَات الْقطن ... وَرب وَجه من حراء منحن) وَقَالَ الشَّاعِر: (تفرج عَنْهَا الْهم لما بدا لَهَا ... حراء كرأس الْفَارِسِي المتوج)

وَفِي شعر أبي طَالب: (وثور وَمن أرسى ثبيرا مَكَانَهُ ... وراق لبر فِي حراء ونازل) وَيَقَع فِي تصانيف كَثِيرَة هَذَا الْبَيْت: (وراق ليرقى فِي حراء ... ) وَهُوَ تَصْحِيف ضَعِيف الْمَعْنى فَإِنَّهُ مَعْلُوم أَن الراقي يرقى وَإِنَّمَا هُوَ وراق لبر، أَي فِي طلب الْبر وَهُوَ خلاف الْإِثْم، أقسم بطالب الْبر بصعوده فِي حراء للتعبد فِيهِ وبالنازل مِنْهُ لِأَنَّهُ حَدِيث عهد بالتعبد وَالله أعلم. فحراء: مكسور الْحَاء مَمْدُود مَصْرُوف كَمَا وَقع فِي هَذِه الأبيات، وَلم أظفر بِهِ بعد غير مَصْرُوف فِي شَيْء من اشعارهم (إِلَّا فِيمَا أنْشدهُ الْجَوْهَرِي: (أَلسنا أكْرم الثقلَيْن طرا ... وأعظمهم بِبَطن حراء نَارا) قَالَ: " فَلم يصرفهُ لِأَنَّهُ ذهب بِهِ إِلَى الْبَلدة الَّتِي هُوَ بهَا ".

قلت: وَلَا يُمكن إنشاده فِي الْبَيْت مصروفا بِخِلَاف الأبيات الْمُتَقَدّمَة) ، فَلَا يعْتَقد أَن هَؤُلَاءِ الشُّعَرَاء إِنَّمَا صرفوه ضَرُورَة إِذْ لَا ضَرُورَة فَإِن الْوَزْن فِي الأبيات الثَّلَاثَة مُسْتَقِيم وَأَن لم يصرف إِذْ غَايَته دُخُول الْقَبْض فِي " فعولن " و " مستفعلن "، وَذَلِكَ سَائِغ فِي بحري الطَّوِيل وَالرجز اللَّذين مِنْهُمَا هَذِه الأبيات على مَا هُوَ مَعْلُوم عِنْد العروضيين، وَلَو لم يكن كَذَلِك لما صَحَّ لنا أَن نقُول: إِن الشُّعَرَاء صرفوه ضَرُورَة إِذْ لَا يعْتَذر بذلك إِلَّا عِنْد وجود سَبَب منع الصّرْف والنزاع فِيهِ، وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْدِير التَّأْنِيث فِيهِ لِأَنَّهُ اسْم جبل فَهُوَ اسْم مُذَكّر لمذكر فَصَارَ كزيد وَعَمْرو، وَنَصّ أَبُو عَمْرو الْجرْمِي وَغَيره على أَنه يجوز ترك صرفه على تَأْوِيل أَنه اسْم لبقعة، وأجروا ذَلِك فِي " قبَاء " و " حنين " و " منى " وَغير ذَلِك، وَأنْشد الْقَزاز رجز رؤبة غير مَصْرُوف فَقَالَ: وَرب ركن من حراء منحني، بترك الصّرْف على أَن الْهمزَة للتأنيث، وَالصَّوَاب الصّرْف. قلت: لَا يجوز أَن تكون الْهمزَة فِي " حراء " و " قبَاء " وَنَحْو ذَلِك للتأنيث بل هِيَ بدل من لَام الْكَلِمَة كَمَا فِي " كسَاء " و " رِدَاء " و " دُعَاء " وَلَا وَجه لترك الصّرْف إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ أَولا، وَالصرْف أولى وَهِي لُغَة الْقُرْآن فِي

فَإِن اسْتشْهد لصِحَّة الْوَجْه الثَّانِي بِأَن من الْجبَال مَا قد سمي بأسماء مُؤَنّثَة ك: " سلمى " و " رضوى ". قيل: التَّسْمِيَة بِاللَّفْظِ الْمُؤَنَّث لَا يدل على أَن الْمُسَمّى يقدر فِيهِ التَّأْنِيث بِدَلِيل " طَلْحَة " و " حَمْزَة " و " ربيعَة " وَنَحْو ذَلِك فِي أَسمَاء الرِّجَال وَإِن أمكن تَقْدِير التَّأْنِيث فِيهَا بِاعْتِبَار النَّفس والذات والحقيقة. وَمَا أحسن مَا قَالَه أَبُو زيد الفازازي فِي " القصائد العشرينات " اللَّاتِي مدح بِهن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأول كل بَيت مُوَافق لروبة: (ثوى قبل نور الْوَحْي فِي نور خلْوَة ... بِغَار حراء مُفردا يَتَحَنَّث) (ثبير وَأحد أكْرم الأَرْض تربة ... مهاجره هَذَا وَذَلِكَ مبعث) قَوْلهَا: " يَتَحَنَّث فِيهِ ": فِي مَوضِع الْحَال، أَي يَخْلُو بِالْغَارِ متحنثا فِيهِ، هَكَذَا فِي رِوَايَة يُونُس، وَفِي رِوَايَة عقيل " فيتحنف " بِالْفَاءِ فَتكون عطفا على " يَخْلُو ". ثمَّ فسر التحنث فِي الحَدِيث بِأَن قيل: " وَهُوَ التَّعَبُّد، وَهَذَا التَّفْسِير يحْتَمل أَن يكون من تَتِمَّة كَلَام عَائِشَة، وَيحْتَمل أَن يكون من قبل عُرْوَة

فسره لِلزهْرِيِّ، وَيحْتَمل أَن يكون الزُّهْرِيّ فسره لأَصْحَابه وَأَن يكون الْمُفَسّر بعض من هُوَ دون الزُّهْرِيّ من الْمَذْكُورين فِي سَنَد الحَدِيث. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: " فسر مُسلم التحنث التَّعَبُّد - قَالَ - وَمَا فسره بِهِ مُسلم فسره أَبُو إِسْحَاق الْحَرْبِيّ، وَذكر نَحوه عَن ابْن إِسْحَاق ". قَالَ الْمَازرِيّ: " تَحنث الرجل إِذا فعل فعلا خرج بِهِ عَن الْحِنْث، والحنث: الذَّنب، وَكَذَلِكَ تأثم: إِذا ألْقى عَن نَفسه الْإِثْم، وَمثله تحرج وتحوب: إِذا فعل فعلا خرج بِهِ عَن الْحَرج وَالْحوب، وَفُلَان يتهجد: إِذا كَانَ يخرج من الهجود، ويتنجس: إِذا فعل فعلا يخرج بِهِ عَن النَّجَاسَة، وَامْرَأَة قذور: إِذا كَانَت تتجنب الأقذار، ودابة ريض: إِذا لم ترض، - قَالَ: هَذَا كُله عَن الثعالبي إِلَّا تأثم فَهُوَ عَن الْهَرَوِيّ.

وَقَالَ أَبُو عبد الله الْقَزاز: " التحنث: إمَاطَة الْحِنْث وإزالته، وَمثله التحوب وَهُوَ إِلْقَاء الْحُوب وَهُوَ الْإِثْم والذنب - قَالَ -: وَلم يَأْتِ تفعل الرجل إِذا ألْقى الشَّيْء عَن نَفسه غير هاذين. وَمِنْه قَول حَكِيم بن حزَام للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " يَا رَسُول الله، أَرَأَيْت أمورا كُنَّا نتحنث بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة من صَدَقَة وصلَة رحم هَل لي فِيهَا من أجر "، يُرِيد بالتحنث إِلْقَاء الْحِنْث. وَقَالَ الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان الْخطابِيّ: " وَقيل للتعبد التحنث لِأَنَّهُ يلقِي بِهِ الْحِنْث عَن نَفسه، وَنَظِيره فِي الْكَلَام التحوب والتأثم أَي إِلْقَاء الْحُوب وَالْإِثْم عَن النَّفس، قَالُوا: وَلَيْسَ فِي كَلَامهم: نَفْعل الرجل إِذا ألْقى الشَّيْء، عَن نَفسه غير هَذِه ". قلت: فحصر الْقَزاز ذَلِك فِي حرفين، وَزَاد الْخطابِيّ ثَالِثا وَفِي كَلَامهم بِهَذَا الْمَعْنى أَكثر من ذَلِك وَإِن كَانَ على خلاف قَاعِدَة الْبَاب، فَإِن الأَصْل أَن " تفعل " الْمُشْتَقّ من شَيْء هُوَ لمن فعل ذَلِك الشَّيْء، مثل " تكلم " و " تعلم " و " تحسر " و " تغسل "، لِأَن معنى ذَلِك: صدر مِنْهُ

كَلَام وَعلم وحسرة وَغسل لَا أَنه تجنب ذَلِك، وَمَعَ ذَلِك فقد جَاءَت أَلْفَاظ بِهَذَا الْمَعْنى، وَقد تقدم مَا نَقله الْمَازرِيّ زَائِدا على ثَلَاثَة الْخطابِيّ بِثَلَاثَة أَلْفَاظ وَهِي: " تحرج " و " تهجد " و " تنجس ". أما تحرج: فَمَعْنَاه تجنب الْحَرج، وَهُوَ فِي الأَصْل عبارَة عَن الضّيق ثمَّ عبر بِهِ عَن الْإِثْم. وَأما تهجد: فَمَعْنَاه تجنب الهجود، وَهُوَ نوم اللَّيْل قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن اللَّيْل فتهجد بِهِ نَافِلَة لَك} قَالَ الزّجاج: " تهجد الرجل إِذا سهر، وهجد إِذا نَام، وَقد هجدته إِذا نومته، قَالَ لبيد: (قلت هجدنا فقد طَال السرى ... ) قَالَ أَبُو الْقَاسِم الزَّمَخْشَرِيّ: " وَيُقَال أَيْضا فِي النّوم تهجد ". وَقَالَ حَمْزَة الْكرْمَانِي: " هجد نَام، وتهجد اسْتَيْقَظَ، وَمثله حنث وتحنث، والتهجد ترك النّوم للصَّلَاة، فَإِن لم يصل فَلَيْسَ بتهجد ".

قلت: لَعَلَّه أَرَادَ فِي عرف الْفُقَهَاء، وَأما فِي أصل اللُّغَة فَلَا احسب هَذَا الِاشْتِرَاط صَحِيحا إِلَّا أَن ينْقل أَن لَفظه " تهجد " بِمَعْنى ترك الهجود لم يسمع إِلَّا من جِهَة الشَّارِع فَقَط وَلم تكن الْعَرَب تعرفه، وَهَذَا بعيد وَالله أعلم. وَأما تنجس: فَقَالَ الْجَوْهَرِي: " التَّنْجِيس: شَيْء كَانَت الْعَرَب تَفْعَلهُ كالعوذة تدفع بِهِ الْعين، وَمِنْه قَول الشَّاعِر: (وعلق أنجاسا على المنجس ... ) قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: " من المعاذات: التميمة، والمنجسة، والنجاس التعويذ، وَيُقَال للمعوذ: منجس) . قَالَ ثَعْلَب: " قلت لِابْنِ الْأَعرَابِي: لم قيل للمعوذ منجس وَهُوَ مَأْخُوذ من النَّجَاسَة؟ فَقَالَ: إِن للْعَرَب أفعالا تخَالف مَعَانِيهَا ألفاظها، بقال: فلَان يَتَنَجَّس إِذا فعل فعلا يخرج بِهِ من النَّجَاسَة كَمَا قيل: يتأثم ويتحنث ويتحرج إِذا فعل فعلا يخرج بِهِ من الْإِثْم والحنث والحرج ".

قَالَ الْجَوْهَرِي: " والقذور من النِّسَاء الَّتِي تتقذر أَي تتنزه عَن الأقذار ". أَبُو عُبَيْدَة: " نَاقَة قذور تبرك نَاحيَة من الْإِبِل وتستبعد ". قَالَ الْجَوْهَرِي: " وناقة ريض أول مَا ريضت وَهِي صعبة بعد ". قلت: فَحصل لنا من هَذَا زِيَادَة حرف آخر وَهُوَ " تقذر " فَصَارَت سَبْعَة أحرف. وَزَاد بَعضهم " تخون " فَقَالَ: قَوْلهم: تخون فلَان فلَانا، أَي تعهده وَحفظه كَأَنَّهُ اجْتنب فِيهِ الْخِيَانَة الَّتِي هِيَ إخلال بِالْحِفْظِ والتعهد. قَالَ السُّهيْلي: " تفعل يَقْتَضِي الدُّخُول فِي الْفِعْل وَهُوَ الْأَكْثَر فِيهَا مثل: تفقه وَتعبد وتنسك، وَقد جَاءَت فِي أَلْفَاظ يسيرَة تُعْطِي الْخُرُوج عَن الشَّيْء واطراحه، كالتأثم والتحرج والتحنث بالثاء الْمُثَلَّثَة، لِأَنَّهُ من الْحِنْث والحنث الْحمل الثقيل، وَكَذَلِكَ التقذر إِنَّمَا هُوَ تبَاعد عَن القذر ".

قلت: قد رويت هَذِه اللَّفْظَة بالثاء الْمُثَلَّثَة كَمَا فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَرويت بِالْفَاءِ كَمَا فِي " سير ابْن إِسْحَاق " من حَدِيث عبيد بن عُمَيْر قَالَ: " كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور فِي حراء فِي كل سنة شهرا، وَكَانَ ذَلِك مِمَّا تحنف بِهِ قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة، والتحنف التبرر، فَكَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور ذَلِك الشَّهْر من كل سنة يطعم من جَاءَهُ من الْمَسَاكِين، فَإِذا قضى جواره من شهره ذَلِك كَانَ أول مَا يبْدَأ بِهِ الْكَعْبَة فيطوف سبعا ثمَّ يرجع إِلَى بَيته ". فَأَما التحنث بالثاء فَهُوَ بِمَعْنى تجنب الْحِنْث وَهُوَ الذَّنب المؤثم وَمِنْه: {وَكَانُوا يصرون على الْحِنْث الْعَظِيم} وَقيل: حنث فلَان فِي يَمِينه كَذَلِك أَي أَثم فِيهَا وأذنب، هَذَا هُوَ أَصله ثمَّ عبر بهَا عَن عدم الْوَفَاء بِالْيَمِينِ مُطلقًا إِذْ الْحِنْث يكون وَاجِبا ومندوبا ومباحا، وَفِي الحَدِيث: " لم يبلغُوا الْحِنْث " أَي زمَان الْحِنْث وَهُوَ وقتت الْبلُوغ لأَنهم حِينَئِذٍ يعْتد

عَلَيْهِم بأعمالهم ذنوبا، فَمَعْنَى " يَتَحَنَّث " يفعل فعلا يخرج بِهِ من الْحِنْث. وَأما مَا وَقع فِي الحَدِيث من تَفْسِير التحنث بالتعبد فَهُوَ تَفْسِير على الْمَعْنى من غير نظر إِلَى اشتقاق اللَّفْظ. وَأما التحنف بِالْفَاءِ فَقَالَ السُّهيْلي: " هُوَ من بَاب التبرر لِأَنَّهُ من الحنيفية دين إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، وَإِن كَانَت الْفَاء مبدلة من الثَّاء فَهُوَ من بَاب التقذر والتأثم وَهُوَ قَول ابْن هِشَام، وَاحْتج بجدث وجدف ". وَفِي " شرح أبي عبد الله بن الْحَافِظ إِسْمَاعِيل " قَالَ: وَسُئِلَ ابْن الْأَعرَابِي عَن قَوْله: يَتَحَنَّث - يَعْنِي فِي هَذَا الحَدِيث - فَقَالَ: لَا أعرفهُ، وَسَأَلت أَبَا عَمْرو الشَّيْبَانِيّ عَنهُ؟ فَقَالَ: لَا أعرف يَتَحَنَّث إِنَّمَا هُوَ يتحنف من الحنيفية، وَقَوْلهمْ أَي تجنب الْإِثْم وَتَركه، وَمِنْه مَا فِي " الصَّحِيح " من حَدِيث أنس قَالَ: " فَأخْبر بهَا معَاذ عِنْد مَوته تأثما ".

قَالَ الْمَازرِيّ: وَالْأَظْهَر عِنْدِي أَنه لم يرد فِي هَذَا الحَدِيث هَذَا الْمَعْنى لِأَن فِي سِيَاقه مَا يدل على خِلَافه. قَالَ القَاضِي عِيَاض: " لَعَلَّه لم ير هَذَا التَّفْسِير بَينا لما ورد فِي أول الحَدِيث: أَلا أبشر النَّاس؟ قَالَ: لَا تبشرهم فيتكلوا، فَأَي إِثْم فِي كتم مَا أَمر النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بكتمه، لكني أَقُول: لَعَلَّ معَاذًا لم يفهم من النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - النَّهْي لَكِن كسر عزمه عَمَّا عرض عَلَيْهِم من بشراهم بِهِ بِدَلِيل حَدِيث أبي هُرَيْرَة حِين قَالَ لَهُ: من لقِيت يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله مُسْتَيْقنًا بهَا قلبه فبشره بِالْجنَّةِ، ثمَّ لما قَالَ عمر للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: أخْشَى أَن يتكل النَّاس فخلهم يعملوا، قَالَ: فخلهم. قَالَ: أَو يكون معَاذ بلغه بعد أَمر النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بذلك لأبي هُرَيْرَة، وحذر أَن يكتم علما علمه وتأثم من ذَلِك فَأخْبر بِهِ، أَو يكون حمل النَّهْي على إذاعته للْعُمُوم وَرَأى أَن يخص بِهِ كَمَا خصّه بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام، وَلِهَذَا ترْجم البُخَارِيّ عَلَيْهِ: من خص بِالْعلمِ قوما دون قوم كَرَاهِيَة أَن لَا يفهموا ".

قلت: هَذَا الْإِشْكَال الَّذِي ذكره القَاضِي كَانَ وَقع لي قَدِيما قبل الْوُقُوف على كِتَابه وَقلت: أَي إِثْم كَانَ يلْحقهُ لَو لم يخبر بِهِ حَتَّى تجنب الْإِثْم بإخباره، غَايَته أَن يُقَال جَاءَت آثَار وأخبار تَقْتَضِي الْأَمر بالتبليغ وَالنَّهْي عَن الكتمان نَحْو: {إِن الَّذين يكتمون} ، " بلغُوا عني وَلَو آيَة ... "، " نضر الله امرءأ ... "، وَنَحْو ذَلِك، إِلَّا أَن هَذِه الْأَشْيَاء غايتها أَن تكون عَامَّة فِي جَمِيع مَا سمع من النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تتَنَاوَل مَحل النزاع، وَفِي مَحل النزاع دَلِيل يَخُصُّهُ يَقْتَضِي منع الْإِعْلَام، وَالْخَاص مقدم على الْعَام. وَهَذَا الْإِشْكَال كنت أوردته على الشَّيْخ أبي الْخطاب بن دحْيَة رَحمَه الله بديار مصر فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة عِنْد وُصُول قَارِئ " كتاب مُسلم " إِلَى هَذَا الحَدِيث، فَلم يجب غير أَنه قَالَ: هَذَا جدل وَصَاح، فَأَشَارَ إِلَى بعض أَصْحَابه فَأَمْسَكت. وَجَوَاب هَذَا أَن الحَدِيث لَيْسَ فِيهِ صَرِيح نهي وَإِنَّمَا فِيهِ احْتِمَال، فتردد معَاذ فِي ذَلِك، ثمَّ ترجح عِنْده بآخرة أَنه لَا نهي فِيهِ فَأخْبر بِهِ، وَذَلِكَ.

أَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا من عبد يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله إِلَّا حرمه الله على النَّار، فَقَالَ معَاذ: يَا رَسُول الله، أَفلا أخبر بهَا فيستبشروا؟ قَالَ: إِذا يتكلوا ". فَقَوله: " إِذا يتكلوا " يحْتَمل أَن يكون إِيمَاء إِلَى أَنَّك لَا تخبر بهَا خوفًا من حُصُول هَذِه الْمفْسدَة، وَيحْتَمل أَن يكون مُجَرّد هَذَا تخوف من النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَن مُرَاده التَّبْلِيغ لِأَن هَذَا من جملَة مَا أنزل عَلَيْهِ وأوحي إِلَيْهِ، وَطَرِيق التَّبْلِيغ أَن يلقيه على بعض أَصْحَابه وَذَلِكَ الصَّحَابِيّ يبلغهُ غَيره، فَكيف ينْهَى عَن التَّبْلِيغ وَهُوَ مَأْمُور بِهِ؟ فَلَعَلَّ معَاذًا توقف لذَلِك مُدَّة حَيَاته ثمَّ احتاط لنَفسِهِ فَبلغ، لِأَن الْأَوَامِر بالتبليغ صَرِيحَة فَلَا تتْرك بِاحْتِمَال النَّهْي، كَيفَ وَأَنه قد ورد معنى هَذَا الحَدِيث عَن غير معَاذ وَأنس وَلَيْسَ فِيهِ إِيمَاء إِلَى الْإِمْسَاك عَن الْإِخْبَار بِهِ وَالله أعلم. قَالَ الْمَازرِيّ: " وَاخْتلف النَّاس هَل كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - متعبدا قبل نبوته بشريعة أم لَا؟ فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه غير متعبد أصلا. ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ هَل يَنْتَفِي ذَلِك عقلا أم نقلا؟ فَقَالَ بعض المبتدعة: يَنْتَفِي عقلا لِأَن ذَلِك تنفير عَنهُ وغض من قدره إِذا تنبأ عِنْد أهل تِلْكَ الشَّرِيعَة الَّتِي كَانَ من جُمْلَتهمْ، وَمن كَانَ تَابعا فيبعد مِنْهُ أَن يكون متبوعا - قَالَ: وَهَذَا خطأ وَالْعقل لَا يحِيل هَذَا.

وَقَالَ آخَرُونَ من حذاق أهل السّنة: إِنَّمَا يَنْتَفِي ذَلِك من جِهَة أَنه لَو كَانَ لنقل ولتداولته الألسن وَذكر فِي سيرته فَإِن هَذَا مِمَّا جرت بِهِ الْعَادة بِأَنَّهُ لَا يكتم. وَقَالَ غير هَاتين الطَّائِفَتَيْنِ: بل هُوَ متعبد: ثمَّ اخْتلفُوا أَيْضا هَل هُوَ متعبد بشريعة إِبْرَاهِيم أَو غَيره من الرُّسُل فَقيل فِي ذَلِك أَقْوَال، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله: {أَن اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} فِي تَوْحِيد الله وَصِفَاته ". قَالَ القَاضِي عِيَاض: " وَلَا خلاف بَين أهل التَّحْقِيق أَنه قبل نبوته عَلَيْهِ السَّلَام وَسَائِر الْأَنْبِيَاء منشرح الصَّدْر بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِيمَان بِاللَّه لَا يَلِيق بِهِ الْكفْر وَلَا الشَّك فِي شَيْء من ذَلِك وَلَا الْجَهْل بِهِ، وَلَا خلاف فِي عصمتهم من ذَلِك خلافًا لمن جوزه وَحجَّة المانعين مِنْهُ الطريقان

المتقدمان وَالصَّحِيح مِنْهُمَا النَّقْل فَلَو كَانَ شَيْء من ذَلِك لنقل، ثمَّ تظاهرت الْأَخْبَار الصَّحِيحَة عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام وَعَن غَيره من الْأَنْبِيَاء بِصِحَّة معرفتهم بِاللَّه وهدايتهم من صغرهم وتجنبهم عبَادَة غير الله تَعَالَى، فقد عيرت قُرَيْش نَبينَا والأمم أنبياءهم ورمتهم بِكُل آفَة، وبرأهم الله مِمَّا قَالُوا، وقص الله علينا من ذَلِك فِي كِتَابه أَنهم قَالُوا: {أتنهانا أَن نعْبد مَا يعبد آبَاؤُنَا} ، {إِن تَقول إِلَّا اعتراك بعض آلِهَتنَا بِسوء} ، وَلَو كَانَ أحدهم عبد مَعَهم معبودهم وأشرك شركهم قبل نبوته لعيروه بتلونه فِي معبوده، وقرعوه بِفِرَاق مَا كَانَ جامعهم عَلَيْهِ من ديانته، وَكَانَ أبلغ فِي تأنيبهم لَهُم من أَمرهم بمفارقة معبود آبَائِهِم - قَالَ - وَقد بسطنا الْكَلَام

فِي هَذَا الْفَصْل بِمَا فِيهِ مقنع فِي غير هَذَا الْكتاب، وَجِئْنَا بالأجوبة عَمَّا يعْتَرض بِهِ على هَذَا من ظواهر الْقُرْآن كَقَوْلِه: {ووجدك ضَالًّا فهدى} ، وَقَوله {وَإِن كنت من قبله لمن الغافلين} ، وَقَول إِبْرَاهِيم: {هَذَا رَبِّي} ، وَأَشْبَاه هَذَا ومعاني هَذِه الْآي وتأويلاتها فِي كتَابنَا " الشفا ". وخلوه عَلَيْهِ السَّلَام بِغَار حراء وتحنثه فِيهِ أول مبادئ بشارات نبوته، وَذَلِكَ أَن تحبيب الْخلْوَة لَهُ إلهام من الله تَعَالَى لما أَرَادَ الله بِهِ من خلوه بِنَفسِهِ، وتفرغه للقاء رسل ربه، وَسَمَاع وحيه، وقطعه العلائق الشاغلة عَن ذَلِك كَمَا كَانَ. وَفِيه تَنْبِيه على فضل الْخلْوَة وَالْعُزْلَة وَثَمَرَة التفرغ لذكر الله، وَأَن ذَلِك يرِيح السِّرّ من الشّغل بِغَيْر الله، ويقل الْهم بِأُمُور الدُّنْيَا، ويخلي الْقلب عَن التَّعَلُّق والركون بِأَهْلِهَا، فيصفو وتتفجر ينابيعه بالحكمة، وتشرق جوانبه بالحقائق والمعرفة، وَيفِيض عَلَيْهِ من جِهَات فضل الله وأنوار رَحمته مَا قدر لَهُ ".

قَوْلهَا: " اللَّيَالِي أولات الْعدَد ": وَفِي رِوَايَة عقيل: " ذَوَات الْعدَد "، وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى، والليالي مَنْصُوب على الظّرْف أَي يتحدث فِي لَيَال مَعْدُودَة، وَكَأن ذكر الْعدَد هُنَا يُفِيد ضربا من الْقلَّة كَمَا قيل ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى: {أَيَّامًا معدودات} و {دَرَاهِم مَعْدُودَة} ، أَو الْكَثْرَة كَمَا قيل ذَلِك فِي قَوْله تَعَالَى: {فضربنا على آذانهم فِي الْكَهْف سِنِين عددا} . قَوْلهَا: " قبل أَن يرجع إِلَى أَهله ": هَذِه رِوَايَة يُونُس، وَفِي رِوَايَة عقيل " قبل أَن ينْزع إِلَى أَهله ". قَالَ ابْن سَيّده: " نزع إِلَى وَطنه نزوعا حن وَهُوَ نزوع ". وَقَالَ الْجَوْهَرِي: " نزع إِلَى أَهله ينْزع نزاعا أَي اشتاق، وبعير نَازع وناقد نَازع إِذا حنث إِلَى أوطانها ومرعاها قَالَ: (وَقلت لم لَا تعذلوني وانظروا ... إِلَى النازع الْمَقْصُور كَيفَ يكون ")

وَأهل الرجل: زَوجته وَمن يجمعه وإياهم نسب أَو دين أَو صناعَة أَو بَيت أَو بلد أَو مَا يجْرِي مجْرى ذَلِك، فَهُوَ يسْتَعْمل فِي جَمِيع ذَلِك، وَالْمرَاد هُنَا الزَّوْجَة فَقَط، وَلِهَذَا صرحت بِهِ بعد ذَلِك فِي قَوْلهَا: " ويتزود لذَلِك ثمَّ يرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثلهَا " وَلم يكن للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ امْرَأَة غير خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا، أَي أَنه كَانَ يُقيم بِغَار حراء الْأَيَّام مَعَ اللَّيَالِي، وَلَو لم تقل لما فهم ذَلِك من قَوْلهَا: " اللَّيَالِي أولات الْعدَد " على مجرده إِذْ كَانَ من الْجَائِز أَنه كَانَ يتعبد فِي الْغَار لَيْلًا وَيرجع إِلَى أَهله نَهَارا، فَأَشَارَتْ عَائِشَة إِلَى أَنه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يتزود لمُدَّة يَنْقَطِع فِيهَا بِالْغَارِ لَا يرجع فِيهَا إِلَى أَهله حَتَّى يفنى زَاده، أَو يشتاق إِلَى أَهله فَيرجع إِلَى خَدِيجَة فيتزود لمثل تِلْكَ الْمدَّة إِذا أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى حراء أَي لمُدَّة أُخْرَى. وَلم تكن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مُشَاهدَة شَيْئا من ذَلِك بل لم تكن مَوْجُودَة حيتئذ إِنَّمَا ولدت بعد النُّبُوَّة بِمدَّة لِأَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بنى بهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِي بنت تسع سِنِين، وَكَانَت إِقَامَة النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّة بعد النُّبُوَّة عشر سِنِين، وَقيل: ثَلَاث عشرَة سنة، وَقيل: خمس عشرَة. وَإِنَّمَا هَذَا الحَدِيث من بَاب مُرْسل الصَّحَابِيّ الَّذِي حكمه حكم الْمسند المسموع من النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَو الْمُشَاهدَة، فعائشة تكون قد سَمِعت ذَلِك من النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَو من أَبِيهَا أَو غَيره مِمَّن شَاهد ذَلِك، وعبرت عَنهُ بِهَذِهِ الْعبارَات الفصيحة البديعة المتقنة الْأَلْفَاظ والمعاني.

قَالَ الْأَحْنَف بن قيس: " سَمِعت خطْبَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَالْخُلَفَاء بعد فَمَا سَمِعت الْكَلَام من فِي مَخْلُوق أفخم وَلَا أحسن من عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ ". قَوْلهَا: " حَتَّى جَاءَهُ الْحق ": هَذِه رِوَايَة عقيل، وَفِي رِوَايَة يُونُس: " فجئه الْحق " أَي بغته. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: " أَي أَتَاهُ بِمرَّة، يُقَال بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا ". وَالْمرَاد بِالْحَقِّ هُنَا وَحي النُّبُوَّة، وَإِنَّمَا قَالَت: " فجئه " لِأَنَّهُ لم يكن شَيْئا يتوقعه. قَالَ الْخطابِيّ رَحمَه الله: " هَذِه الْأُمُور الَّتِي كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بُدِئَ بهَا من صدق الرُّؤْيَا، وَحب الْعُزْلَة عَن النَّاس، وَالْخلْوَة فِي غَار حراء والتعبد فِيهِ، ومواظبته الصَّبْر عَلَيْهِ اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد، إِنَّمَا هِيَ أَسبَاب ومقدمات أرهصت لنبوته وَجعلت مبادئ لظهورها، وَالْخلْوَة يكون مَعهَا فرَاغ الْقلب، وَهِي مُعينَة على الْفِكر، وقاطعة لدواعي الشّغل، والبشر لَا يَنْفَكّ عَن طباعه، وَلَا يتْرك مَا

أَلفه من عاداته، إِلَّا بالرياضة البليغة، والمعالجة الشَّدِيدَة، فلطف الله سُبْحَانَهُ لنَبيه - صلى الله عليه وسلم - فِي بادئه أمره فحبب إِلَيْهِ الْخلْوَة وقطعه عَن مُخَالطَة الْبشر ليتناسى المألوف من عاداتهم، وَيسْتَمر على هجران مَا لَا يحمد من أَخْلَاقهم وألزمه شعار التَّقْوَى، وأقامه مقَام التَّعَبُّد بَين يَدَيْهِ ليخشع قلبه وتلين عريكته لوُرُود الْوَحْي فيجد مِنْهُ مرَادا سهلا، وَلَا يصادفه حزنا وعرا - قَالَ -: وعَلى هَذَا الْمَعْنى كَانَ وَالله أعلم مُطَالبَة الْملك إِيَّاه بِالْقِرَاءَةِ ومعالجته إِيَّاه بالغط وَشدَّة الضغط، فَإِن الْآدَمِيّ إِذا بلغ مِنْهُ هَذَا الْمبلغ فِي أَمر سمح بِهِ إِن كَانَ فِي وَسعه، وتكلف بعض مَا حمل مِنْهُ إِن لم يكن ذَلِك من طبعه، فَجعلت هَذِه الْأَسْبَاب مُقَدمَات لما أرصد لَهُ من الشَّأْن ليرتاض بهَا ويستعد لما ندب لَهُ مِنْهُ، ثمَّ جَاءَهُ التَّوْفِيق والتيسير، وأمد بِالْقُوَّةِ الإلهية، فجبرت مِنْهُ النقائص البشرية، وجمعت لَهُ الْفَضَائِل النَّبَوِيَّة - صلى الله عليه وسلم - كثيرا. وَقَالَ غَيره: وَمن فَوَائِد خلوه بِنَفسِهِ مَا ألهمه الله سُبْحَانَهُ قبل ظُهُور الْملك لَهُ ومخاطبته لما أَرَادَهُ الله مِنْهُ من صدوفه عَن معبودات قُرَيْش يَوْمئِذٍ، وعزوف نَفسه الْكَرِيمَة عَن قرب الْأَصْنَام.

وتبرؤه مِنْهُ وإقباله على التحنث - وَهُوَ فعل الْبر - والقرب وَذكرهَا ذَلِك من حَاله يدل وَيُشِير إِشَارَة غَلَبَة ظن أَنه كَانَ يفعل من الصَّلَاة والصمت والإمساك نَهَارا عَن الطَّعَام بِحَسب مَا يرى فِي مَنَامه من ذَلِك احتذاء بِمَا يُشَاهد إِلَى أَن جَاءَهُ الْملك، فَجَمِيع مَا ذكرته ترشيح لَهُ وتوطئة لنَفسِهِ الْكَرِيمَة، ورياضة لإتيان الْملك، وَلَا بُد أَن يظْهر لَهُ من الْآيَات الْخَاصَّة بِهِ مَا يفرق بمعرفته بَين لمة الْملك وَغَيره. قَوْلهَا: " فَجَاءَهُ الْملك ": يَعْنِي جِبْرِيل صرح بذلك فِي غير هَذِه الرِّوَايَة. قَالَ ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي عبد الْملك بن عبد الله بن أبي سُفْيَان بن الْعَلَاء بن جَارِيَة الثَّقَفِيّ - وَكَانَ وَاعِيَة - عَن بعض أهل الْعلم: " أَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حِين أَرَادَ الله كرامته وابتدأه بِالنُّبُوَّةِ كَانَ إِذا خرج لِحَاجَتِهِ أبعد حَتَّى يحسر عَنهُ الثَّوْب، ويفضي إِلَى شعاب مَكَّة وبطون أَوديتهَا فَلَا يمر بِحجر وَلَا شجر إِلَّا قَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، فيلتفت رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حوله عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله وَخَلفه فَلَا يرى إِلَّا الشّجر وَالْحِجَارَة، فَمَكثَ كَذَلِك يرى وَيسمع مَا شَاءَ الله أَن يمْكث، ثمَّ جَاءَهُ جِبْرِيل بِمَا جَاءَهُ من كَرَامَة الله وَهُوَ بحراء فِي رَمَضَان ".

قلت: وَنَصّ أَيْضا على أَن ذَلِك فِي رَمَضَان عبيد بن عُمَيْر فِي حَدِيثه الطَّوِيل الَّذِي سَمعه ابْن إِسْحَاق من وهب بن كيسَان مولى الزبير، وسَمعه وهب من عبيد بن عُمَيْر. وروى الْوَاقِدِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى أبي جَعْفَر أَن ذَلِك كَانَ يَوْم الأثنين لسبع عشرَة خلت من رَمَضَان. وَقيل: كَانَ ذَلِك ثَانِي عشر رَمَضَان. وَقيل: فِي الرَّابِع وَالْعِشْرين مِنْهُ، وَالله أعلم. وَعند جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم أبي إِسْحَاق أَن قَوْله تَعَالَى: {شهر رَمَضَان الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآن} مأول بِهَذَا أَي ابْتَدَأَ إنزاله فِي رَمَضَان. وَفِي " صَحِيح مُسلم " عَن أبي قَتَادَة: " قيل: يَا رَسُول الله، صَوْم يَوْم الْإِثْنَيْنِ؟ قَالَ: فيد ولدت، وَفِيه أنزل عَليّ الْقُرْآن ". قَوْلهَا: " فَقَالَ اقْرَأ ": هَكَذَا وَقع فِي " الصَّحِيحَيْنِ " أَمر بِالْقِرَاءَةِ من غير ذكر المقروء، وَوَقع فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر قَالَ - صلى الله عليه وسلم -: " فَجَاءَنِي وَأَنا نَائِم بنمط من ديباج فِيهِ كتاب فَقَالَ: اقرأه "، فَفِي هَذِه الرِّوَايَة بَيَان المقروء، إِلَّا أَن الْأَشْبَه أَن هَذَا

المجئ غير الَّذِي فِي حَدِيث عَائِشَة لِأَن هَذَا صرح فِيهِ أَنه كَانَ مناما، وَحَدِيث عَائِشَة فِي الْيَقَظَة وَالله أعلم. قَالَ السُّهيْلي: " وَفِي الحَدِيث ذكر نمط الديباج مَعَ الْكتاب، وَفِيه دَلِيل وإشاره إِلَى أَن هَذَا الْكتاب بِهِ يفتح على أمته ملك الْأَعَاجِم، ويسلبونهم الديباج وَالْحَرِير الَّذِي كَانَ زيهم وزينتهم، وَبِه ينَال أَيْضا ملك الْآخِرَة ولباس الْجنَّة وَهُوَ الْحَرِير والديباج ". قَالَ: " وَفِي سير مُوسَى بن عقبَة " و " سير الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان " زِيَادَة وَهُوَ أَن جِبْرِيل أَتَاهُ بدرنوك من ديباج منسوج بالدر والياقوت فأجلسه عَلَيْهِ، غير أَن مُوسَى بن عقبَة قَالَ " ببساط " وَلم يقل: " درنوك ". وَقَالَ الْمُعْتَمِر: " فَمسح جِبْرِيل صَدره وَقَالَ: اللَّهُمَّ اشرح صَدره، وارفع ذكره، وضع عَنهُ وزره ". قَالَ: " ويصحح مَا رَوَاهُ الْمُعْتَمِر أَن الله تَعَالَى أنزل عَلَيْهِ: {ألم نشرح لَك صدرك} الْآيَات كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى ذَلِك الدُّعَاء الَّذِي كَانَ من جِبْرِيل وَالله أعلم ".

قلت: وَقع فِي " كتاب السُّهيْلي ": " سُلَيْمَان بن الْمُعْتَمِر "، وَالصَّوَاب: " الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان " كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا انْقَلب عَلَيْهِ الِاسْم، وَكَذَا قَالَ بعده فِي الْمَوْضِعَيْنِ: " ابْن الْمُعْتَمِر " وَصَوَابه دون ذكر " ابْن "، وَالله أعلم. قَوْله: " مَا أَنا بقارئ ": قَالَ الْمَازرِيّ: " قيل " مَا " هَا هُنَا نَافِيَة، وَقيل: استفهامية، كَأَنَّهُ قَالَ: وَأي شَيْء أَقرَأ - قَالَ -: وَقد ضعفوا الِاسْتِفْهَام بِإِدْخَال الْبَاء، وَلَو كَانَ استفهاما لقَالَ: " مَا أَنا قَارِئ "، وَإِنَّمَا تدخل الْبَاء على: مَا: النافية فتكونه الْبَاء تَأْكِيدًا للنَّفْي. قَالَ القَاضِي عِيَاض: " يصحح جعلناها من قَالَ: إِنَّهَا للاستفهام رِوَايَة من روى: " مَا قَرَأَ " قَالَ: وَقد يصحح أَيْضا أَن تكون هُنَا " مَا " نَافِيَة. قلت: إِن جعلنَا نَافِيَة احْتمل الْكَلَام مَعْنيين: أَحدهمَا: الِامْتِنَاع من أصل الْقِرَاءَة على الْإِطْلَاق أَي لَا أفعل كَمَا تَقول لمن قَالَ لَك: قُم: مَا أَنا بقائم، وَيكون سَبَب امْتِنَاعه من الْقِرَاءَة خشيَة أَن يكون عرض لَهُ عَارض من الْجِنّ إِذْ لم يكن بعد قد تحقق أَنه

ملك كَمَا قَالَ بعد ذَلِك لِخَدِيجَة: " لقد خشيت على نَفسِي " كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه وَذكره. الْمَعْنى الثَّانِي: أَن يكون مَعْنَاهُ: إِنِّي لَا أحسن الْقِرَاءَة، أَي لم أكن قطّ قَارِئًا للكتب وَلَا تعلمت مَا أقرؤه عَن ظهر قلب. وَفِي حَدِيث مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن أَبِيه فَقَالَ نَبِي الله - صلى الله عليه وسلم - - وَهُوَ خَائِف يرعد -: " مَا قَرَأت كتابا قطّ، وَمَا أحْسنه، وَمَا أكتب، وَمَا أَقرَأ، فَأَخذه (جِبْرِيل) فغته غتا شَدِيدا ثمَّ تَركه فَقَالَ لَهُ: اقْرَأ، فَقَالَ مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم -: مَا أرى شَيْئا أقرؤه، وَمَا أَقرَأ، وَمَا أكتب ". أخرجه الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي " دلائله "، فَهَذَا يدل على هَذَا الْمَعْنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ ثَانِيًا. وَوَقع فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر: " مَا أَقرَأ " وَهَذَا يحْتَمل أَن يكون نفيا وَأَن يكون استفهاما كَمَا ذكره القَاضِي، ويرجح كَونه نفيا رِوَايَة " الصَّحِيحَيْنِ ": " وَمَا أَنا بقارئ " على مَا بَيناهُ من المعنين، ويرجح كَونه استفهاما أَنه قَالَ فِي هَذِه الرِّوَايَة فِي الْمرة الثَّالِثَة: " قلت: وَمَا أَقرَأ مَا أَقُول ذَلِك إِلَّا افتداء مِنْهُ أَن يعود لي بِمَا صنع بِي ". وَفِي " مغازي مُوسَى بن عقبَة ": " فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: اقرأه، فَقَالَ: كَيفَ أَقرَأ؟ قَالَ: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} ".

فَهَذَا نَص فِي الِاسْتِفْهَام، لَكِن اللَّفْظ الَّذِي فِي " الصَّحِيحَيْنِ " يبعد أَن يكون استفهاما بِسَبَب زِيَادَة الْبَاء فِي خبر الْمُبْتَدَأ فَلَا يجوز أَن تَقول: زيد بقائم، وَإِنَّمَا هَذَا من خَصَائِص النَّفْي، وَهَذَا على قَول أَكثر النَّحْوِيين. وَحكي عَن أبي الْحسن الْأَخْفَش مِنْهُم أَنه أجَاز ذَلِك وَاسْتدلَّ بقوله تَعَالَى: {جَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا} وَقَالَ: الْخَبَر مثل الْمُبْتَدَأ، فَكَمَا جَازَ زِيَادَة الْبَاء فِي الْمُبْتَدَأ نَحْو: بحسبك زيد، جَازَ زيادتها فِي الْخَبَر، فعلى مَذْهَب الْأَخْفَش تتفق رِوَايَة " الصَّحِيحَيْنِ " وَرِوَايَة ابْن إِسْحَاق، وَيكون معنى الِاسْتِفْهَام: أَي شَيْء أَنا قارئه، فَإِن قُلْنَا: إِنَّه اسْتِفْهَام فَظَاهر من حَيْثُ أَن حَاله - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ كَانَت تَقْتَضِي ذَلِك، وَإِن قُلْنَا: أَنه نفي على الْمَعْنى الثَّانِي فَظَاهر أَيْضا لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ أُمِّيا، وَإِن قُلْنَا: هُوَ نفي بِالْمَعْنَى الأول فقد بَينا وَجه امْتِنَاعه وَهُوَ خَوفه من عَارض يلم بِهِ، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله أَولا: استفهاما، فَلَمَّا لم يجد بدا من الِامْتِثَال أنصت فَتلا عَلَيْهِ الْملك. قَوْله: " فأخذني فغطني ": هَكَذَا رِوَايَة " الصَّحِيحَيْنِ " بالغين الْمُعْجَمَة والطاء الْمُهْملَة، وَرُوِيَ بالثاء الْمُثَنَّاة من فَوق فِي مَوضِع الطَّاء، تعاقبت: الطَّاء والثاء على هَذِه اللَّفْظَة لقربهما فِي الْمخْرج، ويروى: " سأبني " و " سأتني " بِالْبَاء الْمُوَحدَة بعد الْهمزَة، وبالتاء الْمُثَنَّاة فَوق، وبالسين الْمُهْملَة فيهمَا، وَالْكل بِمَعْنى الخنق

والضغط وَالْعصر وَالْغَم، والعبارة المختصرة عَنهُ أَن يُقَال: هُوَ الْقَبْض الشَّديد؟ وَيُقَال: غطه فِي المَاء أَي غمسه ". قَالَ الْخطابِيّ: " وَمن ذَلِك غطيط الْبكر وغطيط النَّائِم وَهُوَ ترديده النَّفس إِذا لم يجد مساغا مَعَ انضمام الشفتين ". قَالَ أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: ويروى " فغمه " بِالْمِيم. قَالَ السُّهيْلي: " وَأَحْسبهُ أَيْضا يرْوى " فذعتني " أَي خنقني يَعْنِي بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَالْعين الْمُهْملَة وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ". قَالَ: " وَمن الذعت حَدِيثه الآخر: إِن الشَّيْطَان عرض لَهُ وَهُوَ يُصَلِّي قَالَ: فذعته حَتَّى وجدت برد لِسَانه على يَدي ".

قَوْله: " حَتَّى بلغ مني الْجهد ": يرْوى بِضَم الْجِيم وَبِفَتْحِهَا، وبرفع الدَّال وبنصبها، فالجهد: بِالضَّمِّ الطَّاقَة والوسع، وبالفتح التَّعَب والشدة، وَرفع الدَّال على معنى أَن " الْجهد " فَاعل " بلغ " أَي بلغ الْجهد مني مبلغه أَو مبلغا عَظِيما فأبهمه لذَلِك وَنصب الدَّال على معنى أَن الْملك بلغ مِنْهُ الْجهد فَهُوَ مفعول. قَالَ عِيَاض: " أَي بلغ الْغَايَة وَالْمُبَالغَة وَالْمَشَقَّة ". وَقَالَ الْقَزاز: قَوْله: " حَتَّى بلغ مني الْجهد " أَي أقْصَى مَا أقدر عَلَيْهِ وَهُوَ الْجهد، والجهد بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا لُغَتَانِ يُقَال: بلغ مني الْأَمر جهده وجهده ومجهوده. وَفِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر: " فغتني حَتَّى ظَنَنْت أَنه الْمَوْت " ثمَّ ذكر أَنه فعل ذَلِك بِهِ ثَلَاثًا. فَإِن قلت: لم فعل بِهِ الْملك ذَلِك؟ قلت: قَالَ الْمُهلب: " فِيهِ من الْفِقْه أَن الْإِنْسَان يذكر وينبه على فعل الْخَيْر بِمَا عَلَيْهِ فِيهِ مشقة ". قَالَ غَيره: وَفِيه دَلِيل على أَن الْمُسْتَحبّ فِي مُبَالغَة تَكْرِير التَّنْبِيه والحض على التَّعْلِيم ثَلَاث مَرَّات، وَقد رُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنه كَانَ إِذا قَالَ شَيْئا أَعَادَهُ ثَلَاثًا للإفهام ".

وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: " وَهَذَا الغط من جِبْرِيل لَهُ عَلَيْهِمَا السَّلَام شغل لَهُ عَن الِالْتِفَات إِلَى شَيْء من أَمر الدُّنْيَا، وإشعار بالتفرغ لما أَتَاهُ بِهِ، وَفعل ذَلِك ثَلَاثًا فِيهِ تَنْبِيه على اسْتِحْبَاب تكْرَار التَّنْبِيه ثَلَاثًا، وَقد اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على جَوَاز تَأْدِيب الْمعلم للمتعلمين ثَلَاثًا ". قَالَ: " وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك ليبلو صبره، وَيحسن تأديبه، فيرتاض لاحْتِمَال مَا كلفه من أعباء النُّبُوَّة، وَلذَلِك كَانَ يَعْتَرِيه مثل حَال المحموم، وتأخذه الرحضاء، أَي البهر والعرق - قَالَ -: وَذَلِكَ يدل على ضعف الْقُوَّة البشرية، والوجل لتوقع تَقْصِير فِيمَا أَمر بِهِ وَخَوف أَن يَقُول غَيره ". قلت: وَقد ذكرنَا كَلَام الْخطابِيّ فِي ذَلِك وَكَلَام السُّهيْلي قريب مِنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: وَكَانَ ذَلِك إِظْهَار للشدة وَالْجد فِي الْأَمر وَأَن يَأْخُذ الْكتاب بِقُوَّة وَيتْرك الأناة فَإِنَّهُ أَمر لَيْسَ بالهوينى.

قَالَ: وَقد انتزع بعض التَّابِعين وَهُوَ شُرَيْح القَاضِي من هَذَا أَن لَا يضْرب الصَّبِي على الْقُرْآن إِلَّا ثَلَاثًا كَمَا غط جِبْرِيل مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم ثَلَاثًا. قلت: هَذَا الْمَعْنى الَّذِي ذكره السُّهيْلي مُنَاسِب حسن على قَوْلنَا: إِن قَوْله: " مَا أَنا بقارئ " اسْتِفْهَام أَو إِخْبَار على أَنه أُمِّي، وَيشْهد لَهُ إتْيَان الْوَحْي إِلَيْهِ فِي مثل صلصلة الجرس، وَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا سنلقي عَلَيْك قولا ثقيلا} . وَأما إِن حملنَا قَوْله: " مَا أَنا بقارئ " على الِامْتِنَاع من الْقِرَاءَة جملَة فَمَا فعله بِهِ جِبْرِيل هُوَ من بَاب تَأْدِيب الْمعلم ورياضة المتعلم، وَقد يحْتَمل أَن يكون الْملك من أول وهلة قَالَ لَهُ: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} كَمَا قَالَ لَهُ ذَلِك فِي الْمرة الرَّابِعَة، أَو كَانَ ذَلِك فِي ذهن الْملك فَلَمَّا لفظ بقوله: (اقْرَأ " ظن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - أَنه مقتصر عَلَيْهَا أَمر لَهُ بِأَن تصدر مِنْهُ قِرَاءَة، فبادر - صلى الله عليه وسلم - - من خَوفه أَن يكون عرض لَهُ - إِلَى الِامْتِنَاع أَو إِلَى الْإِخْبَار عَن حَاله أَو إِلَى الِاسْتِفْهَام على مَا تقدم من الْمعَانِي الثَّلَاثَة، فَفعل بِهِ الْملك مَا فعل لامتناعه إِن حملناه على الِامْتِنَاع، ولعجلته إِن حملناه على الْمَعْنيين الآخرين، فَلَمَّا كَانَ بعد الثَّالِثَة أنصت النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَتلا الْملك الْآيَات.

قَالَ السُّهيْلي: " وعَلى رِوَايَة ابْن إِسْحَاق أَن ذَلِك فِي نَومه كَانَ يكون فِي تِلْكَ الغطات الثَّلَاث من التَّأْوِيل ثَلَاث شَدَائِد يبتلى بهَا أَولا ثمَّ يَأْتِي الْفرج وَالروح، وَكَذَلِكَ كَانَ لَقِي هُوَ وَأَصْحَابه شدَّة من الْجُوع فِي شعب الْخيف حِين تعاقدت قُرَيْش أَن لَا يبيعوا مِنْهُم وَلَا يتْركُوا ميرة تصل إِلَيْهِم، وَشدَّة أُخْرَى من الْخَوْف والإبعاد بِالْقَتْلِ، وَشدَّة أُخْرَى من الإجلاء عَن أحب الأوطان إِلَيْهِ، ثمَّ كَانَت الْعَاقِبَة لِلْمُتقين، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين ". قلت: هَذَا تَأْوِيل حسن لَو لم يَقع فِي الْيَقَظَة مثله، إِمَّا إِذا كَانَ قد وَقع فِي الْيَقَظَة عين مَا رَآهُ فِي النّوم فَهُوَ تَفْسِيره وَالله أعلم.

فصل

فصل وَقد تكلم الْعلمَاء فِي شرح الْآيَات الَّتِي نزلت عَلَيْهِ حِينَئِذٍ وَبَيَان مناسبتها لتِلْك الْحَال. قَالَ السُّهيْلي: " قيل لَهُ {اقْرَأ باسم رَبك} أَي إِنَّك لَا تقرؤه بحولك، وَلَا بِصفة نَفسك وَلَا بمعرفتك، وَلَكِن اقْرَأ مفتتحا باسم رَبك مستعينا بِهِ فَهُوَ يعلمك كَمَا خلقك وكما نزع عَنْك علق الدَّم ". قلت: فِي قَوْله: {اقْرَأ باسم رَبك} قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْبَاء زَائِدَة كَقَوْلِه: ونرجوا بالفرج. لَا يقْرَأن بالسور. لَا يقْرَأن بِسُورَة الْأَحْزَاب.

وَهُوَ كثير، أَي اقْرَأ اسْم رَبك بِمَعْنى اذكر أسماءه وَصِفَاته وَمَا يسْتَحق أَن ينعَت بِهِ من صِفَات الْجلَال والكمال، ونزهه عَمَّا لَا يَلِيق بِهِ كَقَوْلِه: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا وذروا الَّذين يلحدون فِي أَسْمَائِهِ} يَعْنِي الْمُشْركين الَّذين يصفونه بِمَا لَا يَلِيق بجلاله كَقَوْلِهِم: الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وكتسميتهم آلِهَتهم اللات والعزى ومناه وَنَحْوهَا، وكما يَقُوله فرق النَّصَارَى فِي أقانيمهم. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْبَاء لَيست بزائدة بل هِيَ لأحد مَعْنيين: الأول: أَنه من بَاب قَوْلك: فعلت هَذَا بعون الله وتوفيقه، أَي ملتبسا بِهِ يُرَاد بذلك بركَة الْفِعْل وَإِسْنَاده إِلَى خالقه ومريده، يُقَال: فعلت كَذَا باسم الله وعَلى اسْم الله، قَالَ الله تَعَالَى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا باسم الله} وَقَالَ امْرُؤ الْقَيْس: (فَقَالَت على اسْم الله أَمرك طَاعَة ... ) وَالثَّانِي: أَن التَّقْدِير: اقْرَأ مفتتحا باسم الله، أَي لتكن قراءتك أبدا مفتتحة باسم الله، إِشَارَة إِلَى الِابْتِدَاء بِتَسْمِيَة الله وَهِي ذكره فِي ابْتِدَاء الْقِرَاءَة، كَمَا سنّ ذكره تَعَالَى فِي ابْتِدَاء كل أَمر ذِي بَال، وَهَذَا مسنون.

مجمع عَلَيْهِ بِدَلِيل الِاسْتِعَاذَة، وَبَالغ المبسملون فِي أَوَائِل السُّور فَقَالُوا: هَذَا إرشاد إِلَى شَرْعِيَّة الْبَسْمَلَة فِي أَوَائِل السُّور حَتَّى قَالَ السُّهيْلي: وَفِي قَوْله: {اقْرَأ باسم رَبك} من الْفِقْه وجوب استفتاح الْقِرَاءَة بِبسْم الله. قلت: وَهَذَا ضَعِيف إِذْ الِاحْتِمَالَات السَّابِقَة فِي هَذِه اللَّفْظَة تعَارض مَا ذكره، فَكيف يثبت شَيْء تعارضه أَشْيَاء، هَذَا لَو تَسَاوَت الِاحْتِمَالَات، وَلَا حَاجَة لنا - وَالْحَمْد لله - إِلَى إِثْبَات شَرْعِيَّة التَّسْمِيَة فِي أَوَائِل السُّور بِهَذَا الدَّلِيل بل هِيَ ثَابِتَة بأدلة قَوِيَّة أَرْشدنِي الله تَعَالَى بتوفيقه إِلَى جمعهَا فِي مُصَنف مُسْتَقل مطول ومختصر. وَالَّذين لَا يرَوْنَ التَّسْمِيَة مَشْرُوعَة فِي أَوَائِل السُّور استدلوا بِهَذِهِ الْآيَة فِي جملَة مَا استدلوا بِهِ، وَنقل القَاضِي عِيَاض عَن القَاضِي أبي الْحسن بن الْقصار أَنه قَالَ: وَفِي قَوْله: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} رد على الشَّافِعِي فِي أَن بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم آيَة من كل سُورَة وَهَذِه أول سُورَة نزلت وَلَيْسَ ذَلِك فِيهَا ". قلت: هَذَا من جملَة شبههم الَّتِي اعتمدوا عَلَيْهَا فِي تَقْرِير مَذْهَبهم وَقد ذَكرنَاهَا فِي " كتاب الْبَسْمَلَة " وأجبنا عَنْهَا بِتَوْفِيق الله عز وَجل، وَكَانَ من جَوَاب هَذَا أَن قُلْنَا: " لَا ضَرَر فِي ذَلِك فقد تكون الْبَسْمَلَة نزلت بعد

ذَلِك وَجعلت أَولهَا كنظائر لَهَا من الْآيَات كَثِيرَة تَأَخّر نُزُولهَا وَتَقَدَّمت على غَيرهَا. وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: أُشير ب {اقْرَأ باسم رَبك} إِلَى السُّورَة كَقَوْلِك: قَرَأت الْحَمد، فَلَا يدل على أَنه لم يقرئه الْبَسْمَلَة ". وروى الشَّيْخ أَبُو حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ فِي " تَعْلِيقه: عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: أول مَا ألْقى عَليّ جِبْرِيل بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ". وَفِي " تَفْسِير أبي بكر النقاش " عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره قَالَ: " أول

مَا نزل بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام على النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ". قَوْله: {الَّذِي خلق} . أَي الْخَالِق أُرِيد إِثْبَات هَذِه الصّفة لَهُ على الْخُصُوص فَحذف الْمَفْعُول إِذْ كَانَ المُرَاد إِثْبَات أصل الصّفة من غير نظر إِلَى تعْيين الْمَخْلُوق إِذْ هُوَ الَّذِي يخلق لَا خَالق سواهُ، وَهَذَا معنى قَول أبي الْعَبَّاس الْمبرد: المُرَاد بِهِ ذكر الْفَاعِل فَحسب. فَإِذا اتَّضَح أَن هَذَا الْمَعْنى هُوَ المُرَاد لم يحْتَج إِلَى إِظْهَار الْمَفْعُول إِذْ لَو أظهر لَكَانَ التَّقْدِير: الَّذِي خلق كل شَيْء أَو خلق الْعَالم. وَقيل: التَّقْدِير: خلقك، فَيكون خَاصّا. وَقَوله بعد ذَلِك: {خلق الْإِنْسَان} : المُرَاد بالإنسان على القَوْل الثَّانِي من خُوطِبَ بِالْكَاف فِي {خلقك} على الِالْتِفَات، أَو أَرَادَ جنس وَهُوَ كل مَخْلُوق من نسل آدم عَلَيْهِ السَّلَام. وعَلى القَوْل الأول يكون تَخْصِيصًا بعد تَعْمِيم لعظم شَأْن الْإِنْسَان وكرامته على ربه عز وَجل. و {العلق} : جمع علقَة وَهِي الدَّم الجامد وَغَيره يُقَال لَهُ المسفوح، وَإِنَّمَا جمع هُنَا لِأَن المُرَاد بالإنسان الْجِنْس على القَوْل الأول وَهُوَ الْأَصَح الْأَقْوَى، وَقيل: المُرَاد بالإنسان آدم عَلَيْهِ السَّلَام.

وَقَوله {من علق} : أَي من طين أَي يعلق بالكف، ثمَّ أكد الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ فكرره فِي مُقَابلَة قَوْله: " مَا أَنا بقارئ " مرَارًا، أَي اقْرَأ وَأَن كنت أُمِّيا، وَكَيف تستبعد الْقِرَاءَة وَرَبك الأكرم الَّذِي علم النَّاس الْكِتَابَة بالقلم. قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم: " الأكرم الَّذِي لَهُ الْكَمَال فِي زِيَادَة كرمه على كل كرم، ينعم على عباده النعم الَّتِي لَا تحصى، ويحلم عَنْهُم فَلَا يعاجلهم بالعقوبة مَعَ كفرهم وجحودهم لنعمه وركوبهم المناهي واطراحهم الْأَوَامِر، وَيقبل تَوْبَتهمْ ويتجاوز عَنْهُم بعد اقتراف العظائم، فَمَا لكرمه غَايَة وَلَا أمد، وَكَأَنَّهُ لَيْسَ وَرَاء التكرم بإفادة الْفَوَائِد العلمية تكرم حَيْثُ قَالَ: {الأكرم الَّذِي علم بالقلم علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} ، فَدلَّ على كَمَال كرمه بِأَنَّهُ علم عباده مَا لم يعلمُوا، ونقلهم من ظلمَة الْجَهْل إِلَى نور الْعلم، وَنبهَ على فضل علم الْكِتَابَة لما فِيهِ من الْمَنَافِع الْعَظِيمَة الَّتِي لَا يُحِيط بهَا إِلَّا هُوَ، وَمَا دونت الْعُلُوم وَلَا قيدت الحكم وَلَا ضبطت أَخْبَار الْأَوَّلين ومقالاتهم وَلَا كتب الله الْمنزلَة إِلَّا بِالْكِتَابَةِ، وَلَوْلَا هِيَ لما استقامت أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا، وَلَو لم يكن على دَقِيق حِكْمَة الله ولطيف تَدْبيره دَلِيل إِلَّا أَمر الْقَلَم والخط لكفى بِهِ ".

قلت: فالواو فِي قَوْله: {وَرَبك الأكرم} للْحَال، و {رَبك} مُبْتَدأ و {الأكرم} خَبره أَو صفته، و {الَّذِي علم} خَبره، أَي علم الْقُرْآن بِأَن كتبه فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ فقرئ وَنقل، وَقيل: علم الْكِتَابَة بِخلق الْقَلَم ثمَّ عمم وَقَالَ: {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} ، أَي كل شَيْء لم يكن يُعلمهُ مِمَّا فِيهِ صَلَاح دينه ودنياه، وَلم يَأْتِ بواو الْعَطف. وَقيل: {علم الْإِنْسَان مَا لم يعلم} بَيَان لقَوْله: {علم بالقلم} وَالْمرَاد بالإنسان الْجِنْس أَي علمه الْكتاب، علمه مَا لم يعلم. وَقيل: المُرَاد بالإنسان هُنَا آدم لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ علمه أَسمَاء كل شَيْء. وَقُرِئَ شاذا: علم الْخط بالقلم. وَقيل: المُرَاد بالإنسان النَّبِي مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ علم البديهيات والنظريات، وَعلم مَا كَانَ وَمَا يكون وَهُوَ أُمِّي، فعلى هَذَا المُرَاد ب: {علم} يعلم، لِأَن هَذَا أول مَا نزل. وَفِي ابْتِدَائه بإنزال هَؤُلَاءِ الْآيَات عَلَيْهِ التَّنْبِيه على النّظر والفكر المؤديين إِلَى علم التَّوْحِيد لذكر الربوبية المنتظمة للتربية وَالتَّدْبِير واللطف بِالصِّحَّةِ والرزق. وتنبيه ثَان على الِاسْتِدْلَال بِمَا يرَاهُ من خلق جنسه من أَهله وَولده وَغَيرهم مِمَّا يعلم أَن حَاله وحالهم فِيهِ سَوَاء، من ظُهُورهمْ أشخاصا حَيَّة

متحركة من نظفة موَات حَاصِلَة فِي الرَّحِم، حَيْثُ لَا يصل إِلَيْهَا يَد وَلَا آله وَلَا يَمَسهَا شَيْء، بل يشْهد الْعقل بِأَنَّهَا تحول من حَال إِلَى حَال بِإِرَادَة حَيّ قَادر لَا إِلَه إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يشركُونَ ". وَفِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر - بعد ذكر نزُول الْآيَات - قَالَ: " فقرأتها ثمَّ انْتهى فَانْصَرف عني، وهببت من نومي وكأنما كتب فِي قلبِي كتابا ". وَفِي حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ: " فتح جِبْرِيل عينا من مَاء، فَتَوَضَّأ وَمُحَمّد - صلى الله عليه وسلم - ينظر إِلَيْهِ، فوضأ وَجهه وَيَديه غلى الْمرْفقين، وَمسح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثمَّ نضح فرجه، وَسجد سَجْدَتَيْنِ مُوَاجهَة الْبَيْت، فَفعل مُحَمَّد كَمَا رأى جِبْرِيل يفعل ". قَوْلهَا: " فَرجع بهَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ": أَي بِالْآيَاتِ الْخمس الَّتِي أقرأه إِيَّاهَا الْملك قَرَأَهَا وحفظها، فَرجع ملتبسا بهَا حفظا وذكرا، ملاحظا لَهَا مفكرا فِي شَأْنهَا وأمرها. قَوْلهَا: " يرجف فُؤَاده ": هَذِه رِوَايَة عقيل، وَفِي رِوَايَة يُونُس وَمعمر: " ترجف بوادره "، وَمعنى " ترجف " تتحرك وتضطرب، والرجفة: الْحَرَكَة الشَّدِيدَة، يُقَال: رجف فُؤَاده رجوفا ورجفانا وَهُوَ أَن يرعد ويخفق.

والبوادر: جمع بادرة وَهِي لحْمَة بَين الْمنْكب والعنق. وَقيل: هِيَ عروق تضطرب عِنْد الْفَزع. وَفِي بعض الرِّوَايَات: " بأدله " وَهِي مَا بَين الْعُنُق والترقوة وَاحِدهَا بادلة، وَقيل: بأدل. وَقيل: البادلة أصل الثدي، وَقيل: شَحم الثديين، وَقيل غير ذَلِك. قَوْله: " زَمِّلُونِي " أَي لففوني، وَكرر لفظ " زَمِّلُونِي " تَأْكِيدًا، وكل شَيْء لفف فِي شَيْء فقد زمل. وَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - فِي قَتْلَى أحد: " زملوهم فِي ثِيَابهمْ وَدِمَائِهِمْ " أَي لفوهم فِيهَا، وتزمل الرجل بِثَوْبِهِ إِذا اشْتَمَل بِهِ: قَالَ أمرؤ الْقَيْس: (كَبِير أنَاس فِي بجاد مزمل ... ) خفض لفظ " مزمل " على الْجوَار وَفِيه كَلَام للنحويين لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه. قَالَ القَاضِي عِيَاض: " الرجفان الِاضْطِرَاب وَكَثْرَة الْحَرَكَة، وَمِنْه {يَوْم ترجف الأَرْض وَالْجِبَال} ، وَهَذَا هُوَ سَبَب طلبه أَن يزمل ويدثر،

أَي يُغطي ويلف بالثياب لشدَّة مَا أَصَابَهُ من هول الْأَمر ولحقه من شدَّة الغط وَثقل الْوَحْي، وَإِن كَانَ قد قَالَ بعض الْمُفَسّرين: إِنَّه إِنَّمَا كَانَ يفعل هَذِه فرقا من جِبْرِيل لأوّل مَا يلقاه حَتَّى أنس بِهِ. وَقيل: بل قيل لَهُ: {يَا أَيهَا المدثر} و {المزمل} لِأَنَّهُ حِين أَتَاهُ الْملك وجده متزملا ملتفا بِثَوْبِهِ فَنُوديَ بِصفة حَاله - قَالَ - وَالْأول أصح وَأولى لفظا وَمعنى، والمزمل والمدثر وَاحِد، وَيُقَال لكل مَا يلقى على الْجَسَد دثار وللفافة الْقرْبَة زمال، وَمعنى المزمل والمدثر والمتزمل والمتدثر أدغمت التَّاء فِيمَا بعْدهَا، وَقد جَاءَ فِي أثر أَنَّهُمَا من أَسْمَائِهِ عَلَيْهِ السَّلَام ". قلت: الدثار هُوَ مَا يلقى على الْجَسَد فَوق الشعار، والشعار هُوَ الَّذِي يَلِي الْجَسَد، وَمِنْه قَول النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " الْأَنْصَار شعار، وَالنَّاس دثار " إِشَارَة إِلَى قربهم مِنْهُ. قَوْلهَا: " فزملوه حَتَّى ذهب عَنهُ الروع ": أَي فَفَعَلُوا مَا أَمرهم بِهِ، وَفِي بعض الرِّوَايَات: " زَمِّلُونِي فدثروه "، وَفِي أُخْرَى " دَثرُونِي فدثروه " لِأَن الْكل بِمَعْنى وَاحِد.

و " الروع ": بِفَتْح الرَّاء الْفَزع وَشدَّة الْخَوْف قَالَ الله تَعَالَى: {فَلَمَّا ذهب عَن إِبْرَاهِيم الروع} ، يُقَال: رعته وروعته وَكَانَ حَقِيقَته: أصَاب روعه بِضَم الرَّاء أَي خلده لِأَن الْفَزع تَأْثِيره فِي الْقلب وَالله أعلم. قَوْلهَا: " ثمَّ قَالَ لِخَدِيجَة مَالِي؟ وأخبرها الْخَبَر ": هَذِه رِوَايَة يُونُس. " أَي ": حرف من حُرُوف النداء. و" مَالِي ": اسْتِفْهَام على سَبِيل الْخَوْف أَي: أَي شَيْء عرض لي. وَفِي رِوَايَة عقيل: " فَقَالَ لِخَدِيجَة وأخبرها الْخَبَر ". قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن خلف بن بطال فِي " شَرحه لكتاب البُخَارِيّ ": " رُجُوع النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَزعًا فَقَالَ: زَمِّلُونِي، وَلم يخبر بِشَيْء حَتَّى ذهب عَنهُ الروع، فِيهِ دَلِيل على أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يسْأَل الفازع عَن شَيْء من أمره مَا دَامَ فِي حَال فزعه، وَلذَلِك قَالَ مَالك وَغَيره: إِن المذعور لَا يلْزمه بيع وَلَا إِقْرَار وَلَا غَيره فِي حَال فزعه ". وَقَوله: " لقد خشيت على نَفسِي: " فِيهِ دَلِيل على أَن من نزلت بِهِ ملمة أَن يُشَارك فِيهَا من يتق بنصحه ورأيه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - شَاهد أمرا عَظِيما جسيما من أَمر الله تَعَالَى لم يعتده وَلم يسمع بِمثلِهِ، فخاف لما كَانَ ذَلِك بداءة أمره أَن يكون حَادِثا حدث لَهُ

من جِهَة الْجِنّ لِأَن أَمر الكهانة كَانَ فِي الْعَرَب مستفيضاً حِينَئِذٍ حَتَّى كَانَ الرجل مِنْهُم يَقُول: أَخْبرنِي رئيي بِكَذَا وَلفُلَان رئي. قَالَ القَاضِي عِيَاض: " قَوْله: لقد خشيت على نَفسِي، لَيْسَ بِمَعْنى الشَّك فِيمَا آتَاهُ الله، لكنه عساه خشِي أَن لَا يقوى على مقاومة هَذَا الْأَمر، وَلَا يقدر على حمل أعباء الْوَحْي، فتزهق نَفسه، أَو ينخلع قلبه، لشدَّة مَا لقِيه أَولا عِنْد لِقَاء الْملك، أَو يكون قَوْله هَذَا لأوّل مَا رأى التباشير فِي النّوم واليقظة وَسمع الصَّوْت قبل لِقَاء المللك وَتحقّق رِسَالَة ربه فَيكون مَا خَافَ أَولا أَن يكون من الشَّيْطَان، فَأَما مُنْذُ جَاءَهُ الْملك برسالة ربه فَلَا يجوز عَلَيْهِ الشَّك فِيهِ، وَلَا يخْشَى من تسلط الشَّيْطَان عَلَيْهِ - قَالَ -: وعَلى هَذَا الطَّرِيق يحمل كل مَا ورد من مثل هَذَا فِي حدي المبعث ". قَالَ السُّهيْلي: " تكلم الْعلمَاء فِي (معنى) هَذِه الخشية وَأَنَّهَا كَانَت مِنْهُ قبل أَن يحصل لَهُ الْعلم بِأَن الَّذِي جَاءَهُ ملك من عِنْد الله، وَكَانَ أشق شَيْء عَلَيْهِ أَن يُقَال عَنهُ مَجْنُون ".

قَالَ: " وَلم ير الْإِسْمَاعِيلِيّ أَن هَذَا محَال فِي مبدأ الْأَمر، لِأَن الْعلم الضَّرُورِيّ قد لَا يحصل دفْعَة وَاحِدَة، وَضرب مثلا بِالْبَيْتِ من الشّعْر يسمع أَوله فَلَا يدرى أنظم هُوَ أم نثر، فَإِذا اسْتمرّ الإنشاد علمت قطعا أَنه قصد بِهِ قصر الشّعْر، كَذَلِك لما اسْتمرّ الْوَحْي واقترنت بِهِ الْقَرَائِن الْمُقْتَضِيَة للْعلم الْقطعِي حصل الْعلم الْقطعِي، وَقد أثنى الله عَلَيْهِ بِهَذَا الْعلم فَقَالَ: {آمن الرَّسُول بِمَا أنزل إِلَيْهِ من ربه - إِلَى قَوْله - وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله} ، وإيمانه عَلَيْهِ السَّلَام بِاللَّه وَمَلَائِكَته إِيمَان كسبي مَوْعُود عَلَيْهِ بالثواب الجزيل كَمَا وعد على سَائِر أَفعاله المكتسبة، كَانَت من أَفعَال الْقلب أم من أَفعَال الْجَوَارِح ". قَالَ: " وَقد قيل فِي قَوْله: لقد خشيت على نَفسِي " أَي خشيت أَن لَا أنهض بأعباء النُّبُوَّة وَأَن أَضْعَف عَنْهَا، ثمَّ أَزَال الله خَشيته ورزقه الأيد وَالْقُوَّة والثبات والعصمة ".

قَالَ: " وَقد قيل فِي معنى الخشية أَقْوَال رغبت عَن الإطالة بذكرها ". قلت: الْمَعْنى الأول هُوَ المُرَاد صرح بِهِ فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر قَالَ: قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " وَلم يكن من خلق الله أحد أبْغض إِلَيّ من شَاعِر أَو مَجْنُون، كنت لَا أُطِيق أَن أنظر إِلَيْهِمَا، قَالَ: قلت: إِن الْأَبْعَد - يَعْنِي نَفسه - لشاعر أَو مَجْنُون، لَا تحدث عني قُرَيْش بِهَذَا أبدا، لأعمدن إِلَى حالق من الْجَبَل فأطرحن نَفسِي عَلَيْهِ فلأقتلنها فأستريحن، قَالَ: فَخرجت أُرِيد ذَلِك حَتَّى إِذا كنت فِي وسط الْجَبَل سَمِعت صَوتا من السَّمَاء يَقُول: يَا مُحَمَّد، أَنْت رَسُول الله وَأَنا جِبْرِيل، قَالَ: فَرفعت رَأْسِي إِلَى السَّمَاء أنظر، فَإِذا جِبْرِيل فِي صُورَة رجل صَاف قَدَمَيْهِ فِي أفق السَّمَاء يَقُول: يَا مُحَمَّد، أَنْت رَسُول الله وَأَنا جِبْرِيل، قَالَ: فوقفت أنظر إِلَيْهِ وشغلني ذَلِك عَمَّا أردْت، فَمَا أتقدم وَمَا أتأخر، وَجعلت أصرف وَجْهي فِي آفَاق السَّمَاء فَلَا أنظر فِي نَاحيَة مِنْهَا إِلَّا رَأَيْته كَذَلِك، فَمَا زلت وَاقِفًا مَا أتقدم أَمَامِي وَمَا أرجع ورائي حَتَّى بعثت خَدِيجَة رسلها فِي طلبي، فبلغوا مَكَّة وَرَجَعُوا إِلَيْهَا وَأَنا وَاقِف فِي مَكَاني، ثمَّ انْصَرف عني وانصرفت رَاجعا إِلَى أَهلِي حَتَّى أتيت خَدِيجَة فَجَلَست إِلَى فَخذهَا مضيفا إِلَيْهَا فَقَالَت: يَا أَبَا الْقَاسِم، وَأَيْنَ كنت فوَاللَّه لقد بعثت رُسُلِي فِي طَلَبك حَتَّى بلغُوا مَكَّة وَرَجَعُوا إِلَيّ، قلت: إِن

الْأَبْعَد لشاعر أَو مَجْنُون، فَقَالَت: أُعِيذك بِاللَّه من ذَلِك يَا أَبَا الْقَاسِم، مَا كَانَ الله ليصنع ذَلِك بك مَعَ مَا أعلم مِنْك من صدق حَدِيثك، وعظيم أمانتك، وَحسن خلقك، وصلَة رَحِمك، وَمَا ذَلِك يَا بن عَم، لَعَلَّك رَأَيْت شَيْئا؟ قَالَ: قلت: نعم، ثمَّ حدثتها بِالَّذِي رَأَيْت، فَقَالَت أبشر يَا بن عَم وَأثبت فوالذي نفس خَدِيجَة بِيَدِهِ إِنِّي لأرجو أَن تكون نَبِي هَذِه الْأمة ". قلت: فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة مَا قَالَت تشجعه بذلك، واستدلت بِمَا عهِدت من أخلاقه الجميلة وَصِفَاته الجليلة على أَن الله تَعَالَى لَا يُسلمهُ إِلَى مَكْرُوه، وَكَانَ هَذَا مِنْهَا، من أجل مناقبها وَأتم فضائلها رَضِي الله عَنْهَا. وَالْمرَاد بالشاعر فِي هَذَا الحَدِيث من كَانَ لَهُ تَابع من الْجِنّ يساعده على مَا هُوَ بصدده نَحْو مَا كَانَ يجْرِي على لِسَان سطيح وشق من الْكَلَام المسجوع وَغَيره، وَهُوَ معنى وصف الْكَفَرَة لعنهم الله للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ شَاعِر أَي أَنه من ذَلِك الْقَتِيل قَالَ الله تَعَالَى: {بل قَالُوا أضغاث أَحْلَام بل افتراه بل هُوَ شَاعِر} وَالله أعلم. قَوْلهَا: " قَالَت لَهُ خَدِيجَة: كلا أبشر ". كلا: حرف ردع وزجر، وستعمل اسْتِعْمَال النَّفْي والتبرئة والتبعيد كَقَوْل خَدِيجَة هُنَا، فَهُوَ رد لما قَالَ لَهَا.

زَاد يُونُس فِي رِوَايَته بعد قَوْلهَا " كلا ": " أبشر "، وَلَيْسَ " أبشر " فِي رِوَايَة عقيل. يُقَال: أبشر الرجل بِكَذَا أَي سر بِهِ وَفَرح، فعلى هَذَا جَاءَ " أبشر " بِقطع الْهمزَة كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَأَبْشِرُوا بِالْجنَّةِ} ، يُقَال: بَشرته بِكَذَا وبشرته بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد، وَقُرِئَ بهما {يبشرهم رَبهم برحمة مِنْهُ} ، فأبشر هُوَ، فَهُوَ على هَذَا من بَاب كبيته فأكب، مِمَّا جَاءَ مُطَاوع ثلاثيه على " أفعل " وَهُوَ قَلِيل، وَالْمَعْرُوف عكس ذَلِك نَحْو: أنشر الله الْمَوْتَى فنشروا. ثمَّ المبشر بِهِ تَارَة يذكر كَمَا فِي الْآيَة، وَتارَة يحذف كَمَا فِي الْخَبَر، وَتَقْدِيره: أبشر. بِمَا يَسُرك ويقر عَيْنك. قَوْلهَا: " فوَاللَّه لَا يخزيك الله أبدا ": اتّفق يُونُس وَعقيل على رِوَايَة " يخزيك " بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَبعد الزَّاي يَاء، وَرَوَاهُ معمر عَن الزُّهْرِيّ: " يحزنك " بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالنُّون من الْحزن، يُقَال حزنه وأحزنه، وَقد قرئَ بهما. والخزي: بُلُوغ غَايَة الذل والهوان والانكسار والفضيحة قَالَ الله تَعَالَى: {من قبل أَن نذل ونخزى} ، دلّ على أَن الخزي أبلغ من الذل، أَي لَا يفعل بك فعلا يخزيك مَعَ فعلك الْجَمِيل.

ثمَّ وَصفته بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْفَضَائِل قَالَ ابْن بطال: هَذَا قِيَاس مِنْهَا على الْعَادَات وَالْأَكْثَر فِي النَّاس فِي حسن عَاقِبَة من فعل الْخَيْر. وَفِيه جَوَاز تكية الرجل فِي وَجهه بِمَا فِيهِ من الْخَيْر، وَلَيْسَ بمعارض لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " احثوا التُّرَاب فِي وُجُوه المداحين "، فَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك إِذا مدحوه بِالْبَاطِلِ وَبِمَا لَيْسَ فِي الممدوح. قَوْلهَا: " وَالله إِنَّك لتصل الرَّحِم " إِلَى آخِره: هَذَا الْقسم فِي رِوَايَة يُونُس وَسقط فِي رِوَايَة غَيره، وَصفته - صلى الله عليه وسلم - بِصِفَات شريفة كَانَت مَشْهُورَة فِيهِ، وَذَلِكَ من قبل مَا زَاده الله تَعَالَى من صِفَات النُّبُوَّة وآثار الرسَالَة، وَعلمه مَا لم يكن يعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْهِ عَظِيما، فَكَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مَشْهُورا عِنْد قومه بالأمانة وَصدق الحَدِيث وَالْإِحْسَان إِلَى الْأَقَارِب وَغَيرهم. وَالرحم: كِنَايَة عَن الْقَرَابَة، وصلتها بر الْأَقَارِب وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم، وَفِي الحَدِيث عَن الله تَعَالَى: " من وَصلهَا وصلته، وَمن قطعهَا بتته "، أَي لَا تقطع قرابتك وَلَا تمنع خيرك بل تصلهم بجميل فعلك.

قَوْلهَا: " وَتصدق الحَدِيث، وَتحمل الْكل ": يُقَال: صدق فِي الحَدِيث، وَصدق الحَدِيث. وَالْكل: الثّقل من كل شَيْء فِي الْمُؤْنَة والجسم يُقَال: ألْقى فلَان على كُله أَي ثقله قَالَ الله تَعَالَى: {وَهُوَ كل على مَوْلَاهُ} أَي ثقل وعيال على وليه وَهُوَ الَّذِي لَا يُغني نَفسه عَن قَائِم بمصالحها، أَرَادَت خَدِيجَة أَنه - صلى الله عليه وسلم - يعين الضَّعِيف الْعَاجِز عَن نَفسه، أَو تَعْنِي أَنه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يتكفل بِأُمُور تشق على حامليها. قَالَ الْقَزاز: وَيجوز أَن يكون قَوْلهَا: " وَتحمل الْكل " أَي تقوم باليتيم لِأَن الْعَرَب تجْعَل الْكل الْيَتِيم وَمِنْه قَول الشَّاعِر يذم رجلا: (أكول لمَال الْكل قبل شبابه ... إِذا كَانَ عظم الْكل غير شَدِيد) قَالَ القَاضِي عِيَاض: " الْكل هُنَا بِفَتْح الْكَاف الثّقل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ الضَّعِيف. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ الْيَتِيم وَالْمُسَافر وَهُوَ الَّذِي أَصَابَهُ الكلال ".

قَوْلهَا: " وتكسب الْمَعْدُوم ": قَالَ الْخطابِيّ: " صَوَابه: وتكسب المعدم لِأَن الْمَعْدُوم لَا يدْخل تَحت الْأَفْعَال، تُرِيدُ أَنَّك تُعْطِي العائل وترفده، وَفِيه لُغَتَانِ يُقَال: كسبت الرجل مَالا وأكسبته، وأفصحهما بِحَذْف الْألف ". وَقَالَ غَيره: " الَّذِي ذكر أَنه مَحْفُوظ وَوَجَدته فِي رِوَايَة أبي زيد: المعدم، فعلى هَذَا وَصفته بِالْكَرمِ وَإِعْطَاء الْفُقَرَاء ". قَالَ: " وللمعدوم صفة زَائِدَة على الْعَطاء والبذل لِأَن الْمَعْدُوم مَا لَا يُوجد، فَإِذا قرن فِي الذّكر بِمَا يدل على وجوده فهم أَنه النفيس الَّذِي يعدمه كثير من النَّاس، فصفته - صلى الله عليه وسلم - على هَذَا إِنَّمَا هِيَ بإعطائه مَا لَا تسخو بِهِ نفس غَيره ". وَقَالَ الْهَرَوِيّ فِي " كتاب الغريبين ": يُقَال: فلَان يكْسب الْمَعْدُوم إِذا كَانَ مجدودا ينَال مَا يحرمه غَيره، يُقَال: هَذَا آكلكم للمأدوم، وأكسبكم للمعدوم، وأعطاكم للمحروم، يُقَال: عدمت الشَّيْء إِذا فقدته، وأعدم الرجل فَهُوَ مَعْدُوم إِذا افْتقر ".

قَالَ الْجَوْهَرِي: " كسبت أَهلِي خيرا، وكسبت الرجل مَالا فكسبه ". قَالَ: " وَهَذَا مِمَّا جَاءَ على فعلته فَفعل ". وَقَالَ ابْن دُرَيْد: " وأكسبته خطأ ". وَقَالَ ثَعْلَب: " كل النَّاس يَقُولُونَ: كسبك إِلَّا ابْن الْأَعرَابِي فَإِنَّهُ يَقُول: أكسبك "، وَأنْشد " (فأكسبني مَالا وأكسبته حمدا ... ) وَحكى ابْن سَيّده ": " كسبت الرجل خيرا وأكسبته إِيَّاه - قَالَ -: وَالْأولَى أَعلَى ". قَالَ الْقَزاز: " تكسب حرف نَادِر يُقَال: كسبت المَال وكسبته غَيْرِي فكسبه، وَلَا يُقَال: أكسبته، وَلَكِن: كسبت الرجل المَال يَقُول: وتكسب النَّاس الْمَعْدُوم من كل مَا لَا يجدونه من معدومات الْفَوَائِد ". قَالَ القَاضِي عِيَاض: " روايتنا فِي هَذَا عَن أَكثر شُيُوخنَا: تكسب بِفَتْح التَّاء، وَعند بَعضهم بضَمهَا، وبالوجهين قَرَأنَا الْحَرْف على الْحَافِظ أبي الْحُسَيْن فِي غير هَذَا الْكتاب ".

قَالَ: " وَذكر ثَابت فِي " دلائله " فِي معنى هَذَا: أَنَّك تصيب وتكسب مَا يعجز غَيْرك عَن كَسبه ويعدمه، وَالْعرب كَانَت تتمادح بكسب المَال لَا سِيمَا قُرَيْش ". قَالَ: " وعَلى هَذَا لَا تكون التَّاء إِلَّا مَفْتُوحَة لِأَنَّهُ معدى لمفعول وَاحِد، وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام مجدودا فِي تِجَارَته وخيره بذلك مَشْهُور ". وَقيل: مَعْنَاهُ تكسب النَّاس مَا لَا يجدونه من معدومات الْفَوَائِد، وَهَذَا معدى إِلَى مفعولين، وَالتَّاء هُنَا مَفْتُوحَة على قَول الْأَكْثَر، وتضم على قَول بَعضهم كَمَا تقدم، وَهَذَا أبلغ [فِي الْمَدْح] وَأشهر فِي خلق نَبينَا عَلَيْهِ السَّلَام قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا ". وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحَافِظ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْفضل: " قَوْله: وتكسب الْمَعْدُوم، أَي تعطيه وتعاونه على جمع المَال، جعل الْعَاجِز الَّذِي لَا يقدر على السَّعْي فِي التعيش وَتَحْصِيل مَا تزجى بِهِ الْأَيَّام بِمَنْزِلَة الْمَعْدُوم ". قلت: وَمِنْه قَول أبي الْحسن التهامي: " (عد ذَا الْفقر مَيتا وكساه ... كفنا بَالِيًا ومأواه قبرا)

ثمَّ قَالَ) : " وَالْعرب تعبر بالقلة عَن الْعَدَم وبالعدم عَن الْقلَّة، والمحققون يذهبون فِي قَول المتنبي: (إِذا رأى غير شَيْء ظَنّه رجلا ... ) أَنه لَيْسَ بداخل فِي المستحيلات بل مَقْصُودَة إِذا رأى شخصا ضَعِيفا أَو شَيْئا قَلِيلا ظَنّه رجلا، فَعبر عَن المرئي الضَّعِيف ب: " غير شَيْء " وَهَذَا كَمَا أَنَّك تَقول - إِذا لقِيت رجلا مستضعفا جَبَانًا أَو جَاهِلا بَخِيلًا -: لَا شَيْء، وَلَيْسَ بِشَيْء وتنزله منزلَة الْمَعْدُوم للْمُبَالَغَة فِي الْعَجز والحقارة ". قَالَ: " وَذكر الْخطابِيّ أَن صَوَابه المعدم ". قَالَ: " وَالصَّوَاب هِيَ اللَّفْظَة المحفوظة بَين أَصْحَاب الحَدِيث الْمَشْهُورَة الصَّحِيحَة عَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لِأَن مَقْصُوده السَّعْي فِي حاجات الضِّعَاف. وعَلى هَذَا مَا رُوِيَ أَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لَا يستنكف أَن يمشي مَعَ الضَّعِيف والأرملة يقْضِي لَهما حاجتهما ".

(قَالَ) : " وَأما التَّعْبِير بالقلة عَن المعدم فَقَوله تَعَالَى: {فقليلا مَا يُؤمنُونَ} أَي لَا يُؤمنُونَ رَأْسا لَا قَلِيلا وَلَا كثيرا، وَمثله حَدِيث عبد الله بن أبي أوفى: " كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يقل اللَّغْو " أَي لَا يَلْغُو أصلا ". قَالَ: " وَكنت قد راجعت فِي ابْتِدَاء الطّلب سيدنَا وَالِدي فِي معنى هَذِه اللَّفْظَة فَذكر وَجها لم أر أحسن مِنْهُ ". قَالَ: " مَعْنَاهُ تسْعَى فِي طلب عَاجز تنعشه كَمَا أَن غَيْرك يسْعَى فِي طلب مَال يثمره، وَالْكَسْب هُوَ الاستفادة، فَكَمَا يرغب غَيْرك أَن يَسْتَفِيد مَالا ترغب أَنْت أَن تستفيد عَاجِزا تجبره وتعيينه، وَالْكَسْب الْآن يَقْتَضِي مَفْعُولا فَردا وَهُوَ أولى لِأَنَّك لَا تحْتَاج فِيهِ إِلَى إِضْمَار شَيْء كَمَا تحْتَاج هُنَاكَ ". قلت: يُقَال: كسبت مَالا اي حصلته، وكسبت زيدا مَالا أَي؛ حصلته لَهُ، فَقَوْلهم: كسبت زيدا مَالا كَقَوْلِك " أَعْطَيْت زيد مَالا، فَهُوَ فِي قَوْله: " تكسب الْمَعْدُوم " يحْتَمل أَن يكون من هَذَا الْبَاب، لَكِن لم يذكر إِلَّا مَفْعُولا وَاحِدًا، فَيحْتَمل أَن يكون الْمَحْذُوف هُوَ الْمَفْعُول الأول، وَيحْتَمل أَن يكون الثَّانِي.

فَإِن كَانَ الْمَحْذُوف هُوَ الأول صَار كَقَوْلِك: أَعْطَيْت مَالا وَلَا تذكر الْمُعْطى. وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الأول الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ من لم يسمه فَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنه يُعْطي مَا لَا تسخو بِهِ نفس غَيره، فتقديره على هَذَا: تُعْطِي النَّاس الْمَعْدُوم، وَفِي مَعْنَاهُ الْوَجْه الَّذِي ذكره الْهَرَوِيّ لِأَن مَعْنَاهُ تكسب نَفسك الْأَشْيَاء المعدومة لغيرك أَي تستفيد مَا لَا يستفيده غَيْرك. وَيجوز أَن يكون هَذَا الْفِعْل يسْتَعْمل مُتَعَدِّيا إِلَى وَاحِد وَإِلَى اثْنَيْنِ، وَهَذَا سَائِغ فِي أَلْسِنَة النَّاس يَقُولُونَ لما قل نَظِيره مَعَ نفاسته: مَا هَذَا إِلَّا مَعْدُوم، بِمَعْنى أَنه مَعْدُوم النظير أَو أَنه لم يزل فِي حيّز الْعَدَم إِلَى أَن ظفر بِهِ الْآن مُبَالغَة فِي غرابته. وَإِن كَانَ الْمَحْذُوف هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي فَيكون كَقَوْلِك: أَعْطَيْت زيدا وَلَا تذكر مَا أَعْطيته، وَهَذَا هُوَ الْوَجْه الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الْحَافِظ إِسْمَاعِيل، أَي تُعْطِي الْمَعْدُوم مَا يصير بِهِ مَوْجُودا. وَأما الْوَجْه الَّذِي حَكَاهُ عَن وَالِده فحقيقة أَنَّك كسبت آجر الْمَعْدُوم وثوابه ومودته، فَإِن عين الرجل الضَّعِيف لَا يكْسب إِلَّا أَن يكون حَرْبِيّا فيغنم، ثمَّ يقدر الْمَفْعُول الأول محذوفا كَمَا قدرناه فِي الْوَجْه الَّذِي ذكره الْهَرَوِيّ، أَي تكسب نَفسك الْمَعْدُوم أَي ثَوَابه ومودته، فاحتيج هُنَا إِلَى إضمارين إِلَّا أَنه قد اتَّسع فِي حذف الْمَفْعُول الأول فِي بَاب " كسب " إِذا

كَانَ هُوَ الْفَاعِل حَتَّى صَار كَأَنَّهُ نسي منسي للاستغناء عَنهُ فَيُقَال: كُسِيت مَالا، وَتَقْدِير الْمَفْعُول: كسبت نَفسِي مَالا، وَهَكَذَا الْكَلَام فِيمَا كَانَ كَذَلِك نَحْو رجعت ورجعته وَالله أعلم. وَسمعت القَاضِي أَبَا الْعَبَّاس الخويي يسْتَدلّ بقول الْعَرَب: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء إِذا أَرَادوا الْمُبَالغَة فِي حقارته وَأَنه كَالْعدمِ على صِحَة مَذْهَب أهل الْحق فِي أَن الْمَعْدُوم لَا يُسمى شَيْئا لِأَنَّهُ لَو كَانَ يُسمى شَيْئا لما حصلت للْعَرَب مُبَالغَة فِي قَوْلهم: هَذَا لَا يُسمى بِشَيْء. وَهَذَا الَّذِي قَالَه حسن لَكِن الْمُخَالفين يَقُولُونَ: الْمَعْدُوم الْمُمكن يُسمى شَيْئا، ووافقوا على نفي تَسْمِيَة غير الْمُمكن بِشَيْء، فعلى هَذَا تحصل الْمُبَالغَة للْعَرَب على أتم الْوُجُوه، وَتَقْدِيره: إِن هَذَا عدم مُسْتَحِيل وجوده، وَهَذَا أبلغ من قَوْلنَا: أَنه مَعْدُوم فَحسب وَالله أعلم. قَوْلهَا: " وتقري الضَّيْف ": أَي تَأتيه بالقرى وَهُوَ مَا يبره بِهِ عِنْد نُزُوله عَلَيْهِ من طَعَام وَغَيره مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ، يُقَال: قرى الضَّيْف يقريه إِذا فعل بِهِ ذَلِك، قرى بِكَسْر الْقَاف وَالْقصر، وبفتحهما وَالْمدّ فَهُوَ قار. قَوْلهَا: " وَتعين على نَوَائِب الْحق ": النوائب: جمع نائبة وَهِي مَا يَنُوب الْإِنْسَان من خير أَو شَرّ، وأرادت هُنَا نَوَائِب الْخَيْر فَلهَذَا جعلته معينا عَلَيْهَا وعبرت عَنْهَا بنوائب الْحق.

قَالَ الْقَزاز: " أَي تعين - بِمَا تقدر عَلَيْهِ - من أَصَابَته نَوَائِب فِي حق أعنته فِي نوائبه، تذكر بِهَذَا كُله كرم أخلاقه، وَأَن الله تَعَالَى لَا يفعل مَا يخزيه مَعَ جميل فعله ". قلت: وَهَذِه الصِّفَات الجليلة الَّتِي وصفت بهَا خَدِيجَة رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قد وصف بهَا أَيْضا صَاحبه أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ، فَفِي " الصَّحِيح " عَن عَائِشَة أَيْضا أَن أَبَا بكر رَضِي الله عَنهُ لما ابتلى الْمُسلمُونَ خرج مُهَاجرا إِلَى أَرض الْحَبَشَة حَتَّى إِذا بلغ برك الغماد لقِيه ابْن الدغنة وَهُوَ سيد القارة فَقَالَ: أَيْن تُرِيدُ يَا أَبَا بكر؟ قَالَ: أخرجني قومِي فَأُرِيد أَن أَن أسيح فِي الأَرْض فأعبد رَبِّي عز وَجل، فَقَالَ: إِن مثلك لَا يخرج، إِنَّك تكسب الْمَعْدُوم، وَتصل الرَّحِم، وَتحمل الْكل، وتقري الضَّيْف، وَتعين على نَوَائِب الْحق، فَأَنا لَك جَار فَارْجِع فاعبد رَبك ببلدك ".

قَوْلهَا: " فَانْطَلَقت بِهِ خَدِيجَة حَتَّى أَتَت بِهِ ورقة بن نَوْفَل بن أَسد ابْن عبد الْعُزَّى وَهُوَ ابْن عَم خَدِيجَة أخي أَبِيهَا ": قلت: هِيَ خَدِيجَة بنت خويلد بن أَسد القرشية الأَسدِية أول زَوْجَة لرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأول من آمن بِهِ وَصدقه، وَصلى مَعَه، وآزره على أمره، وَلها الْفضل على غَيرهَا مِمَّن شاركها فِي هَذِه الْأَوْصَاف بِمَا انْفَرَدت بِهِ من تثبيت النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَإِزَالَة الْهم عَنهُ، واجتماعها بِمن كَانَ من أهل الْكتاب، وسؤالها عَن ذَلِك، وحرصها فِيهِ رَضِي الله عَنْهَا، وانضم إِلَى ذَلِك أَنَّهَا آنسته من كل وَحْشَة، وهونت عَلَيْهِ كل مَكْرُوه وأراحته بمالها من كل كد وَنصب، وفرغته لعبادة الله تَعَالَى وتنفيذ أمره. قَالَ ابْن إِسْحَاق: " وَكَانَت أول من آمن بِاللَّه وَرَسُوله وصدقت بِمَا جَاءَهُ من الله، فَخفف بذلك عَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، لَا يسمع شَيْئا يكرههُ من رد عَلَيْهِ وَتَكْذيب لَهُ فحزنه ذَلِك إِلَّا فرج الله عَنهُ إِذا رَجَعَ إِلَيْهَا، تثبته وتخفف عَنهُ وَتصدقه وتهون عَلَيْهِ أَمر النَّاس ". وَوَقع فِي " كتاب الزبير بن أبي بكر " قَالَ: قَالَ عبد الرَّحْمَن بن زيد: قَالَ آدم عَلَيْهِ السَّلَام: مِمَّا فضل بِهِ عَليّ ابْني صَاحب الْبَعِير أَن زوجه كَانَت عونا لَهُ على تَبْلِيغ أَمر الله، وَإِن زَوْجَتي كَانَت لي عونا على الْمعْصِيَة. وَذكرت عَائِشَة فِي هَذَا الحَدِيث أَن خَدِيجَة انْطَلَقت بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى ورقة، وَوَقع فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر أَنَّهَا ذهبت وَحدهَا إِلَى ورقة فَأَخْبَرته، ثمَّ اجْتمع بِهِ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ قَالَ - بعد حِكَايَة قَوْلهَا لَهُ - إِنِّي

لأرجو أَن تكون نَبِي هَذِه الْأمة، ثمَّ قَامَت فَجمعت عَلَيْهَا ثِيَابهَا، ثمَّ انْطَلَقت إِلَى ورقة بن نَوْفَل بن أَسد وَهُوَ ابْن عَمها، وَكَانَ ورقة قد تنصر، وَقَرَأَ الْكتب، وَسمع من أهل التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، فَأَخْبَرته بِمَا أخْبرهَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنه رأى وَسمع، فَقَالَ ورقة: قدوس قدوس وَالَّذِي نفس ورقة بِيَدِهِ لَئِن كنت صدقتيني يَا خَدِيجَة لقد جَاءَهُ الناموس الْأَكْبَر الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإنَّهُ لنَبِيّ لهَذِهِ الْأمة، فَقولِي لَهُ فليثبت، فَرَجَعت خَدِيجَة إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخبرته بِمَا قَالَ ورقة، فسهل ذَلِك عَنهُ بعض مَا كَانَ فِيهِ من الْهم بِمَا جَاءَهُ، فَلَمَّا قضى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - جواره وَانْصَرف صنع كَمَا كَانَ يصنع، بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ فَطَافَ بهَا، فَلَقِيَهُ ورقة بن نَوْفَل وَهُوَ يطوف بِالْكَعْبَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا بن أخي، أَخْبرنِي بِمَا رَأَيْت وَسمعت، فَأخْبرهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ لَهُ ورقة: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ أَنَّك لنَبِيّ هَذِه الْأمة، وَلَقَد جَاءَك الناموس الْأَكْبَر الَّذِي جَاءَ مُوسَى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، وَلَئِن أَنا أدْركْت ذَلِك لأنصرن الله نصرا يُعلمهُ، ثمَّ أدنى رَأسه مِنْهُ فَقيل يَافُوخه، ثمَّ انْصَرف رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى منزله وَقد زَاده ذَلِك من قَول ورقة ثباتا، وخفف عَنهُ بعض مَا كَانَ فِيهِ من الْهم. قَالَ ابْن إِسْحَاق: وحَدثني إِسْمَاعِيل بن أبي حَكِيم مولى الزبير أَنه حدث عَن خَدِيجَة أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - - فِيمَا تثبته بِهِ فِيمَا أكْرمه الله بِهِ من النُّبُوَّة - أَي ابْن عَم، أتستطيع أَن تُخبرنِي بصاحبك هَذَا الَّذِي يَأْتِيك

إِذا جَاءَك؟ قَالَ: نعم، قَالَت: فَإِذا جَاءَك فَأَخْبرنِي بِهِ، فَجَاءَهُ جِبْرِيل كَمَا كَانَ يَأْتِيهِ، فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لِخَدِيجَة: يَا خَدِيجَة، هَذَا جِبْرِيل قد جَاءَنِي، فَقَالَت: قُم يَا بن عَم، فاجلس على فَخذي الْيُسْرَى فَفعل، قَالَت: هَل ترَاهُ؟ قَالَ: نعم، قَالَت: فتحول فَاقْعُدْ على فَخذي الْيُمْنَى فَفعل، فَقَالَت: هَل ترَاهُ؟ قَالَ: نعم، فحسرت فَأَلْقَت خمارها وَرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - جَالس فِي حجرها، قَالَت: هَل ترَاهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَت: يَا بن عَم فَاثْبتْ وأبشر، فوَاللَّه إِنَّه لملك وَمَا هُوَ شَيْطَان. قَالَ ابْن إِسْحَاق: فَحدثت عبد الله بن الْحسن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: قد سَمِعت فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن - يَعْنِي أمه - تحدث بِهَذَا الحَدِيث إِلَّا أَنِّي سَمعتهَا تَقول: أدخلت خَدِيجَة رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بَينهَا بَين درعيها فَذهب عِنْد ذَلِك جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ". قَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْبَيْهَقِيّ: " وَهَذَا شَيْء كَانَت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا تَصنعهُ تستثبت بِهِ الْأَمر احْتِيَاطًا لدينها وتصديقها، فَأَما النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فقد كَانَ وثق بِمَا قَالَ لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، وَأرَاهُ من الْآيَات الَّتِي ذَكرنَاهَا

مرّة بعد أُخْرَى، وَمَا كَانَ من تَسْلِيم الْحجر وَالشَّجر عَلَيْهِ، وَمَا كَانَ من إِجَابَة الشّجر لدعائه، وَذَلِكَ بَعْدَمَا كذبه قومه وشكاهم إِلَى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، فَأَرَادَ أَن يطيب قلبه ". قَوْلهَا: " وَكَانَ امرء تنصر فِي الْجَاهِلِيَّة، وَكَانَ يكْتب الْكتاب الْعَرَبِيّ، وَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية مَا شَاءَ الله أَن يكْتب، وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد عمى ": هَذِه صِفَات ورقة بن نَوْفَل، وَوَقع فِي رِوَايَة عقيل فِي " صَحِيح البُخَارِيّ " " وَكَانَ يكْتب الْكتاب العبراني، وَيكْتب من الْإِنْجِيل بالعبرانية "، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا فقد كَانَ يعرف الكتابيين الْعَرَبِيّ والعبراني، وَلَوْلَا ذَلِك لما قدر على أَن يكْتب الْإِنْجِيل بِالْعَرَبِيَّةِ، وَكَانَ ورقة أحد الْجَمَاعَة الَّذين رَغِبُوا فِي الْجَاهِلِيَّة عَن عبَادَة الْأَوْثَان، وَسَأَلَ عَن الدّين الحنيف عُلَمَاء أهل الْأَدْيَان، وَكَانَ ينْتَظر خُرُوج رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتبعه لِأَنَّهُ سمع أرمه من أهل الْكتاب، ووقف على بعض صِفَاته عِنْدهم، وَكَانَت خَدِيجَة تخبره عَن أَحْوَال النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - من حِين أخْبرهَا غلامها ميسرَة الَّذِي وجهته مَعَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - تَاجِرًا إِلَى الشَّام، وَسمع مَا قالته فِيهِ الرهبان. قَالَ مُوسَى بن عقبَة: " ثمَّ إِن الله تَعَالَى بعث مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - على رَأس خمس عشر سنة من بُنيان الْكَعْبَة ".

قَالَ ابْن شهَاب: " وحَدثني عُرْوَة بن الزبير عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: توفّي رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة ". قَالَ ابْن شهَاب: " وحَدثني مثل ذَلِك سعيد بن الْمسيب وَكَانَ فِيمَا بلغنَا أول مَا رأى أَن الله عز وَجل أرَاهُ رُؤْيا فِي الْمَنَام فشق ذَلِك عَلَيْهِ، فَذكرهَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لامْرَأَته خَدِيجَة، فعصمها الله عز وَجل من التَّكْذِيب وَشرح صدرها بالتصديق، فَقَالَت: أبشر فَإِن الله عز وَجل لن يصنع بك إِلَّا خيرا، ثمَّ إِنَّه خرج من عِنْدهَا ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَأَخْبرهَا أَنه رأى بَطْنه شقّ ثمَّ طهر وَغسل ثمَّ أُعِيد كَمَا كَانَ، قَالَت: وَالله هَذَا خير فأبشر، ثمَّ استعلن لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّة فأجلسه على مجْلِس كريم معجب كَانَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: أجلسني على بِسَاط كَهَيئَةِ الدرنوك فِيهِ الْيَاقُوت واللؤلؤ، فبشره برساله الله عز وَجل حَتَّى اطْمَأَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل: اقْرَأ، فَقَالَ: كَيفَ اقْرَأ؟ قَالَ: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق - إِلَى - مَا لم يعلم} ، قَالَ: وَيَزْعُم نَاس أَن {يَا أَيهَا المدثر} أول سُورَة نزلت عَلَيْهِ. قَالَ ابْن شهَاب: " وَكَانَت خَدِيجَة أول من آمن بِاللَّه وَصدق رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أَن تفرض الصَّلَاة، قَالَ: فَقيل الرَّسُول رِسَالَة ربه عز وَجل

وَاتبع الَّذِي جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام من عِنْد الله، فَلَمَّا انْصَرف منقلبا إِلَى بَيته جعل لَا يمر على شَجَرَة وَلَا حجر إِلَّا سلم عَلَيْهِ، فَرجع مَسْرُورا إِلَى أَهله موقنا قد رأى أمرأ عَظِيما، فَلَمَّا دخل على خَدِيجَة قَالَ: أرأيتك الَّذِي كنت أحَدثك أَنِّي رَأَيْته فِي الْمَنَام فَإِنَّهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام استعلن لي أرْسلهُ إِلَى رَبِّي، فَأَخْبرهَا بِالَّذِي جَاءَهُ من الله عز وَجل وَمَا سمع مِنْهُ، فَقَالَت: أبشر فوَاللَّه لَا يفعل الله بك إِلَّا خيرا، فَأقبل الَّذِي جَاءَك من الله فَإِنَّهُ حق، وأبشر فَإنَّك رَسُول الله حَقًا. ثمَّ انْطَلَقت مَكَانهَا حَتَّى أَتَت غُلَاما لعتبة بن ربيعَة بن عبد شمس نَصْرَانِيّا من أهل نِينَوَى يُقَال لَهُ عداس فَقَالَت: يَا عداس، أذكرك بِاللَّه إِلَّا مَا أَخْبَرتنِي هَل عنْدك علم من جِبْرِيل؟ فَقَالَ عداس: قدوس قدوس مَا شَأْن جِبْرِيل يذكر بِهَذِهِ الأَرْض الَّتِي أَهلهَا أهل الْأَوْثَان؟ فَقَالَت: أَخْبرنِي بعلمك فِيهِ، قَالَ: فَإِنَّهُ أَمِين الله بَينه وَبَين النَّبِيين وَهُوَ صَاحب مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام. فَرَجَعت خَدِيجَة من عِنْده فَجَاءَت ورقة بن نَوْفَل وَكَانَ ورقة قد كره عبَادَة الْأَوْثَان هُوَ وَزيد بن عَمْرو بن نفَيْل، وَكَانَ زيد قد حرم كل شَيْء

حرمه الله عز وَجل من الدَّم والذبيحة على النصب وَمن أَبْوَاب الظُّلم فِي الْجَاهِلِيَّة، فَعمد هُوَ وورقة بن نَوْفَل يلتمسان الْعلم حَتَّى وَقعا بِالشَّام، فعرضت الْيَهُود عَلَيْهِمَا دينهم فكرهاه وسألا رُهْبَان النصرانيىة، فَأَما ورقة فَتَنَصَّرَ، وَأما زيد فكره النَّصْرَانِيَّة فَقَالَ لَهُ قَائِل من الرهبان: أَنَّك تلتمس دينا لَيْسَ يُوجد الْيَوْم فِي الأَرْض، فَقَالَ لَهُ زيد: أَي دين ذَلِك؟ قَالَ الْقَائِل: دين الْقيم دين إِبْرَاهِيم خَلِيل الرَّحْمَن، قَالَ: وَمَا كَانَ دينه؟ قَالَ: كَانَ حَنِيفا مُسلما، فَلَمَّا وصف لَهُ دين إِبْرَاهِيم قَالَ زيد: أَنا على دين إِبْرَاهِيم، وَأَنا ساجد نَحْو الْكَعْبَة الَّتِي بنى إِبْرَاهِيم، فَسجدَ نَحْو الْكَعْبَة فِي الْجَاهِلِيَّة، وَقَالَ زيد لما تبين الْهدى: (أسلمت وَجْهي لمن أسلمت ... لَهُ المزن تحمل عذبا زلالا) ثمَّ توفّي زيد وَبَقِي ورقة بعده كَمَا يَزْعمُونَ سِنِين، فَلَمَّا وصفت خَدِيجَة لورقة حِين جَاءَتْهُ شَأْن مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وَذكرت لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَمَا جَاءَ بِهِ إِلَى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - من عِنْد الله عز وَجل قَالَ لَهَا ورقة: يَا ابْنة أخي، مَا أَدْرِي لَعَلَّ صَاحبك النَّبِي الَّذِي تنْتَظر أهل الْكتاب الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَأقسم بِاللَّه لَئِن كَانَ إِيَّاه ثمَّ أظهر دعاءه وَأَنا حَيّ لأبلين الله فِي طَاعَة رَسُوله وَحسن مؤازرته الصَّبْر والنصر، فَمَاتَ ورقة ".

قَالَ الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ: " وَالَّذِي ذكر فِيهِ من شقّ بَطْنه يحْتَمل أَن يكون حِكَايَة مِنْهُ لما صنع بِهِ فِي صباه، وَيحْتَمل أَن يكون شقّ مرّة أُخْرَى، ثمَّ مرّة ثَالِثَة حِين عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء وَالله أعلم. قلت: هَذِه الْمرة الثَّانِيَة إِنَّمَا كَانَت عَن مَنَام وَوَقع تَفْسِيرهَا عِنْد عروجه إِلَى السَّمَاء وَالله أعلم. وَالْقَاضِي عِيَاض يرى أَنه إِنَّمَا فعل بِهِ ذَلِك مرّة وَاحِدَة فِي عمره، وَقد بَينا ذَلِك فِي " شرح ذَات الْأُصُول ". قَوْلهَا: " فَقَالَت لَهُ خَدِيجَة: أَي عَم، اسْمَع من ابْن أَخِيك ": وَفِي رِوَايَة: " أَي ابْن عَم " وَهُوَ الأَصْل لِأَنَّهُ ابْن عَمها حَقِيقَة. وَوجه الرِّوَايَة الأولى أَنَّهَا خاطبته بذلك على وَجه التَّعْظِيم لَهُ لَا على وَجه النّسَب بَينهمَا تَنْزِيلا لَهُ منزلَة الْأَب كَمَا يخاطبه الْأَجْنَبِيّ الصَّغِير بذلك. وَمثله يَقع فِي بعض الْأَسَانِيد من رِوَايَة حَنْبَل بن إِسْحَاق بن حَنْبَل، عَن ابْن عَمه الإِمَام أبي عبد الله أَحْمد بن مُحَمَّد بن حَنْبَل فَيَقُول: ثَنَا عمي - يَعْنِي أَحْمد - وَإِنَّمَا هُوَ ابْن عَمه. وَأما تعبيرها عَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بِأَنَّهُ ابْن أَخِيه فَهُوَ من بَاب التَّعْظِيم لَهُ أَيْضا والتوفيق فِي الْخطاب طلبا للإقبال عَلَيْهِ والإصغاء إِلَيْهِ، وَلَيْسَ من بَاب النّسَب فَإِن ورقة وَإِن كَانَ قرشيا فَلَيْسَ عَمَّا للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُ أسدي وَالنَّبِيّ

- صلى الله عليه وسلم - هاشمي، وَإِنَّمَا يَلْتَقِيَانِ فِي نسب قُرَيْش عِنْد قصي بن كلاب بن مرّة فالنبي - صلى الله عليه وسلم - من ذُرِّيَّة عبد منَاف بن قصي وورقة من ذُرِّيَّة عبد الْعُزَّى بن قصي. قَوْلهَا: " فَقَالَ ورقة: يَا بن أخي، مَاذَا ترى؟ فَأخْبرهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر مَا رأى ": لقَوْله: "مَاذَا ترى؟ " تقديران: أَحدهمَا: مَا الَّذِي ترى. وَالثَّانِي: أَي شَيْء ترى. وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي كتاب " الدَّلَائِل " مُنْقَطِعًا عَن أبي ميسرَة عَمْرو بن شرحيبل أَن رَسُول الله قَالَ لِخَدِيجَة: " إِنِّي إِذا خلوت وحدي سَمِعت نِدَاء، وَقد خشيت وَالله أَن يكون لهَذَا أَمر، قَالَت: معَاذ الله، مَا كَانَ الله ليفعل ذَلِك بك، فوَاللَّه أَنَّك لتؤدي الْأَمَانَة، وَتصل الرَّحِم، وَتصدق الحَدِيث، فَلَمَّا دخل أَبُو بكر وَلَيْسَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ ذكرت خَدِيجَة لَهُ، فَقَالَت: يَا عَتيق، اذْهَبْ مَعَ مُحَمَّد إِلَى ورقة، فَلَمَّا دخل رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أَخذ أَبُو بكر بِيَدِهِ فَقَالَ: انْطلق بِنَا إِلَى ورقة، فَقَالَ: وَمن أخْبرك؟ قَالَ: خَدِيجَة، فَانْطَلقَا إِلَيْهِ فقصا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي إِذا خلوت وحدي سَمِعت نِدَاء خَلْفي: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَانْطَلق هَارِبا فِي الأَرْض، فَقَالَ لَهُ: لَا تفعل، إِذا أَتَاك فاثيت حَتَّى تسمع مَا يَقُول لَك، ثمَّ ائْتِنِي فَأَخْبرنِي، فَلَمَّا خلا ناداه: يَا مُحَمَّد، قل:

{بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} حَتَّى بلغ: {وَلَا الضَّالّين} ، قل: لَا إِلَه إِلَّا الله، فَأتى ورقة فَذكر لَهُ ذَلِك، فَقَالَ لَهُ ورقة: أبشر ثمَّ أبشر، فَأَنا أشهد أَنَّك الَّذِي بشر بك ابْن مَرْيَم، وَأَنَّك على مثل ناموس مُوسَى، وَأَنَّك نَبِي مُرْسل، وَأَنَّك ستؤمر بِالْجِهَادِ بعد يَوْمك هَذَا، وَلَئِن أدركني ذَلِك لأجاهدن مَعَك، فَلَمَّا توفّي قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد رَأَيْت القس فِي الْجنَّة وَعَلِيهِ ثِيَاب الْحَرِير لِأَنَّهُ آمن بِي وصدقني - يَعْنِي ورقة - ". لفظ مَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي " كِتَابه "، وَأخرجه أَبُو نعيم بِمَعْنَاهُ وَقَالَ: " فأسرت ذَلِك إِلَى أبي بكر وَكَانَ نديما لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة ". قَالَ السُّهيْلي: " وَفِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن إِسْحَاق بِسَنَدِهِ إِلَى أبي ميسرَة فَذكر الحَدِيث بِاللَّفْظِ الأول ". (قَالَ) : " وَفِي رِوَايَة يُونُس أَيْضا - يَعْنِي عَن ابْن إِسْحَاق - أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لرجل يسب ورقة: أما علمت أَنِّي رَأَيْت لورقة جنَّة أَو

جنتين ". قَالَ: " وَهَذَا الحَدِيث الْأَخير قد أسْندهُ الْبَزَّار ". قَوْلهَا: " فَقَالَ لَهُ ورقة: هَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - ": وَفِي رِوَايَة صَالح بن أبي الْأَخْضَر عَن الزُّهْرِيّ فَقَالَ: " هُوَ وَالله الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى - صلى الله عليه وسلم - ". قَالَ الْهَرَوِيّ: " الناموس صَاحب سر الْملك يُقَال: نمس ينمس نمسا إِذا كتم السِّرّ، ونامسته منامسة إِذا ساررته، وَسمي جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ناموسا لِأَن الله تَعَالَى خصّه بِالْوَحْي والغيب اللَّذين لَا يطلع عَلَيْهِمَا غَيره ". قَالَ الْجَوْهَرِي: " ناموس الرجل صَاحب سره الَّذِي يطلعه على بَاطِن أمره ويخصه بِمَا يستره عَن غَيره، وَأهل الْكتاب يسمون جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام

الناموس والناموس قترة الصَّائِد لِأَنَّهُ يختفي فِيهَا، ونمست الرجل ونامسته إِذا ساررته قَالَ الْكُمَيْت: (فأبلغ يزِيد إِن عرضت ومنذرا ... وعميهما والمستسر المنامسا) قَالَ الْخطابِيّ: " قَوْله: هَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى، يُرِيد جِبْرِيل صلوَات الله عَلَيْهِمَا. وَأَخْبرنِي أَبُو عمر، وَأخْبرنَا أَبُو الْعَبَّاس، عَن عَمْرو بن أبي عَمْرو الشَّيْبَانِيّ، عَن أَبِيه قَالَ: الناموس صَاحب سر الْخَيْر، والجاسوس صَاحب سر الشَّرّ. وَيُقَال: إِن أَصله مَأْخُوذ من قَوْلك: نامست الرجل إِذا ساررته فَقيل مِنْهُ: ناموس على بِنَاء فاعول. وَقيل: هُوَ مقلوب من ناسمته فَقدم الْمِيم على السِّين ". قَالَ السُّهيْلي: " وَإِنَّمَا ذكر ورقة مُوسَى وَلم يذكر عِيسَى - وَهُوَ أقرب - لِأَن ورقة كَانَ قد تنصر، وَالنَّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى: إِنَّه نَبِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل إِنَّمَا يَقُولُونَ فِيهِ: إِن أقنوما من الأقانيم الثَّلَاثَة اللاهوتيه حل بناسوت الْمَسِيح، واتحد بِهِ على اخْتِلَاف بَينهم فِي ذَلِك الْحُلُول، وَهُوَ أقنوم الْكَلِمَة والكلمة عِنْدهم عبارَة عَن الْعلم، فَلذَلِك كَانَ الْمَسِيح فِي زعمهم

يعلم الْغَيْب ويخبر بِمَا فِي غَد، فَلَمَّا كَانَ هَذَا من مَذْهَب النَّصَارَى الكذبة على الله المدعين الْمحَال عدل عَن ذكر عِيسَى إِلَى ذكر مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام، لعلمه أَو لاعْتِقَاده أَن جِبْرِيل كَانَ ينزل على مُوسَى، لَكِن ورقة قد ثَبت إيمَانه بِمُحَمد - صلى الله عليه وسلم -، وَقد قدمنَا حَدِيث التِّرْمِذِيّ أَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - رَآهُ فِي الْمَنَام وَعَلِيهِ ثِيَاب بيض إِلَى آخر الحَدِيث ". قلت: قد سبق فِي حَدِيث عداس - وَكَانَ أَيْضا نَصْرَانِيّا - أَنه وصف جِبْرِيل لِخَدِيجَة فَقَالَ: أَنه أَمِين الله بَينه وَبَين النَّبِيين، وَهُوَ صَاحب مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام. وَفِي كتاب " الدَّلَائِل " لأبي نعيم عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن يحيى بن عُرْوَة، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ ورقة - لما ذكرت لَهُ خَدِيجَة أَنه ذكر لَهَا جِبْرِيل -: سبوح سبوح، وَمَا لجبريل يذكر فِي هَذِه الأَرْض الَّتِي تعبد فِيهَا الْأَوْثَان، جِبْرِيل أَمِين الله بَينه وَبَين رسله، اذهبي بِهِ إِلَى الْمَكَان الَّذِي رأى فِيهِ مَا رأى فَإِذا أَتَاهُ فتحسري، فَإِن يكن من عِنْد الله لَا يرَاهُ، فَفعلت فَلَمَّا تحسرت تغيب جِبْرِيل فَلم يره، فَرَجَعت وأخبرت ورقة، فَقَالَ: إِنَّه ليَأْتِيه الناموس الْأَكْبَر الَّذِي لَا يُعلمهُ بَنو إِسْرَائِيل أَبْنَاءَهُم إِلَّا بِالثّمن، ثمَّ أَقَامَ ورقة ينْتَظر إِظْهَار الدعْوَة. وَرَوَاهُ عَليّ بن مسْهر عَن هِشَام وَقَالَ: لَئِن كنت صدقتني إِنَّه ليَأْتِيه الناموس الْأَكْبَر ناموس عِيسَى الَّذِي لَا يُعلمهُ بَنو إِسْرَائِيل أَبْنَاءَهُم، وَلَئِن نطق وَأَنا حَيّ لأبلين الله فِيهِ بلَاء حسنا.

قَوْله: " يَا لَيْتَني فِيهَا جذعا ": قَالَ الْهَرَوِيّ: " يَعْنِي فِي نبوة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: يَا لَيْتَني كنت شَابًّا فِيهَا يَعْنِي حِين تظهر نبوته حَتَّى أبالغ فِي نصرته، وَالْأَصْل فِي الْجذع سنو الدَّوَابّ وَهُوَ قبل أَن يثني بِسنة، والدهر جذع أبدا أَي شَاب لَا يهرم ". وَقَالَ الْخطابِيّ: " مَعْنَاهُ لَيْتَني بقيت حَيا إِلَى وَقت مخرجك، وَأَيَّام دعوتك، وَكنت فِيهَا شَابًّا بِمَنْزِلَة الْجذع من الْحَيَوَان كَقَوْل دُرَيْد: (يَا لَيْتَني فِيهَا جذع ... أحب فِيهَا وأضع) قَالَ: " وَقَوله: " فِيهَا " على التَّأْنِيث أضمر إِمَّا الدعْوَة وَإِمَّا النُّبُوَّة أَو الدولة، وَنصب " جذعا " على معنى: لَيْتَني كنت جذعا فأضمر " كنت " لِأَن " لَيْت " قد شغل بالمكنى فَلم يبْق لَهُ فعلا فِيمَا بعده ". قَالَ الْمَازرِيّ: " الظَّاهِر أَن يكون " جذعا " مَنْصُوبًا على أَنه خبر " كَانَ " المحذوفة، فالتقدير: لَيْتَني أكون فِيهَا جذعا. قَالَ: وَهَذَا على طَريقَة الْكُوفِيّين، وَمثل مَا يضمر فِيهِ " كَانَ "

عِنْدهم قَول الله تَعَالَى: {انْتَهوا خيرا لكم} ، تَقْدِيره عِنْد الْكسَائي: يكن الِانْتِهَاء خيرا لكم ". قَالَ القَاضِي عِيَاض: " كَذَا وَقع هَذَا الْحَرْف فِي أَكثر الرِّوَايَات فِي الْأُم وَفِي " كتاب البُخَارِيّ ": " جذعا " بِالنّصب، وَوَقع هُنَا عندنَا لِابْنِ ماهان: " جذع " على خبر " لَيْت " وَكَذَلِكَ هُوَ فِي البُخَارِيّ عِنْد الْأصيلِيّ. وَوجه النصب عِنْدِي فِيهِ وأظهره كَونه على الْحَال، وَخبر " لَيْت " مُضْمر فِي " فِيهَا " تَقْدِيره: لَيْتَني فِي أَيَّام نبوتك حَيّ، أَو لأيامها مدرك، فِي حَال شبيبة وَصِحَّة وَقُوَّة لنصرتك، إِذْ كَانَ قد أسن وَعمي عِنْد قَوْله هَذَا كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث ". قلت: الْوَجْهَانِ جيدان وَذَلِكَ قريب من قَول الشَّاعِر الَّذِي تكلم النُّحَاة عَلَيْهِ: (يَا لَيْت أَيَّام الصِّبَا رواجعا ... ) وَقَالُوا: التَّقْدِير: أَقبلت رواجعا، فَيكون نصبا على الْحَال. وَقَالَ الْكسَائي: " كَانَت رواجعا، هُوَ خبر كَانَ ".

وَأَجَازَ الْفراء: لَيْت زيدا قَائِما، بِنصب خبر " لَيْت "، ويجريه مجْرى: أَتَمَنَّى زيدا قَائِما. وَقد قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: إِن الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْفراء لُغَة عكل ينصبون خبر " لَيْت " وَأنْشد على ذَلِك قَول النمر: (أَلا لَيْتَني حجرا بواد ... أَصمّ وليت أُمِّي لم تلدني) فَإِن قُلْنَا: إِن " جذعا " نصب على الْحَال كَانَ قَوْله " فِيهَا " خبر " لَيْت "، أَي لَيْتَني كَائِن أَو مَوْجُود فِي أَيَّام نبوتك كَقَوْل كَعْب بن لؤَي ابْن غَالب: (يَا لَيْتَني شَاهد فحواء دَعوته ... حِين الْعَشِيرَة تبغي الْحق خذلانا) ويروي: فحوى نبوته. قَوْله: " يَا لَيْتَني أكون حَيا حِين يخْرجك قَوْمك ": حَيا: خبر " أكون " وَهَذَا يُقَوي نصب " جذعا " الْمُتَقَدّم على إِضْمَار " أكون " ودلنا هَذَا الظَّاهِر على ذَلِك الْمُقدر لِأَن كلتا الجملتين تمن، تمنى الْحَيَاة عِنْد إِخْرَاج قومه لَهُ حبا لنصره ورغبة فِي جِهَاد أعدائه، وَتمنى الْقُوَّة والشباب فِي زمن النُّبُوَّة ليظْهر غناؤه، وتتضاعف مؤازرته واعتناؤه. قَوْلهَا: " فَقَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَو مخرجي هم؟ ": وَفِي رِوَايَة صَالح عَن الزُّهْرِيّ: " أَو مخرجي قومِي؟ ".

قَالَ السُّهيْلي: " وَفِي حَدِيث ورقة أَنه قَالَ لرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - لتكذبنه، فَلم يقل لَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - شَيْئا، ثمَّ قَالَ: ولتؤذينه، فَلم يقل النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - شَيْئا، ثمَّ قَالَ: ولتخرجنه، فَقَالَ: أَو مخرجي هم؟ فَفِي هَذَا دَلِيل على حب الوطن وَشدَّة مُفَارقَته على النَّفس، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ حرم الله وَجوَار بَيته وبلد أَبِيه إِسْمَاعِيل، فَلذَلِك تحركت نَفسه عِنْد ذكر الْخُرُوج مِنْهُ مَا لم يَتَحَرَّك قبل ذَلِك فَقَالَ: أَو مخرجي هم؟ والموضع الدَّال على تحرّك النَّفس وتحرقها إِدْخَال الْوَاو بعد ألف الِاسْتِفْهَام مَعَ اخْتِصَاص الْإِخْرَاج بالسؤال عَنهُ، وَذَلِكَ أَن الْوَاو ترد إِلَى الْكَلَام الْمُتَقَدّم، وتشعر الْمُخَاطب بِأَن الِاسْتِفْهَام على جِهَة الْإِنْكَار أَو التفجع لكَلَامه والتألم مِنْهُ، وَالْهَاء فِي قَوْله: " لتكذبنه " وَمَا بعْدهَا لَا ينْطق بهَا إِلَّا سَاكِنة لِأَنَّهَا هَاء السكت وَلَيْسَت بهاء إِضْمَار. وَلَا بُد من تَشْدِيد الْيَاء من " مخرجي " لِأَنَّهُ جمع وَالْأَصْل: " مخرجوي " فأدغمت الْوَاو فِي الْيَاء لاجتماعهما وَسبق إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ وَهُوَ قِيَاس مطرد وَهُوَ خبر ابْتِدَاء مقدم، وَلَو كَانَ الْمُبْتَدَأ اسْما ظَاهرا لجَاز تَخْفيف الْيَاء وَيكون الِاسْم الظَّاهِر فَاعِلا لَا مُبْتَدأ، كَمَا تَقول: أضارب قَوْمك، أخارج إخْوَتك، فتفرد لِأَنَّك رفعت بِهِ فَاعِلا ".

(قلت: فعلى هَذَا يجوز تَخْفيف الْيَاء على رِوَايَة صَالح عَن الزُّهْرِيّ: " أَو مخرجي قومِي ". ثمَّ قَالَ) : " وَهُوَ حسن فِي مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ والأخفش، وَلَوْلَا الِاسْتِفْهَام، لما جَازَ الْإِفْرَاد إِلَّا على مَذْهَب الْأَخْفَش فَإِنَّهُ يَقُول: قَائِم الزيدون دون اسْتِفْهَام، فَإِن كَانَ الِاسْم الْمُبْتَدَأ من الْمُضْمرَات نَحْو: أخارج أَنْت؟ وأقائم هُوَ؟ لم يَصح فِيهِ إِلَّا الِابْتِدَاء لِأَن الْفَاعِل إِذا كَانَ مضمرا لم يكن مُنْفَصِلا، لَا تَقول: قَامَ أَنا، وَلَا ذهب أَنْت، فَكَذَلِك لَا تَقول: أذاهب أَنْت؟ على حد الْفَاعِل وَلَكِن على حد الْمُبْتَدَأ، وَإِذا كَانَ على حد الْمُبْتَدَأ فَلَا بُد من جمع الْخَبَر، فعلى هَذَا يَقُول: أَو مخرجي هم؟ بِالتَّشْدِيدِ تُرِيدُ: أمخرجون، ثمَّ أضفت إِلَى الْيَاء وحذفت النُّون للإضافة ثمَّ أدغمت الْوَاو كَمَا يَقْتَضِي الْقيَاس ". (قَالَ) : " وَهَذَا فصل بديع فِي النَّحْو قل من تنبه إِلَيْهِ وَشَرحه بِهَذَا الْبَيَان ".

قَوْلهَا: " قَالَ ورقة: نعم، لم يَأْتِ رجل قطّ بِمَا جِئْت بِهِ إِلَّا عودي: " وَفِي رِوَايَة: " أَو ذِي مَكَان " عودي "، وَفِي رِوَايَة صَالح بن أبي الْأَخْضَر وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ الْجمع بَينهمَا قَالَ: " إِلَّا عودي وأوذي، فليتني فِيهَا جذعا ". وَفِي حَدِيث عبد الله بن شَدَّاد قَالَ: " فَقَالَ ورقة لِخَدِيجَة: هَل رأى زَوجك صَاحبه فِي خضر؟ فَقَالَت: نعم، فَقَالَ: إِن زَوجك نَبِي، وسيصيبه فِي أمته بلَاء " رَوَاهُمَا أَبُو نعيم فِي " دلائله ". قلت: وَهَذِه سنة الله تَعَالَى فِي الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ مَعَ قَومهمْ غير الموفقين للْإيمَان مِنْهُم فَإِنَّهُم يظهرون لَهُم الْعَدَاوَة والأذى على الْجُمْلَة، ويشتد عَلَيْهِم الْفِطَام عَمَّا كَانَ آباؤهم عَلَيْهِ، فيبالغون فِي أَذَى نَبِيّهم وَالَّذين آمنُوا بِهِ، فيضطرونهم إِلَى الْخُرُوج عَنْهُم كَمَا جرى لنبينا وَأَصْحَابه، وَلَعَلَّ ورقة سمع ذَلِك من أهل الْكتاب الَّذين عرف مِنْهُم صفة النَّبِي مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - وَوقت مبعثه. وَلَفظ " قطّ " فِي تَأْكِيد نفي الْفِعْل الْمَاضِي كَلَفْظِ " أبدا " فِي نفي الْفِعْل الْمُسْتَقْبل، والطاء مَضْمُومَة مُشَدّدَة ومخففة. قَوْله: " وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزرا: " وَوَقع فِي رِوَايَة صَالح عَن الزُّهْرِيّ: " فليتني حَيا يَوْم يخْرجك قَوْمك فأنصرك نصرا مؤزرا "، وَوَقع فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر: " وَلَئِن أَنا أدْركْت ذَلِك ". قَالَ السُّهيْلي: " إِن يدركني يَوْمك " هُوَ الْقيَاس لِأَن ورقة سَابق

بالوجود وَالسَّابِق هُوَ الَّذِي يدْرك من يَأْتِي بعده كَمَا جَاءَ: " أَشْقَى النَّاس من أَدْرَكته السَّاعَة وَهُوَ حَيّ ". قَالَ: " وَرِوَايَة ابْن إِسْحَاق أَيْضا لَهَا وَجه لِأَن الْمَعْنى: إِن أر ذَلِك الْيَوْم، فَسُمي رُؤْيَته إدراكا، وَفِي التَّنْزِيل: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} أَي لَا ترَاهُ على أحد الْقَوْلَيْنِ. وَقَوله: " مؤزرا " من الأزر وَهُوَ الْقُوَّة والعون ". وَقَالَ الْخطابِيّ: " مؤزرا أَي بليغا مقوى ".

وَقَالَ الْهَرَوِيّ: " مؤزرا أَي بَالغا، يُقَال: آزرته ووازرته أَي عاودته، وَكَذَلِكَ آسى وواسى ". وَقَالَ الْجَوْهَرِي: " الْعَامَّة تَقول: وازرته ". قَالَ ابْن سَيّده: " هِيَ على الْبَدَل ". قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: " الأزر الْقُوَّة أَو الضعْف فَهُوَ من الأضداد، والأزر: الظّهْر فَقَوله تَعَالَى: {اشْدُد بِهِ أزري} يحْتَمل الْمعَانِي الثَّلَاثَة ". وَقَالَ أَبُو عبد الله الْقَزاز: " هَكَذَا نقل هَذَا الْحَرْف " مؤزرا " وَهُوَ من: وازرته موازرة إِذا عاونته فِي أمره، وَأَنت موازر لَهُ فِيهِ أَي معاون ". قَالَ: " وأحسب أَن الْألف سَقَطت من أَمَام الْوَاو أَي كَانَ: " مؤازرا " إِذْ لَا أصل ل " مؤزر " فِي كَلَام الْعَرَب غير مَا ذكرنَا، وَمن المؤازرة أَخذ اسْم وَزِير الْملك لِأَنَّهُ معاون لَهُ فِي أُمُوره ". قَالَ القَاضِي عِيَاض: " وَقد ظهر لي أَنه صَحِيح على مَا جَاءَت بِهِ الرِّوَايَة وَأَنه أولى وأليق بِالْمَعْنَى، وَالْمرَاد: نصرا قَوِيا، مَأْخُوذ من الأزر وَهُوَ الْقُوَّة وَمِنْه: تأزر النبت إِذا اشْتَدَّ وَطَالَ قَالَ الله تَعَالَى: {اشْدُد بِهِ أزري} قيل: وقوتي وَقيل: ظَهْري، وَلَو كَانَ على مَا ذهب إِلَيْهِ هَذَا

الْقَائِل لَكَانَ صَوَاب الْكَلَام " مؤازرا " بِكَسْر الزَّاي، وَبعد أَن ظهر لي هَذَا وجدت مَعْنَاهُ مُعَلّقا عَن بعض الْمَشَايِخ وَوَجَدته للخطابي وَهُوَ صَحِيح " , قلت: لَيْسَ فِيمَا قَالَه القَاضِي مَا يُجَاب بِهِ عَن اعْتِرَاض الْقَزاز و (لَا) مَا يصحح بِهِ لفظ " مؤزر " من جِهَة الِاشْتِقَاق على قِيَاس الْعَرَبيَّة إِلَّا قَوْله: تأزر النبت إِذا التف وَاشْتَدَّ. أنْشد الْجَوْهَرِي: (تأزر فِيهِ النبت حَتَّى تخايلت ... رباه وَحَتَّى مَا ترى الشَّاء نوما) فوزن " تأزر " تفعل، وَتفعل هُوَ مُطَاوع فعل كتكسر وتعرف، وَفعل وأفعل يتفقان فِي التَّعْدِيَة كثيرا كأنزل وَنزل، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {فآزره} ، فَهَذَا أفعل، فَلَا بعد فِي جَوَاز فعل وَقد دلّ عَلَيْهِ مطاوعه، فَقَوله: " مؤزرا " اسْم مفعول من ذَلِك مثل مشرف ومفضل، وَلَيْسَ لنا من غير ذَلِك أزره فَهُوَ مؤزر إِلَّا فِي لبس الْإِزَار يُقَال: أزرته تأزيرا فتأزر هُوَ واتزر. فَأَقُول: يجوز أَن يكون مأخوذا من هَذَا لِأَن لبس الْإِزَار يكنى بِهِ عَن الْجد والتشمير فِي الْأَمر وَالْقِيَام بِهِ على الْوَجْه المرضي، وَأَصله أَن يتْرك

مضاجعة أَهله كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: " كَانَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إِذا دخل الْعشْر الْأَوَاخِر شدّ المئزر وَأَيْقَظَ أَهله ". وَقَالَ الشَّاعِر: (قوم إِذا حَاربُوا شدوا مآزرهم ... ) فَمَعْنَاه: أنصرك نصرا قد اعتني بِهِ واجتهد فِيهِ وشمر لَهُ، فهوة على أكمل وُجُوه النَّصْر وَالله أعلم. وَفِي حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن أبي الْأسود عَن عُرْوَة: " أَن ورقة قَالَ لِخَدِيجَة: يَا بنت أخي، مَا أَدْرِي لَعَلَّ صَاحبك الَّذِي ينْتَظر أهل الْكتاب الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا فِي الْإِنْجِيل، فأقسم بِاللَّه لَئِن كَانَ إِيَّاه ثمَّ دَعَا إِلَى الله وَأَنا حَيّ لأبلين الله فِي طَاعَة رَسُوله وَحسن المؤازرة والنصرة لَهُ ". أخرجه أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ فِي " دلائله ". وَقد تقدم نَحوه أَيْضا فِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة، فَهَذَا يُقَوي مَا صَار إِلَيْهِ الْقَزاز وَالله أعلم. قَالَ ابْن إِسْحَاق: وَقد كَانَت خَدِيجَة ذكرت لورقة مَا ذكر لَهَا غلامها ميسرَة من قَول الراهب وَمَا كَانَ رأى مِنْهُ إِذْ كَانَ الْملكَانِ يظلانه، فَقَالَ ورقة: لَئِن كَانَ هَذَا حَقًا يَا خَدِيجَة إِن مُحَمَّدًا لنَبِيّ هَذِه الْأمة، قد

عرفت أَنه كَائِن لهَذِهِ الْأمة نَبِي ينْتَظر هَذَا زَمَانه، فَجعل ورقة يستبطئ الْأَمر وَيَقُول: حَتَّى مَتى، فَكَانَ فِيمَا يذكرُونَ يَقُول أشعارا يستبطئ فِيهَا خير خَدِيجَة فَقَالَ: (أتبكر أم أَنْت العشية رائح ... وَفِي الصَّدْر من إضمارك الْحزن فادح) (لفرقة قوم لَا تحب فراقهم ... كَأَنَّك عَنْهُم بعد يَوْمَيْنِ نازح) (وأخبار صدق خبرت عَن مُحَمَّد ... يخبرها عَنهُ إِذا غَابَ نَاصح) (فَقَالَ الَّذِي وجهت يَا خير حرَّة ... بغور وبالنجدين حَيْثُ الصحاصح) (إِلَى سوق بصرى فِي الركاب الَّتِي غَدَتْ ... وَهن من الْأَحْمَال قعس دوالح) (فخبرنا عَن كل خير بِعِلْمِهِ ... وللخير أَبْوَاب لَهُنَّ مفاتح) (بِأَن ابْن عبد الله أَحْمد مُرْسل ... إِلَى كل من ضمت عَلَيْهِ الأباطح) (وظني بِهِ أَن سَوف يبْعَث صَادِقا ... كَمَا أرسل العبدان هود وَصَالح)

(ومُوسَى وَإِبْرَاهِيم حَتَّى يرى لَهُ ... بهاء ومنشور من الذّكر وَاضح) (ويتبعه حَيا لؤَي جمَاعَة ... شبابهم والأشيبون الجحاجح) (فَإِن أبق حَتَّى يدْرك النَّاس دهره ... فَإِنِّي بِهِ مُسْتَبْشِرٍ الود فارح) (وَإِلَّا فَإِنِّي يَا خَدِيجَة فاعلمي ... عَن أَرْضك فِي الأَرْض العريضة سائح) (فمتبع دين الَّذِي أسس الْهَدْي ... وكل لَهُ فضل على النَّاس رَاجِح) (وَأسسَ بنيانا بِمَكَّة ثَابتا ... تلألأ فِيهِ بالظلام المصابح) (منيفا على تشييد كل مشيد ... على بَابه ذِي العروتين الصفائح) (مثابا لأفناء الْقَبَائِل كلهَا ... تخب إِلَيْهِ اليعملات الطلائح) (حراجيج حدب قد كللن من السرى ... تعلق فِي أرساغهن السرائح)

وَقَالَ ورقة أَيْضا: (إِن يَك حَقًا يَا خَدِيجَة فاعلمي ... حَدِيثك إيانا فَأَحْمَد مُرْسل) (وَجِبْرِيل يَأْتِيهِ وميكال مَعَهُمَا ... من الله وَحي يشْرَح الصَّدْر منزل) (يفوز بِهِ من فَازَ فِيهَا بتوبة ... ويشقى بِهِ العاتي الغوي المضلل) (فريقان مِنْهُم فرقة فِي جنانه ... وَأُخْرَى بأجوار الْجَحِيم تغلل) (إِذا مَا دعوا بِالْوَيْلِ فِيهَا تَتَابَعَت ... مَقَامِع فِي هاماتهم ثمَّ تشعل) (فسبحان من تهوى الرِّيَاح بأَمْره ... وَمن هُوَ فِي الْأَيَّام مَا شَاءَ يفعل) (وَمن عَرْشه فَوق السَّمَوَات كلهَا ... وَأَحْكَامه فِي خلقه لَا تبدل)

وَقَالَ ورقة أَيْضا: (يَا للرِّجَال لصرف الدَّهْر وَالْقدر ... وَمَا لشَيْء قَضَاهُ الله من غير) (حَتَّى خَدِيجَة تَدعُونِي لأخبرها ... وَمَا لنا بخفي الْغَيْب من خبر) (فَكَانَ مَا سَأَلت عَنهُ لأخبرها ... أمرأ أرَاهُ سَيَأْتِي النَّاس عَن أخر) (فخبرتني بِأَمْر قد سَمِعت بِهِ ... فِيمَا مضى من قديم النَّاس وَالْعصر) (بِأَن أَحْمد يَأْتِيهِ فيحبره ... جِبْرِيل أَنَّك مَبْعُوث إِلَى الْبشر) (فَقلت عل الَّذِي ترجين يُنجزهُ ... لَك الْإِلَه فَرجي الْخَيْر وانتظري) (وأرسليه إِلَيْنَا كي نسائله ... عَن أَمر مَا يرى فِي النّوم والسهر)

(فَقَالَ حِين أَتَانَا منطقا عجبا ... تقف مِنْهُ أعالي الْجلد وَالشعر) (إِنِّي رَأَيْت أَمِين الله واجهني ... فِي صُورَة أكملت من أعظم الصُّور) (ثمَّ اسْتمرّ فَكَانَ الْخَوْف يذعرني ... مِمَّا يسلم مَا حَولي من الشّجر) (فَقلت ظَنِّي وَمَا يدْرِي أيصدقني ... أَن سَوف تبْعَث تتلو منزل السُّور) (وسوف أبليك إِن أعلنت دعوتهم ... من الْجِهَاد بِلَا من وَلَا كدر) وَقَالَ ورقة أَيْضا: (لججت وَكنت فِي الذكرى لجوجا ... لَهُم طَال مَا بعث النشيجا) (وَوصف من خَدِيجَة بعد وصف ... فقد طَال انتظاري يَا خديجا) (بِبَطن المكتين على رَجَاء ... حَدِيثك لَو أرى مِنْهُ خُرُوجًا)

(بِمَا خبرتني عَن قَول قس ... من الرهبان يكره أَن يعوجا) (بِأَن مُحَمَّدًا سيسود يَوْمًا ... ويحطم من يكون لَهُ حجيجا) (وَيظْهر فِي الْبِلَاد ضِيَاء نور ... يُقيم بِهِ الْبَريَّة أَن تموجا) (فَيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا) (فيا لَيْتَني إِذا مَا كَانَ ذاكم ... شهِدت وَكنت أَوَّلهمْ ولوجا) (ولوجا فِي الَّذِي كرهت قُرَيْش ... وَإِن عجت بمكتها عجيجا) (أرجي بِالَّذِي كَرهُوا جَمِيعًا ... إِلَى ذِي الْعَرْش إِن سفلوا عروجا) (فَإِن يبقوا وتبق تكن أُمُور ... يضج الْكَافِرُونَ بهَا ضَجِيجًا) (وَإِن أهلك فَكل فَتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خلوجا)

فصل

فصل انْتهى حَدِيث عَائِشَة على مَا ورد فِي " صَحِيح مُسلم ". وَفِي الحَدِيث دَلِيل على صِحَة الرُّؤْيَا وَأَنَّهَا إِذا كَانَت صَادِقَة وَقعت. وَفِيه دَلِيل على أَن الاعتزال وَالْخلْوَة والمجاورة أفرغ لقلب المتعبد. وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الدُّنْيَا لَا بُد فِيهَا من التَّرَدُّد فِي التزود. وَفِيه دَلِيل على أَن مَكَارِم الْأَخْلَاق وخصال الْخَيْر تَقِيّ مصَارِع السوء وَالله أعلم قَوْلهَا فِي " صَحِيح البُخَارِيّ ": " لم ينشب ورقة أَن توفّي ": قَالَ ابْن بطال: " أَي لم ينشب فِي شَيْء من الْأُمُور، وَكَأن هَذِه اللَّفْظَة عِنْد الْعَرَب عبارَة عَن السرعة والعجلة ". قَالَ ابْن الْقَزاز: " الْعَرَب تَقول: مَا نشب فلَان أَن يفعل كَذَا أَي مَا لبث أَن فعله، وَمَا نشبت أسأَل عَن خبرك أَي مَا زلت ". قَالَ الْحَرْبِيّ: " أَي لم يشْتَغل بِغَيْر مَا كَانَ فِيهِ وَلَا أعرض عَنهُ ". وَمثله: " ثمَّ لم ينشب أَن طَلقهَا " أَي لم يتَعَلَّق بِشَيْء حَتَّى طلق كَمَا ينشب بالشَّيْء بالشَّيْء.

وَحكى الْبَرْمَكِي فِي كِتَابه " الْمُنْتَهى ": " مَا نشب أَن فعل كَذَا أَي مَا لبث، وَمَا نشبت أَقُول ذَلِك ". قلت: فقولها: " أَن توفّي ط يكون بَدَلا من " ورقة " أَي لم تلبث وَفَاته أَي أَنَّهَا أسرعت وَلم تبطئ، أَو التَّقْدِير: فِي أَن توفّي، أَي لم يلبث فِي أَمر الْوَفَاة بل فاضت نَفسه فِي ذَلِك الأوان، وَمثله قَوْله تَعَالَى: {فَمَا لبث أَن جَاءَ بعجل حنيذ} قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي " تَفْسِيره ": " فَمَا لبث فِي المجئ بِهِ بل عجل فِيهِ، أَو فَمَا لبث مَجِيئه ". قَوْله: " وفتر الْوَحْي فَتْرَة حَتَّى حزن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا بلغنَا حزنا غَدا مِنْهُ مرَارًا كي يتردى من رُؤُوس شَوَاهِق الْجبَال ": هَذَا من كَلَام الزُّهْرِيّ أَو غَيره غير عَائِشَة وَالله أعلم لقَوْله: " فِيمَا بلغنَا "، (وَلم تقل عَائِشَة فِي شَيْء من هَذَا الحَدِيث ذَلِك وَأَن كَانَت لم

تدْرك وقته، وحديثها هَذَا من جملَة الْأَحَادِيث الَّتِي يعبر عَنْهَا بمراسيل الصَّحَابَة) . وفتر الْوَحْي: أَي انْكَسَرَ وَضعف وَقل وَانْقطع وَمَضَت على ذَلِك مُدَّة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {على فَتْرَة من الرُّسُل} أَي على حِين فتور من إرْسَال الرُّسُل وَانْقِطَاع من الْوَحْي، وَيُقَال: طرف فاتر أَي منكسر، وَمَاء فاتر للَّذي قلت برودته أَو حرارته، وَلم يذكر فِي الحَدِيث مِقْدَار الفترة. قَالَ السُّهيْلي: " وَقد جَاءَ فِي بعض الْأَحَادِيث المسندة أَنَّهَا كَانَت سنتَيْن وَنصف سنة ". قَالَ: " فَمن هَا هُنَا يتَّفق مَا قَالَه أنس بن مَالك أَن مكثه - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّة كَانَ عشر سِنِين، وَقَول ابْن عَبَّاس: ثَلَاث عشرَة سنة، وَكَانَ قد ابتدئ بالرؤيا الصادقة سِتَّة أشهر، فَمن عد هَذِه الفترة وأضاف إِلَيْهَا الْأَشْهر السِّتَّة كَانَت كَمَا قَالَ ابْن عَبَّاس، وَمن عدهَا من حِين حمي الْوَحْي وتتابع كَمَا فِي حَدِيث جَابر كَانَت عشر سِنِين ". قَالَ: " وَوجه آخر فِي الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ أَن الشّعبِيّ قَالَ: وكل إسْرَافيل بنبوة مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - ثَلَاث سِنِين، ثمَّ جَاءَهُ جِبْرِيل بِالْقُرْآنِ ".

قلت: وَهَذَا مُنْقَطع قَالَ حَنْبَل بن إِسْحَاق: ثَنَا أَبُو عبد الله، ثَنَا مُحَمَّد بن أبي عدي، عَن دَاوُد، عَن عَامر قَالَ: نزلت عَلَيْهِ النُّبُوَّة وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة، فقرن بنبوته إسْرَافيل ثَلَاث سِنِين، فَكَانَ يُعلمهُ الْكَلِمَة وَالشَّيْء وَلم ينزل الْقُرْآن، فَلَمَّا مَضَت ثَلَاث سِنِين قرن بنبوته جِبْرِيل، فَنزل الْقُرْآن على لِسَانه عشْرين: عشرا بِمَكَّة وَعشرا بِالْمَدِينَةِ، فَمَاتَ وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق فِي حَدِيثه: " ثمَّ فتر الْوَحْي عَن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَتْرَة حَتَّى شقّ عَلَيْهِ وأحزنه فَقَالَ فِي نَفسه - مِمَّا بلغ ذَلِك مِنْهُ -: لقد خشيت أَن يكون صَاحِبي قد قلاني فودعني، فَجَاءَهُ جِبْرِيل بِسُورَة " وَالضُّحَى " يقسم لَهُ ربه وَهُوَ الَّذِي أكره بِمَا أكْرمه {مَا وَدعك رَبك وَمَا قلى} ". وشواهق الْجبَال: المرتفعات مِنْهَا وَاحِدهَا شَاهِق. ويتردى: أَي يَرْمِي نَفسه وَيسْقط. قَوْله: " فَكلما أوفى بِذرْوَةِ جبل لكَي يلقِي نَفسه مِنْهُ تبدا لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَنَّك رَسُول الله حَقًا ". أوفى: أَي أشرف. وذروة كل شي: أَعْلَاهُ، وَجَمعهَا ذرا.

وتبدا لَهُ: أَي ظهر. قَالَ السُّهيْلي: " وَاسم جِبْرِيل سرياني، وَمَعْنَاهُ عبد الرَّحْمَن أَو عبد الْعَزِيز، هَكَذَا جَاءَ عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا أَيْضا وَالْوَقْف أصح، وَأكْثر النَّاس على أَن آخر الِاسْم مِنْهُ هُوَ اسْم الله وَهُوَ: إيل ". قَالَ: " وَكَانَ شَيخنَا رَحمَه الله يذهب مَذْهَب طَائِفَة من أهل الْعلم فِي أَن هَذِه الْأَسْمَاء إضافتها مَقْلُوبَة، وَكَذَلِكَ الْإِضَافَة فِي كَلَام المعجم يَقُولُونَ فِي غُلَام زيد: زيد غُلَام، فعلى هَذَا يكون " إيل " عبارَة عَن العَبْد، وَيكون أول الِاسْم عبارَة عَن اسْم من أَسمَاء الله، أَلا ترى كَيفَ قَالَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس: " جبرئيل " و " مكائيل " كَمَا تَقول: عبد الله وَعبد الرَّحْمَن، أَلا ترى أَن لفظ " عبد " يتَكَرَّر إِذا قلت: عبد الله وَعبد الْعَزِيز وَعبد الرَّحْمَن، كَمَا أَن " إيل " فِي هَذِه الْأَسْمَاء يتَكَرَّر بِلَفْظ وَاحِد والأسماء ألفاظها مُخْتَلفَة ". ثمَّ قَالَ: " وَاتفقَ فِي اسْم جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَنه مُوَافق من جِهَة الْعَرَبيَّة لمعناه وَإِن كَانَ أعجميا فَإِن الْجَبْر هُوَ إصْلَاح مَا وهى، وَجِبْرِيل مُوكل بِالْوَحْي، فِي الْوَحْي إصْلَاح مَا فسد وجبر مَا وهى من الدّين، وَلم يكن هَذَا الِاسْم مَعْرُوفا بِمَكَّة وَلَا بِأَرْض الْعَرَب، فَلَمَّا أخبر النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - خَدِيجَة

انْطَلَقت تسْأَل من عِنْده علم من الْكتاب كعداس ونسطور الراهب فَقَالَا: قدوس قدوس، أَنى لهَذَا الِاسْم أَن يذكر بِهَذِهِ الْبِلَاد ". وَسُئِلَ مَالك عَن التسمي بِجِبْرِيل؟ فكره ذَلِك وَلم يُعجبهُ. وَحقا: مصدر مُؤَكد لِمَعْنى الْجُمْلَة الْمُتَقَدّمَة أَي أَحَق ذَلِك حَقًا، أَو حق أَنْت إِنَّك رَسُول الله حَقًا. قَوْلهَا: " فيسكن لذَلِك جأشه، وتقر نَفسه، فَيرجع فَإِذا طَال عَلَيْهِ فَتْرَة الْوَحْي غَدا لمثل ذَلِك، فَإِذا أوفى بِذرْوَةِ جبل تبدا لَهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِك ": لذَلِك: أَي لأجل قَول جِبْرِيل ذَلِك. " والجأش: جأش الْقلب وَهُوَ رواعه إِذا اضْطربَ عِنْد الْفَزع يُقَال: فلَان رابط الجأش أَي يرْبط نَفسه عِنْد الْفِرَار لشجاعته ". " والقرار فِي الْمَكَان: الِاسْتِقْرَار فِيهِ تَقول مِنْهُ: قررت بِالْمَكَانِ بِالْكَسْرِ أقرّ قرارا، وقررت أَيْضا بِالْفَتْح أقرّ قرارا وقرورا، وقررت بِهِ عينا وقررته عينا قُرَّة وقرورا فيهمَا، وَرجل قرير الْعين، وَقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت، وَأقر الله عينه أَي أعطَاهُ حَتَّى تقر فَلَا تطمح إِلَى من هُوَ فَوْقه،

وَيُقَال: حَتَّى تبرد وَلَا تسخن، فللسرور دمعة بَارِدَة وللحزن دمعة حارة ". قَالَ ذَلِك كُله الْجَوْهَرِي: فَقَوله: " وتقر نَفسه " أَي تَسْتَقِر وَيَزُول مَا كَانَ بهَا من الِاضْطِرَاب والقلق. قَالَ الْهَرَوِيّ: " اقر الله عَيْنك أَي صَادف فُؤَادك مَا يرضيك فَيقر عَيْنك من النّظر إِلَى غَيره ". قَالَ: " وَقيل: أقرّ الله عينه أَي أنامها ". قَوْله فِي حَدِيث جَابر فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يحدث عَن فَتْرَة الْوَحْي قَالَ فِي حَدِيثه: " فَبينا أَنا أَمْشِي سَمِعت صَوتا من السَّمَاء فَرفعت رَأْسِي فَإِذا الْملك الَّذِي جَاءَنِي بحراء جَالِسا على كرْسِي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ": وَفِي رِوَايَة صَالح عَن الزُّهْرِيّ: " فَبينا أَنا أَمْشِي إِذا أَنا بِالْملكِ الَّذِي أَتَانِي فِي غَار حراء على سَرِير بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ". بَينا: هِيَ " بَين " أشبعت فتحتها فَصَارَت " بَينا " بِوَزْن فعلى، وَمِنْهُم من يزِيد على " بَين " لَفْظَة " مَا " فَيَقُول: " بَيْنَمَا " وَيجوز أَن

تكون " بَينا " محذوفة الْمِيم من " بَيْنَمَا " توسعا فِي اللُّغَة لما عرف موضعهَا الَّذِي تسْتَعْمل فِيهِ وَهُوَ إضافتها إِلَى الْجمل على حذف مُضَاف من أَسمَاء الزَّمَان. فَقَوله: " فَبينا أَنا أَمْشِي " أَي فَبين أَوْقَات مشيي كَمَا أَن تَقْدِير قَوْلك: أَتَيْتُك زمن الْحجَّاج أَمِيرا، أَي زمن إمارته. وَقَوله: " سَمِعت صَوتا " أَي إِذا سَمِعت صَوتا فَحذف " إِذْ " وَهُوَ الْأَفْصَح عِنْد الْأَصْمَعِي وَغَيره من الْأَئِمَّة كَمَا قَالَ: (بَينا نَحن نرقبه أَتَانَا ... ) أَي سَمِعت الصَّوْت فِي أثْنَاء أَوْقَات مشيي، وَلَو كَانَ فِي الْكَلَام لَفْظَة " إِذْ " لَكَانَ التَّقْدِير: فاجأني سَماع الصَّوْت فِي أثْنَاء أَوْقَات مشيي لِأَن " إِذْ " أُقِيمَت فِي ذَلِك مقَام المفاجأة، وَكَذَلِكَ " إِذا " كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث بعد ذَلِك وَهُوَ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث الْمُتَقَدّم. وَفِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر: " سَمِعت صَوتا من السَّمَاء يَقُول: يَا مُحَمَّد، أَنْت رَسُول الله وَأَنا جِبْرِيل، فَرفعت رَأْسِي فَإِذا جِبْرِيل فِي صُورَة رجل صَاف قَدَمَيْهِ فِي أفق السَّمَاء ". قَالَ السُّهيْلي: " وَفِي حَدِيث جَابر أَنه رَآهُ على رَفْرَف، ويروى: " على عرش بَين السَّمَاء وَالْأَرْض ". وَقَالَ يَعْقُوب بن سُفْيَان الْحَافِظ: ثَنَا ابْن بكير ثَنَا عبد الله بن لَهِيعَة، حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة أَن نَبِي الله

- صلى الله عليه وسلم - كَانَ أول شَأْنه يرى فِي الْمَنَام، فَكَانَ أول مَا رأى جِبْرِيل بأجياد أَنه خرج لبَعض حَاجته فَصَرَخَ بِهِ: يَا مُحَمَّد، يَا مُحَمَّد، فَنظر يَمِينا وَشمَالًا فَلم ير شَيْئا، ثمَّ نظر فَلم ير شَيْئا، فَرفع بَصَره فَإِذا هُوَ يرَاهُ ثَانِيًا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى على أفق السَّمَاء فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، جِبْرِيل جِبْرِيل، يسكنهُ، فهرب مُحَمَّد - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى دخل فِي النَّاس فَنظر فَلم ير شَيْئا، ثمَّ خرج من النَّاس ثمَّ نظر فَرَآهُ فَدخل فِي النَّاس (فَنظر) فَلم ير شَيْئا، ثمَّ خرج فَنظر فَرَآهُ، فَذَلِك قَول الله عز وَجل: {والنجم إِذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} يَعْنِي إِلَى قَوْله: {علمه شَدِيد القوى} وَهُوَ جِبْرِيل {ذُو مرّة فَاسْتَوَى وَهُوَ بالأفق الْأَعْلَى} . وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ " عَن عَائِشَة أَن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - رأى جِبْرِيل مرَّتَيْنِ فِي صورته وخلقه سَادًّا مَا بَين الْأُفق، فَهَذِهِ هِيَ الْمرة الأولى فِي ابْتِدَاء النُّبُوَّة، وَالثَّانيَِة عِنْد سِدْرَة المنتهي لَيْلَة الْإِسْرَاء. وَفِي " صَحِيح البُخَارِيّ " أَيْضا عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله فِي قَوْله تَعَالَى: {لقد رأى من آيَات ربه الْكُبْرَى} قَالَ: " رأى رفرفا أَخْضَر قد

مَلأ الْأُفق ". قَالَ الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ: " يُرِيد بذلك أَنه رأى جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فِي صورته على رَفْرَف أَخْضَر ". وَوَقع فِي " صَحِيح مُسلم ": " جَالِسا " بِالنّصب على الْحَال، وَخبر الْمُبْتَدَأ يكون محذوفا أَي كَائِن أَو مُسْتَقر أَو مَوْجُود أَو نَحْو ذَلِك. وَمن رَوَاهُ: " جَالس " بِالرَّفْع فَهُوَ ظَاهر لِأَنَّهُ خبر الْمُبْتَدَأ وَلَا حَاجَة إِلَى الْإِضْمَار وَهُوَ الْمَعْرُوف الْمُسْتَعْمل فِي هَذَا الْبَاب كَقَوْلِه تَعَالَى: {ثمَّ إِذا أَنْتُم بشر تنتشرون} ، {إِن كَانَت إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة فَإِذا هم خامدون} ، {فَإِذا هم جَمِيع لدينا محضرون} ، {ثمَّ نفخ فِيهِ أُخْرَى فَإِذا هم قيام ينظرُونَ} ، {خلق الْإِنْسَان من نظفة فَإِذا هُوَ خصيم مُبين} ، {وَآيَة لَهُم اللَّيْل نسلخ مِنْهُ النَّهَار فَإِذا هم مظلمون} ، {فَألْقى عَصَاهُ فَإِذا هِيَ ثعبان مُبين} ، {فَإِذا هِيَ شاخصة أبصار الَّذين كفرُوا} ، وَهُوَ كثير

وَهَذِه هِيَ الْمَسْأَلَة الَّتِي خَالف الْكسَائي فِيهَا سِيبَوَيْهٍ لما تناظرا فَقَالَهَا سِيبَوَيْهٍ بِالرَّفْع (لَا غير) ، وَقَالَهَا الْكسَائي بِالنّصب (وَالرَّفْع) والأرجح الرّفْع لما ذَكرْنَاهُ، وسنبين ذَلِك فِي " شرح مَا نظمته فِي النَّحْو " إِن شَاءَ الله تَعَالَى بِزِيَادَة على مَا ذَكرْنَاهُ وَالله أعلم. قَوْله: " فجئثت مِنْهُ فرقا ": وَفِي رِوَايَة: " رعْبًا ". وجئثت: أَوله جِيم مَضْمُومَة بعْدهَا همزَة مَكْسُورَة ثمَّ ثاء مُثَلّثَة ويروي بثاءين بعد الْجِيم وَكِلَاهُمَا بِمَعْنى وَاحِد. وَفِي رِوَايَة: " فجئنت مِنْهُ حَتَّى هويت إِلَى الأَرْض ". أما جئثت: فَقَالَ الْهَرَوِيّ: " مَعْنَاهُ ذعرت يُقَال: جئث الرجل وجئف وجث أَي فزع، وَقَالَهُ الْأَزْهَرِي أَيْضا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: " وجئث الرجل إِذا أفزع فَهُوَ مجؤوث أَي مذعور ".

وَقَالَ أَبُو عبيد: " جث الرجل جثا فَهُوَ مجثوث إِذا فزع وَخَافَ ". وَقَالَ الْمَازرِيّ: " يرْوى: فجثثت بِالْحَاء غير مُعْجمَة وَمَعْنَاهُ: أسرعت خوفًا مِنْهُ ". وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم: ثَنَا أَحْمد بن إِسْحَاق، ثَنَا مُحَمَّد بن أَحْمد بن سُلَيْمَان، ثَنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى، ثَنَا عبد الله بن وهب، أَخْبرنِي يُونُس ين يزِيد، عَن ابْن شهَاب فَذكر الحَدِيث وَقَالَ: " فحثثت ". قَالَ مُحَمَّد بن أَحْمد: " هَكَذَا قَالَ لنا يُونُس فحثثت بِالْحَاء، وَكَانَ يُنكر على أهل الْعرَاق فجثثت بِالْجِيم ". قَالَ: " والرواة اخْتلفت فِي هَذِه اللَّفْظَة فرويت: جئثت وجثثت وحثثت بِالْحَاء ". قَالَ عِيَاض: " أَكثر رِوَايَات الروَاة فِي هَذَا الْحَرْف فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَوَّلين فِي الْأُم: فجئثت بِالْجِيم وهمزة مَكْسُورَة بعْدهَا وثاء مُثَلّثَة، وَكَذَا للعذري فِي الْموضع الثَّالِث، وَعند الْجَمَاعَة فِيهِ: فجثثت بِالْجِيم وثاءين معجمتين بِثَلَاث، وَكَذَا عِنْد السَّمرقَنْدِي فِي املواضع الثَّلَاثَة، وَكَذَلِكَ اخْتلفت فِيهِ الرِّوَايَة عَن البُخَارِيّ.

وَمعنى الرِّوَايَتَيْنِ المذكورتين: فزعت، كَمَا تفسر فِي الحَدِيث من بعض رِوَايَة البُخَارِيّ: " فَرُعِبْت " مَكَان " جئثت ". قَالَ الْكسَائي: المجؤوث والمجثوث المذعور الْفَزع. وَلم نقيده عَن شُيُوخنَا بِالْحَاء الْمُهْملَة فِي " مُسلم " لكنه وَقع كَذَلِك للقابسي فِي مَوضِع فِي " البُخَارِيّ " وَفَسرهُ ب: " أسرعت "، وَلَا يَصح مَعْنَاهُ وَكَيف يَصح تَفْسِيره ب " أسرعت " وَهُوَ قد قَالَ فِي الحَدِيث: " حَتَّى هويت إِلَى الأَرْض " أَي سَقَطت من الْفَزع، فَكيف يجْتَمع السُّقُوط والإسراع ". قلت: يُمكن أَن يكون مَا زَالَ يسْرع حَتَّى أعيا فَسقط وَهَذَا ظَاهر. وَقد روى الحَدِيث أَيْضا يحيى بن أبي كثير، عَن إِبْرَاهِيم بن عبد الله بن قارظ بدل أبي سَلمَة، عَن جَابر وَقَالَ فِيهِ: " فحثثت مِنْهُ أَو كلمة تشبهها ". قلت: فَيحْتَمل أَن يكون: " فجثيت مِنْهُ " بعد الْجِيم الْمَفْتُوحَة ثاء مُثَلّثَة ثمَّ يَاء مثناة من تَحت من غير همز، يُقَال: جثا على رُكْبَتَيْهِ يجثو ويجثي جثوا أَو جثيا. ثمَّ قَالَ القَاضِي: " وَقَالَ بَعضهم: صَوَابه: أهويت، وَقد جَاءَ كَذَا فِي مَوضِع فِي: البُخَارِيّ " وَهُوَ أشهر وَأَصَح

وَقَالَ غَيره: هوى من قريب، وأهوى من بعيد. وَقَالَ الْخَلِيل: هوى يهوي هويا وهويا. قَالَ الْهَرَوِيّ: " وَقد يكون فِي الصعُود والهبوط يُقَال فِيهِ: هويا بِالْفَتْح إِذا هَبَط، وبالضم إِذا صعد "، وَكَذَا قَالَ الْخطابِيّ وَغَيره. وَقَالَ لنا شَيخنَا أَبُو الْحُسَيْن بِالْعَكْسِ. وَقَالَ غَيره: هوت الْعقَاب إِذا انْقَضتْ على صيد، فَإِذا راوغته قيل: أهوت، وَقَوله تَعَالَى: " {والمؤتفكة أَهْوى} أَي أَهْوى بهَا جِبْرِيل إِلَى الأَرْض، أَي ألْقى بهَا فِيهَا بعد أَن رَفعهَا إِلَى السَّمَاء. وَقيل فِي قَوْله تَعَالَى: {والنجم إِذا هوى} أَي سقط. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم: هويت أَهْوى إِذا سَقَطت. وَقَالَ غَيره: أهويت يَدي إِلَى السَّيْف وَغَيره أَي أملت، وَيُقَال هويت فِيهِ أَيْضا.

قلت: وَالْفرق: بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء الْخَوْف، وَكَذَلِكَ الرعب بِضَم الرَّاء وَالْعين وبإسكان الْعين، وَقُرِئَ بهما. وَحكى صَاحب " الْعين " أَيْضا بِفَتْح الرَّاء وَإِسْكَان الْعين رعْبًا فَقَالَ: الرعب والرعب لُغَتَانِ يَقُول: رعبته رعْبًا ورعبا، وَقيل: الرعب الْمصدر والرعب الِاسْم فَهُوَ مرعوب ورعيب، ورعبته فَهُوَ مرعب وَهُوَ مرتعب أَي فزع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: " رعبته فَهُوَ مرعوب إِذا أفزعته وَلَا تقل: أرعبته ". قَالَ: " وَالْفرق بِالتَّحْرِيكِ الْخَوْف، وَقد فرق بِالْكَسْرِ تَقول: فرقت مِنْك وَلَا تقل: فرقتك ". قلت: فَقَوله فِي الحَدِيث: " فرقا " أَو " رعْبًا " كِلَاهُمَا نصب على الْمصدر تَأْكِيدًا كَقَوْلِك: ضربت ضربا، إِلَّا أَنه قرن بِالْفِعْلِ غير مصدره لِأَنَّهُ بِمَعْنَاهُ. فَقَوله: " جئثت مِنْهُ فرقا " كَقَوْلِه: فرقت مِنْهُ فرقا، وَكَذَا رعبت مِنْهُ رعْبًا، وَأما على رِوَايَة " حثثت " بِالْحَاء الْمُهْملَة فَتكون " فرقا " مَفْعُولا من أَجله نَحْو: هربت خوفًا من زيد.

قَوْله: " فَرَجَعت فَقلت: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَأنْزل الله تبَارك وَتَعَالَى: {يَا أَيهَا المدثر - إِلَى قَوْله - وَالرجز فاهجر} قد سبق معنى قَوْله " زَمِّلُونِي " و " دَثرُونِي " وَفِي رِوَايَة صَالح بن أبي الْأَخْضَر عَن الزُّهْرِيّ: " فدثرت فجَاء جِبْرِيل - صلى الله عليه وسلم - بِرجلِهِ: {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر وثيابك فطهر وَالرجز فاهجر} قَالَ أَبُو سَلمَة: وَالرجز الْأَوْثَان الَّتِي كَانُوا يعْبدُونَ من دون الله عز وَجل ". وَقَوله: " زَمِّلُونِي أَي غطوني بِثَوْب، وَإِذا كَانَ ذَلِك مِنْهُ بِنَفسِهِ قيل: تزمل وازمل فَهُوَ متزمل ومزمل، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} أَي الَّذِي تزمل فِي ثِيَابه أَي تلفف بهَا، فالمزمل هُوَ المتزمل أدغمت التَّاء فِي الزَّاي، وَنَحْوه المدثر فِي المتدثر، وَقُرِئَ: {المتزمل} على الأَصْل، و {المزمل} بتَخْفِيف الزَّاي وَفتح الْمِيم وَكسرهَا على أَنه اسْم فَاعل أَو مفعول من: زمله غَيره أَو زمل نَفسه. والمدثر: لَا بس الدثار وَهُوَ مَا فَوق الشعار وَهُوَ الثَّوْب الَّذِي يَلِي الْجَسَد، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " الْأَنْصَار شعار وَالنَّاس دثار "، وَقُرِئَ: {المدثر} على لفظ اسْم الْمَفْعُول من: دثره، وَقيل: المُرَاد أَنه دثر هَذَا الْأَمر وَعصب بِهِ. وَقَوله: {قُم} أَي من مضجعك، أَو قُم قيام عزم وتصميم.

{فَأَنْذر} : أَي فحذر النَّاس من عَذَاب الله، فَترك الْمَفْعُول لِأَن الْمَعْنى: افْعَل الْإِنْذَار من غير تَخْصِيص لَهُ بِأحد. {وَرَبك فَكبر} : أَي صفة بالكبرياء. {وثيابك فطهر} : من النَّجَاسَة، أَو هُوَ أَمر بتقصيرها وَمُخَالفَة الْعَرَب فِي تطويلهم الثِّيَاب وجرهم الذيول وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُؤمن مَعَه إِصَابَة النَّجَاسَة. وَقيل: هُوَ أَمر بتطهير النَّفس مِمَّا يستقذر من الْأَفْعَال ويستهجن من الْعَادَات، يُقَال: فلَان طَاهِر الثِّيَاب وطاهر الجيب والذيل والأردان إِذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الْأَخْلَاق. وَفُلَان دنس الثِّيَاب المغادر وَذَلِكَ لِأَن الثَّوْب يلابس الْإِنْسَان ويشتمل عَلَيْهِ، فكني بِهِ عَنهُ، أَلا ترى إِلَى قَوْلهم: أعجبني زيد ثَوْبه، كَمَا تَقول: أعجبني زيد عقله وخلقه، وَيَقُولُونَ: الْمجد فِي ثَوْبه وَالْكَرم تَحت حلته. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: " وَلِأَن الْغَالِب أَن من طهر باطنة ونقاه عني بتطهير الظَّاهِر وتنقيته، وأبى إِلَّا اجْتِنَاب الْخبث وإيثار الطُّهْر ". {الرجز} : قرئَ بِكَسْر الرَّاء وَضمّهَا وهما لُغَتَانِ وَهُوَ الْعَذَاب، وَمَعْنَاهُ: اهجر مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ من عبَادَة الْأَوْثَان وَغَيرهَا من المآثم، وَالْمعْنَى الثَّبَات على هجره لِأَنَّهُ كَانَ بَرِيئًا مِنْهُ.

قَالَ الزّجاج: " وَدخلت الْفَاء على معنى جَوَاب الْجَزَاء، الْمَعْنى: قُم فَأَنْذر، وقم فَكبر ". وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: " دخلت الْفَاء بِمَعْنى الشَّرْط كَأَنَّهُ قيل: مهما كَانَ فَلَا تدع تكبيره ". وَفِي " تَفْسِير ابْن الْقشيرِي " قَالَ: " وَقَالَ ابْن جني: هُوَ كَقَوْلِك: زيدا فَاضْرب، أَي زيدا اضْرِب، فالفاء زَائِدَة ". قَوْله: " ثمَّ حمي الْوَحْي وتتابع ": أَي كثر قَالَ عِيَاض: " الكلمتان بِمَعْنى وَاحِد أَي كثر نُزُوله وَقَوي أمره وازداد، من قَوْلهم: حميت النَّار وَالشَّمْس إِذا زَاد حرهما، وَمِنْه حمي الْوَطِيس أَي قوي حره وَاشْتَدَّ، تمّ استعير فِي الْحَرْب ". قلت: لما اشتدت الْحَرْب وهاجت يَوْم حنين قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: " الْآن حمي الْوَطِيس "، والوطيس: التَّنور، شبهها بِهِ.

قَوْله فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: " قبل أَن تفرض الصَّلَاة ": يَعْنِي نزُول أول سُورَة المدثر كَانَ أول أَمر النُّبُوَّة قبل أَن يشرع أصل الصَّلَاة، وَلَيْسَ يَعْنِي هَذِه الصَّلَوَات الْخمس فَإِن هَذِه الصَّلَوَات إِنَّمَا فرضت لَيْلَة الْإِسْرَاء على مَا شهِدت بِهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، والإسراء كَانَ قبل الْهِجْرَة بِقَلِيل، فقد شَارك أول سُورَة المدثر فِي ذَلِك جملَة من الْقُرْآن فَلَا يَلِيق تَحْدِيد وَقت نُزُولهَا بذلك، وَإِنَّمَا يَعْنِي فرض الصَّلَاة الَّتِي كَانَت مَأْمُورا بهَا قبل ذَلِك على مَا يشْهد بِهِ أول سُورَة المزمل وأخرها. وَفِي " صَحِيح مُسلم " عَن عَائِشَة قَالَت: " إِن الله افْترض الْقيام فِي أول هَذِه السُّورَة فَقَامَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابه حولا حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم ". وَقَالَ قَتَادَة: " كَانَ بَدْء الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بالْعَشي ". أخرجة الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ فِي " السّنَن ". وَإِنَّمَا ذَلِك نَظِير مَا وَقع فِي رِوَايَة مُوسَى بن عقبَة عَن ابْن شهَاب قَالَ: وَكَانَت خَدِيجَة أول من آمن بِاللَّه وَصدق رَسُوله قبل أَن تفرض الصَّلَاة. وَقد أسلم قبل لَيْلَة الْإِسْرَاء طَائِفَة من الصَّحَابَة كثير.

فَإِن قلت: كَانَت هِيَ أول من آمن مِنْهُم. قلت: هِيَ أول من آمن على الْإِطْلَاق فَلم يبْق لقَوْله: " قبل أَن تفرض الصَّلَاة " فَائِدَة، إِلَّا أَن تقدر الْكَلَام: آمَنت قبل أَن تفرض الصَّلَاة، وَلَا تظهر فَائِدَة هَذَا الْكَلَام إِلَّا أَن يكون المُرَاد قبل شَرْعِيَّة أصل الصَّلَاة، فَحِينَئِذٍ تتبين منزلتها وَلِهَذَا جَاءَ أَنَّهَا أول من صلى. وَوَقع فِي بعض الرِّوَايَات عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي حَدِيث المبعث زِيَادَة: " ثمَّ بحث جِبْرِيل فِي الأَرْض فنبع المَاء، فَعلم رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كَيفَ يتَوَضَّأ، فَتَوَضَّأ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ نَحْو الْكَعْبَة ". قَالَ السُّهيْلي: " وَذكر الْحَرْبِيّ أَن الصَّلَاة قبل الْإِسْرَاء كَانَت صَلَاة قبل غرُوب الشَّمْس وَصَلَاة قبل طُلُوعهَا ". قَالَ: " وَيشْهد لهَذَا القَوْل قَوْله سُبْحَانَهُ: {وَسبح بِحَمْد رَبك بالْعَشي وَالْإِبْكَار} يَعْنِي فِي سُورَة غَافِر ". قَالَ: " وَقَالَ يحيى بن سَلام مثله ". وَقَالَ: " كَانَ الْإِسْرَاء وَفرض الصَّلَوَات الْخمس قبل الْهِجْرَة بعام، وَقيل: بعام وَنصف، وَقيل: كَانَ بَعْدَمَا نبئ بِخَمْسَة أَعْوَام ".

قَالَ ابْن إِسْحَاق: " وحَدثني بعض أهل الْعلم أَن الصَّلَاة حِين افترضت على رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ جِبْرِيل وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّة، فهمز لَهُ بعقبه فِي نَاحيَة الْوَادي، فانفجرت مِنْهُ عين، فَتَوَضَّأ جِبْرِيل وَرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر ليريه كَيفَ الطّهُور للصَّلَاة، ثمَّ تَوَضَّأ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كَمَا رأى جِبْرِيل يتَوَضَّأ، ثمَّ قَامَ بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فصلى بِهِ، وَصلى رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - بِصَلَاتِهِ، ثمَّ انْصَرف جِبْرِيل فجَاء رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خَدِيجَة فَتَوَضَّأ لَهَا ليريها كَيفَ الطّهُور للصَّلَاة كَمَا أرَاهُ جِبْرِيل، فَتَوَضَّأت كَمَا تَوَضَّأ لَهَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ صلى بهَا رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كَمَا صلى بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فصلت بِصَلَاتِهِ ". قَول أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن: " سَأَلت جَابر بن عبد الله أَي الْقُرْآن أنزل قبل؟ قَالَ: {يَا أَيهَا المدثر} ، فَقلت: أَو اقْرَأ ". فَذكر الحَدِيث فِي نزُول {يَا أَيهَا المدثر} كَمَا تقدم مَحْمُول ذَلِك من جَابر على أَنه لم يبلغهُ حَدِيث نزُول اقْرَأ. قَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي " دلائله ": " وَجه هَذَا الحَدِيث وَمَا رُوِيَ عَن عَائِشَة أَن أول مَا نزل {اقْرَأ باسم رَبك} أَن مَا روته عَائِشَة صَحِيح لاقتصاصها أول مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - من الْوَحْي، وَأَن الْملك

فاجأه بِغَار حراء، وَأَنه قَالَ لَهُ - بعد مَا غطه ثَلَاث مَرَّات: {اقْرَأ باسم رَبك} ، وَقَالَت فِي الحَدِيث: ثمَّ فتر الْوَحْي فَتْرَة حَتَّى حزن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَغدا ليلقي نَفسه من قلَّة الجيل، فتبدا لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فسكن لذَلِك جأشه، وَأَن الَّذِي رَوَاهُ جَابر: إِن أول مَا نزل {يَا أَيهَا المدثر} كَانَ بعد فَتْرَة الْوَحْي، فقد أعلم النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيث جَابر أَنه أُوحِي إِلَيْهِ من قبل ثمَّ فتر الْوَحْي، وَأَن الْملك جَاءَهُ ثَانِيًا بعد فَتْرَة الْوَحْي، وَفِي ذَلِك لما قَالَت عَائِشَة تَصْدِيق وَتَحْقِيق أَن أول مَا نزل: {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} ، وَقَالَ الْحَافِظ الْبَيْهَقِيّ فِي دلائله نَحوا من ذَلِك. وَقَالَ أَبُو عبد الله ابْن الْحَافِظ إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْفضل فِي " شَرحه لكتاب مُسلم ": " وَجه الْجمع بَين حَدِيثي جَابر وَعَائِشَة أَن جَابِرا إِنَّمَا سمع من رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - هَذِه الْقِصَّة مختصرة كَمَا رَوَاهَا، وَلم يسمع قصَّة الغط والتعليم وَالْأَمر بِالْقِرَاءَةِ، وَهُوَ مَحْمُول على أَنه صلوَات الله عَلَيْهِ أول مَا استقرئ وَحمل على التَّعَلُّم كَانَ بقوله: {اقْرَأ باسم رَبك} فَجرى ذَلِك مجْرى التَّعْلِيم وَالْهِدَايَة إِلَى الْقِرَاءَة، فَلَمَّا وَطن نَفسه على ذَلِك وربط للتبليغ جأشه أنزل عَلَيْهِ {يَا أَيهَا المدثر} فَأمر بالأوامر وفرضت عَلَيْهِ الْفَرَائِض وخوطب بالشرائع وَالله أعلم ".

قَوْله: " جَاوَرت بحراء شهرا فَلَمَّا قضيت جواري نزلت فَاسْتَبْطَنْت بطن الْوَادي فنوديت ": يُقَال: جاورته مجاورة وجوارا وجوارا وَالْكَسْر أفْصح. فَقَوله: " جواري " أَي مجاورتي، والمجاورة: الِاعْتِكَاف، وَفِي الحَدِيث: " كَانَ يجاور فِي الْعشْر الْأَوَاخِر ". قَوْله: " فَرفعت رَأْسِي فَإذْ هُوَ على الْعَرْش فِي الْهَوَاء يَعْنِي جِبْرِيل - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخَذَتْنِي رَجْفَة شَدِيدَة ": قَالَ القَاضِي عِيَاض: " وَعند السَّمرقَنْدِي ": " وجفة " بِالْوَاو ومعناهما مُتَقَارب هُوَ كُله من كَثْرَة الِاضْطِرَاب قَالَ الله تَعَالَى: {قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة} ، وَقَالَ: {يَوْم ترجف الأَرْض وَالْجِبَال} . قَالَ: وَقَوله: " فَإِذا هُوَ على الْعَرْش فِي الْهَوَاء "، وَفِي الحَدِيث الآخر: " على عرش بَين السَّمَاء وَالْأَرْض "، وَفِي الآخر: " على كرْسِي " هَذَا

تَفْسِير معنى الْعَرْش فِي الْحَدِيثين الْمُتَقَدِّمين وَأَنه كالكرسي والسرير وَلَيْسَ بعرش الرَّحْمَن الْعَظِيم قَالَ الله تَعَالَى: {وَلها عرش عَظِيم} ، قَالَ أهل اللُّغَة: الْعَرْش السرير، وَقيل: سَرِير الْملك. قَالَ: " وَفِي هَذَا الحَدِيث وَشبهه تَحْقِيق الْعلم بتصور الْمَلَائِكَة على صور مُخْتَلفَة، وإقدار الله لَهُم على التَّرْكِيب فِي أَي شَيْء شَاءُوا من صور بني آدم وَغَيرهَا، وَأَن لَهُم صورا فِي أصل خلقهمْ مَخْصُوصَة بهم، كل مِنْهُم على مَا خلق عَلَيْهِ وشكل ". قَالَ الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي " دلائله ": " وَجمع مَا تقدم ذكرنَا لَهُ من هَذِه الْأَخْبَار دَاخل فِي المعجزات، وَجرى الْأَمر فِيهِ مُرَتبا فأوله مَا كالن عَلَيْهِ السَّلَام يرَاهُ فِي مَنَامه كَمَا روته عَائِشَة: " أول مَا بُدِئَ بِهِ الرُّؤْيَا الصادقة ". إِذْ الرُّؤْيَا الصادقة جُزْء من أَجزَاء النُّبُوَّة فَكَانَت الرُّؤْيَا الَّتِي تجئ مثل فلق الصُّبْح مُقَدّمَة للنبوة، ثمَّ وَجب أَن يكون عَلَيْهِ السَّلَام عَالما بِمن يَأْتِيهِ فَكَانَ التخلي والتوحد فِي الْجبَال والغيران محببا لَهُ لوُقُوع تراءي الْملك لَهُ خَالِيا، وليقع لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام الْمعرفَة بِمن يَأْتِيهِ ويناديه، فإراءه جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لَهُ

نَفسه على صور مُخْتَلفَة من جُمْلَتهَا صورته الَّتِي هِيَ صورته لتَكون صورته المباينة لصورة الْآدَمِيّين آيَة لَهُ فِي صدق مَا ادَّعَاهُ أَنه مُرْسل بِالْوَحْي إِلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -، وَيكون مَا عدا هَذِه الصُّورَة الَّتِي هِيَ صورته تقريرا عِنْده لإتيانه إِلَيْهِ فِي صور مُخْتَلفَة حَتَّى كَانَ أَكثر مَا كَانَ يرَاهُ فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ، وَفِيمَا تَأَول عبد الله بن مَسْعُود وَعَائِشَة فِي قَوْله: {ثمَّ دنا فَتَدَلَّى} بَيَان أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام ترَاءى للنَّبِي - صلى الله عليه وسلم - بَين السَّمَاء وَالْأَرْض فِي صورته الَّتِي عَلَيْهَا خلق، وَأَن نظر النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ حِين دنا مِنْهُ متدليا حَتَّى كَانَ قرب الْمجْلس مِنْهُ قاب قوسين أَو أدنى، وَأَنه لم يلاقه فِي هَذِه الْحَالة بل جلس منتبذا عَنهُ على سَبِيل التَّعْظِيم لَهُ، كالجالس منا إِلَى سُلْطَانه وَملكه مباينا لَهُ متباعدا عَنهُ، فَفعل جِبْرِيل ذَلِك بِهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعظما لَهُ، ثمَّ عرفه حَقِيقَة مَا كَانَ ناجاه بِهِ، فتقرر بِهَذَا عِنْد رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - أَنه ملك وَهُوَ رَسُول الله أَتَاهُ بِالْوَحْي من قبل الله، وَلم يكن التدلي والدنو فِي أول ترائيه لَهُ بل كَانَ ذَلِك بعد الأول ليَكُون التَّعْرِيف على تدريج، إِذْ فِي الْمُنَاجَاة كَونه غير مَأْمُون من دهشة تلْحقهُ فَجرى الْأَمر فِيهِ على الْمَعْقُول من الْأَمر الْجَمِيل. وَأما غط جِبْرِيل لَهُ - صلى الله عليه وسلم - أغير مرّة وَقَوله لَهُ: اقْرَأ، فَيَقُول: مَا أَنا بقارئ، فَيحْتَمل أَن يكون مِنْهُ على وَجه التَّقْرِير لَهُ لما كَانَ عَلَيْهِ من الأمية، فقرره بذلك ثمَّ أقرأه كَمَا قرر الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام بالعصا حِين

أَرَادَ أَن يَجْعَلهَا حيه فَقَالَ: {وَمَا تِلْكَ بيمينك يَا مُوسَى} ليخبره بِحَقِيقَة مَا فِي يمنيه حَتَّى إِذا قَلبهَا حَيَّة تسْعَى كَانَ أبلغ لَهُ فِي الْحجَّة والتشجع فِي أَدَاء الرسَالَة وتحملها. وَيحْتَمل أَن يكون غطه إِيَّاه إِشَارَة إِلَى ثقل الْوَحْي، وَأَن وَرَاء هَذِه الْقِرَاءَة وَجها آخر لَا يظْهر لَهُ فِيهِ جِبْرِيل وَإِنَّمَا يعرف عَلَيْهِ السَّلَام نُزُوله بِمَا يحدث لَهُ من الثّقل والغطيط والبرحاء وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَغير ذَلِك. وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بالغط تهيؤء لقبُول الْوَحْي كَمَا فعله فِي شقّ قلبه وَشرح صَدره وَالله أعلم ". قَالَ: " وَجَمِيع ذَلِك من الْأَدِلَّة والآيات والمعجزات الَّتِي تكون لَهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي نَفسه، إِذْ الْوَاجِب فِي إِثْبَات النُّبُوَّة إِقَامَة الْبُرْهَان للرسول فِي نَفسه ليتقرر عِنْده حَقِيقَة رسَالَته، فَيُؤذن لَهُ عِنْد ذَلِك فِي الدعْوَة، ثمَّ يمد بالبراهين الإلاهية لأمته وَأهل دَعوته وَالله أعلم.

فصل

فصل وَإِذا فَرغْنَا من شرح متن هَذَا الحَدِيث لم يبْق مِمَّا وعدنا بِهِ إِلَّا الْكَلَام فِي تَعْرِيف رُوَاته على طَريقَة أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ. فَاعْلَم أَنه حَدِيث وَاحِد صَحِيح رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن رِجَاله عَن اثْنَيْنِ من الصَّحَابَة معظمة عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَبَعضه عَن أبي سَلمَة عَن جَابر، وَفصل حَدِيث جَابر من حَدِيث عَائِشَة فِي رِوَايَة غير الزُّهْرِيّ على مَا سبق بَيَانه، فنتكلم على كل وَاحِد من الصحابيين، ثمَّ على الروَاة عَنْهُم فَمن بعدهمْ إِلَى آخِرهم، مقتصرين على مُجَرّد التَّعْرِيف بهم، فَإِن استقصاء أخبارهم محوج إِلَى كتاب مُفْرد، وَأَكْثَرهم قد ذكرتهم فِي " الْمُخْتَصر الْأَكْبَر من تَارِيخ دمشق " وَالله الْمُوفق.

عَائِشَة زوج النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَأحب النَّاس إِلَيْهِ: هِيَ بنت أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنْهُمَا، وكناها رَسُول الله أم عبد الله، وَلم تَلد قطّ، وَلم ينْكح بكرا غَيرهَا. وَأنزل الله براءتها فِي الْقُرْآن، وَمَات رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَهِي بنت ثَمَانِي عشرَة سنة، وأقرأها النَّبِي السَّلَام عَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام. وَأخْبر أَن فَضلهَا على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد على سَائِر الطَّعَام. وَتوفيت عَائِشَة بِالْمَدِينَةِ فِي رَمَضَان سنة ثَمَان أَو سبع أَو سِتّ وَخمسين فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، (وَصلى عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَة) ، ودفنت بِالبَقِيعِ.

جَابر بن عبد الله بن عَمْرو بن حرَام أَبُو عبد الله: وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال: أَبُو عبد الرَّحْمَن، الْأنْصَارِيّ الخزرجي السّلمِيّ بِفَتْح السِّين وَاللَّام، أحد بني سَلمَة بِكَسْر اللَّام، من بني الْخَزْرَج من الْأَنْصَار. شهد الْعقبَة مَعَ السّبْعين من الْأَنْصَار وَكَانَ أَصْغَرهم يَوْمئِذٍ، وَشهد الْمشَاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - غير بدر وَأحد، وَأَبوهُ من كبار الصَّحَابَة من الْأَنْصَار، وَكَانَ عقبيا نَقِيبًا، وَشهد بَدْرًا وَاسْتشْهدَ يَوْم أحد. وَمَات جَابر بِالْمَدِينَةِ سنة سبع وَسبعين، وَصلى عَلَيْهِ أبان بن عُثْمَان، وَقيل: الْحجَّاج، وَدفن بِالبَقِيعِ، وَكَانَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: إِنَّه مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاث أَو أَربع أَو ثَمَان أَو تسع وَسبعين، وَالله أعلم.

فصل

فصل رَاوِي الحَدِيث عَن عَائِشَة هُوَ ابْن أُخْتهَا عُرْوَة بن الزبير، وَرَاوِيه عَن جَابر هُوَ أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، فنترجم لكل وَاحِد مِنْهُمَا. عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام أَبُو عبد الله الْقرشِي الْأَسدي: أحد فُقَهَاء الْمَدِينَة السَّبْعَة من التَّابِعين، روى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم: أَبوهُ وَأمه أَسمَاء وخالته عَائِشَة وَأَخُوهُ عبد الله بن الزبير، روى عَنهُ بنوه يحيى وَعُثْمَان وَهِشَام وَمُحَمّد وَجَمَاعَة من التَّابِعين وَغَيرهم مِنْهُم عَطاء وَأَبُو سَلمَة وَصَفوَان بن سليم وَسليمَان بن يسَار وَالزهْرِيّ، وَكَانَ ثِقَة، كثير الحَدِيث، فَقِيها فَاضلا، عَالما مَأْمُونا ثبتا، وَهُوَ أحد البحور الْأَرْبَعَة من فُقَهَاء التَّابِعين بِالْمَدِينَةِ، مَاتَ سنة أَربع وَتِسْعين وَهِي سنة الْفُقَهَاء لِكَثْرَة من مَاتَ مِنْهُم فِيهَا، وَقيل: مَاتَ قبل ذَلِك، وَقيل: بعده، وَذَلِكَ بِنَاحِيَة الْفَرْع وَدفن هُنَاكَ بِمَال لَهُ بمجاح - وَهُوَ بِفَتْح الْمِيم وَالْجِيم وَآخره حاء مُهْملَة. أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الزُّهْرِيّ: أحد فُقَهَاء الْمَدِينَة، من كبار التَّابِعين وعظمائهم، يُقَال: اسْمه عبد الله، وَيُقَال إِسْمَاعِيل، حدث عَن أَبِيه - وَهُوَ أحد الْعشْرَة الْمَشْهُود لَهُم

بِالْجنَّةِ -، وَعَن زيد بن ثَابت وَأبي قَتَادَة وَعَائِشَة وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد وَغَيرهم، روى عَنهُ (ابْنه) عمر بن أبي سَلمَة وابنا أَخِيه سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن وَعبد الْمجِيد بن سُهَيْل بن عبد الرَّحْمَن وَيحيى بن سعيد وَيحيى بن أبي كثير وَالشعْبِيّ وَعَمْرو بن دِينَار وَالزهْرِيّ وَعبد الْملك بن عُمَيْر والأعرجان أَبُو حَازِم وَعبد الرَّحْمَن وَغَيرهم، وَمَات سنة ثَلَاث أَو أَربع وَتِسْعين، وَقيل: سنة مائَة، وَقيل: سنة أَربع وَمِائَة بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ ثِقَة فَقِيها، كثير الحَدِيث إِمَامًا.

فصل

فصل روى حَدِيث عَائِشَة عَن عُرْوَة ابْن شهَاب الزُّهْرِيّ، وروى حَدِيث جَابر عَن أبي سَلمَة الزُّهْرِيّ أَيْضا وَيحيى بن أبي كثير، وَكِلَاهُمَا من صغَار التَّابِعين، وَالزهْرِيّ أكبر وَأكْثر علما. وَهُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهَاب بن عبد الله بن الْحَارِث بن زهرَة بن كلاب بن مرّة أَبُو بكر الْقرشِي الزُّهْرِيّ: أحد الْأَعْلَام من أَئِمَّة الْإِسْلَام، روى عَن ابْن عمر وَأنس وَسَهل بن سعد والسائب بن يزِيد وَعبد الله بن ثَعْلَبَة بن صعير ومحمود بن الرّبيع وَعبد الرَّحْمَن بن أَزْهَر وَأبي الطُّفَيْل وَغَيرهم من الصَّحَابَة. وَمن التَّابِعين عَن فهاء الْمَدِينَة السَّبْعَة غَيرهم، روى عَنهُ من التَّابِعين عمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَقَتَادَة وَعَمْرو بن دِينَار وَعَمْرو بن شُعَيْب وَيحيى بن سعيد وَصَالح بن كيسَان وَغَيرهم، عَلَيْهِ يَدُور علم أهل الْحجاز، وَعنهُ أَخذ أئمتهم وعلماؤهم، وَمَات سنة أَرْبَعَة وَعشْرين وَمِائَة

وَقيل: سنة ثَلَاث، وَقيل: خمس وَعشْرين، بضيعة لَهُ فِي آخر عمل الْحجاز وَأول عمل فلسطين خلف شغب وبدا، وَدفن هُنَاكَ رَحمَه الله. يحيى بن أبي كثير أَبُو نصر: وَاسم أبي كثير دِينَار، وَقيل: يسَار، وَقيل: صَالح، ابْن المتَوَكل وَهُوَ مولى لطي، بَصرِي سكن الْيَمَامَة، رَأْي أنس بن مَالك وروى عَنهُ مُرْسلا، وَسمع أَبَا سَلمَة وَسليمَان بن يسَار وَعبد الله بن أبي قَتَادَة وَإِبْرَاهِيم بن عبد الله بن قارظ وَمُحَمّد بن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ وَأَبا قلَابَة وَعِكْرِمَة وَغَيرهم، روى عَنهُ أَيُّوب وَالْأَوْزَاعِيّ وَمعمر وَهِشَام الدستوَائي وَأَبَان الْعَطَّار وَهَمَّام ابْن يحيى وحسين الْمعلم وَابْنه عبد الله بن يحيى وَغَيرهم، توفّي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة، وَقيل: سنة ثَلَاثِينَ، وَقيل: سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ. قَالَ شُعْبَة: " يحيى بن أبي كثير أحسن حَدِيثا من الزُّهْرِيّ ". وَقَالَ أَيُّوب: " مَا بَقِي على وَجه الأَرْض مثل يحيى بن أبي كثير ". قَالَ عَامر بن يسَاف: " كَانَ يحيى بن أبي كثير حسن اللبَاس، حسن الْهَيْئَة، وَمَات وَلم يتْرك إِلَّا ثَلَاثِينَ درهما كفنوه بهَا ".

فصل

فصل روى حَدِيث عَائِشَة وَجَابِر عَن الزُّهْرِيّ ثَلَاثَة عقيل وَيُونُس وَمعمر عقيل بن خَالِد بن عقيل: بِضَم الْعين وَفتح الْقَاف فيهمَا أَبُو خَالِد الْأَيْلِي مولى عُثْمَان بن عَفَّان، حدث عَن أَبِيه وَعَمه زِيَاد بن عقيل وَعِكْرِمَة وَزيد بن أسلم وَمَكْحُول وَمُحَمّد بن إِسْحَاق وَيحيى بن أبي كثير وَهِشَام بن عُرْوَة وَعَمْرو بن شُعَيْب وَسَلَمَة بن كهيل، وَهُوَ أحد المكثرين عَن الزُّهْرِيّ المختصين بِهِ، كَانَ يَصْحَبهُ حضرا وسفرا، روى عَنهُ من أقرانه يُونُس بن يزِيد وَاللَّيْث بن سعد وَابْن لَهِيعَة وَغَيرهم، وَسَأَلَ الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَسَالم بن عبد الله، وَكَانَ ثِقَة من أهل أَيْلَة مصري. قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: " هَؤُلَاءِ الَّذين رووا عَن الزُّهْرِيّ الْكثير ". وَفِي رِوَايَة: " هَؤُلَاءِ نقروا علم الزُّهْرِيّ، يُونُس وَعقيل وَمعمر "

توفّي عقيل بفسطاط مصر فَجْأَة بالمعافر سنة أَرْبَعَة وَأَرْبَعين، وَقيل: سنة إِحْدَى أَو اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة. يُونُس بن يزِيد بن أبي النجاد أَبُو يزِيد الْأَيْلِي أَيْضا مولى قُرَيْش: حدث عَن هِشَام بن عُرْوَة ونافعع وَعِكْرِمَة , أبي الزِّنَاد وَغَيرهم، وَأكْثر عَن الزُّهْرِيّ وصحبة بِالشَّام ثِنْتَيْ عشرَة أَو أَربع عشرَة سنة، وَكَانَ الزُّهْرِيّ إِذْ قدم أَيْلَة نزل عِنْده، وَإِذا سَار إِلَى الْمَدِينَة زامله يُونُس، روى عَنهُ اللَّيْث وَابْن الْمُبَارك ووكيع وَابْن وهب وَغَيرهم. قَالَ الْمفضل بن غَسَّان الْغلابِي: " وَكَانَ يُونُس وَعقيل من أهل أَيْلَة وَمَاتَا بِمصْر، مَاتَ عقيل سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين، وَمَات يُونُس سنة تسع وَخمسين وَمِائَة ". وَقَالَ ابْن يُونُس: " مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَمِائَة ". وَقَالَ غَيره: " سنة سِتِّينَ وَمِائَة ". معمر بن رَاشد أَبُو عُرْوَة بن أبي عَمْرو الْأَزْدِيّ مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ: سكن الْيمن، حدث عَن زيد بن أسلم وَيحيى بن أبي كثير وَأبي إِسْحَاق الْهَمدَانِي وَالْأَعْمَش وَهِشَام بن عُرْوَة وَعَمْرو بن دِينَار وثابت

الْبنانِيّ وَأَيوب وَابْن طَاوس وَعَاصِم بن أبي النجُود وَمَنْصُور وَغَيرهم، وَقدم على الزُّهْرِيّ الشَّام وَبهَا سمع مِنْهُ، روى عَنهُ أَيُّوب وَعَمْرو بن دِينَار وَأَبُو إِسْحَاق وَيحيى بن أبي كثير وهم من شُيُوخه وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَسَعِيد ابْن أبي عرُوبَة وَابْن الْمُبَارك وَإِسْمَاعِيل بن علية وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهم، طلب الْعلم سنة مَاتَ الْحسن. قَالَ ابْن سعد: " كَانَ معمر رجلا لَهُ حلم ومروءة ونبل فِي نَفسه ". قَالَ أَبُو أَحْمد الْحَاكِم: " سمع من الزُّهْرِيّ وَعَمْرو بن دِينَار وَأبي إِسْحَاق وَالْأَعْمَش وَقَتَادَة وَيحيى بن أبي كثير، وَهَؤُلَاء السِّتَّة الَّذين يَدُور عَلَيْهِم حَدِيث رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - من التَّابِعين، لَا أعلم أحدا من النَّاس رَآهُمْ كلهم وَسمع مِنْهُم سواهُ، وَلَا اجْتَمعُوا لأحد من الْمَشَايِخ غَيره ". مَاتَ معمر بِالْيمن سنة خمسين أَو سنة اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاث أَو أَربع أَو خمس وَخمسين وَمِائَة وَله ثَمَانُون سنة.

فصل

فصل روى حَدِيث جَابر عَن يحيى بن أبي كثير ثَلَاثَة أَيْضا الْأَوْزَاعِيّ الإِمَام وَعلي بن الْمُبَارك وَحرب بن شَدَّاد. أما الْأَوْزَاعِيّ: فَهُوَ أَبُو عَمْرو عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن يحمد - بِضَم الْيَاء وَكسر الْمِيم - إِمَام أهل الشَّام فِي الحَدِيث وَالْفِقْه، روى عَن الزُّهْرِيّ وَيحيى بن أبي كثير وَأبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَقَتَادَة وَالْأَعْمَش وَيحيى بن سعيد وَمَيْمُون بن مهْرَان وَغَيرهم من أهل الْعرَاق والحجاز وَالشَّام، روى عَنهُ الزُّهْرِيّ وَيحيى بن أبي كثير وهما من شُيُوخه، وَمَالك ابْن أنس وسُفْيَان الثَّوْريّ وَشعْبَة وَيُونُس بن يزِيد وَسعد بن عبد الْعَزِيز وَابْن الْمُبَارك وَيحيى الْقطَّان وَغَيرهم. قَالَ ابْن سعد: " والأوزاع بطن من همذان وَهُوَ من أنفسهم، ولد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ، وَكَانَ ثِقَة مَأْمُونا صَادِقا، فَاضلا خيرا، كثير الحَدِيث وَالْعلم وَالْفِقْه، حجَّة، وَكَانَ مكتبه بِالْيَمَامَةِ فَلذَلِك سمع من يحيى بن أبي

كثير وَغَيره من مَشَايِخ الْيَمَامَة، وَكَانَ سكن بيروت، وَبهَا مَاتَ سنة سبع وَخمسين وَمِائَة فِي آخر خلَافَة أبي جَعْفَر وَهُوَ ابْن سبعين سنة ". قلت: وَقيل فِي سنه وسنه مَوته غير ذَلِك، وَأجَاب فِي سبعين ألف مَسْأَلَة أَو نَحْوهَا من الْعلم رَحمَه الله. عَليّ بن الْمُبَارك الْهنائِي الْبَصْرِيّ: سمع يحيى بن أبي كثير، روى عَنهُ وَكِيع وَابْن عَلَيْهِ وَهَارُون بن إِسْمَاعِيل الْبَصْرِيّ وَأَبُو قُتَيْبَة سَالم بن قُتَيْبَة وَعُثْمَان بن عمر بن فَارس وَغَيرهم. قَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن مُوسَى الْحَازِمِي: " الْهنائِي مَنْسُوب إِلَى هناءة ابْن مَالك بن فهم بن غنم بن دوس بطن من الأزد وهم من الجهاضم وهم بِالْبَصْرَةِ ". حَرْب بن شَدَّاد أَبُو الْخطاب الْيَشْكُرِي الْبَصْرِيّ الْقطَّان: سمع يحيى بن أبي كثير، وروى عَنهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَعبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث قَالَه أَبُو نصر الكلاباذي.

فصل

وَقَالَ مُسلم: " أَبُو الْخطاب حَرْب بن شَدَّاد الْقطَّان، سمع شهر بن حَوْشَب وَيحيى بن أبي كثير وَالْحسن، روى عَنهُ عبد الصَّمد وَأَبُو دَاوُد وَابْن رَجَاء ". فصل رَاوِي حَدِيث عَائِشَة وَجَابِر عَن عقيل هُوَ اللَّيْث بن سعد، وَعَن يُونُس عبد الله بن وهب، وَعَن معمر عبد الرَّزَّاق. اللَّيْث بن سعد بن عبد الرَّحْمَن أَبُو الْحَارِث الفهمي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ: فَقِيه أهل مصر، سمع يزِيد بن أبي حبيب وَالزهْرِيّ وَأَبا الزبير الْمَكِّيّ ونافعا مولى ابْن عمر وَابْن أبي مليكَة وَعَطَاء والمقبري وَغَيرهم من التَّابِعين. روى عَنهُ مُحَمَّد بن عجلَان وَهُوَ من شُيُوخه وَابْن لَهِيعَة وَابْن الْمُبَارك وهشيم وَابْن وهب والوليد بِمَ مُسلم وقتيبة وَغَيرهم، وَمَعَ كَونه من أَصْحَاب الزُّهْرِيّ فقد روى عَن جمَاعَة من أقرانه من أَصْحَاب الزُّهْرِيّ، كَمَا روى هَذَا الحَدِيث عَن عقيل عَن الزُّهْرِيّ.

وَمن أعجب مَا وَقع لي من رِوَايَته أَنه روى عَن ثَلَاثَة من أَصْحَاب الزُّهْرِيّ بَعضهم عَن بعض عَن الزُّهْرِيّ، وَقع ذَلِك فِي " كتاب الْأَرْبَعين " لأبي الْمَعَالِي ابْن الْجُوَيْنِيّ الْفَقِيه رَحمَه الله، قَالَ يحيى بن عبد الله بن بكير: حَدثنِي اللَّيْث بن سعد، عَن ابْن الْهَاد، عَن إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن صَالح بن كيسَان، عَن ابْن شهَاب الحَدِيث. قَالَ مُحَمَّد بن سعد: " وَكَانَ اللَّيْث قد اسْتَقل بالفتوى بِمصْر، وَكَانَ ثِقَة كَبِير الحَدِيث صَحِيحه، وَكَانَ سريا من الرِّجَال نبيلا، سخيا لَهُ ضِيَافَة ". وَمَات بِمصْر فِي شعْبَان سنة خمس وَسبعين وَمِائَة، وَقيل: سنة أَربع وَسبعين، وَمَات مَالك بن أنس سنة تسع وَسبعين. قَالَ الإِمَام الشَّافِعِي: " مَا فَاتَنِي أحد فأسفت عَلَيْهِ مَا أسفت على اللَّيْث وَابْن أبي ذِئْب ". وَقَالَ أَيْضا: " اللَّيْث أفقه من مَالك إِلَّا أَن أَصْحَابه لم يقومُوا بِهِ ".

عبد الله بن وهب بن مُسلم أَبُو مُحَمَّد الْقرشِي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ: من كبار أهل مصر فِي الْعلم والزهد والورع، صنف الْكتب وَنشر الْعلم وَلزِمَ النّسك. سمع عَمْرو بن الْحَارِث وَابْن جريج ومالكا وَالثَّوْري وَاللَّيْث وحيوة وَغَيرهم، روى عَنهُ اللَّيْث وَسَعِيد بن أبي مَرْيَم وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَسَعِيد بن مَنْصُور وَغَيرهم، وَكثر أَصْحَابه من أهل مصر وَغَيرهَا. وَعرض عَلَيْهِ يحيى بن خَالِد الْقَضَاء فَكتب إِلَيْهِ: " إِنِّي لم أكتب الْعلم أُرِيد أَن أحْشر بِهِ فِي زمرة الْقُضَاة وَلَكِنِّي كتبت الْعلم أُرِيد أَن أحْشر (بِهِ) فِي زمرة الْعلمَاء ". ثمَّ طلبه لولاية الْقَضَاء أَمِير مصر من قبل الْمَأْمُون وَهُوَ عباد بن مُحَمَّد فتغيب فَسمع وَهُوَ يَقُول: " يَا رب، يقدم عَلَيْك إخْوَانِي غَدا عُلَمَاء حكما فُقَهَاء وأقدم عَلَيْك قَاضِيا، لَا يَا رب، وَلَو قرضت بِالْمَقَارِيضِ ". وَقَالَ لَهُ أَهله: " لَعَلَّ الله يحيي الْحق على يَديك، فَقَالَ: أردتم أَن تَأْكُلُوا ديني ". وَقَالَ لبَعْضهِم: " ألم تعلم أَن الْقُضَاة يحشرون يَوْم الْقِيَامَة مَعَ السلاطين، ويحشر الْعلمَاء مَعَ الْأَنْبِيَاء ".

ولد ابْن وهب سنة خمس وَعشْرين وَمِائَة، وَمَات بِمصْر سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة، قرئَ عَلَيْهِ " كتاب أهوال الْقِيَامَة " فَخر مغشيا عَلَيْهِ فَلم يتَكَلَّم بِكَلِمَة حَتَّى مَاتَ ". عبد الرَّزَّاق بن همام بن نَافِع أَبُو بكر الْحِمْيَرِي مَوْلَاهُم الصَّنْعَانِيّ: إِمَام أهل الْيمن بعد معمر وَهُوَ مثل وَكِيع بِالْكُوفَةِ وَابْن وهب بِمصْر وَابْن الْمُبَارك بخراسان. أَخذ الْعلم والْحَدِيث عَن معمر بن رَاشد بِالْيمن، وَمَالك بن أنس بِالْمَدِينَةِ، وَابْن جريج بِمَكَّة، وسُفْيَان الثَّوْريّ بِالْكُوفَةِ، وَالْأَوْزَاعِيّ بِالشَّام وَغَيرهم، روى عَنهُ من الْأَئِمَّة أَحْمد وَيحيى وَإِسْحَاق وَعبد بن حميد وَمن لَا يُحْصى كَثْرَة. يُقَال: لم يرحل إِلَى أحد بعد النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - كَمَا رَحل إِلَى عبد الرَّزَّاق، ولد سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة، وَمَات بعد أَن عمى سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ بِصَنْعَاء.

فصل

فصل رَاوِي حَدِيث جَابر عَن الْأَوْزَاعِيّ هُوَ الْوَلِيد بن مُسلم، وَعَن عَليّ ابْن الْمُبَارك هُوَ وَكِيع بن الْجراح وَعُثْمَان بن عمر، وَعَن حَرْب بن شَدَّاد عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَعبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث، فَهَذِهِ خَمْسَة رجال وهم: الْوَلِيد بن مُسلم أَبُو الْعَبَّاس الْقرشِي الْفَقِيه مولى بني أُميَّة: قَرَأَ الْقُرْآن على يحيى بن الْحَارِث الذمارِي وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز، وروى عَن مُحَمَّد بن عجلَان وَابْن جريج وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَأبي إِسْحَاق الْفَزارِيّ وَابْن لَهِيعَة وَغَيرهم. قَرَأَ عَلَيْهِ هِشَام بن عمار، وروى عَنهُ اللَّيْث بن سعد وَبَقِيَّة بن الْوَلِيد وَابْن وهب وَأحمد بن حَنْبَل وَابْن الْمَدِينِيّ والْحميدِي وَزُهَيْر بن حَرْب وَغَيرهم. وَهُوَ من ثِقَات النَّاس وأفاضلهم، كثير الحَدِيث وَالْعلم، حج سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة فِي خلَافَة مُحَمَّد بن هَارُون، ثمَّ انْصَرف فَمَاتَ فِي الطَّرِيق قبل أَن يصل إِلَى دمشق وَذَلِكَ بِذِي الْمَرْوَة وَدفن بهَا، وَقيل: مَاتَ سنة خمس أَو سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة وَله ثَلَاث وَسَبْعُونَ سنة أَو نَحْوهَا.

وَكِيع بن الْجراح بن مليح أَبُو سُفْيَان الرُّؤَاسِي من أنفسهم الْكُوفِي: أحد أَرْكَان الحَدِيث. روى عَن أَبِيه وَالْأَعْمَش وَهِشَام بن عُرْوَة وَإِسْمَاعِيل بن أبي خَالِد وَابْن عون وَالثَّوْري وَشعْبَة وَابْن جريج وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز وَغَيرهم. روى عَنهُ ابْن الْمُبَارك وَابْن مهْدي وَيزِيد بن هَارُون وَيحيى بن آدم وَأحمد بن حَنْبَل وَيحيى بن معِين وَعلي بن الْمَدِينِيّ وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق ابْن رَاهَوَيْه وابنا أبي شيبَة أَبُو بكر وَعُثْمَان وَأَبُو بكر الْحميدِي وَأَبُو كريب وقتيبة بن سعيد وَغَيرهم. قَالَ ابْن سعد: " حج سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة، ثمَّ انْصَرف من الْحَج فَمَاتَ بفيد فِي الْمحرم سنة سبع وَتِسْعين وَمِائَة فِي خلَافَة مُحَمَّد بن هَارُون، وَكَانَ ثِقَة مَأْمُونا عَالِيا رفيعا كثير الحَدِيث حجَّة ". وَقيل: مَاتَ سنة سِتّ أَو سبع أَو ثَمَان وَتِسْعين.

عُثْمَان بن عمر بن فَارس أَبُو بكر الْبَصْرِيّ: سمع ابْن عون وَيُونُس بن يزِيد وَعلي بن الْمُبَارك وكهمس بن الْحسن وَهِشَام بن حسان وَسلم بن زرير وَشعْبَة وَغَيرهم، روى عَنهُ إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَمُحَمّد بن بشار بنْدَار وَأحمد بن مَنْصُور الرَّمَادِي وَغَيرهم، توفّي سنة ثَمَان أَو تسع وَمِائَتَيْنِ، وَهُوَ ثِقَة صَدُوق. عبد الرَّحْمَن بن مهْدي بن حسان بن سعيد الْبَصْرِيّ الْعَنْبَري، وَقيل مولى الأزد. سمع من الثَّوْريّ وَمَالك وَشعْبَة والحمادين وَشريك وَابْن عُيَيْنَة وَغَيرهم، روى عَنهُ ابْن الْمُبَارك وَابْن وهب وَأحمد بن حَنْبَل وَابْن معِين وَابْن الْمَدِينِيّ وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد وابنا أبي شيبَة وَغَيرهم. قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: " وَكَانَ من الربانيين فِي الْعلم، وَأحد الْمَذْكُورين بِالْحِفْظِ، وَمِمَّنْ برع فِي معرفَة الْأَثر، وطرق الرِّوَايَات، وأحوال الشُّيُوخ ". ولد سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَمَات سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة وَهُوَ ابْن ثَلَاث وَسِتِّينَ.

فصل

عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث بن سعيد أَبُو سهل بن أبي عُبَيْدَة التَّمِيمِي الْعَنْبَري مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ: سمع أَبَاهُ وَشعْبَة وهماما وسليم بن حَيَّان وَعبد الله بن الْمثنى وَحرب ابْن شَدَّاد،، روى عَنهُ إِسْحَاق الْحَنْظَلِي وَعبد الله المسندي وَإِسْحَاق الكوسج وَبُنْدَار وَغَيرهم مَاتَ آخر سنة سِتّ أَو أول سنة سبع وَمِائَتَيْنِ، وَمَات أَبوهُ فِي أول الْمحرم سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة. فصل رَاوِي حَدِيث عَائِشَة وَجَابِر عَن اللَّيْث هُوَ يحيى بن بكير وَعبد الله ابْن يُوسُف وَأَبُو صَالح وَابْنه شُعَيْب بن اللَّيْث، وَعَن ابْن وهب هُوَ أَبُو الطَّاهِر بن السَّرْح، وَعَن عبد الرَّزَّاق عبد الله بن مُحَمَّد وَمُحَمّد بن رَافع فَهَؤُلَاءِ سَبْعَة.

يحيى بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّاء الْقرشِي المَخْزُومِي مَوْلَاهُم الْمصْرِيّ: سمع مَالك بن أنس وَاللَّيْث بن سعد وَابْن لَهِيعَة وَبكر بن مُضر والمغيرة ابْن عبد الرَّحْمَن وَيَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي بَدْء الْوَحْي وَغير مَوضِع، وروى عَن مُحَمَّد بن عبد الله - وَهُوَ مُحَمَّد بن يحيى بن عبد الله الذهلي - عَنهُ. عبد الله بن يُوسُف أَبُو مُحَمَّد الْمَشْهُور بالتنيسي: وَهُوَ دمشقي سكن تنيس فنسب إِلَيْهَا، روى عَن مَالك وَاللَّيْث بن سعد وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز وَيحيى بن حَمْزَة القَاضِي وَغَيرهم، روى عَنهُ يحيى بن معِين وَمُحَمّد بن يحيى الذهلي وَالْبُخَارِيّ وَالربيع بن سُلَيْمَان الجيزي وَأَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَغَيرهم ". قَالَ ابْن يُونُس: " توفّي بِمصْر سنة ثَمَانِي عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وَكَانَ ثِقَة حسن الحَدِيث، وَعِنْده " الْمُوَطَّأ " ومسائل سوى " الْمُوَطَّأ " عَن مَالك.

أَبُو صَالح عبد الله بن صَالح بن مُحَمَّد بن مُسلم الْمصْرِيّ الْجُهَنِيّ مَوْلَاهُم كَاتب اللَّيْث بن سعد: حدث عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز التنوخي وَاللَّيْث وَابْن لَهِيعَة وَمُعَاوِيَة ابْن صَالح وَإِبْرَاهِيم بن سعد وَابْن وهب وَغَيرهم، روى عَنهُ اللَّيْث وَهُوَ أستاذه وَابْن وهب وَأَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام وَمُحَمّد ين يحيى الذهلي وَيحيى بن معِين وَالْبُخَارِيّ وَأحمد بن مَنْصُور الرَّمَادِي وَالربيع بن سُلَيْمَان وَمُحَمّد ين إِسْحَاق الصغاني وَيَعْقُوب بن سُفْيَان وَأثْنى عَلَيْهِ وَغَيرهم، وَقد تكلم فِيهِ. وَقَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي: " هُوَ عِنْدِي مُسْتَقِيم الحَدِيث، إِلَّا أَنه يَقع فِي أَحَادِيثه فِي أسانيده ومتونه غلط ". قَالَ ابْن سعد: " مَاتَ بِمصْر يَوْم عَاشُورَاء سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ ". وَقيل: سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين. شُعَيْب بن اللَّيْث بن سعد: روى الحَدِيث عَنهُ ابْنه عبد الْملك بن شُعَيْب، وَعنهُ مُسلم بن الْحجَّاج.

أَبُو الطَّاهِر أَحْمد بن عبد الله بن عَمْرو بن سرح - بِالْحَاء - الْمصْرِيّ: سمع عبد الله بن وهب هَكَذَا نسبه مُسلم فِي " كتاب الكنى ". وَقَالَ فِي " صَحِيحه ": " أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الله بن عَمْرو بن سرح " وَهُوَ الصَّوَاب. قَالَ أَبُو نصر بن مَاكُولَا: " عَمْرو بن عبد الله بن عَمْرو بن السَّرْح مولى نهيك مولى عتبَة بن أبي سُفْيَان أَبُو عبد الله، روى عَنهُ ابْنه أَبُو الطَّاهِر أَحْمد بن عَمْرو بن عبد الله بن عَمْرو بن السَّرْح، يروي عَن ابْن وهب وَغَيره، توفّي فِي ذِي الْقعدَة سنة خمسين وَمِائَتَيْنِ ". عبد الله بن مُحَمَّد بن جَعْفَر بن الْيَمَان أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ البُخَارِيّ: من أَرْبَاب الحَدِيث وَهُوَ الْمَعْرُوف بالمسندي لِأَنَّهُ تطلب الْمسند من حداثته وَأعْرض عَن المقاطيع والمراسيل، وينسب هَذَا قبل الإِمَام البُخَارِيّ الْجعْفِيّ لِأَن وَالِد جده الْمُغيرَة أسلم على يَد الْيَمَان وَالِد جد صَاحب التَّرْجَمَة، وَكَانَ وَالِي بُخَارى فنسب إِلَيْهِ، سمع المسندي ابْن عُيَيْنَة وَيحيى بن آدم وَعبد الرَّزَّاق وَأَبا عَاصِم وَأَبا عَامر الْعَقدي وهَاشِم بن الْقَاسِم وَعبد

الصَّمد بن عبد الْوَارِث وَيحيى بن معِين وَغَيرهم، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي غير مَوضِع، وَمَات سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ فِي ذِي الْحجَّة. مُحَمَّد بن رَافع بن أبي زيد أَبُو عبد الله الْقشيرِي النَّيْسَابُورِي: سمع حُسَيْنًا الْجعْفِيّ وشبابة بن سوار وسريج بن النُّعْمَان وَابْن أبي فديك وَالنضْر بن شُمَيْل وَعبد الرَّزَّاق وَصَفوَان بن عِيسَى، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي " صَحِيحهمَا، مَاتَ سنة خمس وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. قَالَ زَكَرِيَّا بن دلويه: " بعث طَاهِر بن عبد الله بن طَاهِر إِلَى مُحَمَّد ابْن رَافع بِخَمْسَة آلَاف دِرْهَم على يَدي رَسُوله، فَدخل عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْعَصْر وَهُوَ يَأْكُل الْخبز مَعَ الفجل، فَوضع الْكيس بَين يَدَيْهِ فَقَالَ: بعث الْأَمِير طَاهِر بِهَذَا المَال إِلَيْك لتنفقه على أهلك، فَقَالَ: خُذ خُذ لَا أحتاج إِلَيْهِ، فَإِن الشَّمْس قد بلغت رُؤُوس الْجبَال إِنَّمَا تغرب بعد سَاعَة، قد جَاوَزت الثَّمَانِينَ، إِلَى مَتى أعيش؟ فَرد المَال وَلم يقبل، فَأخذ الرَّسُول المَال وَذهب، فَدخل عَلَيْهِ ابْنه فَقَالَ: يَا أبه، لَيْسَ لنا اللَّيْلَة خبز، قَالَ: فَذهب بِبَعْض أَصْحَابه خلف الرَّسُول ليرد المَال إِلَى حَضْرَة صَاحبه فَزعًا من أَن يذهب ابْنه خلف الرَّسُول فَيَأْخُذ المَال.

فصل

قَالَ زَكَرِيَّا: وَرُبمَا كَانَ يخرج إِلَيْنَا مُحَمَّد بن رَافع فِي الشتَاء الشاتي وَقد لبس لِحَافه الَّذِي يلْبسهُ بِاللَّيْلِ ". فصل رَاوِي حَدِيث جَابر عَن الْوَلِيد بن مُسلم هُوَ زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن وَكِيع هُوَ يحيى بن جَعْفَر، وَعَن عُثْمَان بن عمر مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي مُحَمَّد بن بشار، وَعَن عبد الصَّمد إِسْحَاق بن مَنْصُور، فهلاء خَمْسَة: زُهَيْر بن حَرْب بن شَدَّاد أَبُو خَيْثَمَة النَّسَائِيّ: سكن بَغْدَاد وَحدث بهَا عَن ابْن عُيَيْنَة وَابْن عَلَيْهِ وهشيم وَابْن مهْدي ووكيع والوليد بن مُسلم وَغَيرهم، روى عَنهُ ابْنه أَحْمد وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم فِي " صَحِيحه " وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم الرازيان وَخلق يَتَّسِع ذكرهم. قَالَ أَبُو بكر الْخَطِيب: " وَكَانَ ثِقَة ثبتا حَافِظًا متقنا ".

وَمَات فِي خلَافَة المتَوَكل سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَله أَربع وَسَبْعُونَ سنة. قَالَ النَّسَائِيّ: " هُوَ ثِقَة مَأْمُون ". يحيى بن جَعْفَر بن أعين أَبُو زَكَرِيَّا البُخَارِيّ البيكندي: سمع ابْن عُيَيْنَة ووكيعا وَأَبا مُعَاوِيَة وَيزِيد بن هَارُون وَعبد الرَّزَّاق. قَالَ أَبُو أَحْمد بن عدي: " وَهُوَ الَّذِي قَالَ لمُحَمد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ: مَاتَ عبد الرَّزَّاق وَلم يكن قد مَاتَ فِي ذَلِك الْوَقْت وَكَانَ حَيا، وَكَانَ البُخَارِيّ مُتَوَجها إِلَى عبد الرَّزَّاق فَانْصَرف، فَلَمَّا مَاتَ عبد الرَّزَّاق سمع البُخَارِيّ كتب عبد الرَّزَّاق من يحيى هَذَا ". مُحَمَّد بن الْمثنى بن قيس بن دِينَار أَبُو مُوسَى الْعَنزي الزَّمن: من أهل الْبَصْرَة، سمع سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَإِسْمَاعِيل بن عَلَيْهِ ومعتمر بن سُلَيْمَان وَيزِيد بن زُرَيْع وَيحيى الْقطَّان وَابْن مهْدي وغندرا ووكيعا وَأَبا مُعَاوِيَة، روى عَنهُ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي وَأحمد بن مَنْصُور الرَّمَادِي وَغَيرهم وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيرهم.

قَالَ الْخَطِيب: " وَكَانَ ثِقَة ثبتا احْتج سَائِر الْأَئِمَّة بحَديثه ". وَمَات بِالْبَصْرَةِ سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. مُحَمَّد بن بشار بن عُثْمَان بن كيسَان أَبُو بكر الْبَصْرِيّ يعرف ببندار: سمع مُحَمَّد بن جَعْفَر غندرا ووكيعا وَابْن مهْدي وَيحيى الْقطَّان وروح ابْن عبَادَة وَغَيرهم، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَإِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ وَأَبُو بكر ابْن أبي الدُّنْيَا وَعبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل وَعبد الله بن مُحَمَّد الْبَغَوِيّ وَأَبُو بكر بن أبي دَاوُد وَغَيرهم، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام أَبُو يَعْقُوب الكوسج: من أهل مرو، سكن نيسابور، سمع سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأَبا أُسَامَة وَعبد الرَّزَّاق وَعبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث وَعبد الله بن نمير وَالنضْر بن شُمَيْل وَيحيى الْقطَّان وَابْن مهْدي ووكيعا وَغَيرهم، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم وَابْن أبي دَاوُد وَغَيرهم، توفّي سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَتَيْنِ بنيسابور، وَكَانَ ثِقَة ثبتا مَأْمُونا عَالما فَقِيها. قَالَ الْخَطِيب: " وَهُوَ الَّذِي دون عَن أَحْمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه " الْمسَائِل فِي الْفِقْه ".

فصل

فصل الرَّاوِي للحديثين عَمَّن سمي فِي هاذين الْفَصْلَيْنِ الآخرين هما (الإمامان) البُخَارِيّ وَمُسلم رحمهمَا الله. مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْمُغيرَة أَبُو عبد الله الْجعْفِيّ مَوْلَاهُم البُخَارِيّ الإِمَام صَاحب " الصَّحِيح " و " التَّارِيخ ": إِمَام أهل الحَدِيث، سمع خلقا يكثر تعدادهم كَأبي الْيَمَان وَهِشَام ابْن عمار وَأبي بكر الْحميدِي وَأبي عَاصِم النَّبِيل وَعَفَّان بن مُسلم وَأبي نعيم وَإِسْمَاعِيل بن أبي أويس وَيحيى وآدَم بن أبي إِيَاس وَغَيرهم، روى عَنهُ مُسلم وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة وَصَالح بن مُحَمَّد جزرة وَالتِّرْمِذِيّ وَأَبُو بكر ابْن خُزَيْمَة وَيحيى بن مُحَمَّد بن صاعد وَغَيرهم. قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن خُزَيْمَة - وَهُوَ إِمَام الْأَئِمَّة -: " مَا تَحت أَدِيم السَّمَاء أحفظ لحَدِيث رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَلَا أعرف بِهِ من البُخَارِيّ ".

وَقَالَ عمر بن عَليّ: " حَدِيث لَا يعرفهُ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل لَيْسَ بِحَدِيث ". ولد فِي شَوَّال سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة، وَتُوفِّي لَيْلَة الْفطر سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ بقرية من قرى سَمَرْقَنْد يُقَال لَهَا خرتنك وَدفن بهَا، وقبره مَعْرُوف يزار. روى " صَحِيحه " عَنهُ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر بن صَالح بن بشر الْفربرِي شيخ ثِقَة راوية " كتاب الصَّحِيح "، وبروايته اشْتهر الْكتاب، وَسمع أَيْضا عَليّ بن خشرم وحاشد بن إِسْمَاعِيل، ولد سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَتُوفِّي فِي شَوَّال سنة عشْرين وثلاثمائة. قَالَ الْفربرِي: سَمِعت " الْجَامِع الصَّحِيح " من أبي عبد الله بفربر، وَكَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ فِي ثَلَاث سِنِين فِي (سنة) ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبع وَخمسين وَخمْس وَخمسين. وَقَالَ الْفربرِي: " سمع " كتاب الصَّحِيح " لمُحَمد بن إِسْمَاعِيل سَبْعُونَ ألف رجل فَمَا بَقِي أحد يروي عَنهُ غَيْرِي ".

قلت: وفربر بَلْدَة على طرف جيحون مِمَّا يَلِي بُخَارى. ثمَّ روى الْكتاب عَن الْفربرِي جمَاعَة أَجلهم الْفَقِيه أَبُو زيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الله الْمروزِي الشَّافِعِي الزَّاهِد، مَاتَ سنة إِحْدَى وَسبعين وثلاثمائة، فَلَمَّا توفّي سمع من أبي عَليّ الشبوي عَن الْفربرِي، فَلَمَّا توفّي سمع من أبي الْهَيْثَم مُحَمَّد بن الْمَكِّيّ الْكشميهني، مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وثلاثمائة. وانقطعت الرِّوَايَة بِهَذِهِ الطّرق فِي هَذِه الْأَعْصَار، وَلم تبْق الرَّغْبَة إِلَّا فِي رِوَايَة أبي مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن حمويه الْحَمَوِيّ السَّرخسِيّ وَهُوَ أحد الروَاة عَن الْفربرِي لِأَنَّهَا الْعَالِيَة يَوْمئِذٍ، روى " الصَّحِيح " عَنهُ أَبُو الْحسن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن المظفر الدَّاودِيّ وَكَانَ من الْعلمَاء الصَّالِحين، تلمذ فِي الْفِقْه للشَّيْخ أبي حَامِد الإِسْفِرَايِينِيّ شيخ الْعرَاق وللقفال الْمروزِي شيخ خُرَاسَان، وَفِي الطَّرِيقَة للشَّيْخ أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ والأستاذ أبي عَليّ الدقاق.

وروى الصَّحِيح عَنهُ الشَّيْخ أَبُو الْوَقْت عبد الأول بن عِيسَى بن سعيد السجْزِي ثمَّ الْهَرَوِيّ، وَهُوَ الَّذِي عمر حَتَّى ألحق الصغار بالكبار والأحفاد بالأجداد وَفِي رِوَايَة هَذَا الْكتاب وَغَيره، وَرَوَاهُ لنا جمَاعَة مِنْهُم من سمينا فِي أول الْإِسْنَاد وَالله أعلم. مُسلم بن الْحجَّاج بن مُسلم أَبُو الْحُسَيْن الْقشيرِي النَّيْسَابُورِي: الْحَافِظ المبرز سمع قُتَيْبَة بن سعيد وَيحيى بن يحيى وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَأحمد بن حَنْبَل وَخلف بن هِشَام وَشُرَيْح بن يُونُس والقعنبي وَمُحَمّد بن رَافع وَمُحَمّد بن رمح وحرملة بن يحيى وَغَيرهم. روى عَنهُ أَبُو بكر بن خُزَيْمَة وَأَبُو مُحَمَّد عبد الله وَأَبُو حَامِد أَحْمد ابْنا الشَّرْقِي وَأَبُو عوَانَة الإِسْفِرَايِينِيّ وَأَبُو الْعَبَّاس السراج وَغَيرهم. وَمَات فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بنيسابور وَهُوَ ابْن خمس وَخمسين سنة، ذكر سنة الْحَاكِم أَبُو عبد الله فِي " كتاب المزكين لرواة الْأَخْبَار ". وَكتاب مُسلم مَعَ شهرته اقْتصر فِي رِوَايَته عَنهُ على صَاحبه أبي إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن سُفْيَان النَّيْسَابُورِي وَكَانَ فَقِيها زاهدا مجاب الدعْوَة، مَاتَ فِي رَجَب سنة ثَمَان وثلاثمائة، وَله فِي الْكتاب فَوت لم

يسمعهُ من مُسلم فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فِي الْحَج والوصايا والإمارة وَكلهَا مَعْرُوفَة محددة عِنْد الْحفاظ، وَالله أعلم. وَرَوَاهُ عَن إِبْرَاهِيم أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن عِيسَى بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن عمرويه بن مَنْصُور الزَّاهِد النَّيْسَابُورِي الجلودي بِضَم الْجِيم، سمع أَبَا بكر بن خُزَيْمَة وَغَيره، وَمَات فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وثلاثمائة وَهُوَ ابْن ثَمَانِينَ سنة. وَرَوَاهُ عَن الجلودي أَبُو الْحُسَيْن عبد الغافر بن مُحَمَّد بن عبد الغافر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن سعيد الْفَارِسِي النسوي ثمَّ النَّيْسَابُورِي جد أبي الْحسن عبد الغافر بن إِسْمَاعِيل بن عبد الغافر مذيل " تَارِيخ نيسابور " توفّي فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَله خمس وَسِتُّونَ سنة، ألحق أحفاد الأحفاد بالأجداد، قَرَأَ عَلَيْهِ كتاب مُسلم جمَاعَة من الْأَئِمَّة والحفاظ نَحْو سبعين مرّة مِنْهُم الْقشيرِي والواحدي والبحيري، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنهُ الإِمَام أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْفضل بن أَحْمد الصاعدي الفراوي ثمَّ النَّيْسَابُورِي، كَانَ أَبوهُ من فراوة بليدَة من ثغر خُرَاسَان، وَيُقَال بِضَم الْفَاء وَفتحهَا، وَكَانَ يُقَال لَهُ: فَقِيه الْحرم، رحلت إِلَيْهِ الطّلبَة من الأقطار حَتَّى قيل فِيهِ: للفراوي ألف رَاوِي، سمع الْكتاب من الْفَارِسِي بِقِرَاءَة أبي سعيد الْبُحَيْرِي عَلَيْهِ فِي السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وتفقه على الإِمَام أبي الْمَعَالِي، ومولده سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة تَقْديرا، وَتُوفِّي فِي شَوَّال سنة ثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة، روى

الْكتاب عَنهُ خلق كثير مِنْهُم حَافظ الشَّام أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن وحفيده أَبُو الْقَاسِم مَنْصُور بن عبد الْمُنعم بن أبي البركات عبد الله فَقِيه الْحرم الْمَذْكُور وَأَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن بن صَدَقَة الْحَرَّانِي وَأَبُو الْحسن يزِيد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحسن الطابراني الطوسي النَّيْسَابُورِي، وَقد سَمِعت على جمَاعَة من أَصْحَاب هَؤُلَاءِ وقرأته على بَعضهم، وأنبأني الشَّيْخ الْمُؤَيد إجَازَة وَكَانَ شَيخا معمرا، سمع الْكتاب من الفراوي فِي السّنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وعاش حَتَّى تفرد بِهِ عَنهُ وَحَتَّى ألحق الأحفاد بالأجداد، رَحْمَة الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين. وَافق الْفَرَاغ من نسخه غرَّة يَوْم الْإِثْنَيْنِ ثامن شهر الأول من شهور سنة خمس وَخمسين وسِتمِائَة لِلْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّة. كتبه العَبْد الْفَقِير إِلَى رَحْمَة ربه الْقَدِير مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي بكر للْمولى الشَّيْخ الْفَاضِل البارع شرف الدّين مُوسَى بن دَاوُد بن أَحْمد الْمزي، نَفعه الله بِالْعلمِ وَجَمِيع الْمُسلمين.

§1/1