شرح التلويح على التوضيح

التفتازاني

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْكَمَ بِكِتَابِهِ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ، وَرَفَعَ بِخِطَابِهِ فُرُوعَ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ الْبَيْضَاءِ، حَتَّى أَضْحَتْ كَلِمَتُهُ الْبَاقِيَةُ رَاسِخَةَ الْأَسَاسِ شَامِخَةَ الْبِنَاءِ. كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، أَوْقَدَ مِنْ مِشْكَاةِ السُّنَّةِ لِاقْتِبَاسِ أَنْوَارِهَا سِرَاجًا وَهَّاجًا، وَأَوْضَحَ لِإِجْمَاعِ الْآرَاءِ عَلَى اقْتِفَاءِ آثَارِهَا قِيَاسًا وَمِنْهَاجًا، حَتَّى صَادَفْت بِحَارَ الْعِلْمِ وَالْهُدَى تَتَلَاطَمُ أَمْوَاجًا. وَرَأَيْت النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، وَالصَّلَاةُ عَلَى مَنْ أَرْسَلَهُ لِسَاطِعِ الْحُجَّةِ مِعْوَانًا وَظَهِيرًا، وَجَعَلَهُ لِوَاضِحِ الْمَحَجَّةِ سُلْطَانًا وَنَصِيرًا، مُحَمَّدٍ الْمَبْعُوثِ هُدًى لِلْأَنَامِ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، ثُمَّ عَلَى مَنْ الْتَزَمَ بِمُقْتَضَى إشَارَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى طَرِيقِ الْعِرْفَانِ، وَاعْتَصَمَ فِيهَا بِمَا تَوَاتَرَ مِنْ نُصُوصِهِ الظَّاهِرَةِ الْبَيَانَ، وَاغْتَنَمَ فِي شَرِيفِ سَاحَتِهِ كَرَامَةَ الِاسْتِصْحَابِ وَالِاسْتِحْسَانِ، مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ. وَبَعْدُ فَإِنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ الْجَامِعَ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، النَّافِعَ فِي الْوُصُولِ إلَى مَدَارِك الْمَحْصُولِ أَجَلُّ مَا يَتَنَسَّمُ فِي إحْكَامِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ قَبُولَ الْقَبُولِ، وَأَعَزُّ مَا يُتَّخَذُ لِإِعْلَاءِ أَعْلَامِ الْحَقِّ عَقُولُ الْعُقُولِ، وَإِنَّ كِتَابَ التَّنْقِيحِ - مَعَ شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِالتَّوْضِيحِ لِلْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ وَالنِّحْرِيرِ الْمُدَقِّقِ عَلَمِ الْهِدَايَةِ وَعَالِمِ الدِّرَايَةِ مُعَدِّلِ مِيزَانِ الْمَعْقُولِ، وَالْمَنْقُولِ، وَمُنَقِّحِ أَغْصَانِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ وَالْإِسْلَامِ، أَعْلَى اللَّهُ دَرَجَتَهُ فِي دَارِ السَّلَامِ - كِتَابٌ شَامِلٌ لِخُلَاصَةِ كُلِّ مَبْسُوطٍ وَافٍ، وَنِصَابٌ كَامِلٌ مِنْ خِزَانَةِ كُلِّ مُنْتَخَبٍ كَافٍ، وَبَحْرٌ مُحِيطٌ بِمُسْتَصْفَى كُلِّ مَدِيدٍ وَبَسِيطٍ، وَكَنْزٌ مُغْنٍ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ كُلِّ وَجِيزٍ وَوَسِيطٍ، فِيهِ كِفَايَةٌ لِتَقْدِيمِ مِيزَانِ الْأُصُولِ وَتَهْذِيبِ أَغْصَانِهَا، وَهُوَ نِهَايَةٌ فِي تَحْصِيلِ مَبَانِي الْفُرُوعِ وَتَعْدِيل أَرْكَانِهَا، نَعَمْ قَدْ سَلَكَ مِنْهَاجًا بَدِيعًا فِي كَشْفِ أَسْرَارِ التَّحْقِيقِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ الْأَقْصَى مِنْ رَفْعِ مَنَارِ التَّدْقِيقِ، مَعَ شَرِيفِ زِيَادَاتٍ مَا مَسَّتْهَا أَيْدِي الْأَفْكَارِ، وَلَطِيفِ مَا فَتَقَ بِهَا رَتْقَ آذَانِهِمْ أُولُو الْأَبْصَارِ، وَلِهَذَا طَارَ كَالْأَمْطَارِ فِي الْأَقْطَارِ، وَصَارَ كَالْأَمْثَالِ فِي الْأَمْصَارِ، وَنَالَ فِي الْآفَاقِ حَظًّا مِنْ الِاشْتِهَارِ، وَلَا اشْتِهَارَ الشَّمْسِ فِي نِصْفِ النَّهَارِ. وَقَدْ صَادَفْت مُجْتَازِي مَا وَرَاءَ النَّهْرِ لِكَثِيرٍ مِنْ فُضَلَاءِ الدَّهْرِ أَفْئِدَةً تَهْوَى إلَيْهِ وَأَكْبَادًا هَائِمَةً عَلَيْهِ، وَعُقُولًا جَاثِيَةً بَيْنَ يَدَيْهِ، وَرَغَبَاتٍ مُسْتَوْقِفَةَ الْمَطَايَا لَدَيْهِ، مُعْتَصِمِينَ فِي كَشْفِ أَسْتَارِهِ بِالْحَوَاشِي وَالْأَطْرَافِ، قَانِعِينَ فِي بِحَارِ أَسْرَارِهِ عَلَى اللَّآلِئِ بِالْأَصْدَافِ لَا تَحُلُّ أَنَامِلُ الْأَنْظَارِ عُقَدَ مُعْضِلَاتِهِ

[مقدمة]

[مُقَدِّمَة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حَامِدًا لِلَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا وَثَانِيًا وَلِعَنَانِ الثَّنَاءِ إلَيْهِ ثَانِيًا وَعَلَى أَفْضَلِ رُسُلِهِ وَآلِهِ مُصَلِّيًا وَفِي حَلْبَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا يَفْتَحُ بَنَانُ الْبَيَانِ أَبْوَابَ مُغْلَقَاتِهِ فَلَطَائِفُهُ بَعْدُ تَحْتَ حُجُبِ الْأَلْفَاظِ مَسْتُورَةٌ وَخَرَائِدُهُ فِي خِيَامِ الْأَسْتَارِ مَقْصُورَةٌ تَرَى حَوَالَيْهَا هِمَمًا مُسْتَشْرِفَةَ الْأَعْنَاقِ، وَدُونَ الْوُصُولِ إلَيْهَا أَعْيُنًا سَاهِرَةَ الْأَحْدَاقِ، فَأَمَرْت بِلِسَانِ الْإِلْهَامِ، لَا كَوَهْمٍ مِنْ الْأَوْهَامِ، أَنْ أَخُوضَ فِي لُجَجِ فَوَائِدِهِ وَأَغُوصَ عَلَى غُرَرِ فَرَائِدِهِ، وَأَنْشُرَ مَطْوِيَّاتِ رُمُوزِهِ، وَأُظْهِرَ مَخْفِيَّاتِ كُنُوزِهِ، وَأُسَهِّلَ مَسَالِكَ شِعَابِهِ، وَأُذَلِّلَ شَوَارِدَ صِعَابِهِ، بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمَتْنُ مَشْرُوحًا، وَيَزِيدُ الشَّرْحُ بَيَانًا وَوُضُوحًا، فَطَفِقْت أَقْتَحِمُ مَوَارِدَ الشَّهْرِ فِي ظُلَمِ الدَّيَاجِرِ، وَأَحْتَمِلُ مُكَابَدَ الْفِكْرِ فِي ظَمَإِ الْهَوَاجِرِ، رَاكِبًا كُلَّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ، لِاقْتِنَاصِ شَوَارِدِ الْأُصُولِ، وَنَازِفًا غِلَالَةَ الْجِدِّ فِي الْأُصُولِ إلَى مَقَاصِدِ الْأَبْوَابِ وَالْفُصُولِ، حَتَّى اسْتَوْلَيْت عَلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى مِنْ أَسْرَارِ الْكِتَابِ، وَأَمَطْت عَنْ وُجُوهِ خَرَائِدِ قِنَاعِ الِارْتِيَابِ، ثُمَّ جَمَعْت هَذَا الشَّرْحَ الْمَرْسُومَ بِالتَّلْوِيحِ إلَى كَشْفِ حَقَائِقِ التَّنْقِيحِ. مُشْتَمِلًا عَلَى تَقْرِيرِ قَوَاعِدِ الْفَنِّ وَتَحْرِيرِ مَعَاقِدِهِ، وَتَفْسِيرِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ وَتَكْثِيرِ فَوَائِدِهِ، مَعَ تَنْقِيحٍ لِمَا آثَرَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ بَسْطَ الْكَلَامِ، وَتَوْضِيحٍ لِمَا اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى ضَبْطِ الْمَرَامِ، فِي ضِمْنِ تَقْرِيرَاتِ تَنْفَتِحُ لِوُرُودِهَا أَصْدَافُ الْآذَانِ، وَتَحْقِيقَاتٍ تَهْتَزُّ لِإِدْرَاكِهَا أَعْطَافُ الْأَذْهَانِ، وَتَوْجِيهَاتٍ يَنْشَطُ لِاسْتِمَاعِهَا الْكَسْلَانُ، وَتَقْسِيمَاتٍ يَطْرَبُ عِنْدَ سَمَاعِهَا الثَّكْلَانُ، مُعَوِّلًا فِي مُتُونِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا اُشْتُهِرَ مِنْ الْكُتُبِ الشَّرِيفَةِ، وَمُعَرِّجًا فِي عُيُونِ الدِّرَايَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ النُّكَتِ اللَّطِيفَةِ، وَسَيَحْمَدُ الْغَائِصُ فِي بِحَارِ التَّحْقِيقِ الْفَائِضِ عَلَيْهِ أَنْوَارُ التَّوْفِيقِ، مَا أَوْدَعْت هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي لَا يَسْتَكْشِفُ الْقِنَاعَ عَنْ حَقَائِقِهِ إلَّا الْمَاهِرُ مِنْ عُلَمَاءِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَا يَسْتَهِلُّ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى دَقَائِقِهِ إلَّا الْبَارِعُ فِي أُصُولِ الْمَذْهَبَيْنِ، مَعَ بِضَاعَةٍ فِي صِنَاعَةِ التَّوْجِيهِ وَالتَّعْدِيلِ، وَإِحَاطَةٍ بِقَوَانِينِ، الِاكْتِسَابِ وَالتَّحْصِيلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَلِيُّ الْإِعَانَةِ وَالتَّأْيِيدِ، وَالْمَلِيُّ بِإِفَاضَةِ الْإِصَابَةِ وَالتَّسْدِيدِ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. (قَوْلُهُ حَامِدًا) حَالٌ مِنْ الْمُسْتَكِنِ فِي مُتَعَلَّقِ الْبَاءِ أَيْ بِسْمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ الْكِتَابَ حَامِدًا آثَرَ طَرِيقَةَ الْحَالِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ نَحْوُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَحْمَدُ اللَّهَ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْحَمْدِ وَالتَّسْمِيَةِ وَرِعَايَةً لِلتَّنَاسُبِ بَيْنَهُمَا فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِبِسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ فَهُوَ أَجْزَمُ» فَحَاوَلَ أَنْ يَجْعَلَ الْحَمْدَ قَيْدًا لِلِابْتِدَاءِ حَالًا عَنْهُ كَمَا وَقَعَتْ التَّسْمِيَةُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ

الصَّلَوَاتِ مُجَلِّيًا وَمُصَلِّيًا. وَبَعْدُ: فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُتَوَسِّلَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَقْوَى الذَّرِيعَةِ عُبَيْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَدَّمَ التَّسْمِيَةَ؛ لِأَنَّ النَّصَّيْنِ مُتَعَارِضَانِ ظَاهِرًا، إذْ الِابْتِدَاءُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ يُفَوِّتُ الِابْتِدَاءَ بِالْآخَرِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بِأَنْ يُقَدَّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَيَقَعُ الِابْتِدَاءُ بِهِ حَقِيقَةً وَبِالْآخَرِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا سِوَاهُ فَعَمِلَ بِالْكِتَابِ الْوَارِدِ بِتَقْدِيمِ التَّسْمِيَةِ وَالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَيْهِ وَتَرَكَ الْعَاطِفَ لِئَلَّا يُشْعِرَ بِالتَّبَعِيَّةِ فَيُخِلُّ بِالتَّسْوِيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَامِدًا حَالًا مِنْ فَاعِلِ يَقُولُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَبَعْدُ فَإِنَّ الْعَبْدَ عَلَى مَا فِي النُّسْخَةِ الْمُقَرَّرَةِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ صَارِفٌ عَنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا عَلَى النُّسْخَةِ الْقَدِيمَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ هَذَا الصَّارِفِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَالٌ عَنْهُ. وَأَمَّا تَفْصِيلُ الْحَمْدِ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا وَثَانِيًا فَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ أَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ عَلَى النِّعْمَةِ وَغَيْرِهَا فَاَللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ أَوَّلًا بِكَمَالِ ذَاتِهِ وَعَظَمَةِ صِفَاتِهِ وَثَانِيًا بِجَمِيلِ نَعْمَائِهِ وَجَزِيلِ آلَائِهِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا التَّوْفِيقُ لِتَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ الثَّانِي أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى كَثْرَتِهَا تَرْجِعُ إلَى إيجَادٍ وَإِبْقَاءٍ أَوَّلًا وَإِيجَادٍ وَإِبْقَاءٍ ثَانِيًا فَيَحْمَدَهُ عَلَى الْقِسْمَيْنِ تَأَسِّيًا بِالسُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالتَّحْمِيدِ حَيْثُ أُشِيرَ فِي الْفَاتِحَةِ إلَى الْجَمِيعِ وَفِي الْأَنْعَامِ إلَى الْإِيجَادِ وَفِي الْكَهْفِ إلَى الْإِبْقَاءِ أَوَّلًا وَفِي السَّبَأِ إلَى الْإِيجَادِ وَفِي الْمَلَائِكَةِ إلَى الْإِبْقَاءِ. ثَانِيًا الثَّالِثُ الْمُلَاحَظَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ} [القصص: 70] عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَا يُعْرَفُ بِالْحُجَّةِ مِنْ كَمَالِهِ وَيَصِلُ إلَى الْعِبَادِ مِنْ نَوَالِهِ وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا يُشَاهَدُ مِنْ كِبْرِيَائِهِ وَيُعَايَنُ مِنْ نَعْمَائِهِ الَّتِي لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] فَإِنْ قُلْت فَقَدْ وَقَعَ التَّعَرُّضُ لِلْحَمْدِ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ وَالْآلَاءِ فِي دَارَيْ الْفَنَاءِ وَالْبَقَاءِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَلِعَنَانِ الثَّنَاءِ ثَانِيًا أَيْ: صَارِفًا عَطْفًا عَلَى " حَامِدًا " قُلْتُ: مَعْنَاهُ قَصْدُ تَعْظِيمِهِ وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ إلَيْهِ فِي كُلِّ مَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَصَرْفُ الْأَمْوَالِ إشَارَةٌ إلَى أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَالْحَمْدُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّسَانِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَعْرِضَ عَنْ جَانِبِ الْخَلْقِ وَيَصْرِفَ أَعِنَّةَ الثَّنَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ إلَى جَنَابِ الْحَقِّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَالِمًا بِأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلثَّنَاءِ وَحْدَهُ، فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ شَرْطِ الْحَالِ الْمُقَارَنَةُ لِلْعَامِلِ وَالْأَحْوَالُ الْمَذْكُورَةُ أَعْنِي حَامِدًا وَغَيْرَهُ لَا تُقَارِنُ الِابْتِدَاءَ بِالتَّسْمِيَةِ قُلْتُ: لَيْسَ الْبَاءُ صِلَةً لِ " أَبْتَدِئُ " بَلْ الظَّرْفُ حَالٌ وَالْمَعْنَى مُتَبَرِّكًا بِسْمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ الْكِتَابَ، وَالِابْتِدَاءُ أَمْرٌ عُرْفِيٌّ يُعْتَبَرُ مُمْتَدًّا مِنْ حِينِ الْأَخْذِ فِي التَّصْنِيفِ إلَى الشَّرْعِ فِي الْبَحْثِ وَيُقَارِنُهُ التَّبَرُّكُ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ يَكُونُ حَامِدًا ثَانِيًا بِمَعْنَى نَاوِيًا لِلْحَمْدِ وَعَازِمًا عَلَيْهِ لِيَكُونَ مُقَارِنًا لِلْعَامِلِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ قُلْتُ: يُجْعَلُ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ أَيْ وَحَامِدًا ثَانِيًا بِمَعْنَى عَازِمًا عَلَيْهِ

اللَّهِ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ سَعِدَ جَدُّهُ وَأُنْجِحَ جَدُّهُ يَقُولُ لَمَّا وَفَّقَنِي اللَّهُ بِتَأْلِيفِ تَنْقِيحِ الْأُصُولِ أَرَدْت أَنْ أَشْرَحَ مُشْكِلَاتِهِ وَأَفْتَحَ مُغْلَقَاتِهِ مُعْرِضًا عَنْ شَرْحِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي مَنْ يَحِلُّهَا بِغَيْرِ إطْنَابٍ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ وَاعْلَمْ أَنِّي لَمَّا سَوَّدْت كِتَابَ التَّنْقِيحِ، وَسَارَعَ بَعْضُ الْأَصْحَابِ إلَى انْتِسَاخِهِ وَمُبَاحَثَتِهِ وَانْتَشَرَ النَّسْخُ فِي بَعْضِ الْأَطْرَافِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ قَلِيلٌ مِنْ التَّغْيِيرَاتِ وَشَيْءٌ مِنْ الْمَحْوِ وَالْإِثْبَاتِ فَكَتَبْت فِي هَذَا الشَّرْحِ عِبَارَةَ الْمَتْنِ عَلَى النَّمَطِ الَّذِي تَقَرَّرَ عِنْدِي لِتَغْيِيرِ النُّسَخِ الْمَكْتُوبَةِ قَبْلَ التَّغْيِيرَاتِ إلَى هَذَا النَّمَطِ، ثُمَّ لَمَّا تَيَسَّرَ إتْمَامُهُ وَفُضَّ بِالِاخْتِتَامِ خِتَامُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى تَعْرِيفَاتٍ وَحُجَجٍ مُؤَسَّسَةٍ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَعْقُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ. قَوْلُهُ (وَعَلَى أَفْضَلِ رُسُلِهِ مُصَلِّيًا) لَمَّا كَانَ أَجَلُّ النِّعَمِ الْوَاصِلَةِ إلَى الْعَبْدِ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَبِهِ التَّوَصُّلُ إلَى النِّعَمِ الدَّائِمَةِ فِي دَارِ السَّلَامِ، وَذَلِكَ بِتَوَسُّطِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَارَ الدُّعَاءُ لَهُ تِلْوَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَأَرْدَفَ الْحَمْدَ بِالصَّلَاةِ، وَفِي تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِاسْمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى مَا فِي النُّسْخَةِ الْمُقَرَّرَةِ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ أَفْضَلَ الرُّسُلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَمْرٌ جَلِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ. وَالْحَلْبَةُ بِالسُّكُونِ خَيْلٌ تُجْمَعُ لِلسِّبَاقِ مِنْ كُلِّ أَوْبٍ اُسْتُعِيرَتْ لِلْمِضْمَارِ. وَالْمُجَلِّي هُوَ السَّابِقُ مِنْ أَفْرَاسِ السِّبَاقِ وَالْمُصَلِّي هُوَ الَّذِي يَتْلُوهُ؛ لِأَنَّ رَأْسَهُ عِنْدَ صَلَوَيْهِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ تَكْثِيرُ الصَّلَاةِ وَتَكْرِيرُهَا أَوْ أَشَارَ بِالْمُجَلِّي إلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ وَبِالْمُصَلِّي إلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ ضِمْنًا وَتَبَعًا، ثُمَّ لَا يَخْفَى حُسْنُ مَا فِي قَرَائِنِ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ مِنْ التَّجْنِيسِ وَمَا فِي الْقَرِينَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ بِالْكِنَايَةِ وَالتَّخْيِيلِ وَالتَّرْشِيحِ وَمَا فِي الرَّابِعَةِ مِنْ التَّمْثِيلِ، وَإِنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولَاتِ فِي الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ الْأَخِيرَةِ لِرِعَايَةِ السَّجْعِ وَالِاهْتِمَامِ، إذْ الْحَصْرُ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ، وَإِنَّ انْتِصَابَ أَوَّلًا وَثَانِيًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَأَمَّا التَّنْوِينُ فِي أَوَّلًا مَعَ أَنَّهُ أَفْعَلُ التَّفْضِيلِ بِدَلِيلِ الْأُولَى وَالْأَوَائِلِ كَالْفَضْلِ وَالْأَفَاضِلِ فَلِأَنَّهُ هَاهُنَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى قَبْلُ، وَهُوَ حِينَئِذٍ مُنْصَرِفٌ لَا وَصْفِيَّةَ لَهُ أَصْلًا، وَهَذَا مَعْنَى مَا قَالَ فِي الصِّحَاحِ إذَا جَعَلْته صِفَةً لَمْ تَصْرِفْهُ تَقُولُ لَقِيتُهُ عَامًا أَوَّلَ وَإِذَا لَمْ تَجْعَلْهُ صِفَةً صَرَفْته تَقُولُ لَقِيتُهُ عَامًا أَوَّلًا وَمَعْنَاهُ فِي الْأَوَّلِ أَوَّلُ مِنْ هَذَا الْعَامِ، وَفِي الثَّانِي قَبْلَ هَذَا الْعَامِ. قَوْلُهُ (سَعِدَ جَدُّهُ) فِيهِ إيهَامٌ، إذْ الْجَدُّ الْبَخْتُ وَأَبُ الْأَبِ. قَوْلُهُ (وَفَّقَنِي اللَّهُ) التَّوْفِيقُ جَعْلُ الْأَسْبَابِ مُتَوَافِقَةً وَيُعَدَّى بِاللَّامِ وَتَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ تَسَامُحٌ أَوْ تَضْمِينٌ لِمَعْنَى التَّشْرِيفِ وَالْمُصَنِّفُ كَثِيرًا مَا يَتَسَامَحُ فِي صَلَاةِ الْأَفْعَالِ مَيْلًا مِنْهُ إلَى جَانِبِ الْمَعْنَى. قَوْلُهُ (وَفَضُّ) مِنْ فَضَضْت خَتْمَ الْكِتَابِ فَتَحْته وَالْفَضُّ الْكَسْرُ بِالتَّفْرِيقِ وَاخْتَتَمْت الْكِتَابَ بَلَغْتُ آخِرَهُ وَالْخِتَامُ الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ جَعَلَ الْكِتَابَ قَبْلَ التَّمَامِ لِاحْتِجَابِهِ عَنْ نَظَرِ الْأَنَامِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ الْمَخْتُومِ الَّذِي لَا يُطَّلَعُ عَلَى مَخْزُونَاتِهِ وَلَا يُحَاطُ بِمُسْتَوْدَعَاتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ عَرْضَهُ عَلَى الطَّالِبِينَ بَعْدَ الِاخْتِتَامِ وَعَدَمَ مَنْعِهِمْ عَنْ مُطَالَعَتِهِ بَعْدَ التَّمَامِ بِمَنْزِلَةِ فَضِّ الْخِتَامِ. قَوْلُهُ (مُؤَسَّسَةً عَلَى قَوَاعِدِ الْمَعْقُولِ) أَيْ مَبْنِيَّةً عَلَى

وَتَفْرِيعَاتٍ مُرَصَّصَةٍ بَعْدَ ضَبْطِ الْأُصُولِ وَتَرْتِيبٍ أَنِيقً لَمْ يَسْبِقْنِي عَلَى مِثْلِهِ أَحَدٌ مَعَ تَدْقِيقَاتٍ غَامِضَةٍ لَمْ يَبْلُغْ فُرْسَانُ هَذَا الْعِلْمِ إلَى هَذَا الْأَمَدِ سَمَّيْت هَذَا الْكِتَابَ بِالتَّوْضِيحِ فِي حَلِّ غَوَامِضِ التَّنْقِيحِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَسْئُولٌ أَنْ يَعْصِمَ عَنْ الْخَطَأِ وَالْخَلَلِ كَلَامَنَا وَعَنْ السَّهْوِ وَالزَّلَلِ أَقْلَامَنَا وَأَقْدَامَنَا. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] افْتَتَحَ بِالضَّمِيرِ قَبْلَ الذِّكْرِ لِيَدُلَّ عَلَى حُضُورِهِ فِي الذِّهْنِ، فَإِنَّ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ لَا يَكُونُ فِي الذِّهْنِ سِيَّمَا عِنْدَ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] وَقَوْلُهُ {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] وَقَوْلُهُ الطَّيِّبُ صِفَةُ الْكَلِمِ. وَالْكَلِمُ إنْ كَانَ جَمْعًا وَكُلُّ جَمْعٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدَةٍ بِالتَّاءِ يَجُوزُ فِي وَصْفِهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ نَحْوُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ وَنَحْوُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوُجُوهِ وَالشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي عِلْمِ الْمِيزَانِ لَا كَمَا هُوَ دَأْبُ قُدَمَاءِ الْمَشَايِخِ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى حُصُولِ الْمَقْصُودِ. قَوْلُهُ (وَتَرْتِيبٍ أَنِيقً) أَيْ: حَسَنٍ مُعْجِبٍ يُرِيدُ بِهِ بَعْضَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْمَبَاحِثِ وَالْأَبْوَابِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَحْسَنِ الْأَلْيَقِ لَمْ يَسْبِقْنِي وَالصَّوَابُ لَمْ يَسْبِقْنِي إلَى مِثْلِهِ سَبَقْت الْعَالَمِينَ إلَى الْمَعَالِي. 1 - قَوْلُهُ (لَمْ يَبْلُغْ) صِفَةُ تَدْقِيقَاتٍ وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَمْ يَبْلُغْهَا فُرْسَانُ عِلْمِ الْأُصُولِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ الْمُرَادُ لَمْ يَصِلْ فُرْسَانُ هَذَا الْعِلْمِ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ مِنْ التَّدْقِيقِ فَيَكُونُ مِنْ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ وَتَعْدِيَةُ الْبُلُوغِ بِإِلَى لِجَعْلِهِ بِمَعْنَى الْوُصُولِ وَالِانْتِهَاءِ. قَوْلُهُ (سَمَّيْت هَذَا الْكِتَابَ) جَوَابٌ لَمَّا وَضَعَ اسْمَ الْإِشَارَةِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِتَمْيِيزِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: لَمَّا لِثُبُوتِ الثَّانِي لِثُبُوتِ الْأَوَّلِ فَيَقْتَضِي سَبَبِيَّةَ مَا ذَكَرَهُ بَعْدَ لَمَّا لِتَسْمِيَةِ هَذَا الْكِتَابِ بِالتَّوْضِيحِ فَمَا وَجْهُهُ قُلْتُ: وَجْهُهُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي إتْمَامِهِ لِلشَّرْحِ الْمَذْكُورِ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ شَرْحٌ لِمُشْكِلَاتِ التَّنْقِيحِ وَفَتْحٌ لِمُغْلَقَاتِهِ وَإِتْمَامُ مِثْلِ هَذَا الشَّرْحِ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ يَصْلُحُ سَبَبًا لِتَسْمِيَتِهِ بِالتَّوْضِيحِ فِي حَلِّ غَوَامِضِ التَّنْقِيحِ. قَوْلُهُ (إلَيْهِ يَصْعَدُ) افْتِتَاحٌ غَرِيبٌ وَاقْتِبَاسٌ لَطِيفٌ أَتَى بِالضَّمِيرِ قَبْلَ الذِّكْرِ دَلَالَةً عَلَى حُضُورِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ سِيَّمَا عِنْدَ افْتِتَاحِ الْكَلَامِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَإِشَارَةً إلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُتَعَيِّنٌ لِتَوَجُّهِ الْمَحَامِدِ إلَيْهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّصْرِيحِ بِذِكْرِهِ وَلَا يَذْهَبُ الْوَهْمُ إلَى غَيْرِهِ، إذْ لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالَةُ وَمِنْهُ الْعَطَاءُ وَالنَّوَالُ وَإِيمَاءً إلَى أَنَّ الشَّارِعَ فِي الْعُلُومِ الْإِسْلَامِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَطْمَحُ نَظَرِهِ وَمَقْصِدُ هِمَّتِهِ جَنَابَ الْحَقِّ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَيَقْتَصِرُ عَلَى طَلَبِ رِضَاهُ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا سِوَاهُ لَا يُقَالُ: إنْ ابْتَدَأَ الْمَتْنَ بِالتَّسْمِيَةِ فَلَا إضْمَارَ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَإِنْ لَمْ يَبْدَأْ لَزِمَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ أَنْ تُذْكَرَ التَّسْمِيَةُ بِاللِّسَانِ أَوْ تَخْطُرَ بِالْبَالِ أَوْ تُكْتَبَ عَلَى قَصْدِ التَّبَرُّكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُجْعَلَ جُزْءًا مِنْ الْكِتَابِ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ يَكُونُ الْإِضْمَارُ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَرْجِعِ فِي الْكِتَابِ، وَالصُّعُودُ الْحَرَكَةُ إلَى الْمَعَالِي مَكَانًا وَجِهَةً

مُنْقَعِرٍ (مِنْ مَحَامِدَ لِأُصُولِهَا مِنْ شَارِعِ الشَّرْعِ مَاءً وَلِفُرُوعِهَا مِنْ قَبُولِ الْقَبُولِ نَمَاءً) الْقَبُولُ ـــــــــــــــــــــــــــــQاُسْتُعِيرَ لِلتَّوَجُّهِ إلَى الْعَالِي قَدْرًا وَمَرْتَبَةً وَالْكَلِمُ مِنْ الْكَلِمَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّمْرِ مِنْ التَّمْرَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْجِنْسِيِّ وَوَاحِدِهِ بِالتَّاءِ، وَاللَّفْظُ مُفْرَدٌ إلَّا أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُسَمَّى جَمْعًا نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى الْجِنْسِيِّ وَلِاعْتِبَارِ جَانِبَيْ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى يَجُوزُ فِي وَصْفِهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] أَيْ مُنْقَطِعٍ عَنْ مَغَارِسِهِ سَاقِطٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَقَالَ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] أَيْ مُتَآكِلَةِ الْأَجْوَافِ، ثُمَّ الْكَلِمُ غُلِّبَ عَلَى الْكَثِيرِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْوَاحِدِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا جَمْعُ كَلِمَةٍ وَلَيْسَ عَلَى حَدِّ تَمْرٍ وَتَمْرَةٍ إلَّا أَنَّ الْكَلِمَ الطَّيِّبَ بِتَذْكِيرِ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَعَ أَنَّ " فَعِلًا " لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْجَمْعِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِي أَنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ كَتَمْرٍ وَرَكْبٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِجَمْعٍ كَنِسَبٍ وَرُتَبٍ فَفِي قَوْلِهِ وَالْكَلِمُ إنْ كَانَ جَمْعًا حَرَازَةٌ لَا تَخْفَى وَالصَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ بِالْوَاوِ. قَوْلُهُ (مِنْ مَحَامِدَ) حَالٌ مِنْ الْكَلِمِ بَيَانًا لَهُ عَلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هُوَ «سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، إذَا قَالَهَا الْعَبْدُ عَرَجَ بِهَا الْمَلَكُ إلَى السَّمَاءِ فَحَيَّا بِهَا وَجْهَ الرَّحْمَنِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمْ يُقْبَلْ» ، وَإِنَّمَا صَلُحَ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ بَيَانًا لِلْمُعَرَّفِ الْمُسْتَغْرَقِ لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ تَعُمُّ بِالْوَصْفِ كَامْرَأَةٍ كُوفِيَّةٍ، وَلِأَنَّ التَّنْكِيرَ هَاهُنَا لِلتَّكْثِيرِ، وَهُوَ يُنَاسِبُ التَّعْمِيمَ. وَالْمَحَامِدُ جَمْعُ مَحْمَدَةٍ بِمَعْنَى الْحَمْدِ، وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْجَمِيلِ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا بِالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ بِاللِّسَانِ. وَالشُّكْرُ مُقَابَلَةُ النِّعْمَةِ بِالْإِظْهَارِ وَتَعْظِيمُ الْمُنْعِمِ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا أَوْ اعْتِقَادًا فَلِاخْتِصَاصِ الْحَمْدِ بِاللِّسَانِ كَانَ بَيَانُ الْكَلِمِ بِهَا أَنْسَبَ وَالْمَشَارِعُ جَمْعُ مَشْرَعَةِ الْمَاءِ وَهِيَ مَوْرِدُ الشَّارِبَةِ وَالشَّرْعُ وَالشَّرِيعَةُ مَا شَرَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ الدِّينِ أَيْ أَظْهَرَ وَبَيَّنَ وَحَاصِلُهُ الطَّرِيقَةُ الْمَعْهُودَةُ الثَّابِتَةُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - جَعَلَهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ رَوْضَاتٍ وَجَنَّاتٍ فَأَثْبَتَ لَهَا مَشَارِعَ يَرِدُهَا الْمُتَعَطِّشُونَ إلَى زُلَالِ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ أَثْبَتَ لِقَبُولِ الْعِبَادَةِ الَّذِي هُوَ مَهَبُّ أَلْطَافِ الرَّحْمَنِ وَمَطْلَعُ أَنْوَارِ الْغُفْرَانِ رِيحَ الصَّبَا الَّتِي بِهَا رُوحُ الْأَبْدَانِ وَنَمَاءُ الْأَغْصَانِ فَإِنَّ الْقَبُولَ الْأَوَّلَ رِيحُ الصَّبَا وَمَهَبُّهَا الْمُسْتَوِي مَطْلَعُ الشَّمْسِ إذَا اسْتَوَى اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَيُقَابِلُهَا الدَّبُورُ وَالْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ الدَّبُورَ تُزْعِجُ السَّحَابَ وَتُشَخِّصُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ تَسُوقُهُ فَإِذَا عَلَا كُشِفَ عَنْهُ وَاسْتَقْبَلَتْهُ الصَّبَا فَوَزَّعَتْ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَصِيرَ كِسَفًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَنْزِلُ مَطَرًا تَنْمِي بِهِ الْأَشْجَارُ وَالْقَبُولُ الثَّانِي مِنْ الْمَصَادِرِ الشَّاذَّةِ لَمْ يُسْمَعْ لَهُ ثَانٍ وَالنَّمَاءُ الزِّيَادَةُ وَالِارْتِفَاعُ نَمَا يَنْمِي نَمَاءً وَنَمَا يَنْمُو نُمُوًّا وَحَقِيقَةُ النُّمُوِّ الزِّيَادَةُ فِي أَقْطَارِ الْجِسْمِ عَلَى تَنَاسُبٍ طَبِيعِيٍّ، ثُمَّ فِي وَصْفِ الْمَحَامِدِ بِمَا ذَكَرَ تَلْمِيحٌ إلَى قَوْله تَعَالَى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24] فَإِنَّ الْمَحَامِدَ لَمَّا كَانَتْ هِيَ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ فَالْمَحْمَدَةُ

الْأَوَّلُ رِيحُ الصِّبَا (عَلَى أَنْ جَعَلَ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ مُمَهَّدَةَ الْمَبَانِي وَفُرُوعَهَا رَقِيقَةَ الْحَوَاشِي) أَيْ لَطِيفَةَ الْأَطْرَافِ وَالْجَوَانِبِ وَدَقِيقَةَ الْمَعَانِي (بُنِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ قَصَرَ الْأَحْكَامَ وَأَحْكَمَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَجَرَةٌ لَهَا أَصْلٌ هُوَ الْإِيمَانُ وَالِاعْتِقَادَاتُ وَفُرُوعٌ هُوَ الْأَعْمَالُ وَالطَّاعَاتُ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَمْدَ، وَإِنْ كَانَ فِي اللُّغَةِ فِعْلَ اللِّسَانِ خَاصَّةً إلَّا أَنَّ حَمْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيرِهِ لَيْسَ قَوْلَ الْقَائِلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ مَا يُشْعِرُ بِتَعْظِيمِهِ وَيُنْبِئُ عَنْ تَمْجِيدِهِ مِنْ اعْتِقَادِ اتِّصَافِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالتَّرْجَمَةِ عَنْ ذَلِكَ بِالْمَقَالِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ فَالِاعْتِقَادُ أَصْلٌ لَوْلَاهُ لَكَانَ الْحَمْدُ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ وَالْعَمَلُ فَرْعٌ لَوْلَاهُ لَمَا كَانَ لِلْحَمْدِ نَمَاءٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَبُولٌ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ دَوْحَةٍ لَا غُصْنَ لَهَا وَشَجَرَةٍ لَا ثَمَرَةَ عَلَيْهَا، إذْ الْعَمَلُ هُوَ الْوَسِيلَةُ إلَى نَيْلِ الْجَنَّاتِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، وَفِي الْحَدِيثِ «فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَمَلٌ صَالِحٌ لَمْ يُقْبَلْ» فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ لِشَجَرَةِ الْمَحَامِدِ أَصْلًا ثَابِتًا هُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّاسِخُ الْإِسْلَامِيُّ الْمُبْتَنَى عَلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ وَالصِّفَاتِ وَفَرْعًا نَامِيًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَقْبُولًا عِنْدَهُ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ الْمُوَافِقُ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ الْمُبْتَنَى عَلَى عِلْمِ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ وَأَشَارَ إلَى الِاخْتِصَاصِ وَالدَّوَامِ بِقَوْلِهِ إلَيْهِ يَصْعَدُ بِتَقْدِيمِ الظَّرْفِ الْمُفِيدِ لِلِاخْتِصَاصِ وَلَفْظِ الْمُضَارِعِ الْمُنْبِئِ عَنْ الِاسْتِمْرَارِ. قَوْلُهُ (عَلَى أَنْ جَعَلَ) تَعْلِيقٌ لِلْمَحَامِدِ بِبَعْضِ النِّعَمِ إشَارَةً إلَى عِظَمِ أَمْرِ الْعِلْمِ الَّذِي وَقَعَ التَّصْنِيفُ فِيهِ وَدَلَالَةً عَلَى جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَالشَّرِيعَةُ نِعْمَ الْفِقْهُ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ كَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَالْمَعَادِ وَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ حُجَّةً وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَأُصُولُ الشَّرِيعَةُ أَدِلَّتُهَا الْكُلِّيَّةُ وَمَبَانِي الْأُصُولِ مَا تُبْتَنَى هِيَ عَلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَتَمْهِيدُهَا تَسْوِيَتُهَا وَإِصْلَاحُهَا بِكَوْنِهَا عَلَى وَفْقِ الْحَقِّ وَنَهْجِ الصَّوَابِ وَفُرُوعُ الشَّرِيعَةِ أَحْكَامُهَا الْمُفَصِّلَةُ الْمُبَيِّنَةُ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَمَعَانِيهَا الْعِلَلُ الْجُزْئِيَّةُ التَّفْصِيلِيَّةُ عَلَى كُلِّ مَسْأَلَةٍ وَدِقَّتهَا كَوْنُهَا غَامِضَةً لَطِيفَةً لَا يَصِلُ إلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ بِسُهُولَةٍ وَجَمِيعُ ذَلِكَ نِعَمٌ تَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ، إذْ بِالشَّرِيعَةِ نِظَامُ الدُّنْيَا وَثَوَابُ الْعُقْبَى وَبِدِقَّةِ مَعَانِي الْفِقْهِ رِفْعَةُ دَرَجَاتِ الْعُلَمَاءِ وَنَيْلُهُمْ الثَّوَابَ فِي دَارِ الْجَزَاءِ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِلْمَ الْأُصُولِ فَوْقَ الْفِقْهِ وَدُونَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ بِأَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ الْكُلِّيَّةِ مِنْ حَيْثُ تُوَصِّلُ إلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَصِدْقِ الْمُبَلِّغِ وَدَلَالَةِ مُعْجِزَاتِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عِلْمُ الْكَلَامِ الْبَاحِثُ عَنْ أَحْوَالِ الصَّانِعِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْمَعَادِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ عَلَى قَانُونِ الْإِسْلَامِ. قَوْلُهُ (بُنِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ) بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ مِنْ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ شَبَّهَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِقَصْرٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُلْتَجِئَ إلَيْهَا يَأْمَنُ مِنْ غَوَائِلِ عَدُوِّ الدِّينِ وَعَذَابِ النَّارِ

بِالْمُحْكَمَاتِ غَايَةَ الْإِحْكَامِ وَجَعَلَ الْمُتَشَابِهَاتِ مَقْصُورَاتِ خِيَامِ الِاسْتِتَارِ ابْتِلَاءً لِقُلُوبِ الرَّاسِخِينَ) فَإِنَّ إنْزَالَ الْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى مَذْهَبِنَا وَهُوَ الْوَقْفُ اللَّازِمُ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] لِابْتِلَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِكَبْحِ عَنَانِ ذِهْنِهِمْ عَنْ التَّفَكُّرِ فِيهَا، وَالْوُصُولِ إلَى مَا يَشْتَاقُونَ إلَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِالْأَسْرَارِ الَّتِي أَوْدَعَهَا فِيهَا وَلَمْ يُظْهِرْ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ عَلَيْهَا (وَالنُّصُوصُ مِنَصَّةُ عَرَائِسِ أَبْكَارِ أَفْكَارِ الْمُتَفَكِّرِينَ) مِنَصَّةُ الْعَرُوسِ مَكَانٌ يُرْفَعُ الْعَرُوسُ عَلَيْهِ لِلْجِلْوَةِ (وَكَشْفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَأَضَافَ الْمُشَبَّهَ بِهِ إلَى الْمُشَبَّهِ كَمَا فِي لُجَيْنِ الْمَاءِ وَالْأَحْكَامُ تَسْتَنِدُ إلَى أَدِلَّةٍ جُزْئِيَّةٍ تَرْجِعُ مَعَ كَثْرَتِهَا إلَى أَرْبَعَةِ دَلَائِلَ هِيَ أَرْكَانُ قَصْرِ الْأَحْكَامِ فَذَكَرَهَا فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي بَنَى الشَّارِعُ الْأَحْكَامَ عَلَيْهَا مِنْ تَقْدِيمِ الْكِتَابِ، ثُمَّ السُّنَّةِ، ثُمَّ الْإِجْمَاعِ، ثُمَّ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ صَرِيحًا وَالْقِيَاسَ بِقَوْلِهِ وَوَضَعَ مَعَالِمَ الْعِلْمِ عَلَى مَسَالِكِ الْمُعْتَبِرِينَ أَيْ الْقَائِلِينَ الْمُتَأَمِّلِينَ فِي النُّصُوصِ وَعَلَّلَ الْأَحْكَامَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] تَقُولُ اعْتَبَرْت الشَّيْءَ إذَا نَظَرْت إلَيْهِ وَرَاعَيْت وَالْعِلْمُ الْأَثَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّتِي بِهَا يُسْتَدَلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمَقِيسِ، فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ تَرْتِيبُ الشَّارِعِ تَقْدِيمَ السُّنَّةِ عَلَى الْإِجْمَاعِ مُطْلَقًا، بَلْ إذَا كَانَتْ قَطْعِيَّةً قُلْتُ: الْكَلَامُ فِي مَتْنِ السُّنَّةِ وَلَا خَفَاءَ فِي تَقَدُّمِهِ، وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ حَيْثُ يُؤَخَّرُ لِعَارِضِ الظَّنِّ فِي ثُبُوتِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ أَقْسَامِ الْكِتَابِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ كَمَا يَشْتَمِلُ الْقَصْرُ عَلَى مَا هُوَ غَايَةٌ فِي الظُّهُورِ وَعَلَى مَا هُوَ دُونَهُ وَعَلَى مَا هُوَ غَايَةٌ فِي الْخَفَاءِ وَالِاسْتِتَارِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ غَيْرُ رَبِّ الْقَصْرِ وَعَلَى مَا هُوَ دُونَهُ كَذَلِكَ قَصْرُ الْأَحْكَامِ يَشْتَمِلُ عَلَى مُحْكَمٍ هُوَ غَايَةٌ فِي الظُّهُورِ وَنَصٍّ هُوَ دُونَهُ وَعَلَى مُتَشَابِهٍ هُوَ غَايَةٌ فِي الْخَفَاءِ وَمُجْمَلٍ هُوَ دُونَهُ وَسَيَجِيءُ تَفْسِيرُهَا. قَوْلُهُ (مَقْصُورَاتٌ) أَيْ مَحْبُوسَاتٌ جَعَلَ خِيَامَ الِاسْتِتَارِ مَضْرُوبَةً عَلَى الْمُتَشَابِهِ مُحِيطَةً بِهِ بِحَيْثُ لَا يُرْجَى بُدُوُّهُ وَظُهُورُهُ أَصْلًا عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ مِنْ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَفَائِدَةُ إنْزَالِهِ ابْتِلَاءُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِمَنْعِهِمْ عَنْ التَّفْكِيرِ فِيهِ وَالْوُصُولِ إلَى مَا هُوَ غَايَةُ مُتَمَنَّاهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِأَسْرَارِهِ فَكَمَا أَنَّ الْجُهَّالَ مُبْتَلَوْنَ بِتَحْصِيلِ مَا هُوَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِمْعَانِ فِي الطَّلَبِ كَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ مُبْتَلَوْنَ بِالْوَقْفِ وَتَرْكِ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ عِنْدَهُمْ، إذْ ابْتِلَاءُ كُلِّ أَحَدٍ إنَّمَا يَكُونُ بِمَا هُوَ عَلَى خِلَافِ هَوَاهُ وَعَكْسِ مُتَمَنَّاهُ. قَوْلُهُ (بِكَبْحِ عَنَانِ ذِهْنِهِمْ) تَقُولُ كَبَحْت الدَّابَّةَ إذَا جَذَبْتهَا إلَيْك بِاللِّجَامِ لِكَيْ تَقِفَ وَلَا تَجْرِيَ. قَوْلُهُ (أَوْدَعَهَا فِيهَا) أَيْ أَوْدَعَ اللَّهُ الْأَسْرَارَ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْإِيدَاعُ مُتَعَدٍّ إلَى مَفْعُولَيْنِ تَقُولُ أَوْدَعْته مَالًا إذَا دَفَعْته إلَيْهِ لِيَكُونَ وَدِيعَةً عِنْدَهُ، وَإِنَّمَا عَدَّاهُ بِفِي تَسَامُحًا أَوْ تَضْمِينًا بِمَعْنَى الْإِدْرَاجِ وَالْوَضْعِ. قَوْلُهُ (مَنَصَّةً) بِفَتْحِ الْمِيمِ الْمَكَانُ الَّذِي يُرْفَعُ عَلَيْهِ الْعَرُوسُ لِلْجِلْوَةِ مِنْ نَصَصْت الشَّيْءَ رَفَعْته وَالْعَرُوسُ نَعْتٌ يَسْتَوِي فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مَا دَامَا فِي

الْقِنَاعِ عَنْ جَمَالِ مُجَمَّلَاتٍ كِتَابَةً بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُصْطَفَى وَفَصْلِ خِطَابِهِ) أَيْ الْخِطَابِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ مَا رَفَعَ أَعْلَامَ الدِّينِ بِإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَوَضَعَ مَعَالِمَ الْعِلْمِ عَلَى مَسَالِكِ الْمُعْتَبِرِينَ) أَرَادَ بِمَعَالِمِ الْعِلْمِ الْعِلَلَ الَّتِي يَعْلَمُ الْقَائِسُ بِهَا الْحُكْمَ فِي الْمَقِيسِ، وَأَرَادَ بِالْمُعْتَبِرِينَ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْقَائِسِينَ، وَمَسَالِكُهُمْ هِيَ مَوَاقِعُ سُلُوكِهِمْ بِأَقْدَامِ الْفِكْرِ مِنْ مَوَادِّ النُّصُوصِ إلَى الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ فِي الْفُرُوعِ، فَمَبْدَأُ سُلُوكِهِمْ هُوَ لَفْظُ النَّصِّ فَيَعْبُرُونَ مِنْهُ إلَى مَعَانِيهِ اللُّغَوِيَّةِ الظَّاهِرَةِ، ثُمَّ مِنْهَا إلَى مَعَانِيهِ الشَّرْعِيَّةِ الْبَاطِنَةِ فَيَجِدُونَ فِيهَا عَلَامَاتٍ وَأَمَارَاتٍ وَضَعَهَا الشَّارِعُ لِيَهْتَدُوا بِهَا إلَى مَقَاصِدِهِمْ، وَلَمَّا قَالَ بُنِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ قَصَرَ الْأَحْكَامَ ذَكَرَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَنَى الشَّارِعُ قَصْرَ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا. (وَبَعْدُ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُتَوَسِّلَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَقْوَى الذَّرِيعَةِ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ سَعِدَ جَدُّهُ وَجَدَّ سَعْدُهُ يَقُولُ لَمَّا رَأَيْت فُحُولَ الْعُلَمَاءِ مُكِبِّينَ فِي كُلِّ عَهْدٍ وَزَمَانٍ عَلَى مُبَاحَثَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ) أَيْ مُقْبِلِينَ عَلَيْهَا مِنْ أَكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ سَقَطَ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ أَقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ غَايَةَ الْإِقْبَالِ فَكَأَنَّهُ أَكَبَّ عَلَيْهِ (لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ مُقْتَدَى الْأَئِمَّةِ الْعِظَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ عَلِيٍّ الْبَزْدَوِيِّ بَوَّأَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَارَ السَّلَامِ وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلُ الشَّأْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإعْرَاسِهِمَا يُجْمَعُ الْمُؤَنَّثُ عَلَى عَرَائِسَ وَالْمُذَكَّرُ عَلَى عُرُسٍ بِضَمَّتَيْنِ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ نَوْعُ حَزَازَةٍ؛ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي أُظْهِرَتْ بِالنُّصُوصِ وَجُلِّيَتْ بِهَا عَلَى النَّاظِرِينَ هِيَ مَفْهُومَاتُهَا وَالْأَحْكَامُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْهَا وَهِيَ لَيْسَتْ نَتَائِجَ أَفْكَارِ الْمُتَفَكِّرِينَ، بَلْ أَحْكَامُ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ يَتَأَمَّلُونَ فِي النُّصُوصِ فَيَطَّلِعُونَ عَلَى مَعَانٍ وَدَقَائِقَ وَيَسْتَخْرِجُونَ أَحْكَامًا وَحَقَائِقَ وَهِيَ نَتَائِجُ أَفْكَارِهِمْ الظَّاهِرَةِ عَلَى النُّصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الْعَرُوسِ عَلَى الْمَنَصَّةِ. قَوْلُهُ (وَفَصْلُ خِطَابِهِ) أَيْ خِطَابِهِ الْفَاصِلِ الْمُمَيِّزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَوْ خِطَابِهِ الْمَفْصُولِ الَّذِي يَتَبَيَّنُهُ مَنْ يُخَاطَبُ بِهِ وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ الْفَصْلَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْبِيهًا عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ وَفَخَامَةِ قَدْرِهِ، إذْ السُّنَّةُ ضَرْبَانِ قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَالْقَوْلُ هُوَ الْمَوْضُوعُ لِبَيَانِ الشَّرَائِعِ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ الْمُتَّفَقُ عَلَى حُجِّيَّتِهِ بَيْنَ الْأَنَامِ. قَوْلُهُ (مَا رَفَعَ) أَيْ مَا دَامَ رَايَاتُ مَرَاسِمِ الدِّينِ مَرْفُوعَةً عَالِيَةً بِإِجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ الْبَاذِلِينَ وُسْعَهُمْ فِي إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِحْيَاءِ مَرَاسِمِ الدِّينِ فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مَرْفُوعٌ لَا يُوضَعُ وَمَنْصُوبٌ لَا يُخْفَضُ. قَوْلُهُ (جَلِيلَ الشَّأْنِ) أَيْ عَظِيمَ الْأَمْرِ بَاهِرَ الْبُرْهَانِ أَيْ غَالِبَ الْحُجَّةِ وَفَائِقَهَا مَرْكُوزٌ أَيْ مَدْفُونٌ مِنْ رَكَّزْت الرُّمْحَ غَرَزْته فِي الْأَرْضِ وَالْكُنُوزُ الْأَمْوَالُ الْمَدْفُونَةُ وَالصُّخُورُ وَالْحِجَارَةُ الْعِظَامُ شَبَهٌ بِهَا عِبَارَاتُهُ الصَّعْبَةُ الْجَزْلَةُ لِصُعُوبَةِ التَّوَصُّلِ بِهَا إلَى فَهْمِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ وَالرَّمْزُ الْإِشَارَةُ بِالشَّفَتَيْنِ أَوْ الْحَاجِبِ تَعَدَّى بِإِلَى فَأَصْلُ الْكَلَامِ مَرْمُوزٌ إلَى غَوَامِضِ حَذْفِ الْجَارِّ

بَاهِرُ الْبُرْهَانِ مَرْكُوزٌ كُنُوزُ مَعَانِيهِ فِي صُخُورِ عِبَارَاتِهِ وَمَرْمُوزٌ غَوَامِضُ نُكَتِهِ فِي دَقَائِقِ إشَارَاتِهِ وَوَجَدْت بَعْضَهُمْ طَاعِنِينَ عَلَى ظَوَاهِرِ أَلْفَاظِهِ؛ لِقُصُورِ نَظَرِهِمْ عَنْ مَوَاقِعِ أَلْحَاظِهِ) أَيْ لَا يُدْرِكُونَ بِإِمْعَانِ النَّظَرِ مَا يُدْرِكُهُ هُوَ بِلِحَاظِ عَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ قَصْدًا (أَرَدْت تَنْقِيحَهُ وَتَنْظِيمَهُ وَحَاوَلْت) أَيْ طَلَبْت (تَبْيِينَ مُرَادِهِ وَتَفْهِيمَهُ وَعَلَى قَوَاعِدِ الْمَعْقُولِ وَتَأْسِيسِهِ وَتَقْسِيمِهِ مُورِدًا فِيهِ زُبْدَةَ مَبَاحِثِ الْمَحْصُولِ وَأُصُولِ الْإِمَامِ الْمُدَقِّقِ جَمَالِ الْعَرَبِ ابْنِ الْحَاجِبِ مَعَ تَحْقِيقَاتٍ بَدِيعَةٍ وَتَدْقِيقَاتٍ غَامِضَةٍ مَنِيعَةٍ تَخْلُو الْكُتُبُ عَنْهَا سَالِكًا فِيهِ مَسْلَكَ الضَّبْطِ وَالْإِيجَازِ مُتَشَبِّثًا بِأَهْدَابِ السِّحْرِ مُتَمَسِّكًا بِعُرْوَةِ الْإِعْجَازِ) اخْتَارَ فِي الْإِعْجَازِ الْعُرْوَةَ وَفِي السِّحْرِ الْأَهْدَابَ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَازَ أَقْوَى وَأَوْثَقُ مِنْ السِّحْرِ وَاخْتَارَ فِي الْعُرْوَةِ لَفْظَ الْوَاحِدِ وَفِي الْأَهْدَابِ لَفْظَ الْجَمْعِ؛ لِأَنَّ الْإِعْجَازَ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُؤَدَّى الْمَعْنَى بِطَرِيقٍ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِنْ الطُّرُقِ، وَلَا يَكُونُ هَذَا إلَّا وَاحِدًا وَأَمَّا السِّحْرُ فِي الْكَلَامِ فَهُوَ دُونَ الْإِعْجَازِ وَطُرُقُهُ فَوْقَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَوْصَلَ الْفِعْلَ فَصَارَ غَوَامِضُ مُسْنَدًا إلَيْهِ وَالنُّكْتَةُ اللَّطِيفَةُ الْمُنَقَّحَةُ مِنْ نَكَتَ فِي الْأَرْضِ بِالْقَضِيبِ إذَا ضَرَبَ فَأَثَّرَ فِيهَا يَعْنِي قَدْ أَوْمَأَ إلَى النُّكَتِ الْخَفِيَّةِ اللَّطِيفَةِ فِي أَثْنَاءِ إشَارَاتِهِ الدَّقِيقَةِ وَالنَّظَرُ تَأَمُّلُ الشَّيْءِ بِالْعَيْنِ وَالْإِمْعَانُ فِيهِ وَاللَّحْظُ النَّظَرُ إلَى الشَّيْءِ بِمُؤَخَّرِ الْعَيْنِ وَاللَّحَاظُ بِالْفَتْحِ مُؤَخَّرُ الْعَيْنِ وَالتَّنْقِيحُ التَّهْذِيبُ تَقُولُ نَقَّحْت الْجِذْعَ وَشَذَّبْته إذَا قَطَعْت مَا تَفَرَّقَ مِنْ أَغْصَانِهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي لُبِّهِ وَتَنْظِيمُ الدُّرَرِ فِي السِّلْكِ جَمْعُهَا كَمَا يَنْبَغِي مُتَرَتِّبَةً مُتَنَاسِقَةً وَالْكَلَامُ لَا يَخْلُو عَنْ تَعْرِيضٍ مَا بَانَ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ زَوَائِدَ يَجِبُ حَذْفُهَا وَشَتَائِتَ يَجِبُ نَظْمُهَا وَمَغَالِقَ يَجِبُ حَلُّهَا وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَبْنِيٍّ عَلَى قَوَاعِدِ الْمَعْقُولِ بِأَنْ يُرَاعَى فِي التَّعْرِيفَاتِ وَالْحُجَجِ شَرَائِطُهَا الْمَذْكُورَةُ فِي عِلْمِ الْمِيزَانِ، وَفِي التَّقْسِيمَاتِ عَدَمُ تَدَاخُلِ الْأَقْسَامِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَلْتَفِت إلَيْهِ الْمَشَايِخُ. قَوْلُهُ (مُورِدًا فِيهِ) فِي ذَلِكَ الْمُنَقَّحِ الْمَوْصُوفِ يَعْنِي كِتَابَهُ وَكَذَا الضَّمَائِرُ الَّتِي تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ. قَوْلُهُ (الْإِعْجَازُ فِي الْكَلَامِ أَنْ يُؤَدَّى الْمَعْنَى بِطَرِيقٍ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِنْ الطُّرُقِ) لَيْسَ تَفْسِيرُ الْمَفْهُومِ إعْجَازَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِالْبَلَاغَةِ، بَلْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الْكَلَامِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ مُعَارَضَتُهُ وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ مِنْ أَعْجَزْتُهُ جَعَلْته عَاجِزًا وَلِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي جِهَةِ إعْجَازِ الْقُرْآنِ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى كَوْنِهِ مُعْجِزًا فَقِيلَ إنَّهُ بِبَلَاغَتِهِ وَقِيلَ بِإِخْبَارِهِ عَنْ الْمُغَيَّبَاتِ، وَقِيلَ بِأُسْلُوبِهِ الْغَرِيبِ وَقِيلَ بِصَرْفِ اللَّهِ الْعُقُولَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ إعْجَازَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَهُوَ كَوْنُهُ فِي غَايَةِ الْبَلَاغَةِ وَنِهَايَةِ الْفَصَاحَةِ عَلَى مَا هُوَ الرَّأْيُ الصَّحِيحُ فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي إعْجَازِ الْكَلَامِ كَوْنُهُ أَبْلَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ يَكُونُ وَاحِدًا لَا تَعَدُّدَ فِيهِ بِخِلَافِ سِحْرِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ دِقَّتِهِ وَلُطْفِ مَأْخَذِهِ، وَهَذَا يَقَعُ عَلَى طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَمَرَاتِبَ مُخْتَلِفَةٍ فَلِهَذَا قَالَ أَهْدَابُ السِّحْرِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ

[التعريف إما حقيقي وإما اسمي]

الْوَاحِدِ فَأَوْرَدَ فِيهِ لَفْظَ الْجَمْعِ (وَسَمَّيْته بِتَنْقِيحِ الْأُصُولِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَسْئُولٌ أَنْ يُمَتِّعَ بِهِ مُؤَلِّفَهُ وَكَاتِبَهُ وَقَارِئَهُ وَطَالِبَهُ وَيَجْعَلَهُ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ إنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أُصُولُ الْفِقْهِ أَيْ هَذَا أُصُولُ الْفِقْهِ أَوْ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا هِيَ فَنُعَرِّفُهَا أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ وَثَانِيًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَعُرْوَةُ الْإِعْجَازِ بِلَفْظِ الْمُفْرَدِ وَهُدْبُ الثَّوْبِ مَا عَلَى أَطْرَافِهِ وَعُرْوَةُ الْكُوزِ كُلْيَتُهُ الَّذِي تُؤْخَذُ عَنْهُ أَخَذَهُ وَهِيَ أَقْوَى مِنْ الْهُدْبِ فَخَصَّهَا بِالْإِعْجَازِ الَّذِي هُوَ أَوْثَقُ مِنْ السِّحْرِ، وَفِي الصِّحَاحِ السِّحْرُ الْأُخْذَةُ وَكُلُّ مَا لَطُفَ مَأْخَذُهُ وَدَقَّ فَهُوَ سِحْرٌ، وَمَعْنَى تَمَسُّكِهِ بِذَلِكَ مُبَالَغَتُهُ فِي تَلْطِيفِ الْكَلَامِ وَتَأْدِيَةِ الْمَعَانِي بِالْعِبَارَاتِ اللَّائِقَةِ الْفَائِقَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إلَى السِّحْرِ وَالْإِعْجَازِ وَهَاهُنَا بَحْثَانِ الْأَوَّلُ أَنَّ كَوْنَ طَرِيقِ تَأْدِيَة الْمَعْنَى أَبْلَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ مِنْ الطُّرُقِ الْمُحَقَّقَةِ الْمَوْجُودَةِ غَيْرُ كَافٍ فِي الْإِعْجَازِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَالْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مِنْ الطُّرُقِ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمُقَدَّرَةِ حَتَّى لَا يُمْكِنَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوطٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ الْقُرْآنِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْجِزًا فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَبْلَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ وَالثَّانِي أَنَّ الطَّرَفَ الْأَعْلَى مِنْ الْبَلَاغَةِ وَمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ لِلْبَشَرِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ كِلَاهُمَا مُعْجِزٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمِفْتَاحِ وَنِهَايَةِ الْإِعْجَازِ وَحِينَئِذٍ يَتَعَدَّدُ طَرِيقُ الْإِعْجَازِ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ عَلَى الطَّرَفِ الْأَعْلَى أَوْ عَلَى بَعْضِ الْمَرَاتِبِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِعْجَازَ لَيْسَ إلَّا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَبْلَغَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ كُلِّ مَا هُوَ غَيْرُ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَقَّقًا وَمُقَدَّرًا حَتَّى لَا يُمْكِنَ الْإِتْيَانُ لِلْغَيْرِ بِمِثْلِهِ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْإِعْجَازَ سَوَاءٌ كَانَ فِي الطَّرَفِ الْأَعْلَى أَوْ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ مُتَّحِدٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَدٌّ مِنْ الْكَلَامِ هُوَ أَبْلَغُ مِمَّا عَدَاهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِلْغَيْرِ مُعَارَضَتُهُ وَالْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ بِخِلَافِ سِحْرِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يَضْبِطُهُ [التَّعْرِيفُ إمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا اسْمِيٌّ] [تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ] قَوْلُهُ (أُصُولُ الْفِقْهِ) الْكِتَابُ مُرَتَّبٌ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَقِسْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ إمَّا مَقَاصِدُ الْفَنِّ أَوْ لَا الثَّانِي الْمُقَدِّمَةُ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَحْثُ فِيهِ عَنْ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ عَنْ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، إذْ لَا يُبْحَثُ فِي هَذَا الْفَنِّ عَنْ غَيْرِهِمَا وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ، وَهُوَ مُذَيَّلٌ بِبَابَيْ التَّرْجِيحِ وَالِاجْتِهَادِ وَالثَّانِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ فِي الْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَسَتَعْرِفُ بَيَانَ الِانْحِصَارِ وَالْمُقَدِّمَةُ مَسُوقَةٌ لِتَعْرِيفِ الْعِلْمِ وَتَحْقِيقِ مَوْضُوعِهِ؛ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ لِلْكَثْرَةِ الْمَضْبُوطَةِ بِجِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَنْ يَعْرِفَهَا بِتِلْكَ الْجِهَةِ لِيَأْمَنَ مِنْ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ وَالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ وَكُلُّ عِلْمٍ هُوَ كَثْرَةٌ مَضْبُوطَةٌ بِتَعْرِيفِهِ الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ عِنْدَ الطَّالِبِ وَمَوْضُوعُهُ الَّذِي بِهِ يَمْتَازُ فِي نَفْسِهِ عَنْ سَائِرِ الْعُلُومِ فَحِينَ تَشَوَّفَتْ نَفْسُ السَّامِعِ إلَى التَّعْرِيفِ لِيَتَمَيَّزَ الْعِلْمُ عِنْدَهُ قَالَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الَّذِي أَذْكُرُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ إغْنَاءً

أَمَّا تَعْرِيفُهَا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ فَقَالَ (الْأَصْلُ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ) فَالِابْتِنَاءُ شَامِلٌ لِلِابْتِنَاءِ الْحِسِّيِّ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالِابْتِنَاءِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ (وَتَعْرِيفُهُ بِالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لَا يَطَّرِدُ) وَقَدْ عَرَّفَهُ الْإِمَامُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلسَّامِعِ عَنْ السُّؤَالِ وَقَالَ عَنْ لِسَانِهِ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا هِيَ، ثُمَّ أَخَذَ فِي تَعْرِيفِهِ وَأُصُولُ الْفِقْهِ لَقَبٌ لِهَذَا الْفَنِّ مَنْقُولٌ عَنْ مُرَكَّبٍ إضَافِيٍّ فَلَهُ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ تَعْرِيفٌ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ التَّعْرِيفَ اللَّقَبِيَّ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْعِلْمِيَّ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْإِعْلَامِ وَأَنَّهُ مِنْ الْإِضَافِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْبَسِيطِ مِنْ الْمُرَكَّبِ وَالْمُصَنِّفُ قَدَّمَ الْإِضَافِيَّ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ مُقَدَّمٌ وَإِلَى أَنَّ الْفِقْهَ مَأْخُوذٌ فِي التَّعْرِيفِ اللَّقَبِيِّ، فَإِنْ قَدَّمَ تَفْسِيرَهُ أَمْكَنَ ذِكْرُهُ فِي اللَّقَبِيِّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا الْفِقْهُ وَإِلَّا اُحْتِيجَ إلَى إيرَادِ تَفْسِيرِهِ تَارَةً فِي اللَّقَبِيِّ وَتَارَةً فِي الْإِضَافِيِّ كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَلَمَّا كَانَ أُصُولُ الْفِقْهِ عِنْدَ قَصْدِ الْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ جَمْعًا وَعِنْدَ قَصْدِ الْمَعْنَى اللَّقَبِيِّ مُفْرَدًا كَعَبْدِ اللَّهِ قَالَ فَنُعَرِّفُهَا أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ بِتَأْنِيثِ الضَّمِيرِ، وَقَالَ فَالْآنَ نُعَرِّفُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ بِتَذْكِيرِهِ وَاللَّقَبُ عِلْمٌ يُشْعِرُ بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ وَأُصُولُ الْفِقْهِ عِلْمٌ لِهَذَا الْفَنِّ مُشْعِرٌ بِكَوْنِهِ مَبْنَى الْفِقْهِ الَّذِي بِهِ نِظَامُ الْمَعَاشِ وَنَجَاةُ الْمَعَادِ، وَذَلِكَ مَدْحٌ. قَوْلُهُ (أَمَّا تَعْرِيفُهَا بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ الْمُضَافِ) ، وَهُوَ الْأُصُولُ. (وَالْمُضَافِ إلَيْهِ) ، وَهُوَ الْفِقْهُ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُرَكَّبِ يَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ مُفْرَدَاتِهِ الْغَيْرِ الْبَيِّنَةِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِ مَعْرِفَةِ الْكُلِّ عَلَى مَعْرِفَةِ أَجْزَائِهِ وَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ الْإِضَافَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الصُّورِيِّ إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ مَعْنَى إضَافَةِ الْمُشْتَقِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ اخْتِصَاصُ الْمُضَافِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُضَافِ مَثَلًا دَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَيْهَا فَأَصْلُ الْفِقْهِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَبْنِيٌّ لَهُ وَمُسْتَنِدٌ إلَيْهِ فَالْأُصُولُ جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبْتَنَى عَلَيْهِ وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ مَثَلًا مِنْ حَيْثُ تُبْتَنَى عَلَى عِلْمِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فُرُوعٌ لَا أُصُولٌ وَقَيْدُ الْحَيْثِيَّةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِ الْإِضَافِيَّاتِ إلَّا أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْذَفُ لِشُهْرَةِ أَمْرِهِ، ثُمَّ نَقَلَ الْأَصْلَ فِي الْعُرْفِ إلَى مَعَانٍ أُخَرَ، مِثْلُ الرَّاجِحِ وَالْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ وَالدَّلِيلِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الدَّلِيلُ وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ النَّقْلَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعُدُولِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِابْتِنَاءَ كَمَا يَشْمَلُ الْحِسِّيَّ كَابْتِنَاءِ السَّقْفِ عَلَى الْجُدْرَانِ وَابْتِنَاءِ أَعَالِي الْجُدْرَانِ عَلَى أَسَاسِهِ وَأَغْصَانِ الشَّجَرِ عَلَى دَوْحَتِهِ كَذَلِكَ يَشْمَلُ الِابْتِنَاءَ الْعَقْلِيَّ كَابْتِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ فَهَاهُنَا يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَبِالْإِضَافَةِ إلَى الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ مَعْنًى عَقْلِيٌّ يُعْلَمُ أَنَّ الِابْتِنَاءَ هَاهُنَا عَقْلِيٌّ فَيَكُونُ أُصُولُ الْفِقْهِ مَا يُبْنَى هُوَ عَلَيْهِ وَيَسْتَنِدُ

فِي الْمَحْصُولِ بِهَذَا، وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ، إمَّا حَقِيقِيٌّ كَتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَإِمَّا اسْمِيٌّ كَتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ كَمَا إذَا رَكَّبْنَا شَيْئًا مِنْ أُمُورٍ هِيَ أَجْزَاؤُهُ بِاعْتِبَارِ تَرْكِيبِنَا، ثُمَّ وَضَعْنَا لِهَذَا الْمُرَكَّبِ اسْمًا كَالْأَصْلِ وَالْفِقْهِ وَالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَنَحْوِهَا فَالتَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ هُوَ تَبْيِينُ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ لَا مَعْنَى بِمُسْتَنَدِ الْعِلْمِ وَمُبْتَنَاهُ إلَّا دَلِيلُهُ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ إنَّ الْمَعْنَى الْعُرْفِيَّ أَعْنِي الدَّلِيلَ مُرَادٌ قَطْعًا فَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى جَعْلِهِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الشَّامِلِ لِلْمَقْصُودِ وَغَيْرِهِ. فَإِنْ قُلْتَ: ابْتِنَاءُ الشَّيْءَ عَلَى الشَّيْءِ إضَافَةٌ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَمْرٌ عَقْلِيٌّ قَطْعًا قُلْتُ: أَرَادَ بِالِابْتِنَاءِ الْحِسِّيِّ كَوْنَ الشَّيْئَيْنِ مَحْسُوسَيْنِ وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ مِثْلُ ابْتِنَاءِ السَّقْفِ عَلَى الْجِدَارِ وَابْتِنَاءِ الْمُشْتَقِّ عَلَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَالْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ أَرَادَ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مِنْ أَنَّ ابْتِنَاءَ السَّقْفِ عَلَى الْجِدَارِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُبْتَنِيًا عَلَيْهِ وَمَوْضُوعًا فَوْقَهُ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ مِثْلُ ابْتِنَاءِ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ مِنْ الْحِسِّيِّ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْلِيِّ بِتَفْسِيرِهِ وَالْحَقُّ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِابْتِنَاءِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا هُوَ مِثَالٌ لَهُ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ ابْتِنَاءَ الْمَجَازِ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالْمَعْلُولَاتِ عَلَى عِلَلِهَا وَالْأَفْعَالِ عَلَى الْمَصَادِرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ابْتِنَاءٌ عَقْلِيٌّ. قَوْلُهُ (وَاعْلَمْ أَنَّ التَّعْرِيفَ إمَّا حَقِيقِيٌّ) الْمَاهِيَّةُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَحَقُّقٌ وَثُبُوتٌ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ أَوْ لَا الْأُولَى الْمَاهِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَيْ الثَّابِتَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَا بُدَّ فِيهَا مِنْ احْتِيَاجِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ إلَى الْبَعْضِ إذَا كَانَتْ مُرَكَّبَةً وَالثَّانِيَةُ الْمَاهِيَّةُ الِاعْتِبَارِيَّةُ أَيْ الْكَائِنَةُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ كَمَا إذَا اعْتَبَرَ الْوَاضِعُ عِدَّةَ أُمُورٍ فَوَضَعَ بِإِزَائِهَا اسْمًا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجِ الْأُمُورِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ كَالْأَصْلِ الْمَوْضُوعِ بِإِزَاءِ الشَّيْءِ وَوَصَفَ ابْتِنَاءَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ وَالْفِقْهَ الْمَوْضُوعَ بِإِزَاءِ الْمَسَائِلِ الْمَخْصُوصَةِ وَالْجِنْسَ الْمَوْضُوعَ بِإِزَاءِ الْكُلِّيِّ الْمَقُولِ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحَقِيقَةِ وَالنَّوْعَ الْمَوْضُوعَ بِإِزَاءِ الْكُلِّيِّ الْمَقُولِ عَلَى الْكَثْرَةِ الْمُتَّفِقَةِ الْحَقِيقَةُ فِي جَوَابِ مَا هُوَ وَالتَّمْثِيلُ بِالْمُرَكَّبَةِ مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ لَا يُنَافِي كَوْنَ بَعْضِ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ بَسَائِطَ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهَا إنَّمَا يُقَالُ لَهَا الْأُمُورُ الِاعْتِبَارِيَّةُ لَا الْمَاهِيَّاتُ الِاعْتِبَارِيَّةُ إذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَنَقُولُ مَا يَتَعَقَّلُهُ الْوَاضِعُ لِيَضَعَ بِإِزَائِهِ اسْمًا إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَاهِيَّةٌ حَقِيقَةً أَوْ لَا وَعَلَى الْأَوَّلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَعَقَّلُهُ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ أَوْ وُجُودَهَا وَاعْتِبَارَاتٍ مِنْهُ فَتَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِمُسَمَّى الِاسْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَاهِيَّةٌ حَقِيقَةً تَعْرِيفٌ حَقِيقِيٌّ يُفِيدُ تَصَوُّرَ الْمَاهِيَّةِ فِي الذِّهْنِ بِالذَّاتِيَّاتِ كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا أَوْ بِالْعَرَضِيَّاتِ أَوْ بِالْمُرَكَّبِ مِنْهُمَا وَتَعْرِيفُ مَفْهُومِ الِاسْمِ وَمَا تَعَقَّلَهُ الْوَاضِعُ فَوَضَعَ الِاسْمَ بِإِزَائِهِ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ يُفِيدُ تَبْيِينَ مَا وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهِ بِلَفْظٍ أَشْهَرَ كَقَوْلِنَا الْغَضَنْفَرُ الْأَسَدُ أَوْ بِلَفْظٍ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْصِيلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْمُ إجْمَالًا كَقَوْلِنَا الْأَصْلُ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَتَعْرِيفُ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَكُونُ إلَّا اسْمِيًّا، إذْ لَا حَقَائِقَ لَهَا، بَلْ مَفْهُومَاتٌ وَتَعْرِيفُ الْمَوْجُودَاتِ قَدْ يَكُونُ اسْمِيًّا وَقَدْ يَكُونُ حَقِيقِيًّا، إذْ لَهَا مَفْهُومَاتٌ وَحَقَائِقُ. فَإِنْ قُلْتَ: ظَاهِرُ عِبَارَتِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ

أَنَّ هَذَا الِاسْمَ لِأَيِّ شَيْءٍ وُضِعَ (وَشَرْطٌ لِكِلَا التَّعْرِيفَيْنِ الطَّرْدُ) أَيْ كُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ (وَالْعَكْسُ) أَيْ كُلُّ مَا صَدَقَ مَا عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَإِذَا قِيلَ فِي تَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ: إنَّهُ حَيَوَانٌ مَاشٍ لَا يَطَّرِدُ وَلَوْ قِيلَ حَيَوَانٌ إنْ كَانَ بِالْفِعْلِ لَا يَنْعَكِسُ (وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعْرِيفَ الْأَصْلِ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ) أَيْ بَيَانُ أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ لِأَيِّ شَيْءٍ وُضِعَ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقِيقِيٌّ أَلْبَتَّةَ كَمَا أَنَّ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّاتِ الِاعْتِبَارِيَّةِ اسْمِيٌّ أَلْبَتَّةَ قُلْتُ: فِي الْعُدُولِ عَنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ سَعَةٌ إلَّا أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ قَدْ تُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا حَقِيقَةُ مُسَمَّى الِاسْمِ وَمَاهِيَّته الثَّابِتَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَتَعْرِيفُهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَقِيقِيٌّ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ لِ " مَا " الَّتِي لِطَلَبِ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ " هَلْ " الْبَسِيطَةِ الطَّالِبَةِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ " مَا " الَّتِي لِطَلَبِ تَفْسِيرِ الِاسْمِ وَبَيَانِ مَفْهُومِهِ وَقَدْ تُؤْخَذُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَفْهُومُ الِاسْمِ وَمُتَعَقَّلُ الْوَاضِعِ عِنْدَ وَضْعِ الِاسْمِ وَتَعْرِيفًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ اسْمِيٌّ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ " مَا " الَّتِي لِطَلَبِ مَفْهُومِ الِاسْمِ وَمُتَعَقَّلِ الْوَاضِعِ فَهَذَا التَّعْرِيفُ قَدْ يَكُونُ نَفْسَ حَقِيقَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِأَنْ يَكُونَ مُتَعَقَّلُ الْوَاضِعِ نَفْسَ الْحَقِيقَةِ وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَهَا وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ قَدْ يَتَّحِدُ التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ وَالْحَقِيقِيُّ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ يَكُونُ اسْمِيًّا وَبَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ يَنْقَلِبُ حَقِيقِيًّا مَثَلًا تَعْرِيفُ الْمُثَلَّثِ فِي مَبَادِئِ الْهَنْدَسَةِ بِشَكْلٍ يُحِيطُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَضْلَاعٍ تَعْرِيفٌ اسْمِيٌّ وَبَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى وُجُودِهِ يَصِيرُ هُوَ بِعَيْنِهِ تَعْرِيفًا حَقِيقِيًّا. قَوْلُهُ (وَشَرْطٌ لِكِلَا التَّعْرِيفَيْنِ) أَيْ الْحَقِيقِيِّ وَالِاسْمِيِّ الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ أَمَّا الطَّرْدُ فَهُوَ صِدْقُ الْمَحْدُودِ عَلَى مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ مُطَّرِدًا كُلِّيًّا أَيْ كُلَّمَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ كُلَّمَا وُجِدَ الْحَدُّ وُجِدَ الْمَحْدُودُ فَبِالِاطِّرَادِ يَصِيرُ الْحَدُّ مَانِعًا عَنْ دُخُولِ غَيْرِ الْمَحْدُودِ. وَأَمَّا الْعَكْسُ فَأَخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ عَكْسِ الطَّرْدِ بِحَسَبِ مُتَفَاهَمِ الْعُرْفِ، وَهُوَ جَعْلُ الْمَحْمُولِ مَوْضُوعًا مَعَ رِعَايَةِ الْكَمِّيَّةِ بِعَيْنِهَا كَمَا يُقَالُ كُلُّ إنْسَانٍ ضَاحِكٌ وَبِالْعَكْسِ أَيْ كُلُّ ضَاحِكٍ إنْسَانٌ وَكُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ وَلَا عَكْسَ أَيْ لَيْسَ كُلُّ حَيَوَانٍ إنْسَانًا فَلِهَذَا قَالَ فِي الْعَكْسِ إنَّ كُلَّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عَكْسًا لِقَوْلِنَا كُلُّ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْحَدُّ صَدَقَ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ فَصَارَ حَاصِلُ الطَّرْدِ حُكْمًا كُلِّيًّا بِالْمَحْدُودِ عَلَى الْحَدِّ وَالْعَكْسُ حُكْمًا كُلِّيًّا بِالْحَدِّ عَلَى الْمَحْدُودِ وَبَعْضُهُمْ أَخَذَهُ مِنْ أَنَّ عَكْسَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ فَفَسَّرَهُ بِأَنَّهُ كُلَّمَا انْتَفَى الْحَدُّ انْتَفَى الْمَحْدُودُ أَيْ كُلَّمَا لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ الْمَحْدُودُ فَصَارَ الْعَكْسُ حُكْمًا كُلِّيًّا بِمَا لَيْسَ بِمَحْدُودٍ عَلَى مَا لَيْسَ بِحَدٍّ وَالْحَاصِلُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ جَامِعًا لِأَفْرَادِ الْمَحْدُودِ كُلِّهَا. قَوْلُهُ (وَلَا شَكَّ أَنَّ تَعْرِيفَ الْأَصْلِ اسْمِيٌّ) ؛ لِأَنَّهُ تَبْيِينُ أَنَّ لَفْظَ الْأَصْلِ فِي اللُّغَةِ مَوْضُوعٌ لِلْمُرَكَّبِ الِاعْتِبَارِيِّ الَّذِي هُوَ الشَّيْءُ مَعَ وَصْفِ ابْتِنَاءِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ أَوْ احْتِيَاجِ الْغَيْرِ إلَيْهِ، وَهَذَا لَا دَخْلَ لَهُ فِي بَيَانِ فَسَادِ التَّعْرِيفِ، إذْ عَدَمُ الِاطِّرَادِ مُفْسِدٌ لَهُ اسْمِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ

فَالتَّعْرِيفُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمَحْصُولِ لَا يَطَّرِدُ (لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَصْلَ (لَا يُطْلَقُ عَلَى الْفَاعِلِ) أَيْ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ (وَالصُّورَةِ) أَيْ الْعِلَّةِ الصُّورِيَّةِ (وَالْغَايَةِ) أَيْ الْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ (وَالشُّرُوطِ) كَأَدَوَاتِ الصِّنَاعَةِ مَثَلًا فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ صَادِقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِكَوْنِهَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا وَالْمَحْدُودُ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُسَمَّى أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْرِيفُ الِاسْمِيُّ (وَالْفِقْهُ مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا وَيُزَادُ عَمَلًا لِيُخْرِجَ الِاعْتِقَادِيَّات وَالْوِجْدَانِيَّات فَيَخْرُجُ الْكَلَامُ وَالتَّصَرُّفُ وَمَنْ لَمْ يَزِدْ أَرَادَ الشُّمُولَ) هَذَا التَّعْرِيفُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمَعْرِفَةُ إدْرَاكُ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ دَلِيلٍ فَخَرَجَ التَّقْلِيدُ وَقَوْلُهُ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَا تَنْتَفِعُ بِهِ النَّفْسُ وَمَا تَتَضَرَّرُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ، إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ أَوْ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ أَوْ حَرَامٌ فَهَذِهِ سِتَّةٌ، ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ طَرَفَانِ طَرَفُ الْفِعْلِ وَطَرَفُ التَّرْكِ يَعْنِي عَدَمَ الْفِعْلِ فَصَارَتْ اثْنَيْ عَشَرَ فَفِعْلُ الْوَاجِبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَفِي الْجُمْلَةِ تَعْرِيفُ الْأَصْلِ بِالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ، إذْ لَا يَصْدُقُ أَنَّ كُلَّ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ أَصْلٌ؛ لِأَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الشَّيْءُ إمَّا دَاخِلٌ فِيهِ أَوْ خَارِجٌ عَنْهُ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الشَّيْءِ مَعَهُ بِالْقُوَّةِ، وَهُوَ الْمَادَّةُ كَالْخَشَبِ لِلسَّرِيرِ أَوْ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الصُّورَةُ كَالْهَيْئَةِ السَّرِيرِيَّةِ لَهُ. وَالثَّانِي إنْ كَانَ مَا مِنْهُ الشَّيْءُ فَهُوَ الْفَاعِلُ كَالنَّجَّارِ لِلسَّرِيرِ، وَإِنْ كَانَ مَا لِأَجْلِهِ الشَّيْءُ فَهُوَ الْغَايَةُ كَالْجُلُوسِ عَلَى السَّرِيرِ وَإِلَّا فَهُوَ الشَّرْطُ كَآلَاتِ النَّجَّارِ وَقَابِلِيَّةِ الْخَشَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ أَقْسَامٌ خَمْسَةٌ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ لَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْأَصْلِ لُغَةً إلَّا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا هُوَ الْمَادَّةُ كَمَا يُقَالُ أَصْلُ هَذَا السَّرِيرِ خَشَبٌ كَذَا وَالْأَرْبَعَةُ الْبَاقِيَةُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَصْلٌ فَلَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ مُطَّرِدًا مَانِعًا وَهَاهُنَا بَحْثٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا مَنْعُ اشْتِرَاطِ الطَّرْدِ فِي مُطْلَقِ التَّعْرِيفِ لَا سِيَّمَا فِي الِاسْمِيِّ فَإِنَّ كُتُبَ اللُّغَةِ مَشْحُونَةٌ بِتَفْسِيرِ الْأَلْفَاظِ بِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ مَفْهُومَاتِهَا وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّ التَّعْرِيفَاتِ النَّاقِصَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَعَمَّ بِحَيْثُ لَا يُفِيدُ الِامْتِيَازُ إلَّا عَنْ بَعْضِ مَا عَدَا الْمَحْدُودَ وَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ تَفْسِيرِ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ تَمَيُّزَهُ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَيُكْتَفَى بِمَا يُفِيدُ الِامْتِيَازَ عَنْهُ كَمَا إذَا قَصَدَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفُرُوعِ فَيُفَسَّرُ الْأَوَّلُ بِالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ وَالثَّانِي بِالْمُحْتَاجِ وَثَانِيهَا مَنْعُ عَدَمِ صِدْقِ الْأَصْلِ عَلَى الْفَاعِلِ كَيْفَ وَالْفِعْلُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ وَمُسْتَنِدٌ إلَيْهِ وَلَا مَعْنَى لِلِابْتِنَاءِ إلَّا ذَلِكَ. وَثَالِثُهَا أَنَّ كَلَامَهُ فِي بَابِ الْمَجَازِ عِنْدَ بَيَانِ جَرَيَانِ الْأَصَالَةِ وَالتَّبَعِيَّةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَهُوَ أَصْلٌ. وَرَابِعُهَا أَنَّا إذَا قُلْنَا الْفِكْرُ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَعْلُومَةَ مَادَّةٌ لِلْفِكْرِ وَأَصْلٌ لَهُ مَعَ أَنَّ ابْتِنَاءَ الْفِكْرِ عَلَيْهَا لَيْسَ حِسِّيًّا، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا عَقْلِيًّا بِتَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى دَلِيلِهِ. قَوْلُهُ (وَالْفِقْهُ) نَقَلَ لِلْمُضَافِ تَعْرِيفَيْنِ مَقْبُولًا وَمُزَيَّفًا وَلِلْمُضَافِ إلَيْهِ

وَالْمَنْدُوبِ مِمَّا يُثَابُ عَلَيْهِ وَفِعْلُ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ الْوَاجِبِ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي لَا يُثَابُ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالنَّفْعِ عَدَمُ الْعِقَابِ وَبِالضَّرَرِ الْعِقَابُ فَفِعْلُ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يَكُونُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْ مِمَّا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَالتِّسْعَةُ الْبَاقِيَةُ تَكُونُ مِنْ الْأَوَّلِ أَيْ مِمَّا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالنَّفْعِ الثَّوَابُ وَبِالضَّرَرِ عَدَمُ الثَّوَابِ فَفِعْلُ الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ مِمَّا يُثَابُ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْعَشَرَةُ الْبَاقِيَةُ مِمَّا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ عَلَيْهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ لَهَا وَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا فَفِعْلُ مَا سِوَى الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مِمَّا يَجُوزُ لَهَا وَفِعْلُ الْوَاجِبِ وَتَرْكُ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهَا بَقِيَ فِعْلُ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ الْوَاجِبِ خَارِجَيْنِ عَنْ الْقِسْمَيْنِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مَا يَجُوزُ لَهَا وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهَا فَيَشْمَلَانِ جَمِيعَ الْأَصْنَافِ إذَا عَرَفْت هَذَا فَالْحَمْلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَاسِطَةٌ أَوْلَى، ثُمَّ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا يَتَنَاوَلُ الِاعْتِقَادِيَّات كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ وَالْوِجْدَانِيَّات أَيْ الْأَخْلَاقَ الْبَاطِنَةَ وَالْمَلَكَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعْرِيفَيْنِ صَرَّحَ بِتَزْيِيفِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ عِنْدِهِ تَعْرِيفًا ثَالِثًا فَالْأَوَّلُ: مَعْرِفَةُ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالنَّفْسِ الْعَبْدَ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْكَامِ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَعْمَالِ الْبَدَنِ وَأَنْ يُرِيدَ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ، إذْ بِهَا الْأَفْعَالُ وَمَعَهَا الْخِطَابُ، وَإِنَّمَا الْبَدَنُ آلَةٌ وَفَسَّرَ الْمَعْرِفَةَ بِإِدْرَاكِ الْجُزْئِيَّاتِ عَنْ دَلِيلٍ وَالْقَيْدُ الْأَخِيرُ مِمَّا لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ أَصْلًا لَا لُغَةً وَلَا اصْطِلَاحًا وَذَهَبَ فِي قَوْلِهِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا إلَى مَا يُقَالُ إنَّ اللَّامَ لِلِانْتِفَاعِ وَعَلَى لِلتَّضَرُّرِ وَقَيَّدَهُمَا بِالْأُخْرَوِيِّ احْتِرَازًا عَمَّا تَنْتَفِيهِ النَّفْسُ أَوْ تَتَضَرَّرُ فِي الدُّنْيَا مِنْ اللَّذَّاتِ وَالْآلَامِ وَالْمُشْعِرُ بِهَذَا التَّقَيُّدِ شُهْرَةُ أَنَّ الْفِقْهَ مِنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ فَذَكَرَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ، ثُمَّ ذَكَرَ مَعْنَيَيْنِ آخَرَيْنِ فَصَارَتْ الْمَعَانِي الْمُحْتَمَلَةُ خَمْسَةً: ثَلَاثَةٌ مِنْهَا تَشْمَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ وَاثْنَانِ لَا تَشْمَلُهَا كُلَّهَا وَالْأَقْسَامُ اثْنَا عَشَرَ؛ لِأَنَّ مَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ إنْ تَسَاوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فَمُبَاحٌ وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ أَوْلَى فَمَعَ الْمَنْعِ عَنْ التَّرْكِ وَاجِبٌ وَبِدُونِهِ مَنْدُوبٌ، وَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ أَوْلَى فَمَعَ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ حَرَامٌ وَبِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ وَبِدُونِ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ هَذَا عَلَى رَأْيِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الْمَكْرُوهَ تَنْزِيهًا مِمَّا يَجُوزُ فِعْلُهُ وَالْمَكْرُوه تَحْرِيمًا مِمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ، بَلْ يَجِبُ تَرْكُهُ كَالْحَرَامِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَلَى رَأْيِهِمَا، وَهُوَ أَنَّ مَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مَعَ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ حَرَامٌ وَبِدُونِهِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ إنْ كَانَ إلَى الْحِلِّ أَقْرَبَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ لَكِنْ يُثَابُ تَارِكُهُ أَدْنَى ثَوَابٍ وَكَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ إنْ كَانَ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبَ بِمَعْنَى أَنَّ فَاعِلَهُ مُسْتَحِقٌّ مَحْذُورًا دُونَ الْعُقُوبَةِ بِالنَّارِ كَحِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ مَا يَشْمَلُ الْفَرْضَ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى شَائِعٌ عِنْدَهُمْ كَقَوْلِهِمْ الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ وَالْحَجُّ وَاجِبٌ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْحَرَامِ عَلَى الْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا.

وَالْبَيْعِ وَنَحْوِهَا فَمَعْرِفَةُ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الِاعْتِقَادِيَّات هِيَ عِلْمُ الْكَلَامِ وَمَعْرِفَةُ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْوِجْدَانِيَّاتِ هِيَ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَالتَّصَوُّفُ كَالزُّهْدِ وَالصَّبْرِ وَالرِّضَا وَحُضُورِ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْرِفَةُ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْعَمَلِيَّاتِ هِيَ الْفِقْهُ الْمُصْطَلَحُ، فَإِنْ أَرَدْت بِالْفِقْهِ هَذَا الْمُصْطَلَحَ زِدْت عَمَلًا عَلَى قَوْلِهِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا وَإِنْ أَرَدْت مَا يَشْمَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ لَمْ تَزِدْ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا لَمْ يَزِدْ عَمَلًا؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الشُّمُولَ أَيْ أَطْلَقَ الْفِقْهَ عَلَى الْعِلْمِ بِمَا لَهَا وَعَلَيْهَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّات أَوْ الْوِجْدَانِيَّاتِ أَوْ الْعَمَلِيَّاتِ، ثُمَّ سَمَّى الْكَلَامَ فِقْهًا أَكْبَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمُرَادُ بِالْمَنْدُوبِ مَا يَشْمَلُ السُّنَّةَ وَالنَّقْلَ فَصَارَتْ الْأَقْسَامُ سِتَّةً وَلِكُلٍّ مِنْهَا طَرَفَا فِعْلٍ أَيْ إيقَاعٍ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ وَتَرْكٍ أَيْ عَدَمِ فِعْلٍ فَتَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْمُرَادُ بِمَا يَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنْ الْمَصْدَرِ كَالْهَيْئَةِ الَّتِي تُسَمَّى صَلَاةً وَالْحَالَةُ الَّتِي تُسَمَّى صَوْمًا وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَثَرٌ صَادِرٌ عَنْ الْمُكَلَّفِ وَطَرَفُ فِعْلِهِ إيقَاعًا وَطَرَفُ تَرْكِهِ عَدَمُ إيقَاعِهِ وَالْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ خَاصَّةً إلَّا أَنَّهَا قَدْ تُطْلَقُ عَلَى عَدَمِ الْفِعْلِ أَيْضًا فَيُقَالُ عَدَمُ مُبَاشَرَةِ الْوَاجِبِ حَرَامٌ وَعَدَمُ مُبَاشَرَةِ الْحَرَامِ وَاجِبٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا فَسَّرَ التَّرْكَ بِعَدَمِ الْفِعْلِ لِيَصِيرَ قِسْمًا آخَرَ، إذْ لَوْ أُرِيدَ بِهِ كَفُّ النَّفْسِ لَكَانَ تَرْكُ الْحَرَامِ مَثَلًا فِعْلَ الْوَاجِبِ بِعَيْنِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ حَاجَةٍ إلَى اعْتِبَارِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَجَعْلِ الْأَقْسَامِ اثْنَيْ عَشَرَ وَهَلَّا اقْتَصَرَ عَلَى السِّتَّةِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْوَاجِبِ مَثَلًا أَهَمَّ مِنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ قُلْتُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ الْوَاجِبُ يَدْخُلُ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ بِمَعْنَى عَدَمِ فِعْلِ الْحَرَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِالْوَاجِبِ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ لَا يُعَاقَبُ لِعَفْوٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سَهْوٍ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَبَاقِي كَلَامِهِ وَاضِحٌ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَبَاحِثَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ جَعَلَ تَرْكَ الْحَرَامِ مِمَّا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَالْوَاجِبُ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَفِي التَّنْزِيلِ {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 41] وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُثَابَ عَلَيْهِ فِعْلُ الْوَاجِبِ لَا عَدَمُ مُبَاشَرَةِ الْحَرَامِ وَإِلَّا لَكَانَ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مَثُوبَاتٌ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ كُلِّ حَرَامٍ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَنَهْيُ النَّفْسِ كَفُّهَا عَنْ الْحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ فِعْلِ الْوَاجِبِ وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ بِمَعْنَى كَفِّ النَّفْسِ عَنْهُ عِنْدَ تَهَيُّؤِ الْأَسْبَابِ وَمَيَلَانِ النَّفْسِ إلَيْهِ مِمَّا يُثَابُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ فِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ عَدَمُ مَنْعِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْإِمْكَانَ الْخَاصَّ لِيُقَابِلَ الْوُجُوبَ، وَفِي الْخَامِسِ عَدَمُ مَنْعِ الْفِعْلِ عَلَى مَا يُنَاسِبُ الْإِمْكَانَ الْعَامَّ لِيُقَابِلَ الْحُرْمَةَ، فَإِنْ قُلْتَ: إنْ أُرِيدَ بِالْجَوَازِ عَدَمُ مَنْعِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ فَفِعْلُ مَا سِوَى الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا وَتَرْكُ

(وَقِيلَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ) فَالْعِلْمُ جِنْسٌ، وَالْبَاقِي فَصْلٌ فَقَوْلُهُ بِالْأَحْكَامِ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُكْمِ هَاهُنَا إسْنَادُ أَمْرٍ إلَى آخَرَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ الْحُكْمُ الْمُصْطَلَحُ، وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلَّقُ إلَخْ، فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ يَخْرُجُ الْعِلْمُ بِالذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَحْكَامٍ عَنْ الْحَدِّ أَيْ يُخْرِجُ التَّصَوُّرَاتِ وَيُبْقِي التَّصْدِيقَاتِ وَبِالشَّرْعِيَّةِ يُخْرِجُ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْحِسِّيَّةِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ مُحْدَثٌ وَالنَّارَ مُحْرِقَةٌ وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي فَقَوْلُهُ بِالْأَحْكَامِ يَكُونُ احْتِرَازًا عَنْ عِلْمِ مَا سِوَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ إلَى آخِرِهِ فَالْحُكْمُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ قِسْمَانِ شَرْعِيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا سِوَى الْوَاجِبِ مِمَّا يَجُوزُ لَهَا؛ لِأَنَّ مَا سِوَى الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا يَشْمَلُ الْوَاجِبَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِهَذَا الْمَعْنَى وَكَذَا تَرْكُ مَا سِوَى الْوَاجِبِ يَشْمَلُ تَرْكَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ تَحْرِيمًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قُلْتُ: هَذَا مَخْصُوصٌ بِقَرِينَةِ التَّصْرِيحِ بِدُخُولِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهَا. وَالثَّالِثُ أَنَّ مَا يُحَرَّمُ عَلَيْهَا فِي الْوَجْهِ الْخَامِسِ بِمَعْنَى الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ يَشْمَلُ الْحَرَامَ وَالْمَكْرُوهَ تَحْرِيمًا وَالرَّابِعُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَعْرِفَةِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا تَصَوُّرُهُمَا وَلَا التَّصْدِيقُ بِثُبُوتِهِمَا لِظُهُورِ أَنْ لَيْسَ الْفِقْهُ عِبَارَةً عَنْ تَصَوُّرِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا وَلَا عَنْ التَّصْدِيقِ بِوُجُودِهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ الْمُرَادُ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهَا مِنْ الْوُجُوبِ وَغَيْرِهِ كَالتَّصْدِيقِ بِأَنَّ هَذَا وَاجِبٌ وَذَاكَ حَرَامٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ فَأَحْكَامُ الْوِجْدَانِيَّاتِ مِنْ الْوُجُوبِ وَنَحْوِهِ تُدْرَكُ بِالدَّلِيلِ وَثُبُوتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِالْوِجْدَانِ كَمَا فِي الْعَمَلِيَّاتِ بِعُرْفِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ بِالدَّلِيلِ وَوُجُودُهَا بِالْحِسِّ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ اعْتِرَاضَهُ عَلَى التَّعْرِيفِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْأَحْكَامِ كُلِّهَا وَلَا بَعْضِهَا الْمُعَيَّنِ وَلَا الْمُبْهَمِ وَارِدٌ هَاهُنَا فِيمَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ لِلْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةِ مَعَ عَدَمِ تَعَيُّنِ الْمُرَادِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ فِي التَّعْرِيفَاتِ. 1 - قَوْلُهُ (وَقِيلَ الْعِلْمُ) عَرَّفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْفِقْهَ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُتَعَلَّقَ الْعِلْمِ إمَّا حُكْمٌ أَوْ غَيْرُهُ وَالْحُكْمُ إمَّا مَأْخُوذٌ مِنْ الشَّرْعِ أَوْ لَا وَالْمَأْخُوذُ مِنْ الشَّرْعِ إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ أَوْ لَا وَالْعَمَلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ حَاصِلًا مِنْ دَلِيلِهِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي نِيطَ بِهِ الْحُكْمُ أَوْ لَا فَالْعِلْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْحَاصِلُ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ هُوَ الْفِقْهُ وَخَرَجَ الْعِلْمُ بِغَيْرِ الْأَحْكَامِ مِنْ الذَّوَاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْغَيْرِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الشَّرْعِ كَالْأَحْكَامِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْعَقْلِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ أَوْ مِنْ الْحِسِّ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ النَّارَ مُحْرِقَةٌ أَوْ مِنْ الْوَضْعِ وَالِاصْطِلَاحِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْفَاعِلَ مَرْفُوعٌ وَخَرَجَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَتُسَمَّى اعْتِقَادِيَّةً وَأَصْلِيَّةً كَكَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً وَالْإِيمَانِ وَاجِبًا وَخَرَجَ أَيْضًا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمُ جِبْرِيلَ وَالرَّسُولِ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَذَا عِلْمُ الْمُقَلِّدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ. قَوْلُهُ (يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُكْمِ) الْحُكْمُ يُطْلَقُ فِي الْعُرْفِ

أَيْ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ وَغَيْرُ شَرْعِيٍّ أَيْ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ لِتَوَقُّفِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الشَّرْعِيُّ، إمَّا نَظَرِيٌّ، وَإِمَّا عَمَلِيٌّ فَقَوْلُهُ الْعَمَلِيَّةُ يُخْرِجُ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ كَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ وَقَوْلُهُ مِنْ أَدِلَّتِهَا أَيْ الْعِلْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى إسْنَادِ أَمْرٍ إلَى آخَرَ أَيْ نِسْبَتِهِ إلَيْهِ بِالْإِيجَابِ أَوْ السَّلْبِ، وَفِي اصْطِلَاحٍ الْأُصُولِ عَلَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِ عَلَى إدْرَاكِ أَنَّ النِّسْبَةَ وَاقِعَةٌ أَوْ لَيْسَتْ بِوَاقِعَةٍ وَيُسَمَّى تَصْدِيقًا، وَهُوَ لَيْسَ بِمُرَادٍ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ عِلْمٌ وَالْفِقْهُ لَيْسَ عِلْمًا بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ أَيْضًا لَيْسَ بِمُرَادٍ وَإِلَّا لَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ تَكْرَارًا، بَلْ الْمُرَادُ النِّسْبَةُ التَّامَّةُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الَّتِي الْعِلْمُ بِهَا تَصْدِيقٌ وَبِغَيْرِهَا تَصَوُّرٌ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ يَخْرُجُ التَّصَوُّرَاتُ وَيَبْقَى التَّصْدِيقَاتُ فَيَكُونُ الْفِقْهُ عِبَارَةً عَنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَضَايَا الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكَيْفِيَّةِ الْعَمَلِ تَصْدِيقًا حَاصِلًا مِنْ الْأَدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ الَّتِي نُصِّبَتْ فِي الشَّرْعِ عَلَى تِلْكَ الْقَضَايَا وَفَوَائِدُ الْقُيُودِ ظَاهِرَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ وَالْمُصَنِّفُ جَوَّزَ أَنْ يُرَادَ بِالْحُكْمِ هَاهُنَا مُصْطَلَحُ الْأُصُولِ فَاحْتَاجَ إلَى تَكَلُّفٍ فِي تَبْيِينِ فَوَائِدِ الْقُيُودِ وَتَعَسُّفٍ فِي تَقْدِيرِ مُرَادِ الْقَوْمِ فَذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّرْعِيِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ وَلَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ وَالْأَحْكَامُ مِنْهَا مَا هُوَ خِطَابٌ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَمِنْهَا مَا هُوَ خِطَابٌ بِمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِيمَانِ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَكَلَامِهِ وَعَلَى التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِدَلَالَةِ مُعْجِزَاتِهِ فَلَوْ تَوَقَّفَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ عَلَى الشَّرْعِ لَزِمَ الدَّوْرُ فَالتَّقْيِيدُ بِالشَّرْعِيَّةِ يُخْرِجُ هَذِهِ الْأَحْكَامَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ شَرْعِيَّةً بِمَعْنَى التَّوَقُّفِ عَلَى الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْخِطَابُ بِمَا يَتَوَقَّفُ أَوْ لَا يَتَوَقَّفُ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُفَسَّرَ بِالْخِطَابِ قَدِيمٌ عِنْدَهُمْ فَكَيْفَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ تَوَقُّفَ الشَّرْعِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ سَوَاءٌ أُرِيدَ بِالشَّرْعِ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ شَرِيعَةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَوَقُّفُ التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِ شَرْعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَعَلَى التَّصْدِيقِ بِنُبُوَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَدَلَالَةِ مُعْجِزَاتِهِ لَا يَقْتَضِي تَوَقُّفَهُ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَلَا عَلَى الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِمَا غَايَتُهُ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَفْسِ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ، وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَلَا مُنَافٍ لِتَوَقُّفِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ عَلَى الشَّرْعِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ لَا وُجُوبَ إلَّا بِالسَّمْعِ. قَوْلُهُ، (ثُمَّ الشَّرْعِيُّ) أَيْ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى الشَّرْعِ إمَّا نَظَرِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ عَمَلٍ وَإِمَّا عَمَلِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِهَا فَالتَّقْيِيدُ بِالْعَمَلِيَّةِ لِإِخْرَاجِ النَّظَرِيَّةِ يَكُونُ الْإِجْمَاعُ حُجَّةً، وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى

الْحَاصِلِ لِلشَّخْصِ الْمَوْصُوفِ بِهِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْمَخْصُوصَةِ بِهَا وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الْأَرْبَعَةُ، وَهَذَا الْقَيْدُ يُخْرِجُ التَّقْلِيدَ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ دَلِيلًا لَهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الْمَخْصُوصَةِ وَقَوْلُهُ التَّفْصِيلِيَّةُ يُخْرِجُ الْإِجْمَالِيَّةَ كَالْمُقْتَضِي وَالنَّافِي، وَقَدْ زَادَ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى هَذَا قَوْلَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ. وَلَمَّا عُرِفَ الْفِقْهُ بِالْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَجَبَ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ وَتَعْرِيفُ الشَّرْعِيَّةِ فَقَالَ (وَالْحُكْمُ قِيلَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى) هَذَا التَّعْرِيفُ مَنْقُولٌ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ فَقَوْلُهُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَشْمَلُ جَمِيعَ الْخِطَابَاتِ. وَقَوْلُهُ (الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ) يُخْرِجُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَبَقِيَ فِي الْحَدِّ نَحْوُ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ فَقَالَ (بِالِاقْتِضَاءِ) أَيْ الطَّلَبِ وَهُوَ إمَّا طَلَبُ الْفِعْلِ جَازِمًا كَالْإِيجَابِ أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ كَالنَّدْبِ وَإِمَّا طَلَبُ التَّرْكِ جَازِمًا كَالتَّحْرِيمِ أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ كَالْكَرَاهَةِ (أَوْ التَّخْيِيرِ) أَيْ الْإِبَاحَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّقْدِيرِ الثَّانِي لَوْ كَانَ الْحُكْمُ الْمُصْطَلَحُ شَامِلًا لِلنَّظَرِيِّ، وَفِيهِ كَلَامٌ سَيَجِيءُ. قَوْلُهُ (أَيْ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ) قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَدِلَّتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِالْأَحْكَامِ وَحِينَئِذٍ لَا يَخْرُجُ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ؛ لِأَنَّهُ عِلْمٌ بِالْأَحْكَامِ الْحَاصِلَةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ حَاصِلًا عَنْ الْأَدِلَّةِ فَدَفْعُ ذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْعِلْمِ لَا بِالْأَحْكَامِ إذْ الْحَاصِلُ مِنْ الدَّلِيلِ هُوَ الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ لَا الشَّيْءُ نَفْسُهُ عَلَى أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِالْحُكْمِ الْخِطَابُ فَهُوَ قَدِيمٌ لَا يَحْصُلُ مِنْ شَيْءٍ، وَمَعْنَى حُصُولِ الْعِلْمِ مِنْ الدَّلِيلِ أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي الدَّلِيلِ فَيَعْلَمُ مِنْهُ الْحُكْمَ فَعِلْمُ الْمُقَلِّدِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إلَى قَوْلِ الْمُجْتَهِدِ الْمُسْتَنِدِ إلَى عِلْمِهِ الْمُسْتَنِدِ إلَى دَلِيلِ الْحُكْمِ لَكِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ وَقَيَّدَ الْأَدِلَّةَ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ الْمُقْتَضِي أَوْ بِعَدَمِ وُجُودِهِ لِوُجُودِ النَّافِي لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ. قَوْلُهُ (وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُكَرَّرٌ) ذَهَبَ ابْنُ الْحَاجِبِ إلَى أَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ عَنْ الْأَدِلَّةِ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ كَعِلْمِ جِبْرِيلَ وَالرَّسُولِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ الِاسْتِنْبَاطِ كَعِلْمِ الْمُجْتَهِدِ وَالْأَوَّلُ لَا يُسَمَّى فِقْهًا اصْطِلَاحًا فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قَيْدِ الِاسْتِدْلَالِ أَوْ الِاسْتِنْبَاطِ احْتِرَازًا عَنْهُ وَالْمُصَنِّفُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ احْتِرَازٌ عَنْ عِلْمِ الْمُقَلِّدِ فَجَزَمَ بِأَنَّهُ مُكَرَّرٌ لِخُرُوجِهِ بِقَوْلِهِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ حُصُولُ الْعِلْمِ عَنْ الدَّلِيلِ مُشْعِرٌ بِالِاسْتِدْلَالِ، إذْ لَا مَعْنَى لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مَأْخُوذًا عَنْ الدَّلِيلِ فَيَخْرُجُ عِلْمُ جِبْرِيلَ وَالرَّسُولِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - أَيْضًا قُلْنَا لَوْ سَلَّمَ فَذَكَرَ الِاسْتِدْلَالَ لِلتَّصْرِيحِ بِمَا عَلِمَ الْتِزَامًا أَوْ لِدَفْعِ الْوَهْمِ أَوْ لِلْبَيَانِ دُونَ الِاحْتِرَازِ وَمِثْلُهُ شَائِعٌ فِي التَّعْرِيفَاتِ. قَوْلُهُ (وَلَمَّا عَرَّفَ الْفِقْهَ) الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ خِطَابَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ تَعْرِيفٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ لَا لِلْحُكْمِ الْمَأْخُوذِ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ وَالْمُصَنِّفُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لَهُ وَأَنَّ الشَّرْعِيَّ قَيْدٌ زَائِدٌ عَلَى خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّ كَوْنَهُ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إنَّمَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْأَشَاعِرَةِ كُلُّ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَصَفُّحِهِ كُتُبَهُمْ فَنَقُولُ عَرَّفَ بَعْضُ

(وَقَدْ زَادَ الْبَعْضُ أَوْ الْوَضْعِ لِيَدْخُلَ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا) اعْلَمْ أَنَّ الْخِطَابَ نَوْعَانِ، إمَّا تَكْلِيفِيٌّ، وَهُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ، وَإِمَّا وَضْعِيٌّ، وَهُوَ الْخِطَابُ بِأَنَّ هَذَا سَبَبُ ذَلِكَ أَوْ شَرْطُهُ كَالدُّلُوكِ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فَلَمَّا ذَكَرَ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ، وَهُوَ التَّكْلِيفِيُّ وَجَبَ ذِكْرُ النَّوْعِ الْآخَرِ، وَهُوَ الْوَضْعِيُّ وَالْبَعْضُ لَمْ يَذْكُرْ الْوَضْعِيَّ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ كَوْنِ الدُّلُوكِ سَبَبًا لِلصَّلَاةِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الدُّلُوكُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ وَالْوُجُوبُ مِنْ بَابِ الِاقْتِضَاءِ لَكِنَّ الْحَقَّ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ تَعَلُّقُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لَيْسَ هَذَا وَلُزُومُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَشَاعِرَةِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْخِطَابُ فِي اللُّغَةِ تَوْجِيهُ الْكَلَامِ نَحْوَ الْغَيْرِ لِلْإِفْهَامِ، ثُمَّ نُقِلَ إلَى مَا يَقَعُ بِهِ التَّخَاطُبُ، وَهُوَ هَاهُنَا الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْأَزَلِيُّ وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ لَا يُسَمَّى فِي الْأَزَلِ خِطَابًا فَسَّرَ الْخِطَابَ بِالْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ لِلْإِفْهَامِ أَوْ الْكَلَامِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ إفْهَامُ مَنْ هُوَ مُتَهَيِّئٌ لِفَهْمِهِ، وَمَعْنَى تَعَلُّقِهِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ تَعَلُّقُهُ بِفِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِهِمْ وَإِلَّا لَمْ يُوجَدْ حُكْمٌ أَصْلًا، إذْ لَا خِطَابَ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْأَفْعَالِ فَدَخَلَ فِي الْحَدِّ خَوَاصُّ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَإِبَاحَةِ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ مِنْ النِّسَاءِ وَخَرَجَ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَحْوَالِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَتَنْزِيهَاتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا يُقَالُ إضَافَةُ الْخِطَابِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى تَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا حُكْمَ إلَّا خِطَابُهُ تَعَالَى وَقَدْ وَجَبَ طَاعَةُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأُولِي الْأَمْرِ وَالسَّيِّدِ فَخِطَابُهُمْ أَيْضًا حُكْمٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا وَجَبَتْ طَاعَتُهُمْ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهَا فَلَا حُكْمَ إلَّا حُكْمُهُ تَعَالَى، ثُمَّ اُعْتُرِضَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ الْقَصَصُ الْمُبَيِّنَةُ لِأَحْوَالِ الْمُكَلَّفِينَ وَأَفْعَالِهِمْ وَالْأَخْبَارُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَعْمَالِهِمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَحْكَامًا فَزِيدَ عَلَى التَّعْرِيفِ قَيْدٌ يُخَصِّصُهُ وَيُخْرِجُ مَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَفْرَادِ الْمَحْدُودِ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ، فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْخِطَابِ بِالْأَفْعَالِ فِي الْقَصَصِ وَالْإِخْبَارِ عَنْ الْأَعْمَالِ لَيْسَ تَعَلُّقَ الِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ، إذْ مَعْنَى التَّخْيِيرِ إبَاحَةُ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ لِلْمُكَلَّفِ، وَمَعْنَى الِاقْتِضَاءِ طَلَبُ الْفِعْلِ مِنْهُ مَعَ الْمَنْعِ عَنْ التَّرْكِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ أَوْ بِدُونِهِ، وَهُوَ النَّدْبُ أَوْ طَلَبُ التَّرْكِ مَعَ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ بِدُونِهِ، وَهُوَ الْكَرَاهَةُ وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةِ قَوْلِهِمْ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ قَيْدَ الْحَيْثِيَّةِ مُرَادٌ وَالْمَعْنَى خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَلَيْسَ تَعَلُّقُ الْخِطَابِ بِالْأَفْعَالِ فِي صُوَرِ النَّقْضِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ (وَقَدْ زَادَ الْبَعْضُ) اعْتَرَضَتْ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْخِطَابَ عِنْدَكُمْ قَدِيمٌ وَالْحُكْمُ حَادِثٌ لِكَوْنِهِ مُتَّصِفًا بِالْحُصُولِ بَعْدَ الْعَدَمِ كَقَوْلِنَا حَلَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا لَمْ تَكُنْ حَلَالًا وَلِكَوْنِهِ مُعَلَّلًا بِالْحَادِثِ كَقَوْلِنَا حَلَّتْ بِالنِّكَاحِ

فِي صُورَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِهِمَا نَوْعًا (وَبَعْضُهُمْ قَدْ عَرَّفَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِهَذَا) أَيْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مُتَابِعِي الْأَشْعَرِيِّ قَالُوا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَحُرِّمَتْ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي أَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى كَلِمَةٍ أَوْ، وَهُوَ لِلتَّشْكِيكِ وَالتَّرْدِيدِ فِينَا فِي التَّعْرِيفِ وَالتَّحْدِيدِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِلْأَحْكَامِ الْوَضْعِيَّةِ مِثْلَ سَبَبِيَّةِ الدُّلُوكِ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَشَرْطِيَّةِ الطَّهَارَةِ لَهَا وَمَانِعِيَّةِ النَّجَاسَةِ عَنْهَا وَالْمُصَنِّفُ أَهْمَلَ فِي تَفْسِيرِ الْخِطَابِ الْوَضْعِيِّ ذِكْرَ الْمَانِعِيَّةِ فَأَجَابَتْ الْأَشَاعِرَةُ عَنْ الْأَوَّلِ بِمَنْعِ اتِّصَافِ الْحُكْمِ بِالْحُصُولِ بَعْدَ الْعَدَمِ، بَلْ الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ هُوَ التَّعَلُّقُ وَالْمَعْنَى تَعَلَّقَ الْحِلُّ بِهَا بَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا وَبِمَنْعِ تَعْلِيلِ الْحُكْمِ بِالْحَادِثِ بِمَعْنَى تَأْثِيرِ الْحَادِثِ فِيهِ، بَلْ مَعْنَاهُ كَوْنُ الْحَادِثِ أَمَارَةً عَلَيْهِ وَمُعَرِّفًا لَهُ، إذْ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَاتٌ وَمُعَرِّفَاتٌ لَا مُوجِبَاتٌ وَمُؤَثِّرَاتٌ وَالْحَادِثُ يَصْلُحُ أَمَارَةً وَمُعَرِّفًا لِلْقَدِيمِ كَالْعَالَمِ لِلصَّانِعِ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ أَوْ هَاهُنَا لِتَقْسِيمِ الْمَحْدُودِ وَتَفْصِيلِهِ؛ لِأَنَّهُ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَهُ تَعَلُّقُ الِاقْتِضَاءِ وَنَوْعٌ لَهُ تَعَلُّقُ التَّخْيِيرِ فَلَا يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا فِي حَدٍّ وَاحِدٍ بِدُونِ التَّفْصِيلِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَالْتَزَمَهُ بَعْضُهُمْ وَزَادَ فِي التَّعْرِيفِ قَيْدًا يَعُمُّهُ وَيَجْعَلُهُ شَامِلًا لِلْحُكْمِ الْوَضْعِيِّ فَقَالَ بِالِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ أَوْ الْوَضْعِ أَيْ وَضْعِ الشَّارِعِ وَجَعْلِهِ وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ حُكْمٌ وَنَحْنُ لَا نُسَمِّيهِ حُكْمًا، وَإِنْ اصْطَلَحَ غَيْرُنَا عَلَى تَسْمِيَتِهِ حُكْمًا فَلَا مُشَاحَّةَ مَعَهُ وَعَلَيْهِ تَغْيِيرُ التَّعْرِيفِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا نُسَلِّمُ خُرُوجَهَا عَنْ الْحَدِّ فَإِنَّ مُرَادَنَا مِنْ الِاقْتِضَاءِ وَالتَّخْيِيرِ أَعَمُّ مِنْ التَّصْرِيحِ وَالضِّمْنِيِّ وَخِطَابُ الْوَضْعِ مِنْ قَبِيلِ الضِّمْنِيِّ، إذْ مَعْنَى سَبَبِيَّةِ الدُّلُوكِ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عِنْدَهُ، وَمَعْنَى شَرْطِيَّةِ الطَّهَارَةِ وُجُوبُهَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ بِدُونِهَا، وَمَعْنَى مَانِعِيَّةِ النَّجَاسَةِ حُرْمَةُ الصَّلَاةِ مَعَهَا أَوْ وُجُوبُ إزَالَتِهَا حَالَةَ الصَّلَاةِ وَكَذَا فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعُ وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْحَقَّ زِيَادَةُ الْقَيْدِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ نَوْعَانِ تَكْلِيفِيٌّ وَوَضْعِيٌّ فَلَمَّا ذَكَرَ أَحَدَهُمَا وَجَبَ ذِكْرُ الْآخَرِ وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْوَضْعِ دَاخِلًا فِي الِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ أَيْ فِي التَّكْلِيفِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا مَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ وَلُزُومُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِهِمَا وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا تَوْجِيهَ لِهَذَا الْكَلَامِ أَصْلًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْخَصْمَ يَمْنَعُ كَوْنَ الْخِطَابِ الْوَضْعِيِّ حُكْمًا وَيَصْطَلِحُ عَلَى تَسْمِيَةِ بَعْضِ أَقْسَامِ الْخِطَابِ حُكْمًا دُونَ الْبَعْضِ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذِكْرُ الْوَضْعِيِّ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، بَلْ كَيْفَ يَصِحُّ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَمْنَعُ كَوْنَهُ خَارِجًا عَنْ التَّعْرِيفِ وَيَجْعَلُ الْخِطَابَ التَّكْلِيفِيَّ أَعَمَّ مِنْهُ شَامِلًا لَهُ فَأَيُّ ضَرَرٍ لَهُ فِي تَغَايُرِ مَفْهُومَيْهِمَا، بَلْ كَيْفَ يَتَّحِدُ مَفْهُومُ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ الْمَفْهُومَ مِنْ الْخِطَابِ الْوَضْعِيِّ تَعَلُّقُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِيهِ تَسَامُحٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ الْخِطَابُ بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ لِكَوْنِهِ شَرْطًا لَهُ أَوْ سَبَبًا أَوْ مَانِعًا. 1 - قَوْلُهُ (وَبَعْضُهُمْ عَرَّفَ) ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْمُخْتَصَرَاتِ أَنَّ الْحُكْمَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى إشَارَةً إلَى الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الْمَعْهُودِ وَصَرَّحَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ بِأَنَّ

(فَالْحُكْمُ عَلَى هَذَا إسْنَادُ أَمْرٍ إلَى آخَرَ وَالْفُقَهَاءُ يُطْلِقُونَهُ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ مَجَازًا) بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ (كَالْخَلْقِ عَلَى الْمَخْلُوقِ) لَكِنْ لَمَّا شَاعَ فِيهِ صَارَ مَنْقُولًا اصْطِلَاحِيًّا، وَهُوَ حَقِيقَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ (يَرُدُّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَهُوَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ (إنَّ الْحُكْمَ الْمُصْطَلَحَ بَيْنَ) الْفُقَهَاءِ (مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ لَا هُوَ) أَيْ لَا الْخِطَابُ فَلَا يَكُونُ مَا ذُكِرَ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ الْمُصْطَلَحِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّعْرِيفِ هُنَا (وَأَيْضًا يَخْرُجُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ) كَجَوَازِ بَيْعِهِ وَصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَصَلَاتِهِ وَكَوْنِهَا مَنْدُوبَةً وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَلِّقٍ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ مَعَ أَنَّهُ حُكْمٌ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ حُكْمٌ بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِهِ بِفِعْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى فَتَوَهَّمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْحُكْمِ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ فِي أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ قَالَ الْمُصَنِّفُ إذَا كَانَ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ فَمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ لِيَكُونَ قَيْدًا مُفِيدًا مُخْرِجًا لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ وَنَحْوِهِ وَإِذَا كَانَ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مَا وَرَدَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ لَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ وَإِلَّا لَكَانَ الْحَدُّ أَعَمَّ مِنْ الْمَحْدُودِ لِتَنَاوُلِهِ مِثْلَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ الْمَحْدُودَ لَا يَتَنَاوَلُهُ حِينَئِذٍ لِعَدَمِ تَوَقُّفِهِ عَلَى الشَّرْعِ. قَوْلُهُ (فَالْحُكْمُ عَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ اللَّهِ إلَخْ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إسْنَادُ أَمْرٍ إلَى آخَرَ لَا خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَإِلَّا لَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْعِيَّةِ مُكَرَّرًا لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الشَّرْعَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مَا وَرَدَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ لَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الشَّرْعِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِثْلُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ قُلْنَا يَخْرُجُ بِقَيْدِ الْعَمَلِيَّةِ. قَوْلُهُ (وَالْفُقَهَاءُ) يُرِيدُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ حَقِيقَةٌ فِيمَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ حَيْثُ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ أَعْنِي الْحُكْمَ عَلَى الْمَفْعُولِ أَعْنِي الْمَحْكُومَ بِهِ. قَوْلُهُ (يَرُدُّ عَلَيْهِ) إشَارَةٌ إلَى اعْتِرَاضَاتٍ عَلَى تَعْرِيفِ الْحُكْمِ مَعَ الْجَوَابِ عَنْ الْبَعْضِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ الْحُكْمِ الْمُصْطَلَحُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِالْخِطَابِ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ مِنْ صِفَاتِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا نَفْسِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا مِمَّا أُورِدَ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ كَمَا أُرِيدَ بِالْحُكْمِ مَا حُكِمَ بِهِ أُرِيدَ بِالْخِطَابِ مَا خُوطِبَ بِهِ لِلْقَرِينَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ لَيْسَ نَفْسَ كَلَامِ اللَّهِ الثَّانِي أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ وَنَحْوَهُمَا وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ تَسَامُحٌ الثَّالِثُ، وَهُوَ لِلْعَلَّامَةِ الْمُحَقِّقِ عَضُدِ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ أَنَّ الْحُكْمَ نَفْسُ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْإِيجَابُ هُوَ نَفْسُ قَوْلِهِ افْعَلْ وَلَيْسَ لِلْفِعْلِ مِنْهُ صِفَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ لَيْسَ لِمُتَعَلَّقِهِ مِنْهُ صِفَةٌ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَعْدُومِ، وَهُوَ إذَا نُسِبَ إلَى الْحَاكِمِ يُسَمَّى إيجَابًا وَإِذَا نُسِبَ إلَى مَا فِيهِ الْحُكْمُ

وَلِيِّهِ قُلْنَا هَذَا فِي الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ. وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِمَالِهِ أَوْ بِذِمَّتِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، ثُمَّ أَدَاءُ الْوَلِيِّ حُكْمٌ آخَرُ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الْأَوَّلِ لَا عَيْنُهُ وَسَيَجِيءُ فِي بَابِ الْحُكْمِ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَفْعَالِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ إذْ لَا خِطَابَ هُنَا، (إلَّا أَنْ يُقَالَ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَصَادِرَ قَدْ تَقَعُ ظَرْفًا، نَحْوُ آتِيك طُلُوعَ الْفَجْرِ أَيْ وَقْتَ طُلُوعِهِ فَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ هَذَا الْقَبِيلُ فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ مِنْ قَوْلِهِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ مَا ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ أَيْ جَمِيعُ الْأَوْقَاتِ إلَّا وَقْتَ قَوْلِهِ فِي جَوَابِ الْإِشْكَالِ (يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ أَنَّ الْخِطَابَ وَرَدَ بِهَذَا إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ) فَإِنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ (وَأَيْضًا يَخْرُجُ نَحْوُ آمِنُوا وَفَاعْتَبِرُوا) أَيْ مِنْ الْحَدِّ مَعَ أَنَّهَا حُكْمٌ فَالْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ هُنَا التَّصْدِيقُ فَوُجُوبُ التَّصْدِيقِ حُكْمٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ إذْ الْمُرَادُ بِالْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ وَوُجُوبُ الِاعْتِبَارِ أَيْ الْقِيَاسُ حُكْمٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ. (وَيَقَعُ التَّكْرَارُ بَيْنَ الْعَمَلِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُتَعَلِّقِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ) ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ الْفِعْلُ يُسَمَّى وُجُوبًا وَهُمَا مُتَّحِدَانِ بِالذَّاتِ مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ فَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَجْعَلُونَ أَقْسَامَ الْحُكْمِ الْوُجُوبَ وَالْحُرْمَةَ مَرَّةً وَالْإِيجَابَ وَالتَّحْرِيمَ أُخْرَى وَتَارَةً الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ كَمَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ الثَّانِي أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ لِخُرُوجِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الصِّبْيَانِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي يُتَوَهَّمُ تَعَلُّقُهَا بِفِعْلِ الصَّبِيِّ إنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ الْوَلِيِّ مَثَلًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحُقُوقِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَرَدَّهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلًا بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَصِحَّةِ إسْلَامِهِ وَصَلَاتِهِ وَكَوْنِهَا مَنْدُوبَةً وَثَانِيًا بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِمَالِ الصَّبِيِّ أَوْ ذِمَّتِهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَأَدَاءَ الْوَلِيِّ حُكْمٌ آخَرُ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يَتَأَتَّى عَلَى مَذْهَبِ مَنْ عَرَّفَ الْحُكْمَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ فَإِنَّهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنْ لَا حُكْمَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصَّبِيِّ إلَّا وُجُوبُ أَدَاءِ الْحَقِّ مِنْ مَالِهِ، وَذَلِكَ عَلَى الْوَلِيِّ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِمَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ لَا يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ، وَإِنْ أُقِيمَ الْعِبَادُ مَقَامَ الْمُكَلَّفِينَ لِانْتِفَاءِ التَّعَلُّقِ بِالْأَفْعَالِ بِأَنَّ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ لَيْسَا مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَأْتِيِّ بِهِ مُوَافِقًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَوْ مُخَالِفًا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ كَكَوْنِ الشَّخْصِ مُصَلِّيًا أَوْ تَارِكًا لِلصَّلَاةِ، وَمَعْنَى جَوَازِ الْبَيْعِ صِحَّتُهُ، وَمَعْنَى كَوْنِ صَلَاتِهِ مَنْدُوبَةً أَنَّ الْوَلِيَّ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُحَرِّضَهُ عَلَى الصَّلَاةِ وَيَأْمُرَهُ بِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ» الثَّالِثُ أَنَّ التَّعْرِيفَ غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ لِلْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ لِعَدَمِ خِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَجَابَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ السُّؤَالَ وَارِدٌ فِيمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَيْضًا وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَاشِفٌ عَنْ خِطَابِ اللَّهِ وَمُعَرِّفٌ لَهُ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ الرَّابِعُ أَنَّهُ غَيْرُ شَامِلٍ لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ

الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْحُكْمُ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ فَيَكُونُ حَدُّ الْفِقْهِ الْعِلْمُ بِخِطَابَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ فَيَقَعُ التَّكْرَارُ (إلَّا أَنْ يُقَالَ نَعْنِي بِالْأَفْعَالِ مَا يَعُمُّ فِعْلَ الْجَوَارِحِ وَفِعْلَ الْقَلْبِ وَبِالْعَمَلِيَّةِ مَا يَخْتَصُّ بِالْجَوَارِحِ) فَانْدَفَعَ بِهَذِهِ الْعِنَايَةِ التَّكْرَارُ وَخَرَجَ جَوَابُ الْإِشْكَالِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ يَخْرُجُ نَحْوَ آمِنُوا وَفَاعْتَبِرُوا؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ. (وَالشَّرْعِيَّةُ مَا لَا تُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ) سَوَاءٌ كَانَ الْخِطَابُ وَارِدًا فِي عَيْنِ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ وَارِدًا فِي صُورَةٍ يَحْتَاجُ إلَيْهَا هَذَا الْحُكْمُ كَالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ فَتَكُونُ أَحْكَامُهَا شَرْعِيَّةً إذْ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لَا يُدْرَكُ الْحُكْمُ فِي الْمَقِيسِ (فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ حُسْنُ كُلِّ فِعْلٍ وَقُبْحُهُ عِنْدَ نُفَاةِ كَوْنِهِمَا عَقْلِيَّيْنِ) اعْلَمْ أَنَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْمُعْتَزِلَةِ حُسْنَ بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَقُبْحَهَا يُدْرَكَانِ عَقْلًا وَبَعْضُهَا لَا بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَفْعَالِ الْقَلْبِ، مِثْلُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ أَيْ التَّصْدِيقِ وَوُجُوبِ الِاعْتِبَارِ أَيْ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْأَفْعَالِ أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ. الْخَامِسُ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ فِي تَعْرِيفِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ اخْتَصَّ بِالْعَمَلِيَّاتِ وَخَرَجَتْ النَّظَرِيَّاتُ بِنَاءً عَلَى اخْتِصَاصِ الْفِعْلِ بِالْجَوَارِحِ فَيَكُونُ ذِكْرُ الْعَمَلِيَّةِ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ مُكَرَّرًا وَأَجَابَ عَنْهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِعْلِ مَا يَعُمُّ الْقَلْبَ وَالْجَوَارِحَ وَبِالْعَمَلِ مَا يَخُصُّ الْجَوَارِحَ فَلَا يَخْرُجُ مِثْلُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ وَالِاعْتِبَارِ عَنْ تَعْرِيفِ الْحُكْمِ وَلَا يَكُونُ ذِكْرُ الْعَمَلِيَّةِ مُكَرَّرًا لِإِفَادَتِهِ خُرُوجَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْجَوَارِحِ عَنْ تَعْرِيفِ الْفِقْهِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا حُمِلَ الْحُكْمُ فِي تَعْرِيفِ الْفِقْهِ عَلَى الْمُصْطَلَحِ فَذِكْرُ الْعَمَلِيَّةِ مُكَرَّرٌ قَطْعًا؛ لِأَنَّ مِثْلَ وُجُوبِ الْإِيمَانِ خَارِجٌ بِقَيْدِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ وَمِثْلَ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ الْمُصْطَلَحِ لِخُرُوجِهِ بِقَيْدِ الِاقْتِضَاءِ أَوْ التَّخْيِيرِ لَا يُقَالُ مَعْنَى كَوْنِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ حُجَجًا وُجُوبُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا فَيَدْخُلُ فِي الِاقْتِضَاءِ الضِّمْنِيُّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فَحِينَئِذٍ لَا يَخْرُجُ بِقَيْدِ الْعَمَلِيَّةِ وَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِهِ مِنْ الْفِقْهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ التَّقْيِيدَ بِالْعَمَلِيَّةِ يُقَيِّدُ إخْرَاجَ مِثْلِ جَوَازِ الْإِجْمَاعِ وَوُجُوبِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. قَوْلُهُ (وَالشَّرْعِيَّةُ مَا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ) بِنَفْسِ الْحُكْمِ أَوْ بِأَصْلِهِ الْمَقِيسِ هُوَ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ عَنْهَا وُجُوبُ الْإِيمَانِ وَيَدْخُلُ مِثْلُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَوْ الْقِيَاسِ حُجَّةً عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا، وَإِنَّمَا لَمْ يُفَسِّرْ الشَّرْعِيَّةَ بِمَا وَرَدَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ الْحُكْمَ مُفَسَّرٌ بِخِطَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى آخِرِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْيِيدُهُ بِالشَّرْعِ تَكْرَارًا أَوْ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ مَا وَرَدَ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ مَا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّرْعِ، إذْ لَا مَجَالَ لِلْعَقْلِ فِي دَرْكِ الْأَحْكَامِ فَلَوْ كَانَ خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى آخِرِهِ تَعْرِيفًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا زَعَمَ الْمُصَنِّفُ لَا لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَكَانَ ذِكْرُ الشَّرْعِيِّ تَكْرَارًا أَلْبَتَّةَ أَيَّ تَفْسِيرٍ فَسَّرَ. قَوْلُهُ (فَيَدْخُلُ) يُرِيدُ أَنَّ تَعْرِيفَ الْفِقْهِ عَلَى رَأْيِ

خِطَابِ الشَّارِعِ فَالْأَوَّلُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفِقْهِ، بَلْ هُوَ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَالثَّانِي هُوَ الْفِقْهُ وَحَدُّ الْفِقْهِ يَكُونُ صَحِيحًا جَامِعًا مَانِعًا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ فَحُسْنُ كُلِّ فِعْلٍ وَقُبْحُهُ شَرْعِيٌّ فَيَكُونَانِ مِنْ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّ حُسْنَ التَّوَاضُعِ وَالْجُودَ وَنَحْوَهُمَا وَقُبْحَ أَضْدَادِهِمَا لَا يُعَدَّانِ مِنْ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ عِنْدَ أَحَدٍ فَيَدْخُلُ فِي حَدِّ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا تَعْرِيفًا صَحِيحًا لِلْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ. (وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى حَدِّ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحِ (الَّتِي لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً لِإِخْرَاجِ مِثْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُمَا مِنْهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ بَعْضَهَا وَإِنْ قَلَّ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ ذُكِرَ فِي الْمَحْصُولِ لِيُخْرِجَ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَأَمْثَالِهِمَا إذْ لَوْ لَمْ يُخْرِجْ لَكَانَ الشَّخْصُ الْعَالِمُ بِوُجُوبِهِمَا فَقِيهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَشَاعِرَةِ شَامِلٌ لِلْعِلْمِ عَنْ دَلِيلٍ بِحُسْنِ الْجُودِ وَالتَّوَاضُعِ أَيْ وُجُوبِهِمَا أَوْ نَدْبِهِمَا وَقُبْحِ الْبُخْلِ وَالتَّكَبُّرِ أَيْ حُرْمَتِهِمَا أَوْ كَرَاهَتِهِمَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَحْكَامٌ لَا تُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّرْعِ عَلَى رَأْيِهِمْ مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ بِهَا مِنْ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ لَا مِنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَأَقُولُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ عَمَلِيَّةً بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ. كَيْفَ وَالْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ أَخْلَاقُ مَلَكَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْعِلْمَ بِحُسْنِهَا وَقُبْحِهَا مِنْ عِلْمِ الْأَخْلَاقِ وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا سَبَقَ بِأَنَّهُ يُزَادُ عَمَلًا عَلَى مَعْرِفَةِ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا لِيَخْرُجَ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ وَبِأَنَّ مَعْرِفَةَ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْوِجْدَانِيَّاتِ أَيْ الْأَخْلَاقِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْمَلَكَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ عِلْمُ الْأَخْلَاقِ، وَمِنْ الْعَمَلِيَّاتِ عِلْمُ الْفِقْهِ فَكَأَنَّهُ نَسِيَ مَا ذَكَرَهُ ثَمَّةَ أَوْ ذَهِلَ عَنْ قَيْدِ الْعَمَلِيَّةِ هَاهُنَا. قَوْلُهُ (وَلَا يُرَادُ عَلَيْهِ) الْمُصْطَلَحُ بَيْنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَحْكَامِ إنَّمَا يُسَمَّى فِقْهًا إذَا كَانَ حُصُولُهُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ حَتَّى أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا اشْتَهَرَ كَوْنُهُ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ الْمُتَدَيِّنُ وَغَيْرُهُ لَا يُعَدُّ مِنْ الْفِقْهِ اصْطِلَاحًا وَلِهَذَا يَذْكُرُونَ قَيْدَ الِاكْتِسَابِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَالْإِمَامُ قَيَّدَ فِي الْمَحْصُولِ الْأَحْكَامَ بِاَلَّتِي لَا يُعْلَمُ كَوْنُهَا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَقَالَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى فِقْهًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْفِقْهِ وَلَا يُعَدُّ مِنْهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَيْدِ الْعَمَلِيَّةِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْتَرَزْ عَنْهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمُجَرَّدِ وُجُوبِهِمَا فَقِيهًا عَلَى مَا فَهِمَهُ الْمُصَنِّفُ فَاعْتَرَضَ بِمَنْعِ لُزُومِ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَقِيهَ مَنْ لَهُ الْفِقْهُ وَالْفِقْهُ لَيْسَ عِلْمًا بِبَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَإِنْ قَلَّ حَتَّى يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ فَقِيهًا، بَلْ الْعَالِمُ بِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ غَرِيبَةٍ اسْتِدْلَالِيَّةٍ وَحْدَهَا لَا يُسَمَّى فَقِيهًا، ثُمَّ إذَا كَانَ اصْطِلَاحُهُمْ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ بِضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِهَا عَنْ تَعْرِيفِهِمْ الْفِقْهَ فَلَا يَكُونُ الْقَيْدُ الْمُخْرِجُ لَهَا ضَائِعًا وَلَا الْقَوْلُ بِكَوْنِهَا مِنْ الْفِقْهِ صَحِيحًا عِنْدَهُمْ وَلَا الِاصْطِلَاحُ عَلَى ذَلِكَ صَالِحًا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ (ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْأَحْكَامِ) اعْتِرَاضٌ عَلَى تَعْرِيفِ الْفِقْهِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ إمَّا الْكُلُّ أَيْ

فَأَقُولُ هَذَا الْقَيْدُ ضَائِعٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُخْرِجْ لَكَانَ الشَّخْصُ الْعَالِمُ بِوُجُوبِهِمَا فَقِيهًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ لَيْسَ بَعْضَهَا وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّ الشَّخْصَ الْعَالِمَ بِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَدِلَّتِهَا سَوَاءٌ يَعْلَمُ كَوْنَهَا مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً أَوْ لَا يَعْلَمُ كَالْمَسَائِلِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي فِي كِتَابِ الرَّهْنِ وَنَحْوِهِ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا فَالْعِلْمُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مِنْ الْفِقْهِ مَعَ أَنَّ الْعَالِمَ بِذَلِكَ وَحْدَهُ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا كَالْعِلْمِ بِمِائَةِ مَسْأَلَةٍ غَرِيبَةٍ فَإِنَّهُ مِنْ الْفِقْهِ لَكِنَّ الْعَالِمَ بِهَا وَحْدَهَا لَيْسَ بِفَقِيهٍ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِمَا مِنْهُ بِذَلِكَ الْعُذْرِ الْفَاسِدِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْأَحْكَامِ الْكُلُّ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ لَا تَكَادُ تَتَنَاهَى، وَلَا ضَابِطَ يَجْمَعُ أَحْكَامَهَا، وَلَا يُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ لِوُجُودٍ لَا أَدْرِي، وَلَا بَعْضَ لَهُ نِسْبَةٌ مُعَيَّنَةٌ بِالْكُلِّ كَالنِّصْفِ أَوْ الْأَكْثَرِ لِلْجَهْلِ بِهِ، وَلَا التَّهَيُّؤُ لِلْكُلِّ إذْ التَّهَيُّؤُ الْبَعِيدُ قَدْ يُوجَدُ لِغَيْرِ الْفَقِيهِ وَالْقَرِيبُ مَجْهُولٌ غَيْرُ مُنْضَبِطٍ، وَلَا يُرَادُ أَنَّهُ يَكُونُ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ الْمُجْتَهِدِينَ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُمْ عِلْمُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ مُدَّةَ حَيَاتِهِمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَدْرِ الدَّهْرَ وَلِلْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَلِأَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْحَوَادِثِ رُبَّمَا يَكُونُ مِمَّا لَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغٌ وَأَيْضًا لَا يَلِيقُ فِي الْحُدُودِ أَنْ يُذْكَرَ الْعِلْمُ وَيُرَادَ بِهِ تَهَيُّؤٌ مَخْصُوصٌ إذْ لَا دَلَالَةَ لِلَّفْظِ عَلَيْهِ أَصْلًا وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْفِقْهُ عِلْمًا بِجُمْلَةٍ مُتَنَاهِيَةٍ مَضْبُوطَةٍ فَلِهَذَا قَالَ: ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَجْمُوعُ، وَإِمَّا كُلُّ وَاحِدٍ، وَإِمَّا بَعْضٌ لَهُ نِسْبَةٌ مُعَيَّنَةٌ إلَى الْكُلِّ كَالنِّصْفِ أَوْ الْأَكْثَرِ كَالثُّلُثَيْنِ مَثَلًا، وَإِمَّا الْبَعْضُ مُطْلَقًا، وَإِنْ قَلَّ وَالْأَقْسَامُ بِأَسْرِهَا بَاطِلَةٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْحَوَادِثَ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَنَاهِيَةً فِي نَفْسِهَا بِانْقِضَاءِ دَارِ التَّكْلِيفِ إلَّا أَنَّهَا لِكَثْرَتِهَا وَعَدَمِ انْقِطَاعِهَا مَا دَامَتْ الدُّنْيَا غَيْرَ دَاخِلَةٍ تَحْتَ حَصْرِ الْحَاصِرِينَ وَضَبْطِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ لَا تَكَادُ تَتَنَاهَى فَلَا يَعْلَمُ أَحْكَامَهَا جُزْئِيًّا فَجُزْئِيًّا لِعَدَمِ إحَاطَةِ الْبَشَرِ بِذَلِكَ وَلَا كُلِّيًّا تَفْصِيلِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَابِطَ يَجْمَعُهَا لِاخْتِلَافِ الْحَوَادِثِ اخْتِلَافًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ فَقِيهًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ بَعْضَ مَنْ هُوَ فَقِيهٌ بِالْإِجْمَاعِ قَدْ لَا يَعْرِفُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ كَمَالِكٍ سُئِلَ عَنْ أَرْبَعِينَ مَسْأَلَةً فَقَالَ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ لَا أَدْرِي. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْكُلَّ مَجْهُولُ الْكَمِّيَّةِ وَالْجَهْلُ بِكَمِّيَّةِ الْكُلِّ يَسْتَلْزِمُ الْجَهْلَ بِكَمِّيَّةِ الْكُسُورِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِ مِنْ النِّصْفِ وَغَيْرِهِ ضَرُورَةً وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا فَوْقَ النِّصْفِ، وَهُوَ أَيْضًا مَجْهُولٌ. وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ بِمَسْأَلَةٍ أَوْ مَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الدَّلِيلِ فَقِيهًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ اصْطِلَاحًا، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِيمَا سَبَقَ فَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ هَاهُنَا، بَلْ أَشَارَ إلَيْهِ بِلَفْظِ " ثُمَّ " أَيْ بَعْدَمَا لَا يُرَادُ الْبَعْضُ، وَإِنْ قَلَّ لِإِيرَادِ الْكُلُّ إلَى آخِرِهِ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ دُونَ كُلِّ وَاحِدٍ كَقَوْلِنَا كُلُّ الْقَوْمِ يَرْفَعُ هَذَا الْحَجَرَ لَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمِنْهَا مَا هُوَ بِالْعَكْسِ كَقَوْلِنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ يَكْفِيهِ هَذَا الطَّعَامُ لَا كُلُّ النَّاسِ وَمِنْهَا مَا لَا يَخْتَلِفُ كَقَوْلِنَا

(بَلْ هُوَ الْعِلْمُ بِكُلِّ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا وَاَلَّتِي انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ الصَّحِيحِ مِنْهَا) فَالْمُعْتَبَرُ أَنْ يَعْلَمَ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ جَمِيعَ مَا قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَانُوا فُقَهَاءَ فِي وَقْتِ نُزُولِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بَعْدَهُ، ثُمَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ قَدْ لَا يَعْلَمُهُ الْفَقِيهُ وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِعَرَبِيَّتِهِمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِمَا ذَكَرَ وَلَمْ يُطْلَقْ الْفَقِيهُ إلَّا عَلَى الْمُسْتَنْبِطِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــQضَرَبْت كُلَّ الْقَوْمِ أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، إذْ مَعْرِفَةُ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مَعْرِفَةُ كُلِّ حُكْمٍ وَبِالْعَكْسِ، وَإِنْ الْتَزَمَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ مَعْرِفَةَ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ أَعَمُّ مِنْ مَعْرِفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْ الْبَعْضِ فَقَطْ فَعَدَمُ تَنَاهِي الْحَوَادِثِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ بِالْكُلِّ مَجْمُوعَ الْأَحْكَامِ الْمَاضِيَةِ وَالْآتِيَةِ وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَقَعُ وَيَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ عَلَى التَّفْصِيلِ وَيَلْتَفِتُ إلَيْهِ ذِهْنُ الْمُجْتَهِدِينَ حَيْثُ عَلَّلَ عَدَمَ إرَادَةِ الْأَوَّلِ بِلَا تَنَاهِي الْحَوَادِثِ وَالثَّانِي بِثُبُوتٍ لَا أَدْرِي وَلَمَّا أَجَابَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْكَامِ الْمَجْمُوعُ، وَمَعْنَى الْعِلْمِ بِهَا التَّهَيُّؤُ لِذَلِكَ رَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ التَّهَيُّؤَ الْبَعِيدَ حَاصِلٌ لِغَيْرِ الْفَقِيهِ، وَالْقَرِيبُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ، إذْ لَا يُعْرَفُ أَنَّ أَيَّ قَدْرٍ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ يُقَالُ لَهُ التَّهَيُّؤُ الْقَرِيبُ وَلَمَّا فَسَّرَ التَّهَيُّؤَ بِكَوْنِ الشَّخْصِ بِحَيْثُ يَعْلَمُ بِالِاجْتِهَادِ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَوَادِثِ لِاسْتِجْمَاعِهِ الْمَأْخَذَ وَالْأَسْبَابَ وَالشَّرَائِطَ الَّتِي يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ تَحْصِيلِهَا وَيَكْفِيهِ الرُّجُوعُ إلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ رَدَّهُ الْمُصَنِّفُ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهَا بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ تَيَسُّرِ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ يُنَافِي التَّهَيُّؤَ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ أَوْ وُجُودِ الْمَوَانِعِ أَوْ مُعَارَضَةِ الْوَهْمِ الْعَقْلِيِّ أَوْ مُشَاكَلَةِ الْحَقِّ الْبَاطِلَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِهَا نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا مَسَاغَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ اعْتَمَدَ الِاجْتِهَادَ بِرَأْيِهِ فِيمَا لَا يَجِدُ فِيهِ النَّصَّ وَلَمْ يَقُلْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلٌّ لِلِاجْتِهَادِ وَلَا نُسَلِّمُ أَنْ لَا دَلَالَةَ لِلَفْظِ الْعِلْمِ عَلَى التَّهَيُّؤِ الْمَخْصُوصِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بِهَا عَلَى إدْرَاكِ جُزْئِيَّاتِ الْأَحْكَامِ، وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَيْهَا شَائِعٌ ذَائِعٌ فِي الْعُرْفِ كَقَوْلِهِمْ فِي تَعْرِيفِ الْعُلُومِ عِلْمُ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هَذِهِ الْمَلِكَةُ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا الصِّنَاعَةُ لَا نَفْسُ الْإِدْرَاكِ وَكَقَوْلِهِمْ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ كَوْنُهُمَا جِهَتَيْ الْإِدْرَاكِ. قَوْلُهُ، (بَلْ هُوَ الْعِلْمُ) تَعْرِيفٌ مُخْتَرَعٌ لِلْفِقْهِ بِحَيْثُ تَنْضَبِطُ مَعْلُومَاتُهُ وَالتَّقْيِيدُ بِكُلِّ الْأَحْكَامِ يَخْرُجُ بِهِ الْبَعْضُ إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِحُكْمٍ أَوْ بِحُكْمَيْنِ فَالْعَالِمُ بِهِ مَعَ الْمَلَكَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُسَمَّى فَقِيهًا وَإِذَا عَلِمَ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ يُسَمَّى فَقِيهًا وَقَيَّدَ نُزُولَ الْوَحْيِ بِالظُّهُورِ احْتِرَازًا عَمَّا نَزَلَ بِهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يُبَلَّغْ بَعْدُ فَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْفَقِيهِ مَعْرِفَتُهُ. قَوْلُهُ (مَعَ مَلَكَةِ الِاسْتِنْبَاطِ) أَيْ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرَ بِشَرْطِ كَوْنِهِ

مِنْهُمْ وَعِلْمُ الْمَسَائِلِ الْإِجْمَاعِيَّةِ يُشْتَرَطُ إلَّا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَنِهِ لَا الْمَسَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ لِلدَّوْرِ، بَلْ يُشْرَطُ مَلَكَةُ الِاسْتِنْبَاطِ الصَّحِيحِ هُوَ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَقْرُونًا بِمَلَكَةِ اسْتِنْبَاطِ الْفُرُوعِ الْقِيَاسِيَّةِ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ أَوْ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ أَدِلَّتِهَا حَتَّى إنَّ الْعِلْمَ بِالْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ سَمَاعِ النَّصِّ لِلْعِلْمِ بِاللُّغَةِ مِنْ غَيْرِ اقْتِدَارٍ عَلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ لَا يُعَدُّ مِنْ الْفِقْهِ وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ. قَوْلُهُ (لَا الْمَسَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ) أَيْ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْفَقِيهِ الْعِلْمُ بِالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا نَتِيجَةُ الْفَقَاهَةِ وَالِاجْتِهَادِ لِكَوْنِهَا فُرُوعًا مُسْتَنْبَطَةً بِالِاجْتِهَادِ فَيَتَوَقَّفُ الْعِلْمُ بِهَا عَلَى كَوْنِ الشَّخْصِ فَقِيهًا فَلَوْ تَوَقَّفَتْ الْفَقَاهَةُ عَلَيْهَا لَزِمَ الدَّوْرُ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي أَوَّلِ الْقَائِسِينَ. وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُ فَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ الْعِلْمُ بِالْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ الَّتِي اسْتَنْبَطَهَا الْمُجْتَهِدُ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ دَوْرٍ قُلْنَا لَا يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ التَّقْلِيدُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ الْمَسَائِلَ الْقِيَاسِيَّةَ بِاجْتِهَادِهِ فَلَوْ اُشْتُرِطَ الْعِلْمُ بِهَا لَزِمَ الدَّوْرُ نَعَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَعْرِفَ أَقْوَالَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْمَسَائِلِ الْقِيَاسِيَّةِ لِئَلَّا يَقَعَ فِي مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَسَائِلُ الْقِيَاسِيَّةُ مِمَّا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا، إذْ الْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ فَيُشْتَرَطُ لِلْمُجْتَهِدِ الْأَخِيرِ الْعِلْمُ بِهَا قُلْنَا نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا إنَّمَا ظَهَرَ لِلْمُجْتَهِدِ السَّابِقِ لَا فِي الْوَاقِعِ وَلَا عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الثَّانِي وَلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ الْأَوَّلِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ مَعْرِفَتُهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مَا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ لَا يَتَوَسَّطُ الْقِيَاسُ، ثُمَّ هَاهُنَا أَبْحَاثٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ الْفِقْهِ الْمُصْطَلَحُ بَيْنَ الْقَوْمِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ مُعَيَّنٍ كَسَائِرِ الْعُلُومِ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ اسْمٌ لِمَفْهُومٍ كُلِّيٍّ يَتَبَدَّلُ بِحَسَبِ الْأَيَّامِ وَالْأَعْصَارِ فَيَوْمًا يَكُونُ عِلْمًا بِجُمْلَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَيَوْمًا بِأَكْثَرَ وَأَكْثَرَ وَهَكَذَا يَتَزَايَدُ إلَى انْقِرَاضِ زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ثُمَّ أَخَذَ يَتَزَايَدُ بِحَسَبِ الْأَعْصَارِ وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعَاتِ وَأَيْضًا يَنْتَقِصُ بِحَسَبِ النَّوَاسِخِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ أَخْبَارِ الْآحَادِ. الثَّانِي أَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَصْدُقُ عَلَى فِقْهِ الصَّحَابَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِعَدَمِ الْإِجْمَاعِ فِي زَمَانِهِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ الْعِلْمُ بِمَا ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ فَقَطْ إنْ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعٌ وَبِهِ وَبِمَا انْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ إنْ كَانَ وَمِثْلُهُ فِي التَّعْرِيفَاتِ بَعِيدٌ. الثَّالِثُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْقِيَاسِيَّةِ خَارِجًا عَنْ الْفِقْهِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُمْ مُعْظَمُ مَسَائِلِ الْفِقْهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ فِقْهٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، إذْ قَدْ ظَهَرَ عَلَيْهِ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْفِقْهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ شَيْئًا آخَرَ. الرَّابِعُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِظُهُورِ نُزُولِ الْوَحْيِ لِظُهُورٍ فِي الْجُمْلَةِ فَكَثِيرٌ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ لَمْ يَعْرِفُوا كَثِيرًا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهَا عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَمَا رَجَعُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْوَقَائِعِ إلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي فَقَاهَتِهِمْ، وَإِنْ أُرِيدَ الظُّهُورُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْبُوطٍ لِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ وَتَفَرُّقِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ وَالْأَشْغَالِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعِلْمُ بِالْحُكْمِ الَّذِي يَرْوِيهِ الْآحَادُ مِنْ الْفِقْهِ حَتَّى يَصِيرَ

بِشَرَائِطِهِ وَمَا قِيلَ: إنَّ الْفِقْهَ ظَنِّيٌّ فَلِمَ أَطْلَقَ الْعِلْمَ عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ أَوَّلًا أَنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ فَإِنَّ الْجُمْلَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا فِقْهٌ وَهِيَ مَا قَدْ ظَهَرَ نُزُولُ الْوَحْيِ بِهِ وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ قَطْعِيَّةٌ. وَثَانِيًا: أَنَّ الْعِلْمَ يُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّيَّاتِ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى الْقَطْعِيَّاتِ كَالطِّبِّ وَنَحْوِهِ، وَثَالِثًا أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا اعْتَبَرَ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ كُلَّمَا غَلَبَ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ بِالْحُكْمِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فَكُلَّمَا وُجِدَ غَلَبَةُ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ مَقْطُوعًا بِهِ فَهَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ إنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ يَكُونُ صَحِيحًا، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ فَيُرَادُ بِقَوْلِهِ كُلَّمَا غَلَبَ ظَنُّ الْمُجْتَهِدِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَوْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَائِعًا ظَاهِرًا عَلَى الْأَكْثَرِ فَيَصِيرُ فِقْهًا وَبِالْجُمْلَةِ هَذَا التَّعْرِيفُ لَا يَخْلُو عَنْ الْإِشْكَالِ وَالِاخْتِلَالِ. قَوْلُهُ (فَجَوَابُهُ أَوَّلًا) مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَا أَظْهَرَ الْقِيَاسُ نُزُولَ الْوَحْيِ بِهِ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْفِقْهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، ثُمَّ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ أَيْضًا إنَّمَا يَكُونُ قَطْعِيًّا إذَا كَانَ ثُبُوتُهُمَا أَيْضًا قَطْعِيًّا الْقَطْعُ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ظَنِّيَّةٌ. قَوْلُهُ (وَثَالِثًا) هُوَ الَّذِي ذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحُكْمَ مَقْطُوعٌ وَالظَّنُّ فِي طَرِيقِهِ وَتَقْرِيرِهِ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالظَّنِّ وَكَثُرَتْ أَخْبَارُ الْآحَادِ فِي ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ مُتَوَاتِرَةَ الْمَعْنَى، وَهَذَا مَعْنَى اعْتِبَارِ الشَّارِعِ غَلَبَةَ الظَّنِّ فِي الْأَحْكَامِ صَارَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ قَطْعِيٍّ مِنْ الشَّارِعِ عَلَى أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَيَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْمَظْنُونِ قَطْعِيًّا فَيَصِحُّ إطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى إدْرَاكِهِ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ، فَإِنْ قِيلَ الْمَظْنُونُ مَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ وَالْمَعْلُومُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ فَيَتَنَافَيَانِ قُلْنَا يَكُونُ مَظْنُونًا فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِمُلَاحَظَةِ هَذَا الْقِيَاسِ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهُ مَظْنُونًا لِلْمُجْتَهِدِ وَكُلُّ مَا عُلِمَ كَوْنُهُ مَظْنُونًا لِلْمُجْتَهِدِ عَلَى كَوْنِهِ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قَطْعًا بِنَاءً عَلَى تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ. وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُصِيبَ وَاحِدٌ فَكَأَنَّهُ ثَبَتَ نَصٌّ قَطْعِيٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ وَاجِبُ الْعَمَلِ أَوْ ثَابِتٌ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهِ أَوْ ثُبُوتُهُ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ قَطْعِيًّا لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ الْفِقْهُ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْأَحْكَامِ وَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ثُبُوتُهُ فِي الْوَاقِعِ قَطْعِيًّا وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الثَّابِتَ الْقَطْعِيَّ مَا لَا يَحْتَمِلُ عَدَمَ الثُّبُوتِ فِي الْوَاقِعِ وَغَايَةُ مَا أَمْكَنَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَظْنُونَ لِلْمُجْتَهِدِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا لِلدَّلِيلِ الْقَاطِعِ وَكُلُّ حُكْمٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ حُكْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ وَكُلُّ مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَكُلُّ مَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَالْحُكْمُ الْمَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ مَعْلُومٌ قَطْعًا فَالْفِقْهُ عِلْمٌ قَطْعِيٌّ وَالظَّنُّ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ وَحَلُّهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَطْعًا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ

[تعريف أصول الفقه باعتبار أنه لقب]

تَعَالَى (وَأُصُولُ الْفِقْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَإِنْ كَانَ ذَا فَرْعًا لِلثَّلَاثَةِ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْفِقْهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْفِقْهُ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ فَقَالَ هُوَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ؛ فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ أُصُولٌ مُطْلَقَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ أَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ وَفَرْعٌ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ فَرْعٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ (إذْ الْعِلَّةُ) فِيهِ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْ مَوَارِدِهَا فَيَكُونُ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ ثَابِتًا بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَأَيْضًا هُوَ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ، بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ. أَمَّا نَظِيرُ الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطِ مِنْ الْكِتَابِ فَكَقِيَاسَ حُرْمَةِ اللَّوْطَةِ عَلَى حُرْمَةِ الْوَطْءِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وَالْعِلَّةُ هِيَ الْأَذَى وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ السُّنَّةِ فَكَقِيَاسِ حُرْمَةِ قَفِيزٍ مِنْ الْجُصِّ بِقَفِيزَيْنِ عَلَى حُرْمَةِ قَفِيزٍ مِنْ الْحِنْطَةِ بِقَفِيزَيْنِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» وَأَمَّا الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَأَوْرَدُوا لِنَظِيرِهِ قِيَاسَ الْوَطْءِ الْحَرَامِ عَلَى الْحَلَالِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ يَعْنِي قِيَاسَ حُرْمَةِ وَطْءِ أُمِّ الْمُزَنِيَّةِ عَلَى حُرْمَةِ وَطْءِ أُمِّ أَمَتِهِ الَّتِي وَطِئَهَا وَالْحُرْمَةُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْعَمَلُ قَطْعًا بِمَنْ يُظَنُّ أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فَقَوْلُهُ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَإِنْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ مَظْنُونُ الْمُجْتَهِدِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا كَمَا هُوَ رَأْيُ الْبَعْضِ يَكُونُ ذِكْرُ وُجُوبِ الْعَمَلِ ضَائِعًا لَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا [تَعْرِيفُ أُصُولِ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ] قَوْلُهُ (وَأُصُولُ الْفِقْهِ) مَا سَبَقَ كَانَ بَيَانَ مَفْهُومِ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهَذَا بَيَانُ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَفْهُومُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُنْحَصِرَةِ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاءِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَوَجْهُ ضَبْطِهِ أَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ إمَّا وَحَيٌّ أَوْ غَيْرُهُ وَالْوَحْيُ إنْ كَانَ مَتْلُوًّا فَالْكِتَابُ وَإِلَّا فَالسُّنَّةُ وَغَيْرُ الْوَحْيِ إنْ كَانَ قَوْلَ كُلِّ الْأُمَّةِ فِي عَصْرٍ فَالْإِجْمَاعُ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ أَوْ أَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا أَنْ يَصِلَ مِنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوْ لَا وَالْأَوَّلُ إنْ تَعَلَّقَ بِنَظْمِهِ الْإِعْجَازُ فَالْكِتَابُ وَإِلَّا فَالسُّنَّةُ وَالثَّانِي إنْ اشْتَرَطَ عِصْمَةَ مَنْ صَدَرَ عَنْهُ فَالْإِجْمَاعُ وَإِلَّا فَالْقِيَاسُ. وَأَمَّا شَرَائِعُ مَنْ قَبْلَنَا وَالتَّعَامُلُ وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَرَاجِعَةٌ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَكَذَا الْمَعْقُولُ نَوْعُ اسْتِدْلَالٍ بِأَحَدِهَا وَإِلَّا فَلَا دَخْلَ لِلرَّأْيِ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ وَمَا جَعَلَهُ بَعْضُهُمْ نَوْعًا خَامِسًا مِنْ الْأَدِلَّةِ وَسَمَّاهُ الِاسْتِدْلَالَ فَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إلَى التَّمَسُّكِ بِمَعْقُولِ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ، ثُمَّ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ أُصُولٌ مُطْلَقَةٌ لِكَوْنِهَا أَدِلَّةً مُسْتَقِلَّةً مُثْبِتَةً لِلْأَحْكَامِ وَالْقِيَاسُ أَصْلٌ مِنْ وَجْهٍ لِاسْتِنَادِ الْحُكْمِ إلَيْهِ ظَاهِرًا دُونَ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ فَرْعًا لِلثَّلَاثَةِ لِابْتِنَائِهِ عَلَى عِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْ مَوَارِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَالْحُكْمُ بِالتَّحْقِيقِ مُسْتَنِدٌ إلَيْهَا وَأَثَرُ الْقِيَاسِ فِي إظْهَارِ الْحُكْمِ وَتَغْيِيرِ وَصْفِهِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ وَمِنْ هُنَا يُقَالُ أُصُولُ الْفِقْهِ ثَلَاثَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَاعْتُرِضَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْأَصْلِ الْمُطْلَقِ إلَّا مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ سَوَاءٌ كَانَ فَرْعًا لِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِهَذَا صَحَّ إطْلَاقُهُ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ كَانَ فَرْعًا الثَّانِي أَنَّ السَّبَبَ الْقَرِيبَ لِلشَّيْءِ مَعَ أَنَّهُ

إجْمَاعًا، وَلَا نَصَّ فِيهِ، بَلْ النَّصُّ وَرَدَ فِي أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ الْوَطْءِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQمُسَبَّبٌ عَنْ الْبَعِيدِ أَوْلَى بِإِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَيْهِ مِنْ الْبَعِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسَبَّبًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ. الثَّالِثُ أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ بَعْضِ الْأَقْسَامِ فِي مَعْنَى الْمُقَسَّمِ لَازِمَةٌ فِي كُلِّ قِسْمَةٍ فَيَلْزَمُ أَنَّ بِفَرْدِ الْقِسْمِ الضَّعِيفِ فَيُقَالُ مَثَلًا الْكَلِمَةُ قِسْمَانِ اسْمٌ وَفِعْلٌ وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ هُوَ الْحَرْفُ الرَّابِعُ أَنَّ تَغْيِيرَ الْحُكْمِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِتَقْدِيرِهِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مَعْنَى الْأَصَالَةِ الْمُطْلَقَةِ. الْخَامِسُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ أَيْضًا يَفْتَقِرُ إلَى السَّنَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَصْلًا مُطْلَقًا وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نَدَّعِي أَنَّ لِعَدَمِ الْفَرْعِيَّةِ دَخْلًا فِي مَفْهُومِ الْأَصْلِ، بَلْ إنَّ الْأَصْلَ مَقُولٌ بِالتَّشْكِيكِ وَإِنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يَسْتَقِلُّ فِي مَعْنَى الْأَصَالَةِ وَابْتِنَاءِ الْفَرْعِ عَلَيْهِ كَالْكِتَابِ مَثَلًا أَقْوَى مِنْ الْأَصْلِ الَّذِي يُبْتَنَى فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى عَلَى شَيْءٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَكُونُ فَرْعُهُ فِي الْحَقِيقَةِ مُبْتَنِيًا عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ كَالْقِيَاسِ وَالْأَضْعَفُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْأَصْلِ الْمُطْلَقِ بِمَعْنَى الْكَامِلِ فِي الْأَصَالَةِ، وَهَذَا بَيِّنٌ. وَأَمَّا الْأَبُ فَإِنَّمَا يُبْتَنَى عَلَى أَبِيهِ فِي الْوُجُودِ لَا فِي الْأُبُوَّةِ، وَالْأَصَالَةُ لِلْوَلَدِ فَلَا يَكُونُ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي شَيْءٍ وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ السَّبَبَ الْقَرِيبَ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي فَرْعِهِ وَالْمُفْضِي إلَيْهِ وَأَثَرُ الْبَعِيدِ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَاسِطَةِ الَّتِي هِيَ السَّبَبُ الْقَرِيبُ لَا فِي فَرْعِهِ فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنْ الْبَعِيدِ فِي مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَالْأَصَالَةِ لِذَلِكَ الْفَرْعِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ الْقِيَاسُ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ لِحُكْمِ الْفَرْعِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لِيَكُونَ أَوْلَى بِالْأَصَالَةِ، بَلْ هُوَ مُظْهِرٌ لِاسْتِنَادِ حُكْمِ الْفَرْعِ إلَى النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ أَوْلَوِيَّةِ بَعْضِ الْأَقْسَامِ فِي كُلِّ تَقْسِيمٍ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي تَقْسِيمِ الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ إلَى أَنْوَاعِهَا وَأَفْرَادِهَا كَتَقْسِيمِ الْحَيَوَانِ إلَى الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ سُلِّمَ لُزُومُ ذَلِكَ فِي كُلِّ قِسْمَةٍ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ الْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يَجُوزُ عَنْ الرَّابِعِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّقْدِيرِ التَّقْرِيرُ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ حَتَّى يَكُونَ الْقِيَاسُ هُوَ الَّذِي يُقَرِّرُ الْحُكْمَ وَيُثْبِتُهُ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ التَّغْيِيرِ بِدُونِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ التَّقْرِيرُ بِحَسَبِ عِلْمِنَا فَهُوَ لَا يَقْتَضِي إسْنَادَ الْحُكْمِ حَقِيقَةً إلَى الْقِيَاسِ لِيَكُونَ أَصْلًا لَهُ كَامِلًا وَعَنْ الْخَامِسِ بَعْدَ تَسْلِيمِ مَا ذَكَرَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى السَّنَدِ فِي تَحَقُّقِهِ لَا فِي نَفْسِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحُكْمِ فَإِنَّ الْمُسْتَدَلَّ بِهِ لَا يَفْتَقِرُ إلَى مُلَاحَظَةِ السَّنَدِ وَالِالْتِفَاتِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ اعْتِبَارِ أَحَدِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَالْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهَا وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يُثْبِتُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَا يُثْبِتُهُ السَّنَدُ، وَهُوَ قَطْعِيَّةُ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ زِيَادَةً، بَلْ رُبَّمَا يُورِثُهُ نُقْصَانًا بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ قَطْعِيًّا وَحُكْمُهُ ظَنِّيٌّ. (قَوْلُهُ

وَلَمَّا عَرَّفَ أُصُولَ الْفِقْهِ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَالْآنَ يُعَرِّفُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَقَبٌ لِعِلْمٍ مَخْصُوصٍ فَيَقُولُ. (وَعِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ) أَيْ الْعِلْمُ بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ تَوَصُّلًا قَرِيبًا وَإِنَّمَا قُلْنَا تَوَصُّلًا قَرِيبًا احْتِرَازًا عَنْ الْمَبَادِئِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَالْكَلَامِ وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ احْتِرَازًا عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ وَالْجَدَلِ فَإِنَّهُ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ، بَلْ الْغَرَضُ مِنْهُ إلْزَامُ الْخَصْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَعَلَى الْفِقْهِ) بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ لَقَبٌ لِلْعِلْمِ الْمَخْصُوصِ لَا حَاجَةَ إلَى إضَافَةِ الْعِلْمِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ زِيَادَةَ بَيَانٍ وَتَوْضِيحٍ كَشَجَرِ الْأَرَاكِ وَالْقَاعِدَةُ حُكْمٌ كُلِّيٌّ يَنْطَبِقُ عَلَى جُزْئِيَّاتِهِ لِيَتَعَرَّفَ أَحْكَامَهَا مِنْهُ كَقَوْلِنَا كُلُّ حُكْمٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ ثَابِتٌ وَالتَّوَصُّلُ الْقَرِيبُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْبَاءِ السَّبَبِيَّةِ الظَّاهِرَةِ فِي السَّبَبِ الْقَرِيبِ وَمِنْ إطْلَاقِ التَّوَصُّلِ إلَى الْفِقْهِ، إذْ فِي الْبَعِيدِ يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاسِطَةِ وَمِنْهَا إلَى الْفِقْهِ فَيَخْرُجُ الْعِلْمُ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْكَلَامِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَبَادِئِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالتَّوَصُّلُ بِهِمَا إلَى الْفِقْهِ لَيْسَ بِقَرِيبٍ، إذْ يَتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ إلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَدْلُولَاتِهَا الْوَضْعِيَّةِ وَبِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يَقْتَدِرُ عَلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَذَلِكَ يَتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِ الْكَلَامِ إلَى ثُبُوتِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوُجُوبِ صِدْقِهِمَا لِيَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى الْفِقْهِ وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَمْ يُخْلَقْ عَبَثًا وَلَمْ يُتْرَكْ سُدًى، بَلْ تَعَلَّقَ بِكُلٍّ مِنْ أَعْمَالٍ حُكْمٌ مِنْ قِبَلِ الشَّارِعِ مَنُوطٌ بِدَلِيلٍ يَخُصُّهُ لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ مَا يُنَاسِبُهُ لِتَعَذُّرِ الْإِحَاطَةِ بِجَمِيعِ الْجُزْئِيَّاتِ فَحَصَلَتْ قَضَايَا مَوْضُوعَاتُهَا أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ وَمَحْمُولَاتُهَا أَحْكَامُ الشَّارِعِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَسُمِّيَ الْعِلْمُ بِهَا الْحَاصِلُ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ فِقْهًا، ثُمَّ نَظَرُوا فِي تَفَاصِيلِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَعُمُومِهَا فَوَجَدُوا الْأَدِلَّةَ رَاجِعَةً إلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَالْأَحْكَامَ رَاجِعَةً إلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْإِبَاحَةِ وَتَأَمَّلُوا فِي كَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ إجْمَالًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَفَاصِيلِهِمَا إلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمِثَالِ فَحَصَلَ لَهُمْ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَيْفِيَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأَحْكَامِ إجْمَالًا وَبَيَانُ طُرُقِهِ وَشَرَائِطِهِ لِيَتَوَصَّلَ بِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْقَضَايَا إلَى اسْتِنْبَاطِ كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ عَنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ فَضَبَطُوهَا وَدَوَّنُوهَا وَأَضَافُوا إلَيْهَا مِنْ اللَّوَاحِقِ وَالْمُتَمِّمَاتِ وَبَيَانِ الِاخْتِلَافَاتِ مَا يَلِيقُ بِهَا وَسَمَّوْا الْعِلْمَ بِهَا أُصُولَ الْفِقْهِ فَصَارَتْ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ وَلَفْظُ الْقَوَاعِدِ مُشْعِرٌ بِقَيْدِ الْإِجْمَالِ وَزَادَ الْمُصَنِّفُ قَيْدَ التَّحْقِيقِ احْتِرَازًا عَنْ عِلْمِ الْخِلَافِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ قَوَاعِدِهِ مِمَّا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْفِقْهِ تَوَصُّلًا قَرِيبًا، بَلْ إنَّمَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مُحَافَظَةِ الْحُكْمِ الْمُسْتَنْبَطِ أَوْ مُدَافَعَتِهِ وَنِسْبَتِهِ

وَذَلِكَ كَقَوَاعِدِهِمْ الْمَذْكُورَةِ فِي الْإِشَارَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ وَنَحْوِهِمَا لِتُبْتَنَى عَلَيْهَا النُّكَتُ الْخِلَافِيَّةُ (وَنَعْنِي بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يَكُونُ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ) أَيْ إذَا اسْتَدْلَلْت عَلَى حُكْمِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَكُبْرَى الشَّكْلِ الْأَوَّلِ هِيَ تِلْكَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ كَقَوْلِنَا هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ الْقِيَاسُ وَكُلُّ حُكْمٍ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ الْقِيَاسُ فَهُوَ ثَابِتٌ وَإِذَا اسْتَدْلَلْت عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالْمُلَازَمَاتِ الْكُلِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْمَلْزُومِ فَالْمُلَازَمَاتُ الْكُلِّيَّةُ هِيَ تِلْكَ الْقَضَايَا كَقَوْلِنَا هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ يَكُونُ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا لَكِنَّ الْقِيَاسَ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فَيَكُونُ ثَابِتًا وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ بِعَيْنِهَا مَذْكُورَةً فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ لَكِنْ تَكُونُ مُنْدَرِجَةً فِي قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ كَقَوْلِنَا كُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوُجُوبِ فِي صُورَةِ النِّزَاعِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ فِيهَا فَإِنَّ هَذِهِ الْمُلَازَمَةَ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْمُلَازَمَةِ وَهِيَ كُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى ثُبُوتِ كُلِّ حُكْمٍ هَذَا شَأْنُهُ يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ وَالْوُجُوبُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ كُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْوُجُوبِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ وَكُلَّمَا دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى الْجَوَازِ يَثْبُتُ الْجِوَارُ فَالْمُلَازَمَةُ الَّتِي هِيَ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ تَكُونُ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ إذَا كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى شَرَائِطَ تُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهَا، وَلَا يَكُونُ الدَّلِيلُ مَنْسُوخًا، وَلَا يَكُونُ لَهُ مُعَارِضٌ مُسَاوٍ أَوْ رَاجِحٌ. ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ عَلَى السَّوِيَّةِ فَإِنَّ الْجَدَلِيَّ إمَّا مُجِيبٌ يَحْفَظُ وَضْعًا، وَإِمَّا مُعْتَرِضٌ يَهْدِمُ وَضْعًا إلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ أَكْثَرُوا فِيهِ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَبَنَوْا نِكَاتَهُ عَلَيْهَا حَتَّى تُوُهِّمَ أَنَّ لَهُ اخْتِصَاصًا بِالْفِقْهِ. قَوْلُهُ (وَنَعْنِي بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَكَّبَ التَّامَّ الْمُحْتَمِلَ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ يُسَمَّى مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحُكْمِ قَضِيَّةٌ وَمِنْ حَيْثُ احْتِمَالُهُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ خَبَرًا وَمِنْ حَيْثُ إفَادَتُهُ الْحُكْمَ إخْبَارًا وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ جُزْءًا مِنْ الدَّلِيلِ مُقَدِّمَةً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُطْلَبُ بِالدَّلِيلِ مَطْلُوبًا وَمِنْ حَيْثُ يَحْصُلُ مِنْ الدَّلِيلِ نَتِيجَةً وَمِنْ حَيْثُ يَقَعُ فِي الْعِلْمِ وَيُسْأَلُ عَنْهُ مَسْأَلَةً فَالذَّاتُ وَاحِدَةٌ وَاخْتِلَافُ الْعِبَارَاتِ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الْقَضِيَّةِ يُسَمَّى مَوْضُوعًا وَالْمَحْكُومُ بِهِ مَحْمُولًا وَمَوْضُوعُ الْمَطْلُوبِ يُسَمَّى أَصْغَرَ وَمَحْمُولُهُ أَكْبَرَ وَالدَّلِيلُ يَتَأَلَّفُ لَا مَحَالَةَ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ تَشْتَمِلُ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأَصْغَرِ وَتُسَمَّى الصُّغْرَى وَالْأُخْرَى عَلَى الْأَكْبَرِ وَتُسَمَّى الْكُبْرَى وَكِلْتَاهُمَا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَمْرٍ مُتَكَرِّرٍ فِيهِمَا يُسَمَّى الْأَوْسَطَ، وَالْأَوْسَطُ إمَّا مَحْمُولٌ فِي الصُّغْرَى مَوْضُوعٌ فِي الْكُبْرَى وَيُسَمَّى الدَّلِيلُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الشَّكْلَ الْأَوَّلَ أَوْ بِالْعَكْسِ وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الرَّابِعَ أَوْ مَحْمُولٌ فِيهِمَا

وَيَكُونُ الْقِيَاسُ قَدْ أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُ مُجْتَهِدٍ حَتَّى لَوْ خَالَفَ إجْمَاعَ الْمُجْتَهِدِينَ يَكُونُ بَاطِلًا فَالْقَضِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ سَوَاءٌ جَعَلْنَاهَا كُبْرَى أَوْ مُلَازِمَةً إنَّمَا تَصْدُقُ كُلِّيَّةً إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى هَذِهِ الْقُيُودِ فَالْعِلْمُ بِالْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْقُيُودِ يَكُونُ عِلْمًا بِالْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي هِيَ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَتَكُونُ تِلْكَ الْمَبَاحِثُ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوْلُنَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَيْهِ. الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا يَخْتَصُّ بِالْمُجْتَهِدِ فَإِنَّ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ فِي هَذَا الْعِلْمِ قَوَاعِدُ يَتَوَصَّلُ الْمُجْتَهِدُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ فَإِنَّ الْمُتَوَصِّلَ إلَى الْفِقْهِ لَيْسَ إلَّا الْمُجْتَهِدُ فَإِنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَيْسَ دَلِيلُ الْمُقَلِّدِ مِنْهَا فَلِهَذَا لَمْ تُذْكَرْ مَبَاحِثُ التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ فِي كُتُبِنَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يَعُمُّ الْمُجْتَهِدَ وَالْمُقَلِّدَ وَالْأَدِلَّةُ الْأَرْبَعَةُ إنَّمَا يَتَوَصَّلُ بِهَا الْمُجْتَهِدُ لَا الْمُقَلِّدُ فَأَمَّا الْمُقَلِّدُ فَالدَّلِيلُ عِنْدَهُ قَوْلُ الْمُجْتَهِدِ فَالْمُقَلِّدُ يَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ وَاقِعٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكُلُّ مَا أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُهُ فَهُوَ وَاقِعٌ عِنْدِي فَالْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ أَيْضًا فَلِهَذَا ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مَبَاحِثَ التَّقْلِيدِ وَالِاسْتِفْتَاءِ فَعَلَى هَذَا عِلْمُ أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ، وَلَا يُقَالُ إلَى الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَقَوْلُنَا عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ لَا يُنَافِي هَذَا الْمَعْنَى فَإِنَّ تَحْقِيقَ الْمُقَلِّدِ أَنْ يُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ الْمُقَلِّدُ حَقِيقَةَ رَأْيِ ذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيُسَمَّى الشَّكْلَ الثَّانِي أَوْ مَوْضُوعٌ فِيهِمَا وَيُسَمَّى الشَّكْلَ الثَّالِثَ مَثَلًا إذَا قُلْنَا الْحَجُّ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورُ الشَّارِعِ وَكُلُّ مَا هُوَ مَأْمُورُ الشَّارِعِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ وَالْوَاجِبُ الْأَكْبَرُ وَالْمَأْمُورُ الْأَوْسَطُ وَقَوْلُنَا الْحَجُّ مَأْمُورُ الشَّارِعِ هِيَ الصُّغْرَى وَقَوْلُنَا وَكُلُّ مَا هُوَ مَأْمُورُ الشَّارِعِ فَهُوَ وَاجِبٌ هِيَ الْكُبْرَى وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَالْقَوَاعِدُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ هِيَ الْقَضَايَا الْكُلِّيَّةُ الَّتِي تَقَعُ كُبْرَى لِصُغْرَى سَهْلَةِ الْحُصُولِ عِنْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ وَضَمِّ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ إلَى الصُّغْرَى السَّهْلَةِ الْحُصُولِ لِيَخْرُجَ الْمَطْلُوبُ الْفِقْهِيُّ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ هُوَ مَعْنَى التَّوَصُّلِ بِهَا إلَى الْفِقْهِ لَكِنَّ تَحْصِيلَ الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَبَيَانِ شَرَائِطِهِمَا وَقُيُودِهِمَا الْمُعْتَبَرَةِ فِي كُلِّيَّةِ الْقَاعِدَةِ فَالْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِذَلِكَ هِيَ مَطَالِبُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَتَنْدَرِجُ كُلُّهَا تَحْتَ الْعِلْمِ بِالْقَاعِدَةِ عَلَى مَا شَرَحَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَيَكُونُ الْقِيَاسُ قَدْ أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُ مُجْتَهِدٍ) يَعْنِي يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ فِيهِ اجْتِهَادُ الْآرَاءِ لِيُحْتَرَزَ بِهِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ أَمَّا إذَا لَمْ يَسْبِقْ فِي الْمَسْأَلَةِ اجْتِهَادٌ أَوْ سَبَقَ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فَقَطْ فَلَا خَفَاءَ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عَلَى خِلَافِهِ. قَوْلُهُ (وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ) الظَّاهِرُ إنَّهُ بَعِيدٌ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ وَالْمُتَعَرَّضُونَ لِمَبَاحِثِ التَّقْلِيدِ فِي كُتُبِهِمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الْبَحْثَ عَنْهُ إنَّمَا وَقَعَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ الِاجْتِهَادِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ. قَوْلُهُ (وَلَا يُقَالُ إلَى الْفِقْهِ) ؛ لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ يَتَوَصَّلُ بِقَوَاعِدِهِ إلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ لَا إلَى الْفِقْهِ الَّذِي هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ عَنْ أَدِلَّتِهَا الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ

وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى الْمَدْلُولِ فَإِنَّ الْقَضِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا كُلِّيَّةً إذَا عُرِفَ أَنْوَاعُ الْحُكْمِ وَأَنَّ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْأَحْكَامِ يُثْبِتُ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ بِخُصُوصِيَّةٍ نَاشِئَةٍ مِنْ الْحُكْمِ كَكَوْنِ هَذَا الشَّيْءِ عِلَّةً لِذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحْكُومِ بِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ كَكَوْنِهِ عِبَادَةً أَوْ عُقُوبَةً وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِجُ فِي كَلِيلَةِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْمَبَاحِثُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ وَمَعْرِفَةُ الْأَهْلِيَّةِ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ سَمَاوِيَّةً وَمُكْتَسَبَةً مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ أَيْضًا لِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ بِاخْتِلَافِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ الْعَوَارِضِ وَعَدَمِهَا فَيَكُونُ تَرْكِيبُ الدَّلِيلِ عَلَى إثْبَاتِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالشَّكْلِ الْأَوَّلِ هَكَذَا هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ هَذَا شَأْنُهُ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلٍ هَذَا شَأْنُهُ، وَهَذَا الْفِعْلُ صَادِرٌ مِنْ مُكَلَّفٍ هَذَا شَأْنُهُ وَلَمْ تُوجَدْ الْعَوَارِضُ الْمَانِعَةُ مِنْ ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ وَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ قِيَاسٌ هَذَا شَأْنُهُ هَذَا هُوَ الصُّغْرَى، ثُمَّ الْكُبْرَى قَوْلُنَا وَكُلُّ حُكْمٍ مَوْصُوفٍ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ الْقِيَاسُ الْمَوْصُوفُ فَهُوَ ثَابِتٌ فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ وَبِطَرِيقِ الْمُلَازَمَةِ هَكَذَا كُلَّمَا وُجِدَ قِيَاسٌ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ دَالٌّ عَلَى حُكْمٍ مَوْصُوفٍ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَكِنَّهُ وُجِدَ الْقِيَاسُ الْمَوْصُوفُ إلَخْ فَعُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَبَاحِثِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُنْدَرِجَةٌ تَحْتَ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ إحْدَى مُقَدِّمَتَيْ الدَّلِيلِ عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ، فَهَذَا هُوَ مَعْنَى التَّوَصُّلِ الْقَرِيبِ الْمَذْكُورِ وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ جَمِيعَ مَسَائِلِ الْأُصُولِ رَاجِعَةٌ إلَى قَوْلِنَا كُلُّ حُكْمٍ كَذَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِ دَلِيلٌ كَذَا فَهُوَ ثَابِتٌ أَوْ كُلَّمَا وُجِدَ دَلِيلٌ كَذَا دَالٌّ عَلَى حُكْمٍ كَذَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَلَى أَنَّهُ يَبْحَثُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَحْكَامِ الْكُلِّيَّتَيْنِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأُولَى مُثْبِتَةٌ لِلثَّانِيَةِ وَالثَّانِيَةُ ثَابِتَةٌ بِالْأُولَى وَالْمَبَاحِثُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِهَا لَيْسَ عَنْ أَدِلَّتِهَا الْأَرْبَعَةِ. قَوْلُهُ (يُبْحَثُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَحْكَامِ) يَعْنِي عَنْ أَحْوَالِهِمَا عَنْ حَذْفِ الْمُضَافِ، إذْ لَا يُبْحَثُ فِي الْعِلْمِ عَنْ نَفْسِ الْمَوْضُوعِ، بَلْ عَنْ أَحْوَالِهِ وَعَوَارِضِهِ إلَّا أَنَّ حَذْفَ هَذَا الْمُضَافِ شَائِعٌ فِي عِبَارَةِ الْقَوْمِ. قَوْلُهُ (فَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ) الْمُرَادُ بِمَوْضُوعِ الْعِلْمِ مَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ عَوَارِضِهِ الذَّاتِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِالْعَرْضِ هَاهُنَا الْمَحْمُولُ عَلَى الشَّيْءِ الْخَارِجُ عَنْهُ وَبِالْعَرْضِ الذَّاتِيِّ مَا يَكُونُ مُنْشَؤُهُ الذَّاتِ بِأَنْ يَلْحَقَ الشَّيْءُ لِذَاتِهِ كَالْإِدْرَاكِ لِلْإِنْسَانِ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ يُسَاوِيهِ كَالضَّحِكِ لِلْإِنْسَانِ بِوَاسِطَةِ تَعَجُّبِهِ أَوْ بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ أَعَمَّ مِنْهُ دَاخِلٍ فِيهِ كَالتَّحَرُّكِ لِلْإِنْسَانِ بِوَاسِطَةِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا وَالْمُرَادُ بِالْبَحْثِ عَنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ حَمْلُهَا عَلَى مَوْضُوعِ الْعِلْمِ كَقَوْلِنَا الْكِتَابُ يُثْبِتُ الْحُكْمَ قَطْعًا أَوْ عَلَى أَنْوَاعِهِ كَقَوْلِنَا الْأَمْرُ

الَّتِي تَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْأُولَى مُثْبِتَةٌ لِلثَّانِيَةِ وَالثَّانِيَةَ ثَابِتَةٌ بِالْأُولَى بَعْضُهَا نَاشِئَةٌ عَنْ الْأَدِلَّةِ وَبَعْضُهَا نَاشِئَةٌ عَنْ الْأَحْكَامِ فَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْأَحْكَامُ إذْ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ الْعَوَارِضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ إثْبَاتُهَا الْحُكْمَ وَعَنْ الْعَوَارِضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَحْكَامِ وَهِيَ ثُبُوتُهَا بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ. (فَيُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا) الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَيُبْحَثُ مُتَعَلِّقٌ بِحَدِّ هَذَا الْعِلْمِ أَيْ إذَا كَانَ حَدُّ أُصُولِ الْفِقْهِ هَذَا يَجِبُ أَنْ يُبْحَثَ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَمُتَعَلِّقَاتهمْ اوَالْمُرَادُ بِالْأَحْوَالِ الْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عُطِفَ عَلَى الْأَدِلَّةِ وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهَا يَرْجِعُ إلَى الْأَدِلَّةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا هُوَ الْأَدِلَّةُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا كَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَأَدِلَّةِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُسْتَفْتِي وَأَيْضًا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا لَهُ مَدْخَلٌ فِي كَوْنِهَا مُثْبِتَةً لِلْحُكْمِ كَالْبَحْثِ عَنْ الِاجْتِهَادِ وَنَحْوِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَوَارِضَ الذَّاتِيَّةَ لِلْأَدِلَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مِنْهَا الْعَوَارِضُ الذَّاتِيَّةُ الْمَبْحُوثُ عَنْهَا وَهِيَ كَوْنُهَا مُثْبِتَةً لِلْأَحْكَامِ وَمِنْهَا مَا لَيْسَتْ بِمَبْحُوثٍ عَنْهَا لَكِنْ لَهَا مَدْخَلٌ فِي لُحُوقِ مَا هِيَ مَبْحُوثٌ عَنْهَا كَكَوْنِهَا عَامَّةً أَوْ مُشْتَرَكَةً أَوْ خَبَرَ وَاحِدٍ وَأَمْثَالَ ذَلِكَ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَكَوْنِهِ ثُلَاثِيًّا أَوْ رُبَاعِيًّا قَدِيمًا أَوْ حَادِثًا أَوْ غَيْرَهَا فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ يَقَعُ مَحْمُولَاتٍ فِي الْقَضَايَا الَّتِي هِيَ مَسَائِلُ هَذَا الْعِلْمِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي يَقَعُ أَوْصَافًا وَقُيُودًا لِمَوْضُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا كَقَوْلِنَا الْخَبَرُ الَّذِي يَرْوِيهِ وَاحِدٌ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ، وَقَدْ يَقَعُ مَوْضُوعًا لِتِلْكَ الْقَضَايَا كَقَوْلِنَا الْعَامُّ يُوجِبُ الْحُكْمَ قَطْعًا، وَقَدْ يَقَعُ مَحْمُولًا فِيهَا، نَحْوُ النَّكِرَةِ فِي مَوْضُوعِ النَّفْيِ عَامَّةً وَكَذَلِكَ الْأَعْرَاضُ الذَّاتِيَّةُ لِلْحُكْمِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أَيْضًا الْأَوَّلُ مَا يَكُونُ مَبْحُوثًا عَنْهُ، وَهُوَ كَوْنُ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُفِيدُ الْوُجُوبَ أَوْ عَلَى أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ كَقَوْلِنَا الْعَامُّ يُفِيدُ الْقَطْعَ أَوْ عَلَى أَنْوَاعِ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ كَقَوْلِنَا الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يُفِيدُ الظَّنَّ وَجَمِيعُ مَبَاحِثِ أُصُولِ الْفِقْهِ رَاجِعَةٌ إلَى إثْبَاتِ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ إثْبَاتُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ وَثُبُوتُ أَحْكَامٍ بِالْأَدِلَّةِ بِمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ مَحْمُولَاتِ مَسَائِلِ هَذَا الْفَنِّ هُوَ الْإِثْبَاتُ وَالثُّبُوتُ وَمَا لَهُ نَفْعٌ وَدَخْلٌ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ مَوْضُوعُهُ الْأَدِلَّةَ الْأَحْكَامَ مِنْ حَيْثُ إثْبَاتُ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ وَثُبُوتِ الْأَحْكَامِ بِالْأَدِلَّةِ، فَإِنْ قَلْت فَمَا بَالُهُمْ يَجْعَلُونَ مِنْ مَسَائِلِ الْأُصُولِ إثْبَاتَ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ لِلْأَحْكَامِ وَيَجْعَلُونَ مِنْهَا إثْبَاتَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِذَلِكَ قُلْتُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنَّظَرِ فِي الْفَنِّ هِيَ الْكَسْبِيَّاتُ الْمُفْقِرَةُ إلَى الدَّلِيلِ وَكَوْنُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حُجَّةً بِمَنْزِلَةِ الْبَدِيهِيِّ فِي نَظَرِ الْأُصُولِ لِتَقَرُّرِهِ فِي الْكَلَامِ وَشُهْرَتِهِ بَيْنَ الْأَنَامِ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَلِهَذَا تَعَرَّضُوا لِمَا لَيْسَ إثْبَاتُهُ لِلْحُكْمِ بَيِّنًا كَالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ. قَوْلُهُ (وَأَمَّا الثَّالِثُ) يَعْنِي الْعَوَارِضَ الذَّاتِيَّةَ الَّتِي لَا تَكُونُ مَبْحُوثًا عَنْهَا فِي هَذَا الْعِلْمِ وَلَا دَخْلَ لَهَا فِي لُحُوقِ مَا هِيَ مَبْحُوثٌ عَنْهَا مِنْ الْقِسْمَيْنِ يَعْنِي قِسْمَيْ الْعَوَارِضِ الَّتِي

الْحُكْمِ ثَابِتًا بِالْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالثَّانِي مَا يَكُونُ لَهُ مَدْخَلٌ فِي لُحُوقِ مَا هُوَ مَبْحُوثٌ عَنْهُ كَكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلِ الْبَالِغِ أَوْ بِفِعْلِ الصَّبِيِّ وَنَحْوِهِ. وَالثَّالِثُ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَالْأَوَّلُ يَكُونُ مَحْمُولًا فِي الْقَضَايَا الَّتِي هِيَ مَسَائِلُ هَذَا الْعِلْمِ وَالثَّانِي أَوْصَافًا وَقُيُودًا لِمَوْضُوعِ تِلْكَ الْقَضَايَا، وَقَدْ يَقَعُ مَوْضُوعًا وَقَدْ يَقَعُ مَحْمُولًا كَقَوْلِنَا الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعِبَادَةِ يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَحْوُ الْعُقُوبَةِ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَنَحْوُ زَكَاةِ الصَّبِيِّ عِبَادَةٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْ كِلَا الْقِسْمَيْنِ بِمَعْزِلٍ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ وَعَنْ مَسَائِلِهِ. (وَيَلْحَقُ بِهِ الْبَحْثُ عَمَّا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ الْحُكْمُ وَعَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ) الضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ فِي قَوْلِهِ وَيَلْحَقُ بِهِ رَاجِعٌ إلَى الْبَحْثِ الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ فَيَبْحَثُ عَمَّا يَثْبُتُ أَيْ عَنْ أَحْوَالِ مَا يَثْبُتُ وَقَوْلُهُ عَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَيْ بِالْحُكْمِ، وَهُوَ الْحَاكِمُ وَالْمَحْكُومُ بِهِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَيَلْحَقُ بِهِ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُرَادَ بِهِ أَنْ يَذْكُرَ مَبَاحِثَ الْحُكْمِ بَعْدَ مَبَاحِثِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ مَوْضُوعَ هَذَا الْعِلْمِ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ. وَالثَّانِي أَنَّ مَوْضُوعَ هَذَا الْعِلْمِ الْأَدِلَّةُ فَقَطْ وَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنْ الْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لَوَاحِقِ هَذَا الْعِلْمِ فَإِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ هِيَ أَدِلَّةُ الْفِقْهِ، ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ الْعِلْمُ بِالْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِلْحُكْمِ فَالْمَبَاحِثُ النَّاشِئَةُ عَنْ الْحُكْمِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خَارِجَةٌ عَنْ هَذَا الْعِلْمِ وَهِيَ مَسَائِلُ قَلِيلَةٌ تُذْكَرُ عَلَى أَنَّهَا لَوَاحِقُ وَتَوَابِعُ لِمَسَائِلِ هَذَا الْعِلْمِ كَمَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مُوَصِّلَةٌ إلَى تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ فَمُعْظَمُ مَسَائِلِ الْمَنْطِقِ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ الْمُوَصِّلِ وَإِنْ كَانَ يَبْحَثُ فِيهِ عَلَى سَبِيلِ النُّدْرَةِ عَنْ أَحْوَالِ التَّصَوُّرِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ كَالْبَحْثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْأَدِلَّةِ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي لِلْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ كَالْإِمْكَانِ وَالْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ وَالْبَسَاطَةِ وَالتَّرْكِيبِ وَكَوْنُ الدَّلِيلِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً ثُلَاثِيَّةً مُفْرَدَاتُهُ أَوْ رَبَاعِيَةً مُعْرَبَةً أَوْ مَبْنِيَّةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالثُّبُوتِ فَلَا يُبْحَثُ عَنْهَا فِي الْأُصُولِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ النَّجَّارَ يَنْظُرُ فِي الْخَشَبِ مِنْ جِهَةِ صَلَابَتِهِ وَرَخَاوَتِهِ وَرِقَّتِهِ وَغِلَظِهِ وَاعْوِجَاجِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِصِنَاعَتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ إمْكَانِهِ وَحُدُوثِهِ وَتَرَكُّبِهِ وَبَسَاطَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَوْلُهُ (أَنْ يَذْكُرَ مَبَاحِثَ الْحُكْمِ بَعْدَ مَبَاحِثِ الْأَدِلَّةِ) ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ مُقَدَّمٌ بِالذَّاتِ وَالْبَحْثُ عَنْهُ أَهَمُّ فِي فَنِّ الْأُصُولِ. قَوْلُهُ (كَمَا أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَنْطِقِ التَّصَوُّرَاتُ وَالتَّصْدِيقَاتُ) ؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ أَحْوَالِ التَّصَوُّرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حَدٌّ أَوْ رَسْمٌ فَيُوَصِّلُ إلَى تَصَوُّرٍ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنْسٌ أَوْ فَصْلٌ أَوْ خَاصَّةٌ فَيُرَكَّبُ مِنْهَا حَدٌّ أَوْ رَسْمٌ وَعَنْ أَحْوَالِ التَّصْدِيقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ حُجَّةٌ تُوَصِّلُ إلَى تَصْدِيقٍ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَضِيَّةٌ أَوْ عَكْسُ قَضِيَّةٍ أَوْ نَقِيضٌ فَيُؤَلِّفُ مِنْهَا حُجَّةً وَبِالْجُمْلَةِ جَمِيعُ مَبَاحِثِهِ رَاجِعَةٌ إلَى الْإِيصَالِ وَمَا لَهُ دَخْلٌ فِي الْإِيصَالِ وَقَدْ يَقَعُ الْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ التَّصَوُّرِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَسِيطًا لَا يُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ يُحَدُّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ خَاصَّةٌ لَازِمَةٌ بَيِّنَةٌ يَرْسُمُ وَإِلَّا فَلَا وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ

عَنْ الْمَاهِيَّاتِ أَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْحَدِّ فَهَذَا الْبَحْثُ يُذْكَرُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَكَذَا هُنَا وَفِي بَعْضِ كُتُبِ الْأُصُولِ لَمْ يُعَدَّ مَبَاحِثُ الْحُكْمِ مِنْ مَبَاحِثِ هَذَا الْعِلْمِ لَكِنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ وَهُوَ الْحُكْمُ، فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَهُوَ قَدِيمٌ فَالْمُرَادُ بِثُبُوتِهِ بِالْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ ثُبُوتُ عِلْمِنَا بِهِ بِتِلْكَ الْأَدِلَّةِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ أَثَرُ الْخِطَابِ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ فَثُبُوتُهُ بِبَعْضِ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ صَحِيحٌ وَبِالْبَعْضِ لَا كَالْقِيَاسِ مَثَلًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ غَيْرُ مُثْبِتٍ لِلْوُجُوبِ، بَلْ مُثْبِتٌ غَلَبَةَ ظَنِّهِ بِالْوُجُوبِ كَمَا قِيلَ: إنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْإِثْبَاتِ إثْبَاتَ غَلَبَةِ الظَّنِّ وَإِنْ نُوقِشَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مَعًا فَنَقُولُ نُرِيدُ فِي الْجَمِيعِ إثْبَاتَ الْعِلْمِ لَنَا أَوْ غَلَبَةَ الظَّنِّ لَنَا. وَاعْلَمْ أَنِّي لَمَّا وَقَعْت فِي مَبَاحِثِ الْمَوْضُوعِ وَالْمَسَائِلِ أَرَدْت أَنْ أُسْمِعَك بَعْضَ مَبَاحِثِهَا الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي الْمُحَصِّلُ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْفَنِّ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْعِلْمَ الْوَاحِدَ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ كَالطِّبِّ فَإِنَّهُ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ بَدَنِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ الْأَدْوِيَةِ وَنَحْوِهَا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ إنْ كَانَ إضَافَةَ شَيْءٍ إلَى آخَرَ كَمَا أَنَّ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQرَاجِعًا إلَى الْبَحْثِ عَنْ أَحْوَالِ التَّصَوُّرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْمُوَصِّلُ بِأَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَدَّ يُوَصِّلُ إلَى الْمُرَكَّبِ دُونَ الْبَسِيطِ فَيَكُونُ مِنْ الْمَسَائِلِ. 1 - قَوْلُهُ (لَكِنَّ الصَّحِيحَ) ذَهَبَ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ إلَى أَنَّ مَوْضُوعَ أُصُولِ الْفِقْهِ هُوَ الْأَدِلَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَلَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَحْكَامِ، بَلْ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى تَصَوُّرِهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِهَا وَنَفْيِهَا لَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ مَوْضُوعَهُ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ؛ لِأَنَّا رَجَّعْنَا الْأَدِلَّةَ بِالتَّعْمِيمِ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَحْكَامَ إلَى الْخَمْسَةِ وَنَظَرْنَا فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِكَيْفِيَّةِ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ إجْمَالًا فَوَجَدْنَا بَعْضَهَا رَاجِعَةً إلَى أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَبَعْضَهَا إلَى أَحْوَالِ الْأَحْكَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَحْصِيلِ الْقَضِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْفِقْهِ فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْآخَرَ مِنْ اللَّوَاحِقِ تَحْكُمُ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ مَبَاحِثَ الْأَدِلَّةِ أَكْثَرُ وَأَهَمُّ لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي الْأَصَالَةَ وَالِاسْتِقْلَالَ. قَوْلُهُ (فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ) هَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مُعَرِّفَاتٌ وَأَمَارَاتٌ وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهَا أَدِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَلَا مَعْنَى لِلدَّلِيلِ إلَّا مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ أَوْ انْتِفَائِهِ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْعِلْمَ يُؤْخَذُ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ الْجَازِمِ أَوْ الرَّاجِحِ لِيَعُمَّ الْقَطْعِيَّ وَالظَّنِّيَّ فَيَصِحُّ فِي جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا لَا يَتَفَاوَتُ بِقِدَمِ الْحُكْمِ وَحُدُوثِهِ وَقَدْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ آخِرِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ مَعْنَى الدَّلِيلِ مَا يُفِيدُ نَفْسَ الثُّبُوتِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْعِلَلِ الْخَارِجِيَّةِ، وَإِنْ جَعَلْنَا الْحُكْمَ حَادِثًا عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُهُ. قَوْلُهُ (وَاعْلَمْ إلَخْ) هَذِهِ ثَلَاثَةُ مَبَاحِثَ فِي الْمَوْضُوعِ أَوْرَدَهَا مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ الْمُحَقِّقِينَ يَتَعَجَّبُ مِنْهَا النَّاظِرُ فِيهَا الْوَاقِفُ عَلَى كَلَامِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الْأَوَّلِ أَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَعَدُّدِ الْمَوْضُوعِ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ الِاثْنَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ

يُبْحَثُ عَنْ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْحُكْمِ وَفِي الْمَنْطِقِ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ إيصَالِ تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ، إلَى تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُ الْعَوَارِضِ الَّتِي لَهَا مَدْخَلٌ فِي الْمَبْحُوثِ عَنْهُ نَاشِئَةً عَنْ أَحَدِ الْمُضَافَيْنِ وَبَعْضُهَا عَنْ الْآخَرِ فَمَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ كِلَا الْمُضَافَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَبْحُوثُ عَنْهُ الْإِضَافَةَ لَا يَكُونُ مَوْضُوعُ الْعِلْمِ الْوَاحِدِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُ إنَّمَا هُوَ بِاتِّحَادِ الْمَعْلُومَاتِ أَيْ الْمَسَائِلِ وَاخْتِلَافِهَا فَاخْتِلَافُ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعِلْمِ وَإِنْ أُرِيدَ بِالْعِلْمِ لِوَاحِدٍ مَا وَقَعَ الِاصْطِلَاحُ عَلَى أَنَّهُ عِلْمٌ وَاحِدٌ مِنْ غَيْرِ رِعَايَةِ مَعْنًى يُوجِبُ الْوَحْدَةَ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَصْطَلِحَ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ وَالْهَنْدَسَةَ عِلْمٌ وَاحِدٌ وَمَوْضُوعَهُ شَيْئَانِ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْمِقْدَارُ وَمَا أَوْرَدُوا مِنْ النَّظِيرِ، وَهُوَ بَدَنُ الْإِنْسَانِ وَالْأَدْوِيَةُ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْأَدْوِيَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ يَصِحُّ بِبَعْضِهَا وَيَمْرَضُ بِبَعْضِهَا فَالْمَوْضُوعُ فِي الْجَمِيعِ بَدَنُ الْإِنْسَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQبَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَبْحُوثَ عَنْهُ فِي الْعِلْمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ إضَافَةً بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ أَوْ لَا وَعَلَى الْأَوَّلِ إمَّا أَنْ تَكُونَ الْعَوَارِضُ الَّتِي لَهَا دَخْلٌ فِي الْمَبْحُوثِ عَنْهُ بَعْضُهَا نَاشِئًا عَنْ أَحَدِ الْمُضَافَيْنِ وَبَعْضُهَا نَاشِئًا عَنْ الْمُضَافِ الْآخَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَوْضُوعُ الْعِلْمِ كِلَا الْمُضَافَيْنِ كَمَا وَقَعَ الْبَحْثُ فِي الْأُصُولِ عَنْ إثْبَاتِ الْأَدِلَّةِ لِلْأَحْكَامِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي لَهَا دَخْلٌ فِي ذَلِكَ بَعْضُهَا نَاشِئٌ عَنْ الدَّلِيلِ كَالْعُمُومِ وَالِاشْتِرَاكِ وَالتَّوَاتُرِ وَبَعْضُهَا عَنْ الْحُكْمِ كَكَوْنِهِ عِبَادَةً أَوْ عُقُوبَةً فَمَوْضُوعُهُ الْأَدِلَّةُ وَالْأَحْكَامُ جَمِيعًا. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَبْحُوثُ عَنْهُ إضَافَةً كَمَا فِي الْفِقْهِ الْبَاحِثِ عَنْ وُجُوبِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَحُرْمَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ إضَافَةً لَكِنْ لَا دَخْلَ لِلْأَحْوَالِ النَّاشِئَةِ عَنْ أَحَدِ الْمُضَافَيْنِ فِي الْمَبْحُوثِ عَنْهُ كَمَا فِي الْمَنْطِقِ الْبَاحِثِ عَنْ إيصَالِ تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ إلَى تَصَوُّرٍ أَوْ تَصْدِيقٍ وَلَا دَخْلَ لِأَحْوَالِ التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ الْمُوَصِّلِ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَبَقَ فَالْمَوْضُوعُ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَوْضُوعِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْمَسَائِلِ الْمُوجِبَ لِاخْتِلَافِ الْعِلْمِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعِلْمَ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَعْلُومَاتِ وَهِيَ الْمَسَائِلُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِاخْتِلَافِ الْمَسَائِلِ مُجَرَّدُ تَكَثُّرِهَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعِلْمِ وَظَاهِرٌ أَنَّ مَسَائِلَ الْعِلْمِ الْوَاحِدِ كَثِيرَةٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ تَنَاسُبِهَا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُجَرَّدَ تَكَثُّرِ الْمَوْضُوعَاتِ يُوجِبُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَوْضُوعَاتُ الْكَثِيرَةُ مُتَنَاسِبَةً وَالْقَوْمُ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْكَثِيرَةَ إنَّمَا تَكُونُ مَوْضُوعًا لِعِلْمٍ وَاحِدٍ بِشَرْطِ تَنَاسُبِهَا وَوَجْهُ التَّنَاسُبِ اشْتِرَاكُهَا فِي دَانٍ كَالْخَطِّ وَالسَّطْحِ وَالْجِسْمِ التَّعْلِيمِيِّ لِلْهَنْدَسَةِ فَإِنَّهَا تَتَشَارَكُ فِي جِنْسِهَا، وَهُوَ الْمِقْدَارُ أَعْنِي الْكَمَّ الْمُتَّصِلَ الْقَارَّ الذَّاتِ أَوْ فِي عَرَضِيٍّ كَبَدَنِ الْإِنْسَانِ وَأَجْزَائِهِ وَالْأَغْذِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ وَالْأَرْكَانِ وَالْأَمْزِجَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إذَا جَعَلْت مَوْضُوعَاتِ الطِّبِّ فَإِنَّهَا تَتَشَارَكُ فِي كَوْنِهَا مَنْسُوبَةً إلَى الصِّحَّةِ الَّتِي هِيَ الْغَايَةُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُهْمِلُوا رِعَايَةَ مَعْنًى يُوجِبُ الْوَحْدَةَ وَأَنْ لَيْسَ لِأَحَدٍ

وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ الْحَيْثِيَّةُ أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّيْءَ مَعَ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ مَوْضُوعٌ كَمَا يُقَالُ الْمَوْجُودُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ مَوْضُوعٌ لِلْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ فَيُبْحَثُ فِيهِ عَنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ كَالْوَحْدَةِ وَالْكَثْرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَلَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ مَا يُبْحَثُ عَنْ أَعْرَاضِهِ لَا مَا يُبْحَثُ عَنْهُ أَوْ عَنْ أَجْزَائِهِ وَثَانِيهمَا أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ تَكُونُ بَيَانًا لِلْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ أَعْرَاضٌ ذَاتِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ وَإِنَّمَا يَبْحَثُ فِي عِلْمٍ عَنْ نَوْعٍ مِنْهَا فَالْحَيْثِيَّةُ بَيَانُ ذَلِكَ النَّوْعِ فَقَوْلُهُمْ مَوْضُوعُ الطِّبِّ بَدَنُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصِحُّ وَيَمْرَضُ وَمَوْضُوعُ الْهَيْئَةِ أَجْسَامُ الْعَالَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهَا شَكْلًا يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ إذْ فِي الطِّبِّ يُبْحَثُ عَنْ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَفِي الْهَيْئَةِ عَنْ الشَّكْلِ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ يَجِبُ أَنْ يُبْحَثَ فِي الطِّبِّ وَالْهَيْئَةِ عَنْ أَعْرَاضٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَصْطَلِحَ عَلَى أَنَّ الْفِقْهَ وَالْهَنْدَسَةَ عِلْمٌ وَاحِدٌ مَوْضُوعُهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْمِقْدَارُ أَنَّهُ فِيمَا أَوْرَدَ مِنْ الْمِثَالَيْنِ مُنَاقِضٌ نَفْسَهُ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْأُصُولِ ثَمَّ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، إذْ مَحْمُولَاتُ مَسَائِلِهِ لَيْسَتْ أَعْرَاضًا ذَاتِيَّةً لِمَفْهُومِ الدَّلِيلِ، بَلْ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الِانْفِرَادِ أَوْ التَّشَارُكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَكَذَا التَّصَوُّرُ وَالتَّصْدِيقُ فِي الْمَنْطِقِ. قَوْلُهُ (وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ الْحَيْثِيَّةَ) الْمَبْحَثُ الثَّانِي فِي تَحْقِيقِ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَوْضُوعِ حَيْثُ يُقَالُ مَوْضُوعُ هَذَا الْعِلْمِ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِنْ حَيْثُ كَذَا وَلَفْظُ حَيْثُ مَوْضُوعٌ لِلْمَكَانِ اُسْتُعِيرَ لِجِهَةِ الشَّيْءِ وَاعْتِبَارُهُ يُقَالُ الْمَوْجُودُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ أَيْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَالْحَيْثِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْمَوْضُوعِ قَدْ لَا تَكُونُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِمْ مَوْضُوعُ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ الْبَاحِثِ عَنْ أَحْوَالِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُجَرَّدَةِ هُوَ الْمَوْجُودُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي تَلْحَقُ الْمَوْجُودَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْجُودٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَوْهَرٌ أَوْ عَرَضٌ أَوْ جِسْمٌ أَوْ مُجَرَّدٌ، وَذَلِكَ كَالْعِلِّيَّةِ وَالْمَعْلُولِيَّةِ وَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ وَالْقِدَمِ وَالْحُدُوثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ حَيْثِيَّةِ الْوُجُودِ، إذْ لَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِهَا لِلْمَوْجُودِ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ كَقَوْلِهِمْ مَوْضُوعُ عِلْمِ الطِّبِّ بَدَنُ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَمْرَضُ وَمَوْضُوعُ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ الْجِسْمُ مِنْ حَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الطِّبِّ وَكَذَا الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ فِي الطَّبِيعِيِّ فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ جُزْءٌ مِنْ الْمَوْضُوعِ، وَفِي الثَّانِي بَيَانٌ لِلْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ، إذْ لَوْ كَانَتْ جُزْءًا مِنْ الْمَوْضُوعِ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ لَمَّا صَحَّ أَنْ يُبْحَثَ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ وَتُجْعَلَ مِنْ مَحْمُولَاتِ مَسَائِلِهِ، إذْ لَا يُبْحَثُ فِي الْعِلْمِ عَنْ أَجْزَاءِ الْمَوْضُوعِ، بَلْ عَنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا فِي الْأَوَّلِ جُزْءٌ مِنْ الْمَوْضُوعِ، بَلْ قَيْدٌ لِمَوْضُوعِيَّتِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْبَحْثَ يَكُونُ عَنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنْ تِلْكَ

لَاحِقَةٍ لِأَجْلِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ وَلَا يُبْحَثُ عَنْ الْحَيْثِيَّتَيْنِ وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ وَمِنْهَا أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ مَوْضُوعًا لِلْعِلْمَيْنِ أَقُولُ هَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، بَلْ وَاقِعٌ فَإِنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ لَهُ أَعْرَاضٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَفِي كُلِّ عِلْمٍ يُبْحَثُ عَنْ بَعْضٍ مِنْهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَيْثِيَّةِ وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ وَعَلَى هَذَا لَوْ جَعَلْنَا الْحَيْثِيَّةَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْضًا قَيْدًا لِلْمَوْضُوعِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَوْمِ لَا بَيَانًا لِلْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ لَمْ يَكُنْ الْبَحْثُ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ بَحْثًا عَنْ أَجْزَاءِ الْمَوْضُوعِ وَلَمْ يَلْزَمْنَا مَا لَزِمَ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَشَارُكِ الْعِلْمَيْنِ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَارِ نَعَمْ يَرِدُ الْإِشْكَالُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ الْحَيْثِيَّةُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا تَعْرِضُ لِلْمَوْضُوعِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهَا وَإِلَّا لَزِمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ مَا بِهِ يَعْرِضُ الشَّيْءُ لِلشَّيْءِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى الْعَارِضِ مَثَلًا لَيْسَتْ الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ مِمَّا يَعْرِضُ لِبَدَنِ الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ يَصِحُّ وَيَمْرَضُ وَلَا الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ مِمَّا يَعْرِضُ لِلْجِسْمِ مِنْ حَيْثُ يَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ، وَالْمَشْهُورُ فِي جَوَابِهِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَيْثُ إمْكَانُ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ وَالِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ الْأَعْرَاضِ وَالْمَبْحُوثِ عَنْهَا فِي الْعِلْمِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَوْضُوعَ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْمَبْحُوثِ فِي الْعِلْمِ عَنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ قُيِّدَ بِالْحَيْثِيَّةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ الْعَوَارِضِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْحَيْثِيَّةِ وَبِالنَّظَرِ إلَيْهَا أَيْ يُلَاحَظُ فِي جَمِيعِ الْمَبَاحِثِ هَذَا الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ الْعَوَارِضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا يَكُونُ لُحُوقُهَا لِلْمَوْضُوعِ بِوَاسِطَةِ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ أَلْبَتَّةَ. قَوْلُهُ (وَمِنْهَا أَنَّ الْمَشْهُورَ) الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ فِي جَوَازِ تَشَارُكِ الْعُلُومِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَارِ وَكَمَا خَالَفَ الْقَوْمَ فِي جَوَازِ تَعَدُّدِ الْمَوْضُوعِ لِعِلْمٍ وَاحِدٍ كَذَلِكَ خَالَفَهُمْ فِي امْتِنَاعِ اتِّحَادِ الْمَوْضُوعِ لِعُلُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَادَّعَى جَوَازَهُ، بَلْ وُقُوعَهُ أَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَعْرَاضٌ ذَاتِيَّةٌ مُتَنَوِّعَةٌ أَيْ مُخْتَلِفَةٌ بِالنَّوْعِ يَبْحَثُ فِي عِلْمٍ عَنْ بَعْضِ أَنْوَاعِهَا، وَفِي عِلْمٍ آخَرَ عَنْ بَعْضٍ آخَرَ فَيَتَمَايَزُ الْعِلْمَانِ بِالْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا، وَإِنْ اتَّحَدَ الْمَوْضُوعُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْمَعْلُومَاتِ أَعْنِي الْمَسَائِلَ وَكَمَا تَتَّحِدُ الْمَسَائِلُ بِاتِّحَادِ مَوْضُوعَاتِهَا بِأَنْ يَرْجِعَ الْجَمِيعُ إلَى مَوْضُوعِ الْعِلْمِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا كَذَلِكَ تَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ مَحْمُولَاتِهَا بِأَنْ يَرْجِعَ الْجَمِيعُ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْمَوْضُوعِ وَتَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهَا فَكَمَا اُعْتُبِرَ اخْتِلَافُ الْعُمُومِ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعَاتِ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ الْمَحْمُولَاتِ بِأَنْ يُؤْخَذَ مَوْضُوعٌ وَاحِدٌ بِالذَّاتِ وَالِاعْتِبَارِ وَيُجْعَلَ الْبَحْثُ عَنْ بَعْضِ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ عِلْمًا وَعَنْ الْبَعْضِ الْآخَرِ عِلْمًا آخَرَ فَيَكُونَانِ عِلْمَيْنِ مُتَشَارِكَيْنِ فِي الْمَوْضُوعِ مُتَمَايِزَيْنِ فِي الْمَحْمُولِ. وَأَمَّا الْوُقُوعُ فَلِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَجْسَامَ الْعَالَمِ وَهِيَ الْبَسَائِطُ مَوْضُوعَ عِلْمِ الْهَيْئَةِ مِنْ حَيْثُ الشَّكْلُ وَمَوْضُوعُ عِلْمِ السَّمَاءِ وَالْعَالَمِ

وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَكُونُ لَهُ أَعْرَاضٌ مُتَنَوِّعَةٌ فَإِنَّ الْوَاحِدَ الْحَقِيقِيَّ يُوصَفُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا حَقِيقَةً وَبَعْضُهَا إضَافِيَّةً وَبَعْضُهَا سَلْبِيَّةً، وَلَا شَيْءَ مِنْهَا يَلْحَقُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ حَيْثُ الطَّبِيعِيَّةُ وَالْحَيْثِيَّةُ فِيهِمَا بَيَانُ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا لِأَجْزَاءِ الْمَوْضُوعِ وَإِلَّا لَمَا وَقَعَ الْبَحْثُ عَنْهَا فِي الْعِلْمَيْنِ فَمَوْضُوعُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَجْسَامُ الْعَالَمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا أَنَّ الْبَحْثَ فِي الْهَيْئَةِ عَنْ أَشْكَالِهَا، وَفِي السَّمَاءِ وَالْعَالَمِ عَنْ طَبَائِعِهَا فَهُمَا عِلْمَانِ مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ مَحْمُولَاتِ الْمَسَائِلِ مَعَ اتِّحَادِ الْمَوْضُوعِ وَعِلْمُ السَّمَاءِ وَالْعَالَمِ عِلْمٌ تُعْرَفُ فِيهِ أَحْوَالُ الْأَجْسَامِ الَّتِي هِيَ أَرْكَانُ الْعَالَمِ وَهِيَ السَّمَاوَاتُ وَمَا فِيهَا وَالْعَنَاصِرُ الْأَرْبَعَةُ وَطَبَائِعُهَا وَحَرَكَاتُهَا وَمَوَاضِعُهَا وَتَعْرِيفُ الْحِكْمَةِ فِي صُنْعِهَا وَتَنْضِيدِهَا، وَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْعِلْمِ الطَّبِيعِيِّ الْبَاحِثِ عَنْ أَحْوَالِ الْأَجْسَامِ مِنْ حَيْثُ التَّغَيُّرُ وَمَوْضُوعُهُ الْجِسْمُ الْمَحْسُوسُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعْرُوضٌ لِلتَّغَيُّرِ فِي الْأَحْوَالِ وَالثَّبَاتِ فِيهَا وَيَبْحَثُ فِيهِ عَمَّا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحَيْثِيَّةَ فِي الطَّبِيعِيِّ مَبْحُوثٌ عَنْهَا وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا قَيْدٌ لِلْعُرُوضِ وَهَاهُنَا نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ كَوْنِ الْحَيْثِيَّةِ تَارَةً جُزْءًا مِنْ الْمَوْضُوعِ وَأُخْرَى بَيَانًا لِلْمَبْحُوثِ عَنْهَا وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ، أَمَّا ثَانِيًا فَإِنَّهُمْ لَمَّا حَاوَلُوا مَعْرِفَةَ أَحْوَالِ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ وَضَعُوا الْحَقَائِقَ أَنْوَاعًا وَأَجْنَاسًا وَبَحَثُوا عَمَّا أَحَاطُوا بِهِ مِنْ أَعْرَاضِهِ الذَّاتِيَّةِ فَحَصَلَتْ لَهُمْ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مُتَّحِدَةٌ فِي كَوْنِهَا بَحْثًا عَنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَحْمُولَاتُهَا فَجَعَلُوهَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ عِلْمًا وَاحِدَا يُفْرَدُ بِالتَّدْوِينِ وَالتَّسْمِيَةِ وَجَوَّزُوا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ مَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ الْمَوْضُوعِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعِلْمِ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ جَمِيعِ مَا تُحِيطُ بِهِ الطَّاقَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ مِنْ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ لِلْمَوْضُوعِ فَلَا مَعْنَى لِلْعِلْمِ الْوَاحِدِ إلَّا أَنْ يُوضَعَ شَيْءٌ أَوْ أَشْيَاءُ مُتَنَاسِبَةٌ فَنَبْحَثَ عَنْ جَمِيعِ عَوَارِضِهِ الذَّاتِيَّةِ وَنَطْلُبَهَا وَلَا مَعْنَى لِتَمَايُزِ الْعُلُومِ إلَّا أَنَّ هَذَا يَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ شَيْءٍ وَذَاكَ فِي أَحْوَالِ شَيْءٍ آخَرَ مُغَايِرٍ لَهُ بِالذَّاتِ أَوْ بِالِاعْتِبَارِ بِأَنْ يُؤْخَذَ فِي أَحَدِ الْعِلْمَيْنِ مُطْلَقًا، وَفِي الْآخَرِ بِالْبُرْهَانِ مُقَيَّدًا أَوْ يُؤْخَذَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ آخَرَ وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ مَجْهُولَةٌ مَطْلُوبَةٌ وَالْمَوْضُوعُ مَعْلُومٌ بَيْنَ الْوُجُودِ فَهُوَ الصَّالِحُ سَبَبًا لِلتَّمَايُزِ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ مَا مِنْ عِلْمٍ إلَّا وَيَشْتَمِلُ مَوْضُوعُهُ عَلَى أَعْرَاضٍ ذَاتِيَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَجْعَلَهُ عُلُومًا مُتَعَدِّدَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مَثَلًا يَجْعَلُ الْبَحْثَ عَنْ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ عِلْمًا وَمِنْ حَيْثُ الْحُرْمَةُ عِلْمًا آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْفِقْهُ عُلُومًا مُتَعَدِّدَةً مَوْضُوعُهَا فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَلَا يَنْضَبِطُ الِاتِّحَادُ وَالِاخْتِلَافُ وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ فِي كِتَابِ الْبُرْهَانِ مِنْ مَنْطِقِ الشِّفَاءِ. قَوْلُهُ، (وَإِنَّمَا قُلْنَا) اسْتَدَلَّ عَلَى

لِجُزْئِهِ لِعَدَمِ الْجُزْءِ لَهُ فَلُحُوقُ بَعْضِهَا لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِذَاتِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ فِي الْمَبْدَأِ فَلُحُوقُ الْبَعْضِ الْآخَرِ إنْ كَانَ لِذَاتِهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ نَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى ذَاتِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ فِي الْمَبْدَأِ. وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ اسْتِكْمَالُهُ مِنْ غَيْرِهِ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ مَوْضُوعَ عِلْمَيْنِ وَيَكُونَ تَمِيزُهُمَا بِحَسَبِ الْأَعْرَاضِ الْمَبْحُوثِ عَنْهَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اتِّحَادَ الْعِلْمَيْنِ وَاخْتِلَافَهُمَا بِحَسَبِ اتِّحَادِ الْمَعْلُومَاتِ وَاخْتِلَافِهَا وَالْمَعْلُومَاتُ هِيَ الْمَسَائِلُ فَكَمَا أَنَّ الْمَسَائِلَ تَتَّحِدُ وَتَخْتَلِفُ بِحَسْبِ مَوْضُوعَاتِهَا وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى مَوْضُوعِ الْعِلْمِ فَكَذَلِكَ تَتَّحِدُ الْمَسَائِلُ وَتَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَحْمُولَاتِهَا وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى تِلْكَ الْأَعْرَاضِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الِاصْطِلَاحَ جَرَى بِأَنَّ الْمَوْضُوعَ مُعْتَبَرٌ فِي ذَلِكَ لَا الْمَحْمُولَ فَحِينَئِذٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ الْمُتَنَوِّعَةِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ بِأَنَّ الْوَاحِدَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي لَا كَثْرَةَ فِي ذَاتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ يَتَّصِفُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا حَقِيقِيًّا كَالْقُدْرَةِ وَبَعْضُهَا إضَافِيًّا كَالْخَلْقِ وَبَعْضُهَا سَلْبِيًّا كَالتَّجَرُّدِ عَنْ الْمَادَّةِ وَالْمُتَّصِفُ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ مُتَّصِفٌ بِأَعْرَاضٍ ذَاتِيَّةٍ مُتَنَوِّعَةٍ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ لَاحِقًا لَهُ لِجُزْئِهِ لِعَدَمِ الْجُزْءِ لَهُ وَلَا الْمُبَايِنِ لِامْتِنَاعِ احْتِيَاجِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ فِي صِفَاتِهِ إلَى أَمْرٍ مُنْفَصِلٍ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِهَذَا أَيْضًا وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِحُقُوقِ كُلٍّ مِنْهَا لِصِفَةٍ أُخْرَى فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ فِي الْمَبَادِئِ أَعْنِي الصِّفَاتِ الَّتِي كُلٌّ مِنْهَا مَبْدَأٌ لِصِفَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ مُحَالٌ لِبُرْهَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكَلَامِ أَوْ يَكُونُ بَعْضُهَا لِذَاتِهِ فَيَثْبُتُ عَرَضُ ذَاتِيٌّ وَحِينَئِذٍ فَالْبَعْضُ الْآخَرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِجُزْئِهِ لِمَا مَرَّ فَهُوَ إمَّا لِذَاتِهِ فَيَثْبُتُ عَرَضٌ ذَاتِيٌّ آخَرُ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ أَوْ لِغَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْغَيْرُ مُبَايِنًا لِمَا مَرَّ، بَلْ يَكُونُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى مَا يَكُونُ لُحُوقُهُ لِذَاتِهِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّسَلْسُلُ فِي الْمَبَادِئِ، فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْعَرَضِ الذَّاتِيِّ الْأَوَّلِ فَلَا يَلْزَمُ تَعَدُّدُ الْأَعْرَاضِ الذَّاتِيَّةِ وَلَوْ سُلِّمَ فَاللَّازِمُ تَعَدُّدُهَا، وَهُوَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ وَالْمَطْلُوبُ تَنَوُّعُهَا، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ قُلْنَا اللَّاحِقُ بِوَاسِطَةِ الْعَرَضِ الذَّاتِيِّ الْأَوَّلِ أَيْضًا عَرَضٌ ذَاتِيٌّ فَيَلْزَمُ التَّعَدُّدُ وَالصِّفَاتُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُتَنَوِّعَةٌ لَا مَحَالَةَ ضَرُورَةَ أَنَّ اخْتِلَافَ أَشْخَاصِ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنْ الصِّفَاتِ إنَّمَا هُوَ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ. قَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ) عَطْفٌ عَلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَيْ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ اسْتِكْمَالُ الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ فِي صِفَاتِهِ بِالْغَيْرِ، وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي ذَاتِهِ وَالِاحْتِيَاجَ فِي كَمَالَاتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الِاسْتِكْمَالُ بِالْأَمْرِ الْمُنْفَصِلِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لُحُوقُ الْبَعْضِ الْآخَرِ لِصِفَةٍ، وَإِنْ أُرِيدَ أَعَمُّ مِنْ الْمُنْفَصِلِ وَالصِّفَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ احْتِيَاجَ بَعْضِ الصِّفَاتِ إلَى الْبَعْضِ يُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي الذَّاتِ كَيْفَ وَالْخَلْقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ

[القسم الأول من الكتاب في الأدلة الشرعية وهي على أربعة أركان]

لَا مُشَاحَّةَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمْ: إنَّ مَوْضُوعَ الْهَيْئَةِ هِيَ أَجْسَامُ الْعَالَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا شَكْلُ وَمَوْضُوعُ عِلْمِ السَّمَاءِ وَالْعَالَمُ مِنْ الطَّبِيعِيِّ أَجْسَامُ الْعَالَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا طَبِيعِيَّةٌ قَوْلٌ بِأَنَّ مَوْضُوعَهُمَا وَاحِدٌ لَكِنَّ اخْتِلَافَهُمَا بِاخْتِلَافِ الْمَحْمُولِ؛ لِأَنَّ الْحَيْثِيَّةَ فِيهِمَا بَيَانُ الْمَبْحُوثِ عَنْهُ لَا أَنَّهَا جُزْءُ الْمَوْضُوعِ وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يُبْحَثَ فِيهِمَا عَنْ هَاتَيْنِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ، بَلْ عَمَّا يَلْحَقُهُمَا لِهَاتَيْنِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَاَللَّه أَعْلَمُ (فَنَضَعُ الْكِتَابَ عَلَى قِسْمَيْنِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ: الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَا نُقِلَ إلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمَصَاحِفِ تَوَاتُرًا) فَخَرَجَ سَائِرُ الْكُتُبِ وَالْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ وَالنَّبَوِيَّةِ وَالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ دَوْرِيٌّ؛ لِأَنَّهُ عَرَّفَ الْقُرْآنَ بِمَا نُقِلَ فِي الْمُصْحَفِ، فَإِنْ سُئِلَ مَا الْمُصْحَفُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَالَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ فَأَجَبْت عَنْ هَذَا بِقَوْلِي (وَلَا دَوْرَ؛ لِأَنَّ الْمُصْحَفَ مَعْلُومٌ) أَيْ فِي الْعُرْفِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِهِ بِقَوْلِهِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْإِرَادَةِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا مُخْتَصًّا بِمَا يَكُونُ الْغَيْرُ مُنْفَصِلًا وَمَا سَبَقَ مُخْتَصًّا بِمَا يَكُونُ غَيْرَ مُنْفَصِلٍ فَيَتِمُّ بِمَجْمُوعِهِمَا الْمَطْلُوبُ أَعْنِي إثْبَاتَ عَرَضٍ ذَاتِيٍّ آخَرَ [الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْكِتَابِ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ] [الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ أَيْ الْقُرْآنِ] قَوْلُهُ (فَنَضَعُ) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ فَيَبْحَثُ عَنْ كَذَا وَكَذَا يَعْنِي بِسَبَبِ أَنَّ الْبَحْثَ فِي هَذَا الْفَنِّ إنَّمَا هُوَ عَنْ أَحْوَالِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ نَضَعُ الْكِتَابَ أَيْ مَقَاصِدَهُ عَلَى قِسْمَيْنِ وَإِلَّا فَبَحْثُ التَّعْرِيفِ وَالْمَوْضُوعِ أَيْضًا مِنْ الْكِتَابِ مَعَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْقِسْمَيْنِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْمَقَاصِدِ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مُرَتَّبٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ فِي الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْكِتَابُ، ثُمَّ السُّنَّةُ ثُمَّ الْإِجْمَاعُ ثُمَّ الْقِيَاسُ تَقْدِيمًا لِلْإِقْدَامِ بِالذَّاتِ وَالشَّرَفِ. وَأَمَّا بَابَا التَّرْجِيحِ وَالِاجْتِهَادِ فَكَأَنَّهُ جَعَلَهُمَا تَتِمَّةً وَتَذْيِيلًا لِرُكْنِ الْقِيَاسِ. قَوْلُهُ (الرُّكْنُ الْأَوَّلُ فِي الْكِتَابِ) ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَكْتُوبِ غَلَبَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُثْبَتُ فِي الْمَصَاحِفِ كَمَا غَلَبَ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى كِتَابِ سِيبَوَيْهِ وَالْقُرْآنُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِرَاءَةِ غَلَبَ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْمُعَيَّنِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَقْرُوءِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْعِبَادِ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَشْهَرُ مِنْ لَفْظِ الْكِتَابِ وَأَظْهَرُ فَلِهَذَا جُعِلَ تَفْسِيرًا لَهُ حَيْثُ قِيلَ الْكِتَابُ هُوَ الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى الرَّسُولِ الْمَكْتُوبُ فِي الْمَصَاحِفِ الْمَنْقُولُ إلَيْنَا نَقْلًا مُتَوَاتِرًا بِلَا شُبْهَةٍ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ تَفْسِيرٌ لِلْكِتَابِ وَبَاقِي الْكَلَامِ تَعْرِيفٌ لِلْقُرْآنِ وَتَمْيِيزٌ لَهُ عَمَّا يَشْتَبِهُ بِهِ لَا أَنَّ الْمَجْمُوعَ تَعْرِيفٌ لِلْكِتَابِ لِيَلْزَمَ ذِكْرُ الْمَحْدُودِ فِي الْحَدِّ وَلَا أَنَّ الْقُرْآنَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ لِيَشْمَلَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَغَيْرَهُ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْعُرْفِ بَعِيدٌ عَنْ الْفَهْمِ، إنْ كَانَ صَحِيحًا فِي اللُّغَةِ وَالْمَشَايِخِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُنَاقِشُونَ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِ كَلَامِهِمْ عَلَيْهِ مَعَ ظُهُورِ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ الْمَقْبُولِ عِنْدَ الْكُلِّ فَلِإِزَالَةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا الْوَهْمِ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِحَرْفِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ أَيْ الْقُرْآنُ، وَهُوَ مَا نُقِلَ إلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمَصَاحِفِ تَوَاتُرًا، ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ يُطْلَقُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَعَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَبْحَثُونَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَذَلِكَ آيَةً آيَةً لَا مَجْمُوعَ الْقُرْآنِ فَاحْتَاجُوا إلَى تَحْصِيلِ صِفَاتٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْكُلِّ وَالْجُزْءِ مُخْتَصَّةٍ بِهِمَا كَكَوْنِهِ مُعْجِزًا مُنَزَّلًا عَلَى الرَّسُولِ مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ فَاعْتَبَرَ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْضُهُمْ جَمِيعَ الصِّفَاتِ لِزِيَادَةِ التَّوْضِيحِ وَبَعْضُهُمْ الْإِنْزَالَ وَالْإِعْجَازَ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ وَالنَّقْلَ لَيْسَا مِنْ اللَّوَازِمِ لِتَحَقُّقِ الْقُرْآنِ بِدُونِهِمَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَبَعْضُهُمْ الْكِتَابَةَ وَالْإِنْزَالَ وَالنَّقْلَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ لِمَنْ لَمْ يُشَاهِدْ الْوَحْيَ وَلَمْ يُدْرِكْ زَمَنَ النُّبُوَّةِ وَهُمْ إنَّمَا يَعْرِفُونَهُ بِالنَّقْلِ وَالْكِتَابَةِ فِي الْمَصَاحِفِ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا فِي زَمَانِهِمْ فَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْيَنِ اللَّوَازِمِ الْبَيِّنَةِ وَأَوْضَحِهَا دَلَالَةً عَلَى الْمَقْصُودِ بِخِلَافِ الْإِعْجَازِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ اللَّوَازِمِ الْبَيِّنَةِ وَلَا الشَّامِلَةِ لِكُلِّ جُزْءٍ، إذْ الْمُعْجِزُ هُوَ السُّورَةُ أَوْ مِقْدَارُهَا أَخَذَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وَالْمُصَنِّفُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ النَّقْلِ فِي الْمَصَاحِفِ تَوَاتُرًا لِحُصُولِ الِاحْتِرَازِ بِذَلِكَ عَنْ جَمِيعِ مَا عَدَا الْقُرْآنَ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَالْأَحَادِيثَ الْإِلَهِيَّةَ وَالنَّبَوِيَّةَ وَمَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ لَمْ يُنْقَلْ شَيْءٌ مِنْهَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمَصَاحِفِ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِهَذَا الْمَعْهُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ جَمِيعِ النَّاسِ حَتَّى الصِّبْيَانِ وَالْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ لَمْ تُنْقَلْ إلَيْنَا بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ، بَلْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ كَمَا اخْتَصَّ بِمُصْحَفِ أُبَيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْ الشُّهْرَةَ كَمَا اخْتَصَّ بِمُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْإِنْزَالِ وَالْإِعْجَازِ وَلَا إلَى تَأْكِيدِ التَّوَاتُرِ بِقَوْلِهِمْ بِلَا شُبْهَةٍ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهَا. وَأَمَّا التَّسْمِيَةُ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ إلَّا مَا تَوَاتَرَ بَعْضُ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ، وَإِنَّ قَوْلَهُمْ بِلَا شُبْهَةٍ احْتِرَازٌ عَنْهَا إلَّا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ أُنْزِلَتْ لِلْفَصْلِ بَيْنَ السُّوَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ بِخَطِّ الْقُرْآنِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ مِنْ السَّلَفِ وَعَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا إنَّمَا هُوَ لِلشُّبْهَةِ فِي كَوْنِهَا آيَةً تَامَّةً وَجَوَازُ تِلَاوَتِهَا لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَصْدِ التَّبَرُّكِ وَالتَّيَمُّنِ كَمَا إذَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَصْدِ الشُّكْرِ دُونَ التِّلَاوَةِ وَعَدَمُ تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَهَا مِنْ الْقُرْآنِ فِي غَيْرِ سُورَةِ النَّمْلِ إنَّمَا هُوَ لِقُوَّةِ الشُّبْهَةِ فِي ذَلِكَ بِحَيْثُ يَخْرُجُ كَوْنُهَا مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ حَيِّزِ الْوُضُوحِ إلَى حَيِّزِ الْإِشْكَالِ، وَمِثْلُ هَذَا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ هَلْ يَبْقَى اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ قُلْنَا نَعَمْ هِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِائَةٌ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ آيَةً مِنْ السُّوَرِ كَمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] عِدَّةُ آيَاتٍ مِنْ

ثُمَّ أَرَدْت تَحْقِيقًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْرِيفَاتِ فَإِنَّ إتْمَامَ الْجَوَابِ مَوْقُوفٌ عَلَى هَذَا فَقُلْت (وَلَيْسَ هَذَا تَعْرِيفُ مَاهِيَّةِ الْكِتَابِ) . ـــــــــــــــــــــــــــــQسُورَةِ الرَّحْمَنِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ كُرِّرَتْ لِلْفَصْلِ وَالتَّبَرُّكِ وَلَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ شَيْءٍ مِنْ السُّوَرِ وَجَازَ تَكْرِيرُهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ؛ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِذَلِكَ وَنُقِلَتْ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَنْ أَخَذَ يُلْحِقُ بِالْمُصْحَفِ آيَاتٍ مُكَرَّرَةً مِثْلَ أَنْ يُكْتَبَ فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَإِنَّهُ يُعَدُّ زِنْدِيقًا أَوْ مَجْنُونًا فَعَلَى مَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِغَرَضِ الْأُصُولِيِّ يَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا نُقِلَ إلَيْنَا بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمَصَاحِفِ هُوَ مَا يَشْمَلُ الْكُلَّ وَالْبَعْضَ إلَّا أَنَّهُ إنْ أُبْقِيَ عَلَى عُمُومِهِ يَدْخُلُ فِي الْحَدِّ الْحَرْفُ أَوْ الْكَلِمَةُ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا يُسَمَّى قُرْآنًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَإِنْ خُصَّ بِالْكَلَامِ التَّامِّ خَرَجَ بَعْضُ مَا لَيْسَ بِكَلَامٍ تَامٍّ مَعَ أَنَّهُ يُسَمَّى قُرْآنًا وَيَحْرُمُ مَسُّهُ عَلَى الْمُحْدِثِ وَتِلَاوَتُهُ عَلَى الْجُنُبِ وَعَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْمُرَادُ بِمَا نُقِلَ مَجْمُوعُ مَا نُقِلَ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ تَعْرِيفًا لِلْمَجْمُوعِ الشَّخْصِيِّ لَا لِلْمَعْنَى الْكُلِّيِّ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ غَرَضَ الْأُصُولِيِّ، فَإِنْ قِيلَ فَالْكِتَابُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي هَلْ يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِالْقُرْآنِ قُلْنَا نَعَمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ أَيْضًا حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ، فَإِنْ قِيلَ فَيَلْزَمُ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ قُلْنَا لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الْبَعْضِ كَمَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْبَعْضِ خَاصَّةً كَمَا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْكُلِّ خَاصَّةً حَتَّى يَكُونَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ وَعَلَى الْبَعْضِ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ تَارَةً لِلْكُلِّ خَاصَّةً وَتَارَةً لِمَا يَعُمُّ الْكُلَّ وَالْبَعْضَ أَعْنِي الْكَلَامَ الْمَنْقُولَ فِي الْمُصْحَفِ تَوَاتُرًا فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ وَالْبَعْضِ بِاعْتِبَارِ وَضْعٍ وَاحِدٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ فِي شَيْءٍ. قَوْلُهُ (فَإِنَّ إتْمَامَ الْجَوَابِ مَوْقُوفٌ عَلَى هَذَا) يَعْنِي أَنَّ جَعْلَ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ تَفْسِيرًا لِلَفْظِ الْكِتَابِ أَوْ الْقُرْآنِ وَتَمْيِيزًا لَهُ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ أَوْ الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ يَجُوزُ فِي مَعْرِفَةِ الْمُصْحَفِ الِاكْتِفَاءُ بِالْعُرْفِ أَوْ الْإِشَارَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَإِنْ جُعِلَ تَعْرِيفًا لِمَاهِيَّةِ الْكِتَابِ أَوْ الْقُرْآنِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَاهِيَّةِ الْمُصْحَفِ وَهِيَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَاهِيَّةِ الْقُرْآنِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا مَا كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ لَا يُقَالُ فَالدَّوْرُ إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا جَعَلَ تَعْرِيفًا لِمَاهِيَّةِ الْقُرْآنِ دُونَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ مَاهِيَّةُ الْكِتَابِ هِيَ بِعَيْنِهَا مَاهِيَّةُ الْقُرْآنِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُمَا اسْمَانِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ فَتَوَقَّفَ الْمُصْحَفُ عَلَى مَاهِيَّةِ الْقُرْآنِ تَوَقُّفَهُ عَلَى مَاهِيَّةِ الْكِتَابِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمُصْحَفِ بِمَا جُمِعَ فِيهِ الْوَحْيُ الْمَتْلُوُّ لَا يَدْفَعُ الدَّوْرَ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا عِبَارَةٌ عَنْ الْكِتَابِ وَالْقُرْآنِ فَالْمُصْحَفُ صُرِّحَ بِأَنَّهُ لَيْسَ تَعْرِيفًا

بَلْ تَشْخِيصُهُ فِي جَوَابِ أَيِّ كِتَابٍ تُرِيدُ، (وَلَا الْقُرْآنِ) فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا هُوَ مَا نُقِلَ إلَيْنَا إلَخْ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ عَرَّفُوا الْكِتَابَ بِهَذَا أَوْ عَرَّفُوا الْقُرْآنَ بِهَذَا، فَإِنْ عَرَّفُوا الْكِتَابَ بِهَذَا فَلَيْسَ تَعْرِيفًا لِمَاهِيَّةِ الْكِتَابِ، بَلْ تَشْخِيصُهُ فِي جَوَابِ أَيِّ كِتَابٍ تُرِيدُ وَإِنْ عَرَّفُوا الْقُرْآنَ بِهَذَا فَلَيْسَ تَعْرِيفًا لِمَاهِيَّةِ الْقُرْآنِ أَيْضًا، بَلْ تَشْخِيصُهُ (لِأَنَّ الْقُرْآنَ اسْمٌ يُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ وَعَلَى الْمَقْرُوءِ فَهَذَا تَعْيِينُ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَقْرُوءُ) فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلْحَقِّ عَزَّ وَعَلَا وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَقْرُوءُ فَكَأَنَّهُ قِيلَ أَيُّ الْمَعْنَيَيْنِ تُرِيدُ، فَقَالَ مَا نُقِلَ إلَيْنَا إلَخْ أَيْ تُرِيدُ الْمَقْرُوءَ فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ إنْ أُرِيدَ تَعْرِيفُ مَاهِيَّةِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَرَّفَ مَاهِيَّةَ الْقُرْآنِ بِالْمَكْتُوبِ فِي الْمُصْحَفِ فَلَا بُدَّ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمَاهِيَّةِ سَوَاءٌ عُرِّفَ بِهِ الْكِتَابُ أَوْ الْقُرْآنُ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي لُزُومِ الدَّوْرِ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الدَّوَرَانُ لَوْ أُرِيدَ تَعْرِيفُ مَاهِيَّةِ الْقُرْآنِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ الْكِتَابِ هِيَ مَاهِيَّةُ الْقُرْآنِ فَذِكْرُ أَحَدِهِمَا مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ، فَإِنْ قِيلَ يُفَسَّرُ الْمُصْحَفُ بِمَا جُمِعَ فِيهِ الصَّحَائِفُ مُطْلَقًا عَلَى مَا هُوَ مَوْضُوعٌ فِي اللُّغَةِ وَيَخْرُجُ مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ عَنْ التَّعْرِيفِ بِقَيْدِ التَّوَاتُرِ فَلَا دَوْرَ قُلْنَا عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ إلَى الْخَفِيِّ وَعَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ الْعُرْفِيِّ فَلَا يَحْسُنُ فِي التَّعْرِيفَاتِ، فَإِنْ قِيلَ تَعْرِيفُ الْأُصُولِ إنَّمَا هُوَ لِلْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ الصَّادِقِ عَلَى الْمَجْمُوعِ وَعَلَى كُلِّ بَعْضٍ وَمَعْرِفَةُ الْمُصْحَفِ إنَّمَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقُرْآنِ بِمَعْنَى الْمَجْمُوعِ الشَّخْصِيِّ، وَهُوَ مَعْلُومٌ مَعْهُودٌ بَيْنَ النَّاسِ يَحْفَظُونَهُ وَيَتَدَارَسُونَهُ فَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَلَا دَوْرَ قُلْنَا لَوْ سُلِّمَ مَعْرِفَةُ الْمَجْمُوعِ الشَّخْصِيِّ بِحَقِيقَتِهِ بِدُونِ مَعْرِفَةِ الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ فَمَبْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ لِلْمَجْمُوعِ الشَّخْصِيِّ دُونَ الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ. قَوْلُهُ (بَلْ تَشْخِيصُهُ) أَيْ تَمْيِيزُهُ بِخَوَاصِّهِ فَإِنَّ كَلِمَةَ أَيْ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهَا تَمْيِيزُ الشَّيْءِ بِمَا يَخُصُّهُ شَخْصًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. قَوْلُهُ (يُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْأَزَلِيِّ) كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مَخْلُوقٍ» الْحَدِيثُ، وَهُوَ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ مُنَافِيَةٌ لِلسُّكُوتِ وَالْآفَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ لَا تَخْتَلِفُ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْبَارِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِالْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ إلَّا بِحَسَبِ التَّعَلُّقَاتِ وَالْإِضَافَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، وَهَذَا الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ الْحَادِثُ الْمُؤَلَّفُ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ الْقَائِمَةِ بِمَحَالِّهَا يُسَمَّى كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنَ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ إلَّا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَمَّا كَانَتْ فِي نَظَرِ الْأُصُولِيِّ مَنُوطَةً بِالْكَلَامِ اللَّفْظِيِّ دُونَ الْأَزَلِيِّ جَعَلَ الْقُرْآنَ اسْمًا لَهُ وَاعْتَبَرَ فِي تَفْسِيرِهِ مَا يُمَيِّزُهُ عَنْ الْمَعْنَى الْقَدِيمِ لَا يُقَالُ التَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ النَّقْلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى بَاقِي الْقُيُودِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ التَّعْرِيفُ، وَإِنْ كَانَ لِلتَّمْيِيزِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُسَاوِيَ الْمُعَرَّفَ فَذَكَرَ بَاقِيَ الْقُيُودِ لِتَحْصِيلِ

مَعْرِفَةِ مَاهِيَّةِ الْمُصْحَفِ فَلَا يَكْفِي حِينَئِذٍ مَعْرِفَةُ الْمُصْحَفِ بِبَعْضِ الْوُجُوهِ كَالْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ مَعْرِفَةُ مَاهِيَّةِ الْمُصْحَفِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ مَاهِيَّةِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ قَابِلًا لِلْحَدِّ بِقَوْلِهِ (عَلَى أَنَّ الشَّخْصِيَّ لَا يُحَدُّ) فَإِنَّ الْحَدَّ هُوَ الْقَوْلُ الْمُعَرِّفُ لِلشَّيْءِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى أَجْزَائِهِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ الشَّخْصِيَّاتِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا إلَى مُشَخِّصَاتِهَا لِتَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ. إذَا عَرَفْت هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا نَزَلَ بِهِ جَبْرَائِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه فَقَدْ وُجِدَ مُشَخَّصًا، فَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ الْمُشَخَّصِ لَا يَقْبَلُ الْحَدَّ لِكَوْنِهِ شَخْصِيًّا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ الْمُشَخَّصِ، بَلْ الْقُرْآنُ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمُرَكَّبَةُ تَرْكِيبًا خَاصًّا سَوَاءٌ يَقْرَأُ جَبْرَائِيلُ أَوْ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هَذَا فَقَوْلُنَا عَلَى أَنَّ الشَّخْصِيَّ لَا يُحَدُّ لَهُ تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّا لَا نَعْنِي أَنَّ الْقُرْآنَ شَخْصِيٌّ، بَلْ عَنَيْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْكَلَامُ الْمُرَكَّبُ تَرْكِيبًا خَاصًّا فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْحَدَّ كَمَا أَنَّ الشَّخْصِيَّ لَا يَقْبَلُ الْحَدَّ فَكَوْنُ الشَّخْصِيِّ لَا يُحَدُّ جُعِلَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُحَدُّ إذْ مَعْرِفَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْإِشَارَةِ أَمَّا مَعْرِفَةُ الشَّخْصِيِّ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْقُرْآنِ فَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِأَنْ يُقَالَ هُوَ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ وَيُقْرَأُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَثَانِيهِمَا أَنَّا نَقُولُ لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ فَنَعْنِي بِالشَّخْصِيِّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مَعَ الْخُصُوصِيَّاتِ الَّتِي لَهَا مَدْخَلٌ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ فَإِنَّ الْأَعْرَاضَ تَنْتَهِي بِمُشَخِّصَاتِهَا إلَى حَدٍّ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ، وَلَا اخْتِلَافَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا، بَلْ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّهَا فَقَطْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُسَاوَاةِ. قَوْلُهُ (عَلَى أَنَّ الشَّخْصِيَّ لَا يُحَدُّ) ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِتَعْيِينِ مُشَخِّصَاتِهِ بِالْإِشَارَةِ أَوْ نَحْوِهَا كَالتَّعْبِيرِ عَنْهُ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ وَالْحَدُّ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ الْحَدُّ التَّامُّ، وَهُوَ إنَّمَا يَشْتَمِلُ عَلَى مُقَوِّمَاتِ الشَّيْءِ دُونَ مُشَخِّصَاتِهِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الشَّخْصِيُّ مُرَكَّبٌ اعْتِبَارِيٌّ، وَهُوَ مَجْمُوعُ الْمَاهِيَّةِ وَالتَّشَخُّصِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ بِمَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ الْأَمْرَيْنِ لَا يُقَالُ تَعْرِيفُ الْمُرَكَّبِ الِاعْتِبَارِيِّ لَفْظِيٌّ وَالْكَلَامُ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَمَجْمُوعُ الْقُرْآنِ مُرَكَّبٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا مَحَالَةَ فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى سَائِرِ الْمُقَوِّمَاتِ وَلَا إلَى مَا ذَكَرَ فِي تَشْخِيصِهِ مِنْ التَّكَلُّفَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ إنْ اقْتَصَرَ فِي تَعْرِيفِ الشَّخْصِيِّ عَلَى مُقَوِّمَاتِ الْمَاهِيَّةِ لَمْ يَخْتَصَّ بِالشَّخْصِيِّ فَلَمْ يُفِدْ التَّمْيِيزُ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مَرَاتِبِ التَّعْرِيفِ، وَإِنْ ذَكَرَ مَعَهَا الْعَرَضِيَّاتِ الْمُشَخِّصَةَ أَيْضًا لَمْ يَجِبْ دَوَامُ صِدْقِهَا لِإِمْكَانِ زَوَالِهَا فَلَا يَكُونُ حَدًّا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِجَوَازِ أَنْ يَذْكُرَ مَعَهَا الْعَرَضِيَّاتِ الْمُشَخِّصَةَ وَعِنْدَ زَوَالِهَا يَزُولُ الْمَحْدُودُ أَيْضًا أَعْنِي ذَلِكَ الشَّخْصِيَّ فَلَا يَضُرُّ عَدَمُ صِدْقِ الْحَدِّ، بَلْ يَجِبُ وَالْحَقُّ أَنَّ الشَّخْصِيَّ يُمْكِنُ أَنْ يُحَدَّ بِمَا يُفِيدُ امْتِيَازَهُ عَنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ بِحَسَبِ الْوُجُودِ لَا بِمَا يُفِيدُ تَعَيُّنَهُ وَتَشَخُّصَهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ اشْتِرَاكُهُ بَيْنَ كَثِيرِينَ بِحَسَبِ الْعَقْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْإِشَارَةِ لَا غَيْرُ. قَوْلُهُ (عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هَذَا) ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا

كَالْقَصِيدَةِ الْمُعَيَّنَةِ لَا يُمْكِنُ تَعَدُّدُهَا إلَّا بِحَسَبِ مَحَلِّهَا بِأَنْ يَقْرَأَهَا زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَعَنَيْنَا بِالشَّخْصِيِّ هَذَا وَالشَّخْصِيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَقْبَلُ الْحَدَّ فَإِذَا سُئِلَ عَنْ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَصْلًا إلَّا بِأَنْ يُقَالَ هُوَ هَذَا التَّرْكِيبُ الْمَخْصُوصُ فَيُقْرَأُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ فَإِنَّ مَعْرِفَتَهُ لَا تُمْكِنُ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ الْحَاجِبِ الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ لِلْإِعْجَازِ بِسُورَةٍ مِنْهُ، فَإِنْ حَاوَلَ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ يَلْزَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُؤَلَّفِ الْمَخْصُوصِ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتَلَفِّظِينَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا هُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْمُنَزَّلُ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِلِسَانِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَوْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ ذَلِكَ الْمُشَخَّصِ الْقَائِمِ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَكَانَ هَذَا مُمَاثِلًا لَهُ لَا عَيْنُهُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْأَعْرَاضَ تَتَشَخَّصُ بِمَحَالِّهَا فَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْمَحَالِّ وَكَذَا الْكَلَامُ فِي كُلِّ كِتَابٍ أَوْ شِعْرٍ يُنْسَبُ إلَى أَحَدٍ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِذَلِكَ الْمُؤَلَّفِ الْمَخْصُوصِ سَوَاءٌ قَرَأَهُ زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو أَوْ غَيْرُهُمَا وَإِذَا تَحَقَّقْت هَذَا فَالْعُلُومُ أَيْضًا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ مَثَلًا النَّحْوُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَوَاعِدِ الْمَخْصُوصَةِ سَوَاءٌ عَلِمَهَا زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَالْمُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ هُوَ الْوَاحِدَةُ فِي غَيْرِ الْمَحَالِّ فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ الْحَقُّ، وَهُوَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ اسْمًا لِلشَّخْصِ الْحَقِيقِيِّ الْقَائِمِ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - خَاصَّةً يَكُونُ لِقَوْلِهِ عَلَى أَنَّ الشَّخْصِيَّ لَا يُحَدُّ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الشَّخْصِيَّ الْحَقِيقِيَّ لَا يَقْبَلُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ وَنَحْوِهَا فَكَذَا الْقُرْآنُ لَا يَقْبَلُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ حَقِيقَةً إلَّا بِأَنْ يُقْرَأَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَيُقَالُ هُوَ هَذِهِ الْكَلِمَاتُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ اصْطِلَاحًا عَلَى تَسْمِيَةِ مِثْلِ هَذَا الْمُؤَلَّفِ الَّذِي لَا يَتَعَدَّدُ إلَّا بِتَعَدُّدِ الْمَحَالِّ شَخْصِيًّا وَيُحْكَمُ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْحَدَّ لِامْتِنَاعِ مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ إلَّا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ. وَأَمَّا إذَا قَصَدَ التَّمْيِيزَ فَهُوَ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمَنْقُولُ بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمَصَاحِفِ تَوَاتُرًا كَمَا يُقَالُ الْكَشَّافُ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي صَنَّفَهُ جَارُ اللَّهِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، وَالنَّحْوُ عِلْمٌ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ أَحْوَالِ الْكَلِمِ إعْرَابًا وَبِنَاءً. قَوْلُهُ (فَإِنَّ الْأَعْرَاضَ تَنْتَهِي) أَيْ تَبْلُغُ بِوَاسِطَةِ الْمُشَخَّصَاتِ حَدًّا لَا يُمْكِنُ تَعَدُّدُهَا إلَّا بِتَعَدُّدِ الْمَحَالِّ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ قَفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلٍ إلَى آخِرِ الْقَصِيدَةِ فَإِنَّهُ بِوَاسِطَةِ مُشَخَّصَاتِهِ مِنْ التَّأْلِيفِ الْمَخْصُوصِ مِنْ الْحُرُوفِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْأَبْيَاتِ وَالْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ بِالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ بَلَغَ حَدًّا لَا يُمْكِنُ تَعَدُّدُهُ إلَّا بِتَعَدُّدِ اللَّافِظِ حَتَّى إذَا انْضَافَ إلَيْهِ لِشَخْصِ اللَّافِظِ أَيْضًا يَصِيرُ شَخْصِيًّا حَقِيقِيًّا لَا يَتَعَدَّدُ أَصْلًا فَالْمُصَنِّفُ اصْطَلَحَ عَلَى تَسْمِيَةِ مِثْلِ هَذَا الْمُؤَلَّفِ شَخْصِيًّا قَبْلَ أَنْ يَنْضَافَ إلَيْهِ تَشَخُّصُ الْمَحَلِّ وَيَصِيرُ شَخْصِيًّا حَقِيقِيًّا. قَوْلُهُ (وَقَدْ عَرَّفَ ابْنُ الْحَاجِبِ) ظَاهِرُ تَعْرِيفِهِ لِلْمَجْمُوعِ الشَّخْصِيِّ دُونَ الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِسُورَةٍ

[الباب الأول في إفادته المعنى]

الدَّوْرُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ إنْ قِيلَ مَا السُّورَةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ بَعْضٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ وَإِنْ لَمْ يُحَاوَلْ تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ، بَلْ التَّشْخِيصُ وَيَعْنِي بِالسُّورَةِ هَذَا الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ كَمَا عَنَيْنَا بِالْمُصْحَفِ لَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ عَلَيْهِ، وَلَا عَلَيْنَا (وَنُورِدُ أَبْحَاثَهُ) أَيْ: أَبْحَاثَ الْكِتَابِ (فِي بَابَيْنِ الْأَوَّلِ فِي إفَادَتِهِ الْمَعْنَى) اعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ إفَادَتُهُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ لَكِنَّ إفَادَتَهُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إفَادَتِهِ الْمَعْنَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ فِي إفَادَتِهِ الْمَعْنَى فَيُبْحَثُ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَغَيْرِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تُفِيدُ الْمَعْنَى (وَالثَّانِي: فِي إفَادَتِهِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ) فَيُبْحَثُ فِي الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ الْوُجُوبَ، وَفِي النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَالْوُجُوبَ، وَالْحُرْمَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ. (الْبَابُ الْأَوَّلُ لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ نَظْمًا دَالًّا عَلَى الْمَعْنَى ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ جِنْسِهِ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لُزُومُ الدَّوْرِ مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَوَقُّفَ مَعْرِفَةِ مَفْهُومِ السُّورَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ، بَلْ هُوَ بَعْضٌ مُتَرْجَمٌ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ تَوْقِيفًا مِنْ كَلَامٍ مُنَزَّلٍ قُرْآنًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بِدَلِيلِ سُوَرِ الْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَلِهَذَا احْتَاجَ إلَى قَوْلِهِ بِسُورَةٍ مِنْهُ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُنَزَّلِ فَافْهَمْ. [الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي إفَادَتِهِ الْمَعْنَى] [قُسِّمَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى أَرْبَعُ تَقْسِيمَاتٍ] [التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى] (قَوْلُهُ وَنُورِدُ أَبْحَاثَهُ) أَيْ: بَيَانَ أَقْسَامِهِ وَأَحْوَالِهِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِإِفَادَةِ الْمَعَانِي، وَإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ فَالْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِهِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِالْأَبْحَاثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِإِفَادَةِ الْمَعَانِي مَا لَهُ مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِإِفَادَةِ الْأَحْكَامِ وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ مُسْتَوْفًى كَالْخُصُوصِ، وَالْعُمُومِ وَالِاشْتِرَاكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا كَالْإِعْرَابِ وَالْبِنَاءِ وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَبَاحِثِ الْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِإِفَادَةِ الْمَعَانِي لَا يُقَالُ الْمُرَادُ مَا يَتَعَلَّقُ بِإِفَادَةِ الْكِتَابِ الْمَعْنَى وَهَذِهِ تَعُمُّ الْكِتَابَ وَغَيْرَهُ لِأَنَّا نَقُولُ وَكَذَلِكَ الْمَبَاحِثُ الْمُورَدَةُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ بَلْ الثَّانِي أَيْضًا، وَلِهَذَا قِيلَ كَانَ حَقُّهَا أَنْ تُؤَخَّرَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا أَنَّ نَظْمَ الْكِتَابِ لَمَّا كَانَ مُتَوَاتِرًا مَحْفُوظًا كَانَتْ مَبَاحِثُ النَّظْمِ بِهِ أَلْيَقَ وَأَلْصَقَ فَذُكِرَ عَقِيبَهُ (قَوْلَهُ لَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ) يُرِيدُ أَنَّ اللَّفْظَ الدَّالَّ عَلَى الْمَعْنَى بِالْوَضْعِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ وَضْعٍ لِلْمَعْنَى، وَاسْتِعْمَالٍ فِيهِ وَدَلَالَةٍ عَلَيْهِ فَتَقْسِيمُ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَاهُ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ لَهُ فَهُوَ الْأَوَّلُ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ فَهُوَ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، فَإِنْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الظُّهُورُ وَالْخَفَاءُ فَهُوَ الثَّالِثُ وَإِلَّا فَهُوَ الرَّابِعُ. وَجَعَلَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ هَذِهِ الْأَقْسَامَ أَقْسَامَ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى وَجَعَلَ الْأَقْسَامَ الْخَارِجَةَ مِنْ التَّقْسِيمَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِلَّفْظِ، وَأَمَّا الْأَقْسَامُ الْخَارِجَةُ مِنْ التَّقْسِيمِ الرَّابِعِ فَجَعَلَهَا تَارَةً الِاسْتِدْلَالَ بِالْعِبَارَةِ وَبِالْإِشَارَةِ وَبِالدَّلَالَةِ وَبِالِاقْتِضَاءِ وَتَارَةً الِاسْتِدْلَالَ بِالْعِبَارَةِ وَبِالْإِشَارَةِ وَالثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ وَبِالِاقْتِضَاءِ وَتَارَةً الْوُقُوفَ بِعِبَارَةِ النَّصِّ وَإِشَارَتِهِ وَدَلَالَتِهِ وَاقْتِضَائِهِ. وَذَكَرَ فِي تَفْسِيرِهَا مَا هُوَ صِفَةٌ لِلْمَعْنَى كَالثَّابِتِ بِالنَّظْمِ مَقْصُودًا أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَالثَّابِتِ بِمَعْنَى النَّظْمِ

قُسِّمَ اللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى أَرْبَعُ تَقْسِيمَاتٍ) الْمُرَادُ بِالنَّظْمِ هَاهُنَا اللَّفْظُ إلَّا أَنَّ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْقُرْآنِ نَوْعَ سُوءِ أَدَبٍ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي الْأَصْلِ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ الْفَمِ فَلِهَذَا اخْتَارَ النَّظْمَ مَقَامَ اللَّفْظِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ النَّظْمَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالثَّابِتِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ أَقْسَامَ التَّقْسِيمِ الرَّابِعِ أَقْسَامٌ لِلْمَعْنَى وَالْبَوَاقِي لِلنَّظْمِ وَبَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ وَالِاقْتِضَاءَ أَقْسَامٌ لِلْمَعْنَى وَلِلْبَوَاقِي لِلنَّظْمِ. وَصَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الْجَمِيعَ أَقْسَامُ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى أَخْذًا بِالْحَاصِلِ وَمَيْلًا إلَى الضَّبْطِ بِأَقْسَامِ التَّقْسِيمِ الرَّابِعِ هُوَ الدَّالُّ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ، وَالدَّالَّةُ وَالِاقْتِضَاءُ وَعَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعِبَارَاتِ وَاخْتِلَافِهَا مِنْ دَأْبِ الْمَشَايِخِ وَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَقْسِيمِ اللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى يُحْمَلُ قَوْلُهُمْ أَقْسَامُ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى كَمَا قَالُوا الْقُرْآنُ هُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَأَرَادُوا أَنَّهُ النَّظْمُ الدَّالُّ عَلَى الْمَعْنَى لِلْقَطْعِ بِأَنَّ كَوْنَهُ عَرَبِيًّا مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ مَنْقُولًا بِالتَّوَاتُرِ صِفَةٌ لِلَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى لَا لِمَجْمُوعِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، وَكَذَا الْإِعْجَازُ يَتَعَلَّقُ بِالْبَلَاغَةِ، وَهِيَ مِنْ الصِّفَاتِ الرَّاجِعَةِ إلَى اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ إفَادَتِهِ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ إذَا قُصِدَتْ تَأْدِيَةُ الْمَعَانِي بِالتَّرَاكِيبِ حَدَثَتْ أَغْرَاضٌ مُخْتَلِفَةٌ تَقْتَضِي اعْتِبَارَ كَيْفِيَّاتٍ وَخُصُوصِيَّاتٍ فِي النَّظْمِ، فَإِنْ رُوعِيَتْ عَلَى مَا يَنْبَغِي بِقَدْرِ الطَّاقَةِ صَارَ الْكَلَامُ بَلِيغًا، وَإِذَا بَلَغَ فِي ذَلِكَ حَدًّا يَمْتَنِعُ مُعَارَضَتُهُ صَارَ مُعْجِزًا فَالْإِعْجَازُ صِفَةُ النَّظْمِ بِاعْتِبَارِ إفَادَتِهِ الْمَعْنَى لَا صِفَةُ النَّظْمِ وَالْمَعْنَى، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ نَفْسِهِ أَيْضًا مُعْجِزٌ؛ لِأَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ خَارِجٌ عَنْ طَوْقِ الْبَشَرِ كَمَا نُقِلَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْفَاتِحَةِ أَوْقَارٌ مِنْ الْعِلْمِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ إعْجَازِ النَّظْمِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مِنْ الْمَعَانِي مَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامٌ آخَرُ، وَمَقْصُودُ الْمَشَايِخِ مِنْ قَوْلِهِمْ هُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا دَفْعُ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِجَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ الْقُرْآنَ عِنْدَهُ اسْمٌ لِلْمَعْنَى خَاصَّةً (قَوْلُهُ الْمُرَادُ بِالنَّظْمِ هَاهُنَا اللَّفْظُ) لَا يُقَالُ النَّظْمُ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ هُوَ تَرْتِيبُ الْأَلْفَاظِ مُتَرَتِّبَةَ الْمَعَانِي مُتَنَاسِقَةَ الدَّلَالَاتِ عَلَى وَفْقِ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ لَا تَوَالِيهَا فِي النُّطْقِ، وَضَمُّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ كَيْفَمَا اُتُّفِقَ، أَوْ هُوَ الْأَلْفَاظُ الْمُتَرَتِّبَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَتَّى لَوْ قِيلَ فِي، قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ نَبْكِ قِفَا مِنْ حَبِيبٍ ذِكْرَى كَانَ لَفْظًا لَا نَظْمًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ يُطْلَقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى الْمُفْرَدِ حَيْثُ يَنْقَسِمُ إلَى الْخَاصِّ، وَالْعَامِّ وَالْمُشْتَرَكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِهِ اللَّفْظُ لَا غَيْرُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِأَقْسَامِ النَّظْمِ الْأَقْسَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالنَّظْمِ بِأَنْ تَقَعَ صِفَةً لِمُفْرَدَاتِهِ، وَالْأَلْفَاظِ الْوَاقِعَةِ فِيهِ لَا صِفَةً لِلنَّظْمِ نَفْسِهِ، إذْ الْمَوْصُوفُ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُشْتَرَكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عُرْفًا هُوَ اللَّفْظُ دُونَ النَّظْمِ، فَإِنْ قِيلَ كَمَا أَنَّ اللَّفْظَ يُطْلَقُ عَلَى الرَّمْيِ فَكَذَا النَّظْمُ عَلَى الشِّعْرِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَزَ عَنْ

رُكْنًا لَازِمًا فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً، بَلْ اعْتَبَرَ الْمَعْنَى فَقَطْ حَتَّى لَوْ قَرَأَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ جَازَتْ الصَّلَاةُ عِنْدَهُ وَإِنَّمَا قَالَ خَاصَّةً؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لَازِمًا فِي غَيْرِ جَوَازِ الصَّلَاةِ كَقِرَاءَةِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ حَتَّى لَوْ قَرَأَ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ بِالْفَارِسِيَّةِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْآنٍ لِعَدَمِ النَّظْمِ. لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ أَيْ: عَنْ عَدَمِ لُزُومِ النَّظْمِ فِي حَقِّ جَوَازِ الصَّلَاةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإطْلَاقِهِ. قُلْنَا النَّظْمُ حَقِيقَةً فِي جَمْعِ اللُّؤْلُؤِ فِي السِّلْكِ وَمِنْهُ نَظْمُ الشِّعْرِ وَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِي الرَّمْيِ، وَمِنْهُ اللَّفْظُ بِمَعْنَى التَّكَلُّمِ فَأُوثِرَ النَّظْمُ رِعَايَةً لِلْأَدَبِ وَإِشَارَةً إلَى تَشْبِيهِ الْكَلِمَاتِ بِالدُّرَرِ. (قَوْلُهُ بَلْ اُعْتُبِرَ الْمَعْنَى) لِأَنَّ مَبْنَى النَّظْمِ عَلَى التَّوْسِعَةِ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ لَا سِيَّمَا فِي حَالَةِ الْمُنَاجَاةِ فَرُخِّصَ فِي إسْقَاطِ لُزُومِ النَّظْمِ وَرُخْصَةُ الْإِسْقَاطِ لَا تَخْتَصُّ بِالْعُذْرِ وَذَلِكَ فِيمَنْ لَا يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْ أَكْثَرَ غَيْرِ مُؤَوَّلَةٍ وَلَا مُحْتَمِلَةٍ لِلْمَعَانِي، وَقِيلَ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَالِ النَّظْمِ حَتَّى تَبْطُلَ الصَّلَاةُ بِقِرَاءَةِ التَّفْسِيرِ فِيهَا اتِّفَاقًا وَقِيلَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ وَإِلَّا لَكَانَ مَجْنُونًا فَيُدَاوَى أَوْ زِنْدِيقًا فَيُقْتَلُ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ كَيْفَ لَا يَكُونُ لَازِمًا فَسَيَجِيءُ، فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ الْمَعْنَى قُرْآنًا يَلْزَمُ عَدَمُ اعْتِبَارِ النَّظْمِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَدَمُ صِدْقِ الْحَدِّ أَعْنِي الْمَنْقُولَ بَيْنَ دَفَّتَيْ الْمَصَاحِفِ تَوَاتُرًا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا يَلْزَمُ عَدَمُ فَرِيضَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ. قُلْنَا أَقَامَ الْعِبَارَةَ الْفَارِسِيَّةَ مَقَامَ النَّظْمِ الْمَنْقُولِ فَجَعَلَ النَّظْمَ مَرْعِيًّا مَنْقُولًا فِي الْمَصَاحِفِ تَقْدِيرًا، أَوْ إنْ لَمْ يَكُنْ تَحْقِيقًا أَوْ حَمَلَ قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] عَلَى وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ بِدَلِيلٍ لَاحَ لَهُ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ فِي الْآيَةِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَذَا لَا يَجُوزُ، إذْ الْقُرْآنُ حَقِيقَةٌ فِي النَّظْمِ الْعَرَبِيِّ الْمَنْقُولِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ تُرَادَ الْحَقِيقَةُ، وَيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْمَجَازِ بِالْقِيَاسِ أَوْ دَلَالَةُ النَّصِّ نَظَرًا إلَى الْمُعْتَبَرِ هُوَ الْمَعْنَى عَلَى مَا سَبَقَ. (قَوْلُهُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْفَارِسِيَّةَ وَغَيْرَهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْفَارِسِيَّةِ لَا غَيْرُ. 1 - (قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ قَرَأَ آيَةً) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَادُ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ بَلْ لِلْمُتَطَهِّرِ أَيْضًا، فَإِنْ قِيلَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ بِالْقِرَاءَةِ بِالْفَارِسِيَّةِ وَيَحْرُمُ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ مَسُّ مُصْحَفٍ كُتِبَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَقَدْ جَعَلَ النَّظْمَ غَيْرَ لَازِمٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ خَاصَّةً قُلْنَا بَنَى كَلَامَهُ عَلَى رَأْيِ الْمُتَقَدِّمِينَ، فَإِنَّهُ لَا نَصَّ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ، وَالْمُتَأَخِّرُونَ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِقِيَامِ الرُّكْنِ الْمَقْصُودِ أَعْنِي الْمَعْنَى. (قَوْلُهُ لَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ رَجَعَ) إلَى قَوْلِهِمَا عَلَى مَا رَوَى نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْهُ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى ظَاهِرًا حَيْثُ وَصَفَ الْمُنَزَّلَ بِالْعَرَبِيِّ، وَقَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ

فَلِهَذَا لَمْ أُورِدْ هَذَا الْقَوْلَ فِي الْمَتْنِ، بَلْ قُلْت إنَّ الْقُرْآنَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّظْمِ الدَّالِّ عَلَى الْمَعْنَى وَمَشَايِخُنَا قَالُوا: إنَّ الْقُرْآنَ هُوَ النَّظْمُ وَالْمَعْنَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ النَّظْمُ الدَّالُّ عَلَى الْمَعْنَى فَاخْتَرْت هَذِهِ الْعِبَارَةَ. (بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ لَهُ) هَذَا هُوَ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ مِنْ التَّقَاسِيمِ الْأَرْبَعَةِ فَيَنْقَسِمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQإذْ لَا يَتَّضِحُ لِأَحَدٍ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ صَنَّفَ الْكَرْخِيُّ فِيهَا تَصْنِيفًا طَوِيلًا وَلَمْ يَأْتِ بِدَلِيلٍ شَافٍ. (قَوْلُهُ بِاعْتِبَارِ وَضْعِهِ) بَيَانٌ لِلتَّقْسِيمَاتِ الْأَرْبَعِ إجْمَالًا وَفِي لَفْظِ ثُمَّ دَلَالَةٌ عَلَى تَرْتِيبِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ فِي الِاعْتِبَارِ هُوَ وَضْعُ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى ثُمَّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ، ثُمَّ ظُهُورُ الْمَعْنَى، وَخَفَاؤُهُ مِنْ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ وَبَعْدَ ذَلِكَ الْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ هُوَ فِيهِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ قَدَّمَ التَّقْسِيمَ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْمَعْنَى وَخَفَائِهِ عَنْ اللَّفْظِ عَلَى التَّقْسِيمِ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى نَظَرًا إلَى أَنَّ التَّصْرِيفَ فِي الْكَلَامِ نَوْعَانِ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ، وَتَصَرُّفٌ فِي الْمَعْنَى وَالْأَوَّلُ مُقَدَّمٌ، ثُمَّ الِاسْتِعْمَالُ مُرَتَّبٌ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لُوحِظَ أَوَّلًا الْمَعْنَى ظُهُورًا أَوْ خَفَاءً، ثُمَّ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيهِ فَاللَّفْظُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى يَنْقَسِمُ بِالتَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الْقَوْمِ إلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُؤَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ إنْ دَلَّ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِمَّا عَلَى الِانْفِرَادِ وَهُوَ الْخَاصُّ، أَوْ عَلَى الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ وَهُوَ الْعَامُّ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ، فَإِنْ تَرَجَّحَ الْبَعْضُ عَلَى الْبَاقِي فَهُوَ الْمُؤَوَّلُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ وَالْمُصَنِّفُ أَسْقَطَ الْمُؤَوَّلَ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَأَدْرَجَ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ، وَبِالتَّقْسِيمِ الثَّانِي إلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضُوعِهِ فَحَقِيقَةٌ وَإِلَّا فَمَجَازٌ وَكُلٌّ مِنْهُمَا إنْ ظَهَرَ مُرَادُهُ فَصَرِيحٌ، وَإِنْ اسْتَتَرَ فَكِنَايَةٌ، وَبِالتَّقْسِيمِ الثَّالِثِ إلَى الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ وَالْمُفَسَّرِ وَالْمُحْكَمِ وَإِلَى مُقَابِلَاتِهَا؛ لِأَنَّهُ إنْ ظَهَرَ مَعْنَاهُ فَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ التَّأْوِيلَ أَوْ لَا، فَإِنْ احْتَمَلَ، فَإِنْ كَانَ ظُهُورُ مَعْنَاهُ لِمُجَرَّدِ صِيغَتِهِ فَهُوَ الظَّاهِرُ وَإِلَّا فَهُوَ النَّصُّ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ، فَإِنْ قَبِلَ النَّسْخَ فَهُوَ الْمُفَسَّرُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَهُوَ الْمُحْكَمُ، وَإِنْ خَفِيَ مَعْنَاهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ خَفَاؤُهُ لِغَيْرِ الصِّيغَةِ فَهُوَ الْخَفِيُّ أَوْ لِنَفْسِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ إدْرَاكُهُ بِالتَّأَمُّلِ فَهُوَ الْمُشْكِلُ وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ الْبَيَانُ مَرْجُوًّا فِيهِ فَهُوَ الْمُجْمَلُ وَإِلَّا فَهُوَ الْمُتَشَابِهُ وَبِالتَّقْسِيمِ الرَّابِعِ إلَى الدَّالِّ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَبِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ، وَبِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ، وَبِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّهُ إنْ دَلَّ عَلَى الْمَعْنَى بِالنَّظْمِ، فَإِنْ كَانَ مَسُوقًا لَهُ فَعِبَارَةٌ وَإِلَّا فَإِشَارَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ بِالنَّظْمِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَيْهِ فَالْمَفْهُومُ لُغَةً فَهُوَ الدَّلَالَةُ وَإِلَّا فَهُوَ الِاقْتِضَاءُ وَالْعُمْدَةُ فِي ذَلِكَ هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ إلَّا أَنَّ هَذَا وَجْهُ الضَّبْطِ، فَإِنْ قُلْت مِنْ حَقِّ الْأَقْسَامِ التَّبَايُنُ وَالِاخْتِلَافُ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ ضَرُورَةً صَدَقَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَخْفَى. قُلْت هَذِهِ تَقْسِيمَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَا يَلْزَمُ التَّبَايُنُ، وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ جَمِيعِ أَقْسَامِهَا بَلْ بَيْنَ الْأَقْسَامِ الْخَارِجَةِ مِنْ تَقْسِيمٍ، وَهَذَا كَمَا يُقَسَّمُ الِاسْمُ تَارَةً إلَى الْمُعْرَبِ

الْكَلَامُ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ إلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَالْمُشْتَرَكِ كَمَا سَيَأْتِي، وَهَذَا مَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوَّلُ فِي وُجُوهِ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً (ثُمَّ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ) هَذَا هُوَ التَّقْسِيمُ الثَّانِي فَيَنْقَسِمُ اللَّفْظُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِعْمَالِ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ فِي غَيْرِهِ كَمَا يَجِيءُ. (ثُمَّ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْمَعْنَى عَنْهُ وَخَفَائِهِ وَمَرَاتِبِهِمَا) ، وَهَذَا مَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالثَّانِي فِي وُجُوهِ الْبَيَانِ بِذَلِكَ النَّظْمِ، وَإِنَّمَا جَعَلْت هَذَا التَّقْسِيمَ ثَالِثًا وَاعْتِبَارُ الِاسْتِعْمَالِ ثَانِيًا عَلَى عَكْسِ مَا أَوْرَدَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ مُقَدَّمٌ عَلَى ظُهُورِ الْمَعْنَى وَخَفَائِهِ. (ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ) ، وَهَذَا مَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَالرَّابِعُ: فِي وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ. (التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ) أَيْ: الَّذِي بِاعْتِبَارِ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى. (اللَّفْظُ إنْ وُضِعَ لِلْكَثِيرِ وَضْعًا مُتَعَدِّدًا فَمُشْتَرَكٌ) كَالْعَيْنِ مَثَلًا وُضِعَ تَارَةً لِلْبَاصِرَةِ، وَتَارَةً لِلذَّهَبِ، وَتَارَةً لِعَيْنِ الْمِيزَانِ. (أَوْ وَضْعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمَبْنِيِّ، وَتَارَةً إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إمَّا مُعْرَبٌ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْجَمْعَ أَقْسَامًا مُتَقَابِلَةً لَكَفَى فِيهَا الِاخْتِلَافُ بِالْحَيْثِيَّاتِ، وَالِاعْتِبَارَاتِ كَمَا فِي أَقْسَامِ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ مَثَلًا عَامٌّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْبَاصِرَةِ، وَمُشْتَرَكٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وُضِعَ لِلْبَاصِرَةِ وَغَيْرِهَا، وَكَذَا التَّقْسِيمُ الثَّانِي. (قَوْلُهُ وَهَذَا مَا قَالَ) عَبَّرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ عَنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ فِي وُجُوهِ النَّظْمِ صِيغَةً، وَلُغَةً، فَقِيلَ الصِّيغَةُ وَاللُّغَةُ مُتَرَادِفَانِ وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ وَهُوَ تَقْسِيمُ النَّظْمِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ نَفْسِهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمُتَكَلِّمِ وَالسَّامِعِ وَالْأَقْرَبُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّ الصِّيغَةَ هِيَ الْهَيْئَةُ الْعَارِضَةُ لِلَّفْظِ بِاعْتِبَارِ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِ الْحُرُوفِ عَلَى بَعْضٍ وَاللُّغَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ وَالْمُرَادُ بِهَا هَاهُنَا مَادَّةُ اللَّفْظِ، وَجَوْهَرُ حُرُوفِهِ بِقَرِينَةِ انْضِمَامِ الصِّيغَةِ إلَيْهَا وَالْوَاضِعُ كَمَا عَيَّنَ حُرُوفَ ضَرَبَ بِإِزَاءِ الْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ عَيَّنَ هَيْئَتَهُ بِإِزَاءِ مَعْنَى الْمُضِيِّ، فَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ إلَّا بِوَضْعِ الْمَادَّةِ وَالْهَيْئَةِ فَعَبَّرَ بِذِكْرِهِمَا عَنْ وَضْعِ اللَّفْظِ وَعَبَّرَ عَنْ التَّقْسِيمِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ فِي وُجُوهِ اسْتِعْمَالِ ذَلِكَ النَّظْمِ وَجَرَيَانِهِ فِي بَابِ الْبَيَانِ أَيْ: فِي طُرُقِ اسْتِعْمَالِهِ مِنْ أَنَّهُ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ حَقِيقَةً أَوْ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ مَجَازًا أَوْ فِي طَرِيقِ جَرَيَانِ النَّظْمِ فِي بَيَانِ الْمَعْنَى وَإِظْهَارِهِ مِنْ أَنَّهُ بِطَرِيقِ الْوُضُوحِ فَيَكُونُ صَرِيحًا أَوْ بِطَرِيقِ الِاسْتِتَارِ فَيَكُونُ كِنَايَةً وَعَنْ الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ فِي وُجُوهِ الْبَيَانِ بِذَلِكَ النَّظْمِ أَيْ: فِي طُرُقِ إظْهَارِ الْمَعْنَى وَمَرَاتِبِهِ، وَعَنْ الرَّابِعِ بِقَوْلِهِ فِي مَعْرِفَةِ وُجُوهِ الْوُقُوفِ عَلَى الْمُرَادِ وَالْمَعَانِي أَيْ: مَعْرِفَةِ طُرُقِ اطِّلَاعِ الْمَسَامِعِ عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ وَمَعَانِي الْكَلَامِ بِأَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعِبَارَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ غَيْرِهِمَا. (قَوْلُهُ التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ) اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَضْعُهُ لِكَثِيرٍ، أَوْ لِوَاحِدٍ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَضْعُهُ لِلْكَثِيرِ

وَاحِدًا) أَيْ: وُضِعَ لِلْكَثِيرِ وَضْعًا وَاحِدًا. (وَالْكَثِيرُ غَيْرُ مَحْصُورٍ فَعَامٌّ إنْ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَإِلَّا فَجَمْعٌ مُنَكَّرٌ وَنَحْوُهُ) فَالْعَامُّ لَفْظٌ وُضِعَ وَضْعًا وَاحِدًا لِكَثِيرٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ، مُسْتَغْرِقٌ جَمِيعَ مَا يَصْلُحُ لَهُ فَقَوْلُهُ وَضْعًا وَاحِدًا يُخْرِجُ الْمُشْتَرَكَ، وَالْكَثِيرُ يُخْرِجُ مَا لَمْ يُوضَعْ لِكَثِيرٍ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو وَغَيْرِ مَحْصُورٍ يُخْرِجُ أَسْمَاءَ الْعَدَدِ، فَإِنَّ الْمِائَةَ مَثَلًا وُضِعَتْ وَضْعًا وَاحِدًا لِلْكَثِيرِ وَهِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ جَمِيعَ مَا يَصْلُحُ لَهُ لَكِنَّ الْكَثِيرَ مَحْصُورٌ، وَقَوْلُهُ مُسْتَغْرِقٌ جَمِيعَ مَا يَصْلُحُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِوَضْعِ كَثِيرٍ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ بِوَضْعِ كَثِيرٍ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكَثِيرُ مَحْصُورًا فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ بِحَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْصُورًا، فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَغْرِقًا لِجَمِيعِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْ آحَادِ ذَلِكَ الْكَثِيرِ فَهُوَ الْعَامُّ وَإِلَّا فَهُوَ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ وَنَحْوُهُ، وَإِنْ كَانَ مَحْصُورًا فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ فَهُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْخَاصِّ. وَالثَّانِي وَهُوَ مَا يَكُونُ وَضْعُهُ لِوَاحِدٍ شَخْصِيٍّ أَوْ نَوْعِيٍّ أَوْ جِنْسِيٍّ أَيْضًا مِنْ أَقْسَامِ الْخَاصِّ فَيَنْحَصِرُ اللَّفْظُ بِهَذَا التَّقْسِيمِ فِي الْمُشْتَرَكِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَالْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا فَالْمُشْتَرَكُ مَا وُضِعَ لِمَعْنًى كَثِيرٍ بِوَضْعٍ كَثِيرٍ وَمَعْنَى الْكَثْرَةِ مَا يُقَابِلُ الْوَحْدَةَ لَا مَا يُقَابِلُ الْقِلَّةَ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فَقَطْ وَهَذَا التَّعْرِيفُ شَامِلٌ لِلْأَسْمَاءِ الَّتِي وُضِعَتْ أَوَّلًا لِلْمَعَانِي الْجِنْسِيَّةِ، ثُمَّ نُقِلَتْ إلَى الْمَعَانِي الْعَلَمِيَّةِ لِمُنَاسَبَةٍ أَوْ لَا لِمُنَاسَبَةٍ، بَلْ لِجَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَنْقُولَةِ وَالْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ اصْطِلَاحٌ فِي الْمَعْنَى، وَفِي اصْطِلَاحٍ آخَرَ لِمَعْنًى آخَرَ كَالزَّكَاةِ وَالْفِعْلِ وَالدَّوَرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلَيْسَتْ مِنْ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْبَعْضُ. وَالْعَامُّ لَفْظٌ وُضِعَ وَضْعًا وَاحِدًا لِكَثِيرٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ مُسْتَغْرِقٍ بِجَمِيعِ مَا يُصْطَلَحُ لَهُ فَقَوْلُهُ وَضْعًا وَاحِدًا يُخْرِجُ الْمُشْتَرَكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعَانِيهِ الْمُتَعَدِّدَةِ. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِ مَعْنًى وَاحِدٍ لَهُ كَالْعُيُونِ لِأَفْرَادِ الْعَيْنِ الْجَارِيَةِ فَهُوَ عَامٌّ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الْحَدِّ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الْقَيْدُ لِلتَّحْقِيقِ وَالْإِيضَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعَانِيهِ الْمُتَعَدِّدَةِ لَيْسَ بِمُسْتَغْرِقٍ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِغْرَاقِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ كَمَا فِي صِيَغِ الْجُمُوعِ وَأَسْمَائِهَا، مِثْلُ الرِّجَالِ وَالْقَوْمِ أَوْ سَبِيلِ الْبَدَلِ كَمَا فِي مِثْلِ مَنْ دَخَلَ دَارِي أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا، وَالْمُشْتَرَكُ مُسْتَغْرِقٌ لِمَعَانِيهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ قُلْنَا فَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي حَدِّ الْعَامِّ النَّكِرَةُ الْمُثْبَتَةُ فَإِنَّهَا تَسْتَغْرِقُ كُلَّ فَرْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَإِنْ قِيلَ هِيَ لَيْسَتْ بِمَوْضُوعَةٍ لِلْكَثِيرِ قُلْنَا لَوْ سَلِمَ فَإِنَّمَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ النَّكِرَةِ الْمُفْرَدَةِ دُونَ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ الْآحَادَ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ عُمُومِهِ أَيْضًا، وَالْمُرَادُ بِالْوَضْعِ لِلْكَثِيرِ الْوَضْعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ وُحْدَانِ الْكَثِيرِ أَوْ لِأَمْرٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ وُحْدَانُ الْكَثِيرِ أَوْ لِمَجْمُوعِ وُحْدَانِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوُحْدَانِ نَفْسَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْئِيًّا مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ أَوْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْمُشْتَرَكُ وَالْعَامُّ، وَأَسْمَاءُ

لَهُ يُخْرِجُ الْجَمْعَ الْمُنَكَّرَ نَحْوَ رَأَيْت رِجَالًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِلَّا فَجَمْعٌ مُنَكَّرٌ أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ جَمِيعَ مَا يَصْلُحُ لَهُ، وَقَوْلُهُ وَنَحْوُهُ، مِثْلُ رَأَيْت جَمَاعَةً مِنْ الرِّجَالِ فَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَقُولُ بِعُمُومِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ يَكُونُ الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ وَاسِطَةً بَيْنَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِعُمُومِهِ يُرَادُ بِالْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ هَاهُنَا الْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ الَّذِي تَدُلُّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ عَامٍّ، فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَدَدِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ مِثْلُ زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَرَجُلٍ وَفَرَسٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْكَثِيرِ بِحَسَبِ الْأَجْزَاءِ قُلْنَا الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَجْزَاءُ الْمُتَّفِقَةُ فِي الِاسْمِ كَآحَادِ الْمِائَةِ، فَإِنَّهَا تُنَاسِبُ جُزْئِيَّاتِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ الْمُتَّحِدَةِ بِحَسَبِ ذَلِكَ الْمَفْهُومِ، فَإِنْ قِيلَ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَامٌّ وَلَوْ تُوضَعُ لِلْكَثْرَةِ قُلْنَا الْوَضْعُ أَعَمُّ مِنْ الشَّخْصِيِّ، وَالنَّوْعِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ لِلنَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ أَنَّ الْحُكْمَ مَنْفِيٌّ عَنْ الْكَثِيرِ الْغَيْرِ الْمَحْصُورِ، وَاللَّفْظُ مُسْتَغْرِقٌ لِكُلِّ فَرْدٍ فِي حُكْمِ النَّفْيِ بِمَعْنَى عُمُومِ النَّفْيِ عَنْ الْآحَادِ فِي الْمُفْرَدِ، وَعَنْ الْمَجْمُوعِ فِي الْجَمْعِ لَا نَفْيَ الْعُمُومِ، وَهَذَا مَعْنَى الْوَضْعِ النَّوْعِيِّ لِذَلِكَ، وَكَوْنُ عُمُومِهَا عَقْلِيًّا ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى أَنَّ انْتِفَاءَ فَرْدٍ مُبْهَمٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِانْتِفَاءِ كُلِّ فَرْدٍ لَا يُنَافِي ذَلِكَ لَا يُقَالُ النَّكِرَةُ الْمَنْفِيَّةُ مَجَازٌ، وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَامِّ الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا مَجَازٌ كَيْفَ وَلَمْ تُسْتَعْمَلْ إلَّا فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ بِالْوَضْعِ الشَّخْصِيِّ وَهُوَ فَرْدٌ مُبْهَمٌ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شَارِحِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِب بِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْكَثِيرِ غَيْرُ مَحْصُورٍ أَنْ لَا يَكُونَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى انْحِصَارِهِ فِي عَدَدٍ مُعَيَّنٍ وَإِلَّا فَالْكَثِيرُ الْمُتَحَقِّقُ مَحْصُورٌ لَا مَحَالَةَ لَا يُقَالُ الْمُرَادُ بِغَيْرِ الْمَحْصُورِ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ وَالْعَدِّ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَفْظُ السَّمَاوَاتِ مَوْضُوعًا لِكَثِيرٍ مَحْصُورٍ وَلَفْظُ أَلْفٍ مَوْضُوعًا لِكَثِيرٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْأَوَّلَ عَامٌّ، وَالثَّانِيَ اسْمُ عَدَدٍ لَا يُقَالُ هَذَا الْقَيْدُ مُسْتَدْرَكٌ؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ حَاصِلٌ بِقَيْدِ الِاسْتِغْرَاقِ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ ضَرُورَةً أَنَّ لَفْظَ الْمِائَةِ مَثَلًا إنَّمَا يَصْلُحُ لِجُزْئِيَّاتِ الْمِائَةِ لَا لِمَا يَتَضَمَّنُهَا الْمِائَةُ مِنْ الْآحَادِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ أَرَادَ بِالصُّلُوحِ صُلُوحَ اسْمِ الْكُلِّيِّ لِجُزْئِيَّاتِهِ أَوْ الْكُلِّ لِأَجْزَائِهِ فَاعْتَبَرَ الدَّلَالَةَ مُطَابِقَةً أَوْ تَضَمُّنًا وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَ صِيَغُ الْجُمُوعِ، وَأَسْمَاؤُهَا، مِثْلُ الرِّجَالِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالرَّهْطِ وَالْقَوْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآحَادِ مُسْتَغْرِقَةً لِمَا تَصْلُحُ لَهُ فَدَخَلَتْ فِي الْحَدِّ، وَقَوْلُهُ مُسْتَغْرِقٌ مَرْفُوعٌ صِفَةُ لَفْظٍ وَمَعْنَى اسْتِغْرَاقِهِ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ تَنَاوُلُهُ لِذَلِكَ بِحَسَبِ الدَّلَالَةِ. (قَوْلُهُ إلَّا فَجَمْعٌ مُنَكَّرٌ) الْمُعْتَبَرُ فِي الْعَامِّ عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَبَعْضِ الْمَشَايِخِ هُوَ انْتِظَامُ جَمْعٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ سَوَاءٌ وُجِدَ الِاسْتِغْرَاقُ أَمْ لَا فَالْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ عِنْدَهُمْ عَامٌّ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَغْرِقًا أَوْ لَا وَالْمُصَنِّفُ لَمَّا اشْتَرَطَ الِاسْتِغْرَاقَ عَلَى مَا هُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ فَالْجَمْعُ الْمُنَكَّرُ يَكُونُ وَاسِطَةً بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ اسْتِغْرَاقِهِ وَعَامًّا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِاسْتِغْرَاقِهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْمُرَادُ

وَاسِطَةً بَيْنَ الْعَامِّ، وَالْخَاصِّ نَحْوَ رَأَيْت الْيَوْمَ رِجَالًا فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ جَمِيعَ الرِّجَالِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ. (وَإِنْ كَانَ) أَيْ: الْكَثِيرُ. (مَحْصُورًا) كَالْعَدَدِ وَالتَّثْنِيَةِ. (أَوْ وُضِعَ لِلْوَاحِدِ فَخَاصٌّ) سَوَاءٌ كَانَ الْوَاحِدُ بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ كَزَيْدٍ، أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ. (ثُمَّ الْمُشْتَرَكُ أَنَّ تَرَجُّحَ بَعْضِ مَعَانِيهِ بِالرَّأْيِ يُسَمَّى مُؤَوَّلًا) . أَصْحَابُنَا قَسَّمُوا اللَّفْظَ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ، وَاللُّغَةِ أَيْ: بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ عَلَى الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُؤَوَّلِ، وَإِنَّمَا لَمْ أُورِدْ الْمُؤَوَّلَ فِي الْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ، بَلْ بِاعْتِبَارِ رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ ثُمَّ هَاهُنَا تَقْسِيمٌ آخَرُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ الْأَقْسَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ فِي قَوْلِهِ وَإِلَّا فَجَمْعٌ مُنَكَّرٌ الْجَمْعَ الَّذِي تَدُلُّ قَرِينَةٌ عَلَى عَدَمِ اسْتِغْرَاقِهِ، مِثْلُ رَأَيْت الْيَوْمَ رِجَالًا وَفِي الدَّارِ رِجَالٌ إلَّا أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ، بَلْ كُلُّ عَامٍّ مَقْصُورٌ عَلَى الْبَعْضِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ غَيْرِهِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً جَمْعًا مُنَكَّرًا أَوْ نَحْوَهُ عَلَى مُقْتَضَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَغْرِقْ فَجَمْعٌ مُنَكَّرٌ وَنَحْوُهُ وَفَسَادُهُ بَيِّنٌ. (قَوْلُهُ أَوْ بِاعْتِبَارِ النَّوْعِ كَرَجُلٍ وَفَرَسٍ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّوْعِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مَنْطِقِيًّا كَالْفَرَسِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَالرَّجُلِ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ يَجْعَلُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ نَظَرًا إلَى اخْتِصَاصِ الرَّجُلِ بِأَحْكَامٍ مِثْلِ النُّبُوَّةِ، وَالْإِمَامَةِ وَالشَّهَادَةِ فِي الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْمُشْتَرَكُ) ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ أَنَّ أَقْسَامَ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً أَرْبَعَةٌ: الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالْمُشْتَرَكُ وَالْمُؤَوَّلُ وَفَسَّرَ الْمُؤَوَّلَ بِمَا تَرَجَّحَ مِنْ الْمُشْتَرَكِ بَعْضُ وُجُوهِهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُؤَوَّلَ قَدْ لَا يَكُونُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ، وَتَرَجُّحُهُ قَدْ لَا يَكُونُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ الْمُجْمَلَ وَالْمُشْكِلَ وَالْخَفِيَّ وَالْمُشْتَرَكَ إذَا لَحِقَهَا الْبَيَانُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُسَمَّى مُفَسَّرًا وَإِذَا زَالَ خَفَاؤُهَا بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ يُسَمَّى مُؤَوَّلًا، وَأُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ تَعْرِيفَ مُطْلَقِ الْمُؤَوَّلِ، بَلْ الْمُؤَوَّلُ مِنْ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي مِنْ أَقْسَامِ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ مَعْنَاهُ الظَّنُّ الْغَالِبُ سَوَاءٌ حَصَلَ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ التَّأَمُّلِ فِي الصِّيغَةِ كَمَا فِي ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مِنْ أَقْسَامِ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً أَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ التَّأْوِيلِ مُضَافٌ إلَى الصِّيغَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ التَّأَمُّلُ، وَالِاجْتِهَادُ فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ، وَقَيَّدَ بِالِاشْتِرَاكِ وَالتَّرَجُّحِ بِالِاجْتِهَادِ وَالتَّأَمُّلِ فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ لِيَتَحَقَّقَ كَوْنُهُ مِنْ أَقْسَامِ النَّظْمِ، وَلُغَةً فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ مَوْضُوعٌ لِمَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَإِذَا حُمِلَ عَلَى أَحَدِهَا بِالنَّظَرِ فِي الصِّيغَةِ أَيْ: اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ أَقْسَامِ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً أَيْ: وَضْعًا بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ عَلَيْهِ بِقَطْعِيٍّ فَإِنَّهُ يَكُونُ تَفْسِيرًا لَا تَأْوِيلًا أَوْ بِقِيَاسٍ أَوْ خَبَرٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ أَقْسَامِ النَّظْمِ صِيغَةً وَلُغَةً وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا، بَلْ خَفِيًّا أَوْ

الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهُ وَهُوَ هَذَا. (وَأَيْضًا الِاسْمُ الظَّاهِرُ إنْ كَانَ مَعْنَاهُ عَيْنَ مَا وُضِعَ لَهُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ مَعَ وَزْنِ الْمُشْتَقِّ فَصِفَةٌ وَإِلَّا فَإِنْ تَشَخَّصَ مَعْنَاهُ فَعَلَمٌ وَإِلَّا فَاسْمُ جِنْسٍ وَهُمَا إمَّا مُشْتَقَّانِ أَوْ لَا ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الصِّفَةِ وَاسْمِ الْجِنْسِ إنْ أُرِيدَ الْمُسَمَّى بِلَا قَيْدٍ فَمُطْلَقٌ أَوْ مَعَهُ فَمُقَيَّدٌ أَوْ أَشْخَاصُهُ كُلُّهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمُجْمَلًا أَوْ مُشْكِلًا فَأُزِيلَ خَفَاؤُهُ بِقَطْعِيٍّ أَوْ ظَنِّيٍّ. (قَوْلُهُ، وَأَيْضًا الِاسْمُ الظَّاهِرُ) قَيَّدَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضْمَرَ خَارِجٌ عَنْ الْأَقْسَامِ وَكَذَا اسْمُ الْإِشَارَةِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ مَا لَيْسَ بِمُضْمَرٍ وَلَا اسْمِ إشَارَةٍ وَالصِّفَةُ بِمُقْتَضَى هَذَا التَّقْسِيمِ اسْمٌ مُشْتَقٌّ يَكُونُ مَعْنَاهُ عَيْنُ مَا وُضِعَ لَهُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ مَعَ وَزْنِ الْمُشْتَقِّ فَالضَّارِبُ لَفْظٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الضَّرْبِ مَعْنَاهُ مَعْنَى الضَّرْبِ مَعَ الْفَاعِلِ، وَالْمَضْرُوبُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الضَّرْبِ مَعَ الْمَفْعُولِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتٍ مُبْهَمَةٍ وَمَعْنًى مُعَيَّنٍ يَقُومُ بِهَا وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مَعَ وَزْنِ الْمُشْتَقِّ عَنْ اسْمِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْآلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ، إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْمَقْتَلِ هُوَ الْقَتْلُ مَعَ الْمَفْعَلِ، وَمَعْنَى الْمِفْتَاحِ هُوَ الْفَتْحُ مَعَ الْمِفْعَالِ، إذْ التَّعْبِيرُ عَمَّا يَصْدُرُ عَنْهُ الْفِعْلُ أَوْ يَقَعُ عَلَيْهِ بِالْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ شَائِعٌ بِخِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنْ الْمَكَانِ وَالْآلَةِ بِالْمَفْعَلِ وَالْمِفْعَالِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا التَّفْسِيرُ لَا يَصْدُقُ إلَّا عَلَى صِفَةٍ تَكُونُ عَلَى وَزْنِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّ التَّعْبِيرَ عَمَّا يَقُومُ بِهِ الْمَعْنَى إنَّمَا يَكُونُ بِالْفَاعِلِ، أَوْ الْمَفْعُولِ لَا بِالْأَفْعُلِ وَالْفَعْلَانِ وَالْفِعْلِ وَالْمُسْتَفْعِلِ وَالْمُفَعْلَلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَعْنَى الْأَبْيَضِ وَالْأَفْضَلِ مَثَلًا هُوَ الْبَيَاضُ وَالْفَضْلُ مَعَ الْأَفْضَلِ وَلَا مَعْنَى الْعَطْشَانِ هُوَ الْعَطَشُ مَعَ الْفَعْلَانِ، وَلَا مَعْنَى الْخَيْرِ هُوَ الْخَيْرِيَّةُ مَعَ الْفِعْلِ وَلَا مَعْنَى الْمُسْتَخْرَجِ وَالْمُدَحْرَجِ هُوَ الِاسْتِخْرَاجُ وَالدَّحْرَجَةُ مَعَ الْمُسْتَفْعَلِ وَالْمُفَعْلَلِ، وَإِنْ مُنِعَ ذَلِكَ نَمْنَعُ خُرُوجَ اسْمِ الْمَكَانِ وَالْآلَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَعْنَى الْمَقْتَلِ هُوَ الْقَتْلُ مَعَ الْمَفْعَلِ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَبْيَضَ مَعْنَاهُ الْبَيَاضُ مَعَ الْأَفْعَلِ وَالْمُدَحْرَجُ مَعْنَاهُ الدَّحْرَجَةُ مَعَ الْمُفَعْلَلِ. (قَوْلُهُ وَهُمَا) أَيْ: الْعَلَمُ وَاسْمُ الْجِنْسِ إمَّا مُشْتَقَّانِ كَحَاتِمٍ وَمَقْتَلٍ وَلَا يَصِحُّ التَّمْثِيلُ بِنَحْوِ ضَارِبٍ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الصِّفَةَ قَسِيمًا لِاسْمِ الْجِنْسِ أَوْ لَا كَزَيْدٍ وَرَجُلٍ، وَالِاشْتِقَاقُ يُفَسَّرُ تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعِلْمِ فَيُقَالُ هُوَ أَنْ تَجِدَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَنَاسُبًا فِي أَصْلِ الْمَعْنَى، وَالتَّرْكِيبِ فَتَرُدُّ أَحَدَهُمَا لِلْآخَرِ فَالْمَرْدُودُ مُشْتَقٌّ، وَالْمَرْدُودُ إلَيْهِ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ فَيُقَالُ هُوَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ اللَّفْظِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي حُرُوفِهِ الْأُصُولِ وَتَرْتِيبِهَا فَتَجْعَلَهُ دَالًّا عَلَى مَعْنًى يُنَاسِبُ مَعْنَاهُ فَالْمَأْخُوذُ مُشْتَقٌّ وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَلَمَ لَا يَكُونُ مُشْتَقًّا بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْعَلَمِيِّ، بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فَالْمُشْتَقُّ حَقِيقَةً هُوَ اسْمُ الْجِنْسِ لَا غَيْرُ. (قَوْلُهُ إنْ أُرِيدَ مِنْهُ الْمُسَمَّى بِلَا قَيْدٍ فَمُطْلَقٌ) مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْمُطْلَقِ نَفْسُ الْمُسَمَّى دُونَ الْفَرْدِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] تَحْرِيرُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْمَفْهُومِ غَيْرُ

[فصل الخاص من حيث هو خاص]

فَعَامٌّ أَوْ بَعْضُهَا مُعَيَّنًا فَمَعْهُودٌ أَوْ مُنَكَّرًا فَنَكِرَةٌ فَهِيَ مَا وُضِعَ لِشَيْءٍ لَا بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلسَّامِعِ وَالْمَعْرِفَةُ مَا وُضِعَ لِمُعَيَّنٍ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَهُ) أَيْ: لِلسَّامِعِ، وَإِنَّمَا قُلْت عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ فِي التَّعْيِينِ وَعَدَمِ التَّعْيِينِ عِنْدَ الْوَضْعِ، وَإِنَّمَا قُلْت لِلسَّامِعِ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ جَاءَنِي رَجُلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُتَعَيَّنًا لِلْمُتَكَلِّمِ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ حَدُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْسَامِ وَعُلِمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ أَقْسَامِ الْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ وُضِعَ لِلْوَاحِدِ النَّوْعِيِّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ التَّنَافِي بَيْنَ كُلِّ قِسْمٍ وَقِسْمٍ، فَإِنَّ بَعْضَ الْأَقْسَامِ قَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ بَعْضٍ وَبَعْضُهَا لَا، مِثْلُ قَوْلِنَا جَرَتْ الْعُيُونُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنَ وُضِعَتْ تَارَةً لِلْبَاصِرَةِ، وَتَارَةً لَعَيْنِ الْمَاءِ تَكُونُ الْعَيْنُ مُشْتَرَكَةً بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعُيُونَ شَامِلَةٌ لِأَفْرَادِ تِلْكَ الْحَقِيقَةِ، وَهِيَ عَيْنُ الْمَاءِ مَثَلًا تَكُونُ عَامَّةً بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْمُشْتَرَكِ لَكِنْ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ تَنَافٍ إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ خَاصًّا وَعَامًّا بِالْحَيْثِيَّتَيْنِ فَاعْتُبِرَ هَذَا فِي الْبَوَاقِي فَإِنَّهُ سَهْلٌ بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى الْحُدُودِ الَّتِي ذَكَرْنَا (فَصْلٌ: الْخَاصُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْعَوَارِضِ وَالْمَوَانِعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُقَيَّدٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَوَارِضِ. (قَوْلُهُ فَهِيَ مَا وُضِعَ) لَمَّا كَانَ الْخَارِجُ مِنْ التَّقْسِيمِ بَعْضَ أَنْوَاعِ النَّكِرَةِ وَهُوَ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْفَرْدِ دُونَ نَفْسِ الْمُسَمَّى وَفِي مُقَابَلَتِهِ بَعْضُ أَقْسَامِ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ الْمَعْهُودُ الذِّهْنِيُّ أَوْرَدَ تَعْرِيفَيْ الْمَعْرِفَةِ، وَالنَّكِرَةِ عَلَى مَا يَشْتَمِلُ الْأَقْسَامَ كُلَّهَا. (قَوْلُهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلسَّامِعِ) قَيْدَانِ لِلتَّعَيُّنِ وَعَدَمِهِ وَالْأَحْسَنُ فِي تَعْرِيفِهِمَا مَا قِيلَ: إنَّ الْمَعْرِفَةَ مَا وُضِعَ لِيُسْتَعْمَلَ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ وَالنَّكِرَةَ مَا وُضِعَ لِيُسْتَعْمَلَ فِي شَيْءٍ لَا بِعَيْنِهِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي التَّعَيُّنِ وَعَدَمِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَلَا عِبْرَةَ بِحَالَةِ الْإِطْلَاقِ دُونَ الْوَضْعِ وَلَا بِمَا عِنْدَ السَّامِعِ دُونَ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ جَاءَنِي رَجُلٌ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُعَيَّنًا لِلسَّامِعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ. (قَوْلُهُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ إلَخْ) يُرِيدُ أَنَّ تَمَايُزَ الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ بِحَسَبِ الذَّاتِ، بَلْ بِحَسَبِ الْحَيْثِيَّاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ وَالْحَيْثِيَّتَانِ قَدْ لَا تَتَنَافَيَانِ كَالْوَضْعِ الْكَثِيرِ لِلْمَعْنَى الْكَثِيرِ وَوَضْعٍ وَاحِدٍ لِأَفْرَادِ مَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا فِي لَفْظِ الْعُيُونِ فَإِنَّهُ عَامٌّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وُضِعَ وَضْعًا وَاحِدًا لِأَفْرَادِ الْعَيْنِ الْجَارِيَةِ، وَمُشْتَرَكٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وُضِعَ وَضْعًا كَثِيرًا لِلْعَيْنِ الْجَارِيَةِ، وَالْعَيْنِ الْبَاصِرَةِ وَالشَّمْسِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَتَنَافَيَانِ كَالْوَضْعِ لِكَثِيرٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ وَالْوَضْعِ لِوَاحِدٍ أَوْ لِكَثِيرٍ مَحْصُورٍ فَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ عَامًّا وَخَاصًّا بِاعْتِبَارِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْحَيْثِيَّتَيْنِ مُتَنَافِيَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَوْصُوفَةَ خَاصَّةٌ مِنْ وَجْهٍ عَامَّةٌ مِنْ وَجْهٍ فَسَيَجِيءُ جَوَابُهُ، هَذَا غَايَةُ مَا تَكَلَّفْت لِتَقْرِيرِ هَذَا التَّقْسِيمِ وَتَبَيُّنِ أَقْسَامِهِ، وَالْكَلَامُ يُعَدُّ مَوْضِعَ نَظَرٍ [فَصْلٌ الْخَاصُّ مِنْ حَيْثُ هُوَ خَاصٌّ] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) لَمَّا فَرَغَ عَنْ الْكَلَامِ فِي نَفْسِ التَّقْسِيمِ

كَالْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ عَنْ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ مَثَلًا. (يُوجِبُ الْحُكْمَ) فَإِذَا قُلْنَا زَيْدٌ عَالِمٌ فَزَيْدٌ خَاصٌّ فَيُوجِبُ الْحُكْمَ بِالْعِلْمِ عَلَى زَيْدٍ وَأَيْضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْرَدَ سِتَّةَ فُصُولٍ لِلْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَقْسَامِ: الْأَوَّلَ: فِي حُكْمِ الْخَاصِّ. الثَّانِيَ فِي حُكْمِ الْعَامِّ. الثَّالِثَ: فِي قَصْرِ الْعَامِّ. الرَّابِعَ: فِي أَلْفَاظِ الْعَامِّ. الْخَامِسَ: فِي الْمُطْلَقِ، وَالْمُقَيَّدِ. السَّادِسَ: فِي الْمُشْتَرَكِ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْخَاصَّ لَفْظٌ وُضِعَ لِوَاحِدٍ أَوْ لِكَثِيرٍ مَحْصُورٍ وَضْعًا وَاحِدًا وَأَشَرْنَا إلَى أَنَّ مِثْلَ لَفْظِ الْمِائَةِ أَيْضًا مَوْضُوعٌ لِوَاحِدٍ بِالنَّوْعِ كَالرَّجُلِ وَالْفَرَسِ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَهُ قَسِيمًا لَهُ نَظَرًا إلَى اشْتِمَالِ مَعْنَاهُ عَلَى أَجْزَاءٍ مُتَّفِقَةٍ، فَاحْتَاجَ فِي التَّعْرِيفِ إلَى كَلِمَةِ أَوْ وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْخَاصَّ كُلُّ لَفْظٍ وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَكُلُّ اسْمٍ وُضِعَ لِمُسَمًّى مَعْلُومٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَعْنَى مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَاحْتَرَزَ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ عَنْ الْمُشْتَرَكِ وَبِقَيْدِ الِانْفِرَادِ عَنْ الْعَامِّ وَلَمْ يُخْرِجْ التَّثْنِيَةَ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالِانْفِرَادِ عَدَمَ الْمُشَارَكَةِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ تَمَّ التَّعْرِيفُ بِهَذَا إلَّا أَنَّهُ أَفْرَدَ خُصُوصَ الْعَيْنِ بِالذِّكْرِ بِطَرِيقِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْبِيهًا عَلَى كَمَالِ مُغَايَرَتِهِ لِخُصُوصِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَقُوَّةِ خُصُوصِهِ بِحَيْثُ لَا شَرِكَةَ فِي مَفْهُومِهِ أَصْلًا وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ التَّكَلُّفِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمَعْنَى مَا يُقَابِلُ الْعَيْنَ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ. وَهَذَا تَعْرِيفٌ لِقِسْمَيْ الْخَاصِّ الِاعْتِبَارِيِّ، وَالْحَقِيقِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى جَرَيَانِ الْخُصُوصِ فِي الْمَعَانِي، وَالْمُسَمَّيَاتِ بِخِلَافِ الْعُمُومِ فَإِنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْمَعَانِي، وَهَذَا وَهْمٌ، إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ جَرَيَانِ الْعُمُومِ فِي الْمَعَانِي أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِاسْمِ الْعَيْنِ دُونَ اسْمِ الْمَعْنَى لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مِثْلَ لَفْظِ الْعُلُومِ وَالْحَرَكَاتِ عَامٌّ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَعْنَى الْوَاحِدَ لَا يَعُمُّ مُتَعَدِّدًا، وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَعْرِيفًا لِقِسْمَيْ الْخَاصِّ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُورِدَ كَلِمَةَ أَوْ دُونَ الْوَاوِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَحْدُودَ لَيْسَ مَجْمُوعَ الْقِسْمَيْنِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا بَيَانٌ لِلتَّسْمِيَةِ عَلَى وَجْهٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ تَعْرِيفُ قِسْمَيْ الْخَاصِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذَكَرَ كَلِمَةَ كُلٍّ. وَالْخَاصُّ اسْمٌ لِكُلٍّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ لَا لِأَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى أَوْ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَوْ لَفْظُ الْخَاصِّ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْخَاصُّ مُطْلَقًا، وَالْآخَرُ: خَاصُّ الْخَاصِّ أَعْنِي الِاسْمَ الْمَوْضُوعَ لِلْمُسَمَّى الْمَعْلُومِ أَيْ: الْمُعَيَّنِ الْمُشَخَّصِ. (قَوْلُهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ) أَيْ: يُثْبِتُ إسْنَادَ أَمْرٍ إلَى آخَرَ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي مِثْلِ " زَيْدٌ عَالِمٌ " أَنَّ زَيْدًا خَاصٌّ فَيُوجِبُ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ الْعِلْمِ لَهُ، وَكَذَا عَالِمٌ وَلَوْ فُسِّرَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي خَاصِّ الْكِتَابِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْأَحْكَامِ لَمْ يَبْعُدْ، فَإِنْ قِيلَ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ هُوَ الْكَلَامُ لَا زَيْدٌ أَوْ عَالِمٌ قُلْنَا: كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ لَهُ دَخْلًا فِي ذَلِكَ، وَعِبَارَتُهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْخَاصَّ يَتَنَاوَلُ مَدْلُولَهُ قَطْعًا وَيَقِينًا لِمَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ كَلَفْظَةِ الثَّلَاثَةِ فِي {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] يَتَنَاوَلُ الْآحَادَ الْمَخْصُوصَةَ قَطْعًا لِأَجْلِ مَا أُرِيدَ بِهِ مِنْ تَعَلُّقِ وُجُوبِ

الْعِلْمُ لَفْظٌ خَاصٌّ بِمَعْنَاهُ فَيُوجِبُ الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَاصِّ عَلَى زَيْدٍ. (قَطْعًا) وَسَيَجِيءُ أَنَّهُ يُرَادُ بِالْقَطْعِ مَعْنَيَانِ وَالْمُرَادُ هَاهُنَا الْمَعْنَى الْأَعَمُّ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ احْتِمَالٌ نَاشِئٌ عَنْ دَلِيلٍ لَا أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ احْتِمَالٌ أَصْلًا. (فَفِي قَوْله تَعَالَى {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] لَا يُحْمَلُ الْقُرْءُ عَلَى الطُّهْرِ) وَإِلَّا فَإِنْ احْتَسَبَ الطُّهْرَ الَّذِي طَلَّقَ فِيهِ يَجِبُ طُهْرَانِ، وَبَعْضٌ وَإِنْ لَمْ يَحْتَسِبْ تَجِبُ ثَلَاثَةٌ وَبَعْضٌ. اعْلَمْ أَنَّ الْقُرْءَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ وُضِعَ لِلْحَيْضِ، وَوُضِعَ لِلطُّهْرِ فَفِي قَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] الْمُرَادُ مِنْ الْقُرْءِ الْحَيْضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَالطُّهْرُ عِنْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّرَبُّصِ بِهِ. (قَوْلُهُ قَطْعًا) أَيْ: عَلَى وَجْهٍ يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ النَّاشِئَ عَنْ دَلِيلٍ وَسَيَجِيءُ فِي آخِرِ التَّقْسِيمِ الثَّالِثِ أَنَّ الْقَطْعَ يُطْلَقُ عَلَى نَفْيِ الِاحْتِمَالِ أَصْلًا، وَعَلَى نَفْيِ الِاحْتِمَالِ النَّاشِئِ عَنْ دَلِيلٍ وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ النَّاشِئَ عَنْ دَلِيلٍ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ وَنَقِيضُ الْأَخَصِّ أَعَمُّ مِنْ نَقِيضِ الْأَعَمِّ، فَلِذَا قَالَ: وَالْمُرَادُ هَاهُنَا الْمَعْنَى الْأَعَمُّ. (قَوْلُهُ فَفِي قَوْله تَعَالَى {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] بَيَانٌ لِتَفْرِيعَاتٍ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْخَاصِّ قَطْعِيٌّ تَقْرِيرُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقُرْءَ إنْ حُمِلَ عَلَى الطُّهْرِ بَطَلَ مُوجِبُ الثَّلَاثَةِ إمَّا بِالنُّقْصَانِ مِنْ مَدْلُولِهَا إنْ اُعْتُبِرَ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ، وَإِمَّا بِالزِّيَادَةِ إنْ لَمْ يُعْتَبَرْ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنْ قِيلَ كِلَاهُمَا جَائِزَانِ. أَمَّا النُّقْصَانُ فَكَمَا فِي إطْلَاقِ الْأَشْهُرِ عَلَى شَهْرَيْنِ وَبَعْضِ شَهْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] . وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَيَلْزَمُكُمْ مِنْ حَمْلِ الْقُرْءِ عَلَى الْحَيْضِ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ فَالْوَاجِبُ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَبَعْضٌ. أُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْخَاصِّ وَأَشْهُرٌ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ عَامٌّ أَوْ وَاسِطَةٌ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ وَجَبَ تَكْمِيلُ الْحَيْضَةِ الْأُولَى بِالرَّابِعَةِ فَوَجَبَتْ بِتَمَامِهَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَقْبَلُ التَّجْزِئَةَ وَمِثْلُهُ جَائِزٌ فِي الْعِدَّةِ كَمَا فِي عِدَّةِ الْأَمَةِ فَإِنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ عِدَّةِ الْحُرَّةِ، وَقَدْ جُعِلَتْ قُرْأَيْنِ ضَرُورَةً وَلَيْسَ الْوَاجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ غَيْرَ الطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يَتَأَتَّى لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَأَيْضًا الظَّاهِرُ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى الطَّلَاقِ الْمَشْرُوعِ الْوَاقِعِ فِي الطُّهْرِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِنَظَرِ الشَّرْعِ فِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَيُعْرَفُ حُكْمُ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ كَأَنَّ قَوْلَهُ وَالطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ إشَارَةً إلَى هَذَا وَعَلَى أَصْلِ الِاسْتِدْلَالِ مَنْعٌ لَطِيفٌ وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ كَانَ الْوَاجِبُ ثَلَاثَةَ أَطْهَارٍ وَبَعْضًا، بَلْ الْوَاجِبُ بِالشَّرْعِ لَا يَكُونُ إلَّا الْأَطْهَارَ الثَّلَاثَةَ الْكَامِلَةَ، وَيَلْزَمُ مُضِيُّ الْبَعْضِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ بِالضَّرُورَةِ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِمَّا وَجَبَ بِالْعِدَّةِ لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ الشَّافِعِيَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِوُجُوبِ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ كَامِلَةٍ غَيْرِ مَا وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ نَعَمْ يُفِيدُ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي دَفْعِ مَا يُورَدُ مِنْ الْمُعَارَضَةِ بِوُجُوبِ ثَلَاثَةِ

الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَنَحْنُ نَقُولُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الطُّهْرَ لَبَطَلَ مُوجِبُ الْخَاصِّ وَهُوَ لَفْظُ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الطُّهْرَ، وَالطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَالطُّهْرُ الَّذِي طَلَّقَ فِيهِ إنْ لَمْ يُحْتَسَبْ مِنْ الْعِدَّةِ يَجِبُ ثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ وَبَعْضٌ وَإِنْ اُحْتُسِبَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ طُهْرَانِ وَبَعْضٌ. (عَلَى أَنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ لَيْسَ بِطُهْرٍ وَإِلَّا لَكَانَ الثَّالِثُ كَذَلِكَ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ إذَا اُحْتُسِبَ يَكُونُ الْوَاجِبُ طُهْرَيْنِ وَبَعْضًا، بَلْ الْوَاجِبُ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ طُهْرٌ فَإِنَّ الطُّهْرَ أَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الطُّهْرِ وَهُوَ طُهْرُ سَاعَةٍ مَثَلًا فَنَقُولُ فِي جَوَابِهِ إنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ لَيْسَ بِطُهْرٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثِ فَرْقٌ فَيَكْفِي فِي الثَّالِثِ بَعْضُ طُهْرٍ فَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا مَضَى مِنْ الثَّالِثِ شَيْءٌ يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا الْجَوَابُ قَاطِعٌ لِشُبْهَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدْ تَفَرَّدْت ـــــــــــــــــــــــــــــQحِيَضٍ وَبَعْضٍ فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ. (قَوْله عَلَى أَنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَوْجِيهُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا اُعْتُبِرَ الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ كَانَ الْوَاجِبُ الطُّهْرَيْنِ، وَبَعْضًا لَا ثَلَاثَةً، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ الطُّهْرُ اسْمًا لِمَجْمُوعِ مَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ، بَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ حَتَّى يُطْلَقَ عَلَى طُهْرِ سَاعَةٍ مَثَلًا وَتَوْجِيهُ الْجَوَابِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ أَنَّ الطُّهْرَ إنْ كَانَ اسْمًا لِلْمَجْمُوعِ فَقَدْ ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا سَالِمًا عَنْ الْمَنْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لُزُومُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِطُهْرٍ وَاحِدٍ، بَلْ نَاقِلٍ ضَرُورَةَ اشْتِمَالِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ، وَأَكْثَرَ بِاعْتِبَارِ السَّاعَاتِ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ اسْمًا لِلْمَجْمُوعِ لَمْ يَبْقَ فَرْقٌ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْبَعْضِ، فَيَلْزَمُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِمُضِيِّ شَيْءٍ مِنْ الطُّهْرِ الثَّالِثِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى انْقِضَائِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ الطُّهْرُ حَالَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَدَدِ إلَّا بِاعْتِبَارِ انْقِطَاعِهِ بِالْحَيْضِ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمُسْتَمِرَّةِ، مِثْلَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ فَإِنَّهَا لَا تَتَّصِفُ بِأَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ إلَّا عِنْدَ انْقِطَاعِهَا بِالْأَضْدَادِ وَكَوْنُ كُلِّ بَعْضٍ مِنْ تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّةِ طُهْرًا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ طُهْرًا وَاحِدًا فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِطُهْرٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ كُلُّ بَعْضٍ مِنْهُ طُهْرًا وَاحِدًا وَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ، بَلْ الْفَرْقُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ مِنْ الْأَوَّلِ قَدْ انْقَطَعَ بِالْحَيْضِ فَيَكُونُ طُهْرًا وَاحِدًا بِخِلَافِ الْبَعْضِ مِنْ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ طُهْرًا وَاحِدًا مَا لَمْ يَنْقَطِعْ قُلْنَا دُخُولُ الْأُمُورِ الْمُسْتَمِرَّةِ تَحْتَ الْعَدَدِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى انْتِهَاءٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى ابْتِدَاءٍ، فَإِنَّهُ كَمَا لَا يَتَّصِفُ أَوَّلَ النَّهَارِ بِكَوْنِهِ يَوْمًا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ آخِرَهُ، فَإِنْ جَازَ إطْلَاقُ الطُّهْرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ الْأَوَّلِ بِمُجَرَّدِ الِانْتِهَاءِ

بِهَذَا وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] تَحِلُّ لَهُ الْفَاءُ لَفْظٌ خَاصٌّ لِلتَّعْقِيبِ، وَقَدْ عَقَّبَ الطَّلَاقَ بِالِافْتِدَاءِ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْخُلْعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَبْطُلُ مُوجِبُ الْخَاصِّ تَحْقِيقُهُ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلَاقَ الْمُعَقِّبَ لِلرَّجْعَةِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ ذَكَرَ افْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ، وَفِي تَخْصِيصِ فِعْلِهَا هُنَا تَقْرِيرُ فِعْلِ الزَّوْجِ عَلَى مَا سَبَقَ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَقَدْ بَيَّنَ نَوْعَيْهُ بِغَيْرِ مَالٍ وَبِمَالٍ كَمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الِافْتِدَاءَ فَسْخٌ فَإِنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى الْكِتَابِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا أَيْ: بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتَا بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَفِي اتِّصَالِ الْفَاءِ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ وَانْفِصَالِهِ عَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى الْحَيْضِ جَازَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ الثَّالِثِ بِمُجَرَّدِ الِابْتِدَاءِ مِنْ الْحَيْضِ، وَإِنْ امْتَنَعَ هَذَا امْتَنَعَ ذَاكَ، وَإِنْ ادَّعَى جَوَازَ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْبَيَانِ. (قَوْلُهُ وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ فُرُوعِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] إلَى قَوْلِهِ {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الْخُلْعِ مَشْرُوعٌ عَمَلًا بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ غَيْرَ ظَاهِرٍ فَلِهَذَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الثَّانِي مُشِيرًا فِي أَثْنَاءِ تَحْقِيقِهِ إلَى الْأَوَّلِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلَاقَ الْمُعْقِبَ لِلرَّجْعَةِ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِقَوْلِهِ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] إلَى قَوْلِهِ {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وَمَرَّةً بِقَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] أَيْ: التَّطْلِيقُ الشَّرْعِيُّ تَطْلِيقَةٌ بَعْدَ تَطْلِيقَةٍ عَلَى التَّفْرِيقِ دُونَ الْجَمْعِ، كَذَا قِيلَ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] إلَى آخِرِهِ بَيَانٌ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ، وَقَوْلُهُ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الطَّلَاقِ وَمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَذِكْرُ الطَّلَاقِ أَلْفَ مَرَّةٍ بِدُونِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدٍ وَتَرْتِيبٍ لَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَهُ حَتَّى يَكُونَ قَوْلُهُ " فَإِنْ طَلَّقَهَا " بَيَانًا لِلثَّالِثَةِ، بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ مَرَّتَيْنِ قَيْدٌ لِلطَّلَاقِ لَا لِذِكْرِهِ أَيْ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّلَاقَ الَّذِي يَكُونُ مَرَّتَيْنِ بِقَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أَيْ: ثِنْتَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ، ثُمَّ قَالَ طَلَّقَهَا أَيْ: بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَرَّتَيْنِ التَّطْلِيقَتَيْنِ، ثُمَّ ذَكَرَ افْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ {فَإِنْ خِفْتُمْ} [البقرة: 229] أَيْ: عَلِمْتُمْ أَوْ ظَنَنْتُمْ أَيُّهَا الْحُكَّامُ أَنْ لَا يُقِيمَا أَيْ: الزَّوْجَانِ حُدُودَ اللَّهِ أَيْ: حُقُوقَ الزَّوْجِيَّةِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَيْ: فَلَا إثْمَ عَلَى الرَّجُلِ فِيمَا أَخَذَ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نَفْسَهَا، وَفِي تَخْصِيصِ فِعْلِ الْمَرْأَةِ بِالِافْتِدَاءِ تَقْرِيرُ فِعْلِ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى مَا سَبَقَ وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا جَمَعَهُمَا فِي قَوْلِهِ أَنْ لَا يُقِيمَا، ثُمَّ خَصَّ جَانِبَ الْمَرْأَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَتَلَخَّصُ بِالِافْتِدَاءِ إلَّا بِفِعْلِ الزَّوْجِ كَانَ بَيَانًا بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ إنَّ فِعْلَ الزَّوْجِ هُوَ الَّذِي تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِنَوْعَيْ الطَّلَاقِ أَعْنِي بِغَيْرِ مَالٍ وَبِمَالٍ، وَهُوَ الِافْتِدَاءُ وَصَارَ كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّ فِعْلَ الزَّوْجِ فِي الْخُلْعِ وَافْتِدَاءِ الْمَرْأَةِ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِيمَا رُوِيَ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّحِيحُ مِنْ

الْأَقْرَبِ. (فَسَادُ التَّرْكِيبِ) اعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِلُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَيَجْعَلُ ذِكْرَ الْخُلْعِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا} [البقرة: 229] إلَى قَوْله تَعَالَى {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] مُعْتَرِضًا وَلَمْ يَجْعَلْ الْخُلْعَ طَلَاقًا، بَلْ فَسْخًا وَإِلَّا يَصِرْ الْأَوَّلَانِ مَعَ الْخُلْعِ ثَلَاثَةً فَيَصِيرُ قَوْلُهُ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] رَابِعًا وَقَالَ: الْمُخْتَلِعَةُ لَا يَلْحَقُهَا صَرِيحُ الطَّلَاقِ فَإِنَّ قَوْلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَذْهَبِهِ أَنَّهُ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ وَإِلَّا يَلْزَمُ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهَذَا الْبَيَانِ الَّذِي هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَهُوَ الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ وَالْمُصَنِّفُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا أَيْ: بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتَا عَلَى مَالٍ أَوْ بِدُونِهِ فَدَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْخُلْعِ عَمَلًا بِمُوجَبِ الْفَاءِ. (قَوْلُهُ فَسَادُ التَّرْكِيبِ) هُوَ تَرْكُ الْعَطْفِ عَلَى الْأَقْرَبِ إلَى الْأَبْعَدِ مَعَ تَوَسُّطِ الْكَلَامِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنْ قِيلَ اتِّصَالُ الْفَاءِ بِقَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْمُفَسِّرِينَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] أَيْ: بَعْدَ الْمَرَّتَيْنِ فَكَيْفَ حَكَمَ بِفَسَادِهِ قُلْنَا الْحُكْمُ بِالْفَسَادِ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ} [البقرة: 229] إلَخْ كَلَامًا مُعْتَرِضًا مُسْتَقِلًّا وَأَرَادَ فِي بَيَانِ الْخُلْعِ غَيْرَ مُنْصَرِفٍ إلَى الطَّلْقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. وَأَمَّا عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاقُ النَّظْمِ، وَهُوَ أَنَّ الِافْتِدَاءَ مُنْصَرِفٌ إلَى الطَّلْقَتَيْنِ وَالْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا فِي الطَّلْقَتَيْنِ شَيْئًا إنْ لَمْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خَافَا ذَلِكَ فَلَا إثْمَ فِي الْأَخْذِ وَالِافْتِدَاءِ فَلَا فَسَادَ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَهُ بِقَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] هُوَ مَعْنَى اتِّصَالِهِ بِالِافْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ الطَّلْقَتَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كِلْتَاهُمَا أَوْ إحْدَاهُمَا خُلْعٌ وَافْتِدَاءٌ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ إشْكَالَانِ: الْأَوَّلُ: لُزُومُ عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْخُلْعِ قَبْلَ الطَّلْقَتَيْنِ عَمَلًا بِمُوجِبِ الْفَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا} [البقرة: 229] الْآيَةَ. الثَّانِي: لُزُومُ تَرْبِيعِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] لِتَرَتُّبِهِ عَلَى الْخُلْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الطَّلْقَتَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِمُتَرَتِّبٍ عَلَى الطَّلْقَتَيْنِ، بَلْ مُنْدَرِجٌ فِيهِمَا، وَالْمَذْكُورُ عَقِيبَ الْفَاءِ لَيْسَ نَفْعَ الْخُلْعِ، بَلْ إنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْخَوْفِ لَا جُنَاحَ فِي الِافْتِدَاءِ لَكِنْ يَرِدُ إشْكَالَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ بَائِنٌ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ لَا يَصِحَّ التَّمَسُّكُ بِالْآيَةِ فِي أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ وَأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الصَّرِيحُ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُوَ الطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ لَا الْخُلْعُ، وَأُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ كَوْنَهُ رَجْعِيًّا إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْأَخْذِ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْخُلْعِ لَا الطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ أَعَمُّ مِنْ الْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الطَّلَاقِ وَقَدْ يَكُونُ بِصِيغَةِ الْخُلْعِ وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَمْ يَقَعْ نِزَاعُ الْخَصْمِ إلَّا فِي أَنَّ مَا يَكُونُ بِصِيغَةِ الْخُلْعِ طَلَاقٌ

{فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] مُتَّصِلٌ بِأَوَّلِ الْكَلَامِ وَوَجْهُ تَمَسُّكِنَا مَذْكُورٌ فِي الْمَتْنِ مَشْرُوحًا. (وقَوْله تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] الْبَاءُ لَفْظٌ خَاصٌّ يُوجِبُ الْإِلْصَاقَ فَلَا يَنْفَكُّ الِابْتِغَاءُ) أَيْ: الطَّلَبُ. (وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ عَنْ الْمَالِ أَصْلًا فَيَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ) بِخِلَافِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ فَاسِدًا. (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) وَالْخِلَافُ هَاهُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوَّضَةِ أَيْ: الَّتِي نَكَحَتْ بِلَا مَهْرٍ أَوْ نَكَحَتْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا لَا يَجِبُ الْمَهْرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى وُجُوبِ الْمَهْرِ إذَا دَخَلَ بِهَا، وَعِنْدَنَا يَجِبُ كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ إذَا دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا. (وقَوْله تَعَالَى {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 50] خَصَّ فَرْضَ الْمَهْرِ أَيْ: تَقْدِيرَهُ بِالشَّارِعِ فَيَكُونُ أَدْنَاهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى مَالٍ حَتَّى لَوْ سَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ نِزَاعُهُ فِي أَنَّهُ طَلَاقٌ وَأَنَّهُ يَلْحَقُهُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ، فَإِنْ قِيلَ الْفَاءُ فِي الْآيَةِ لِمُجَرَّدِ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ تَعْقِيبٍ وَلَا تَرْتِيبٍ، وَإِلَّا لَزِمَ مِنْ إثْبَاتِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، وَوُجُوبِ التَّحْلِيلِ بَعْدَهَا مِنْ غَيْرِ سَبْقِ الِافْتِدَاءِ وَالطَّلَاقِ عَلَى الْمَالِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ، بَلْ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْفَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] قُلْنَا لَوْ سَلِمَ فَبِالْإِجْمَاعِ وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ لَا يُقَالُ التَّرْتِيبُ فِي الذِّكْرِ لَا يُوجِبُ التَّرْتِيبَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ فِي الْوُجُودِ، وَإِلَّا فَالتَّرْتِيبُ فِي الذِّكْرِ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ حُرُوفِ الْعَطْفِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ يَكُونَ التَّسْرِيحُ بِإِحْسَانٍ إشَارَةً إلَى تَرْكِ الرَّجْعَةِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ إشَارَةً إلَى الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] بَيَانًا لِحُكْمِ التَّسْرِيحِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ، إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ بَعْدَ الطَّلْقَتَيْنِ مِنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمُرَاجَعَةِ أَوْ التَّسْرِيحِ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ، فَإِنْ آثَرَ التَّسْرِيحَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَحِينَئِذٍ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى شَرْعِيَّةِ الطَّلَاقِ عَقِيبَ الْخُلْعِ. (قَوْلُهُ {أَنْ تَبْتَغُوا} [النساء: 24] مَفْعُولٌ لَهُ أَيْ: بَيَّنَ لَكُمْ مَا يَحِلُّ مِمَّا يَحْرُمُ إرَادَةَ أَنْ تَبْتَغُوا النِّسَاءَ بِالْمُهُورِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ، وَالِابْتِغَاءُ هُوَ الطَّلَبُ بِالْعَقْدِ لَا بِالْإِجَارَةِ وَالْمُتْعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] وَالْمُرَادُ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ، إذْ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إجْمَاعًا، بَلْ يَتَرَاخَى إلَى الْوَطْءِ. (قَوْلُهُ الْبَاءُ لَفْظٌ خَاصٌّ) يَعْنِي: أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِلْصَاقِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ تَرْجِيحًا لِلْمَجَازِ عَلَى الِاشْتِرَاطِ. (قَوْلُهُ وَالْخِلَافُ هَاهُنَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَوِّضَةِ) مِنْ التَّفْوِيضِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ وَتَرْكُ الْمُنَازَعَةِ اُسْتُعْمِلَ فِي النِّكَاحِ بِلَا مَهْرٍ أَوْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَكِنَّ الْمُفَوِّضَةَ الَّتِي نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِلَا مَهْرٍ لَا تَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْخِلَافِ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا غَيْرُ مُنْعَقِدٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، بَلْ الْمُرَادُ مِنْ الْمُفَوِّضَةِ هِيَ الَّتِي أَذِنَتْ لِوَلِيِّهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، أَوْ عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا فَزَوَّجَهَا، وَقَدْ يُرْوَى الْمُفَوَّضَةَ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ زَوَّجَهَا بِلَا مَهْرٍ، وَكَذَا الْأَمَةُ إذَا زَوَّجَهَا سَيِّدُهَا بِلَا مَهْرٍ. (قَوْلُهُ {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا} [الأحزاب: 50]

مُقَدَّرًا خِلَافًا لَهُ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَرَضْنَا مَعْنَاهُ قَدَّرْنَا وَتَقْدِيرُ الشَّارِعِ إمَّا أَنْ يَمْنَعَ الزِّيَادَةَ أَوْ يَمْنَعَ النُّقْصَانَ وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ الْأَعْلَى غَيْرُ مُقَدَّرٍ فِي الْمَهْرِ إجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ الثَّانِي فَيَكُونُ الْأَدْنَى مُقَدَّرًا، وَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ الْمَفْرُوضَ قَدَّرْنَاهُ بِطَرِيقِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ بِشَيْءٍ هُوَ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ أَيْ: كَوْنُهُ عِوَضًا لِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهَا وُجُوبُ قَطْعِ الْيَدِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلُّ مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ مَهْرًا، وَقَدْ أَوْرَدَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْفَصْلِ مَسَائِلَ أُخَرَ أَوْرَدْتُهَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ فِي آخِرِ فَصْلِ النَّسْخِ إلَّا مَسْأَلَتَيْنِ تَرَكْتُهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ وَهُمَا مَسْأَلَتَا الْهَدْمِ وَالْقَطْعِ مَعَ الضَّمَانِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَشْهُورُ أَنَّ الْفَرْضَ حَقِيقَةٌ فِي الْقَطْعِ وَالْإِيجَابِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ قَدْ عَلِمْنَا مَا أَوْجَبْنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْأَزْوَاجِ وَالْإِمَاءِ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالْمَهْرِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِعَلَى، وَعَطْفِ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ عَلَى الْأَزْوَاجِ مَعَ أَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّهِنَّ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ فِي الشَّرْعِ، وَذَهَبَ الْأُصُولِيُّونَ إلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَفْظٌ خَاصٌّ حَقِيقَةً فِي التَّقْدِيرِ بِدَلِيلِ غَلَبَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ شَرْعًا يُقَالُ فَرَضَ النَّفَقَةَ أَيْ: قَدَّرَهَا {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] تُقَدِّرُوا وَفَرَضْنَا أَيْ: قَدَّرْنَاهَا وَمِنْهُ الْفَرَائِضُ لِلسِّهَامِ الْمُقَدَّرَةِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَتَعْدِيَتُهُ بِعَلَى لِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِيجَابِ وَقَوْلُهُ {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50] مَعْنَاهُ وَمَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْإِيجَابِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُخَالِفًا لِتَصْرِيحِ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْقَطْعِ لُغَةً، وَفِي الْإِيجَابِ شَرْعًا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: خُصَّ فَرْضُ الْمَهْرِ أَيْ: تَقْدِيرُهُ بِالشَّارِعِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ إسْنَادَ الْفِعْلِ إلَى الْفَاعِلِ حَقِيقَةٌ فِي صُدُورِ الْفِعْلِ عَنْهُ فَيَكُونُ لَفْظُ فَرَضْنَا مِنْ حَيْثُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْإِسْنَادِ خَاصًّا فِي أَنَّ مُقَدِّرَ الْمَهْرِ هُوَ الشَّارِعُ عَلَى مَا هُوَ وَضْعُ الْإِسْنَادِ، وَهَذَا تَدْقِيقٌ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْفَرْضِ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ دُونَ الْإِيجَابِ. (قَوْلُهُ وَهُمَا مَسْأَلَتَا الْهَدْمِ وَالْقَطْعِ مَعَ الضَّمَانِ) هُمَا مَسْأَلَتَانِ خَالَفَ فِيهِمَا الشَّافِعِيُّ أَبَا حَنِيفَةَ مُحْتَجًّا بِأَنَّ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ تَرْكَ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ. تَقْرِيرُ الْأُولَى أَنَّ لَفْظَ حَتَّى فِي قَوْله تَعَالَى {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] خَاصٌّ فِي الْغَايَةِ، وَأَثَرُ الْغَايَةِ فِي انْتِهَاءِ مَا قَبْلَهَا لَا فِي إثْبَاتِ مَا بَعْدَهَا فَوَطْءُ الزَّوْجِ الثَّانِي يَكُونُ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ السَّابِقَةِ لَا مُثْبِتًا لِحِلٍّ جَدِيدٍ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحِلُّ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ وَهُوَ كَوْنُهَا مِنْ بَنَاتِ آدَمَ خَالِيَةً مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَمَا فِي الصَّوْمِ تَنْتَهِي حُرْمَةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِاللَّيْلِ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْحِلُّ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، فَوَطْءُ الزَّوْجِ الثَّانِي يَهْدِمُ حُكْمَ مَا مَضَى مِنْ طَلَقَاتِ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ إذَا كَانَتْ ثَلَاثًا لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِهَا وَلَا يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ، إذْ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَلَا تَصَوُّرَ لِغَايَةِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِ أَصْلِهِ، فَفِي الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ أَيْضًا كَمَا هُوَ

[فصل حكم العام]

(فَصْلٌ: حُكْمُ الْعَامِّ التَّوَقُّفُ عِنْدَ الْبَعْضِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ؛ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ لِاخْتِلَافِ أَعْدَادِ الْجَمْعِ) فَإِنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ كُلُّ عَدَدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ، وَجَمْعُ الْكَثْرَةِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مِنْهُ كُلُّ عَدَدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِزَيْدٍ عَلَيَّ أَفْلُسٌ يَصِحُّ بَيَانُهُ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ فَيَكُونُ مُجْمَلًا. (وَإِنَّهُ يُؤَكَّدُ بِكُلٍّ وَأَجْمَعَ وَلَوْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ الثَّانِي مُثْبِتٌ لِحِلٍّ جَدِيدٍ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّكَاحِ هَاهُنَا الْعَقْدُ بِدَلِيلِ إضَافَتِهِ إلَى الْمَرْأَةِ، وَاشْتِرَاطُ الدُّخُولِ إنَّمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ حَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ حَيْثُ قَالَ «لَا حَتَّى تَذُوقِي» جَعَلَ الذَّوْقَ غَايَةً لِعَدَمِ الْعَوْدِ فَإِذَا وُجِدَ ثَبَتَ الْعَوْدُ وَهُوَ حَادِثٌ لَا سَبَبَ لَهُ سِوَى الذَّوْقِ، فَيَكُونُ الذَّوْقُ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلْحِلِّ، وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» جَعَلَ الزَّوْجَ الثَّانِيَ مُحَلِّلًا أَيْ: مُثْبِتًا لِلْحِلِّ فَفِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ يَكُونُ الزَّوْجُ الثَّانِي مُتَمِّمًا لِلْحِلِّ النَّاقِصِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَتَقْرِيرُ الثَّانِيَةِ أَنَّ فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لَفْظَ الْقَطْعِ خَاصٌّ بِالْإِبَانَةِ عَنْ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ إبْطَالِ الْعِصْمَةِ، فَفِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقَطْعَ يُوجِبُ إبْطَالَ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ لِلْمَالِ قَبْلَ الْقَطْعِ حَتَّى لَا يَجِبَ الضَّمَانُ بِهَلَاكِهِ، أَوْ اسْتِهْلَاكِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِالْخَاصِّ، وَجَوَابُهُ أَنَّ انْتِفَاءَ الضَّمَانِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {جَزَاءً} [المائدة: 38] فَإِنَّ الْجَزَاءَ الْمُطْلَقَ فِي مَعْرِضِ الْعُقُوبَاتِ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ وَاقِعَةً عَلَى حَقِّهِ تَعَالَى، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ تَحَوُّلُ الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ فِعْلِ الْقَطْعِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَالُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ مُلْحَقًا بِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ كَالْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ، وَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ اعْتِبَارَاتٌ سُؤَالًا وَجَوَابًا أَعْرَضْنَا عَنْهَا مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ [فَصْلٌ حُكْمُ الْعَامِّ] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) حُكْمُ الْعَامِّ عِنْدَ عَامَّةِ الْأَشَاعِرَةِ التَّوَقُّفُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ عُمُومٍ، أَوْ خُصُوصٍ، وَعِنْدَ الْبَلْخِيّ وَالْجُبَّائِيِّ الْجَزْمُ بِالْخُصُوصِ كَالْوَاحِدِ فِي الْجِنْسِ وَالثَّلَاثَةِ فِي الْجَمْعِ، وَالتَّوَقُّفُ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ وَعِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ الْأَفْرَادِ قَطْعًا وَيَقِينًا عِنْدَ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ وَعَامَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَظَنًّا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ مَشَايِخِ سَمَرْقَنْدَ حَتَّى يُفِيدَ وُجُوبَ الْعَمَلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ، وَيَصِحُّ تَخْصِيصُ الْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَذْهَبِ التَّوَقُّفِ تَارَةً بِبَيَانِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ادَّعَى عُمُومَهَا مُجْمَلٌ، وَأُخْرَى بِبَيَانِ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ أَعْدَادَ الْجَمْعِ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ غَيْرِ أَوْلَوِيَّةٍ لِلْبَعْضِ؛ وَلِأَنَّهُ يُؤَكَّدُ بِكُلٍّ وَأَجْمَعَ مِمَّا يُفِيدُ بَيَانَ الشُّمُولِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فَلَوْ كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ فَهُوَ لِلْبَعْضِ وَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَيَكُونُ مُجْمَلًا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ فَيَكُونُ

وَلِأَنَّهُ يُذْكَرُ الْجَمْعُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173] الْمُرَادُ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ السُّعُودِ أَوْ أَعْرَابِيٌّ آخَرُ، وَالنَّاسُ الثَّانِي أَهْلُ مَكَّةَ. (وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَثْبُتُ الْأَدْنَى، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ فِي الْجَمْعِ وَالْوَاحِدُ فِي غَيْرِهِ) ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ تَجِبُ ثَلَاثَةٌ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا، وَبَيْنَكُمْ لَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا تَثْبُتُ الثَّلَاثَةُ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيَثْبُتُ أَخَصُّ الْخُصُوصِ. (وَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الْكُلِّ) نَحْوُ جَاءَنِي الْقَوْمُ يُوجِبُ الْحُكْمَ وَهُوَ نِسْبَةُ الْمَجِيءِ إلَى كُلِّ أَفْرَادٍ تَنَاوَلَهَا الْقَوْمُ. (لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعْنًى مَقْصُودٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ) فَإِنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي هِيَ مَقْصُودَةٌ فِي التَّخَاطُبِ قَدْ وُضِعَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ فَقَوْلُهُ وَأَنَّهُ يُؤَكَّدُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِاخْتِلَافِ أَعْدَادِ الْجَمْعِ فَيَكُونُ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ التَّوَقُّفِ وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْكُلِّ احْتِرَازًا عَنْ تَرْجِيحِ الْبَعْضِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَلَا إجْمَالَ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ التَّأْكِيدَ دَلِيلُ الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ وَإِلَّا لَكَانَ تَأْسِيسًا لَا تَأْكِيدًا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ الْمَجَازَ رَاجِحٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِلْقَطْعِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكَثِيرِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْجَمْعِ مَجَازًا فِي الْوَاحِدِ مِمَّا أَجَمَعَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمْعِ هَاهُنَا مَا يَعُمُّ صِيغَةَ الْجَمْعِ كَالرِّجَالِ وَاسْمِ الْجَمْعِ كَالنَّاسِ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ وَاعَدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ يُوَافِيَهُ الْعَامَ الْمُقْبِلَ بِبَدْرٍ الصُّغْرَى فَلَمَّا دَنَّى الْمَوْعِدُ رَعَبَ وَنَدِمَ وَجَعَلَ لِنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيِّ عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ عَلَى أَنْ يُخَوِّفَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] أَيْ: نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ {إِنَّ النَّاسَ} [آل عمران: 173] أَيْ: أَهْلَ مَكَّةَ {قَدْ جَمَعُوا} [آل عمران: 173] أَيْ: الْجَيْشَ لَكُمْ أَيْ: لِقِتَالِكُمْ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ) اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إخْلَاءُ اللَّفْظِ مِنْ الْمَعْنَى، وَالْوَاحِدُ فِي الْجِنْسِ وَالثَّلَاثَةُ فِي الْجَمْعِ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْأَقَلُّ فَهُوَ عَيْنُ الْمُرَادِ، وَإِنْ أُرِيدَ مَا فَوْقَهُ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمُرَادِ هُوَ الْبَعْضُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْعُمُومُ رُبَّمَا كَانَ أَحْوَطَ فَيَكُونُ أَرْجَحَ وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّوْضِيحَ بِقَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَرَاهِمُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْجَمْعِ الْمُنَكَّرِ عَامًّا، وَعَلَى كَوْنِ الْأَقَلِّ فِي جَمْعِ الْكَثْرَةِ أَيْضًا هُوَ الثَّلَاثَةُ عَلَى خِلَافِ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي دَلِيلِ الْإِجْمَالِ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعْنًى مَقْصُودٌ) اسْتَدَلَّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمُخْتَارِ بِالْمَعْقُولِ وَالْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْعُمُومَ مَعْنًى ظَاهِرٌ يَعْقِلُهُ الْأَكْثَرُ وَتَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوضَعَ لَهُ لَفْظٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ كَكَثِيرٍ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي وُضِعَ لَهَا الْأَلْفَاظُ لِظُهُورِهَا إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا، فَقَوْلُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ يَعْنِي: بِالْوَضْعِ لِيُثْبِتَ كَوْنَهُ عَامًّا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الظَّاهِرَ قَدْ يُسْتَغْنَى عَنْ

الْأَلْفَاظُ لَهَا. (وَقَدْ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى حِلِّ وَطْءِ كُلِّ أَمَةٍ مَمْلُوكَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً مَعَ أُخْتِهَا فِي الْوَطْءِ أَوْ لَا. (وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَهِيَ {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] تَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْجَمْعُ بِطَرِيقِ النِّكَاحِ، أَوْ بِطَرِيقِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. (فَالْمُحَرَّمُ رَاجِحٌ) كَمَا يَأْتِي فِي فَصْلِ التَّعَارُضِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ رَاجِحٌ عَلَى الْمُبِيحِ. (وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَعَلَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] حَتَّى جَعَلَ عِدَّةَ حَامِلٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ) . اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي حَامِلٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إحْدَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَالْأُخْرَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ الْقُصْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَضْعِ لَهُ خَاصَّةً بِالْمَجَازِ، أَوْ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَخُصُوصِ الرَّوَائِحِ وَالطُّعُومِ الَّتِي اُكْتُفِيَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْإِضَافَةِ كَرَائِحَةِ الْمِسْكِ عَلَى أَنَّ هَذَا إثْبَاتُ الْوَضْعِ بِالْقِيَاسِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومَاتِ وَشَاعَ ذَلِكَ وَذَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَإِنْ قِيلَ فُهِمَ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ قُلْنَا فَتْحُ هَذَا الْبَابِ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلَّفْظِ مَفْهُومٌ ظَاهِرٌ لِجَوَازِ أَنْ يُفْهَمَ بِالْقَرَائِنِ، فَإِنَّ النَّاقِلِينَ لَنَا لَمْ يَنْقُلُوا نَصَّ الْوَاضِعِ، بَلْ أَخَذُوا الْأَكْثَرَ مِنْ تَتَبُّعِ مَوَارِدِ الِاسْتِعْمَالِ. (قَوْلُهُ وَحَرَّمَتْهُمَا) أَيْ: الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَطْئًا آيَةٌ أُخْرَى هِيَ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] عَطْفًا عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ السَّابِقَةِ قِيلَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لَمَّا حُرِّمَ نِكَاحًا وَهُوَ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى الْوَطْءِ، فَلَأَنْ يُحَرَّمَ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أَوْلَى، فَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا حِينَئِذٍ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ الْمُبِيحَ؛ لِأَنَّهُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ قَدْ خُصَّتْ مِنْ الْمُبِيحِ الْأَمَةُ الْمَجُوسِيَّةُ، وَالْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَأُخْتُ الْمَنْكُوحَةِ فَلَمْ يَبْقَ قَطْعِيًّا فَيُعَارِضُهُ النَّصُّ الْمُحَرِّمُ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ تَحْرِيمَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ثَبَتَ أَيْضًا بِالْعِبَارَةِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا} [النساء: 23] فِي مَعْنَى مَصْدَرٍ مُعَرَّفٍ بِالْإِضَافَةِ أَوْ اللَّامِ أَيْ: جَمْعُكُمْ أَوْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي النِّكَاحِ، أَوْ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ. (قَوْلُهُ فِي مِقْدَارِ مَا تَنَاوَلَهُ الْآيَتَانِ) ؛ لِأَنَّ أُولَاتِ الْأَحْمَالِ لَا يَتَنَاوَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْغَيْرَ الْحَامِلِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] أَيْ: أَزْوَاجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَامِلَ الْمُطَلَّقَةَ فَقَوْلُهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] بِاعْتِبَارِ إيجَابِ عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا وَقَوْلُهُ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] بِاعْتِبَارِ إيجَابِ عِدَّةِ

مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النِّسَاءِ الطُّولَى، وَقَوْلُهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] فَقَوْلُهُ يَتَرَبَّصْنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا بِالْأَشْهُرِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ لَا، وَقَوْلُهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، أَوْ طَلَّقَهَا فَجَعَلَ قَوْلَهُ {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} [الطلاق: 4] نَاسِخًا لِقَوْلِهِ {يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فِي مِقْدَارِ مَا تَنَاوَلَهُ الْآيَتَانِ وَهُوَ مَا إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَكُونُ حَامِلًا. (وَذَلِكَ عَامٌّ كُلُّهُ) أَيْ: النُّصُوصُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَالْعِدَّةِ. (لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ) أَيْ: تَخْصِيصُ عَامِّ الْكِتَابِ بِكُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرِ الْحَامِلِ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لَا يَكُونُ مَنْسُوخًا. قَوْلُهُ (لَكِنْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَامَّ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ مُوجِبَهُ ظَنِّيٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ قَطْعِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ احْتِمَالًا نَاشِئًا عَنْ الدَّلِيلِ تَمَسَّكَ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ كُلَّ عَامٍّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، وَالتَّخْصِيصُ شَائِعٌ فِيهِ كَثِيرٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَامَّ لَا يَخْلُو عَنْهُ إلَّا قَلِيلًا بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [آل عمران: 109] حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَثَلِ أَنَّهُ مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَقَدْ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ، وَكَفَى بِهَذَا دَلِيلًا عَلَى الِاحْتِمَالِ، وَهَذَا بِخِلَافِ احْتِمَالِ الْخَاصِّ الْمَجَازَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِشَائِعٍ فِي الْخَاصِّ شُيُوعَ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ حَتَّى يَنْشَأَ عَنْهُ احْتِمَالُ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ، فَإِنْ قِيلَ، بَلْ لَا مَعْنَى لِاحْتِمَالِ الْمَجَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مَأْخُوذٌ فِي تَعْرِيفِ الْمَجَازِ. قُلْنَا احْتِمَالُ الْقَرِينَةِ كَافٍ فِي احْتِمَالِ الْمَجَازِ وَهُوَ قَائِمٌ، إذْ لَا قَطْعَ بِعَدَمِ الْقَرِينَةِ إلَّا نَادِرًا، وَلَمَّا كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مُوجِبَ الْعَامِّ قَطْعِيٌّ اسْتَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِهِ أَوَّلًا وَعَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ ثَانِيًا وَأَجَابَ عَنْ تَمَسُّكِهِ ثَالِثًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّفْظَ إذَا وُضِعَ لِمَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَازِمًا ثَابِتًا بِذَلِكَ اللَّفْظِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى خِلَافِهِ وَالْعُمُومُ مِمَّا وُضِعَ لَهُ اللَّفْظُ فَكَانَ لَازِمًا قَطْعًا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ كَالْخَاصِّ يَثْبُتُ مُسَمَّاهُ قَطْعًا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ جَازَ إرَادَةُ بَعْضِ مُسَمَّيَاتِ الْعَامِّ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لَارْتَفَعَ الْأَمَانُ عَنْ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْعَامَّةِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَا يَفْهَمُ السَّامِعُونَ مِنْ الْعُمُومِ وَعَنْ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ عَامَّةٌ فَلَوْ جَوَّزْنَا إرَادَةَ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لَمَا صَحَّ مِنَّا فَهْمُ الْأَحْكَامِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ وَلَمَا اسْتَقَامَ مِنَّا الْحُكْمُ بِعِتْقِ جَمِيعِ عَبِيدِ مَنْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى التَّلْبِيسِ

وَاحِدٍ مِنْ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ. (لِأَنَّ كُلَّ عَامٍّ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ وَهُوَ شَائِعٌ فِيهِ) أَيْ: التَّخْصِيصُ شَائِعٌ فِي الْعَامِّ (وَعِنْدَنَا هُوَ قَطْعِيٌّ مُسَاوٍ لِلْخَاصِّ وَسَيَجِيءُ مَعْنَى الْقَطْعِيِّ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يُخَصَّ بِقَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَتَى وُضِعَ لِمَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَازِمًا لَهُ إلَّا أَنْ تَدُلَّ الْقَرِينَةُ عَلَى خِلَافِهِ، وَلَوْ جَازَ إرَادَةُ الْبَعْضِ بِلَا قَرِينَةٍ يَرْتَفِعُ الْأَمَانُ عَنْ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ عَامَّةٌ وَالِاحْتِمَالُ الْغَيْرُ النَّاشِئُ عَنْ دَلِيلٍ لَا يُعْتَبَرُ، فَاحْتِمَالُ الْخُصُوصِ هُنَا كَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ فَالتَّأْكِيدُ يَجْعَلُهُ مُحْكَمًا) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ الْوَاقِفِيَّةُ أَنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِكُلٍّ أَوْ أَجْمَعَ وَأَيْضًا جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، فَنَقُولُ نَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ الْعَامَّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ أَصْلًا، فَاحْتِمَالُ التَّخْصِيصِ فِيهِ كَاحْتِمَالِ الْمَجَازِ فِي الْخَاصِّ، فَإِذَا أُكِّدَ يَصِيرُ مُحْكَمًا أَيْ: لَا يَبْقَى فِيهِ احْتِمَالٌ أَصْلًا لَا نَاشِئٌ عَنْ دَلِيلٍ وَلَا غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى السَّامِعِ وَتَكْلِيفِهِ بِالْمُحَالِ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا لَمْ يُكَلِّفْنَا اللَّهُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْإِرَادَةِ الْبَاطِنَةِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ فَلَزِمَنَا الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ الظَّاهِرِ لَكِنَّهَا بَقِيَتْ فِي حَقِّ الْعِلْمِ فَلَمْ يَلْزَمْنَا الِاعْتِقَادُ الْقَطْعِيُّ، وَمَعَ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ الظَّاهِرِ لَا يَرْتَفِعُ الْأَمَانُ قُلْنَا لَمَّا كَانَ التَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِنَا الْوُقُوفُ عَلَى الْبَاطِنِ لَمْ تُعْتَبَرْ الْإِرَادَةُ الْبَاطِنَةُ فِي حَقِّنَا لَا عِلْمًا وَلَا عَمَلًا، وَأُقِيمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْبَاطِلِ تَيْسِيرًا، وَبَقِيَ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْعُمُومِ الظَّاهِرِ قَطْعِيًّا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْعِلْمَ عَمَلُ الْقَلْبِ وَهُوَ الْأَصْلُ وَلَمَّا لَمْ تُعْتَبَرْ الْإِرَادَةُ الْبَاطِنَةُ فِي حَقِّ التَّبَعِ وَهُوَ الْعَمَلُ فَأَوْلَى أَنْ لَا تُعْتَبَرَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ وَهُوَ الْعِلْمُ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ؛ وَلِأَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ التَّبَعِ احْتِيَاطٌ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ أَقْوَى مِنْ التَّبَعِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَقْوَى مُثْبِتُ التَّبَعِ عَلَى إثْبَاتِ الْأَصْلِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِ الْمُخَالِفِ فَقَدْ ذَكَرَهُ عَلَى وَجْهٍ يَسْتَتْبِعُ الْجَوَابَ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْقَائِلِينَ بِالتَّوَقُّفِ فِي الْعُمُومِ بِأَنَّهُ يُؤَكَّدُ بِكُلٍّ وَأَجْمَعِينَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِاحْتِمَالِ الْعَامِّ التَّخْصِيصَ مُطْلَقُ الِاحْتِمَالِ فَهُوَ لَا يُنَافِي الْقَطْعَ بِالْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَهُوَ عَدَمُ الِاحْتِمَالِ النَّاشِئِ عَنْ الدَّلِيلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ قَطْعِيًّا مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ احْتِمَالًا غَيْرَ نَاشِئٍ عَنْ الدَّلِيلِ كَمَا أَنَّ الْخَاصَّ قَطْعِيٌّ مَعَ احْتِمَالِ الْمَجَازِ كَذَلِكَ فَيُؤَكَّدُ الْعَامُّ بِكُلٍّ وَأَجْمَعِينَ لِيَصِيرَ مُحْكَمًا وَلَا يَبْقَى فِيهِ احْتِمَالُ الْخُصُوصِ أَصْلًا كَمَا يُؤَكَّدُ الْخَاصُّ فِي مِثْلِ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ أَوْ عَيْنُهُ لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ بِأَنْ يَجِيءَ رَسُولُهُ أَوْ كِتَابُهُ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ احْتِمَالًا نَاشِئًا عَنْ دَلِيلٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ شَائِعٌ فِيهِ) وَهُوَ دَلِيلُ الِاحْتِمَالِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ الَّذِي يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَالِاحْتِمَالُ شَائِعٌ فِيهِ، بَلْ هُوَ فِي غَايَةِ

دَلِيلٍ، فَإِنْ قِيلَ احْتِمَالُ الْمَجَازِ الَّذِي فِي الْخَاصِّ ثَابِتٌ فِي الْعَامِّ مَعَ احْتِمَالٍ آخَرَ، وَهُوَ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ فَيَكُونُ الْخَاصُّ رَاجِحًا فَالْخَاصُّ كَالنَّصِّ وَالْعَامُّ كَالظَّاهِرِ، قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْعَامُّ مَوْضُوعًا لِلْكُلِّ كَانَ إرَادَةُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ، وَكَثْرَةُ احْتِمَالَاتِ الْمَجَازِ لَا اعْتِبَارَ لَهَا فَإِذَا كَانَ لَفْظٌ خَاصٍّ لَهُ مَعْنًى وَاحِدٌ مَجَازِيٌّ، وَلَفْظٌ خَاصٌّ آخَرُ لَهُ مَعْنَيَانِ مَجَازِيَّانِ أَوْ أَكْثَرُ وَلَا قَرِينَةَ لِلْمَجَازِ أَصْلًا، فَإِنَّ اللَّفْظَيْنِ مُتَسَاوِيَانِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِلَا تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فَعُلِمَ أَنَّ احْتِمَالَ الْمَجَازِ الْوَاحِدِ الَّذِي لَا قَرِينَةَ لَهُ مُسَاوٍ لِاحْتِمَالِ مَجَازَاتٍ كَثِيرَةٍ لَا قَرِينَةَ لَهَا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ الَّذِي يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْعَامِّ شَائِعٌ بِلَا قَرِينَةٍ فَإِنَّ الْمُخَصِّصَ إذَا كَانَ هُوَ الْعَقْلُ أَوْ نَحْوَهُ فَهُوَ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا يَأْتِي، وَلَا يُورِثُ شُبْهَةً فَإِنَّ كُلَّ مَا يُوجِبُ الْعَقْلَ كَوْنُهُ غَيْرَ دَاخِلٍ لَا يَدْخُلُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَامِّ وَإِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْكَلَامُ، فَإِنْ كَانَ مُتَرَاخِيًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَصِّصٌ، بَلْ هُوَ نَاسِخٌ. بَقِيَ الْكَلَامُ فِي الْمُخَصِّصِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَوْصُولًا وَقَلِيلٌ مَا هُوَ. (وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ تَعَارُضَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ حُمِلَ عَلَى الْمُقَارَنَةِ) مَعَ أَنَّ فِي الْوَاقِعِ أَحَدَهُمَا نَاسِخٌ، وَالْآخَرَ مَنْسُوخٌ لَكِنْ لَمَّا جَهِلْنَا النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ حَمَلْنَا عَلَى الْمُقَارَنَةِ وَإِلَّا يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. (فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقِلَّةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مَوْصُولٍ بِالْعَامِّ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الْخَصْمِ بِالتَّخْصِيصِ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ الْمُسَمَّيَاتِ سَوَاءٌ كَانَ بِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ أَوْ بِمُسْتَقِلٍّ مَوْصُولٍ أَوْ مُتَرَاخٍ، وَلَا شَكَّ فِي شُيُوعِهِ وَكَثْرَتِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِذَا وَقَعَ النِّزَاعُ فِي إطْلَاقِ اسْمِ التَّخْصِيصِ عَلَى مَا يَكُونُ بِغَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ، أَوْ بِالْمُسْتَقِلِّ الْمُتَرَاخِي فَلَهُ أَنْ يَقُولَ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ شَائِعٌ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّ أَكْثَرَ الْعُمُومَاتِ مَقْصُورٌ عَلَى الْبَعْضِ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ فِي تَنَاوُلِ الْحُكْمِ لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ فِي الْعَامِّ سَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُ مُخَصِّصٌ أَمْ لَا، وَيَصِيرُ دَلِيلًا عَلَى احْتِمَالِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْبَعْضِ فَلَا يَكُونُ قَطْعِيًّا وَالْمُصَنِّفُ تَوَهَّمَ أَنَّ مُرَادَ الْخَصْمِ أَنَّ التَّخْصِيصَ شَائِعٌ فِي الْعَامِّ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ فِي تَنَاوُلِهِ لِجَمِيعِ مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّخْصِيصِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ فَلَا يَكُونُ قَطْعِيًّا، وَلِهَذَا قَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ الَّذِي يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْعَامِّ شَائِعٌ بِلَا قَرِينَةٍ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ التَّخْصِيصَ أَيْ: الْقَصْرَ عَلَى الْبَعْضِ شَائِعٌ كَثِيرًا فِي الْعُمُومِيَّاتِ بِالْقَرَائِنِ الْمُخَصِّصَةِ فَيُورِثُ شُبْهَةَ الْبَعْضِيَّةِ فِي كُلِّ عَامٍّ فَيَصِيرُ ظَنِّيًّا فِي الْجَمِيعِ وَحِينَئِذٍ لَا يَنْطَبِقُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ عَلَيْهِ أَصْلًا وَلَا يَكُونُ لِقَوْلِهِ بِلَا قَرِينَةِ مَعْنًى، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْكَلَامُ، فَإِنْ كَانَ مُتَرَاخِيًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُخَصِّصٌ لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْمُخَصِّصِ الْأَوَّلِ مَا أَرَادَهُ الْخَصْمُ، وَحِينَئِذٍ لَا فَائِدَةَ فِي مَنْعِ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا بِالْمَعْنَى الْآخَرِ الْأَخَصِّ. (قَوْلُهُ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا) أَيْ: كَوْنُ الْعَامِّ

يَخُصُّ بِهِ، وَعِنْدَنَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّعَارُضِ فِي قَدْرِ مَا تَنَاوَلَاهُ وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ مُتَأَخِّرًا يَنْسَخُ الْخَاصَّ عِنْدَنَا، وَإِنْ كَانَ الْخَاصُّ مُتَأَخِّرًا، فَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا يَخُصُّهُ، فَإِنْ كَانَ مُتَرَاخِيًا يَنْسَخُهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ عِنْدَنَا) أَيْ: فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ، وَالْخَاصُّ وَلَا يَكُونُ الْخَاصُّ نَاسِخًا لِلْعَامِّ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQقَطْعِيًّا عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّ تَعَارُضَ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ بِأَنْ يَدُلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى ثُبُوتِ حُكْمٍ، وَالْآخَرُ عَلَى انْتِفَائِهِ، فَإِمَّا أَنْ يُعْلَمَ تَأَخُّرُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حُمِلَ عَلَى الْمُقَارَنَةِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا فِي الْوَاقِعِ نَاسِخًا لِتَأَخُّرِهِ مُتَرَاخِيًا، وَالْآخَرُ مَنْسُوخًا لِتَقَدُّمِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ فِي الْوَاقِعِ مَوْصُولًا بِالْعَامِّ فَيَكُونَ مُخَصِّصًا لَا نَاسِخًا، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُقَارَنَةِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُخَصُّ الْعَامُّ بِالْخَاصِّ فِي الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ وَالْخَاصُّ قَطْعِيٌّ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّعَارُضِ وَعِنْدَنَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّعَارُضِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْخَاصُّ، وَالْعَامُّ جَمِيعًا لَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي تَفَرَّدَ الْعَامُّ بِتَنَاوُلِهِ فَإِنَّ حُكْمَهُ ثَابِتٌ بِلَا مُعَارِضٍ وَسَيَجِيءُ حُكْمُ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِالتَّارِيخِ مِثَالُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] عَلَى رَأْيِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَيَثْبُتُ حُكْمُ التَّعَارُضِ فِي الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا فِي الْحَامِلِ الْمُطَلَّقَةِ، إذْ لَا يَتَنَاوَلُهَا الْأَوَّلُ، وَلَا فِي غَيْرِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، إذْ لَا يَتَنَاوَلُهَا الثَّانِي، فَإِنْ قِيلَ: كُلٌّ مِنْ الْآيَتَيْنِ عَامٌّ قُلْنَا الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ هَاهُنَا الْخَاصُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَامِّ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ بَعْضَ أَفْرَادِهِ كُلِّهَا سَوَاءٌ كَانَ خَاصًّا فِي نَفْسِهِ أَوْ عَامًّا مُتَنَاوِلًا لِشَيْءٍ آخَرَ فَيَكُونُ الْعُمُومُ، وَالْخُصُوصُ مِنْ وَجْهٍ كَمَا فِي الْمِثَالِ، أَوْ غَيْرَ مُتَنَاوِلٍ فَيَكُونُ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مُطْلَقًا كَمَا فِي اُقْتُلُوا الْكَافِرِينَ وَلَا تَقْتُلُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ، فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ فَالْمُتَأَخِّرُ إمَّا الْعَامُّ وَإِمَّا الْخَاصُّ فَعَلَى الْأَوَّلِ الْعَامُّ نَاسِخٌ لِلْخَاصِّ، وَعَلَى الثَّانِي الْخَاصُّ مُخَصِّصٌ لِلْعَامِّ إنْ كَانَ مَوْصُولًا بِهِ وَنَاسِخٌ لَهُ فِي قَدْرِ مَا تَنَاوَلَاهُ إنْ كَانَ مُتَرَاخِيًا عَنْهُ كَمَا فِي الْآيَتَيْنِ عَلَى رَأْيِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] مُتَرَاخٍ عَنْ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَخَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ يَكُونُ مِثَالًا لِتَأَخُّرِ الْعَامِّ عَنْ الْخَاصِّ وَعَكْسُهُ وَيَكُونُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] فِي حَقِّ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، فَإِنْ قُلْت انْتِسَاخُ الْخَاصِّ بِالْعَامِّ الْمُتَأَخِّرِ يَنْبَغِي أَيْضًا أَنْ يُقَيَّدَ بِقَدْرِ مَا تَنَاوَلَاهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخَاصَّ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ أَفْرَادًا لَا يَتَنَاوَلُهَا الْعَامُّ فَلَا يُنْسَخُ فِي حَقِّهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} [البقرة: 234] فِي حَقِّ غَيْرِ الْحَامِلِ قُلْت هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ يَكُونُ عَامًّا لَا خَاصًّا، وَإِنَّمَا يَكُونُ خَاصًّا مِنْ حَيْثُ تَنَاوُلُهُ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ، فَالْخَاصُّ الْمُتَقَدِّمُ يُنْسَخُ بِالْعَامِّ فِي حَقِّ كُلِّ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَاصٌّ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَامِّ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ عَامًّا مِنْ حَيْثُ

[فصل قصر العام على بعض ما تناوله]

ذَلِكَ الْقَدْرِ فَقَطْ (حَتَّى لَا يَكُونَ الْعَامُّ عَامًّا مُخَصَّصًا) ، بَلْ يَكُونُ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي لَا كَالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ. (فَصْلٌ: قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ) أَيْ: بِكَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِصَدْرِ الْكَلَامِ وَلَا يَكُونُ تَامًّا بِنَفْسِهِ، وَالْمُسْتَقِلُّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ كَلَامًا أَوْ لَمْ يَكُنْ. (وَهُوَ) أَيْ: غَيْرُ الْمُسْتَقِلِّ. (الِاسْتِثْنَاءُ وَالشَّرْطُ وَالصِّفَةُ وَالْغَايَةُ) فَالِاسْتِثْنَاءُ يُوجِبُ قَصْرَ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَالشَّرْطُ يُوجِبُ قَصْرَ صَدْرِ الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ التَّقَادِيرِ، نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، وَالصِّفَةُ تُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَى مَا يُوجَدُ فِيهِ الصِّفَةُ، نَحْو: فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ، وَالْغَايَةُ تُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَى الْبَعْضِ الَّذِي جَعَلَ الْغَايَةَ حَدًّا لَهُ، نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَنَحْوَ {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . (أَوْ بِمُسْتَقِلٍّ وَهُوَ) أَيْ: ـــــــــــــــــــــــــــــQتَنَاوُلُهُ لِلْخَاصِّ الْمُتَأَخِّرِ وَغَيْرِهِ. (قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَكُونَ) تَفْرِيعٌ عَلَى جَعْلِ الْخَاصِّ الْمُتَرَاخِي نَاسِخًا لَا مُخَصِّصًا يَعْنِي: يَكُونُ الْعَامُّ فِيمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْخَاصُّ قَطْعِيًّا لَا ظَنِّيًّا كَمَا إذَا كَانَ الْخَاصُّ الْمُتَأَخِّرُ مَوْصُولًا بِهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ [فَصْلٌ قَصْرُ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ] (قَوْلُهُ فَصْلُ قَصْرِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ) تَخْصِيصٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَهُوَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ، أَوْ بِمُسْتَقِلٍّ وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ، بَلْ إنْ كَانَ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا فَالِاسْتِثْنَاءُ وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ بِإِنْ وَمَا يُؤَدِّي مُؤَدَّاهَا فَشَرْطٌ وَإِلَّا، فَإِنْ كَانَ بِإِلَى وَمَا يُفِيدُ مَعْنَاهَا فَغَايَةٌ وَإِلَّا فَصِفَةٌ نَحْوُ «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ» أَوْ غَيْرِهَا، نَحْوَ جَاءَنِي الْقَوْمُ أَكْثَرُهُمْ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْأَرْبَعَةِ وَالثَّانِي هُوَ التَّخْصِيصُ سَوَاءٌ كَانَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ الْحِسِّ أَوْ الْعَادَةِ أَوْ نُقْصَانِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ أَوْ زِيَادَتِهِ، وَفُسِّرَ غَيْرُ الْمُسْتَقِلِّ بِكَلَامٍ يَتَعَلَّقُ بِصَدْرِ الْكَلَامِ وَلَا يَكُونُ تَامًّا بِنَفْسِهِ لَا يُقَالُ إنَّهُ غَيْرُ شَامِلٍ لِلشَّرْطِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْجَزَاءِ، وَالِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمَا جَاءَنِي إلَّا زَيْدًا أَحَدٌ لِتَعَلُّقِهِمَا بِآخِرِ الْكَلَامِ لَا بِصَدْرِهِ وَلَا لِلْوَصْفِ بِالْجُمَلِ، نَحْوُ لَا تُكْرِمْ رَجُلًا أَبُوهُ جَاهِلٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بِمِثْلِ لَيْسَ زَيْدًا وَلَا يَكُونُ زَيْدًا؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ تَامٌّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِصَدْرِ الْكَلَامِ مَا هُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الِاعْتِبَارِ سَوَاءٌ قُدِّمَ فِي الذِّكْرِ أَوْ أُخِّرَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّيْءِ أَوَّلًا، ثُمَّ إخْرَاجُ الْبَعْضِ مِنْهُ أَوْ تَعْلِيقُهُ وَقَصْرُهُ عَلَى بَعْضِ التَّقَادِيرِ، وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ الْغَيْرِ التَّامِّ مَا لَا يُفِيدُ الْمَعْنَى لَوْ ذُكِرَ مُنْفَرِدًا، وَالْجُمَلُ الْوَصْفِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ بِمِثْلِ لَيْسَ زَيْدًا وَلَا يَكُونُ زَيْدًا كَذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهَا إلَى مَرْجِعِ الضَّمِيرِ، فَإِنْ قُلْت لَا مَعْنَى لِلْقَصْرِ إلَّا ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِلْبَعْضِ، وَنَفْيَهُ عَنْ الْبَعْضِ، وَهَذَا قَوْلٌ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ وَالشَّرْطِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ قُلْت، بَلْ الْمُرَادُ هَاهُنَا يَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْبَعْضِ وَلَا يَدُلُّ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا حَتَّى

الْقَصْرُ بِمُسْتَقِلٍّ (التَّخْصِيصُ وَهُوَ إمَّا بِالْكَلَامِ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ إمَّا الْعَقْلُ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ. (نَحْوَ {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] يَعْلَمُ ضَرُورَةً أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَخْصُوصٌ مِنْهُ، وَتَخْصِيصُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مِنْ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَأَمَّا الْحِسُّ نَحْوَ {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وَأَمَّا الْعَادَةُ نَحْوُ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا يَقَعُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ وَأَمَّا كَوْنُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ نَاقِصًا فَيَكُونُ اللَّفْظُ أَوْلَى بِالْبَعْضِ الْآخَرِ، نَحْوَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَيُسَمَّى مُشَكِّكًا أَوْ زَائِدًا) عَطْفٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَلَوْ انْعَدَمَ انْعَدَمَ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ إشْكَالٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الشَّرْطِ لِلْقَصْرِ عَلَى بَعْضِ التَّقَادِيرِ إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَجْمُوعُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَسَاكِتٌ عَنْ سَائِرِ التَّقَادِيرِ حَتَّى إنَّ مُجَرَّدَ الْجَزَاءِ بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ لَيْسَ هُوَ مُفِيدًا لِلْحُكْمِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَالشَّرْطِ تَعْلِيقًا وَقَصْرًا لَهُ عَلَى الْبَعْضِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْلَا الشَّرْطُ لَأَفَادَ الْكَلَامُ الْحُكْمَ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَحِينَ عُلِّقَ بِالشَّرْطِ لَمْ يُفِدْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ قَصَرَهُ عَلَى الْبَعْضِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، فَإِنْ قِيلَ جَعَلَ الْمُسْتَقِلَّ هَاهُنَا مُخَصِّصًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْمُتَرَاخِي وَغَيْرِهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُتَرَاخِيَ نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ قُلْنَا التَّخْصِيصُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَتَنَاوَلُ النَّسْخَ فَلَا يُقَيَّدُ بِعَدَمِ التَّرَاخِي وَلِهَذَا يُقَالُ النَّسْخُ تَخْصِيصٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ، وَهُوَ الْمُقَيَّدُ بِعَدَمِ التَّرَاخِي وَالْقَوْلُ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى غَيْرِ الْمُتَرَاخِي يُوجِبُ بُطْلَانَ كَلَامِ الْقَوْمِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ، مِثْلَ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَتَخْصِيصِ بَعْضِ الْآيَاتِ بِالْبَعْضِ مَعَ التَّرَاخِي. (قَوْلُهُ وَأَمَّا الْحِسُّ) فِيهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الْمُدْرَكَ بِالْحِسِّ هُوَ أَنَّ لَهُ كَذَا وَكَذَا. وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ بِالْعَقْلِ لَا غَيْرُ، وَفِي التَّمْثِيلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] رَدٌّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَجْرِي فِي الْخَبَرِ كَالنَّسْخِ. (قَوْلُهُ وَأَمَّا الْعَادَةُ) فَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا فَالرَّأْسُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَعْمَلًا عُرْفًا فِي رَأْسِ كُلِّ حَيَوَانٍ إلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ عَادَةً أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، إذْ لَا يَدْخُلُ فِيهِ عَادَةً رَأْسُ الْعُصْفُورِ وَالْجَرَادِ فَيُخَصُّ بِمَا يَكُونُ مُتَعَارَفًا بِأَنْ يُكْبَسَ فِي التَّنَانِيرِ وَيُبَاعَ مَشْوِيًّا وَبِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ بِحَسَبِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ خَصَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوَّلًا بِرَأْسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْإِبِلِ، وَثَانِيًا بِرَأْسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهُمَا بِرَأْسِ الْغَنَمِ خَاصَّةً. (قَوْلُهُ وَيُسَمَّى مُشَكِّكًا) يَعْنِي: اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ لِمَعْنًى لَا يَسْتَوِي فِيهِ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ، بَلْ تَخْتَلِفُ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ كَالْمَمْلُوكِ فِي الْقِنِّ وَالْمُكَاتَبِ أَوْ بِالْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ بِالتَّقَدُّمِ، وَالتَّأَخُّرِ كَالْوُجُودِ فِي الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ يُسَمَّى مُشَكِّكًا؛ لِأَنَّهُ يَشُكُّ النَّاظِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ الْمُتَوَاطِئِ أَعْنِي: مَا وُضِعَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْأَفْرَادُ فَلَوْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُكَاتَبُ لِنُقْصَانِ الْمِلْكِ

عَلَى قَوْلِهِ نَاقِصًا أَيْ: وَأَمَّا كَوْنُ بَعْضِ أَفْرَادِهِ زَائِدَةً. (كَالْفَاكِهَةِ لَا تَقَعُ عَلَى الْعِنَبِ فَفِي غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ) أَيْ: فِيمَا إذَا كَانَ الشَّيْءُ الْمُوجِبُ لِقَصْرِ الْعَامِّ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ (وَهُوَ) أَيْ: الْعَامُّ (حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي) ؛ لِأَنَّ الْوَاضِعَ وَضَعَ اللَّفْظَ الَّذِي اسْتَثْنَى مِنْهُ لِلْبَاقِي. (وَهُوَ) أَيْ: الْعَامُّ. (حُجَّةٌ بِلَا شُبْهَةٍ فِيهِ) أَيْ: فِي الْبَاقِي، وَهَذَا إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مَعْلُومًا. أَمَّا إذَا كَانَ مَجْهُولًا فَلَا (وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ كَلَامًا أَوْ غَيْرَهُ) أَيْ: فِيمَا إذَا كَانَ الْقَاصِرُ مُسْتَقِلًّا وَيُسَمَّى هَذَا تَخْصِيصًا سَوَاءٌ كَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَةً لَا يَدًا حَتَّى يَكُونَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى اسْتِكْسَابَهُ وَلَا وَطْءَ الْمُكَاتَبَةِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ بِالْمُكَاتَبِ دُونَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الرِّقِّ وَهُوَ فِي الْمُكَاتَبِ كَامِلٌ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَالْكِتَابَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِلْفَسْخِ وَاشْتِرَاطُ الْمِلْكِ إنَّمَا هُوَ بِقَدْرِ مَا يَصِحُّ بِهِ التَّحْرِيرُ وَهُوَ حَاصِلٌ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ الرِّقَّ فِيهِمَا نَاقِصٌ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ الْعِتْقِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً، وَلَا نِيَّةَ لَهُ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْعِنَبِ وَالرُّطَبِ وَالرُّمَّانِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ فَاكِهَةً لُغَةً وَعُرْفًا إلَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى التَّفَكُّهِ أَيْ: التَّلَذُّذِ وَالتَّنَعُّمِ وَهُوَ الْغِذَائِيَّةُ وَقِوَامُ الْبَدَنِ بِهِ فَبِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يُخَصُّ عَنْ مُطْلَقِ الْفَاكِهَةِ. (قَوْلُهُ فَفِي غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ) اخْتَلَفُوا فِي الْعَامِّ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ الْبَعْضُ، هَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي أَمْ مَجَازٌ؟ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ، وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ حَقِيقَةٌ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ حَقِيقَةٌ إنْ كَانَ الْبَاقِي غَيْرَ مُنْحَصِرٍ أَيْ: لَهُ كَثْرَةٌ يَعْسُرُ الْعِلْمُ بِقَدْرِهَا وَإِلَّا فَمَجَازٌ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ حَقِيقَةٌ إنْ كَانَ بِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ مِنْ شَرْطٍ، أَوْ صِفَةٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ، أَوْ غَايَةٍ، وَمَجَازٌ إنْ كَانَ بِمُسْتَقِلٍّ مِنْ عَقْلٍ، أَوْ سَمْعٍ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ حَقِيقَةٌ إنْ كَانَ بِشَرْطٍ أَوْ اسْتِثْنَاءٍ لَا صِفَةٍ وَغَيْرِهَا، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ حَقِيقَةٌ إنْ كَانَ بِشَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ لَا اسْتِثْنَاءٍ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ حَقِيقَةٌ إنْ كَانَ بِدَلِيلٍ لَفْظِيٍّ اتَّصَلَ أَوْ انْفَصَلَ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: حَقِيقَةٌ فِي تَنَاوُلِهِ، مَجَازٌ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ إخْرَاجَ الْبَعْضِ إنْ كَانَ بِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ فَصِيغَةُ الْعَامِّ حَقِيقَةٌ فِي الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ بِمُسْتَقِلٍّ فَهِيَ فِي الْبَاقِي مَجَازٌ مِنْ حَيْثُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ حَقِيقَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّنَاوُلُ لَهُ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ الْبَعْضُ بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ صِفَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ غَايَةٍ مَوْضُوعٌ لِلْبَاقِي مَثَلًا إذَا قَالَ عَبِيدُهُ أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا فَالْعَبِيدُ الْمُخْرَجُ مِنْهُمْ سَالِمٌ مَوْضُوعٌ لِلْبَاقِي، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْوَضْعَ الشَّخْصِيَّ بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ هَذَا اللَّفْظَ لِلْمَجْمُوعِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَلِلْبَاقِي عِنْدَ اقْتِرَابِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَإِلَّا لَكَانَ مُشْتَرَكًا وَسَيَجِيءُ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُتَنَاوِلٌ لِلْمَجْمُوعِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُسْتَثْنَى فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ أَرَادَ الْوَضْعَ النَّوْعِيَّ

الْمُخَصِّصُ كَلَامًا أَوْ غَيْرَهُ (مَجَازٌ) أَيْ: لَفْظُ الْعَامِّ مَجَازٌ فِي الْبَاقِي. (بِطَرِيقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ حَيْثُ الْقَصْرُ) أَيْ: مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْبَاقِي. (حَقِيقَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّنَاوُلُ) أَيْ: مِنْ حَيْثُ إنَّ لَفْظَ الْعَامِّ مُتَنَاوِلٌ لِلْبَاقِي يَكُونُ حَقِيقَةً فِيهِ. (عَلَى مَا يَأْتِي فِي فَصْلِ الْمَجَازِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ حُجَّةٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ كَوْنِهِ) أَيْ: التَّخْصِيصِ (بِالْكَلَامِ أَوْ غَيْرِهِ) فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا كُلُّ عَامٍّ خُصَّ بِمُسْتَقِلٍّ فَإِنَّهُ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ كَلَامًا أَوْ غَيْرَهُ. (لَكِنْ يَجِبُ هُنَاكَ فَرْقٌ وَهُوَ أَنَّ الْمَخْصُوصَ بِالْعَقْلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ لَكِنَّهُ حَذَفَ الِاسْتِثْنَاءَ مُعْتَمِدًا عَلَى الْعَقْلِ عَلَى أَنَّهُ مَفْرُوغٌ عَنْهُ حَتَّى لَا نَقُولَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] وَنَظَائِرُهُ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ) ، وَهَذَا فَرْقٌ تَفَرَّدْت بِذِكْرِهِ وَهُوَ وَاجِبُ الذِّكْرِ حَتَّى لَا يُتَوَهَّمَ أَنْ خِطَابَاتِ الشَّرْعِ الَّتِي خُصَّ مِنْهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ بِالْعَقْلِ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ كَالْخِطَابَاتِ الْوَارِدَةِ بِالْفَرَائِضِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ جَاحِدُهَا إجْمَاعًا مَعَ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً عَقْلًا، فَإِنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَقْلِ لَا يُورِثُ شُبْهَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ الْوَاضِعِ أَنَّهُ إذَا قَرَنَ اللَّفْظَ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ يَكُونُ مَعْنَاهُ الْبَاقِي فَاللَّفْظُ لَا يَصِيرُ بِهَذَا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ أَيْضًا كَذَلِكَ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَقَدْ صَرَّحَ فِي بَحْثِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنَّ الذَّاهِبِينَ إلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْبَاقِي وَالِاسْتِثْنَاءُ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ قَائِلُونَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ فِيهِ. هَذَا وَلِنُنَبِّهكَ عَلَى فَائِدَةٍ جَلِيلَةٍ وَهِيَ أَنَّ الْوَضْعَ النَّوْعِيَّ قَدْ يَكُونُ بِثُبُوتِ قَاعِدَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ يَكُونُ بِكَيْفِيَّةِ كَذَا فَهُوَ مُتَعَيِّنٌ لِلدَّلَالَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى مَعْنًى مَخْصُوصٍ يُفْهَمُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ تَعَيُّنِهِ لَهُ، مِثْلُ الْحُكْمِ بِأَنَّ كُلَّ اسْمٍ آخِرُهُ أَلْفٌ أَوْ بَاءٌ مَفْتُوحَةٌ مَا قَبْلَهَا وَنُونٌ مَكْسُورَةٌ فَهُوَ لِفَرْدَيْنِ مِنْ مَدْلُولِ مَا أُلْحِقَ بِآخِرِهِ هَذِهِ الْعَلَامَةُ وَكُلُّ اسْمٍ غُيِّرَ إلَى نَحْوِ رِجَالٍ وَمُسْلِمِينَ وَمُسْلِمَاتٍ فَهُوَ لِجَمْعٍ مِنْ مُسَمَّيَاتِ ذَلِكَ الِاسْمِ، وَكُلُّ جَمْعٍ عُرِّفَ بِاللَّامِ فَهُوَ لِجَمِيعِ تِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْضُوعَاتِ الشَّخْصِيَّةِ بِأَعْيَانِهَا، بَلْ أَكْثَرُ الْحَقَائِقِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَالْمُثَنَّى الْمَجْمُوعِ وَالْمُصَغَّرِ وَالْمَنْسُوبِ وَعَامَّةِ الْأَفْعَالِ وَالْمُشْتَقَّاتِ، وَالْمُرَكَّبَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ مَا يَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى بِالْهَيْئَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَقَدْ يَكُونُ بِثُبُوتِ قَاعِدَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ مُعَيَّنٍ لِلدَّلَالَةِ بِنَفْسِهِ عَلَى مَعْنًى فَهُوَ عِنْدَ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ إرَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُتَعَيِّنٌ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى تَعَلُّقًا مَخْصُوصًا، وَدَالٌّ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْقَرِينَةِ لَا بِوَاسِطَةِ هَذَا التَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْوَاضِعِ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ، وَفَهْمُهُ مِنْهُ عِنْدَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ بِحَالِهَا، وَمِثْلُهُ مَجَازٌ؛ لِتَجَاوُزِهِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ، فَالْوَضْعُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ تَعْيِينُ اللَّفْظِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنًى بِنَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ

فَإِنَّ. (كُلَّ مَا يُوجِبُ الْعَقْلُ تَخْصِيصَهُ يُخَصُّ وَمَا لَا فَلَا. وَأَمَّا الْمَخْصُوصُ بِالْكَلَامِ فَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ لَا يَبْقَى حُجَّةً أَصْلًا مَعْلُومًا كَانَ الْمَخْصُوصُ كَالْمُسْتَأْمَنِ) حَيْثُ خُصَّ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنْ يُفْرَدَ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ بِالتَّعْيِينِ أَوْ بِدَرْجٍ فِي الْقَاعِدَةِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الْمَأْخُوذِ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَيَشْمَلُ الْوَضْعَ الشَّخْصِيَّ وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ النَّوْعَيْنِ فَلَفْظُ الْأُسُودِ فِي مِثْلِ قَوْلِنَا رَكِبْت الْأُسُودَ مِنْ حَيْثُ قُصِدَ بِهِ الشُّجْعَانُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَمِنْ حَيْثُ قُصِدَ بِهِ الْعُمُومُ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ فَلْيُتَدَبَّرْ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْكُلِّ فَإِذَا أَخْرَجَ مِنْهُ الْبَعْضَ بَقِيَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْبَاقِي، وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْبَعْضِ إلَّا أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْبَاقِيَ كَمَا كَانَ يَتَنَاوَلُهُ قَبْلَ التَّخْصِيصِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ التَّنَاوُلُ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَدَمُ إرَادَةِ الْبَعْضِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ صِفَةِ التَّنَاوُلِ لِلْبَاقِي فَيَكُونُ حَقِيقَةً مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَسَيَجِيءُ فِي فَصْلِ الْمَجَازِ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ يَكُونُ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ حَيْثِيَّتَيْنِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ وَضْعَيْنِ. وَأَمَّا بِحَسَبِ وَضْعٍ وَاحِدٍ فَذَلِكَ الْمَعْنَى، إمَّا نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ اللَّفْظُ حَقِيقَةً أَوْ غَيْرُهُ فَيَكُونُ مَجَازًا نَعَمْ لَوْ كَانَتْ صِيغَةُ الْعُمُومِ مَوْضُوعَةً لِلْكُلِّ، وَالْبَعْضِ بِالِاشْتِرَاكِ لَكَانَتْ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْبَاقِي مَجَازًا مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ لِلْكُلِّ، وَحَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ لِلْبَعْضِ إلَّا أَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلِاسْتِغْرَاقِ خَاصَّةً لَا يُقَالُ مُرَادُهُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْمَجَازِ أَعْنِي: إطْلَاقَ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ حَقِيقَةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى مَا هُوَ مُصْطَلَحُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْحَقِيقَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُقَابِلُ مُطْلَقَ الْمَجَازِ وَلَا إشَارَةَ إلَيْهِ فِي فَصْلِ الْمَجَازِ عَلَى مَا وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْبَاقِيَ لَيْسَ نَفْسَ الْمَوْضُوعِ لَهُ إلَّا أَنَّ اللَّفْظَ إنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا فِيهِ إذَا كَانَتْ إرَادَتُهُ بِاسْتِعْمَالٍ ثَانٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ بِالِاسْتِعْمَالِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ عَدَمُ إرَادَةِ الْبَعْضِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ التَّغْيِيرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَكَمَا أَنَّ تَنَاوُلَ الْعَبِيدِ لِغَيْرِ سَالِمٍ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ عِنْدَ عَدَمِ إخْرَاجِهِ فَكَذَا عِنْدَ إخْرَاجِهِ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَقْصُورُ عَلَى الْبَعْضِ بِغَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ أَيْضًا حَقِيقَةً فِي الْكُلِّ بِحَسَبِ التَّنَاوُلِ، وَإِنْ أُخْرِجَ الْبَعْضُ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا وَجْهُ فَرْقِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بَيْنَ الْمُسْتَقِلِّ وَغَيْرِهِ قُلْنَا لَمَّا كَانَ بِغَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ صِيَغٌ مَخْصُوصَةٌ مَضْبُوطَةٌ أَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْبَاقِي عِنْدَ انْضِمَامِهِ إلَى إحْدَى تِلْكَ الصِّيَغِ بِخِلَافِ الْمُسْتَقِلِّ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَحْصُورٍ، فَلَا يَنْضَبِطُ بِاعْتِبَارِ الْوَضْعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِانْتِقَاضِهِ بِالصِّفَةِ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي التَّنَاوُلِ أَنَّ الْعَامَّ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْآحَادِ الْمُتَعَدِّدَةِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَعْنَى الرِّجَالِ فُلَانٌ فُلَانٌ فُلَانٌ إلَى أَنْ يَسْتَوْعِبَ

بِقَوْلِهِ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] . (أَوْ مَجْهُولًا كَالرِّبَا) حَيْثُ خُصَّ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] (لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَجْهُولًا صَارَ الْبَاقِي مَجْهُولًا؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ كَالِاسْتِثْنَاءِ إذْ هُوَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ) أَيْ: التَّخْصِيصُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَخْصُوصَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَامِّ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَمْ يَدْخُلْ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ إنْ كَانَ مَجْهُولًا يَكُونُ الْبَاقِي فِي صَدْرِ الْكَلَامِ مَجْهُولًا وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ. (وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ) وَالْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ. (وَلَا يُدْرَى كَمْ يَخْرُجُ بِالتَّعْلِيلِ فَيَبْقَى الْبَاقِي مَجْهُولًا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ إنْ كَانَ مَعْلُومًا بَقِيَ الْعَامُّ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ كَالِاسْتِثْنَاءِ) فِي أَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ (فَلَا يُقْبَلُ التَّعْلِيلُ) إذْ الِاسْتِثْنَاءُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، وَفِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْعَامِّ حُجَّةٌ فِي الْبَاقِي ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّمَا وُضِعَ الرِّجَالُ اخْتِصَارًا لِذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّ فِي تَكْرِيرِ الْآحَادِ إذَا بَطَلَ إرَادَةُ الْبَعْضِ لَمْ يَصِرْ الْبَاقِي مَجَازًا فَكَذَا هَاهُنَا وَأُجِيبُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَتَكْرِيرِ الْآحَادِ، بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْكُلِّ فَبِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَيَكُونُ مَجَازًا بِخِلَافِ الْمُتَكَرِّرِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مَوْضُوعٌ لِمَعْنَاهُ فَبِإِخْرَاجِ الْبَعْضِ لَا يَصِيرُ الْبَاقِي مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ، وَمَقْصُودُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ بَيَانُ الْحِكْمَةِ فِي وَضْعِهِ لَا أَنَّهُ مِثْلُ الْمُتَكَرِّرِ بِعَيْنِهِ، وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ حَقِيقَةَ صِيغَةِ الْعُمُومِ لِلْكُلِّ وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ حَقِيقَةٌ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كُلٌّ لَا بَعْضٌ كَالِاسْتِثْنَاءِ يُصَيِّرُ الْكَلَامَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى بِطَرِيقِ أَنَّهُ كُلٌّ لَا بَعْضٌ حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ الثُّلُثِ فَهُوَ كُلٌّ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ أَيْضًا بِصِيغَةِ الْعُمُومِ نَظَرًا إلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ فَلَوْ قَالَ: مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ إلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا وَلَا مَمْلُوكَ لَهُ سِوَاهُمَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى بَعْضًا إذَا كَانَ سِوَاهُمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ إلَّا مَمَالِيكِي. 1 - (قَوْلُهُ أَيْ: لَفْظُ الْعَامِّ مَجَازٌ) كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ أَيْ: لَفْظُ الْعَامِّ بِالْوَصْفِ دُونَ الْإِضَافَةِ، إذْ الْكَلَامُ فِي صِيَغِ الْعُمُومِ لَا فِي لَفْظِ الْعَامِّ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ مَنْ قَالَ إنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَإِنْ اُشْتُرِطَ كَانَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْعَامِّ عَلَى مَا أُخْرِجَ مِنْهُ الْبَعْضُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَامٌّ لَوْلَا الْإِخْرَاجُ، وَإِنْ اكْتَفَى بِانْتِظَامِ جَمْعٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ حَتَّى يَنْتَهِيَ التَّخْصِيصُ إلَى مَا دُونَ الثَّلَاثِ. (قَوْلُهُ وَهُوَ حُجَّةٌ) تَقْرِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْعَامَّ الْمَقْصُورَ عَلَى الْبَعْضِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى الْبَعْضِ بِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ أَوْ بِمُسْتَقِلٍّ فَعَلَى الْأَوَّلِ إنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ الْمُخْرِجُ مَعْلُومًا فَهُوَ حُجَّةٌ بِلَا شُبْهَةٍ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقَصْرِ عَلَى الْبَعْضِ لِعَدَمِ

كَمَا كَانَ فَكَذَا التَّخْصِيصُ. (وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا يَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً لِمَا قُلْنَا) إنَّ التَّخْصِيصَ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَجْهُولُ يَجْعَلُ الْبَاقِيَ مَجْهُولًا فَلَا يَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً فِي الْبَاقِي. (وَعِنْدَ الْبَعْضِ إنْ كَانَ مَعْلُومًا فَكَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا) إنَّ الْعَامَّ يَبْقَى فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ كَمَا كَانَ. (وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَسْقُطُ الْمُخَصِّصُ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ) وَلَمَّا كَانَ الْمُخَصِّصُ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا وَكَانَ مَعْنَاهُ مَجْهُولًا يَسْقُطُ هُوَ بِنَفْسِهِ وَلَا تَتَعَدَّى جَهَالَتُهُ إلَى صَدْرِ الْكَلَامِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ، بَلْ يَتَعَلَّقُ بِصَدْرِ الْكَلَامِ فَجَهَالَتُهُ تَتَعَدَّى إلَى صَدْرِ الْكَلَامِ. (وَعِنْدَنَا تُمْكِنُ فِيهِ شُبْهَةٌ؛ لِأَنَّهُ عُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى ظَاهِرِهِ) وَهُوَ إرَادَةُ الْكُلِّ فَعُلِمَ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُورِثِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا جَهَالَةُ الْمُخْرَجِ أَوْ احْتِمَالُهُ التَّعْلِيلَ، وَغَيْرُ الْمُسْتَقِلِّ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيلَ، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا كَمَا إذَا قَالَ عَبِيدُهُ أَحْرَارٌ إلَّا بَعْضًا أَوْرَثَ ذَلِكَ جَهَالَةً فِي الْبَاقِي فَلَمْ تَصْلُحْ حُجَّةً إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ وَعَلَى الثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُخَصِّصُ عَقْلًا أَوْ كَلَامًا أَوْ غَيْرَهُمَا. فَإِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْعَقْلُ كَانَ الْعَامُّ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ مُورِثِ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَقْتَضِي الْعَقْلُ إخْرَاجَهُ فَهُوَ مُخْرَجٌ وَغَيْرُهُ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ قَدْ يَقْتَضِي إخْرَاجَ بَعْضٍ مَجْهُولٍ بِأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِمَّا يَمْتَنِعُ عَلَى الْكُلِّ دُونَ الْبَعْضِ، مِثْلُ الرِّجَالُ فِي الدَّارِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُفْصَلَ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَيُجْعَلَ قَطْعِيًّا إذَا كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا كَمَا فِي الْخِطَابَاتِ الَّتِي خُصَّ مِنْهَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يُقَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّتُهَا بِوَاسِطَةِ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ كَانَ قَطْعِيًّا قَبْلَ أَنْ يَتَحَقَّقَ الِاجْتِهَادُ وَالْإِجْمَاعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ غَيْرَ الْعَقْلِ وَالْكَلَامِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُصَنِّفُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَبْقَى قَطْعِيًّا لِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ، وَخَفَاءِ الزِّيَادَةِ، وَالنُّقْصَانِ وَعَدَمِ اطِّلَاعِ الْحِسِّ عَلَى تَفَاصِيلِ الْأَشْيَاءِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ الْقَدْرُ الْمَخْصُوصُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ الْمُخَصِّصُ هُوَ الْكَلَامُ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ فَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ لَا يَبْقَى حُجَّةً أَصْلًا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَعْلُومًا فَالْعَامُّ قَطْعِيٌّ فِي الْبَاقِي، وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَسْقُطُ الْمُخَصِّصُ، وَيَبْقَى الْعَامُّ عَلَى مَا كَانَ وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ دَلِيلٌ تَمَكَّنَ فِيهِ الشُّبْهَةُ مَعْلُومًا كَانَ الْمُخَصِّصُ أَوْ مَجْهُولًا وَالتَّمَسُّكَاتُ مَشْرُوحَةٌ فِي الْكِتَابِ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَسْقُطُ الْمُخَصِّصُ) وَيَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً فِيمَا تَنَاوَلَهُ كَمَا كَانَ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا فَلَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ فَيَبْقَى حُكْمُ الْعَامِّ عَلَى مَا كَانَ وَلَا يَتَعَدَّى جَهَالَةُ الْمُخَصِّصِ إلَيْهِ لِكَوْنِ الْمُخَصِّصِ مُسْتَقِلًّا بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَصْفٍ قَائِمٍ بِصَدْرِ الْكَلَامِ لَا يُفِيدُ بِدُونِهِ شَيْئًا حَتَّى إنَّ مَجْمُوعَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَصَدْرَ الْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، فَجَهَالَتُهُ تُوجِبُ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَيَصِيرُ مَجْهُولًا مُجْمَلًا مُتَوَقِّفًا عَلَى الْبَيَانِ. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَنَا تَمَكَّنَ فِيهِ شُبْهَةٌ) أَيْ: الْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ

الْمُرَادَ الْبَعْضُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مَثَلًا إذَا كَانَ كُلُّ أَفْرَادِهِ مِائَةً، وَعُلِمَ أَنَّ الْمِائَةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْدَادِ الَّتِي دُونَ الْمِائَةِ مُسَاوٍ فِي أَنَّ اللَّفْظَ مَجَازٌ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ ثُمَّ ذَكَرَ ثَمَرَةَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ. (فَيَصِيرُ عِنْدَنَا كَالْعَامِّ الَّذِي لَمْ يُخَصَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى يُخَصِّصَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ) ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فَقَالَ (لَكِنْ لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَتَّى لَا يَكُونَ مُوجِبًا قَطْعًا وَيَقِينًا. أَمَّا كَوْنُهُ حُجَّةً فَلِاحْتِجَاجِ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الْمَخْصُوصُ مِنْهَا الْبَعْضُ شَائِعًا زَائِعًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا. وَأَمَّا تَمَكُّنُ الشُّبْهَةِ فَلِأَنَّهُ إذَا أُخْرِجَ مِنْهُ الْبَعْضُ لَمْ يَبْقَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْكُلِّ، بَلْ فِيمَا دُونَهُ مَجَازًا، وَمَا دُونَ الْكُلِّ أَفْرَادٌ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَسَاوِيَةٌ فِي كَوْنِ اللَّفْظِ مَجَازًا فِيهَا مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ فَلَا يَثْبُتُ بَعْضٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمَخْصُوصِ الْمَجْهُولِ أَمَّا فِي الْمَعْلُومِ فَعَدَمُ الرُّجْحَانِ مَمْنُوعٌ، بَلْ مَجْمُوعُ مَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ مُتَعَيِّنٌ مَثَلًا إذَا أُخْرِجَ مِنْ الْمِائَةِ عَشَرَةٌ تَعَيَّنَ التِّسْعُونَ، وَإِذَا أُخْرِجَ عِشْرُونَ تَعَيَّنَ الثَّمَانُونَ، وَإِذَا أُخْرِجَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الذِّمَّةِ تَعَيَّنَ غَيْرُهُمْ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً أَصْلًا وَيَصِيرُ مُجْمَلًا مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ، وَغَايَةُ تَوْجِيهِهِ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ مِنْهَا عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ، بَلْ إنْ كَانَ الْمَخْصُوصُ مَجْهُولًا لَا يَتَرَجَّحُ شَيْءٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا يَتَرَجَّحُ مَجْمُوعُ مَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ لَكِنْ ظَنًّا لَا قَطْعًا لِاحْتِمَالِ خُرُوجِ بَعْضٍ آخَرَ بِالتَّعْلِيلِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ " لِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ " مُخْتَصًّا بِصُورَةِ الْمَجْهُولِ. (قَوْلُهُ حَتَّى يُخَصِّصَهُ) يَعْنِي: لَمَّا لَمْ يَبْقَ الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ قَطْعِيًّا جَازَ فِي الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مِنْ الْكِتَابِ، وَالْمُتَوَاتِرِ مِنْ الْحَدِيثِ مَعْلُومًا كَانَ الْمَخْصُوصُ أَوْ مَجْهُولًا أَنْ يُخَصَّصَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسُ إجْمَاعًا وَيُعْلَمُ مِنْ جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ أَنَّهُ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الدَّرَجَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى رَجَّحُوا خَبَرَ الْقَهْقَهَةِ عَلَى الْقِيَاسِ وَكَذَا خَبَرُ الْأَكْلِ نَاسِيًا فِي الصَّوْمِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ إنَّمَا هُوَ مَعَ شَكٍّ فِي أَصْلِهِ، وَاحْتِمَالٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَارِضَهُ الْقِيَاسُ بِخِلَافِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَصْلِهِ، وَإِنَّمَا الِاحْتِمَالُ فِي طَرِيقِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ غَلَطِ الرَّاوِي أَوْ مَيْلِهِ عَنْ الصِّدْقِ إلَى الْكَذِبِ فَلَا يَصْلُحُ الْقِيَاسُ مُعَارِضًا لَهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِجَوَازِ تَخْصِيصِ هَذَا الْعَامِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَنَّ الْمُخَصِّصَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُقَارِنًا لِلْقَطْعِ بِتَرَاخِي الْقِيَاسِ عَنْ الْكِتَابِ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ، فَالْمُخَصِّصُ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ النَّصُّ الْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ وَلَا يُعْلَمُ

الْمُخَصِّصَ يُشْبِهُ النَّاسِخَ بِصِيغَةٍ، وَالِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ كَمَا قُلْنَا، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا يَسْقُطُ فِي نَفْسِهِ لِلشَّبَهِ الْأَوَّلِ، وَيُوجِبُ جَهَالَةً فِي الْعَامِّ لِلشَّبَهِ الثَّانِي فَيَدْخُلُ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ الْعَامِّ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ) أَيْ: بِالشَّكِّ إذْ قَبْلَ التَّخْصِيصِ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ فَلَمَّا خُصَّ دَخَلَ الشَّكُّ فِي أَنَّهُ هَلْ بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ أَمْ بَطَلَ فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ. (وَإِنْ كَانَ) أَيْ: الْمُخَصِّصُ. (مَعْلُومًا فَلِلشَّبَهِ الْأَوَّلِ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ) لَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ فَلِلشَّبَهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُشَابِهُ النَّاسِخَ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ كَمَا يَصِحُّ أَنْ يُعَلِّلَ النَّاسِخَ الَّذِي يَنْسَخُ بَعْضَ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِيَنْسَخَ بِالْقِيَاسِ بَعْضًا آخَرَ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ فَإِنَّ تَعْلِيلَ النَّاسِخِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَصِحُّ عَلَى مَا يَأْتِي فِي هَذِهِ الصَّفْحَةِ، بَلْ يُرِيدُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَصٌّ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ. (كَمَا هُوَ عِنْدَنَا) فَإِنَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ وَإِذَا صَحَّ تَعْلِيلُهُ لَا يُدْرَى أَنَّهُ كَمْ يَخْرُجُ بِالتَّعْلِيلِ أَيْ: بِالْقِيَاسِ وَكَمْ يَبْقَى تَحْتَ الْعِلْمِ. (فَيُوجِبُ جَهَالَةً فِيمَا بَقِيَ تَحْتَ الْعَامِّ، وَلِلشَّبَهِ الثَّانِي لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ كَمَا هُوَ عِنْدَ الْبَعْضِ فَدَخَلَ الشَّكُّ فِي سُقُوطٍ الْعَامِّ فَلَا سَقْطَ بِهِ) أَيْ: الشَّبَهُ الثَّانِي هُوَ شَبَهُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَرَاخِيهِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ. قَوْلُهُ: (لَكِنْ لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَصِّصَ يُشْبِهُ النَّاسِخَ بِصِيغَتِهِ) ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ مَفْهُومٌ بِنَفْسِهِ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ الْعَامُّ، وَيُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بَيَانُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِيمَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ، وَعَدَمُ دُخُولِ الْمَخْصُوصِ تَحْتَ حُكْمِ الْعَامِّ لَا رَفْعُ الْحُكْمِ عَنْ مَحَلِّ الْمَخْصُوصِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، فَهُوَ مُسْتَقِلٌّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ. وَالْأَصْلُ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الشَّبَهَيْنِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهِمَا وَيُوفِيَ حَظًّا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يُبْطِلَ أَحَدَهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ، فَالْمُخَصِّصُ إنْ كَانَ مَجْهُولًا أَيْ: مُتَنَاوِلًا لِمَا هُوَ مَجْهُولٌ عِنْدَ السَّامِعِ فَمِنْ جِهَةِ اسْتِقْلَالِهِ يَسْقُطُ هُوَ بِنَفْسِهِ، وَلَا تَتَعَدَّى جَهَالَتُهُ إلَى الْعَامِّ كَالنَّاسِخِ الْمَجْهُولِ، وَمِنْ جِهَةِ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ يُوجِبُ جَهَالَةَ الْعَامِّ، وَسُقُوطَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ لِتَعَدِّي جَهَالَتِهِ إلَيْهِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمَجْهُولِ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِ الْعَامِّ، وَقَدْ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ، بَلْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ جَهَالَةٍ تُورِثُ زَوَالَ الْيَقِينِ فَيُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَمِنْ جِهَةِ اسْتِقْلَالِهِ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ الْمُسْتَقِلَّةِ فَيُوجِبُ جَهَالَةً فِيمَا بَقِيَ تَحْتَ الْعَامِّ، إذْ لَا يُدْرَى أَنَّهُ كَمْ خَرَجَ بِالْقِيَاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُسْقِطَ الْعَامَّ، وَمِنْ جِهَةِ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُبَّائِيُّ كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ نَصًّا مُسْتَقِلًّا، بَلْ بِمَنْزِلَةِ وَصْفٍ قَائِمٍ بِصَدْرِ الْكَلَامِ دَالٍّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْمُسْتَثْنَى فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْعَدَمُ لَا يُعَلَّلُ فَيَكُونُ مَا وَرَاءَ الْمَخْصُوصِ مَعْلُومًا فَيَجِبُ أَنْ يَبْقَى الْعَامُّ بِحَالِهِ، فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي عَدَمِ حُجِّيَّةِ الْعَامِّ فَلَا نُبْطِلُ حُجِّيَّتَهُ الثَّابِتَةَ بِيَقِينٍ، بَلْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ لِكَوْنِهِ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيُوجِبُ

حَيْثُ إنَّ الْمُخَصِّصَ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُخَصِّصَ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْعَامِّ؛ فَلِهَذَا الشَّبَهِ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُبَّائِيُّ كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الْمُسْتَثْنَى وَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ يَصِيرُ الْبَاقِي تَحْتَ الْعَامِّ مَجْهُولًا فَلَا يَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ يَبْقَى الْعَامُّ حُجَّةً، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ التَّخْصِيصِ حُجَّةً فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي بُطْلَانِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ هَذَا مَا قَالُوا، وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَذْهَبُ عِنْدَكُمْ، وَعِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ صِحَّةَ تَعْلِيلٍ فَيَجِبُ أَنْ يَبْطُلَ الْعَامُّ عِنْدَكُمْ بِنَاءً عَلَى زَعْمِكُمْ فِي صِحَّةِ تَعْلِيلِهِ، وَلَا تَمَسُّكَ لَكُمْ بِزَعْمِ الْجُبَّائِيُّ أَنَّ عِنْدَهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ فَلِدَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَالَ (عَلَى أَنَّ احْتِمَالَ التَّعْلِيلِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ تَخْصِيصَهُ يَخُصُّ وَمَا لَا فَلَا) فَإِنَّ الْمُخَصِّصَ إنْ لَمْ يُدْرَكْ فِيهِ عِلَّةٌ لَا يُعَلَّلُ فَيَبْقَى الْعَامُّ فِي الْبَاقِي حُجَّةً، وَإِنْ عُرِفَ فِيهِ عِلَّةٌ فَكُلُّ مَا تُوجَدُ الْعِلَّةُ فِيهِ يَخُصُّ قِيَاسًا وَمَا لَا فَلَا فَلَا يَبْطُلُ الْعَامُّ بِاحْتِمَالِ التَّعْلِيلِ (فَظَهَرَ هُنَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالنَّسْخِ) أَيْ: لَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ تَعْلِيلَ الْمُخَصِّصِ صَحِيحٌ ظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُخَصِّصِ وَالنَّاسِخِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ النَّاسِخِ الَّذِي يَنْسَخُ الْحُكْمَ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ لِيُثْبِتَ النَّسْخَ فِي بَعْضٍ آخَرَ قِيَاسًا صُورَتُهُ أَنْ يَرِدَ نَصٌّ خَاصٌّ حُكْمُهُ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْعَامِّ، وَيَكُونَ وُرُودُهُ مُتَرَاخِيًا عَنْ وُرُودِ الْعَامِّ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ نَاسِخًا لَا مُخَصِّصًا عَلَى مَا سَبَقَ. (فَإِنَّ الْعَامَّ الَّذِي نُسِخَ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ لَا يُنْسَخُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَنْسَخُ النَّصَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُخَصِّصَ الْمَجْهُولَ بِاعْتِبَارِ الصِّيغَةِ لَا يُبْطِلُ الْعَامَّ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ يُبْطِلُهُ، وَالْمَعْلُومَ بِالْعَكْسِ فَيَقَعُ الشَّكُّ فِي بُطْلَانِهِ وَالشَّكُّ لَا يَرْفَعُ أَصْلَ الْيَقِينِ، بَلْ وَصْفَهُ. (قَوْلُهُ: لَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ) لَمَّا كَانَ مَعْنَى سُقُوطِ الْمُخَصِّصِ الْمَجْهُولِ لِلشَّبَهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لِشَبَهِهِ بِالنَّاسِخِ فَسَقَطَ كَمَا سَقَطَ النَّاسِخُ الْمَجْهُولُ، وَمَعْنَى إيجَابِهِ جَهَالَةَ الْعَامِّ لِلشَّبَهِ الثَّانِي أَنَّهُ لِشُبْهَةٍ بِالِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ ذَلِكَ كَمَا يُوجِبُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَمَعْنَى عَدَمِ صِحَّةِ تَعْلِيلِ الْمُخَصِّصِ الْمَعْلُومِ لِلشَّبَهِ الثَّانِي أَنَّهُ لِشَبَهِهِ بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ كَمَا لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ السَّابِقُ إلَى الْوَهْمِ مِنْ قَوْلِهِ فَلِلشَّبَهِ الْأَوَّلِ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ أَنَّهُ لِشَبَهِهِ بِالنَّاسِخِ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ كَمَا يَصِحُّ تَعْلِيلُ النَّاسِخِ فَدَفَعَ ذَلِكَ الْوَهْمَ بِأَنَّ النَّاسِخَ لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ نَسْخِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. فَإِنْ قِيلَ فَيَجِبُ أَنْ يَصِحَّ تَعْلِيلُ الْمُخَصِّصِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ كِلَا شَبَهَيْهِ يَقْتَضِيَانِ عَدَمَ التَّعْلِيلِ قُلْنَا شَبَهُهُ بِالنَّاسِخِ وَهُوَ الِاسْتِقْلَالُ يَقْتَضِي صِحَّةَ التَّعْلِيلِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي النَّاسِخِ لِمَانِعٍ وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْقِيَاسِ مُعَارِضًا لِلنَّصِّ، وَلَا مَانِعَ فِي الْمُخَصِّصِ فَيَصِحُّ تَعْلِيلُهُ لِشَبَهِهِ بِالنَّاسِخِ أَيْ: لِاسْتِقْلَالِهِ. (قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ احْتِمَالَ التَّعْلِيلِ) يَصْلُحُ فِعْلًا لِلشُّبْهَةِ الْمُورَدَةِ مِنْ قِبَلِ الْكَرْخِيِّ فِي بُطْلَانِ الِاحْتِجَاجِ بِالْعَامِّ الْمَخْصُوصِ لَا جَوَابًا عَنْ الْإِشْكَالِ الْوَارِدِ عَلَى كَلَامِ الْقَوْمِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ صِحَّةُ تَعْلِيلِ الْمَخْصُوصِ تُوجِبُ جَهَالَةً فِي الْعَامِّ وَتَقْتَضِي سُقُوطَهُ، وَبُطْلَانَ حُجِّيَّتِهِ كَمَا زَعَمْتُمْ لَوَجَبَ بُطْلَانُ حُجِّيَّةِ الْعَامِّ

إذْ هُوَ لَا يُعَارِضُهُ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ لَكِنْ يُخَصِّصُهُ، وَلَا يَلْزَمُ بِهِ الْمُعَارَضَةُ؛ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَهُنَا مَسَائِلُ مِنْ الْفُرُوعِ تُنَاسِبُ مَا ذَكَرْنَا) مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ وَالنَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ (فَنَظِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ مَا إذَا بَاعَ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ بِثَمَنٍ أَوْ بَاعَ عَبْدَيْنِ إلَّا هَذَا بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْبَيْعِ فَصَارَ الْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً؛ وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ يَصِيرُ شَرْطًا لِقَبُولِ الْمَبِيعِ فَيَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ) فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَيْسَتْ حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودَةً لَكِنَّهَا تُنَاسِبُ الِاسْتِثْنَاءَ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ دُخُولَ الْمُسْتَثْنَى فِي حُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ، وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَخْصُوصِ عِنْدَكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ قَائِلُونَ بِصِحَّةِ تَعْلِيلِ الْمَخْصُوصِ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَذْكُورَ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَسْلِيمِ بُطْلَانِ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَة بِأَنَّ صِحَّةَ التَّعْلِيلِ تُوجِبُ جَهَالَةً فِي الْعَامِّ، فَإِنْ قِيلَ الْمُخَصِّصُ إذَا لَمْ يُدْرَكْ عَلَيْهِ فَاحْتِمَالُ التَّعْلِيلِ بَاقٍ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ، وَإِذَا أُدْرِكَتْ فَاحْتِمَالُ الْغَيْرِ قَائِمٌ لِمَا فِي الْعِلَلِ مِنْ التَّزَاحُمِ، وَبَعْدَمَا تَعَيَّنَتْ لَا يُدْرَى أَنَّهَا فِي أَيِّ قَدْرٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ تُوجَدُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ جَهَالَةَ الْعَامِّ، وَبُطْلَانَ حُجَّتِهِ قُلْنَا لَا، بَلْ يُوجِبُ تَمَكُّنَ الشُّبْهَةِ فِيهِ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَالشَّكُّ لَا يُوجِبُ زَوَالَ أَصْلِ الْيَقِينِ، بَلْ وَصْفَ كَوْنِهِ يَقِينًا. (قَوْلُهُ: إذْ هُوَ) أَيْ: الْقِيَاسُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ؛ لِأَنَّهُ دُونَ النَّصِّ فَلَا يَنْسَخُهُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِخِ إنَّمَا هُوَ فِي رَفْعِ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ الْمُعَارَضَةِ لَكِنْ يُخَصَّصُ النَّصُّ الْعَامُّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُخَصِّصِ إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ دُونَ الْمُعَارَضَةِ، فَالْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْ الْمُخَصِّصِ يُبَيِّنُ أَنَّ قَدْرَ مَا تَعَدَّى إلَيْهِ الْعِلَّةُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَامِّ كَمَا أَنَّ النِّصْفَ الْمُخَصِّصَ يُبَيِّنُ أَنَّ قَدْرَ مَا تَنَاوَلَهُ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ، فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَجُزْ التَّخْصِيصُ بِالْقِيَاسِ ابْتِدَاءً؟ قُلْنَا؛ لِأَنَّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْقِيَاسُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعَامِّ قَطْعًا، وَالْقِيَاسُ يُبَيِّنُ عَدَمَ دُخُولِهِ ظَنًّا فَلَا يُسْمَعُ بِخِلَافِ الْعَامِّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ فَإِنَّهُ أَيْضًا ظَنِّيٌّ، وَالْقِيَاسُ مُؤَيَّدٌ بِمَا يُشَارِكُهُ فِي بَيَانِ عَدَمِ دُخُولِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ يُقَالُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي يُسْنَدُ إلَيْهِ الْقِيَاسُ لَا يَصْلُحُ مُبَيِّنًا لِهَذَا الْعَامِّ لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ شَيْئًا مِنْ أَفْرَادِهِ، فَكَذَا الْقِيَاسُ الْمُسْتَنْبَطُ مِنْهُ لَا يَصْلُحُ مُبَيِّنًا لِلْعَامِّ فَلَوْ اُعْتُبِرَ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُعَارِضًا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ صُلُوحِ الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ التَّنَاوُلِ لِشَيْءٍ مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ، وَالْكَلَامُ فِي الْقِيَاسِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ وَإِلَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ كَوْنُهُ مُخَصِّصًا، فَعَدَمُ صُلُوحِ الْأَصْلِ لِلْبَيَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ صُلُوحِ الْقِيَاسِ لِذَلِكَ، وَأَيْضًا لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الْقِيَاسِ الْمُخَصِّصِ لِلْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ مُخَصِّصًا لِذَلِكَ الْعَامِّ بَلْ إذَا خُصَّ الْعَامُّ بِقَطْعِيٍّ صَارَ ظَنِّيًّا فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إلَى أَصْلٍ لَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ أَفْرَادِ الْعَامِّ. (قَوْلُهُ فَنَظِيرُ الِاسْتِثْنَاءِ مَا إذَا بَاعَ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ بِثَمَنٍ) أَيْ: بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، إذْ لَوْ فَصَّلَ الثَّمَنَ بِأَنْ قَالَ بِعْتُهُمَا بِأَلْفٍ كُلَّ وَاحِدٍ

لَمْ يَدْخُلْ الْحُرُّ تَحْتَ الْإِيجَابِ مَعَ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ تَنَاوَلَهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَا إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ إلَّا هَذَا حَقِيقَةُ الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودَةٌ فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ أَحَدُهُمَا فِي الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ يَصِيرُ الْبَيْعُ فِي الْآخَرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ الْمُقَابِلِ بِهِمَا وَالْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً بَاطِلٌ لِلْجَهَالَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْحِصَّةِ بَقَاءٌ صَحِيحٌ كَمَا يَأْتِي فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ نَظِيرُ النَّسْخِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ فِي الْآخَرِ بَيْعٌ بِشَرْطٍ مُخَالِفٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ أَنَّ قَبُولَ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ وَهُوَ الْحُرُّ أَوْ الْعَبْدُ الْمُسْتَثْنَى يَصِيرُ شَرْطًا لِقَبُولِ الْمَبِيعِ. (وَنَظِيرُ النَّسْخِ مَا إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَبْقَى الْعَقْدُ فِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ) (فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُنَاسِبُ النَّسْخَ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَبْدَ الَّذِي مَاتَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ الْبَيْعِ لَكِنْ لَمَّا مَاتَ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فِيهِ فَصَارَ كَالنَّسْخِ لِأَنَّ النَّسْخَ تَبْدِيلٌ بَعْدَ الثُّبُوتِ فَلَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ مَعَ أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعًا بِالْحِصَّةِ لَكِنْ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الطَّارِئَةَ لَا تُفْسِدُ. (وَنَظِيرُ التَّخْصِيصِ مَا إذَا بَاعَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا صَحَّ إنْ عَلِمَ مَحَلَّ الْخِيَارِ وَثَمَنَهُ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بِالْخِيَارِ يَدْخُلُ فِي الْإِيجَابِ لَا فِي الْحُكْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخَمْسِمِائَةٍ صَحَّ فِي الْعَبْدِ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (قَوْلُهُ لَمْ يَدْخُلْ الْحُرُّ تَحْتَ الْإِيجَابِ) ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الشَّيْءِ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ بِصِفَةِ الْمَالِيَّةِ، وَالتَّقَوُّمِ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْحُرِّ وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ حَيٍّ وَمَيِّتٍ أَوْ بَيْنَ مَيْتَةٍ وَذَكِيَّةٍ أَوْ بَيْنَ خَلٍّ وَخَمْرٍ. (قَوْلُهُ: فَصَارَ الْبَيْعُ بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً) بِأَنْ يُقَسِّمَ الْأَلْفَ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ، وَقِيمَةِ الْحُرِّ بَعْدَ أَنْ يَفْرِضَ عَبْدًا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ، وَقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمُسْتَثْنَى فِي الثَّانِيَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَمِائَةٍ فَحِصَّةُ الْعَبْدِ مِنْ الْأَلْفِ خَمْسُمِائَةٍ عَلَى التَّنَاصُفِ وَصُورَةُ الْبَيْعِ بِالْحِصَّةِ مَا إذَا قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ الْمُوَزَّعِ عَلَى قِيمَتِهِ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ الْعَبْدِ الْآخَرِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَقْتَ الْبَيْعِ. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ يَصِيرُ شَرْطًا) ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِيجَابِ فَقَدْ شَرَطَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبُولُهُ فِي الْآخَرِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي قَبُولَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الِاشْتِرَاطُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِيهِمَا لِئَلَّا يَكُونَ الْمُشْتَرِي مُلْحِقًا لِلضَّرَرِ بِالْبَائِعِ فِي قَبُولِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا، وَمُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا، أَوْ أُمَّ وَلَدٍ يَصِحُّ فِي الْعَبْدِ. قُلْنَا الْكَلَامُ فِي كَوْنِهِ شَرْطًا فَاسِدًا، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِيهِمَا. وَأَمَّا إذَا صَحَّ فَهُوَ شَرْطٌ صَحِيحٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ السُّؤَالِ مَنْعُ الِاشْتِرَاطِ عِنْدَ عَدَمِ صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِيهِمَا وَمَا ذُكِرَ لَا يَدْفَعُ الْمَنْعَ. (قَوْلُهُ: الْعَبْدُ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ دَاخِلٌ فِي الْإِيجَابِ) لِوُرُودِ الْإِيجَابِ

فَصَارَ فِي السَّبَبِ كَالنَّسْخِ، وَفِي الْحُكْمِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَإِذَا جَهِلَ أَحَدُهُمَا لَا يَصِحُّ لِشَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِذَا عَلِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ لِشَبَهِ النَّسْخِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ هُنَا شَبَهُ الِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى يَفْسُدَ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ إذَا بَيَّنَ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَيَانُ مُنَاسَبَتِهَا التَّخْصِيصُ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُشَابِهُ النَّسْخَ بِصِيغَتِهِ، وَالِاسْتِثْنَاءَ بِحُكْمِهِ، وَهُنَا الْعَبْدُ الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ دَاخِلٌ فِي الْإِيجَابِ لَا الْحُكْمِ عَلَى مَا عُرِفَ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْإِيجَابِ يَكُونُ رَدُّهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ تَبْدِيلًا فَيَكُونُ كَالنَّسْخِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ يَكُونُ رَدُّهُ بِخِيَارِ الشَّرْطِ بَيَانَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فَيَكُونُ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَإِذَا كَانَ لَهُ شَبَهَانِ يَكُونُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْعَبْدَيْنِ لَا فِي الْحُكْمِ لِمَا عَرَفْت فِي مَوْضِعِهِ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ الْمِلْكَ عَنْ الثُّبُوتِ لَا السَّبَبَ عَنْ الِانْعِقَادِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَحْقِيقُهُ فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. (قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ) لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِيَارِ وَالثَّمَنُ كِلَاهُمَا مَعْلُومَيْنِ، أَوْ مَحَلُّ الْخِيَارِ مَعْلُومًا وَالثَّمَنُ مَجْهُولًا، أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ كِلَاهُمَا مَجْهُولَيْنِ. مِثَالُ الْأَوَّلِ بَاعَ سَالِمًا وَغَانِمًا بِأَلْفَيْنِ كُلًّا مِنْهُمَا بِأَلْفٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ فِي سَالِمٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِثَالُ الثَّانِي: بَاعَهُمَا بِأَلْفَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي سَالِمٍ. مِثَالُ الثَّالِثِ بَاعَهُمَا بِأَلْفَيْنِ كُلًّا مِنْهُمَا بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا. مِثَالُ الرَّابِعِ بَاعَهُمَا بِأَلْفَيْنِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِثَمَنِ كُلِّ وَاحِدٍ وَلَا لِمَا فِيهِ الْخِيَارُ فَرِعَايَةُ شَبَهِ النَّسْخِ أَعْنِي: كَوْنَ مَحَلِّ الْخِيَارِ دَاخِلًا فِي الْإِيجَابِ تَقْتَضِي صِحَّةَ الْبَيْعِ فِي الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْعَبْدَيْنِ بِالنَّظَرِ إلَى الْإِيجَابِ مَبِيعٌ بَيْعًا وَاحِدًا، فَلَا يَكُونُ بَيْعًا بِالْحِصَّةِ ابْتِدَاءً بَلْ بَقَاءً، وَرِعَايَةُ شَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ أَعْنِي: كَوْنَ مَحَلِّ الْخِيَارِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ تَقْتَضِي فَسَادَ الْبَيْعِ فِي الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فِي الْأُولَى مَعَ جَهَالَةِ الثَّمَنِ فِي الثَّانِيَةِ، وَجَهَالَةِ الْمَبِيعِ فِي الثَّالِثَةِ، وَجَهَالَتِهِمَا فِي الرَّابِعَةِ فَلِرِعَايَةِ الشَّبَهَيْنِ صَحَّ الْبَيْعُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ أَعْنِي: صَحَّ فِي الْأُولَى رِعَايَةً لِشَبَهِ النَّسْخِ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْبَوَاقِي رِعَايَةً لِشَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَوَجْهُ الِاخْتِصَاصِ أَنَّ مَعْلُومِيَّةَ مَحَلِّ الْخِيَارِ، وَالثَّمَنِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّحَّةِ فَيُلَائِمُ شَبَهَ النَّسْخِ الْمُقْتَضِي لِلصِّحَّةِ، وَجَهَالَةُ مَحَلِّ الْخِيَارِ أَوْ الثَّمَنِ أَوْ كِلَيْهِمَا تُرَجِّحُ جَانِبَ الْفَسَادِ فَيُلَائِمُ شَبَهَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ فِي كُلٍّ مِنْ الصُّوَرِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ. أَمَّا فِي الْأُولَى فَلِأَنَّ شَبَهَ الِاسْتِثْنَاءِ أَيْضًا يُوجِبُ صِحَّتَهَا لِكَوْنِهِ اسْتِثْنَاءً مَعْلُومًا. وَأَمَّا فِي الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّ شَبَهَ النَّسْخِ يُوجِبُ لُزُومَ الْعَقْدِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الثَّمَنِ طَارِئَةٌ، وَشَبَهَ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ فَسَادَهُ فَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِالشَّكِّ. وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَيْنِ فَلِأَنَّ شَبَهَ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَشَبَهَ النَّسْخِ يُوجِبُ انْعِقَادَهُ فِي الْعَبْدَيْنِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِالشَّكِّ، وَفِيهِ

كَالتَّخْصِيصِ الَّذِي لَهُ شَبَهٌ بِالنَّسْخِ وَشَبَهٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَلِرِعَايَةِ الشَّبَهَيْنِ قُلْنَا إنْ عَلِمَ مَحَلَّ الْخِيَارِ وَثَمَنَهُ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدِهَا: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِيَارِ وَثَمَنُهُ مَعْلُومَيْنِ كَمَا إذَا بَاعَ هَذَا وَذَاكَ بِأَلْفَيْنِ هَذَا بِأَلْفٍ وَذَاكَ بِأَلْفٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِيَارِ مَعْلُومًا لَكِنَّ ثَمَنَهُ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا. وَالثَّالِثِ: عَلَى الْعَكْسِ. وَالرَّابِعِ: أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُمَا مَعْلُومًا فَلَوْ رَاعَيْنَا كَوْنَهُ دَاخِلًا فِي الْإِيجَابِ يَصِحُّ الْبَيْعُ فِي الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعًا بِالْحِصَّةِ لَكِنَّهُ فِي الْبَقَاءِ لَا فِي الِابْتِدَاءِ فَلَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ، وَلَوْ رَاعَيْنَا كَوْنَهُ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الصُّوَرِ الْأَرْبَعِ. أَمَّا إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَحَلِّ الْخِيَارِ وَثَمَنِهِ مَعْلُومًا فَلِأَنَّ قَبُولَ غَيْرِ الْمَبِيعِ يَصِيرُ شَرْطًا لِقَبُولِ الْمَبِيعِ وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا مَجْهُولًا فَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَلِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ أَوْ كِلَيْهِمَا، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ شَبَهَ النَّسْخِ يُوجِبُ الصِّحَّةَ فِي الْجَمِيعِ، وَشَبَهَ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجِبُ الْفَسَادَ فِي الْجَمِيعِ فَرَاعَيْنَا الشَّبَهَيْنِ، وَقُلْنَا إذَا كَانَ مَحَلُّ الْخِيَارِ أَوْ ثَمَنُهُ مَجْهُولًا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ رِعَايَةً لِشَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَعْلُومًا يَصِحُّ الْبَيْعُ رِعَايَةً لِشَبَهِ النَّسْخِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ هُنَا شَبَهُ الِاسْتِثْنَاءِ حَتَّى يَفْسُدَ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَهُوَ أَنَّ قَبُولَ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ يَصِيرُ شَرْطًا لِقَبُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQنَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَعْنَى شَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ مَحَلَّ الْخِيَارِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ فَيَكُونُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ غَيْرَ مَبِيعٍ فَيَكُونُ قَبُولُهُ شَرْطًا فَاسِدًا مُفْسِدًا لِلْبَيْعِ، وَمَعْلُومِيَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تَدْفَعُ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا جُعِلَ الِاسْتِثْنَاءُ فِي صُورَةِ جَهَالَةِ الثَّمَنِ وَحْدَهُ مُوجِبًا لِلْفَسَادِ مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ هُوَ الِانْعِقَادُ وَالْجَوَازُ إذَا لَمْ تُوضَعْ فِي الشَّرْعِ إلَّا لِذَلِكَ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْفَسَادُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ. (قَوْلُهُ: وَلِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ) فَإِنْ قِيلَ: جَهَالَةُ الثَّمَنِ طَارِئَةٌ بِعَارِضِ الْخِيَارِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فَلَا تَمْنَعُ الْجَوَازَ كَمَا فِي بَيْعِ الْقِنِّ مَعَ الْمُدَبَّرِ أُجِيبُ بِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ لَمَّا انْعَدَمَ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ بِنَصٍّ قَائِمٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهُوَ الْخِيَارُ لَزِمَ انْعِدَامُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِحُكْمِهِ فَصَارَ الْإِيجَابُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ الْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ كَمَا فِي بَيْعِ الْحُرِّ فَيَبْقَى الْإِيجَابُ فِي حَقِّ الْآخَرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ مَعَ الْقِنِّ، فَإِنَّ الْإِيجَابَ تَنَاوَلَهُمَا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ الْحُكْمُ فِيهِ لِضَرُورَةِ صِيَانَةِ حَقِّهِ لَا بِنَصٍّ قَائِمٍ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَيَبْقَى الْإِيجَابُ مُتَنَاوِلًا لَهُ فِيمَا وَرَاءَ هَذِهِ الضَّرُورَةِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ وَقِيلَ: مَحَلُّ الْخِيَارِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ، فَيَصِيرُ الثَّمَنُ مَجْهُولًا مِنْ الِابْتِدَاءِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ، وَالْحُكْمِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، ثُمَّ يَخْرُجُ فَتَحْدُثُ جَهَالَةُ ثَمَنِ الْقِنِّ بِهِ. (قَوْلُهُ: وَلَمْ يُعْتَبَرْ هُنَا) إشَارَةٌ إلَى جَوَابِ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْبَيْعَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ

[فصل في ألفاظ العام]

الْمَبِيعِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ بِأَلْفٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً، وَبَيَّنَ ثَمَنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فِي الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْحُرَّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْبَيْعِ أَصْلًا فَيَصِيرُ كَالِاسْتِثْنَاءِ بِلَا مُشَابَهَةِ النَّسْخِ، فَيَكُونُ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ شَرْطًا لِقَبُولِ الْمَبِيعِ (فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِهِ، وَهِيَ إمَّا عَامٌّ بِصِيغَتِهِ، وَمَعْنَاهُ كَالرِّجَالِ، وَإِمَّا عَامٌّ بِمَعْنَاهُ، وَهَذَا إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَاسِدًا بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَهُوَ صَيْرُورَةُ قَبُولِ مَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ شَرْطًا لِقَبُولِ الْمَبِيعِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَبْدِ مَعَ الْحُرِّ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ كَوْنَ مَحَلِّ الْخِيَارِ غَيْرُ مَبِيعٍ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ شَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْحُكْمِ. وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ شَبَهِ النَّسْخِ فَهُوَ مَبِيعٌ لِكَوْنِهِ دَاخِلًا فِي الْإِيجَابِ، فَيَكُونُ قَبُولُهُ شَرْطًا صَحِيحًا بِخِلَافِ الْحُرِّ أَوْ الْعَبْدِ الْمُصَرَّحِ بِاسْتِثْنَائِهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَبِيعٍ أَصْلًا وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَحَلَّ الْخِيَارِ مَبِيعٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَاعْتُبِرَ فِي صُورَةِ مَعْلُومِيَّةِ مَحَلِّ الْخِيَارِ وَالثَّمَنِ جِهَةُ كَوْنِهِ مَبِيعًا حَتَّى لَا يَفْسُدَ الْبَيْعُ رِعَايَةً لِشَبَهِ النَّسْخِ، وَفِي غَيْرِهَا جِهَةُ كَوْنِهِ غَيْرَ مَبِيعٍ حَتَّى يَفْسُدَ رِعَايَةً لِشَبَهِ الِاسْتِثْنَاءِ. [فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِ الْعَامِّ] (قَوْلُهُ فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِهِ) أَيْ فِي أَلْفَاظِ الْعَامِّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ فَسَّرَ قَوْلَهُ، وَمِنْهَا بِقَوْلِهِ أَيْ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ، وَالْأَوْلَى أَلْفَاظُ الْعُمُومِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ، قَوْلُهُ وَهِيَ (إمَّا لَفْظٌ عَامٌّ بِصِيغَتِهِ، وَمَعْنَاهُ) بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مَجْمُوعًا وَالْمَعْنَى مُسْتَوْعَبًا سَوَاءٌ وُجِدَ لَهُ مُفْرَدٌ مِنْ لَفْظِهِ كَالرِّجَالِ أَوْ لَا كَالنِّسَاءِ، وَإِمَّا عَامًّا بِمَعْنَاهُ فَقَطْ بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُفْرَدًا مُسْتَوْعِبًا لِكُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْعَامُّ عَامًّا بِصِيغَتِهِ فَقَطْ إذْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِيعَابِ الْمَعْنَى، وَهَذَا أَيْ الْعَامُّ بِمَعْنَاهُ فَقَطْ إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ مَجْمُوعَ الْأَفْرَادِ، وَإِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ، وَالْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ إمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَهُ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَالْأَوَّلُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَجْمُوعِ الْآحَادِ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ، وَحَيْثُ يَثْبُتُ لِلْآحَادِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْمَجْمُوعِ كَالرَّهْطِ اسْمٌ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ الرِّجَالِ لَا تَكُونُ فِيهِمْ امْرَأَةٌ وَالْقَوْمُ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ خَاصَّةً فَاللَّفْظُ مُفْرَدٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُثَنَّى، وَيُجْمَعُ، وَيُوَحَّدُ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ إلَيْهِ مِثْلُ: الرَّهْطُ دَخَلَ، وَالْقَوْمُ خَرَجَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْقَوْمَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ قَامَ فَوُصِفَ بِهِ ثُمَّ غَلَبَ عَلَى الرِّجَالِ خَاصَّةً لِقِيَامِهِمْ بِأُمُورِ النِّسَاءِ ذَكَرَهُ فِي الْفَائِقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا تَأْوِيلَ مَا يُقَالُ إنَّ قَوْمًا جَمْعُ قَائِمٍ كَصَوْمٍ جَمْعُ صَائِمٍ، وَإِلَّا فَفِعْلٌ لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَةِ الْجَمْعِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ آحَادِهِ لَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَاحِدٌ حَتَّى لَوْ قَالَ الرَّهْطُ أَوْ الْقَوْمُ الَّذِي يَدْخُلُ هَذَا الْحِصْنُ فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَهُ جَمَاعَةٌ كَانَ النَّقْلُ لِمَجْمُوعِهِمْ، وَلَوْ دَخَلَهُ وَاحِدٌ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَإِنْ قُلْت فَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ كُلَّ وَاحِدٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْوَاحِدِ مِنْهُ فِي مِثْلِ جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَمِنْ شَرْطِهِ دُخُولُ الْمُسْتَثْنَى فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ قُلْت يَصِحُّ

الْمَجْمُوعَ كَالرَّهْطِ، وَالْقَوْمِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ أَوْ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى سَبِيلِ الشُّمُولِ نَحْوُ مَنْ يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ نَحْوُ مَنْ يَأْتِينِي أَوَّلًا فَلَهُ دِرْهَمٌ فَالْجَمْعُ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ يُطْلَقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا) فَقَوْلُهُ يُطْلَقُ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا أَيْ يَصِحُّ إطْلَاقُ اسْمِ الْجَمْعِ، وَالْقَوْمِ، وَالرَّهْطِ عَلَى كُلِّ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَإِذَا أُطْلِقَتْ عَلَى عَدَدٍ مُعَيَّنٍ تَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ فَإِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ عَبِيدٍ مَثَلًا أَوْ عَشَرَةُ عَبِيدٍ فَقَالَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ يُعْتَقُ جَمِيعُ الْعَبِيدِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَةَ فَصَاعِدًا فَإِنَّ هَذَا يُنَافِي مَعْنَى الْعُمُومِ (لِأَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ حَيْثُ إنَّ مَجِيءَ الْمَجْمُوعِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ مَجِيءِ كُلِّ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ فَرْدٍ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِثْلُ يُطِيقُ رَفْعَ هَذَا الْحَجَرِ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَهَذَا كَمَا يَصِحَّ عِنْدِي عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا وَلَا يَصِحُّ الْعَشَرَةُ زَوْجٌ إلَّا وَاحِدًا، وَلَيْسَ الْحُكْمُ عَلَى الْآحَادِ بَلْ عَلَى الْمَجْمُوعِ، وَالثَّانِي أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَمِعًا مَعَ غَيْرِهِ أَوْ مُنْفَرِدًا عَنْهُ مِثْلُ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ فَلَهُ دِرْهَمٌ فَلَوْ دَخَلَهُ وَاحِدٌ اسْتَحَقَّ دِرْهَمًا، وَلَوْ دَخَلَهُ جَمَاعَةٌ مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ اسْتَحَقَّ كُلُّ وَاحِدٍ الدِّرْهَمَ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ بِشَرْطِ الِانْفِرَادِ، وَعَدَمِ التَّعَلُّقِ بِوَاحِدٍ آخَرَ مِثْلُ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ دِرْهَمٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ دَخَلَهُ أَوَّلًا مُنْفَرِدًا اسْتَحَقَّ الدِّرْهَمَ، وَلَوْ دَخَلَهُ جَمَاعَةٌ مَعًا لَمْ يَسْتَحِقُّوا شَيْئًا، وَلَوْ دَخَلُوهُ مُتَعَاقِبِينَ لَمْ يَسْتَحِقَّ إلَّا الْوَاحِدُ السَّابِقُ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ. فَالْحُكْمُ فِي الْأَوَّلِ مَشْرُوطٌ بِالِاجْتِمَاعِ، وَفِي الثَّالِثِ بِالِانْفِرَادِ، وَفِي الثَّانِي غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا. (قَوْلُهُ: فَالْجَمْعُ) مِثْلُ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لِلْمَجْمُوعِ مِثْلُ الرَّهْطِ، وَالْقَوْمِ، وَيَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى أَيِّ عَدَدٍ كَانَ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ يَعْنِي أَنَّ مَفْهُومَهُ جَمِيعُ الْآحَادِ سَوَاءٌ كَانَتْ ثَلَاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً أَوْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الثَّلَاثَةُ وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَرْبَعَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْدَادِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُبْهَمًا غَيْرَ دَالٍّ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَلَا يُوجِبُ الْعُمُومَ بَلْ يُنَافِيهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ شَرْطٌ فِيهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ، وَأَمَّا الْمُنْكَرُ فَسَيَأْتِي ذِكْرُهُ. وَكَذَا سَائِرُ أَسْمَاءِ الْجُمُوعِ، وَإِلَّا فَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الرَّهْطَ اسْمٌ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ مِنْ الْجُمُوعِ، وَأَسْمَائِهَا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ، وَإِنْ كَانَ دُونَ اللَّازِمِ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ كَالرَّهْطِ أَوْ لِلْعَشْرَةِ فَمَا دُونَهَا كَجَمْعِ الْقِلَّةِ مِثْلُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْأَنْفُسِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَأَمَّا تَحْقِيقُ أَنَّ الْمَوْضُوعَ لِلْعُمُومِ هُوَ مَجْمُوعُ الِاسْمِ، وَحَرْفُ التَّعْرِيفِ أَوْ الِاسْمِ بِشَرْطِ التَّعْرِيفِ، وَعَلَى الثَّانِي هَلْ يَصِيرُ مُشْتَرَكًا حَيْثُ وُضِعَ بِدُونِ التَّعْرِيفِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ

أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ) ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ اثْنَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] ، وَالْمُرَادُ اثْنَانِ وقَوْله تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» ، وَلَنَا إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِي اخْتِلَافِ صِيَغِ الْوَاحِدِ، وَالتَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ. (وَلَا نِزَاعَ فِي الْإِرْثِ، وَالْوَصِيَّةِ) فَإِنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ فِيهِمَا اثْنَانِ. (وقَوْله تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] مَجَازٌ كَمَا يُذْكَرُ الْجَمْعُ لِلْوَاحِدِ. (وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَارِيثِ أَوْ عَلَى سُنِّيَّةِ تَقَدُّمِ الْإِمَامِ) فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمُقْتَدِي وَاحِدًا يَقُومُ عَلَى جَنْبِ الْإِمَامِ، وَإِذَا كَانَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا فَالْإِمَامُ يَتَقَدَّمُ (أَوْ عَلَى اجْتِمَاعِ الرُّفْقَةِ بَعْدَ قُوَّةِ الْإِسْلَامِ) فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ ضَعِيفًا نَهَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ أَنْ يُسَافِرَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْوَاحِدُ شَيْطَانٌ، وَالِاثْنَانِ شَيْطَانَانِ، وَالثَّلَاثَةُ رَكْبٌ» فَلَمَّا ظَهَرَ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَنَّ هَذَا الْوَضْعَ لَا شَكَّ أَنَّهُ نَوْعِيٌّ فَكَيْفَ يَكُونُ اللَّفْظُ بِاعْتِبَارِهِ حَقِيقَةً، وَإِنَّ الْحُكْمَ فِي مِثْلِهِ عَلَى كُلِّ جَمْعٍ أَوْ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ، وَأَنَّهُ لِلْأَفْرَادِ الْمُحَقَّقَةِ خَاصَّةً أَوْ الْمُحَقَّقَةِ، وَالْمُقَدَّرَةِ جَمِيعًا، وَأَنَّ مَدْلُولَهُ الِاسْتِغْرَاقُ الْحَقِيقِيُّ أَوْ أَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقِيِّ، وَالْعُرْفِيُّ فَالْكَلَامُ فِيهِ طَوِيلٌ لَا يَحْتَمِلُهُ الْمَقَامُ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ أَقَلّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ) اخْتَلَفُوا فِي أَقَلِّ عَدَدٍ تُطْلَقُ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْجَمْعِ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ، وَالْفُقَهَاءِ، وَأَئِمَّةِ اللُّغَةِ إلَى أَنَّهُ ثَلَاثَةٌ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ نِسَاءً لَا يَحْنَثُ بِتَزَوُّجِ امْرَأَتَيْنِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ اثْنَانِ حَتَّى يَحْنَثُ بِتَزَوُّجِ امْرَأَتَيْنِ، وَتَمَسَّكُوا بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] ، وَالْمُرَادُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ الْأَخَوَيْنِ يَحْجُبَانِ الْأُمَّ إلَى السُّدُسِ كَالثَّلَاثَةِ، وَالْأَرْبَعَةِ، وَكَذَا كُلُّ جَمْعٍ فِي الْمَوَارِيثِ، وَالْوَصَايَا حَتَّى إنَّ فِي الْمِيرَاثِ لِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ كَمَا لِلْأَخَوَاتِ، وَفِي الْوَصِيَّةِ لِلِاثْنَيْنِ مَا أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ فُلَانٍ الثَّانِي قَوْله تَعَالَى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أَيْ قَلْبًا كَمَا إذْ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» ، وَمِثْلُ حُجَّةٍ مِنْ اللُّغَوِيِّ فَكَيْفَ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَتَمَسَّكَ الذَّاهِبُونَ إلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ صِيَغِ الْوَاحِدِ، وَالتَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ فِي غَيْرِ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِمَا سَتَعْرِفُ مِثْلُ: رَجُلٌ رَجُلَانِ رِجَالٌ، وَهُوَ فَعَلَ، وَهُمَا فَعَلَا، وَهُمْ فَعَلُوا، وَأَيْضًا مَا فَوْقَ الِاثْنَيْنِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ مِنْ صِيغَةِ الْجَمْعِ، وَأَيْضًا يَصِحُّ نَفْيُ الْجَمْعِ عَنْ الِاثْنَيْنِ مَا فِي الدَّارِ رِجَالٌ بَلْ رَجُلَانِ وَأَيْضًا يَصِحُّ رِجَالٌ ثَلَاثَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ، وَلَا يَصِحُّ رِجَالٌ اثْنَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوُجُوبِ مُرَاعَاةِ صُورَةِ اللَّفْظِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ، وَالصِّفَةُ كِلَاهُمَا مَثْنًى أَوْ مَجْمُوعًا لِأَنَّ أَسْمَاءَ الْأَعْدَادِ لَيْسَتْ جُمُوعًا، وَلَا لَفْظَ اثْنَانِ مَثْنًى عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَعُمَرُ، وَالْعَامِلَانِ، وَلَا يَصِحُّ الْعَامِلُونَ ثُمَّ أَجَابُوا عَنْ تَمَسُّكَاتِ الْمُخَالِفِ أَمَّا عَنْ الْأَوَّلِ فَبِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فِي بَابِ الْإِرْثِ اسْتِحْقَاقًا، وَحَجْبًا، وَالْوَصِيَّةُ لَكِنْ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ مَوْضُوعَةٌ لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ

رَخَّصَ فِي سَفَرِ اثْنَيْنِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ لِئَلَّا يُخَالِفَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. (وَلَا تَمَسُّكَ لَهُمْ بِنَحْوِ فِعْلِنَا لِأَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ لَا أَنَّ الْمَثْنَى جَمْعٌ) فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِعْلُنَا صِيغَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِالْجَمْعِ، وَيَقَعُ عَلَى اثْنَيْنِ فَعُلِمَ أَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ فَنَقُولُ فِعْلُنَا غَيْرُ مُخْتَصِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لِلِاثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمْعِ أَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَلِأَنَّهُ عُلِمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ كَانَتَا} [النساء: 176] أَيْ مَنْ يَرِثُ بِالْأُخُوَّةِ يَعْنِي الْأُخْتَيْنِ لِأَبٍ، وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ أَنَّ لِلْأُخْتَيْنِ حُكْمَ الْأَخَوَاتِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ مَعَ أَنَّ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ مُتَوَسِّطَةٌ لِكَوْنِهَا قَرَابَةً مُجَاوِرَةً فَيَكُونُ لِلْبِنْتَيْنِ أَيْضًا حُكْمُ الْبَنَاتِ فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثَيْنِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمَا قَرِيبَةٌ لِكَوْنِهَا قَرَابَةَ الْجُزْئِيَّةِ، وَأَيْضًا يُعْلَمُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَظَّ الِابْنِ مَعَ الِابْنَةِ الثُّلُثَانِ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَظَّ الْأُنْثَيَيْنِ أَعْنِي الْبِنْتَيْنِ ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا مُوهِمًا أَنَّ النَّصِيبَ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْعِدَّةِ نَفَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] فَإِنْ قُلْت هَبْ أَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّ حَظَّ الْبِنْتَيْنِ مَعَ الِابْنِ مِثْلُ حَظِّهِ مَعَ الْبِنْتِ لِكَوْنِ مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ حَظَّهُمَا ذَلِكَ بِدُونِ الِابْنِ قُلْت مِنْ حَيْثُ إنَّ الْبِنْتَ الْوَاحِدَةَ لَمَّا اسْتَحَقَّتْ الثُّلُثَ مَعَ أَخٍ لَهَا فَمَعَ أُخْتٍ لَهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَأَمَّا الْحَجْبُ فَلِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْإِرْثِ إذْ الْحَاجِبُ لَا يَكُونُ إلَّا، وَارِثًا بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالْفِعْلِ عَلَى أَنَّ الْحَجْبَ بِالْأَخَوَيْنِ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِعُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حِينَ رَدَّ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ بِالْأَخَوَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] ، وَلَيْسَ الْأَخَوَانِ إخْوَةً فِي لِسَانِ قَوْمِك فَقَالَ عُثْمَانُ نَعَمْ لَكِنْ لَا أَسْتَجِيزُ أَنْ أُخَالِفَهُمْ فِيمَا رَأَوْا، وَرَوَى لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُضَ أَمْرًا كَانَ قَبْلِي، وَتَوَارَثَهُ النَّاسُ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَلِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْهَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ إطْلَاقَ الْجَمْعِ عَلَى الِاثْنَيْنِ مَجَازٌ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ أَوْ تَشْبِيهِ الْوَاحِدِ بِالْكَثِيرِ فِي الْعِظَمِ، وَالْخَطَرِ كَمَا يُطْلَقُ الْجَمْعُ عَلَى الْوَاحِدِ تَعْظِيمًا فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا كَثُرَ مِثْلُ هَذَا الْمَجَازِ أَعْنِي ذِكْرَ الْعُضْوِ الَّذِي لَا يَكُونُ فِي الشَّخْصِ إلَّا وَاحِدًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى الِاثْنَيْنِ مِثْلُ قُلُوبِهِمَا، وَأَنْفُسِهِمَا، وَرُءُوسِهِمَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ اسْتِثْقَالِ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّثْنِيَتَيْنِ مَعَ وُضُوحِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ الِاثْنَانِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُلُوبِ الْمُيُولُ، وَالدَّوَاعِي الْمُخْتَلِفَةُ كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَالَ قَلْبُهُ إلَى جِهَتَيْنِ أَوْ تَرَدَّدَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ ذُو قَلْبَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الثَّالِثِ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَجَبَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ لِلِاثْنَيْنِ حُكْمَ الْجَمْعِ فِي الْمَوَارِيثِ اسْتِحْقَاقًا، وَحَجْبًا

بِالْجَمْعِ بَلْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ لَا أَنَّ الْمَثْنَى جَمْعٌ (فَيَصِحُّ تَخْصِيصُ الْجَمْعِ) تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ فِي حُكْمِ الِاصْطِفَافِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَتَقَدُّمِ الْإِمَامِ عَلَيْهِمَا أَوْ فِي إبَاحَةِ السَّفَرِ لَهُمَا، وَارْتِفَاعِ مَا كَانَ مَنْهِيًّا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مِنْ مُسَافَرٍ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ بِنَاءً عَلَى غَلَبَةِ الْكُفَّارِ أَوْ فِي انْعِقَادِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِهِمَا، وَإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَعْرِيفُ الْأَحْكَامِ دُونَ اللُّغَاتِ عَنْ أَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ لَيْسَ النِّزَاعُ فِي جَمَعَ، وَمَا يُشْتَقُّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ ضَمُّ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي الِاثْنَتَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي صِيَغِ الْجَمْعِ، وَضَمَائِرِهِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ اعْلَمْ أَنَّ النِّزَاعَ فِي نَحْوِ رِجَالٍ، وَمُسْلِمِينَ، وَضَرَبُوا لَا فِي لَفْظِ جَمْعٍ، وَلَا فِي نَحْوِ نَحْنُ فَعَلْنَا، وَلَا فِي نَحْوِ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا فَإِنَّهُ وِفَاقٌ فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ جَوَابًا عَنْ مِثْلِ فَعَلْنَا وَمَعَ ذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَحْمِلَ اشْتِرَاكُهُ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ، وَالْجَمْعِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ دُونَ اللَّفْظِيِّ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمُتَكَلِّمِ مَعَ الْغَيْرِ وَاحِدًا كَانَ الْغَيْرُ أَوْ أَكْثَرَ، وَهَذَا مَفْهُومُ وَاحِدٍ يَصْدُقُ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَةِ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ كَمَا يَصْدُقُ هُمْ فَعَلُوا عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَالْأَرْبَعَةِ، وَمَا فَوْقَهُمَا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ لَفْظٍ، وَتَعَدُّدِ وَضْعٍ وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ مَا قَبْلَ أَنَّ مِثْلَ فِعْلِنَا حَقِيقَةٌ فِي الْجَمْعِ مَجَازٌ فِي الِاثْنَيْنِ وَاكْتَفَى بِهَذَا الْمَجَازِ وَلَمْ يُوضَعْ لِلْمُتَكَلِّمِ مَعَ وَاحِدٍ آخَرَ اسْمٌ خَاصٌّ لِئَلَّا يَكُونَ التَّبَعُ مُزَاحِمًا لِلْأَصْلِ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ يَحْكِي عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنْ غَيْرِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ تَبَعٌ لَهُ فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الصِّيغَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَكَلِّمٍ بِهَذَا الْكَلَامِ حَقِيقَةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْغَيْرُ فَوْقَ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يَتَقَوَّى بِكَثْرَتِهِ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ جَمْعِ الْقِلَّةِ، وَجَمْعِ الْكَثْرَةِ فَدَلَّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هِيَ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ بِمَعْنَى أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ مُخْتَصٌّ بِالْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا، وَجَمْعَ الْكَثْرَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ، وَهَذَا أَوْفَقُ بِالِاسْتِعْمَالَاتِ، وَإِنْ صَرَّحَ بِخِلَافِهِ كَثِيرٌ مِنْ الثِّقَاتِ. (قَوْلُهُ: فَيَصِحُّ تَخْصِيصُ الْجَمْعِ) قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مُنْتَهَى التَّخْصِيصِ فَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ جَمْعٍ يَقْرُبُ مِنْ مَدْلُولِ الْعَامِّ، وَقِيلَ يَجُوزُ إلَى ثَلَاثَةٍ، وَقِيلَ إلَى اثْنَيْنِ، وَقِيلَ إلَى وَاحِدٍ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْعَامَّ إنْ كَانَ جَمْعًا مِثْلُ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءِ أَوْ فِي مَعْنَاهُ مِثْلُ الرَّهْطِ، وَالْقَوْمِ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَى الثَّلَاثَةِ تَفْرِيعًا عَلَى أَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ فَالتَّخْصِيصُ إلَى مَا دُونَهَا يُخْرِجُ اللَّفْظَ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْجَمْعِ فَيَصِيرُ نَسْخًا، وَإِنْ كَانَ مُفْرَدًا كَالرِّجَالِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ كَالنِّسَاءِ فِي لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْفَرْدِ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ وَضْعِ الْمُفْرَدِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْجَمْعَ إنَّمَا يَكُونُ عَامًّا عِنْدَ قَصْدِ الِاسْتِغْرَاقِ عَلَى

[من ألفاظ العام الجمع المعرف باللام]

إنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ، وَالْمُرَادُ التَّخْصِيصُ بِالْمُسْتَقِلِّ. (وَمَا فِي مَعْنَاهُ) كَالرَّهْطِ، وَالْقَوْمِ (إلَى الثَّلَاثَةِ، وَالْمُفْرَدِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى الْجَمْعِ أَيْ الْمُفْرَدُ الْحَقِيقِيُّ. (كَالرَّجُلِ) ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَالْجَمْعِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ (نَحْوُ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ إلَى الْوَاحِدِ) أَيْ يَصِحُّ تَخْصِيصُ الْمُفْرَدِ إلَى الْوَاحِدِ. (وَالطَّائِفَةُ كَالْمُفْرَدِ) بِهَذَا فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] . (وَمِنْهَا) أَيْ أَيْ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ (الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا لِأَنَّ الْمُعَرَّفَ لَيْسَ هُوَ الْمَاهِيَّةَ فِي الْجَمْعِ، وَلَا بَعْضَ الْأَفْرَادِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَتَعَيَّنَ الْكُلُّ) اعْلَمْ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ إمَّا لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ أَوْ الذِّهْنِيِّ، وَإِمَّا لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَإِمَّا لِتَعْرِيفِ الطَّبِيعَةِ لَكِنَّ الْعَهْدَ هُوَ الْأَصْلُ ثُمَّ الِاسْتِغْرَاقُ ثُمَّ تَعْرِيفُ الطَّبِيعَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا تَقَرَّرَ، وَحِينَئِذٍ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي جَمْعِ الْأَفْرَادِ، وَمَجَازٌ فِي الْبَعْضِ، وَكَوْنُ الثَّلَاثَةِ أَقَلَّ الْجَمْعِ إنَّمَا هُوَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ إذْ لَا نِزَاعَ فِي إطْلَاقِهِ عَلَى الِاثْنَيْنِ بَلْ الْوَاحِدُ مَجَازًا كَمَا سَبَقَ وَأَيْضًا النِّزَاعُ فِي الْجَمْعِ الْغَيْرِ الْعَامِّ إذْ الْعَامُّ مُسْتَغْرِقٌ لِلْجَمِيعِ لَا أَقَلَّ، وَلَا أَكْثَرَ فَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِهَذَا التَّفْرِيعِ أَصْلًا. الثَّانِي: إنَّ حَمْلَ الْجَمْعِ عَلَى الْمُفْرَدِ فِي مِثْلِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِغْرَاقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَحِينَئِذٍ لَا عُمُومَ فَلَا تَخْصِيصَ. الثَّالِثُ: إنَّ مَنْ قَالَ لَقِيت كُلَّ رَجُلٍ فِي الْبَلَدِ وَأَكَلْت كُلَّ رُمَّانَةٍ فِي الْبُسْتَانِ ثُمَّ قَالَ أَرَدْت وَاحِدًا عُدَّ لَاغِيًا عُرْفًا، وَعَقْلًا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ نَفْسَ الصِّيغَةِ لِلْجَمْعِ، وَالْعُمُومُ عَارِضٌ بِاللَّامِ، وَالتَّخْصِيصُ إنَّمَا يَرْفَعُ الْعُمُومَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مَدْلُولُ الصِّيغَةِ، وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُتَعَذِّرَ حَمْلُ اللَّازِمِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فَيَكُونُ الِاسْمُ لِلْجِنْسِ، وَنَفْيُهُ يَكُونُ نَفْيًا لِجَمِيعِ الْأَفْرَادِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً، وَهُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّفْيِ، وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصِّحَّةِ لُغَةً. (قَوْلُهُ، وَالْمُرَادُ التَّخْصِيصُ بِالْمُسْتَقِلِّ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُسْتَقِلٍّ فَهَذَا تَأْكِيدٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ حَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ قَصْرَ الْعَامِّ عَلَى الْبَعْضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَنَحْوِهِ، وَيَجُوزُ إلَى الْوَاحِدِ فِي الْجَمْعِ أَيْضًا نَحْوُ أَكْرِمْ الرِّجَالَ إلَّا الْجُهَّالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَالِمُ إلَّا وَاحِدًا. (قَوْلُهُ، وَالطَّائِفَةُ كَالْمُفْرَدِ) يَعْنِي أَنَّهُ اسْمٌ لِلْوَاحِدَةِ فَمَا فَوْقَهُ كَمَا فَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِقِطْعَةٍ مِنْ الشَّيْءِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، وَقُبِلَ لِأَنَّهُ مُفْرَدٌ انْضَمَّتْ إلَيْهِ عَلَامَةُ الْجَمَاعَةِ أَعْنِي التَّاءَ فَرُوعِيَ الْمَعْنَيَانِ، وَفِي الْكَشَّافِ: الطَّائِفَةُ الْفِرْقَةُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَلْقَةً، وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ صِفَةٌ غَالِبَةٌ كَأَنَّهَا الْجَمَاعَةُ الْحَافَّةُ حَوْلَ الشَّيْءِ فَمَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْجَمْعِ كَالرَّهْطِ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْرَدِ فَيُصْبِحُ تَخْصِيصُهَا إلَى الْوَاحِدِ [مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ] (قَوْلُهُ، وَمِنْهَا الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ) اُسْتُدِلَّ عَلَى عُمُومِهِ بِالْمَعْقُولِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالِاسْتِعْمَالِ، وَتَقْرِيرُ الْأَخِيرِينَ ظَاهِرٌ

يَدْخُلُ عَلَيْهِ اللَّامُ دَالٌّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بِدُونِ اللَّامِ فَحَمْلُ اللَّامِ عَلَى الْفَائِدَةِ الْجَدِيدَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى تَعْرِيفِ الطَّبِيعَةِ، وَالْفَائِدَةِ الْجَدِيدَةِ أَمَّا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ أَوْ اسْتِغْرَاقُ الْجِنْسِ، وَتَعْرِيفُ الْعَهْدِ أَوْلَى مِنْ الِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّهُ إذَا ذَكَرَ بَعْضَ أَفْرَادِ الْجِنْسِ خَارِجًا أَوْ ذِهْنًا فَحَمْلُ اللَّامِ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ الْمَذْكُورِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ لِأَنَّ الْبَعْضَ مُتَيَقَّنٌ، وَالْكُلَّ مُحْتَمَلٌ فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَفِي الْجَمْعِ الْمُحَلَّى، بِالْأَلِفِ، وَاللَّامِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ عَلَى تَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ الْجَمْعَ وُضِعَ لِأَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ لَا لِلْمَاهِيَّةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ لِكُلٍّ يُحْمَلُ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي هَذِهِ الصَّفْحَةِ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعَهْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ فَقَوْلُهُ، وَلَا بَعْضَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَقْرِيرُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ قَدْ يَكُونُ نَفْسَ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْأَفْرَادِ مِثْلُ الرَّجُلِ خَيْرٌ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ يَكُونُ حِصَّةً مُعَيَّنَةً مِنْهَا وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ مِثْلُ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ الرَّجُلُ كَذَا، وَقَدْ يَكُونُ حِصَّةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ مِنْهَا لَكِنْ بِاعْتِبَارِ عَهْدِيَّتِهَا فِي الزَّمَنِ مِثْلُ أَدْخُلُ السُّوقَ، وَقَدْ يَكُونُ جَمِيعُ أَفْرَادِهَا مِثْلَ {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] ، وَاللَّامُ بِالْإِجْمَاعِ لِلتَّعْرِيفِ، وَمَعْنَاهُ الْإِشَارَةُ، وَالتَّعْيِينُ، وَالتَّمْيِيزُ، وَالْإِشَارَةُ إمَّا إلَى حِصَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَإِمَّا إلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُفْتَقَرُ إلَى اعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ، وَهُوَ تَعْرِيفُ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَاهِيَّةِ، وَالطَّبِيعَةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ تُوجَدَ فِيهِ قَرِينَةُ الْبَعْضِيَّةِ كَمَا فِي أَدْخُلُ السُّوقَ، وَهُوَ الْعَهْدُ الذِّهْنِيُّ أَوَّلًا، وَهُوَ الِاسْتِغْرَاقُ احْتِرَازًا عَنْ تَرْجِيحِ بَعْضِ الْمُتَسَاوِيَاتِ فَالْعَهْدُ الذِّهْنِيُّ، وَالِاسْتِغْرَاقُ مِنْ فُرُوعِ تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّ اللَّامَ لِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ، وَالْحَقِيقَةِ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّ الْقَوْمَ أَخَذُوا بِالْحَاصِلِ، وَجَعَلُوهُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ تَوْضِيحًا، وَتَسْهِيلًا إذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَنَقُولُ الْأَصْلُ أَيْ الرَّاجِحُ هُوَ الْعَهْدُ الْخَارِجِيُّ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ التَّعْيِينِ، وَكَمَالُ التَّمْيِيزُ ثُمَّ الِاسْتِغْرَاقُ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ جِدًّا، وَالْعَهْدُ الذِّهْنِيُّ مَوْقُوفٌ عَلَى وُجُودِ قَرِينَةِ الْبَعْضِيَّةِ فَالِاسْتِغْرَاقُ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْإِطْلَاقِ حَيْثُ لَا عَهْدَ فِي الْخَارِجِ خُصُوصًا فِي الْجَمْعِ فَإِنَّ الْجَمْعِيَّةَ قَرِينَةُ الْقَصْدِ إلَى الْأَفْرَادِ دُونَ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ هَذَا مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ نَظَرٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَهْدَ الذِّهْنِيَّ مُقَدَّمًا عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَعْضَ مُتَيَقَّنٌ وَهَذَا مُعَارَضٌ بِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ أَعَمُّ فَائِدَةً، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي الشَّرْعِ، وَأَحْوَطَ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ أَعْنِي الْإِيجَابَ وَالنَّدْبَ، وَالتَّحْرِيمَ، وَالْكَرَاهَةَ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ أَحْوَطَ فِي الْإِبَاحَةِ، وَمَنْقُوضًا بِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُوجَدُ فَرْدٌ بِدُونِ الْمَاهِيَّةِ، وَقَدْ جَعَلَهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الِاسْتِغْرَاقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً جَدِيدَةً زَائِدَةً عَلَى

الْأَفْرَادِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ إشَارَةٌ. (إلَى هَذَا فَتَعَيَّنَ الِاسْتِغْرَاقُ، وَلِتَمَسُّكِهِمْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ) لَمَّا، وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخِلَافَةِ، وَقَالَ الْأَنْصَارُ مِنَّا أَمِيرٌ، وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ تَمَسَّكَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ. (وَلِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ مَشَايِخُنَا هَذَا الْجَمْعُ) أَيْ الْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ (مَجَازٌ عَنْ الْجِنْسِ، وَتَبْطُلُ الْجَمْعِيَّةُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ يَحْنَثُ بِالْوَاحِدَةِ، وَيُرَادُ الْوَاحِدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ لِزَيْدٍ، وَلِلْفُقَرَاءِ نُصِّفَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يُفِيدُهُ الِاسْمُ بِدُونِ اللَّامِ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سَلِمَ فَمَنْقُوضٌ بِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ الْفَائِدَةِ فِيهِ أَظْهَرُ لِأَنَّ دَلَالَةَ النَّكِرَةِ عَلَى حِصَّةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَعْهُودَ الذِّهْنِيَّ فِي الْمَعْنَى كَالنَّكِرَةِ فَإِنْ قِيلَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَهْدِيَّةُ فِي الذِّهْنِ فَيَتَمَيَّزُ عَنْ النَّكِرَةِ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ فِي تَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ حُضُورُهَا فِي الذِّهْنِ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهَا لِيَتَمَيَّزَ عَنْ اسْمِ الْجِنْسِ النَّكِرَةِ مِثْلُ رَجَعَ رَجْعِيٌّ، وَرَجَعَ الرَّجْعِيُّ، وَبِالْجُمْلَةِ تَوَقَّفَ الْعَهْدُ الذِّهْنِيُّ عَلَى قَرِينَةِ الْبَعْضِيَّةِ، وَعَدَمِ الِاسْتِغْرَاقِ مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا حَيْثُ مَثَّلَ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ الِاسْتِغْرَاقِ بِنَحْوِ أَكَلْت الْخُبْزَ، وَشَرِبْت الْمَاءَ إذْ لَا نَعْنِي بِالْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ إلَّا مِثْلَ ذَلِكَ مِمَّا تَدُلُّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ لِلْفَرْدِ دُونَ نَفْسِ الْحَقِيقَةِ، وَلِلْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ، وَلِلْمُبْهَمِ دُونَ الْمُعَيَّنِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا تَعْرِيفَ الْمَاهِيَّةِ فَلَيْتَ شِعْرِي مَا مَعْنَى الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ الْمُقَدَّمِ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَمَا اسْمُ تَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ حَيْثُ لَا يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى الْأَفْرَادِ كَمَا فِي قَوْلِنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ. (قَوْلُهُ: وَلِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ) فَإِنْ قِيلَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا اسْمَ عَدَدٍ مِثْلُ عِنْدِي عَشْرَةٌ إلَّا وَاحِدًا، وَاسْمَ عَلَمٍ مِثْلُ كَسَوْت زَيْدًا إلَّا رَأْسَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلُ صُمْت هَذَا الشَّهْرَ إلَّا يَوْمَ كَذَا، وَأَكْرَمْت هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ إلَّا زَيْدًا فَلَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ دَلِيلَ الْعُمُومِ أُجِيبَ عَنْهُ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ صِيغَةَ عُمُومٍ بِاعْتِبَارِهَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ جَمْعٌ مُضَافٌ إلَى الْمَعْرِفَةِ أَيْ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الْعَشَرَةِ، وَأَعْضَاءِ زَيْدٍ، وَأَيَّامِ هَذَا الشَّهْرِ، وَآحَادِ هَذَا الْجَمْعِ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ مُتَعَدِّدٍ غَيْرِ مَحْصُورٍ دَلِيلُ الْعُمُومِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ يَجِبُ أَنْ يَشْتَمِلَ الْمُسْتَثْنَى، وَغَيْرَهُ بِحَسَبِ الدَّلَالَةِ لِيَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ لِإِخْرَاجِهِ، وَمَنْعِهِ عَنْ الدُّخُولِ تَحْتَ الْحُكْمِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ التَّعَدُّدِ فَإِنْ كَانَ مَحْصُورًا شَامِلًا لِلْمُسْتَثْنَى شُمُولَ الْعَشَرَةِ لِلْوَاحِدِ، وَزَيْدٍ لِلرَّأْسِ، وَالشَّهْرِ لِلْيَوْمِ، وَالْجَمَاعَةِ الَّتِي فِيهِمْ زَيْدٌ لِزَيْدٍ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِغْرَاقِهِ لِيَتَنَاوَلَ الْمُسْتَثْنَى، وَغَيْرَهُ فَيَصِحُّ إخْرَاجُهُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِثْنَاءُ

بَيْنَهُ، وَبَيْنَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ مَجَازٌ عَنْ الْجِنْسِ. (وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ، وَلَيْسَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ) ، وَإِنَّمَا قَالَ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ أَمَّا فِي قَوْلِهِ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَلِأَنَّ الْيَمِينَ لِلْمَنْعِ، وَتَزَوُّجُ جَمِيعِ نِسَاءِ الدُّنْيَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَمَنْعُهُ يَكُونُ لَغْوًا، وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] لَا يُمْكِنُ صَرْفُ الصَّدَقَاتِ إلَى جَمِيعِ فُقَرَاءِ الدُّنْيَا فَلَا يَكُونُ الِاسْتِغْرَاقُ مُرَادًا فَيَكُونُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ مَجَازًا فَتَكُونُ الْآيَةُ لِبَيَانِ مَصْرِفِ الزَّكَاةِ. (فَتَبْقَى الْجَمْعِيَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْجِنْسِ لَبَطَلَ اللَّامُ أَصْلًا) أَيْ إذَا كَانَ اللَّامُ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ بَاقٍ فِي الْجِنْسِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ تَضَمُّنًا فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَرْفُ اللَّامِ مَعْمُولٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ لَا مَا هُوَ مِنْ أَجْزَائِهِ كَمَا فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُقَالُ فَالْمُسْتَثْنَى فِي مِثْلِ جَاءَنِي الرِّجَالُ إلَّا زَيْدًا لَيْسَ مِنْ الْأَفْرَادِ لِأَنَّ أَفْرَادَ الْجَمْعِ جُمُوعٌ لَا آحَادٌ لِأَنَّا نَقُولُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ الْغَيْرِ الْمَحْصُورِ إنَّمَا هُوَ عَنْ الْآحَادِ دُونَ الْجَمْعِ بِشَهَادَةِ الِاسْتِقْرَاءِ، وَالِاسْتِعْمَالِ أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ أَفْرَادُ مَدْلُولِ أَصْلِ اللَّفْظِ، وَهُوَ هَاهُنَا الرَّجُلُ. (قَوْلُهُ قَالَ مَشَايِخُنَا) الْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ مَجَازٌ عَنْ الْجِنْسِ، وَهَذَا مَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ فِي مِثْلِ فُلَانٍ يَرْكَبُ الْخَيْلَ، وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ الْبِيضَ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ لِلْقَطْعِ بِأَنْ لَيْسَ الْقَصْدُ إلَى عَهْدٍ أَوْ اسْتِغْرَاقٍ فَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَلَا يَشْتَرِي الْعَبِيدَ، أَوْ لَا يُكَلِّمُ النَّاسَ يَحْنَثُ بِالْوَاحِدِ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ حَقِيقَةٌ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّلَاثَةِ فِي الْجَمْعِ حَتَّى إنَّهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الرِّجَالِ غَيْرُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَتْ حَقِيقَةُ الْجِنْسِ مُتَحَقِّقَةً، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِكَثْرَةِ أَفْرَادِهِ، وَالْوَاحِدُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ فَيَعْمَلُ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَعَدَمِ الِاسْتِغْرَاقِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْعُمُومَ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْنَثُ قَطُّ، وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً، وَقَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ، وَالْيَمِينُ يَنْعَقِدُ لِأَنَّ تَزَوُّجَ جَمِيعِ النِّسَاءِ مُتَصَوَّرٌ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ قَضَاءً لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَصَارَ كَأَنَّهُ نَوَى الْمَجَازَ ثُمَّ هَذَا الْجِنْسُ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ يُخَصُّ فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا إذَا حَلَفَ يَرْكَبُ الْخَيْلَ يَحْصُلُ الْبِرُّ بِرُكُوبِ وَاحِدٍ، وَيَعُمُّ فِي النَّفْيِ مِثْلُ لَا تَحِلُّ لَك النِّسَاءُ أَيْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ جِنْسَ الصَّدَقَةِ لِجِنْسِ الْفَقِيرِ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى وَاحِدٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِغْرَاقَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ صَدَقَةٍ لِكُلِّ فَقِيرٍ لَا يُقَالُ بَلْ الْمَعْنَى أَنَّ جَمْعَ الصَّدَقَاتِ لِجَمِيعِ الْفُقَرَاءِ، وَمُقَابَلَةُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ بِالْآحَادِ لَا ثُبُوتَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ هَذَا مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ فَالْمَطْلُوبُ حَاصِلٌ، وَهُوَ جَوَازُ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَى فَقِيرٍ وَاحِدٍ. (قَوْلُهُ: فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ) ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ

وَمَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ بَاقٍ مِنْ وَجْهٍ، وَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَتَبْقَى الْجَمْعِيَّةُ عَلَى حَالِهَا يَبْطُلُ اللَّامُ بِالْكُلِّيَّةِ فَحَمْلُهُ عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ، وَإِبْطَالِ الْجَمْعِيَّةِ مِنْ وَجْهٍ أَوْلَى، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَابِ مُوجِبِ الْأَمْرِ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، وَالتَّكْرَارِ لِأَنَّا إذَا أَبْقَيْنَاهُ جَمْعًا لَغَا حَرْفَ الْعَهْدِ أَصْلًا إلَى آخِرِهِ فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَبْحَاثِ أَنَّ مَا قَالُوا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ مَجَازًا مُقَيَّدٌ بِصُوَرٍ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْعَهْدِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَمَا فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا الْجَمْعُ لِلْجِنْسِ حَرْفُ اللَّامِ مَعْمُولٌ لِدَلَالَتِهِ عَلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ أَيْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْأَجْنَاسِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ بَاقٍ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ الْجِنْسَ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ تَضَمُّنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ كُلِّيٌّ لَا تُمْنَعُ شَرِكَةُ الْكَثِيرِ فِيهِ لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْكَثْرَةَ جُزْءُ مَفْهُومِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ يَتَضَمَّنُ الْجَمْعَ فَمَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّكَثُّرُ بَاقٍ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْ بَطَلَ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ صَحَّ الْحَمْلُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْجَمْعِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ عَهْدِيَّتِهِ، وَحُضُورِهِ فِي الذِّهْنِ فَيَكُونُ اللَّامُ مَعْمُولًا، وَالْجَمْعِيَّةُ بَاقِيَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُقَالُ الْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَعْهُودٌ لِأَنَّا نَقُولُ تَقْدِيرُ عَدَمِ الْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ تَقْدِيرٌ بَاطِلٌ لِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ عُلِمَ مَدْلُولُهُ جَازَ تَعْرِيفُهُ بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ إلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا حَاضِرَةٌ فِي الذِّهْنِ فَحِينَئِذٍ لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، وَالصَّحِيحُ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ الْجَمْعِ مَجَازًا عَنْ الْجِنْسِ التَّمَسُّكُ بِوُقُوعِهِ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} [الأحزاب: 52] ، وَقَوْلُهُمْ فُلَانٌ يَرْكَبُ الْخَيْلَ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا مَعْنَى فَخْرِ الْإِسْلَامِ) عِبَارَتُهُ أَنَّ مِثْلَ لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ لَا أَشْتَرِي الثِّيَابَ يَقَعُ عَلَى الْأَقَلِّ، وَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ لِأَنَّ هَذَا جَمْعٌ صَارَ مَجَازًا عَنْ اسْمِ الْجِنْسِ لِأَنَّا إذَا أَبْقَيْنَاهُ جَمْعًا لَغَا حَرْفُ الْعَهْدِ أَصْلًا، وَإِذَا جَعَلْنَاهُ جِنْسًا بَقِيَ حَرْفُ اللَّامِ لِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَبَقِيَ مَعْنَى الْجَمْعِ فِي الْجِنْسِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ الْجِنْسُ أَوْلَى. (قَوْلُهُ: فَعُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْأَبْحَاثِ) لَا شَكَّ أَنَّ حَمْلَ الْجَمْعِ عَلَى الْجِنْسِ مُجَاوِزٌ وَعَلَى الْعَهْدِ أَوْ الِاسْتِغْرَاقِ حَقِيقَةً، وَلَا مَسَاغَ لِلْخُلْفِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَتْ خَالِعْنِي عَلَى مَا فِي يَدَيْ مِنْ الدَّرَاهِمِ، وَلَا شَيْءَ فِيهَا لَزِمَهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ أَوْ الشُّهُورَ يَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ عِنْدَهُ، وَعَلَى الْأُسْبُوعِ، وَالسَّنَةِ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ أَمْكَنَ الْعَهْدُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ فَلِهَذَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] إنَّهُ لِلِاسْتِغْرَاقِ دُونَ الْجِنْسِ، وَأَنَّ الْمَعْنَى لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ بَصَرٍ، وَهُوَ سَلْبُ الْعُمُومِ أَيْ نَفْيُ الشُّمُولِ، وَرَفْعُ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ فَيَكُونُ سَلْبًا جُزْئِيًّا، وَلَيْسَ الْمَعْنَى لَا يُدْرِكُهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَبْصَارِ لِيَكُونَ عُمُومُ السَّلْبِ أَيْ شُمُولُ النَّفْيِ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَكُونُ سَلْبًا كُلِّيًّا لَا يُقَالُ كَمَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ فِي الْإِثْبَاتِ

قَوْله تَعَالَى {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فَإِنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا إنَّهُ لِسَلْبِ الْعُمُومِ لَا لِعُمُومِ السَّلْبِ فَجَعَلُوا اللَّامَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسَ. (وَالْجَمْعُ الْمُعَرَّفُ بِغَيْرِ اللَّامِ نَحْوُ عَبِيدِي أَحْرَارٌ عَامٌّ أَيْضًا لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْجَمْعِ الْمُنْكَرِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ عَامٍّ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ عَامٌّ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، وَالنَّحْوِيُّونَ حَمَلُوا إلَّا عَلَى غَيْرِهِ) . (وَمِنْهَا الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَعْهُودِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 - 3] ـــــــــــــــــــــــــــــQلِإِيجَابِ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ كَذَلِكَ هُوَ فِي النَّفْيِ لِسَلْبِ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ فَرْدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32] {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6] لِأَنَّا نَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لِلْجِنْسِ وَالْجِنْسُ فِي النَّفْيِ يَعُمُّ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّهَا لَا تَعُمُّ الْأَحْوَالَ، وَالْأَوْقَاتَ، وَبِأَنَّ الْإِدْرَاكَ بِالْبَصَرِ أَخَصُّ مِنْ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ نَفْيُهَا. (قَوْلُهُ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ} [الحجر: 42] فَإِنْ قِيلَ صِحَّةُ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْعُمُومِ فَإِثْبَاتُ الْعُمُومِ بِهَا دَوْرٌ قُلْنَا يَثْبُتُ الْعِلْمُ بِالْعُمُومِ بِوُقُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِالِاسْتِعْمَالِ وَالْإِجْمَاعِ (قَوْلُهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْجَمْعِ الْمُنْكَرِ) لَا شَكَّ فِي عُمُومِهِ بِمَعْنَى انْتِظَامِ جَمْعٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْعُمُومِ بِوَصْفِ الِاسْتِغْرَاقِ فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ لِأَنَّ رِجَالًا فِي الْجُمُوعِ كَرَجُلٍ فِي الْوِجْدَانِ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ جَمْعٍ كَمَا يَصِحُّ إطْلَاقُ رَجُلٍ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَكُونُ عَامًّا لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْكِنْ لِلِاسْتِغْرَاقِ لَكَانَ لِلْبَعْضِ، وَلَا قَائِلَ بِهِ إذْ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى الْكُلِّ حَقِيقَةً، وَلِأَنَّ فِي حَمْلِهِ عَلَى مَا دُونَ الْكُلِّ إجْمَالًا لِاسْتِوَاءِ جَمِيعِ الْمَرَاتِبِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْأَقَلِّ لِتَيَقُّنِهِ أَوْ عَلَى الْكُلِّ لِكَثْرَةِ فَائِدَتِهِ، وَهَذَا أَقْرَبُ لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ بِالْعُمُومِ، وَالشُّمُولِ أَنْسَبُ، وَلِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ إطْلَاقُهُ عَلَى كُلِّ مَرْتَبَةٍ مِنْ مَرَاتِبِ الْجُمُوعِ فَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ حَمْلٌ عَلَى جَمِيعِ حَقَائِقِهِ فَكَانَ أَوْلَى وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ بَلْ صِفَةٌ، وَلَوْ كَانَ اسْتِثْنَاءً لَوَجَبَ نَصْبُهُ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ الِاسْتِغْرَاقِ لَا يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ عَدَمِهِ لِتَلْزَمَ الْبَعْضِيَّةُ بَلْ هُوَ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْكُلِّ، وَالْبَعْضِ، وَعَنْ الثَّالِثِ، وَالرَّابِعِ أَنَّهُ إثْبَاتُ اللُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ إيهَامٌ كَمَا فِي رَجُلٍ لَا إجْمَالَ إذْ يُعْرَفُ أَنَّ مَعْنَاهُ جَمْعٌ مِنْ الرِّجَالِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ تَعْيِينَ عَدَدِهِ وَمَا ذُكِرَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقَائِقِ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ مَرْتَبَةٍ وَضْعًا عَلَى حِدَةٍ لِيَكُونَ مُشْتَرَكًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَفْهُومِ الْأَعَمِّ الصَّادِقِ عَلَى كُلِّ

[من ألفاظ العام المفرد المحلى باللام]

وقَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] إلَّا أَنْ تَدُلَّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ نَحْوُ أَكَلْت الْخُبْزَ، وَشَرِبْت الْمَاءَ) ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ إلَى الْقَرِينَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّامِ الْعَهْدُ ثُمَّ الِاسْتِغْرَاقُ ثُمَّ تَعْرِيفُ الْمَاهِيَّةِ. (وَمِنْهَا النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] فِي جَوَابِ {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] وَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّهُمْ قَالُوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لِلسَّلْبِ الْكُلِّيِّ لَمْ يَسْتَقِمْ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91] . (وَلِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ إذَا كَانَ) أَيْ الشَّرْطُ (مُثْبَتًا عَامًّا فِي طَرَفِ النَّفْيِ فَإِنْ قَالَ: إنْ ضَرَبْت رَجُلًا فَكَذَا مَعْنَاهُ لَا أَضْرِبُ رَجُلًا لِأَنَّ الْيَمِينَ لِلْمَنْعِ هُنَا) اعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ إمَّا لِلْحَمْلِ أَوْ لِلْمَنْعِ فَفِي قَوْلِهِ إنْ ضَرَبْت رَجُلًا فَعَبْدِي حُرٌّ الْيَمِينُ لِلْمَنْعِ فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ لَا أَضَرِبُ رَجُلًا فَشَرْطُ الْبِرِّ أَنْ لَا يَضْرِبَ أَحَدًا مِنْ الرِّجَالِ فَيَكُونُ لِلسَّلْبِ الْكُلِّيِّ فَيَكُونُ عَامًّا فِي طَرَفِ النَّفْيِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَرْتَبَةٍ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فَهُوَ قَوْلٌ بِعَدَمِ الِاسْتِغْرَاقِ [مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ] (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْمُفْرَدُ الْمُحَلَّى بِاللَّامِ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَهْدِ الْخَارِجِيِّ فَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ إلَّا أَنْ تَدُلَّ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّهُ لِنَفْسِ الْمَاهِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِنَا الْإِنْسَانُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ أَوْ لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ كَمَا فِي أَكَلْت الْخُبْزَ، وَشَرِبْت الْمَاءَ فَإِنَّهُ لِلْبَعْضِ الْخَارِجِيِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ، وَهُوَ الْخُبْزُ، وَالْمَاءُ الْمُقَدَّرُ فِي الذِّهْنِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ، وَيُشْرَبُ، وَهُوَ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ كَذَا ذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ وَالْمُصَنِّفُ جَعَلَهُ لِتَعْرِيفِ الْمَاهِيَّةِ فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَعْهُودِ الذِّهْنِيِّ الْمُقَدَّمَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ مَا لَمْ يُسْبَقْ ذِكْرُهُ كَقَوْلِك لِلْغُلَامِ قَدْ دَخَلْت الْبَلَدَ، وَتَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ سُوقًا أَدْخُلُ السُّوقَ إشَارَةً إلَى سُوقِ الْبَلَدِ، وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مَعْهُودٌ خَارِجِيٌّ لِكَوْنِهِ إشَارَةً إلَى مُعَيَّنٍ. (قَوْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2 - 3] وقَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] أَيْ الَّذِي سَرَقَ، وَاَلَّتِي سَرَقَتْ نَبَّهَ بِالْمِثَالَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّامِ هَاهُنَا أَعَمُّ مِنْ حَرْفِ التَّعْرِيفِ، وَاسْمُ الْمَوْصُولِ مَعَ مَا فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الصِّيغَةِ لِلْعُمُومِ [مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ] (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا) أَيْ، وَمِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ النَّكِرَةُ الْوَاقِعَةُ فِي مَوْضِعٍ، وَرَدَ فِيهِ النَّفْيُ بِأَنْ يَنْسَحِبَ عَلَيْهَا حُكْمُ النَّفْيِ فَيَلْزَمُهَا الْعُمُومُ ضَرُورَةَ أَنَّ انْتِفَاءَ فَرْدٍ مُبْهَمٍ لَا يَكُونُ إلَّا بِانْتِفَاءِ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِالنَّكِرَةِ الْوَاحِدُ بِصِفَةِ الْوَاحِدَةِ فَيَرْجِعُ النَّفْيُ إلَى الْوَصْفِ فَلَا تَعُمُّ مِثْلُ مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ بَلْ رَجُلَانِ أَمَّا إذَا كَانَتْ مَعَ مِنْ ظَاهِرَةٍ أَوْ مُقَدَّرَةٍ كَمَا فِي مَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ فَهُوَ لِلْعُمُومِ قَطْعًا، وَلِهَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إنَّ قِرَاءَةَ {لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] بِالْفَتْحِ تُوجِبُ الِاسْتِغْرَاقَ، وَبِالرَّفْعِ تُجَوِّزُهُ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى عُمُومِ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]

الشَّرْطُ مُثْبَتًا حَتَّى لَوْ كَانَ الشَّرْطُ مَنْفِيًّا لَا يَكُونُ عَامًّا كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ أَضْرِبْ رَجُلًا فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَعْنَاهُ أَضْرِبُ رَجُلًا فَشَرْطُ الْبِرِّ ضَرْبُ أَحَدٍ مِنْ الرِّجَالِ فَيَكُونُ لِلْإِيجَابِ الْجُزْئِيِّ. (وَكَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، وَتَبْكِيتٍ بِمَعْنَى أَنْزَلَ اللَّهُ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَأَنْتُمْ مُعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ فَهُوَ إيجَابٌ جُزْئِيٌّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَعَلُّقَ الْحُكْمِ بِفَرْدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الشَّيْءِ تَعَلُّقٌ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ ضَرُورَةً، وَقَدْ قُصِدَ بِهِ إلْزَامُ الْيَهُودِ، وَرُدَّ قَوْلِهِمْ {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91] فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْبَشَرِ شَيْئًا مِنْ الْكُتُبِ عَلَى أَنَّهُ سَلْبٌ كُلِّيٌّ لِيَسْتَقِيمَ رَدُّهُ بِالْإِيجَابِ الْجُزْئِيِّ إذْ الْإِيجَابُ الْجُزْئِيُّ لَا يُنَافِي السَّلْبَ الْجُزْئِيَّ مِثْلُ أَنْزَلَ اللَّهُ بَعْضَ الْكُتُبِ عَلَى بَعْضِ الْبَشَرِ، وَلَمْ يُنَزِّلْ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا قَالَ الْإِيجَابُ، وَالسَّلْبُ دُونَ الْمُوجِبَةِ، وَالسَّالِبَةِ لِأَنَّ الْكُلِّيَّةَ، وَالْبَعْضِيَّةَ هُنَا لَيْسَتْ فِي جَانِبِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بَلْ فِي مُتَعَلِّقَاتِ الْحُكْمِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ قَوْلَنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ تَوْحِيدٍ إجْمَاعًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ صَدْرُ الْكَلَامِ نَفْيًا لِكُلِّ مَعْبُودٍ بِحَقٍّ لَمَا كَانَ إثْبَاتُ الْوَاحِدِ الْحَقِّ تَعَالَى تَوْحِيدًا، وَلِلْإِشَارَةِ إلَى هَذَا التَّقْرِيرِ قَالَ: وَلِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ دُونَ أَنْ يَقُولَ، وَلِقَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ لِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ قُلْت لِمَا فَسَّرْت الْإِلَهَ بِالْمَعْبُودِ بِحَقٍّ لَزِمَ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَيْضًا اسْمٌ لِلْمَعْبُودِ بِالْحَقِّ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ قُلْت مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَمٌ لِلْمَعْبُودِ بِالْحَقِّ الْمَوْجُودِ الْبَارِي لِلْعَالَمِ الَّذِي هُوَ فَرْدٌ خَاصٌّ مِنْ مَفْهُومِ الْإِلَهِ لَا أَنَّهُ اسْمٌ لِهَذَا الْمَفْهُومِ الْكُلِّيِّ كَالْإِلَهِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَاهُنَا بَدَلٌ مِنْ اسْمِ لَا عَلَى الْمَحَلِّ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ لَا إلَهَ مَوْجُودٌ فِي الْوُجُودِ إلَّا اللَّهُ فَإِنْ قُلْت هَلَّا قَدَّرْت فِي الْإِمْكَانِ، وَنَفْيُ الْإِمْكَانِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ قُلْت لِأَنَّ هَذَا رَدٌّ لِخَطَأِ الْمُشْرِكِينَ فِي اعْتِقَادِ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ فِي الْوُجُودِ، وَلِأَنَّ الْقَرِينَةَ، وَهِيَ نَفْيُ الْجِنْسِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ دُونَ الْإِمْكَانِ، وَلِأَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ بَيَانُ وُجُودِهِ، وَنَفْيُ إلَهٍ غَيْرِهِ، لَا بَيَانُ إمْكَانِهِ، وَعَدَمِ إمْكَانِ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغًا، وَاقِعًا مَوْقِعَ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى نَفْيِ الْوُجُودِ عَنْ آلِهَةٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَفْيِ مُغَايَرَةِ اللَّهِ عَنْ كُلِّ إلَهٍ. (قَوْلُهُ: وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ) يُرِيدُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي مِثْلِ إنْ فَعَلْت فَعَبْدُهُ حُرٌّ، أَوْ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ لِلْيَمِينِ عَلَى تَحَقُّقِ نَقِيضِ مَضْمُونِ الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ الشَّرْطُ مُثْبَتًا مِثْلُ إنْ ضَرَبْت رَجُلًا فَكَذَا فَهُوَ يَمِينٌ لِلْمَنْعِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك، وَاَللَّهِ لَا أَضْرِبُ رَجُلًا، وَإِنْ كَانَ مَنْفِيًّا مِثْلُ إنْ لَمْ أَضْرِبْ رَجُلًا فَكَذَا فَهُوَ يَمِينٌ لِلْحَمْلِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِك، وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ رَجُلًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي الشَّرْطِ الْمُثْبَتِ خَاصٌّ يُفِيدُ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي جَانِبِ النَّقِيضِ لِلْعُمُومِ، وَالسَّلْبِ الْكُلِّيِّ، وَالنَّكِرَةُ فِي الشَّرْطِ الْمَنْفِيِّ عَامٌّ يُفِيدُ السَّلْبَ الْكُلِّيَّ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي

النَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ) عِنْدَنَا نَحْوُ لَا أُجَالِسُ، إلَّا رَجُلًا عَالِمًا فَلَهُ أَنْ يُجَالِسَ كُلَّ عَالِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [البقرة: 263] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ لِأَنَّهُ فِي مَعْرَضِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة: 221] ، وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌّ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْعِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ عَامَّةً لَمَا صَحَّ التَّعْلِيلُ. وَلِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْمُشْتَقِّ تَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمَأْخَذِ فَكَذَا النِّسْبَةُ إلَى الْمَوْصُوفِ بِالْمُشْتَقِّ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أُجَالِسُ إلَّا عَالِمًا مَعْنَاهُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا فَيَعُمُّ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا أُجَالِسُ إلَّا عَالِمًا لِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَمَعْنَاهُ لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا فَإِنْ أَظْهَرْنَا الْمَوْصُوفَ، وَهُوَ الرَّجُلُ، وَنَقُولُ لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا كَانَ عَامًّا أَيْضًا. (فَإِنْ قِيلَ النَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ مُقَيَّدَةٌ، وَالْمُقَيَّدُ مِنْ أَقْسَامِ الْخَاصِّ قُلْنَا هُوَ خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ، وَعَامٌّ مِنْ وَجْهٍ) ـــــــــــــــــــــــــــــQجَانِبِ النَّقِيضِ لِلْخُصُوصِ، وَالْإِيجَابِ الْجُزْئِيِّ فَظَهَرَ أَنَّ عُمُومَ النَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ الشَّرْطِ لَيْسَ إلَّا عُمُومُ النَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا النَّكِرَةُ الْمَوْصُوفَةُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ) ، وَهِيَ الَّتِي لَا تَخْتَصُّ بِفَرْدٍ، وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ النَّكِرَةِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا فَإِنَّ الْعِلْمَ لَيْسَ مِمَّا يَخْتَصُّ وَاحِدًا دُونَ وَاحِدٍ مِنْ الرِّجَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا يَدْخُلُ دَارِهِ وَحْدَهُ قَبْلَ أَحَدٍ فَإِنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَا يَصْدُقُ إلَّا عَلَى فَرْدٍ وَاحِدٍ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى عُمُومِهَا لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ الِاسْتِعْمَالُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} [البقرة: 221] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263] لِلْقَطْعِ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِي كُلِّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، وَكُلِّ قَوْلٍ مَعْرُوفٍ مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ} [البقرة: 221] وَقَعَ فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ عَامٌّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ عَامٌّ، فِي النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ فَيَجِبُ عُمُومُ الْعِلَّةِ لِيُلَائِمَ عُمُومَ الْحُكْمِ، وَفِي هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ عُمُومَ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ مُخْتَصٌّ بِغَيْرِ الْخَبَرِ أَوْ بِكَلِمَةِ أَيْ أَوْ بِالنَّكِرَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ مِنْ النَّفْيِ الثَّانِي أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْمُشْتَقِّ سَوَاءٌ ذُكِرَ مَوْصُوفُهُ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَأْخَذَ اشْتِقَاقِ الْوَصْفِ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَعُمُّ الْحُكْمُ بِعُمُومِ عِلَّتِهِ، وَهَذَا مُرَادُ مَنْ قَالَ الصِّفَةُ، وَالْمَوْصُوفُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَعُمُومُهَا عُمُومُهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا يَحْنَثُ بِمُجَالَسَةِ رَجُلَيْنِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا لَمْ يَحْنَثْ بِمُجَالَسَةِ عَالِمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَقَدْ يُقَالُ فِي بَيَانِ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِمُسْتَقِلٍّ فَحُكْمُهُ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ صَدْرِ الْكَلَامِ، وَهَذِهِ النَّكِرَةُ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ عَامَّةٌ لِوُقُوعِهَا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا أُجَالِسُ رَجُلًا عَالِمًا، وَلَا رَجُلًا جَاهِلًا، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْبَيَانَ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي مِثْلِ لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا، وَالْوَجْهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ إنَّ النَّكِرَةَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَوْصُوفَةٍ فَالِاسْتِثْنَاءُ

أَيْ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُطْلَقِ الَّذِي لَا يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ الْقَيْدُ عَامٌّ فِي إفْرَادِ مَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْقَيْدُ. (وَالنَّكِرَةُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ خَاصٌّ لَكِنَّهَا تَكُونُ مُطْلَقَةً إذَا كَانَتْ فِي الْإِنْشَاءِ) ، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . (وَيَثْبُتُ بِهَا وَاحِدٌ مَجْهُولٌ عِنْدَ السَّامِعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِاسْمِ الشَّخْصِ فَيَتَنَاوَلُ، وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَتْ مَوْصُوفَةً فَالِاسْتِثْنَاءُ بِصِفَةِ النَّوْعِ فَيَخْتَصُّ ذَلِكَ النَّوْعُ بِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَثْنًى، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ فِي النَّكِرَةِ مَعْنَى الْوِحْدَةِ، وَالْجِنْسِيَّةِ فَيَكُونُ لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا مَعْنَاهُ إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا فَيَحْنَثُ بِمُجَالَسَةِ رَجُلَيْنِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ تَنْضَمُّ إلَيْهَا قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهَا إلَى مُجَرَّدِ الْجِنْسِيَّةِ دُونَ الْوَحْدَةِ فَلَا يَخْتَصُّ بَعْضُ الْأَفْرَادِ كَمَا إذَا وُصِفَتْ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَالْحُكْمُ مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ بِهَذَا الْوَصْفِ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِكُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ الْوَصْفُ إلَّا أَنَّ الْقَرِينَةَ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْوَصْفِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْقَصْدَ فِي مِثْلِ تَمْرَةٍ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَأُكْرِمُ رَجُلًا لَا امْرَأَةً إلَى الْجِنْسِ دُونَ الْفَرْدِ، وَلَا كُلَّ وَصْفٍ يَصْلُحُ قَرِينَةً لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي مِثْلِ لَقِيت رَجُلًا عَالِمًا وَوَاللَّهِ لَأُجَالِسَنَّ رَجُلًا عَالِمًا، وَيَحْصُلُ الْبِرُّ بِمُجَالَسَةِ وَاحِدٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّكِرَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّفْيِ قَدْ تَعُمُّ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ الْمَقَامِ لَا أَنَّهُ يَكْثُرُ فِي النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِوَصْفٍ عَامٍّ. (قَوْلُهُ خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ وَعَامٌّ مِنْ وَجْهٍ) فَإِنْ قُلْت قَدْ صُرِّحَ فِيمَا سَبَقَ بِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ خَاصًّا، وَعَامًّا مِنْ حَيْثِيَّتَيْنِ قُلْت لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ هَاهُنَا الْخَاصَّ الْحَقِيقِيَّ أَعْنِي مَا وُضِعَ لِكَثِيرٍ مَحْصُورٍ أَوْ لِوَاحِدٍ بَلْ الْإِضَافِيُّ أَيْ مَا يَكُونُ مُتَنَاوِلًا لِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ لَفْظًا آخَرَ لَا لِمَجْمُوعِهِ فَيَكُونُ أَقَلَّ تَنَاوُلًا بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَعْنَى خُصُوصِهِ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} [البقرة: 234] {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ} [الطلاق: 4] كُلٌّ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ خَاصٌّ مِنْ وَجْهٍ عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَنَّ التَّخْصِيصَ يُطْلَقُ عَلَى قَصْرِ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَمَا يُطْلَقُ الْعَامُّ عَلَى اللَّفْظِ بِمُجَرَّدِ تَعَدُّدِ مُسَمَّيَاتِهِ مِثْلُ الْعَشَرَةِ. (قَوْلُهُ، وَالنَّكِرَةُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ) أَيْ النَّفْيُ، وَالشَّرْطُ الْمُثْبَتُ، وَالْوَصْفُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ تَخُصُّ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْفَرْدِ فَلَا تَعُمُّ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّكِرَةَ الْمُصَدَّرَةَ بِلَفْظِ كُلٍّ مِثْلُ أُكْرِمُ كُلَّ رَجُلٍ، وَالنَّكِرَةُ الْمُسْتَغْرِقَةُ بِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14] ، وَقَوْلُهُمْ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ، وَاقِعَةٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مَعَ أَنَّهَا عَامَّةٌ ثُمَّ النَّكِرَةُ إذَا كَانَتْ خَاصَّةً فَإِنْ، وَقَعَتْ فِي الْإِنْشَاءِ فَهِيَ مُطْلَقَةٌ تَدُلُّ عَلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَلُّقٍ لِأَمْرٍ زَائِدٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ الْمُطْلَقُ هُوَ الْمُتَعَرِّضُ لِلذَّاتِ دُونَ الصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ، وَلَا بِالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] فَإِنَّهُ إنْشَاءٌ لِلْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ صِيَغِ الْعُقُودِ مِثْلُ بِعْت، وَاشْتَرَيْت، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْأَخْبَارِ مِثْلُ رَأَيْت رَجُلًا فَهِيَ لِإِثْبَاتِ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّعَيُّنِ عِنْدَ السَّامِعِ، وَجَعَلَهُ مُقَابِلًا لِلْمُطْلَقِ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى قَيْدِ الْوَحْدَةِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ تَعَرُّضِ الْمُطْلَقِ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَعْنَى {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ذَبْحُ بَقَرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَعْنَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] إعْتَاقُ رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ نَفْسُ الْحَقِيقَةِ أَوْ فَرْدٌ مِنْهَا أَوْ مَا صَدَقَتْ هِيَ عَلَيْهِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ أَكْثَرَ، وَلِهَذَا فَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِالشَّائِعِ فِي جِنْسِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لِحِصَّةٍ مُحْتَمَلَةٍ الْحِصَصُ كَثِيرَةٌ مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ. وَأَمَّا النِّزَاعُ فِي عُمُومِ النَّكِرَةِ فِي الْإِنْشَاءَاتِ وَالْخَبَرِ فَالْحَقُّ أَنَّهُ لَفْظِيٌّ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْعُمُومِ لَا يُرِيدُونَ شُمُولَ الْحُكْمِ لِكُلِّ فَرْدٍ حَتَّى يَجِبَ فِي مِثْلِ أَعْطِ الدِّرْهَمَ فَقِيرًا صَرْفُهُ إلَى كُلِّ فَقِيرٍ، وَفِي مِثْلِ {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ذَبْحُ كُلِّ بَقَرَةٍ وَفِي مِثْلِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] تَحْرِيرُ كُلِّ رَقَبَةٍ بَلْ الْمُرَادُ الصَّرْفُ إلَى فَقِيرٍ أَيِّ فَقِيرٍ كَانَ، وَكَذَا الْمُرَادُ ذَبْحُ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ، وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أَيِّ رَقَبَةٍ كَانَتْ فَإِنْ سُمِّيَ مِثْلُ هَذَا عَامًّا فَعَامٌّ، وَإِلَّا فَلَا عَلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا مِثْلَ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا عَامًّا مَعَ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنْ جُعِلَ مُسْتَغْرِقًا فَكُلُّ نَكِرَةٍ كَذَلِكَ، وَإِلَّا فَلَا جِهَةَ لِلْعُمُومِ. (قَوْلُهُ فَإِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً) لَمَّا أَبْحَرَ الْكَلَامُ إلَى ذِكْرِ النَّكِرَةِ، وَإِفَادَتِهَا الْعُمُومَ، وَالْخُصُوصَ أَرْدَفَهُ بِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْرِفَةُ بِالْعَكْسِ، وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا أُعِيدَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ مَعَ كَيْفِيَّتِهِ مِنْ التَّنْكِيرِ، وَالتَّعْرِيفِ أَوْ بِدُونِهَا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ طَرِيقُ التَّعْرِيفِ هُوَ اللَّامَ أَوْ الْإِضَافَةَ لِتَصِحَّ إعَادَةُ الْمَعْرِفَةِ نَكِرَةً، وَبِالْعَكْسِ، وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا إمَّا أَنْ يَكُونَ نَكِرَةً أَوْ مَعْرِفَةً، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إمَّا أَنْ يُعَادَ نَكِرَةً أَوْ مَعْرِفَةً فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، وَحُكْمُهَا أَنْ يَنْظُرَ إلَى الثَّانِي فَإِنْ كَانَ نَكِرَةً فَهُوَ مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ هُوَ التَّعْرِيفُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مَعْهُودًا سَابِقًا فِي الذِّكْرِ، وَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً فَهُوَ الْأَوَّلُ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْمَعْهُودِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي اللَّامِ أَوْ بِالْإِضَافَةِ، وَذَكَرَ فِي الْكَشْفِ أَنَّهُ إنْ أُعِيدَتْ النَّكِرَةُ نَكِرَةً فَالثَّانِي مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ وَإِلَّا فَعَيْنُهُ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ تَسْتَغْرِقُ الْجِنْسَ، وَالنَّكِرَةُ تَتَنَاوَلُ الْبَعْضَ فَيَكُونُ دَاخِلًا فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ، وَمَثَّلَ لِإِعَادَةِ الْمَعْرِفَةِ نَكِرَةً بِقَوْلِ الْحَمَاسِيِّ صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ ... وَقُلْنَا الْقَوْمُ إخْوَانُ عَسَى الْأَيَّامُ أَنْ يُرْجِعْنَ ... قَوْمًا كَاَلَّذِي كَانُوا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الثَّانِيَ عَيْنُ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ بَلْ الْعَهْدُ هُوَ الْأَصْلُ، وَعِنْدَ تَقَدُّمِ الْمَعْهُودِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ النَّكِرَةُ عَيْنَهُ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ هُوَ الْمُرَادَ الْأَوَّلَ، وَالْجُزْءُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ لَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ إعَادَةَ الْمَعْرِفَةِ نَكِرَةً مَعَ مُغَايَرَةِ الثَّانِي لِلْأَوَّلِ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} [الأنعام: 154] إلَى قَوْلِهِ {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنعام: 92] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36] ، وَقَالَ تَعَالَى {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ

إذَا كَانَتْ فِي الْأَخْبَارِ نَحْوُ رَأَيْت رَجُلًا فَإِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَتْ غَيْرَ الْأُولَى، وَإِذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً كَانَتْ عَيْنَهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي اللَّامِ الْعَهْدُ، وَالْمَعْرِفَةُ إذَا أُعِيدَتْ فَكَذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ) أَيْ إذَا أُعِيدَتْ الْمَعْرِفَةُ نَكِرَةً كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ فَالْمُعْتَبَرُ نَكِيرُ الثَّانِي، وَتَعْرِيفُهُ. (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5] {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا تَأْكِيدٌ، وَإِنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُقَيَّدٍ بِصَكٍّ مَرَّتَيْنِ يَجِبُ أَلْفٌ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ مُنَكَّرًا يَجِبُ أَلْفَانِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُرَادَ أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَخُلُوُّ الْمَقَامِ عَنْ الْقَرَائِنِ، وَإِلَّا فَقَدْ تُعَادُ النَّكِرَةُ نَكِرَةً مَعَ عَدَمِ الْمُغَايَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وقَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} [الأنعام: 37] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54] يَعْنِي قُوَّةَ الشَّبَابِ، وَمِنْهُ بَابُ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَقَدْ تُعَادُ النَّكِرَةُ مَعْرِفَةً مَعَ الْمُغَايَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155] إلَى قَوْلِهِ {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ، وَقَدْ تُعَادُ الْمَعْرِفَةُ مَعْرِفَةً مَعَ الْمُغَايَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} [المائدة: 48] ، وَقَدْ تُعَادُ الْمَعْرِفَةُ نَكِرَةً مَعَ عَدَمِ الْمُغَايَرَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت: 6] ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ هَذَا الْعِلْمُ عِلْمُ كَذَا، وَكَذَا، وَدَخَلْت الدَّارَ فَرَأَيْت دَارًا كَذَا، وَكَذَا، وَمِنْهُ بَيْتُ الْحَمَاسَةِ. (قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي أَنَّ الْمَعْرِفَةَ مِثْلُ النَّكِرَةِ فِي حَالَتَيْ الْإِعَادَةِ مَعْرِفَةٌ، وَالْإِعَادَةُ نَكِرَةٌ فِي أَنَّهَا إنْ أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلَ، وَإِنْ أُعِيدَتْ نَكِرَةً كَانَ غَيْرُهُ، وَلَمَّا كَانَتْ عِبَارَةُ الْمَتْنِ تَحْتَمِلُ عَكْسَ ذَلِكَ بِأَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ كَالنَّكِرَةِ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً، وَإِذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً فَالثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ كَالنَّكِرَةِ إذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً فَسَّرَهُ فِي الشَّرْحِ بِمَا ذَكَرْنَا دَفْعًا لِذَلِكَ التَّوَهُّمِ. (قَوْلُهُ «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ» ) مَنْقُولٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَرُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ خَرَجَ إلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ فَرِحًا مُسْتَبْشِرًا، وَهُوَ يَضْحَكُ، وَيَقُولُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ مُغَايِرٌ لِلْأَوَّلِ فِي النَّكِرَةِ بِخِلَافِ الْمَعْرِفَةِ فَتَنْكِيرُ يُسْرًا لِلتَّفْخِيمِ أَوْ لِلْأَفْرَادِ، وَتَعْرِيفُ الْعُسْرِ لِلْعَهْدِ أَيْ الْعُسْرِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَوْ الْجِنْسِ أَيْ الَّذِي يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَيَكُونُ الْيُسْرُ الثَّانِي مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْعُسْرِ، وَقَدْ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِيهِ نَظَرٌ، وَوَجَّهُوهُ بِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ هَاهُنَا تَأْكِيدٌ لِلْأُولَى لِتَقْرِيرِهَا فِي النَّفْسِ، وَتَمْكِينِهَا فِي الْقَلْبِ لِأَنَّهَا تَكْرِيرٌ صَرِيحٌ لَهَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَعَدُّدِ الْيُسْرِ كَمَا لَا يَدُلُّ قَوْلُنَا إنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا أَنَّ مَعَ زَيْدٍ كِتَابًا عَلَى أَنَّ مَعَهُ كِتَابَيْنِ

[من ألفاظ العام نكرة تعم بالصفة]

أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (إلَّا أَنْ يَتَّحِدَ الْمَجْلِسُ) فَالْأَقْسَامُ الْعَقْلِيَّةُ أَرْبَعَةٌ فَفِي قَوْله تَعَالَى {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا} [المزمل: 15] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أُعِيدَتْ النَّكِرَةُ مَعْرِفَةً، وَفِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 6] أُعِيدَتْ النَّكِرَةُ نَكِرَةً، وَالْمَعْرِفَةُ مَعْرِفَةً، وَنَظِيرُ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي تُعَادُ نَكِرَةً غَيْرُ مَذْكُورٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا تَأْكِيدٌ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ) يَعْنِي لَوْ أَدَارَ صَكًّا عَلَى الشُّهُودِ فَأَقَرَّ عِنْدَهُمْ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِأَلْفٍ فِي ذَلِكَ الصَّكِّ فَالْوَاجِبُ أَلْفٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الثَّانِيَ هُوَ الْأَوَّلُ لِكَوْنِهِ مُعْتَرَفًا بِالْمَالِ الثَّابِتِ فِي الصَّكِّ فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ بِالصَّكِّ بَلْ أَقَرَّ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِلسَّبَبِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَلْزَمُهُ أَلْفَانِ بِشَرْطِ مُغَايَرَةِ الشَّاهِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِلْأَوَّلَيْنِ فِي رِوَايَةٍ، وَبِشَرْطِ عَدَمِ مُغَايَرَتِهِمَا لَهُمَا فِي رِوَايَةٍ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ كَمَا إذَا كُتِبَ لِكُلِّ أَلْفٍ صَكًّا، وَأَشْهَدَ عَلَى كُلِّ صَكٍّ شَاهِدَيْنِ، وَعِنْدَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَلْفٌ وَاحِدٌ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ عَلَى أَنَّ تَكْرَارَ الْإِقْرَارِ لِتَأْكِيدِ الْحَقِّ بِالزِّيَادَةِ فِي الشُّهُودِ، وَإِنْ اتَّحَدَ الْمَجْلِسُ فَاللَّازِمُ أَلْفٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا عَلَى تَخْرِيجِ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ لِلْمَجْلِسِ تَأْثِيرًا فِي جَمْعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ، وَجَعْلِهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا كُلًّا مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ بِكَوْنِهِ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِأَلْفٍ عِنْدَ شَاهِدٍ، وَبِأَلْفٍ عِنْدَ شَاهِدٍ آخَرَ أَوْ بِأَلْفٍ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ، وَأَلْفٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَاللَّازِمُ أَلْفٌ، وَاحِدٌ اتِّفَاقًا كَذَا فِي الْمُحِيطِ بَقِيَ صُورَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يُقِرَّ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ مُنَكَّرٍ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ مُقَيَّدٍ بِمَا فِي هَذَا الصَّكِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ أَلْفًا اتِّفَاقًا لِأَنَّ النَّكِرَةَ أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً، وَالْأُخْرَى أَنْ يُقِرَّ بِأَلْفٍ مُقَيَّدٍ بِالصَّكِّ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ ثُمَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَلْفٍ مُنَكَّرٍ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ، وَتَخْرِيجُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهَا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَلْفَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَعْرِفَةٌ أُعِيدَتْ نَكِرَةً فَيَكُونُ الثَّانِي مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ [مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ نَكِرَةٌ تَعُمُّ بِالصِّفَةِ] (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا أَيْ، وَهِيَ نَكِرَةٌ تَعُمُّ بِالصِّفَةِ) يُرِيدُ أَنَّهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ لِلْخُصُوصِ، وَالْقَصْدُ إلَى الْفَرْدِ كَسَائِرِ النَّكِرَاتِ، وَإِنَّمَا تَعُمُّ بِعُمُومِ الصِّفَةِ كَمَا سَبَقَ فِي لَا يُكَلِّمُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا، وَتَنْكِيرُهَا حَالَ الْإِضَافَةِ إلَى النَّكِرَةِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَعْرِفَةِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لِوَاحِدٍ مُبْهَمٍ يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْآحَادِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْرِفَةً بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَالْمُرَادُ بِوَصْفِهَا الْوَصْفُ الْمَعْنَوِيُّ لَا النَّعْتُ النَّحْوِيُّ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ بَعْدَهَا قَدْ تَكُونُ خَبَرًا أَوْ صِلَةً أَوْ شَرْطًا، وَقَدْ صَرَّحُوا فِي قَوْله تَعَالَى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [هود: 7] أَنَّهَا نَكِرَةٌ وُصِفَتْ بِحُسْنِ الْعَمَلِ، وَهُوَ عَامٌّ فَعَمَّتْ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ، وَأَحْسَنُ عَمَلًا

وَهُوَ مَا إذَا أَقَرَّ بِأَلْفٍ مُقَيَّدٍ بِصَكٍّ ثُمَّ أَقَرَّ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَلْفٍ مُنَكَّرٍ لَا رِوَايَةَ لِهَذَا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ أَلْفَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (وَمِنْهَا أَيْ، وَهِيَ نَكِرَةٌ تَعُمُّ بِالصِّفَةِ فَإِنْ قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبُوهُ عَتَقُوا، وَإِنْ قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْته لَا يَعْتِقُ إلَّا وَاحِدٌ قَالُوا لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ، وَصَفَهُ بِالضَّرْبِ فَصَارَ عَامًّا بِهِ، وَفِي الثَّانِي قَطَعَ الْوَصْفَ عَنْهُ، وَهَذَا الْفَرْقُ مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ، وَصَفَهُ بِالضَّارِبِيَّةِ، وَفِي الثَّانِي بِالضَّرُوبِيَّةِ، وَهُنَا فَرْقٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ أَيًّا لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْوَاحِدَ الْمُنَكَّرَ فَفِي الْأَوَّلِ) فِي قَوْلِهِ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك فَهُوَ حُرٌّ. (لَمَا كَانَ عَتَقَهُ) أَيْ عَتَقَ الْوَاحِدَ الْمُنَكَّرَ. (مُعَلَّقًا بِضَرْبِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQخَبَرُهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ عُمُومَهَا بِحَسَبِ الْوَضْعِ لِلْفَرْقِ الظَّاهِرِ بَيْنَ أَعْتِقُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِي دَخَلَ الدَّارَ، وَأَعْتِقُ عَبِيدِي دَخَلَ الدَّارَ، وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى خُصُوصِهَا بِعَوْدِ الضَّمِيرِ الْمُفْرَدِ إلَيْهِ مِثْلُ أَيُّ الرَّجُلِ أَتَاكَ وَبِصِحَّةِ الْجَوَابِ بِالْوَاحِدِ مِثْلُ زَيْدٍ أَوْ عُمَرَ وَضُعِّفَ لِجَرَيَانِ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كَلِمَاتِ الْعُمُومِ مِثْلُ مَنْ، وَمَا، وَغَيْرِهِمَا. (قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبَك فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبُوهُ) جَمِيعًا مَعًا أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ عَتَقُوا جَمِيعًا، وَإِنْ قَالَ أَيُّ عَبِيدِي ضَرَبْته فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُمْ جَمِيعًا لَا يُعْتَقُ إلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ الْأَوَّلُ إنْ ضَرَبَهُمْ عَلَى التَّرْتِيبِ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ، وَإِلَّا فَالْخِيَارُ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ نُزُولَ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ وَصَفَ فِي الْأَوَّلِ بِالضَّرْبِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَفِي الثَّانِي قَطْعٌ عَنْ الْوَصْفِ لِأَنَّ الضَّرْبَ إنَّمَا أُضِيفَ إلَى الْمُخَاطَبِ لَا إلَى النَّكِرَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا أَيْ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَقُوا جَمِيعًا، وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ فِيمَا إذَا قَالَ أَيُّكُمْ حَمَلَ هَذِهِ الْخَشَبَةَ فَهُوَ حُرٌّ، وَالْخَشَبَةُ مِمَّا يُطِيقُ حَمْلَهَا وَاحِدٌ فَحَمَلُوهَا مَعًا لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ حَمْلُ الْخَشَبَةِ بِكَمَالِهَا وَلَمْ يَحْمِلْهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَتَّى لَوْ حَمَلُوهَا عَلَى التَّعَاقُبِ يُعْتَقُ الْكُلُّ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْخَشَبَةُ مِمَّا لَا يُطِيقُ حَمْلَهَا وَاحِدٌ فَحَمَلُوهَا مَعًا عَتَقُوا جَمِيعًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا صَيْرُورَةُ الْخَشَبَةِ مَحْمُولَةً إلَى مَوْضِعِ حَاجَتِهِ، وَهَذَا يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ فِعْلِ الْحَمْلِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ حَصَلَ بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ جَلَادَتِهِمْ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِحَمْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ تَمَامَ الْخَشَبَةِ لَا بِمُطْلَقِ الْحَمْلِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَ الْكُلُّ إذَا حَمَلُوهَا عَلَى التَّعَاقُبِ كَمَا فِي أَيُّ ضَرَبَك. (قَوْلُهُ: وَهَذَا الْفَرْقُ مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ النَّحْوِ) لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْوَصْفِ النَّعْتُ النَّحْوِيُّ فَلَا نَعْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ إذْ الْجُمْلَةُ صِلَةٌ أَوْ شَرْطٌ لِأَنَّ أَيًّا هُنَا مَوْصُولَةٌ، وَشَرْطِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ النُّحَاةِ، وَإِنْ أُرِيدَ الْوَصْفُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَهِيَ مَوْصُوفَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّهَا كَمَا وُصِفَتْ فِي الْأُولَى بِالضَّارِبِيَّةِ لِلْمُخَاطِبِ وُصِفَتْ فِي الثَّانِيَةِ بالمضروبية لَهُ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَصْفٌ، وَالثَّانِيَ قَطْعٌ عَنْ الْوَصْفِ تَحَكُّمٌ أَلَا يُرَى أَنَّ يَوْمًا فِيمَا إذَا قَالَ، وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا إلَّا يَوْمًا أَقْرَبُكُمَا فِيهِ عَامٌّ بِعُمُومِ الْوَصْفِ مَعَ أَنَّهُ مُسْنَدٌ إلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَجَابَ صَاحِبُ الْكَشْفِ بِأَنَّ الضَّرْبَ قَائِمٌ بِالضَّارِبِ فَلَا يَكُونُ بِالْمَضْرُوبِ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْوَصْفِ الْوَاحِدِ بِشَخْصَيْنِ بِخِلَافِ الزَّمَانِ فَإِنَّ الْفِعْلَ مُتَّصِلٌ بِهِ حَقِيقَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ الْيَوْمُ

عَنْ الْغَيْرِ) فَيُعْتَقُ كُلُّ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مُفْرَدٌ فَحِينَئِذٍ لَا تَبْطُلُ الْوَحْدَةُ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا أَيْ عِتْقُ كُلِّ وَاحِدٍ. (وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ لَبَطَلَ) أَيْ الْكَلَامُ (بِالْكُلِّيَّةِ، وَفِي الثَّانِي، وَهُوَ قَوْلُهُ أَيْ عَبِيدِي ضَرَبْته يَثْبُتُ الْوَاحِدُ، وَيَتَخَيَّرُ فِيهِ الْفَاعِلُ) إذْ هُنَاكَ يُمْكِنُ التَّخْيِيرُ مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخَاطَبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ (نَحْوُ «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ) هَذَا نَظِيرُ الْأَوَّلِ فَإِنَّ طَهَارَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِدِبَاغَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فَاعِلٌ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مِنْهُ التَّخْيِيرُ فَيَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ. (وَنَحْوُ كُلِّ أَيُّ حِينَ تُرِيدُ) هَذَا نَظِيرُ الثَّانِي فَإِنَّ التَّخْيِيرَ مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخَاطِبِ مُمْكِنٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَامًّا بِهِ، وَأَيْضًا الْمَفْعُولُ بِهِ فَضِلَةٌ يَثْبُتُ ضَرُورَةً فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي التَّعْمِيمِ بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ فِيهِ فَإِنَّهُ صُرِّحَ بِهِ، وَقَصَدَ وَصْفَهُ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ مَعَ مَا بَيْنَ الْفِعْلِ وَالزَّمَانِ مِنْ التَّلَازُمِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الضَّرْبَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْفَاعِلِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ وَصْفٌ لَهُ، وَتَعَلُّقٌ بِالْمَفْعُولِ بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ وَوَصْفٌ لَهُ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي قِيَامِ الْإِضَافِيَّاتِ الْمُضَافَيْنِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُتَعَدِّيَ يَحْتَاجُ إلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي التَّعَقُّلِ، وَالْوُجُودِ جَمِيعًا، وَإِلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ فِي الْوُجُودِ فَقَطْ فَاتِّصَالُهُ الْأَوَّلُ أَشَدُّ، وَأَثَرُ الْمَفْعُولِ بِهِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ فِي رَبْطِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ لَا فِي التَّعْمِيمِ، وَكَوْنُهُ ضَرُورِيًّا لَا يُنَافِي الرَّبْطَ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْفَاعِلُ أَيْضًا ضَرُورِيٌّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي التَّعْمِيمِ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ فَضْلَةٍ لَا يُنَافِي الضَّرُورَةَ بَلْ يُؤَكِّدُهَا. (قَوْلُهُ: وَهُنَا فَرْقٌ آخَرُ) تَفَرَّدَ بِهِ الْمُصَنِّفُ حَاصِلُهُ أَنَّ أَيًّا لِوَاحِدٍ مُنْكَرٍ فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى إنْ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ يَلْزَمُ بُطْلَانُ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ عَتَقَ وَاحِدٌ دُونَ وَاحِدٍ يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ إذْ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِلْبَعْضِ فَتَعَيَّنَ عِتْقُ الْكُلِّ، وَمَعْنَى الْوِحْدَةِ بَاقٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّ عِتْقَ كُلِّ وَاحِدٍ مُعَلَّقٌ بِضَرْبِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَاحِدٌ مُنْفَرِدٌ عَنْ الْغَيْرِ، وَفِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ يَتَعَيَّنُ الْوَاحِدُ بِاخْتِيَارِ الْمُخَاطَبِ ضَرْبَهُ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِتَخْيِيرِ الْمُخَاطَبِ فِي تَعْيِينِهِ فَتَحْصُلُ الْأَوْلَوِيَّةُ، وَيَثْبُتُ الْوَاحِدُ مِنْ غَيْرِ عُمُومٍ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَخْيِيرِ الْفَاعِلِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْقِلُ فِي مُتَعَدِّدٍ، وَلَا تَعَدُّدَ فِي الْمَفْعُولِ، وَهَذَا الْفَرْقُ أَيْضًا مُشْكِلٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الصُّورَةَ الثَّانِيَةَ قَدْ تَكُونُ بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّخْيِيرُ مِثْلُ أَيُّ عَبِيدِي، وَطِئَتْهُ دَابَّتُك أَوْ عَضَّهُ كَلْبُك فَهُوَ حُرٌّ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا لَمْ يَقَعْ مِنْ الْمُخَاطَبِ اخْتِيَارُ الْبَعْضِ بَلْ ضَرَبَ الْجَمِيعَ مَعًا أَوْ عَلَى التَّرْتِيبِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِعَدَمِ وُقُوعِ الشَّرْطِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبَعْضِ أَوْ يُعْتَقُ كُلُّ وَاحِدٍ كَمَا ذُكِرَ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِعَيْنِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُعْتَبَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مُنْفَرِدًا بالمضروبية كَمَا فِي الضَّارِبِيَّةِ وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّا نُسَلِّمُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى عَدَمَ أَوْلَوِيَّةِ الْبَعْضِ مُطْلَقًا بَلْ إذَا ضَرَبُوهُ مَعًا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ أَوْلَوِيَّةِ الْبَعْضِ عِتْقُ كُلِّ وَاحِدٍ لِجَوَازِ أَنْ يُعْتَقَ وَاحِدٌ مُبْهَمٌ، وَيَكُونُ

[من ألفاظ العام من وهو يقع خاصا ويقع عاما في العقلاء إذا كان للشرط]

هُنَا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَكْلِ كُلِّ وَاحِدٍ بَلْ أَكْلُ وَاحِدٍ لَكِنْ يَتَخَيَّرُ فِيهِ الْمُخَاطَبُ، وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لِلتَّخْيِيرِ فِي الْعُرْفِ. (وَمِنْهَا مَنْ، وَهُوَ يَقَعُ خَاصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] فَإِنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ مَخْصُوصٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ. (وَيَقَعُ عَامًّا فِي الْعُقَلَاءِ إذَا كَانَ لِلشَّرْطِ نَحْوُ «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ» فَإِنْ قَالَ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَهُوَ حُرٌّ فَشَاءُوا عَتَقُوا، وَفِيمَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَاعْتِقْهُ فَشَاءَ الْكُلَّ يُعْتَقُ الْكُلُّ عِنْدَهُمَا عَمَلًا بِكَلِمَةِ الْعُمُومِ، وَمَنْ لِلْبَيَانِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتِقُهُمْ إلَّا وَاحِدًا) لِأَنَّ مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخِيَارُ إلَى الْمَوْلَى كَمَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَمَا إذَا قَالَ أَعْتَقْت وَاحِدًا مِنْ عَبِيدِي فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَوْ لَمْ يَثْبُت عِتْقُ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ يَلْزَمُ بُطْلَانُ الْكَلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ لِإِعْتَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَكُونَ خِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمَوْلَى فَإِنْ قُلْت كَوْنُ أَيٍّ لِلْوَاحِدِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْمُضَافِ إلَى الْمَعْرِفَةِ مِثْلُ أَيُّ الرِّجَالِ، وَأَيُّ الرَّجُلَيْنِ. وَأَمَّا إذَا أُضِيفَ إلَى النَّكِرَةِ فَقَدْ يَكُونُ لِلِاثْنَيْنِ مِثْلُ أَيُّ رَجُلَيْنِ ضَرَبَاك أَوْ الْجَمْعِ مِثْلُ أَيُّ رِجَالٍ ضَرَبُوك قُلْت مُرَادُهُ الْمُضَافُ إلَى الْمَعْرِفَةِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَيِّ عَبِيدِي ضَرَبَك أَوْ ضَرَبْته [مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَنْ وَهُوَ يَقَعُ خَاصًّا وَيَقَعُ عَامًّا فِي الْعُقَلَاءِ إذَا كَانَ لِلشَّرْطِ] (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا مَنْ) ، وَتَكُونُ شَرْطِيَّةٌ، وَاسْتِفْهَامِيَّة، وَمَوْصُولَةٌ، وَمَوْصُوفَةٌ، وَالْأُولَيَانِ تَعُمَّانِ ذَوِي الْعُقُولِ لِأَنَّ مَعْنَى مَنْ جَاءَنِي فَلَهُ دِرْهَمٌ إنْ جَاءَنِي زَيْدٌ، وَإِنْ جَاءَنِي عَمْرٌو، وَهَكَذَا إلَى الْأَفْرَادِ، وَمَعْنَى مَنْ فِي الدَّارِ أَزَيْدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَعَدَلَ فِي الصُّورَتَيْنِ إلَى لَفْظِ مَنْ قَطْعًا لِلتَّطْوِيلِ الْمُتَعَسِّرِ، وَالتَّفْصِيلِ الْمُتَعَذِّرِ. وَأَمَّا الْأُخْرَيَانِ فَقَدْ يَكُونَانِ لِلْعُمُومِ، وَشُمُولِ ذَوِي الْعُقُولِ، وَقَدْ يَكُونَانِ لِلْخُصُوصِ، وَإِرَادَةِ الْبَعْضِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] بِجَمْعِ الضَّمِيرِ، وَإِفْرَادِهِ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى، وَاللَّفْظِ فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا لِلْبَعْضِ إلَّا أَنَّ الْبَعْضَ مُتَعَدِّدٌ لَا مَحَالَةَ فَجَمْعُ الضَّمِيرِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ إلَّا عِنْدَ مَا يَكْتَفِي فِي الْعُمُومِ بِانْتِظَامِ جَمْعٍ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ. (قَوْلُهُ: يُعْتِقُهُمْ إلَّا وَاحِدًا) هُوَ آخِرُهُمْ إنْ وَقَعَ الْإِعْتَاقُ عَلَى التَّرْتِيبِ، وَإِلَّا فَالْخِيَارُ إلَى الْمَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ مَنْ فِي التَّبْعِيضِ هُوَ الشَّائِعُ الْكَثِيرُ حَيْثُ يَكُونُ مَجْرُورُهَا ذَا أَبْعَاضٍ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا لَمْ تُوجَدْ قَرِينَةٌ تُؤَكِّدُ الْعُمُومَ، وَتُرَجِّحُ الْبَيَانَ كَمَا فِي مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي عِتْقَهُ فَهُوَ حُرٌّ بِقَرِينَةِ إضَافَةِ الْمَشِيئَةِ إلَى مَا هُوَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ} [الممتحنة: 12] وقَوْله تَعَالَى {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} [الأحزاب: 51] فَإِنَّهَا تُرَجِّحُ الْعُمُومَ، وَكَوْنُ مَنْ لِلْبَيَانِ فَصَارَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي، وَمَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي أَنَّ فِي الْأَوَّلِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّ مَنْ لِلْبَيَانِ دُونَ التَّبْعِيضِ بِخِلَافِ الثَّانِي، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْعُمُومَ هَاهُنَا الْعُمُومُ الصِّفَةُ، وَالْمَشِيئَةُ صِفَةُ الْفَاعِلِ دُونَ

[من ألفاظ العام ما في غير العقلاء]

لِلتَّبْعِيضِ إذَا دَخَلَ عَلَى ذِي أَبْعَاضٍ. (كَمَا فِي كُلْ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ، وَلِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ) أَيْ الْبَعْضُ مُتَيَقَّنٌ لِأَنَّ مَنْ إذَا كَانَ لِلتَّبْعِيضِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ لِلْبَيَانِ فَالْبَعْضُ مُرَادٌ فَإِرَادَةُ الْبَعْضِ مُتَيَقَّنَةٌ، وَإِرَادَةُ الْكُلِّ مُحْتَمَلَةٌ. (فَوَجَبَ رِعَايَةُ الْعُمُومِ، وَالتَّبْعِيضِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هَذَا مُرَاعًى لِأَنَّ عِتْقَ كُلِّ مُعَلَّقٍ بِمَشِيئَتِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ بَعْضٌ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِهِ بَعْضٌ مِنْ الْمَجْمُوعِ فَيُعْتَقُ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ رِعَايَةِ التَّبْعِيضِ بِخِلَافِ مَنْ شِئْت فَإِنَّ الْمُخَاطِبَ إنْ شَاءَ الْكُلَّ فَمَشِيئَةُ الْكُلِّ مُجْتَمِعَةٌ فِيهِ فَيَبْطُلُ التَّبْعِيضُ، وَهَذَا الْفَرْقُ، وَالْفَرْقُ الْأَخِيرُ فِي أَيٍّ مِمَّا تَفَرَّدْت بِهِ. (وَمِنْهَا مَا فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِمَنْ فَإِنْ قَالَ: إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِك غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، وَجَارِيَةً لَمْ تُعْتَقْ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْكُلُّ، وَإِنْ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت تُطَلِّقُ مَا دُونَهَا وَعِنْدَهُمَا ثَلَاثًا، وَقَدْ مَرَّ وَجْهُهُمَا) . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَفْعُولِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمَفْعُولُ " عِتْقَهُ " لَا كَلِمَةُ " مَنْ " وَضْعُهُ ظَاهِرٌ، وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ آخَرُ تَفَرَّدَ بِهِ الْمُصَنِّفُ تَقْرِيرُهُ أَنَّ مَنْ يَحْتَمِلُ التَّبْعِيضَ، وَالْبَيَانَ، وَالتَّبْعِيضُ مُتَيَقَّنٌ ثَابِتٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْبَعْضِ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ، وَإِرَادَةُ الْكُلِّ مُحْتَمَلَةٌ فَيُجْعَلُ مَنْ عَلَى التَّبْعِيضِ أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ الْمَقْطُوعِ، وَتَرْكًا لِلْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ فَفِي مَنْ شَاءَ مِنْ عَبِيدِي أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ مَنْ، وَتَبْعِيضُ مَنْ بِأَنْ يُعْتِقَ كُلَّ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ عِتْقَ كُلٍّ لِمَشِيئَتِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْغَيْرِ كَانَ كُلُّ مَنْ شَاءَ الْعِتْقَ بَعْضًا مِنْ الْعَبِيدِ بِخِلَافِ مَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ لَوْ شَاءَ عِتْقَ الْكُلِّ سَقَطَ مَعْنَى التَّبْعِيضِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَعَلُّقِ الْمَشِيئَةِ بِالْكُلِّ دُفْعَةً لِأَنَّ مَنْ شَاءَ الْمُخَاطَبُ عِتْقَهُ لَيْسَ بَعْضَ الْعَبِيدِ بَلْ كُلُّهُمْ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْتِيبِ فَفِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ شَاءَ الْمُخَاطَبُ عِتْقَهُ حَالَ كَوْنِهِ بَعْضًا مِنْ الْعَبِيدِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْمَشِيئَةِ بِكُلٍّ عَلَى الِانْفِرَادِ أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا اطِّلَاعَ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ إعْتَاقِ الْكُلِّ تَعَلُّقُ الْمَشِيئَةِ بِالْكُلِّ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْبَعْضِ لِيَتَحَقَّقَ التَّبْعِيضُ، وَهَاهُنَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْبَعْضِيَّةَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهَا مَنْ هِيَ الْبَعْضِيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ النَّافِيَةُ لِلْكُلِّيَّةِ لَا الْبَعْضِيَّةُ الَّتِي هِيَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ أَوْ بِدُونِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّبْعِيضَ مُتَيَقَّنٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ [مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ مَا فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ] (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا مَا فِي غَيْرِ الْعُقَلَاءِ) هَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يَعُمُّ الْعُقَلَاءَ، وَغَيْرَهُمْ فَإِنْ قِيلَ فَفِي قَوْله تَعَالَى {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] يَجِبُ قِرَاءَةُ جَمِيعِ مَا تَيَسَّرَ عَمَلًا بِالْعُمُومِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ إنْ كَانَ مَا فِي بَطْنِك غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ قُلْنَا بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى التَّيَسُّرِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَيَسَّرَ بِصِفَةِ الِانْفِرَادِ دُونَ الِاجْتِمَاعِ لِأَنَّهُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَنْقَلِبُ مُتَعَسِّرًا. (قَوْلُهُ: وَقَدْ مَرَّ، وَجْهُهُمَا) أَمَّا، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ أَنَّ مَا عَامٌّ، وَمَنْ لِلْبَيَانِ وَالثَّلَاثُ جَمِيعُ عَدَدِ الطَّلَاقِ الْمَشْرُوعِ. وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهُوَ أَنَّ مَنْ لِلتَّبْعِيضِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ

[من ألفاظ العام كل وجميع]

(، وَمِنْهَا كُلُّ، وَجَمِيعُ، وَهُمَا مُحْكَمَانِ فِي عُمُومِ مَا دَخَلَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ سَائِرِ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ فَإِنْ دَخَلَ الْكُلُّ عَلَى النَّكِرَةِ فَلِعُمُومِ الْأَفْرَادِ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَى الْمَعْرِفَةِ فَلِمَجْمُوعٍ قَالُوا عُمُومُهُ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ أَيْ يُرَادُ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِهِ) ، وَهَذَا إذَا دَخَلَ عَلَى النَّكِرَةِ. (فَإِنْ قَالَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَ عَشَرَةٌ مَعًا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ إذْ فِي كُلِّ فَرْدٍ قُطِعَ النَّظَرُ عَنْ غَيْرِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ أَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَخَلِّفِ بِخِلَافِ مَنْ دَخَلَ، وَهَاهُنَا فَرْقٌ آخَرُ هُوَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا عَامٌّ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَإِذَا أَضَافَ الْكُلَّ إلَيْهِ اقْتَضَى عُمُومًا آخَرَ لِئَلَّا يَلْغُوَ فَيَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْأَوَّلِ فَيَتَعَدَّدُ الْأَوَّلُ) ، وَهَذَا الْفَرْقُ قَدْ تَفَرَّدَ بِهِ أَيْضًا، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ عِبَارَةٌ عَنْ الْفَرْدِ السَّابِقِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ هُوَ غَيْرُهُ فَفِي قَوْلِهِ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ أَمَّا فِي قَوْلِهِ كُلُّ مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا فَلَفْظُ كُلٍّ دَخَلَ عَلَى قَوْلِهِ مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا فَاقْتَضَى التَّعَدُّدَ فِي الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَوَّلِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّدًا فَيُرَادُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا شَاءَتْ بَعْضُ الثَّلَاثِ [مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامِّ كُلُّ وَجَمِيعُ] (قَوْلُهُ: وَهُمَا مُحْكَمَانِ) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ التَّخْصِيصَ أَصْلًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الأنعام: 101] ، وَقَوْلُهُ {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] مَخْصُوصٍ عَلَى مَا سَبَقَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا لَا يَقَعَانِ خَاصَّيْنِ بِأَنْ يُقَالَ كُلُّ رَجُلٍ أَوْ جَمِيعُ الرِّجَالِ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ بِخِلَافِ سَائِرِ أَدَوَاتِ الْعُمُومِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ، وَمَنْ، وَمَا وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ نَحْوُ كَلِمَةِ مَنْ كَمَا إذَا قَالَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلُوا عَلَى التَّعَاقُبِ فَالنَّفَلُ لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً لِاحْتِمَالِ الْخُصُوصِ فِي كَلِمَةِ كُلٍّ فَإِنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ، وَهَذَا الْوَصْفُ مُتَحَقِّقٌ فِيهِ دُونَ مَنْ دَخَلَ بَعْدَهُ، وَقَدْ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ الْعُمُومِ الَّذِي يَكُونُ تَنَاوُلُهُ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ. (قَوْلُهُ فَإِنْ دَخَلَ الْكُلُّ) يَعْنِي إذَا أُضِيفَ لَفْظُ كُلٍّ إلَى النَّكِرَةِ فَهُوَ لِعُمُومِ أَفْرَادِهَا، وَإِذَا أُضِيفَ إلَى الْمَعْرِفَةِ فَلِعُمُومِ أَجْزَائِهَا فَيَصِحُّ كُلُّ رَجُلٍ يُشْبِعُهُ هَذَا الرَّغِيفُ بِخِلَافِ كُلِّ الرِّجَالِ وَيَصِحُّ كُلُّ الرِّجَالِ يَحْمِلُ هَذَا الْحَجَرَ بِخِلَافِ كُلِّ رَجُلٍ. (قَوْلُهُ: فَدَخَلَ عَشَرَةٌ مَعًا) إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا مُتَعَاقِبِينَ فَالنَّفَلُ لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ بَعْدَهُ لَيْسَ دَاخِلًا أَوَّلًا لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا بِالْغَيْرِ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ السَّابِقُ الْغَيْرُ الْمَسْبُوقِ. (قَوْلُهُ: فَكُلٌّ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَشَرَةِ الدَّاخِلِينَ مَعًا أَوَّلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَخَلِّفِ الَّذِي يَقْدِرُ دُخُولَهُ بَعْدَ فَتْحِ الْحِصْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّاخِلَ أَوَّلًا يَجِبُ أَنْ تُعْتَبَرَ إضَافَتُهُ إلَى الدَّاخِلِ ثَانِيًا لَا إلَى مَنْ لَيْسَ بِدَاخِلٍ أَصْلًا. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَنْ دَخَلَ) أَيْ لَوْ قَالَ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ أَلْفٌ فَدَخَلَهُ عَشَرَةٌ مَعًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ، وَلَا لِوَاحِدٍ

مَعْنَاهُ الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ السَّابِقُ بِالنِّسْبَةِ إلَّا الْمُتَخَلِّفَ. (وَجَمِيعُ عُمُومِهِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ فَإِنْ قَالَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُ كَذَا فَدَخَلَ عَشَرَةٌ فَلَهُمْ نَفْلٌ وَاحِدٌ إنْ دَخَلُوا فُرَادَى يَسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ فَيَصِيرُ جَمِيعُ مُسْتَعَارِ الْكُلِّ) كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أُصُولِهِ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنْ اتَّفَقَ الدُّخُولُ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ اتَّفَقَ فُرَادَى يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ لِأَنَّهُ فِي حَالِ التَّكَلُّمِ لَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ أَحَدُهُمَا مُعَيَّنًا، وَإِرَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَيَّنًا تُنَافِي إرَادَةَ الْآخَرِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ فَأَقُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُ مُسْتَعَارٌ لِكُلٍّ أَنَّ الْكُلَّ إلَّا فُرَادَى يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا اسْتِحْقَاقُ الْأَوَّلِ النَّفَلَ سَوَاءٌ كَانَ الْأَوَّلُ وَاحِدًا أَوْ جَمْعًا، وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَوَّلُ جَمْعًا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْلًا تَامًّا فَهَاهُنَا يُرَادُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْأَوَّلُ النَّفَلَ سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا يُرَادُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَلَا الْأَمْرُ الثَّانِي حَتَّى لَوْ دَخَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْهُمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ عُمُومٌ مِنْ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ بَلْ عُمُومُ الْجِنْسِ، وَهُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَحَدٌ دَخَلَ أَوَّلًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ مَنْ اسْتِعَارَةً عَنْ الْكُلِّ أَوْ الْجَمِيعِ لِيَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ أَوْ لِمَجْمُوعِهِمْ نَفْلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ عُمُومَ الْكُلِّ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ، وَعُمُومَ الْجَمِيعِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ قَصْدُ، أَوْ عُمُومُ مَنْ إنَّمَا يَثْبُتُ ضَرُورَةَ إبْهَامِهِ كَالنَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَلَا مُشَارَكَةَ تُصَحِّحُ الِاسْتِعَارَةَ. (قَوْلُهُ: وَهَاهُنَا فَرْقٌ آخَرُ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ السَّابِقُ عَلَى جَمِيعِ مَا عَدَاهُ، وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَعَدَّدُ فَعِنْدَ إضَافَةِ الْكُلِّ إلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا لِلسَّابِقِ عَلَى الْغَيْرِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ جَمِيعُ مَا عَدَاهُ أَوْ بَعْضُهُ كَالْمُتَخَلِّفِ لِيَجْرِيَ فِيهِ التَّعَدُّدُ فَتَصِحُّ إضَافَةُ الْكُلِّ الْإِفْرَادِيِّ إلَيْهِ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً إذْ لَوْ كَانَتْ مَوْصُولَةً، وَهِيَ مَعْرِفَةٌ لَكَانَ كُلٌّ لِشُمُولِ الْأَجْزَاءِ بِمَعْنَى كُلِّ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا فَلَهُمْ كَذَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَجْمُوعِ نَفْلٌ وَاحِدٌ، وَفِي هَذَا الْفَرْقِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي فِي صُورَةِ الدُّخُولِ فُرَادَى أَنْ يَسْتَحِقَّ النَّفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرَ الْأَخِيرِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ هَذَا الْمَجَازِ أَعْنِي السَّابِقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُتَخَلِّفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ النَّفَلَ لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ قَيْدَ عَدِّهِ الْمَسْبُوقِيَّةَ بِالْغَيْرِ مُرَادٌ فَلَا يَصْدُقُ إلَّا عَلَى الْأَوَّلِ خَاصَّةً، وَمِمَّا يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ أَنَّ أَوَّلًا هَاهُنَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى قَبْلَ، وَلَيْسَ مِنْ أَوْصَافِ الدَّاخِلِينَ فَكَانَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ الْأَوَّلُ اسْمٌ لِلْفَرْدِ السَّابِقِ أَنَّ الدَّاخِلَ أَوَّلًا مَثَلًا اسْمٌ لِذَلِكَ. (قَوْلُهُ: فَإِنْ قَالَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ هَذَا الْحِصْنَ أَوَّلًا) اعْلَمْ أَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ النَّفَلُ فِي مَسَائِلِ تَقْيِيدِ دُخُولِ الْحِصْنِ بِقَيْدِ الْأَوَّلِيَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَذْكُورًا بِمُجَرَّدِ لَفْظِ مَنْ أَوْ مَعَ إضَافَةِ الْكُلِّ أَوْ الْجَمِيعِ إلَيْهِ، وَعَلَى التَّقَادِيرِ الثَّلَاثِ إمَّا

جَمَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ الْجَمِيعُ نَفْلًا وَاحِدًا أَوْ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لِلتَّحْرِيضِ، وَالْحَثِّ عَلَى دُخُولِ الْحِصْنِ أَوَّلًا فَيَجِبُ أَنْ يَسْتَحِقَّ السَّابِقُ النَّفَلَ سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُجْتَمِعًا، وَلَا يُشْتَرَطُ الِاجْتِمَاعُ لِأَنَّهُ إذَا أَقْدَمَ الْأَوَّلُ عَلَى الدُّخُولِ فَتَخَلَّفَ غَيْرُهُ مِنْ الْمُسَابِقَةِ لَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْأَوَّلِ عَنْ اسْتِحْقَاقِ النَّفْلِ فَالْقَرِينَةُ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الِاجْتِمَاعِ فَلَا يُرَادُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَأَيْضًا لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ جَمَاعَةٌ يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ نَفْلًا تَامًّا بَلْ الْكَلَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ لِلْمَجْمُوعِ نَفْلًا وَاحِدًا فَصَارَ الْكَلَامُ مَجَازًا عَنْ قَوْلِهِ إنَّ السَّابِقَ يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ سَوَاءٌ كَانَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُجْتَمِعًا فَإِنْ دَخَلَ مُنْفَرِدًا أَوْ مُجْتَمِعًا يَسْتَحِقُّ لِعُمُومِ الْمَجَازِ فَالِاسْتِحْقَاقُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَكُونَ الدَّاخِلُ أَوَّلًا وَاحِدًا أَوْ مُتَعَدِّدًا مَعًا أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ يَصِيرُ تِسْعَةً فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ وَاحِدًا فَقَطْ فَلَهُ كَمَالُ النَّفْلِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ أَمَّا فِي مَنْ دَخَلَ، وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا فِي جَمِيعِ مَنْ دَخَلَ فَلِأَنَّ هَذَا التَّنْفِيلَ لِلتَّشْجِيعِ، وَإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ فَلَمَّا اسْتَحَقَّهُ الْجَمَاعَةُ بِالدُّخُولِ أَوَّلًا قَالُوا حَدٌّ أَوْلَى لِأَنَّ الْجَلَادَةَ فِي ذَلِكَ أَقْوَى، وَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مُتَعَدِّدًا فَإِنْ دَخَلُوا مَعًا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ فِي صُورَةِ مَنْ دَخَلَ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ نَفْلٌ تَامٌّ فِي صُورَةِ كُلِّ مَنْ دَخَلَ، وَلِلْمَجْمُوعِ نَفْلٌ وَاحِدٌ فِي صُورَةِ جَمِيعِ مَنْ دَخَلَ لِأَنَّ لَفْظَ جَمِيعٍ لِلْإِحَاطَةِ عَلَى صِفَةِ الِاجْتِمَاعِ فَالْعَشَرَةُ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ سَابِقٍ بِالدُّخُولِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ بِخِلَافِ كُلٍّ فَإِنَّ عُمُومَهُ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ كَمَا مَرَّ، وَإِنْ دَخَلُوا عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ فَالنَّفَلُ لِلْأَوَّلِ مِنْهُمْ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ أَمَّا فِي مَنْ، وَكُلٍّ فَظَاهِرٌ. وَأَمَّا فِي الْجَمِيعِ فَلِأَنَّهُ يَجْعَلُ مُسْتَعَارَ الْكُلِّ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَلَادَةَ فِي دُخُولِهِ، وَحْدَهُ أَقْوَى فَهُوَ بِالنَّفْلِ أَحْرَى كَذَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ لِأَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا مَعًا اسْتَحَقُّوا النَّفَلَ عَمَلًا بِعُمُومِ الْجَمِيعِ، وَلَوْ دَخَلُوا فُرَادَى اسْتَحَقَّهُ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ عَمَلًا بِمَجَازِهِ كَمَا إذَا لَمْ يَدْخُلْ إلَّا وَاحِدٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ إنْ دَخَلُوا مَعًا يُحْمَلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ دَخَلُوا فُرَادَى أَوْ دَخَلَ وَاحِدٌ فَقَطْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ وَالْمُصَنِّفُ بِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ، إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الْإِرَادَةِ دُونَ الْوُقُوعِ، وَهَاهُنَا قَدْ تَحَقَّقَ الْجَمْعُ فِي الْإِرَادَةِ لِيَصِحَّ الْحَمْلُ تَارَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْجَمْعِ، وَأُخْرَى عَلَى مَجَازِهِ كَمَا يُقَالُ اُقْتُلْ أَسَدًا، وَيُرَادُ بِهِ سَبُعٌ أَوْ رَجُلٌ شُجَاعٌ حَتَّى يُعَدَّ مُمْتَثِلًا بِأَيِّهِمَا كَانَ إذْ لَوْ أُرِيدَ حَقِيقَةُ الْجَمْعِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْفَرْدُ، وَلَوْ أُرِيدَ مَجَازٌ، لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَمْعُ نَفْلًا وَاحِدًا بَلْ يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ نَفْلًا تَامًّا كَمَا إذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ كُلٍّ فَلِدَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ كَلَامًا حَاصِلُهُ أَنَّ الْجَمِيعَ هَاهُنَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ حَتَّى يَتَوَقَّفَ اسْتِحْقَاقُ النَّفْلِ عَلَى صِفَةِ الِاجْتِمَاعِ لِلْقَرِينَةِ

[مسألة حكاية الفعل لا تعم]

مُجْتَمِعًا لَيْسَ لِأَنَّهُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ بَلْ لِدُخُولِهِ تَحْتَ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَهَذَا بَحْثٌ فِي غَايَةِ التَّدْقِيقِ. (مَسْأَلَةٌ: حِكَايَةُ الْفِعْلِ) لَا تَعُمُّ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ، وَاقِعٌ عَلَى صِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ نَحْوُ «صَلَّى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْكَعْبَةِ» فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى الْمُشْتَرَكِ فَيُتَأَمَّلُ فَإِنْ تَرَجَّحَ بَعْضُ الْمَعْنَى بِالرَّأْيِ فَذَاكَ، وَإِنْ ثَبَتَ التَّسَاوِي فَالْحُكْمُ فِي الْبَعْضِ يَثْبُتُ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِي الْبَعْضِ الْآخَرِ بِالْقِيَاسِ قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ الْفَرْضُ فِي الْكَعْبَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ اسْتِدْبَارُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الْكَعْبَةِ، وَيُحْمَلُ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى النَّفْلِ، وَنَحْنُ نَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ جَوَازُ الْبَعْضِ بِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالتَّسَاوِي بَيْنَ الْفَرْضِ، وَالنَّفَلِ فِي أَمْرِ الِاسْتِقْبَالِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ ثَابِتٌ فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ قِيَاسًا. (وَأَمَّا نَحْوُ «قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ» فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَهُوَ عَامٌّ لِأَنَّهُ نَقَلَ الْحَدِيثَ بِالْمَعْنَى، وَلِأَنَّ الْجَارَ عَامٌّ) جَوَابُ إشْكَالٍ هُوَ أَنْ يُقَالَ حِكَايَةُ الْفِعْلِ لِمَا لَمْ تَعُمَّ فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ لِلْجَارِ الَّذِي لَا يَكُونُ شَرِيكًا فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ حِكَايَةِ الْفِعْلِ بَلْ هُوَ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ لِلْجَارِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَانِعَةِ عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لِلتَّشْجِيعِ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَى الدُّخُولِ أَوَّلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ أَيْضًا مُسْتَعَارُ الْمَعْنَى كُلُّ مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا حَتَّى يَسْتَحِقَّ كُلُّ وَاحِدٍ كَمَالَ النَّفْلِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ لِعَدَمِ الْقَرِينَةِ عَلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَجَازٌ عَنْ السَّابِقِ فِي الدُّخُولِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً فَيَكُونُ لِلْجَمَاعَةِ نَفْلٌ وَاحِدٌ كَمَا لِلْوَاحِدِ عَمَلًا بِعُمُومِ الْمَجَازِ، وَهَذَا الْمَعْنَى بَعْضُ مَعْنَى كُلِّ مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ السَّابِقَ يَسْتَحِقُّ النَّفَلَ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمَاعَةً لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِهَا كَمَالُ النَّفْلِ فَصَارَ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا مُسْتَعَارَ الْبَعْضِ مَعْنَى كُلِّ مَنْ دَخَلَ أَوَّلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ الْكُلُّ الْإِفْرَادِيُّ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ مَعْنَاهُ أَنَّ مَدْلُولَهُ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ إذَا لَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْلُولًا عَلَى حِدَةٍ حَتَّى يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ قُلْت فَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ هُوَ اسْتِحْقَاقُ السَّابِقِ النَّفَلَ وَاحِدًا كَانَ أَوْ جَمَاعَةً مِنْ غَيْرِ قَيْدِ عَدَمِ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ تَمَامَ النَّفْلِ، وَهَاهُنَا قَدْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ مَعَ هَذَا الْقَيْدِ فَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ هُوَ الْأَمْرَ الْأَوَّلَ قُلْت عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ تَمَامَ النَّفْلِ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بَلْ هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الدَّلِيلِ فَقَوْلُهُ لَا يُرَادُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ أَيْ اعْتِبَارُ وَصْفِ الِاجْتِمَاعِ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْوَاحِدُ وَلَا الْأَمْرُ الثَّانِي أَيْ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ تَمَامَ النَّفْلِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَلِهَذَا كَانَ لِمَجْمُوعِ الدَّاخِلِينَ مَعًا نَفْلٌ وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ تَفْرِيعٌ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَوْ حَمَلُوا الْكَلَامَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَجَعَلُوا اسْتِحْقَاقَ الْمُفْرَدِ كَمَالَ النَّفْلِ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَكَفَى [مَسْأَلَةٌ حِكَايَةُ الْفِعْلِ لَا تَعُمُّ] (قَوْلُهُ: مَسْأَلَةٌ) تَحْرِيرُ النِّزَاعِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إذَا حَكَى الصَّحَابِيُّ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

[مسألة اللفظ الذي ورد بعد سؤال أو حادثة]

أَنَّهُ حِكَايَةُ الْفِعْلِ لَكِنَّ الْجَارَ عَامٌّ لِأَنَّ اللَّامَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ لِعَدَمِ الْمَعْهُودِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ قَضَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالشُّفْعَةِ لِكُلِّ جَارٍ. (مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ بَعْدَ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ) إمَّا أَنْ لَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا أَوْ يَكُونَ فَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَخْرُجَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ قَطْعًا أَوْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَوَابٌ مَعَ احْتِمَالِ الِابْتِدَاءِ أَوْ بِالْعَكْسِ (أَيْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْتِدَاءُ الْكَلَامِ) مَعَ احْتِمَالِ الْجَوَابِ (نَحْوُ أَلَيْسَ لِي عَلَيْك كَذَا فِيهِ فَيَقُولُ بَلَى أَوْ كَانَ لِي عَلَيْك كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ) هَذَا نَظِيرُ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ. (وَنَحْوُ «سَهَا فَسَجَدَ» ، وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ) هَذَا نَظِيرُ الْمُسْتَقِلِّ الَّذِي هُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِلَفْظٍ ظَاهِرُهُ الْعُمُومُ مِثْلُ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ» «وَقَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ» هَلْ يَكُونُ عَامًّا أَمْ لَا فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى عُمُومِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ الْعَدْلِ الْعَارِفِ بِاللُّغَةِ أَنَّهُ لَا يَنْقُلُ الْعُمُومَ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَحَقُّقِهِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَعُمُّ لِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ إنَّمَا هُوَ بِالْمَحْكِيِّ لَا الْحِكَايَةِ، وَالْعُمُومُ إنَّمَا هُوَ فِي الْحِكَايَةِ لَا الْمَحْكِيِّ ضَرُورَةَ أَنَّ الْوَاقِعَ لَا يَكُونُ إلَّا بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَثَّلَ لِذَلِكَ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ «صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَاخِلَ الْكَعْبَةِ» ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ مَحَلِّ النِّزَاعِ إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ عُمُومِ الْفِعْلِ الْمُثْبَتِ فِي الْجِهَاتِ وَالْأَزْمَانِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا عُمُومَ لَهُ لِأَنَّ الْوَاقِعَ إنَّمَا يَكُونُ بِصِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَفِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ، وَغَيْرُهُ إنَّمَا يَلْحَقُ بِهِ بِدَلِيلٍ مِنْ دَلَالَةِ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ثُمَّ رَدَّ تَمْثِيلَهُمْ لِذَلِكَ بِمِثْلِ «قَضَى بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ» بِأَنَّهُ لَيْسَ حِكَايَةَ الْفِعْلِ بَلْ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِمَعْنَاهُ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَفْظُ الْجَارِ عَامٌّ، وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَدْلُولَ الْكَلَامِ لَيْسَ إلَّا الْإِخْبَارَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّهُ حَكَمَ بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ، وَلَا مَعْنَى لِحِكَايَةِ الْفِعْلِ إلَّا هَذَا. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ عُمُومَ لَفْظِ الْجَارِ لَا يَضُرُّ بِالْمَقْصُودِ إذْ لَيْسَ النِّزَاعُ إلَّا فِيمَا يَكُونُ حِكَايَةَ الصَّحَابِيِّ بِلَفْظٍ عَامٍّ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ جَعْلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ قَضَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالشُّفْعَةِ لِكُلِّ جَارٍ غَيْرُ صَحِيحٍ بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهِ حِكَايَةً لِلْفِعْلِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْفِعْلَ أَعْنِي قَضَاءَهُ بِالشُّفْعَةِ إنَّمَا، وَقَعَ فِي بَعْضِ الْجِيرَانِ بَلْ فِي جَارٍ مُعَيَّنٍ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ حُكْمُهُ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ بِأَنْ يَقُولَ مَثَلًا الشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ لِلْجَارِ قُلْنَا فَحِينَئِذٍ يَكُونُ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لَا حِكَايَةُ الْفِعْلِ، وَالتَّقْدِيرُ بِخِلَافِهِ [مَسْأَلَةُ اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ بَعْدَ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ] (قَوْلُ اللَّفْظِ الَّذِي وَرَدَ بَعْدَ سُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ) يَعْنِي يَكُونُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ السُّؤَالِ أَوْ الْحَادِثَةِ، وَحِينَئِذٍ يَنْحَصِرُ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَطْعًا فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَابَ، وَنَعْنِي بِغَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ مَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا بِدُونِ اعْتِبَارِ السُّؤَالِ أَوْ الْحَادِثَةِ مِثْلُ نَعَمْ فَإِنَّهَا مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامٍ مُوجِبٍ أَوْ مَنْفِيٍّ اسْتِفْهَامًا أَوْ خَبَرًا، وَبَلَى فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِإِيجَابِ النَّفْيِ السَّابِقِ اسْتِفْهَامًا أَوْ خَبَرًا فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ بَلَى فِي جَوَابِ أَكَانَ لِي عَلَيْك كَذَا، وَلَا يَكُونُ نَعَمْ فِي

جَوَابٌ قَطْعًا (وَنَحْوُ تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي فَقَالَ إنْ تَغَدَّيْت فَكَذَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ) هَذَا نَظِيرُ الْمُسْتَقِلِّ الَّذِي الظَّاهِرُ أَنَّهُ جَوَابٌ (وَنَحْوُ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ مَعَ زِيَادَةٍ عَلَى قَدْرِ الْجَوَابِ) هَذَا نَظِيرُ الْمُسْتَقِلِّ الَّذِي الظَّاهِرُ أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ مَعَ احْتِمَالِ الْجَوَابِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ ذَكَرَ لَفْظَ نَحْوِ فَهُوَ نَظِيرُ قِسْمٍ وَاحِدٍ. (فَفِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَابِ، وَفِي الرَّابِعِ يُحْمَلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ عِنْدَنَا حَمْلًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْإِفَادَةِ، وَلَوْ قَالَ عَنَيْت الْجَوَابَ صُدِّقَ دِيَانَةً، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَابِ) ، وَهَذَا مَا قِيلَ إنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ تَمَسَّكُوا بِالْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي حَوَادِثَ خَاصَّةٍ. (فَصْلٌ حُكْمُ الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ عَلَى تَقْيِيدِهِ فَإِذَا، وَرَدَا) أَيْ الْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ. (فَإِنْ اخْتَلَفَ الْحُكْمُ لَمْ يُحْمَلْ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ إلَّا فِي مِثْلِ قَوْلِنَا أَعْتِقْ عَنِّي رَقَبَةً، وَلَا تُمَلِّكْنِي رَقَبَةً كَافِرَةً فَالْإِعْتَاقُ يَتَقَيَّدُ بِالْمُؤْمِنَةِ) أَيْ إلَّا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْحُكْمَانِ الْمَذْكُورَانِ مُخْتَلِفَيْنِ لَكِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQجَوَابِ أَلَيْسَ لِي عَلَيْك كَذَا إقْرَارًا إلَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ هُوَ الْعُرْفُ حَتَّى يُقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ الْآخَرِ فَيَكُونَ إقْرَارًا فِي جَوَابِ الْإِيجَابِ، وَالنَّفْيِ اسْتِفْهَامًا أَوْ خَبَرًا. (قَوْلُهُ: حَمْلًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْإِفَادَةِ) يَعْنِي لَوْ قَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَكَذَا فِي جَوَابِ تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي يُجْعَلُ كَلَامُهُ مُبْتَدَأً حَتَّى يَحْنَثَ بِالتَّغَدِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ذَلِكَ الْغَدَاءَ الْمَدْعُوَّ إلَيْهِ أَوْ غَيْرَهُ مَعَهُ أَوْ بِدُونِهِ لِأَنَّ فِي حَمْلِهِ عَلَى الِابْتِدَاءِ اعْتِبَارَ الزِّيَادَةِ الْمَلْفُوظَةِ الظَّاهِرَةِ، وَإِلْغَاءَ الْحَالِ الْمُبَطَّنَةِ، وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعَمَلَ بِالْحَالِ دُونَ الْعَمَلِ بِالْمَقَالِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. (قَوْلُهُ: صُدِّقَ دِيَانَةً) لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّ فِيهِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ. (قَوْلُهُ: إنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا لِخُصُوصِ السَّبَبِ) لِأَنَّ التَّمَسُّكَ إنَّمَا هُوَ بِاللَّفْظِ، وَهُوَ عَامٌّ، وَخُصُوصُ السَّبَبِ لَا يُنَافِي عُمُومَ اللَّفْظِ، وَلَا يَقْتَضِي اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ التَّمَسُّكُ بِالْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي حَوَادِثَ، وَأَسْبَابٍ خَاصَّةٍ مِنْ غَيْرِ قَصْرٍ لَهَا عَلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ كَآيَةِ الظُّهُورِ نَزَلَتْ فِي خَوْلَةَ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَآيَةِ اللِّعَانِ فِي هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَآيَةِ السَّرِقَةِ فِي سَرِقَةِ رِدَاءِ صَفْوَانَ أَوْ فِي سَرِقَةِ الْمِجَنِّ، وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» ، وَرَدَ فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خُلِقَ الْمَاءُ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» ، وَرَدَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ عَامًّا لِلسَّبَبِ، وَغَيْرِهِ لَجَازَ تَخْصِيصُ السَّبَبِ عَنْهُ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْعَامِّ إلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ لِنَقْلِ السَّبَبِ فَائِدَةٌ، وَلَمَّا طَابَقَ الْجَوَابُ السُّؤَالَ لِأَنَّهُ عَامٌّ، وَالسُّؤَالُ خَاصٌّ أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ

[فصل حكم المطلق]

يَسْتَلْزِمُ أَحَدُهُمَا حُكْمًا غَيْرَ مَذْكُورٍ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْآخَرِ كَالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ إيجَابُ الْإِعْتَاقِ، وَالثَّانِي نَفْيُ تَمْلِيكِ الْكَافِرَةِ، وَهُمَا حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ لَكِنَّ نَفْيَ تَمْلِيكِ الْكَافِرَةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ إعْتَاقِهَا ضَرُورَةَ أَنَّ إيجَابَ الْإِعْتَاقِ يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ التَّمْلِيكِ، وَنَفْيُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْمَلْزُومِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ لَا تُعْتِقْ عَنِّي رَقَبَةً كَافِرَةً ثُمَّ هَذَا أَوْجَبَ تَقْيِيدَ الْأَوَّلِ أَيْ إيجَابِ الْإِعْتَاقِ بِالْمُؤْمِنَةِ. (وَإِنْ اتَّحَدَ) أَيْ الْحُكْمُ (فَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْحَادِثَةُ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ لَا يُحْمَلُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحْمَلُ) سَوَاءٌ اقْتَضَى الْقِيَاسَ أَوْ لَا (وَبَعْضُهُمْ زَادُوا إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسَ) أَيْ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ زَادُوا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسَ حَمَلَهُ عَلَيْهِ. (وَإِنْ اتَّحَدَتْ) أَيْ الْحَادِثَةُ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ مَثَلًا فَإِنْ دَخَلَا عَلَى السَّبَبِ نَحْوُ «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ، وَعَبْدٍ أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» ) أَيْ دَخَلَ النَّصُّ الْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ عَلَى السَّبَبِ فَإِنَّ الرَّأْسَ سَبَبٌ لِوُجُودِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَدْ، وَرَدَ نَصَّانِ يَدُلُّ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ الرَّأْسَ الْمُطْلَقَ سَبَبٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ، وَعَبْدٍ» ، وَيَدُلُّ الْآخَرُ أَنَّ رَأْسَ الْمُسْلِمِ سَبَبٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ، وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (لَمْ يُحْمَلْ عِنْدَنَا بَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إذْ لَا تَنَافِيَ فِي الْأَسْبَابِ) بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ سَبَبًا، وَالْمُقَيَّدُ سَبَبًا. (خِلَافًا لَهُ) أَيْ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ لَمْ يُحْمَلْ عِنْدَنَا. (وَإِنْ دَخَلَا) أَيْ الْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ (عَلَى الْحُكْمِ) فِي صُورَةِ اتِّحَادِ الْحَادِثَةِ (نَحْوُ {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] مَعَ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ) فَإِنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَفْرَادِ الْعَامِّ يُعْلَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ الْإِرَادَةِ قَطْعًا بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ لِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ فَائِدَةَ نَقْلِ السَّبَبِ لَا تَنْحَصِرُ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ بِهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ نَفْسُ مَعْرِفَةِ أَسْبَابِ نُزُولِ الْآيَاتِ، وَوُرُودِ الْأَحَادِيثِ، وَوُجُوهِ الْقَصَصِ فَائِدَةً، وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ مَعْنَى الْمُطَابَقَةِ هُوَ الْكَشْفُ عَنْ السُّؤَالِ، وَبَيَانُ حُكْمِهِ، وَقَدْ حَصَلَ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَلَا نُسَلِّمُ وُجُوبَ الْمُطَابَقَةِ بِمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْعُمُومِ، وَالْخُصُوصِ [فَصْلٌ حُكْمُ الْمُطْلَقِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) ذِكْرُ الْمُطْلَقِ، وَالْمُقَيَّدِ عَقِيبَ الْعَامِّ، وَالْخَاصِّ لِمُنَاسَبَتِهِمَا إيَّاهُمَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُطْلَقَ هُوَ الشَّائِعُ فِي جِنْسِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ حِصَّةٌ مِنْ الْحَقِيقَةِ مُحْتَمِلَةُ الْحِصَصِ كَثِيرَةٌ مِنْ غَيْرِ شُمُولٍ، وَلَا تَعْيِينٍ، وَالْمُقَيَّدُ مَا أُخْرِجَ عَنْ الشُّيُوعِ بِوَجْهٍ مَا كَرَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أُخْرِجَتْ عَنْ شُيُوعِ الْمُؤْمِنَةِ، وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الرَّقَبَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ، وَضَبْطُ الْفَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَوْرَدَ الْمُطْلَقَ، وَالْمُقَيَّدَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ فَإِمَّا أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ أَوْ يَتَّحِدَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مُوجِبًا لِتَقْيِيدِ الْآخَرِ أَجْرَى الْمُطْلَقَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدَ عَلَى تَقْيِيدِهِ مِثْلُ أَطْعِمْ رَجُلًا، وَاكْسُ رَجُلًا عَارِيًّا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُوجِبًا لِتَقْيِيدِ الْآخَرِ بِالذَّاتِ مِثْلُ

الْحُكْمَ وُجُوبُ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالتَّتَابُعِ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْحُكْمُ وُجُوبُ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ (يُحْمَلُ بِالِاتِّفَاقِ لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا) فَإِنَّ الْمُطْلَقَ يُوجِبُ أَجْزَاءَ غَيْرِ الْمُتَتَابِعِ، وَالْمُقَيَّدَ يُوجِبُ عَدَمَ أَجْزَائِهِ. (هَذَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ مُثْبَتًا فَإِنْ كَانَ مَنْفِيًّا نَحْوُ لَا تَعْتِقْ رَقَبَةً، وَلَا تَعْتِقْ رَقَبَةً كَافِرَةً لَا يُحْمَلُ اتِّفَاقًا فَلَا تُعْتَقُ أَصْلًا لَهُ أَنَّ الْمُطْلَقَ سَاكِتٌ، وَالْمُقَيِّدَ نَاطِقٌ فَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ) فَنَقُولُ فِي جَوَابِهِ نَعَمْ إنَّ الْمُقَيَّدَ أَوْلَى لَكِنْ إذَا تَعَارَضَا، وَلَا تَعَارُضَ إلَّا فِي اتِّحَادِ الْحَادِثَةِ، وَالْحُكْمِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ. (وَلِأَنَّ الْقَيْدَ زِيَادَةُ وَصْفٍ يَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ فَيُوجِبُ النَّفْيَ) أَيْ نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَعْتِقْ رَقَبَةً وَلَا تَعْتِقْ رَقَبَةً كَافِرَةً أَوْ بِالْوَاسِطَةِ مِثْلُ أَعْتِقْ عَنِّي رَقَبَةً، وَلَا تُمَلِّكْنِي رَقَبَةً كَافِرَةً فَإِنَّ نَفْيَ تَمْلِيكِ الْكَافِرَةِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ إعْتَاقِهَا عَنْهُ، وَهَذَا يُوجِبُ تَقْيِيدَ إيجَابِ الْإِعْتَاقِ عَنْهُ بِالْمُؤْمِنَةِ. حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَإِنْ قُلْت مَعْنَى حَمْلِ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ تَقْيِيدُهُ بِذَلِكَ الْقَيْدِ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمِثَالِ لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ إنَّمَا قُيِّدَ بِالْكَافِرَةِ وَالْمُطْلَقَ إنَّمَا قُيِّدَ بِالْمُؤْمِنَةِ قُلْت نَعَمْ مَعْنَاهُ تَقَيُّدُ الْمُطْلَقِ بِذَلِكَ الْقَيْدِ لَكِنْ إنْ كَانَ الْقَيْدُ مُوجِبًا فَبِإِيجَابِهِ، وَإِنْ كَانَ مَنْفِيًّا فَبِنَفْيِهِ، وَهَاهُنَا قَيْدُ الْكَافِرَةِ مَنْفِيٌّ فَقَيْدُ إيجَابِ الْإِعْتَاقِ بِنَفْيِ الْكَافِرَةِ، وَهُوَ الْمُؤْمِنَةُ، وَنُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَعْنَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ تَقْيِيدُهُ بِقَيْدٍ مَا سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْمَذْكُورَ فِي الْمُقَيَّدِ أَوْ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ إجْرَاءِ الْمُطْلَقِ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَمَعْنَاهُ عَدَمُ تَقْيِيدِهِ بِقَيْدٍ مَا بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ أَوْرَدُوا عَلَيْنَا الْإِشْكَالَ بِتَقْيِيدِ الرَّقَبَةِ بِالسَّلَامَةِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْمُقَيَّدِ هُوَ الْمُؤْمِنَةُ لَا السَّلِيمَةُ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بَعِيدٌ، وَسَيَجِيءُ أَنَّ إيرَادَ الْإِشْكَالِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ هَذَا إذَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ، وَإِنْ اتَّحَدَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْفِيًّا أَوْ مُثْبَتًا فَإِنْ كَانَ مَنْفِيًّا فَلَا حَمْلَ مِثْلُ لَا تَعْتِقْ رَقَبَةً، وَلَا تَعْتِقْ رَقَبَةً كَافِرَةً لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بِأَنْ لَا يَعْتِقَ أَصْلًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مِنْ الْعَامِّ مَعَ الْخَاصِّ لَا الْمُطْلَقِ مَعَ الْمُقَيَّدِ، وَإِنْ كَانَ مُثْبَتًا فَإِمَّا أَنْ تَخْتَلِفَ الْحَادِثَةُ أَوْ تَتَّحِدَ فَإِنْ اخْتَلَفَتْ كَكَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَالْقَتْلِ فَلَا حَمْلَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، وَإِنْ اتَّحَدَتْ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِطْلَاقُ، وَالتَّقْيِيدُ فِي السَّبَبِ، وَنَحْوِهِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ فَلَا حَمْلَ كَوُجُوبِ نِصْفِ الصَّاعِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِسَبَبِ الرَّأْسِ مُطْلَقًا فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ، وَمُقَيَّدًا بِالْإِسْلَامِ فِي الْآخَرِ، وَإِلَّا يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالِاتِّفَاقِ كَقِرَاءَةِ الْعَامَّةِ {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] ، وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُوجِبُ إجْزَاءَ غَيْرِ الْمُتَتَابِعِ لِمُوَافَقَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْمُقَيَّدُ يُوجِبُ عَدَمَ إجْزَائِهِ لِمُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَفِي هَذَا الْمِثَالِ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ

(فِي الْمَنْصُوصِ، وَفِي نَظِيرِهِ كَالْكَفَّارَاتِ مَثَلًا فَإِنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسُ حَمْلَهُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْوَصْفِ كَالتَّخْصِيصِ بِالشَّرْطِ وَالتَّخْصِيصَ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ عِنْدَهُ، وَذَلِكَ النَّفْيُ لَمَّا كَانَ مَدْلُولُ النَّصِّ الْمُقَيَّدِ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَيَثْبُتُ النَّفْيُ بِالنَّصِّ فِي الْمَنْصُوصِ، وَفِي نَظِيرِهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ. (وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ يُوجِبُ التَّغْلِيظَ، وَالْمُسَاءِ كَمَا فِي بَقَرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ، وَاتَّبِعُوا مَا بَيَّنَ اللَّهُ) أَيْ اُتْرُكُوهُ عَلَى إبْهَامِهِ، وَالْمُطْلَقُ مُبْهَمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَيَّدِ الْمُعَيَّنِ فَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ. (وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ مَا قَيَّدُوا أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ بِالدُّخُولِ الْوَارِدِ فِي الرَّبَائِبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَمَّا يُقَالُ إنَّكُمْ حَمَلْتُمْ الْمُطْلَقَ، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَارِدٌ فِي حَادِثَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ، وَالظِّهَارِ حَيْثُ شَرَطْتُمْ التَّتَابُعَ فِي الصَّوْمِ يَعْنِي إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مُقَيَّدٍ، وَارِدٍ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ، وَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّهَا مَشْهُورَةٌ بِمِثْلِهَا يُزَادُ عَلَى الْكِتَابِ بِخِلَافِ قِرَاءَةِ أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَإِنَّهَا شَاذَّةٌ لَا يُزَادُ بِمِثْلِهَا عَلَى النَّصِّ وَالشَّافِعِيُّ إنَّمَا لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ عِنْدَهُ بِالْقِرَاءَةِ الْغَيْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ مَشْهُورَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَشْهُورَةٍ فَالْمِثَالُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ «صُمْ شَهْرَيْنِ» وَرُوِيَ «شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» . (قَوْلُهُ: إنَّ الْمُطْلَقَ سَاكِتٌ) احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَلَوْ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْحَادِثَةِ أَوْ جَرَيَانِ الْإِطْلَاقِ، وَالتَّقْيِيدِ فِي السَّبَبِ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ سَاكِتٌ عَنْ ذِكْرِ الْقَيْدِ، وَالْمُقَيَّدُ نَاطِقٌ بِهِ فَيَكُونُ أَوْلَى لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ، وَجَوَابُهُ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ أَيْ نَعَمْ يَكُونُ أَوْلَى عِنْدَ التَّعَارُضِ كَمَا إذَا دَخَلَا فِي الْحُكْمِ، وَاتَّحَدَتْ الْحَادِثَةُ، وَهَاهُنَا لَا تَعَارُضَ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ أَوْجَبْت فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إعْتَاقَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، وَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إعْتَاقَ رَقَبَةٍ كَيْفَ كَانَتْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامَانِ مُتَعَارِضَيْنِ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ) فَإِنْ قُلْت الْآيَةُ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ، وَالْبَحْثَ عَنْ الْقُيُودِ وَالْأَوْصَافِ الْغَيْرِ الْمَذْكُورَةِ يُوجِبُ التَّغْلِيظَ وَالْمُسَاءَةَ لَا عَلَى أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ يُوجِبُ ذَلِكَ قُلْتُ إذَا كَانَ الْبَحْثُ عَنْ الْقَيْدِ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ يُوجِبُ ذَلِكَ فَالتَّقْيِيدُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ مُوجِبَ الْمُسَاءَةِ هُوَ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَالْأَشْيَاءُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا، وَقَدْ يُقَالُ فِي وَجْهِ الِاسْتِدْلَالِ: إنَّ الْوَصْفَ فِي الْمُطْلَقِ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَالسُّؤَالُ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مَنْهِيٌّ بِهَذَا النَّصِّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ بَلْ الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . (قَوْلُهُ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هَذَا لَا يَقُومُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ) لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً فِي الْفُرُوعِ فَضْلًا عَنْ الْأُصُولِ. (قَوْلُهُ: وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُمُّ الْمَرْأَةِ مُبْهَمَةٌ

وَلِأَنَّ إعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ، وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ) فَيُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ فِي مَوْرِدِهِ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ، وَهُوَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْحَادِثَةِ، وَالْحُكْمِ فَهَذِهِ الدَّلَائِلُ لِنَفْيِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْحَمْلُ مُطْلَقًا فَالْآنَ شَرَعَ فِي نَفْيِ الْمَذْهَبِ الثَّانِي، وَهُوَ الْحَمْلُ إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسَ بِقَوْلِهِ (وَالنَّفْيُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَكَيْفَ يُعْدَى) جَوَابٌ عَمَّا قَالُوا إنَّهُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا أَنَّ النَّفْيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَنَحْنُ نَقُولُ هُوَ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ الْمُؤْمِنَةِ، وَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى الْكَافِرَةِ أَصْلًا، وَالْأَصْلُ عَدَمُ إجْزَاءِ تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ، وَقَدْ ثَبَتَ إجْزَاءُ الْمُؤْمِنَةِ بِالنَّصِّ فَبَقِيَ عَدَمُ إجْزَاءِ الْكَافِرَةِ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَلَا بُدَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ كَوْنِ الْمُعَدَّى حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِعْدَامَ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: عَدَمُ إجْزَاءِ مَا لَا يَكُونُ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ كَعَدَمِ إجْزَاءِ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَغَيْرِهِمَا، وَالثَّانِي عَدَمُ إجْزَاءِ مَا يَكُونُ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ غَيْرِ مُؤْمِنَةٍ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ إعْدَامٌ أَصْلِيٌّ بِلَا خِلَافٍ، وَالْقِسْمُ الثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَعِنْدَنَا عَدَمٌ أَصْلِيٌّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْوَصْفِ دَالٌّ عِنْدَهُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَوْصُوفِ بِدُونِ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبْهِمُوهَا) أَيْ خَالٍ تَحْرِيمُهَا عَنْ قَيْدِ الدُّخُولِ الثَّابِتِ فِي الرَّبَائِبِ فَأَطْلِقُوهَا، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ كَذَا فِي التَّقْوِيمِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي صُورَةٍ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى الْأَصْلِ الْكُلِّيِّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّلِيلُ لَاحَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ إعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ، وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ) ، وَذَلِكَ فِي إجْزَاءِ الْمُطْلَقِ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَالْمُقَيَّدِ عَلَى تَقْيِيدِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ إذْ لَوْ حُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ يَلْزَمُ إبْطَالُ الْمُطْلَقِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى إجْزَاءِ الْمُقَيَّدِ، وَغَيْرِ الْمُقَيَّدِ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إبْطَالٌ لِلْأَمْرِ الثَّانِي، وَبِهَذَا ظَهَرَ فَسَادُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيَّةُ مِنْ أَنَّ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ إذْ الْعَمَلُ بِالْمُقَيَّدِ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ بِالْمُطْلَقِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ لِحُصُولِ الْمُطْلَقِ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ الْمُقَيَّدِ فَإِنْ قِيلَ حُكْمُ الْمُقَيَّدِ يُفْهَمُ مِنْ الْمُطْلَقِ فَلَوْ لَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ يَلْزَمُ إلْغَاءُ الْمُقَيَّدِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُفِيدُ اسْتِحْبَابَ الْمُقَيَّدِ، وَفَضْلِهِ، وَأَنَّهُ عَزِيمَةٌ، وَالْمُطْلَقُ رُخْصَةٌ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ. (قَوْلُهُ: وَالنَّفْيُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ) يَعْنِي أَنَّ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بِالْقِيَاسِ فَاسِدٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ لَيْسَ تَعْدِيَةً لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَلْ لِلْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَهُوَ عَدَمُ إجْزَاءِ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ فِي صُورَةِ التَّقْيِيدِ لِمَا سَيَجِيءُ فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ فِيهِ إبْطَالًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ الْمُطْلَقِ، وَهُوَ إجْزَاءُ غَيْرِ الْمُقَيَّدَ كَالْكَافِرَةِ مَثَلًا. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ عَدَمُ النَّصِّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمَقِيسِ أَوْ انْتِفَائِهِ، وَهَاهُنَا الْمُطْلَقُ نَصٌّ دَالٌّ عَلَى إجْزَاءِ الْمُقَيَّدِ

الْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] فَلَوْ لَمْ يَقُلْ مُؤْمِنَةٍ لَجَازَ تَحْرِيرُ الْكَافِرَةِ فَلَمَّا قَالَ {مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] لَزِمَ مِنْهُ نَفْيُ تَحْرِيرِ الْكَافِرَةِ فَيَكُونُ النَّفْيُ مَدْلُولَ النَّصِّ فَكَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَنَحْنُ نَقُولُ أَوْجَبَ تَحْرِيرَ الْمُؤْمِنَةِ ابْتِدَاءً، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ الْكَافِرَةِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ فَصَدْرُ الْكَلَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْآخِرِ، وَيَثْبُتُ حُكْمُ الصَّدْرِ بَعْدَ التَّكَلُّمِ بِالْمُغَيِّرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّنَاقُضُ فَلَا يَكُونُ إيجَابُ الرَّقَبَةِ ثُمَّ نَفْيُ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ بِالنَّصِّ الْمُقَيَّدِ بَلْ النَّصُّ لِإِيجَابِ الرَّقَبَةِ الْمُؤْمِنَةِ ابْتِدَاءً فَتَكُونُ الْكَافِرَةُ بَاقِيَةً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ كَمَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْإِعْدَامِ، وَشَرْطُ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُعَدَّى حُكْمًا شَرْعِيًّا لَا عَدَمًا أَصْلِيًّا. (وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعَدَّى الْقَيْدُ فَيُثْبِتَ الْعَدَمُ ضِمْنًا جَوَابَ إشْكَالٍ مُقَدَّرٍ) ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ نَحْنُ نُعَدِّي الْقَيْدَ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَيَثْبُتُ عَدَمُ إجْزَاءِ الْكَافِرَةِ ضِمْنًا لَا أَنَّا نُعَدِّي هَذَا الْعَدَمَ قَصْدًا، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ فَنُجِيبُ بِقَوْلِنَا (لِأَنَّ الْقَيْدَ) ، وَهُوَ قَيْدُ الْإِيمَانِ مَثَلًا (يَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ فِي الْمُقَيَّدِ) أَيْ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ الْإِجْزَاءُ فِي تَحْرِيرِ رَقَبَةٍ يُوجَدُ فِيهِ قَيْدُ الْإِيمَانِ (وَالنَّفْيُ فِي غَيْرِهِ) أَيْ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ، وَهُوَ نَفْيُ الْإِجْزَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّعْيِينِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْقِيَاسِ إجْزَاءُ الْمُقَيَّدِ، وَلَا عَدَمُ إجْزَاءِ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ لَا يُقَالُ الْمُطْلَقُ سَاكِتٌ عَنْ الْقَيْدِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لَهُ لَا بِالنَّفْيِ، وَلَا بِالْإِثْبَاتِ فَيَكُونُ الْمَحَلُّ فِي حَقِّ الْوَصْفِ خَالِيًا عَنْ النَّصِّ لِأَنَّا نَقُولُ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ نَاطِقٌ بِالْحُكْمِ فِي الْمَحَلِّ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَيْدُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ لِلصِّفَاتِ لَا بِالنَّفْيِ، وَلَا بِالْإِثْبَاتِ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالتَّعْيِينِ هَذَا، وَلَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إنَّ الْمُعَدَّى هُوَ وُجُوبُ الْقَيْدِ لَا إجْزَاءُ الْمُقَيَّدِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّصَّ الْمُطْلَقَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْقَيْدِ بَلْ عَلَى وُجُوبِ الْمُطْلَقِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي ضِمْنِ الْمُقَيَّدِ أَوْ غَيْرِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ إنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذِهِ التَّعَدِّيَةِ لَا يَلْزَمُ عَدَمُ إجْزَاءِ غَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ كَالْكَافِرَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ نَصَّانِ مُطْلَقٌ، وَمُقَيَّدٌ تَقْدِيرًا، وَلَا دَلَالَةَ لِلْمُقَيَّدِ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَيْدِ فَيَجُوزُ الْكَافِرَةُ بِالنَّصِّ الْمُطْلَقِ، وَالْمُؤْمِنَةُ بِهِ، وَبِالنَّصِّ الْمُقَيَّدِ أَيْضًا، وَلَا امْتِنَاعَ فِي اجْتِمَاعِ النَّصِّ، وَالْقِيَاسِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّا نَقُولُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمُطْلَقُ، وَالْمُقَيَّدُ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْحُكْمِ فَالْحَمْلُ، وَاجِبٌ اتِّفَاقًا كَمَا مَرَّ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْقَيْدَ يَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ فِي الْمُقَيَّدِ، وَالنَّفْيِ فِي غَيْرِهِ) فَإِنْ قُلْت هَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ النَّفْيَ أَيْضًا مَدْلُولُ النَّصِّ كَالْإِثْبَاتِ فَيَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا ضَرُورَةً فَيُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْمُقَيَّدِ عَلَى نَفْيِ الْكَافِرَةِ أَصْلًا، وَأَنَّهُ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ لَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ مُجَارَاةِ الْخَصْمِ بِتَسْلِيمِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهِ

[فصل حكم المشترك]

فِي الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَيْدَ يَدُلُّ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ. (وَالْأَوَّلُ) ، وَهُوَ إجْزَاءُ الْمُؤْمِنَةِ (حَاصِلٌ فِي الْمَقِيسِ) ، وَهُوَ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ (بِالنَّصِّ الْمُطْلَقِ) ، وَهُوَ قَوْلُهُ أَوْ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ (فَلَا يُفِيدُ تَعْدِيَتُهُ فَهِيَ) أَيْ التَّعْدِيَةُ (فِي الْمَثَانِي فَقَطْ فَتَعْدِيَةُ الْقَيْدِ تَعْدِيَةُ الْعَدَمِ بِعَيْنِهَا) أَيْ بِعَيْنِ تَعْدِيَةِ الْعَدَمِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَهَا فَهِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْهَا أَيْ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْدِيَةُ الْقَيْدِ غَيْرَ تَعْدِيَةِ الْعَدَمِ فَتَعْدِيَةُ الْعَدَمِ مَقْصُودَةٌ مِنْ تَعْدِيَةِ الْقَيْدِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ تَعْدِيَةَ الْقَيْدِ هِيَ عَيْنُ تَعْدِيَةِ الْعَدَمِ، وَإِنْ سَلِمَ أَنَّ مَفْهُومَ تَعْدِيَةِ الْقَيْدِ غَيْرُ مَفْهُومِ تَعْدِيَةِ الْعَدَمِ فَتَعْدِيَةُ الْعَدَمِ مَقْصُودَةٌ مِنْ تَعْدِيَةِ الْقَيْدِ فَبَطَلَ قَوْلُهُ نَحْنُ نُعَدِّي الْقَيْدَ فَثَبَتَ الْعَدَمُ ضِمْنًا بَلْ الْعَدَمُ يَثْبُتُ قَصْدًا، وَهُوَ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ (فَتَكُونُ) أَنَّ تَعْدِيَةَ الْقَيْدِ (لِإِثْبَاتِ مَا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ) ، وَهُوَ عَدَمُ إجْزَاءِ الْكَافِرَةِ فَإِنَّهُ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ. (وَإِبْطَالُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ) ، وَهُوَ إجْزَاءُ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ (الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْمُطْلَقُ) ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] . (وَكَيْفَ يُقَاسُ مَعَ وُرُودِ النَّصِّ) فَإِنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَقِيسِ نَصٌّ دَالٌّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُعَدَّى أَوْ عَلَى عَدَمِهِ. (وَلَيْسَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ كَمَا زَعَمُوا لِيَجُوزَ بِالْقِيَاسِ) جَوَابٌ عَنْ الدَّلِيلِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمَحْصُولِ عَلَى جَوَازِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إنْ اقْتَضَى الْقِيَاسُ حَمْلَهُ، وَهُوَ أَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى الْأَفْرَادِ فَوْقَ دَلَالَةِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهَا لِأَنَّ دَلَالَةَ الْعَامِّ عَلَى الْأَفْرَادِ قَصْدِيَّةٌ، وَدَلَالَةَ الْمُطْلَقِ عَلَيْهَا ضِمْنِيَّةٌ، وَالْعَامُّ يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ اتِّفَاقًا بَيْنَنَا، وَبَيْنَكُمْ فَيَجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ الْمُطْلَقُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَكُمْ أَيْضًا فَأَجَابَ بِمَنْعِ جَوَازِ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْقِيَاسِ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ الْعَامُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي السِّيَاقِ، وَالسِّيَاقُ قُلْت تَسَامُحٌ فِي الْعِبَارَةِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْقَيْدَ فُهِمَ أَنَّ عَدَمَ إجْزَاءِ الْكَافِرَةِ بَاقٍ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ. (قَوْلُهُ:، وَدَلَالَةُ الْمُطْلَقِ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْأَفْرَادِ ضِمْنِيَّةٌ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ إلَى نَفْسِ الْحَقِيقَةِ أَوْ إلَى حِصَّةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ مُحْتَمِلَةٍ لِحِصَصٍ كَثِيرَةٍ، وَالْمُرَادُ دَلَالَتُهُ عَلَى الْأَفْرَادِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ دُونَ الشُّمُولِ لِظُهُورِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إعْتَاقِ رَقَبَةٍ مَا. (قَوْلُهُ: لَا يُقَالُ أَنْتُمْ قَيَّدْتُمْ الرَّقَبَةَ بِالسَّلَامَةِ) مَوْرِدُ الْإِشْكَالِ لَيْسَ حَمْلَ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَلْ إبْطَالُ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ فِي الْمَحْصُولِ جَوَابًا عَمَّا قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ: أَعْتِقْ رَقَبَةً يَقْتَضِي تَمَكُّنَ الْمُكَلَّفِ مِنْ إعْتَاقِ أَيِّ رَقَبَةٍ شَاءَ مِنْ رِقَابِ الدُّنْيَا فَلَوْ دَلَّ الْقِيَاسُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ إلَّا الْمُؤْمِنَةُ لَكَانَ الْقِيَاسُ دَلِيلًا عَلَى زَوَالِ الْمُكْنَةِ الثَّابِتَةِ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ الْقِيَاسُ نَاسِخًا، وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ [فَصْلٌ حُكْمُ الْمُشْتَرَكِ] (قَوْلُهُ: فَصْلُ حُكْمِ الْمُشْتَرَكِ التَّأَمُّلُ) فِي نَفْسِ الصِّيغَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَالْأَمَارَاتِ لِيَتَرَجَّحَ أَحَدُ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، وَلَمَّا

مُخَصَّصًا بِقَطْعِيٍّ، وَهُنَا يَثْبُتُ الْقَيْدُ ابْتِدَاءً بِالْقِيَاسِ لَا أَنَّهُ قُيِّدَ أَوَّلًا بِالنَّصِّ ثُمَّ بِالْقِيَاسِ فَيَصِيرُ الْقِيَاسُ هُنَا مُبْطِلًا لِلنَّصِّ) فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَامَّ لَا يُخَصُّ بِالْقِيَاسِ عِنْدَنَا مُطْلَقًا بَلْ إنَّمَا يُخَصُّ إذَا خُصَّ أَوَّلًا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَفِي مَسْأَلَةِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ لَمْ يُقَيَّدْ الْمُطْلَقُ بِنَصٍّ أَوَّلًا حَتَّى يُقَيَّدَ ثَانِيًا بِالْقِيَاسِ بَلْ الْخِلَافُ فِي تَقْيِيدِهِ ابْتِدَاءً بِالْقِيَاسِ فَلَا يَكُونُ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ. (وَقَدْ قَامَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْقَتْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ) لِمَا ذَكَرَ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ، وَهُوَ أَنَّ تَقْيِيدَ الْمُطْلَقِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ تَنَزُّلُهُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْجُزْئِيَّةِ، وَذَكَرَ فِيهَا مَانِعًا آخَرَ يَمْنَعُ الْقِيَاسَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ فَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي كَفَّارَتِهِ الْإِيمَانُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا دُونَهُ فَإِنَّ تَغْلِيظَ الْكَفَّارَةِ بِقَدْرِ غِلَظِ الْجِنَايَةِ. (لَا يُقَالُ أَنْتُمْ قَيَّدْتُمْ الرَّقَبَةَ بِالسَّلَامَةِ) هَذَا إشْكَالٌ أَوْرَدَهُ عَلَيْنَا فِي الْمَحْصُولِ، وَهُوَ أَنَّكُمْ قَيَّدْتُمْ الْمُطْلَقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ نَاقِصًا فِي كَوْنِهِ رَقَبَةً، وَهُوَ فَائِتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا مَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ) أَيْ الْكَامِلِ فِيمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ كَالْمَاءِ الْمُطْلَقِ لَا يَنْصَرِفُ إلَى مَاءِ الْوَرْدِ فَلَا يَكُونُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَامِلِ تَقْيِيدًا. (وَلَا يُقَالُ أَنْتُمَا قَيَّدْتُمْ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ زَكَاةٌ» بِقَوْلِهِ «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» مَعَ أَنَّهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQكَانَ هُنَا مَظِنَّةَ أَنْ يُقَالَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ، وَتَأَمُّلٍ فِيمَا يَحْصُلُ بِهِ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا أَوْرَدَ عَقِيبَ ذَلِكَ مَسْأَلَةَ امْتِنَاعِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ، وَتَحْرِيرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْمُشْتَرَكِ فِي اسْتِعْمَالٍ وَاحِدٍ كُلُّ وَاحِدٍ فَمِنْ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ بِأَنْ تَتَعَلَّقَ النِّسْبَةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ بِأَنْ يُقَالَ رَأَيْت الْعَيْنَ، وَيُرَادُ بِهَا الْبَاصِرَةُ، وَالْجَارِيَةُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَفِي الدَّارِ الْجَوْنُ أَيْ الْأَسْوَدُ، وَالْأَبْيَضُ، وَأَقْرَأَتْ هِنْدٌ أَيْ حَاضَتْ، وَطَهُرَتْ فَقِيلَ يَجُوزُ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ، وَقِيلَ فِي النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ، وَإِلَيْهِ مَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ بِخِلَافِ صِيغَةِ أَفْعَلَ عَلَى قَصْدِ الْأَمْرِ، وَالتَّهْدِيدِ أَوْ الْوُجُوبِ، وَالْإِبَاحَةِ مَثَلًا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ فَقِيلَ حَقِيقَةٌ، وَقِيلَ مُجَازٌ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْمَعْنَيَيْنِ يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ التَّجَرُّدِ عَنْ الْقَرَائِنِ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى أَحَدِهِمَا خَاصَّةً إلَّا بِقَرِينَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ فَالْعَامُّ عِنْدَهُ قِسْمَانِ قِسْمٌ مُتَّفِقُ الْحَقِيقَةِ، وَقِسْمٌ مُخْتَلِفُ الْحَقِيقَةِ، وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ فَقِيلَ لَا يُمْكِنُ لِلدَّلِيلِ الْقَائِمِ عَلَى امْتِنَاعِهِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقِيلَ يَصِحُّ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ اللُّغَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ مِثْلُ الْعُيُونِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْمُفْرَدِ فَإِنْ جَازَ

دَخَلَا فِي السَّبَبِ) ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَكُمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْحَادِثَةُ إذَا دَخَلَا عَلَى السَّبَبِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ. (وَقَيَّدْتُمْ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] مَعَ أَنَّهُمَا فِي حَادِثَتَيْنِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فَأَجَابَ عَنْ الْإِشْكَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ قَيْدَ الْإِسَامَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِي الْعَوَامِلِ، وَالْحَوَامِلِ، وَالْعَلُوفَةِ صَدَقَةٌ» ، وَالْعَدَالَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] . (فَصْلٌ حُكْمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQجَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَقِيلَ يَجُوزُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فِي الْمُفْرَدِ، وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ لَا حَقِيقَةً، وَلَا مَجَازًا أَمَّا حَقِيقَةٌ فَلِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ اللَّفْظِ مَوْضُوعًا لِمَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ لِيَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ اسْتِعْمَالًا فِي نَفْسِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونَ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْضُوعًا لِمَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ لَمَا صَحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ حَقِيقَةً ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ بَلْ لَهُ جُزْءٌ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنَّ مَنْعَ الْمُلَازَمَةِ مُسْتَنِدًا بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ كَمَا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْمَجْمُوعِ فَجَوَابُهُ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الْمَجْمُوعِ حِينَئِذٍ يَكُونُ اسْتِعْمَالًا فِي أَحَدِ الْمَعَانِي، وَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهِ فَإِنْ قِيلَ لَا نَعْنِي بِاسْتِعْمَالِهِ فِي مَجْمُوعِ الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَةَ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَجْمُوعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُهُ مَوْضُوعًا لِلْمَجْمُوعِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى أَنَّهُ نَفْسُ الْمُرَادِ لَا جُزْءٌ مِنْ مَعْنًى ثَالِثٍ هُوَ الْمُرَادُ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ إلَّا كَوْنُهُ مَوْضُوعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ فَجَوَابُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لَهُ بِدُونِ الْآخَرِ أَيْ بِشَرْطِ انْفِرَادِهِ عَنْ الْآخَرِ أَوْ مُطْلَقًا أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ انْفِرَادِهِ عَنْ الْآخَرِ أَوْ اجْتِمَاعِهِ مَعَهُ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ بِشَرْطِ الْآخَرِ لِمَا مَرَّ فِي بَيَانِ انْتِفَاءِ وَضْعِهِ لِلْمَجْمُوعِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ يَثْبُتُ الْمُدَّعِي إمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ، وَإِمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّ وَضْعَ اللَّفْظِ عِبَارَةٌ عَنْ تَخْصِيصِهِ بِالْمَعْنَى أَيْ جَعْلُهُ بِحَيْثُ يَقْتَصِرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَتَجَاوَزُهُ، وَلَا يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ فَدَائِمًا لَا يُمْكِنُ إلَّا اعْتِبَارُ وَضْعٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ اعْتِبَارَ كُلٍّ مِنْ الْوَضْعَيْنِ يُنَافِي اعْتِبَارَ الْآخَرِ ضَرُورَةَ أَنَّ اعْتِبَارَ وَضْعِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ إرَادَةَ هَذَا الْمَعْنَى خَاصَّةً، وَاعْتِبَارَ وَضْعِهِ لِلْمَعْنَى الْآخَرِ يُوجِبُ إرَادَتَهُ خَاصَّةً فَلَوْ اُعْتُبِرَ الْوَضْعَانِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ صِفَةُ الِانْفِرَادِ عَنْ الْآخَرِ، وَالِاجْتِمَاعُ مَعَهُ بِحَسَبِ الْإِرَادَةِ بَلْ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَادًا وَغَيْرُ مُرَادٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ عَرَفَ سَبَبَ وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ

الْمُشْتَرَكِ التَّأَمُّلُ حَتَّى يَتَرَجَّحَ أَحَدُ مَعَانِيهِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ لَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلْمَجْمُوعِ) اعْلَمْ أَنَّ الْوَاضِعَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وُضِعَ الْمُشْتَرَكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ بِدُونِ الْآخَرِ أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ الْآخَرِ أَيْ لِلْمَجْمُوعِ أَوْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطْلَقًا، وَالثَّانِي غَيْرُ وَاقِعٍ لِأَنَّ الْوَاضِعَ لَمْ يَضَعْهُ لِلْمَجْمُوعِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَكِنَّ هَذَا صَحِيحٌ اتِّفَاقًا، وَأَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ الْوُقُوعِ يَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ اسْتِعْمَالًا فِي أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِنْ وُجِدَ الْأَوَّلُ أَوْ الثَّالِثُ ثَبَتَ الْمُدَّعَى لِأَنَّ الْوَضْعَ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى فَكُلُّ وَضْعٍ يُوجِبُ أَنَّ الْإِيرَادَ بِاللَّفْظِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِالْمَوْضُوعِ لَهُ، وَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى تَمَامَ الْمُرَادِ بِاللَّفْظِ فَاعْتِبَارُ كُلٍّ مِنْ الْمَوْضُوعَيْنِ يُنَافِي اعْتِبَارَ الْآخَرِ، وَمَنْ عَرَفَ سَبَبَ وُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ امْتِنَاعُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ فَقَوْلُهُ: لَا نَعْلَمُ بِوَضْعٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQامْتِنَاعُ اسْتِعْمَالِهِ) أَيْ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَةً فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَهُ هُوَ الْوَضْعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ إمَّا لِلِابْتِلَاءِ إنْ كَانَ الْوَاضِعُ هُوَ اللَّهَ تَعَالَى، وَإِمَّا لِقَصْدِ الْإِبْهَامِ أَوْ لِغَفْلَةٍ مِنْ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ أَوْ لِاخْتِلَافِ الْوَاضِعِينَ إنْ كَانَ غَيْرَهُ، وَالْوَضْعُ هُوَ تَخْصِيصُ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى فَلَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَةً لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَفْسَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي خُصَّ بِهِ اللَّفْظُ، وَهُوَ بَاطِلٌ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ التَّخْصِيصِ عِنْدَ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْآخَرِ، وَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ مَنْشَؤُهَا اشْتِرَاكُ لَفْظِ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ بَيْنَ قَصْرِ الْمُخَصَّصِ عَلَى الْمُخَصَّصِ بِهِ كَمَا يُقَالُ فِي مَا زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ أَنَّهُ لِتَخْصِيصِ زَيْدٍ بِالْقِيَامِ، وَبَيْنَ جَعْلِ الْمُخَصَّصِ مُنْفَرِدًا مِنْ بَيْنِ الْأَشْيَاءِ بِالْحُصُولِ لِلْمُخَصَّصِ بِهِ كَمَا يُقَالُ فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] مَعْنَاهُ نَخُصُّك بِالْعِبَادَةِ، وَفِي ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّهُ لِتَخْصِيصِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ بِالْمُسْنَدِ، وَخَصَصْت فُلَانًا بِالذِّكْرِ أَيْ ذَكَرْته، وَحْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِتَخْصِيصِ اللَّفْظِ بِالْمَعْنَى أَيْ تَعْيِينُهُ لِذَلِكَ الْمَعْنَى، وَجَعْلُهُ مُنْفَرِدًا بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ الْأَلْفَاظِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ إلَّا هَذَا الْمَعْنَى فَلِلْخَصْمِ أَنْ يَخْتَارَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ مُطْلَقًا أَيْ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ انْفِرَادٍ أَوْ اجْتِمَاعٍ فَيُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لَهُ خَاصَّةً مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ فِي الْآخِرَةِ، وَتَارَةً مَعَ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ، وَالْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ فِي الْحَالَيْنِ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ اللَّفْظُ حَقِيقَةً، وَأَمَّا إنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ مَجَازًا فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا سَيَأْتِي بَيَانُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ بِهِ الْمَجْمُوعُ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ مُرَادٌ، وَهُوَ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ يَلْزَمُ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَجَازِيِّ مِنْ اللَّفْظِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَجْمُوعُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ دَاخِلًا فِي الْمُرَادِ لَا نَفْسِ الْمُرَادِ، وَمِثْلُ هَذَا

لِلْمَجْمُوعِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا لِلْمَجْمُوعِ، وَوَضْعُهُ لِلْمَجْمُوعِ مُنْتَفٍ أَمَّا عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا كَمَا ذَكَرْنَا. (وَلَا مَجَازًا لِاسْتِلْزَامِهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ) فَإِنَّ اللَّفْظَ إنْ اُسْتُعْمِلَ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَجَازِيِّ مَعًا، وَهَذَا لَا يَجُوزُ. (فَإِنْ قِيلَ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الْآيَةَ وَالصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ قُلْنَا لَا اشْتِرَاكَ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لِإِيجَابِ الِاقْتِدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّحَادِ مَعْنَى ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ كَالْعَامِّ الْمَوْضُوعِ لِلْمَجْمُوعِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَجْمُوعُ، وَدَخَلَ تَحْتَهُ كُلُّ فَرْدٍ، وَهُوَ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَأَجَابَ بِأَنَّ إرَادَةَ الْمَجْمُوعِ فِي الْمُشْتَرَكِ لَيْسَتْ إلَّا إرَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ إذْ لَيْسَ هَاهُنَا مَجْمُوعٌ يُرَادُ بِاللَّفْظِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ بِخِلَافِ الْعَامِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَا مَجْمُوعٌ يُرَادُ بِاللَّفْظِ، وَيُغَايِرُ كُلًّا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ فَقَدْ تَمَّ الِاعْتِرَاضُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ الْمُرَادُ فَلَمْ يَلْزَمْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ إلَّا وَجْهُ أَنْ يُقَالَ مَحَلُّ النِّزَاعِ هُوَ اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرَكِ فِي الْمَعْنَيَيْنِ أَوْ الْمَعَانِي أَوْ أَكْثَرَ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَادًا بِاللَّفْظِ، وَمَنَاطًا لِلْحُكْمِ لَا دَاخِلًا تَحْتَ مَعْنًى ثَالِثٍ هُوَ الْمُرَادُ، وَالْمَنَاطُ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِأَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَاقَةٌ فَيُرَادُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّهُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالْآخَرُ عَلَى أَنَّهُ يُنَاسِبُ الْمَوْضُوعَ لَهُ بِعَلَاقَةٍ فَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ إذْ لَوْ أُرِيدَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ كَانَ اللَّفْظُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَالتَّقْدِيرُ بِخِلَافِهِ، وَلَوْ أُرِيدَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلْمَوْضُوعِ لَهُ فَلِذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ يَتَنَاوَلُهُمَا لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَفْرَادِهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَأَمَّا بِاسْتِعْمَالِهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ مَعْنًى مَجَازِيٌّ بِالِاسْتِقْلَالِ، وَسَيَجِيءُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَيَيْنِ مَجَازِيَّيْنِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لُزُومُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي الْمَجْمُوعِ بِاعْتِبَارِ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ فَيَكُونُ حَقِيقَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مَجَازًا فِي الْمَجْمُوعِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْوَضْعِ الثَّالِثِ، وَالْعَلَاقَةِ قُلْنَا سَيَجِيءُ أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ مَشْرُوطٌ بِلُزُومٍ، وَاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ الرَّقَبَةِ، وَالشَّخْصِ بِخِلَافِ إطْلَاقِ الْوَاحِدِ عَلَى الِاثْنَيْنِ، وَإِطْلَاقِ الْأَرْضِ عَلَى مَجْمُوعِ السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ فَإِنَّهُ لَا قَائِلَ بِصِحَّتِهِ عَلَى أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَعُودُ الِاعْتِرَاضُ السَّابِقُ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ. (قَوْلُهُ: لَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الرَّكَاكَةِ) لِأَنَّ إيجَابَ الِاقْتِدَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالْحَمْلِ، وَالتَّحْرِيضِ عَلَى مَا صَدَرَ عَنْ الْمُقْتَدَى بِهِ إذْ لَا إيجَابَ اقْتِدَاءٍ فِي مِثْلِ فُلَانٍ يُصَلِّي فَاقْرَءُوا الْقُرْآنَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ رَكَاكَةَ

الصَّلَاةِ مِنْ الْجَمِيعِ لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوْصُوفِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ لَا بِحَسَبِ الْوَضْعِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُجَوِّزِينَ تَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] فَإِنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَةٌ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ، وَقَدْ أَوْرَدُوا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ قِبَلِنَا إشْكَالًا فَاسِدًا، وَهُوَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ مُتَعَدِّدٌ بِتَعَدُّدِ الضَّمَائِرِ فَكَأَنَّهُ كَرَّرَ لَفْظَ يُصَلِّي، وَأَجَابُوا عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّعَدُّدَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى لَا بِحَسَبِ اللَّفْظِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى هَذَا، وَهَذَا الْإِشْكَالُ مِنْ قِبَلِنَا فَاسِدٌ لِأَنَّا لَا نُجَوِّزُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْ فِي صُورَةِ تَعَدُّدِ الضَّمَائِرِ أَيْضًا فَتَكُونُ الْآيَةُ مِنْ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ لَنَا أَنَّ فِي الْآيَةِ لَمْ يُوجَدْ اسْتِعْمَالُ الْمُشْتَرَكِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مَعْنًى وَاحِدٍ لِأَنَّ سِيَاقَ الْآيَةِ لِإِيجَابِ اقْتِدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمَلَائِكَتِهِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ مِنْ الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْحَمُ النَّبِيَّ وَالْمَلَائِكَةُ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُدْعُوا لَهُ لَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَلَامِ، وَعَدَمَ إيجَابِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ اخْتِلَافِ مَعَانِي الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا يَلْزَمُ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِيجَابِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا رَكَاكَةَ فِي مِثْلِ قَوْلِنَا إنَّ السُّلْطَانَ قَدْ أَطْلَقَ زَيْدًا أَوْ الْأَمِيرَ قَدْ خَلَعَ عَلَيْهِ فَاخْدِمُوهُ، وَعَظِّمُوهُ أَيُّهَا الرَّعَايَا فَكَذَا الْمُرَادُ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْحَمُ النَّبِيَّ، وَيُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ، وَكِبْرِيَائِهِ، وَالْمَلَائِكَةُ يُعَظِّمُونَهُ بِمَا فِي وُسْعِهِمْ فَأْتُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِكُمْ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَلَامًا حَسَنًا. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا بَيَّنُوا) يَعْنِي أَنَّ ذِكْرَ اخْتِلَافِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عِنْدَ بَيَانِ اخْتِلَافِ الْمَعْنَى حَيْثُ قَالُوا الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ رَحْمَةٌ، وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ اسْتِغْفَارٌ، وَمِنْ النَّاسِ دُعَاءٌ يُشْعِرُ بِأَنَّ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي نَفْسِهِ وَاحِدٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوْصُوفِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ بِأَوْضَاعٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِيَلْزَمَ الِاشْتِرَاكُ. (قَوْلُهُ: هَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ) نَعَمْ لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيهِ لِإِيجَابِ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ فِي الْآيَةِ بَلْ اكْتَفَى بِمَنْعِ اشْتِرَاكِ لَفْظِ الصَّلَاةِ بَيْنَ الْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ، وَتَجْوِيزِ أَنْ يُرَادَ بِهِ فِي الْكُلِّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ أَوْ الْمَجَازُ. (قَوْلُهُ: إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ الِانْقِيَادُ فِي الْجَمِيعِ) فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالِانْقِيَادِ امْتِثَالُ أَوَامِرِ التَّكَالِيفِ، وَنَوَاهِيهَا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ فَهُوَ لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمُكَلَّفِينَ، وَإِنْ أُرِيدَ امْتِثَالُ حُكْمِ التَّكْوِينِ، وَالتَّسْخِيرِ أَوْ مُطْلَقُ الْإِطَاعَةِ أَعَمُّ مِنْ هَذَا، وَذَاكَ فَشُمُولُهُ لِجَمِيعِ النَّاسِ ظَاهِرٌ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ بِمَعْنًى آخَرَ يَخُصُّهُمْ كَوَضْعِ الْجَبْهَةِ أَوْ امْتِثَالِ التَّكَالِيفِ فَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ مِنْ أَنَّهَا عَلَى حَذْفِ الْفِعْلِ أَيْ وَيَسْجُدُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّجُودِ الْأَوَّلِ الِانْقِيَادُ، وَالْخُضُوعُ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى شُمُولِهِ جَمِيعَ النَّاسِ ذِكْرُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَبِالثَّانِي سُجُودُ

الرَّكَاكَةِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اتِّحَادِ مَعْنَى الصَّلَاةِ سَوَاءٌ كَانَ مَعْنًى حَقِيقِيًّا أَوْ مَعْنًى مَجَازِيًّا أَمَّا الْحَقِيقِيُّ فَهُوَ الدُّعَاءُ فَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ تَعَالَى يَدْعُو ذَاتَه بِإِيصَالِ الْخَيْرِ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الدُّعَاءِ الرَّحْمَةُ فَاَلَّذِي قَالَ: إنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى رَحْمَةٌ فَقَدْ أَرَادَ هَذَا الْمَعْنَى لَا أَنَّ الصَّلَاةَ وُضِعَتْ لِلرَّحْمَةِ كَمَا ذَكَرَ فِي قَوْله تَعَالَى {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] أَنَّ الْمَحَبَّةَ مِنْ اللَّهِ إيصَالُ الثَّوَابِ، وَمِنْ الْعَبْدِ طَاعَةٌ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَحَبَّةَ مُشْتَرَكَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَوْضُوعُ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَحَبَّةِ لَازِمَهَا، وَاللَّازِمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ، وَمِنْ الْعَبْدِ هَذَا، وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ فَكَإِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَقَامِ ثُمَّ إنْ اخْتَلَفَ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِأَجْلِ اخْتِلَافِ الْمَوْصُوفِ فَلَا بَأْسَ بِهِ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الِاشْتِرَاكِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَلَمَّا بَيَّنُوا اخْتِلَافَ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ وَاحِدٌ لَكِنَّهُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْمَوْصُوفِ لَا أَنَّ مَعْنَاهُ مُخْتَلِفٌ وَضْعًا، وَهَذَا جَوَابٌ حَسَنٌ تَفَرَّدْت بِهِ، وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الحج: 18] الْآيَةَ حَيْثُ نَسَبَ السُّجُودَ إلَى الْعُقَلَاءِ، وَغَيْرِهِمْ كَالشَّجَرِ، وَالدَّوَابِّ فَمَا نُسِبَ إلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ يُرَادُ بِهِ الِانْقِيَادُ لَا وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ وَمَا نُسِبَ إلَى الْعُقَلَاءِ يُرَادُ بِهِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّجُودِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْإِنْسَانِ هُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الِانْقِيَادَ لَمَا قَالَ {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] لِأَنَّ الِانْقِيَادَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ أَقُولُ تَمَسُّكُهُمْ بِهَذِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالطَّاعَةِ، وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ غَيْرُ شَامِلٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ) هَذَا أَيْضًا بَعِيدٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السُّجُودِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ لَا وَضْعُ الرَّأْسِ حَتَّى لَوْ وَضَعَ الرَّأْسَ مِنْ جَانِبِ الْقَفَا لَمْ يَكُنْ سَاجِدًا، وَلَوْ سَلَّمَ فَإِثْبَاتُ حَقِيقَةِ الرَّأْسِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ كَالسَّمَاوِيَّاتِ مَثَلًا مِنْ الشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَغَيْرِهِمَا مُشْكِلٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَفِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْخَفِيِّ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ أَلَمْ تَرَ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَتِهِ) فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِاسْتِحَالَتِهِ مِنْ الْجَمَادَاتِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنْ لَيْسَ ذَلِكَ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنْ لَيْسَ لَهَا وُجُوهٌ، وَلَا جِبَاهٌ كَمَا يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِاسْتِحَالَةِ الْمَشْيِ بِالْأَرْجُلِ، وَالْبَطْشِ بِالْأَيْدِي، وَالنَّظَرِ بِالْأَعْيُنِ بِخِلَافِ التَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ أَلْفَاظٌ، وَحُرُوفٌ لَا يَمْتَنِعُ صُدُورُهَا عَنْ الْجَمَادَاتِ بِإِيجَادِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ الْحَصَا، وَالْجِذْعِ، وَكَذَا شَهَادَةُ الْأَعْضَاءِ، وَالْجَوَارِحِ. (قَوْلُهُ: مَعَ أَنَّ مُحْكَمَ التَّنْزِيلِ نَاطِقٌ بِهَذَا) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى شَهَادَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ، لَا إلَى حَقِيقَةِ التَّسْبِيحِ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّة، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ مُحْكَمًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْمُحْكَمِ الْمُتَّضِحُ الْمَعْنَى، وَمَا ذَكَرَ مِنْ أَنَّ لَا تَفْقَهُونَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ حَقِيقَةَ التَّسْبِيحِ فَمَمْنُوعٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَفْقَهُونَ هَذِهِ الدَّلَالَةَ، وَلَا يَعْرِفُونَهَا لِإِخْلَالِهِمْ

[التقسيم الثاني في استعمال اللفظ في المعنى]

الْآيَةِ لَا يَتِمُّ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ الِانْقِيَادُ فِي الْجَمِيعِ، وَمَا ذَكَرَ أَنَّ الِانْقِيَادَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا سِيَّمَا الْمُتَكَبِّرِينَ مِنْهُمْ لَا يَمَسُّهُمْ الِانْقِيَادُ أَصْلًا، وَأَيْضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِالسُّجُودِ، وَضْعُ الرَّأْسِ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْجَمِيعِ، وَلَا يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَتِهِ مِنْ الْجَمَادَاتِ إلَّا مَنْ يَحْكُمُ بِاسْتِحَالَةِ التَّسْبِيحِ مِنْ الْجَمَادَاتِ، وَالشَّهَادَةِ مِنْ الْجَوَارِحِ، وَالْأَعْضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَنَّ مُحْكَمَ الْكِتَابِ نَاطِقٌ بِهَذَا، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمِعَ تَسْبِيحَ الْحَصَا وقَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] يُحَقِّقُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ حَقِيقَةُ التَّسْبِيحِ لَا الدَّلَالَةُ عَلَى، وَحْدَانِيِّتِهِ تَعَالَى فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {لا تَفْقَهُونَ} [الإسراء: 44] لَا يَلِيقُ بِهَذَا فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ وَضْعَ الرَّأْسِ خُضُوعًا لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ الْجَمَادَاتِ بَلْ هُوَ كَائِنٌ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا مُنْكِرٌ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ. (التَّقْسِيمُ الثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ) يَشْمَلُ الْوَضْعَ اللُّغَوِيَّ، وَالشَّرْعِيَّ، وَالْعُرْفِيَّ، وَالِاصْطِلَاحِيَّ. (فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ) أَيْ بِالْحَيْثِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ الْوَضْعُ بِتِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ فَالْمَنْقُولُ الشَّرْعِيُّ يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ، وَفِي الْمَنْقُولِ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ، وَإِنَّمَا قَالَ فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يُطْلِقُونَ الْحَقِيقَةَ، وَالْمَجَازَ عَلَى الْمَعْنَى إمَّا مَجَازًا، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ مِنْ خَطَأِ الْعَوَامّ. (وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا فَمَجَازٌ) أَيْ وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ بِحَيْثِيَّةٍ مَا سَوَاءٌ كَانَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ أَوْ نَحْوُهَا فَمَجَازٌ بِالْحَيْثِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ فَالْمَنْقُولُ الشَّرْعِيُّ مَجَازٌ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ، وَفِي الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً وَمَجَازًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ لَكِنْ مِنْ جِهَتَيْنِ. (أَوَّلًا الْعَلَاقَةُ فَمُرْتَجَلٌ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ أَيْضًا لِلْوَضْعِ الْجَدِيدِ) فَاسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ لَا لِعَلَاقَةٍ يَكُونُ، وَضْعًا جَدِيدًا فَالْمُرْتَجَلُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي بِسَبَبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالنَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَالِاسْتِدْلَالِ الصَّادِقِ بَلْ الْأَنْسَبُ لِحَقِيقَةِ التَّسْبِيحِ لَا تَسْمَعُونَ [التَّقْسِيمُ الثَّانِي فِي اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى] (قَوْلُهُ: التَّقْسِيمُ الثَّانِي) مِنْ التَّقْسِيمَاتِ الْأَرْبَعَةِ هُوَ تَقْسِيمُ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى فَاللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالًا صَحِيحًا جَارِيًا عَلَى الْقَانُونِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا لِأَنَّهُ إنْ اُسْتُعْمِلَ فِيمَا وُضِعَ لَهُ فَحَقِيقَةٌ، وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ لِعَلَاقَةٍ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَمَجَازٌ، وَإِلَّا فَمُرْتَجَلٌ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ قِسْمِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ الصَّحِيحَ فِي الْغَيْرِ بِلَا عَلَاقَةٍ وَضْعٌ جَدِيدٌ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ فَيَكُونُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مِنْ قِسْمِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ نَظَرًا إلَى الْوَضْعِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ فَإِنْ قِيلَ فَالْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَنْحَصِرُ فِي الْمَجَازِ، وَالْمُرْتَجَلِ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَنْقُولًا قُلْنَا نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ حَقِيقَةً مِنْ جِهَةٍ مَجَازًا مِنْ جِهَةٍ لِوُجُودِ الْعَلَاقَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى زِيَادَةِ تَفْصِيلِ وَبَيَانِ آخِرِ حُكْمِهِ فَإِنْ قِيلَ الِاسْتِعْمَالُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا لِعِلَاقَةٍ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْعَلَاقَةِ فَالْمُرْتَجَلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ قُلْنَا لَمَّا تَعَسَّرَ الِاطِّلَاعُ عَلَى أَنَّ النَّاقِلَ هَلْ اعْتَبَرَ الْعَلَاقَةَ أَمْ لَا اعْتَبَرُوا الْأَمْرَ الظَّاهِرَ، وَهُوَ وُجُودُ الْعَلَاقَةِ، وَعَدَمُهَا فَجَعَلُوا الْأَوَّلَ مَنْقُولًا، وَالثَّانِيَ مُرْتَجَلًا فَلَزِمَ فِي الْمُرْتَجَلِ عَدَمُ الْعَلَاقَةِ، وَفِي الْمَنْقُولِ وُجُودَهَا لَكِنْ لَا لِصِحَّةِ الِاسْتِعْمَالِ بَلْ لِأَوْلَوِيَّةِ هَذَا الِاسْمِ بِالتَّعْيِينِ لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ قَيْدُ الِاسْتِعْمَالِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ إذْ لَا يَتَّصِفُ اللَّفْظُ بِهِمَا قَبْلَ الِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ الْمُرْتَجَلِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ مُجَرَّدُ النَّقْلِ، وَالتَّعْيِينِ، وَقَيَّدْنَا الِاسْتِعْمَالَ بِالصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَلَى الْغَلَطِ مِثْلُ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْأَرْضِ فِي السَّمَاءِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى وَضْعٍ جَدِيدٍ، وَالْمُرَادُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ تَعْيِينُهُ لِلْمَعْنَى بِحَيْثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ أَيْ يَكُونُ الْعِلْمُ بِالتَّعْيِينِ كَافِيًا فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّعْيِينُ مِنْ جِهَةِ وَاضِعِ اللُّغَةِ فَوَضْعٌ لُغَوِيٌّ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مِنْ الشَّارِعِ فَوَضْعٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ مَخْصُوصٍ كَأَهْلِ الصِّنَاعَاتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَغَيْرِهِمْ فَوَضْعٌ عُرْفِيٌّ خَاصٌّ، وَيُسَمَّى اصْطِلَاحِيًّا، وَإِلَّا فَوَضْعٌ عُرْفِيٌّ عَامٌّ وَقَدْ غَلَبَ الْعُرْفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْعُرْفِ الْعَامِّ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْوَضْعُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَوْضَاعِ الْمَذْكُورَةِ وَفِي الْمَجَازِ عَدَمُ الْوَضْعِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْحَقِيقَةِ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ الْمَعْنَى فِي جَمِيعِ الْأَوْضَاعِ وَلَا فِي الْمَجَازِ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْضُوعًا لِمَعْنَاهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْضَاعِ فَإِنْ اتَّفَقَ فِي الْحَقِيقَةِ لَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً لِلْمَعْنَى بِجَمِيعِ الْأَوْضَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَهِيَ حَقِيقَةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا فَهِيَ حَقِيقَةٌ مُقَيَّدَةٌ بِالْجِهَةِ الَّتِي كَانَ بِهَا الْوَضْعُ، وَإِنْ كَانَ مَجَازًا بِجِهَةٍ أُخْرَى كَالصَّلَاةِ فِي الدُّعَاءِ حَقِيقَةٌ لُغَةً مَجَازٌ شَرْعًا، وَكَذَا الْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا هُوَ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ بِجَمِيعِ الْأَوْضَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ مُقَيَّدًا بِالْجِهَةِ الَّتِي بِهَا كَانَ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهُ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْكَانِ الْمَخْصُوصَةِ مَجَازٌ لُغَةً حَقِيقَةٌ شَرْعًا فَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى الْوَاحِدِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً، وَمَجَازًا لَكِنْ مِنْ جِهَتَيْنِ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا بَلْ وَمِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا لَكِنْ بِاعْتِبَارَيْنِ كَلَفْظِ الدَّابَّةِ فِي الْفَرَسِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ثُمَّ إطْلَاقُ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ عَلَى نَفْسِ الْمَعْنَى أَوْ عَلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى، وَاسْتِعْمَالُهُ فِيهِ شَائِعٌ فِي عِبَارَةِ الْعُلَمَاءِ مَعَ مَا بَيْنَ اللَّفْظِ، وَالْمَعْنَى مِنْ الْمُلَابَسَةِ الظَّاهِرَةِ فَيَكُونُ مَجَازًا لَا خَطَأً، وَحَمْلُهُ عَلَى خَطَأِ الْعَوَامّ مِنْ خَطَأِ الْخَوَاصِّ فَإِنْ قِيلَ لَا بُدَّ فِي التَّعْرِيفَيْنِ مِنْ تَقْيِيدِ الْوَضْعِ بِاصْطِلَاحٍ بِهِ التَّخَاطُبُ احْتِرَازًا عَنْ انْتِقَاضِهِمَا جَمْعًا وَمَنْعًا فَإِنَّ لَفْظَ الصَّلَاةِ فِي الشَّرْعِ مَجَازٌ فِي الدُّعَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ وَحَقِيقَةٌ فِي الْأَرْكَانِ الْمَخْصُوصَةِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ بَلْ لَفْظُ الدَّابَّةِ فِي الْفَرَسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مَجَازٌ لُغَةً مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ حَقِيقَةٌ لُغَةً مَعَ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ أَعْنِي الْعُرْفَ الْعَامَّ قُلْنَا قَيْدُ

الْوَضْعِ الثَّانِي. (وَأَمَّا الْمَنْقُولُ فَمِنْهُ مَا غُلِّبَ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ لِلْمَوْضُوعِ الْأَوَّلِ حَتَّى هُجِرَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَوَّلِ مَجَازٌ فِي الثَّانِي حَيْثُ اللُّغَةُ، وَبِالْعَكْسِ) أَيْ حَقِيقَةٌ فِي الثَّانِي مَجَازٌ فِي الْأَوَّلِ. (مِنْ حَيْثُ النَّاقِلُ، وَهُوَ إمَّا الشَّرْعُ أَوْ الْعُرْفُ أَوْ الِاصْطِلَاحِ وَمِنْهُ مَا غُلِّبَ فِي بَعْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَيْثِيَّةِ مَأْخُوذٌ فِي تَعْرِيفِ الْأُمُورِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَاتِ إلَّا أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يُحْذَفُ مِنْ اللَّفْظِ لِوُضُوحِهِ خُصُوصًا عِنْدَ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ الْمُشْعِرِ بِالْحَيْثِيَّةِ فَالْمُرَادُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ، وَالْمَجَازُ لَفْظٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَحِينَئِذٍ لَا انْتِقَاضَ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الصَّلَاةِ فِي الدُّعَاءِ شَرْعًا لَا يَكُونُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ، وَلَا فِي الْأَرْكَانِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَكَذَا اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الدَّابَّةِ فِي الْفَرَسِ فِي اللُّغَةِ لَا يَكُونُ مَجَازًا إلَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ خَاصَّةً، وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ ضَرُورَةَ أَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ فِي اللُّغَةِ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ بِخُصُوصِهَا، وَلَا يَكُونُ حَقِيقَةً إلَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَهُوَ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ لُغَةً فَإِنْ قِيلَ تَعْرِيفُ الْمَجَازِ شَامِلٌ لِلْكِنَايَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ احْتِرَازًا عَنْهَا قُلْنَا سَيَجِيءُ أَنَّ الْكِنَايَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ لَكِنْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى مَلْزُومِهِ، وَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لَهُ يُنَافِي إرَادَةَ الْمَوْضُوعِ لَهُ. وَأَمَّا الْكِنَايَةُ بِاصْطِلَاحِ الْأُصُولِ فَإِنْ اُسْتُعْمِلَتْ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ فَحَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَمَجَازٌ فَلَا إشْكَالَ فَإِنْ قِيلَ الْمَجَازُ بِالزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ خَارِجٌ عَنْ الْحَدِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] قُلْنَا لَفْظُ الْمُجَازَفَةِ يُقَالُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ التَّشَابُهِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمِفْتَاحِ، وَالتَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ لِلْمَجَازِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى لَا لِلْمَجَازِ بِالزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْإِعْرَابِ أَوْ صِفَةُ اللَّفْظِ بِاعْتِبَارِ تَغَيُّرِ حُكْمِ إعْرَابِهِ لَا يُقَالُ اللَّفْظُ الزَّائِدُ مُسْتَعْمَلٌ لَا لِمَعْنًى فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ ضَرُورَةَ أَنَّهُ إنَّمَا وُضِعَ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي مَعْنًى لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَا لِمَعْنًى بَلْ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ لِمَعْنًى، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا لِمَعْنًى لَا يَسْتَلْزِمُ الِاسْتِعْمَالَ فِي مَعْنًى غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لَهُ بَلْ يُنَافِيهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَعْنَى اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ فِي غَيْرِ طَلَبِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، وَإِرَادَتِهِ مِنْهُ فَمُجَرَّدُ الذِّكْرِ لَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا يَصِحُّ هَاهُنَا لِاشْتِرَاطِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَلَا فِي عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ لِاعْتِبَارِهِ إرَادَةَ مَعْنًى غَيْرِ الْمَوْضُوعِ فَكَيْفَ فِي عِبَارَةِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ. قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الْمَنْقُولُ) لَمَّا كَانَ التَّقْسِيمُ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ

أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ لَهُ حَتَّى هُجِرَ الْبَاقِي كَالدَّابَّةِ مَثَلًا فَمِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ إطْلَاقُهَا عَلَى الْفَرَسِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لَكِنْ إذَا خُصَّتْ بِهِ) أَيْ إذَا خُصَّتْ الدَّابَّةُ بِالْفَرَسِ. (مَعَ رِعَايَةِ الْمَعْنَى) أَيْ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ. (صَارَتْ مَجَازًا إذْ أُرِيدَ بِهَا غَيْرُ مَا وُضِعَتْ لَهُ، وَهُوَ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ مَعَ خُصُوصِيَّةِ الْفَرَسِ، وَمِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ صَارَتْ كَأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لَهُ ابْتِدَاءً لِأَنَّهَا لَمَّا خُصَّتْ بِهِ) فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرَاعِ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَصَارَتْ اسْمًا لَهُ (فَظَهَرَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِيهِ) ، وَهُوَ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ (لَيْسَ لِصِحَّةِ إطْلَاقِهِ) أَيْ الْمَنْقُولِ (عَلَيْهِ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَيُرَادُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ الْأَفْرَادُ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ (كَمَا فِي الْحَقِيقَةِ) فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ لِيَصِحَّ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى (وَلَا لِصِحَّةِ إطْلَاقِهِ) أَيْ الْمَنْقُولِ (عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي) ، وَهُوَ مَا يَدِبُّ مَعَ خُصُوصِيَّةِ الْفَرَسِ (كَمَا فِي الْمَجَازِ) فَإِنَّ فِي الْمَجَازِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِيَصِحَّ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ لَازِمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَاللَّازِمُ هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي (بَلْ لِتَرْجِيحِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى غَيْرِهِ) أَيْ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي الِاسْمِ الْمَنْقُولِ إنَّمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ اللَّفْظَ إذَا تَعَدَّدَ مَفْهُومُهُ فَإِنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا نَقْلٌ فَهُوَ الْمُشْتَرَكُ، وَإِنْ تَخَلَّلَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ النَّقْلُ لِمُنَاسَبَةٍ فَمُرْتَجَلٌ، وَإِنْ كَانَ فَإِنْ هُجِرَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ فَمَنْقُولٌ، وَإِلَّا فَفِي الْأَوَّلِ حَقِيقَةٌ، وَفِي الثَّانِي مَجَازٌ مُوهِمًا أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَنْقُولِ، وَالْمُرْتَجَلِ قِسْمٌ مُقَابِلٌ لِلْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازُ دَفْعُ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّ الْمُرْتَجَلَ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي حَقِيقَةٌ، وَالْمَنْقُولَ فِيهِ حَقِيقَةٌ مِنْ جِهَةٍ مَجَازٌ مِنْ جِهَةٍ، وَالتَّقْسِيمُ الْمَشْهُورُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَمَايُزِ الْأَقْسَامِ بِالْحَيْثِيَّةِ، وَالِاعْتِبَارِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَالذَّاتِ فَالْمَنْقُولُ مَا غَلَبَ فِي غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لَهُ بِحَيْثُ يُفْهَمُ بِلَا قَرِينَةٍ مَعَ وُجُودِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَيُنْسَبُ إلَى النَّاقِلِ لِأَنَّ وَصْفَ الْمَنْقُولِيَّةِ إنَّمَا حَصَلَ مِنْ جِهَتِهِ فَيُقَالُ مَنْقُولٌ شَرْعِيٌّ، وَعُرْفِيٌّ، وَاصْطِلَاحِيٌّ فَالْمَعْنَى الثَّانِي إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ مَجَازٌ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَمَجَازٌ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الثَّانِي كَالصَّلَاةِ حَقِيقَةٌ فِي الدُّعَاءِ مَجَازٌ فِي الْأَرْكَانِ الْمَخْصُوصَةِ لُغَةً، وَبِالْعَكْسِ شَرْعًا، وَيُنْسَبُ حَقِيقَتُهُ، وَمَجَازُهُ إلَى مَا يَكُونُ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ مَوْضُوعًا لَهُ أَوْ غَيْرَ مَوْضُوعٍ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ، وَبِاعْتِبَارِ انْقِسَامِ كُلٍّ مِنْ وَضْعَيْهِ إلَى لُغَوِيٍّ، وَشَرْعِيٍّ، وَعُرْفِيٍّ، وَاصْطِلَاحِيٍّ يَنْقَسِمُ سِتَّةَ عَشَرَ قِسْمًا حَاصِلَةً مِنْ ضَرْبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْأَقْسَامِ مِمَّا لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْوُجُودِ كَالْمَنْقُولِ اللُّغَوِيِّ

هُوَ لِتَرْجِيحِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ (فِي تَخْصِيصِهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي) أَيْ تَخْصِيصِ هَذَا الِاسْمِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي، وَالْمُرَادُ بِالتَّرْجِيحِ الْأَوْلَوِيَّةُ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْوَاضِعَ قَدْ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُنَاسَبَةُ كَالْجِدَارِ، وَالْحَجَرِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِيهِ كَالْقَارُورَةِ، وَالْخَمْرِ (وَاعْتِبَارُ) الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي الْوَضْعِ الثَّانِي لِبَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ، وَالْأَوْلَوِيَّةِ لَا لِصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يُسَمَّى الدَّنُّ قَارُورَةً فَلِهَذَا السِّرِّ لَا يَجْرِي الْقِيَاسُ فِي اللُّغَةِ فَلَا يُقَالُ: إنَّ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ خَمْرٌ لِمَعْنَى مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ مَعْنَى الْمُخَامَرَةِ لَيْسَ مُرَاعًى فِي الْخَمْرِ لِصِحَّةِ إطْلَاقِ الْخَمْرِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ الْمُخَامَرَةُ بَلْ لِأَجْلِ الْمُنَاسَبَةِ الْأَوْلَوِيَّةِ لِيَضَعَ الْوَاضِعُ لِهَذَا الْمَعْنَى لَفْظًا مُنَاسِبًا لَهُ فَاحْفَظْ هَذَا الْبَحْثَ فَإِنَّهُ بَحْثٌ شَرِيفٌ بَدِيعٌ لَمْ تَزُلْ أَقْدَامُ مَنْ سَوَّغَ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ إلَّا لِغَفْلَةٍ عَنْهُ (فَيُطْلَقُ الْأَسَدُ عَلَى كُلِّ مَنْ يُوجَدُ فِيهِ الشُّجَاعَةُ مَجَازًا بِخِلَافِ الدَّابَّةِ، وَالصَّلَاةِ) أَيْ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي الْمُجَازِ إنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ لَازِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَاعْتِبَارُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي الْمَنْقُولِ لَيْسَ لِصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ فَيَصِحُّ إطْلَاقُ الْأَسَدِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ الشُّجَاعَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ مَعْنًى عُرْفِيٍّ أَوْ اصْطِلَاحِيٍّ مَثَلًا، وَغَيْرُ ذَلِكَ بَلْ اللُّغَةُ أَصْلٌ، وَالنَّقْلُ طَارِئٌ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يُقَالَ مَنْقُولٌ لُغَوِيٌّ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَالدَّابَّةِ لِذِي الْأَرْبَعِ خَاصَّةً، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ لِمَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ فَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ مَا هُوَ مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الثَّانِي أَعْنِي الْمُقَيَّدَ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَعْنِي الْمُطْلَقَ فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ مَجَازٌ مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الثَّانِي، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الثَّانِي فَحَقِيقَةٌ مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الثَّانِي مَجَازٌ مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الْأَوَّلِ مَثَلًا لَفْظُ الدَّابَّةِ فِي الْفَرَسِ إنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ فَحَقِيقَةٌ لُغَةً مَجَازٌ عُرْفًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ فَمَجَازٌ لُغَةً حَقِيقَةٌ عُرْفًا لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمْ يُوضَعْ فِي اللُّغَةِ لِلْمُقَيَّدِ بِخُصُوصِهِ، وَلَا فِي الْعُرْفِ لِلْمُطْلَقِ بِإِطْلَاقِهِ فَلَفْظُ الدَّابَّةِ فِي الْفَرَسِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ حَقِيقَةٌ بِاعْتِبَارٍ مَجَازٌ بِاعْتِبَارٍ، وَكَذَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ، وَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا مَظِنَّةُ سُؤَالٍ، وَهُوَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمُلَاحَظَتَهُ فِي نَقْلِ اللَّفْظِ إلَى الْمَعْنَى الثَّانِي إنْ كَانَ لِصِحَّةِ إطْلَاقِ الْمَنْقُولِ عَلَى أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَعْنِي الْمَنْقُولَ عَنْهُ كَالْحَقِيقَةِ يُعْتَبَرُ مَفْهُومُهَا لِيَصِحَّ إطْلَاقُهَا عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَفْهُومُ لَزِمَ صِحَّةُ إطْلَاقِ الْمَنْقُولِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ لِوُجُودِ الْمُصَحِّحِ، وَإِنْ كَانَ لِصِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى أَفْرَادِ الْمَعْنَى الثَّانِي أَعْنِي الْمَنْقُولَ إلَيْهِ كَالْمَجَازِ يُعْتَبَرُ مَعْنَاهُ الْأَوَّلُ أَعْنِي الْحَقِيقِيَّ لِتَعَرُّفِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَعْنَى الثَّانِي أَعْنِي الْمَجَازِيَّ فَيَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى أَفْرَادِ الْمَعْنَى الثَّانِي هُوَ لَازِمُ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَيْ مُلَابِسٌ لَهُ بِنَوْعِ عَلَاقَةٍ لِأَنَّ صِحَّةَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى إنَّمَا يَكُونُ لِوَضْعِهِ لَهُ

وَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الدَّابَّةِ فِي الْعُرْفِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ الدَّبِيبُ، وَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ اسْمِ الصَّلَاةِ شَرْعًا عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ دُعَاءٌ (وَيَثْبُتُ أَيْضًا أَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا قَلَّ اسْتِعْمَالُهَا صَارَتْ مَجَازًا، وَالْمَجَازُ إذَا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ صَارَ حَقِيقَةً ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ إنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَتِرُ الْمُرَادُ فَصَرِيحٌ، وَإِلَّا فَكِنَايَةٌ فَالْحَقِيقَةُ الَّتِي لَمْ تُهْجَرْ صَرِيحٌ، وَاَلَّتِي هُجِرَتْ، وَغُلِّبَ مَعْنَاهَا الْمَجَازِيُّ كِنَايَةٌ، وَالْمَجَازُ الْغَالِبُ الِاسْتِعْمَالِ صَرِيحٌ، وَغَيْرُ الْغَالِبِ كِنَايَةٌ) اعْلَمْ أَنَّ الصَّرِيحَ، وَالْكِنَايَةَ اللَّذَيْنِ هُمَا قِسْمَا الْحَقِيقَةِ صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَاَللَّذَيْنِ هُمَا قِسْمَا الْمَجَازِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ لِمَا هُوَ مُلَابِسٌ لَهُ بِنَوْعِ عَلَاقَةٍ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ الْوَضْعِ، وَالتَّعْيِينُ لِلْمَعْنَى الثَّانِي كَافٍ فِي ذَلِكَ، وَأَيْضًا يَلْزَمُ صِحَّةُ إطْلَاقِ الْمَنْقُولِ عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ لِوُجُودِ الْمُصَحِّحِ كَمَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْمَجَازِ عَلَى كُلِّ مَا تُوجَدُ فِيهِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ أَجَابَ بِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْمَنْقُولَ قَدْ هُجِرَ مَعْنَاهُ الْأَوَّلُ بِحَيْثُ لَا يُطْلَقُ عَلَى أَفْرَادِهِ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَذَلِكَ، وَأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَوْضُوعًا لِلْمَعْنَى الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْمَوْضُوعَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا اعْتِبَارُ مَعْنًى سَابِقٍ. إنَّ اعْتِبَارَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِيهِ لَيْسَ لِصِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَلَا لِصِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى أَفْرَادِ الْمَعْنَى الثَّانِي لِيَلْزَمَ مَا ذَكَرْتُمْ بَلْ لِأَوْلَوِيَّةِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ بَيْنِ الْأَلْفَاظِ بِالتَّعْيِينِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى الثَّانِي فَإِنَّ وَضْعَ لَفْظِ الدَّابَّةِ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْلَى، وَأَنْسَبُ مِنْ وَضْعِ الْجِدَارِ لَهَا لِوُجُودِ مَعْنَى الدَّبِيبِ فِيهَا فَالتَّنَاسُبُ مَرْعِيٌّ فِي وَضْعِ بَعْضِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا يَلْزَمُ صِحَّةُ إطْلَاقِهِ حَقِيقَةً عَلَى كُلِّ مَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ التَّنَاسُبُ، وَهَذَا مَعْنَى عَدَمِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ، وَهَذَا الْبَحْثُ مِمَّا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ فِي وَجْهِ تَسْمِيَةِ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ) يَعْنِي أَنَّ الصَّرِيحَ، وَالْكِنَايَةَ أَيْضًا مِنْ أَقْسَامِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَلَيْسَتْ الْأَرْبَعَةُ أَقْسَامًا مُتَبَايِنَةً أَمَّا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فَلِأَنَّ الصَّرِيحَ مَا انْكَشَفَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ لَفْظًا مُسْتَعْمَلًا، وَالْكِنَايَةُ مَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُرَادُ فِيهِمَا مَعْنًى حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى مَجَازِيًّا، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ فِي نَفْسِهِ عَنْ اسْتِتَارِ الْمُرَادِ فِي الصَّرِيحِ بِوَاسِطَةِ غَرَابَةِ اللَّفْظِ أَوْ ذُهُولِ السَّامِعِ عَنْ الْوَضْعِ أَوْ عَنْ الْقَرِينَةِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَعَنْ انْكِشَافِ الْمُرَادِ فِي الْكِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ التَّفْسِيرِ، وَالْبَيَانِ فَمِثْلُ الْمُفَسَّرِ، وَالْمُحْكَمِ دَاخِلٌ فِي الصَّرِيحِ، وَمِثْلُ الْمُشْكِلِ، وَالْمُجْمَلِ فِي الْكِنَايَةِ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ هَذِهِ أَقْسَامٌ مُتَمَايِزَةٌ بِالْحَيْثِيَّاتِ، وَالِاعْتِبَارَاتِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَالذَّاتِ، وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ الِاسْتِتَارُ، وَالِانْكِشَافُ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ بِأَنْ يَسْتَعْمِلُوهُ قَاصِدِينَ الِاسْتِتَارَ، وَإِنْ كَانَ وَاضِحًا فِي اللُّغَةِ. وَالِانْكِشَافُ، وَإِنْ كَانَ خَفِيًّا فِي اللُّغَةِ احْتِرَازًا عَنْ أَمْثَالِ ذَلِكَ فَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّفِ، وَأَمَّا عِنْدَ

صَرِيحٌ، وَكِنَايَةٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ. (وَعِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ الْكِنَايَةُ لَفْظٌ يُقْصَدُ بِمَعْنَاهُ) أَيْ بِمَعْنَاهُ الْمَوْضُوعُ لَهُ (مَعْنًى ثَانٍ مَلْزُومٍ لَهُ، وَهِيَ لَا تُنَافِي إرَادَةَ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَإِنَّهَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيهِ لَكِنْ قُصِدَ بِمَعْنَاهُ مَعْنًى ثَانٍ كَمَا فِي طَوِيلِ النِّجَادِ) فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ، وَالْغَرَضَ مِنْ طَوِيلِ النِّجَادِ طَوِيلُ الْقَامَةِ فَطُولُ الْقَامَةِ مَلْزُومٌ لِطُولِ النِّجَادِ. (بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ فَيُنَافِي إرَادَةَ الْمَوْضُوعِ لَهُ ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ أَمَّا فِي الْمُفْرَدِ، وَقَدْ مَرَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQعُلَمَاءِ الْبَيَانِ فَلِأَنَّ الْكِنَايَةَ لَفْظٌ قُصِدَ بِمَعْنَاهُ مَعْنًى ثَانٍ مَلْزُومٌ لَهُ أَيْ لَفْظٌ اُسْتُعْمِلَ فِي مَعْنَاهُ الْمَوْضُوعِ لَهُ لَكِنْ لَا لِيَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِثْبَاتُ، وَالنَّفْيُ، وَيَرْجِعَ إلَيْهِ الصِّدْقُ، وَالْكَذِبُ بَلْ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى مَلْزُومِهِ فَيَكُونَ هُوَ مَنَاطَ الْإِثْبَاتِ، وَالنَّفْيِ، وَمَرْجِعَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ قَصْدًا بِطُولِ النِّجَادِ إلَى طُولِ الْقَامَةِ فَيَصِحُّ الْكَلَامُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِجَادٌ قَطُّ بَلْ، وَإِنْ اسْتَحَالَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وقَوْله تَعَالَى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا كِنَايَاتٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ غَيْرِ لُزُومِ كَذِبٍ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ اللَّفْظِ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَطَلَبِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ لِقَصْدِ الِانْتِقَالِ مِنْهُ إلَى مَلْزُومِهِ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى مَا قِيلَ: إنَّ الْكِنَايَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعْنَى الثَّانِي لَكِنْ مَعَ جَوَازِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَلَوْ فِي مَحَلٍّ آخَرَ، وَبِاسْتِعْمَالٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَجَازٌ مَشْرُوطٌ بِقَرِينَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَمَيْلُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْكِنَايَةِ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِأَنَّهُ ذُكِرَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 77] أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الْإِهَانَةِ، وَالسَّخَطِ وَإِنَّ النَّظَرَ إلَى فُلَانٍ بِمَعْنَى الِاعْتِدَاءِ بِهِ، وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِ كِنَايَةٌ إذَا أُسْنِدَ إلَى مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ، وَمَجَازٌ إذَا أُسْنِدَ إلَى مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّظَرُ، وَبِالْجُمْلَةِ كَوْنُ الْكِنَايَةِ مِنْ قَبِيلِ الْحَقِيقَةِ صَرِيحٌ فِي الْمِفْتَاحِ، وَغَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمِفْتَاحِ أَنَّ الْكَلِمَةَ الْمُسْتَعْمَلَةَ إمَّا أَنْ يُرَادَ مَعْنَاهَا وَحْدَهُ أَوْ غَيْرَ مَعْنَاهَا وَحْدَهُ أَوْ مَعْنَاهَا، وَغَيْرَ مَعْنَاهَا وَالْأَوَّلُ الْحَقِيقَةُ فِي الْمُفْرَدِ، وَالثَّانِي الْمَجَازُ فِي الْمُفْرَدِ، وَالثَّالِثُ الْكِنَايَةُ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِكَوْنِ الْكِنَايَةِ قَسِيمًا لِلْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ مُبَايِنًا لَهُمَا قُلْنَا أَرَادَ بِالْحَقِيقَةِ هَاهُنَا الصَّرِيحَ مِنْهَا بِقَرِينَةٍ جَعَلَهَا فِي مُقَابَلَةِ الْكِنَايَةِ، وَتَصْرِيحُهُ عَقِيبَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحَقِيقَةَ، وَالْكِنَايَةَ يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا حَقِيقَتَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ بِالتَّصْرِيحِ وَعَدَمِهِ لَا يُقَالُ فَإِذَا أُرِيدَ بِالْكَلِمَةِ مَعْنَاهَا وَغَيْرُ مَعْنَاهَا مَعًا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ إذْ لَا مَعْنَى لَهُ لَا إرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَجَازِيِّ مَعًا لِأَنَّا نَقُولُ الْمُمْتَنِعُ إنَّمَا هُوَ إرَادَتُهُمَا بِالذَّاتِ، وَفِي الْكِنَايَةِ إنَّمَا أُرِيدَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلِانْتِقَالِ مِنْهُ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَجَازِ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ بِهِ قَصْدًا وَبِالذَّاتِ إذْ لَا مَعْنَى لِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى مَعْنَاهُ

تَعْرِيفُهُمَا، وَأَمَّا فِي الْجُمْلَةِ فَإِنْ نَسَبَ الْمُتَكَلِّمُ الْفِعْلَ إلَى مَا هُوَ فَاعِلٌ عِنْدَهُ فَالنِّسْبَةُ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَإِنْ نَسَبَ إلَى غَيْرِهِ لِمُلَابَسَةٍ بَيْنَ الْفِعْلِ، وَالْمَنْسُوبِ إلَيْهِ فَالنِّسْبَةُ مَجَازِيَّةٌ نَحْوُ أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ) فَقَوْلُهُ عِنْدَهُ أَيْ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا إلَى مَا هُوَ فَاعِلٌ فِي الْعَقْلِ لَكِنَّ صَاحِبَ الْمِفْتَاحِ قَالَ إلَى مَا هُوَ فَاعِلٌ عِنْدَهُ حَتَّى لَوْ قَالَ الْمُوَحِّدُ أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ يَكُونُ الْإِسْنَادُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيُنَافِي إرَادَةَ الْمَوْضُوعِ لَهُ لِأَنَّ إرَادَتَهُ حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ لِلِانْتِقَالِ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْإِرَادَةِ قَصْدًا مِنْ غَيْرِ تَبَعِيَّةٍ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ فَيَلْزَمُ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَجَازِيِّ مَعًا بِالذَّاتِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ لَوْ كَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ مُنَافِيًا لِإِرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ لَكَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَيْضًا مُنَافِيًا لِإِرَادَةِ غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لَهُ لِذَلِكَ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ) يُرِيدُ أَنَّ لَفْظَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ مُقَوَّلٌ عَلَى النَّوْعَيْنِ بِالِاشْتِرَاكِ، وَرُبَّمَا يُقَيَّدَانِ فِي الْمُفْرَدِ بِاللُّغَوِيِّينَ وَفِي الْجُمْلَةِ بِالْعَقْلِيِّينَ أَوْ الْحُكْمِيِّينَ، وَمَيْلُ الْمُصَنِّفِ إلَى أَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْكَلَامِ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْأَكْثَرِينَ دُونَ الْإِسْنَادِ، وَلِذَا وَصَفَ النِّسْبَةَ بِالْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِيَّةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَالْمَجَازِ إلَّا أَنَّ اتِّصَافَ الْكَلَامِ بِهِمَا إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْإِسْنَادِ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ فِي التَّقْسِيمِ النِّسْبَةُ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ الْعَقْلِيَّةَ جُمْلَةٌ أُسْنِدَ فِيهَا الْفِعْلُ إلَى مَا هُوَ فَاعِلٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلٍ لِمُؤْمِنٍ أَنْبَتَ اللَّهُ الْبَقْلَ، وَالْمَجَازُ الْعَقْلِيُّ جُمْلَةٌ أُسْنِدَ فِيهَا الْفِعْلُ إلَى غَيْرِ مَا هُوَ فَاعِلٌ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ لِمُلَابَسَةٍ بَيْنَ الْفِعْلِ، وَذَلِكَ الْغَيْرِ نَحْوُ أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ لِمَا بَيْنَ الْإِنْبَاتِ، وَالرَّبِيعِ مِنْ الْمُلَابَسَةِ لِكَوْنِهِ زَمَانًا لَهُ، وَأَرَادَ بِالْفِعْلِ الْمُصْطَلَحَ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْمَصَادِرِ، وَالصِّفَاتِ، وَبِالْفَاعِلِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ مَا يُرِيدُ إفْهَامَ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ فَاعِلٌ عِنْدَهُ بِمَعْنَى أَنَّ الْفِعْلَ حَاصِلٌ لَهُ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ سَوَاءٌ قَامَ بِهِ فِي الْخَارِجِ كَضَرْبٍ أَوْ لَاكِمَاتٍ، وَسَوَاءٌ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ لَا سَوَاءٌ كَانَ فَاعِلًا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ لَا فَيَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ مَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وَالِاعْتِقَادَ جَمِيعًا أَوْ لَا يُطَابِقُ شَيْئًا مِنْهُمَا أَوْ يُطَابِقُ أَحَدَهُمَا فَقَطْ فَلَوْ قَالَ الْفَاعِلُ عِنْدَ الْعَقْلِ لَخَرَجَ مَا يُطَابِقُ الِاعْتِقَادَ فَقَطْ مِثْلُ قَوْلِ الدَّهْرِيِّ أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ عَقْلُ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ السَّامِعِ، وَقَدْ اُحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الْفَاعِلِ فِي اللَّفْظِ فَإِنَّ الْمَنْسُوبَ إلَيْهِ فِي الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ أَيْضًا فَاعِلٌ فِي اللَّفْظِ، وَلَوْ أَرَادَ بِالْفَاعِلِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ مَا يَكُونُ الْفِعْلُ حَاصِلًا لَهُ فِي اعْتِقَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِحَسَبِ التَّحْقِيقِ لِخُرُوجِ الْأَقْوَالِ الْكَاذِبَةِ الَّتِي لَا تُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وَلَا الِاعْتِقَادَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ جَاءَ زَيْدٌ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِئْ لِأَنَّهُ لَمْ يُوصَفْ بِالْمَجِيءِ لَا فِي الْوَاقِعِ، وَلَا عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِحَسَبِ التَّحْقِيقِ لَكِنْ بِحَسَبِ مَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْفَاعِلَ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ الْفِعْلُ حَاصِلًا لَهُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فِي الظَّاهِرِ فَيَشْمَلُ نَحْوَ ضُرِبَ عَمْرٌو عَلَى لَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ الْمَضْرُوبِيَّةَ صِفَةُ عَمْرٍو فَهُوَ فَاعِلٌ ثُمَّ

[فصل أنواع علاقات المجاز]

مَجَازِيًّا لِأَنَّ الْفَاعِلَ عِنْدَهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنْ قَالَ الدَّهْرِيُّ أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ فَقَدْ أَسْنَدَ الْفِعْلَ إلَى مَا هُوَ فَاعِلٌ عِنْدَهُ فَالْإِسْنَادُ حَقِيقِيٌّ مَعَ أَنَّ الرَّبِيعَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ فِي الْعَقْلِ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي هَذَا الْكَلَامِ كَمَا إذَا قَالَ رَجُلٌ جَاءَنِي زَيْدٌ نَفْسُهُ مُرِيدًا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَجِئْ فَكَلَامُهُ حَقِيقِيَّةٌ مَعَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فَالْمُرَادُ مِنْ الْفَاعِلِ عِنْدَهُ مَا يُرِيدُ إفْهَامَ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ فَاعِلٌ عِنْدَهُ حَتَّى يَشْمَلَ الْخَبَرَ الصَّادِقَ، وَالْكَاذِبَ. (فَصْلٌ) هَذَا الْفَصْلُ فِي أَنْوَاعِ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ لَكِنِّي ـــــــــــــــــــــــــــــQالضَّمِيرُ فِي غَيْرِهِ رَاجِعٌ إلَى الْفَاعِلِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فَيَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ الْمَجَازِ مِثْلُ أُفْعِمَ السَّيْلُ عَلَى لَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ الْوَادِي لَا السَّيْلُ، وَمِثْلُ هُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ لِأَنَّ الْفَاعِلَ إنَّمَا هُوَ صَاحِبُ الْعِيشَةِ، وَيَخْرُجُ مِثْلُ قَوْلِ الدَّهْرِيِّ، وَالْأَقْوَالُ الْكَاذِبَةُ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِيهَا مَنْسُوبٌ إلَى نَفْسِ الْفَاعِلِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ فِي الظَّاهِرِ لَا إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَيْدِ التَّأْوِيلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْمُلَابَسَةُ احْتِرَازًا عَنْ مِثْلِ أَنْبَتَ الْخَرِيفُ الْبَقْلَ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا مَجَازٍ لِأَنَّ الْغَيْرَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ مُلَابَسَاتِ الْفِعْلِ [فَصْلٌ أَنْوَاعِ عَلَاقَاتِ الْمَجَازِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ الْعَلَاقَةِ، وَهُوَ اتِّصَالُ الْمَعْنَى الْمُسْتَعْمَلِ فِيهِ بِالْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالْعُمْدَةُ فِيهَا الِاسْتِقْرَاءُ، وَيَرْتَقِي مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ إلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَضَبَطَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي خَمْسَةٍ الشَّكْلُ، وَالْوَصْفُ، وَالْكَوْنُ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ إلَيْهِ، وَالْمُجَاوَرَةُ، وَأَرَادَ بِالْمُجَاوَرَةِ مَا يَعُمُّ كَوْنَ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ بِالْجُزْئِيَّةِ أَوْ الْحُلُولِ، وَكَوْنِهِمَا فِي مَحَلٍّ، وَكَوْنِهِمَا مُتَلَازِمَيْنِ فِي الْوُجُودِ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ الْخَيَالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْمُصَنِّفُ فِي تِسْعَةٍ الْكَوْنُ، وَالْأَوَّلُ، وَالِاسْتِعْدَادُ، وَالْمُقَابَلَةُ، وَالْجُزْئِيَّةُ، وَالْحُلُولُ، وَالسَّبَبِيَّةُ، وَالشَّرْطِيَّةُ، وَالْوَصْفِيَّةُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِالْفِعْلِ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ خَاصَّةً أَوْ لَا فَعَلَى الْأَوَّلِ إنْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ الزَّمَانُ عَلَى زَمَانِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَهُوَ لِلْكَوْنِ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَهُوَ الْأَوَّلُ إلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوْ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا بَلْ حَقِيقَةً، وَعَلَى الثَّانِي إنْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ بِالْقُوَّةِ فَهُوَ الِاسْتِعْدَادُ، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ، وَاتِّصَالٌ فِي الْعَقْلِ بِوَجْهٍ مَا فَلَا عَلَاقَةَ، وَإِنْ كَانَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لُزُومًا فِي مُجَرَّدِ الذِّهْنِ، وَهُوَ الْمُقَابَلَةُ أَوْ مُنْضَمًّا إلَى الْخَارِجِ، وَحِينَئِذٍ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا لِلْآخَرِ فَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ، وَالْكُلِّيَّةُ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ اللَّازِمُ صِفَةً لِلْمَلْزُومِ فَهُوَ الْوَصْفِيَّةُ أَعْنِي الْمُشَابَهَةَ، وَإِلَّا فَاللُّزُومُ إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا حَاصِلًا فِي الْآخَرِ، وَهُوَ الْحَالِيَّةُ، وَالْمَحَلِّيَّةُ أَوْ سَبَبًا لَهُ، وَهُوَ السَّبَبِيَّةُ، والمسببية أَوْ شَرْطًا لَهُ، وَهُوَ الشَّرْطِيَّةُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا أَيْضًا ضَبْطٌ، وَتَقْسِيمٌ عُرْفِيٌّ لَا حَصْرٌ، وَتَقْسِيمٌ عَقْلِيٌّ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ دَائِرًا بَيْنَ النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ اللَّازِمُ صِفَةً لِلْمَلْزُومِ فَإِنْ

أَوْرَدْتهَا عَلَى سَبِيلِ الْحَصْرِ، وَالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ. (إذَا أُطْلِقَتْ لَفْظًا عَلَى مُسَمًّى) هَذَا يَشْمَلُ إطْلَاقَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى حَقِيقِيًّا أَوْ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَى أَفْرَادِ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا الْمَعْنَى، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ فَإِنْ أَرَدْت عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَحَقِيقَةٌ لَكِنْ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقِسْمَ، وَذَكَرَ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَهُوَ أَنْوَاعُ الْمَجَازَاتِ فَقَالَ (وَأَرَدْت غَيْرَ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ إنْ حَصَلَ لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الْمُسَمَّى (بِالْفِعْلِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ فَمَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ) الْمُرَادُ بِبَعْضِ الْأَزْمَانِ الزَّمَانُ الْمُغَايِرُ لِلزَّمَانِ الَّذِي وُضِعَ اللَّفْظُ لِلْحُصُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَانَ أَحَدُهُمَا حَاصِلًا فِي الْآخَرِ فَهُوَ الْحُلُولُ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ سَبَبًا لَهُ فَهُوَ السَّبَبِيَّةُ، وَإِلَّا فَهُوَ الشَّرْطِيَّةُ، وَرُدَّ الْمَنْعُ عَلَى الْأَخِيرِ، وَسَتَسْمَعُ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ مَا عَلَى التَّقْسِيمِ مِنْ الْأَبْحَاثِ. (قَوْلُهُ: إذَا أَطْلَقْت لَفْظًا عَلَى الْمُسَمَّى) مَدْلُولُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ يُقْصَدُ بِاللَّفْظِ يُسَمَّى مَعْنًى، وَمِنْ حَيْثُ يَحْصُلُ مِنْهُ مَفْهُومًا، وَمِنْ حَيْثُ وُضِعَ لَهُ اسْمٌ مُسَمًّى إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى قَدْ يُخَصُّ بِنَفْسِ الْمَفْهُومِ دُونَ الْأَفْرَادِ، وَالْمُسَمَّى يَعُمُّهُمَا فَيُقَالُ لِكُلٍّ مِنْ زَيْدٍ، وَعَمْرٍو، وَبَكْرٍ مُسَمَّى الرَّجُلِ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ مَعْنَاهُ فَلِذَا قَالَ عَلَى مُسَمًّى، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى مَعْنًى، وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ مُسَمَّى ذَلِكَ اللَّفْظِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَجَازَ مَعَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالنَّظَرِ. (قَوْلُهُ: فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ حُصُولُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى الْمَجَازِيِّ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ عَلَى حَالِ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ أَيْ زَمَانِ وُقُوعِ النِّسْبَةِ، وَفِي الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ حُصُولُهُ لَهُ فِي الزَّمَانِ اللَّاحِقِ، وَيُمْنَعُ فِيهِمَا حُصُولُهُ لَهُ فِي زَمَانِ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُسَمَّى مِنْ أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَالتَّقْدِيرُ بِخِلَافِهِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا امْتِنَاعُ حُصُولِهِ لَهُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ حُصُولُهُ لَهُ فِي حَالِ الْحُكْمِ أَيْ زَمَانِ إيقَاعِ النِّسْبَةِ، وَالتَّكَلُّمِ بِالْجُمْلَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الِاسْمَ فِي مِثْلِ قَتَلْت قَتِيلًا، وَعَصَرْت خَمْرًا مَجَازًا، وَإِنْ صَارَ الْمُسَمَّى فِي زَمَانِ الْأَخْبَارِ قَتِيلًا، وَخَمْرًا حَقِيقَةً، وَكَذَا فِي مِثْلِ {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] ، وَقْتَ الْبُلُوغِ هُوَ مَجَازٌ، وَإِنْ كَانُوا يَتَامَى حَقِيقَةً حَالَ التَّكَلُّمِ بِالْأَمْرِ بِخِلَافِ قَوْلِنَا لَا تَشْرَبْ الْعَصِيرَ إذَا صَارَ خَمْرًا، وَأَكْرِمْ الرَّجُلَ الَّذِي خَلْفَهُ أَبُوهُ يَتِيمًا فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ لِكَوْنِهِ خَمْرًا عِنْدَ الْمَصِيرِ، وَيَتِيمًا عِنْدَ التَّخْلِيفِ فَلِذَا قُيِّدَ حُصُولُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى بِبَعْضِ الْأَزْمَانِ يَعْنِي الْبَعْضَ خَاصَّةً ثُمَّ قُيِّدَ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي الشَّرْحِ بِكَوْنِهِ مُغَايِرًا لِلزَّمَانِ الَّذِي وُضِعَ اللَّفْظُ لِلْحُصُولِ فِيهِ أَيْ كَانَ بِنَاءُ الْكَلَامِ وَوَضْعُهُ عَلَى حُصُولِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَشَرْحُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَجَازَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ أَوْ مَا يُؤَوَّلُ إلَيْهِ إنْ كَانَ فِي الِاسْمِ فَالْمُرَادُ بِاللَّفْظِ نَفْسُ الْجُمْلَةِ، وَبِالزَّمَانِ زَمَانُ وُقُوعِ النِّسْبَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ وَضْعَ الْجُمْلَةِ

فِيهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَيِّدْ فِي الْمَتْنِ بَعْضَ الْأَزْمَانِ بِهَذَا الْقَيْدِ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ تَقْدِيرُ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ حَاصِلٌ لِذَلِكَ الْمُسَمَّى فَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْحُصُولِ عَيْنَ زَمَانٍ وُضِعَ اللَّفْظُ لِلْحُصُولِ فِيهِ كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمُقَدَّرُ خِلَافُهُ فَهَذَا الْقَيْدُ مَفْرُوغٌ عَنْهُ (أَوْ بِالْقُوَّةِ فَمَجَازٌ بِالْقُوَّةِ كَالْمُسْكِرِ لِخَمْرٍ أُرِيقَتْ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ أَصْلًا) أَيْ لَا بِالْفِعْلِ، وَلَا بِالْقُوَّةِ. (فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُرِيدَ مَعْنًى لَازِمًا لِمَعْنَاهُ الْوَضْعِيِّ ذِهْنًا) أَيْ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ الْوَضْعِيِّ، وَالْمُرَادُ الِانْتِقَالُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ تَصَوُّرِهِ تَصَوُّرُهُ كَالْبَصِيرِ إذَا أُطْلِقَ عَلَى الْأَعْمَى، وَكَالْغَائِطِ إذَا أُطْلِقَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَدَلَالَتَهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ حَاصِلًا لِلْمُسَمَّى فِي حَالَةِ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ فَفِي مِثْلِ {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وَ {أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] وُضِعَ الْكَلَامُ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةُ الْيَتِيمِ خَالِصَةً لَهُمْ، وَقْتَ إيتَاءِ الْأَمْوَالِ إيَّاهُمْ، وَحَقِيقَةُ الْخَمْرِ حَاصِلَةٌ لَهُ حَالَ الْعَصْرِ فَلَوْ حَصَلَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى وَضْعِ الْكَلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مَجَازًا بَلْ حَقِيقَةً فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحُصُولُ فِي زَمَانٍ سَابِقٍ لِيَكُونَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ أَوْ لَاحِقٌ لِيَكُونَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفِعْلِ فَالْمُرَادُ بِاللَّفْظِ نَفْسُ الْفِعْلِ، وَبِالزَّمَانِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ بِهَيْئَتِهِ فَإِذَا قُلْنَا يَكْتُبُ زَيْدٌ مَجَازًا عَنْ كَتَبَ زَيْدٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ فَمَعْنَى حُصُولِ مَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى أَنَّ مَعْنَى جَوْهَرِ الْحُرُوفِ، وَهُوَ الْحَدَثُ حَاصِلٌ لِلْمُسَمَّى فِي زَمَانٍ سَابِقٍ عَلَى الزَّمَانِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْفِعْلِ أَعْنِي الْحَالَ أَوْ الِاسْتِقْبَالَ إذْ لَوْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَكَانَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَإِذَا قُلْنَا كَتَبَ زَيْدٌ مَجَازًا عَنْ يَكْتُبُ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ فَمَعْنَى حُصُولِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى أَنَّ الْحَدَثَ حَاصِلٌ لَهُ فِي زَمَانٍ لَاحِقٍ مُتَأَخِّرٍ عَنْ الزَّمَانِ الْمَاضِي الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْفِعْلُ بِهَيْئَتِهِ إذْ لَوْ كَانَ حَاصِلًا لَهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لَكَانَ الْفِعْلُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا فَالزَّمَانُ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ، وَلِلْمُسَمَّى فِي الصُّورَتَيْنِ مُغَايِرٌ لِلزَّمَانِ الَّذِي وُضِعَ لَفْظُ الْفِعْلِ لِحُصُولِ الْحَدَثِ فِيهِ هَذَا خُلَاصَةُ كَلَامِهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ فِي الِاسْمِ نَفْسَ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَفِي الْفِعْلِ جَزَّأَهُ أَعْنِي الْحَدَثَ، وَبِالْمُسَمَّى الِاسْمُ مَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ مِنْ الْمَدْلُولِ الْمَجَازِيِّ، وَفِي الْفِعْلِ الْفَاعِلُ إذْ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الْحَدَثُ فِي زَمَانٍ سَابِقٍ أَوْ لَاحِقٍ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُسَمَّى الَّذِي أُطْلِقَ عَلَيْهِ الْمَجَازُ الَّذِي هُوَ لَفْظُ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا الْمَدْلُولُ الْمَجَازِيُّ هُوَ الْحَدَثُ الْمُقَارَنُ بِزَمَانٍ سَابِقٍ أَوْ لَاحِقٍ، وَلَا مَعْنَى لِحُصُولِ الْحَدَثِ لَهُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ التَّعْبِيرُ عَلَى الْمَاضِي بِالْمُضَارِعِ، وَعَكْسِهِ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ عَلَى تَشْبِيهِ غَيْرِ الْحَاصِلِ فِي تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، وَتَشْبِيهِ الْمَاضِي

عَلَى الْحَدَثِ (وَهُوَ) أَيْ اللَّازِمُ الذِّهْنِيُّ (إمَّا ذِهْنِيٌّ مَحْضٌ) إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ فِي الْخَارِجِ (كَتَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ مُقَابِلِهِ) كَمَا يُطْلَقُ الْبَصِيرُ عَنْ الْأَعْمَى (أَوْ مُنْضَمٌّ إلَى الْعُرْفِيِّ) إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ فِي الْخَارِجِ أَيْضًا لَكِنْ بِحَسَبِ عَادَاتِ النَّاسِ كَالْغَائِطِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي الْعُرْفِ قَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي الْمَكَانِ الْمُطْمَئِنِّ حَصَلَ بَيْنَهُمَا مُلَازَمَةٌ عُرْفِيَّةٌ فَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْعُرْفِ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ الْمَحَلِّ إلَى الْحَالِ فَيَكُونُ ذِهْنِيًّا مُنْضَمًّا إلَى الْعُرْفِيِّ (أَوْ الْخَارِجِيِّ) أَيْ يَكُونُ الذِّهْنِيُّ مُنْضَمًّا إلَى الْخَارِجِيِّ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا لُزُومٌ فِي الْخَارِجِ لَا بِحَسَبِ عَادَاتِ النَّاسِ بَلْ بِحَسَبِ الْخِلْقَةِ فَصَارَ اللُّزُومُ الْخَارِجِيُّ قِسْمَيْنِ عُرْفِيًّا، وَخُلُقِيًّا فَسَمَّى الْأَوَّلَ عُرْفِيًّا، وَالثَّانِيَ خَارِجِيًّا. (وَحِينَئِذٍ) أَيْ إذَا كَانَ اللُّزُومُ الذِّهْنِيُّ مُنْضَمًّا إلَى الْعُرْفِيِّ أَوْ الْخَارِجِيِّ. (أَمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا لِلْآخَرِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، وَبِالْعَكْسِ كَالْجَمْعِ لِلْوَاحِدِ) ، وَهُوَ نَظِيرُ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ. (وَالرَّقَبَةُ لِلْعَبْدِ) ، وَهُوَ نَظِيرُ إطْلَاقِ اسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ (أَوْ خَارِجًا عَنْهُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ جُزْءًا لِلْآخَرِ. (وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّازِمُ صِفَةً لِلْمَلْزُومِ وَهُوَ) أَيْ اللُّزُومُ (إمَّا بِحُصُولِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ أَوْ بِالْعَكْسِ وَإِمَّا بِالسَّبَبِيَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْحَاضِرِ فِي كَوْنِهِ نُصْبَ الْعَيْنِ، وَاجِبَ الْمُشَاهَدَةِ ثُمَّ اسْتِعَارَةُ لَفْظِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ ثُمَّ فِي كَلَامِهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ حُصُولَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِلْمُسَمَّى فِي زَمَانِ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ بَلْ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ حَقِيقَةً لِجَوَازِ أَنْ لَا يَكُونَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مِنْ أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ لَهُ كَمَا فِي إطْلَاقِ الدَّابَّةِ عَلَى الْفَرَسِ مَجَازًا مَعَ دَوَامِ كَوْنِهِ مِمَّا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ الثَّانِي أَنَّ الْحُصُولَ بِالْفِعْلِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ بَلْ يَكْفِي تَوَهُّمُ الْحُصُولِ كَمَا فِي عَصَرْت خَمْرًا فَأُرِيقَتْ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ مَعَ عَدَمِ حُصُولِ حَقِيقَةِ الْخَمْرِ لِلْمُسَمَّى بِالْفِعْلِ أَصْلًا. (قَوْلُهُ: فَلَا بُدَّ، وَأَنْ تُرِيدَ مَعْنًى لَازِمًا) لِأَنَّ مَبْنَى الْمَجَازِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ، وَالْمُرَادُ كَوْنُ الْمَعْنَى الْوَضْعِيِّ بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْهُ الذِّهْنُ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اللُّزُومُ بِمَعْنَى امْتِنَاعِ الِانْفِكَاكِ فِي التَّصَوُّرِ كَالْبَصِيرِ يُطْلَقُ عَلَى الْأَعْمَى مَعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِ الْبَصِيرِ تَصَوُّرُ الْأَعْمَى بَلْ بِالْعَكْسِ لَكِنْ قَدْ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْهُ إلَى الْأَعْمَى بِاعْتِبَارِ الْمُقَابَلَةِ، وَكَذَا عَنْ الْغَائِطِ إلَى الْفَضَلَاتِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَاوَرَةِ فَفِي الْأَوَّلِ لُزُومٌ ذِهْنِيٌّ مَحْضٌ، وَفِي الثَّانِي مَعَ الْخَارِجِيِّ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعَلَاقَةَ فِي إطْلَاقِ اسْمِ أَحَدِ الْمُتَقَابِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَيْسَ هُوَ اللُّزُومَ الذِّهْنِيَّ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى امْتِنَاعِ إطْلَاقِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ بِتَنْزِيلِ التَّقَابُلِ مَنْزِلَةَ التَّنَاسُبِ بِوَاسِطَةِ تَلْمِيحٍ أَوْ تَهَكُّمٍ كَمَا فِي إطْلَاقِ الشُّجَاعِ عَلَى الْجَبَانِ أَوْ تَفَاؤُلٍ كَمَا فِي إطْلَاقِ الْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى أَوْ مُشَاكَلَةٍ كَمَا فِي إطْلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى جَزَاءِ السَّيِّئَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ:

كَإِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ نَحْوُ عَيْنَا الْغَيْثِ) أَيْ النَّبْتِ (أَوْ بِالْعَكْسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر: 13] ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ الْعَكْسَ أَيْضًا) أَيْ قَوْله تَعَالَى {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر: 13] يَحْتَمِلُ إطْلَاقَ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ (لِأَنَّ الرِّزْقَ سَبَبٌ غَائِيٌّ لِلْمَطَرِ وَإِمَّا بِالشَّرْطِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ صَلَاتَكُمْ) هَذَا نَظِيرُ إطْلَاقِ اسْمِ الشُّرُوطِ عَلَى الْمُشْرَطِ. (وَكَالْعِلْمِ عَلَى الْمَعْلُومِ) هَذَا نَظِيرُ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ وَيَكُونُ صِفَتَهُ، وَهُوَ الِاسْتِعَارَةُ، وَشَرْطُهَا أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ بَيِّنًا كَالْأَسَدِ يُرَادُ بِهِ لَازِمُهُ، وَهُوَ الشُّجَاعُ فَيُطْلَقُ عَلَى زَيْدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ شُجَاعٌ، وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ مَبْنَى الْمَجَازِ عَلَى إطْلَاقِ اسْمِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ، وَالْمَلْزُومُ أَصْلٌ، وَاللَّازِمُ فَرْعٌ فَإِذَا كَانَتْ الْأَصْلِيَّةُ، وَالْفَرْعِيَّةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ يَجْرِي الْمَجَازُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ كَالْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ لَهَا، (وَكَالْجُزْءِ مَعَ الْكُلِّ فَإِنَّ الْجُزْءَ تَبَعُ لِلْكُلِّ) أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْكُلِّ فَإِنَّ الْجُزْءَ يُفْهَمُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ بِتَبَعِيَّةِ الْكُلِّ فَيَصِحُّ أَنْ يُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظُ، وَيُرَادُ بِهِ جُزْءُ الْمَوْضُوعِ لَهُ. (وَالْكُلُّ مُحْتَاجٌ إلَى الْجُزْءِ) فَيَكُونُ الْجُزْءُ أَصْلًا فَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ الْكُلُّ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْجُزْءِ فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ مُطَّرِدٌ وَعَكْسُهُ غَيْرُ مُطَّرِدٍ بَلْ يَجُوزُ فِي صُورَةٍ يَسْتَلْزِمُ الْجُزْءُ الْكُلَّ كَالرَّقَبَةِ، وَالرَّأْسِ مَثَلًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الرَّأْسِ، وَالرَّقَبَةِ، وَأَمَّا إطْلَاقُ الْيَدِ، وَإِرَادَةُ الْإِنْسَانِ فَلَا يَجُوزُ. (وَكَالْمَحَلِّ فَإِنَّهُ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَالِّ) لِاحْتِيَاجِ الْحَالِّ إلَى الْمَحَلِّ. (وَأَيْضًا عَلَى الْعَكْسِ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحَالَّ) ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ خَارِجًا عَنْهُ) مَعْنَاهُ أَوْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَارِجًا عَنْ الْآخَرِ إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا خَارِجًا عَنْ الْآخَرِ لَمْ يُنَافِ كَوْنَ أَحَدِهِمَا جُزْءًا لِلْآخَرِ، وَلَمْ يُقَابِلْهُ ضَرُورَةَ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا جُزْءًا لِلْآخَرِ كَانَ أَحَدُهُمَا، وَهُوَ الْكُلُّ خَارِجًا عَنْ الْآخَرِ، وَهُوَ الْجُزْءُ. (قَوْلُهُ: أَوْ يَكُونَ صِفَتَهُ) أَيْ اللَّازِمِ صِفَةَ الْمَلْزُومِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ اللَّازِمُ صِفَةً لِلْمَلْزُومِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْمَجَازِ يُسَمَّى اسْتِعَارَةً فَإِنْ قُلْت قَدْ جَعَلَ أَنْوَاعَ الْعَلَاقَاتِ مُتَقَابِلَةً مُتَبَايِنَةً حَتَّى اشْتَرَطَ فِي الِاسْتِعَارَةِ مَثَلًا أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ جُزْءًا لِلْآخَرِ، وَفِي الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِيَّةِ، وَنَحْوِهَا أَنْ لَا يَكُونَ وَصْفًا لَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُشْعِرُ بِهِ التَّقْسِيمُ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي اجْتِمَاعِ الْعَلَاقَاتِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ مَثَلًا إطْلَاقُ الْمُشَفَّرِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِعَارَةً عَلَى قَصْدِ التَّشْبِيهِ فِي الْغِلَظِ، وَأَنْ يَكُونَ مَجَازًا مُرْسَلًا مِنْ إطْلَاقِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ أَعْنِي الْمُقَيَّدَ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى قُلْت كَأَنَّهُ قَصَدَ تَمَايُزَ الْأَقْسَامِ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارِ، وَأَرَادَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا جُزْءًا لِلْآخَرِ أَوْ وَصْفًا لَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنْ قُلْت فَالِاسْتِعَارَةُ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ جَامِعٍ دَاخِلٍ فِي الطَّرَفَيْنِ أَوْ شَكْلٍ لَهُمَا فَكَيْفَ حُصِرَ الْجَامِعُ فِي الْوَصْفِيَّةِ قُلْت أَرَادَ أَنَّ اللَّازِمَ، وَهُوَ مَا حَصَلَ لَهُ الْجَامِعُ

كَالْمَاءِ، وَالْكُوزِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكُوزِ الْمَاءُ، وَالْمُرَادَ بِالْحُلُولِ الْحُصُولُ فِيهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَصْفٌ لِلْمَلْزُومِ أَعْنِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْجَامِعِ جُزْءًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ شَكْلًا لَهُمَا فَإِنْ قِيلَ فَاللَّازِمُ أَعْنِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ الَّذِي أُطْلِقَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ فِي مِثْلِ رَأَيْت فِي الْحَمَّامِ أَسَدًا هُوَ زَيْدٌ الشُّجَاعُ مَثَلًا، وَهُوَ لَيْسَ بِوَصْفِ الْمَلْزُومِ أَعْنِي الْأَسَدَ الْحَقِيقِيَّ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسَدِ لَازِمُهُ الَّذِي هُوَ الشُّجَاعُ، وَهُوَ وَصْفٌ لَهُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِطْلَاقُ عَلَى زَيْدٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الشُّجَاعِ كَمَا إذَا قُلْت رَأَيْت شُجَاعًا، وَهَاهُنَا بُحِثَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّازِمَ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْأَسَدِ مَجَازًا إنْ كَانَ هُوَ الْإِنْسَانَ الشُّجَاعَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَصْفٍ لِلْمَلْزُومِ أَعْنِي الْأَسَدَ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الشُّجَاعَ مُطْلَقًا أَعَمَّ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَالْأَسَدِ، وَغَيْرِهِمَا فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُشَبَّهٍ بِالْأَسَدِ، وَإِنَّمَا الْمُشَبَّهُ هُوَ الْإِنْسَانُ الشُّجَاعُ خَاصَّةً فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْمَجَازُ بِاعْتِبَارِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَأَيْضًا لَا يَصِحُّ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ لَا يَحْصُلُ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ أَصْلًا ضَرُورَةَ أَنَّ مَعْنَى الْأَسَدِ حَاصِلٌ لِذَاتٍ لَهَا الشَّجَاعَةُ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ يُطْلَبُ مِنْ شَرْحِنَا لِلتَّلْخِيصِ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا عَرَفْت) يُرِيدُ أَنَّ بَعْضَ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِمَّا يُصَحِّحُ الْمَجَازَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَبَعْضَهَا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَبْنَى الْمَجَازِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ مَعْنَى اللُّزُومِ هَاهُنَا الِانْتِقَالُ فِي الْجُمْلَةِ لَا امْتِنَاعُ الِانْفِكَاكِ فَالْمَلْزُومُ أَصْلٌ، وَمَتْبُوعٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مِنْهُ الِانْتِقَالَ، وَاللَّازِمُ فَرْعٌ، وَتَابِعٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إلَيْهِ الِانْتِقَالَ فَإِنْ كَانَ اتِّصَالُ الشَّيْئَيْنِ بِحَيْثُ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ فَرْعًا مِنْ وَجْهٍ جَازَ اسْتِعْمَالُ اسْمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ مَجَازًا وَإِلَّا جَازَ اسْتِعْمَالُ اسْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ دُونَ الْعَكْسِ فَالْعِلَّةُ أَصْلٌ مِنْ جِهَةِ احْتِيَاجِ الْمَعْلُولِ إلَيْهِ، وَابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْلُولُ الْمَقْصُودُ أَصْلٌ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ. وَالْغَايَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَعْلُولَةً لِلْفَاعِلِ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ فِي الْخَارِجِ إلَّا أَنَّهَا فِي الذِّهْنِ عِلَّةٌ لِفَاعِلِيَّتِهِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا قَالُوا الْأَحْكَامُ عِلَلٌ مَآلِيَّةٌ، وَالْأَسْبَابُ عِلَلٌ آلِيَّةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ احْتِيَاجَ النَّاسِ بِالذَّاتِ إنَّمَا هُوَ إلَى الْأَحْكَامِ دُونَ الْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا قَالَ كَالْعِلَّةِ مَعَ الْمَعْلُولِ دُونَ السَّبَبِ مَعَ الْمُسَبِّبِ كَمَا فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَةِ لِأَنَّ مِنْ السَّبَبِ مَا هُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَالْمُسَبِّبُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ مَجَازًا كَمَا سَيَجِيءُ، وَالْكُلُّ أَصْلٌ يُبْتَنَى عَلَيْهِ الْجُزْءُ فِي الْحُصُولِ مِنْ اللَّفْظِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ اسْمِ الْكُلِّ بِوَاسِطَةِ أَنَّ فَهْمَ الْكُلِّ مَوْقُوفٌ عَلَى فَهْمِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ التَّضَمُّنُ تَابِعٌ لِلْمُطَابَقَةِ، وَالتَّبَعِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا تُنَافِي كَوْنَ فَهْمِ الْجُزْءِ سَابِقًا عَلَى فَهْمِ الْكُلِّ، وَالْجُزْءُ أَصْلٌ بِاعْتِبَارِ احْتِيَاجِ الْكُلِّ إلَيْهِ فِي الْوُجُودِ، وَالتَّعَقُّلِ، وَفِي هَذَا تَسْلِيمُ مَا مَنَعَهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مِنْ اطِّرَادِ تَعْرِيفِ الْأَصْلِ بِالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فَإِنْ قُلْت لَمَّا كَانَ فَهْمُ

حُلُولِ الْعَرْضِ فِي الْجَوْهَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاتِّصَالَاتِ الْمَذْكُورَةَ إذَا وُجِدَتْ مِنْ حَيْثُ الشَّرْعُ تَصْلُحُ عَلَاقَةً لِلْمَجَازِ أَيْضًا (كَالِاتِّصَالِ فِي الْمَعْنَى الْمَشْرُوعِ كَيْفَ شُرِعَ يَصْلُحُ عَلَاقَةً لِلِاسْتِعَارَةِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجُزْءِ سَابِقًا عَلَى فَهْمِ الْكُلِّ لَمْ يَكُنْ الِانْتِقَالُ مِنْ الْكُلِّ إلَى الْجُزْءِ بَلْ بِالْعَكْسِ فَلَا يَكُونُ الْكُلُّ مَلْزُومًا، وَالْجُزْءُ لَازِمًا عَلَى مَا مَرَّ مِنْ التَّفْسِيرِ قُلْت لَيْسَ مَعْنَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ أَنْ يَكُونَ تَصَوُّرُ اللَّازِمِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي الْوُجُودِ أَلْبَتَّةَ بَلْ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ بِحَيْثُ يَحْصُلُ عِنْدَ حُصُولِ الْمَلْزُومِ فِي الذِّهْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي الْجُزْءِ مُتَحَقِّقٌ بِصِفَةِ الدَّوَامِ، وَالْوُجُوبِ فَإِنْ قِيلَ احْتِيَاجُ الْكُلِّ إلَى الْجُزْءِ ضَرُورِيٌّ مُطَّرِدٌ، وَالْمَجْمُوعُ الَّذِي يَكُونُ الْيَدُ أَوْ الرِّجْلُ جُزْءًا مِنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِمَا ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْكُلِّ بِانْتِفَاءِ الْجُزْءِ فَمَا مَعْنَى اشْتِرَاطِ جَوَازِ إطْلَاقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ بِأَنْ يَسْتَلْزِمَ الْجُزْءَ لِلْكُلِّ كَالرَّقَبَةِ، وَالرَّأْسِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُوجَدُ بِدُونِهِمَا بِخِلَافِ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ قُلْنَا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ حَيْثُ يُقَالُ لِلشَّخْصِ الَّذِي قُطِعَتْ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ، وَذَلِكَ الشَّخْصُ بِعَيْنِهِ لَا غَيْرُهُ فَاعْتُبِرَ الْجُزْءُ الَّذِي لَا يَبْقَى الْإِنْسَانُ مَوْجُودًا بِدُونِهِ. وَأَمَّا إطْلَاقُ الْعَيْنِ عَلَى الرَّقِيبِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ بِوَصْفِ كَوْنِهِ رَقِيبًا لَا يُوجَدُ بِدُونِهِ كَإِطْلَاقِ اللِّسَانِ عَلَى التُّرْجُمَانِ فَإِنْ قِيلَ مَعْنَى اسْتِلْزَامِ الْجُزْءِ الْكُلَّ يَقْتَضِي كَوْنَ الْجُزْءِ مَلْزُومًا، وَالْكُلِّ لَازِمًا، وَعَدَمُ وُجْدَانِ الْإِنْسَانِ بِدُونِ الرَّأْسِ أَوْ الرَّقَبَةِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجُزْءَ لَازِمٌ، وَالْكُلَّ مَلْزُومٌ إذْ الْمُلْزَمُ هُوَ الَّذِي لَا يُوجَدُ بِدُونِ اللَّازِمِ قُلْنَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّا لَا نُرِيدُ بِالْمُسْتَلْزِمِ، وَاللَّازِمِ مُصْطَلَحَ أَهْلِ الْجَدَلِ بَلْ مُصْطَلَحُ أَهْلِ الْحِكْمَةِ، وَالْبَيَانِ، وَهُمْ يَعْنُونَ بِالْمُسْتَلْزِمِ الْمُسْتَتْبَعِ، وَاللَّازِمُ مَا يَتْبَعُهُ فَالْحُكَمَاءُ يَجْعَلُونَ خَوَاصَّ الْمَاهِيَّةِ لَوَازِمَهَا لَا مَلْزُومَاتِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تُوجَدُ بِدُونِ الْمَاهِيَّةِ، وَالْمَاهِيَّةُ قَدْ تُوجَدُ بِدُونِهَا، وَعُلَمَاءُ الْبَيَانِ يَجْعَلُونَ مَبْنَى الْمَجَازِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ، وَمَبْنَى الْكِنَايَةِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ اللَّازِمِ إلَى الْمَلْزُومِ، وَيَعْنُونَ بِاللَّازِمِ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ، وَالرَّدِيفِ فَكُلٌّ مِنْ الرَّقَبَةِ، وَالرَّأْسِ مَلْزُومٌ، وَأَصْلٌ يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَيَتْبَعُهُ فِي الْوُجُودِ. وَفِي كَوْنِ مَا ذُكِرَ مُصْطَلَحَ أَهْلِ الْحِكْمَةِ نَظَرٌ فَإِنَّهُمْ يَقْسِمُونَ الْخَاصَّةَ إلَى لَازِمَةٍ، وَغَيْرِ لَازِمَةٍ، وَإِنَّمَا يُطْلِقُونَ اللَّوَازِمَ عَلَى مَا يَكُونُ مُقْتَضَى الْمَاهِيَّةِ، وَيَمْتَنِعُ انْفِكَاكُهُ عَنْهَا لَا يُقَالُ كُلُّ مَلْزُومٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى لَازِمِهِ فَيَكُونُ اللَّازِمُ أَصْلًا لَهُ، وَمَلْزُومًا بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ جَرَيَانُ الْأَصَالَةِ، وَالتَّبَعِيَّةِ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الْمَجَازِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ أُرِيدَ بِاللَّازِمِ مَا يَمْتَنِعُ انْفِكَاكُهُ عَنْ الشَّيْءِ حَتَّى يَحْتَاجَ الشَّيْءُ إلَيْهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ. (قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالْحُلُولِ) الْمُتَعَارَفُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ فِي حُلُولِ

أَيْ يَنْظُرُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَشْرُوعَةِ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَغَيْرِهَا أَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى وَجْهٍ شُرِعَتْ فَالْبَيْعُ عَقْدٌ شُرِعَ لِتَمْلِيكِ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْإِجَارَةُ شُرِعَتْ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِالْمَالِ فَإِذَا حَصَلَ اشْتِرَاكُ التَّصَرُّفَيْنِ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَصِحُّ اسْتِعَارَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ. (كَالْوَصِيَّةِ، وَالْإِرْثِ) فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا اسْتِخْلَافٌ بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ كَالتَّجْهِيزِ، وَالدَّيْنِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِلِاسْتِعَارَةِ فِي غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ اللَّازِمُ الْبَيِّنُ فَكَذَلِكَ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَاللَّازِمُ الْبَيِّنُ لِلتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ هُوَ الْمَعْنَى الْخَارِجُ عَنْ مَفْهُومِهَا الصَّادِقِ عَلَيْهَا الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ تَصَوُّرِهَا تَصَوُّرُهُ. (وَكَالسَّبَبِيَّةِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَالِاتِّصَالِ فِي الْمَعْنَى الْمَشْرُوعِ كَنِكَاحِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - انْعَقَدَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْهِبَةَ وُضِعَتْ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَالنِّكَاحُ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَذَلِكَ أَيْ مِلْكُ الرَّقَبَةِ (سَبَبٌ لِهَذَا) أَيْ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَأُطْلِقَ اللَّفْظُ الَّذِي وُضِعَ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَأُرِيدَ بِهِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ (وَكَذَا نِكَاحُ غَيْرِهِ عِنْدَنَا) أَيْ نِكَاحُ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ حُرَّةً حَتَّى لَوْ كَانَتْ أَمَةً تَثْبُتُ الْهِبَةُ عِنْدَنَا. (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ اخْتِصَاصُهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْأَوَّلُ نَاعِتًا، وَالثَّانِي مَنْعُوتًا كَحُلُولِ الْعَرَضِ فِي الْجَوْهَرِ، وَالصُّورَةِ فِي الْمَادَّةِ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّا لَا نَعْنِي بِالْحَالِّ، وَالْمَحَلِّ هَذَا الْمَعْنَى بَلْ مَعْنَى الْحُلُولِ حُصُولُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ سَوَاءٌ كَانَ حُصُولُ الْعَرَضِ فِي الْجَوْهَرِ أَوْ الصُّورَةِ فِي الْمَادَّةِ أَوْ الْجِسْمِ فِي الْمَكَانِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ كَحُصُولِ الرَّحْمَةِ فِي الْجَنَّةِ. (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الِاتِّصَالَاتِ) يَعْنِي كَمَا يَجُوزُ الْمَجَازُ فِي الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ إذَا وُجِدَتْ الْعَلَاقَاتُ الْمَذْكُورَةُ بَيْنَ مَعَانِيهَا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا وُجِدَ بَيْنَ مَعَانِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْعَلَاقَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ بِأَنْ يَكُونَ تَصَرُّفَانِ شَرْعِيَّانِ يَشْتَرِكَانِ فِي وَصْفٍ لَازِمٍ بَيِّنٍ أَوْ يَكُونَ مَعْنَى أَحَدِهِمَا سَبَبًا لِمَعْنَى الْآخَرِ، وَذَلِكَ لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَجَازِ وُجُودُ الْعَلَاقَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ السَّمَاعُ فِي أَفْرَادِ الْمَجَازَاتِ فَيَجُوزُ الْمَجَازُ سَوَاءٌ كَانَ وُجُودُ الْعَلَاقَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَلَامُ خَبَرًا أَوْ إنْشَاءً فِي التَّمْثِيلِ بِالِاتِّصَالِ فِي الْمَعْنَى الْمَشْرُوعِ، وَبِالسَّبَبِيَّةِ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَغَيْرُهُ مِنْ ضَبْطِ أَنْوَاعِ الْعَلَاقَاتِ بِأَنَّهَا اتِّصَالٌ صُورَةً كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ، وَالْمَطَرِ أَوْ مَعْنًى كَمَا بَيْنَ الْأَسَدِ، وَالرَّجُلِ الشُّجَاعِ فَإِنَّهُمَا لَا يَتَّصِلَانِ مِنْ جِهَةِ الذَّاتِ، وَالصُّورَةِ بَلْ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي مَعْنَى الشَّجَاعَةِ، وَعَبَّرَ عَنْ عَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ بِالِاتِّصَالِ فِي مَعْنَى الْمَشْرُوعِ كَيْفَ شَرَعَ لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ اتِّفَاقٌ فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَالصِّفَةِ. 1 - (قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْهِبَةَ وُضِعَتْ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ) يَعْنِي أَنَّهَا عَقْدٌ مَوْضُوعٌ فِي الشَّرْعِ لِأَجْلِ حُصُولِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ. (قَوْلُهُ: حَتَّى لَوْ كَانَتْ أَمَةً تَثْبُتُ الْهِبَةُ) فَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْهِبَةِ لَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ، وَيُشْتَرَطُ فِي انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَنْ يَطْلُبَ الزَّوْجُ مِنْهَا الْهِبَةَ إذْ لَوْ طَلَبَ مِنْهَا التَّمْكِينَ مِنْ الْوَطْءِ فَقَالَتْ: وَهَبْت نَفْسِي مِنْك، وَقَبِلَ الزَّوْجُ لَا يَكُونُ نِكَاحًا. وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ مُتَعَيِّنٌ لِهَذَا الْمَجَازِ لِنُبُوِّهِ عَنْ قَبُولِ الْحَقِيقَةِ

- رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50] ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ لِمَصَالِحَ لَا تُحْصَى) كَالنَّسَبِ، وَعَدَمِ انْقِطَاعِ النَّسْلِ، وَالِاجْتِنَابِ عَنْ السِّفَاحِ، وَتَحْصِيلِ الْإِحْصَانِ، وَالِائْتِلَافِ بَيْنَهُمَا، وَاسْتِمْدَادِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الْمَعِيشَةِ بِالْآخَرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَعْدَادُهُ، وَغَيْرُ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ أَيْ غَيْرُ لَفْظِ النِّكَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ قَاصِرٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهَا أَيْ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمَذْكُورَةِ قُلْنَا الْخُلُوصُ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الْمَهْرِ أَيْ صِحَّةُ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ مَعَ عَدَمِ وُجُوبِ الْمَهْرِ مَخْصُوصَةً لَك أَمَّا فِي غَيْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَالْمَهْرُ وَاجِبٌ، وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّا حَلَّلْنَا لَك أَزْوَاجَك حَالَ كَوْنهَا خَالِصَةً لَك أَيْ لَا تَحِلُّ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَحَدٍ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] (لَا فِي اللَّفْظِ فَإِنَّ الْمَجَازَ لَا يَخْتَصُّ بِحَضْرَةِ الرِّسَالَةِ، وَأَيْضًا تِلْكَ الْأُمُورُ) أَيْ الْمَصَالِحُ الْمَذْكُورَةُ (ثَمَرَاتٌ، وَفُرُوعٌ، وَمَبْنَى النِّكَاحِ لِلْمِلْكِ لَهُ عَلَيْهَا) أَيْ لِلزَّوْجِ عَنْ الزَّوْجَةِ (حَتَّى لَزِمَ الْمَهْرُ عَلَيْهِ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ بِيَدِهِ إذْ هُوَ الْمَالِكُ) أَيْ لَوْ كَانَ وَضْعُهُ لِتِلْكَ الْمَصَالِحِ، وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا لَمَّا كَانَ الْمَهْرُ وَاجِبًا لِلزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ، أَوْ مَا كَانَ الطَّلَاقُ بِيَدِ الزَّوْجِ خَاصَّةً فَإِذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخِلَافِ الطَّلَاقِ بِأَلْفَاظِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لِصَلَاحِيَّةِ الْمَحَلِّ لِلْوَصْفِ بِالْحَقِيقَةِ. (قَوْلُهُ: إلَى غَيْرِ ذَلِكَ) أَيْ مُنْضَمًّا إلَى مَصَالِحَ أُخَرَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِثْلُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ، وَالْمَهْرِ، وَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، وَجَرَيَانِ التَّوَارُثِ، وَتَحْصِينِ الدَّيْنِ، وَلَفْظُ النِّكَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ وَافٍ بِالدَّلَالَةِ عَلَى هَذِهِ الْمَصَالِحِ لِكَوْنِهِ مُنْبِئًا عَنْ الضَّمِّ، وَالِاتِّحَادِ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ، وَعَنْ الِازْدِوَاجِ، وَالتَّلْفِيقِ عَلَى وَجْهِ الِاتِّحَادِ كَزَوْجَيْ الْخُفِّ، وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَجِبُ) أَيْ لَا يَجِبُ فِي الْأَعْلَامِ رِعَايَةُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ حَتَّى يَلْزَمَ فِي لَفْظِ النِّكَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ رِعَايَةُ الْخُلُوِّ عَنْ مَعْنَى الْمِلْكِ فَيَمْتَنِعُ جَعْلُهُمَا عَلَمَيْنِ لِلْعَقْدِ الْمَوْضُوعِ فِي الشَّرْعِ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ خُلُوُّ مَعْنَاهُمَا عَنْ مَعْنَى الْمِلْكِ هُوَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِمَا عَلَى الْمِلْكِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا يَدُلَّانِ عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ فَعَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ رِعَايَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لَا يَلْزَمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الِازْدِوَاجِ، وَالتَّلْفِيقِ مُعْتَبَرًا فِي هَذَا الْعَقْدِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الْمَعْنَى فِي الْوَضْعِ الثَّانِي، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَعْنَاهُمَا التَّلْفِيقُ، وَالِازْدِوَاجُ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الْمِلْكِ أَوْ بِدُونِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَمْ يُعْتَبَرُ فِي الْعَقْدِ الْمَخْصُوصِ بَلْ اُعْتُبِرَ الْمِلْكُ قَطْعًا، وَفِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْأَعْلَامِ رِعَايَةُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ بِحَيْثُ يَكُونُ هُوَ بِعَيْنِهِ الْمَعْنَى الْعِلْمِيُّ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ زِيَادَةُ خُصُوصٍ لَا تُوجَدُ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ) لِأَنَّهُ مِثْلُ الْهِبَةِ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهَا بِلُزُومِ الْعِوَضِ فَيَكُونُ أَنْسَبَ بِالنِّكَاحِ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ، وَهِيَ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ، وَكَذَا الْإِبَاحَةُ، وَالْإِحْلَالُ، وَالتَّمَتُّعُ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ حَتَّى

كَانَ الْمَهْرُ عَلَيْهِ، وَالطَّلَاقُ بِيَدِهِ عُلِمَ أَنَّ وَضْعَ النِّكَاحِ لِلْمِلْكِ لَهُ عَلَيْهَا. (وَإِذَا صَحَّ بِلَفْظَيْنِ لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْمِلْكِ لُغَةً فَأَوْلَى) أَنْ يَصِحَّ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِهِمَا أَيْ بِلَفْظِ النِّكَاحِ، وَالتَّزْوِيجِ (لِأَنَّهُمَا صَارَا عِلْمَيْنِ لِهَذَا الْعَقْدِ) جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَمَّا قُلْت إنَّ النِّكَاحَ، وَالتَّزْوِيجَ لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْمِلْكِ لُغَةً يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ النِّكَاحُ بِهِمَا فَأَجَابَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا صَارَا عَلَمَيْنِ لِهَذَا الْعَقْدِ أَيْ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ فِي كَوْنِهِمَا لَفْظَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ لِهَذَا الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ فِي الْإِعْلَامِ رِعَايَةُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (وَكَذَا يَنْعَقِدُ) أَيْ النِّكَاحُ (بِلَفْظِ الْبَيْعِ لَمَّا قُلْنَا) مِنْ طَرِيقِ الْمَجَازِ فَإِنَّ الْبَيْعَ وُضِعَ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَيُرَادُ بِهِ الْمُسَبَّبُ، وَهُوَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ، وَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ، (وَكَذَا نِكَاحُ غَيْرِهِ عِنْدَنَا) فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْعَكْسُ أَيْضًا بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ إطْلَاقُ اسْمِ النِّكَاحِ إرَادَةُ الْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ بِطَرِيقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ فَإِنَّ النِّكَاحَ وُضِعَ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَيُذْكَرُ، وَيُرَادُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ. (قُلْنَا إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ) أَيْ إنَّمَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ (إذَا كَانَ) أَيْ السَّبَبُ (عِلَّةً شُرِعَتْ لِلْحُكْمِ) أَيْ لِذَلِكَ الْمُسَبِّبِ أَيْ يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ السَّبَبِ ذَلِكَ الْمُسَبِّبَ. (كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ مَثَلًا فَإِنَّ الْمِلْكَ يَصِيرُ كَالْعِلَّةِ الْغَائِبَةِ فَإِنْ قَالَ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ أَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت فَشَرَاهُ مُتَفَرِّقًا يُعْتَقُ فِي الثَّانِي لَا فِي الْأَوَّلِ) رَجُلٌ قَالَ: إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْآخَرَ لَا يُعْتَقُ هَذَا النِّصْفُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، وَهُوَ مِلْكُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ مَنْ أَبَاحَ طَعَامًا لِغَيْرِهِ فَهُوَ إنَّمَا يَبْتَلِعُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ لِأَنَّهَا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهَا بَلْ تُوجِبُ الْخِلَافَةَ مُضَافَةً إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْهِبَةُ تُوجِبُ إضَافَةَ الْمِلْكِ لَكِنْ لِضَعْفِ السَّبَبِ بِاعْتِبَارِ تَعَرِّيهِ عَنْ الْعِوَضِ يَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى بِالْقَبْضِ، وَلَا يَبْقَى ذَلِكَ الضَّعْفُ إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَجِبُ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ عَيْنٌ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَتُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الِاتِّصَالِ بَيْنَ حُكْمَيْ الْهِبَةِ، وَالنِّكَاحِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا سَبَبًا لِلْآخَرِ كَافٍ فِي الْمَجَازِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى مَا اعْتَبَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الِاتِّصَالِ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ أَيْضًا أَعْنِي أَلْفَاظَ التَّمْلِيكِ، وَأَلْفَاظَ النِّكَاحِ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا بِوَاسِطَةٍ، وَالْآخَرَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. (قَوْلُهُ: فَإِنْ قَالَ) تَفْرِيعٌ وَتَمْثِيلٌ لِصِحَّةِ إطْلَاقِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ إذَا كَانَ السَّبَبُ عِلَّةً مَشْرُوعَةً لِلْحُكْمِ، وَالْمُسَبِّبُ حُكْمًا مَقْصُودًا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِيَّةِ، وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي عَبْدٍ مُنْكَرٍ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ مَلَكْت هَذَا الْعَبْدَ أَوْ اشْتَرَيْته يُعْتَقُ النِّصْفُ الْآخَرُ فِي فَصْلِ الْمِلْكِ أَيْضًا لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ فَيُعْتَبَرُ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَيَلْغُو فِي الْمُعَيَّنِ لِأَنَّهُ يُعْرَفُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا بِنَاءٌ) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ إنْ مَلَكْت أَوْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فِي مَعْنَى أَنْ

الْعَبْدِ فَإِنَّهُ بَعْدَ اشْتِرَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ لَا يُوصَفُ بِمِلْكِ الْعَبْدِ، وَإِنْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ فَشَرَى نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَى النِّصْفَ الْآخَرَ يُعْتَقُ هَذَا النِّصْفُ لِأَنَّهُ بَعْدَ اشْتِرَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ يُوصَفُ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ، وَيُقَالُ عُرْفًا إنَّهُ مُشْتَرِي الْعَبْدِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الصِّفَاتِ الْمُشْتَقَّةِ كَاسْمِ الْفَاعِلِ، وَاسْمِ الْمَفْعُولِ، وَالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ عَلَى الْمَوْصُوفِ فِي حَالِ قِيَامِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ بِذَلِكَ الْمَوْصُوفِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَمَّا بَعْدَ زَوَالِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ فَمَجَازٌ لُغَوِيٌّ لَكِنْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ صَارَ هَذَا الْمَجَازُ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً وَلَفْظُ الْمُشْتَرِي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الشِّرَاءِ يُسَمَّى مُشْتَرِيًا عُرْفًا فَصَارَ مَنْقُولًا عُرْفِيًّا أَمَّا لَفْظُ الْمَالِكِ فَلَا يُطْلَقُ بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ عُرْفًا فَفِي قَوْلِهِ إنْ مَلَكْت يُرَادُ الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَفِي قَوْلِهِ: إنْ اشْتَرَيْت يُرَادُ الْحَقِيقَةُ الْعُرْفِيَّةُ، وَالْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ الْمَقْصُودُ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَأْتِي، وَهُوَ قَوْلُهُ. (فَإِنْ قَالَ عَنَيْت بِأَحَدِهِمَا الْآخَرَ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً فِيمَا فِيهِ تَخْفِيفٌ) يَعْنِي فِي صُورَةِ إنْ مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ إنْ قَالَ عَنَيْت بِالْمِلْكِ الشِّرَاءَ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ صُدِّقَ دِيَانَةً، وَقَضَاءً لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُعْتَقُ فِي قَوْلِهِ إنْ مَلَكْت، وَيُعْتَقُ فِي قَوْلِهِ إنْ اشْتَرَيْت فَقَدْ عَنَى مَا هُوَ أَغْلَظُ عَلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ اشْتَرَيْت إنْ قَالَ عَنَيْت بِالشِّرَاءِ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ صُدِّقَ دِيَانَةً لَا قَضَاءً لِأَنَّهُ أَرَادَ تَخْفِيفًا. (أَمَّا إذَا كَانَ سَبَبًا مَحْضًا) هَذَا الْكَلَامُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ عِلَّةً (فَلَا يَنْعَكِسُ) أَيْ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ (عَلَى مَا قُلْنَا) ، وَهُوَ قَوْلُهُ إذَا كَانَتْ الْأَصْلِيَّةُ، وَالْفَرْعِيَّةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ يَجْرِي الْمَجَازُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ إلَخْ فَإِنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الْأَصْلِيَّةُ، وَالْفَرْعِيَّةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لَا يَجْرِي الْمَجَازُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاتَّصَفَ بَكَوْنِي مَالِكًا أَوْ مُشْتَرِيًا لِمَجْمُوعِ عَبْدٍ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ، وَنَحْوُهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُشْتَقَّةِ حَقِيقَةً حَالَ قِيَامِ مَعْنَى الْمُشْتَقِّ مِنْهُ بِالْمَوْصُوفِ كَالضَّارِبِ لِمَنْ هُوَ فِي صَدَدِ الضَّرْبِ مَجَازٌ بَعْدَ انْقِضَائِهِ، وَزَوَالِهِ عَنْ الْمَوْصُوفِ كَالضَّارِبِ لِمَنْ صَدَرَ عَنْهُ الضَّرْبُ، وَانْقَضَى، وَقِيلَ بَلْ حَقِيقَةٌ وَقِيلَ إنْ كَانَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ كَالْمُتَحَرِّكِ، وَالْمُتَكَلِّمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَحَقِيقَةٌ، وَإِلَّا فَمَجَازٌ. وَأَمَّا قَبْلَ قِيَامِ الْمَعْنَى بِهِ كَالضَّارِبِ لِمَنْ لَمْ يَضْرِبْ، وَلَا يَضْرِبُ فِي الْحَالِ لَكِنَّهُ سَيَضْرِبُ فَمُجَاوِزٌ اتِّفَاقًا فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ لِلنِّصْفِ الْأَوَّلِ عِنْدَ قِيَامِ مِلْكِ النِّصْفِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْعَبْدِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ، وَكَذَا لَمْ يَكُنْ مُشْتَرِيًا لُغَةً عَلَى الْأَصَحِّ إلَّا أَنَّهُ غَلَبَ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ أَعْنِي مَنْ قَامَ بِهِ الشِّرَاءُ حَالًا أَوْ مَاضِيًا فَصَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً. (قَوْلُهُ: صُدِّقَ دِيَانَةً) أَيْ لَوْ اسْتَفْتَى الْمُفْتِي يُجِيبُهُ عَلَى وَفْقِ مَا نَوَى لَا قَضَاءً أَيْ لَوْ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي يَحْكُمُ عَلَيْهِ بِمُوجِبِ كَلَامِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى مَا نَوَى لِمَكَانِ التُّهْمَةِ لَا لِعَدَمِ جَوَازِ الْمَجَازِ. (قَوْلُهُ: بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ) ، وَهُوَ

وَالْمُرَادُ بِالسَّبَبِ الْمَحْضِ مَا يُفْضِي إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا يَكُونُ شَرْعِيَّتُهُ لِأَجْلِهِ كَمِلْكِ الرَّقَبَةِ إذْ لَيْسَ شَرْعِيَّتُهُ لِأَجْلِ حُصُولِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ مَشْرُوعٌ مَعَ امْتِنَاعِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ كَمَا فِي الْعَبْدِ، وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ، وَنَحْوِهِمَا (فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِلَفْظِ الْعِتْقِ) أَيْ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ. (فَإِنَّ الْعِتْقَ وُضِعَ لِإِزَالَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَالطَّلَاقِ، لِإِزَالَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ، وَتِلْكَ الْإِزَالَةُ سَبَبٌ لِهَذِهِ) أَيْ إزَالَةُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِإِزَالَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ إذْ هِيَ تُفْضِي إلَيْهَا، (وَلَيْسَتْ هَذِهِ) أَيْ إزَالَةُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ. (مَقْصُودَةً مِنْهَا) أَيْ مِنْ إزَالَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ (فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) لِمَا قُلْنَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُسَبِّبُ مَقْصُودًا مِنْ السَّبَبِ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ. (وَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ) جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَلَا بُدَّ فِي الِاسْتِعَارَةِ مِنْ وَصْفٍ مُشْتَرَكٍ فَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ (إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا إسْقَاطٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السِّرَايَةِ، وَاللُّزُومِ) اعْلَمْ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ إمَّا إثْبَاتَاتٌ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْهِبَةِ، وَنَحْوِهَا وَإِمَّا إسْقَاطَاتٌ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَنَحْوِهَا فَإِنَّ فِيهَا إسْقَاطَ الْحَقِّ، وَالْمُرَادُ بِالسِّرَايَةِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْكُلِّ بِسَبَبِ ثُبُوتِهِ فِي الْبَعْضِ، وَبِاللُّزُومِ عَدَمُ قَبُولِ الْفَسْخِ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا. (لِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِكُلِّ، وَصْفٍ بَلْ بِمَعْنَى الْمَشْرُوعِ كَيْفَ شَرَعَ، وَلَا اتِّصَالَ بَيْنَهُمَا فِيهِ) أَيْ بَيْنَ الِاعْتِقَادِ، وَالطَّلَاقِ فِي مَعْنَى الْمَشْرُوعِ كَيْفَ شُرِعَ (لِأَنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ قَيْدِ النِّكَاحِ، وَالْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ) فَإِنَّ فِي الْمَنْقُولَاتِ اُعْتُبِرَتْ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةُ، وَمَعْنَى الْعِتْقِ لُغَةً الْقُوَّةُ يُقَالُ عَتَقَ الطَّائِرُ إذَا قَوِيَ، وَطَارَ عَنْ وَكْرِهِ، وَمِنْهُ عَتَاقُ الطَّيْرِ، وَيُقَالُ عَتَقَتْ الْبِكْرُ إذَا أَدْرَكَتْ، وَقَوِيَتْ فَنَقَلَهُ الشَّرْعُ إلَى الْقُوَّةِ الْمَخْصُوصَةِ. (فَإِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ السَّبَبَ إذَا كَانَ سَبَبًا مَحْضًا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ، وَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْمُسَبِّبِ عَلَيْهِ. (قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْعِتْقَ) أَيْ هَذَا التَّصَرُّفُ الَّذِي هُوَ الْإِعْتَاقُ مَوْضُوعٌ فِي الشَّرْعِ لِغَرَضِ إزَالَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَا يَكُونُ هَذَا مُنَافِيًا لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ لَا إزَالَةُ الْمِلْكِ فَإِنْ قِيلَ فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمَجَازِ هُوَ السَّبَبِيَّةُ، والمسببية بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَجَازِيِّ لِيَكُونَ إطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَثَلًا، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ قُلْنَا قَدْ يُقَامُ الْغَرَضُ مِنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَقَامَهُ، وَيَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ فِي مُسَبِّبِهِ مَجَازًا كَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ الْمَوْضُوعِينَ لِغَرَضِ إثْبَاتِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا) أَيْ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَصِحُّ بِكُلِّ وَصْفٍ لِلْقَطْعِ بِامْتِنَاعِ اسْتِعَارَةِ السَّمَاءِ لِلْأَرْضِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوُجُودِ، وَالْحُدُوثِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وَصْفٍ مَشْهُورٍ لَهُ زِيَادَةُ اخْتِصَاصٍ بِالْمُسْتَعَارِ

قِيلَ الْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةٍ تَجْزِي الْإِعْتَاقَ. (وَالطَّلَاقُ إثْبَاتُ الْقَيْدِ فَوُجِدَتْ الْمُنَاسَبَةُ) الْمُجَوِّزَةُ لِلِاسْتِعَارَةِ بَيْنَهُمَا. (قُلْنَا نَعَمْ) يَعْنِي أَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةٍ تَجْزِي الْإِعْتَاقَ (لَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الصَّادِرَ مِنْ الْمَالِكِ هِيَ أَيْ إزَالَةُ الْمِلْكِ) لَا بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ الْإِعْتَاقَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فَالْمُرَادُ بِالْإِعْتَاقِ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الْمَخْصُوصَةِ أَيْ يُرَادُ بِالْإِعْتَاقِ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الْمَخْصُوصَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ، وَضَعَهُ لَهُ فَيُرَدُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي الشَّرْعِ إذَا كَانَ مَوْضُوعًا لِإِثْبَاتِ الْقُوَّةِ الْمَخْصُوصَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُسْنَدَ إلَى الْمَالِكِ فَإِنَّهُ مَا أَثْبَتَ قُوَّةً فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (فَيُسْنَدُ إلَى الْمَالِكِ مَجَازًا لِأَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ سَبَبُهُ، وَهُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ) فَيَكُونُ الْمَجَازُ فِي الْإِسْنَادِ كَمَا فِي أَنْبَتَ الرَّبِيعُ الْبَقْلَ (أَوْ يُطْلَقُ) أَيْ الْإِعْتَاقُ (عَلَيْهَا) أَيْ إزَالَةِ الْمِلْكِ (مَجَازًا) بِقَوْلِهِ أَعْتَقَ فُلَانٌ عَبْدَهُ مَعْنَاهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَجَازُ فِي الْمُفْرَدِ فَقَوْلُهُ أَوْ يُطْلَقُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَيُسْنَدُ. (فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ مَجَازًا) هَذَا إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَجَازًا أَيْ لَيْسَ إطْلَاقُ الْإِعْتَاقِ عَلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ بَيْنَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ مَنْقُولَانِ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْوَاجِبِ رِعَايَتُهُ عِنْدَ اسْتِعَارَةِ الْأَلْفَاظِ الْمَنْقُولَةِ، وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ لِلطَّلَاقِ مُنْبِئٌ عَنْ إزَالَةِ الْحَبْسِ، وَرَفْعِ الْقَيْدِ يُقَالُ أَطْلَقْت الْمَسْجُونَ خَلَّيْتُهُ، وَأَطْلَقْت الْبَعِيرَ عَنْ عِقَالِهِ، وَالْأَسِيرَ عَنْ إسَارِهِ فَنُقِلَ إلَى رَفْعِ قَيْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بِهِ قَدْ صَارَتْ مَحْبُوسَةً بِحَقِّ الزَّوْجِ مُقَيَّدَةً شَرْعًا لَا يَحِلُّ لَهَا الْخُرُوجُ، وَالْبُرُوزُ بِلَا إذْنِهِ، وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ لِلْعَتَاقِ مُنْبِئٌ عَنْ الْقُوَّةِ، وَالْغَلَبَةِ يُقَالُ عَتَقَ الْفَرْخُ إذَا قَوِيَ، وَطَارَ عَنْ، وَكْرِهِ، وَعَتَاقُ الطَّيْرِ كَوَاسِبُهَا جَمْعُ عَتِيقٍ لِزِيَادَةِ قُوَّةٍ فِيهَا فَنُقِلَ فِي الشَّرْعِ إلَى إثْبَاتِ الْقُوَّةِ الْمَخْصُوصَةِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالشَّهَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا تَشَابُهَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي شُرِعَا عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ مَعْنَى الْإِعْتَاقِ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الْمَخْصُوصَةِ لَمَا صَحَّ إسْنَادُهُ إلَى الْمَالِكِ فِي مِثْلِ أَعْتَقَ فُلَانٌ عَبْدَهُ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إثْبَاتُ تِلْكَ الْقُوَّةِ بَلْ مُجَرَّدُ إزَالَةِ الْمِلْكِ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْإِسْنَادِ حَيْثُ أُسْنِدَ الْفِعْلُ إلَى السَّبَبِ الْبَعِيدِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] فَإِنَّ الْمِلْكَ سَبَبٌ فَاعِلِيٌّ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ، وَهِيَ سَبَبٌ لِإِثْبَاتِ الْقُوَّةِ لَا يُقَالُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْ الْمَالِكِ سَبَبٌ غَيْرُ هَذَا اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ فِي الشَّرْعِ لِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لِأَنَّ الْإِنْشَاءَاتِ الشَّرْعِيَّةَ غَيْرُ مَعْزُولَةٍ بِالْكُلِّيَّةِ عَنْ الْمَعَانِي الْإِخْبَارِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ صُدُورِ إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ قَبْلَ التَّكَلُّمِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي فَصْلِ الِاقْتِضَاءِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مَجَازٌ فِي الْمُسْنَدِ حَيْثُ أُطْلِقَ الْإِعْتَاقُ الْمَوْضُوعُ لِإِثْبَاتِ الْقُوَّةِ عَلَى سَبَبِهِ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ، وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ ضَعِيفٌ إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ الْإِعْتَاقِ لُغَةً، وَعُرْفًا، وَشَرْعًا إلَّا إزَالَةُ الْمِلْكِ، وَالتَّخْلِيصُ

الْمَجَازِ (بَلْ هُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ) أَيْ مَنْقُولٌ شَرْعِيٌّ، وَالْمَنْقُولُ الشَّرْعِيُّ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ. (قُلْنَا مَنْقُولٌ فِي إثْبَاتِ الْقُوَّةِ الْمَخْصُوصَةِ) لَا فِي إزَالَةِ الْمِلْكِ (ثُمَّ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى سَبَبِهِ، وَهُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ، يَرِدُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الطَّلَاقَ رَفْعُ الْقَيْدِ، وَالْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الشَّرْعِيَّةِ. (أَنَّا نَسْتَعِيرُ الطَّلَاقَ، وَهُوَ إزَالَةُ الْقَيْدِ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ لَا لِلَفْظِ الْإِعْتَاقِ حَتَّى يَقُولُوا الْإِعْتَاقُ مَا هُوَ فَالِاتِّصَالُ الْمُجَوِّزُ لِلِاسْتِعَارَةِ مَوْجُودٌ بَيْنَ إزَالَةِ الْمِلْكِ، وَإِزَالَةِ الْقَيْدِ) . وَلَا يَتَعَلَّقُ بِبَحْثِنَا أَنَّ (الْإِعْتَاقَ مَا هُوَ بِالْجَوَابِ) اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ لِإِبْطَالِ هَذَا الْإِيرَادِ فَإِنَّ هَذَا الْإِيرَادَ حَقٌّ بَلْ يُبْطِلُ الِاسْتِعَارَةَ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ (أَنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ أَقْوَى ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ الرِّقِّ، وَلَا يَصِحُّ إسْنَادُهُ حَقِيقَةً إلَّا إلَى الْمَالِكِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ مَعْنَى إثْبَاتِ الْقُوَّةِ إنَّمَا يَعْرِفُهُ الْأَفْرَادُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فَكَوْنُ اللَّفْظِ مَنْقُولًا إلَيْهِ لَا إلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ مَمْنُوعٌ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهِ بِنَقْلٍ أَوْ سَمَاعٍ لِأَنَّهُ الْعُمْدَةُ فِي إثْبَاتِ وَضْعِ الْأَلْفَاظِ، وَكَوْنُ إثْبَاتِ الْقُوَّةِ أَنْسَبَ بِمَأْخَذِ الِاشْتِقَاقِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ الْجَوَازِ أَنْ يُنْقَلَ اللَّفْظُ إلَى مَعْنَى غَيْرِهِ أَنْسَبَ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ عَلَى أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ مَنْقُولٌ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِمَا نَقْلٌ شَرْعِيٌّ. (قَوْلُهُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ) قَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ بِأَنَّ الْعِتْقَ تَصَرُّفٌ شَرْعِيٌّ مَعْنَاهُ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا لِيَحْصُلَ الْعِتْقُ شَرْعًا، وَاسْتِعَارَةُ الطَّلَاقِ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ لَيْسَتْ اسْتِعَارَةً لِهَذَا الْمَعْنَى فَلَا يُوجِبُ ثُبُوتَهُ شَرْعًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَزَلْت عَنْك الْمِلْكَ أَوْ رَفَعْت عَنْك قَيْدَ الرِّقِّ فَإِنَّهُ مَجَازٌ عَنْ إثْبَاتِ الْقُوَّةِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ كَمَا كَانَ الْإِعْتَاقُ فِي مِثْلِ أَعْتَقَ فُلَانٌ عَبْدَهُ مَجَازًا عَنْ إزَالَةِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَلَا مَسَاغَ لِذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ إذَا جَعَلَ الطَّلَاقَ مُسْتَعَارًا لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ فَلَيْسَ هُنَاكَ لَفْظٌ يُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ إثْبَاتِ الْعِتْقِ فَلْيُتَأَمَّلْ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ لِكَوْنِهِ لَازِمًا لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ الْمِلْكِ. (قَوْلُهُ: لَا لِلَفْظِ الْإِعْتَاقِ) عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ لَا لِمَفْهُومِ لَفْظِ الْإِعْتَاقِ فَلْيُتَأَمَّلْ. (قَوْلُهُ: فَالْجَوَابُ) يَعْنِي لَا يَجُوزُ اسْتِعَارَةُ إزَالَةِ الْقَيْدِ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ يَجِبُ فِي الِاسْتِعَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ أَقْوَى فِي وَجْهِ الشَّبَهِ كَالْأَسَدِ فِي الشَّجَاعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَارُ لَهُ لَازِمًا لَهُ كَالشُّجَاعِ لِلْأَسَدِ، وَكِلَا الشَّرْطَيْنِ مُنْتَفٍ هَاهُنَا، وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ فِي إزَالَةِ الْمِلْكِ يَبْقَى نَوْعُ تَعَلُّقٍ هُوَ حَقُّ الْوَلَاءِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِاللُّزُومِ هَاهُنَا الِانْتِقَالُ فِي الْجُمْلَةِ لَا امْتِنَاعُ الِانْفِكَاكِ ثُمَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَوْ سَلَّمَ الِامْتِنَاعُ إطْلَاقَ الطَّلَاقِ عَلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ الْمُقَيَّدِ، وَهُوَ إزَالَةُ قَيْدٍ مَخْصُوصٍ عَلَى الْمُطْلَقِ، وَهُوَ إزَالَةُ مُطْلَقِ الْقَيْدِ، وَالْمِلْكِ كَإِطْلَاقِ الْمِشْفَرِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ، وَالذَّوْقِ عَلَى

مِنْ إزَالَةِ الْقَيْدِ، وَلَيْسَتْ) أَيْ إزَالَةُ الْمِلْكِ (لَازِمَةً لَهَا) أَيْ لِإِزَالَةِ الْقَيْدِ. (فَلَا تَصِحُّ اسْتِعَارَةُ هَذِهِ) أَيْ إزَالَةِ الْقَيْدِ (لِتِلْكَ) أَيْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ. (بَلْ عَلَى الْعَكْسِ فَإِنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَجْرِي إلَّا مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ) كَالْأَسَدِ الشُّجَاعِ. (وَكَذَا إجَارَةُ الْحُرِّ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِلَفْظِ الْعِتْقِ. وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْحُرِّ حَتَّى لَوْ كَانَ عَبْدًا يَثْبُتُ الْبَيْعُ (تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ دُونَ الْعَكْسِ لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ) ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ أَيْضًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ سَبَبًا مَحْضًا يَصِحُّ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ دُونَ الْعَكْسِ. (وَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ الصِّحَّةِ فِيمَا أَضَافَهُ إلَى الْمَنْفَعَةِ) جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِدْرَاكِ بِاللَّمْسِ، وَنَحْوِهِ. (قَوْلُهُ فَإِنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَجْرِي إلَّا مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ) لِامْتِنَاعِ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ، وَفَوَاتِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ عِنْدَ تَسَاوِي الطَّرَفَيْنِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ قَدْ تَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّشَابُهِ كَاسْتِعَارَةِ الصُّبْحِ بِغُرَّةِ الْفَرَسِ، وَبِالْعَكْسِ، وَتَحْصُلُ الْمُبَالَغَةُ بِإِطْلَاقِ اسْمِ أَحَدِ الْمُتَشَابِهَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَجَعْلُهُ هُوَ هُوَ، وَكَوْنُ الْمُشَبَّهِ بِهِ أَقْوَى فِي وَجْهِ الشَّبَهِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي بَعْضِ أَقْسَامِ التَّشْبِيهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا إجَارَةُ الْحُرِّ) يَعْنِي لَوْ قَالَ بِعْت نَفْسِي مِنْك شَهْرًا بِدِرْهَمٍ لِعَمَلِ كَذَا يَنْعَقِدُ إجَارَةً، وَلَوْ تَرَكَ وَاحِدًا مِنْ الْقُيُودِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، وَلَوْ قَالَ بِعْت عَبْدِي أَوْ دَارِي مِنْك بِكَذَا فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمُدَّةَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ مَعَ تَعَذُّرِ شَرْطِ الْمَجَازِ، وَهُوَ بَيَانُ الْمُدَّةِ، وَإِنْ ذَكَرَ الْمُدَّةَ فَإِنْ لَمْ يُسَمِّ جِنْسَ الْعَمَلِ فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ، وَإِنْ سَمَّاهُ مِثْلُ بِعْت عَبْدِي مِنْك شَهْرًا بِعَشْرَةٍ لِعَمَلِ كَذَا انْعَقَدَ إجَارَةً لِأَنَّ إطْلَاقَ الْبَيْعِ عَلَى الْإِجَارَةِ مُتَعَارَفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَيَجُوزُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ إذَا اتَّفَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَيْهِ كَذَا فِي الْأَسْرَارِ، وَقِيلَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا بِحَمْلِ الْمُدَّةِ عَلَى تَأْجِيلِ الثَّمَنِ أَوْ بَيْعًا فَاسِدًا عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ الْقَاصِرَةِ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَلْزَمُ) أَيْ لَا يُرَدُّ عَلَيْنَا عَدَمُ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ الْمُضَافِ إلَى الْمَنْفَعَةِ مِثْلُ بِعْت مِنْك مَنَافِعَ هَذَا الْعَبْدِ شَهْرًا بِكَذَا لِعَمَلِ كَذَا، وَلَا يَلْزَمُنَا هَذَا إشْكَالًا، (وَإِلَّا فَعَدَمُ الصِّحَّةِ لَازِمٌ قَطْعًا) . قَوْلُهُ (ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ) يُرِيدُ أَنَّ مَا ذَكَرُوا مِنْ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ، وَالْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُسَبَّبٌ عَنْهُ ثَابِتٌ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ سَبَبَيْنِ لِمَلْكِ الْمُتْعَةِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ لِاخْتِصَاصِهِ بِثُبُوتِ مِلْكِ الطَّلَاقِ، وَالْإِيلَاءِ، وَالظِّهَارِ لَا الْإِعْتَاقِ سَبَبًا لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالطَّلَاقِ لِاخْتِصَاصِهَا بِقَبُولِ الرَّجْعَةِ أَوْ بِبَيْنُونَةٍ لَا تَحْمِلُ الْمِلْكَ بِالنِّكَاحِ إلَّا بَعْدَ التَّحْلِيلِ، وَلَا الْبَيْعِ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ الثَّابِتِ بِالْإِجَارَةِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْخُلُودِ عَنْ مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَاسْمُ السَّبَبِ إنَّمَا يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى مَا هُوَ مُسَبَّبٌ عَنْهُ فَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ

صَحَّ اسْتِعَارَةُ الْبَيْعِ لِلْإِجَارَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ بِقَوْلِهِ بِعْت مَنَافِعَ هَذِهِ الدَّارِ فِي هَذَا الشَّهْرِ بِكَذَا لَكِنَّهُ لَا يَصِحُّ بِهَذَا اللَّفْظِ. فَقَوْلُهُ (لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِفَسَادِ الْمَجَازِ) دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَلْزَمُ، وَقَوْلُهُ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى عَدَمِ الصِّحَّةِ بِاللَّفْظِ الْمَذْكُورِ (بَلْ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَعْدُومَةَ لَا تَصْلُحُ مَحَلًّا لِلْإِضَافَةِ حَتَّى لَوْ أَضَافَ الْإِجَارَةَ إلَيْهَا لَا تَصِحُّ فَكَذَا الْمَجَازُ عَنْهَا) فَالْإِجَارَةُ إنَّمَا تَصِحُّ إذَا أُضِيفَ الْعَقْدُ إلَى الْعَيْنِ فَإِنَّ الْعَيْنَ تَقُومُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي إضَافَةِ الْعَقْدِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ، وَالْبَيْعُ، وَالطَّلَاقُ بِلَفْظِ الْعِتْقِ، وَالْإِجَارَةُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ الْحَقُّ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ لَا بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ الَّذِي ثَبَتَ بِالنِّكَاحِ بَلْ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَى مُبَايِنِ مَعْنَاهُ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي اللَّازِمِ، وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهِيَ إطْلَاقُ اسْمِ أَحَدِ الْمُتَبَايِنَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي لَازِمٍ مَشْهُورٍ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا أَقْوَى، وَأَعْرَفُ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ عَلَى الرَّجُلِ الشُّجَاعِ فَهَاهُنَا مَعْنَى النِّكَاحِ مُبَايِنٌ لِمَعْنَى الْهِبَةِ، وَالْبَيْعِ لَكِنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ أَقْوَى، وَكَذَا الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ أَمْرَانِ مُتَبَايِنَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي إزَالَةِ الْمِلْكِ، وَهِيَ فِي الْعِتْقِ أَقْوَى، وَكَذَا الْإِجَارَةُ، وَالْبَيْعُ عَقْدَانِ مَخْصُوصَانِ مُتَبَايِنَانِ يَشْتَرِكَانِ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ، وَإِبَاحَتِهَا، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ أَقْوَى فَاسْتُعِيرَ اسْمُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ، وَلَمْ يَجُزْ الْعَكْسُ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ إنَّمَا تَجْرِي مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ لِئَلَّا تَفُوتَ الْمُبَالَغَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ هِيَ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَى اللَّازِمِ الْخَارِجِيِّ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلْمَلْزُومِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُبَايِنًا قُلْنَا لَيْسَ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْإِطْلَاقِ عَلَى اللَّازِمِ بَلْ عَلَى الْمُبَايِنِ لِإِرَادَةِ اللَّازِمِ كَإِطْلَاقِ الْأَسَدِ عَلَى الْإِنْسَانِ لِكَوْنِهِ شُجَاعًا، وَإِطْلَاقِ الْهِبَةِ عَلَى النِّكَاحِ لِكَوْنِهِ مُثْبِتًا لِلْمِلْكِ، وَالْمُثْبِتُ لِلْمِلْكِ لَازِمٌ خَارِجِيٌّ صِفَةً لِلْهِبَةِ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ أَصْلِ اعْتِرَاضٍ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ سَبَبًا لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِعَيْنِهِ بَلْ بِجِنْسِهِ حَتَّى يُرَادَ بِالْغَيْثِ جِنْسُ النَّبَاتِ سَوَاءٌ حَصَلَ بِالْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ إنْ اشْتَرَيْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ، وَأَرَادَ الْمِلْكَ فَمَلَكَهُ هِبَةً أَوْ إرْثًا يُعْتَقُ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يُعْتَقُ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ مِمَّا أَوْرَدَ صَاحِبُ الْكَشْفِ، وَأَجَابَ بِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ مِلْكِ الِانْتِفَاعِ، وَالْوَطْءِ، وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ، وَالْيَمِينِ لَكِنَّ تَغَايُرَ الْأَحْكَامِ لِتَغَايُرِهِمَا صِفَةً لَا ذَاتًا فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي بَابِ النِّكَاحِ مَقْصُودًا وَفِي مِلْكِ الْيَمِينِ تَبَعًا، وَنَحْنُ إنَّمَا اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي الْمَحَلِّ فَيَثْبُتُ عَلَى حَسَبِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْمَحَلُّ فَإِذَا جَعَلْنَا لَفْظَ الْهِبَةِ مَجَازًا أَثْبَتْنَا بِهِ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَصْدًا لَا تَبَعًا فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ لَا أَحْكَامُ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ نَوْعَانِ مِنْ الْعَلَاقَةِ فَلَكَ أَنْ تَعْتَبِرَ أَيَّهُمَا شِئْت

[مسألة المجاز خلف عن الحقيقة]

الِاسْتِعَارَةُ ثُمَّ إنَّمَا لَا يَثْبُتُ الْعَكْسُ لِمَا ذَكَرْت أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَجْرِي إلَّا مِنْ طَرَفٍ وَاحِدٍ، (وَأَمَّا مِثَالُ الْبَيْعِ، وَالْمِلْكِ فَصَحِيحٌ) ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ السَّمَاعُ فِي أَنْوَاعِ الْعَلَاقَاتِ لَا فِي أَفْرَادِهَا فَإِنَّ إبْدَاعَ الِاسْتِعَارَاتِ اللَّطِيفَةِ مِنْ فُنُونِ الْبَلَاغَةِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا بُدَّ مِنْ السَّمَاعِ فَإِنَّ النَّخْلَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ دُونَ غَيْرِهِ قُلْنَا لِاشْتِرَاطِ الْمُشَابَهَةِ فِي أَخَصِّ الصِّفَاتِ. (مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَعِنْدَهُ التَّكَلُّمُ بِهَذَا ابْنِي لِلْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ فِي إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ خَلَفٌ عَنْ التَّكَلُّمِ بِهِ فِي إثْبَاتِ الْبُنُوَّةِ، وَالتَّكَلُّمُ بِالْأَصْلِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَعِنْدَهُمَا ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ بِهَذَا اللَّفْظِ خَلَفٌ عَنْ ثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ بِهِ وَالْأَصْلُ مُمْتَنِعٌ وَمِنْ شَرْطِ الْخَلَفِ إمْكَانُ الْأَصْلِ وَعَدَمُ ثُبُوتِهِ لِعَارِضٍ فَيُعْتَقُ عِنْدَهُ لَا عِنْدَهُمَا) اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ أَيْ فَرْعٌ لَهَا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخَلَفِيَّةَ فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ أَوْ فِي حَقِّ الْحُكْمِ فَعِنْدَهُمَا فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَيْ الْحُكْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِهَذَا اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مَثَلًا بِلَفْظِ هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيَتَنَوَّعُ الْمَجَازُ بِحَسَبِ ذَلِكَ مَثَلًا إطْلَاقُ الْمُشَفَّرِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارٍ تَشْبِيهًا بِهِ فِي الْغِلَظِ فَاسْتِعَارَةٌ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ اسْتِعْمَالِ الْمُقَيَّدِ فِي الْمُطْلَقِ فَمَجَازٌ مُرْسَلٌ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ يُعْتَبَرُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمَجَازِ وُجُودُ الْعَلَاقَةِ الْمَعْلُومُ اعْتِبَارُ نَوْعِهَا فِي اسْتِعْمَالَاتِ الْعَرَبِ، وَلَا يُشْتَرَطُ اعْتِبَارُهَا بِشَخْصِهَا حَتَّى يَلْزَمَ فِي آحَادِ الْمَجَازَاتِ أَنْ تُنْقَلَ بِأَعْيَانِهَا عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَذَلِكَ لِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ اخْتِرَاعَ الِاسْتِعَارَاتِ الْغَرِيبَةِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي لَمْ تُسْمَعْ بِأَعْيَانِهَا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ هُوَ مِنْ طُرُقِ الْبَلَاغَةِ، وَشُعَبِهَا الَّتِي بِهَا تَرْتَفِعُ طَبَقَةُ الْكَلَامِ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يُدَوِّنُوا الْمَجَازَاتِ تَدْوِينَهُمْ الْحَقَائِقَ، وَتَمَسَّكَ الْمُخَالِفُ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّجَوُّزُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ الْعَلَاقَةِ لَجَازَ إطْلَاقُ نَخْلَةٍ لِطَوِيلٍ غَيْرِ إنْسَانٍ لِلْمُشَابَهَةِ، وَشَبَكَةٍ لِلصَّيْدِ لِلْمُجَاوَرَةِ، وَالْأَبِ لِلِابْنِ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَالِابْنِ لِلْأَبِ لِلْمُسَبِّبِيَّةِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، وَأُجِيبَ بِمَنْعِ الْمُلَازَمَةِ فَإِنَّ الْعَلَاقَةَ مُقْتَضِيَةٌ لِلصِّحَّةِ، وَالتَّخَلُّفُ عَنْ الْمُقْتَضَى لَيْسَ بِقَادِحٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِمَانِعٍ مَخْصُوصٍ فَإِنَّ عَدَمَ الْمَانِعِ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ الْمُقْتَضَى، وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّهُ لَمْ تَجُزْ اسْتِعَارَةُ نَخْلَةٍ لِطُولِ غَيْرِ إنْسَانٍ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ الِاسْتِعَارَةِ، وَهُوَ الْمُشَابَهَةُ فِي أَخَصِّ الْأَوْصَافِ أَيْ فِيمَا لَهُ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالْمُشَبَّهِ بِهِ كَالشَّجَاعَةِ لِلْأَسَدِ فَإِنْ قِيلَ الطُّولُ لِلنَّخْلَةِ كَذَلِكَ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ اسْتِعَارَتُهَا لِإِنْسَانٍ طَوِيلٍ قُلْنَا لَعَلَّ الْجَامِعَ لَيْسَ مُجَرَّدَ الطُّولِ بَلْ مَعَ فُرُوعٍ، وَأَغْصَانٍ فِي أَعَالِيهَا، وَطَرَاوَةٍ، وَتَمَايُلٍ فِيهَا. [مَسْأَلَةٌ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ] (قَوْلُهُ مَسْأَلَةٌ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ أَيْ فَرْعٌ لَهَا بِمَعْنَى أَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْأَصْلُ الرَّاجِحُ الْمُقَدَّرُ فِي الِاعْتِبَارِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جِهَةِ

الْحُكْمِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ كَثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ مَثَلًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَقِّ التَّكَلُّمِ فَبَعْضُ الشَّارِحِينَ فَسَّرُوهُ بِأَنَّ لَفْظَ هَذَا ابْنِي إذَا أُرِيدَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ خَلَفٌ عَنْ لَفْظِ هَذَا حُرٌّ فَيَكُونُ التَّكَلُّمُ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْ التَّكَلُّمِ بِاللَّفْظِ الَّذِي يُفِيدُ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَبَعْضُهُمْ فَسَّرُوهُ بِأَنَّ لَفْظَ هَذَا ابْنِي إذَا أُرِيدَ بِهِ الْحُرِّيَّةُ خَلَفَ عَنْ لَفْظِ هَذَا ابْنِي إذَا أُرِيدَ بِهِ الْبُنُوَّةُ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى مُفِيدٌ لِلْغَرَضِ فَإِنَّ لَفْظَ هَذَا ابْنِي خَلَفٌ عَنْ لَفْظِ هَذَا حُرٌّ أَيْ قَائِمٌ مَقَامَهُ، وَالْأَصْلُ وَهُوَ هَذَا حُرٌّ صَحِيحٌ لَفْظًا وَحُكْمًا فَيَصِحُّ الْخَلَفُ لَكِنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ أَلْيَقُ بِهَذَا الْمَقَامِ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَجَازَ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْخِلَافَ إلَّا فِي جِهَةِ الْخَلَفِيَّةِ فَقَطْ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْخِلَافُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ وَفِيمَا هُوَ الْخَلَفُ بَلْ الْخِلَافُ يَكُونُ فِي جِهَةِ الْخَلَفِيَّةِ فَقَطْ فَعِنْدَهُمَا هَذَا ابْنِي إذَا كَانَ مَجَازًا خَلَفَ عَنْ هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخَلَفِيَّةِ فَعِنْدَهُمَا هِيَ الْحُكْمُ حَتَّى يُشْتَرَطَ فِي الْمَجَازِ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لِهَذَا اللَّفْظِ، وَعِنْدَهُ التَّكَلُّمُ حَتَّى يَكْفِيَ صِحَّةُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ سَوَاءٌ صَحَّ مَعْنَاهُ أَوْ لَا فَقَوْلُ الْقَائِلِ هَذَا ابْنِي لِعَبْدٍ مَعْرُوفِ النَّسَبِ مَجَازٌ اتِّفَاقًا إنْ كَانَ أَصْغَرَ مِنْهُ سِنًّا، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْهُ فَعِنْدَهُ مَجَازٌ يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ لِصِحَّةِ اللَّفْظِ وَعِنْدَهُمَا لَغْوٌ لِاسْتِحَالَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَكْبَرُ مَخْلُوقًا مِنْ نُطْفَةِ الْأَصْغَرِ. (قَوْلُهُ فَالْخِلَافُ) يَعْنِي عِنْدَهُمَا الْأَصْلُ هَذَا ابْنِي لِإِثْبَاتِ الْبُنُوَّةِ، وَالْخَلَفُ هَذَا ابْنِي لِإِثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ، وَكَذَا عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي لِكَلَامِ الْإِمَامِ فَلَا يَقَعُ الْخِلَافُ إلَّا فِي جِهَةِ الْخَلَفِيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ الْأَوَّلِ فَالْأَصْلُ عِنْدَهُ هَذَا حُرٌّ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ أَيْضًا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْخَلَفِيَّةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَالْخِلَافُ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ، وَالْخُلْفُ أَيْ فِي تَعْيِينِ مَجْمُوعِهِمَا لَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذْ الْمَجَازُ الَّذِي هُوَ الْخَلَفُ إنَّمَا هُوَ هَذَا ابْنِي لِإِثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ عَلَى كِلَا التَّفْسِيرَيْنِ لَا يُقَالُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى الْخَلَفِيَّةِ فِي الْحُكْمِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَجَازِيَّ خَلَفٌ عَنْ الْحُكْمِ الْحَقِيقِيِّ فَعِنْدَهُمَا الْأَصْلُ ثُبُوتُ الْبُنُوَّةِ، وَالْخَلَفُ ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ وَعِنْدَهُ الْأَصْلُ هَذَا حُرٌّ، وَالْخَلَفُ هَذَا ابْنِي مَجَازًا فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا لَازِمٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ لَيْسَ هَذَا ابْنِي حَقِيقَةً بَلْ التَّكَلُّمُ بِهِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِثُبُوتِ الْبُنُوَّةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَصْلَ وَالْخَلَفَ هُمَا اللَّفْظَانِ أَعْنِي الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ، وَالنِّزَاعُ فِي أَنَّ هَذَا خَلَفٌ عَنْ ذَاكَ فِي حُكْمِهِ، أَوْ فِي التَّكَلُّمِ بِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ حُكْمَ هَذَا خَلَفٌ عَنْ حُكْمِ ذَاكَ أَخْذٌ بِالْحَاصِلِ، وَتَوْضِيحٌ لِلْمَقْصُودِ فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ تَكُونُ الْحَقِيقَةُ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ مُغَايِرَةً لِمَا هِيَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا بِخِلَافِ

ابْنِي إذَا كَانَ حَقِيقَةً فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَيْ حُكْمِهِ الْمَجَازِيِّ خَلَفَ عَنْ حُكْمِهِ الْحَقِيقِيِّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا اللَّفْظُ خَلَفَ عَنْ عَيْنِ هَذَا اللَّفْظِ لَكِنْ بِالْجِهَتَيْنِ فَعَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ الْأَصْلُ هَذَا ابْنِي وَالْخِلَافُ فِي الْجِهَةِ فَقَطْ عِنْدَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ وَعِنْدَهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا ابْنِي خَلَفَ عَنْ هَذَا حُرٌّ فَالْخِلَافُ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ وَالْخَلَفُ لَا فِي جِهَةِ الْخَلَفِيَّةِ فَقَطْ وَالْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ إنَّهُ يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ بِصِيغَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فَإِذَا وُجِدَ وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ أَيْ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، فَصِحَّةُ الْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَتَعَذُّرُ الْعَمَلِ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ مَخْصُوصَانِ بِهَذَا ابْنِي فَأَمَّا هَذَا حُرٌّ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مُطْلَقًا وَالْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ هَذَا ابْنِي مُرَادًا بِهِ الْبُنُوَّةَ فَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظٌ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ هَلْ يُشْتَرَطُ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِهَذَا اللَّفْظِ أَمْ لَا فَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ فَحَيْثُ يُمْنَعُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لَا يَصِحُّ الْمَجَازُ وَعِنْدَهُ لَا بَلْ يَكْفِي صِحَّةُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ (لَهُمَا أَنَّ فِي الْمَجَازِ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ إلَى لَازِمِهِ فَالثَّانِي) أَيْ اللَّازِمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّفْسِيرِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَفْظٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا كَالْخَلَفِ عَلَى التَّفْسِيرَيْنِ. (قَوْلُهُ فَصِحَّةُ الْأَصْلِ) مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَلَمْ يَنْقُلْ جَوَابَ الشَّرْطِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَوْلُهُ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى خَلَفِهِ احْتِرَازًا عَنْ إلْغَاءِ الْكَلَامِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ الْأَصْلَ مَا صَحَّ تَكَلُّمًا، وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَتِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا يَصْدُقُ عَلَى هَذَا ابْنِي لَا عَلَى هَذَا حُرٌّ. (قَوْلُهُ لَهُمَا) الْمَشْهُورُ فِي اسْتِدْلَالِهِمَا أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ لَا نَفْسُ اللَّفْظِ فَاعْتِبَارُ الْأَصَالَةِ وَالْخَلَفِيَّةِ فِي الْمَقْصُودِ أَوْلَى وَفِي اسْتِدْلَالِهِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ فَاعْتِبَارُ الْأَصَالَةِ وَالْخَلْفِيَّةِ فِي التَّكَلُّمِ الَّذِي هُوَ اسْتِخْرَاجُ اللَّفْظِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ أَوْلَى، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي اسْتِدْلَالِهِمَا مَا يُلَائِمُ كَلَامَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَبْنَى الْمَجَازِ عَلَى الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ الْمَلْزُومِ لِيَتَحَقَّقَ الِانْتِقَالُ مِنْهُ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى فَهْمِهِ لَا عَلَى إرَادَتِهِ، وَالْفَهْمُ إنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ اللَّفْظِ، وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى لَا عَلَى إمْكَانِ مَعْنَاهُ وَصِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَجَازَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ صِحَّةُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى بَلْ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا. (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ، وَهُوَ الْبِرُّ غَيْرُ مُمْكِنٍ) فَإِنْ قِيلَ هَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ مَاءٌ فَأُرِيقَ فَإِعَادَةُ الْمَاءِ فِي الْكُوزِ مُمْكِنٌ فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْقَى الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةً كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَقْتُلَنَّ فُلَانًا، وَهُوَ مَيِّتٌ وَقْتَ الْحَلِفِ لِإِمْكَانِ إعَادَةِ حَيَاتِهِ، وَكَمَا إذَا حَلَفَ لَيَقْلِبَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا قُلْنَا ابْتِدَاءُ الْيَمِينِ فِي الْكُوزِ انْعَقَدَتْ عَلَى الْمُمْكِنِ فِي الظَّاهِرِ، وَعِنْدَ الْإِرَاقَةِ مَا بَقِيَ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ

(مَوْقُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ اللَّازِمُ خَلَفًا وَفَرْعًا لِلْمَوْضُوعِ لَهُ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْخَلَفِيَّةِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ (فَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِهِ) أَيْ إمْكَانِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ لِتَوَقُّفِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ عَلَيْهِ وَأَيْضًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْخَلَفِ إمْكَانُ الْأَصْلِ (كَمَا فِي مَسْأَلَةِ مَسِّ السَّمَاءِ) فَإِنَّ إمْكَانَ الْأَصْلِ فِيهَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْخَلَفِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَحْلِفَ بِقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَمَسُّ السَّمَاءَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُمْكِنُ الْبِرُّ يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ وَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ الْبِرُّ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فَفِي مَسْأَلَةِ مَسِّ السَّمَاءِ الْبِرُّ وَهُوَ مَسُّ السَّمَاءِ مُمْكِنٌ فِي حَقِّ الْبَشَرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنْ حَلَفَ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْبِرُّ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَالْمُسْتَشْهَدُ هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ وَالْفَرْقُ الَّذِي ـــــــــــــــــــــــــــــQمُمْكِنًا فَلَا يَبْقَى الْيَمِينُ عَلَى خِلَافِ مَا انْعَقَدَتْ أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمَيِّتِ، وَقَلْبِ الْحَجَرِ فَالْيَمِينُ قَدْ انْعَقَدَتْ ابْتِدَاءً عَلَى الْقُدْرَةِ فِي الْجُمْلَةِ لَا عَلَى الْإِمْكَانِ فِي الظَّاهِرِ، وَلَمْ تَنْعَقِدْ الْيَمِينُ عَلَى مَاءٍ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكُوزِ كَمَا انْعَقَدَتْ عَلَى حَيَاةٍ يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الشَّخْصِ بَعْدَمَا حَلَفَ مَعَ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْخَلْقِ لَا يَكُونُ الْمَاءُ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْيَمِينِ، وَلَا يُقَدِّرُ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ إنْ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهِ كَمَا يُقَدِّرُ لَأَقْتُلَنَّ الشَّخْصَ إنْ أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ إشَارَةٌ إلَى مَوْجُودٍ لِكَوْنِهِ مُشَارًا إلَيْهِ، وَتَقْدِيرُ الشَّرْطِ يَقْتَضِي عَدَمَهُ فَيَلْزَمُ اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِالْوُجُودِ وَالْعَدَمِ، وَهُوَ مُحَالٌ. (قَوْلُهُ فَإِذَا فُهِمَ الْأَوَّلُ) أَيْ كَوْنُ الْمُشَارِ إلَيْهِ ابْنًا لَهُ، وَامْتَنَعَ إرَادَتُهُ لِلْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ كَوْنُهُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ أَوْ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْ الْقَائِلِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ لَازِمُهُ أَيْ لَازِمُ كَوْنِهِ ابْنًا لَهُ، وَهُوَ الْعِتْقُ مِنْ حِينِ الْمِلْكِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ حَيْثُ أَطْلَقَ الِابْنَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِابْنٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي لَازِمٍ مَشْهُورٍ، وَهُوَ الْعِتْقُ مِنْ حِينِ الْمِلْكِ، وَهُوَ فِي الِابْنِ أَقْوَى وَأَشْهَرُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ مِنْ إطْلَاقِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الْعِتْقِ، وَهِيَ هَاهُنَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا، وَلَا نَسَبَ ثَمَّ ادَّعَاهُ فَثَبَتَتْ الْبُنُوَّةُ فَيُعْتَقُ، وَالْحُكْمُ فِي عِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا لَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ هَاهُنَا لَا سِيَّمَا فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا لَمْ يَثْبُتْ بِالْبُنُوَّةِ فَلَا يَكُونُ مُسَبَّبًا عَنْهَا، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مُسَبِّبِهِ كَمَا مَرَّ. (قَوْلُهُ فَيُجْعَلُ إقْرَارًا) جَوَابٌ لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ إنْ جُعِلَ مَجَازًا لِإِنْشَاءِ الْحُرِّيَّةِ فَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ، وَهُوَ أَنَّهُ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْتُهُ إقْرَارٌ لَا إنْشَاءٌ، وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِالْكُرْهِ وَالْهَزْلِ، وَلَا يُقْبَلُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ، وَإِنْ جُعِلَ مَجَازًا لِلْإِقْرَارِ فَهُوَ كَذِبٌ مَحْضٌ بِيَقِينٍ لِأَنَّ

بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا لَمْ نَذْكُرْ فِي الْمَتْنِ مَسْأَلَةَ الْكُوزِ لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِي كُتُبِنَا ذِكْرُهُمَا مَعًا فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُنْبِئُ عَنْ الْآخَرِ (قُلْنَا مَوْقُوفٌ عَلَى فَهْمِ الْأَوَّلِ لَا عَلَى إرَادَتِهِ إذْ لَا جَمْعَ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ فِيهَا أَيْ فِي الْإِرَادَةِ فَإِذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى إرَادَةِ الْأَوَّلِ لَا يَجِبُ إمْكَانُ الْأَوَّلِ وَحَيْثُ تَوَقَّفَ عَلَى فَهْمِ الْأَوَّلِ وَفَهْمُ الْأَوَّلِ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ يَكْفِي صِحَّةُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ (فَإِذَا فُهِمَ الْأَوَّلُ وَامْتَنَعَ إرَادَتُهُ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ لَازِمُهُ وَهُوَ عِتْقُهُ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ) فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ لِلْبُنُوَّةِ (فَيُجْعَلُ إقْرَارًا فَيُعْتَقُ قَضَاءً مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ وَلَا يُعْتَقُ بِقَوْلِهِ يَا بُنَيَّ لِأَنَّهُ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى بِصُورَةِ الِاسْمِ بِلَا قَصْدِ الْمَعْنَى فَلَا تَجْرِي الِاسْتِعَارَةُ لِتَصْحِيحِ الْمَعْنَى فَإِنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَقَعُ أَوَّلًا فِي الْمَعْنَى وَبِوَاسِطَتِهِ فِي اللَّفْظِ) فَيُسْتَعَارُ أَوَّلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQعِتْقَهُ بِالْبُنُوَّةِ أَمْرٌ مُسْتَحِيلٌ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَةِ السَّيِّدِ إعْتَاقٌ، وَالْإِقْرَارُ يَبْطُلُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ دَلِيلُ الْكَذِبِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ كَذِبًا بِيَقِينٍ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مَجَازٌ لِلْإِقْرَارِ، وَالْمُسْتَحِيلُ إنَّمَا هُوَ الْبُنُوَّةُ لَا الْحُرِّيَّةُ مِنْ حِينِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ قَالَ أُعْتِقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته كَانَ صَحِيحًا فَإِنْ قِيلَ الْإِعْتَاقُ لَمْ يُوجَدْ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْإِقْرَارُ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ كَانَ صَادِقًا بِأَنْ سَبَقَ مِنْهُ إعْتَاقٌ فَقَدْ عَتَقَ الْعَبْدُ قَضَاءً وَدِيَانَةً، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا يَعْتِقُ قَضَاءً مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَلَا يَعْتِقُ دِيَانَةً فَالْعِتْقُ قَضَاءٌ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. فَإِنْ قِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنْ الشَّفَقَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ كَمَا إذَا قَالَ هَذَا أَخِي يَحْتَمِلُ الْأُخُوَّةَ فِي الدِّينِ، وَالِاتِّحَادَ فِي الْقَبِيلَةِ وَالْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ فَلَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ أَرَادَ الْأُخُوَّةَ أَبًا وَأُمًّا قُلْنَا احْتِمَالٌ بَعِيدٌ غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ دَلِيلٍ لِأَنَّ السَّابِقَ إلَى الْفَهْمِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ هُوَ الْعِتْقُ لَا غَيْرُ فَيَكُونُ مَجَازًا مُتَعَيَّنًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ بِخِلَافِ هَذَا أَخِي، وَفِيهِ نَظَرٌ. فَإِنْ قِيلَ فَيَجِبُ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ فِيمَا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ، وَهِيَ أَصْغَرُ مِنْهُ سِنًّا هَذِهِ بِنْتِي قُلْنَا لَمْ يُعْتَبَرْ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ حُكْمَ النَّسَبِ لَيْسَ إزَالَةَ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بَلْ انْتِفَاءُ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ مِنْ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ حَقُّهَا لَا حَقُّهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ بِخِلَافِ هَذَا ابْنِي فَإِنَّهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِ الْبُنُوَّةِ بُطْلَانُ الْمِلْكِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ابْنَهُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ. فَإِنْ قِيلَ إذَا قَالَ لِعَبْدٍ يَا ابْنِي يَجِبُ أَنْ يَعْتِقَ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ، وَتَعَيُّنِ الْمَجَازِ قُلْنَا وُضِعَ النِّدَاءُ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى وَطَلَبِ إقْبَالِهِ بِصُورَةِ الِاسْمِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى مَعْنَاهُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ بِإِثْبَاتِ مُوجَبِهِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الْمَجَازِيِّ بِخِلَافِ الْخَبَرِ فَإِنَّهُ لِتَحْقِيقِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ بِمَا أَمْكَنَ. فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ بِمِثْلِ يَا حُرُّ قُلْنَا لَفْظُ الْحُرِّ مَوْضُوعٌ لِلْمُعْتَقِ، وَعَلَمٌ لِإِسْقَاطِ الرِّقِّ فَيَقُومُ عَيْنُهُ مَقَامَ مَعْنَاهُ حَتَّى لَوْ قَصَدَ التَّسْبِيحَ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ عَبْدِي حُرٌّ يَعْتِقُ. (قَوْلُهُ فَإِنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَقَعُ أَوَّلًا، فِي الْمَعْنَى)

الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ لِلشُّجَاعِ ثُمَّ بِتَوَسُّطِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ يُسْتَعَارُ لَفْظُ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ وَلِأَجْلِ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَقَعُ أَوَّلًا فِي الْمَعْنَى لَا تَجْرِي الِاسْتِعَارَةُ فِي الْأَعْلَامِ إلَّا فِي أَعْلَامٍ تَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى كَحَاتِمٍ وَنَحْوِهِ وَيُعْتَقُ بِقَوْلِهِ يَا حُرُّ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ فَإِنْ قِيلَ قَدْ ذَكَرَهُ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَنَّ زَيْدًا أَسَدٌ لَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ بَلْ هُوَ تَشْبِيهٌ بِغَيْرِ آلَةٍ لِأَنَّهُ دَعْوَى أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ قَصْدًا لِأَنَّ التَّصْدِيقَ وَالتَّكْذِيبَ يَتَوَجَّهَانِ إلَى الْخَبَرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِعَارَةً إذَا حُذِفَ الْمُشَبَّهُ نَحْوَ رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي وَإِنْ كَانَ هَذَا مُسْتَحِيلًا أَيْضًا بِوَاسِطَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَيْلٌ إلَى الْمَذْهَبِ الْمَرْجُوحِ فِي تَحْقِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجَازٍ لُغَوِيٍّ بَلْ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي أَمْرٍ عَقْلِيٍّ حَيْثُ جَعَلَ مَا لَيْسَ بِأَسَدٍ أَسَدًا أَيْ اُسْتُعِيرَ الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ لِلرَّجُلِ الشُّجَاعِ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ الْأَسَدِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِعْمَالٌ فِيمَا وُضِعَ لَهُ، وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُورُ أَنَّهُ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَأَنَّ جَعْلَ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ أَسَدًا لَيْسَ مَعْنَاهُ اسْتِعَارَةَ الْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ لَهُ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ جَعَلَ أَفْرَادَ الْأَسَدِ قِسْمَيْنِ: مُتَعَارَفًا، وَهُوَ مَا لَهُ تِلْكَ الشَّجَاعَةِ فِي ذَلِكَ الْهَيْكَلِ وَتِلْكَ الصُّورَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَغَيْرَ مُتَعَارَفٍ، وَهُوَ مَا لَهُ تِلْكَ الشَّجَاعَةُ لَكِنْ لَا فِي ذَلِكَ الْهَيْكَلِ وَتِلْكَ الصُّورَةِ، وَالرَّجُلُ الشُّجَاعُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ لَمْ يُوضَعْ بِالتَّحْقِيقِ إلَّا لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي اسْتِعْمَالًا فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَأَمَّا عَدَمُ جَرَيَانِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْأَعْلَامِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الِاسْتِعَارَةِ إدْخَالُ الْمُشَبَّهِ فِي جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ بِجَعْلِ أَفْرَادَهُ قِسْمَيْنِ مُتَعَارَفًا، وَغَيْرَ مُتَعَارَفٍ، وَالْعَلَمِيَّةُ تُنَافِي الْجِنْسِيَّةَ، وَاعْتِبَارَ الْأَفْرَادِ إلَّا إذَا تَضَمَّنَ نَوْعَ وَصْفِيَّةٍ اُشْتُهِرَ بِهَا كَحَاتِمٍ فِي الْجُودِ فَيُجْعَلُ قِسْمَيْنِ مُتَعَارَفًا، وَهُوَ مَا لَهُ غَايَةُ الْجُودِ فِي ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمَعْهُودِ، وَغَيْرَ مُتَعَارَفٍ، وَهُوَ مَا لَهُ غَايَةُ الْجُودِ فِي ذَلِكَ الشَّخْصِ فَيُجْعَلُ زَيْدٌ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي، وَيُسْتَعَارُ لَهُ لَفْظُ حَاتِمٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهَا لَا تَجْرِي فِي الْأَعْلَامِ لِأَنَّ الْعَلَمَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى لِيُسْتَعَارَ أَوَّلًا مَعْنَاهُ ثُمَّ لَفْظُهُ فَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْعَلَمَ دَالٌّ عَلَى مَعْنَاهُ الْعَلَمِيِّ بِالضَّرُورَةِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ اسْتِعَارَتُهُ لِشَخْصٍ آخَرَ ادِّعَاءً وَتَخْيِيلًا كَمَا جَازَ اسْتِعَارَةُ الْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ بِالْأَسَدِ لِلْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ؟ لَا يُقَالُ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشَبَّهِ لِأَنَّا نَقُولُ الْمَعْنَى الَّذِي يُسْتَعَارُ أَوَّلًا لِلْمُشَبَّهِ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلْمُشَبَّهِ بِهِ كَالْهَيْكَلِ الْمَخْصُوصِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ لَا الْوَصْفُ الْمُشْتَرَكُ كَالشُّجَاعِ مَثَلًا فَإِنَّهُ ثَابِتٌ لِلْمُشَبَّهِ حَقِيقَةً، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَقْتَضِي وُجُودَ لَازِمٍ مَشْهُورٍ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِالشَّبَهِ بِهِ فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي مَدْلُولِ الِاسْمِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَمًا أَوْ غَيْرَ عَلَمٍ جَازَ اسْتِعَارَتُهُ، وَإِلَّا فَلَا. (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ) حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ هَذَا ابْنِي مِنْ قَبِيلِ زَيْدٌ أَسَدٌ، وَهُوَ لَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ عِنْدَ

الْقَرِينَةِ لَكِنْ غَيْرَ مَقْصُودٍ فَإِنَّ الْقَصْدَ إلَى الرُّؤْيَةِ هَاهُنَا فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ هَذَا ابْنِي اسْتِعَارَةً اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ ادِّعَاءُ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ فِي الشَّيْءِ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّشْبِيهِ مَعَ حَذْفِ التَّشْبِيهِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَالِاسْتِعَارَةُ لَا تَجْرِي فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ عِنْدَهُمْ فَقَوْلُهُمْ زَيْدٌ أَسَدٌ لَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ بَلْ تَشْبِيهٌ بِغَيْرِ آلَةٍ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْمَتْنِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ هَذَا ابْنِي اسْتِعَارَةً بَلْ يَكُونُ تَشْبِيهًا وَفِي التَّشْبِيهِ لَا يُعْتَقُ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ لَا يُجَوِّزُونَ الِاسْتِعَارَةَ إذَا كَانَتْ مُسْتَلْزِمَةً لِدَعْوَى أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ قَصْدًا فَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْمَجَازِ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ (قُلْنَا هَذَا فِي الِاسْتِعَارَةِ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَتُسَمَّى اسْتِعَارَةً أَصْلِيَّةً لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ قَلْبُ الْحَقَائِقِ لَا فِي الِاسْتِعَارَةِ فِي الْمُشْتَقَّاتِ وَتُسَمَّى اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً نَحْوَ نَطَقَتْ الْحَالُ أَوْ الْحَالُ نَاطِقَةٌ فَإِنَّ هَذَا اسْتِعَارَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا يَلْزَمُ هُنَا قَلْبُ الْحَقَائِقِ وَهَذَا ابْنِي مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ) هَذَا الَّذِي ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّ زَيْدًا أَسَدٌ لَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَقَعُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إنَّمَا هُوَ مَخْصُوصٌ بِالِاسْتِعَارَةِ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ أَمَّا الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمُشْتَقَّاتِ فَإِنَّهَا تَجْرِي فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ كَمَا يُقَالُ الْحَالُ نَاطِقَةٌ أَيْ دَلَالَةٌ اُسْتُعِيرَ النَّاطِقَةُ لِلدَّلَالَةِ وَهَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ لَكِنْ لَيْسَتْ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ بَلْ فِي الِاسْمِ الْمُشْتَقِّ فَيُجَوِّزُونَ هَذَا فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ، وَفَرْقُهُمْ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ تَسْتَلْزِمُ قَلْبَ الْحَقَائِقِ إذَا كَانَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ اسْمَ جِنْسٍ أَمَّا إذَا كَانَ اسْمًا مُشْتَقًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُحَقِّقِينَ بَلْ تَشْبِيهٌ بِحَذْفِ الْأَدَاةِ أَيْ زَيْدٌ مِثْلُ الْأَسَدِ، وَهَذَا مِثْلُ ابْنِي، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ بِالِاتِّفَاقِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ زَيْدٌ أَسَدٌ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْحَالُ نَاطِقَةٌ، وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ابْنِي مَعْنَاهُ مَوْلُودٌ مِنِّي، وَمَخْلُوقٌ مِنْ مَائِي فَيَكُونُ مُشْتَقًّا مِثْلَ نَاطِقَةٌ ثُمَّ أَدْرَجَ فِيهِ سُؤَالًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اتِّفَاقَ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ زَيْدٌ أَسَدٌ لَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ لِمَا فِيهِ مِنْ دَعْوَى أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ إجْمَاعٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِعَارَةٍ إمْكَانُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، وَلَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِعَارَةِ وَالْمَجَازِ الْمُرْسَلِ فَيَكُونُ الْمَجَازُ خَلَفًا فِي الْحُكْمِ لَا فِي التَّكَلُّمِ، وَأَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مِثْلَ الْحَالُ نَاطِقَةٌ اسْتِعَارَةٌ مَعَ اسْتِحَالَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ ثُبُوتُ النُّطْقِ لِلْحَالِ فَعُلِمَ أَنَّ إمْكَانَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَجَازِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَارَضَةً، وَأَنْ يُجْعَل مَنْعًا مَعَ السَّنَدِ. (قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ ادِّعَاءُ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ فِي الشَّيْءِ) مَيْلٌ إلَى الْمَذْهَبِ الْمَرْجُوحِ كَمَا بَيَّنَّا وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَإِرَادَةُ الْمُشَبَّهِ مُدَّعِيًا دُخُولَ الْمُشَبَّهِ فِي جِنْسِ الْمُشَبَّهِ بِهِ يَجْعَلُ أَفْرَادَهُ قِسْمَيْنِ مُتَعَارَفًا، وَغَيْرَ مُتَعَارَفٍ مَعَ

فَلَا تَسْتَلْزِمُ قَلْبَ الْحَقَائِقِ نَحْوَ الْحَالُ نَاطِقَةٌ فَلَا تَجُوزُ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَتَجُوزُ فِي الْمُشْتَقَّاتِ وَهُنَا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ ابْنِي اسْمٌ مُشْتَقٌّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَوْلُودٌ مِنِّي فَتَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِعَارَةُ فَإِنَّهُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِنَا الْحَالُ نَاطِقَةٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الِاسْتِعَارَةَ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةً وَالِاسْتِعَارَةَ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةً لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ إنَّمَا تَقَعُ فِيهَا بِتَبَعِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي الْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَسَيَأْتِي قَرِيبًا وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي أَوْرَدْتُهُ فِي الْمَتْنِ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ زَعْمِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ وَتَرْكِ الْمُنَاقَشَةِ عَلَى دَلَائِلِهِمْ الْوَاهِيَةِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ زَيْدٌ أَسَدٌ لَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُمْ رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي اسْتِعَارَةً لَيْسَ بِقَوِيٍّ وَالْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرْته فِي الْمَتْنِ أَنَّ زَيْدًا أَسَدٌ دَعْوَى أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ قَصْدًا بِخِلَافِ رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي لَا شَكَّ أَنَّهُ فَرْقٌ وَاهٍ وَمَا ذُكِرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQنَصْبِ قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ إرَادَةِ الْمُتَعَارَفِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ادِّعَاءَ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ مَعَ نَصْبِ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ إرَادَةِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ أَمْرَانِ مُتَدَافِعَانِ. (قَوْلُهُ فَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِهِمَا) فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَلَى هَذَا عَدَمُ الْقَصْدِ إلَى دَعْوَى أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ وَعِنْدَهُمَا عَدَمُ الِاسْتِحَالَةِ فَأَيَّدَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ. (قَوْلُهُ وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي أَوْرَدْته فِي الْمَتْنِ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ زَعْمِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ) قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ نَحْوُ رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ بِخِلَافِ زَيْدٌ أَسَدٌ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهُ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ لَا اسْتِعَارَةٌ، وَأَنَّ نَحْوَ الْحَالُ نَاطِقَةٌ بِكَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ فَفَهِمَ الْمُصَنِّفُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لَا تَجْرِي فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ إلَّا إذَا كَانَ مُشْتَقًّا، وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ نَحْوِ زَيْدٌ أَسَدٌ، وَنَحْوِ رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي بِأَنَّ الْأَوَّلَ يَشْتَمِلُ عَلَى دَعْوَى أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ قَصْدًا إذْ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إنَّمَا يَتَوَجَّهَانِ إلَى الْخَبَرِ الَّذِي قَصَدَ الْمُتَكَلِّمُ إثْبَاتَهُ أَوْ نَفْيَهُ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ هُوَ الْحُكْمُ بِمُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ وَالتَّكْذِيبَ بِخِلَافِهِ فَيَتَّصِفُ الْخَبَرُ بِكَوْنِهِ مُحَالًا أَوْ مُسْتَقِيمًا فَيَفْتَقِرُ نَحْوُ زَيْدٌ أَسَدٌ إلَى تَقْدِيرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ لِيَخْرُجَ عَنْ الِاسْتِحَالَةِ إلَى الِاسْتِقَامَةِ بِخِلَافِ نَحْوِ رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي فَإِنَّهُ، وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى إثْبَاتِ الْأَسَدِيَّةِ لِزَيْدٍ لَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ قَصْدًا بَلْ الْقَصْدُ إنَّمَا هُوَ إلَى إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى تَقْدِيرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ لِلتَّصْحِيحِ بَيْنَ الْفَرْقِ وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ الْخَبَرُ جَامِدًا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ مُشْتَقًّا بِأَنَّ الْأَوَّلَ يَشْتَمِلُ عَلَى قَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَهُوَ جَعْلُ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ حَقِيقَةَ الْأَسَدِ بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يَشْتَمِلُ إلَّا عَلَى إثْبَاتِ وَصْفٍ لِلْحَقِيقَةِ الَّتِي لَيْسَ بِثَابِتٍ لَهَا ثُمَّ اُعْتُرِضَ بِأَنَّ الْفَرْقَ الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْمُحَالِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّأْوِيلِ، وَلِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ رُبَّمَا تَشْتَمِلُ عَلَى دَعْوَى أَمْرٍ مُسْتَحِيلٍ قَصْدًا مِثْلَ رَمَى أَسَدٌ، وَتَكَلَّمَ بَدْرٌ، وَلِأَنَّ

لَا تَجْرِي الِاسْتِعَارَةُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَتَجْرِي فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ أَضْعَفَ مِنْ الْأَوَّلِ وَفَرْقُهُمْ أَنَّ الْأَوَّلَ يَقْضِي إلَى قَلْبِ الْحَقَائِقِ دُونَ الثَّانِي أَوْهَنُ مِنْ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ الْحَالُ نَاطِقَةٌ لَيْسَ فِي الِاسْتِحَالَةِ أَدْنَى مِنْ قَوْلِهِمْ زَيْدٌ أَسَدٌ فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ أَنَّ أَحَدَهُمَا اسْتِعَارَةٌ وَالْآخَرَ لَيْسَ بِاسْتِعَارَةٍ، وَإِنَّمَا لَمْ أَذْكُرْ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ فِي الْمَتْنِ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فَإِنَّ قَوْلَهُمْ الْحَالُ نَاطِقَةٌ لَمَّا كَانَتْ اسْتِعَارَةً بِالِاتِّفَاقِ عُلِمَ أَنَّ إمْكَانَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمَجَازِ وَعَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُشْتَقَّاتِ وَأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ قَوْلُهُمْ هَذَا ابْنِي مِنْ قَبِيلِ الْمُشْتَقَّاتِ فَتَصِحُّ فِيهِ الِاسْتِعَارَةُ بِلَا اشْتِرَاطِ إمْكَانِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ. (مَسْأَلَةٌ: قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ لِأَنَّهُ ضَرُورِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ تَوْسِعَةً فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ قُلْنَا لَا ضَرُورَةَ فِي اسْتِعْمَالِهِ) لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ لِأَجْلِ الدَّاعِي الَّذِي يَأْتِي مِنْ بَعْدُ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُحَالَ رُبَّمَا يَجُوزُ ادِّعَاؤُهُ لِأَغْرَاضٍ وَاعْتِبَارَاتٍ لَطِيفَةٍ مَعَ نَصْبِ الْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ ثُبُوتِهِ فِي الْوَاقِعِ، وَبِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمُشْتَقِّ أَضْعَفُ مِنْ الْفَرْقِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا يَثْبُتُ ضِمْنًا وَبَيْنَ مَا يَثْبُتُ قَصْدًا لَكِنَّ إثْبَاتَ الْمُحَالِ بَاطِلٌ قَطْعًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَامِدِ وَالْمُشْتَقِّ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ لُزُومِ قَلْبِ الْحَقَائِقِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فِي غَايَةِ الضَّعْفِ لِظُهُورِ أَنَّ اسْتِحَالَةَ نُطْقِ الْحَالِ لَيْسَتْ أَدْنَى مِنْ اسْتِحَالَةِ أَسَدِيَّةِ الْإِنْسَانِ سَوَاءٌ سَمَّى قَلْبَ الْحَقَائِقِ أَوْ لَمْ يُسَمِّ عَلَى أَنَّ انْقِلَابَ الْحَقَائِقِ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ انْقِلَابٌ وَاحِدٌ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ وَالْمُمْتَنِعِ إلَى الْآخَرِ وَلَا شَكَّ أَنَّ نُطْقَ الْحَالِ مُمْتَنِعٌ فَإِثْبَاتُهُ يَكُونُ جَعْلَ الْمُمْتَنِعِ مُمْكِنًا هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَأَنَا أُطْلِعُك عَلَى حَقِيقَةِ الْحَالِ بِأَنْ أَحْكِيَ لَك كَلَامَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا تُطْلَقُ حَيْثُ يُسْتَعْمَلُ الْمُشَبَّهُ بِهِ فِي الْمُشَبَّهِ بِهِ، وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ خِلْوًا عَنْ الْمُشَبَّهِ صَالِحًا لَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُشَبَّهُ بِهِ لَوْلَا الْقَرِينَةُ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُشَبَّهُ مَذْكُورًا لَفْظًا كَمَا فِي زَيْدٌ أَسَدٌ، وَلَقِيَنِي مِنْهُ أَسَدٌ، وَلَقِيت بِهِ أَسَدًا. أَوْ تَقْدِيرًا مِثْلَ أَسَدٌ فِي مَقَامِ الْإِخْبَارِ عَنْ زَيْدٍ لَمْ يُسَمِّ اسْتِعَارَةً، وَلَا اعْتِبَارَ بِكَوْنِهِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى ذَهَبُوا إلَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] بِوَاسِطَةِ قَوْلِهِ مِنْ الْفَجْرِ خَرَجَ مِنْ بَابِ الِاسْتِعَارَةِ إلَى بَابِ التَّشْبِيهِ فَفِي مِثْلِ " زَيْدٌ أَسَدٌ " يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَذْفِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ لِامْتِنَاعِ حَمْلِ الْأَسَدِ عَلَى زَيْدٍ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْلِهِمْ الْحَالُ نَاطِقَةٌ، وَنَطَقَتْ الْحَالُ بِكَذَا فَاسْتِعَارَةٌ قَطْعًا لِأَنَّ الْمُشَبَّهَ مَتْرُوكٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ الدَّلَالَةُ الَّتِي شُبِّهَتْ بِنُطْقِ النَّاطِقِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمِثْلِ " زَيْدٌ أَسَدٌ " ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا ابْنِي مِنْ قَبِيلِ زَيْدٌ أَسَدٌ لَا مِنْ قَبِيلِ الْحَالُ نَاطِقَةٌ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَأْوِيلِ الِابْنِ بِالْمُشْتَقِّ، وَلِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى تَشْبِيهِ الْعَبْدِ بِالِابْنِ فِي ثُبُوتِ الْعِتْقِ لَهُ لَا عَلَى تَشْبِيهِ الْعِتْقِ بِالْبُنُوَّةِ

[مسألة لا عموم للمجاز عند بعض الشافعية]

الضَّرُورَةُ التَّرْدِيدَ فِي اسْتِعْمَالِهِ بَلْ يَكُونُ مَعْنَى الضَّرُورَةِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ فَعَلَى الْمَجَازِيِّ فَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُنَافِي الْعُمُومَ بَلْ الْعُمُومُ إنَّمَا يَثْبُتُ إنْ اسْتَعْمَلَهُ الْمُتَكَلِّمُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَعْنَى الْعَامَّ وَلَا مَانِعَ لِهَذَا لِأَنَّهُ مَا وُجِدَ فِي الِاسْتِعْمَالِ ضَرُورَةٌ (وَهُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ بَلْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاغَةِ مَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] وقَوْله تَعَالَى {لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] وَاَللَّهُ مُتَعَالٍ عَنْ الْعَجْزِ وَالضَّرُورَاتِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ» وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ الطَّعَامُ إجْمَاعًا فَلَا يَشْمَلُ غَيْرَهُ عِنْدَهُ) ذَكَرَ الصَّاعَ وَأَرَادَ بِهِ مَا فِيهِ مِنْ الطَّعَامِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلِتَكُونَ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً إلَّا أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ يُسَمُّونَ مِثْلَهُ مَجَازًا كَمَا هُوَ مُصْطَلَحُ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيَانِ، وَنَحْنُ نَقُولُ هُوَ اسْتِعَارَةٌ بِتَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُشَبَّهِ الْمَتْرُوكِ، وَهُوَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ لَا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ لِيَفْتَقِرَ إلَى تَقْدِيرِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ زَيْدٌ أَسَدٌ عَلَى أَيِّ مُجْتَرِئٍ صَائِلٍ، وَالطَّيْرُ أَغْرِبَةٌ عَلَيْهِ أَيْ بَاكِيَةٌ، وَنَحْنُ قَدْ لَخَّصْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ فَهَذَا ابْنِي مَعْنَاهُ هُوَ مُعْتَقٌ مِنْ حِينِ مَلَكْته كَالِابْنِ فَتَرَكَ الْمُشَبَّهَ، وَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْمُشَبَّهِ بِهِ [مَسْأَلَةٌ لَا عُمُومَ لِلْمَجَازِ عَنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ] (قَوْلُهُ مَسْأَلَةٌ) الْمَجَازُ الْمُقْتَرِنُ بِشَيْءٍ مِنْ أَدِلَّةِ الْعُمُومِ كَالْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ وَنَحْوِهِ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا يَصْلُحُ لَهُ اللَّفْظُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ كَالْحُلُولِ وَالسَّبَبِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ الْأَنْوَاعِ كَلَفْظِ الصَّاعِ الْمُسْتَعْمَلِ فِيمَا يَحِلُّهُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْرَادِ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الصِّيَغَ لِعُمُومِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ كَوْنِهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي الْمَعَانِي الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ الْمَجَازِيَّةِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ إنَّمَا هُوَ لِمَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ الدَّلَائِلِ لَا لِكَوْنِهِ حَقِيقَةً، وَإِلَّا لَكَانَ كُلُّ حَقِيقَةٍ عَامًّا، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ هُوَ الْمَجْمُوعُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ تَأْثِيرِ الْحَقِيقَةِ وَحْدَهَا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا دَخْلٌ فِي التَّأْثِيرِ، وَلَوْ سَلِمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَابِلُ هُوَ الْحَقِيقَةُ دُونَ الْمَجَازِ أَوْ يَكُونَ الْمَجَازُ مَانِعًا، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَعُمُّ حَتَّى إذَا أُرِيدَ الْمَطْعُومُ اتِّفَاقًا لَا يَثْبُتُ غَيْرُهُ مِنْ الْمَكِيلَاتِ لِأَنَّ الْمَجَازَ ضَرُورِيٌّ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِإِرَادَةِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ فَلَا يَثْبُتُ الْكُلُّ كَالْمُقْتَضِي، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الضَّرُورَةُ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا لِتَأْدِيَةِ الْمَعْنَى سِوَاهُ فَمَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَعْدِلَ الْمَجَازَ لِأَغْرَاضٍ سَيَذْكُرُهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَلِأَنَّ لِلْمُتَكَلِّمِ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةٌ، وَالْآخَرُ مَجَازٌ يَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ بَلْ فِي طَرِيقِ الْمَجَازِ مِنْ لَطَائِفِ الِاعْتِبَارَاتِ وَمَحَاسِنِ الِاسْتِعَارَاتِ الْمُوجِبَةِ لِزِيَادَةِ الْبَلَاغَةِ فِي الْكَلَامِ أَيْ عُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَارْتِفَاعِ طَبَقَتِهِ مَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلِأَنَّ الْمَجَازَ وَاقِعٌ فِي كَلَامِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ

[مسألة لا يراد من اللفظ الواحد معناه الحقيقي والمجازي معا]

مَسْأَلَةٌ لَا يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا لِرُجْحَانِ الْمَتْبُوعِ عَلَى التَّابِعِ فَلَا يَسْتَحِقُّ مُعْتِقُ الْمُعْتَقِ مَعَ وُجُودِ الْمُعْتَقِ إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَا يُرَادُ غَيْرُ الْخَمْرِ بِقَوْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَجْزُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ وَالِاضْطِرَارِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ وَإِنْ أُرِيدَ الضَّرُورَةُ مِنْ جِهَةِ الْكَلَامِ وَالسَّامِعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ ضَرُورَةً لِئَلَّا يَلْزَمَ إلْغَاءُ الْكَلَامِ وَإِخْلَاءُ اللَّفْظِ عَنْ الْمَرَامِ، فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الضَّرُورَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى تُنَافِي الْعُمُومَ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَعِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا قَصَدَهُ الْمُتَكَلِّمُ وَاحْتَمَلَهُ اللَّفْظُ بِحَسَبِ الْقَرِينَةِ إنْ عَامًّا فَعَامٌّ، وَإِنْ خَاصًّا فَخَاصٌّ. بِخِلَافِ الْمُقْتَضَى فَإِنَّهُ لَازِمٌ عَقْلِيٌّ غَيْرُ مَلْفُوظٍ فَيُقْتَصَرُ مِنْهُ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ صِحَّةُ الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتٍ لِلْعُمُومِ الَّذِي هُوَ مِنْ صِفَاتِ اللَّفْظِ خَاصَّةً. فَإِنْ قِيلَ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعُمُومَ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْوَضْعِ دُونَ الِاسْتِعْمَالِ وَالْمَجَازُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ قُلْنَا الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ أَعَمُّ مِنْ الشَّخْصِيِّ وَالنَّوْعِيِّ بِدَلِيلِ عُمُومِ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَجَازُ مَوْضُوعٌ بِالنَّوْعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ عُمُومِ الْمَجَازِ مِمَّا لَمْ نَجِدْهُ فِي كُتُبِ الشَّافِعِيَّةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْ أَحَدٍ نِزَاعٌ فِي صِحَّةِ قَوْلِنَا جَاءَنِي الْأُسُودُ الرُّمَاةُ إلَّا زَيْدًا أَوْ تَخْصِيصُهُمْ الصَّاعَ بِالْمَطْعُومِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ثَبَتَ عِنْدَهُمْ مِنْ عِلِّيَّةِ الطَّعْمِ فِي بَابِ الرِّبَا لَا عَلَى عَدَمِ عُمُومِ الْمَجَازِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ عَلَى مَا هُوَ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ مِمَّا لَا يُعْقَلُ أَصْلًا لِجَوَازِ أَنْ لَا يَجِدَ الْمُتَكَلِّمُ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ مُرَادِهِ بِالْحَقِيقَةِ فَيَضْطَرُّ إلَى الْمَجَازِ فَكَمَا يُتَصَوَّرُ الِاضْطِرَارُ إلَى الْمَجَازِ لِأَجْلِ الْمَعْنَى الْخَاصِّ فَكَذَا لِأَجْلِ الْمَعْنَى الْعَامِّ، وَإِنَّمَا يُلَائِمُهُ بَعْضَ الْمُلَاءَمَةِ الضَّرُورَةُ مِنْ جَانِبِ السَّامِعِ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ عَلَى مَا مَرَّ [مَسْأَلَةٌ لَا يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا] (قَوْلُهُ مَسْأَلَةٌ) لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ يَكُونُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ مِنْ أَفْرَادِهِ كَاسْتِعْمَالِ الدَّابَّةِ عُرْفًا فِيمَا يَدُبُّ عَلَى الْأَرْضِ، وَوَضْعِ الْقَدَمِ فِي الدُّخُولِ، وَلَا فِي امْتِنَاعِ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِحَيْثُ يَكُونُ اللَّفْظُ بِحَسَبِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، أَمَّا إذَا اشْتَرَطَ فِي الْمَجَازِ قَرِينَةً مَانِعَةً مِنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ فَلِأَنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَحْدَهُ فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَعْنَيَيْنِ اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، فَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ فَهُوَ مَجَازٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ، وَيُرَادُ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا بِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُتَعَلِّقُ الْحُكْمِ مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَا تَقْتُلْ الْأَسَدَ أَوْ الْأَسَدَيْنِ أَوْ الْأُسُودَ، وَتُرِيدَ السَّبُعَ وَالرَّجُلَ الشُّجَاعَ أَحَدَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَالْآخَرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ بِنَوْعِ عَلَاقَةٍ، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ بِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مَجَازًا أَوْ التَّحْقِيقُ أَنَّهُ فَرْعُ اسْتِعْمَالِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، فَإِنَّ اللَّفْظَ مَوْضُوعٌ لِلْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالنَّوْعِ فَهُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ فَمَنْ جَوَّزَ ذَاكَ جَوَّزَ هَذَا، وَمَنْ لَا فَلَا. وَأَمَّا إرَادَةُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمِفْتَاحِ فَلَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ لِمَا عَرَفْت أَنَّ مَنَاطَ الْحُكْمِ إنَّمَا هُوَ الْمَعْنَى الثَّانِي لَا يُقَالُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ جُزْءٌ مِنْ مَجْمُوعِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ فِي اعْتِبَارِ إطْلَاقِ اسْمِ الْبَعْضِ عَلَى الْكُلِّ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مَشْرُوطٌ بِأَنْ يَكُونَ الْكُلُّ مَوْجُودًا مُتَحَقِّقًا لَهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لَازِمًا لِلْجُزْءِ بِمَعْنَى انْتِقَالِ الذِّهْنَ مِنْ الْجُزْءِ إلَيْهِ كَالْإِنْسَانِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الرَّقَبَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَالْأَسَدُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بِاعْتِبَارٍ مَحْضٍ، وَبِالْجُمْلَةِ لَمْ يَثْبُتْ فِي اللُّغَةِ إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَرْضِ عَلَى مَجْمُوعِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَلَفْظِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْآدَمِيِّ وَالسَّبُعِ ثُمَّ الْحَقُّ أَنَّ امْتِنَاعَ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَالْقَوْمُ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَقْلًا مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ مَتْبُوعٌ وَالْمَجَازِيَّ تَابِعٌ عَلَى مَا مَرَّ، وَالتَّابِعُ مَرْجُوحٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَتْبُوعِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِرَادَةِ مَعَ وُجُودِ الرَّاجِحِ، الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلِّ لِلَّفْظِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَكُونُ مُسْتَقِرًّا فِي مَحَلٍّ، وَمُتَجَاوِزٍ إيَّاهُ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ إرَادَةُ الْمَوْضُوعِ لَهُ لِمَكَانِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَعَدَمِ إرَادَتِهِ لِلْعُدُولِ عَنْهُ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْحَقِيقَةَ تُوجِبُ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْقَرِينَةِ وَالْمَجَازَ يُوجِبُ الِاحْتِيَاجَ إلَيْهَا، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي الْمَلْزُومَاتِ. الْخَامِسُ: أَنَّ اللَّفْظَ لِلْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ اللِّبَاسِ لِلشَّخْصِ فَيَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَعْنَيَيْنِ هُوَ حَقِيقَةٌ لِأَحَدِهِمَا مَجَازٌ لِلْآخَرِ كَمَا يَمْتَنِعُ اسْتِعْمَالُ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ بِطَرِيقَيْ الْمِلْكِ وَالْعَارِيَّةِ بَلْ كَمَا يَمْتَنِعُ اكْتِسَاءُ شَخْصَيْنِ ثَوْبًا وَاحِدًا فِي آنٍ وَاحِدٍ يَلْبَسُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَمَامِهِ عَلَى أَنَّهُ مِلْكٌ لِأَحَدِهِمَا، وَعَارِيَّةٌ لِلْآخَرِ، وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي رُجْحَانِ الْمَتْبُوعِ إذَا دَارَ اللَّفْظُ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَا إذَا قَامَتْ الْقَرِينَةُ عَلَى إرَادَةِ التَّابِعِ أَيْضًا مِثْلَ رَأَيْت أَسَدَيْنِ يَرْمِي أَحَدُهُمَا، وَيَفْتَرِسُ الْآخَرُ، وَلَا خَفَاءَ فِي جَوَازِ إرَادَةِ التَّابِعِ فَقَطْ بِمَعُونَةِ الْقَرِينَةِ فَضْلًا عَنْ إرَادَتِهِ مَعَ إرَادَةِ الْمَتْبُوعِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي الْمَعْنَى إلَّا إرَادَتُهُ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ اسْتِقْرَارِهِ وَحُلُولِهِ فِي الْمَعْنَى، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ إرَادَةَ غَيْرِ الْمَوْضُوعِ لَهُ تُوجِبُ الْعُدُولَ عَنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَجْمُوعُ أَوْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَاخِلًا تَحْتَ الْمُرَادِ؟ وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ اسْتِغْنَاءَ الْحَقِيقَةِ عَنْ الْقَرِينَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ يُفْهَمُ بِلَا قَرِينَةٍ، وَهُوَ لَا يُنَافِي نَصْبَ الْقَرِينَةِ عَلَى إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ أَيْضًا، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْمَجَازَ يَفْتَقِرُ إلَى قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيُنَافِي الْحَقِيقَةَ فَقَدْ عَرَفْت أَنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ إنَّمَا هُوَ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ لَا كَوْنُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا مَعًا، وَالْمَشْرُوطُ

- عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ» لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا مَا وُضِعَتْ لَهُ وَلَا الْمَسُّ بِالْيَدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] لِأَنَّ الْوَطْءَ وَهُوَ الْمَجَازُ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْمَوْلَى حَقِيقَةٌ فِي الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ وَهُوَ الْمُعْتَقُ مَجَازٌ فِي مُعْتَقِ الْمُعْتَقِ فَإِذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ لَا يَسْتَحِقُّ مُعْتَقُ الْمُعْتَقِ مَعَ وُجُودِ الْمُعْتَقِ وَكَذَا إذَا أَوْصَى لِأَوْلَادِ فُلَانٍ أَوْ لِأَبْنَائِهِ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنُو بَنِينَ فَالْوَصِيَّةُ لِأَبْنَائِهِ دُونَ بَنِي بَنِيهِ أَمَّا دُخُولُ بَنِي الْبَنِينَ فِي الْأَمَانِ فِي قَوْلِهِ آمِنُونَا عَلَى أَوْلَادِنَا فَلِأَنَّ الْأَمَانَ لِحَقْنِ الدَّمِ فَيَبْتَنِي عَلَى الشُّبُهَاتِ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ (وَلَا جَمْعَ بَيْنَهُمَا بِالْحِنْثِ إذَا دَخَلَ حَافِيًا أَوْ مُتَنَعِّلًا أَوْ رَاكِبًا فِي لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ لِأَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ لَا يَدْخُلُ فَيَحْنَثُ كَيْفَ دَخَلَ فَلِهَذَا مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ) اعْلَمْ أَنَّهُ تُذْكَرُ هُنَا مَسَائِلُ تَتَرَاءَى أَنَّا جَمَعْنَا فِيمَا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ هُوَ كَوْنُ اللَّفْظِ مَجَازًا لَا إرَادَةَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ أَيْ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ بِنَوْعِ عَلَاقَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ عَيْنُ النِّزَاعِ فَإِنْ قِيلَ فَاللَّفْظُ فِي الْمَجْمُوعِ مَجَازٌ، وَالْمَجَازُ مَشْرُوطٌ بِالْقَرِينَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَيَكُونُ الْمَوْضُوعُ لَهُ مُرَادًا، وَهَذَا مُحَالٌ قُلْنَا الْمَوْضُوعُ لَهُ هُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَحْدَهُ فَيَجِبُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ وَحْدَهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ، وَهِيَ لَا تُنَافِي كَوْنَهُ دَاخِلًا تَحْتَ الْمُرَادِ، وَأَمَّا الْخَامِسُ فَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَ الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ وَالْعَارِيَّةِ مُحَالٌ شَرْعًا، وَحُصُولُ الشَّخْصَيْنِ فِي مَكَان وَاحِدٍ يَشْغَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَمَامِهِ مُحَالٌ عَقْلًا فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ مِنْهُ اسْتِحَالَةُ إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَإِرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مَعًا؟ ، وَإِنْ كَانَ تَوْضِيحًا وَتَمْثِيلًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى اسْتِحَالَةِ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ فَإِنَّهَا مَمْنُوعَةٌ، وَدَعْوَى الضَّرُورَةِ فِيهَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ عَلَى أَنَّا لَا نَجْعَلُ اللَّفْظَ عِنْدَ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا لِيَكُونَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِمَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِ الثَّوْبِ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ وَالْعَارِيَّةِ بَلْ نَجْعَلُهُ مَجَازًا قَطْعًا لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَجْمُوعِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ. (قَوْلُهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ) أَوْرَدَ فِي الْمَتْنِ مِنْ فُرُوعِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ثَلَاثَةً لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ إرَادَةُ الْمَجَازِ فَيَمْتَنِعُ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ كَالْمُلَامَسَةِ فِي قَوْله تَعَالَى {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] أُرِيدَ بِهَا الْوَطْءُ مَجَازًا بِالْإِجْمَاعِ حَتَّى حَلَّ لِلْجُنُبِ التَّيَمُّمُ فَلَا يُرَادُ الْمَسُّ بِالْيَدِ. فَإِنْ قِيلَ لَا إجْمَاعَ مَعَ مُخَالَفَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَعِنْدَهُ الْمُرَادُ بِهَا الْمَسُّ بِالْيَدِ، وَلَا صِحَّةَ لِتَيَمُّمِ الْجُنُبِ قُلْنَا أَرَادَ إجْمَاعَ مَنْ بَعْدَ الصَّحَابَةِ بَلْ إجْمَاعَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى الْمَسِّ بِالْيَدِ، وَجَوَّزَ تَيَمُّمَ الْجُنُبِ بِدَلِيلٍ آخَرَ لَا يُقَالُ هُوَ مُخَالِفٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْوَطْءُ، وَيَحِلُّ تَيَمُّمُ الْجُنُبِ أَوْ لَمْسٌ بِالْيَدِ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَوْ رَفَعَ أَمْرًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، وَعَدَمُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَسُّ بِالْيَدِ مَعَ جَوَازِ التَّيَمُّمِ لَيْسَ قَوْلًا بِالْعَدَمِ حَتَّى يَمْتَنِعَ مُخَالَفَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُرَادُ الْمَجَازُ، وَذَلِكَ إمَّا فِي مُفْرَدٍ كَالْخَمْرِ إذَا

وَالْمَجَازِ أَوَّلُهَا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ يَحْنَثُ إذَا دَخَلَ حَافِيًا أَوْ مُتَنَعِّلًا أَوْ رَاكِبًا وَالدُّخُولُ حَافِيًا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْبَاقِي بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَقَوْلُهُ فِي لَا يَضَعُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَا جَمْعَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الْمَجَازِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ مَهْجُورٌ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَنَامَ وَيَضَعَ الْقَدَمَيْنِ فِي الدَّارِ وَبَاقِي الْجَسَدِ يَكُونُ خَارِجَ الدَّارِ وَفِي الْعُرْفِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ لَا يَدْخُلُ (وَكَذَا) أَيْ مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمَجَازِ قَوْلُهُ (لَا يَدْخُلُ فِي دَارِ فُلَانٍ يُرَادُ بِهِ نِسْبَةُ السُّكْنَى) أَيْ يُرَادُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ بِقَوْلِهِ دَارُ فُلَانٍ كَوْنُ الدَّارِ مَنْسُوبَةً إلَى فُلَانٍ نِسْبَةَ السُّكْنَى إمَّا حَقِيقَةً وَإِمَّا دَلَالَةً حَتَّى لَوْ كَانَتْ مِلْكَ فُلَانٍ وَلَا يَكُونُ فُلَانٌ سَاكِنًا فِيهَا يَحْنَثُ بِالدُّخُولِ فِيهَا (وَهِيَ تَعُمُّ الْمِلْكَ وَالْإِجَارَةَ وَالْعَارِيَّةَ لَا نِسْبَةَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً وَغَيْرَهَا مَجَازًا) أَيْ لَا يُرَادُ نِسْبَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَغَيْرِهَا أَيْ الْإِجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ (حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا) أَيْ ـــــــــــــــــــــــــــــQأُرِيدَ بِهَا حَقِيقَتُهَا فَلَا يُرَادُ غَيْرُهَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ بِعَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ فِي مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ فِي السُّكْرِ مِنْهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ سُنَّةٍ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمُلَامَسَةِ مُطْلَقُ اللَّمْسِ الشَّامِلِ لِلْوَطْءِ وَغَيْرِهِ، وَبِالْخَمْرِ مُطْلَقُ مَا يُخَامِرُ الْعَقْلَ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْجَمْعِ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ قُلْنَا لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ عَنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَحْدَهُ، وَلَا قَرِينَةَ، وَلَوْ سَلِمَ فَخَارِجٌ عَنْ الْمَبْحَثِ، وَأَمَّا فِي نِسْبَةٍ كَمَا إذَا أَوْصَى لِمَوَالِيهِ بِشَيْءٍ، وَلَهُ مُعْتَقٌ، وَمُعْتَقُ مُعْتَقٍ يَسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ مَوْلَى زَيْدٍ مَثَلًا حَقِيقَةٌ فِي مُعْتَقِهِ لِأَنَّ إضَافَةَ الْمُشْتَقِّ تُفِيدُ اخْتِصَاصَ مَعْنَاهُ بِالْمُضَافِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِهِ مَثَلًا مَكْتُوبُ زَيْدٍ مَا يَخْتَصُّ بِهِ بِاعْتِبَارِ مَكْتُوبِيَّتِهِ لَهُ مَجَازٌ فِي مُعْتَقِ مُعْتَقِهِ لِوُجُودِ الْمُلَابَسَةِ، وَهِيَ كَوْنُ زَيْدٍ سَبَبًا لِعِتْقِهِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا لَفْظُ الْمَوْلَى فَحَقِيقَةٌ فِي الْعِتْقِ سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ حُرُّ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرُهُ فَهُوَ لَيْسَ بِمَجَازٍ فِي مُعْتَقِ الْمُعْتَقِ عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْعِتْقُ الْأَوَّلُ أَسْفَلَ لِأَنَّهُ أَصْلٌ، وَالْفُرُوعُ أَعَالِي لِلْأُصُولِ كَأَغْصَانِ الشَّجَرَةِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُسَمَّى أَسْفَلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُعْتِقِ اسْمُ فَاعِلٍ حَيْثُ سَمَّى الْمَوْلَى الْأَعْلَى. (قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا أَوْصَى) يُرِيدُ أَنَّ لَفْظَ الِابْنِ أَوْ الْوَلَدِ الْمُضَافَيْنِ شَخْصٌ حَقِيقَةٌ فِي أَبْنَائِهِ وَأَوْلَادِهِ الصُّلْبِيَّةِ مَجَازٌ فِي ابْنِ الِابْنِ فَلَوْ أَوْصَى لِأَبْنَائِهِ، وَلَهُ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ يَسْتَحِقُّ الذُّكُورُ خَاصَّةً عِنْدَهُ، وَالذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ عِنْدَهُمَا، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ إنَاثٌ خَاصَّةً فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبْنَاءٌ وَبَنُو أَبْنَاءٍ يَسْتَحِقُّ الْأَبْنَاءُ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ وَعِنْدَهُمَا الْجَمِيعُ عَمَلًا بِعُمُومِ الْمَجَازِ حَيْثُ يُطْلَقُ الْأَبْنَاءُ عُرْفًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ، وَإِنْ أَوْصَى لِأَوْلَادِهِ فَلِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ الصُّلْبِيَّةِ مُخْتَلِطَةً أَوْ مُنْفَرِدَةً، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَأَوْلَادُ ابْنٍ فَعِنْدَهُ يَسْتَحِقُّ الصُّلْبِيَّةُ خَاصَّةً وَعِنْدَهُمَا الْجَمِيعُ، وَقِيلَ الصُّلْبِيَّاتُ خَاصَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ لَا يُطْلَقُ عُرْفًا عَلَى أَوْلَادِ الِابْنِ بِخِلَافِ الْأَبْنَاءِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ قَالَ الْكُفَّارُ آمِنُونَا

بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ (وَلَا بِالْحِنْثِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحِنْثِ فِي قَوْلِهِ وَلَا جَمْعَ بَيْنَهُمَا بِالْحِنْثِ (إذَا قَدِمَ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فِي قَوْلِهِ امْرَأَتُهُ كَذَا يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ لِلنَّهَارِ وَلِلْوَقْتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتَ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ يَحْنَثُ إنْ قَدِمَ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فَالْيَوْمُ حَقِيقَةٌ فِي النَّهَارِ مَجَازٌ فِي اللَّيْلِ فَيَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا بِالْحِنْثِ وَالْهَاءُ فِي لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْيَوْمِ وَالْمُرَادُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى أَوْلَادِنَا فَآمَنُوهُمْ، وَلَهُمْ أَبْنَاءٌ، وَبَنُو أَبْنَاءٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْمَلَ الْأَمَانُ بَنِي الْأَبْنَاءِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا هُوَ رِوَايَةُ الْقِيَاسِ لَكِنَّهُ يَشْمَلُهُمْ عِنْدَهُ فِي رِوَايَةِ الِاسْتِحْسَانِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ شُمُولَ الْأَمَانِ إيَّاهُمْ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمَانَ لِحَقْنِ الدَّمِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ إذْ الْإِنْسَانُ بُنْيَانُ الرَّبِّ فَنَبْتَنِي عَلَى الشُّبُهَاتِ، وَاسْمُ الْأَبْنَاءِ قَدْ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْفُرُوعِ مِثْلَ بَنِي آدَمَ وَبَنِي هَاشِمٍ فَجَعَلَ مُجَرَّدَ صُورَةِ الِاسْمِ شُبْهَةً أَثْبَتَ بِهَا الْأَمَانَ لَكِنْ فِيمَا هُوَ تَابِعٌ فِي الْخِلْقَةِ، وَفِي إطْلَاقِ الِاسْمِ بِخِلَافِ مَا إذَا آمَنُوهُمْ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ تَبَعًا فِي تَنَاوُلِ الِاسْمِ لَكِنَّهُمْ أُصُولُ خِلْقَةٍ فَلَا يَدْخُلُونَ بِالدَّلِيلِ الضَّعِيفِ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الِاسْمِ لِأَنَّ الْأَصَالَةَ الْخِلْقِيَّةَ تُعَارِضُهُ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ حُرْمَةُ نِكَاحِ الْجَدَّاتِ بِالْإِجْمَاعِ لَا بِأَنَّ لَفْظَ الْأُمَّهَاتِ يَتَنَاوَلُهَا (قَوْلُهُ: وَالدُّخُولُ حَافِيًا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ) لِأَنَّ وَضْعَ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ أَنْ يُجْعَلَ الثَّانِي ظَرْفًا لَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ كَوَضْعِ الدِّرْهَمِ فِي الْكِيسِ، وَالْكِيسِ فِي الْبَيْتِ، وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ هَاهُنَا مَهْجُورٌ إذْ لَوْ اضْطَجَعَ، وَوَضَعَ الْقَدَمَيْنِ فِي الدَّارِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَاقِي جَسَدِهِ خَارِجَ الدَّارِ لَا يُقَالُ عُرْفًا أَنَّهُ وَضَعَ الْقَدَمَ فِي الدَّارِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَنَامَ وَيَضَعَ الْقَدَمَيْنِ فِي الدَّارِ، وَبَاقِي الْجَسَدِ يَكُونُ خَارِجَ الدَّارِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ خُرُوجَ بَاقِي الْجَسَدِ شَرْطٌ فِي حَقِيقَةِ وَضْعِ الْقَدَمِ، وَلَفْظُ يَنَامُ لَيْسَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَإِنْ قُلْت فَالدُّخُولُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِيقَةِ وَضْعِ الْقَدَمِ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُهُ، وَالدُّخُولُ حَافِيًا مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ؟ قُلْت أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا دَخَلَ حَافِيًا صَحَّ أَنْ يُقَالَ حَقِيقَةُ أَنَّهُ وَضَعَ الْقَدَمَ فِي الدَّارِ بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ مُتَنَعِّلًا أَوْ رَاكِبًا فَإِنْ قُلْت قَدْ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ، وَالْمُحِيطِ بِأَنَّ الدُّخُولَ مَاشِيًا حَقِيقَةٌ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ حَتَّى لَوْ نَوَاهُ لَمْ يَحْنَثْ بِالدُّخُولِ رَاكِبًا قُلْت كَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً فِي الدُّخُولِ مَاشِيًا، وَهِيَ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ بِخِلَافِ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ أَعْنِي وَضْعَ الْقَدَمِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الدُّخُولِ أَوْ بِدُونِهِ حَتَّى لَوْ وَضَعَ الْقَدَمَ بِلَا دُخُولٍ لَمْ يَحْنَثْ ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ وَفِي الْعُرْفِ صَارَ عِبَارَةً عَنْ لَا يَدْخُلُ مُشْعِرٌ بِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِي مُطْلَقِ الدُّخُولِ. (قَوْلُهُ يُرَادُ بِهِ) أَيْ بِكَوْنِ الدَّارِ

بِالْيَوْمِ فِي الْآيَةِ الْوَقْتُ فَالْيَوْمُ حَقِيقَةٌ فِي النَّهَارِ وَكَثِيرًا مَا يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ مَجَازًا فَاحْتَجْنَا إلَى ضَابِطٍ يُعْرَفُ بِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ النَّهَارُ أَوْ مُطْلَقُ الْوَقْتِ وَالضَّابِطُ هُوَ قَوْلُهُ (فَإِذْ تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُمْتَدٍّ فَلِلنَّهَارِ وَبِغَيْرِ مُمْتَدٍّ فَلِلْوَقْتِ لِأَنَّ الْفِعْلَ إذَا نُسِبَ إلَى ظَرْفِ الزَّمَانِ بِغَيْرِ فِي يَقْتَضِي كَوْنَهُ) أَيْ كَوْنَ ظَرْفِ الزَّمَانِ (مِعْيَارًا لَهُ) أَيْ لِلْفِعْلِ وَالْمُرَادُ بِالْمِعْيَارِ ظَرْفٌ لَا يَفْضُلُ عَنْ الْمَظْرُوفِ كَالْيَوْمِ لِلصَّوْمِ وَهَذَا الْبَحْثُ كُلُّهُ يَأْتِي فِي كَلِمَةٍ فِي فَصْلِ حُرُوفِ الْمَعَانِي (فَإِنْ امْتَدَّ الْفِعْلُ امْتَدَّ الْمِعْيَارُ فَيُرَادُ بِالْيَوْمِ النَّهَارُ) لِأَنَّ النَّهَارَ أَوْلَى (وَإِنْ لَمْ يَمْتَدَّ) أَيْ لِلْفِعْلِ (كَوُقُوعِ الطَّلَاقِ هُنَا) ـــــــــــــــــــــــــــــQمُضَافَةً إلَى فُلَانٍ نِسْبَةُ السُّكْنَى بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، وَهُوَ أَنَّ الدَّارَ لَا تُعَادَى، وَلَا تُهْجَرُ لِذَاتِهَا بَلْ لِبَعْضِ سَاكِنِهَا إلَّا أَنَّ السُّكْنَى قَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَقَدْ تَكُونُ دَلَالَةً بِأَنْ تَكُونَ الدَّارُ مِلْكًا لَهُ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ السُّكْنَى فِيهَا فَيَحْنَثَ بِالدُّخُولِ فِي دَارِ تَكُونُ مِلْكًا لِفُلَانٍ، وَلَا يَكُونُ هُوَ سَاكِنًا فِيهَا سَوَاءٌ كَانَ غَيْرُهُ سَاكِنًا فِيهَا أَوْ لَا لِقِيَامِ دَلِيلِ السُّكْنَى التَّقْدِيرِيِّ، وَهُوَ الْمِلْكُ. صَرَّحَ بِهِ فِي الْخَانِيَّةِ، وَالظَّهِيرِيَّةِ لَكِنْ ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ سَاكِنًا فِيهَا لَا يَحْنَثُ لِانْقِطَاعِ النِّسْبَةِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ 1 - (قَوْلُهُ فَإِذَا تَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُمْتَدٍّ) هُوَ مَا يَصِحُّ تَقْدِيرُهُ بِمُدَّةٍ مِثْلَ لَبِسْتُ الثَّوْبَ يَوْمَيْنِ، وَرَكِبْتُ الْفَرَسَ يَوْمًا بِخِلَافِ قَدِمْت يَوْمَيْنِ، وَدَخَلْت ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِامْتِدَادِ وَعَدَمِهِ هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْيَوْمُ لَا الْفِعْلُ الَّذِي أُضِيفَ إلَيْهِ الْيَوْمُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَوْمَ حَقِيقَةٌ فِي النَّهَارِ فَلَا يُعْدَلُ عَنْهُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْيَوْمُ غَيْرَ مُمْتَدٍّ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمَنْسُوبَ إلَى ظَرْفِ الزَّمَانِ بِوَاسِطَةِ تَقْدِيرِ فِي دُونَ ذِكْرِهِ يَقْتَضِي كَوْنَ الظَّرْفِ مِعْيَارًا لَهُ غَيْرَ زَائِدٍ عَلَيْهِ مِثْلَ صُمْتُ الشَّهْرَ يَدُلُّ عَلَى صَوْمِ جَمِيعِ أَيَّامِهِ بِخِلَافِ صُمْت فِي الشَّهْرِ فَإِذَا امْتَدَّ الْفِعْلُ امْتَدَّ الظَّرْفُ لِيَكُونَ مِعْيَارًا لَهُ فَيَصِحُّ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ مَا امْتَدَّ مِنْ الطُّلُوعِ إلَى الْغُرُوبِ، وَإِذَا لَمْ يَمْتَدَّ الْفِعْلُ لَمْ يَمْتَدَّ الظَّرْفُ لِأَنَّ الْمُمْتَدَّ لَا يَكُونُ مِعْيَارًا لِغَيْرِ الْمُمْتَدِّ فَحِينَئِذٍ لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى النَّهَارِ الْمُمْتَدِّ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا عَنْ جُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْعُرْفِ مُمْتَدًّا، وَهُوَ الْآنَ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النَّهَارِ أَوْ مِنْ اللَّيْلِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] فَإِنَّ التَّوَلِّيَ عَنْ الزَّحْفِ حَرَامٌ لَيْلًا كَانَ أَوْ نَهَارًا، أَوْ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْآنَ جُزْءٌ مِنْ الْآنَ الْيَوْمِيِّ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْيَوْمِ فَيَكُونُ مُطْلَقُ الْآنَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ فَنُحَقِّقُ الْعَلَاقَةَ، وَكَلَامُ الْمُحِيطِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْيَوْمَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَبَيْنَ بَيَاضِ النَّهَارِ إلَّا أَنَّ الْمُتَعَارَفَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُطْلَقِ الْوَقْتِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ، وَفِي بَيَاضِ النَّهَارِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ مُمْتَدٍّ، وَاسْتِعْمَالُ النَّاسِ حُجَّةٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا، فَإِنْ قُلْت قَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ حَيْثُ قَالُوا فِي مِثْلِ

أَيْ فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ (لَا يَمْتَدُّ الْمِعْيَارُ فَيُرَادُ بِهِ الْآنَ) إذْ لَا يُمْكِنُ إرَادَةُ النَّهَارِ بِالْيَوْمِ فَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ الْآنَ وَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُ ذَلِكَ الْآنَ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وَلِأَنَّ الْعَلَاقَةَ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ وَمُطْلَقِ الْآنَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْآنَ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ أَوْ مِنْ اللَّيْلِ (وَلَا بِالْحِنْثِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بِالْحِنْثِ الَّذِي سَبَقَ (بِأَكْلِ الْحِنْطَةِ وَمَا يُتَّخَذُ مِنْهَا عِنْدَهُمَا فِي لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بَاطِنُهَا عَادَةً فَيَحْنَثُ بِعُمُومِ الْمَجَازِ) (وَلَا يَرِدُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ) رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَيْ عَلَى مَسْأَلَةِ امْتِنَاعِ الْجَمْعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ أَتَزَوَّجُك أَوْ أُكَلِّمُك إنَّ التَّزَوُّجَ أَوْ التَّكَلُّمَ لَا يَمْتَدُّ، وَكَذَا وَقَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَإِيمَانِ الْهِدَايَةِ قُلْت هُوَ مِنْ تَسَامُحَاتِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَخْتَلِفْ الْجَوَابُ لِتَوَافُقِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ فِي الِامْتِدَادِ، وَعَدَمِهِ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفْنَا فِي مِثْلِ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الظَّرْفُ، لَا مَا أُضِيفَ إلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَدِمَ لَيْلًا لَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا لِأَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ بِيَدِهَا مِمَّا يَمْتَدُّ فَإِنْ قُلْت التَّكَلُّمُ مِمَّا يَقْبَلُ التَّقْدِيرَ بِالْمُدَّةِ فَكَيْفَ جَعَلُوهُ غَيْرَ مُمْتَدٍّ قُلْت امْتِدَادُ الْأَعْرَاضِ إنَّمَا هُوَ بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ كَالضَّرْبِ وَالْجُلُوسِ وَالرُّكُوبِ فَمَا يَكُونُ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ مِثْلُهَا فِي الْأُولَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَجُعِلَ كَالْعَيْنِ الْمُمْتَدِّ بِخِلَافِ الْكَلَامِ فَإِنَّ الْمُتَحَقِّقَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ لَا يَكُونُ مِثْلَهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَا يَتَحَقَّقُ تَجَدُّدُ الْأَمْثَالِ فَإِنْ قُلْت كَمَا أَنَّ الْيَوْمَ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ كَذَلِكَ هُوَ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَيَجِبُ امْتِدَادُهُ بِامْتِدَادِهِ، وَعَدَمُهُ بِعَدَمِ امْتِدَادِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْآنَ عِنْدَ عَدَمِ امْتِدَادِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَإِنْ قُلْت هُوَ ظَرْفٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بِتَقْدِيرِ فِي كَمَا فِي صُمْت الشَّهْرَ حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُ الظَّرْفِ مِعْيَارًا لَهُ فَيَوْمَ يَقْدَمُ زَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ زَيْدٌ، وَيَوْمَ يَرْكَبُ زَيْدٌ بِمَنْزِلَةِ الْيَوْمِ الَّذِي يَرْكَبُ فِيهِ، وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ وُقُوعُ الْفِعْلِ فِي جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ ظَرْفِيَّتَهُ لِلْعَامِلِ قَصْدِيَّةٌ لَا ضِمْنِيَّةٌ، وَحَاصِلَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى لَا مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الْمَعْنَى بِخِلَافِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَاعْتِبَارُ الْعَامِلِ أَوْلَى عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا بِالِامْتِدَادِ وَعَدَمِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الدَّلِيلِ يَتَضَمَّنُ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ وَعَمَّا قِيلَ سَلَّمْنَا أَنَّ امْتِدَادَ الْفِعْلِ يَقْتَضِي امْتِدَادَ الظَّرْفِ وَعَدَمَهُ يَقْتَضِي عَدَمَهُ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ فِي الْأَوَّلِ حَمْلُهُ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ، وَفِي الثَّانِي عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ؟ فَإِنْ قُلْت كَثِيرًا مَا يَمْتَدُّ الْفِعْلُ مَعَ كَوْنِ الْيَوْمِ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ مِثْلَ ارْكَبُوا يَوْمَ يَأْتِيكُمْ الْعَدُوُّ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاَللَّهِ يَوْمَ يَأْتِيكُمْ الْمَوْتُ، وَبِالْعَكْسِ مِثْلَ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ نَصُومُ، وَأَنْتَ حُرٌّ يَوْمَ تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ قُلْت الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالْخُلُوِّ عِنْدَ الْمَوَانِعِ، وَلَا يَمْتَنِعُ مُخَالَفَتُهُ بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ كَمَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي حَمْلِ الْيَوْمِ

بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ (فِيمَنْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ وَنَوَى بِهِ الْيَمِينَ أَنَّهُ نَذْرٌ وَيَمِينٌ) هَذَا مَقُولُ الْقَوْلِ (حَتَّى لَوْ لَمْ يَصُمْ يَجِبُ الْقَضَاءُ) لِكَوْنِهِ نَذْرًا (وَالْكَفَّارَةُ) لِكَوْنِهِ يَمِينًا فَهَذِهِ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ وَإِذَا كَانَ نَذْرًا وَيَمِينًا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي النَّذْرِ مَجَازٌ فِي الْيَمِينِ (لِأَنَّهُ نَذْرٌ بِصِيغَتِهِ يَمِينٌ بِمُوجَبِهِ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَرِدُ ثُمَّ أَثْبَتَ أَنَّهُ يَمِينٌ بِمُوجَبِهِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ إيجَابَ الْمُبَاحِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ ضِدِّهِ وَتَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] كَمَا أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ شِرَاءٌ بِصِيغَتِهِ تَحْرِيرٌ بِمُوجَبِهِ (فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ) بَلْ الصِّيغَةُ مَوْضُوعَةٌ لِلنَّذْرِ وَمُوجَبُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْأَوَّلِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ، وَيُعْلَمُ الْحُكْمُ فِي غَيْرِهِ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، وَفِي الثَّانِي عَلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ، وَيَحْصُلُ التَّقْيِيدُ بِالْيَوْمِ مِنْ الْإِضَافَةِ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ حِينَ يَقُومُ أَوْ حِينَ تَنْكَسِفُ الشَّمْسُ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ جَعَلَ التَّخْيِيرَ وَالتَّفْوِيضَ مِمَّا يَمْتَدُّ، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ مَعَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ إنْشَاءُ الْأَمْرِ، وَحُدُوثُهُ فَهُوَ غَيْرُ مُمْتَدٍّ فِي الْكُلِّ، وَإِنْ أُرِيدَ كَوْنُهَا مُخَيَّرَةً وَمُفَوَّضَةً، وَهُوَ مُمْتَدٌّ فَكَذَا كَوْنُهَا مُطَلَّقَةً وَكَوْنُ الْعَبْدِ مُعْتَقًا مُمْتَدٌّ قُلْنَا أُرِيدَ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وُقُوعُهُمَا لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ كَوْنِ الشَّخْصِ مُطَلِّقًا أَوْ مُعْتِقًا بِالزَّمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّوْقِيتَ بِالْمُدَّةِ، وَفِي التَّخْيِيرِ وَالتَّفْوِيضِ كَوْنُهَا مُخَيَّرَةً وَمُفَوَّضَةً لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَيُفِيدُ تَوْقِيتَهُ بِالْمُدَّةِ فَإِنْ قُلْت ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ، وَغَدًا دَخَلَتْ اللَّيْلَةُ قُلْت لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ لِمُطْلَقِ الْوَقْتِ بَلْ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِك بِيَدِك يَوْمَيْنِ، وَفِي مِثْلِهِ يَسْتَتْبِعُ اسْمُ الْيَوْمِ اللَّيْلَةَ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ، وَبَعْدَ غَدٍ فَإِنَّ الْيَوْمَ الْمُنْفَرِدَ لَا يَسْتَتْبِعُ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ اللَّيْلِ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُرَادُ بَاطِنُهَا) أَيْ مَا فِي الْحِنْطَةِ مِنْ الْأَجْزَاءِ يُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ الْحِنْطَةَ أَيْ طَعَامُهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ، وَأَكْلُ مَا فِي الْحِنْطَةِ يَعُمُّ أَكْلَ عَيْنِهَا، وَأَكْلُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهَا مِنْ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ دُونَ السَّوِيقِ فَإِنَّهُ عِنْدَهُمَا جِنْسُ الدَّقِيقِ، وَقِيلَ يَحْنَثُ بِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا حَقِيقَةُ أَكْلِ الْحِنْطَةِ فَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْأَكْلُ عَلَى نَفْسِ الْحِنْطَةِ بِأَنْ يَضَعَهَا فِي الْفَمِ فَيَمْضُغَهَا. (قَوْلُهُ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ) وَقَعَ فِي عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - غَيْرَ مُنَوَّنٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالْعَدْلِ عَنْ الرَّجَبِ لِأَنَّ الْمُرَادَ رَجَبٌ بِعَيْنِهِ أَيْ الَّذِي يَأْتِي عَقِيبَ الْيَمِينِ، وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى سِتَّةِ أَوْجُهٍ لِأَنَّ الْقَائِلَ إمَّا أَنْ لَا يَنْوِيَ شَيْئًا أَوْ يَنْوِيَ النَّذْرَ مَعَ نَفْيِ الْيَمِينِ أَوْ بِدُونِهِ أَوْ يَنْوِيَ الْيَمِينَ مَعَ نَفْيِ النَّذْرِ أَوْ بِدُونِهِ أَوْ يَنْوِيَ النَّذْرَ وَالْيَمِينَ جَمِيعًا. فَالثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ نَذْرٌ بِاتِّفَاقٍ، وَالرَّابِعُ يَمِينٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي الْأَخِيرَيْنِ خِلَافٌ، وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ، وَنَوَى الْيَمِينَ أَيْ مَعَ نِيَّةِ النَّذْرِ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لَهُ بِالنَّفْيِ

هَذَا الْكَلَامِ الْيَمِينُ وَالْمُرَادُ بِالْمُوجَبِ اللَّازِمُ الْمُتَأَخِّرُ، فَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى لَازِمِهِ لَا تَكُونُ مَجَازًا كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ يَدُلُّ عَلَى الشَّجَاعَةِ الَّتِي هِيَ لَازِمَةٌ لِلْأَسَدِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَلَا يَكُونُ مَجَازًا وَإِنَّمَا الْمَجَازُ هُوَ اللَّفْظُ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ وَيُرَادُ بِهِ لَازِمُ الْمَوْضُوعِ لَهُ مِنْ غَيْرِ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَهُنَا وَقَعَ فِي خَاطِرِي إشْكَالٌ وَهُوَ قَوْلُهُ (يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ هَذَا مُوجَبَهُ يَكُونُ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ) أَيْ الْيَمِينَ كَمَا إذَا اشْتَرَى الْقَرِيبَ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوجَبَهُ يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ) فِي جَوَابِ هَذَا الْإِشْكَالِ (لَا جَمْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِرَادَةِ) لِأَنَّهُ نَوَى الْيَمِينَ وَلَمْ يَنْوِ النَّذْرَ (لَكِنَّهُ يَثْبُتُ النَّذْرُ بِصِيغَتِهِ وَالْيَمِينُ بِإِرَادَتِهِ) لِأَنَّ الْكَلَامَ مَوْضُوعٌ لِلنَّذْرِ وَهُوَ إنْشَاءٌ فَيَثْبُتُ الْمَوْضُوعُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْإِثْبَاتِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْخَامِسُ يَمِينٌ، وَالسَّادِسُ نَذْرٌ وَعِنْدَهُمَا كِلَاهُمَا نَذْرٌ وَيَمِينٌ، وَهُمَا مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ فَمُوجَبُ الْأَوَّلِ الْوَفَاءُ بِالْمُلْتَزَمِ، وَالْقَضَاءُ عِنْدَ الْفَوْتِ لَا الْكَفَّارَةُ، وَمُوجَبُ الثَّانِي الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْبِرِّ، وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْفَوْتِ لَا الْقَضَاءُ، وَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِي النَّذْرِ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ عُرْفًا وَلُغَةً، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى النِّيَّةِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِرَادَتُهُمَا مَعًا جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ نَذْرٌ بِصِيغَتِهِ لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِذَلِكَ يَمِينٌ بِمُوجَبِهِ أَيْ لَازِمُهُ الْمُتَأَخِّرُ يَمِينٌ لِأَنَّ النَّذْرَ إيجَابٌ لِلْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ صَوْمُ رَجَبٍ مَثَلًا، وَإِيجَابُ الْمُبَاحِ يُوجِبُ تَحْرِيمَ ضِدِّهِ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ أَيْضًا كَتَرْكِ الصَّوْمِ مَثَلًا لِأَنَّ إيجَابَ الشَّيْءِ يُوجِبُ الْمَنْعَ عَنْ ضِدِّهِ، وَتَحْرِيمُ الْمُبَاحِ يَمِينٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أَيْ شَرَعَ لَكُمْ تَحْلِيلَهَا بِالْكَفَّارَةِ سَمَّى تَحْرِيمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَارِيَةَ أَوْ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ يَمِينًا فَعَلَى تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُوجِبُ هُوَ نَفْسُ الْيَمِينِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَمِينٌ بِوَاسِطَةِ مُوجَبِهِ أَيْ أَثَرِهِ الثَّابِتِ بِهِ لِأَنَّ مُوجَبَ النَّذْرِ لُزُومُ الْمُنْذَرِ الَّذِي هُوَ جَائِزُ التَّرْكِ فِي نَفْسِهِ إذْ لَا نَذْرَ فِي الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ فَصَارَ النَّذْرُ تَحْرِيمًا لِلْمُبَاحِ بِوَاسِطَةِ مُوجَبِهِ أَيْ حُكْمِهِ، وَدَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى لَازِمِ مَعْنَاهُ لَا تَكُونُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مَا لَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي اللَّازِمِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ اللَّازِمَ مَعَ قَرِينَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى جُزْءِ الْمَعْنَى وَلَازِمِهِ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ، وَلَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مَجَازًا فَفَهْمُ الْجُزْءِ أَوْ اللَّازِمِ قَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسُ الْمُرَادِ فَاللَّفْظُ حِينَئِذٍ مَجَازٌ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءُ الْمُرَادِ أَوْ لَازِمُهُ فَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ كَمَا إذَا فُهِمَ الْجِدَارُ مِنْ لَفْظِ الْبَيْتِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَعْنَاهُ، وَفُهِمَ الشَّجَاعَةُ مِنْ لَفْظِ الْأَسَدِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي السَّبُعِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ لَا تَجُوزُ فِيهَا، وَالْيَمِينُ لَازِمٌ لَهَا فَلَا جَمْعَ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا سَبَقَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ هُوَ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مَعًا

وَحَقِيقَةُ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ الْيَمِينَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ لَكِنْ فِي الْإِنْشَاءَاتِ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكَلَامِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ فَالْحَقِيقِيُّ لِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ سَوَاءٌ أَرَادَ أَوْ لَمْ يُرِدْ وَالْمَجَازِيُّ إنْ أَرَادَ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ فَقَطْ أَوْ نَوَى النَّذْرَ مَعَ نَفْيِ الْيَمِينِ كَانَ نَذْرًا فَقَطْ عَمَلًا بِالصِّيغَةِ وَإِنْ نَوَاهُمَا أَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَقَطْ فَنَذْرٌ وَيَمِينٌ، أَمَّا النَّذْرُ فَبِالصِّيغَةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِرَادَةِ فِيمَا نَوَاهُمَا وَأَمَّا الْيَمِينُ فَبِالْإِرَادَةِ، وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ مَعَ نَفْيِ النَّذْرِ فَيَمِينٌ فَقَطْ وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدْته إشْكَالًا وَهُوَ قَوْلُهُ (فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ النَّذْرُ أَيْضًا إذَا نَوَى أَنَّهُ يَمِينٌ وَلَيْسَ بِنَذْرٍ) لِأَنَّ النَّذْرَ يَثْبُتُ بِالصِّيغَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ أَنَّهُ نَوَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَذْرٍ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (قُلْنَا لَمَّا نَوَى مَجَازَهُ وَنَفَى حَقِيقَتَهُ يُصَدَّقُ دِيَانَةً) لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا نَفَى النَّذْرَ يُصَدَّقُ دِيَانَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مَدْخَلَ لِلْقَضَاءِ فِيهِ حَتَّى يُوجِبَهُ الْقَاضِي وَلَا يُصَدِّقُهُ فِي نَفْيِهِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ أَرَدْتُ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ وَنَفَيْتُ الْحَقِيقِيَّ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ فَقَضَاءُ الْقَاضِي أَصْلٌ فِيهِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا كَوْنُ اللَّفْظِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ، وَالْمَجَازُ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ إرَادَةِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَلِهَذَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَحْرِيرِ الْمَبْحَثِ عَنْ عِبَارَةِ الْقَوْمِ إلَى قَوْلِهِ لَا يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا فَإِذَا أُرِيدَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلصِّيغَةِ وَلَازِمُهُ الْمُتَأَخِّرُ كَانَ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ الصِّيغَةُ مَجَازًا أَوْ لَا. (قَوْلُهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِ هَذَا الْإِشْكَالِ) يَعْنِي أَصْلَ الْإِشْكَالِ الْمُتَوَهَّمِ عَلَى مَسْأَلَةِ امْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لَا الْإِشْكَالَ الْوَارِدَ عَلَى جَوَابِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ بِهَذَا الْمَقَالِ لَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا إذَا نَوَى الْيَمِينَ فَقَطْ وَأَمَّا إذَا نَوَاهُمَا جَمِيعًا فَقَدْ تَحَقَّقَ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ مَعًا، وَلَا مَعْنَى لِلْجَمْعِ إلَّا هَذَا فَإِنْ قُلْت لَا عِبْرَةَ بِإِرَادَةِ النَّذْرِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ لِلْإِرَادَةِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ إلَّا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ قُلْت فَلَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ يَثْبُتُ بِاللَّفْظِ فَلَا عِبْرَةَ بِإِرَادَتِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لَهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا وَقَعَ فِي خَاطِرِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى سَبِيلِ التَّوَارُدِ، وَإِلَّا فَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ عَنْ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ مَعَ الْجَوَابِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُعْمِلَتْ الصِّيغَةُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ خَرَجَتْ الْيَمِينُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُرَادَةً فَصَارَتْ كَالْحَقِيقَةِ الْمَهْجُورَةِ فَلَا تَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، وَالثَّانِي أَنَّ تَحْرِيمَ تَرْكِ الْمَنْذُورِ يَثْبُتُ بِمُوجَبِ النَّذْرِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ يَمِينًا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَجْعَلْهُ يَمِينًا إلَّا عِنْدَ الْقَصْدِ بِخِلَافِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ إعْتَاقًا قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ وَمِنْ بَدِيعِ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ قَسَمٌ بِمَنْزِلَةِ بِاَللَّهِ كَمَا فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَاَللَّهِ مَا غَرَبَتْ

[مسألة لا بد للمجاز من قرينة تمنع إرادة الحقيقة]

(مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ تَمْنَعُ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ عَقْلًا أَوْ حِسًّا أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا وَهِيَ إمَّا خَارِجَةٌ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ وَالْكَلَامِ كَدَلَالَةِ الْحَالِ نَحْوَ يَمِينِ الْفَوْرِ أَوْ مَعْنًى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْصِيَةِ، أَوْ لَفْظٍ خَارِجٍ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف: 29] يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْيِيرِ وَنَحْوَ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ كُنْت رَجُلًا لَا يَكُونُ تَوْكِيلًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ، وَكَلِمَةُ عَلَيَّ نَذْرٌ إلَّا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ غَلَبَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي مَعْنَى النَّذْرِ عَادَةً فَحُمِلَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَوَاهُمَا فَقَدْ نَوَى بِكُلِّ لَفْظٍ مَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِهِ فَيُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ، وَلَا يَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ فِي كَلِمَتَيْنِ [مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ تَمْنَعُ إرَادَةَ الْحَقِيقَةِ] (قَوْلُهُ مَسْأَلَةٌ لَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ) مَانِعَةٍ عَنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ سَوَاءٌ جُعِلَتْ دَاخِلَةً فِي مَفْهُومِ الْمَجَازِ كَمَا هُوَ رَأْيُ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ أَوْ شَرْطًا لِصِحَّتِهِ وَاعْتِبَارِهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ. (قَوْلُهُ أَوْ عَادَةً) يَشْمَلُ الْعُرْفَ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهَا بِاسْتِعْمَالِ الْعَادَةِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْعُرْفِ فِي الْأَقْوَالِ. (قَوْلُهُ نَحْوُ يَمِينِ الْفَوْرِ) هُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرُ فَارَتْ الْقِدْرُ إذَا غَلَتْ اُسْتُعِيرَ لِلسُّرْعَةِ ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْحَالَةُ الَّتِي لَا رَيْثَ فِيهَا وَلَا لُبْثَ فَقِيلَ رَجَعَ فُلَانٌ مِنْ فَوْرِهِ أَيْ مِنْ سَاعَتِهِ، وَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْكُنَ. (قَوْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ} [الإسراء: 64] أَيْ اسْتَنْزِلْ أَوْ حَرِّكْ مَنْ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بِوَسْوَسَتِك وَدُعَائِك إلَى الشَّرِّ فَهَاهُنَا قَرِينَةٌ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ حَقِيقَةِ الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ عَقْلًا، وَهِيَ كَوْنُ الْآمِرِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ حَكِيمًا لَا يَأْمُرُ إبْلِيسَ بِإِغْوَاءِ عِبَادِهِ فَهُوَ مَجَازٌ عَنْ تَمْكِينِهِ مِنْ ذَلِكَ وَإِقْدَارِهِ عَلَيْهِ لِعَلَاقَةِ أَنَّ الْإِيجَابَ يَقْتَضِي تَمَكُّنَ الْمَأْمُورِ مِنْ الْفِعْلِ وَقُدْرَتَهُ عَلَيْهِ لِسَلَامَةِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ. (قَوْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ} [الكهف: 29] مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ حَقِيقَةٌ فِي التَّخْيِيرِ وَالْإِذْنِ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ شَاءَ لَكِنَّ قَوْلَهُ " إنَّا أَعْتَدْنَا " قَرِينَةٌ مَانِعَةٌ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ عَقْلًا إذْ لَا عَذَابَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمَا خُيِّرَ فِيهِ وَأُذِنَ، وَهَذِهِ الْقَرِينَةُ لَفْظٌ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الْمَوْضُوعِ لِلتَّخْيِيرِ، وَكَذَا كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَجَازٌ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ لَا حَقِيقَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِقَرِينَةِ مَنْ شَاءَ إذْ لَا يَخْتَصُّ الْإِيمَانُ شَرْعًا بِمَنْ شَاءَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَبِدَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَقَوْلُهُ {إِنَّا أَعْتَدْنَا} [الكهف: 29] الْآيَةَ. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُ الْقَرِينَةِ الَّتِي هِيَ لَفْظٌ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ قَسِيمًا لِلْقَرِينَةِ الَّتِي هِيَ خَارِجَةٌ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ وَالْكَلَامِ؟ قُلْنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا لَفْظٌ فَتَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فَلَا تَكُونُ خَارِجَةً عَنْ الْكَلَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَرِينَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مَعْنًى مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ تَكُونَ لَفْظًا أَوْ لَا، وَاللَّفْظُ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْ الْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْمَجَازُ أَوْ لَا، وَغَيْرُ الْخَارِجِ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ مَا يَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَنْعِ عَنْ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ بِاعْتِبَارِ أَوْلَوِيَّةِ بَعْضِ

أَوْ غَيْرُ خَارِجٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ أَوْلَى كَمَا ذَكَرْنَا فِي التَّخْصِيصِ أَوْ لَمْ يَكُنْ نَحْوَ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» «وَرُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ» لِأَنَّ عَيْنَ فِعْلِ الْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ بِالنِّيَّةِ وَعَيْنَ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ بَلْ الْمُرَادُ الْحُكْمُ، وَهُوَ نَوْعَانِ الْأَوَّلُ الثَّوَابُ وَالْإِثْمُ وَالثَّانِي الْجَوَازُ وَالْفَسَادُ وَنَحْوُهُمَا وَالْأَوَّلُ بِنَاءً عَلَى صِدْقِ عَزِيمَتِهِ وَالثَّانِي بِنَاءً عَلَى رُكْنِهِ وَشَرْطِهِ فَإِنَّ مَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَفْرَادِ مَفْهُومِهِ بِالْإِرَادَةِ مِنْ اللَّفْظِ لِاخْتِصَاصِ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِنُقْصَانٍ كَالْمُكَاتَبِ مِنْ أَفْرَادِ الْمَمْلُوكِ أَوْ بِزِيَادَةٍ كَالْعِنَبِ مِنْ أَفْرَادِ الْفَاكِهَةِ فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ اخْتِصَاصِهِ بِالْبَعْضِ الْأَوْلَى، وَهَذَا الَّذِي يُسَمِّيهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَقِيقَةً قَاصِرَةً، وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيمَا سَبَقَ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ مِنْ وَجْهٍ مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَاهُنَا أَنَّهُ مَانِعٌ عَنْ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ عَقْلًا أَوْ حِسًّا أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَانِعٌ عَادَةً، وَقَدْ جَعَلَهُ فِيمَا سَبَقَ قَسِيمًا لِدَلَالَةِ الْعَادَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْعَادَةِ ثَمَّةَ مَا يَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ دُونَ الْأَقْوَالِ، وَالثَّانِي مَا لَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَوْلَوِيَّةِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ، وَذَكَرَ لَهُ ثَمَانِيَةَ أَمْثِلَةٍ تَمْنَعُ الْقَرِينَةَ عَنْ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ فِي الْأَوَّلَيْنِ عَقْلًا، وَفِي الثَّالِثِ، وَالرَّابِعِ، وَالْخَامِسِ حِسًّا مَعَ الْعُرْفِ فِي الْخَامِسِ، وَفِي السَّادِسِ عُرْفًا وَفِي الثَّامِنِ شَرْعًا فَلِذَا أَعَادَ لَفْظَ نَحْوَ، وَفِي السَّابِعِ إمَّا عُرْفًا عَامًّا أَوْ خَاصًّا أَوْ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَلِذَا خَالَفَ بِهِ غَيْرَهُ، وَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْكَافِ. (قَوْلُهُ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) رُوِيَ مُصَدَّرًا بِإِنَّمَا، وَمُجَرَّدًا عَنْهَا، وَكِلَاهُمَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، وَالْمُرَادُ بِالنِّيَّةِ قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي إيجَادِ الْفِعْلِ فَلَوْ سَقَطَ فِي الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ أَوْ غَسَلَ أَعْضَاءَهُ لِلتَّبَرُّدِ لَمْ يَكُنْ نَاوِيًا، وَنَفْسُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَقْلًا عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ حَقِيقَتِهِ إذْ قَدْ يَحْصُلُ الْعَمَلُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بَلْ الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ حُكْمُهَا بِاعْتِبَارِ إطْلَاقِ الشَّيْءِ عَلَى أَثَرِهِ وَمُوجَبِهِ، وَالْحُكْمُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ، وَهُوَ الثَّوَابُ فِي الْأَعْمَالِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى النِّيَّةِ، وَالْإِثْمُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ، وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَهُوَ الْجَوَازُ وَالْفَسَادُ، وَالْكَرَاهَةُ، وَالْإِسَاءَةُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالنَّوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَبْنَى الْأَوَّلِ عَلَى صِدْقِ الْعَزِيمَةِ، وَخُلُوصِ النِّيَّةِ فَإِنْ وُجِدَ وُجِدَ الثَّوَابُ، وَإِلَّا فَلَا، وَمَبْنَى الثَّانِي عَلَى وُجُودِ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ صَحَّ وَإِلَّا فَلَا، سَوَاءٌ اشْتَمَلَ عَلَى صِدْقِ الْعَزِيمَةِ أَوْ لَا إذَا صَارَ اللَّفْظُ مَجَازًا عَنْ النَّوْعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِحَسَبِ الْوَضْعِ النَّوْعِيِّ فَلَا يَجُوزُ إرَادَتُهُمَا جَمِيعًا أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا عُمُومَ لَهُ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ الْمَجَازَ لَا عُمُومَ لَهُ بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ النَّوْعَيْنِ فَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى النَّوْعِ الثَّانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ مِنْ بَعْثَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَانُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْفَهْمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ صِحَّةَ الْأَعْمَالِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالنِّيَّةِ

تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ جَاهِلًا وَصَلَّى لَمْ يَجُزْ فِي الْحُكْمِ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ لِصِدْقِ عَزِيمَتِهِ، وَلَمَّا اخْتَلَفَ الْحُكْمَانِ صَارَ الِاسْمُ بَعْدَ كَوْنِهِ مَجَازًا مُشْتَرَكًا فَلَا يَعُمُّ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا عُمُومَ لَهُ وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْمَجَازَ لَا عُمُومَ لَهُ (فَإِذَا ثَبَتَ أَحَدُهُمَا) وَهُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَحَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَيْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الثَّوَابَ ثَابِتٌ اتِّفَاقًا إذْ لَا ثَوَابَ بِدُونِ النِّيَّةِ فَلَوْ أُرِيدَ الصِّحَّةُ أَيْضًا يَلْزَمُ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ أَوْ الْمَجَازِ، الثَّانِي أَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الثَّوَابِ لَكَانَ بَاقِيًا عَلَى عُمُومِهِ إذْ لَا ثَوَابَ بِدُونِ النِّيَّةِ أَصْلًا بِخِلَافِ الصِّحَّةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ بِدُونِ النِّيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى الثَّوَابِ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ بِدُونِ النِّيَّةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الثَّوَابُ فَعِنْدَ تَخَلُّفِ الثَّوَابِ لَا تَبْقَى الصِّحَّةُ فَالْوُضُوءُ فِي كَوْنِهِ عِبَادَةً يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ وَفِي كَوْنِهِ مِفْتَاحًا لِلصَّلَاةِ لَا يَفْتَقِرُ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الثَّوَابَ مُرَادٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَعَدَمُ الثَّوَابِ بِدُونِ النِّيَّةِ اتِّفَاقًا لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِأَنَّ مُوَافَقَةَ الْحُكْمِ لِلدَّلِيلِ لَا تَقْتَضِي إرَادَتَهُ مِنْهُ وَثُبُوتَهُ بِهِ لِيَلْزَمَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ بِمَعْنَى إرَادَةِ مَعْنَيَيْهِ مَثَلًا قَوْلُنَا الْعَيْنُ جِسْمٌ لَيْسَ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ فِي شَيْءٍ، وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِالْجِسْمِيَّةِ ثَابِتًا لِمَعَانِيهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ عُمُومِ الْمَجَازِ مِمَّا لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ لَا الْمَجَازِ أَيْ حُكْمِ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ عَدَمَ بَقَاءِ الْأَعْمَالِ عَلَى الْعُمُومِ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إذْ لَا بُدَّ عِنْدَكُمْ مِنْ تَخْصِيصِهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الثَّوَابِ فَيُخَصُّ عِنْدَهُ أَيْضًا بِغَيْرِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ إلَى النِّيَّةِ بِإِجْمَاعٍ، وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّ انْتِفَاءَ الثَّوَابِ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الصِّحَّةِ لَوْ كَانَتْ الصِّحَّةُ عِبَارَةً عَنْ تَرَتُّبِ الْغَرَضِ، وَالْغَرَضُ هُوَ الثَّوَابُ أَمَّا لَوْ كَانَتْ الصِّحَّةُ عِبَارَةً عَنْ الْأَجْزَاءِ أَوْ دَفْعِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ أَوْ كَانَ الْغَرَضُ هُوَ الِامْتِثَالُ مُوَافَقَةً لِلشَّرْعِ فَلَا، وَأَمَّا خَامِسًا فَلِوُرُودِ الْإِشْكَالِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحُكْمَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا بِأَنْ يُوضَعَ بِإِزَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعًا عَلَى حِدَةٍ بَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ لِأَثَرِ الشَّيْءِ وَلَازِمِهِ فَيَعُمُّ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ وَالثَّوَابَ وَالْإِثْمَ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَمَا يَعُمُّ الْحَيَوَانُ الْإِنْسَانَ، وَالْفَرَسَ، وَغَيْرَهُمَا، وَاللَّوْنُ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ وَنَحْوَهُمَا، فَإِرَادَةُ النَّوْعَيْنِ لَا تَكُونُ مِنْ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ فِي شَيْءٍ، وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّا لَا نَعْنِي بِقَوْلِنَا الْأَعْمَالُ مَجَازٌ عَنْ الْحُكْمِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِنَا حُكْمُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ لِأَنَّ كَوْنَ الْحُكْمِ بِمَعْنَى الْأَثَرِ الثَّابِتِ بِالشَّيْءِ إنَّمَا هُوَ مِنْ أَوْضَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَاصْطِلَاحَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَمَلَ

الْحُكْمِ (وَهُوَ الثَّوَابُ اتِّفَاقًا لَمْ يَثْبُتْ الْآخَرُ) أَيْ النَّوْعُ الْآخَرُ وَهُوَ الْجَوَازُ (وَنَحْوُ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ وَلَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ حَتَّى إذَا اسْتَفَّ أَوْ كَرَعَ لَا يَحْنَثُ وَنَحْوُ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ وَكَالْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ وَنَحْوُ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ إلَى الْجَوَابِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ مَهْجُورٌ شَرْعًا وَهُوَ كَالْمَهْجُورِ عَادَةً فَيَتَنَاوَلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ) اعْلَمْ أَنَّ الْقَرِينَةَ إمَّا خَارِجَةٌ عَنْ الْمُتَكَلِّمِ وَالْكَلَامِ أَيْ لَا تَكُونُ مَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ أَيْ صِفَةً لَهُ وَلَا تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ أَوْ تَكُونُ مَعْنًى فِي الْمُتَكَلِّمِ أَوْ تَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ ثُمَّ هَذِهِ الْقَرِينَةُ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ إمَّا لَفْظٌ خَارِجٌ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَكُونُ الْمَجَازُ فِيهِ بَلْ يَكُونُ فِي كَلَامٍ آخَرَ أَيْ يَكُونُ ذَلِكَ اللَّفْظُ الْخَارِجُ دَالًّا عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ أَوْ غَيْرَ خَارِجٍ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ بَلْ عَيْنُ هَذَا الْكَلَامِ أَوْ شَيْءٌ مِنْهُ يَكُونُ دَالًّا عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ، ثُمَّ هَذَا الْقِسْمُ عَلَى نَوْعَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَفْرَادِ أَوْلَى كَمَا ذَكَرَ فِي التَّخْصِيصِ أَنَّ الْمُخَصِّصَ قَدْ يَكُونُ كَوْنَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ نَاقِصًا أَوْ زَائِدًا فَيَكُونُ اللَّفْظُ أَوْلَى بِالْبَعْضِ الْآخَرِ فَإِذَا قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَجَازٌ عَمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَثَرُ الْعَمَلِ وَلَازِمُهُ، وَذَلِكَ مَعَانٍ مُتَبَايِنَةٌ هِيَ الثَّوَابُ وَالْمَأْثَمُ وَالْجَوَازُ وَالْفَسَادُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالْأَعْمَالُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَكِ اللَّفْظِيِّ لِكَوْنِهَا مَوْضُوعَةً لِكُلٍّ مِنْهَا وَضْعًا نَوْعِيًّا عَلَى حِدَةٍ فَلَا يُرَادُ الْجَمِيعُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ إنَّمَا يَلْزَمُ عِنْدَ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِ الْمَجَازِ كَاللَّفْظِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَبَبِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ، وَمُسَبَّبِهِ وَمَحَلِّهِ وَحَالِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَفْرَادِ نَوْعٍ وَاحِدٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُلَابِسَ بِحَقِيقَةِ الْعَمَلِ لَيْسَ هُوَ الثَّوَابُ أَوْ الصِّحَّةُ مَثَلًا بِخُصُوصِهِ بَلْ أَثَرُهُ وَلَازِمُهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَهَذَا يَشْمَلُ الصِّحَّةَ وَالثَّوَابَ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مَجَازًا عَنْ الْحُكْمِ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ الْحُكْمُ بِإِزَائِهِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ هَذَا الْوَضْعُ أَوْ تَأَخَّرَ أَوْ لَمْ يُوضَعْ قَطُّ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُ الْحُكْمِ مُتَحَقِّقًا فَإِنَّ اللَّفْظَ مَجَازٌ عَنْ الْمَعْنَى لَا عَنْ اللَّفْظِ (قَوْلُهُ وَنَحْوُ لَا يَأْكُلُ) حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَإِنْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ الْكَلَامُ فَعَلَى مَا نَوَى، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ الشَّجَرَةُ مِمَّا يَأْكُلُ كَالرِّيبَاسِ فَعَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ مُثْمِرَةً كَالنَّخْلَةِ فَعَلَى ثَمَرَتِهَا، وَإِلَّا فَعَلَى ثَمَنِهَا كَشَجَرَةِ الْخِلَافِ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ فَإِنْ كَانَتْ مَلْأَى فَعَلَى الِاغْتِرَافِ عِنْدَهُمَا، وَعَلَى الْكَرْعِ عِنْدَهُ، وَإِلَّا فَعَلَى الِاغْتِرَافِ حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِالْكَرْعِ، وَهُوَ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَاءَ بِفِيهِ مِنْ مَوْضِعِهِ يُقَالُ كَرَعَ فِي الْمَاءِ إذَا أَدْخَلَ فِيهِ أَكَارِعَهُ بِالْخُصُوصِ فِيهِ لِيَشْرَبَ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الدَّابَّةِ لِأَنَّهَا لَا تَكَادُ تَشْرَبُ الْمَاءَ إلَّا بِإِدْخَالِ أَكَارِعِهَا فِيهِ ثُمَّ قِيلَ لِلْإِنْسَانِ كَرَعَ فِي الْمَاءِ إذَا شَرِبَ

لَا يَقَعُ عَلَى الْمُكَاتَبِ مَعَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ حَقِيقَةً فَيَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مَجَازًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُكَاتَبِ أَوْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْأَفْرَادِ أَوْلَى فَانْحَصَرَتْ الْقَرِينَةُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ جَعَلَ فِي فَصْلِ التَّخْصِيصِ كَوْنَ بَعْضِ الْأَفْرَادِ أَوْلَى مِنْ قِسْمِ الْمُخَصِّصِ غَيْرِ الْكَلَامِيِّ وَهُنَا جُعِلَ مِنْ قِسْمِ الْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْنَا الْمُرَادُ بِالْمُخَصِّصِ الْكَلَامِيِّ أَنَّ الْكَلَامَ بِصَرِيحِهِ يُوجِبُ فِي بَعْضِ الْأَفْرَادِ حُكْمًا مُنَاقِضًا لِحُكْمٍ يُوجِبُهُ الْعَامُّ وَكُلُّ مُخَصِّصٍ لَيْسَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَلَامِيًّا فَيَكُونُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ أَوْلَى بِكَوْنِهِ مُخَصَّصًا غَيْرَ كَلَامِيٍّ بِهَذَا التَّفْسِيرِ وَهَاهُنَا نَعْنِي بِالْقَرِينَةِ اللَّفْظِيَّةِ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ اللَّفْظِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ أَنَّ الْحَقِيقَةَ غَيْرُ مُرَادَةٍ وَفِي كُلِّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ يُفْهَمُ مِنْ اللَّفْظِ عَدَمُ تَنَاوُلِهِ الْمُكَاتَبَ فَتَكُونُ الْقَرِينَةُ لَفْظِيَّةً، جِئْنَا إلَى الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ فَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ فَنَظِيرُهُ مَذْكُورٌ عَقِيبَ ذَلِكَ الْقِسْمِ لَكِنْ لَمْ نَذْكُرْهُ فِي كُلِّ مِثَالٍ أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمَانِعَةَ مِنْ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ مَانِعَةٌ عَقْلًا أَوْ حِسًّا أَوْ عَادَةً أَوْ شَرْعًا فَنُبَيِّنُ هُنَا هَذَا الْمَعْنَى فَفِي يَمِينِ الْفَوْرِ كَمَا إذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ الْخُرُوجَ فَقَالَ إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ يُحْمَلُ عَلَى الْفَوْرِ فَالْقَرِينَةُ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ عُرْفًا وَالْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ الْخُرُوجُ مُطْلَقًا وَفِي قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: 64] الْقَرِينَةُ تَمْنَعُ الْحَقِيقَةَ عَقْلًا وَكَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] لِأَنَّ التَّخْيِيرَ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ مَعَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَاءَ بِفِيهِ أَوْ لَمْ يَخُصَّ (قَوْلُهُ وَكَالْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ) فَإِنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ قَرِينَةٌ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ عُرْفًا عَامًّا كَالدَّابَّةِ أَوْ خَاصًّا كَالْفَاعِلِ أَوْ شَرْعًا كَالصَّلَاةِ (قَوْلُهُ وَنَحْوُ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ) فَإِنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ قَرِينَةٌ مَانِعَةٌ شَرْعًا عَنْ إرَادَةِ حَقِيقَةِ الْخُصُومَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْخُصُومَةَ مَجَازٌ عَنْ مُطْلَقِ الْجَوَابِ إقْرَارًا كَانَ أَوْ إنْكَارًا بِطَرِيقِ اسْتِعْمَالِ الْمُقَيَّدِ فِي الْمُطْلَقِ أَوْ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ بِنَاءً عَلَى عُمُومِ الْجَوَابِ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ الَّذِي يَنْشَأُ مِنْهُ الْخُصُومَةُ بَعْضُ الْجَوَابِ حَتَّى يَصِحَّ قَرَارُهُ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا يَصِحُّ شَرْعًا بِمَا يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَالْإِنْكَارَ عِنْدَمَا يَعْرِفُ الْمُدَّعِيَ مُحِقًّا فَيَكُونُ مَهْجُورًا شَرْعًا، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَهْجُورِ عَادَةً فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ كَمَا لَا يُعْتَدُّ بِالْحَقِيقَةِ فِي مَسَائِلِ أَكْلِ النَّخْلَةِ وَالدَّقِيقِ وَالشُّرْبِ مِنْ الْبِئْرِ لَا يُقَالُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الْإِقْرَارُ وَلَا يَصِحُّ الْإِنْكَارُ أَصْلًا، لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا صَحَّ مِنْ جِهَةِ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمَجَازِ، وَإِنَّمَا الْمَهْجُورُ، هُوَ الْإِنْكَارُ بِالتَّعْيِينِ مُحِقًّا كَانَ الْمُدَّعِي أَوْ غَيْرَ مُحِقٍّ لَا يُقَالُ الْوَاجِبُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ الْعُدُولُ إلَى أَقْرَبِ الْمَجَازَاتِ كَالْبَحْثِ وَالْمُدَافَعَةِ لَا إلَى أَبْعَدِهَا كَالْإِقْرَارِ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُدَافَعَةُ هِيَ عَيْنُ الْخُصُومَةِ، وَكَذَا الْبَحْثُ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمُجَادَلَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ التَّفَحُّصُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ ثُمَّ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهَا

[مسألة قد يتعذر المعنى الحقيقي والمجازي معا]

الْعَذَابِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا} [الكهف: 29] مُمْتَنِعٌ عَقْلًا وَفِي قَوْلِهِ طَلِّقْ امْرَأَتِي إنْ كُنْتَ رَجُلًا الْحَقِيقَةُ مُمْتَنِعَةٌ عُرْفًا وَفِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الْحَقِيقَةُ غَيْرُ مُرَادَةٍ عَقْلًا وَفِي لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَوْ الدَّقِيقِ حِسًّا وَفِي لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذِهِ الْبِئْرِ حِسًّا وَعُرْفًا وَفِي لَا يَضَعُ قَدَمَهُ عُرْفًا وَفِي الْأَسْمَاءِ الْمَنْقُولَةِ إمَّا عُرْفًا عَامًّا أَوْ خَاصًّا أَوْ شَرْعًا وَفِي التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ شَرْعًا فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ مُمْتَنِعٌ فِي قَوْلِهِ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ حِسًّا لِأَنَّ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ عَدَمُ أَكْلِهَا وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ حِسًّا بَلْ أَكْلُهَا كَذَلِكَ، قُلْنَا الْيَمِينُ إذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ كَانَتْ لِلْمَنْعِ فَوَجَبَ الْيَمِينُ أَنْ يَصِيرَ مَمْنُوعًا بِالْيَمِينِ وَمَا لَا يَكُونُ مَأْكُولًا حِسًّا أَوْ عَادَةً لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا بِالْيَمِينِ ثُمَّ عُطِفَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ قَوْلُهُ (فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً وَالْمَجَازُ مُتَعَارَفًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يُتْرَكُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَعِنْدَهُمَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ أَوْلَى وَنَظِيرُهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ يُصْرَفُ إلَى الْقَضْمِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا إلَى أَكْلِ مَا فِيهَا) (مَسْأَلَةٌ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ هَذِهِ بِنْتِي أَمَّا الْحَقِيقَةُ) أَيْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ (وَهُوَ النَّسَبُ فِي الْفَصْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَهُوَ عَيْنُ الْجَوَابِ، وَالْخُصُومَةُ لَمْ تُجْعَلْ مَجَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ ضِدُّهَا بَلْ عَمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ كَمَا هُوَ الْوَاجِبُ (قَوْلُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ) عَطْفُ هَذَا الْبَحْثِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ اشْتِرَاطِ الْقَرِينَةِ فِي الْمَجَازِ لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ تَعَارُفَ الْمَجَازِ هَلْ يَكُونُ قَرِينَةً مَانِعَةً عَنْ إرَادَةِ حَقِيقَةٍ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ أَمْ لَا فَتَقُولُ إنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا كَانَتْ مَهْجُورَةً فَالْعَمَلُ بِالْمَجَازِ اتِّفَاقًا، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَصِرْ الْمَجَازُ مُتَعَارَفًا أَيْ غَالِبًا فِي التَّعَامُلِ عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ، وَفِي التَّفَاهُمِ عِنْدَ الْبَعْضِ فَالْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ صَارَ مُتَعَارَفًا فَعِنْدَهُ الْعِبْرَةُ بِالْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يُتْرَكُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَعِنْدَهُمَا الْعِبْرَةُ بِالْمَجَازِ لِأَنَّ الْمَرْجُوحَ فِي مُقَابَلَةِ الرَّاجِحِ سَاقِطٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَهْجُورِ فَيُتْرَكُ ضَرُورَةً، وَجَوَابُهُ أَنَّ غَلَبَةَ اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ لَا تَجْعَلُ الْحَقِيقَةَ مَرْجُوحَةً لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِهَا فَيَكُونُ الِاسْتِعْمَالُ فِي حَدِّ التَّعَارُضِ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِتَرَجُّحِ الْمَجَازِ الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كَانَ عَامًّا مُتَنَاوِلًا لِلْحَقِيقَةِ أَمْ لَا، وَفِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَغَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُمَا إذَا تَنَاوَلَ الْحَقِيقَةَ بِعُمُومِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ أَكْلِ الْحِنْطَةِ حَيْثُ قَالُوا إنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي جِهَةِ خَلْفِيَّةِ الْمَجَازِ فَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَتْ الْخَلَفِيَّةُ فِي الْحُكْمِ كَانَ حُكْمُ الْمَجَازِ لِعُمُومِهِ حُكْمَ الْحَقِيقَةِ أَوْلَى وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ فِي التَّكَلُّمِ كَانَ جَعْلُ الْكَلَامِ عَامِلًا فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ أَوْلَى [مَسْأَلَةٌ قَدْ يَتَعَذَّرُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَالْمَجَازِيُّ مَعًا] (قَوْلُهُ أَوْ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ) قَيَّدَ الْأَصْغَرَ بِذَلِكَ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْحَقِيقَةِ فِيهَا أَظْهَرُ، وَإِلَّا فَفِي الْأَصْغَرِ الْمَجْهُولَةِ النَّسَبِ أَيْضًا لَا يَثْبُتُ لِلتَّحْرِيمِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ

الْأَوَّلِ) أَيْ فِي الْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ (فَظَاهِرٌ وَفِي الثَّانِي فَلِأَنَّهَا) أَيْ الْحَقِيقَةَ وَالْمُرَادُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ (إمَّا أَنْ تَثْبُتَ مُطْلَقًا أَيْ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ مَنْ اشْتَهَرَ النَّسَبُ مِنْهُ) أَيْ تَكُونُ دَعْوَتُهُ مُعْتَبَرَةً فِي حَقِّهِمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَيَنْتَفِي مِمَّنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُ (وَلَا يُمْكِنُ هَذَا) أَيْ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الْمُدَّعِي وَانْتِفَاؤُهُ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُ (لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُ أَوْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَطْ) أَيْ يَثْبُتُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ النَّسَبُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَطْ بِأَنْ يَثْبُتَ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَفِيَ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُ (وَذَا مُتَعَذِّرٌ) أَيْ الثُّبُوتُ فِي حَقِّ (نَفْسِهِ فَقَطْ) لِأَنَّ الشَّرْعَ يُكَذِّبُهُ لِاشْتِهَارِهِ مِنْ الْغَيْرِ (فَلَا يَكُونُ) أَيْ تَكْذِيبُ الشَّرْعِ الْمُدَّعِيَ (أَقَلَّ مِنْ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ وَالنَّسَبُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْذِيبَ وَالرُّجُوعَ بِخِلَافِ الْعِتْقِ) فِي أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْذِيبَ وَالرُّجُوعَ (وَأَمَّا الْمَجَازُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَمَّا الْحَقِيقَةُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ مُتَعَذِّرٌ (وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهَذَا) أَيْ بِلَفْظِ هَذِهِ بِنْتِي (مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ) بَيَانُهُ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ التَّحْرِيمُ الَّذِي يَقْتَضِي صِحَّةَ النِّكَاحِ السَّابِقِ أَوْ التَّحْرِيمُ الَّذِي لَا يَقْتَضِيهَا وَالثَّانِي مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ مَعْرُوفَةِ النَّسَبِ هَذِهِ بِنْتِي يَكُونُ لَغْوًا فَعُلِمَ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ الَّذِي يَقْتَضِي صِحَّةَ النِّكَاحِ السَّابِقِ وَيَكُونُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ كَالطَّلَاقِ، وَذَلِكَ أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ الَّذِي يَقْتَضِي بُطْلَانَ النِّكَاحِ السَّابِقِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهِ التَّحْرِيمُ الَّذِي هُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْرِيرَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQفَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَالْمَبْسُوطِ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْعِتْقِ) كَانَ الْأَنْسَبُ ذِكْرَهُ عَقِيبَ بَيَانِ تَعَذُّرِ الْمَجَازِ أَيْضًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُوجِبَ الْبُنُوَّةِ بَعْدَ الثُّبُوتِ عِتْقٌ قَاطِعٌ لِلْمِلْكِ كَإِنْشَاءِ الْعِتْقِ، وَلِهَذَا يَقَعُ عَنْ الْكَفَّارَةِ، وَيَثْبُتُ بِهِ الْوَلَاءُ لَا عِتْقٌ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ، وَلِهَذَا يَصِحُّ شِرَاءُ أُمِّهِ وَبِنْتِهِ فَإِثْبَاتُ الْعِتْقِ الْقَاطِعِ لِلْمِلْكِ مُتَصَوَّرٌ مِنْهُ، وَثَابِتٌ فِي وُسْعِهِ فَيُجْعَلُ هَذَا ابْنِي لِلْأَكْبَرِ سِنًّا مِنْهُ مَجَازًا عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الثَّابِتُ بِهَذِهِ بِنْتِي أَعْنِي التَّحْرِيمَ الَّذِي هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْبِنْتِيَّةِ فَهُوَ مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ فَالزَّوْجُ لَا يَمْلِكُ إثْبَاتَهُ إذْ لَيْسَ لَهُ تَبْدِيلُ مَحَلِّ الْحِلِّ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ التَّحْرِيمَ الْقَاطِعَ لِلْحِلِّ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ هَذَا الْكَلَامِ بَلْ مِنْ مُنَافِيَاتِهِ فَلَا تَصِحُّ اسْتِعَارَتُهُ لَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّحْرِيمَ الَّذِي هُوَ فِي وُسْعِهِ لَا يَصْلُحُ اللَّفْظُ لَهُ، وَاَلَّذِي يَصْلُحُ اللَّفْظُ لَهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ إثْبَاتُ التَّحْرِيمِ بِهَذَا اللَّفْظِ. فَإِنْ قِيلَ فَاللَّازِمُ لِقَوْلِنَا رَأَيْت أَسَدًا هُوَ شَجَاعَةُ السَّبُعِ فَكَيْفَ صَحَّ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْ الرَّجُلِ الشُّجَاعِ قُلْنَا الشَّجَاعَةُ فِيهِمَا مَعْنًى وَاحِدٌ فَصَحَّ لِلْمُتَكَلِّمِ الْإِخْبَارُ بِهَذَا الْكَلَامِ عَنْ رُؤْيَةِ مَنْ اتَّصَفَ بِهِ بِخِلَافِ التَّحْرِيمِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ (قَوْلُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ) الِاسْتِدْرَاكَ الْمَذْكُورَ، إنَّمَا هُوَ عَلَى مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ تَقْرِيرِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا عَلَى عِبَارَتِهِ فِي كِتَابِهِ الْمَشْهُورِ لِأَنَّهُ قَالَ

الْوَجْهِ أَنَّ الْحَقِيقَةَ إمَّا أَنْ تَثْبُتَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ مَنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُ وَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَوْ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَطْ ثُمَّ هَذَا إمَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّ النَّسَبِ وَذَا مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الشَّرْعَ يُكَذِّبُهُ أَوْ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ وَذَا لَا يُمْكِنُ أَيْضًا لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهَذَا مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْمَجَازُ وَهُوَ التَّحْرِيمُ فَلِتِلْكَ الْمُنَافَاةِ أَيْضًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّحْرِيمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحْرِيمِ الْأَوَّلِ مَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحْرِيمِ الثَّانِي مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَإِنَّ لَفْظَ السَّقْفِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَوْضُوعُ لَهُ دَالٌّ عَلَى الْجِدَارِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَلَا يَكُونُ هَذَا مَجَازًا بَلْ إنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا إذَا أُطْلِقَ السَّقْفُ وَأُرِيدَ بِهِ الْجِدَارُ فَأَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ فِي حَقِّ النَّسَبِ أَوْ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ لَهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لَا يُمْكِنُ ثُبُوتُ التَّحْرِيمِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْأَصْلِ فَهَذَا التَّرْدِيدُ يَكُونُ قَبِيحًا فَالدَّلِيلُ النَّافِي لِهَذَا التَّحْرِيمِ الْمَدْلُولِ الْتِزَامًا لَيْسَ كَوْنَهُ مُنَافِيًا لِمِلْكِ النِّكَاحِ بَلْ الدَّلِيلُ النَّافِي هُوَ عَدَمُ ثُبُوتِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَعُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَفِي الْأَصْغَرِ سِنًّا مِنْهُ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ مِمَّنْ اُشْتُهِرَ نَسَبُهَا مِنْهُ، وَفِي حَقِّ الْمُقِرِّ مُتَعَذِّرٌ أَيْضًا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْكَلَامِ لَوْ صَحَّ مَعْنَاهُ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ فَلَمْ يَصْلُحْ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الْمِلْكِ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ فِي الْفَصْلَيْنِ مُتَعَذِّرٌ لِهَذَا الْعُذْرِ الَّذِي أَبْلَيْنَاهُ أَيْ بَيَّنَّاهُ يَعْنِي أَنَّ الْحَقِيقَةَ فِي الْمَعْرُوفَةِ النَّسَبِ إمَّا أَنْ تُجْعَلَ ثَابِتَةً مُطْلَقًا أَيْ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ لِيَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْ الْمُقِرِّ، وَيَنْتَفِيَ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ النَّسَبَ مُشْتَهَرٌ مِنْ الْغَيْرِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِإِقْرَارِهِ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ، وَإِمَّا أَنْ تُجْعَلَ ثَابِتَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ لِيَظْهَرَ الْأَثَرُ فِي حَقِّ التَّحْرِيمِ لِكَوْنِهِ لَازِمًا لِلْمَدْلُولِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ، وَلَا ثُبُوتَ لِمُوجَبِهِ بِنَاءً عَلَى اشْتِهَارِ النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ مَدْلُولُهُ الْحَقِيقِيُّ لِيَثْبُتَ اللَّازِمُ بِتَبَعِيَّتِهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَثُبُوتِ مُوجَبِهِ فَالتَّحْرِيمُ اللَّازِمُ لَهُ مُنَافٍ لِمِلْكِ النِّكَاحِ فَيَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ مِنْ الزَّوْجِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ الثَّابِتَ بِهَذَا الْكَلَامِ لَوْ صَحَّ مَعْنَاهُ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ فَلَيْسَ فِي بَيَانِ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ مَا أَوْرَدَهُ فَقَطْ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ التَّرْدِيدِ الْقَبِيحِ، وَأَيْضًا لَمْ يَجْعَلْ دَلِيلَ تَعَذُّرِ التَّحْرِيمِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، وَهُوَ مُنَافَاتُهُ لِلْمِلْكِ ابْتِدَاءً بَلْ أَشَارَ إلَى أَنَّ دَلِيلَ تَعَذُّرِهِ عَدَمُ ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ الْحَقِيقِيِّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَا يَثْبُتُ التَّحْرِيمُ أَيْضًا لِلْمُنَافَاةِ فَبَيَّنَ تَعَذُّرَ التَّحْرِيمِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ، وَأَوْكَدِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَهِلَ عَنْ قَوْلِهِ لَوْ صَحَّ مَعْنَاهُ، وَخَرَجَ مِنْ قَوْلِهِ، وَفِي حَقِّ الْمُقِرِّ مُتَعَذِّرٌ أَيْضًا فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ قِسْمٌ آخَرُ مُقَابِلٌ لِحُكْمِ التَّحْرِيمِ، وَقَدْ سَكَتَ عَنْهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - احْتِرَازًا عَنْ

[مسألة الداعي إلى المجاز]

التَّحْرِيمِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَذَا مُتَعَذِّرٌ أَيْضًا لِلْمُنَافَاةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ رَدَّدَ بِهَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ التَّحْرِيمُ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ وَهُوَ مُحَالٌ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَهُوَ النَّسَبُ أَوْ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ وَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ لِلْمُنَافَاةِ الْمَذْكُورَةِ لَكَانَ أَحْسَنَ (مَسْأَلَةٌ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمَجَازَ يَحْتَاجُ إلَى عِدَّةِ أَشْيَاءَ: الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ وَهُوَ الْهَيْكَلُ الْمَخْصُوصُ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ وَهُوَ الْإِنْسَانُ الشُّجَاعُ وَالْمُسْتَعَارُ وَهُوَ لَفْظُ الْأَسَدِ وَالْعَلَاقَةُ وَهِيَ الشَّجَاعَةُ وَالْقَرِينَةُ الصَّارِفَةُ عَنْ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إلَى إرَادَةِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ وَهُوَ يَرْمِي فِي رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي وَالْأَمْرُ الدَّاعِي إلَى اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ فَإِنَّك إذَا حَاوَلْت أَنْ تُخْبِرَ عَنْ رُؤْيَةِ شُجَاعٍ فَالْأَصْلُ أَنْ تَقُولَ رَأَيْت شُجَاعًا فَإِذَا قُلْت رَأَيْت أَسَدًا فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ أَمْرٌ يَدْعُو إلَى تَرْكِ اسْتِعْمَالِ مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ وَاسْتِعْمَالِ مَا هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَجَازُ وَذَلِكَ الدَّاعِي إمَّا لَفْظِيٌّ وَإِمَّا مَعْنَوِيٌّ فَاللَّفْظِيُّ (اخْتِصَاصُ لَفْظِهِ) أَيْ لَفْظِ الْمَجَازِ (بِالْعُذُوبَةِ) فَرُبَّمَا يَكُونُ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ لَفْظًا رَكِيكًا كَلَفْظِ الْخَنْفَقِيقِ مَثَلًا وَلَفْظُ الْمَجَازِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّرْدِيدِ الْقَبِيحِ لَا يُقَالُ قَوْلُهُ أَيْضًا مُشْعِرٌ بِذَلِكَ أَيْ تَعَذَّرَ فِي حُكْمِ التَّحْرِيمِ أَيْضًا كَمَا تَعَذَّرَ فِي حُكْمِ إثْبَاتِ النَّسَبِ لِأَنَّا نَقُولُ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَحْدَهُ مُتَعَذِّرٌ أَيْضًا كَمَا تَعَذَّرَ مُطْلَقًا. (قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ) يُرِيدُ أَنَّ فَهْمَ اللَّازِمِ مِنْ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لِلْمَلْزُومِ، قَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَمَامُ الْمُرَادِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ مَجَازًا كَمَا إذَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْأَسَدِ فِي الشُّجَاعِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَازِمٌ لِلْمُرَادِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ حَقِيقَةً كَمَا إذَا أَطْلَقَ لَفْظَ الْأَسَدِ عَلَى السَّبُعِ، وَفُهِمَ الشُّجَاعُ بِتَبَعِيَّتِهِ عَلَى أَنَّهُ مَدْلُولٌ الْتِزَامِيٌّ فَمِثْلُ هَذِهِ بِنْتِي إذَا أُرِيدَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ كَانَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ مَدْلُولًا مَجَازِيًّا، وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ ثُبُوتُ الْبِنْتِيَّةِ كَانَ ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا، وَهَذَا مُشِيرٌ إلَى أَنَّ اللَّفْظَ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي جُزْءِ الْمَعْنَى أَوْ لَازِمِهِ مَجَازًا فَدَلَالَتُهُ مُطَابِقَةٌ لِأَنَّهَا دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ بِالنَّوْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ إذَا اُسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ فِي الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَفُهِمَ الْجُزْءُ اللَّازِمُ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ وَبِتَبَعِيَّتِهِ فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ أَيْضًا دَلَالَةٌ عَلَى تَمَامِ مَا وُضِعَ لَهُ بِالنَّوْعِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ لِتَحَقُّقِ فَهْمِ الْجُزْءِ اللَّازِمِ فِي ضِمْنِ الْكُلِّ وَالْمَلْزُومِ سَوَاءٌ ثَبَتَ الْوَضْعُ النَّوْعِيُّ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ بِخِلَافِ فَهْمِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا تَمَامُ الْمُرَادِ كَمَا فِي الْمَجَازِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَضْعِ النَّوْعِيِّ، وَجَوَازِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ، وَالْمَلْزُومِ فِي اللَّازِمِ، هَذَا هُوَ اخْتِيَارُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الْمَجَازِ مَعْنَاهُ تَضَمُّنٌ أَوْ الْتِزَامٌ لَا مُطَابَقَةٌ [مَسْأَلَةٌ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ] (قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ الْمَجَازَ) أَوْرَدَ الْبَيَانَ فِي نَوْعِ الِاسْتِعَارَةِ تَمْثِيلًا وَتَوْضِيحًا (قَوْلُهُ فَرُبَّمَا يَكُونُ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ لَفْظًا رَكِيكًا) قَابَلَ

يَكُونُ أَعْذَبَ مِنْهُ (أَوْ صَلَاحِيَّتُهُ لِلشِّعْرِ) أَيْ إذَا اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ لَا يَكُونُ الْكَلَامُ مَوْزُونًا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْمَجَازِ يَكُونُ مَوْزُونًا (أَوْ لِسَجْعٍ) فَإِذَا كَانَ السَّجْعُ دَالِيًّا مِثْلَ الْأَحَدِ وَالْعَدَدِ فَلَفْظُ الْأَسَدِ يَسْتَقِيمُ فِي السَّجْعِ لَا لَفْظُ الشُّجَاعِ (أَوْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ) كَالتَّجْنِيسَاتِ وَنَحْوِهَا فَرُبَّمَا يَحْصُلُ التَّجْنِيسُ بِلَفْظِ الْمَجَازِ لَا الْحَقِيقَةِ نَحْوَ الْبِدْعَةُ شَرَكُ الشِّرْكِ فَإِنَّ الشَّرَكَ هُنَا مَجَازٌ اُسْتُعْمِلَ لِيُجَانِسَ الشِّرْكَ فَإِنَّ بَيْنَهُمَا شَبَهَ الِاشْتِقَاقِ (أَوْ مَعْنَاهُ) أَيْ اخْتِصَاصِ مَعْنَاهُ فَمِنْ هُنَا شَرَعَ فِي الدَّاعِي الْمَعْنَوِيِّ (بِالتَّعْظِيمِ) كَاسْتِعَارَةٍ اسْمِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِرَجُلٍ عَالِمٍ فَقِيهٍ مُتَّقٍ (أَوْ التَّحْقِيرِ) كَاسْتِعَارَةِ الْهَمَجِ وَهُوَ الذُّبَابُ لِلصَّغِيرِ الْجَاهِلِ (أَوْ التَّرْغِيبِ أَوْ التَّرْهِيبِ) أَيْ اخْتِصَاصِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِالتَّرْغِيبِ أَوْ التَّرْهِيبِ كَاسْتِعَارَةِ مَاءِ الْحَيَاةِ لِبَعْضِ الْمَشْرُوبَاتِ لِيَرْغَبَ السَّامِعُ وَاسْتِعَارَةِ السُّمِّ لِبَعْضِ الْمَطْعُومَاتِ لِيَتَنَفَّرَ السَّامِعُ (أَوْ زِيَادَةِ الْبَيَانِ) أَيْ اخْتِصَاصِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ بِزِيَادَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّ قَوْلَك رَأَيْت أَسَدًا يَرْمِي أَبْيَنُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الشَّجَاعَةِ مِنْ قَوْلِك رَأَيْت شُجَاعًا (فَإِنَّ ذِكْرَ الْمَلْزُومِ بَيِّنَةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ) وَفِي الْمَجَازِ أَطْلَقَ اسْمَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ فَاسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ يَكُونُ دَعْوَى الشَّيْءِ بِالْبَيِّنَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْحَقِيقَةِ يَكُونُ دَعْوَى بِلَا بَيِّنَةٍ (أَوْ تَلَطُّفُ الْكَلَامِ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَاخْتِصَاصُ لَفْظِهِ أَيْ الدَّاعِي إلَى اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ قَدْ يَكُونُ تَلَطُّفَ الْكَلَامِ كَاسْتِعَارَةِ بَحْرٍ مِنْ الْمِسْكِ مَوْجِهِ الذَّهَبِ لِفَحْمٍ فِيهِ جَمْرٌ مُوقَدٌ (فَيُفِيدُ لَذَّةً تَخَيُّلِيَّةً وَزِيَادَةَ شَوْقٍ إلَى إدْرَاكِ مَعْنَاهُ فَيُوجِبُ سُرْعَةَ التَّفَهُّمِ، أَوْ مُطَابَقَةُ تَمَامِ الْمُرَادِ) بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْ تَلَطُّفُ الْكَلَامِ أَيْ الدَّاعِي إلَى اسْتِعْمَالِ الْمَجَازِ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ مُطَابَقَةَ تَمَامِ الْمُرَادِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَذْبَ بِالرَّكِيكِ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُهُ الْوَحْشِيُّ الَّذِي يَتَنَفَّرُ الطَّبْعُ عَنْهُ إلَّا أَنَّهُ مُشَاحَّةٌ فِي الِاصْطِلَاحِ لَكِنَّ اسْمَ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ، وَلَفْظُ الْمَجَازِ يَكُونُ أَعْذَبَ مِنْهُ يَقْتَضِي وُجُودَ الْعُذُوبَةِ فِي اللَّفْظِ الرَّكِيكِ الْحَقِيقِيِّ كَالْخِنْفَقِيقِ فَيَجِبُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ الشِّتَاءُ أَبْرَدُ مِنْ الصَّيْفِ، وَالْعَسَلُ أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ. (قَوْلُهُ أَوْ أَصْنَافِ الْبَدِيعِ) أَيْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ مِنْ الْمُقَابَلَةِ، وَالْمُطَابَقَةِ، وَالتَّجْنِيسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَتَأَتَّى بِالْمَجَازِ، وَيَفُوتُ بِالْحَقِيقَةِ، وَيَدْخُلُ فِيهَا السَّجْعُ أَيْضًا وَقَدْ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ (قَوْلُهُ أَوْ مُطَابَقَةُ تَمَامِ الْمُرَادِ) هَذَا وَتَلَطُّفُ الْكَلَامِ أَيْضًا مِنْ الدَّاعِي الْمَعْنَوِيِّ، وَالْعَطْفُ عَلَى اخْتِصَاصِ لَفْظِهِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ ذُكِرَ فِي الْمِفْتَاحِ أَنَّ عِلْمَ الْبَيَانِ هُوَ مَعْرِفَةُ إيرَادِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ بِالزِّيَادَةِ فِي وُضُوحِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، وَبِالنُّقْصَانِ لِيُتَحَرَّزَ بِالْوُقُوفِ عَلَى ذَلِكَ عَنْ الْخَطَأِ فِي مُطَابَقَةِ الْكَلَامِ تَمَامَ الْمُرَادِ، وَفَسَّرُوهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أَدَاءُ الْمَعْنَى بِكَلَامٍ مُطَابِقٍ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، وَتَمَامُ الْمُرَادِ إيرَادُهُ بِتَرَاكِيبَ مُخْتَلِفَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وُضُوحًا، وَخَفَاءً

[فصل الاستعارة التبعية في الحروف]

مَعْنَاهُ مُطَابَقَةَ تَمَامِ الْمُرَادِ فِي زِيَادَةِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ أَوْ نُقْصَانِ وُضُوحِ الدَّلَالَةِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْأَلْفَاظِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى مَعَانِيهَا تَكُونُ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فَإِنْ حَاوَلْت أَنْ تُؤَدِّيَ الْمَعْنَى بِدَلَالَةٍ أَوْضَحَ مِنْ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ أَوْ أَخْفَى مِنْهُ فَلَا بُدَّ أَنْ تَسْتَعْمِلَ لَفْظَ الْمَجَازِ فَإِنَّ الْمَجَازَاتِ مُتَكَثِّرَةٌ فَبَعْضُهَا أَوْضَحُ فِي الدَّلَالَةِ وَبَعْضُهَا أَخْفَى. فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ دَلَالَةُ لَفْظِ الْمَجَازِ أَوْضَحَ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الْحَقِيقَةِ بَلْ الْمَجَازُ مُخِلٌّ بِالْفَهْمِ قُلْنَا لَمَّا كَانَتْ الْقَرِينَةُ مَذْكُورَةً ارْتَفَعَ الْإِخْلَالُ بِالْفَهْمِ ثُمَّ إذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِنْهُ أَمْرًا مَحْسُوسًا وَيَكُونُ أَشْهَرَ الْمَحْسُوسَاتِ الْمُتَّصِفَةِ بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ وَالْمُسْتَعَارُ لَهُ مَعْقُولًا كَانَ الْمَجَازُ أَوْضَحَ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَأَيْضًا مَا ذُكِرَ أَنَّ ذِكْرَ الْمَلْزُومِ بَيِّنَةٌ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ وَأَنَّ الْمَجَازَ يُوجِبُ سُرْعَةَ التَّفَهُّمِ يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤَدِّيَ بِعِبَارَةِ لِسَانِهِ كُنْهَ مَا فِي قَلْبِهِ فَإِنَّك إذَا أَرَدْت وَصْفَ الشَّيْءِ بِالسَّوَادِ عَلَى مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ فَأَصْلُ الْمُرَادِ أَنْ تَصِفَهُ بِالسَّوَادِ وَتَمَامُ الْمُرَادِ أَنْ تَصِفَهُ بِالسَّوَادِ الْمَخْصُوصِ فَاللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ الْمُرَادِ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى تَمَامِ الْمُرَادِ وَهُوَ بَيَانُ كَمِّيَّةِ السَّوَادِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ شَيْءٌ يَعْرِفُ بِهِ السَّامِعُ كَمِّيَّةَ سَوَادِهِ فَيُشَبَّهَ بِهِ أَوْ يُسْتَعَارَ لَهُ لِيَتَبَيَّنَ لِلسَّامِعِ تَمَامُ الْمُرَادِ (أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ) بِالرَّفْعِ أَيْضًا أَيْ يَكُونُ الدَّاعِي إلَى الْمَجَازِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ (مِمَّا ذَكَرْنَا فِي مُقَدَّمَةِ كِتَابِ الْوِشَاحِ وَفِي فَصْلَيْ التَّشْبِيهِ وَالْمَجَازِ) فَإِنِّي قَدْ ذَكَرْت فِي مُقَدَّمَتِهِ وَفِي فَصْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِالدَّلَالَاتِ الْوَضْعِيَّةِ وَالْأَلْفَاظِ الْحَقِيقِيَّةِ لِتَسَاوِيهَا فِي الدَّلَالَةِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ، وَعُدَّ مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِهِ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ بِالدَّلَالَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ لِاخْتِلَافِ مَرَاتِبِ اللُّزُومِ فِي الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ فَإِذَا قُصِدَ مُطَابَقَةُ تَمَامِ الْمُرَادِ وَتَأْدِيَةُ الْمَعْنَى بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي الْوُضُوحِ وَالْخَفَاءِ يُعْدَلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ لِيَتَيَسَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ كَوْنِ بَعْضِ الْمَجَازَاتِ أَوْضَحَ دَلَالَةً مِنْ الْحَقِيقَةِ كَمَا الْتَزَمَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَبَيَّنَهُ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ لِلَّفْظِ مَحْسُوسًا مَشْهُورًا كَالشَّمْسِ وَالنُّورِ، وَالْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ مَعْقُولًا كَالْحَاجَةِ وَالْعِلْمِ كَانَ الْمَجَازُ أَوْضَحَ دَلَالَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ الْحَقِيقَةِ عَلَى أَنَّ فِيهِ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَعْنَى مَا يُقْصَدُ بِاللَّفْظِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا كَالْحُجَّةِ أَوْ الْعِلْمِ مَثَلًا فَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ عَلَيْهِ أَوْضَحُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْوَضْعِ مِنْ دَلَالَةِ لَفْظِ الشَّمْسِ وَالنُّورِ، وَلَوْ مَعَ أَلْفِ قَرِينَةٍ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَعْنَى الْجَامِعَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ فَلَيْسَ لَفْظُ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ حَقِيقَةً فِيهِ، وَلَا لَفْظُ الْمُسْتَعَارِ لَهُ، وَهُوَ فِي الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ أَوْضَحُ وَأَشْهَرُ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِبْعَادِ كَوْنِ دَلَالَةِ الْمَجَازِ عَلَيْهِ أَوْضَحَ فَلَا حَاجَةَ فِي إثْبَاتِهِ إلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الْمُسْتَعَارِ مِنْهُ مَحْسُوسًا، وَالْمُسْتَعَارِ لَهُ مَعْقُولًا [فَصْلٌ الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْحُرُوفِ] [حُرُوف الْمَعَانِي] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ فِي الْأَفْعَالِ، وَالصِّفَاتِ الْمُشْتَقَّةِ

التَّشْبِيهِ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ التَّشْبِيهِ مَا هُوَ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَرَضًا لِلِاسْتِعَارَةِ أَيْضًا وَفِي فَصْلِ الْمَجَازِ أَنَّ الْمَجَازَ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا وَرُبَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا وَلَا يَكُونُ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْبِيهِ وَرُبَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا وَيَكُونُ فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي التَّشْبِيهِ كَالِاسْتِعَارَةِ. (فَصْلٌ وَقَدْ تُجْرَى الِاسْتِعَارَةُ التَّبَعِيَّةُ فِي الْحُرُوفِ) ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQتُسَمَّى تَبَعِيَّةٍ لِأَنَّهَا تُجْرَى أَوَّلًا فِي الْمَصْدَرِ ثُمَّ بِتَبَعِيَّةٍ فِي الْفِعْلِ، وَمَا يُشْتَقُّ مِنْهُ مَثَلًا يُقَدَّرُ فِي نَطَقَتْ الْحَالُ أَوْ الْحَالُ نَاطِقَةٌ بِكَذَا تَشْبِيهُ دَلَالَةِ الْحَالِ يَنْطِقُ النَّاطِقُ فَيُسْتَعَارُ النُّطْقُ لِلدَّلَالَةِ ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ نَطَقَتْ بِمَعْنَى دَلَّتْ، وَنَاطِقَةٌ بِمَعْنَى دَالَّةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُشَبَّهِ، وَالْمُشَبَّهِ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِوَجْهِ الشَّبَهِ، وَالصَّالِحُ لِلْمَوْصُوفِيَّةِ هُوَ الْحَقَائِقُ دُونَ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ الْمُشْتَقَّةِ مِنْهَا، وَلَنَا فِيهِ كَلَامٌ يُطْلَبُ مِنْ شَرْحِ التَّلْخِيصِ فَعُقِدَ هَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ التَّبَعِيَّةَ لَا تَخْتَصُّ بِالْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ بَلْ تَجْرِي فِي الْحُرُوفِ أَيْضًا فَيُعْتَبَرُ التَّشْبِيهُ أَوَّلًا فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ، وَتُجْرَى فِيهِ الِاسْتِعَارَةُ ثُمَّ بِتَبَعِيَّةِ ذَلِكَ فِي الْحَرْفِ نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ بِمُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ مَعَانِي الْحُرُوفِ حَيْثُ يُقَالُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ، وَفِي لِلظَّرْفِيَّةِ، وَاللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مَعَانِيَهَا، وَإِلَّا لَكَانَتْ أَسْمَاءً لَا حُرُوفًا، وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَاتُ مَعَانِيهَا بِمَعْنَى أَنَّ مَعَانِي تِلْكَ الْحُرُوفِ رَاجِعَةٌ إلَى هَذِهِ بِنَوْعِ اسْتِلْزَامٍ كَذَا فِي الْمِفْتَاحِ مِثَالُ ذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ شَبَّهَ تَرَتُّبَ الْعَدَاوَةِ عَلَى الِالْتِقَاطِ، وَتَرَتُّبَ الْمَوْتِ عَلَى الْوِلَادَةِ بِتَرَتُّبِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ لِلْفِعْلِ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَعْمَلَ فِي الْمُشَبَّهِ اللَّامَ الْمَوْضُوعَةَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْمُشَبَّهُ بِهِ فَجَرَتْ الِاسْتِعَارَةُ أَوَّلًا فِي الْعِلِّيَّةِ، وَالْغَرَضِيَّةِ، وَبِتَبَعِيَّتِهَا فِي اللَّازِمِ، وَصَارَتْ اللَّامُ بِوَاسِطَةِ اسْتِعَارَتِهَا لِمَا يُشْبِهُ الْعِلِّيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَسَدِ الْمُسْتَعَارِ لِمَا يُشْبِهُ الْهَيْكَلَ الْمَخْصُوصَ، وَهَذَا وَاضِحٌ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ زِيَادَةَ تَدْقِيقٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ يُسْتَعَارُ أَوَّلًا لِلتَّعْقِيبِ لِكَوْنِهِ لَازِمًا لِلتَّعْلِيلِ فَيُرَادُ بِالتَّعْلِيلِ التَّعْقِيبُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعْقِيبَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ أَوْ غَيْرَهُ ثُمَّ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ يُسْتَعَارُ لَامُ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْقِيبِ كَمَا يُسْتَعَارُ لَفْظُ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبُعًا وَإِنْسَانًا، وَيَقَعُ عَلَى تَعْقِيبِ غَيْرِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ كَتَعْقِيبِ الْمَوْتِ لِلْوِلَادَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَعْقِيبٌ كَمَا يَقَعُ أَسَدٌ عَلَى زَيْدٍ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ شُجَاعًا فَيَكُونُ تَعْقِيبُ الْمَوْتِ لِلْوِلَادَةِ مُشَبَّهًا بِتَعْقِيبِ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ جَعَلَ كَأَنَّ الْوِلَادَةَ عِلَّةٌ لِلْمَوْتِ أَيْ جَعَلَ الْمَوْتَ كَأَنَّ الْوِلَادَةَ عِلَّةٌ لَهُ، وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُ اللَّامِ فِي تَعْقِيبِ الْمَوْتِ لِلْوِلَادَةِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْمَالِ اسْمِ الْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الْمُشَبَّهِ، وَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا اعْتِرَاضٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ مَا بَعْدَ اللَّامِ يَكُونُ عِلَّةً لَا مَعْلُولًا، وَالْعِلَّةُ تَكُونُ مُتَقَدِّمَةً لَا مُتَعَقِّبَةً فَلَا مَعْنَى لِاسْتِعَارَةِ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْقِيبِ، وَاسْتِعْمَالِ اللَّامِ فِيهِ أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى

الِاسْتِعَارَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ اسْتِعَارَةٌ أَصْلِيَّةٌ وَهِيَ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَاسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَهِيَ فِي الْمُشْتَقَّاتِ وَالْحُرُوفِ وَإِنَّمَا قَالُوا هِيَ تَبَعِيَّةٌ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ فِي الْمُشْتَقَّاتِ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَبَعِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي الْمُشْتَقِّ مِنْهُ كَمَا تَقُولُ الْحَالُ نَاطِقَةٌ أَيْ دَالَّةٌ فَاسْتُعِيرَ النَّاطِقَةُ لِلدَّلَالَةِ بِتَبَعِيَّةِ اسْتِعَارَةِ النُّطْقِ لِلدَّلَالَةِ وَكَذَا الِاسْتِعَارَةُ فِي الْحُرُوفِ (فَإِنَّ الِاسْتِعَارَةَ تَقَعُ أَوَّلًا فِي مُتَعَلِّقِ مَعْنَى الْحَرْفِ ثُمَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْحَرْفِ كَاللَّامِ مَثَلًا فَيُسْتَعَارُ أَوَّلًا التَّعْلِيلُ لِلتَّعْقِيبِ (فَإِنَّ التَّعْقِيبَ لَازِمٌ لِلتَّعْلِيلِ فَإِنَّ الْمَعْلُولَ يَكُونُ عَقِيبَ الْعِلَّةِ فَيُرَادُ بِالتَّعْلِيلِ التَّعْقِيبُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعْقِيبُ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ أَوْ غَيْرَهُ) ثُمَّ بِوَاسِطَتِهَا أَيْ بِوَاسِطَةِ اسْتِعَارَةِ التَّعْلِيلِ لِلتَّعْقِيبِ (يُسْتَعَارُ اللَّامُ لَهُ) أَيْ لِلتَّعْقِيبِ نَحْوَ (لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ) لَمَّا كَانَ الْمَوْتُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ جُعِلَ كَأَنَّ الْوِلَادَةَ عِلَّةٌ لِلْمَوْتِ فَاسْتَعْمَلَ لَامَ التَّعْلِيلِ وَأُرِيدَ أَنَّ الْمَوْتَ وَاقِعٌ بَعْدَ الْوِلَادَةِ قَطْعًا بِلَا تَخَلُّفٍ كَوُقُوعِ الْمَعْلُولِ عَقِيبَ الْعِلَّةِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّامَ تَدْخُلُ فِي الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ وَهِيَ الْغَرَضُ بِلَا شَكٍّ أَنَّهُ مَعْلُولٌ لِلْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ فَعُلِمَ أَنَّ اللَّامَ الدَّاخِلَةَ فِي الْغَرَضِ دَاخِلَةٌ حَقِيقَةً عَلَى الْمَعْلُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ اللَّامَ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْغَرَضُ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اللَّامُ، وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَاهِيَّتِهَا عِلَّةً لِعِلِّيَّةِ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ، وَمُتَقَدِّمَةً عَلَيْهَا فِي الذِّهْنِ لَكِنَّهَا مَعْلُولَةٌ فِي الْخَارِجِ لِلْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ وَمُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا بِحَسَبِ الْوُجُودِ كَالْجُلُوسِ عَلَى السَّرِيرِ مَثَلًا يُتَصَوَّرُ أَوَّلًا فَيَصِيرُ عِلَّةً لِإِقْدَامِ النَّجَّارِ عَلَى إيجَادِ السَّرِيرِ لَكِنَّهُ فِي الْخَارِجِ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَ اللَّامِ مَعْلُولًا بِحَسَبِ الْخَارِجِ، وَمُتَعَقِّبًا فِي الْوُجُودِ لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ بِهِ فَيَصِحُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي تَعْقِيبِ غَيْرِ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ فَقَوْلُهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعْقِيبُ الْعِلَّةِ الْمَعْلُولَ إنْ كَانَ الْمَعْلُولُ مَرْفُوعًا فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْصُوبًا فَمَعْنَاهُ تَعْقِيبُ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ فِعْلَهَا الْمُعَلَّلَ بِهَا يُقَالُ عَقَبْتُهُ أَيْ جِئْت عَلَى عَقِبِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَكَلُّفٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْلِيلِ هُوَ بَيَانُ الْعِلِّيَّةِ لَا بَيَانُ الْمَعْلُولِيَّةِ فَاللَّامُ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَجْرُورَهَا عِلَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ مَعْلُولًا بِاعْتِبَارٍ كَمَا فِي ضَرَبْته لِلتَّأْدِيبِ أَوْ لَا كَمَا فِي قَعَدْت عَنْ الْحَرْبِ لِلْجُبْنِ، وَإِذَا كَانَ مَعْلُولًا بِاعْتِبَارٍ فَدُخُولُ اللَّامِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ عِلِّيَّتِهِ لَا مِنْ جِهَةِ مَعْلُولِيَّتِهِ، وَكَوْنُهُ عِلَّةً غَائِيَّةً كَافٍ فِي اعْتِبَارِ التَّرْتِيبِ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَعْلُولًا لَا يُقَالُ الْعِلَّةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ عِلَّةٌ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِيه الْمَعْلُولُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْقَوْمِ أَنَّ تَرَتُّبَ الْمَعْلُولِ الَّذِي هُوَ عَرَضٌ اُسْتُعِيرَ لِتَرَتُّبِ مَا لَيْسَ بِمَعْلُولٍ وَغَرَضٍ فَتَكُونُ الِاسْتِعَارَةُ فِي الْمَعْلُولِيَّةِ لَا فِي الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ (قَوْلُهُ وَهِيَ فِي أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ) أَرَادَ بِاسْمِ الْجِنْسِ مَا لَيْسَ بِصِفَةٍ فَيَكُونُ أَخَصَّ مِمَّا هُوَ مُصْطَلَحُ النُّحَاةِ

وَهَاهُنَا نَذْكُرُ حُرُوفًا تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ إلَيْهَا وَتُسَمَّى حُرُوفَ الْمَعَانِي مِنْهَا حُرُوفُ الْعَطْفِ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ بِالنَّقْلِ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَاسْتِقْرَاءِ مَوَاضِعِ اسْتِعْمَالِهَا وَهِيَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْأَلِفِ بَيْنَ الْمُتَّحِدَيْنِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ جَاءَ رَجُلَانِ وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ فَأَدْخَلُوا ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ (وَهَاهُنَا نَذْكُرُ حُرُوفًا) قَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْبَحْثِ عَنْ مَعَانِي بَعْضِ الْحُرُوفِ وَالظُّرُوفِ عَقِيبَ بَحْثِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِاشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا مِنْ جِهَةِ تَوَقُّفٍ شَطْرٍ مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ عَلَيْهَا وَكَثِيرًا مَا يُسَمَّى الْجَمِيعُ حُرُوفًا تَغْلِيبًا أَوْ تَشْبِيهًا لِلظُّرُوفِ بِالْحُرُوفِ فِي الْبِنَاءِ وَعَدَمِ الِاسْتِقْلَالِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِمَا فِي الثَّانِي مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، أَوْ إطْلَاقًا لِلْحَرْفِ عَلَى مُطْلَقِ الْكَلِمَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرَادَ بِالْحُرُوفِ حَقِيقَتَهَا، وَلِهَذَا سَمَّاهَا حُرُوفَ الْمَعَانِي ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَسْمَاءَ لَا عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْحُرُوفِ، وَتَسْمِيَتُهَا حُرُوفَ الْمَعَانِي بِنَاءً عَلَى أَنَّ وَضْعَهَا لِمَعَانٍ تَتَمَيَّزُ بِهَا مِنْ حُرُوفِ الْمَبَانِي الَّتِي بُنِيَتْ الْكَلِمَةُ عَلَيْهَا وَرُكِّبَتْ مِنْهَا فَالْهَمْزَةُ الْمَفْتُوحَةُ إذَا قُصِدَ بِهَا الِاسْتِفْهَامُ أَوْ النِّدَاءُ فَهِيَ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، وَإِلَّا فَمِنْ حُرُوفِ الْمَبَانِي. (قَوْلُهُ الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ) أَيْ جَمْعِ الْأَمْرَيْنِ وَتَشْرِيكِهِمَا فِي الثُّبُوتِ مِثْلُ قَامَ زَيْدٌ وَقَعَدَ عَمْرٌو أَوْ فِي حُكْمٍ نَحْوُ قَامَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو أَوْ فِي ذَاتٍ نَحْوُ قَامَ وَقَعَدَ زَيْدٌ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعِيَّةِ وَالْمُقَارَنَةِ أَيْ الِاجْتِمَاعِ فِي الزَّمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ، وَنُسِبَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا عَلَى التَّرْتِيبِ أَيْ تَأَخُّرِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا فِي الزَّمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَنُسِبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ النَّقْلُ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ حَتَّى ذَكَرَ أَبُو عَلِيٍّ أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ الثَّانِي اسْتِقْرَاءُ مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِهَا فَإِنَّا نَجِدُهَا مُسْتَعْمَلَةً فِي مَوَاضِعَ لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّرْتِيبُ أَوْ الْمُقَارَنَةُ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِطْلَاقِ الْحَقِيقَةُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّرْتِيبِ أَوْ الْمُقَارَنَةِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ مَعْدُولًا عَنْ الْأَصْلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ تَشَارَكَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَاخْتَصَمَ بَكْرٌ وَخَالِدٌ، وَالْمَالُ بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو، وَسِيَّانِ قِيَامُك وَقُعُودُك، وَجَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَقَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ الثَّالِثُ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ الْوَاوَ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْأَلِفِ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْمُتَّحِدَيْنِ فَكَمَالُ دَلَالَةٍ لِمِثْلِ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَى مُقَارَنَةٍ أَوْ تَرْتِيبٍ إجْمَاعًا فَكَذَا جَاءَنِي رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُمْ الْأَلِفُ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ الْمُتَّحِدَيْنِ تَسَامُحًا الرَّابِعُ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا حَتَّى لَوْ شَرِبَ اللَّبَنَ بَعْدَ أَكْلِ السَّمَكِ جَازَ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ نَصَبَ تَشْرَبَ بِإِضْمَارِ أَنْ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى مَصْدَرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَصْدَرٍ مَأْخُوذٍ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ أَيْ لَا يَكُنْ مِنْك أَكْلُ السَّمَكِ، وَشُرْبُ اللَّبَنِ فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا صَحَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَمَا لَا تَصِحُّ الْفَاءُ وَثُمَّ لِإِفَادَتِهِمَا النَّهْيَ عَنْ الشُّرْبِ

وَاوَ الْعَطْفِ (وَقَوْلُهُمْ لَا تَأْكُلْ السَّمَكَ وَتَشْرَبَ اللَّبَنَ) أَيْ لَا تَجْمَعْ بَيْنَهُمَا (فَلِهَذَا لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ وَأَمَّا فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَوَجَبَ التَّرْتِيبُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى» لَا بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ كَوْنَهُمَا مِنْ الشَّعَائِرِ لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ التَّرْتِيبُ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى» لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَدَاءَتَهُ تَعَالَى مُوجِبَةٌ لِبَدَاءَتِكُمْ لَكِنَّ تَقْدِيمَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَ الْأَكْلِ لَا مُتَقَدِّمًا وَلَا مُقَارِنًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ لَا يَنْفِي الْمُقَارَنَةَ إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَهَمَّ نَفْيُ التَّرْتِيبِ. (قَوْلُهُ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِسَلْبِ التَّعْلِيلِ أَيْ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِنَاءً عَلَى تَعَاطُفِهَا بِالْوَاوِ، وَلِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهَا لَا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، وَأَنْ يَكُونَ لِتَعْلِيلِ السَّلْبِ أَيْ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ لَا يُقَالُ قَوْلُهُ {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] دَلِيلٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ غَسْلُ الْوَجْهِ عَقِيبَ إرَادَةِ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ مُقَدَّمًا عَلَى غَسْلِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ التَّرْتِيبُ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ غَسْلِ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ تَرْتِيبٍ فِي الْبَوَاقِي، لِأَنَّا نَقُولُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الْفَاءِ هُوَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ فَلَا يَقْتَضِي إلَّا كَوْنَهُ عَقِيبَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ رِعَايَةِ التَّرْتِيبِ فِيمَا بَيْنَهَا لَا يُقَالُ لِكُلِّ عُضْوٍ غَسْلٌ عَلَى حِدَةٍ فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ، وَاغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يُعْقِبَ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ بِغَسْلِ الْوَجْهِ خَاصَّةً لِأَنَّا نَقُولُ تَعَدُّدُ الْأَفْعَالِ بِحَسَبِ الْمَحَالِّ لَا يُوجِبُ أَنْ يُقَدَّرَ فِي الْكَلَامِ أَفْعَالٌ مُتَعَدِّدَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِنَا غَسَلْت الْأَعْضَاءَ، وَضَرَبْت الْقَوْمَ، وَبِدَلِيلِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ {وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدِ دُونَ الْجُمْلَةِ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ إذَا دَخَلْتَ السُّوقَ فَاشْتَرِ لَحْمًا وَخُبْزًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَقْدِيمُ اشْتِرَاءِ اللَّحْمِ، وَلَا يُعَدُّ بِتَقْدِيمِ الْخُبْزِ عَاصِيًا، لَا يُقَالُ فَيَلْزَمُ تَقْدِيمُ الْغَسْلِ عَلَى الْمَسْحِ عَمَلًا بِمُوجِبِ الْفَاءِ وَيَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي الْكُلِّ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ لِأَنَّا نَقُولُ الْوَظِيفَةُ فِي الرَّأْسِ الْغَسْلُ وَالْمَسْحُ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ فَكَأَنَّهُ هُوَ هُوَ فَلَا يَلْزَمُ عَقِيبَ إرَادَةِ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ إلَّا الْغُسْلُ عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي غَسْلِ الْأَعْضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فَلَا يَجِبُ فِيمَا بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَالْجَوَابُ الْقَاطِعُ لِأَصْلِ السُّؤَالِ مَنْعُ دَلَالَةِ الْفَاءِ الْجَزَائِيَّةِ عَلَى لُزُومِ تَعْقِيبِ مَضْمُونِ الْجَزَاءِ لِمَضْمُونِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} [الجمعة: 9] الْآيَةَ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ السَّعْيُ عَقِيبَ النِّدَاءِ بِلَا تَرَاخٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ تَرْكِ الْبَيْعِ عَلَى السَّعْيِ. 1 - (قَوْلُهُ وَأَمَّا فِي السَّعْيِ) اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْوَاوِ لِلتَّرْتِيبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى « {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، وَقَالَ

فِي الْقُرْآنِ لَا يَخْلُو عَنْ مَصْلَحَةٍ كَالتَّعْظِيمِ أَوْ الْأَهَمِّيَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي الْأَوْلَوِيَّةَ لَا الْوُجُوبَ وَإِنَّمَا الْوُجُوبُ فِي الْحَقِيقَةِ بِمَا لَاحَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ وَبِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِنَا بِقَوْلِهِ ابْدَءُوا (وَزَعَمَ الْبَعْضُ أَنَّهُ لِلتَّرْتِيبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلِلْمُقَارَنَةِ عِنْدَهُمَا اسْتِدْلَالًا بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عِنْدَهُ وَالثَّلَاثِ عِنْدَهُمَا فِي إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَهَذَا) أَيْ زَعْمُ ذَلِكَ الْبَعْضِ (بَاطِلٌ بَلْ الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ عِنْدَهُ كَمَا يَتَعَلَّقُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ بِالشَّرْطِ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ يَقَعُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ الشَّرْطِ وَفِي الْمُنَجَّزِ تَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى الْمَحَلُّ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ جُمْلَةً لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي صَيْرُورَتِهِ طَلَاقًا) أَيْ لَا تَرْتِيبَ فِي صَيْرُورَتِهِ هَذَا اللَّفْظَ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ (كَمَا إذَا كَرَّرَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مَعَ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» فَهِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ التَّرْتِيبَ فَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَالْجَوَابُ إنَّا لَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ بِالْآيَةِ وَفَهْمِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْهَا بَلْ ثَبَتَ ذَلِكَ لَنَا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، وَلِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَاحَ لَهُ مِنْ وَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْآيَةِ هُوَ كَوْنُهُمَا مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّرْتِيبَ إذْ لَا مَعْنَى لِتَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت مِنْ أَيْنَ ثَبَتَ أَصْلُ وُجُوبِ السَّعْيِ؟ قُلْت مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ» ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ قَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] فِي مَعْنَى فَعَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ بِطَرِيقِ نَفْيِ الْجُنَاحِ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَا كَانَ عَلَيْهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ صَنَمَيْنِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمَا. (قَوْلُهُ وَزَعَمَ الْبَعْضُ) لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَطَالِقٌ، وَطَالِقٌ تَقَعُ الْوَاحِدَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَالثَّلَاثُ عِنْدَهُمَا فَزَعَمَ الْبَعْضُ أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ عِنْدَهُ لِلتَّرْتِيبِ فَتَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا تُصَادِفُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ الْمَحَلَّ كَمَا لَوْ ذَكَرَ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ وَعِنْدَهُمَا لِلْمُقَارَنَةِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ دَفْعَةً كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَرُدَّ ذَلِكَ بِالْمَنْعِ وَالنَّقْضِ وَالْحِلِّ، أَمَّا الْمَنْعُ فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْمُقَارَنَةِ أَوْ التَّرْتِيبِ فِي مَوَارِدِ اسْتِعْمَالِ الْوَاوِ، وَكَوْنُهُ مُسْتَفَادًا مِنْ الْوَاوِ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْخَارِجِ إلَّا مُقَيَّدًا، وَأَمَّا النَّقْضُ فَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ عِنْدَهُ، وَلِلْمُقَارَنَةِ عِنْدَهُمَا لَمَا اتَّفَقُوا عَلَى وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ مُنَجَّزًا، وَالثَّلَاثِ فِي مِثْلِ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ بِتَأْخِيرِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا الْحِلُّ فَهُوَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْكُورَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْأَجْزِيَةِ بِالشَّرْطِ عِنْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ لِأَنَّ

فَعِنْدَ الشَّرْطِ يَقَعُ الثَّلَاثُ كَذَا هُنَا وَإِنْ قَدَّمَ الْأَجْزِيَةَ) أَيْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ (يَقَعُ الثَّلَاثُ) أَيْ اتِّفَاقًا (لِأَنَّهُ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ تَعَلَّقَ بِهِ الْأَجْزِيَةُ الْمُتَوَقِّفَةُ دَفْعَةً فَإِنْ قِيلَ إذَا تَزَوَّجَ أَمَتَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُمَا الْمَوْلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ جُمْلَةٌ كَامِلَةٌ مُسْتَغْنِيَةٌ عَمَّا بَعْدَهَا فَيَحْصُلُ بِهَا التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ، وَقَوْلُهُ: وَطَالِقٌ جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ مُفْتَقِرَةٌ فِي الْإِفَادَةِ إلَى الْأُولَى فَيَكُونُ تَعْلِيقُ الثَّانِيَةِ بَعْدُ، وَتَعْلِيقُ الْأُولَى وَالثَّالِثَةِ بَعْدَهُمَا، وَإِذَا كَانَ تَعْلِيقُ الْأَجْزِيَةِ بِالشَّرْطِ عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ دُونَ الِاجْتِمَاعِ كَانَ وُقُوعُهَا أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَفِي الْمُنَجَّزِ تَبِينُ بِالْأُولَى فَلَا تُصَادِفُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ الْمَحَلَّ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْجَوَاهِرِ الْمَنْظُومَةِ تَنْزِلُ عِنْدَ الِانْحِلَالِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي نُظِمَتْ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَرَّرَ الشَّرْطَ فَإِنَّ الْكُلَّ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَدَّمَ الْأَجْزِيَةَ فَإِنَّ الْكُلَّ يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ دَفْعَةً لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ أَوَّلَهُ يَتَوَقَّفُ الْأَوَّلُ عَلَى الْآخِرِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ تَعَاقُبٌ فِي التَّعْلِيقِ حَتَّى يَلْزَمَ التَّعَاقُبُ فِي الْوُقُوعِ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الْكُلُّ دَفْعَةً لِأَنَّ زَمَانَ الْوُقُوعِ هُوَ زَمَانُ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَالتَّفْرِيقُ إنَّمَا هُوَ فِي أَزْمِنَةِ التَّعْلِيقِ لَا فِي أَزْمِنَةِ التَّطْلِيقِ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ إنَّمَا هُوَ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي صَيْرُورَةِ اللَّفْظِ تَطْلِيقًا، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ عَطْفَ النَّاقِصَةَ عَلَى الْكَامِلَةِ يُوجِبُ تَقْدِيرَ مَا فِي الْكَامِلَةِ تَكْمِيلًا لِلنَّاقِصَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ، يَجِبُ تَثْلِيثُ طَلَاقِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا بِخِلَافِ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَالِقٌ، وَفِي الْكَامِلَةِ الشَّرْطُ مَذْكُورٌ فَيَجِبُ تَقْدِيرُهُ فِي كُلٍّ مِنْ الْأَخِيرَيْنِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَعِنْدَ الدُّخُولِ يَقَعُ الثَّلَاثُ فَكَذَا هَاهُنَا لِأَنَّ الْمِقْدَارَ كَالْمَلْفُوظِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَهُ بِالْفَاءِ أَوْ ثُمَّ أَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي تَفْرِيقِ أَزْمِنَةِ الْوُقُوعِ، وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُقَالُ إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ فِي الْحَالِ بَلْ لَهُ عَرَضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ طَلَاقًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يُقْبَلُ وَصْفُ التَّرْتِيبِ فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْوَصْفَ لَا يَسْبِقُ الْمَوْصُوفَ فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ بِحَالِ الْوُقُوعِ اجْتِمَاعًا وَافْتِرَاقًا لَا بِحَالِ التَّعْلِيقِ، وَلَيْسَ هَاهُنَا مَا يُوجِبُ تَفْرِيقَ أَزْمِنَةِ الْوُقُوعِ بِخِلَافِ الْفَاءِ وَثُمَّ، وَاعْلَمْ أَنَّ تَأْخِيرَ وَجْهِ قَوْلِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْجَوَابِ عَنْهُ لَا يَخْلُو عَنْ مَيْلٍ إلَى رُجْحَانِهِ عَلَى مَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي الْأَسْرَارِ. (قَوْلُهُ، وَإِنْ قَدَّمَ الْأَجْزِيَةَ) يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُتَوَهَّمُ مِنْ كَوْنِ الْوَاوِ لِلْمُقَارَنَةِ عِنْدَهُمْ اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَرْقًا لَهُ بَيْنَ تَأْخِيرِ الْأَجْزِيَةِ وَتَقْدِيمِهَا حَيْثُ

مَعًا صَحَّ نِكَاحُهُمَا وَبِكَلَامَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ) أَيْ قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى بَعْدَ زَمَانٍ أَعْتَقْت هَذِهِ (أَوْ بِحَرْفِ الْعَطْفِ) أَيْ قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ وَهَذِهِ (بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَجَعَلْتُمُوهُ لِلتَّرْتِيبِ) هَكَذَا وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي أُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَأَمَّا فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَدْ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا زَوَّجَ رَجُلٌ أَمَتَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا وَبِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ، فَقَوْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَيِّدَ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَقْبَلَ النِّكَاحَ فُضُولِيٌّ آخَرُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ طَرَفَيْ النِّكَاحِ وَقَدْ قُيِّدَ فِي الْحَوَاشِي كَوْنُ نِكَاحِ الْأَمَتَيْنِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ اتِّبَاعًا لِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَلَا حَاجَةَ لَنَا إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ إذْ الْبَحْثُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِهِ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ أَوْ بِعَقْدَيْنِ وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ قَيَّدَ الْمَسْأَلَةَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ نَظَمَ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ وَبَعْضُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ بِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ وَبِعَقْدَيْنِ كَمَا إذَا كَانَ نِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَقْتَضِي الْأَوَّلُ الِافْتِرَاقَ وَالثَّانِي الِاجْتِمَاعَ. (قَوْلُهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا) إذْ لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ نَفَذَ نِكَاحُهُمَا، وَلَا يَبْطُلُ بِالْإِعْتَاقِ (قَوْلُهُ فَجَعَلْتُمُوهُ لِلتَّرْتِيبِ) حَيْثُ جَعَلْتُمْ الْإِعْتَاقَ بِالْوَاوِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ مُتَعَاقِبًا (قَوْلُهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِهِ) أَيْ بِقَوْلِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ فِي غَرَضِنَا هَذَا، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحُكْمَ تَوَقُّفَ النِّكَاحِ عَلَى رِضَا كُلٍّ مِنْ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ بِدُونِ رِضَاهُمَا جَمِيعًا. (قَوْلُهُ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَلَّى الْفُضُولِيُّ الْوَاحِدُ طَرَفَيْ النِّكَاحِ) فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقِيلَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا تَكَلَّمَ الْفُضُولِيُّ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ أَمَّا إذَا قَالَ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ، وَقَبِلْت مِنْهُ جَازَا اتِّفَاقًا، وَيَتَوَقَّفُ (قَوْلُهُ وَبَعْضُ تِلْكَ الْمَسَائِلِ يَخْتَلِفُ) ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ أَمَتَيْهِ مِنْ رَجُلٍ بِرِضَاهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَبِلَ عَنْ الزَّوْجِ فُضُولِيٌّ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى إحْدَاهُمَا بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ، وَيَتَوَقَّفُ نِكَاحُ الْمُعْتَقَةِ عَلَى إذْنِ الزَّوْجِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا فَأَجَازَ الزَّوْجُ نِكَاحَهُمَا أَوْ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا جَازَ لِأَنَّهُمَا حَالَةَ الْعَقْدِ أَمَتَانِ، وَحَالَةَ الْإِجَازَةِ حُرَّتَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مُتَفَرِّقًا بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ بِحَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ هَذِهِ حُرَّةٌ، وَهَذِهِ حُرَّةٌ أَوْ مَفْصُولٍ بِأَنْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا، وَسَكَتَ ثُمَّ أَعْتَقَ الْأُخْرَى فَأَجَازَ الزَّوْجُ نِكَاحَهُمَا مَعًا أَوْ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى جَازَ نِكَاحُ الْمُعْتَقَةِ أَوَّلًا لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّهَا لَا يَتَغَيَّرُ بِإِعْتَاقِ الثَّانِيَةِ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ بِإِعْتَاقِ الْأُولَى فَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ، وَهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحَانِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي عُقْدَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ مَوْلَى الْأَمَتَيْنِ وَاحِدًا فَالْحُكْمُ كَمَا ذُكِرَ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ أَمَةٍ مَوْلًى عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ أُعْتِقَتْ الْأَمَتَانِ عَلَى التَّعَاقُبِ فَالنِّكَاحَانِ عَلَى

بِرِضَى الْمَوْلَى وَبِرِضَاهُمَا دُونَ رِضَا الزَّوْجِ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَخْتَلِفُ بِالْعَقْدِ الْوَاحِدِ وَبِعَقْدَيْنِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ قَيَّدَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنْ أَرَدْت مَعْرِفَةَ تَفَاصِيلِهِ فَعَلَيْك بِمُطَالَعَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ (وَإِنْ زَوَّجَهُ الْفُضُولِيُّ أُخْتَيْنِ بِعَقْدَيْنِ فَأَجَازَهُمَا مُتَفَرِّقًا بَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَإِنْ أَجَازَهُمَا مَعًا) أَيْ قَالَ أَجَزْت نِكَاحَهُمَا (أَوْ بِحَرْفِ الْعَطْفِ) أَيْ قَالَ أَجَزْت نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ (بَطَلَا) أَيْ بَطَلَ نِكَاحُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا (فَجَعَلْتُمُوهُ لِلْقِرَانِ فَإِنْ قَالَ أَعْتَقَ أَبِي فِي مَرَضِ مَوْتِهِ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا وَلَا وَارِثَ لَهُ وَلَا مَالَ سِوَى ذَلِكَ فَإِنْ أَقَرَّ مُتَّصِلًا عَتَقَ مِنْ كُلٍّ ثُلُثُهُ، وَإِنْ سَكَتَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ عَتَقَ الْأَوَّلُ وَنِصْفُ الثَّانِي وَثُلُثُ الثَّالِثِ) لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ أَعْتَقَ أَبِي هَذَا وَسَكَتَ يُعْتَقُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّ قِيمَةَ الْعَبِيدِ عَلَى السَّوَاءِ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ السُّكُوتِ وَهَذَا وَسَكَتَ فَقَدْ عَطَفَهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَمُوجَبُهُ أَنْ يُعْتَقَ نِصْفُ الثَّانِي مَعَ نِصْفِ الْأَوَّلِ لَكِنْ لَمَّا عَتَقَ كُلُّ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ثُمَّ لَمَّا قَالَ وَهَذَا فَمُوجَبُهُ عِتْقُ ثُلُثِ الثَّالِثِ مَعَ عِتْقِ ثُلُثِ كُلٍّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ فَيُعْتَقُ ثُلُثُ الثَّالِثِ وَلَا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَوَّلَيْنِ (فَجَعَلْتُمُوهُ لِلْقِرَانِ) أَيْ جَعَلْتُمْ حَرْفَ الْعَطْفِ فِيمَا إذَا أَقَرَّ مُتَّصِلًا لِلْقِرَانِ (بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ أَعْتَقَهُمْ أَبِي مَعًا) لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِرَانِ بَلْ يَثْبُتُ التَّرْتِيبُ كَانَ كَمَسْأَلَةِ السُّكُوتِ (قُلْنَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا عَتَقَتْ الْأُولَى لَمْ تَبْقَ الثَّانِيَةُ مَحَلًّا لِيَتَوَقَّفَ نِكَاحُهَا عَلَى عِتْقِهَا) فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ فَلَمْ تَبْقَ الْأَمَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ فَبَطَلَ نِكَاحُهَا (وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ يَتَوَقَّفُ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَالِهِمَا فَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ لِأَنَّهُمَا لَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ وَإِحْدَاهُمَا حُرَّةٌ وَالْأُخْرَى أَمَةٌ تَوَقَّفَا لِأَنَّهُ لَا تَطَابُقَ فِي التَّوَقُّفِ وَأَحَدُهُمَا لَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ وَالرَّدَّ فِي مِلْكِ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى وَاحِدًا فَإِنَّهُ بِإِعْتَاقِ الْأُولَى يَصِيرُ، رَادًّا نِكَاحَ الثَّانِيَةِ، وَأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ أَجَازَهُمَا جَازَ نِكَاحُ الْمُعْتَقَةِ الْأُولَى لِأَنَّ حَالَةَ الْإِجَازَةِ كَحَالَةِ الْإِنْشَاءِ فَيَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ، وَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ. (قَوْلُهُ بَطَلَا) أَيْ نِكَاحُ هَذِهِ وَنِكَاحُ هَذِهِ (قَوْلُهُ فَجَعَلْتُمُوهُ لِلْقِرَانِ) حَيْثُ جَعَلْتُمْ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَا بِمَنْزِلَةِ الْإِجَازَةِ مُتَفَرِّقًا فَإِنْ قُلْت هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا لِلْمُقَارَنَةِ إذْ لَا دَلَالَةَ فِي مِثْلِ جَاءَنِي الرَّجُلَانِ عَلَى الْمُقَارَنَةِ قُلْت نَعَمْ إلَّا أَنَّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ لَهُمَا مَعًا حَتَّى لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُهُمَا عَتَقَا مَعًا (قَوْلُهُ سِوَى ذَلِكَ) أَيْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ الِابْنِ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَى تِلْكَ الْأَعْبُدِ إذْ لَوْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْحُكْمُ إلَّا فِي نَصِيبِ ذَلِكَ الِابْنِ، وَيَجِبُ السِّعَايَةُ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ آخَرُ، وَيُخْرِجُ الْأَعْبُدَ مِنْ الثُّلُثِ يُعْتَقُ الْكُلُّ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ، وَقَيَّدَ بِتَسَاوِي قِيَمِ الْعَبِيدِ حَتَّى لَوْ كَانَ قِيمَةُ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ مَثَلًا لَمْ يُعْتَقْ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ. (قَوْلُهُ لَمْ تَبْقَ الثَّانِيَةُ مَحَلًّا لِيَتَوَقَّفَ)

عَلَى آخِرِهِ إذَا كَانَ آخِرُهُ مُغَيَّرًا بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَهَاهُنَا) إشَارَةٌ إلَى هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ (كَذَلِكَ) أَيْ آخِرُ الْكَلَامِ مُغَيِّرٌ لِأَوَّلِهِ، أَمَّا فِي الْأُخْتَيْنِ فَلِأَنَّ إجَازَةَ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ تُوجِبُ بُطْلَانَ نِكَاحِ الْأُولَى وَأَمَّا فِي الْإِخْبَارِ بِالْإِعْتَاقِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَعْتَقَ أَبِي هَذَا يُوجِبُ عِتْقَ كُلِّهِ ثُمَّ قَوْلُهُ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الثُّلُثُ مُنْقَسِمًا بَيْنَهُمَا وَلَا يَعْتِقُ مِنْ الْأَوَّلِ إلَّا بَعْضُهُ فَيَكُونُ مُغَيِّرًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ (بِخِلَافِ الْأَمَتَيْنِ) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَيْسَ آخِرُ الْكَلَامِ مُغَايِرًا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ وَهَذِهِ فَإِعْتَاقُ الثَّانِيَةِ لَا يُغَيِّرُ إعْتَاقَ الْأُولَى فَلَا يَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ آخِرُ الْكَلَامِ مُغَيِّرٌ لِلْأَوَّلِ فَيَتَوَقَّفُ وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الْحَصِيرِيِّ قَدْ قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ وَمَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ بَلْ إنَّمَا جَاءَ الْفَرْقُ لِاخْتِلَافِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ قَالَ هَذِهِ حُرَّةٌ وَهَذِهِ حُرَّةٌ وَفِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ قَالَ أَجَزْت نِكَاحَ هَذِهِ وَهَذِهِ فَإِنَّهُ أَفْرَدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَحْرِيرًا فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَتَيْنِ فَلَا يَتَوَقَّفُ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى الْآخِرِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْأُخْتَيْنِ لَمْ يُفْرِدْ فَيَتَوَقَّفُ حَتَّى لَوْ أَفْرَدَ هُنَا صَحَّ نِكَاحُ الْأُولَى وَلَوْ لَمْ يُفْرِدْ فِي الْأَمَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ أَعْتَقْت هَذِهِ وَهَذِهِ عَتَقَا مَعًا وَصَحَّ نِكَاحُهُمَا (وَقَدْ تَدْخُلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ فَلَا تُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ فَفِي قَوْلِهِ هَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَهَذِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِتَوَقُّفِ النِّكَاحِ بَلْ بَطَلَ تَوَقُّفُ نِكَاحِ الثَّانِيَةِ عَقِيبَ عِتْقِ الْأُولَى قَبْلَ الْفَرَاغِ عَنْ التَّكَلُّمِ بِإِعْتَاقِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ لَمْ يَصِحَّ التَّدَارُكُ بِإِعْتَاقِهَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، وَإِنَّمَا قَالَ لِيَتَوَقَّفَ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ مَحَلًّا لَأَنْ تُنْكَحَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا حُرَّةً (قَوْلُهُ، وَلَا يُعْتَقُ مِنْ الْأَوَّلِ إلَّا بَعْضُهُ) الْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَتَغَيَّرُ الْأَوَّلُ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ، وَالْمُسْتَسْعَى مُكَاتَبٌ، وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَعِنْدَهُمَا يَتَغَيَّرُ مِنْ بَرَاءَةٍ إلَى شُغْلٍ لِأَنَّهُ بِدُونِ آخِرِ الْكَلَامِ يُعْتَقُ مَجَّانًا لِأَنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَبَعْدَ إعْتَاقِ الْأَخِيرَيْنِ، لَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا ثُلُثُ الثُّلُثِ، وَوَجَبَ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ، ثُمَّ التَّغْيِيرُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا فَلِذَا لَا يَثْبُتُ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْإِعْتَاقُ أَوْ الْإِجَازَةُ مُتَفَرِّقًا مُتَرَاخِيًا مَعَ سُكُوتٍ. (قَوْلُهُ وَقَدْ تَدْخُلُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ) الْجُمَلُ الْمُتَعَاطِفَةُ بِالْوَاوِ إنْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ أَوْ جَزَاءِ الشَّرْطِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَالْوَاوُ تُفِيدُ الْجَمْعَ بَيْنَهَا فِي ذَلِكَ التَّعَلُّقِ، وَإِلَّا فَالْوَاوُ تُفِيدُ الْجَمْعَ بَيْنَهَا فِي حُصُولِ مَضْمُونِهَا إذْ بِدُونِ الْوَاوِ يُحْتَمَلُ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَوَّلِ وَالْإِضْرَابُ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ اعْتِبَارِ بَعْضِ قُيُودِ الْأُولَى فِي الثَّانِيَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ فَمُفَوَّضَةٌ إلَى الْقَرَائِنِ، وَالْوَاوُ لَا يُوجِبُهَا، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا تَجِبُ هِيَ إذَا افْتَقَرَ الْآخِرُ إلَى الْأَوَّلِ) هَذَا الْحُكْمُ فِي مُطْلَقِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ لَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ خَاصَّةً لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مِثْلَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ الْمُبْتَدَأِ فِي

طَالِقٌ تُطْلَقُ الثَّانِيَةُ وَاحِدَةً وَإِنَّمَا تَجِبُ هِيَ) أَيْ الْمُشَارَكَةُ (إذَا افْتَقَرَ الْآخِرُ إلَى الْأَوَّلِ فَيُشَارِكُ الْأَوَّلَ) أَيْ آخِرُ الْكَلَامِ أَوَّلَهُ (فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ) أَيْ بِعَيْنِ مَا تَمَّ (لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ) أَيْ مِثْلِ مَا تَمَّ (إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ الِاتِّحَادُ) أَيْ إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ مَا تَمَّ بِهِ الْأَوَّلُ مُتَّحِدًا فِي الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ (نَحْوَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ وَلَيْسَ كَتَكْرَارِ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُنَا بِخِلَافِ التَّكْرَارِ) فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْأَجْزِيَةُ الْمُتَكَثِّرَةُ بِشَرْطٍ مُتَّحِدٍ فَيَتَعَلَّقُ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ بِعَيْنِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهَا أَيْ لَا يُقَدَّرُ شَرْطٌ آخَرُ حَتَّى يَصِيرَ كَقَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ كَمَا زَعَمَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (وَبِتَقْدِيرِهِ) أَيْ بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ (إنْ امْتَنَعَ) أَيْ الِاتِّحَادُ (نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَجِيءُ زَيْدٍ غَيْرَ مَجِيءِ عَمْرٍو وَبَعْضُهُمْ أَوْجَبُوا الشَّرِكَةَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ أَيْضًا حَتَّى قَالُوا إنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ فَقَالُوا فِي {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ كَمَا لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ عِنْدَهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُخَاطَبُ بِأَحَدِهِمَا عَيْنَ الْمُخَاطَبِ بِالْآخَرِ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ مُخَاطَبًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] لَا يَكُونُ مُخَاطَبًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا لَا لِلْقِرَانِ فِي النَّظْمِ وَالْقَائِلُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ يَقُولُ الْخِطَابُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ يَتَنَاوَلُ الصِّبْيَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّانِي. (قَوْلُهُ لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ) لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ. (قَوْلُهُ أَيْ بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ بِعَيْنِهِ لَا عَلَى قَوْلِهِ لَا بِتَقْدِيرِ مِثْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ تَقْدِيرَ الْمِثْلِ فِي نَحْوِ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو، مِمَّا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمَجِيءَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ جَاءَ مَعْنًى كُلِّيٌّ يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِالْمُتَعَدِّدَاتِ، وَلِهَذَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ الْمُفْرَدَاتِ دُونَ الْجُمَلِ، وَقَدْ عَرَفْت ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ تَرْتِيبِ الْوُضُوءِ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهَا) أَيْ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لِكَوْنِهَا أَحَدُ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَلِأَنَّ الْمُزَكِّيَ يَجْعَلُ الْمَالَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً مِنْ اللَّهِ، وَلَا بُدَّ فِي الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ مِنْ نِيَّةٍ وَعَزِيمَةٍ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ أَوْ مِمَّنْ لَهُ نِيَابَةٌ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ، وَهَذَا مَفْقُودٌ فِي الصَّبِيِّ فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لَهَا لَمَا صَحَّ إيمَانُهُ، وَصَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّهُ أَهْلٌ لَهَا لَكِنَّ لُزُومَ الضَّرَرِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ، وَاحْتَرَزَ بِالْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ عَنْ

لَكِنَّ الْعَقْلَ خَصَّهُمْ عَنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ لَا عَنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إذْ هِيَ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ يُمْكِنُ أَدَاءُ الْوَلِيِّ عَنْهُ (وَهَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا) الْإِشَارَةُ رَاجِعَةٌ إلَى إيجَابِ الشَّرِكَةِ فِي الْجُمَلِ (لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا افْتَقَرَتْ الثَّانِيَةُ فَفِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِالشَّرْطِ أَيْضًا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوَاوِ الشَّرِكَةُ وَهَذِهِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا عُطِفَتْ عَلَى الْجَزَاءِ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ وَإِنْ كَانَتْ تَامَّةً لَكِنَّهَا فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فِي حُكْمِ الِافْتِقَارِ فَعُطِفَ عَلَى الْجَزَاءِ فَتَكُونُ الْوَاوُ عَلَى أَصْلِهَا وَعَطْفُ الِاسْمِيَّةِ عَلَى مِثْلِهَا بِخِلَافِ وَضَرَّتُك طَالِقٌ فَإِنَّ إظْهَارَ الْخَبَرِ هُنَا دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجَزَاءِ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا افْتَقَرَتْ الثَّانِيَةُ فَقَوْلُهُ وَعَبْدِي حُرٌّ فِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ يُرَادُ إشْكَالًا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ غَيْرُ مُفْتَقِرَةٍ إلَى مَا قَبْلَهَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ بَلْ يَكُونُ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا عَطْفًا عَلَى الْمَجْمُوعِ فَأَجَابَ بِأَنَّهَا فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فِي حُكْمِ الِافْتِقَارِ مَعَ أَنَّهَا جُمْلَةٌ تَامَّةٌ لِأَنَّ مُنَاسَبَتَهَا الْجَزَاءَ فِي كَوْنِهِمَا جُمْلَتَيْنِ اسْمِيَّتَيْنِ تُرْجِعُ كَوْنَهَا مَعْطُوفَةً عَلَى الْجَزَاءِ لَا عَلَى مَجْمُوعِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجَزَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمَعُونَةِ. (قَوْلُهُ يُمْكِنُ أَدَاءُ الْوَالِي عَنْهُ) يَعْنِي عَدَمَ لُزُومِ الْعِبَادَاتِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ نَظَرًا لَهُ، وَلَا عَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْمَالِيَّاتِ لِأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالنَّائِبِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْإِنَابَةِ اخْتِيَارٌ كَامِلٌ شَرْعًا لِيَحْصُلَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الصَّبِيِّ. (قَوْلُهُ فَدَلِيلُ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجَزَاءِ) أَيْ فِيمَا هُوَ جَزَاءٌ لِلْقَذْفِ وَحَدٌّ لَهُ وَهُوَ الْجَلْدُ، فَإِنْ قُلْت إنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ صَالِحًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً لِلْقَذْفِ وَحَدًّا لَهُ قُلْت الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ بِرَدِّ كَلَامِهِ وَعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فَوْقَ مَا يَتَأَلَّمُ بِالضَّرْبِ، وَهَذَا أَمْرٌ مُنَاسِبٌ لِإِزَالَةِ مَا لَحِقَ الْمَقْذُوفَ مِنْ الْعَارِ بِتُهْمَةِ الزِّنَا، ثُمَّ إنَّهُ حَدٌّ فِي اللِّسَانِ الَّذِي مِنْهُ صَدَرَ جَرِيمَةُ الْقَذْفِ كَقَطْعِ الْيَدِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهِ الْإِيلَامَ الْحِسِّيَّ لِكَمَالِ الزَّجْرِ وَعُمُومِهِ جَمِيعَ النَّاسِ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَنْزَجِرُ بِالْإِيلَامِ بَاطِنًا وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] مِنْ قَبِيلِ {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ، وَهُوَ أَب لَغُ مِنْ لَا تَقْبَلُوا شَهَادَتُهُمْ، وَأَوْقَعُ فِي النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِبْهَامِ ثُمَّ التَّفْسِيرِ. (قَوْلُهُ وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ قَائِمٌ فِي

تَكُونُ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ لِأَنَّ جَزَاءَ الشَّرْطِ بَعْضُ الْجُمْلَةِ وَأَيْضًا الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الشَّرِكَةُ فَتُحْمَلُ عَلَى الشَّرِكَةِ مَا أَمْكَنَ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُفْتَقِرًا إلَى مَا قَبْلَهُ حَقِيقَةً كَمَا فِي الْمُفْرَدِ أَوْ حُكْمًا كَمَا فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فَحِينَئِذٍ يُحْمَلُ عَلَى الشَّرِكَةِ لِتَكُونَ الْوَاوُ جَارِيَةً عَلَى أَصْلِهَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ أَمَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُهَا عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا تُحْمَلُ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ جُمْلَةً لَا تَكُونُ فِي قُوَّةِ الْمُفْرَدِ فَلَا تَكُونُ مُفْتَقِرَةً إلَى مَا قَبْلَهَا أَصْلًا كَمَا فِي {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] فَالْوَاوُ وَتَكُونُ لِمُجَرَّدِ النَّسَقِ وَالتَّرْتِيبِ فَفِي قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَضَرَّتُك طَالِقٌ يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِ وَضَرَّتُك طَالِقٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ لَكِنَّ إظْهَارَ الْخَبَرِ وَهُوَ طَالِقٌ فِي قَوْلِهِ وَضَرَّتُك طَالِقٌ يُرْجِعُ الْعَطْفَ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا عَلَى الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ لِكَيْ أَنْ يَقُولَ وَضَرَّتُك فَقَوْلُهُ بِخِلَافِ وَضَرَّتُكِ طَالِقٌ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِالشَّرْطِ (وَلِهَذَا جَعَلْنَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ لَا عَلَى قَوْلِهِ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] أَيْ وَلِأَجْلِ مَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ وَعَبْدِي حُرٌّ مِمَّا يُوجِبُ كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ وَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْلِهِ وَضَرَّتُك طَالِقٌ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجَزَاءِ جَعَلْنَا قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَقْبَلُوا} إلَخْ مَعْطُوفًا عَلَى الْجَزَاءِ فَإِنَّ قَوْلَهُ وَلَا تَقْبَلُوا ـــــــــــــــــــــــــــــQ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] لِكَوْنِهَا جُمْلَةً خَبَرِيَّةً غَيْرَ مُخَاطَبٍ بِهَا الْأَئِمَّةُ بِدَلِيلِ إفْرَادِ الْكَافِ فِي أُولَئِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ أَعْنِي قَوْلَهُ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 4] إلَى آخِرِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ عَطْفَ الْخَبَرِ عَلَى الْإِنْشَاءِ، وَبِالْعَكْسِ شَائِعٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ إفْرَادَ كَافِ الْخِطَابِ الْمُتَّصِلِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ جَائِزٌ فِي خِطَابِ الْجَمَاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} [البقرة: 52] عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ {الَّذِينَ يَرْمُونَ} [النور: 23] لَيْسَ بِمُبْتَدَأٍ بَلْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ أَيْ اجْلِدُوا الَّذِينَ يَرْمُونَ فَهِيَ أَيْضًا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ إنْشَائِيَّةٌ مُخَاطَبٌ بِهَا الْأَئِمَّةُ فَالْمَانِعُ الْمَذْكُورُ قَائِمٌ هَاهُنَا مَعَ زِيَادَةِ الْعُدُولِ عَنْ الْأَقْرَبِ إلَى الْأَبْعَدِ، وَلَوْ سَلِمَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ مُبْتَدَأٌ فَلَا بُدَّ فِي الْإِنْشَائِيَّةِ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ الْخَبَرِ مِنْ تَأْوِيلٍ وَصَرْفٍ لَهَا عَنْ الْإِنْشَائِيَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَكْثَرِ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنْ يَعْطِفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ. (قَوْلُهُ وَثَمَرَةُ هَذَا تَأْتِي) مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ {إِلا الَّذِينَ} [البقرة: 150] اسْتِثْنَاءٌ مِنْ {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنَّ الْقَاذِفَ هَلْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَمْ لَا (قَوْلُهُ وَقَدْ يَدْخُلُ عَلَى الْمَعْلُولِ) هِيَ الْحَقِيقَةُ جَوَابُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَتَأَهَّبْ فَإِنْ قُلْت لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْعِلِّيَّةَ وَالْمَعْلُولِيَّةِ فِي وُجُودِ السَّقْيِ وَالْإِرْوَاءِ لَا فِي مَفْهُومَيْهِمَا، وَالْعِلَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُغَايِرَةً لِلْمَعْلُولِ مُتَقَدِّمَةً عَلَيْهِ فِي الْوُجُودِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اتِّحَادُهُمَا فِي الْوُجُودِ؟ قُلْت تَسَامَحَ فِي ذَلِكَ

جُمْلَةٌ إنْشَائِيَّةٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا} وَالْمُخَاطَبُ بِهِمَا الْأَئِمَّةُ وقَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ} جُمْلَةٌ إخْبَارِيَّةٌ وَلَيْسَ الْأَئِمَّةُ مُخَاطَبِينَ بِهَا فَدَلِيلُ الْمُشَارَكَةِ فِي الْجَزَاءِ قَائِمٌ وَلَا تَقْبَلُوا وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمُشَارَكَةِ فِي أُولَئِكَ فَعَطَفْنَا الْأَوَّلَ عَلَى الْجَزَاءِ لَا الْآخِرَ وَثَمَرَةُ هَذَا تَأْتِي فِي آخِرِ فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَلِهَذَا تَدْخُلُ فِي الْجَزَاءِ فَإِنْ قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَهَذِهِ الدَّارُ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالشَّرْطُ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى التَّرْتِيبِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْمَعْلُولِ نَحْوَ جَاءَ الشِّتَاءُ فَتَأَهَّبْ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْلُولُ عَيْنَ الْعِلَّةِ فِي الْوُجُودِ لَكِنْ فِي الْمَفْهُومِ غَيْرَهَا نَحْوَ سَقَاهُ فَأَرْوَاهُ وَنَحْوَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ حَتَّى يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» فَإِنْ قَالَ بِعْتُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْك فَقَالَ الْآخَرُ فَهُوَ حُرٌّ يَكُونُ قَبُولًا بِخِلَافِ هُوَ حُرٌّ وَلَوْ قَالَ لِخَيَّاطٍ أَيَكْفِينِي هَذَا الثَّوْبُ قَمِيصًا فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَكْفِيه يَضْمَنُ كَمَا لَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــQنَظَرًا إلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْ الْفَاعِلِ إلَّا فِعْلٌ وَاحِدٌ، وَإِلَّا فَالسَّقْيُ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ وَضْعِ الْمَاءِ عَلَى كَفِّهِ أَوْ صَبِّهِ فِي حَلْقِهِ، وَالْإِرْوَاءُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ شُرْبِهِ بِقَدْرِ الرِّيِّ، وَلِهَذَا صَحَّ أَنْ يُقَالَ سَقَاهُ فَمَا أَرْوَاهُ، وَأَمَّا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ} [هود: 45] ، وَ {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] فَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إلَى أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِرَادَةِ أَيْ أَرَادَ النِّدَاءَ، وَأَرَدْت جِدَالَنَا فَيَتَحَقَّقُ التَّعْقِيبُ، وَبَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ الْمُفَسِّرِ أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الْمُفَسَّرِ، وَمَرْتَبَةَ الْمَعْلُولِ بَعْدَ الْعِلَّةِ فَاسْتُعِيرَتْ الْفَاءُ لِمُجَرَّدِ التَّعْقِيبِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الرُّتْبَةِ. (قَوْلُهُ «وَلَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ» ) يَعْنِي أَنَّ الْوَالِدَ سَبَبٌ لِحَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ فَهُوَ بِالْإِعْتَاقِ يَصِيرُ سَبَبًا لِحَيَاتِهِ الْحُكْمِيَّةِ لِأَنَّ الرِّقَّ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ فَالْفَاءُ هَاهُنَا لِمُجَرَّدِ التَّأْخِيرِ بالْمَعْلُولِيَّةِ لَا بِالزَّمَانِ فَبِالِاشْتِرَاءِ يَحْصُلُ الْمِلْكُ، وَبِالْمِلْكِ يَحْصُلُ الْعِتْقُ لِأَنَّ وَضْعَ الشِّرَاءِ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ، وَالْإِعْتَاقِ لِإِزَالَتِهِ فَلَا يَكُونُ حُكْمًا لِلشِّرَاءِ إلَّا أَنَّهُ يَصِحُّ إضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مُوجِبًا لِمُوجِبِ الْعِتْقِ. (قَوْلُهُ فَهُوَ حُرٌّ) مَعَ الْفَاءِ يَقْتَضِي الْقَبُولَ كَأَنَّهُ قَالَ قَبِلْت فَهُوَ حُرٌّ إذْ الْإِعْتَاقُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْإِيجَابِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَبُولِ بِخِلَافِ هُوَ حُرٌّ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَدًّا لِلْإِيجَابِ بِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَهُ، وَكَذَا الْإِذْنُ بِالْقَطْعِ بِدُونِ الْفَاءِ إذْنٌ مُطْلَقٌ، وَمَعَ الْفَاءِ مُقَيَّدٌ بِالشَّرْطِ أَيْ إذَا كَانَ كَافِيًا فَاقْطَعْهُ قَوْلُهُ (وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ) دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى الْجُمَلِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى كَوْنِ مَا بَعْدَهَا سَبَبًا لِمَا قَبْلَهَا، وَلَمَّا كَانَ الْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ، وَالسَّبَبُ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُسَبَّبِ لَا مُتَعَاقِبًا إيَّاهُ تَكَلَّفَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِتَحْقِيقِ التَّعْقِيبِ بِأَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ عِلَّةٌ بِاعْتِبَارِ مَعْلُولٍ بِاعْتِبَارٍ وَدُخُولَ الْفَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْلُولِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ

قَالَ إنْ كَفَانِي فَاقْطَعْهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ اقْطَعْهُ، وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ نَحْوَ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاك الْغَوْثُ وَنَظِيرُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ وَكَذَا انْزِلْ فَأَنْتَ آمِنٌ) اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْفَاءِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ وَالْمَعْلُولُ يَعْقُبُ الْعِلَّةَ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ لِأَنَّ الْمَعْلُولَ إذَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ الْعِلَّةِ يَكُونُ عِلَّةً غَائِيَّةً لِلْعِلَّةِ فَتَصِيرُ الْعِلَّةُ مَعْلُولًا فَلِهَذَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَعْلُولٌ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: ذَا مُلْكٍ لَمْ يَكُنْ ذَا هِبَهْ ... فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذَاهِبَهْ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا يَعْتِقُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَأَنْتَ حُرٌّ مَعْنَاهُ لِأَنَّك حُرٌّ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فَأَنْتَ حُرٌّ جَوَابًا لِلْأَمْرِ لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ لَا يَقَعُ إلَّا الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لِأَنَّ الْأَمْرَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ بِتَقْدِيرِ إنْ وَكَلِمَةُ إنْ تَجْعَلُ الْمَاضِيَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَالْجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى الثُّبُوتِ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ وَإِنَّمَا تَجْعَلُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ مَلْفُوظَةً أَمَّا إذَا كَانَتْ مُقَدَّرَةً فَلَا كَمَا تَقُولُ إنْ تَأْتِنِي أَكْرَمْتُك وَلَا تَقُولُ ائْتِنِي أَكْرَمْتُكَ بَلْ يَجِبُ أَنْ تَقُولَ ائْتِنِي أُكْرِمْكَ فَكَذَا فِي الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ تَقُولُ إنْ تَأْتِنِي فَأَنْتَ مُكْرَمٌ وَلَا تَقُولُ ائْتِنِي فَأَنْتَ مُكْرَمٌ فَكَمَا لَا تَجْعَلُ " إنْ " الْمُقَدَّرَةُ الْمَاضِيَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلِّيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْلُولَ الَّذِي هُوَ الْحُكْمُ السَّابِقُ عَلَى الْفَاءِ كَالْإِبْشَارِ مَثَلًا عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ لِلْعِلَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْفَاءُ كَالْإِخْبَارِ بِإِتْيَانِ الْغَوْثِ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا مِنْهَا فَتَكُونُ تِلْكَ الْعِلَّةُ الَّتِي دَخَلَتْ عَلَيْهَا الْفَاءُ مَعْلُولًا بِالنَّظَرِ إلَى تِلْكَ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنْ لَيْسَ الْإِبْشَارُ عِلَّةً غَائِيَّةً لِإِتْيَانِ الْغَوْثِ، وَلَا الْأَمْرُ بِالتَّزَوُّدِ لِكَوْنِ خَيْرِ الزَّادِ التَّقْوَى، وَلَا الْأَمْرُ بِالْعِبَادَةِ لِكَوْنِ الْعِبَادَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ اُعْبُدْ رَبَّك فَالْعِبَادَةُ حَقٌّ لَهُ، وَلَا الْأَمْرُ بِتَرْكِهِ لِذَهَابِ دَوْلَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ لِلْإِخْبَارِ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ إنَّمَا تَكُونُ عِلَّةً لِعِلِّيَّةِ الْعِلَّةِ لَا لِلْعِلَّةِ نَفْسِهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْفَاءُ مَعْلُولًا؟ فَالْأَقْرَبُ مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ مِنْ أَنَّهَا إنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَدُومُ فَتَتَرَاخَى عَنْ ابْتِدَاءِ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْغَوْثَ بَاقٍ بَعْدَ الْإِبْشَارِ. (قَوْلُهُ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ يُعْتَقُ فِي الْحَالِ) بِخِلَافِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّ الْوَاوَ لِلْحَالِ فَيُفِيدُ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ مُقَارِنًا لِمَضْمُونِ الْعَامِلِ وَهُوَ تَأْدِيَةُ الْأَلْفِ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْحَالِ قَيْدًا لِلْعَامِلِ أَيْ يَكُونُ حُصُولُ مَضْمُونِ الْعَامِلِ مُقَارِنًا لِحُصُولِ مَضْمُونِ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِهِ سَابِقًا عَلَى حُصُولِ مَضْمُونِ الْعَامِلِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِقَوْلِنَا ائْتِنِي وَأَنْتَ رَاكِبٌ إلَّا عَلَى كَوْنِهِ رَاكِبًا حَالَةَ الْإِتْيَانِ، وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ تَقَدُّمُ مَضْمُونِ الْحَالِ عَلَى الْعَامِلِ لِكَوْنِهَا قَيْدًا لَهُ وَشَرْطًا، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْحُرِّيَّةُ قَبْلَ الْأَدَاءِ فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقَلْبِ أَيْ كُنْ حُرًّا وَأَنْتَ مُؤَدٍّ إلَيَّ أَلْفًا أَوْ هِيَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ أَيْ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا مُقَدِّرًا

فَكَذَلِكَ لَا تَجْعَلُ الِاسْمِيَّةَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ أَيْضًا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ مَدْلُولَ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بَعِيدٌ مِنْ الْمُسْتَقْبَلِ وَمَدْلُولَ الْمَاضِي قَرِيبٌ إلَيْهِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي كَوْنِهِمَا فِعْلًا وَدَلَالَتِهِمَا عَلَى الزَّمَانِ فَلَمَّا لَمْ تَجْعَلْ الْمَاضِيَ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ تُجْعَلْ الِاسْمِيَّةُ بِمَعْنَاهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى مَا (ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ مَعَ التَّرَاخِي وَهُوَ) أَيْ التَّرْتِيبُ مَعَ التَّرَاخِي (رَاجِعٌ إلَى التَّكَلُّمِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَإِلَى الْحُكْمِ عِنْدَهُمَا فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ ثُمَّ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقْنَ جَمِيعًا وَيَنْزِلْنَ مُرَتَّبًا فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَدْخُولًا بِهَا تَقَعُ وَاحِدَةً وَكَذَا إنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ وَعِنْدَهُ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إذَا قَدَّمَ الْجَزَاءَ وَإِنَّمَا لَمْ نَذْكُرْ تَقْدِيمَ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ يَأْتِي هُنَاكَ قَوْلُهُ وَإِنْ قَدَّمَ الشَّرْطَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَحْثَ السَّابِقَ فِي تَقْدِيمِ الْجَزَاءِ (يَقَعُ الْأَوَّلُ) أَيْ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ فِي التَّكَلُّمِ (وَيَلْغُو الْبَاقِي) لِعَدَمِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ غَيْرُ مَدْخُولٍ بِهَا (وَإِنْ قَدَّمَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحُرِّيَّةَ فِي حَالَةِ الْأَدَاءِ أَوْ الْجُمْلَةُ الْحَالِيَّةُ قَائِمَةٌ مَقَامَ جَوَابِ الْأَمْرِ أَيْ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا تَصِرْ حُرًّا أَوْ الْحَالُ وَصْفٌ، وَالْوَصْفُ لَا يَتَقَدَّمُ الْمَوْصُوفَ فَالْحُرِّيَّةُ تَتَأَخَّرُ عَنْ الْأَدَاءِ (قَوْلُهُ يَقَعُ الْأَوَّلُ) أَيْ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُهُ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّغْيِيرِ الِاتِّصَالُ لِيَكُونَ كَلَامًا وَاحِدًا فَيَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ، وَإِذَا اُعْتُبِرَ التَّرَاخِي فِي التَّكَلُّمِ صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ عَنْ الْآخَرِ. (قَوْلُهُ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ، وَأَنْتَ طَالِقٌ) فَإِنْ قُلْت لَمَّا جَعَلَ ثُمَّ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ فَلَا وَجْهَ لِتَقْدِيرِ الْوَاوِ، وَلَمَّا جَعَلَ هَذَا فِي حُكْمِ الْمُنْقَطِعِ عَمَّا قَبْلَهُ فَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ الشَّرِكَةِ فِيمَا تَمَّ بِهِ الْأَوَّلُ أَعْنِي الْمُبْتَدَأَ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ طَالِقٌ مِنْ غَيْرِ عَاطِفٍ وَلَا مُبْتَدَأٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ قُلْت ثُمَّ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْجَمْعِ وَالتَّرَاخِي فَإِذَا قَامَ السُّكُوتُ مَقَامَ التَّرَاخِي بَقِيَ الْجَمْعُ وَهُوَ مَعْنَى الْوَاوِ، ثُمَّ الِاتِّصَالُ صُورَةً كَافٍ فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ وَإِثْبَاتِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَبْدَأِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاتِّصَالِ صُورَةً وَمَعْنًى حَتَّى لَوْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَالِقٌ لَا يَتَعَلَّقُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ. (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ يَخُصُّ الْإِنْشَاءَ، وَمَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ مِنْ أَنَّهَا لِمُطْلَقِ التَّرَاخِي فَيَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَهُوَ فِي اللَّفْظِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَأَيْضًا دَخَلَتْ كَلِمَةُ التَّرَاخِي عَلَى اللَّفْظِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهَا فِيهِ أَيْضًا يَعُمُّ الْخَبَرَ وَالْإِنْشَاءَ. (قَوْلُهُ كَانَ الْمُتَكَلِّمُ مُتَرَاخِيًا تَقْدِيرًا) جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِهِمَا أَنَّ التَّكَلُّمَ مُتَّصِلٌ حَقِيقَةً فَكَيْفَ يُجْعَلُ مُنْفَصِلًا، وَلَا صِحَّةَ لِلْعَطْفِ مَعَ الِانْفِصَالِ؟ (قَوْلُهُ بَلْ لِلْإِعْرَاضِ عَمَّا قَبْلَهُ) أَيْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِثْبَاتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَإِذَا انْضَمَّ إلَيْهِ صَارَ نَصًّا فِي نَفْيِ الْأَوَّلِ نَحْوُ جَاءَنِي زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ فَعَلَى هَذَا

الشَّرْطَ تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَنَزَلَ الثَّانِي) أَيْ وَقَعَ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِ بِالشَّرْطِ كَأَنَّهُ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ وَأَنْتِ طَالِقٌ (وَلَغَا الثَّالِثُ) لِعَدَمِ الْمَحَلِّ وَفَائِدَةُ تَعَلُّقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إنْ مَلَكَهَا ثَانِيًا وَوَجَدَ الشَّرْطَ يَقَعُ الطَّلَاقُ (وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا) أَيْ إنْ قَدَّمَ الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ لِلْعُذْرِ السَّابِقِ (نَزَلَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي) أَيْ يَقَعَانِ فِي الْحَالِ لِعَدَمِ تَعَلُّقِهِمَا بِالشَّرْطِ لَهَا كَأَنَّهُ سَكَنَ عَنْهُمَا ثُمَّ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَلَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا تَكُونُ مَحَلًّا فَيَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ (وَتَعَلَّقَ الثَّالِثُ) لِقُرْبِهِ بِالشَّرْطِ (وَإِنْ قَدَّمَ) أَيْ الشَّرْطَ (تَعَلَّقَ الْأَوَّلُ وَنَزَلَ الْبَاقِي) وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنَّمَا جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّرَاخِيَ رَاجِعًا إلَى التَّكَلُّمِ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ فِي الْحُكْمِ مَعَ عَدَمِهِ فِي التَّكَلُّمِ مُمْتَنِعٌ فِي الْإِنْشَاءَاتِ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَاخَى عَنْ التَّكَلُّمِ فِيهَا فَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ مُتَرَاخِيًا كَانَ التَّكَلُّمُ مُتَرَاخِيًا تَقْدِيرًا كَمَا فِي التَّعْلِيقَاتِ فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عِنْدَ الدُّخُولِ أَنْتِ طَالِقٌ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَالِ تَطْلِيقًا أَيْ تَكَلُّمًا بِالطَّلَاقِ بَلْ يَصِيرُ تَطْلِيقًا عِنْدَ الشَّرْطِ (بَلْ لِلْإِعْرَاضِ) عَمَّا قَبْلَهُ وَإِثْبَاتِ مَا بَعْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّدَارُكِ نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو فَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ فِي قَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَلْ أَلْفَانِ يَجِبُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ تُطْلَقُ ثَلَاثًا قُلْنَا الْإِخْبَارُ يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ وَذَا فِي الْعُرْفِ نَفْيُ انْفِرَادِهِ ذَا إشَارَةٌ إلَى التَّدَارُكِ أَيْ التَّدَارُكُ فِي الْإِعْدَادِ بِكَلِمَةٍ بَلْ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِانْفِرَادِ عُرْفًا (نَحْوَ سِنِّي سِتُّونَ بَلْ سَبْعُونَ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ) أَيْ الْإِنْشَاءُ لَا يَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّدَارُكِ تَدَارُكُ الْكَذِبِ وَالْإِنْشَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَكُونُ مَعْنَى التَّدَارُكِ أَنَّ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ بَاطِلٌ وَغَلَطٌ بَلْ إنَّ الْإِخْبَارَ بِهِ مَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ، وَبَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ هُوَ الرُّجُوعُ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِبْطَالُهُ، وَإِثْبَاتُ الثَّانِي تَدَارُكٌ لِمَا وَقَعَ أَوَّلًا مِنْ الْغَلَطِ، وَبِالْجُمْلَةِ وُقُوعُهَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ لِلْأَخْذِ فِي كَلَامٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ رُجُوعِ إبْطَالٍ. (قَوْلُهُ وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ) أَيْ وَلِكَوْنِهَا لِلْإِعْرَاضِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْأَوَّلِ وَالرُّجُوعَ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضًى، بَلْ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِعْرَاضُ بَلْ لِتَغْيِيرِ صَدْرِ الْكَلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّلَاثَةُ وَتَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ، فَلُزُومُ الثَّلَاثَةِ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّهَا لِلْإِعْرَاضِ لَا لِلتَّغْيِيرِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ فَيَحْتَمِلُ التَّدَارُكَ إلَّا أَنَّ التَّدَارُكَ فِي الْأَعْدَادِ يُرَادُ بِهِ نَفْيُ الِانْفِرَادِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا لَا نَفْيُ أَصْلِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ وَلَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ تَدَارَكَ ذَلِكَ الِانْفِرَادَ وَأَبْطَلَهُ وَقَالَ بَلْ مَعَ ذَلِكَ الْأَلْفِ أَلْفٌ آخَرُ، وَذَلِكَ بِحُكْمِ الْعُرْفِ كَمَا يُقَالُ سِنِّي سِتُّونَ بَلْ سَبْعُونَ، يُرَادُ بِهِ زِيَادَةُ الْعَشْرِ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ

(فَقُلْنَا) تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ أَيْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبَ قُلْنَا (تَقَعُ الْوَاحِدَةُ إذَا قَالَ ذَلِكَ) أَيْ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ (لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا) فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَقَعَتْ وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ وَالْإِبْطَالُ لِكَوْنِهِ إنْشَاءً فَإِذَا وَقَعَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَبْقَ الْمَحَلُّ لِيَقَعَ بِقَوْلِهِ بَلْ ثِنْتَيْنِ (بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَلْ ثِنْتَيْنِ (فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ قَصَدَ إبْطَالَ الْأَوَّلِ) أَيْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَهُوَ تَعْلِيقُ الْوَاحِدَةِ بِالشَّرْطِ (وَإِفْرَادَ الثَّانِي بِالشَّرْطِ مَقَامَ الْأَوَّلِ) أَيْ قَصَدَ تَعْلِيقَ الْكَلَامِ الثَّانِي بِالشَّرْطِ حَالَ كَوْنِهِ مُنْفَرِدًا غَيْرَ مُنْضَمٍّ إلَى الْأَوَّلِ (وَلَا يَمْلِكُ الْأَوَّلَ) أَيْ الْإِبْطَالَ الْمَذْكُورَ (وَيَمْلِكُ الثَّانِيَ) أَيْ الْإِفْرَادَ الْمَذْكُورَ (فَتَعَلَّقَ بِشَرْطٍ آخَرَ) أَيْ تَعَلَّقَ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ ثِنْتَيْنِ بِشَرْطٍ آخَرَ فَاجْتَمَعَ تَعْلِيقَانِ أَحَدُهُمَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً وَالثَّانِي إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ وَقَعَ الثَّلَاثُ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ إنْ دَخَلْت الدَّارِ بِخِلَافِ الْوَاوِ فَإِنَّهُ الْعَطْفُ عَلَى تَقْدِيرِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَلَّقُ الثَّانِي بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ كَمَا قُلْنَا) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ فَإِنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQجِنْسُ الْمَالِ مِثْلُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَلْ أَلْفُ ثَوْبٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُ الْجَمِيعُ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْوَاوِ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْعَطْفُ عَلَى الْجَزَاءِ بِالْوَاوِ تَعَلَّقَ الثَّانِي بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ مِثْلِهِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَكُونَ الْوُقُوعُ عِنْدَ الشَّرْطِ عَلَى التَّرْتِيبِ فَلَا يَبْقَى الْمَحَلُّ بِوَاسِطَةِ وُقُوعِ الْأَوَّلِ فَلَا يَقَعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَإِذَا كَانَ الْعَطْفُ بِكَلِمَةٍ بَلْ تَعَلَّقَ الثَّانِي بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ مُمَاثِلٍ لِلْمَذْكُورِ حَتَّى يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِتَكْرِيرِ الشَّرْطِ مِثْلَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً، وَإِنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَيْنِ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ بِالدُّخُولِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيرِ الشَّرْطِ وَامْتِنَاعِ تَعَلُّقِهِ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بِعَيْنِهِ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ لَمَّا كَانَ لِإِبْطَالِ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَهُ كَانَ مِنْ قَضِيَّتِهِ اتِّصَالُهُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ بِلَا وَاسِطَةٍ لَكِنْ بِشَرْطِ إبْطَالِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إبْطَالُ الْأَوَّلِ وَفِي وُسْعِهِ إفْرَادُ الثَّانِي بِالشَّرْطِ لِتَصِلَ بِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَأَنَّهُ قَالَ لَا بَلْ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَيَصِيرُ كَالْحَلِفِ بِيَمِينٍ لَكِنَّا نَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اتِّصَالَهُ بِذَلِكَ الشَّرْطِ مَوْقُوفٌ عَلَى إبْطَالِ الْأَوَّلِ، وَتَمَسَّك بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَقْلٍ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ كَيْفَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ ثِنْتَيْنِ عَطْفٌ عَلَى وَاحِدَةٍ عَطْفُ مُفْرَدٍ عَلَى مُفْرَدٍ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرِ عَامِلٍ لَهُ فَضْلًا عَنْ تَقْدِيرِ الشَّرْطِ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَا يُقَالُ إنَّهُ قَصَدَ إبْطَالَ الْأَوَّلِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ الثَّانِي مُعَلَّقًا بِمَا قَصَدَ إبْطَالَهُ لِأَنَّا نَقُولُ إنَّمَا قَصَدَ إبْطَالَ

الْوَاوَ لِلْعَطْفِ مَعَ تَقْرِيرِ الْأَوَّلِ فَيَتَعَلَّقُ الثَّانِي بِعَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَوَّلُ بِوَاسِطَةِ الْأَوَّلِ فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَكُونُ الْوُقُوعُ عَلَى التَّرْتِيبِ وَلَمَّا لَمْ يَبْقَ الْمَحَلُّ بِوُقُوعِ الْأَوَّلِ لَا يَقَعُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ كَمَا قُلْنَا فِي حَرْفِ الْوَاوِ (لَكِنَّ لِلِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ إذَا دَخَلَ فِي الْمُفْرَدِ وَإِنْ دَخَلَ فِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ اخْتِلَافُ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا وَهِيَ بِخِلَافِ بَلْ) اعْلَمْ أَنْ لَكِنَّ لِلِاسْتِدْرَاكِ فَإِنْ دَخَلَ فِي الْمُفْرَدِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ النَّفْيِ نَحْوَ مَا رَأَيْت زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا فَإِنَّهُ يَتَدَارَكُ عَدَمَ رُؤْيَةِ زَيْدٍ بِرُؤْيَةِ عَمْرٍو، وَإِنْ دَخَلَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَجِبُ كَوْنُهُ بَعْدَ النَّفْيِ بَلْ يَجِبُ اخْتِلَافُ الْجُمْلَتَيْنِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَإِنْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَ لَكِنْ مُثْبَتَةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَهَا مَنْفِيَّةً وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي قَبْلَهَا مَنْفِيَّةً وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الَّتِي بَعْدَهَا مُثْبَتَةً وَهِيَ بِخِلَافِ بَلْ فِي أَنَّ بَلْ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ لَيْسَتْ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ (فَإِنْ أَقَرَّ لِزَيْدٍ بِعَبْدٍ فَقَالَ زَيْدٌ مَا كَانَ لِي قَطُّ لَكِنْ لِعَمْرٍو فَإِنْ وَصَلَ فَلِعَمْرٍو وَإِنْ فَصَلَ فَلِلْمُقِرِّ لِأَنَّ النَّفْيَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَكْذِيبًا لِإِقْرَارِهِ فَيَكُونُ) أَيْ النَّفْيُ (رَدًّا إلَى الْمُقِرِّ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ تَكْذِيبًا إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَعْرُوفًا بِكَوْنِهِ لِزَيْدٍ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَأَقَرَّ بِهِ لِزَيْدٍ فَقَالَ زَيْدٌ الْعَبْدُ وَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ لِي لَكِنَّهُ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ لِعَمْرٍو فَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ لِعَمْرٍو بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِذَلِكَ النَّفْيِ فَيَتَوَقَّفُ بَيَانٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ كَالْوَاحِدَةِ لَا نَفْسَ الشَّرْطِ وَالتَّعْلِيقِ (قَوْلُهُ لَكِنَّ لِلِاسْتِدْرَاكِ) أَيْ التَّدَارُكِ، وَفَسَّرَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِرَفْعِ التَّوَهُّمِ النَّاشِئِ مِنْ الْكَلَامِ السَّابِقِ مِثْلَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو إذَا تَوَهَّمَ الْمُخَاطَبُ عَدَمَ مَجِيءِ عَمْرٍو أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مُخَالَطَةٍ وَمُلَابَسَةٍ بَيْنَهُمَا، وَفِي الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ زَيْدًا جَاءَك دُونَ عَمْرٍو فَبِالْجُمْلَةِ وَضَعَهَا لِلِاسْتِدْرَاكِ وَمُغَايِرَةِ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا فَإِذَا عُطِفَ بِهَا مُفْرَدٌ فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلهَا مَنْفِيًّا لِيَحْصُلَ الْمُغَايَرَةُ، وَإِذَا عُطِفَ بِهَا جُمْلَةٌ فَهِيَ تَحْتَمِلُ الْإِثْبَاتَ فَيَكُونُ مَا قَبْلهَا مَنْفِيًّا، وَتَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَيَكُونُ مَا قَبْلَهَا مُثْبَتًا فَيَكْفِي اخْتِلَافُ الْكَلَامَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْفِيُّ هُوَ الْأَوَّلُ أَمْ الثَّانِي، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ اخْتِلَافُ الْكَلَامَيْنِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى سَوَاءٌ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ لَفْظًا نَحْوَ جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَجِئْ أَوْ لَا نَحْوُ سَافَرَ زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو حَاضِرٌ. (قَوْلُهُ وَهِيَ بِخِلَافِ بَلْ) ذَكَرَ النُّحَاةُ أَنَّهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ نَظِيرَةُ بَلْ أَيْ فِي الْوُقُوعِ بَعْدَ النَّفْيِ وَالْإِيجَابِ كَمَا أَنَّهَا فِي عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ نَقِيضَةُ لَا حَيْثُ يَخْتَصُّ لَا بِمَا بَعْدَ الْإِيجَابِ، وَلَكِنْ بِمَا بَعْدَ النَّفْيِ فَكَأَنَّهُ مَظِنَّةُ أَنْ يَتَوَهَّمَ أَنَّهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ مِثْلَ بَلْ فِي مَعْنَى الْإِعْرَاضِ فَنَفَى ذَلِكَ التَّوَهُّمَ فَفِي بَلْ إعْرَاضٌ عَنْ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ، وَالْحُكْمُ هُوَ الثَّانِي فَقَطْ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي الْعَطْفِ بِبَلْ إلَّا إخْبَارٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ فِي لَكِنْ إعْرَاضٌ عَنْ الْأَوَّلِ بَلْ الْحُكْمَانِ مُتَحَقِّقَانِ، وَفِيهِ

عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى قَوْلِهِ لَكِنْ لِعَمْرٍو (بِشَرْطِ الْوَصْلِ) لِأَنَّ بَيَانَ التَّغْيِيرِ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ أَنَّهُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَتْنِ وَقَدْ عُرِفَ فِي بَيَانِ التَّغْيِيرِ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْآخِرِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُمَا مَعًا لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الصَّدْرِ ثُمَّ يَخْرُجُ الْبَعْضُ (وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي الْمُقْتَضَى لَهُ بِدَارٍ بِالْبَيِّنَةِ إذَا قَالَ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ لَكِنَّهَا لِزَيْدٍ وَقَالَ زَيْدٌ بَاعَ مِنِّي أَوْ وَهَبَ لِي بَعْدَ الْقَضَاءِ أَنَّ الدَّارَ لِزَيْدٍ وَعَلَى الْمُقْتَضَى لَهُ الْقِيمَةُ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إذَا وَصَلَ فَكَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالنَّفْيِ وَالِاسْتِدْرَاكِ مَعًا فَيَثْبُتُ مَعًا مُوجَبُهُمَا وَهُوَ النَّفْيُ عَنْ نَفْسِهِ وَثُبُوتُ مِلْكٍ لِزَيْدٍ، ثُمَّ تَكْذِيبُ الشُّهُودِ وَإِثْبَاتُ مِلْكِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَازِمٌ لِذَلِكَ النَّفْيِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِعَمْرٍو بَعْدَ ثُبُوتِ مُوجَبَيْ الْكَلَامَيْنِ) وَهُمَا النَّفْيُ عَنْ نَفْسِهِ وَثُبُوتُ مِلْكٍ لِزَيْدٍ (فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ (لَا عَلَى زَيْدٍ فَيَضْمَنُ الْقِيمَةَ ثُمَّ إنْ اتَّسَقَ الْكَلَامُ تَعَلَّقَ مَا بَعْدَهُ بِمَا قَبْلَهُ) يَرْجِعُ إلَى أَوَّلِ الْبَحْثِ وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQإخْبَارٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا نَفْيٌ، وَالْآخَرَ إثْبَاتٌ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ مُوجَبَ بَلْ وَضْعًا نَفْيُ الْأَوَّلِ وَإِثْبَاتُ الثَّانِي حَتَّى أَنَّ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ بَلْ عَمْرٌو انْتَفَى مَجِيءُ زَيْدٍ بِكَلِمَةِ بَلْ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الْأَوَّلِ إبْطَالُهُ وَالْحُكْمُ بِنَقِيضِهِ لَا جَعْلُهُ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ. (قَوْلُهُ لَكِنْ لِعَمْرٍو) فِي كُتُبِ الْأُصُولِ لَكِنَّهُ لِعَمْرٍو فَغَيَّرَهُ إلَى الْعَاطِفَةِ، وَلَمْ يُغَيِّرْهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعَاطِفَةِ وَغَيْرِهَا، وَالنَّفْيُ أَعْنِي قَوْلَهُ مَا كَانَ لِي قَطُّ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا تَكْذِيبُ الْمُقِرِّ وَرَدُّ إقْرَارِهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ خَرَجَ جَوَابًا لِلْإِقْرَارِ، وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ رَدًّا بَلْ تَحْوِيلًا حَتَّى كَأَنَّهُ صَارَ قَابِلًا لِلْعَبْدِ مُقِرًّا بِهِ لِعَمْرٍو فَيَكُونُ النَّفْيُ مَجَازًا كَمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ وَالْمُصَنِّفُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَرَّحَ بِعَدَمِ مِلْكِيَّتِهِ لَهُ فِي زَمَانٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ التَّحْوِيلُ، وَلَا قَرِينَةَ عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ الْمَجَازِ بَلْ الِاحْتِمَالُ هُوَ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ زَيْدٍ زَمَانًا وَاشْتُهِرَ أَنَّهُ مِلْكُهُ لَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ قَطُّ بَلْ لِعَمْرٍو فَيَصِيرُ قَوْلُهُ لَكِنْ لِعَمْرٍو بَيَانُ تَغْيِيرٍ لِمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْكَلَامِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا حَتَّى يَثْبُتَ النَّفْيُ عَنْ زَيْدٍ وَالْإِثْبَاتُ لِعَمْرٍو مَعًا لَا مُتَرَاخِيًا لِأَنَّ النَّفْيَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ رَدًّا لِلْإِقْرَارِ، وَلَا يُثْبِتُ مِلْكِيَّةَ عَمْرٍو لِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ. (قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا) أَيْ إذَا ادَّعَى بَكْرٌ دَارًا فِي يَدِ عَمْرٍو أَنَّهَا لَهُ، وَجَحَدَ عَمْرٌو فَأَقَامَ بَكْرٌ بَيِّنَةً فَقَضَى الْقَاضِي بِالدَّارِ لَهُ ثُمَّ قَالَ بَكْرٌ مَا كَانَتْ الدَّارُ لِي قَطُّ لَكِنَّهَا لِزَيْدٍ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ فَصَدَّقَهُ زَيْدٌ فِي الْإِقْرَارِ، وَكَذَّبَهُ فِي أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَالَ زَيْدٌ بَاعَ بَكْرٌ الدَّارَ مِنِّي أَوْ وَهَبَهَا لِي بَعْدَ الْقَضَاءِ فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَالُوا الدَّارُ لِزَيْدٍ، وَعَلَى بَكْرٍ الْمَقْضِيِّ لَهُ قِيمَةُ الدَّارِ لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الِاسْتِدْرَاكَ بِالنَّفْيِ

أَنَّ لَكِنَّ لِلِاسْتِدْرَاكِ فَيُنْظَرُ أَنَّ الْكَلَامَ مُرْتَبِطٌ أَمْ لَا أَيْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَ لَكِنْ تَدَارُكًا لِمَا قَبْلَهَا أَوَّلًا فَإِنْ صَلُحَ يُحْمَلُ عَلَى التَّدَارُكِ (وَإِلَّا فَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَتَّسِقْ أَيْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا تَدَارُكًا لِمَا قَبْلَهَا يَكُونُ مَا بَعْدَهَا كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا (نَحْوُ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ قَرْضٌ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لَا لَكِنْ غَصْبٌ الْكَلَامُ مُتَّسِقٌ فَصَحَّ الْوَصْلُ عَلَى أَنَّهُ نَفْيُ السَّبَبِ لَا الْوَاجِبِ) فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْوَاجِبِ لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى نَفْيِ الْوَاجِبِ لَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ لَكِنْ غَصْبٌ وَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ مُتَّسِقًا مُرْتَبِطًا فَحَمَلْنَاهُ عَلَى نَفْيِ السَّبَبِ فَلَمَّا نَفَى كَوْنَهُ قَرْضًا تَدَارَكَ بِكَوْنِهِ غَصْبًا فَصَارَ الْكَلَامُ مُرْتَبِطًا (وَلَا يَكُونُ رَدًّا لِإِقْرَارِهِ) بَلْ يَكُونُ نَفْيَ السَّبَبِ (بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَتْ أَمَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا بِمِائَةٍ فَقَالَ لَا أُجِيزَ النِّكَاحَ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ وَجَعَلَ لَكِنْ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ لَهُ فَكَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِمَا مَعًا فَيَثْبُتُ مُوجِبُهُمَا مَعًا أَعْنِي نَفْيَ الْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ وَثُبُوتَ الْمِلْكِ لِزَيْدٍ، وَإِنَّمَا احْتَجَّ إلَى إثْبَاتِهِمَا مَعًا لِأَنَّهُ لَوْ حَكَمَ بِالنَّفْيِ أَوَّلًا يَنْتَقِضُ الْقَضَاءُ وَيَصِيرُ الْمِلْكُ لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَالِاسْتِدْرَاكُ يَكُونُ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ وَإِخْبَارًا بِأَنَّ مِلْكَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ فَالْحَاصِلُ أَنَّ مُقَارَنَةَ الْكَلَامَيْنِ تَثْبُتُ بِتَوَقُّفِ أَوَّلِ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ بِنَاءً عَلَى وُجُودِ الْمُغَيِّرِ حَتَّى كَأَنَّهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يُفْصَلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ النَّفْيَ هُنَا لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ عُرْفًا فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْمُؤَكَّدِ لَا حُكْمُ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ وَسَكَتَ أَوْ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُتَأَخِّرِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْمُؤَكَّدِ أَوْ أَنَّ الْمُقِرَّ قَصَدَ تَصْحِيحَ إقْرَارِهِ، وَذَلِكَ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِمَا إذَا كَذَّبَهُ زَيْدٌ فِي النَّفْيِ لِأَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ فِيهِ أَيْضًا تُرَدُّ الدَّارُ إلَى عَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِاتِّفَاقِ زَيْدٍ وَبَكْرٍ عَلَى بُطْلَانِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ وَالْحُكْمِ. (قَوْلُهُ ثُمَّ تَكْذِيبُ الشُّهُودِ) إشَارَةٌ إلَى الدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ قِيمَةِ الدَّارِ لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ عَلَى بَكْرٍ الْمَقْضِيِّ لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ نَفْيُ الْمِلْكِ عَنْهُ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ الْمَاضِيَةِ فَيَشْمَلُ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا النَّفْيِ تَكْذِيبُ شُهُودِهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِإِثْبَاتِ الدَّارِ مِلْكًا لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَكِنْ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِزَيْدٍ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ لِعَمْرٍو الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَازِمٌ لِنَفْيِ الْمِلْكِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ مُقَارِنٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِزَيْدٍ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَازِمُ الشَّيْءِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ وَعَمَّا مَعَهُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ مَا كَانَتْ لِي قَطُّ مُسْتَلْزِمًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا إبْطَالُ الْإِقْرَارِ لِزَيْدٍ، وَهُوَ إقْرَارٌ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُسْمَعُ، وَالثَّانِي إبْطَالُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَهُوَ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ فَيُسْمَعُ، وَيَقُومُ حُجَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يُثْبِتَ الدَّارَ مِلْكًا لِعَمْرٍو وَقَدْ أَتْلَفَهَا بِالْإِثْبَاتِ لِزَيْدٍ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا. (قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ اتَّسَقَ) أَيْ انْتَظَمَ وَارْتَبَطَ

النِّكَاحِ بِمِائَتَيْنِ) فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَلَامُ غَيْرُ مُتَّسِقٍ لِأَنَّ اتِّسَاقَهُ بِأَنْ لَا يَصِحَّ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ بِمِائَةٍ لَكِنْ يَصِحُّ بِمِائَتَيْنِ وَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ انْفَسَخَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ ذَلِكَ النِّكَاحِ بِمِائَتَيْنِ فَيَكُونُ نَفْيُ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَإِثْبَاتُهُ بِعَيْنِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّسِقٍ فَحَمَلْنَا قَوْلَهُ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ فَيَكُونُ إجَازَةً لِنِكَاحٍ آخَرَ مَهْرُهُ مِائَتَانِ (أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لَا لِلشَّكِّ فَإِنَّ الْكَلَامَ لِلْإِفْهَامِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الشَّكُّ مِنْ الْمَحَلِّ وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لِلتَّخْيِيرِ كَآيَةِ الْكَفَّارَةِ فَقَوْلُهُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا إنْشَاءٌ شَرْعًا فَأَوْجَبَ التَّخْيِيرَ بِأَنْ يُوقِعَ الْعِتْقَ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَكُونُ هَذَا) أَيْ إيقَاعُ الْعِتْقِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ (إنْشَاءً حَتَّى يَشْتَرِطَ صَلَاحِيَّةَ الْمَحَلِّ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ إيقَاعِ الْعِتْقِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ (وَإِخْبَارَ لُغَةٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إنْشَاءً شَرْعًا (فَيَكُونُ بَيَانُهُ إظْهَارًا لِلْوَاقِعِ فَيُجْبَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْمُرَادُ هَاهُنَا أَنْ يَصْلُحَ مَا بَعْدَ لَكِنْ تَدَارُكًا لِمَا قَبْلَهَا مِثْلُ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو، وَزَيْدٌ قَائِمٌ لَكِنْ عَمْرٌو قَاعِدٌ، وَمَا أَكْرَمْت زَيْدًا لَكِنْ أَهَنْته بِخِلَافِ مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ رَكِبَ الْأَمِيرُ، وَزَيْدٌ قَائِمٌ لَكِنْ عَمْرٌو قَاعِدٌ وَمَا أَكْرَمْت زَيْدًا لَكِنْ أَهَنْتُهُ بِخِلَافِ مَا جَاءَ زَيْدٌ لَكِنْ رَكِبَ الْأَمِيرُ وَزَيْدٌ قَائِمٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَيْسَ بِكَاتِبٍ، وَبِالْجُمْلَةِ يَكُونُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ لَكِنْ مِمَّا يَكُونُ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِحَيْثُ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ عَكْسَهُ أَوْ يَكُونُ فِيهِ تَدَارُكٌ لِمَا فَاتَ مِنْ مَضْمُونِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَالِاتِّسَاقُ هُوَ الْأَصْلُ حَتَّى يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مَا أَمْكَنَ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا لَكِنْ غَصْبٌ حَيْثُ حُمِلَ عَلَى وُقُوعِ الْخَطَأِ فِي السَّبَبِ فَنَفَى الْقَرْضَ وَأَثْبَتَ الْغَصْبَ فَاتَّسَقَ الْكَلَامُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَا أُجِيزُ النِّكَاحَ لَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ نَفَى إجَازَةَ النِّكَاحِ عَنْ أَصْلِهِ فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِهِ بِمِائَةٍ أَوْ بِمِائَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُتَّسِقًا لَوْ قَالَ لَا أُجِيزُهُ بِمِائَةٍ، وَلَكِنْ أُجِيزُهُ بِمِائَتَيْنِ لِيَكُونَ التَّدَارُكُ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ لَا فِي أَصْلِ النِّكَاحِ فَلَا يَبْطُلُ. صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ النَّفْيَ فِي الْكَلَامِ رَاجِعٌ إلَى الْقَيْدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُفِيدُ الْحُكْمَ مُقَيَّدًا بِذَلِكَ الْقَيْدِ لَا رَفْعَهُ عَنْ أَصْلِهِ بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ إثْبَاتَهُ مُقَيَّدًا بِقَيْدٍ آخَرَ فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ الْمُنْعَقِدُ الْمَوْقُوفُ هُوَ ذَلِكَ النِّكَاحُ الْمُقَيَّدُ بِمِائَةٍ فَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ حَتَّى يَنْعَقِدَ بِمِائَتَيْنِ قُلْنَا هُوَ نِكَاحٌ مُقَيَّدٌ، وَإِبْطَالُ الْوَصْفِ لَيْسَ إبْطَالًا لِلْأَصْلِ (قَوْلُهُ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ) فَإِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ فَهِيَ تُفِيدُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِأَحَدِهِمَا، وَإِنْ كَانَا جُمْلَتَيْنِ تُفِيدُ حُصُولَ مَضْمُونِ إحْدَاهُمَا، وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ النَّحْوِ وَالْأُصُولِ إلَى أَنَّهَا فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ شَاكٌّ لَا يَعْلَمُ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ فَرُدَّ ذَلِكَ بِأَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ لِلْإِفْهَامِ فَلَا يُوضَعُ لِلشَّكِّ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الشَّكُّ مِنْ مَحَلِّ الْكَلَامِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ بِمَجِيءِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ قَدْ يَكُونُ لِشَكِّ الْمُتَكَلِّمِ فِيهِ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَانِيَ أَحَدُهُمَا، وَلَا يَعْلَمُ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ يَكُونُ لِتَشْكِيكِ السَّامِعِ لِغَرَضٍ لَهُ

عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْبَيَانِ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إنْشَاءٌ فِي الشَّرْعِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِلْإِخْبَارِ لُغَةً حَتَّى لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَقَالَ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا لَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ لِاحْتِمَالِ الْإِخْبَارِ هُنَا فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْشَاءٌ شَرْعًا يُوجِبُ التَّخْيِيرَ أَيْ يَكُونُ لَهُ وِلَايَةُ إيقَاعِ هَذَا الْعِتْقِ فِي أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَكُونُ هَذَا الْإِيقَاعُ إنْشَاءً وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إخْبَارٌ لُغَةً يُوجِبُ الشَّكَّ وَيَكُونُ إخْبَارًا بِالْمَجْهُولِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ مَا فِي الْوَاقِعِ وَهَذَا الْإِظْهَارُ لَا يَكُونُ إنْشَاءً بَلْ إظْهَارًا لِمَا هُوَ الْوَاقِعُ فَلَمَّا كَانَ لِلْبَيَانِ وَهُوَ تَعْيِينُ أَحَدِهِمَا شَبَهَانِ شَبَهُ الْإِنْشَاءِ وَشَبَهُ الْإِخْبَارِ عَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْشَاءٌ شَرَطْنَا صَلَاحِيَّةَ الْمَحَلِّ عِنْدَ الْبَيَانِ حَتَّى إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَقَالَ أَرَدْت الْمَيِّتَ لَا يُصَدَّقُ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إخْبَارٌ قُلْنَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَإِنَّهُ لَا جَبْرَ فِي الْإِنْشَاءَاتِ بِخِلَافِ الْإِخْبَارَاتِ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِالْمَجْهُولِ حَيْثُ يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ (وَهَذَا مَا قِيلَ إنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ إخْبَارٌ مِنْ وَجْهٍ وَفِي قَوْلِهِ وَكَّلْت هَذَا أَوْ هَذَا أَيُّهُمَا تَصَرَّفَ صَحَّ فَلِهَذَا) أَيْ لِمَا قُلْنَا إنَّ أَوْ فِي الْإِنْشَاءَاتِ لِلتَّخْيِيرِ (أَوْجَبَ الْبَعْضُ التَّخْيِيرَ) فِي كُلِّ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ لِمُجَرَّدِ إبْهَامِ وَإِظْهَارِ نَصَفِهِ مِثْلَ {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] بِالْجُمْلَةِ الْإِخْبَارُ بِالْمُبْهَمِ لَا يَخْلُو عَنْ غَرَضٍ إلَّا أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ إلَى الْفَهْمِ هُوَ إلَيْك فَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى أَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا نِزَاعَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا إلَّا تَبَادُرَ الذِّهْنِ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ وَضْعَ الْكَلَامِ لِلْإِفْهَامِ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَوْ لَمْ تُوضَعْ لِلتَّشْكِيكِ، وَإِلَّا فَالشَّكُّ أَيْضًا مَعْنًى يُقْصَدُ إفْهَامُهُ بِأَنْ يُخْبِرَ الْمُتَكَلِّمُ الْمُخَاطَبَ بِأَنَّهُ شَاكٌّ فِي تَعْيِينِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْإِنْشَاءِ) فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّكَّ أَوْ التَّشْكِيكَ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الْكَلَامِ ابْتِدَاءً فَأَوْ فِي الْأَمْرِ لِلتَّخْيِيرِ أَوْ الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّسْوِيَةِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ بِمَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَالتَّخْيِيرُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ فَإِنَّهُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ فَلِيُكَفِّرْ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ التَّخْيِيرِ وَالْإِبَاحَةِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ فِي التَّخْيِيرِ الْجَمْعُ وَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْإِبَاحَةِ، لَكِنَّ الْفَرْقَ هَاهُنَا هُوَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي الْإِبَاحَةِ الْإِتْيَانُ بِوَاحِدٍ، وَفِي التَّخْيِيرِ يَجِبُ، وَحِينَئِذٍ إنْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرَ، وَيَثْبُتُ الْجَوَازُ بِعَارِضِ الْأَمْرِ كَمَا إذَا قَالَ بِعْ عَبِيدِي هَذَا أَوْ ذَاكَ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ، وَيَجِبُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الْإِبَاحَةَ، وَوَجَبَ بِالْأَمْرِ وَاحِدٌ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ الْجَمْعُ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَهَذَا يُسَمَّى التَّخْيِيرُ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ. (قَوْلُهُ إنْشَاءً شَرْعًا) لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ فَلَوْ كَانَ خَبَرًا لَكَانَ كَذِبًا فَيَجِبُ أَنْ يَجْعَلَ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةً قُبَيْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لِمَدْلُولِهِ اللُّغَوِيِّ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ إنْشَاءً شَرْعًا وَعُرْفًا

{أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وَقُلْنَا ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ مُقَابِلَةً لِأَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ عَادَةً مِنْ قَتْلٍ أَوْ قَتْلٍ وَأَخْذِ مَالٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ أَوْ تَخْوِيفٍ (فَالْقَتْلُ جَزَاؤُهُ الْقَتْلُ وَالْقَتْلُ وَالْأَخْذُ جَزَاؤُهُ الصَّلْبُ وَأَخْذُ الْمَالِ جَزَاؤُهُ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالتَّخْوِيفُ جَزَاؤُهُ النَّفْيُ أَيْ الْحَبْسُ الدَّائِمُ) عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُهُ عَلَى هَذَا الْمِثَالِ فَإِنْ أَخَذَ وَقَتَلَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنْ شَاءَ قَطَعَ ثُمَّ قَتَلَ أَوْ صَلَبَ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ أَوْ صَلَبَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَحْتَمِلُ الِاتِّحَادَ وَالتَّعَدُّدَ وَلِهَذَا قَالَا فِي هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا مُشِيرًا إلَى عَبْدِهِ وَدَابَّتِهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِأَحَدِهِمَا الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ وَهُوَ غَيْرُ صَالِحٍ لِعِتْقٍ هُنَا وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يُحْمَلُ عَلَى الْوَاحِدِ لِلْعَيْنِ مَجَازًا إذْ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مُتَعَذِّرٌ وَلَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ الثَّلَاثَةِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا يُعْتَقُ الثَّالِثُ وَيُخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرَيْنِ لَكِنْ حَمَلَهُ عَلَى قَوْلِنَا أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَهَذَا أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ أَحَدُهُمَا حُرٌّ وَهَذَا حُرٌّ وَعَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ يَكُونُ تَقْدِيرُهُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ حُرَّانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإخْبَارَ الْحَقِيقَةِ، وَلُغَةً. (قَوْلُهُ وَيَكُونُ هَذَا إنْشَاءً) لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ إنْشَاءٌ، وَإِنَّمَا نَزَلَ فِي مُبْهَمٍ لَا فِي مُعَيَّنٍ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي غَيْرِ مَا أَوْجَبَهُ، وَالْعِتْقُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُعَيَّنِ بِالْبَيَانِ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْإِنْشَاءِ. (قَوْلُهُ أَيُّهُمَا تَصَرَّفَ صَحَّ) حَتَّى لَوْ بَاعَهُ أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ صَحَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَهُ، وَإِنْ عَادَ إلَى مِلْكِ الْمُوَكِّلِ. (قَوْلُهُ وَقُلْنَا ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ مُقَابِلَةً لِأَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ) ، وَالْجَزَاءُ مِمَّا يَزْدَادُ بِازْدِيَادِ الْجِنَايَةِ، وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فَيَبْعُدُ مُقَابَلَةُ أَغْلَظِ الْجِنَايَةِ بِأَخَفِّ الْجَزَاءِ، وَبِالْعَكْسِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِالتَّخْيِيرِ الظَّاهِرِ مِنْ الْآيَةِ فَوُزِّعَتْ الْجُمَلُ الْمَذْكُورَةُ فِي مَعْرِضِ الْجَزَاءِ عَلَى أَنْوَاعِ الْجِنَايَةِ الْمُتَفَاوِتَةِ الْمَعْلُومَةِ عَادَةً حَسَبَ مَا تَقْتَضِيهِ الْمُنَاسَبَةُ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادَعَ أَبَا بُرْدَةَ عَلَى أَنْ لَا يُعِينَهُ، وَلَا يُعِينَ عَلَيْهِ فَجَاءَهُ أُنَاسٌ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ أَصْحَابُهُ الطَّرِيقَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْحَدِّ فِيهِمْ أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ، وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ جَاءَ مُسْلِمًا هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الشِّرْكِ» ، وَفِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ عَنْهُ «، وَمَنْ أَخَافَ الطَّرِيقَ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، وَلَمْ يَقْتُلْ نُفِيَ» ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ جَمَاعَةٍ قَطَعُوا الطَّرِيقَ، وَوَقَعَ مِنْهُمْ أَحَدُ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَجْرَى عَلَى مَجْمُوعِهِمْ الْجَزَاءَ الْمُقَابِلَ لِذَلِكَ النَّوْعِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ يَجْرِي عَلَيْهِ جَزَاءُ مَا صَدَرَ عَنْهُ فَإِنْ قُلْت قَطْعُ الطَّرِيقِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَكَيْفَ

وَلَفْظُ حُرٍّ مَذْكُورٌ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لَا لَفْظُ حُرَّانِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُضْمَرَ فِي الْمَعْطُوفِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ هَذَا مُغَيِّرٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا حُرٌّ ثُمَّ قَوْلُهُ وَهَذَا غَيْرُ مُغَيِّرٍ لِمَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلتَّشْرِيكِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْأَوَّلِ فَيَتَوَقَّفُ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى الْمُغَيِّرِ لَا عَلَى مَا لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ فَيَثْبُتُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى الثَّالِثِ فَصَارَ مَعْنَاهُ أَحَدُهُمَا حُرٌّ ثُمَّ قَوْلُهُ وَهَذَا يَكُونُ عَطْفًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ تَفَرَّدَ بِهِمَا خَاطِرِي (وَإِذَا اسْتَعْمَلَ أَوْ فِي النَّفْيِ يَعُمُّ نَحْوُ {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] أَيْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لَا تُطِعْ أَحَدًا مِنْهُمَا فَيَكُونُ نَكِرَةً فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَإِنْ قَالَ لَا أَفْعَلُ هَذَا أَوْ هَذَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا وَإِذَا قَالَ هَذَا وَهَذَا يَحْنَثُ بِفِعْلِهِمَا لَا بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَجْمُوعُ) أَيْ لَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ هَذَا الْمَجْمُوعَ فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ بَلْ بِفِعْلِ الْمَجْمُوعِ (إلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا) كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْتَكِبُ الزِّنَا وَأَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ فَإِنَّ الدَّلِيلَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا فِي النَّفْيِ أَيْ لَا يَفْعَلُ أَحَدًا مِنْهُمَا لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ (بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ) أَيْ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُدُّوا بِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى قَوْمٍ يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ؟ قُلْت مَعْنَاهُ يُرِيدُونَ تَعَلُّمَ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّهُمْ أَسْلَمُوا، وَلَوْ سَلِمَ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ لِيُسْلِمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ فَيُحَدُّ قَاطِعُ الطَّرِيقِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ «مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ» حَمَلَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى اخْتِصَاصِ الصَّلْبِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا لَا عَلَى اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِالصَّلْبِ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ فِيهَا غَيْرُهُ بَلْ أَثْبَتَ فِيهَا لِلْإِمَامِ الْخِيَارَ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ الْقَطْعُ ثُمَّ الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ ثُمَّ الصَّلْبُ، وَالْقَتْلُ فَقَطْ وَالصَّلْبُ فَقَطْ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ تَحْتَمِلُ الِاتِّحَادَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَطْعُ الْمَارَّةِ فَيُقْتَلُ أَوْ يُصْلَبُ، وَالتَّعَدُّدُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْقَتْلِ وَسَبَبُ الْقَطْعِ فَيَلْزَمُ حُكْمُ السَّبَبَيْنِ، وَقَدْ «أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْعُرَنِيِّينَ بِقَطْعِ أَيْدِيهِمْ، وَأَرْجُلِهِمْ، وَأَمَرَ بِتَرْكِهِمْ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا» ، وَقَدْ تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ «مَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ وَصُلِبَ» فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ الصَّلْبُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ. (قَوْلُهُ وَلِهَذَا) أَيْ وَلِكَوْنِ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَنْ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا مُشِيرًا إلَى عَبْدِهِ وَدَابَّتِهِ أَنَّ كَلَامَهُ بَاطِلٌ أَيْ لَغْوٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ لِأَنَّ وَضْعَ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى التَّعْيِينِ، وَالْأَعَمُّ يَجِبُ صِدْقُهُ عَلَى الْأَخَصِّ، وَالْوَاحِدُ الْأَعَمُّ الَّذِي يَصْدُقُ عَلَى الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْعِتْقِ، وَإِنَّمَا يَصْلُحُ لَهُ الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ الَّذِي هُوَ الْعَبْدُ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ إيجَابَ الْعِتْقِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ لَا عَلَى الْمَفْهُومِ الْعَامِّ إذْ الْأَحْكَامُ تَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا بِالْمَفْهُومَاتِ ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْعَبْدَ خَاصَّةً لَمْ يُعْتَقْ عِنْدَهُمَا، وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالنِّيَّةِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ أَعْنِي الْوَاحِدَ الْأَعَمَّ فَالْعُدُولُ إلَى الْمَجَازِ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْمُعَيَّنُ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ الْكَلَامِ وَإِبْطَالِهِ، وَالْمُعَيَّنُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْكَلَامِ كَمَا إذَا قَالَ ذَلِكَ فِي عَبْدَيْنِ لَهُ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى التَّعْيِينِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ فِي عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عِتْقُ عَبْدِهِ لِأَنَّ عَبْدَ الْغَيْرِ أَيْضًا مَحَلٌّ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ لَكِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ. (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ الثَّلَاثَةِ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا) عَطْفًا لِلثَّانِي بِأَوْ، وَلِلثَّالِثِ بِالْوَاوِ يُعْتَقُ الثَّالِثُ فِي الْحَالِ، وَيُخَيَّرُ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَيُعَيِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ سَوْقَ الْكَلَامِ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ فِي أَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ وَتَشْرِيكِ الثَّالِثِ فِيمَا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِهِمَا حُرٌّ، وَهَذَا فَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ هُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ صَدْرِ الْكَلَامِ لَا أَحَدُ الْمَذْكُورَيْنِ بِالتَّعْيِينِ، وَقِيلَ إنَّهُ لَا يُعْتَقُ أَحَدُهُمْ فِي الْحَالِ، وَيَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرَيْنِ لِأَنَّ الثَّالِثَ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ بِالْوَاوِ، وَالْجَمْعُ بِالْوَاوِ بِمَنْزِلَةِ الْجَمْعِ بِأَلِفِ التَّثْنِيَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا أَوْ هَذَا، وَهَذَا فَإِنَّهُ يَحْنَثُ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالْأَخِيرَيْنِ جَمِيعًا لَا بِالثَّانِي وَحْدَهُ أَوْ الثَّالِثِ وَحْدَهُ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ هَذَا مُحْتَمَلٌ إلَّا أَنَّ مَا ذَكَرْنَا أَرْجَحُ لِوَجْهَيْنِ تَفَرَّدْت بِهِمَا، وَالْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي الْكَلَامِ حُرٌّ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ خَبَرًا لِلِاثْنَيْنِ إذْ يُقَالُ لِلْوَاحِدِ حُرٌّ، وَلِلِاثْنَيْنِ حُرَّانِ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ لِأَنَّ الْعَطْفَ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ أَوْ لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ مِثْلِهِ لَا لِإِثْبَاتِ خَبَرٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ لَفْظًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْخَبَرَ يَصْلُحُ لِلِاثْنَيْنِ يُقَالُ لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ لَا أُكَلِّمُ هَذَيْنِ هَذَا كُلُّهُ كَلَامُهُ، وَلَمَّا لَمْ يَصْلُحْ مَا ذَكَرَهُ سَبَبًا لِلِامْتِنَاعِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَ قَدْ يُغَايِرُ الْمَذْكُورَ لَفْظًا كَمَا فِي قَوْلِك هِنْدٌ جَالِسَةٌ، وَزَيْدٌ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ: نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَك رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ سَبَبًا لِلْأَوْلَوِيَّةِ وَالرُّجْحَانِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ لَا يَجْرِي فِي مِثْلِ أَعْتَقْت هَذَا أَوْ هَذَا وَهَذَا، وَمُقْتَضَى كَلَامِ السَّرَخْسِيِّ أَنْ يَكُونَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرَيْنِ بِمَنْزِلَةِ أَعْتَقْت هَذَا أَوْ هَذَيْنِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَعْتَقْت أَحَدَهُمَا، وَهَذَا كَمَا فِي هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا وَهَذَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّقْدِيرَ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَانِ حُرَّانِ بَلْ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا حُرٌّ وَهَذَا حُرٌّ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمُقَدَّرُ مِثْلَ الْمَلْفُوظِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَهُ لَوْ كَانَ ذَكَرَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ لَا يُقَالُ يَلْزَمُ كَثْرَةُ

الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا إنَّمَا تَثْبُتُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْيَمِينَ لِلْمَنْعِ فَإِنْ كَانَ لِاجْتِمَاعِ الْأَمْرَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ أَيْ إنَّمَا مَنَعَهُ لِأَجْلِ الِاجْتِمَاعِ فَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمَجْمُوعِ كَمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَذْفِ لِأَنَّا نَقُولُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إذْ التَّقْدِيرُ فِيمَا هُوَ الْمُخْتَارُ هَذَا حُرٌّ أَوْ هَذَا حُرٌّ وَهَذَا حُرٌّ تَكْمِيلًا لِلْجُمَلِ النَّاقِصَةِ بِتَقْدِيرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ الْقَائِمَةَ بِكُلٍّ تُغَايِرُ حُرِّيَّةَ الْآخَرِ كَمَا مَرَّ فِي جَاءَنِي زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَلَوْ سَلِمَ فَمُعَارَضٌ بِالْقُرْبِ وَكَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَذْكُورًا صَرِيحًا، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُغَيِّرٍ لِمَا قَبْلَهُ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلتَّشْرِيكِ فَيَقْتَضِي وُجُودَ الْأَوَّلِ) قُلْنَا لَا يُنَافِي التَّغْيِيرَ هَاهُنَا بَلْ يُوجِبُهُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا التَّشْرِيكُ كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الثَّانِيَ وَحْدَهُ، وَبَعْدَ تَشْرِيكِ الثَّالِثِ مَعَ الثَّانِي بِعَطْفِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَجِبُ اخْتِيَارُ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ أَوْ الْأَخِيرَيْنِ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَ مُغَيِّرًا تَوَقَّفَ أَوَّلُ الْكَلَامِ عَلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَثْبُتْ حُرِّيَّةُ أَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ. (قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَعْمَلَ أَوْ فِي النَّفْيِ) خَبَرًا كَانَ أَوْ إنْشَاءً يَعُمُّ النَّفْيُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْطُوفِ أَوْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، وَانْتِفَاءُ الْوَاحِدِ الْمُبْهَمِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِانْتِفَاءِ الْمَجْمُوعِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] مَعْنَاهُ لَا تُطِعْ أَحَدًا مِنْهُمَا، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ، وَكَذَا مَا جَاءَنِي زَيْدٌ أَوْ عَمْرٌو فَإِنْ قُلْت لَفْظُ أَحَدٍ قَدْ يَكُونُ اسْمًا لِلْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَهَمْزَتُهُ حِينَئِذٍ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ الْوَاوِ، وَجَمْعُهُ آحَادٌ، وَقَدْ يَكُونُ اسْمًا لِمَنْ يَصْلُحُ أَنْ يُخَاطَبَ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ، وَهَمْزَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْعُمُومِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ أَصْلًا كَذَا ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فَقَوْلُهُمْ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ، وَأَنَّ مِثْلَ اضْرِبْ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فِي مَعْنَى اضْرِبْ أَحَدَهُمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الثَّانِي، وَهُوَ ظَاهِرٌ بَلْ عَلَى الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُضَافٌ فَلَا يَكُونُ نَكِرَةً فَلَا يَعُمُّ فِي النَّفْيِ قُلْت هُوَ مَعَ الْإِضَافَةِ مُبْهَمٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ قَالَ ابْنُ يَعِيشَ، وَفِي أَحَدٍ مِنْ الْإِبْهَامِ مَا لَيْسَ فِي وَاحِدٍ تَقُولُ جَاءَنِي أَحَدُهُمَا أَوْ أَحَدُهُمْ، وَالْمُرَادُ وَاحِدٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، وَهَذَا يُشْكِلُ بِمَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ هَذَا أَوْ هَذِهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَلَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا كَانَ مُولِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ لَا مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْفَرْقِ إلَّا أَنَّ كَلِمَةَ إحْدَى خَاصَّةٌ صِيغَةً وَمَعْنًى، وَلَا يَعُمُّ بِشَيْءٍ مِنْ دَلَائِلِ الْعُمُومِ، وَكَذَا بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ بِخِلَافِ كَلِمَةِ أَوْ فَإِنَّهَا قَدْ تُفِيدُ الْعُمُومَ بِوُقُوعِهَا فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسِّرَ أَوْ بِأَحَدٍ مُنَكَّرٍ غَيْرِ مُضَافٍ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي الْإِيجَابِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ. (قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ) إشَارَةٌ إلَى الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَوْ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَةِ

إذَا حَلَفَ لَا يَتَنَاوَلُ السَّمَكَ وَاللَّبَنَ فَهَاهُنَا لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ، فَإِنْ تَنَاوَلَ أَحَدَهُمَا لَا يَحْنَثُ أَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَالدَّلِيلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا حَلَفَ لِأَجْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَرَّمٌ فِي الشَّرْعِ فَالْمُرَادُ نَفْيُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَحْنَثُ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا وَأَيْضًا كَمَا أَنَّ الْوَاوَ لِلْجَمْعِ فَإِنَّهَا أَيْضًا نَائِبَةٌ عَنْ الْعَامِلِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ لَا يَفْعَلُ الْمَجْمُوعَ فَلَا يَحْنَثُ بِفِعْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ لَا يَفْعَلُ هَذَا وَلَا يَفْعَلُ هَذَا فَيَتَعَدَّدُ الْيَمِينُ فَيَحْنَثُ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا فَاحْفَظْ هَذَا الْبَحْثَ فَإِنَّهُ بَحْثٌ بَدِيعٌ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQالْيَمِينِ فَإِنَّهُ لَمَّا عَطَفَ الثَّانِيَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَوْ، وَالثَّالِثَ عَلَى الثَّانِي بِالْوَاوِ صَارَ فِي مَعْنَى لَا أُكَلِّمُ هَذَا أَوْ لَا هَذَيْنِ فَيَحْنَثُ بِالْأَوَّلِ أَوْ بِمَجْمُوعِ الْآخَرَيْنِ لَا بِالثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ وَحْدَهُ فَإِنَّ أَوْ فِي النَّفْيِ لِشُمُولِ الْعَدَمِ، وَالْوَاوُ لِعَدَمِ الشُّمُولِ، وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ الْعَطْفُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ تَرْجِيحًا لِلْقُرْبِ مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي قَصْدِ النَّفْيِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَالْعَطْفُ عَلَى الْمَقْصُودِ بِالْحُكْمِ هُوَ الرَّاجِحُ. (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ) اعْلَمْ أَنَّ أَوْ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي النَّفْيِ فَهُوَ لِنَفْيِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَيُفِيدُ شُمُولَ الْعَدَمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا إذَا قَامَتْ قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لِإِيقَاعِ أَحَدِ النَّفْيَيْنِ فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ عَدَمَ الشُّمُولِ كَمَا ذَكَرَ جَارُ اللَّهِ فِي قَوْله تَعَالَى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ النَّفْسِ الْكَافِرَةِ إذَا آمَنَتْ عِنْدَ ظُهُورِ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي آمَنَتْ مِنْ قَبْلِهَا وَلَمْ تَكْسِبْ خَيْرًا يَعْنِي أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِيمَانِ بِدُونِ الْعَمَلِ لَا يَنْفَعُ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ لِلنَّفْسِ الَّتِي لَمْ تُقَدِّمْ الْإِيمَانَ وَلَا كَسْبَ الْخَيْرِ فِي الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إذَا نَفَى الْإِيمَانَ كَانَ نَفْيُ كَسْبِ الْخَيْرِ فِي الْإِيمَانِ تَكْرَارًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْعُمُومِ أَيْ النَّفْسِ الَّتِي لَمْ تَجْمَعْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَإِذَا اُسْتُعْمِلَتْ الْوَاوُ فِي النَّفْيِ فَهُوَ لِعَدَمِ الشُّمُولِ لِأَنَّهَا لِلْجَمْعِ، وَنَفْيِ الْمَجْمُوعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَفْيٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ حَالِيَّةٌ أَوْ مَقَالِيَّةٌ عَلَى أَنَّهَا لِشُمُولِ النَّفْيِ وَسَلْبِ الْحُكْمِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يَرْتَكِبُ الزِّنَا، وَأَكَلَ مَالَ الْيَتِيمِ، وَكَمَا إذَا أَتَى بِلَا الزَّائِدَةِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلنَّفْيِ مِثْلَ مَا جَاءَنِي زَيْدٌ وَلَا عَمْرٌو فَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا قَامَتْ الْقَرِينَةُ فِي الْوَاوِ عَلَى شُمُولِ الْعَدَمِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَهُوَ لِعَدَمِ الشُّمُولِ، وَأَوْ بِالْعَكْسِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ لِلِاجْتِمَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ فَلِعَدَمِ الشُّمُولِ، وَإِلَّا فَلِشُمُولِ الْعَدَمِ لَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا وَهَذَا فَهُوَ لِنَفْيِ الْمَجْمُوعِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِاجْتِمَاعِ فِي الْمَنْعِ، وَمِثْلُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ

كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ (وَقَدْ تَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ نَحْوَ جَالِسْ الْفُقَهَاءَ أَوْ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّخْيِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ فِيهِ أَحَدُهُمَا فَلَا يَمْلِكُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْإِبَاحَةِ فَلَهُ أَنْ يُجَالِسَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّخْيِيرِ مَنْعُ الْجَمْعِ وَبِالْإِبَاحَةِ مَنْعُ الْخُلُوِّ (وَيُعْرَفُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ) أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّهُمَا فَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي لَا أُكَلِّمُ أَحَدًا إلَّا فُلَانًا أَوْ فُلَانًا لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْحَظْرِ إبَاحَةٌ وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِحَتَّى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَرْتَفِعُ بِوُجُودِ الْآخَرِ كَالْمُغَيَّا يَرْتَفِعُ بِالْغَايَةِ فَإِنْ حَلَفَ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلُ تِلْكَ الدَّارَ فَإِنْ دَخَلَ الْأُولَى أَوَّلًا حَنِثَ وَإِنْ دَخَلَ الثَّانِيَةَ أَوَّلًا بَرَّ (حَتَّى لِلْغَايَةِ نَحْوُ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُحْصَى. (قَوْلُهُ وَقَدْ تَكُونُ لِلْإِبَاحَةِ) لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مِثْلَ قَوْلِنَا افْعَلْ هَذَا أَوْ ذَاكَ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي طَلَبِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَعَ جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيُسَمَّى إبَاحَةً، وَتَارَةً فِي طَلَبِهِ مَعَ امْتِنَاعِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَيُسَمَّى تَخْيِيرًا، وَالْإِبَاحَةُ وَالتَّخْيِيرُ قَدْ يُضَافَانِ إلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَدْ يُضَافَانِ إلَى كَلِمَةِ أَوْ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، وَجَوَازُ الْجَمْعِ أَوْ امْتِنَاعُهُ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَحَلِّ الْكَلَامِ وَدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ، وَهَذَا كَمَا قَالُوا أَنَّهَا فِي الْخَبَرِ لِلشَّكِّ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَسَّرَ التَّخْيِيرَ بِمَنْعِ الْجَمْعِ وَالْإِبَاحَةَ بِمَنْعِ الْخُلُوِّ فَإِنْ قُلْت قَدْ لَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ فِي التَّخْيِيرِ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَكَمَا إذَا حَلَفَ لَيَدْخُلَنَّ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذِهِ فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ، وَقَدْ لَا يَمْتَنِعُ الْخُلُوُّ فِي الْإِبَاحَةِ كَمَا فِي جَالِسِ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَكَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ إلَّا زَيْدًا أَوْ عَمْرًا فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُكَلِّمْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يَحْنَثْ قُلْت مَا ذَكَرَهُ مُخْتَصٌّ بِصُورَةِ الْأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ مَنْعُ الْجَمْعِ أَوْ الْخُلُوِّ فِي الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، فَفِي صُورَةِ الْإِبَاحَةِ إذَا لَمْ يُجَالِسْ وَاحِدًا مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَمْرِ الْإِبَاحَةِ، وَإِنْ جَالَسَهُمَا جَمِيعًا كَانَتْ مُجَالَسَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا جَمَعَ بَيْنَ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ إنَّمَا يَكُونُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَجَوَازُ غَيْرِهَا إنَّمَا هُوَ بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَجُزْ كَمَا إذَا قَالَ أُعْتِقُ هَذَا الْعَبْدَ أَوْ ذَاكَ، وَأُطَلِّقُ هَذِهِ الزَّوْجَةَ أَوْ تِلْكَ. (قَوْلُهُ وَقَدْ يُسْتَعَارُ) أَيْ يُسْتَعَارُ أَوْ لِحَتَّى إذَا وَقَعَ بَعْدَهَا مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ، وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بَلْ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ يَكُونُ كَالْعَامِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَيُقْصَدُ انْقِطَاعُهُ بِالْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَ أَوْ نَحْوُ لَأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تُعْطِيَنِي حَقِّي لَيْسَ الْمُرَادُ ثُبُوتَ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ بَلْ ثُبُوتُ الْأَوَّلِ مُمْتَدٌّ إلَى غَايَةٍ هِيَ وَقْتُ إعْطَاءِ الْحَقِّ كَمَا إذَا قَالَ لَأَلْزَمَنَّكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي حَقِّي فَصَارَ أَوْ مُسْتَعَارًا لِحَتَّى، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ أَوْ لِأَحَدِ

{حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] وَحَتَّى رَأْسِهَا وَقَدْ تَجِيءُ لِلْعَطْفِ فَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ إمَّا أَفْضَلَ أَوْ أَخَسَّ وَتَدْخُلُ عَلَى جُمْلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فَإِنْ ذُكِرَ الْخَبَرُ نَحْوَ ضَرَبْت الْقَوْمَ حَتَّى زَيْدٌ غَضْبَانُ) جَوَابُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَذْكُورَيْنِ، وَتَعْيِينُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الْخِيَارِ قَاطِعٌ لِاحْتِمَالِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْغَايَةِ قَاطِعٌ لِلْفِعْلِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَيْ أَحَدَ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ الْمَعْطُوفِ بِأَوْ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ يَرْتَفِعُ بِوُجُودِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ الْمُغَيَّا يَرْتَفِعُ بِالْغَايَةِ، وَيَنْقَطِعُ عِنْدَهَا، وَلِهَذَا ذَهَبَ النُّحَاةُ إلَى أَنَّ أَوْ هَذِهِ بِمَعْنَى إلَى لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ مُمْتَدٌّ إلَى وُقُوعِ الْفِعْلِ الثَّانِي أَوْ إلَّا لِأَنَّ الْفِعْلَ الْأَوَّلَ مُمْتَدٌّ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ إلَّا وَقْتَ وُقُوعِ الْفِعْلِ الثَّانِي فَعِنْدَهُ يَنْقَطِعُ امْتِدَادُهُ، وَقَدْ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] أَيْ لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ فِي عَذَابِهِمْ أَوْ اسْتِصْلَاحِهِمْ شَيْءٌ حَتَّى تَقَعَ تَوْبَتُهُمْ أَوْ تَعْذِيبُهُمْ، وَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إلَى أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعْتِرَاضٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مَالِكُ أَمَرِهِمْ فَإِمَّا أَنْ يُهْلِكَهُمْ أَوْ يَهْزِمَهُمْ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ، فَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ أَدْخُلَ تِلْكَ بِالنَّصْبِ كَانَ أَوْ بِمَعْنَى حَتَّى إذْ لَيْسَ قَبْلَهُ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ يُعْطَفُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ امْتِدَادُ عَدَمِ دُخُولِ الدَّارِ الْأُولَى إلَى دُخُولِ الثَّانِيَةِ حَتَّى لَوْ دَخَلَهَا أَوَّلًا حَنِثَ، وَلَوْ دَخَلَ الثَّانِيَةَ أَوَّلًا بَرَّ فِي يَمِينِهِ لِانْتِهَاءِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا الْيَوْمَ فَلَمْ يَدْخُلْ حَتَّى غَرُبَتْ الشَّمْسُ، وَمَا يُقَالُ إنَّ تَعَذُّرَ الْعَطْفِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْفِيٌّ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي عَطْفِ الْمُثْبَتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ، وَبِالْعَكْسِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَوْ أَدْخُلُ تِلْكَ بِالرَّفْعِ كَانَ عَطْفًا إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْفِعْلِ مَعَ حَرْفِ النَّفْيِ حَتَّى يَكُونَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: عَدَمَ دُخُولِ الْأُولَى، أَوْ دُخُولَ الثَّانِيَةِ فَلَوْ دَخَلَ الْأُولَى، وَلَمْ يَدْخُلْ الثَّانِيَةَ حَنِثَ، وَإِلَّا فَلَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلَى الْفِعْلِ نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ الْفِعْلَانِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَيَلْزَمُ شُمُولُ الْعَدَمِ لِوُقُوعِ أَوْ فِي النَّفْيِ فَيَحْنَثُ بِدُخُولِ إحْدَى الدَّارَيْنِ أَيَّتِهِمَا كَانَتْ كَمَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا أَوْ عَمْرًا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ أَوْ فِي قَوْله تَعَالَى {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] عَاطِفَةٌ مُفِيدَةٌ لِلْعُمُومِ أَيْ عَدَمُ الْجُنَاحِ مُقَيَّدٌ بِانْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ أَيْ الْمُجَامَعَةِ، وَتَقْدِيرِ الْمَهْرِ حَتَّى لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا كَانَ جُنَاحًا أَيْ تَبِعَةً بِإِيجَابِ مَهْرٍ فَيَكُونُ تَفْرِضُوا مَجْزُومًا عَطْفًا عَلَى تَمَسُّوهُنَّ، وَلَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مِنْ أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ عَلَى مَعْنَى إلَّا أَنْ تَفْرِضُوا أَوْ حَتَّى أَنْ تَفْرِضُوا أَيْ إذَا لَمْ تُوجَدْ الْمُجَامَعَةُ فَعَدَمُ الْجُنَاحِ مُمْتَدٌّ إلَى تَقْدِيرِ الْمَهْرِ (قَوْلُهُ حَتَّى لِلْغَايَةِ) أَيْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا غَايَةٌ لِمَا قَبْلَهَا سَوَاءٌ كَانَ جُزْءًا مِنْهُ كَمَا فِي أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا أَوْ غَيْرَ جُزْءٍ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] ، وَأَمَّا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَالْأَكْثَرُ عَلَى

الشَّرْطِ هُنَا مَحْذُوفٌ أَيْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ أَوْ فَالْخَبَرُ ذَلِكَ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ الْخَبَرُ (يُقَدَّرُ مِنْ جِنْسِ مَا تَقَدَّمَ نَحْوَ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسُهَا بِالرَّفْعِ أَيْ مَأْكُولٌ إنْ دَخَلَتْ الْأَفْعَالَ فَإِنْ احْتَمَلَ الصَّدْرُ الِامْتِدَادَ وَالْآخِرُ الِانْتِهَاءَ إلَيْهِ فَلِلْغَايَةِ نَحْوَ {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] وَإِلَّا فَإِنْ صَلَحَ لَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلثَّانِي يَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ نَحْوَ أَسْلَمْت حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَإِلَّا فَلِلْعَطْفِ الْمَحْضِ فَإِنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَضْرِبْك حَتَّى تُصِيحَ حَنِثَ إنْ أَقْلَعَ قَبْلَ الصِّيَاحِ) لِأَنَّ حَتَّى لِلْغَايَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ (وَإِنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى تُغَدِّيَنِي فَأَتَاهُ فَلَمْ يُغَدِّهِ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى تُغَدِّيَنِي لَا يَصْلُحُ لِلِانْتِهَاءِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى الْإِتْيَانِ وَيَصْلُحُ سَبَبًا وَالْغَدَاءُ جَزَاءٌ فَحُمِلَ عَلَيْهِ وَلَوْ قَالَ حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك فَلِلْعَطْفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ مَا بَعْدَهَا دَاخِلٌ فِيمَا قَبْلَهَا، وَقَدْ تَكُونُ عَاطِفَةً يَتْبَعُ مَا بَعْدَهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْإِعْرَابِ، وَقَدْ تَكُونُ ابْتِدَائِيَّةً تَقَعُ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ أَوْ اسْمِيَّةٌ مَذْكُورٌ خَبَرُهَا أَوْ مَحْذُوفٌ بِقَرِينَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَفِي الْكُلِّ مَعْنَى الْغَايَةِ، وَفِي الْعَاطِفَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْطُوفُ جُزْءًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَفْضَلَهَا أَوْ أَدْوَنَهَا فَلَا يَجُوزُ جَاءَنِي الرِّجَالُ حَتَّى هِنْدٌ، وَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِمَّا يَنْقَضِي شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمَعْطُوفِ لَكِنْ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الْمُتَكَلِّمِ لَا بِحَسَبِ الْوُجُودِ نَفْسِهِ إذْ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمَعْطُوفِ أَوَّلًا كَمَا فِي قَوْلِك مَاتَ كُلُّ أَبٍ لِي حَتَّى آدَم أَوْ فِي الْوَسَطِ كَمَا فِي قَوْلِك مَاتَ النَّاسُ حَتَّى الْأَنْبِيَاءُ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الْعَاطِفَةُ إلَّا فِي صُورَةِ النَّصْبِ مِثْلُ أَكَلْت السَّمَكَةَ حَتَّى رَأْسَهَا بِالنَّصْبِ، وَالْأَصْلُ هِيَ الْجَارَّةُ لِأَنَّ الْعَاطِفَةَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَعْنَى الْغَايَةِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْحُكْمُ تَقْتَضِيهِ حَتَّى مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا غَايَةً لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا عَاطِفَةً بَلْ الْأَصْلُ فِي الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ وَالْمُبَايَنَةُ كَمَا فِي جَاءَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو، وَيَمْتَنِعُ حَتَّى عَمْرٌو بِالْعَطْفِ كَمَا يَمْتَنِعُ بِالْجَرِّ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ يَعِيشَ. (قَوْلُهُ فَإِنْ ذُكِرَ الْخَبَرُ) جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَالْمَعْنَى فَمَرْحَبًا بِالْقَضِيَّةِ، وَنِعْمَتْ الْقَضِيَّةُ، وَهَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ يَجْرِي فِي جَمِيعِ مَوَارِدِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَاعْرِفْهُ. (قَوْلُهُ وَإِنْ دَخَلَتْ الْأَفْعَالَ) حَتَّى الدَّاخِلَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ قَدْ تَكُونُ لِلْغَايَةِ، وَقَدْ تَكُونُ لِمُجَرَّدِ السَّبَبِيَّةِ وَالْمُجَازَاةِ، وَقَدْ تَكُونُ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ أَوْ التَّشْرِيكِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ غَائِيَّةٍ وَسَبَبِيَّةٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصْلُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ مَا أَمْكَنَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ حَتَّى مُحْتَمِلًا لِلِامْتِدَادِ وَضَرْبِ الْمُدَّةِ، وَمَا بَعْدَهَا صَالِحًا لِانْتِهَاءِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُمْتَدِّ إلَيْهِ وَانْقِطَاعِهِ عِنْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فَإِنَّ الْقِتَالَ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ، وَقَبُولُ الْجِزْيَةِ يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] أَيْ تَسْتَأْذِنُوا فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ دُخُولِ بَيْتِ الْغَيْرِ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ، وَالِاسْتِئْذَانُ يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ، وَجَعَلَ حَتَّى هَذِهِ دَاخِلَةً عَلَى الْفِعْلِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَصُورَةِ الْكَلَامِ، وَإِلَّا فَالْفِعْلُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ فَهِيَ دَاخِلَةٌ حَقِيقَةً عَلَى الِاسْمِ. (قَوْلُهُ وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّدْرُ الِامْتِدَادَ، وَالْآخِرُ الِانْتِهَاءَ إلَيْهِ فَإِنْ صَلُحَ الصَّدْرُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلثَّانِي أَيْ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ بَعْدَ حَتَّى تَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ مُفِيدَةً لِلسَّبَبِيَّةِ وَالْمُجَازَاةِ لِأَنَّ جَزَاءَ الشَّيْءِ وَمُسَبَّبَهُ يَكُونُ مَقْصُودًا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَايَةِ مِنْ الْمُغَيَّا نَحْوُ أَسْلَمْت حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَإِنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْإِسْلَامِ إحْدَاثَهُ فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ، وَإِنْ أُرِيدَ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ فَدُخُولُ الْجَنَّةِ لَا يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ بَلْ الْإِسْلَامُ حِينَئِذٍ أَكْثَرُ وَأَقْوَى، وَبِهَذَا يَظْهَرُ فَسَادُ مَا قِيلَ فِي الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْغَائِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ يَنْتَهِي بِوُجُودِ الْجَزَاءِ وَالْمُسَبَّبِ كَمَا يَنْتَهِي الْمُغَيَّا بِوُجُودِ الْغَايَةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَكَانَ حَتَّى لِلْغَايَةِ حَقِيقَةً حَيْثُ يَحْتَمِلُ الصَّدْرُ أَعْنِي السَّبَبَ الِامْتِدَادَ، وَالْآخَرُ أَعْنِي الْمُسَبَّبَ الِانْتِهَاءَ إلَيْهِ. (قَوْلُهُ وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ الصَّدْرُ سَبَبًا لِلثَّانِي فَحَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى غَايَةٍ أَوْ مُجَازَاةٍ فَإِذَا وَقَعَتْ حَتَّى فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَفِي الْغَايَةِ يَتَوَقَّفُ الْبِرُّ عَلَى وُجُودِ الْغَايَةِ لِيَتَحَقَّقَ امْتِدَادُ الْفِعْلِ إلَى الْغَايَةِ، وَفِي السَّبَبِيَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْفِعْلِ لِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ الْمُسَبَّبُ، وَفِي الْعَطْفِ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْفِعْلَيْنِ لِيَتَحَقَّقَ التَّشْرِيكُ، وَلْنُوَضِّحْ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ فَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ أَضْرِبْكَ حَتَّى تُصْبِحْ فَحَتَّى لِلْغَايَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ بِتَجَدُّدِ الْأَمْثَالِ، وَصِيَاحُ الْمَضْرُوبِ يَصْلُحُ مُنْتَهًى لَهُ فَلَوْ أَقْلَعَ عَنْ الضَّرْبِ قَبْلَ الصِّيَاحِ عَتَقَ عَبْدُهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الضَّرْبِ إلَى الْغَايَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى تُغَدِّيَنِي فَهِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ دُونَ الْغَايَةِ لِأَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ أَعْنِي التَّغْدِيَةَ لَا يَصْلُحُ لِانْتِهَاءِ الْإِتْيَانِ إلَيْهِ بَلْ هُوَ دَاعٍ إلَى الْإِتْيَانِ فَالْمُرَادُ بِصُلُوحِهِ لِلِانْتِهَاءِ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ جَعْلِهِ غَايَةً يَصْلُحُ لِانْتِهَاءِ الصَّدْرِ إلَيْهِ وَانْقِطَاعِهِ بِهِ كَالصِّيَاحِ لِلضَّرْبِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الصَّدْرَ أَعْنِي الْإِتْيَانَ لَا يَحْتَمِلُ الِامْتِدَادَ وَضَرْبَ الْمُدَّةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَقْرَبُ، فَبِالْجُمْلَةِ مَجْمُوعُ احْتِمَالِ الصَّدْرِ الِامْتِدَادُ، وَالْآخِرُ الِانْتِهَاءُ إلَيْهِ مُنْتَفٍ، وَالْإِتْيَانُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلتَّغْدِيَةِ لِأَنَّهُ إحْسَانٌ بَدَنِيٌّ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْإِحْسَانِ الْمَالِيِّ، وَالتَّغْدِيَةُ صَالِحَةٌ لِلْمَجَازَاتِ عَنْ الْإِحْسَانِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الِامْتِدَادَ أَوْ عَدَمَهُ قَدْ يُعْتَبَرُ فِي النَّفْيِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] فَإِنَّهُ جُعِلَ غَايَةً لِعَدَمِ الدُّخُولِ، وَقَدْ يُعْتَبَرُ فِي نَفْسِ الْفِعْلِ حَتَّى يَكُونَ النَّفْيُ مُسَلَّطًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُغَيَّا بِالْغَايَةِ كَمَا فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ فَإِنَّ الْيَمِينَ هَاهُنَا لِلْحَمْلِ دُونَ الْمَنْعِ، وَالتَّعْوِيلِ عَلَى الْقَرَائِنِ، وَلَوْ قَالَ إنْ لَمْ آتِك حَتَّى أَتَغَدَّى عِنْدَك فَهِيَ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ لِتَعَذُّرِ الْغَايَةِ وَالسَّبَبِيَّةِ أَمَّا الْغَايَةُ فَلِمَا مَرَّ، وَأَمَّا السَّبَبِيَّةُ وَالْمُجَازَاةُ فَلِأَنَّ فِعْلَ الشَّخْصِ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِفِعْلِهِ إذْ الْمُجَازَاةُ هِيَ الْمُكَافَأَةُ، وَلَا مَعْنَى لِمُكَافَأَتِهِ نَفْسَهُ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ سَابِقًا هُوَ أَنَّ حَتَّى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْغَايَةِ تَكُونُ بِمَعْنَى كَيْ، وَهِيَ تُفِيدُ

الْمَحْضِ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَا يَصْلُحُ جَزَاءً لِفِعْلِهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ آتِك فَأَتَغَدَّى عِنْدَك حَتَّى إذَا تَغَدَّى مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ بَرَّ وَلَيْسَ لِهَذَا) أَيْ لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ (نَظِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ بَلْ اخْتَرَعُوهُ) أَيْ الْفُقَهَاءُ اسْتِعَارَةً (حُرُوفُ الْجَرِّ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ وَالِاسْتِعَانَةِ فَتَدْخُلُ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQسَبَبِيَّةَ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي مِنْ غَيْرِ لُزُومِ مُجَازَاةٍ وَمُكَافَأَةٍ مِنْ شَخْصٍ آخَرَ مِثْلُ أَسْلَمْت كَيْ أَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَحَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ عَلَى لَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ مِنْ الدُّخُولِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي كَوْنِ بَعْضِ أَفْعَالِ الشَّخْصِ سَبَبًا لِلْبَعْضِ وَمُفْضِيًا إلَيْهِ كَالْإِتْيَانِ إلَى التَّغَدِّي، وَإِذَا كَانَ حَتَّى لِلْعَطْفِ الْمَحْضِ فَقِيلَ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَلَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ حَتَّى بِمَعْنَى الْفَاءِ لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ التَّعْقِيبِ وَالْغَايَةِ فَلَوْ أَتَى وَتَغَدَّى عَقِيبَ الْإِتْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ حَصَلَ الْبِرُّ، وَإِلَّا فَلَا حَتَّى لَوْ لَمْ يَأْتِ أَوْ أَتَى، وَلَمْ يَتَغَدَّ أَوْ أَتَى وَتَغَدَّى مُتَرَاخِيًا حَنِثَ، وَالْمَذْكُورُ فِي نُسَخِ الزِّيَادَاتِ وَشُرُوحِهَا أَنَّ الْحُكْمَ كَذَلِكَ إنْ نَوَى الْفَوْرَ وَالِاتِّصَالَ، وَإِلَّا فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ التَّرَاخِي أَوْ بِدُونِهِ حَتَّى لَوْ أَتَى وَتَغَدَّى مُتَرَاخِيًا حَصَلَ الْبِرُّ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ التَّغَدِّي بَعْدَ الْإِتْيَانِ مُتَّصِلًا أَوْ مُتَرَاخِيًا فِي جَمِيعِ الْعُمْرَانِ أَطْلَقَ الْكَلَامَ، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَنَّ وَقْتَهُ مِثْلُ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ حَتَّى أَتَغَدَّى، وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا أَتَاهُ فَلَمْ يَتَغَدَّ ثُمَّ تَغَدَّى مِنْ بَعْدِ غَيْرِهِ مُتَرَاخٍ فَقَدْ بَرَّ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَغَدَّ عَقِيبَ الْإِتْيَانِ ثُمَّ تَغَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُتَرَاخِيًا بِالضَّرُورَةِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ غَيْرَ مُتَرَاخٍ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ ثُمَّ تَغَدَّى بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْإِتْيَانِ بِأَنْ يَأْتِيَهُ وَقْتًا آخَرَ فَيَتَغَدَّى عَقِيبَ الْإِتْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ، وَالْإِشْكَالُ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ حَمْلِ التَّرَاخِي عَلَى التَّرَاخِي عَنْ الْإِتْيَانِ الْأَوَّلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ إذَا أَتَاهُ، وَحِينَئِذٍ لَا حَاجَةَ إلَى مَا يُقَالُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْمُؤَقَّتِ أَيْ إنْ لَمْ آتِك الْيَوْمَ، وَالْمَعْنَى غَيْرَ مُتَرَاخٍ عَنْ الْيَوْمِ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْيَوْمِ سَقَطَ عَنْ قَلَمِ النَّاسِخِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ حَتَّى أَتَغَدَّى بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ، وَالصَّوَابُ حَتَّى أَتَغَدَّ بِالْجَزْمِ مِثْلُ فَأَتَغَدَّ لِأَنَّهُ عُطِفَ عَلَى الْمَجْزُومِ بِلَمْ حَتَّى يَنْسَحِبَ حُكْمُ النَّفْيِ عَلَى الْفِعْلَيْنِ جَمِيعًا لَا عَلَى مَجْمُوعِ الْفِعْلِ، وَحَرْفُ النَّفْيِ حَتَّى لَا يَدْخُلُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ لِفَسَادِ الْمَعْنَى، وَبُطْلَانِ الْحُكْمِ. (قَوْلُهُ بَلْ اخْتَرَعُوهُ) يَعْنِي لَا تُوجَدُ حَتَّى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مُسْتَعْمَلَةً لِلْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْغَايَةِ بَلْ صَرَّحُوا بِامْتِنَاعِ مِثْلِ جَاءَنِي زَيْدٌ حَتَّى عَمْرٌو، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اسْتَعَارُوهَا بِمَعْنَى الْفَاءِ لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ الْغَايَةِ وَالتَّعْقِيبِ، وَلِكَوْنِهَا لِلتَّعْقِيبِ بِشَرْطِ الْغَايَةِ فَاسْتَعْمَلَ الْمُقَيَّدَ فِي الْمُطْلَقِ، وَلَا حَاجَةَ فِي أَفْرَادِ الْمَجَازِ إلَى السَّمَاعِ مَعَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْهُ اللُّغَةُ فَكَفَى بِقَوْلِهِ سَمَاعًا، وَلَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا

[حروف الجر]

الْوَسَائِلِ كَالْأَثْمَانِ فَإِنْ قَالَ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ بِكُرٍّ يَكُونُ بَيْعًا وَفِي بِعْت كُرًّا بِالْعَبْدِ يَكُونُ سَلَمًا فَتُرَاعَى شَرَائِطُهُ وَلَا يَجْرِي الِاسْتِبْدَالُ فِي الْكُرِّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ قَالَ لَا تَخْرُجْ إلَّا بِإِذْنِي يَجِبُ لِكُلِّ خُرُوجٍ إذْنٌ) لِأَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا خُرُوجًا مُلْصَقًا بِإِذْنِي (وَفِي إلَّا أَنْ آذَنَ لَا) أَيْ إنْ قَالَ لَا تَخْرُجْ إلَّا أَنْ آذَنَ لَا يَجِبُ لِكُلِّ خُرُوجٍ إذْنٌ بَلْ إنَّ أَذِنَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَخَرَجَ ثُمَّ خَرَجَ مَرَّةً أُخْرَى بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَحْنَثُ قَالُوا لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْإِذْنَ مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَالْإِذْنُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْخُرُوجِ فَلَا يُمْكِنُ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ فَيَكُونُ مَجَازًا عَنْ الْغَايَةِ وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْغَايَةِ ظَاهِرَةٌ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQاُسْتُعِيرَتْ بِمَعْنَى الْفَاءِ، وَتَأَوَّلَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ بِأَنَّ الْمُرَادَ حَرْفٌ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ مِثْلُ الْفَاءِ وَثُمَّ لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِمَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُجْعَلْ مُسْتَعَارَةً لِمَا يُفِيدُ مُطْلَقَ الْجَمْعِ كَالْوَاوِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الْعَتَّابِيُّ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ أَنْسَبُ بِالْغَايَةِ، وَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ الْأَخْذُ بِالْمَجَازِ الْأَنْسَبِ أَنْسَبُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لِمَعْنَى الْفَاءِ أَعْنِي التَّعْقِيبَ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ أَنْسَبُ بِعَيْنِ هَذَا الدَّلِيلِ إذْ الْغَايَةُ لَا تَتَرَاخَى عَنْ الْمُغَيَّا [حُرُوفُ الْجَرِّ] (قَوْلُهُ الْبَاءُ لِلْإِلْصَاقِ) ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَإِيصَالُهُ بِهِ مِثْلُ مَرَرْت بِزَيْدٍ إذْ أَلْصَقْت مُرُورَك بِمَكَانٍ يُلَابِسُهُ زَيْدٌ، وَلِلِاسْتِعَانَةِ أَيْ طَلَبِ الْمَعُونَةِ بِشَيْءٍ عَلَى شَيْءٍ مِثْلُ بِالْقَلَمِ كَتَبْت، وَبِتَوْفِيقِ اللَّهِ حَجَجْت، وَقَدْ يُقَالُ إنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْإِلْصَاقِ بِمَعْنَى أَنَّك أَلْصَقْت الْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ فَلِكَوْنِهَا لِلِاسْتِعَانَةِ تَدْخُلُ عَلَى الْوَسَائِلِ إذْ بِهَا يُسْتَعَانُ عَلَى الْمَقَاصِدِ كَالْأَثْمَانِ فِي الْبُيُوعِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الْبَيْعِ هُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَمْلُوكِ، وَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَالثَّمَنُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي الْغَالِبِ مِنْ النُّقُودِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِهَا بِالذَّاتِ بَلْ بِوَاسِطَةِ التَّوَسُّلِ بِهَا إلَى الْمَقَاصِدِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَاتِ، وَفَرَّعَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دُخُولَهَا فِي الْأَثْمَانِ عَلَى كَوْنِهَا لِلْإِلْصَاقِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْإِلْصَاقِ هُوَ الْمُلْصَقُ، وَالْمُلْصَقُ بِهِ تَبَعٌ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فَتَدْخُلُ الْبَاءُ عَلَى الْأَثْمَانِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَاتِ فَلَوْ قَالَ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ بِكُرٍّ مِنْ الْحِنْطَةِ يَكُونُ الْعَبْدُ مَبِيعًا، وَالْكُرُّ ثَمَنًا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ حَالًّا، وَلَوْ قَالَ بِعْت كُرًّا مِنْ الْحِنْطَةِ بِهَذَا الْعَبْدِ يَكُونُ سَلَمًا، وَيَكُونُ الْعَبْدُ رَأْسَ الْمَالِ وَالْكُرُّ مُسَلَّمًا فِيهِ حَتَّى يُشْتَرَطَ التَّأْجِيلُ، وَقَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَجْزِي الِاسْتِبْدَالُ فِي الْكُرِّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْأُولَى فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الْكُرِّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالِاسْتِبْدَالِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَثْمَانِ. (قَوْلُهُ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِي) مَعْنَاهُ إلَّا خُرُوجًا مُلْصَقًا بِإِذْنِي، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّرُ لَهُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ عَامٌّ مُنَاسِبٌ لَهُ فِي جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا تَخْرُجْ خُرُوجًا إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَإِذَا أُخْرِجَ مِنْهَا بَعْضٌ بَقِيَ مَا عَدَاهُ

آذَنَ فَيَكُونُ الْخُرُوجُ مَمْنُوعًا إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْإِذْنِ وَقَدْ وُجِدَ مَرَّةً فَارْتَفَعَ الْمَنْعُ. أَقُولُ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ وَالْمَصْدَرُ قَدْ يَقَعُ حِينًا لِسَعَةِ الْكَلَامِ تَقُولُ آتِيك خُفُوقَ النَّجْمِ أَيْ وَقْتَ خُفُوقِ النَّجْمِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ لَا تَخْرُجْ وَقْتًا إلَّا وَقْتَ إذْنِي فَيَجِبُ لِكُلِّ خُرُوجٍ إذْنٌ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَحْنَثُ إنْ خَرَجَ مَرَّةً أُخْرَى بِلَا إذْنٍ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ لَا يَحْنَثُ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ (وَقَالُوا إنْ دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي آلَةِ الْمَسْحِ نَحْوُ مَسَحْت الْحَائِطَ بِيَدَيَّ يَتَعَدَّى إلَى الْمَحَلِّ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّهُ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي الْمَحَلِّ نَحْوَ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] لَا يَتَنَاوَلُ كُلَّ الْمَحَلِّ تَقْدِيرُهُ أَلْصِقُوهَا بِرُءُوسِكُمْ) اعْلَمْ أَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ هِيَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمُنْفَعِلِ فِي وُصُولِ أَثَرِهِ إلَيْهِ وَالْمَحَلُّ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي فَلَا يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْآلَةِ بَلْ يَكْفِي مِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ بَلْ يَجِبُ اسْتِيعَابُ الْمَحَلِّ فِي مَسَحْت الْحَائِطَ بِيَدَيَّ لِأَنَّ الْحَائِطَ اسْمُ الْمَجْمُوعِ وَقَدْ وَقَعَ مَقْصُودًا فَيُرَادُ كُلُّهُ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِذَا دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي الْمَحَلِّ وَهِيَ حَرْفٌ مَخْصُوصٌ بِالْآلَةِ فَقَدْ شَبَّهَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى حُكْمِ النَّفْيِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ لَا آكُلُ أَكْلًا لِأَنَّ الْمَحْذُوفَ فِي حُكْمِ الْمَذْكُورِ لَا مِنْ قَبِيلِ لَا أَكَلُ لِمَا سَيَجِيءُ مِنْ أَنَّ الْأَكْلَ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ لَيْسَ بِعَامٍّ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ نِيَّةُ تَخْصِيصِهِ أَلَا يُرَى أَنَّ قَوْلَنَا لَا آتِيك إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ لَا آتِيك إلَّا رَاكِبًا يُفِيدُ عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَحْوَالِ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا لَا آتِيك بِدُونِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي الْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكَشْفِ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ يَتَنَاوَلُ الْمَصْدَرَ لُغَةً، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي. (قَوْلُهُ وَالْمُنَاسَبَةُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْغَايَةِ ظَاهِرَةٌ) لِأَنَّ الْغَايَةَ قَصْرٌ لِامْتِدَادِ الْمُغَيَّا، وَبَيَانٌ لِانْتِهَائِهِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَصْرٌ لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَبَيَانٌ لِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ، وَأَيْضًا كُلٌّ مِنْهُمَا إخْرَاجٌ لِبَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الصَّدْرُ. (قَوْلُهُ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ) ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هُنَاكَ وَجْهٌ ثَالِثٌ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِذْنِ لِكُلِّ خُرُوجٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْبَاءِ أَيْ إلَّا بِأَنْ آذَنَ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ إلَّا بِإِذْنِي، وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ إنْ وَأَنْ شَائِعٌ كَثِيرٌ، وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْوَجْهَيْنِ يَبْقَى هَذَا الْوَجْهُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ، وَأَشَارَ فِي الْمَبْسُوطِ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ قَوْلَنَا الْآخَرَ وَجَاءَ بِإِذْنِي كَلَامٌ مُسْتَقِيمٌ بِخِلَافِ قَوْلِنَا إلَّا خُرُوجًا أَنْ آذَنَ لَكُمْ فَإِنَّهُ مُخْتَلٌّ لَا يُعْرَفُ لَهُ اسْتِعْمَالٌ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْإِذْنِ لِكُلِّ دُخُولٍ فِي قَوْله تَعَالَى {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53] فَمُسْتَفَادٌ مِنْ الْقَرِينَةِ الْعَقْلِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} [الأحزاب: 53] . (قَوْلُهُ وَقَالُوا إنْ دَخَلَتْ فِي آلَةِ الْمَسْحِ) الْمَسْحُ هُوَ اللَّمْسُ بِبَاطِنِ الْكَفِّ فَالْيَدُ آلَةٌ وَالْمَمْسُوحُ مَحَلُّ الْفِعْلِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْآلَةِ قَدْرُ

الْمَحَلَّ بِالْآلَةِ فَلَا يُرَادُ كُلُّهُ وَإِنَّمَا ثَبَتَ اسْتِيعَابُ الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ وَإِنْ دَخَلَ الْبَاءُ فِي الْمَحَلِّ فِي قَوْله تَعَالَى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] لِأَنَّ الْمَسْحَ خَلَفٌ عَنْ الْغَسْلِ وَالِاسْتِيعَابُ ثَابِتٌ فِيهِ فَكَذَا فِي خَلَفِهِ أَوْ لِحَدِيثِ عَمَّارٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ يُزَادُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ (عَلَى لِلِاسْتِعْلَاءِ وَيُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَعْلُوهُ وَيَرْكَبُهُ مَعْنًى وَيُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ نَحْوُ {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] وَهِيَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ بِمَعْنَى الْبَاءِ إجْمَاعًا مَجَازًا لِأَنَّ اللُّزُومَ يُنَاسِبُ الْإِلْصَاقَ) هَذَا بَيَانُ عَلَاقَةِ الْمَجَازِ وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْمَجَازُ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ الشَّرْطُ لَا يُمْكِنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْخَطَرَ وَالشَّرْطَ حَتَّى لَا تَصِيرَ قِمَارًا فَإِذَا قَالَ بِعْت مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَلْفٍ فَمَعْنَاهُ بِأَلْفٍ (وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لِلشَّرْطِ عَمَلًا بِأَصْلِهِ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الِاسْتِيعَابُ فَإِذَا دَخَلَتْ الْبَاءُ فِي الْمَحَلِّ صَارَ شَبِيهًا بِالْآلَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِيعَابُهُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حِينَئِذٍ إلْصَاقُ الْفِعْلِ وَإِثْبَاتُ وَصْفِ الْإِلْصَاقِ فِي الْفِعْلِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَقْصُودًا لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْإِلْصَاقِ، وَالْمَحَلُّ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَيُكْتَفَى فِيهِ بِقَدْرِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ أَعْنِي إلْصَاقَ الْفِعْلِ بِالرَّأْسِ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِبَعْضِ الرَّأْسِ فَيَكُونُ التَّبْعِيضُ مُسْتَفَادًا مِنْ هَذَا إلَّا مِنْ الْوَضْعِ وَاللُّغَةِ عَلَى مَا نُسِبَ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِهَذَا قَالَ جَارُ اللَّهِ إنَّ الْمَعْنَى أَلْصِقُوا الْمَسْحَ بِالرَّأْسِ، وَهَذَا شَامِلٌ لِلِاسْتِيعَابِ وَغَيْرِهِ، وَإِذْ قَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ التَّبْعِيضُ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ أَقَلَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَلَا إجْمَالَ فِي الْآيَةِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ لِحُصُولِهِ فِي ضِمْنِ غَسْلِ الْوَجْهِ مَعَ عَدَمِ تَأَدِّي الْفَرْضِ بِهِ اتِّفَاقًا بَلْ الْمُرَادُ بَعْضٌ مُقَدَّرٌ فَصَارَ مُجْمَلًا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمِقْدَارِ النَّاصِيَةِ، وَهُوَ الرُّبْعُ، وَأَجَابَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ عَدَمَ تَأَدِّي الْفَرْضِ بِمَا حَصَلَ فِي ضِمْنِ غَسْلِ الْوَجْهِ مَبْنِيٌّ عَلَى فَوَاتِ التَّرْتِيبِ، وَهُوَ وَاجِبٌ فَصَارَ الْخِلَافُ مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ التَّرْتِيبِ، وَأَمَّا وُجُوبُ اسْتِيعَابِ الْوَجْهِ وَالْيَدِ فِي التَّيَمُّمِ مَعَ دُخُولِ الْبَاءِ عَلَى الْمَحَلِّ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنِّسْبَةِ الْمَشْهُورَةِ «يَكْفِيكَ ضَرْبَتَانِ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ» ، وَبِأَنَّ التَّيَمُّمَ خَلَفٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَفِيهِ الِاسْتِيعَابُ إلَّا أَنَّهُ نِصْفٌ بِتَرْكِ مَسْحِ الرَّأْسِ، وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ تَخْفِيفًا (قَوْلُهُ وَيُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ) يَعْنِي قَدْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى فِي مَعْنًى يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ مَا بَعْدَهَا شَرْطًا لِمَا قَبْلَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] أَيْ بِشَرْطِ عَدَمِ الْإِشْرَاكِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا صِلَةٌ لِلْمُبَايَعَةِ يُقَالُ بَايَعْنَاهُ عَلَى كَذَا، وَكَوْنُهَا لِلشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِأَنَّهَا فِي أَصْلِ الْوَضْعِ لِلْإِلْزَامِ، وَالْجَزَاءُ لَازِمٌ لِلشَّرْطِ. (قَوْلُهُ وَهِيَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ) أَيْ الْخَالِيَةِ عَنْ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ. (قَوْلُهُ وَكَذَا فِي الطَّلَاقِ عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى الْمَالِ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِ الْمَرْأَةِ، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا الرُّجُوعُ

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَلِمَةُ عَلَى فِي الطَّلَاقِ لِلشَّرْطِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَقْبَلُ الشَّرْطَ فَيُحْمَلُ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ (فَفِي طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً) لَا يَجِبُ ثُلُثُ الْأَلْفِ عِنْدَهُ لِأَنَّهَا لِلشَّرْطِ عِنْدَهُ وَأَجْزَاءُ الشَّرْطِ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ (وَيَجِبُ عِنْدَهُمَا) أَيْ ثُلُثُ الْأَلْفِ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْبَاءِ عِنْدَهُمَا فَيَكُونُ الْأَلْفُ عِوَضًا لَا شَرْطًا وَأَجْزَاءُ الْعِوَضِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ (وَأَمَّا مِنْ فَقَدْ مَرَّ مَسَائِلُهَا) أَيْ فِي فَصْلِ الْعَامِّ فِي قَوْلِهِ مَنْ شِئْت مِنْ عَبِيدِي (إلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ فَصَدْرُ الْكَلَامِ إنْ احْتَمَلَهُ فَظَاهِرٌ) أَيْ إنْ احْتَمَلَ الِانْتِهَاءَ إلَى الْغَايَةِ (وَإِلَّا فَإِنْ أَمْكَنَ تَعَلُّقُهُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فَذَاكَ نَحْوُ بِعْت إلَى شَهْرٍ يَتَأَجَّلُ الثَّمَنُ) لِأَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ وَهُوَ الْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِهَاءَ إلَى الْغَايَةِ لَكِنْ يُمْكِنُ تَعَلُّقُ قَوْلِهِ إلَى شَهْرٍ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ بِعْت وَأَجَّلْت الثَّمَنَ إلَى شَهْرٍ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَعَلُّقُهُ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ (يُحْمَلُ عَلَى تَأْخِيرِ صَدْرِ الْكَلَامِ إنْ احْتَمَلَهُ) ـــــــــــــــــــــــــــــQقَبْلَ كَلَامِ الزَّوْجِ، وَكَلِمَةُ عَلَى تَحْتَمِلُ مَعْنَى الْبَاءِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَعِنْدَهُ لِلشَّرْطِ عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ فَلَوْ قَالَتْ لِلزَّوْجِ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَعِنْدَهُمَا يَجِبُ ثُلُثُ الْأَلْفِ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْعِوَضِ تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمُعَوَّضِ، وَعِنْدَهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ أَجْزَاءَ الشَّرْطِ لَا تَنْقَسِمُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِوَضِ مَعَ الْمُعَوَّضِ مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ حَتَّى يَثْبُتَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ هَذَا فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنْ ذَاكَ، وَيَمْتَنِعُ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَضَايِفَيْنِ، وَثُبُوتُ الْمَشْرُوطِ وَالشَّرْطِ بِطَرِيقِ الْمُعَاقَبَةِ ضَرُورَةٌ تُوقِفُ الْمَشْرُوطَ عَلَى الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَلَوْ انْقَسَمَ أَجْزَاءُ الشَّرْطِ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَشْرُوطِ لَزِمَ تَقَدُّمُ جُزْءٍ مِنْ الْمَشْرُوطِ عَلَى الشَّرْطِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَاقَبَةُ، وَأَمَّا إذَا قَالَتْ طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ ثُلُثُ الْأَلْفِ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْمُعَاوَضَةِ، وَالْمُقَابَلَةِ فَيَثْبُتُ التَّوْزِيعُ، وَلَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي وَضَرَّتِي عَلَى الْأَلْفِ فَطَلَّقَهَا وَحْدَهَا يَجِبُ مَا يَخُصُّهَا مِنْ الْأَلْفِ لِأَنَّهَا لِلْمُقَابَلَةِ بِدَلَالَةِ ظَاهِرِ الْحَالِ إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْمُعَاقَبَةِ كَانَ الْبَدَلُ كُلُّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَتْ إنْ طَلَّقْتَنَا فَلَكَ الْأَلْفُ فَلَا فَائِدَةَ لَهَا فِي طَلَاقِ الضَّرَّةِ بَعْدَ طَلَاقِهَا حَتَّى يَجْعَلَ الْأَلْفَ جَزَاءً لِطَلَاقِهِمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ فَائِدَتَهَا فِي الشَّرْطِيَّةِ أَكْثَرُ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهَا بِبَعْضِ الطَّلَاقِ شَيْءٌ (قَوْلُهُ، وَأَمَّا مِنْ فَقَدْ) تَكُونُ لِلتَّبْيِينِ أَوْ لِلتَّبْعِيضِ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا ابْتِدَاءُ الْغَايَةِ، وَالْبَوَاقِيَ رَاجِعَةٌ إلَيْهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ أَصْلَ وَضْعِهَا لِلتَّبْعِيضِ دَفْعًا لِلِاشْتِرَاكِ، وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ لِإِطْبَاقِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي ابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْغَايَةِ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَإِلَى لِانْتِهَاءِ الْغَايَةِ هُوَ الْمَسَافَةُ إطْلَاقًا لِاسْمِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ إذْ الْغَايَةُ هِيَ النِّهَايَةُ، وَلَيْسَ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ (قَوْلُهُ بِعْت إلَى شَهْرٍ) أَيْ مُؤَجِّلًا الثَّمَنَ إلَى شَهْرٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌّ. (قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ) إنْ نَوَى

أَيْ التَّأْخِيرُ (نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَى شَهْرٍ وَلَا يَنْوِي التَّأْخِيرَ وَالتَّنْجِيزُ يَقَعُ عِنْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقَعُ فِي الْحَالِ) فَيَبْطُلُ قَوْلُهُ إلَى شَهْرٍ (ثُمَّ الْغَايَةُ إنْ كَانَتْ غَايَةً قَبْلَ تَكَلُّمِهِ نَحْوَ بِعْت هَذَا الْبُسْتَانَ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى ذَاكَ وَأَكَلْت السَّمَكَةَ إلَى رَأْسِهَا لَا تَدْخُلُ تَحْت الْمُغَيَّا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ) أَيْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَايَةً قَبْلَ تَكَلُّمِهِ (فَصَدْرُ الْكَلَامِ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا فَهِيَ لِمَدِّ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ نَحْوَ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَإِنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَا يَتَنَاوَلُ الْغَايَةَ وَهِيَ اللَّيْلُ فَتَكُونُ الْآيَةُ حِينَئِذٍ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَقَوْلُهُ فَكَذَلِكَ جَوَابُ الشَّرْطِ أَيْ لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ تَحْتَ الْمُغَيَّا (وَإِنْ تَنَاوَلَهَا) أَيْ تَنَاوَلَ صَدْرُ الْكَلَامِ الْغَايَةَ نَحْوَ الْيَدِ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْمِرْفَقَ (فَذِكْرُهَا لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا) أَيْ ذِكْرُ الْغَايَةِ يَكُونُ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءِ الْغَايَةِ (نَحْوُ {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فَتَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي إلَى أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ الدُّخُولُ إلَّا مَجَازًا) أَيْ دُخُولُ حُكْمِ الْغَايَةِ تَحْتَ حُكْمِ الْمُغَيَّا إلَّا مَجَازًا (وَعَكْسُهُ) أَيْ الْمَذْهَبُ الثَّانِي هُوَ أَنْ لَا تَدْخُلَ الْغَايَةُ تَحْتَ حُكْمِ الْمُغَيَّا إلَّا مَجَازًا كَالْمَرَافِقِ فَدُخُولُهَا تَحْتَ حُكْمِ الْمُغَيَّا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّنْجِيزَ أَوْ التَّأْخِيرَ وَالتَّأْجِيلَ فَذَاكَ، وَإِلَّا يَقَعْ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ صَرْفًا لِلْأَجَلِ إلَّا الْإِيقَاعَ احْتِرَازًا عَنْ الْإِلْغَاءِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَقَعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ وَالتَّوْقِيتَ صِفَةٌ لِمَوْجُودٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الْوُجُودِ فِي الْحَالِ ثُمَّ يَلْغُو الْوَصْفُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقْبَلُهُ. (قَوْلُهُ ثُمَّ الْغَايَةُ) اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمَذْكُورَ بَعْدَ إلَى هَلْ يَدْخُلُ فِيمَا قَبْلَهُ حَتَّى يَشْمَلَهُ الْحُكْمُ أَمْ لَا وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ النُّحَاةِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُفِيدُ إلَّا انْتِهَاءَ الْغَايَةِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الدُّخُولِ أَوْ عَدَمِهِ بَلْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الدَّلِيلِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ إلَى لِلنِّهَايَةِ فَجَازَ أَنْ يَقَعَ عَلَى أَوَّلِ الْحَدِّ وَأَنْ يَتَوَغَّلَ فِي الْمَكَانِ لَكِنْ تَمْتَنِعُ الْمُجَاوَزَةُ لِأَنَّ النِّهَايَةَ غَايَةٌ، وَمَا كَانَ بَعْدَهُ شَيْءٌ آخَرُ لَمْ يُسَمَّ غَايَةً، وَفَصَّلَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الْغَايَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ غَايَةً فِي الْوَاقِعِ أَوْ بِمُجَرَّدِ التَّكَلُّمِ وَدُخُولِ إلَى عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ غَايَةً قَبْلَ التَّكَلُّمِ فَهِيَ لَا تَدْخُلُ سَوَاءٌ تَنَاوَلَهَا الصَّدْرُ كَالسَّمَكَةِ لِلرَّأْسِ أَوْ لَا كَالْبُسْتَانِ لِلْحَائِطِ، وَهَذَا مَا قَالُوا إنَّ الْغَايَةَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَيْ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّكَلُّمِ غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ فِي الْوُجُودِ إلَى الْمُغَيَّا لَمْ تَدْخُلْ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتْبِعَهَا الْمُغَيَّا لَكِنَّهُمْ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهَا إذَا تَنَاوَلَهَا الصَّدْرُ تَدْخُلُ سَوَاءٌ كَانَتْ قَائِمَةً بِنَفْسِهَا أَوْ لَا فَفِي مَسْأَلَةِ السَّمَكَةِ يَتَنَاوَلُ الْأَكْلُ الرَّأْسَ عِنْدَهُمْ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَايَةً قَبْلَ التَّكَلُّمِ فَإِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ أَوْ لَا فَإِنْ تَنَاوَلَهَا تَنَاوُلَ الْيَدِ لِلْمِرْفَقِ دَخَلَتْ لِأَنَّ ذِكْرَهَا لَيْسَ لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِأَنَّ الْحُكْمَ مُمْتَدٌّ بَلْ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا فَتَبْقَى هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ حُكْمِ الصَّدْرِ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا كَالصِّيَامِ لَا يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ لَمْ تَدْخُلْ لِأَنَّ ذِكْرَهَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَيَمْتَدُّ الْحُكْمُ إلَيْهِ، وَيَنْتَهِي بِالْوُصُولِ إلَيْهِ فَيَحْرُمُ

عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ (وَالِاشْتِرَاكُ) أَيْ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ هُوَ الِاشْتِرَاكُ أَيْ دُخُولُ الْغَايَةِ تَحْتَ الْمُغَيَّا فِي إلَى بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَعَدَمُ الدُّخُولِ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ (وَالدُّخُولُ إنْ كَانَ مَا بَعْدَهَا مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهَا وَعَدَمُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ) هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ (وَمَا ذَكَرْنَا فِي اللَّيْلِ) وَهُوَ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَمَّا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ حُكْمِ الْمُغَيَّا (وَالْمَرَافِقِ) وَهُوَ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ لَمَّا تَنَاوَلَ الْغَايَةَ دَخَلَ تَحْتَ حُكْمِ الْمُغَيَّا (يُنَاسِبُ هَذَا الرَّابِعَ) أَيْ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا وَمَعْنَى مَا ذَكَرَهُ النَّحْوِيُّونَ فِي الْمَذْهَبِ الرَّابِعِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ فَقَطْ فَإِنَّ قَوْلَ النَّحْوِيِّينَ إنَّ الْغَايَةَ إنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ الْمُغَيَّا مَعْنَاهُ أَنَّ لَفْظَ الْمُغَيَّا إنْ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْغَايَةِ وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الْمَذْهَبَ الرَّابِعَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِهِ عَمَلٌ بِنَتِيجَةِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ تَعَارُضَ الْأَوَّلَيْنِ أَوْجَبَ الشَّكَّ وَكَذَا الِاشْتِرَاكُ أَوْجَبَ الشَّكَّ فَإِنْ كَانَ صَدْرُ الْكَلَامِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْغَايَةَ لَا يَثْبُتُ دُخُولُهَا تَحْتَ حُكْمِ الْمُغَيَّا بِالشَّكِّ وَإِنْ تَنَاوَلَهَا لَا يَثْبُتُ خُرُوجُهَا بِالشَّكِّ (وَبَعْضُ الشَّارِحِينَ قَالُوا هِيَ غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَهُ) أَيْ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا الَّذِينَ شَرَحُوا كَلَامَ عُلَمَائِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوِصَالُ لِوُجُوبِ الِانْقِطَاعِ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ الصِّيَامَ إنْ كَانَ عَامًّا فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِرَمَضَانَ فَلِأَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ أَيْ بِحُرْمَةِ الْوِصَالِ فِي رَمَضَانَ وَجَوَازِهِ فِي غَيْرِهِ. فَقَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ شَرْطًا جَوَابُهُ الْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ الَّتِي مُبْتَدَؤُهَا قَوْلُهُ فَصَدْرُ الْكَلَامِ، وَخَبَرُهَا الْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ الَّتِي شَرْطُهَا قَوْلُهُ، إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا، وَجَزَاؤُهَا قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ أَيْ فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي عَدَمِ الدُّخُولِ، وَقَوْلُهُ فَهِيَ لِمَدِّ الْحُكْمِ اعْتِرَاضٌ لَا جَزَاءٌ لِيَكُونَ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ جَزَاءَ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا إثْبَاتُ أَنَّ الْغَايَةَ دَاخِلَةٌ أَوْ غَيْرُ دَاخِلَةٍ لَا إثْبَاتُ أَنَّهَا لِمَدِّ الْحُكْمِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَزَاءُ قَوْلِهِ وَإِنْ تَنَاوَلَ هُوَ قَوْلُهُ فَدَخَلَ تَحْتَ الْمُغَيَّا لَا قَوْلُهُ فَذَكَرَهَا لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا بَلْ هُوَ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ فَافْهَمْ وَاعْلَمْ فَعِلْمُ الْمَرْءِ يَنْفَعُهُ. (قَوْلُهُ وَلِلنَّحْوِيِّينَ) دَلِيلٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ التَّفْصِيلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّهُ نَقَلَ الْمَذَاهِبَ الضَّعِيفَةَ، وَتَرَكَ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الدُّخُولِ، وَلَا عَلَى عَدَمِهِ بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا يَدُورُ مَعَ الدَّلِيلِ، وَلِهَذَا تَدْخُلُ فِي مِثْلِ قَرَأْت الْكِتَابَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ قَرَأْتُهُ إلَى بَابِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الْغَايَةَ مِنْ جِنْسِ الْمُغَيَّا الثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي الدُّخُولِ فَقَطْ مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ قَائِلٌ فَكَيْفَ يُعَارَضُ الْقَوْمُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكَثِيرُ مِنْ النُّحَاةِ الثَّالِثُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يَلْزَمُ فِي مَسْأَلَةِ السَّمَكَةِ دُخُولُ الرَّأْسِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ الرَّابِعِ وَمُخْتَارِ الْقَوْمِ لِأَنَّ الصَّدْرَ يَتَنَاوَلُهُ، وَقَدْ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَا اخْتَارَهُ هُوَ الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ. (قَوْلُهُ هِيَ غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ)

رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بَيَّنُوا بِهَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنَّ إلَى لِلْغَايَةِ وَالْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا مُطْلَقًا لَكِنَّ الْغَايَةَ هُنَا لَيْسَتْ الْغَسْلَ بَلْ لِلْإِسْقَاطِ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْإِسْقَاطِ فَتَدْخُلُ تَحْتَ الْغَسْلِ ضَرُورَةً وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَدَ لَمَّا كَانَتْ اسْمًا لِلْمَجْمُوعِ لَا تَكُونُ الْغَايَةُ غَايَةً لِغَسْلِ الْمَجْمُوعِ لِأَنَّ غَسْلَ الْمَجْمُوعِ إلَى الْمَرَافِقِ مُحَالٌ فَقَوْلُهُ {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] يُفْهَمُ مِنْهُ سُقُوطُ الْبَعْضِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي سَقَطَ غَسْلُهُ هُوَ الْبَعْضُ الَّذِي يَلِي الْإِبِطَ فَقَوْلُهُ {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] غَايَةٌ لِسُقُوطِ غَسْلِ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ السُّقُوطِ (فَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ يَدْخُلُ الْأَوَّلُ لِلضَّرُورَةِ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ لِمَا فَوْقَهُ وَالْكُلُّ بِدُونِ الْجُزْءِ مُحَالٌ (لَا الْآخِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) فَيَجِبُ تِسْعَةٌ وَعِنْدَهُمَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ فَتَجِبُ عَشَرَةٌ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تُوجَدُ إلَّا بِعَشَرَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمَّا كَانَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَئِمَّةِ وُجُوبَ غَسْلِ الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ مَعَ وُقُوعِهَا بَعْدَ أَنْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ إلَى بِمَعْنَى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] أَيْ مَعَ أَمْوَالِكُمْ، وَبَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ إلَّا عَلَى الدُّخُولِ أَوْ عَدَمِهِ فَجُعِلَ دَاخِلًا فِي الْوُجُوبِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ لِأَنَّ غَسْلَ الْيَدِ لَا يَتِمُّ بِدُونِهِ لِتَشَابُكِ عَظْمَاتِ الذِّرَاعِ وَالْعَضُدِ أَوْ لِأَنَّهُ صَارَ مُجْمَلًا «وَقَدْ أَدَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَاءَ عَلَى مَرَافِقِهِ» فَصَارَ بَيَانًا لَهُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَذَكَرُوا لِهَذَا الْكَلَامِ تَفْسِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ إذَا كَانَ مُتَنَاوِلًا لِلْغَايَةِ كَالْيَدِ فَإِنَّهَا اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ إلَى الْإِبِطِ وَكَانَ ذِكْرُ الْغَايَةِ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهَا لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ إلَيْهَا لِأَنَّ الِامْتِدَادَ حَاصِلٌ فَيَكُونُ قَوْلُهُ {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ اغْسِلُوا وَغَايَةً لَهُ لَكِنْ لِأَجْلِ إسْقَاطِ مَا وَرَاءَ الْمَرَافِقِ عَنْ حُكْمِ الْغَسْلِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ، وَمُتَعَلِّقٌ بِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ اغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ مُسْقِطِينَ إلَى الْمَرَافِقِ فَيَخْرُجُ عَنْ الْإِسْقَاطِ فَيَبْقَى دَاخِلًا تَحْتَ الْغَسْلِ، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ لِظُهُورِ أَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ، وَلِلْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ هَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قُرِنَ بِالْكَلَامِ غَايَةٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ لَا يُعْتَبَرُ بِالْمُطْلَقِ ثُمَّ يَخْرُجُ بِالْقَيْدِ عَنْ الْإِطْلَاقِ بَلْ يُعْتَبَرُ مَعَ الْقَيْدِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَالْفِعْلُ مَعَ الْغَايَةِ كَلَامٌ وَاحِدٌ لِلْإِيجَابِ إلَيْهَا لَا لِلْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ فَلَا يَثْبُتَانِ إلَّا بِنَصَّيْنِ، وَالنَّصُّ مَعَ الْغَايَةِ نَصٌّ وَاحِدٌ. (قَوْلُهُ فَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ يَدْخُلُ الْأَوَّلُ) بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ لَا بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ وُجُودِ الْكُلِّ بِدُونِ الْجُزْءِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنَّهُ مَغْلَطَةٌ مِنْ بَابِ اشْتِبَاهِ الْمَعْرُوضِ بِالْعَارِضِ فَإِنَّ الْوَاحِدَ جُزْءٌ مِنْ كُلِّ عَدَدٍ لَكِنْ إذَا رُتِّبَتْ مَعْدُودَاتُ عَشَرَةٍ مَثَلًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوَاحِدَ الَّذِي هُوَ الْأَوَّلُ مِنْهَا جُزْءٌ مِمَّا فَوْقَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِنْهُ، وَمِمَّا فَوْقَهُ فَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَاشِرِ لَا يَكُونُ إلَّا الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، وَهَكَذَا حَتَّى التَّاسِعِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَاشِرِ وَالْحَادِيَ

أَجْزَاءٍ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ فَتَجِبُ ثَمَانِيَةٌ (وَتَدْخُلُ الْغَايَةُ فِي الْخِيَارِ عِنْدَهُ) أَيْ إذَا بَاعَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إلَى غَدٍّ يَدْخُلُ الْغَدُ فِي الْخِيَارِ أَيْ يَكُونُ الْخِيَارُ ثَابِتًا فِي الْغَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ يَتَنَاوَلُ مَا فَوْقَهُ فَقَوْلُهُ إلَى الْغَدِ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهُ (وَكَذَا فِي الْأَجَلِ وَالْيَمِينِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ) أَيْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرَافِقِ) أَمَّا الْأَجَلُ فَنَحْوُ بِعْت إلَى رَمَضَانَ أَيْ لَا أَطْلُبُ الثَّمَنَ إلَى رَمَضَانَ وَأَمَّا الْيَمِينُ فَنَحْوُ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا إلَى رَمَضَانَ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا أَطْلُبُ الثَّمَنَ وَلَا أُكَلِّمُ يَتَنَاوَلُ الْعُمْرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَشَرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهَا وَاحِدٌ، وَلَيْسَ بِجُزْءٍ مِمَّا بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْعَشَرَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلَيَّ مِنْ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ أَوْ مَا بَيْنَ عِشْرِينَ إلَى ثَلَاثِينَ تَدْخُلُ الْعِشْرُونَ فِي ثَلَاثِينَ مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ التِّسْعَةِ الَّتِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّلَاثِينَ لَا يُقَالُ مُرَادُهُ أَنَّ الْوَاحِدَ جُزْءٌ مِنْ الْعَدَدِ الَّذِي فَوْقَهُ كَالِاثْنَيْنِ مَثَلًا وَثُبُوتَ الْكُلِّ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْجُزْءِ لِأَنَّا نَقُولُ لَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ كَانَ اللَّازِمُ أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ بِمَنْزِلَةِ لَهُ عَلَيَّ اثْنَانِ، وَثَلَاثَةٌ، وَأَرْبَعَةٌ إلَى عَشَرَةٍ حَتَّى إذَا ضَمَّ إلَيْهِ عَشَرَةً لَزِمَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ فَظَهَرَ أَنَّ الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْآحَادُ الَّتِي بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْعَاشِرِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَدْخُلُ كِلَاهُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِنَا مَا بَيْنَ وَاحِدٍ إلَى عَشَرَةٍ فَيُتَأَمَّلُ، وَلَا بِنَاءَ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَ مَا بَيْنَ الْأَوَّلِ، وَالْعَاشِرِ، وَفِيهِ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَغَيْرُهُمَا، وَالثَّانِي لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْأَوَّلِ فَيَجِبُ ضَرُورَةً كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ مِنْ وَاحِدَةٍ إلَى ثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ إيقَاعٌ لِلثَّانِيَةِ، وَهِيَ لَا تُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْأُولَى فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ ضَرُورَةً بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَانِيَةً فَإِنَّهُ لَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً وَيَلْغُو الْوَصْفُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلْوَاحِدَةِ ذِكْرٌ، وَالطَّلَاقُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِلَفْظٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ التَّضَايُفَ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ وَصْفَيْ الْأَوَّلِيَّةِ وَالثَّانَوِيَّةِ لَا بَيْنَ ذَاتَيْهِمَا فَإِيقَاعُ مَا هُوَ ثَانٍ لَا يُوجِبُ إيقَاعُ مَا هُوَ الْأَوَّلُ إذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْمَعْرُوضَيْنِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ إنَّ كَوْنَ الْأَبِ فِي الدَّارِ يُوجِبُ كَوْنَ الِابْنِ فِيهَا ضَرُورَةً أَيْ الْأَبُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الِابْنِ، وَلَا يَدْخُلُ الْآخِرُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ مُطْلَقَ الدِّرْهَمِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَاشِرَ فَذَكَرَ الْغَايَةَ لِمَدِّ حُكْمِ الْوُجُوبِ وَعِنْدَهُمَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ الْأَوَّلُ، وَالْعَاشِرُ لِأَنَّ هَذِهِ الْغَايَةَ غَيْرُ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهَا إذْ لَا وُجُودَ لِلْعَاشِرِ إلَّا بِوُجُودِ تِسْعَةٍ قَبْلَهُ، وَلَا وُجُودَ لِلْأَوَّلِ إلَّا بِوُجُودِ الثَّانِي بَعْدَهُ فَلَا تَكُونَانِ غَايَتَيْنِ مَا لَمْ تَكُونَا ثَابِتَيْنِ، وَذَلِكَ بِالْوُجُوبِ، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ الْغَايَتَيْنِ عَمَلًا بِمُوجَبِ اللُّغَةِ، وَقَدْ حَاجَّهُ الْأَصْمَعِيُّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَا قَوْلُك فِي رَجُلٍ قِيلَ لَهُ كَمْ سِنُّك فَقَالَ مَا بَيْنَ سِتِّينَ إلَى سَبْعِينَ أَيَكُونُ ابْنَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ فَتَحَيَّرَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَرَافِقِ)

فَقَوْلُهُ إلَى رَمَضَانَ لِإِسْقَاطِ مَا وَرَاءَهُ (فِي لِلظَّرْفِ وَالْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَ إثْبَاتِهِ وَإِضْمَارِهِ نَحْوُ صُمْت هَذِهِ السَّنَةَ يَقْتَضِي الْكُلَّ بِخِلَافِ صُمْت فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَلِهَذَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا يَقَعُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ لِيَكُونَ وَاقِعًا فِي جَمِيعِ الْغَدِ وَفِي الْغَدِ إنْ نَوَى آخِرَ النَّهَارِ يَصِحُّ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الدَّارِ تَطْلُقْ فِي الْحَالِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ فِي دُخُولِك الدَّارَ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقَدْ تُسْتَعَارُ لِلْمُقَارَنَةِ إنْ لَمْ تَصْلُحْ ظَرْفًا نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِك الدَّارَ فَتَصِيرُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَلَا يَقَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُتَعَلِّقٌ بِالْجَمِيعِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْخِيَارَ وَعَدَمَ طَلَبِ الثَّمَنِ وَعَدَمَ التَّكَلُّمِ يَنْصَرِفُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى التَّأْبِيدِ فَذِكْرُ الْغَايَةِ يَكُونُ لِلْإِسْقَاطِ لَا لِمَدِّ الْحُكْمِ فَيَدْخُلُ الْغَدُ فِي الْخِيَارِ، وَرَمَضَانُ فِي الْأَجَلِ، وَعَدَمُ التَّكَلُّمِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَدْخُلُ عَمَلًا بِمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي كَلِمَةِ إلَى، وَقَدْ سَبَقَ فِي نَحْوِ بِعْت إلَى شَهْرٍ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأَجَّلْتُ الثَّمَنَ إلَى شَهْرٍ، وَعَدَلَ عَنْهُ هَاهُنَا إلَى لَا أَطْلُبُ الثَّمَنَ لِيَكُونَ نَفْيًا فَيَتَحَقَّقَ التَّنَاوُلُ إذْ رُبَّمَا يُنَازَعُ فِي كَوْنِ التَّأْجِيلِ مُؤَبَّدًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّرْفِيهُ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِأَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِمَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِي الْآجَالِ، وَفِي الْأَيْمَانِ جَمْعُ أَجَلٍ وَيَمِينٍ وَالصَّوَابُ وَفِي الْآجَالِ فِي الْأَيْمَانِ إذْ لَا اخْتِلَافَ فِي رِوَايَةِ آجَالِ الْبُيُوعِ وَالدُّيُونِ بَلْ الْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ فِي الْأَجَلِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ، وَإِنَّمَا رِوَايَةُ الْحَسَنِ فِي آجَالِ الْيَمِينِ قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ، وَفِي الْآجَالِ وَالْإِجَارَاتِ لَا تَدْخُلُ الْغَايَةُ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ التَّأْيِيدُ، وَفِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ، وَتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ فِي مَوْضِعِ الْغَايَةِ شَكٌّ، وَكَذَا فِي أَجَلِ الْيَمِينِ لَا تَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ فِي حُرْمَةِ الْكَلَامِ، وَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْكَلَامِ فِي مَوْضِعِ الْغَايَةِ شَكًّا (قَوْلُهُ فِي لِلظَّرْفِ) بِأَنْ يَشْتَمِلَ الْمَجْرُورُ عَلَى مَا قَبْلَهَا اشْتِمَالًا مَكَانِيًّا أَوْ زَمَانِيًّا تَحْقِيقًا مِثْلُ الْمَاءُ فِي الْكُوزِ وَزَيْدٌ فِي الْبَلَدِ وَمِثْلُ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالصَّلَاةُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَوْ تَشْبِيهًا زَيْدٌ فِي نِعْمَةٍ، وَالدَّارُ فِي يَدِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ صُمْت هَذِهِ السَّنَةَ) يَقْتَضِي الْكُلَّ لِأَنَّ الظَّرْفَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْعُولِ بِهِ حَيْثُ انْتَصَبَ بِالْفِعْلِ فَيَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ كَالْمَفْعُولِ بِهِ يَقْتَضِي تَعَلُّقَ الْفِعْلِ بِمَجْمُوعِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ بِخِلَافِ صُمْت فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ بِصَوْمِ سَاعَةٍ بِأَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ إلَى اللَّيْلِ ثُمَّ يُفْطِرَ لِأَنَّ الظَّرْفَ قَدْ يَكُونُ أَوْسَعَ فَلَوْ نَوَى فِي أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا آخِرَ النَّهَارِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَفِي أَنْتِ طَالِقٌ فِي غَدٍ يُصَدَّقُ قَضَاءً أَيْضًا لَكِنْ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِسَبْقِهِ مَعَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ، وَيُخَالِفُ هَذَا مَا رَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك رَمَضَانَ أَوْ فِي رَمَضَانَ فَهُمَا سَوَاءٌ، وَكَذَا غَدًا أَوْ فِي غَدٍ، وَيَكُونُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا فِي رَمَضَانَ أَوْ الْغَدِ كُلِّهِ. (قَوْلُهُ تَطْلُقْ) حَالًا لِأَنَّ الْمَكَانَ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِلطَّلَاقِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَقَعَ فِي مَكَان دُونَ مَكَان، وَإِذَا لَمْ يَصْلُحْ لِلتَّخْصِيصِ لَمْ يَصْلُحْ لَأَنْ

بِأَنْتِ طَالِقٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ وَيَقَعُ فِي عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ) اعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَشِيئَةِ مُتَعَارَفٌ لَا التَّعْلِيقَ بِالْعِلْمِ فَلَا يُقَالُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ عَلِمَ اللَّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَشِيئَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَعَلِّقَةٌ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْبَعْضِ فَأَمَّا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ فَقَوْلُهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ لَا يُرَادُ بِهِ التَّعْلِيقُ فَالْمُرَادُ أَنَّ هَذَا ثَابِتٌ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ (أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ مَعَ لِلْمُقَارَنَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُجْعَلَ شَرْطًا فَيَكُونُ تَعْلِيقًا إلَّا أَنْ يُرَادَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِك الدَّارَ بِحَذْفِ الْمُضَافِ أَوْ اسْتِعْمَالِ الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ فَيَكُونَ تَعْلِيقًا بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي دُخُولِك الدَّارَ أَيْ وَقْتَ دُخُولِهَا عَلَى وَضْعِ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ شَائِعٌ أَوْ عَلَى اسْتِعَارَةِ فِي لِلْمُقَارَنَةِ لِمَا بَيْنَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ مِنْ الْمُقَارَنَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَيَصِيرُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ ضَرُورَةَ أَنَّ مُقَارَنَةَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُ فَيَلْزَمُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِوُجُوبِ الدُّخُولِ لِيَتَقَارَنَا، قِيلَ وَفِي قَوْلِهِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ شَرْطًا مَحْضًا حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ بَعْدَهُ بَلْ يَقَعُ مَعَهُ، وَيَظْهَرُ الْأَثَرُ فِيمَا لَوْ قَالَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي نِكَاحِك فَتَزَوَّجَهَا لَا تَطْلُقُ كَمَا لَوْ قَالَ مَعَ نِكَاحِك بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَزَوَّجْتُك. (قَوْلُهُ فَلَا يَقَعُ) تَفْرِيعٌ عَلَى كَوْنِهَا عِنْدَ الِاسْتِعَارَةِ لِلْمُقَارَنَةِ بِمَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا مِمَّا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِهِ صَارَ مُعَلَّقًا كَالْمَشِيئَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَكُونُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعْلِيقًا بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِلَّا فَلَا كَالْعِلْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْجَمِيعِ فَلَا يَكُونُ أَنْتِ طَالِقٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعْلِيقًا إذْ لَا يَصِحُّ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ عَلِمَ اللَّهُ بَلْ يَقَعُ فِي الْحَالِ، وَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ فِي مَعْلُومِ اللَّهِ أَيْ هَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ فِي جُمْلَةِ مَعْلُومَاتِهِ إذْ لَوْ لَمْ يَقَعْ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَعْلُومِ اللَّهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى جَعْلِ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ الْقُدْرَةُ أَيْضًا شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ أُجِيبَ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى تَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَصِيرَ مِنْ قَبِيلِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمَقْدُورِ مِثْلَ قَوْلِك عِنْدَ اسْتِعْظَامِ الْأَمْرِ شَاهِدْ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ أَثَرَ قُدْرَتِهِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي الْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُؤَثِّرَةِ بِخِلَافِ الْقُدْرَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا تَرْجِيحَ لِحَذْفِ الْمُضَافِ عَلَى كَوْنِ الْمَصْدَرِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَلَوْ سَلِمَ فَقَوْلُنَا هُوَ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا هُوَ فِي الْمَقْدُورَاتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ التَّقْيِيدِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَعْلِيقًا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ إبْطَالُ الْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِعْدَامٍ لِحُكْمِهِ إذْ لَا طَرِيقَ لِلْوُقُوفِ عَلَيْهَا، وَرُوِيَ الْخِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا عَلَى تَقْدِيرِ التَّعْلِيقِ لَا عَلَى تَقْدِيرِ

فَيَقَعُ ثِنْتَانِ إنْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً مَعَ وَاحِدَةٍ) (وَقَبْلُ لِلتَّقْدِيمِ فَتَقَعُ وَاحِدَةٌ إنْ قَالَ لَهَا) أَيْ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا (أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَ وَاحِدَةٍ) لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ صِفَةٌ لِلطَّلَاقِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَلَمْ يَبْقَ مَحَلًّا لِلْآخَرِ (وَثِنْتَانِ لَوْ قَالَ قَبْلَهَا) أَيْ تَقَعُ ثِنْتَانِ إنْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً قَبْلَهَا وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا وَاقِعٌ فِي الْحَالِ وَاَلَّذِي وُصِفَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِعْدَامِ، وَأَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ مِثْلَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالتَّعْلِيقِ لِعَدَمِ حَرْفِ الْجَزَاءِ، وَلَا يَقَعُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْإِبْطَالِ لِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيَّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ أَيْضًا مُبْطِلٌ لِلْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَكَذَا إذَا عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ مَنْ لَا تَظْهَرُ مَشِيئَتُهُ مِثْلُ إنْ شَاءَ الْجِنُّ، وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ، وَهِيَ أَنَّ مِثْلَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ أَلْبَتَّةَ إمَّا عَلَى تَقْدِيرِ الْمَشِيئَةِ فَلِوُجُوبِ وُقُوعِ مُرَادِ اللَّهِ، وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْمَشِيئَةِ فَلِوُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لِلتَّعْلِيقِ بَلْ لِلْإِبْطَالِ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ الْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا، وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ مُحَالٌ فَالتَّعْلِيقُ مِمَّا يَسْتَحِيلُ مَعَهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ لَغْوٌ، وَذَكَرَ فِي النَّوَازِلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ فَثِنْتَيْنِ فَإِنْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ لَمْ يَقَعْ إلَّا تِلْكَ الْوَاحِدَةُ لِأَنَّ وُقُوعَ الثِّنْتَيْنِ مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى الْوَاحِدَةَ الْيَوْمَ، وَقَدْ شَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ يَقَعُ ثِنْتَانِ لِوُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ أَعْنِي عَدَمَ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْوَاحِدَةَ إذْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ الْوَاحِدَةَ لَطَلَّقَهَا قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ، وَلَوْ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْيَوْمِ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَنْتَ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ أَمَّا الْوَاحِدَةُ فَلِلِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ إذْ لَوْ صَحَّ لَبَطَلِ مِنْ حَيْثُ صَحَّ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ ثَبَتَ مَشِيئَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ وُجُودَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ ثِنْتَيْنِ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ فِي الْيَوْمِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَضَى الْيَوْمُ، وَلَمْ يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ ثَلَاثًا، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْيَوْمِ فِي الْيَمِينَيْنِ فَهُوَ إلَى الْمَوْتِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا طَلُقَتْ قُبَيْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا فِي النَّوَازِلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُنْتَقَى أَيْضًا قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ طَلَاقَك لَا تُطْلَقُ بِهَذِهِ الْيَمِينِ أَبَدًا، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا فِي النَّوَازِلِ كَذَا فِي الْمُحِيطِ، وَأَقُولُ لَا مُخَالَفَةَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ وَضْعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَفِي مَسْأَلَةِ الْمُنْتَقَى عُلِّقَتْ الثَّلَاثُ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى التَّطْلِيقَتَيْنِ، وَقَدْ وُجِدَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ إذْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ التَّطْلِيقَتَيْنِ لَأَوْقَعَهُمَا الزَّوْجُ، وَفِي مَسْأَلَةِ النَّوَازِلِ عُلِّقَتْ التَّطْلِيقَتَانِ بِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ إيَّاهُمَا فَلَا

[أسماء الظروف]

بِأَنَّهُ قَبْلَ هَذَا الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ فِي الْحَالِ يَقَعُ أَيْضًا فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ يَقَعُ فِي الْحَالِ فَيَقَعَانِ مَعًا (وَبَعْدَ عَلَى الْعَكْسِ) أَيْ لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ تَقَعُ ثِنْتَانِ لِمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ قَبْلَ وَاحِدَةٍ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَعْدَهَا وَاحِدَةٌ تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا فِي قَوْلِهِ قَبْلَ وَاحِدَةٍ (وَعِنْدَ لِلْحَضْرَةِ فَقَوْلُهُ لِفُلَانٍ عِنْدِي أَلْفٌ يَكُونُ وَدِيعَةً لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ) (كَلِمَاتُ الشَّرْطِ) (إنْ لِلشَّرْطِ فَقَطْ) فَتَدْخُلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَقَعَانِ أَبَدًا كَمَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى فِي مَسْأَلَةِ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ طَلَاقَك، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ أَعَادَ فِي النَّوَازِلِ فِي غَيْرِ الْمُقَيَّدِ صِيغَةَ الطَّلَاقِ فَقَالَ، وَأَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ بِتَأْخِيرِ الشَّرْطِ عَلَى مَعْنَى إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ الثِّنْتَيْنِ بِخِلَافِ الْمُقَيَّدِ فَإِنَّهُ فِيهِ مُقَدَّمٌ، وَفِي الْمُنْتَقَى لَمْ يُعِدْ حَتَّى يَبْقَى التَّعْلِيقُ بِالثَّلَاثِ فَقَدَّمَ الشَّرْطَ كَمَا فِي الْمُقَيَّدِ فَيَنْصَرِفَ عَدَمُ الْمَشِيئَةِ إلَى مَا انْصَرَفَ إلَيْهِ الْمَشِيئَةُ، وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثِنْتَيْنِ [أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ] (قَوْلُهُ أَسْمَاءُ الظُّرُوفِ) عَقَّبَ بَحْثَ حُرُوفِ الْمَعَانِي بِبَعْضِ أَسْمَاءِ الظُّرُوفِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَسَائِلُ فِقْهِيَّةٌ ثُمَّ عَقَّبَهَا بِكَلِمَاتٍ بَعْضُهَا حُرُوفٌ وَبَعْضُهَا أَسْمَاءٌ، وَهِيَ كَلِمَاتُ الشَّرْطِ، وَأَوْرَدَ فِيهَا مِنْ أَسْمَاءِ الظُّرُوفِ مَا يَكُونُ فِيهَا مَعْنَى الشَّرْطِ ضَبْطًا لِأَدَوَاتِ الشَّرْطِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ لِتَعَلُّقِ مَبَاحِثَ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ (قَوْلُهُ قَبْلَ وَاحِدَةٍ) صِفَةٌ لِلْوَاحِدَةِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ فَاعِلَ الظَّرْفِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إلَيْهَا، وَقَبْلَهَا وَاحِدَةٌ صِفَةٌ لِلْوَاحِدَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا فَاعِلُ الظَّرْفِ فَتَكُونُ هِيَ الْمُتَّصِفَةِ بِالْقَبْلِيَّةِ وَالتَّقَدُّمِ، وَالْمُرَادُ الصِّفَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ لَا النَّعْتُ النَّحْوِيُّ، وَإِلَّا فَالْجُمْلَةُ الظَّرْفِيَّةُ أَعْنِي قَبْلَهَا وَاحِدَةً نَعْتٌ لِلْوَاحِدَةِ السَّابِقَةِ، وَلَمَّا وُصِفَتْ الثَّانِيَةُ بِأَنَّهَا قَبْلَ السَّابِقَةِ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ بَلْ إيقَاعُهَا مُقَارَنًا كَمَا إذَا قَالَ مَعَهَا وَاحِدَةٌ ثَبَتَ مِنْ قَصْدِهِ قَدْرُ مَا كَانَ فِي وُسْعِهِ كَمَا إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ فِي الزَّمَانِ السَّابِقِ يُجْعَلُ إيقَاعًا فِي الْحَالِ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِسْنَادِ إلَى مَا سَبَقَ الْوُقُوعُ فِي الْحَالِ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ فِي الْحَالِ دُونَ الْإِسْنَادِ فَيَثْبُتُ تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ، وَقَيَّدَ مَسَائِلَ الْقَبْلِيَّةِ، وَالْبَعْدِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّهُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا يَقَعُ الْجَمِيعُ لِأَنَّهَا لَا تَبِينُ بِالْأُولَى، وَلِذَا يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ فِي مِثْلِ لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَ دِرْهَمٍ أَوْ بَعْدَ دِرْهَمٍ أَوْ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ إذْ الدِّرْهَمُ بَعْدَ الدِّرْهَمِ يَجِبُ دَيْنًا (قَوْلُهُ عِنْدِي أَلْفٌ) لِلْوَدِيعَةِ لِأَنَّ الْحَضْرَةَ تَدُلُّ عَلَى الْحِفْظِ كَمَا لَوْ قَالَ وَضَعْت الشَّيْءَ عِنْدَك يُفْهَمُ مِنْهُ الِاسْتِحْفَاظُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى اللُّزُومِ فِي الذِّمَّةِ حَتَّى تَكُونَ دَيْنًا لَكِنْ لَا تُنَافِيهِ حَتَّى لَوْ قَالَ عِنْدِي أَلْفٌ دَيْنًا ثَبَتَ [كَلِمَاتُ الشَّرْطِ] قَوْلُهُ (كَلِمَاتُ الشَّرْطِ) ظَاهِرُ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ أَسْمَاءَ الظُّرُوفِ،، وَكَلِمَاتِ الشَّرْطِ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَجَوُّزٌ، وَتَغْلِيبٌ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ إنْ لِلشَّرْطِ) أَيْ لِتَعْلِيقِ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ لِحُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ أُخْرَى.

فِي أَمْرٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ فَإِنْ قَالَ إنْ لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالشَّرْطُ، وَهُوَ عَدَمُ الطَّلَاقِ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَقَعُ فِي آخِرِ الْحَيَاةِ، وَإِذَا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ يَجِيءُ لِلظَّرْفِ، وَلِلشَّرْطِ نَحْوُ ، وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ وَنَحْوُ ، وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ حَقِيقَةٌ فِي الظَّرْفِ، وَقَدْ يَجِيءُ لِلشَّرْطِ بِلَا سُقُوطِ مَعْنَى الظَّرْفِ، وَدُخُولِهِ فِي أَمْرٍ كَائِنٍ أَوْ مُنْتَظَرٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَطْ أَيْ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ ظَرْفِيَّةٍ وَنَحْوِهَا كَمَا فِي إذَا وَمَتَى، فَتَدْخُلُ فِي أَمْرٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، أَيْ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ وَأَنْ لَا يَكُونَ، وَلَا تُسْتَعْمَلُ فِيمَا هُوَ قَطْعِيُّ الْوُجُودِ أَوْ قَطْعِيُّ الِانْتِفَاءِ إلَّا عَلَى تَنْزِيلِهِمَا مَنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ لِنُكْتَةٍ (قَوْلُهُ فَيَقَعُ فِي آخِرِ الْحَيَاةِ) أَيْ حَيَاةِ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَا دَامَا حَيَّيْنِ يُمْكِنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلَا يَقَعُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ، وَإِنْ دَخَلَ فَلَهَا الْمِيرَاثُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْحَيَاةِ عَاجِزٌ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ وَمِنْ شَرْطِهِ الْقُدْرَةُ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمَلْفُوظِ لَدَى الشَّرْطِ قُلْنَا هُوَ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ مَا يُشْتَرَطُ لِحَقِيقَةِ التَّطْلِيقِ، وَلَا يُكْتَفَى بِوُجُودِ ذَلِكَ عِنْدَ التَّطْلِيقِ كَمَا إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ، ثُمًّ جُنَّ فَوُجِدَ الشَّرْطُ حَالَةَ جُنُونِهِ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ الْجَزَاءَ، وَإِنْ لَمْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ حَقِيقَةُ التَّعْلِيقِ فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ بِمَوْتِهَا؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَ مُمْكِنٌ مَا لَمْ تَمُتْ وَالْعَجْزُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ، وَحِينَئِذٍ لَا يُتَصَوَّرُ الْوُقُوعُ قُلْنَا: بَلْ تَحَقُّقُ الْعَجْزُ عَنْ الْإِيقَاعِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّ مِنْ حُكْمِهِ أَنْ يَعْقُبَهُ الْوُقُوعُ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ، وَإِذَا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ) تُسْتَعْمَلُ لِلظَّرْفِ بِمَعْنَى، وَقْتِ حُصُولِ مَضْمُونِ مَا إلَيْهِ أُضِيفَ فَلَا يَجْزِمُ بِهِ الْفِعْلُ، وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِيمَا هُوَ قَطْعِيُّ الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ: ، وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى إلَيْهَا ... وَإِذَا يُحَاسُ الْحَيْسُ يُدْعَى جُنْدُبُ الْحَيْسُ الْخَلْطُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْحَيْسُ، وَهُوَ تَمْرٌ يُخْلَطُ بِسَمْنٍ وَأَقِطٍ، وَحَاسَ الْحَيْسَ اتَّخَذَهُ، وَلِلشَّرْطِ بِمَعْنَى تَعْلِيقِ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِحُصُولِ مَضْمُونِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ، وَيَجْزِمُ بِهِ الْمُضَارِعُ، وَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ فِي أَمْرٍ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَقَوْلِهِ: ، وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاك رَبُّك بِالْغِنَى ... وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلْ أَيْ إنْ يُصِبْكَ فَقْرٌ وَمَسْكَنَةٌ فَأَظْهِرْ الْغِنَى مِنْ نَفْسِك بِالتَّزَيُّنِ وَتَكَلُّفِ الْجَمِيلِ أَوْ كُلِّ الْجَمِيلَ، وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُذَابُ تَعَفُّفًا قَالَ الشَّاعِرُ: قَدْ كُنْتُ قِدْمًا مُثْرِيًا مُتَمَوِّلًا ... مُتَجَمِّلًا مُتَعَفِّفًا مُتَدَيِّنًا فَالْآنَ صِرْتُ وَقَدْ عَدِمْتُ تَمَوُّلِي ... مُتَجَمِّلًا مُتَعَفِّفًا مُتَدَيِّنًا أَيْ كُنْت ذَا ثَرْوَةٍ، وَعِفَّةٍ، وَدِيَانَةٍ فَصِرْت الْآنَ آكُلُ شَحْمٍ مُذَابٍ، وَشَارِبُ عُفَافَةٍ أَيْ بَقِيَّةِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا فِي الضَّرْعِ مِنْ اللَّبَنِ، وَذَا دِينٍ، وَفِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَغَيْرِهِ أَنَّ " إذَا " حِينَئِذٍ لَيْسَ بِاسْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ حَرْفٌ بِمَعْنَى إنْ بِدَلِيلِ اسْتِعْمَالِهِ فِيمَا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ، وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي فَإِنَّ " إذَا " كَثِيرًا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَشْكُوكِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْمَقْطُوعِ لِنُكْتَةٍ، وَهِيَ هَاهُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ شِيمَةَ الزَّمَانِ رَدُّ الْمَوَاهِبِ وَحَطُّ الْمَرَاتِبِ حَتَّى إنْ أَصَابَهُ الْمَكْرُوهُ كَأَنَّهُ أَمْرٌ لَا شَكَّ فِيهِ لِيُوَطِّنَ الْمُخَاطَبُ نَفْسَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْمَنُ مُفَاجَأَةَ الْمَكْرُوهِ، وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إذَا حَقِيقَةٌ فِي الظَّرْفِ تُضَافُ إلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ لَكِنَّهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ شَرْطٍ وَتَعْلِيقٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] أَيْ، وَقْتَ غَشَيَانِهِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ اللَّيْلِ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ تَعْلِيقَ الْقَسَمِ بِغَشَيَانِ اللَّيْلِ وَتَقْيِيدَهُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلِهَذَا مَنَعَ الْمُحَقِّقُونَ كَوْنَهُ حَالًا مِنْ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا يُفِيدُ تَقْيِيدَ الْقَسَمِ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ وَالتَّعْلِيقِ مِنْ غَيْرِ سُقُوطِ مَعْنَى الظَّرْفِ، مِثْلُ إذَا خَرَجْتَ خَرَجْتُ أَيْ أَخْرُجُ وَقْتَ خُرُوجِك، تَعْلِيقًا لِخُرُوجِك بِخُرُوجِهِ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيقِ الْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوهُ لِكَمَالِ الشَّرْطِ وَلَمْ يَجْزِمُوا بِهِ الْمُضَارِعَ لِفَوَاتِ مَعْنَى الْإِبْهَامِ اللَّازِمِ لِلشَّرْطِ فَإِنَّ قَوْلَك آتِيك إذَا احْمَرَّ الْبُسْرُ بِمَنْزِلَةِ آتِيك الْوَقْتَ الَّذِي يَحْمَرُّ فِيهِ الْبُسْرُ فَفِيهِ تَعْيِينٌ وَتَخْصِيصٌ بِخِلَافِ مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى إنْ تَخْرُجْ الْيَوْمَ أَخْرُجْ الْيَوْمَ، وَإِنْ تَخْرُجْ غَدًا أَخْرُجْ غَدًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَزْمَانِ فَجَزْمُ الْفِعْلِ بِإِذَا لَا يَجُوزُ إلَّا فِي ضَرُورَةِ الشِّعْرِ تَشْبِيهًا لِلتَّعْلِيقِ بَيْنَ جُمْلَتَيْهَا بِمَا بَيْنَ جُمْلَتَيْ إنْ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ النُّحَاةِ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ جَزْمِ الْفِعْلِ فَشَائِعٌ مُسْتَفِيضٌ لَا يُقَالُ: فَفِي اسْتِعْمَالِهَا فِي الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ سُقُوطِ مَعْنَى الظَّرْفِ، جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هِيَ لَمْ تُسْتَعْمَلْ إلَّا فِي مَعْنَى الظَّرْفِ لَكِنْ تَضَمَّنَتْ مَعْنَى الشَّرْطِ بِاعْتِبَارِ إفَادَةِ الْكَلَامِ تَقْيِيدَ حُصُولِ مَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِمَضْمُونِ جُمْلَةٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُبْتَدَأِ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الشَّرْطِ مِثْلُ الَّذِي يَأْتِينِي أَوْ كُلُّ رَجُلٍ يَأْتِينِي فَلَهُ دِرْهَمٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَصْلًا، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ امْتِنَاعَ الْجَمْعِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ التَّنَافِي، وَلَا تَنَافِيَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ يَصْلُحُ شَرْطًا، وَمَعْنَاهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ أَصْلًا، وَأَمَّا مَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ مِنْ عُمُومِ الْمَجَازِ حَيْثُ اُسْتُعْمِلَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْوَقْتِ فِي مَجْمُوعِ الْوَقْتِ وَالشَّرْطِ اسْتِعْمَالَ الْجُزْءِ فِي الْكُلِّ فَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ، لِلْقَطْعِ بِامْتِنَاعِ إطْلَاقِ الْأَرْضِ عَلَى مَجْمُوعِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (قَوْلُهُ، وَدُخُولُهُ) أَيْ دُخُولُ إذَا إنَّمَا يَكُونُ لِأَمْرٍ كَائِنٍ مُتَحَقِّقٍ فِي الْحَالِ مِثْلَ قَوْلِهِ، وَإِذَا تَكُونُ كَرِيهَةٌ أُدْعَى لَهَا أَيْ عِنْدَ نُزُولِ الْحَادِثَةِ أَوْ أَمْرٍ مُنْتَظَرٍ لَا مَحَالَةَ أَيْ أَمْرٍ يُقْطَعُ بِتَحَقُّقِهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] فَهِيَ تَقْلِبُ الْمَاضِيَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ

لَا مَحَالَةَ. (وَمَتَى لِلظَّرْفِ خَاصَّةً فَيَقَعُ بِأَدْنَى سُكُوتٍ فِي مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ) لِأَنَّهُ وُجِدَ وَقْتٌ لَمْ يُطَلِّقْ فِيهِ (وَإِنْ قَالَ: إذَا) أَيْ إنْ قَالَ: إذَا لَمْ أُطَلِّقْك فَأَنْتِ طَالِقٌ (فَعِنْدَهُمَا كَمَتَى) أَيْ كَقَوْلِهِ مَتَى لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ حَتَّى يَقَعَ بِأَدْنَى سُكُوتٍ (كَمَا فِي إذَا شِئْت فَإِنَّهُ كَمَتَى شِئْتِ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ) أَيْ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك إذَا شِئْتِ فَإِنَّهُ كَمَتَى شِئْتِ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يَتَقَيَّدَ بِالْمَجْلِسِ بِخِلَافِ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْتِ فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ حَمَلَا كَلِمَةَ إذَا عَلَى كَلِمَةِ مَتَى فِي قَوْلِهِ إذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ أَنْتِ طَالِقٌ كَمَا أَنَّ إذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَتَى بِاتِّفَاقٍ فِي قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك إذَا شِئْت (، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ) أَيْ قَوْلُهُ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتَ طَالِقٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ كَقَوْلِهِ: إنْ لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ فَاحْتَاجَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى الْفَرْقِ (وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي مَسْأَلَتِنَا فِي الْوُقُوعِ فِي الْحَالِ فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ، وَثَمَّةَ فِي انْقِطَاعِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَشِيئَةِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالشَّكِّ) أَيْ لَمَّا جَاءَ إذَا بِمَعْنَى مَتَى، وَبِمَعْنَى إنْ فَفِي قَوْلِهِ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك أَنْتِ طَالِقٌ إنْ حُمِلَ عَلَى مَتَى يَقَعُ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهَا حَقِيقَةٌ فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَمَا تُوُهِّمَ مِنْ دُخُولِهِ لِأَمْرٍ كَائِنٍ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الِاسْتِمْرَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] الْآيَةُ كَمَا يُسْتَعْمَلُ فِعْلُ الْمُضَارِعِ وَاسْمُ الْفَاعِلِ لِذَلِكَ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ (قَوْلُهُ، وَمَتَى لِلظَّرْفِ خَاصَّةً) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ خَاصَّةً مَعَ سُقُوطِ مَعْنَى الظَّرْفِ بِمَنْزِلَةِ إنْ كَمَا جَازَ ذَلِكَ فِي إذَا فِي قَوْلِهِ، وَإِذَا تُصِبْك خَصَاصَةٌ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ مَتَى كَلِمَةُ شَرْطٍ يُجْزَمُ بِهَا الْمُضَارِعُ مِثْلُ مَتَى تَخْرُجْ أَخْرُجْ قَالَ الشَّاعِرُ: مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلَى ضَوْءِ نَارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا إذَا مُتَمَحِّضًا لِلشَّرْطِ بِوَاسِطَةِ وُقُوعِهِ فِي بَيْتٍ شَاذٍّ جَازِمًا لِلْمُضَارِعِ مُسْتَعْمَلًا فِيمَا هُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا مَتَى مُتَمَحِّضًا لِلشَّرْطِ مَعَ دَوَامِ ذَلِكَ فِيهِ (قَوْلُهُ فَعِنْدَهُمَا إذَا مِثْلُ مَتَى) فِي أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَعْنَى الظَّرْفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَعِنْدَهُ مِثْلُ إنْ فِي التَّمَحُّضِ لِلشَّرْطِيَّةِ عَلَى مَا جَوَّزَهُ الْكُوفِيُّونَ (قَوْلُهُ فَاحْتَاجَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى الْفَرْقِ) بَيْنَ قَوْلِهِ إذَا لَمْ أُطَلِّقْكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك إذَا شِئْت حَيْثُ جَعَلَ إذَا فِي الْأَوَّلِ لِمَحْضِ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ إنْ. حَتَّى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَى آخِرِ الْحَيَاةِ، وَفِي الثَّانِي لِلظَّرْفِ بِمَنْزِلَةِ مَتَى حَتَّى لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ، وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي التَّطْلِيقِ عَدَمُ الطَّلَاقِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ، وَفِي التَّعْلِيقِ الْأَصْلُ الِاسْتِمْرَارُ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالشَّكِّ فَإِنْ قِيلَ: طَلِّقِي نَفْسَك مُقَيَّدٌ بِالْمَجْلِسِ، وَإِذَا زِيدَ عَلَيْهِ مَتَى شِئْت يَتَعَلَّقُ بِمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ

الْحَالِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى إنْ يَقَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي الْوُقُوعِ فِي الْحَالِ فَلَا يَقَعُ بِالشَّكِّ فَصَارَ مِثْلَ إنْ وَثَمَّةَ، أَيْ فِي طَلِّقِي نَفْسَك إذَا شِئْت لَا شَكَّ أَنَّ الطَّلَاقَ تَعَلَّقَ فِي الْحَالِ بِمَشِيئَتِهَا فَإِنْ حُمِلَ عَلَى إنْ انْقَطَعَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَشِيئَةِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَتَى لَا يَنْقَطِعُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ فِي الْحَالِ مُتَعَلِّقٌ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالشَّكِّ. (، وَكَيْفَ لِلسُّؤَالِ عَنْ الْحَالِ فَإِنْ اسْتَقَامَ) أَيْ السُّؤَالُ عَنْ الْحَالِ، وَجَوَابُ إنْ مَحْذُوفٌ أَيْ فِيهَا، وَيُحْمَلُ عَلَى السُّؤَالِ عَنْ الْحَالِ (وَإِلَّا بَطَلَتْ) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَقِمْ السُّؤَالُ عَنْ الْحَالِ تَبْقَى كَلِمَةُ كَيْفَ (، وَيَحْنَثُ فَيَعْتِقُ فِي أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ السُّؤَالُ عَنْ الْحَالِ فَيَعْتِقُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ، وَبَطَلَ كَيْفَ شِئْت، وَاعْلَمْ أَنَّ كَلِمَةَ كَيْفَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت لَيْسَتْ لِلسُّؤَالِ عَنْ الْحَالِ بَلْ صَارَتْ مَجَازًا، وَمَعْنَاهَا أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ شِئْت فَعَلَى هَذَا، الْمُرَادُ بِالِاسْتِقَامَةِ هُوَ أَنْ يَصِحَّ تَعَلُّقُ الْكَيْفِيَّةِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ كَأَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَهُ كَيْفِيَّةٌ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَلَا كَيْفِيَّةَ لَهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُ الْكَيْفِيَّةِ بِصَدْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا زِيدَ عَلَيْهِ إنْ شِئْت فَفِي إذَا شِئْتِ وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَعَلُّقِهِ بِمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الشَّكُّ فَجَوَابُهُ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمَجْلِسِ فِي طَلِّقِي نَفْسَك إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ ضَرُورَةَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَإِذَا قُرِنَ بِمَتَى شِئْت صَارَ رَاجِعًا إلَى أَصْلِهِ شَامِلًا لِلْأَزْمِنَةِ، وَإِذَا قُرِنَ بِإِذَا شِئْت يَكُونُ الشَّكُّ فِي انْقِطَاعِ تَعَلُّقِهِ بِالْمَشِيئَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ التَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ (قَوْلُهُ وَكَيْفَ لِلسُّؤَالِ) قَدْ يُظَنُّ مِنْ سِيَاقِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ كَيْفَ مِنْ كَلِمَاتِ الشَّرْطِ عَلَى مَا هُوَ رَأْيُ الْكُوفِيِّينَ، وَعَلَى مَا هُوَ الْقِيَاسُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لِلْحَالِ وَالْأَحْوَالُ شُرُوطٌ إلَّا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى أَحْوَالٍ لَيْسَتْ فِي يَدِ الْعَبْدِ مِثْلِ الصِّحَّةِ، وَالسَّقَمِ، وَالْكُهُولَةِ، وَالشَّيْخُوخَةِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّعْلِيقُ بِهَا إلَّا إذَا ضُمَّتْ إلَيْهَا " مَا " نَحْوُ كَيْفَمَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا مِنْ الْكَلِمَاتِ الَّتِي يُبْحَثُ عَنْهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَسْمَاءِ الظُّرُوف أَوْ كَلِمَاتِ الشَّرْطِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لِلِاسْتِفْهَامِ، أَيْ السُّؤَالِ عَنْ الْحَالِ خَاصَّةً لَكِنْ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لَمْ تَبْقَ فِي مِثْلِ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت عَلَى حَقِيقَتِهَا، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْوَصْفُ مُفَوَّضًا إلَى مَشِيئَتِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ أَرَجْعِيًّا تُرِيدِينَ أَمْ بَائِنًا؟ عَلَى قَصْدِ السُّؤَالِ بَلْ صَارَتْ مَجَازًا، وَالْمَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ بِأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ شِئْتِ فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ بِمَنْزِلَةِ أَيٍّ الِاسْتِفْهَامِيَّة لِأَنَّهُ مَعْنَى كَيْفَ شِئْتِ عِنْدَ الِاسْتِفْهَامِ أَيَّ حَالٍ شِئْتِ فَاسْتُعِيرَتْ لِأَيٍّ الْمَوْصُولَةِ بِجَامِعِ الْإِبْهَامِ عِنْدَ مَعْنَى أَنْتِ طَالِقٌ بِأَيَّةِ كَيْفِيَّةٍ شِئْتهَا مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سُلِبَ عَنْهَا مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَاسْتُعْمِلَتْ اسْمًا لِلْحَالِ كَمَا حَكَى قُطْرُبٌ عَنْ بَعْضِ الْعَرَبِ اُنْظُرْ إلَى فُلَانٍ كَيْفَ يَصْنَعُ، أَيْ إلَى حَالِ صَنْعَتِهِ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ كَيْفَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ الْخَافِضِ (قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَلَا كَيْفِيَّةَ لَهُ) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ يَكُونُ مُعَلَّقًا وَمُنَجَّزًا عَلَى مَالٍ وَبِدُونِهِ عَلَى وَجْهِ التَّدْبِيرِ

الْكَلَامِ. (وَتَطْلُقُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت، وَتَبْقَى الْكَيْفِيَّةُ) أَيْ كَوْنُهُ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا خَفِيفَةً أَوْ غَلِيظَةً (مُفَوَّضَةً إلَيْهَا إنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ، وَإِنْ نَوَى فَإِنْ اتَّفَقَا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَرَجْعِيَّةٌ) ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْكَيْفِيَّةَ إلَيْهَا فَإِنْ لَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ اُعْتُبِرَ نِيَّتُهُمَا، وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ فَإِنْ اتَّفَقَ نِيَّتُهُمَا يَقَعُ مَا نَوَيَا، وَإِنْ اخْتَلَفَ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ النِّيَّتَيْنِ أَمَّا نِيَّتُهَا فَلِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا أَوْ نِيَّتُهُ؛ فَلِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْأَصْلُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ فَإِذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا فَبَقِيَ أَصْلُ الطَّلَاقِ، وَهُوَ الرَّجْعِيُّ. (وَعِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقُ الْأَصْلُ أَيْضًا) أَيْ فِي أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت يَتَعَلَّقُ أَصْلُ الطَّلَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَغَيْرَ مُطْلَقٍ أَوْ مُقَيَّدٍ بِمَا يَأْتِي مِنْ الزَّمَانِ، وَكُلُّ هَذِهِ كَيْفِيَّاتٌ، وَقَدْ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ فِي مَسْأَلَةِ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْتَ: إنَّهُ يَعْتِقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا مَشِيئَةَ لَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يَشَأْ فِي الْمَجْلِسِ فَعُلِمَ أَنَّ بُطْلَانَ تَعَلُّقِ الْكَيْفِيَّةِ بِصَدْرِ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (قَوْلُهُ، وَتَطْلُقُ فِي أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت) أَيْ يَقَعُ وَاحِدَةٌ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولَةٍ بَانَتْ فَلَا مَشِيئَةَ بَعْدُ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولَةً فَالْكَيْفِيَّةُ مُفَوَّضَةٌ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كَيْفَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى تَفْوِيضِ الْأَحْوَالِ وَالصِّفَاتِ دُونَ الْأَصْلِ فَفِي الْعِتْقِ وَغَيْرِ الْمَدْخُولَةِ لَا مَشِيئَةَ بَعْدَ وُقُوعِ الْأَصْلِ فَيَلْغُو التَّفْوِيضُ، وَفِي الْمَدْخُولَةِ يَكُونُ التَّفْوِيضُ إلَيْهَا بِأَنْ يَجْعَلَهَا بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا، وَصَحَّ هَذَا التَّفْوِيضُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ يَكُونُ رَجْعِيًّا فَيَصِيرُ بَائِنًا بِمُضِيِّ الْعِدَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ وَاحِدًا فَيَصِيرُ ثَلَاثًا بِضَمِّ اثْنَيْنِ إلَيْهِ، وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْحُرْمَةُ غَلِيظَةً فَلَمَّا احْتَمَلَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ صَارَ التَّفْوِيضُ إلَى مَشِيئَتِهَا، وَأَمَّا تَفْوِيضُ الْأَصْلِ فِي نَحْوِ طَلِّقِي نَفْسَكِ كَيْفَ شِئْتِ فَلَيْسَ مِنْ كَلِمَةِ كَيْفَ بَلْ مِنْ لَفْظِ طَلِّقِي، وَكَيْفَ يُفِيدُ تَفْوِيضَ الْأَوْصَافِ (قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا يَتَعَلَّقُ الْأَصْلُ، أَيْضًا) بِالْمَشِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا كُلَّ حَالٍ حَتَّى الرَّجْعِيَّةِ فَيَلْزَمُ تَفْوِيضُ نَفْسِ الطَّلَاقِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِدُونِ حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ وَوَصْفٍ مِنْ الْأَوْصَافِ كَمَا قَالُوا فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} [البقرة: 28] الْآيَةَ: إنَّهُ إنْكَارٌ لِأَصْلِ الْكُفْرِ بِإِنْكَارِ أَحْوَالِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَالٍ، وَتَحْقِيقُ كَلَامِهِمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ أَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَحْسُوسًا كَالتَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ، وَغَيْرِهَا فَحَالُهُ وَأَصْلُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَحْسُوسًا كَانَ مَعْرِفَةُ وُجُودِهِ بِآثَارِهِ وَأَوْصَافِهِ، فَافْتَقَرَتْ مَعْرِفَةُ ثُبُوتِهِ إلَى مَعْرِفَةِ أَثَرِهِ، وَوَصْفِهِ كَثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ، وَالْحِلِّ فِي النِّكَاحِ، وَالْوَصْفُ مُفْتَقِرٌ، أَيْضًا إلَى الْأَصْلِ فَاسْتَوَيَا، وَصَارَ تَعْلِيقُ الْوَصْفِ تَعْلِيقَ الْأَصْلِ، وَأَمَّا مَا ظَنَّهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ ابْتِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرْضِ فَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا جِهَةَ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا لَيْسَ بِمَحْسُوسٍ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونُ عَرَضًا، وَيُمْكِنُ دَفْعُهُمَا

[فصل في الصريح والكناية]

أَيْ وُقُوعُ الطَّلَاقِ أَيْضًا بِمَشِيئَتِهَا (فَعِنْدَهُمَا مَا لَا يَقْبَلُ الْإِشَارَةَ) أَيْ مَا لَا يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْسُوسَاتِ (فَحَالُهُ وَأَصْلُهُ سَوَاءٌ) أَظُنُّ أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ فَإِنَّ الْعَرَضَ الْأَوَّلَ لَيْسَ مَحَلًّا لِلْعَرَضِ الثَّانِي بَلْ كِلَاهُمَا حَالَانِ فِي الْجِسْمِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِكَوْنِهِ أَصْلًا وَمَحَلًّا، وَالْآخَرُ بِكَوْنِهِ فَرْعًا وَحَالًا، فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا نَقُولُ: إنَّ الطَّلَاقَ أَصْلٌ وَالْكَيْفِيَّةَ عَرَضٌ قَائِمٌ بِهِ وَأَنَّ الْأَصْلَ مَوْجُودٌ بِدُونِ الْفَرْعِ بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَرْعِيَّةِ لَكِنْ لَا انْفِكَاكَ لِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ إذْ الطَّلَاقُ لَا يُوجَدُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا فَإِذَا تَعَلَّقَ أَحَدُهُمَا بِمَشِيئَتِهَا تَعَلَّقَ الْآخَرُ. (فَصْلٌ) فِي الصَّرِيحِ، وَالْكِنَايَةِ (الصَّرِيحُ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ، وَالْكِنَايَةُ تَحْتَاجُ إلَيْهَا، وَلِاسْتِتَارِهَا لَا يَثْبُتُ بِهَا مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يُحَدُّ بِالتَّعْرِيضِ، نَحْوُ لَسْت أَنَا بِزَانٍ قَالُوا وَكِنَايَاتُ الطَّلَاقِ تُطْلَقُ عَلَيْهَا مَجَازًا؛ لِأَنَّ مَعَانِيَهَا غَيْرُ مُسْتَتِرَةٍ لَكِنَّ الْإِبْهَامَ فِيمَا يَتَّصِلُ بِهَا كَالْبَائِنِ مَثَلًا فَإِنَّهُ مُبْهَمٌ فِي أَنَّهَا بَائِنَةٌ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ عَنْ النِّكَاحِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا نَوَى نَوْعًا مِنْهَا، وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ عَنْ النِّكَاحِ تَعَيَّنَ، وَتَبِينُ بِمُوجَبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَاضٌ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ، وَأَمَّا ثَالِثًا؛ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَدَمُ انْفِكَاكِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخِرِ لَزِمَ مِنْ تَعَلُّقِ أَحَدِهِمَا بِالْمَشِيئَةِ تَعَلُّقُ الْآخَرَ بِهَا سَوَاءٌ قَامَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَوْ قَامَا بِشَيْءٍ آخَرَ فَلَا مَدْخَلَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّ عَدَمَ الِانْفِكَاكِ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَكَيْفِيَّةِ مَا لَا بِخُصُوصِهَا، وَالْمُعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهَا إنَّمَا هُوَ خُصُوصُ الْكَيْفِيَّةِ، وَدَفْعُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَمَّا لَمْ يُوجَدْ بِدُونِ كَيْفِيَّةٍ مَا، وَقَدْ تَعَلَّقَ جَمِيعُ الْكَيْفِيَّاتِ بِالْمَشِيئَةِ لَزِمَ تَعَلُّقِهِ بِهَا ضَرُورَةً [فَصْلٌ فِي الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) قَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَة فَهَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِهَا فَالصَّرِيحُ لَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْكَلَامِ أَرَادَهُ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ أَنْتِ حُرٌّ يَقَعُ الطَّلَاقُ أَوْ الْعَتَاقُ نَعَمْ لَوْ أَرَادَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ رَفْعَ حَقِيقَةِ الْقَيْدِ يُصَدَّقُ دِيَانَةً لَا قَضَاءً، وَالْكِنَايَةُ تَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ لِيَزُولَ مَا فِيهَا مِنْ اسْتِتَارِ الْمُرَادِ، وَالتَّرَدُّدِ فِيهِ (قَوْلُهُ، وَلِاسْتِتَارِهَا) أَيْ لِخَفَاءِ الْمُرَادِ بِالْكِنَايَةِ وَقُصُورِهَا فِي الْبَيَانِ لَا يَثْبُتُ بِهَا مَا يَنْدَفِعُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجِبُ حَدُّ الْقَذْفِ إلَّا إذَا صَرَّحَ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا مِثْلُ زَنَيْتَ أَوْ أَنْتَ زَانٍ بِخِلَافِ جَامَعْتَ فُلَانَةَ أَوْ وَاقَعْتَهَا أَوْ وَطِئْتَهَا، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَا يَجِبُ الْحَدُّ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فَلَا يَجِبُ بِالتَّعْرِيضِ، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا لِيَدُلَّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ كَمَا يَقُولُ الْمُحْتَاجُ لِلْمُحْتَاجِ إلَيْهِ جِئْتُك لِأُسَلِّمَ عَلَيْك وَأَنْظُرَ إلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَحَقِيقَتُهُ إمَالَةُ الْكَلَامِ إلَى عَرَضٍ، أَيْ جَانِبٍ يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ فَإِذَا قَالَ: لَسْتُ أَنَا بِزَانٍ تَعْرِيضًا بِأَنَّ الْمُخَاطَبَ زَانٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ

الْكَلَامِ، وَلَوْ جُعِلَتْ كِنَايَةً حَقِيقَةً تَطْلُقُ رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِمَا يَسْتَتِرُ مِنْهُ الْمُرَادُ، وَالْمُرَادُ الْمُسْتَتِرُ هَاهُنَا الطَّلَاقُ فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ) اعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَمَّا قَالُوا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ، وَأَمْثَالِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُوجَبَ الْكَلَامِ هُوَ الْبَيْنُونَةُ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتٌ عِنْدَكُمْ وَالْكِنَايَةُ هِيَ مَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ الْمُسْتَتِرُ هُوَ الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فَيَجِبُ أَنْ يَقَعَ بِهَا الرَّجْعِيُّ كَمَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ فَأَجَابَ مَشَايِخُنَا بِأَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْكِنَايَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ فَيَقَعُ بِهَا الْبَائِنُ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْكَلَامِ هُوَ الْبَيْنُونَةُ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْكِنَايَةِ عِنْدَهُمْ، وَلَوْ فَسَّرُوهَا بِتَفْسِيرِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ يَثْبُتُ الْمُدَّعَى، وَهُوَ الْبَيْنُونَةُ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي الْجَوَابِ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ لِلتَّعْرِيضِ نَوْعٌ مِنْ الْكِنَايَةِ يَكُونُ مَسْبُوقًا بِمَوْصُوفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ كَمَا تَقُولُ فِي عَرَضِ مَنْ يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ يَدِهِ وَلِسَانِهِ، تَوَصُّلًا بِذَلِكَ إلَى نَفْيِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمُؤْذِي (قَوْلُهُ قَالُوا، وَكِنَايَاتُ الطَّلَاقِ) مِثْلُ: أَنْتِ بَائِنٌ أَنْتِ بَائِنَةٌ أَوْ بَتْلَةٌ، أَنْتِ حَرَامٌ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْكِنَايَةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْكِنَايَةِ مَا اسْتَتَرَ الْمُرَادُ بِهِ، وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مَعَانِيهَا غَيْرُ مُسْتَتِرَةٍ بَلْ ظَاهِرَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ لَكِنَّهَا شَابَهَتْ الْكِنَايَةَ مِنْ جِهَةِ الْإِبْهَامِ فِيمَا يَتَّصِلُ بِهِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ، وَتَعْمَلُ فِيهِ مِثْلَ الْبَائِنِ الْمَعْلُومِ الْمُرَادِ إلَّا أَنَّ مَحَلَّ الْبَيْنُونَةِ هِيَ الْوَصْلَةُ، وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً كَوَصْلَةِ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ فَاسْتَتَرَ الْمُرَادُ فِي نَفْسِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ إبْهَامِ الْمَحَلِّ الَّذِي يَظْهَرُ أَثَرُ الْبَيْنُونَةِ فِيهِ فَاسْتُعِيرَتْ لَهَا لَفْظَةُ الْكِنَايَةِ وَاحْتَاجَتْ إلَى النِّيَّةِ لِيَزُولَ إبْهَامُ الْمَحَلِّ، وَتَتَعَيَّنَ الْبَيْنُونَةُ عَنْ وَصْلَةِ النِّكَاحِ، وَيَقَعُ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ بِمُوجَبِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ أَنْتِ بَائِنٌ كِنَايَةً عَنْ أَنْتِ طَالِقٌ حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُ الْوَاقِعِ بِهِ رَجْعِيًّا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِيهِ ضَرْبَ تَكَلُّفٍ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ أَنَّ مَفْهُومَاتِهَا اللُّغَوِيَّةَ ظَاهِرَةٌ غَيْرُ مُسْتَتِرَةٍ فَهَذَا لَا يُنَافِي الْكِنَايَةَ، وَاسْتِتَارُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَا ظَاهِرٌ كَمَا فِي جَمِيعِ الْكِنَايَاتِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ مَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا ظَاهِرٌ لَا اسْتِتَارٌ فِيهِ فَمَمْنُوعُ كَيْفَ وَلَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ؟ وَهُمْ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهَا مِنْ جِهَةِ الْمَحَلِّ مُبْهَمَةٌ مُسْتَتِرَةٌ، وَلَمْ يُفَسِّرُوا الْكِنَايَةَ إلَّا بِمَا اسْتَتَرَ مِنْهُ الْمُرَادُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا إرَادَةَ اللَّازِمِ ثُمَّ الِانْتِقَالَ مِنْهُ إلَى الْمَلْزُومِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْحَقِيقَةَ الْمَهْجُورَةَ وَالْمَجَازَ الْغَيْرَ الْمُتَعَارَفَ كِنَايَةً لِمُجَرَّدِ اسْتِتَارِ الْمُرَادِ فَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُمْ لَوْ فَسَّرُوا الْكِنَايَةَ كَمَا فَسَّرَهَا بِهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ لَمَا احْتَاجُوا إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكِنَايَةَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ وَيُرَادَ مَعْنَاهُ لَكِنْ لَا لِذَاتِهِ بَلْ لِيُنْتَقَلَ مِنْهُ إلَى مَعْنًى ثَانٍ هُوَ مَلْزُومٌ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَمَا يُرَادُ بِطُولِ النِّجَادِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ لِيُنْتَقَلَ مِنْهُ إلَى مَا يَلْزَمُهُ مِنْ طُولِ الْقَامَةِ فَيُرَادُ بِالْبَائِنِ

الْأَلْفَاظَ كِنَايَاتٌ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلِهَذَا قَالَ: (وَبِتَفْسِيرِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظٌ وَيُقْصَدَ بِمَعْنَاهُ مَعْنًى ثَانٍ مَلْزُومٌ لَهُ، فَيُرَادُ بِالْبَائِنِ مَعْنَاهُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ بِنِيَّتِهِ إلَى الطَّلَاقِ فَتَطْلُقُ عَلَى صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ لَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الطَّلَاقُ) يَتَّصِلُ هَذَا بِقَوْلِهِ فَيُرَادُ بِالْبَائِنِ مَعْنَاهُ. (إلَّا فِي اعْتَدِّي) فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الرَّجْعِيُّ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَتَطْلُقُ عَلَى صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ (لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ مَا يُعَدُّ مِنْ الْأَقْرَاءِ فَإِذَا نَوَاهُ اقْتَضَى الطَّلَاقَ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ، وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُسَبَّبَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى السَّبَبِ إذَا كَانَ الْمُسَبَّبُ مَقْصُودًا مِنْهُ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَذَا اسْتَبْرِئِي ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، ثُمَّ يُنْتَقَلُ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نِيَّةِ الْمُتَكَلِّمِ إلَى مَلْزُومِهِ الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ فَتَطْلُقُ الْمَرْأَةُ عَلَى صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ، وَلَا يَكُونُ أَنْتِ بَائِنٌ بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ الْمَجَازِ لِيَلْزَمَ كَوْنُهُ رَجْعِيًّا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْكِنَايَةِ هُوَ اللَّازِمُ بِالْعَرَضِ وَالْمَلْزُومُ بِالذَّاتِ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَكْتَفِي فِي الْكِنَايَةِ بِمُجَرَّدِ جَوَازِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ لَا يُقَالُ: اللَّازِمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَازِمٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ فَلَا يُنْتَقَلُ مِنْهُ إلَى الْمَلْزُومِ مَا لَمْ يَصِرْ مُخْتَصًّا بِهِ حَتَّى يَكُونَ الِانْتِقَالُ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ، وَالْبَائِنُ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلطَّلَاقِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَا مَلْزُومٍ لَهُ لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِ وَصْلَةِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِاللَّازِمِ هَاهُنَا مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ تَابِعِ الشَّيْءِ وَرَدِيفِهِ، وَقَدْ يَحْصُلُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ بِوَاسِطَةِ قَرِينَةٍ مِنْ عُرْفٍ أَوْ دَلَالَةِ حَالٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ إرَادَةُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي الْكِنَايَةِ فَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا، وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهُ فِي الْوَاقِعِ حَتَّى إنَّ قَوْلَنَا: طَوِيلُ النِّجَادِ كِنَايَةٌ عَنْ طُولِ الْقَامَةِ أَوْ كَثِيرُ الرَّمَادِ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مِضْيَافًا لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ طُولِ النِّجَادِ لَهُ أَوْ كَثْرَةِ الرَّمَادِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِصِفَةِ الْبَيْنُونَةِ، وَلِهَذَا جَعَلَ صَاحِبُ الْكَشْفِ تَفْسِيرَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَيْسَتْ بِكِنَايَاتٍ إذْ لَيْسَ فِيهَا انْتِقَالٌ مِنْ لَازِمٍ إلَى مَلْزُومٍ بَلْ لَمْ يُنْتَقَلْ مِنْ مَعَانِيهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَيْنُونَةُ وَالْحُرْمَةُ وَالْقَطْعُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ وَفِي مَحَلٍّ خَاصٍّ فِيهِ الِاسْتِتَارُ (قَوْلُهُ إلَّا فِي اعْتَدِّي) ، أَيْ تَطْلُقُ بِصِفَةِ الْبَيْنُونَةِ فِي الْكِنَايَاتِ إلَّا فِي اعْتَدِّي، وَاسْتَبْرِئِي رَحِمَك، وَأَنْتَ، وَاحِدَةٌ فَإِنَّ الْوَاقِعَ بِهَا رَجْعِيٌّ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ كِنَايَاتٌ بِتَفْسِيرِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا مَعَانِيهَا لِيُنْتَقَلَ مِنْهَا إلَى الطَّلَاقِ الْمَلْزُومِ إلَّا أَنَّهَا دَلَالَةٌ فِي مَعَانِيهَا عَلَى الْبَيْنُونَةِ بِخِلَافِ لَفْظِ بَائِنٍ، وَحَرَامٍ، وَبَتَّةٍ، وَبَتْلَةٍ، وَبَيَانُ اللُّزُومِ أَنَّ قَوْلَهُ اعْتَدِّي يَحْتَمِلُ عُدِّي الدَّرَاهِمَ أَوْ الدَّنَانِيرَ أَوْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْك أَوْ مَا يُعَدُّ مِنْ الْأَقْرَاءِ، وَالْمُرَادُ

رَحِمَك بِعَيْنِ هَذَا الدَّلِيلِ) أَيْ الدَّلِيلِ الَّذِي ذُكِرَ فِي اعْتَدِّي فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَمَرَهَا بِاسْتِبْرَاءِ الرَّحِمِ لِتَتَزَوَّجَ زَوْجًا آخَرَ فَإِذَا نَوَى اقْتَضَى الطَّلَاقَ كَمَا مَرَّ (وَكَذَا أَنْتِ وَاحِدَةٌ) ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ فَإِذَا نَوَى يَقَعُ بِهَا الرَّجْعِيُّ، وَلَا تَبِينُ لِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْبَيْنُونَةِ (التَّقْسِيمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُسْتَتِرٌ فَإِذَا نَوَى مَا يُعَدُّ مِنْ الْأَقْرَاءِ ثَبَتَ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ضَرُورَةَ أَنَّ وُجُوبَ عَدِّ الْأَقْرَاءِ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَاقِ تَصْحِيحًا لِلْأَمْرِ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ وَاحِدٍ رَجْعِيٍّ فَلَا يُصَارُ إلَى الزَّائِدِ، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْمَلْزُومَ الْمُنْتَقَلَ إلَيْهِ فِي الْكِنَايَةِ قَدْ يَكُونُ لَازِمًا مُتَقَدِّمًا عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الِاقْتِضَاءِ هَذَا إذَا كَانَ قَوْلُهُ اعْتَدِّي بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا، وَأَمَّا إذَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا جِهَةَ لِلِاقْتِضَاءِ، وَإِرَادَةُ حَقِيقَةِ الْأَمَرِ بَعْدَ الْأَقْرَاءِ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ اعْتَدِّي مَجَازًا عَنْ كُونِي طَالِقًا بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الِاعْتِدَادِ، وَلَا يُجْعَلُ مَجَازًا عَنْ طَلِّقِي إذْ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ، وَلَا عَنْ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك؛ لِأَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ التَّوَافُقَ فِي الصِّيغَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ إرَادَةُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ جُعِلَ اللَّفْظُ كِنَايَةً، وَلَمَّا تَعَذَّرَ ذَلِكَ جُعِلَ مَجَازًا، وَأَمَّا بِتَفْسِيرِ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لِاسْتِتَارِ الْمُرَادِ بِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ الطَّلَاقِ بِالِاعْتِدَادِ مَجَازًا بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِ الْمُسَبَّبِ مَقْصُودًا مِنْ السَّبَبِ لِيَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ عِلَّةٍ غَائِيَّةٍ فَتَحَقَّقَ أَصَالَتُهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْمَجَازِ، وَظَاهِرٌ أَنْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ الطَّلَاقِ هُوَ الِاعْتِدَادُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ فِي إطْلَاقِ اسْمِ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ هُوَ اخْتِصَاصُهُ بِالسَّبَبِ لِيَتَحَقَّقَ الِاتِّصَالُ مِنْ جَانِبِهِ أَيْضًا كَاخْتِصَاصِ الْفِعْلِ بِالْإِرَادَةِ، وَالْخَمْرِ بِالْعِنَبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالِاعْتِدَادُ شَرْعًا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ مُخْتَصٌّ بِالطَّلَاقِ، لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِ وَالشَّبَهِ كَالْمَوْتِ وَحُدُوثِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَارْتِدَادِ الزَّوْجِ وَغَيْرِهَا، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ اعْتَدِّي مِنْ بَابِ الْإِضْمَارِ أَيْ طَلَّقْتُك فَاعْتَدِّي أَوْ اعْتَدِّي لِأَنِّي طَلَّقْتُك، فَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ وَتَجِبُ الْعِدَّةُ، وَفِي غَيْرِهَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ عَمَّا بِنِيَّتِهِ وَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ (قَوْلُهُ، وَكَذَا) أَيْ مِثْلُ اعْتَدِّي، اسْتَبْرِئِي؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ وَتَوْضِيحٌ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعِدَّةِ أَعْنِي طَلَبَ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِلْوَطْءِ وَطَلَبِ الْوَلَدِ، وَأَنْ تَكُونَ لِتَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ يَثْبُتُ الطَّلَاقُ اقْتِضَاءً، وَالْمَبَاحِثُ الْمَذْكُورَةُ فِي اعْتَدِّي آتِيَةٌ هَاهُنَا (قَوْلُهُ، وَكَذَا أَنْتِ وَاحِدَةٌ) مَرْفُوعَةٌ أَوْ مَنْصُوبَةٌ أَوْ مَوْقُوفَةٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ أَنْتِ وَاحِدَةٌ فِي قَوْمِك أَوْ وَاحِدَةُ النِّسَاءِ فِي الْجَمَالِ أَوْ مُنْفَرِدَةٌ عِنْدِي لَيْسَ لِي غَيْرُك أَوْ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى أَنَّهَا وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ

[التقسيم الثالث في ظهور المعنى وخفائه]

الثَّالِثُ فِي ظُهُورِ) الْمَعْنَى، وَخَفَائِهِ اللَّفْظُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمُرَادُ يُسَمَّى ظَاهِرًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ثُمَّ إنْ زَادَ الْوُضُوحُ بِأَنْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ يُسَمَّى نَصًّا، ثُمَّ إنْ زَادَ حَتَّى سَدَّ بَابَ التَّأْوِيلِ وَالتَّخْصِيصِ يُسَمَّى مُفَسَّرًا، ثُمَّ إنْ زَادَ حَتَّى سَدَّ بَابَ احْتِمَالِ النَّسْخِ أَيْضًا يُسَمَّى مُحْكَمًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ظَاهِرٌ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ نَصٌّ فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا؛ لِأَنَّهُ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQطَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْبَيْنُونَةِ فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ فَيَقَعُ الرَّجْعِيُّ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ وَاحِدَةٌ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ بِتَفْسِيرِ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمَحْذُوفِ لَكِنَّهُ كِنَايَةٌ بِاعْتِبَارِ اسْتِتَارِ الْمُرَادِ [التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ فِي ظُهُورِ الْمَعْنَى وَخَفَائِهِ] (قَوْلُهُ التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ) لِلَّفْظِ بِاعْتِبَارِ ظُهُورِ الْمَعْنَى عَنْهُ، وَخَفَائِهِ، وَمَرَاتِبِ الظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ فَبِاعْتِبَارِ الظُّهُورِ يَنْحَصِرُ فِي أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الظَّاهِرُ، وَالنَّصُّ، وَالْمُفَسَّرُ، وَالْمُحْكَمُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الظَّاهِرِ ظُهُورُ الْمُرَادِ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مَسُوقًا لَهُ أَوْ لَا، وَفِي النَّصِّ كَوْنُهُ مَسُوقًا لِلْمُرَادِ سَوَاءٌ احْتَمَلَ التَّخْصِيصَ وَالتَّأْوِيلَ أَوْ لَا، وَفِي الْمُفَسَّرِ عَدَمُ احْتِمَالِ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ سَوَاءٌ احْتَمَلَ النَّسْخَ أَوْ لَا، وَفِي الْمُحْكَمِ عَدَمُ احْتِمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَقَدْ مَثَّلُوا لِلظَّاهِرِ بِنَحْوِ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1] الْآيَةَ، وَنَحْوُ {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الْآيَةَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] الْآيَةَ فَتَكُونُ الْأَرْبَعَةُ أَقْسَامًا مُتَمَايِزَةً بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ وَاعْتِبَارِ الْحَيْثِيَّةِ مُتَدَاخِلَةً بِحَسَبِ الْوُجُودِ إلَّا أَنَّ الْمَشْهُورَ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهَا أَقْسَامٌ مُتَبَايِنَةٌ، وَأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الظَّاهِرِ عَدَمُ كَوْنِهِ مَسُوقًا لِلْمَعْنَى الَّذِي يُجْعَلُ ظَاهِرًا فِيهِ، وَفِي النَّصِّ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ أَوْ التَّأْوِيلِ، أَيْ أَحَدِهِمَا، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الْخَاصِّ نَصًّا، وَفِي الْمُفَسَّرِ احْتِمَالُ النَّسْخِ، وَسَيَجِيءُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا (قَوْلُهُ، ثُمَّ إنْ زَادَ الْوُضُوحُ) أَتَى بِصَرِيحِ الْوُضُوحِ دُونَ الضَّمِيرِ الْعَائِدِ إلَى الظُّهُورِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوحَ فَوْقَ الظُّهُورِ، وَلِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي عِبَارَةِ الْقَوْمِ فِي النَّصِّ، وَالْمُفَسَّرِ، وَالْمُحْكَمِ دُونَ الظُّهُورِ (قَوْلُهُ بِأَنْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ) دَالٌّ عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الْوُضُوحِ فِي النَّصِّ هُوَ بِكَوْنِهِ مَسُوقًا لِلْمُرَادِ فَإِنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَى شَيْءٍ، وَسَوْقَهُ لَهُ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ لَازِمٍ لِلْأَوَّلِ، فَإِذَا دَلَّتْ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ مَسُوقٌ لَهُ فَهُوَ نَصٌّ فِيهِ مِنْ نَصَصْت الشَّيْءَ رَفَعْته، وَنَصَصْت الدَّابَّةَ اسْتَخْرَجْت مِنْهَا بِالتَّكَلُّفِ سَيْرًا فَوْقَ سَيْرِهَا الْمُعْتَادِ (قَوْلُهُ حَتَّى سَدَّ بَابَ التَّأْوِيلِ) مِنْ أَوَّلْت الشَّيْءَ صَرَفْته، وَرَجَعْته، وَهُوَ انْكِشَافُ اعْتِبَارِ دَلِيلٍ يَصِيرُ الْمَعْنَى بِهِ أَغْلَبَ عَلَى الظَّنِّ مِنْ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ، وَالتَّفْسِيرُ مُبَالَغَةُ الْفَسْرِ، وَهُوَ الْكَشْفُ فَيُرَادُ بِهِ كَشْفٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَهُوَ الْقَطْعُ بِالْمُرَادِ، وَلِهَذَا يَحْرُمُ التَّفْسِيرُ بِالرَّأْيِ دُونَ التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ الظَّنُّ بِالْمُرَادِ، وَحَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ بِلَا جَزْمٍ فَيَقْبَلُهُ الظَّاهِرُ وَالنَّصُّ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمُرَادِ احْتِمَالًا بَعِيدًا، وَالنَّصُّ يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا أَبْعَدَ دُونِ الْمُفَسَّرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْمُرَادِ

جَوَابِ الْكُفَّارِ عَنْ قَوْلِهِمْ إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا (وقَوْله تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ظَاهِرٌ فِي الْحِلِّ نَصٌّ فِي الْعَدَدِ) ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ قَدْ عُلِمَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِشَيْءٍ مُقَيَّدٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا فَالْمَقْصُودُ إثْبَاتُ هَذَا الْقَيْدِ نَحْوُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بِيعُوا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» (وَنَظِيرُ الْمُفَسَّرِ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] أَوْ قَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ، وَالْمُحْكَمِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ) النَّظِيرُ أَنَّ الْأَوَّلَانِ لِلْمُفَسَّرِ وَالْمُحْكَمِ مَذْكُورَانِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَفِي ـــــــــــــــــــــــــــــQأَصْلًا (قَوْلُهُ، ثُمَّ إنْ زَادَ) أَيْ الْوُضُوحُ حَتَّى سَدَّ احْتِمَالَ النَّسْخِ، أَيْضًا كَمَا سَدَّ احْتِمَالَ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ، وَالْمُرَادُ نَسْخُ الْمَعْنَى إذْ الْمُحْكَمُ يَحْتَمِلُ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ نَسْخَ اللَّفْظِ بِأَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ جَوَازُ الصَّلَاةِ، وَلَا حُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ، وَالْحَائِضُ يُسَمَّى مُحْكَمًا مِنْ أَحْكَمْت الشَّيْءَ، أَيْ أَتْقَنْته، وَبِنَاءٌ مُحْكَمٌ مَأْمُونُ الِانْتِقَاضِ، وَقِيلَ: مِنْ أَحْكَمْت فُلَانًا مَنَعْته فَالْحُكْمُ مُمْتَنِعٌ مِنْ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ وَمَنْ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ النَّسْخُ، وَالتَّبْدِيلُ، وَاعْتَبَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمُحْكَمِ زِيَادَةَ الْقُوَّةِ لَا زِيَادَةَ الْوُضُوحِ حَيْثُ قَالَ: فَإِذَا ازْدَادَ قُوَّةً، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِلْأَحْكَامِ، وَعَدَمَ احْتِمَالِ النَّسْخِ، وَأَيْضًا إذَا بَلَغَ الْمُفَسَّرُ مِنْ الْوُضُوحِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْغَيْرَ أَصْلًا فَلَا مَعْنًى لِزِيَادَةِ الْوُضُوحِ عَلَيْهِ، نَعَمْ يَزْدَادُ قُوَّةً بِوَاسِطَةِ تَأْكِيدٍ وَتَأْيِيدٍ يَدْفَعُ عَنْهُ احْتِمَالَ النَّسْخِ وَالِانْتِقَاضِ. ثُمَّ إنَّهُ بَيَّنَ وَجْهَ زِيَادَةِ الْوُضُوحِ فِي النَّصِّ، وَهُوَ أَنَّهُ يَكُونُ بِكَوْنِهِ مَسُوقًا لِلْمُرَادِ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ فِي الْمُفَسَّرِ، وَالْمُحْكَمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَلَا النَّسْخَ أَوْ لَحِقَهُ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ قَاطِعٌ لِاحْتِمَالِ التَّأْوِيلِ أَوْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يَمْنَعُ التَّخْصِيصَ أَوْ يُفِيدُ الدَّوَامَ، وَالتَّأْبِيدَ (قَوْلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] مِثَالٌ لِلظَّاهِرِ، وَالنَّصِّ، وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي مَعْنًى، نَصًّا فِي مَعْنًى آخَرَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي حِلِّ الْبَيْعِ، وَحُرْمَةِ الرِّبَا إلَّا أَنَّهُ مَسُوقٌ لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا رَدًّا عَلَى الْكَفَرَةِ الْقَائِلِينَ بِتَمَاثُلِهِمَا، ثُمَّ أَوْرَدَ مِثَالًا آخَرَ يَكُونُ الظَّاهِرُ بِاعْتِبَارِ لَفْظٍ، وَالنَّصُّ بِاعْتِبَارِ لَفْظٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] ، أَيْ انْكِحُوا الطَّيِّبَاتِ لَكُمْ مَعْدُودَاتٍ هَذَا الْعَدَدَ ثِنْتَيْنِ ثِنْتَيْنِ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا، وَأَرْبَعًا أَرْبَعًا فَإِنَّ لَفْظَ انْكِحُوا ظَاهِرٌ فِي حِلِّ النِّكَاحِ إذْ لَيْسَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ الْعَدَدِ فَيَكُونُ نَصًّا فِيهِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ مَثْنَى، وَثُلَاثَ، وَرُبَاعَ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى كَوْنِهِ مَسُوقًا لِإِثْبَاتِ الْعَدَدِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ حِلَّ النِّكَاحِ قَدْ عُلِمَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فَالْحَمْلُ عَلَى قَصْدِ فَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ مُتَأَخِّرَةً عَنْ تِلْكَ، وَالثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ

التَّمْثِيلِ بِهِمَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُفَسَّرِ وَالْمُحْكَمِ أَنَّ الْمُفَسَّرَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ وَالْمُحْكَمَ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ، وَالْمِثَالَانِ الْمَذْكُورَانِ، وَهُمَا قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا قَبُولَ النَّسْخِ وَعَدَمَهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُفَسَّرٌ إذْ لَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ مَا يَمْنَعُ النَّسْخَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِحَسَبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإذَا أُورِدَ بِشَيْءٍ مُقَيَّدٍ بِقَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا فَهُوَ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْقَيْدِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بِيعُوا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» ، وَهَذَا يُوَافِقُ مَا قَرَّرَهُ أَئِمَّةُ الْعَرَبِيَّةِ: مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا اشْتَمَلَ عَلَى قَيْدٍ زَائِدٍ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ فَذَلِكَ الْقَيْدُ هُوَ مَنَاطُ الْإِفَادَةِ، وَمُتَعَلَّقُ الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ، وَمَرْجِعُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَقَيْدُ الشَّيْءِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ» الْحَدِيثَ (قَوْلُهُ: النَّظِيرَانِ الْأَوَّلَانِ) أَوْرَدَ لِكُلٍّ مِنْ الْمُفَسَّرِ، وَالْمُحْكَمِ مِثَالَيْنِ فَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ لِلْمُفَسَّرِ هُوَ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] ، وَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ لِلْمُحْكَمِ هُوَ قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] ، وَلِلْمُصَنِّفِ فِي التَّمْثِيلِ بِهِمَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ اشْتَرَطَ فِي الْمُحْكَمِ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ احْتِمَالِ النَّسْخِ بِاعْتِبَارِ لَفْظٍ دَالٍ عَلَى الدَّوَامِ، وَالتَّأْبِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» فَلَيْسَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُحْكَمًا، وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَحَلِّ الْكَلَامِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّبْدِيلَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ شَيْءٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ بَلْ أُرِيدَ عَدَمُ احْتِمَالِ النَّسْخِ بِاعْتِبَارِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ بِاعْتِبَارِ مَحَلِّ الْكَلَامِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] ، أَيْضًا مُحْكَمٌ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَحْتَمِلُ النَّسْخَ لِتَعَالِيهِ عَنْ الْكَذِبِ وَالْغَلَطِ، وَمَبْنَى هَذَا الِاعْتِرَاضِ عَلَى تَبَايُنِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، وَاشْتِرَاطِ احْتِمَالِ النَّسْخِ فِي الْمُفَسَّرِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُفَسَّرَ هُوَ قَوْله تَعَالَى {الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى قَوْلِهِ فَسَجَدُوا إلَّا فَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ جَمْعٌ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، وَبِقَوْلِهِ كُلُّهُمْ ازْدَادَ وُضُوحًا فَصَارَ نَصًّا، وَبِقَوْلِهِ أَجْمَعُونَ انْقَطَعَ احْتِمَالُ التَّخْصِيصِ فَصَارَ مُفَسَّرًا، وَقَوْلُهُ: فَسَجَدَ إخْبَارٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ فَيَكُونُ مُحْكَمًا وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ نَسْخَ الْمَعْنَى لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي كَلَامٍ دَالٍّ عَلَى حُكْمٍ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِنَسْخِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ فَإِذَا اُعْتُبِرَ فِي الْمُفَسَّرِ احْتِمَالُ النَّسْخِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامًا مُفِيدًا لِحُكْمٍ، وَاعْتُرِضَ أَيْضًا بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] لَا يَصْلُحُ مِثَالًا لِلْمُفَسَّرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَثْنَى إبْلِيسَ فَيَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلتَّخْصِيصِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ إبْلِيسَ مِنْ الْجِنِّ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ، وَعَدَّ إبْلِيسُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ

مَحَلِّ الْكَلَامِ أَوْ أَعَمَّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُحْكَمٌ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ بِسُجُودِ الْمَلَائِكَةِ لَا يَقْبَلُ النَّسْخَ كَمَا أَنَّ الْإِخْبَارَ بِعِلْمِ اللَّهِ لَا يَقْبَلُهُ فَلِأَجَلِ هَذَا أَوْرَدْت مِثَالَيْنِ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لِيَظْهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُفَسَّرِ وَالْمُحْكَمِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] مُفَسَّرٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَافَّةً سَدٌّ لِبَابِ التَّخْصِيصِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ لِكَوْنِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَقَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» مُحْكَمٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ «إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» سَدٌّ لِبَابِ النَّسْخِ (وَالْكُلُّ يُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا أَنَّهُ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَإِذَا خَفِيَ فَإِنْ خَفِيَ لِعَارِضٍ يُسَمَّى خَفِيًّا، وَإِنْ خَفِيَ لِنَفْسِهِ فَإِنْ أُدْرِكَ عَقْلًا فَمُشْكِلٌ أَوْ بَلْ نَقْلًا فَمُجْمَلٌ أَوْ لَا أَصْلًا فَمُتَشَابِهٌ، فَالْخَفِيُّ كَآيَةِ السَّرِقَةِ خَفِيَتْ فِي حَقِّ النَّبَّاشِ وَالطَّرَّارِ لِاخْتِصَاصِهِمَا بِاسْمٍ آخَرَ، فَيُنْظَرَ إنْ كَانَ الْخَفَاءُ لِمَزِيَّةٍ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ، وَلِنُقْصَانٍ لَا، وَالْمُشْكِلُ إمَّا لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى نَحْوُ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] فَإِنَّ غَسْلَ ظَاهِرِ الْبَدَنِ وَاجِبٌ وَغَسْلَ بَاطِنِهِ سَاقِطٌ فَوَقَعَ الْإِشْكَالُ فِي الْفَمِ فَإِنَّهُ بَاطِنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَفْسُدَ الصَّوْمُ بِابْتِلَاعِ الرِّيقِ وَظَاهِرٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَفْسُدَ بِدُخُولِ شَيْءٍ فِي الْفَمِ فَاعْتَبَرْنَا الْوَجْهَيْنِ فَأُلْحِقَ بِالظَّاهِرِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى) . حَتَّى وَجَبَ غَسْلُهُ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ، وَهُوَ بَابٌ وَاسِعٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلِهَذَا يَتَنَاوَلُهُ الْأَمْرُ فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة: 34] بَلْ الْجَوَابُ مَا مَرَّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ فَإِنْ قِيلَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ، أَيْضًا لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ لِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ فَلَا يَكُونُ مُفَسَّرًا قُلْنَا: الْمُرَادُ الِاحْتِمَالِ فِي زَمَنِ الْوَحْيِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا شَيْءَ مِنْ الْقُرْآنِ بِمُحْتَمِلٍ لِلنَّسْخِ وَمِثْلُهُ يُسَمَّى مُحْكَمًا لِغَيْرِهِ لِيَشْمَلَ الظَّاهِرَ، وَالنَّصَّ، وَالْمُفَسَّرَ، وَالْمُحْكَمَ (قَوْلُهُ وَالْكُلُّ) أَيْ الظَّاهِرُ، وَالنَّصُّ، وَالْمُفَسَّرُ، وَالْمُحْكَمُ يُوجِبُ الْحُكْمَ، أَيْ يُثْبِتُهُ قَطْعًا، وَيَقِينًا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ حُكْمُ الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ وُجُوبُ الْعَمَلِ وَاعْتِقَادُ حَقِّيَّةِ الْمُرَادِ لَا ثُبُوتُ الْحُكْمِ قَطْعًا وَيَقِينًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا قَاطِعٌ لِلْيَقِينِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِاحْتِمَالٍ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ الدَّلِيلِ، وَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قَدْ يُفِيدُ الْقَطْعَ وَهُوَ الْأَصْلُ، وَقَدْ يُفِيدُ الظَّنَّ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ احْتِمَالُ غَيْرِ الْمُرَادِ مِمَّا يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ (قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ عِنْدَ التَّعَارُضِ) فَيُقَدَّمُ النَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْمُفَسَّرُ عَلَيْهِمَا، وَالْمُحْكَمُ عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَوْضَحِ، وَالْأَقْوَى أَوْلَى، وَأَحْرَى، وَلِأَنَّ فِيهِ جَمْعًا بَيْنَ الدَّلِيلِينَ بِحَمْلِ الظَّاهِرِ مَثَلًا عَلَى احْتِمَالِهِ الْآخَرِ الْمُوَافِقِ لِلنَّصِّ مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ظَاهِرٌ فِي حِلِّ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ مِنْ غَيْرِ الْمُحَرَّمَاتِ وقَوْله تَعَالَى {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] نَصٌّ فِي وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَرْبَعِ فَيُعْمَلُ بِهِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ» نَصٌّ فِي مَدْلُولِهِ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ بِحَمْلِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا لِلتَّوْقِيتِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُسْتَحَاضَةُ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ» مُفَسَّرٌ فَيُعْمَلُ بِهِ (قَوْلُهُ، وَإِذَا خَفِيَ) أَيْ الْمُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ فَخَفَاؤُهُ إمَّا لِنَفْسِ اللَّفْظِ أَوْ لِعَارِضٍ،

الْجَنَابَةِ (وَبِالْبَاطِنِ فِي الصُّغْرَى) فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ فِي الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ (لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] بِالتَّشْدِيدِ يَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالْمُبَالَغَةِ لَا قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] أَوْ لِاسْتِعَارَةٍ بَدِيعَةٍ نَحْوُ {قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 16] فَقَوْلُهُ أَوْ لِاسْتِعَارَةٍ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَالْمُشْكِلُ إمَّا لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا أَشْكَلَ هَذَا بِسَبَبِ الِاسْتِعَارَةِ؛ لِأَنَّ الْقَارُورَةَ تَكُونُ مِنْ الزُّجَاجِ لَا مِنْ الْفِضَّةِ فَالْمُرَادُ أَنَّ صَفَاءَهَا صَفَاءُ الزُّجَاجِ، وَبَيَاضَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّانِي يُسَمَّى خَفِيًّا، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يُدْرَكَ الْمُرَادُ بِالْعَقْلِ أَوْ لَا: الْأَوَّلُ يُسَمَّى مُشْكِلًا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يُدْرَكَ الْمُرَادُ بِالنَّقْلِ أَوْ لَا يُدْرَكَ أَصْلًا الْأَوَّلُ يُسَمَّى مُجْمَلًا، وَالثَّانِي مُتَشَابِهًا فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ مُتَبَايِنَةٌ بِلَا خِلَافٍ، وَالْمُشْكِلُ مَأْخُوذٌ مِنْ أَشْكَلَ عَلَى كَذَا إذَا دَخَلَ فِي أَشْكَالِهِ وَأَمْثَالِهِ بِحَيْثُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَتَمَيَّزُ بِهِ، وَالْمُجْمَلُ مِنْ أَجْمَلَ الْحِسَابَ رَدَّهُ إلَى الْجُمْلَةِ، وَأَجْمَلَ الْأَمْرَ أَبْهَمَهُ فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخَفِيُّ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ مَا ظَهَرَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ. قُلْنَا الْخَفَاءُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ فَوْقَ الْخَفَاءِ بِعَارِضٍ، فَلَوْ كَانَ الْخَفِيُّ مَا يَكُونُ خَفَاؤُهُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ لَمْ يَكُنْ فِي أَوَّلِ مَرَاتِبِ الْخَفَاءِ فَلَمْ يَكُنْ مُقَابِلًا لِلظَّاهِرِ (قَوْلُهُ: إنْ كَانَ الْخَفَاءُ) أَيْ خَفَاءُ اللَّفْظِ فِيمَا خَفِيَ فِيهِ لِمَزِيَّةٍ لَهُ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحُكْمُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْحُكْمُ كَالطَّرَّارِ فَإِنَّهُ سَارِقٌ كَامِلٌ يَأْخُذُ مَعَ حُضُورِ الْمَالِكِ، وَيَقَظَتِهِ فَلَهُ مَزِيَّةٌ عَلَى السَّارِقِ مِنْ الْبَيْتِ فِي مَعْنَى السَّرِقَةِ، وَهُوَ الْأَخْذُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ فَيُقْطَعُ، وَإِنْ كَانَ لِنُقْصَانٍ فِي ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ كَالنَّبَّاشِ فَإِنَّهُ نَاقِصٌ فِي مَعْنَى السَّرِقَةِ لِعَدَمِ الْمُحَافَظَةِ بِالْمَوْتَى فَلَا يُقْطَعُ. (قَوْلُهُ وَهَذَا) أَيْ إلْحَاقُ بَاطِنِ الْفَمِ بِالظَّاهِرِ فِي الْغَسْلِ حَتَّى يَجِبَ غَسْلُهُ، وَبِالْبَاطِنِ فِي الْوُضُوءِ حَتَّى لَا يَجِبَ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ التَّطَهُّرَ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَنَابَةِ يَدُلُّ عَلَى التَّكَلُّفِ وَالْمُبَالَغَةِ فِي التَّطْهِيرِ، وَذَلِكَ فِي غَسْلِ بَاطِنِ الْفَمِ دُونَ تَرْكِهِ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ الصُّغْرَى أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْ الْكُبْرَى فَهِيَ بِالتَّخْفِيفِ أَلْيَقُ، وَتَرْكُ الْمُبَالَغَةِ فِيهَا أَرْفَقُ، وَأَمَّا دَاخِلُ الْعَيْنِ فَإِيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ يُورِثُ الْعَمَى فَأُلْحِقَ بِالْبَاطِنِ فِي الطَّهَارَتَيْنِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى التَّطَهُّرِ مَعْلُومٌ لُغَةً، وَشَرْعًا إلَّا أَنَّهُ مُشْتَبِهٌ فِي حَقِّ دَاخِلِ الْفَمِ، وَالْأَنْفِ كَآيَةِ السَّرِقَةِ فِي الطَّرَّارِ، وَالنَّبَّاشِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْخَفِيِّ لَا الْمُشْكِلِ. قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ شَرْعًا قَبْلَ الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ، كَيْفَ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ بَاقٍ بَعْدُ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَى التَّطَهُّرِ غَسْلُ جَمِيعِ ظَاهِرِ الْبَدَنِ إلَّا أَنَّ فِيهِ غُمُوضًا لَا يُعْلَمُ قَبْلَ الطَّلَبِ، وَالتَّأَمُّلُ أَنَّ جَمِيعَ ظَاهِرِ الْبَدَنِ هُوَ الْبَشَرَةُ وَالشَّعْرُ مَعَ دَاخِلِ الْفَمِ وَالْأَنْفِ أَوْ بِدُونِهِ (قَوْلُهُ أَوْ لِاسْتِعَارَةٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِغُمُوضٍ فِي الْمَعْنَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا - قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 15 - 16] ، أَيْ تَكَوَّنَتْ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ

بَيَاضُ الْفِضَّةِ (، وَالْمُجْمَلُ كَآيَةِ الرِّبَا) فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الْفَضْلُ، وَلَيْسَ كُلُّ فَضْلٍ حَرَامًا بِالْإِجْمَاعِ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّ فَضْلٍ فَيَكُونُ مُجْمَلًا، ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ اُحْتِيجَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الطَّلَبِ وَالتَّأَمُّلِ لِيُعْرَفَ عِلَّةُ الرِّبَا وَالْحُكْمُ فِي غَيْرِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ (، وَالْمُتَشَابِهُ كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ) ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعَ بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَحُسْنِهَا فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ وَشَفِيفِهَا فَاسْتَعَارَ الْقَوَارِيرَ لِمَا يُشْبِهُهَا فِي الصَّفَاءِ، وَالشَّفِيفِ اسْتِعَارَةَ الْأَسَدِ لِلشُّجَاعِ، ثُمَّ جَعَلَهَا مِنْ الْفِضَّةِ مَعَ أَنَّ الْقَارُورَةَ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الزُّجَاجِ فَجَاءَتْ اسْتِعَارَةً غَرِيبَةً بَدِيعَةً (قَوْلُهُ، وَالْمُجْمَلُ) وَهُوَ مَا خَفِيَ الْمُرَادُ مِنْهُ بِنَفْسِ اللَّفْظِ خَفَاءً لَا يُدْرَكُ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ الْمُجْمَلِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِتَزَاحُمِ الْمَعَانِي الْمُتَسَاوِيَةِ الْأَقْدَامِ كَالْمُشْتَرَكِ، أَوْ لِغَرَابَةِ اللَّفْظِ كَالْهَلُوعِ، أَوْ لِانْتِقَالِهِ مِنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إلَى مَا هُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالرِّبَا. (قَوْلُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ) وَهُوَ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلًا كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ مِثْلُ {الم} [البقرة: 1] سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِحُرُوفٍ يَجِبُ أَنْ يُقْطَعَ فِي التَّكَلُّمِ كُلٌّ مِنْهَا عَنْ الْآخَرِ عَلَى هَيْئَتِهِ، وَتَسْمِيَتُهَا بِالْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَاتِ مَجَازٌ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَاتِهَا حُرُوفٌ أَوْ لِأَنَّ الْحَرْفَ يُطْلَقُ عَلَى الْكَلِمَةِ (قَوْلُهُ، وَالْيَدِ، وَالْوَجْهِ، وَنَحْوِهِمَا) مِثْلِ الْعَيْنِ، وَالْقَدَمِ، وَالسَّمْعِ، وَالْبَصَرِ، وَالْمَجِيءِ، وَجَوَازِ الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا دَلَّ النَّصُّ عَلَى ثُبُوتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى مَعَ الْقَطْعِ بِامْتِنَاعِ مَعَانِيهَا الظَّاهِرَةِ الْمُوَافِقَةِ لِمَا فِي الشَّاهِدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَنَزُّهِهِ عَنْ الْجِسْمِيَّةِ، وَالْجِهَةِ، وَالْمَكَانِ فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهِ يُعْتَقَدُ حَقِّيَّتُهُ، وَلَا يُدْرَكُ كَيْفِيَّتُهُ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْمُقَطَّعَاتِ أَسْمَاءَ السُّوَرِ، وَالْوَجْهَ مَجَازًا عَنْ الرِّضَا، وَالْيَدَ عَنْ الْقُدْرَةِ، أَوْ يَجْعَلُ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ فِيهِ الْوَجْهُ وَالْيَدُ وَنَحْوُهُمَا تَمْثِيلًا لَا يُعْتَبَرُ فِي مُفْرَدَاتِهِ تَشْبِيهًا فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُتَشَابِهَةِ، وَرُبَّمَا يَسْتَدِلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا صِفَاتٌ كَمَا فِي الشَّاهِدِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِهَا إلَّا أَنَّا قَاطِعُونَ بِامْتِنَاعِ الْجَارِحَةِ وَالْجِهَةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى فَتَكُونُ الْكَيْفِيَّةُ مَجْهُولَةً لَا يُرْجَى دَرْكُهَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا هُوَ كَمَالٌ فِي الْمَخْلُوقِ رُبَّمَا يَكُونُ نُقْصَانًا فِي الْخَالِقِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ التَّسَتُّرَ عَمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلرُّؤْيَةِ وَالْكَرَامَةِ يَكُونُ مِنْ عَيْبٍ وَنُقْصَانٍ فِي الْمُتَسَتِّرِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا. فَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِامْتِنَاعِ الرُّؤْيَةِ أَوْ لِغَايَةِ الْعَظَمَةِ كَمَا قِيلَ: وَلَا سَتْرَ إلَّا هَيْبَةٌ وَجَلَالٌ وَالْحَقُّ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ الْقَاطِعِ ثُبُوتُ هَذِهِ الْأُمُورِ فَتَكُونُ حَقًّا إلَّا أَنَّهُ لَا يُرْجَى دَرْكُ الْكَيْفِيَّةِ فَتَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ، لَا يُقَالُ: الرُّؤْيَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْجِهَةِ وَالْمَسَافَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَانَا فَلَا تَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْكَلَامُ فِي الرُّؤْيَةِ بِالْعَيْنِ، وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. (قَوْلُهُ

وَنَحْوِهِمَا، وَحُكْمُ الْخَفِيِّ الطَّلَبُ، وَالْمُشْكِلِ الطَّلَبُ ثُمَّ التَّأَمُّلُ، وَالْمُجْمَلِ الِاسْتِفْسَارُ ثُمَّ الطَّلَبُ ثُمَّ التَّأَمُّلُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِمَا كَمَا فِي الرِّبَا، وَالْمُتَشَابِهِ التَّوَقُّفُ أَيْ حُكْمُ الْمُتَشَابِهِ التَّوَقُّفُ فَهَذَا مِنْ بَابِ الْعَطْفِ عَلَى مَعْمُولَيْ عَامِلَيْنِ، وَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمٌ، نَحْوُ فِي الدَّارِ زَيْدٌ، وَالْحُجْرَةِ عَمْرٌو (وَعَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّيَّةِ عِنْدَنَا عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى {إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا} [آل عمران: 7] فَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَرَأَ بِالْوَقْفِ عَلَى إلَّا اللَّهُ وَقْفًا لَازِمًا، وَالْبَعْضُ قَرَأَ بِلَا وَقْفٍ فَعَلَى الْأَوَّلِ، وَالرَّاسِخُونَ غَيْرُ عَالِمِينَ بِالْمُتَشَابِهَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا وَهَذَا أَلْيَقُ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ حَيْثُ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهَاتِ حَظَّ الزَّائِغِينَ، وَالْإِقْرَارَ بِحَقِيقَتِهِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ دَرْكِهِ حَظَّ الرَّاسِخِينَ، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أَيْ سَوَاءٌ عَلِمْنَا أَوْ لَمْ نَعْلَمْ، وَالْأَلْيَقُ بِهَذَا الْمَقَامِ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] سُؤَالًا لِلْعِصْمَةِ عَنْ الزَّيْغِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ الدَّاعِي إلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ الَّذِي يُوقِعُ صَاحِبَهُ فِي الْفِتْنَةِ وَالضَّلَالَةِ وَأَيْضًا عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ يَقُولُونَ آمَنَّا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQ، وَحُكْمُ الْخَفِيِّ الطَّلَبُ) أَيْ الْفِكْرُ الْقَلِيلُ لِنَيْلِ الْمُرَادِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى أَنَّ خَفَاءَهُ لِمَزِيَّةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَحُكْمُ الْمُشْكِلِ التَّأَمُّلُ، أَيْ التَّكَلُّفُ وَالِاجْتِهَادُ فِي الْفِكْرِ لِيَتَمَيَّزَ الْمَعْنَى عَنْ إشْكَالِهِ إذْ الْخَفَاءُ فِي الْمُشْكِلِ أَكْثَرُ، وَحُكْمُ الْمُجْمَلِ الِاسْتِفْسَارُ، وَطَلَبُ الْبَيَانِ مِنْ الْمُجْمَلِ فَبَيَانُهُ قَدْ يَكُونُ شَافِيًا لِيَصِيرَ بِهِ الْمُجْمَلُ مُفَسَّرًا كَبَيَانِ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَبَيَانِ الرِّبَا بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الدُّنْيَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَبْوَابَ الرِّبَا فَحِينَئِذٍ يُحْتَاجُ إلَى طَلَبِ ضَبْطِ الْأَوْصَافِ الصَّالِحَةِ لِلْعِلِّيَّةِ ثُمَّ تُأَمَّلُ لِتَعْيِينِ الْبَعْضِ، وَزِيَادَةِ صُلُوحِهِ لِذَلِكَ، وَحُكْمُ الْمُتَشَابِهِ التَّوَقُّفُ عَنْ طَلَبِ الْمُرَادِ مَعَ اعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ بِنَاءً عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى، {إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُ اللَّهِ، وَرَجَّحَهَا بِوَجْهَيْنِ عَلَى قِرَاءَةِ الْوَقْفِ عَلَى " الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ " الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ أَيْضًا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ أَلْيَقُ بِالنَّظْمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مِنْ الْقُرْآنِ مُتَشَابِهًا جَعَلَ النَّاظِرِينَ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ، الزَّائِغِينَ عَنْ الطَّرِيقِ، وَالرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ، أَيْ الثَّابِتِينَ الْمُسْتَقِيمِينَ الَّذِينَ لَا يَتَهَيَّأُ اسْتِزْلَالُهُمْ وَتَشْكِيكُهُمْ فَجَعَلَ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ حَظَّ الزَّائِغِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] ، وَجَعَلَ اعْتِقَادَ الْحَقِّيَّةِ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْإِدْرَاكِ حَظَّ الرَّاسِخِينَ بِقَوْلِهِ، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] ، أَيْ نُصَدِّقُ بِحَقِّيَّتِهِ سَوَاءٌ عَلِمْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْلَمْهُ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ ذَلِكَ لَكَانَ الْأَلْيَقُ بِالنَّظْمِ أَنْ يُقَالَ: وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. الثَّانِي أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ، أَيْ مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ

وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ (فَكَمَا اُبْتُلِيَ مَنْ لَهُ ضَرْبُ جَهْلٍ بِالْإِمْعَانِ فِي السَّيْرِ) أَيْ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَالْمُرَادُ بَذْلُ الْمَجْهُودِ وَالطَّاقَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ (اُبْتُلِيَ الرَّاسِخُ فِي الْعِلْمِ بِالتَّوَقُّفِ) أَيْ عَنْ طَلَبِهِ، وَهَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ الْكَلَامَ لِلْإِفْهَامِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ حَظٌّ فِي الْعِلْمِ بِالْمُتَشَابِهَاتِ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إنْزَالِ الْمُتَشَابِهَاتِ فَنُجِيبُ أَنَّ الْفَائِدَةَ هِيَ الِابْتِلَاءُ فَكَمَا اُبْتُلِيَ الْجَاهِلُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ اُبْتُلِيَ الرَّاسِخُ بِكَبْحِ عِنَانِ ذِهْنِهِ عَنْ التَّأَمُّلِ وَالطَّلَبِ، فَإِنَّ رِيَاضَةَ الْبَلِيدِ تَكُونُ بِالْعَدْوِ، وَرِيَاضَةَ الْجَوَادِ تَكُنْ بِكَبْحِ الْعِنَانِ وَالْمَنْعِ عَنْ السَّيْرِ (، وَهَذَا أَعْظَمُهَا بَلْوًى، وَأَعَمُّهَا جَدْوًى) أَيْ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِابْتِلَاءِ أَعْظَمُ النَّوْعَيْنِ بَلْوًى، وَالنَّوْعَانِ مِنْ الِابْتِلَاءِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ابْتِلَاءِ الْجَاهِلِ، وَالْعَالِمِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَعْظَمَهُمَا بَلْوًى؛ لِأَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ هُوَ أَنْ يُسَلِّمَ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَيُفَوِّضَهُ إلَيْهِ، وَيُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي مَدْرَجَةِ الْعَجْزِ، وَالْهَوَانِ، وَيَتَلَاشَى عِلْمُهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَلَا يَبْقَى لَهُ فِي بَحْرِ الْفَنَاءِ اسْمٌ، وَلَا رَسْمٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ بِهِ عَطْفًا لِلرَّاسِخَيْنِ عَلَى اللَّهِ وَتَرْكًا لِلْوَقْفِ عَلَى إلَّا اللَّهُ يَكُونُ يَقُولُونَ كَلَامًا مُبْتَدَأً مُوَضِّحًا لِحَالِ الرَّاسِخِينَ بِحَذْفِ الْمُبْتَدَأِ، أَيْ هُمْ يَقُولُونَ، وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَهَكَذَا صَرَّحَ جَارُ اللَّهِ فِي الْكَشَّافِ، وَالْمُفَصَّلِ بِتَقْدِيرِ الْمُبْتَدَأِ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْفِعْلِيَّةَ صَالِحَةٌ لِلِابْتِدَاءِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى اعْتِبَارِ حَذْفِ الْمُبْتَدَأِ وَأَيْضًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ يَقُولُونَ حَالًا مِنْ الْمَعْطُوفِ فَقَطْ أَعْنِي الرَّاسِخُونَ لِعَدَمِ الِالْتِبَاسِ. (قَوْلُهُ فَكَمَا اُبْتُلِيَ) لَمَّا ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهَةِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِمَا لَا يُفْهَمُ، وَإِنْ جَازَ عَقْلًا فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَتَخْصِيصُ الْحَالِ أَعْنِي يَقُولُونَ بِالْمَعْطُوفِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ اشْتِرَاكُهَا بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ أَهْوَنُ مِنْ الْخِطَابِ بِمَا لَا يُفِيدُ أَصْلًا، وَلَا تَنَاقُضَ فِي حَصْرِ الْحُكْمِ عَلَى مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ وَمَعْطُوفٍ بِمَعْنَى انْفِرَادِهِمَا بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِمَا مِثْلُ: مَا جَاءَنِي إلَّا زَيْدٌ وَعَمْرٌو، أَيْ لَا بَكْرٌ وَلَا خَالِدٌ، أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِطَابِ بِالْمُتَشَابِهِ هِيَ الِابْتِلَاءُ فَإِنَّ الرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ لَا يُمْكِنُ ابْتِلَاؤُهُ بِالْأَمْرِ بِطَلَبِ الْعِلْمِ كَمَنْ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ غَايَةُ مُتَمَنَّاهُ فَكَيْفَ يُبْتَلَى بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: ضَرْبٌ مِنْ الْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ لِلْجَاهِلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، فَلِلرَّاسِخِ فِي الْعِلْمِ نَوْعٌ مِنْ الِابْتِلَاءِ، وَلِمَنْ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ الْجَهْلِ نَوْعٌ آخَرُ، وَابْتِلَاءُ الرَّاسِخِ أَعْظَمُ النَّوْعَيْنِ بَلْوَى؛ لِأَنَّ الْبَلْوَى فِي تَرْكِ الْمَحْبُوبِ أَكْثَرُ مِنْ الْبَلْوَى فِي تَحْصِيلِ غَيْرِ الْمُرَادِ، وَأَعُمُّهَا جَدْوًى، أَيْ نَفْعًا؛ لِأَنَّهُ أَشَقُّ فَثَوَابُهُ أَكْثَرُ فَإِنْ قِيلَ: مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا، وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْ أَحَدٍ، وَهَذَا كَالْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّوَقُّفِ فِي الْمُتَشَابِهِ أُجِيبَ بِأَنَّ التَّوَقُّفَ مَذْهَبُ السَّلَفِ إلَّا أَنَّهُ

[مسألة الدليل اللفظي لا يفيد اليقين]

وَهَذَا مُنْتَهَى إقْدَامِ الطَّالِبِينَ، وَقَدْ قِيلَ: الْعَجْزُ عَنْ دَرْكِ الْإِدْرَاكِ إدْرَاكٌ (مَسْأَلَةٌ قِيلَ: الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى نَقْلِ اللُّغَةِ، وَالنَّحْوِ، وَالصَّرْفِ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَالْمَجَازِ، وَالْإِضْمَارِ، وَالنَّقْلِ) أَيْ يَكُونُ مَنْقُولًا مِنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ إلَى مَعْنًى آخَرَ، (وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْدِيمِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمَّا ظَهَرَ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَتَمَسَّكُوا بِالْمُتَشَابِهِ فِي آرَائِهِمْ الْبَاطِلَةِ اضْطَرَّ الْخَلَفُ إلَى التَّكَلُّمِ فِي الْمُتَشَابِهِ إبْطَالًا لِأَقَاوِيلِهِمْ، وَبَيَانًا لِفَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي حَتَّى نُقِلَ تَأْوِيلُ الْمُتَشَابِهَاتِ عَنْ الصَّحَابَةِ، وَالتَّابِعِينَ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ التَّوَقُّفَ إنَّمَا هُوَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ حَقِيقَةً لَا ظَاهِرًا، وَالْأَئِمَّةُ إنَّمَا تَكَلَّمُوا فِي تَأْوِيلِهِ ظَاهِرًا لَا حَقِيقَةً، وَبِهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُرْفَعَ نِزَاعُ الْفَرِيقَيْنِ، وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا لَا يَخُصُّ الْمُتَشَابِهَ بَلْ أَكْثَرُ الْقُرْآنِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّهُ بَحْرٌ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا تَنْتَهِي غَرَائِبُهُ فَأَنَّى لِلْبَشَرِ الْغَوْصُ عَلَى لَآلِيهِ، وَالْإِحَاطَةُ بِكُنْهِ مَا فِيهِ، وَمِنْ هَاهُنَا قِيلَ: هُوَ مُعْجِزٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى، أَيْضًا [مَسْأَلَةٌ الدَّلِيلُ اللَّفْظِيُّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ] (قَوْلُهُ مَسْأَلَةٌ) تَرْجَمَةُ هَذَا الْبَحْثِ بِالْمَسْأَلَةِ لَيْسَتْ كَمَا يَنْبَغِي، وَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ يُفِيدُ الْقَطْعَ، وَجَوَابٌ عَنْهُ، تَقْرِيرُ الِاعْتِرَاضِ أَنَّ الدَّلِيلَ اللَّفْظِيَّ مَبْنِيٌّ عَلَى أُمُورٍ ظَنِّيَّةٍ، وَالْمَبْنِيُّ عَلَى الظَّنِّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ، أَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَوَقُّفِهِ عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ كَنَقْلِ اللُّغَةِ لِمَعْرِفَةِ مَعَانِي الْمُفْرَدَاتِ، وَالنَّحْوِ لِمَعْرِفَةِ مَعَانِي هَيْئَاتِ التَّرَاكِيبِ، وَالصَّرْفِ لِمَعْرِفَةِ مَعَانِي هَيْئَاتِ الْمُفْرَدَاتِ، وَعَلَى أُمُورٍ عَدَمِيَّةٍ كَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ، وَالْمَجَازِ، وَنَحْوِهِمَا إذْ لَا دَلَالَةَ عَلَى تَعْيِينِ الْمَقْصُودِ مَعَ احْتِمَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَالْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ كُلُّهَا ظَنِّيَّاتٌ أَمَّا الْوُجُودِيَّاتُ فَلِتَوَقُّفِ قَطْعِيَّتِهَا عَلَى عِصْمَةِ الرُّوَاةِ إنْ نُقِلَتْ بِطَرِيقِ الْآحَادِ، وَإِلَّا فَعَلَى التَّوَاتُرِ، وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ، وَأَمَّا الْعَدَمِيَّاتُ فَلِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ، وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ الظَّنَّ دُونَ الْقَطْعِ. وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِابْتِنَاءِ عَدَمِ الْمَجَازِ أَوْ عَدَمِ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ بَعْضَ الدَّلَائِلِ اللَّفْظِيَّةِ غَيْرُ قَطْعِيَّةٍ فَلَا نِزَاعَ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا شَيْءٍ مِنْهَا بِقَطْعِيٍّ فَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يُفِيدُهُ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ ظَنِّيَّةٌ فِي كُلِّ دَلِيلٍ لَفْظِيٍّ، وَقَوْلُهُ أَمَّا فِي الْوُجُودِيَّاتِ فَلِعَدَمِ الْعِصْمَةِ وَعَدَمِ التَّوَاتُرِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ التَّوَاتُرِ فِي الْكُلِّ فَإِنَّ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ لُغَةً كَمَعْنَى السَّمَاءِ، وَالْأَرْضِ، وَنَحْوًا كَقَاعِدَةِ رَفْعِ الْفَاعِلِ، وَصَرْفًا كَقَاعِدَةِ أَنَّ مِثْلَ ضَرَبَ: فِعْلٌ مَاضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يُؤَلَّفَ مِنْهَا دَلِيلٌ لَفْظِيٌّ، وَقَوْلُهُ فِي الْعَدَمِيَّاتِ؛ لِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ مَبْنَاهَا عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ، وَالْمَجَازَ، وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِهَا كُلِّهَا خِلَافُ الْأَصْلِ، وَالْعَاقِلُ لَا يَسْتَعْمِلُ الْكَلَامَ فِي خِلَافِ الْأَصْلِ إلَّا عِنْدَ

وَقَدْ أَوْرَدُوا فِي مِثَالِهِ {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3] تَقْدِيرُهُ، وَاَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَسَرُّوا النَّجْوَى كَيْ لَا يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ (وَالتَّأْخِيرِ، وَالنَّاسِخِ، وَالْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ، وَهِيَ ظَنِّيَّةٌ أَمَّا الْوُجُودِيَّاتُ) ، وَهِيَ نَقْلُ اللُّغَةِ، وَالصَّرْفِ، وَالنَّحْوِ (فَلِعَدَمِ عِصْمَةِ الرُّوَاةِ، وَعَدَمِ التَّوَاتُرِ، وَأَمَّا الْعَدَمِيَّاتُ) ، وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ إلَى آخِرِهِ (فَلِأَنَّ مَبْنَاهَا عَلَى الِاسْتِقْرَاءِ، وَهَذَا بَاطِلٌ) أَيْ مَا قِيلَ: إنَّ الدَّلِيلَ اللَّفْظِيَّ لَا يُفِيدُ الْيَقِينَ (لِأَنَّ بَعْضَ اللُّغَاتِ، وَالنَّحْوِ، وَالتَّصْرِيفِ بَلَغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ) كَاللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ غَايَةَ الشُّهْرَةِ، وَرَفْعِ الْفَاعِلِ، وَنَصْبِ الْمَفْعُولِ، وَأَنَّ ضَرَبَ، وَمَا عَلَى، وَزْنِهِ فِعْلٌ مَاضٍ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. فَكُلُّ تَرْكِيبٍ مُؤَلَّفٍ مِنْ هَذِهِ الْمَشْهُورَاتِ قَطْعِيٌّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75] ، وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي قَطْعِيَّةَ جَمِيعِ النَّقْلِيَّاتِ، وَمَنْ ادَّعَى أَنْ لَا شَيْءَ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، فَاللَّفْظُ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ خِلَافِ الْأَصْلِ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ قَطْعًا، وَلَوْ سُلِّمَ عَدَمُ قَطْعِيَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةِ خِلَافِ الْأَصْلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةٌ قَطْعِيَّةُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمُرَادُ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمُرَادُ، وَإِلَّا لَزِمَ بُطْلَانُ فَائِدَةِ التَّخَاطُبِ إذْ لَا فَائِدَةَ إلَّا الْعِلْمُ بِمَعَانِي الْخِطَابَاتِ، وَلَوَازِمِهَا، وَبُطْلَانُ كَوْنِ الْمُتَوَاتِرِ قَطْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ انْضَمَّ إلَيْهِ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى تَحَقُّقِ مَعْنَاهُ قَطْعًا، وَهِيَ بُلُوغُ رُوَاتِهِ حَدًّا يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ قَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الْمُرَادُ لَمْ يَكُنْ الْمُتَوَاتِرُ قَطْعِيًّا. (قَوْلُهُ، وَقَدْ أَوْرَدُوا فِي مِثَالِهِ) هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ يَصْلُحُ مَثَلًا لِمُجَرَّدِ التَّقْدِيمِ لَا لِلتَّقْدِيمِ الْقَادِحِ فِي قَطْعِيَّةِ الْمُرَادِ، وَتَوْسِيطُ هَذَا الْكَلَامِ بَيْنَ التَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّهُمَا مَعًا شَرْطٌ وَاحِدٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ افْتِرَاقُهُمَا. (قَوْلُهُ كَيْ لَا يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ) فَإِنْ قِيلَ: هُوَ بِاعْتِبَارِ التَّقْدِيمِ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، أَيْضًا يَحْتَمِلُ التَّقْدِيمُ عَلَى أَنْ يُشَبِّهَ الْبَرَاغِيثَ فِي شِدَّةِ نِكَايَتِهَا بِالْعُقَلَاءِ فَيَسْتَعْمِلُ الْوَاوَ ضَمِيرَ جَمْعٍ لَهَا قُلْنَا الْمُرَادُ بِقَبِيلِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ اللُّغَةُ الضَّعِيفَةُ الَّتِي يُؤْتَى فِيهَا بِالْوَاوِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الْفَاعِلَ جَمْعٌ سَوَاءٌ كَانَ الْفَاعِلُ مِنْ الْعُقَلَاءِ أَوْ شَبِيهًا بِهِمْ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وَالْآيَةُ بِاعْتِبَارِ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ تَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. (قَوْلُهُ، وَالْمُعَارِضِ) يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْمُعَارِضِ الْعَقْلِيِّ؛ لِأَنَّ النَّقْلَ يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ بِخِلَافِ الْعَقْلِ، وَلِأَنَّهُ فَرْعُ الْعَقْلِ لِاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ فَلَا يَجُوزُ تَكْذِيبُ الْأَصْلِ لِتَصْدِيقِ الْفَرْعِ الْمُتَوَقِّفِ صِدْقُهُ عَلَى صِدْقِ الْأَصْلِ. (قَوْلُهُ وَمَنْ ادَّعَى) أَوْرَدَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ دَلِيلًا عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنْ لَا شَيْءَ مِنْ التَّرْكِيبَاتِ، أَيْ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ بِمُفِيدٍ لِلْقَطْعِ بِمَدْلُولِهِ: تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ بِذَلِكَ إنْكَارٌ لِلْقَطْعِ بِالْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالتَّوَاتُرِ كَوُجُودِ بَغْدَادَ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّرْكِيبِ الْخَبَرِيِّ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَقْرُونًا بِمُغَالَطَةٍ وَدَلِيلٍ مُزَخْرَفٍ فَهُوَ سَفْسَطَةٌ، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ الْحِكْمَةُ الْمُمَوَّهَةُ اُسْتُعْمِلَتْ فِي إقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَفْيِ مَا عُلِمَ تَحَقُّقُهُ بِالضَّرُورَةِ وَإِلَّا فَهُوَ

[التقسيم الرابع في كيفية دلالة اللفظ على المعنى]

مِنْ التَّرْكِيبَاتِ بِمُفِيدٍ لِلْقَطْعِ بِمَدْلُولِهِ فَقَدْ أَنْكَرَ جَمِيعَ الْمُتَوَاتِرَاتِ كَوُجُودِ بَغْدَادَ فَمَا هُوَ إلَّا مَحْضُ السَّفْسَطَةِ وَالْعِنَادِ. (وَالْعُقَلَاءُ لَا يَسْتَعْمِلُونَ الْكَلَامَ فِي خِلَافِ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ، وَأَيْضًا قَدْ نَعْلَمُ بِالْقَرَائِنِ الْقَطْعِيَّةِ أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمُرَادُ، وَإِلَّا تَبْطُلُ فَائِدَةُ التَّخَاطُبِ، وَقَطْعِيَّةُ الْمُتَوَاتِرِ أَصْلًا) ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَسْتَعْمِلُونَ الْعِلْمَ الْقَطْعِيَّ فِي مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ أَصْلًا كَالْمُحْكَمِ وَالْمُتَوَاتِرِ، وَالثَّانِي مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ النَّاشِئَ عَنْ الدَّلِيلِ كَالظَّاهِرِ، وَالنَّصِّ، وَالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ مَثَلًا فَالْأَوَّلُ يُسَمُّونَهُ عِلْمَ الْيَقِينِ، وَالثَّانِي عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ. التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى فَهِيَ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْئِهِ أَوْ لَازِمِهِ الْمُتَأَخِّرِ عِبَارَةٌ إنْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ، وَإِشَارَةٌ إنْ لَمْ يُسَقْ الْكَلَامُ لَهُ، وَعَلَى لَازِمِهِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ اقْتِضَاءً، وَعَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنًى يُفْهَمُ لُغَةً (أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجَلِهِ دَلَالَةٌ) اعْلَمْ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنَادٌ، أَيْ إنْكَارٌ لِلضَّرُورِيِّ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إنْكَارٌ لِلْمُتَوَاتِرَاتِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ كُلِّ خَبَرٍ ظَنِّيًّا لَا يُنَافِي إفَادَةَ الْمَجْمُوعِ لِلْقَطْعِ بِوَاسِطَةِ انْضِمَامِ دَلِيلٍ عَقْلِيٍّ إلَيْهِ، وَهُوَ جَزْمُ الْعَقْلِ بِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ. (قَوْلُهُ كَالْمُحْكَمِ) أَيْ كَالْعِلْمِ الْحَاصِلِ مِنْ الْمُحْكَمِ فَإِنَّهُ قَدْ انْضَمَّتْ إلَيْهِ قَرَائِنُ قَطْعِيَّةُ الدَّلَالَةِ عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ خِلَافِ الْأَصْلِ [التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى] (قَوْلُهُ التَّقْسِيمُ الرَّابِعُ فِي كَيْفِيَّةِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى) وَقَدْ حَصَرُوهَا فِي عِبَارَةِ النَّصِّ، وَإِشَارَتِهِ، وَدَلَالَتِهِ، وَاقْتِضَائِهِ، وَوَجْهُ ضَبْطِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ النَّظْمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إنْ كَانَ النَّظْمُ مَسُوقًا لَهُ فَهُوَ الْعِبَارَةُ، وَإِلَّا فَهُوَ الْإِشَارَةُ، وَالثَّانِي إنْ كَانَ الْحُكْمُ مَفْهُومًا مِنْهُ لُغَةً فَهِيَ الدَّلَالَةُ أَوْ شَرْعًا فَهُوَ الِاقْتِضَاءُ، وَإِلَّا فَهُوَ التَّمَسُّكَاتُ الْفَاسِدَةُ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّظْمُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْأَهُ أَوْ لَازِمَهُ الْمُتَأَخِّرَ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَوْقُ الْكَلَامِ لَهُ فَيُسَمَّى دَلَالَتُهُ عَلَيْهِ عِبَارَةً أَوَّلًا فَإِشَارَةً، وَالثَّانِي فَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى؛ لَازِمًا " مُتَقَدِّمًا لِلْمَوْضُوعِ لَهُ فَالدَّلَالَةُ اقْتِضَاءٌ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةٌ يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، أَيْ وَضْعُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِمَعْنَاهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِهَا فَدَلَالَةُ نَصٍّ، وَإِلَّا فَلَا دَلَالَةَ لَهُ أَصْلًا، وَالتَّمَسُّكُ بِمِثْلِهِ فَاسِدٌ فَالْأَقْسَامُ الْمَذْكُورَةُ صِفَةُ الدَّلَالَةِ، وَيَحْصُلُ بِاعْتِبَارِهَا تَقْسِيمُ النَّظْمِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَدُلَّ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الِاقْتِضَاءِ أَوْ الدَّلَالَةِ، وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ تَفْسِيرَ الدَّلَالَاتِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مَفْهُومٌ مِنْ كَلَامِ الْقَوْمِ، وَمَأْخُوذٌ مِنْ أَمْثِلَتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ كَلَامُ الْقَوْمِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ ثَابِتٌ بِنَفْسِ النَّظْمِ لَزِمَهُ بَيَانُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَجُزْئِهِ، وَلَازِمِهِ الْمُتَأَخِّرِ ثَابِتٌ بِالنَّظْمِ فَبَيَّنَ ذَلِكَ بِمَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ فِي قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى

مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَسَّمُوا الدَّلَالَاتِ عَلَى هَذِهِ الْأَرْبَعِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُمْ عَلَى الْحَصْرِ لِئَلَّا يَفْسُدَ تَقْسِيمُهُمْ فَأَقُولُ: الَّذِي فَهِمْت مِنْ كَلَامِهِمْ وَمِنْ الْأَمْثِلَةِ الَّتِي أَوْرَدُوهَا لِهَذِهِ الدَّلَالَاتِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمَعْنَى الْمَسُوقِ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْأَهُ أَوْ لَازِمَهُ الْمُتَأَخِّرَ، وَإِشَارَةُ النَّصِّ دَلَالَتُهُ عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَسُوقًا لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْعِبَارَةِ فِي اصْطِلَاحِهِمْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ وَيَكُونُ سَوْقُ الْكَلَامِ لَهُ، وَالْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْإِشَارَةِ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ وَلَا يَكُونَ سَوْقُ الْكَلَامِ لَهُ، وَمُرَادُهُمْ بِالنَّظْمِ اللَّفْظُ، وَقَدْ قَالُوا قَوْله تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] الْآيَةَ، سِيقَ لِإِيجَابِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ وَهُوَ إيجَابُ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَهُمْ هُوَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ، وَقَدْ جَعَلُوهُ عِبَارَةً فِيهِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQ {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] . ، وَلَمَّا كَانَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ كُلًّا مِنْ الثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَجُزْؤُهُ، وَلَازِمُهُ الْمُتَأَخِّرُ، أَوْرَدَ أَمْثِلَةً أُخْرَى تَتْمِيمًا لِلْمَقْصُودِ، وَتَوْضِيحًا لَهُ، وَلَزِمَ تَكَرُّرُ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْإِشَارَةَ تَسْتَلْزِمُ الْعِبَارَةَ، وَأَنَّ ثُبُوتَ الشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ أَجْزَائِهِ، وَلَوَازِمِهِ. ثُمَّ هَاهُنَا أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ مَعْنَى السَّوْقِ لَهُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ فِي النَّصِّ الْمُقَابِلِ لِلظَّاهِرِ حَتَّى غَيْرَ أَنَّ الْمَسُوقِ لَهُ جَازَ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْمَوْضُوعِ لَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] أَنَّهُ عِبَارَةٌ فِي اللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا إشَارَةً إلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَهُوَ حِلُّ الْبَيْعِ، وَحُرْمَةُ الرِّبَا وَإِلَى أَجْزَائِهِ كَحِلِّ بَيْعِ الْحَيَوَانِ مَثَلًا، وَحُرْمَةِ بَيْعِ النَّقْدَيْنِ مُتَفَاضِلَةً، وَإِلَى لَوَازِمِهِ كَانْتِقَالِ الْمِلْكِ وَوُجُوبِ التَّسْلِيمِ مَثَلًا فِي الْبَيْعِ وَحُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ وَوُجُوبِ رَدِّ الزَّوَائِدِ فِي الرِّبَا، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ أَوْ مَعْنَى الْمَسُوقِ لَهُ هَاهُنَا مَا يَكُونُ مَقْصُودًا فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءً كَانَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا كَالْعَدَدِ فِي آيَةِ النِّكَاحِ أَوْ غَيْرَ أَصْلِيٍّ بِأَنْ يُقْصَدَ بِاللَّفْظِ إفَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى لَكِنْ لِغَرَضِ إتْمَامِ مَعْنًى آخَرَ كَإِبَاحَةِ النِّكَاحِ فِيهَا، حَتَّى لَوْ انْفَرَدَ عَنْ الْقَرِينَةِ صَارَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بِخِلَافِ الْغَيْرِ الْمَسُوقِ لَهُ فَإِنَّهُ مَا يَكُونُ مِنْ لَوَازِمِ الْمَعْنَى كَانْعِقَادِ بَيْعِ الْكَلْبِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ مِنْ السُّحْتِ ثَمَنَ الْكَلْبِ» صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو الْيُسْرِ حَيْثُ جَعَلَ حِلَّ الْبَيْعِ وَحُرْمَةَ الرِّبَا وَالتَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا كُلَّهَا ثَابِتَةً بِعِبَارَةِ النَّصِّ مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . الثَّانِي أَنَّ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَلَا جُزْأَهُ وَلَا لَازِمَهُ فَدَلَالَةُ النَّظْمِ عَلَيْهِ، وَثُبُوتُهُ بِهِ مَمْنُوعَةٌ لِلْقَطْعِ بِانْحِصَارِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ الَّتِي لِلْوَضْعِ مَدْخَلٌ فِيهَا فِي الثَّلَاثِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَلِهَذَا اُشْتُرِطَ فِي فَهْمِهِ الْعِلْمُ بِالْوَضْعِ. الثَّالِثُ أَنَّ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَثِيرًا

لَهُ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي، وَهُوَ زَوَالُ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ جُزْءَ الْمَوْضُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَكَوْنُهُمْ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ جُزْءٌ لِكَوْنِهِمْ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَيَكُونُ جُزْءَ الْمَوْضُوعِ لَهُ، فَلَمَّا سَمِعُوا دَلَالَتَهُ عَلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا إشَارَةً وَالْإِشَارَةُ ثَابِتَةٌ بِالنَّظْمِ فَيَكُونُ جُزْءُ الْمَوْضُوعِ لَهُ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، وَأَمَّا أَنَّ اللَّازِمَ الْمُتَأَخِّرَ ثَابِتٌ بِالنَّظْمِ عِنْدَهُمْ فَلِأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ قَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233] سِيقَ لِإِيجَابِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ عَلَى الزَّوْجِ الَّذِي وَلَدْنَ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ فِيهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْأَبَ مُنْفَرِدٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ إذْ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ فَكَذَا فِي حُكْمِهَا وَهُوَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الْوَلَدِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ خَارِجِيٌّ لِلْمَوْضُوعِ لَهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، وَلَمَّا جَعَلُوهُ إشَارَةً إلَى هَذَا الْمَعْنَى جَعَلُوا اللَّازِمَ الْخَارِجِيَّ الْمُتَأَخِّرَ ثَابِتًا بِالنَّظْمِ، فَالْمِثَالُ الْأَوَّلُ عِبَارَةٌ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ إشَارَةٌ إلَى جُزْئِهِ، وَالْمِثَالُ الثَّانِي عِبَارَةٌ فِي الْمَوْضُوعِ لَهُ إشَارَةٌ إلَى لَازِمِهِ، وَهُوَ الِانْفِرَادُ بِنَفَقَةِ الْأَوْلَادِ، وَأَيْضًا إلَى جُزْئِهِ، وَهُوَ أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْآبَاءِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ. وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى عِلَّةٍ فِي مَعْنَى النَّظْمِ لَا يَفْهَمُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَاهِرِينَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِهَا كَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الصَّوْمِ، وَالْحَدِّ فِي اللِّوَاطَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُحْصَى فَاشْتِرَاطُ فَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ الْحُكْمَ لِأَجْلِهَا مِمَّا لَا صِحَّةَ لَهُ أَصْلًا. الرَّابِعُ أَنَّ الْجَزْمَ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ اللَّفْظِيَّةَ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْوَضْعِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَفْهَمْ الْبَعْضُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الدَّلَالَةُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ قَدْ يَكُونُ غَامِضًا بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَذْكِيَاءِ الْعَالِمِينَ بِالْوَضْعِ كَانْفِرَادِ الْأَبِ بِالْإِنْفَاقِ، وَاسْتِغْنَاءِ أَجْرِ الرَّضَاعِ عَنْ التَّقْدِيرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا خَفِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ سَمَاعِهِمْ النَّصَّ، وَعِلْمِهِمْ بِالْوَضْعِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي دَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ، وَالْبَيَانِ مُطْلَقُ اللُّزُومِ عَقْلِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ بَيِّنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَيِّنٍ، وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا الْوُضُوحُ، وَالْخَفَاءُ، وَمَعْنَى الدَّلَالَةِ عِنْدَهُمْ فَهْمُ الْمَعْنَى مِنْ اللَّفْظِ إذَا أُطْلِقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَالِمِ بِالْوَضْعِ، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ مَتَى أُطْلِقَ، فَلِهَذَا اشْتَرَطُوا اللُّزُومَ الْبَيِّنَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ. (قَوْلُهُ، وَإِنَّمَا جَعَلُوا كَذَلِكَ) أَيْ إنَّمَا جَعَلُوا اللَّازِمَ الْمُتَأَخِّرَ ثَابِتًا بِنَفْسِ النَّظْمِ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً، وَاللَّازِمَ الْمُتَقَدِّمَ غَيْرَ ثَابِتٍ بِنَفْسِ النَّظْمِ بَلْ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ نِسْبَةُ الْعِلَّةِ إلَى الْمَعْلُولِ، وَنِسْبَتُهُ إلَى اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ نِسْبَةُ الْمَعْلُولِ إلَى الْعِلَّةِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ أَوَّلًا فَيَصِحَّ الْكَلَامُ فَيَثْبُتَ الْمَلْزُومُ، وَدَلَالَةُ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ مُطَّرِدَةٌ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ عِلَّةٍ تَدُلُّ عَلَى مَعْلُولِهَا كَالشَّمْسِ تَدُلُّ عَلَى الضَّوْءِ

لِزَوْجِهَا نَكَحْت عَلَيَّ امْرَأَةً فَطَلِّقْهَا فَقَالَ: إرْضَاءً لَهَا كُلُّ امْرَأَةٍ لِي فَطَالِقٌ طَلُقَتْ كُلُّهُنَّ قَضَاءً فَالْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ طَلَاقُ جَمِيعِ نِسَائِهِ، وَقَدْ سِيقَ الْكَلَامُ لِجُزْءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَهُوَ طَلَاقُ بَعْضِهِنَّ أَيْ غَيْرِ هَذِهِ الْمَرْأَةِ فَيَكُونُ عِبَارَةً فِي جُزْءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَإِشَارَةً إلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ وَهُوَ طَلَاقُ الْكُلِّ وَأَيْضًا إلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ وَهُوَ طَلَاقُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ وَأَيْضًا إلَى لَازِمِ الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَهُوَ لَوَازِمُ الطَّلَاقِ كَوُجُوبِ الْمَهْرِ، وَالْعِدَّةِ، وَنَحْوِهِمَا وقَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] سِيقَ اللَّازِمُ الْمُتَأَخِّرُ، وَهُوَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ عِبَارَةً فِيهِ، وَإِشَارَةً إلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ، وَإِلَى أَجْزَائِهِ، وَإِلَى اللَّوَازِمِ الْأُخَرِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا اللَّازِمَ بِالْمُتَأَخِّرِ؛ لِأَنَّهُمْ سَمَّوْا دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ اقْتِضَاءً، وَإِنَّمَا جَعَلُوا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ كَالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى اللَّازِمِ غَيْرِ الْمُتَأَخِّرِ كَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ فَإِنَّ الْأُولَى مُطَّرِدَةٌ دُونَ الثَّانِيَةِ إذْ لَا دَلَالَةَ لِلْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُولًا مُسَاوِيًا؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ الْمُثْبِتَ لِلْعِلَّةِ مُثْبِتٌ لِلْمَعْلُولِ تَبَعًا لَهَا أَمَّا الْمُثْبِتُ لِلْمَعْلُولِ فَغَيْرُ مُثْبِتٍ لِعِلَّتِهِ الَّتِي ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالنَّارِ عَلَى الدُّخَانِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ إذْ الْمَعْلُولُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى عِلَّتِهِ بِشَرْطِ مُسَاوَاتِهِ لَهَا كَالدُّخَانِ عَلَى النَّارِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَعَمَّ كَالضَّوْءِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الشَّمْسِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ بِالنَّارِ أَوْ بِالْقَمَرِ، وَالْمُطَّرِدُ لِكُلِّيَّتِهِ أَقْوَى مِنْ غَيْرِ الْمُطَّرِدِ فَاعْتُبِرَ، وَجُعِلَ نَفْسُ النَّظْمِ الدَّالِّ عَلَى الْمَلْزُومِ دَالًّا عَلَى اللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ غَيْرُ الْمُطَّرِدِ فَلَمْ يُجْعَلْ نَفْسُ النَّظْمِ الدَّالِّ عَلَى الْمَلْزُومِ دَالًّا عَلَى اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ. وَأَيْضًا مُثْبِتُ الْعِلَّةِ مُثْبِتٌ لِلْمَعْلُولِ لِكَوْنِهِ تَبَعًا، وَمُثْبِتُ الْمَعْلُولِ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ لِلْعِلَّةِ لِكَوْنِهَا أَصْلًا بَلْ لِأَنَّ مُثْبِتَ الْمَعْلُولِ قَدْ يَكُونُ نَفْسَ الْعِلَّةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْلُومُ كَاللَّازِمِ الْمُتَأَخِّرِ ثَابِتٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لِلْعِلَّةِ كَالْمَلْزُومِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: الْعِلَّةُ كَاللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ ثَابِتٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لِلْمَعْلُولِ كَالْمَلْزُومِ. (قَوْلُهُ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِذِي الْقُرْبَى، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الْآيَةَ، وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ عَلَيْهِ بِتَرْكِ الْعَاطِفِ، وَحَقِيقَةُ الْفَقْرِ بِعَدَمِ الْمِلْكِ لَا بِمُجَرَّدِ الِاحْتِيَاجِ وَبُعْدِ الْيَدِ عَنْ الْمَالِ، وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى ابْنُ السَّبِيلِ فَقِيرًا فَفِي إطْلَاقِ اسْمِ الْفُقَرَاءِ عَلَيْهِمْ مَعَ كَوْنِهِمْ ذَوِي دِيَارٍ وَأَمْوَالٍ بِمَكَّةَ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ بِالِاسْتِيلَاءِ بِشَرْطِ الْإِحْرَازِ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ اسْتِعَارَةٌ شُبِّهُوا بِالْفُقَرَاءِ لِاحْتِيَاجِهِمْ وَانْقِطَاعِ أَطْمَاعِهِمْ عَنْ أَمْوَالِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ بِقَرِينَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، وَالْمُرَادُ السَّبِيلُ الشَّرْعِيُّ لَا الْحِسِّيُّ، وَبِقَرِينَةِ إضَافَةِ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ، وَهِيَ تُفِيدُ الْمِلْكَ؟ . أُجِيبَ بِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْحَقِيقَةُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ نَفْيُ السَّبِيلِ عَنْ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَمْلِكُونَهُمْ بِالِاسْتِيلَاءِ لَا عَنْ أَمْوَالِهِمْ، وَإِضَافَةُ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ إلَيْهِمْ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ؛ لِأَنَّ فِي حَمْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَحَمْلِ الْفُقَرَاءِ عَلَى الْمَجَازِ مَصِيرًا إلَى الْخَلَفِ قَبْلَ تَعَذُّرِ الْأَصْلِ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ

هِيَ أَصْلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَعْلُولِ فَيَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْمَعْلُولَ ثَابِتٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لِلْعِلَّةِ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْعِلَّةَ ثَابِتَةٌ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْمُثْبِتِ لِلْمَعْلُولِ فَتَبَيَّنَ مِنْ هَذِهِ الْأَبْحَاثِ حُدُودُ الْعِبَارَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالِاقْتِضَاءِ، وَأَمَّا حَدُّ دَلَالَةِ النَّصِّ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ أَيْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ يُوجَدُ فِيهِ مَعْنًى، يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُسَمَّى دَلَالَةَ النَّصِّ نَحْوُ {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الضَّرْبِ فَالضَّرْبُ شَيْءٌ يُوجَدُ فِيهِ الْأَذَى، وَالْأَذَى هُوَ مَعْنَى يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْحُرْمَةِ فِي الْمَنْطُوقِ، وَهُوَ التَّأْفِيفُ لِأَجْلِهِ، وَوَجْهُ الْحَصْرِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ أَنَّ الْمَعْنَى إنْ كَانَ عَيْنَ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْ جُزْأَهُ أَوْ لَازِمَهُ الْغَيْرَ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ فَعِبَارَةٌ إنْ سِيقَ الْكَلَامُ لَهُ وَإِشَارَةٌ، إنْ لَمْ يُسَقْ وَإِنْ كَانَ لَازِمَهُ الْمُتَقَدِّمَ فَاقْتِضَاءٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ وُجِدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى عِلَّةٌ يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِهَا فَدَلَالَةُ نَصٍّ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ أَصْلًا. وَإِنَّمَا قُلْنَا يَفْهَمُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْهَمْ أَحَدٌ، أَوْ يَفْهَمُ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَلَا دَلَالَةَ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ إذْ الدَّلَالَةُ اللَّفْظِيَّةُ إنَّمَا اُعْتُبِرَتْ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِالْوَضْعِ، وَبِهَذَا الْقَيْدِ خَرَجَ الْقِيَاسُ فَإِنَّ الْمَعْنَى فِي الْقِيَاسِ لَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ فَإِنَّهُ لَا يَفْهَمُهُ إلَّا الْمُجْتَهِدُ هَذَا هُوَ نِهَايَةُ أَقْدَامِ التَّحْقِيقِ وَالتَّنْقِيحِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَمْ يَسْبِقْنِي أَحَدٌ إلَى كَشْفِ الْغِطَاءِ عَنْ وُجُوهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ كَوْنُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ أَفْرَادِ الْمَوْضُوعِ لَهُ وَعَدَمُ ذَلِكَ حَالَةَ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ مِنْ الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ لَا حَالَةَ الْحُكْمِ وَالتَّكَلُّمِ، لِلْقَطْعِ بِأَنَّ قَوْلَنَا: قَتَلَ زَيْدٌ فِي السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ قَتِيلًا مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ. وَقَوْلُنَا خَلَّفَ هَذَا الرَّجُلَ أَبُوهُ طِفْلًا يَتِيمًا حَقِيقَةٌ مَعَ أَنَّ الْقَتِيلَ حَالَ التَّكَلُّمِ بِهَذَا الْكَلَامِ قَتِيلٌ حَقِيقَةً وَالرَّجُلَ لَيْسَ بِطِفْلٍ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي جُعِلَ ذَلِكَ اللَّفْظُ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ قَوْلَنَا أَكْرِمْ الرَّجُلَ الَّذِي خَلَّفَهُ أَبُوهُ طِفْلًا حَقِيقَةٌ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» مَجَازٌ مَعَ أَنَّ الرَّجُلَ حَالَ إكْرَامِهِ لَيْسَ بِطِفْلٍ، وَالْقَتِيلَ حَالَ اسْتِحْقَاقِ قَاتِلِهِ سَلَبَهُ مَقْتُولٌ فَعَلَى هَذَا إضَافَةُ الدِّيَارِ وَالْأَمْوَالِ، أَيْضًا حَقِيقَةٌ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مِلْكًا لَهُمْ حَالَ إخْرَاجِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَالَ اسْتِحْقَاقِهِمْ السَّهْمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَإِنْ قُلْت الثَّابِتُ بِالْإِشَارَةِ هَاهُنَا مِنْ أَيِّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ؟ قُلْت جَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبِيلِ جُزْءِ الْمَوْضُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ مِلْكِ مَا خَلَّفُوا فِي الْحَرْبِ جُزْءٌ مِنْ مَعْنَى الْفَقْرَ، وَهُوَ عَدَمُ مِلْكِ شَيْءٍ مَا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِشَارَةِ هُوَ زَوَالُ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ جُزْءٌ لِعَدَمِ مِلْكِهِمْ شَيْئًا مَا بَلْ لَازِمٌ مُتَقَدِّمٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُمْ أَوَّلًا حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْفَقْرُ وَعَدَمُ

هَذِهِ الدَّلَالَاتِ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْنِي فَعَلَيْهِ بِمُطَالَعَةِ كُتُبِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَالْمُتَأَخِّرِينَ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ ( كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] سِيقَ لِاسْتِحْقَاقِ سَهْمٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَهُمْ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى زَوَالِ مِلْكِهِمْ عَمَّا خَلَّفُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] سِيقَ لِإِيجَابِ نَفَقَتِهَا عَلَى الْوَلَدِ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّسَبَ إلَى الْآبَاءِ وَإِلَى أَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةَ تَمَلُّكِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ نُسِبَ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْمِلْكِ) فَيَقْتَضِي كَمَالَ اخْتِصَاصِ الْوَلَدِ، وَاخْتِصَاصَ مَالِهِ بِأَبِيهِ عَلَى قَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَتَمَلُّكُ الْوَلَدِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لَكِنَّ تَمَلُّكَ مَالِهِ مُمْكِنٌ فَيَثْبُتُ هَذَا. (وَإِلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْوَلَدِ إذْ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي هَذِهِ النِّسْبَةِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِهَا، وَإِلَى أَنَّ أَجْرَ الرَّضَاعِ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّقْدِيرِ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْأَبِ رِزْقَ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ فَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْجَارَ الْوَالِدَةِ لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا يَكُونُ ثَابِتًا بِالْإِشَارَةِ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْجَارَ غَيْرِ الْوَالِدَةِ فَثُبُوتُهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِالْإِشَارَةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ بِالْمَنْطُوقِ (وقَوْله تَعَالَى {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَرَثَةَ يُنْفِقُونَ بِقَدْرِ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ إلَى الْمُشْتَقِّ تُوجِبُ عِلِّيَّةَ الْمَأْخُوذِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ، وَالتَّمْلِيكُ مُلْحَقٌ بِهِ) ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ لَا بِالتَّمْلِيكِ كَمَا فِي الْكِسْوَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِلْكِ شَيْءٍ مَا، فَظَهَرَ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِشَارَةِ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا مُتَأَخِّرًا. (قَوْلُهُ فَإِنْ أَرَادَ) أَيْ الْوَالِدُ اسْتِئْجَارَ الْوَالِدَةِ الْمُطَلَّقَةِ لِإِرْضَاعِ الْوَلَدِ يَكُونُ اسْتِغْنَاءُ أَجْرِهَا عَنْ التَّقْدِيرِ ثَابِتًا بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، إنَّمَا يُقَالُ: فِي مَجْهُولِ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ، وَإِنْ أَرَادَ اسْتِئْجَارَ غَيْرَ الْوَالِدَةِ فَثُبُوتُ اسْتِغْنَاءِ أَجْرِهَا عَنْ التَّقْدِيرِ يَكُونُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ التَّقْدِيرِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ فِي الْعَادَةِ قَدْرَ الْكِفَايَةِ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ نَفْعَهُ يَعُودُ إلَيْهِمْ، وَلَا مِنْ الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حِجْرِهَا لَا بِالْإِشَارَةِ إلَى النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ بِنَفْسِ النَّظْمِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] عَائِدٌ إلَى الْوَالِدَاتِ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا) أَيْ آكِلًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ طَعِمْت الطَّعَامَ أَكَلْته، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي، أَيْ جَعَلْته آكِلًا، وَأَمَّا نَحْوُ: أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّمَا كَانَ هِبَةً، وَتَمْلِيكًا بِقَرِينَةِ الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ طَعَامًا قَالُوا، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ، وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ، هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ أَنَّ الْإِطْعَامَ إعْطَاءُ الطَّعَامِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكًا أَوْ إبَاحَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَقِيقَةَ جَعْلِ الْغَيْرِ طَاعِمًا، أَيْ آكِلًا لَيْسَتْ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ. 1 - (قَوْلُهُ وَأُلْحِقَ بِهِ) أَيْ بِالْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ يَعْنِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ التَّمْلِيكُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِطْعَامٍ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْإِطْعَامِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمَسَاكِينِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَحَقِيقَةُ الْإِطْعَامِ لَا تَكْفِيَ إلَّا قَضَاءَ حَاجَةِ الْأَكْلِ فَأُقِيمَ التَّمْلِيكُ مَقَامَهَا أَيْ مَقَامَ حَوَائِجِ الْمَسَاكِينِ كُلِّهَا يَعْنِي مَقَامَ قَضَائِهَا إلَّا أَنَّهُ إذَا جَازَ دَفْعُ بَعْضِ الْحَوَائِجِ كُلِّهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِذَا كَانَ جَوَازُ

(لِأَنَّ الْإِطْعَامَ جَعْلُ الْغَيْرَ طَاعِمًا لَا جَعْلُهُ مَالِكًا وَأُلْحِقَ بِهِ التَّمْلِيكُ دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَأُقِيمَ التَّمْلِيكُ مَقَامَهَا، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ) أَيْ لَا يَكُونُ الْأَصْلُ فِي الْكِسْوَةِ الْإِبَاحَةُ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِالْكَسْرِ الثَّوْبُ فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ الْعَيْنُ كَفَّارَةً وَإِذًا بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ لَا إعَارَةٍ لَا إذْ هِيَ تَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ (عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الطَّعَامِ تُتِمُّ الْمَقْصُودَ) أَيْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْكِسْوَةَ بِالْكَسْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّمْلِيكِ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِنَفْسِ النَّظْمِ لَا يَلْزَمُ فِي الْإِطْعَامِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَهِيَ الْإِبَاحَةُ، وَالْمَجَازِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ. (قَوْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ تَصِيرَ الْعَيْنُ كَفَّارَةً) فَإِنْ قُلْت الْكَفَّارَةُ لَا تَكُونُ عَيْنًا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، وَفِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لَلْفِعْلَةِ الَّتِي تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ الْفِعْلِ، أَيْ إعْطَاءِ الْكِسْوَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْإِعَارَةِ أَوْ التَّمْلِيكِ قُلْت: نَعَمْ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْكَفَّارَةَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ نَفْسَ الثَّوْبِ فَوَجَبَ التَّقْدِيرُ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ هُوَ كَفَّارَةً فِي الْجُمْلَةِ، وَذَلِكَ فِي تَمْلِيكِهِ دُونَ إعَارَتِهِ إذْ بِالْإِعَارَةِ تَصِيرُ الْكَفَّارَةُ مَنَافِعَ الثَّوْبِ لَا عَيْنَهُ، فَإِنْ قُلْت الْمَذْكُورُ فِي كَفَّارَةِ الْإِطْعَامِ أَيْضًا هُوَ الْعَيْنُ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة: 89] بَدَلٌ مِنْ الطَّعَامِ، وَالْبَدَلُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّسْبَةِ، وَلِذَا جَعَلَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ أَوْسَطِ لَا عَلَى " إطْعَامُ " فَيَلْزَمُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الطَّعَامِ أَيْضًا التَّمْلِيكُ قُلْت يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ، وَصْفًا لِمَحْذُوفٍ، أَيْ طَعَامًا مِنْ أَوْسَطِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِإِطْعَامٍ أَوْ نُصِبَ بِتَقْدِيرِ أَعْنِي، وَلَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ، فَإِنْ قُلْتَ الْبَدَلُ رَاجِحٌ لِكَوْنِهِ مَقْصُودًا بِالنِّسْبَةِ وَمُسْتَغْنِيًا عَنْ التَّقْدِيرِ وَمُشْتَمِلًا عَلَى زِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالتَّقْدِيرِ وَمُؤَدِّيًا إلَى كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ اسْمَ عَيْنٍ كَالْمَعْطُوفِ. قُلْتُ: مُعَارَضٌ بِأَنَّهُ إذَا جُعِلَ بَدَلًا يَكْثُرُ مُخَالَفَةُ الْأَصْلِ أَعْنِي جَعْلَ الْكَفَّارَةِ عَيْنًا لَا مَعْنًى، وَيَصِيرُ عَطْفُ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ عَطْفِ الْمَعْنَى عَلَى الْعَيْنِ، وَيَفْتَقِرُ أَيْضًا إلَى التَّقْدِيرِ، أَيْ إطْعَامٌ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ، وَيَقَعُ لَفْظُ إطْعَامٍ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالنِّسْبَةِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ بَيَانَ الْمَصْرِفِ أَعْنِي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْلَى وَأَهَمُّ بِالْقَصْدِ مِنْ بَيَانِ كَوْنِ الْمَطْعُومِ {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] إذْ رُبَّمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ الْإِطْلَاقِ بِقَرِينَةِ الْعُرْفِ فَجَعْلُ مَا هُوَ غَايَةُ الْمَقْصُودِ غَيْرَ مَقْصُودٍ، وَمَا هُوَ دُونَهُ مَقْصُودًا خُرُوجٌ عَنْ الْقَانُونِ، وَلِهَذَا يُجْعَلُ ضَمِيرُ كِسْوَتِهِمْ عَائِدًا إلَى عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لَا إلَى أَهْلِيكُمْ، وَأَيْضًا فِي الْعَطْفِ اتِّحَادُ جِهَةِ الْإِعْرَابِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كِسْوَتُهُمْ فِي مَوْقِعِ الْبَدَلِ مِنْ إطْعَامٍ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ غَلَطٌ لَا مَسَاغَ لَهُ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ إذْ لَا تَحْصُلُ الْمُلَابَسَةُ الْمُصَحِّحَةُ لِبَدَلِ الِاشْتِمَالِ بِمُجَرَّدِ إضَافَتِهِمَا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا إذَا قُلْنَا: أَعْجَبَنِي ثَوْبُ زَيْدٍ كِتَابُهُ، وَمَرَرْت بِفَرَسِهِ حِمَارِهِ. (قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ الْمَذْكُورَ فِي كَثِيرٍ مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَاللُّغَةِ أَنَّ الْكِسْوَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْإِلْبَاسِ لَا اسْمٌ لِلثَّوْبِ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْإِشَارَةِ قَوْله تَعَالَى

مَصْدَرٌ لَكِنَّ الْإِبَاحَةَ فِي الطَّعَامِ، وَهِيَ أَنْ يَأْكُلُوا عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ يَتِمُّ بِهَا الْمَقْصُودُ (دُونَ إعَارَةِ الثَّوْبِ) ، وَهِيَ أَنْ يَلْبَسُوا عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ بِهَا الْمَقْصُودُ فَإِنَّ لِلْمُبِيحِ وِلَايَةَ الِاسْتِرْدَادِ فِي إعَارَةِ الثَّوْبِ، وَلَا يُمْكِنُ الرَّدُّ فِي الطَّعَامِ بَعْدَ الْأَكْلِ (وَأَمَّا دَلَالَةُ النَّصِّ، وَتُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الضَّرْبِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَذَى) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ التَّأْفِيفَ حَرَامٌ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ الْأَذَى (مَوْجُودٌ فِي الضَّرْبِ بَلْ هُوَ أَشَدُّ كَالْكَفَّارَةِ وَبِالْوَقَاعِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الزَّوْجِ (نَصًّا، وَعَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْمَرْأَةِ (دَلَالَةً) ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الصَّوْمِ، وَهِيَ ـــــــــــــــــــــــــــــQ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] قَالُوا فِيهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ النِّيَّةِ بِالنَّهَارِ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَإِذَا اُبْتُدِئَ الصَّوْمُ بَعْدَ تَبَيُّنِ الْفَجْرِ حَصَلَتْ النِّيَّةُ بَعْدَ مُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِالْعِبَادَةِ، وَكَانَ مُوجَبُ ذَلِكَ وُجُوبَ النِّيَّةِ بِالنَّهَارِ إلَّا أَنَّهُ جَازَ بِاللَّيْلِ إجْمَاعًا عَمَلًا بِالسُّنَّةِ، وَصَارَ أَفْضَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ وَالْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْمُعِينِ: إنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْخَبَّازَ السَّمَرْقَنْدِيَّ هُوَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَكِنْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصِّيَامِ بَعْدَ الِانْفِجَارِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلرُّكْنِ لَا لِلشَّرْطِ؟ (وَ) أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ الْإِمْسَاكُ الَّذِي هُوَ الصَّوْمُ الشَّرْعِيُّ عَقِيبَ آخِرِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ مُتَّصِلًا لِيَصِيرَ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا، وَلَنْ يَكُونَ الْإِمْسَاكُ صَوْمًا شَرْعِيًّا بِدُونِ النِّيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ النَّهَارِ حَقِيقَةً بِأَنْ تَتَّصِلَ بِهِ أَوْ حُكْمًا بِأَنْ تَحْصُلَ فِي اللَّيْلِ، وَتُجْعَلَ بَاقِيَةً إلَى الْآنَ. (قَوْلُهُ، وَتُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ) ، أَيْ مَعْنَاهُ يُقَالُ: فَهِمْت ذَلِكَ مِنْ فَحْوَى كَلَامِهِ، أَيْ مِمَّا تَنَسَّمْت مِنْ مُرَادِهِ بِمَا تَكَلَّمَ، وَقَدْ تُسَمَّى لَحْنَ الْخِطَابِ، وَمَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ مُوَافِقٌ لِمَدْلُولِهِ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَيُقَابِلُهُ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ. (قَوْلُهُ وَكَالْكَفَّارَةِ) نَبَّهَ بِالْمِثَالَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ قَدْ يَكُونُ ضَرُورِيًّا كَحُرْمَةِ الضَّرْبِ مِنْ حُرْمَةِ التَّأْفِيفِ، وَقَدْ يَكُونُ نَظَرِيًّا كَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْوِقَاعِ عَلَى الْمَرْأَةِ إلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَعَ عُلُوِّ طَبَقَتِهِ فِي اللُّغَةِ لَمْ يَفْهَمْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لِأَجْلِ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بَلْ فَهِمَ أَنَّهَا لِأَجْلِ إفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْجِمَاعِ التَّامِّ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْهَا وَاجِبَةً عَلَى الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ صَوْمَهَا يَفْسُدُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ شَيْءٍ مِنْ الْحَشَفَةِ فِي فَرْجِهَا فَهُوَ لَا يُسَلِّمُ أَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ هِيَ الْجِنَايَةُ الْكَامِلَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمَا بَلْ الْجِنَايَةُ بِالْوَقَاعِ التَّامِّ، وَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالرَّجُلِ، وَلِهَذَا سَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ وُجُوبِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ فِي الْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ فَإِنْ قِيلَ: الْبَيَانُ فِي جَانِبِهِ بَيَانٌ فِي جَانِبِهَا لِاتِّحَادِ كَفَّارَتِهِمَا بِخِلَافِ حَدِيثِ الْعَسِيفِ فَإِنَّ الْحَدَّ فِي جَانِبِهِ كَانَ الْجَلْدَ، وَفِي

مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا، وَكَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا فِي الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ، وَرَدَ فِي الْوِقَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ فِي الْوِقَاعِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ هُوَ كَوْنُهُ جِنَايَةً عَلَى الصَّوْمِ فَإِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِمَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبْرَ عَنْهُمَا أَشَدُّ، وَالدَّاعِيَةَ إلَيْهِمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQجَانِبِهَا كَانَ الرَّجْمَ؟ أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَحَقُّقِ السَّبَبِ فِي جَانِبِهَا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ. (قَوْلُهُ بَلْ أَوْلَى) أَيْ ثُبُوتُ الْكَفَّارَةِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ أَوْلَى مِنْ ثُبُوتِهَا بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بِالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهُمَا أَحْوَجُ إلَى الزَّاجِرِ مِنْ الْجِمَاعِ لِقِلَّةِ الصَّبْرِ عَنْهُمَا، وَكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِيهِمَا لَا سِيَّمَا بِالنَّهَارِ لِإِلْفِ النَّفْسِ بِهِمَا، وَفَرْطِ الْحَاجَةِ إلَيْهِمَا، وَفِي هَذَا تَحْقِيقُ أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يُثْبِتُ الْحُدُودَ، فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِالْوِقَاعِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْآدَمِيِّ أَشَدُّ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْأَكْلِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمَالِ، الثَّانِي أَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ الصَّوْمِ، وَالْأَكْلَ نَقِيضُهُ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْعِبَادَةِ بِالْمَحْظُورِ فَوْقَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِالنَّقِيضِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى تَرِدُ عَلَى الْعِبَادَةِ لِبَقَائِهَا عِنْدَ وُرُودِ الْمَحْظُورِ عَلَيْهَا لِعَدَمِ الْمُضَادَّةِ وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بَعْدَ الْوُرُودِ بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ تَنْعَدِمُ قَبْلَ وُرُودِ النَّقِيضِ لِامْتِنَاعِ الِاجْتِمَاعِ، الثَّالِثُ أَنَّ الْوِقَاعَ يُوجِبُ فَسَادَ صَوْمَيْنِ عِنْدَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ صَائِمَةً، وَلِهَذَا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: هَلَكْت، وَأَهْلَكْت، الرَّابِعُ أَنَّ تَنَاهِيَ غَلَبَةِ الْجُوعِ تُبِيحُ الْإِفْطَارَ فَوُجُودُ بَعْضِهَا يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ تَنَاهِي غَلَبَةِ الشَّبَقِ؟ أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ إفْسَادُ الصَّوْمِ لَا إتْلَافُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ حَتَّى لَوْ زَنَى عَامِدًا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِوُجُودِ الْإِفْسَادِ، وَلَوْ زَنَى نَاسِيًا لَا تَجِبُ لِعَدَمِ الْإِفْسَادِ، وَكَذَا تَجِبُ فِي الْأَكْلِ لِهَذَا الْإِفْسَادِ لَا لِإِتْلَافِ الطَّعَامِ حَتَّى لَوْ أَكَلَ طَعَامَهُ عَامِدًا تَجِبُ، وَلَوْ أَكَلَ طَعَامَ غَيْرِهِ نَاسِيًا لَا تَجِبُ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الصَّوْمَ هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ فَالْوِقَاعُ أَيْضًا نَقِيضُهُ، وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ فَسَادَ صَوْمِهَا بِفِعْلِهَا، وَوُجُوبَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الرَّجُلِ إنَّمَا هُوَ بِإِفْسَادِ صَوْمِهِ حَتَّى لَوْ وَاقَعَ غَيْرَ الصَّائِمَةِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَعَنْ الرَّابِعِ أَنَّ الْمُبِيحَ هُوَ خَوْفُ التَّلَفِ لَا تَنَاهِي الْجُوعِ كَيْفَ وَالصَّوْمُ إنَّمَا شُرِعَ لِحِكْمَةِ الْجُوعِ نَعَمْ تَنَاهِي الْجُوعِ شَرْطُ خَوْفِ التَّلَفِ لَكِنْ لَا عِبْرَةَ بِبَعْضِ الْعِلَّةِ فَكَيْفَ بِبَعْضِ الشَّرْطِ مَعَ عَدَمِ الْعِلَّةِ. (قَوْلُهُ فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ فِيهِ) أَيْ فِي ذَلِكَ النَّصِّ الْوَارِدِ فِي الزِّنَا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِسَبَبِهِ مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ حَتَّى كَانَ تَبَدُّلُ الِاسْمِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمَحَلِّ كَالسَّارِقِ، وَالطَّرَّارِ، وَمَاعِزٍ، وَغَيْرِهِ فَوُجُوبُ الْحَدِّ فِي اللِّوَاطَةِ يَكُونُ بِالدَّلَالَةِ لَا بِالْقِيَاسِ، وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ فَهْمَ كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ السَّبَبُ لِوُجُوبِ الْحَدِّ كَيْفَ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ. (قَوْلُهُ لَكِنَّا نَقُولُ) حَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ هُوَ مُجَرَّدُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ

أَكْثَرُ فَبِالْأَحْرَى أَنْ يَثْبُتَ الزَّاجِرُ فِيهِمَا، وَكَوُجُوبِ الْحَدِّ عِنْدَهُمَا فِي اللِّوَاطَةِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي الزِّنَا فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ بِسَفْحِ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي اللِّوَاطَةِ بَلْ زِيَادَةٌ؛ لِأَنَّهَا فِي الْحُرْمَةِ وَسَفْحُ الْمَاءِ فَوْقَهُ أَيْ فَوْقَ الزِّنَا أَمَّا فِي الْحُرْمَةِ فَلِأَنَّ حُرْمَةَ اللِّوَاطَةِ لَا تَزُولُ أَبَدًا، وَأَمَّا فِي سَفْحِ الْمَاءِ فَلِأَنَّهَا تَضْيِيعُ الْمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَخَلَّقُ مِنْهُ الْوَلَدُ (وَفِي الشَّهْوَةِ مِثْلُهُ لَكِنَّا نَقُولُ: الزِّنَا أَكْمَلُ فِي سَفْحِ الْمَاءِ وَالشَّهْوَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ هَلَاكَ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا هَالِكٌ حُكْمًا، وَفِيهِ إفْسَادُ الْفِرَاشِ) أَيْ فِرَاشِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ اللِّعَانُ، وَتَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِهِ، وَيَشْتَبِهُ النَّسَبُ (وَأَمَّا تَضْيِيعُ الْمَاءِ فَقَاصِرٌ) أَيْ مَا قَالَ: مِنْ تَضْيِيعِ الْمَاءِ فِي اللِّوَاطَةِ فَقَاصِرٌ فِي الْحُرْمَةِ (؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِالْعَزْلِ، وَالشَّهْوَةِ فِيهِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَيَغْلِبُ وُجُودُهُ) أَيْ وُجُودُ الزِّنَا (وَالتَّرْجِيحُ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ نَافِعٍ) أَيْ تَرْجِيحُ اللِّوَاطَةِ عَلَى الزِّنَا بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ نَافِعٍ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ (لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُجَرَّدَةَ بِدُونِ هَذِهِ الْمَعَانِي) أَيْ الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ بِالزِّنَا، وَهِيَ إهْلَاكُ الْبَشَرِ، وَإِفْسَادُ الْفِرَاشِ، وَاشْتِبَاهُ النَّسَبِ (لَا تُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَوْلِ مَثَلًا، وَكَوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْمُثْقِلِ عِنْدَهُمَا بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ» يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يُقَامُ إلَّا بِالسَّيْفِ الثَّانِي أَنْ لَا قَوَدَ إلَّا بِسَبَبِ الْقَتْلِ) بِالسَّيْفِ (فَإِنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ مُوجِبًا) حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي يُفْهَمُ (لِلْجَزَاءِ الْكَامِلِ عَنْ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ النَّفْسِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْجَزَاءِ، وَالِانْتِهَاكُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِسَفْحِ الْمَاءِ فِي مَحَلٍّ مُحَرَّمٍ مُشْتَهًى بَلْ هُوَ مَعَ هَلَاكِ الْبَشَرِ، وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ، وَاشْتِبَاهِ النَّسَبِ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا هَالِكٌ حُكْمًا) ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجِبُ تَرْبِيَتُهُ عَلَى الزَّانِي لِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَيَهْلِكُ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الزِّنَا بِالْإِكْرَاهِ وَلَوْ بِالْقَتْلِ كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ بِهِ فَإِنْ قِيلَ: الْحَدُّ وَاجِبٌ بِزِنَا الْخَصِيِّ، وَالزِّنَا بِالْعَجُوزِ، وَالْعَقِيمِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا مَعَ أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ هَلَاكُ الْبَشَرِ وَإِفْسَادُ الْفِرَاشِ؟ قُلْنَا الْمُرَادُ تَحَقُّقُ ذَلِكَ فِي جِنْسِ الزِّنَا. (قَوْلُهُ، وَالشَّهْوَةُ فِيهِ) أَيْ فِي الزِّنَا مِنْ الطَّرَفَيْنِ لِمَيَلَانِ طَبْعِهِمَا إلَيْهِ بِخِلَافِ اللِّوَاطَةِ فَإِنَّ الشَّهْوَةَ فِيهَا مِنْ جَانِبِ الْفَاعِلِ فَقَطْ، وَالْمَفْعُولُ يَمْتَنِعُ عَنْهَا بِطَبْعِهِ عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ الْجِبِلَّةِ السَّلِيمَةِ فَيَكُونُ الزِّنَا أَغْلَبُ وُجُودًا، وَأَسْرَعُ حُصُولًا فَيَكُونُ إلَى الزَّاجِرِ أَحْوَجَ، وَهَذَا بَيَانُ كَوْنِ الزِّنَا أَكْمَلُ فِي الشَّهْوَةِ مِنْ اللِّوَاطَةِ، وَأَيْضًا مَحَلُّ اللِّوَاطَةِ وَإِنْ شَارَكَ مَحَلَّ الزِّنَا فِي اللِّينِ، وَالْحَرَارَةِ إلَّا أَنَّ فِيهِ مَا يُوجِبُ النَّفْرَةَ، وَهُوَ اسْتِقْذَارُهُ فَتَكُونُ شَهْوَةُ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ فِيهَا أَقَلَّ. (قَوْلُهُ وَالتَّرْجِيحُ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ نَافِعٍ) ادَّعَى الْخَصْمُ أَنَّ اللِّوَاطَةَ فَوْقَ الزِّنَا فِي الْحُرْمَةِ وَسَفْحِ الْمَاءِ، وَمِثْلُهُ فِي الشَّهْوَةِ فَرَدَّهُ بِبَيَانِ زِيَادَةِ الزِّنَا فِي الشَّهْوَةِ وَسَفْحِ الْمَاءِ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ بَيَانُ زِيَادَتِهِ فِي الْحُرْمَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ حُرْمَةَ اللِّوَاطَةِ مِمَّا لَا تَزُولُ أَبَدًا. فَأَجَابَ

افْتِعَالٌ مِنْ النَّهْكِ، وَهُوَ الْقَطْعِ يُقَالُ: سَيْفٌ نَهِيكٌ أَيْ قَاطِعٌ، وَمَعْنَاهُ قَطْعُ الْحُرْمَةِ بِمَا لَا يَحِلُّ، فِي تَاجِ الْمَصَادِرِ: الِانْتِهَاكُ حُرْمَةُ كَسِيِّ شكستن (الضَّرْبُ) خَبَرَانِ (بِمَا لَا يُطِيقُهُ الْبَدَنِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمَعْنَى جُرْحٌ يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَقَعُ الْجِنَايَةُ قَصْدًا عَلَى النَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي بِهَا الْحَيَاةُ فَتَكُونُ أَكْمَلَ وَكَوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي الْخَطَأِ، وَالْمَعْقُودَةِ) أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ الْكَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي الْخَطَأِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي الْمَعْقُودَةِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الْآيَةَ (لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْقَتْلُ الْخَطَأُ الْكَفَّارَةَ مَعَ وُجُودِ الْعُذْرِ فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ، بِدُونِهِ، وَإِذَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِي الْمَعْقُودَةِ إذَا كَذَبَتْ فَأَوْلَى أَنْ تَجِبَ فِي الْغَمُوسِ وَهِيَ كَاذِبَةٌ فِي الْأَصْلِ، لَكِنَّا نَقُولُ: الْكَفَّارَةُ عِبَادَةٌ لِيَصِيرَ ثَوَابُهَا جَبْرًا لِمَا اُرْتُكِبَ فَلِهَذَا تُؤَدَّى بِالصَّوْمِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فَإِنَّهَا جَزَاءٌ يَزْجُرُهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَتْلِ الْخَطَأِ وَالْمَعْقُودَةِ فَإِنَّ الْيَمِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنَّ زِيَادَةَ اللِّوَاطَةِ عَنْ الزِّنَا فِي الْحُرْمَةِ غَيْرُ نَافِعٍ فِي إيجَابِ الْحَدِّ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ بَعْضِ أَجْزَاءِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مَعَ نُقْصَانِ الْبَعْضِ كَالشَّهْوَةِ وَسَفْحِ الْمَاءِ، وَانْتِفَاءُ الْبَعْضِ كَهَلَاكِ الْبَشَرِ، وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ، وَاشْتِبَاهِ النَّسَبِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِيهِ كَشُرْبِ الْبَوْلِ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْخَمْرِ فِي الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ لَا تَزُولُ أَبَدًا، وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ تَزُولُ بِالتَّخْلِيلِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ. (قَوْلُهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ) فَعَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي وَهُوَ أَنْ لَا قِصَاصَ إلَّا بِسَبَبِ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ يَثْبُتُ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلْقِصَاصِ هُوَ الضَّرْبُ بِمَا لَا يُطِيقُهُ الْبَدَنُ سَوَاءٌ كَانَ بِالْجَارِحِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ الضَّرْبُ بِالْمُثْقِلِ أَبْلَغُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُزْهِقُ الرُّوحَ بِنَفْسِهِ، وَالْجُرْحُ بِوَاسِطَةِ السِّرَايَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْمُوجِبِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا يَفْهَمُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَلِهَذَا ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ هُوَ الْجُرْحُ الَّذِي يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ ظَاهِرًا، أَيْ بِالْجَرْحِ، وَتَخْرِيبِ الْجُثَّةِ، وَبَاطِنًا أَيْ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ، وَإِفْسَادِ الطَّبَائِعِ الْأَرْبَعِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ، أَيْ عِنْدَ نَقْضِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَقَعُ الْجِنَايَةُ قَصْدًا عَلَى النَّفْسِ الْحَيَوَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ الْبُخَارُ اللَّطِيفُ الَّذِي يَتَكَوَّنُ مِنْ أَلْطَفِ أَجْزَاءِ الْأَغْذِيَةِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْحِسِّ وَالْحَرَكَةِ، وَقِوَامًا لِلْحَيَاةِ، وَهِيَ صِفَةٌ تَقْتَضِي الْحِسَّ وَالْحَرَكَةَ، وَاحْتُرِزَ بِهَذَا عَنْ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ الَّتِي لَا تَفْنَى بِخَرَابِ الْبَدَنِ فَتَكُونُ

مَشْرُوعَةٌ، وَالْكَذِبَ حَرَامٌ فَأَمَّا الْعَمْدُ وَالْغَمُوسُ فَكَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ لَا تُلَائِمُ الْعِبَادَةَ، وَهِيَ تَمْحُو الصَّغَائِرَ لَا الْكَبَائِرَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ مَحْضٌ) هَذَا إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فَإِنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثْقِلِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَيَجِبُ أَنْ لَا تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ (قُلْنَا فِيهِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ) أَيْ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ (وَهِيَ) أَيْ الْكَفَّارَةُ (مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ فَتَجِبُ بِشُبْهَةِ السَّبَبِ) ، وَالسَّبَبُ الْقَتْلُ الْخَطَأُ (فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ فِيمَا إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا فَإِنَّ الشُّبْهَةَ قَائِمَةٌ) هَذَا إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِهِ فِيهِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْتَأْمَنِ فِيهِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ بِسَبَبِ الْمَحَلِّ فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ فَظَنَّهُ مَحَلًّا يُبَاحُ قَتْلُهُ كَمَا إذَا قَتَلَ مُسْلِمًا ظَنَّهُ صَيْدًا أَوْ حَرْبِيًّا، وَإِذَا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْخَطَأِ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ فِيهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِشُبْهَةِ الْخَطَأِ (قُلْنَا الشُّبْهَةُ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ فَاعْتُبِرَتْ فِي الْقَوَدِ فَإِنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْمَحَلِّ مِنْ وَجْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فَأَمَّا الْفِعْلُ فَعَمْدٌ خَالِصٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQتِلْكَ الْجِنَايَةُ أَكْمَلُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِدُونِ الْقَصْدِ كَالْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوْ بِنَقْضِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا فَقَطْ كَالْجَرْحِ بِدُونِ السِّرَايَةِ أَوْ بَاطِنًا فَقَطْ كَالْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ، وَإِذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ أَكْمَلَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْجَزَاءُ الْأَكْمَلُ، وَيَخْتَصُّ بِهَا لِيَقَعَ كَمَالُ الْجَزَاءِ فِي مُقَابَلَةِ كَمَالِ الْجِنَايَةِ. (قَوْلُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا) أَيْ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِتُضَافَ الْعُقُوبَةُ إلَى الْحَظْرِ، وَالْعِبَادَةُ إلَى الْإِبَاحَةِ فَيَقَعُ الْأَثَرُ عَلَى وَفْقِ الْمُؤَثِّرِ فَفِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ مِنْ جِهَةِ الرَّمْيِ إلَى صَيْدٍ أَوْ كَافِرٍ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ مِنْ جِهَةِ تَرْكِ التَّشَبُّثِ، وَإِصَابَةِ الْإِنْسَانِ الْمَعْصُومِ، وَفِي الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَفِيهَا تَعْظِيمُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى الْحَظْرِ مِنْ جِهَةِ الْحِنْثِ وَالْكَذِبِ، وَالدَّائِرُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ يَكُونُ صَغِيرَةً فَتَمْحُوهَا الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] بِخِلَافِ الْعَمْدِ، وَالْغَمُوسِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ فَلَا تَمْحُوهَا الْعِبَادَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ» فَإِنَّ الْمُرَادَ لِمَا بَيْنَهُنَّ هُوَ الصَّغَائِرُ بِقَرِينَةِ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ فَإِنْ قِيلَ: الْكِتَابُ عَامٌّ فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. قُلْنَا: قَدْ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ كَالشِّرْكِ بِاَللَّهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ هُوَ الْكِتَابُ، وَالْإِجْمَاعُ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَإِنْ قِيلَ: فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الْكَفَّارَةُ بِالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قُلْنَا إنَّمَا، وَجَبَتْ بِالْإِفْطَارِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ، وَفِيهِ جِهَةُ الْإِبَاحَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَنَاوُلُ شَيْءٍ يَقْضِي بِهِ الشَّهْوَةَ. (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) حَاصِلُ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْمُثْقِلِ حَرَامٌ مَحْضٌ فَكَيْفَ

وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَفِي الْمُثْقِلِ الشُّبْهَةُ فِي الْفِعْل فَأَوْجَبَتْ الْكَفَّارَةَ وَأَسْقَطَتْ الْقِصَاصَ فَإِنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ) يَعْنِي شُبْهَةَ الْخَطَأِ فِي قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ إنَّمَا هِيَ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ لَا فِي الْفِعْلِ فَإِنَّ قَتْلَ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ عَمْدٌ مَحْضٌ فَاعْتُبِرَتْ الشُّبْهَةُ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ، وَالْقِصَاصُ جَزَاءُ الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ فَاعْتُبِرَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ، وَلَمْ تُعْتَبَرْ هَذِهِ الشُّبْهَةُ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ فَلَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ أَمَّا الْقَتْلُ بِالْمُثْقِلِ فَإِنَّ شُبْهَةَ الْخَطَأِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلُ فَاعْتُبِرَتْ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ حَتَّى وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهِ، وَكَذَا اُعْتُبِرَتْ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ الْقِصَاصُ حَتَّى لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشُّبْهَةَ مِمَّا تُثْبِتُ الْكَفَّارَةَ وَتُسْقِطُ الْقِصَاصَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْقِصَاصَ مِنْ وَجْهٍ جَزَاءُ الْمَحَلِّ، وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ جَزَاءُ الْفِعْلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وَكَوْنُهُ حَقًّا لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِيَكُونَ زَاجِرًا عَنْ هَدْمِ بُنْيَانِ الرَّبِّ، وَالزَّوَاجِرُ كَالْحُدُودِ، وَالْكَفَّارَاتُ إنَّمَا هِيَ أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ، وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ جَزَاءُ الْفِعْلِ (، وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ إلَّا عِنْدَ التَّعَارُضِ، وَهُوَ فَوْقَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَجَبَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْخَطَأِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمُثْقِلَ لَيْسَ آلَةً لِلْقَتْلِ خِلْقَةً بَلْ لِلتَّأْدِيبِ، وَفِي التَّأْدِيبِ جِهَةٌ مِنْ الْإِبَاحَةِ، وَالشُّبْهَةُ تَكْفِي لِإِثْبَاتِ الْعِبَادَاتِ كَمَا تَكْفِي لِدَرْءِ الْعُقُوبَاتِ، وَحَاصِلُ السُّؤَالِ الثَّانِي الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ قَتْلِ الْمَعْصُومِ بِالْمُثْقِلِ، وَقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ بِالسَّيْفِ حَيْثُ وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي مَعَ عَدَمِ الْقِصَاصِ فِيهِمَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي إثْبَاتِ الشَّيْءِ أَوْ إسْقَاطِهِ إذَا تَمَكَّنَتْ فِيمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَالْقِصَاصُ مُقَابِلٌ لِلْفِعْلِ مِنْ جِهَةٍ، وَلِلْمَحَلِّ مِنْ جِهَةٍ فَيَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْآلَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِتَتْمِيمِ الْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ فَتَدْخُلُ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ، وَتَصِيرُ الشُّبْهَةُ فِيهَا شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ، وَبِالشُّبْهَةِ فِي الْمَحَلِّ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّ دَمَهُ لَا يُمَاثِلُ دَمَ الْمُسْلِمِ فِي الْعِصْمَةِ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَكَأَنَّهُ فِيهَا، وَالْكَفَّارَةُ تُقَابِلُ الْفِعْلَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجِرَ أَجْزِئَةُ الْأَفْعَالِ فَتَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فِي الْفِعْلِ كَمَا فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ لَا فِي الْمَحَلِّ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ. 1 - (قَوْلُهُ وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ) اعْلَمْ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ سَوَاءٌ فِي الثُّبُوتِ بِالنَّظْمِ وَفِي الْقَطْعِيَّةِ أَيْضًا عِنْدَ الْأَكْثَرِ إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ التَّعَارُضِ تُقَدَّمُ الْعِبَارَةُ عَلَى الْإِشَارَةِ لِمَكَانِ الْقَصْدِ بِالسَّوْقِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي النِّسَاءِ «إنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ، وَدِينٍ» الْحَدِيثُ سِيقَ لِبَيَانِ نُقْصَانِ دِينِهِنَّ، وَفِيهِ

الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْقِيَاسِ مُدْرَكٌ رَأْيًا لَا لُغَةً بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ فَيَثْبُتُ بِهَا مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَثْبُتُ ذَا بِالْقِيَاسِ) أَيْ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ كَلَامًا فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQإشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ» ، وَهُوَ عِبَارَةٌ فَتُرَجَّعُ فَإِنْ قِيلَ: لَا مُعَارِضَةَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّطْرِ الْبَعْضُ لَا النِّصْفُ عَلَى السَّوَاءِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَأَكْثَرُ أَعْمَارِ الْأُمَّةِ سِتُّونَ رُبُعُهَا أَيَّامُ الصِّبَا، وَرُبُعُهَا أَيَّامُ الْحَيْضِ فِي الْأَغْلَبِ فَاسْتَوَى النِّصْفَانِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَتَرْكِهِمَا. أُجِيبَ بِأَنَّ الشَّطْرَ حَقِيقَةٌ فِي النِّصْفِ، وَأَكْثَرُ أَعْمَارِ الْأُمَّةِ مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَتَرْكُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ مُدَّةَ الصِّبَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِنُقْصَانِ دِينِهِنَّ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ مِثْلُ الثَّابِتِ بِالْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا مُسْتَنِدًا إلَى النَّظْمِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْ النَّظْمِ لُغَةً، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ دَلَالَةَ النَّصِّ فَيُقَدَّمُ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَأَمَّا قَبُولُ التَّخْصِيصِ فَلَا مُمَاثَلَةَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالدَّلَالَةِ لَا يَقْبَلُهُ، وَكَذَا الثَّابِتُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْبَلُهُ صَحَّ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ. (قَوْلُهُ إلَّا عِنْدَ التَّعَارُضِ) فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالْعِبَارَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ يُقَدَّمُ عَلَى الثَّابِتِ بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمَا النَّظْمَ وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ، وَفِي الدَّلَالَةِ الْمَعْنَى فَقَطْ فَيَبْقَى النَّظْمُ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ. مِثَالُهُ: ثُبُوتُ الْكَفَّارَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ الْوَارِدِ فِي الْخَطَأِ فَيُعَارِضُهُ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] حَيْثُ جَعَلَ كُلَّ جَزَائِهِ جَهَنَّمَ، فَيَكُونُ إشَارَةً إلَى نَفْيِ الْكَفَّارَةِ فَرُجِّحَتْ عَلَى دَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ جَزَاءُ الْآخِرَةِ، وَإِلَّا لَكَانَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ الْقِصَاصِ، قُلْنَا: الْقِصَاصُ جَزَاءُ الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ وَالْجَزَاءُ الْمُضَافِ إلَى الْفَاعِلِ هُوَ جَزَاءُ فِعْلِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْقِصَاصُ يَجِبُ بِعِبَارَةِ النَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ. (قَوْلُهُ وَهُوَ) أَيْ الثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَوْقَ الثَّابِتِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يُفْهَمُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَنْطُوقِ لِأَجْلِهِ يُدْرَكُ فِي الْقِيَاسِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَفِي دَلَالَةِ النَّصِّ بِاللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِإِفَادَةِ الْمَعَانِي فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِالنَّظْمِ، وَفِي التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ الْعِلَّةُ، وَإِلَى أَنَّ دَلَالَةِ النَّصِّ مُغَايَرَةٌ لِلْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ أَنْ لَا يَكُونَ جُزْءًا مِنْ الْفَرْعِ إجْمَاعًا، وَهَاهُنَا قَدْ يَكُونُ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ لَا تُعْطِ زَيْدًا ذَرَّةً فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ إعْطَاءِ مَا فَوْقَ الذَّرَّةِ مَعَ أَنَّ الذَّرَّةَ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ: الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُوَ الذَّرَّةُ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ وَالِانْفِرَادِ، وَهِيَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِيمَا فَوْقَهَا بِصِفَةِ الِاجْتِمَاعِ قُلْنَا: لَوْ سُلِّمَ فَمِثْلُهُ مُمْتَنِعٌ فِي الْقِيَاسِ بِالْإِجْمَاعِ، الثَّانِي: أَنَّ دَلَالَةَ النَّصِّ ثَابِتَةٌ قَبْلَ

أَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، أَمْ بِالْقِيَاسِ فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا (، وَأَمَّا الْمُقْتَضِي فَنَحْوُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ يَقْتَضِي الْبَيْعَ ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعِتْقِ) فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ بِعْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ وَكُنْ وَكِيلِي فِي الْإِعْتَاقِ. (فَيَثْبُتُ) أَيْ الْبَيْعُ (بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ شُرُوطُهُ) أَيْ لَا يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ جَمِيعُ شُرُوطِهِ بَلْ يَثْبُتُ مِنْ الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ مَا لَا يَحْتَمِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَرْعِيَّةِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَفْهَمُ مِنْ: لَا تَقُلْ لَهُ أُفٍّ لَا تَضْرِبْهُ وَلَا تَشْتُمْهُ سَوَاءٌ عَلِمَ شَرْعِيَّةَ الْقِيَاسِ أَوْ لَا، وَسَوَاءٌ شُرِعَ الْقِيَاسُ أَوْ لَا، الثَّالِثُ: أَنَّ النَّافِينَ لِلْقِيَاسِ قَائِلُونَ بِذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ قِيَاسٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ فَرْعٍ بِأَصْلِهِ بِعِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ حُرْمَةُ التَّأْفِيفِ فَأُلْحِقَ بِهِ الضَّرْبُ وَالشَّتْمُ بِجَامِعِ الْأَذَى إلَّا أَنَّهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ قَطْعِيٌّ، وَهَذَا النِّزَاعُ لَفْظِيٌّ. (قَوْلُهُ فَيَثْبُتُ) تَفْرِيعٌ عَلَى كَوْنِ الْمَعْنَى فِي الدَّلَالَةِ مُدْرَكًا بِاللُّغَةِ فَإِنَّ حُكْمَهَا حِينَئِذٍ يَسْتَنِدُ إلَى النَّظْمِ، وَتَنْتَفِي عَنْهُ الشُّبْهَةُ الْمَانِعَةُ عَنْ ثُبُوتِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، وَهِيَ اخْتِلَالُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ لَا الشُّبْهَةُ الْوَاقِعَةُ فِي طَرِيقِ الثُّبُوتِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِثَالُ ذَلِكَ إثْبَاتُ الرَّجْمِ بِدَلَالَةِ نَصٍّ وَرَدَ فِي مَاعِزٍ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ إنَّمَا رُجِمَ بِالزِّنَا فِي حَالَةِ الْإِحْصَانِ. (قَوْلُهُ، وَلَا يَثْبُتُ ذَا) أَيْ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِالْقِيَاسِ الَّذِي مَعْنَاهُ مُدْرَكٌ بِالرَّأْيِ دُونَ اللُّغَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ الدَّارِئَةِ لِلْحُدُودِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَنْصُوصَةً فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ. (قَوْلُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ) يَعْنِي أَنَّهُ تَابَعَ الْقَوْمَ فِي إيرَادِ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ لِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَفِي بَعْضِهَا نَظَرٌ كَوُجُوبِ الْحَدِّ بِاللِّوَاطَةِ، وَالْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ بِالْمُثْقِلِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لَيْسَ مِمَّا يُفْهَمُ لُغَةً بَلْ رَأْيًا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الْقِيَاسَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُثْبِتًا لِلْحَدِّ وَالْقِصَاصِ، ادَّعَوْا فِيهِ دَلَالَةَ النَّصِّ. (قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْمُقْتَضِي) بِالْكَسْرِ عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَنَحْوُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ، وَمُقْتَضَاهُ هُوَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الرَّجُلِ عَبْدَهُ بِوَكَالَةِ الْغَيْرِ وَنِيَابَتِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى جَعْلِهِ مِلْكًا لَهُ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ هَاهُنَا هُوَ الْبَيْعُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ عَنِّي بِأَلْفٍ فَيَكُونُ الْبَيْعُ لَازِمًا مُتَقَدِّمًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ، وَالِاقْتِضَاءُ هُوَ دَلَالَةُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى الْبَيْعِ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ بِمَا سَبَقَ أَنْ يَقُولَ، وَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَكَمَا فِي هَذَا الْمِثَالِ، وَالْمُرَادُ بِاللُّزُومِ هَاهُنَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِيِّ الْبَيِّنِ وَغَيْرِ الْبَيِّنِ، وَيَقْرُبُ مِنْ ذَلِكَ مَا قِيلَ: إنَّ الِاقْتِضَاءَ هُوَ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنًى خَارِجٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِدْقُهُ أَوْ صِحَّتُهُ الشَّرْعِيَّةُ أَوْ الْعَقْلِيَّةُ، وَقَدْ يُقَيَّدُ بِالشَّرْعِيَّةِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَحْذُوفِ مِثْلُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] ، وَلِهَذَا قِيلَ: الْمُقْتَضِي زِيَادَةً ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ شَرْعًا فَقَوْلُهُ شَرْطًا حَالٌ مِنْ الْمُسْتَكِنِّ فِي ثَبَتَ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَازَ تَذْكِيرُهُ مَعَ كَوْنِهِ عَائِدًا إلَى الزِّيَادَةِ، وَالشَّرْطُ يَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَشْرُوطِ لَا مَحَالَةَ فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لَازِمٌ مُتَقَدِّمٌ، وَقَدْ صَرَّحَ

السُّقُوطَ أَصْلًا لَكِنَّ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي الْجُمْلَةِ لَا يَثْبُتُ (فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا تَفْرِيعٌ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ شُرُوطُهُ (لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِغَيْرِ شَيْءٍ أَنَّهُ يَصِحُّ عَنْ الْآمِرِ وَتَسْتَغْنِي الْهِبَةُ عَنْ الْقَبْضِ وَهُوَ شَرْطٌ كَمَا يَسْتَغْنِي الْبَيْعُ ثَمَّةَ عَنْ الْقَبُولِ وَهُوَ رُكْنٌ قُلْنَا يَسْقُطُ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَالْقَبُولَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ الْقَبُولَ بِاللِّسَانِ فِي الْبَيْعِ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ (كَمَا فِي التَّعَاطِي لَا الْقَبْضِ) أَيْ فِي الْهِبَةِ (، وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى) أَيْ إذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمُقْتَضَى مَعْنًى تَحْتَهُ أَفْرَادٌ لَا يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ جَمِيعُ أَفْرَادِهِ (لِأَنَّهُ ثَابِتٌ ضَرُورَةً فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَعُمَّ لَمْ يَقْبَلْ التَّخْصِيصَ فِي قَوْلِهِ، وَاَللَّهِ لَا آكُلُ؛ لِأَنَّ طَعَامًا ثَابِتٌ اقْتِضَاءً، وَأَيْضًا لَا تَخْصِيصَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِذَلِكَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ: الْمُقْتَضِي زِيَادَةً عَلَى الْمَنْصُوصِ يُشْتَرَطُ تَقْدِيمُهُ لِيَصِيرَ الْمَنْصُوصُ مُفِيدًا أَوْ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ. (قَوْلُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ: بِعْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ، وَكُنْ وَكِيلًا فِي الْإِعْتَاقِ) قِيلَ: هَذَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ، وَرُدَّ بِالْمَنْعِ، وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا كَانَ الْمَلْفُوظُ هُوَ هَذَا الْمُقَدَّرُ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا اخْتَارَ هَذَا التَّقْدِيرَ لِيَتَحَقَّقَ فِي هَذَا الْبَيْعِ عَدَمُ الْقَبُولِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ مِنْ أَنَّ الْآمِرَ كَأَنَّهُ قَالَ: اشْتَرَيْته مِنْك فَأَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ، وَالْمَأْمُورُ حِينَ قَالَ: أَعْتِقْهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْته مِنْك فَأَعْتَقْته عَنْك فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، نَعَمْ هَذَا التَّقْدِيرُ أَحْسَنُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ جَعَلَ عَنِّي مُتَعَلِّقًا بِأَعْتِقْهُ عَلَى مَعْنَى أَعْتِقْهُ نَائِبًا عَنِّي أَوْ وَكِيلًا لِأَصْلِهِ لِلْبَيْعِ عَلَى مَا تَوَهَّمَهُ الْمُصَنِّفُ إذْ لَا يُقَالُ: بِعْته عَنْك بَلْ مِنْك، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ عَنِّي حَالٌ مِنْ الْفَاعِلِ، وَبِأَلْفٍ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْتِقْ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى الْبَيْعِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي مَبِيعًا مِنِّي بِأَلْفٍ. (قَوْلُهُ فَيَثْبُتُ الْبَيْعُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ) أَيْ مَعَ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ الضَّرُورِيَّةِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ فَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ، وَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ، نَعَمْ يُعْتَبَرُ فِي الْآمِرِ أَهْلِيَّةُ الْإِعْتَاقِ حَتَّى لَوْ كَانَ صَبِيًّا عَاقِلًا قَدْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فِي التَّصَرُّفَاتِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ الْبَيْعُ بِهَذَا الْكَلَامِ. (قَوْلُهُ لَا الْقَبْضِ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ السُّقُوطَ بِحَالٍ إذْ لَا تُوجَدُ هِبَةٌ تُوجِبُ الْمِلْكَ بِدُونِ الْقَبْضِ فَفِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ يَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الْمَأْمُورِ دُونَ الْآمِرِ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَإِنْ كَانَ شَرْطًا لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ حَتَّى يَقَعَ الْعِتْقُ عَنْ الْآمِرِ فِيمَا إذَا قَالَ: أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفِ دِينَارٍ وَرِطْلٍ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَصْلِيٍّ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَ يَعْمَلُ بِدُونِهِ، وَالْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِهِ لَا أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَمِلُ السُّقُوطَ نَظَرًا إلَى أَصْلِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهَا شَرْطٌ أَصْلِيٌّ لَا تَعْمَلُ هِيَ إلَّا بِهِ، وَلِأَنَّ الْفَاسِدَ لِضَعْفِهِ احْتَاجَ إلَى الْقَبْضِ لِيَتَقَوَّى بِهِ، وَقَدْ حَصَلَ التَّقَوِّي بِثُبُوتِهِ فِي ضِمْنِ الْعِتْقِ. (قَوْلُهُ، وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى) عَلَى لَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ، أَيْ اللَّازِمِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي

إلَّا فِي اللَّفْظِ فَإِنْ قِيلَ يُقَدِّرُ أَكْلًا، وَهُوَ مَصْدَرٌ ثَابِتٌ لُغَةً) ، وَدَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ؛ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ تَضْمِينِيَّةٌ، فَالثَّابِتُ لُغَةً عَلَى قِسْمَيْنِ: حَقِيقِيٌّ مَنْطُوقٌ كَالْمَصْدَرِ، وَمَجَازِيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQاقْتَضَاهُ الْكَلَامُ تَصْحِيحًا لَهُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَفْرَادٌ لَا يَجِبُ إثْبَاتُ جَمِيعِهَا؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِإِثْبَاتِ فَرْدٍ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى إثْبَاتِ مَا وَرَاءَهُ فَيَبْقَى عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الْعُمُومَ مِنْ عَوَارِضِ اللَّفْظِ، وَالْمُقْتَضَى مَعْنًى لَا لَفْظٌ، وَقَدْ يُنْسَبُ الْقَوْلُ بِعُمُومِ الْمُقْتَضَى إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ: أَنَّ الْمُقْتَضَى لَفْظُ اسْمِ الْفَاعِلِ عِنْدَهُ مَا يَتَوَقَّفُ صِدْقُهُ أَوْ صِحَّتُهُ عَقْلًا أَوْ شَرْعًا أَوْ لُغَةً عَلَى تَقْدِيرٍ، وَهُوَ الْمُقْتَضَى اسْمُ مَفْعُولٍ فَإِذَا وُجِدَ تَقْدِيرَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ يَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فَلَا عُمُومَ لَهُ عِنْدَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَقْدِيرُ الْجَمِيعِ بَلْ يُقَدَّرُ وَاحِدٌ بِدَلِيلٍ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ مُعَيِّنٌ لِأَحَدِهَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ. ثُمَّ إذَا تَعَيَّنَ بِدَلِيلٍ فَهُوَ كَالْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّ الْمَلْفُوظَ وَالْمُقَدَّرَ سَوَاءٌ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَعَامٌّ، وَإِلَّا فَلَا، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْعُمُومُ مِنْ صِفَةِ اللَّفْظِ، وَيَكُونُ إثْبَاتُهُ ضَرُورِيًّا؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وَبَيَّنُوا الْخِلَافَ فِيمَا إذَا قَالَ: وَاَللَّهِ لَا آكُلُ أَوْ إنْ أَكَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ نِيَّةُ طَعَامٍ دُونَ طَعَامٍ تَخْصِيصًا لِلْعَامِّ أَعْنِي النَّكِرَةَ الْوَاقِعَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوْ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا آكُلُ طَعَامًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَامٍّ فَلَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ، وَلَا خِلَافَ فِي شُمُولِ الْحُكْمِ وَشُيُوعِهِ لِكُلِّ طَعَامٍ بَلْ الشُّيُوعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْكَدُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ أَصْلًا لَكِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صُورَةٍ لَا عَلَى عُمُومِ الْمُقْتَضَى، وَكَوْنُ الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبِيلِ الْمُقْتَضَى ظَاهِرٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ مَنْ اعْتَبَرَ التَّوَقُّفَ عَلَيْهِ شَرْعًا فَوَجْهُهُ أَنَّ الصِّحَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ عَلَى الْمُقْتَضَى فَتَكُونُ صِحَّةُ الْحَلِفِ عَلَى الْأَكْلِ شَرْعًا مَوْقُوفَةً عَلَى اعْتِبَارِ الْمَأْكُولِ. (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) تَقْرِيرُ السُّؤَالِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِيَّةُ طَعَامٍ دُونَ طَعَامٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْوِيَ أَكْلًا دُونَ أَكْلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعُمُومُ فِي الْأَكَلَاتِ فَإِنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ لَيْسَتْ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ بَلْ بِحَسَبِ اللُّغَةِ فَيَعُمُّ لِكَوْنِهِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا صَرَّحَ بِهِ نَحْوُ لَا آكُلُ أَكْلًا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ فِي نِيَّةِ أَكْلٍ دُونَ أَكْلٍ؟ وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ لُغَةً، أَيْ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ تَوَقُّفَ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ هُوَ الدَّالُ عَلَى نَفْسِ الْمَاهِيَّةِ دُونَ الْإِفْرَادِ إذْ لَا دَلَالَةَ فِي الْفِعْلِ عَلَى الْفَرْدِ بَلْ عَلَى مُجَرَّدِ الْمَاهِيَّةِ مَعَ مُقَارَنَةِ الزَّمَانِ فَلَا يَكُونُ عَامِلًا فَلَا يَقْبَلُ

مَحْذُوفٌ نَحْوُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] فَيَصِيرُ كَقَوْلِهِ لَا آكُلُ أَكْلًا، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي لَا آكُلُ أَكْلًا صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ (قُلْنَا الْمَصْدَرُ الثَّابِتُ لُغَةً هُوَ الدَّالُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ لَا عَلَى الْأَفْرَادِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا آكُلُ أَكْلًا، فَإِنَّ أَكْلًا نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهَا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَا آكُلُ عَامًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْنَثَ بِكُلِّ أَكْلٍ؟ قُلْنَا إنَّمَا يَحْنَثُ؛ لِأَنَّهُ مُنْدَرِجٌ تَحْتَ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا آكُلُ مَعْنَاهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ مَاهِيَّةُ الْأَكْلِ) وَعَدَمُ وُجُودِ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ لَا يُوجَدَ مِنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْأَكْلِ أَصْلًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّخْصِيصَ بِخِلَافِ الْمَصْدَرِ فِي نَحْوِ: لَا آكُلُ أَكْلًا فَإِنَّهُ عَامٌّ اتِّفَاقًا، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ هَاهُنَا لِلتَّأْكِيدِ، وَالتَّأْكِيدُ تَقْوِيَةُ مَدْلُولِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فَهُوَ، أَيْضًا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى الْمَاهِيَّةِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ بِخِلَافِ مَا يَكُونُ لِلنَّوْعِ أَوْ لِلْمَرْأَةِ، وَأَيْضًا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: إنْ خَرَجْت فَعَبْدِي حُرٌّ، وَنَوَى السَّفَرَ خَاصَّةً صُدِّقَ دِيَانَةً، وَوُجِّهَ بِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ ذِكْرٌ لِلْمَصْدَرِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ فَيَقْبَلُ التَّخْصِيصَ. (قَوْلُهُ فَالدَّلَالَةُ) أَيْ دَلَالَةُ لَا آكُلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ مِنْهُ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الْأَكْلِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ تَصْحِيحِ نَفْيِ مَاهِيَّةِ الْأَكْلِ إذْ لَوْ وُجِدَ فَرْدٌ مِنْ الْأَفْرَادِ ثَبَتَتْ الْمَاهِيَّةُ فِي ضِمْنِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عُمُومَ النَّكِرَةِ الْمَنْفِيَّةِ أَيْضًا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نَفْيَ فَرْدٍ مُبْهَمٍ يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ الْأَفْرَادِ ضَرُورَةً. (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) تَقْرِيرُ السُّؤَالِ أَنَّ دَلَالَةَ الْمُسَاكَنَةِ عَلَى الْمَكَانِ اقْتِضَاءٌ، وَقَدْ صَحَّتْ نِيَّةُ بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا تَخْصِيصٌ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الْعُمُومِ فَلِلْمُقْتَضَى عُمُومٌ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَخْصِيصٌ بَلْ إرَادَةٌ لِأَحَدِ مَفْهُومَيْ الْمُشْتَرَكِ أَوْ أَحَدِ نَوْعَيْ الْجِنْسِ بِقَرِينَةِ كَوْنِهِ الْكَامِلَ الْمَفْهُومَ مِنْ الْإِطْلَاقِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ السُّكْنَى، وَهِيَ الْمُكْثُ فِي الْمَكَانِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ فَهِيَ فِعْلٌ يَقُومُ بِهِمَا بِأَنْ يَتَّصِلَ فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِفِعْلِ صَاحِبِهِ، وَذَلِكَ فِي الْبَيْتِ يَكُونُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ، وَفِي الدَّارِ إنَّمَا يَكُونُ الِاتِّصَالُ فِي تَوَابِعِ السُّكْنَى مِنْ إرَاقَةِ الْمَاءِ، وَغَسْلِ الثَّوْبِ، وَنَحْوِهِمَا لَا فِي أَصْلِ السُّكْنَى هَذَا وَلَكِنْ قَدْ اُشْتُهِرَتْ الْمُسَاكَنَةُ عُرْفًا فِي الْمُسَاكَنَةِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مِنْهَا أَوْ لَا، وَلِهَذَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ هَدْمِ النِّيَّةِ، وَلَا يَجُوزُ نِيَّةُ بَيْتٍ دُونَ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ دُونَ دَارٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى عُمُومِ الْمُقْتَضَى. (قَوْلُهُ، وَقَدْ غَيَّرَتْ) كَانَ فِي نُسْخَةِ الْأَصْلِ قَوْلُهُ، وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ فَيَجْرِي فِيهِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ مُقَدَّمًا عَلَى قَوْلِهِ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا اقْتِدَاءً بِفَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَخَّرَهُ لِتَقَعَ جَمِيعُ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِعُمُومِ الْمُقْتَضَى وَخُصُوصِهِ مُجْتَمِعَةً. (قَوْلُهُ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا) قَدْ وَقَعَتْ فِي بَابِ الطَّلَاقِ عِبَارَاتٌ مُتَشَابِهَةٌ صَحَّتْ

لَا لِأَنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى جَمِيعِ الْأَفْرَادِ (أَيْ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ) فَإِنْ قِيلَ: إنْ قَالَ: لَا أُسَاكِنُ فُلَانًا، وَنَوَى فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ تَصِحُّ نِيَّتُهُ، وَالْبَيْتُ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً قُلْنَا: إنَّمَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ نَوْعَانِ: قَاصِرَةٌ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَكَامِلَةٍ، (وَهِيَ هَذِهِ) أَيْ الْمُسَاكَنَةُ الْكَامِلَةُ هِيَ الَّتِي يَسْكُنَانِ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَنِيَّةُ الْبَيْتِ الْوَاحِدِ لَا تَكُونُ مِنْ بَابِ عُمُومِ الْمُقْتَضَى بَلْ مِنْ بَابِ نِيَّةِ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ نِيَّةِ أَحَدِ نَوْعَيْ الْجِنْسِ، وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَقَدْ غَيَّرْت هُنَا عِبَارَةَ الْمَتْنِ بِالتَّقْدِيمِ، وَالتَّأْخِيرِ هَكَذَا (فَنَوَى الْكَامِلَ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا فِي أَنْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي الْبَعْضِ مِنْهَا مِثْلُ طَلِّقِي نَفْسَك دُونَ الْبَعْضِ مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ طَلَّقْتُك، وَإِذَا صَرَّحَ بِالْمَصْدَرِ مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ طَلَّقْتُك طَلَاقًا صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثَةِ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَلَّقْتُك ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَلَا يَعُمُّ جَمِيعَ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَفْرَادِ وَهُوَ الثَّلَاثُ، وَفِي طَلِّقِي نَفْسَك ثَابِتٌ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ فَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ وَعَلَى الْكُلِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي أَنْتِ طَالِقٌ يَدُلُّ بِحَسَبِ اللُّغَةِ عَلَى اتِّصَافِ الْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ لَا عَلَى ثُبُوتِ الطَّلَاقِ عَنْ الرَّجُلِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَيْ الطَّلَاقُ الثَّابِتُ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ عَنْ الرَّجُلِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ ضَرُورَةَ أَنَّ اتِّصَافَ الْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ يَتَوَقَّفُ شَرْعًا عَلَى تَطْلِيقِ الزَّوْجِ إيَّاهَا فَيَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي أَنْتِ طَالِقٌ دُونَ طَلَّقْتُك فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ التَّطْلِيقِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لُغَةً. أُجِيبَ بِأَنَّ دَلَالَتَهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ إنَّمَا هِيَ عَلَى مَصْدَرٍ مَاضٍ لَا عَلَى مَصْدَرٍ حَادِثٍ فِي الْحَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَغْوًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الطَّلَاقِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِتَصْحِيحِ هَذَا الْكَلَامُ مَصْدَرًا، أَيْ طَلَاقًا مِنْ قِبَلِ الْمُتَكَلِّمِ فِي الْحَالِ، وَجَعَلَهُ إنْشَاءً لِلتَّطْلِيقِ فَصَارَتْ دَلَالَتُهُ عَلَى هَذَا الْمَصْدَرِ اقْتِضَاءً لَا لُغَةً بِخِلَافِ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ افْعَلِي فِعْلَ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى مَصْدَرٍ مُغَايِرٍ لِمَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ لِطَلَبِ الطَّلَاقِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ فَلَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى تَصَوُّرِ وُجُودِهِ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ الثَّابِتُ بِهِ هُوَ نَفْسُ مَصْدَرِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لُغَةً لَا اقْتِضَاءً فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَلْفُوظِ فَيَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ، وَعَلَى الْكُلِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا عَلَى مَا عَرَفْت فِي نَحْوِ لَا آكُلُ، أَنَّ الْمَصْدَرَ الثَّابِتَ فِي ضِمْنِ الْفِعْلِ لَيْسَ بِعَامٍّ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَذْكُورًا نَحْوَ طَلِّقِي طَلَاقًا، وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، وَطَلَّقْتُك طَلَاقًا فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ عَلَى الْعُمُومِ كَيْفَ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَإِنْ قُلْت: فَمِنْ أَيْنَ صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؟ قُلْت مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ اسْمٌ دَالٌ عَلَى الْوَاحِدِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَهُوَ الْمَجْمُوعُ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ أَعْنِي الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ؛ لِأَنَّهُ الْمَجْمُوعُ فِي بَابِ الطَّلَاقِ.

طَالِقٌ، وَطَلَّقْتُك، وَنَوَى الثَّلَاثَ إنَّ نِيَّتَهُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَثْبُتُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ إنْشَاءُ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ لَا لُغَوِيٍّ فَيَكُونُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً بِخِلَافِ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ الطَّلَاقِ فَثُبُوتُ مَصْدَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِطَرِيقِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ عَلَى مَا يَأْتِي فَإِنْ قِيلَ: ثُبُوتُ الْبَيْنُونَةِ فِي أَنْتِ بَائِنٌ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الْبَيْنُونَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا، وَلَا كَذَلِكَ الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ إلَّا بِالْعَدَدِ وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ الْمَحْذُوفُ وَهُوَ مَا يُغَيِّرُ إثْبَاتُهُ الْمَنْطُوقَ بِخِلَافِ الْمُقْتَضَى. نَحْوُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أَيْ أَهْلَهَا (فَإِثْبَاتُهُ يُغَيِّرُ الْكَلَامَ بِنَقْلِ النِّسْبَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ عَلَى مَا شَرَحَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنْ قِيلَ فَلِمَ لَا تَجُوزُ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي الْمُقْتَضَى بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ؟ قُلْت؛ لِأَنَّهُ مَجَازٌ، وَالْمَجَازُ صِفَةُ اللَّفْظِ، وَالْمُقْتَضَى لَيْسَ بِلَفْظٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي ابْتِنَاءَهُ عَلَى عَدَمِ عُمُومِ الْمُقْتَضَى أَيْضًا، نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى الثَّلَاثَ لَكَانَ الطَّلَاقُ الثَّابِتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ قَدْ أُرِيدَ بِهِ جَمِيعُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَهُوَ مَعْنَى عُمُومِ الْمُقْتَضَى، وَلِهَذَا قَالَ: الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى، وَلِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا تَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدٌ اعْتِبَارِيٌّ، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ الْمَجَازِ إلَّا فِي اللَّفْظِ كَنِيَّةِ التَّخْصِيصِ، وَيَرِدُ عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ فُسِّرَ عَدَمُ عُمُومِ الْمُقْتَضَى بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إثْبَاتُ جَمِيعِ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَلِهَذَا لَا يُنَافِي الْجَوَازَ أَعْنِي صِحَّةَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ. (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ) هَذِهِ مُعَارَضَةٌ: تَقْرِيرُهَا أَنَّ صِيَغَ الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ مِثْلُ بِعْت، وَاشْتَرَيْت، وَنَكَحْت، وَطَلَّقْت كُلُّهَا فِي الشَّرْعِ إنْشَاءَاتٌ مَوْضُوعَةٌ لِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَعَانِي فَالطَّلَاقُ الثَّابِتُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ يَكُونُ ثَابِتًا بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا لَا مُتَقَدِّمًا فَيَكُونُ ثَابِتًا عِبَارَةً لَا اقْتِضَاءً فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ طَلَّقْت طَلَاقًا فَيَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لَا يُقَالُ: هَذَا وَارِدٌ عَلَى جَمِيعِ صُوَرِ الِاقْتِضَاءِ فَإِنَّ الْبَيْعَ، فِي مِثْلِ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي بِأَلْفٍ لَا يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِقَوْلِ الْمَأْمُورِ أَعْتَقْتُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَعْنَى التَّقَدُّمِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ أَوَّلًا لِيَصِحَّ مَدْلُولُ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْبَيْعُ مِنْ الْآمِرِ لَمْ يَصِحَّ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ شَرْعًا، وَهَاهُنَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ ثُبُوتُ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ أَوَّلًا لِيَصِحَّ الْإِيقَاعُ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ إلَّا بَعْدَ الْإِيقَاعِ بِهَذَا الْكَلَامِ فَأَجَابَ عَنْ الْمُعَارَضَةِ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ إنْشَاءً فِي الشَّرْعِ أَنَّهَا نُقِلَتْ عَنْ مَعْنَى الْأَخْبَارِ بِالْكُلِّيَّةِ وَوُضِعَتْ لِإِيقَاعِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِحَيْثُ يَكُونُ مَدْلُولَاتُهَا الْحَقِيقِيَّةُ ذَلِكَ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهَا صِيَغٌ يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ مَدْلُولَاتِهَا اللُّغَوِيَّةِ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْأُمُورِ

مِنْ الْقَرْيَةِ إلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ حَقِيقَةً هُوَ الْأَهْلُ فَيَكُونُ ثَابِتًا لُغَةً فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ فَيَجْرِي فِيهِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ) . قَوْلُهُ، وَلِذَلِكَ أَيْ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ أَصْلًا لَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ، وَطَلَّقْتُك فَإِنَّ دَلَالَةَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَلَّقْتُكِ عَلَى الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لَا بِطَرِيقِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَرْأَةِ بِالطَّلَاقِ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَا ثَابِتٌ لُغَةً فَإِنْ قِيلَ: الطَّلَاقُ الَّذِي يَثْبُتُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ كَيْفَ يَكُونُ ثَابِتًا بِالِاقْتِضَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى فِي اصْطِلَاحِهِمْ، هُوَ اللَّازِمُ وَالْمُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ يَثْبُتُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَثُبُوتُهُ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا فَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْعِبَارَةِ فَيَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؟ قُلْنَا عَنْهُ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِوَضْعِ الشَّرْعِ هَذَا اللَّفْظَ لِلْإِنْشَاءِ أَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ مَعْنَى الْإِخْبَارِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَضَعَهُ لِلْإِنْشَاءِ ابْتِدَاءً ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ فَيَعْتَبِرُ الشَّرْعُ إيقَاعَهَا مِنْ جِهَتِهِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ تَصْحِيحًا لِهَذَا الْكَلَامِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً وَقَدْ ثَبَتَتْ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْكَلَامِ يُسَمَّى إنْشَاءً وَلِهَذَا كَانَ جَعَلُهُ إنْشَاءً ضَرُورِيًّا حَتَّى لَوْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِكَوْنِهِ إخْبَارًا لَمْ يُجْعَلْ إنْشَاءً بِأَنْ يَقُولَ لِلْمُطَلَّقَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهَذِهِ الصِّيَغِ الْحُكْمُ بِنِسْبَةٍ خَارِجِيَّةٍ مَثَلًا " بِعْت " لَا يَدُلُّ عَلَى بَيْعٍ آخَرَ غَيْرِ الْبَيْعِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِنْشَاءِ إلَّا هَذَا، وَأَيْضًا لَا يُوجَدُ فِيهَا خَاصَّةُ الْأَخْبَارِ أَعْنِي احْتِمَالَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لِلْقَطْعِ بِتَخْطِئَةِ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهَا بِأَحَدِهِمَا، وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ طَلَّقْت إخْبَارًا لَكَانَ مَاضِيًا فَلَمْ يَقْبَلْ التَّعْلِيقَ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ تَوْقِيفُ أَمْرٍ عَلَى أَمْرٍ، وَأَيْضًا يَقْطَعُ كُلُّ أَحَدٍ فِيمَا إذَا قَالَ: لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ أَنْتِ طَالِقٌ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا قَصَدَ إنْشَاءَ طَلَاقٍ ثَانٍ وَبَيْنَ مَا إذَا أَرَادَ الْإِخْبَارَ عَنْ الطَّلَاقِ السَّابِقِ. وَبِالْجُمْلَةِ كَوْنُ هَذِهِ الصِّيَغِ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْشَاءِ ظَاهِرٌ، وَلِهَذَا تَحَاشَى الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ التَّصْرِيحِ بِكَوْنِهَا أَخْبَارًا لَكِنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الطَّلَاقِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الصِّيغَةِ خَبَرًا وَإِلَّا فَهُوَ ثَابِتٌ بِالْعِبَارَةِ قَطْعًا، الثَّانِي أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ طَالِقٌ لُغَةً صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ فِي ذَاتِهِ بَلْ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ مَلْزُومِهِ أَعْنِي التَّطْلِيقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ، وَهُوَ هَاهُنَا غَيْرُ ثَابِتٍ لُغَةً بَلْ اقْتِضَاءً فَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ فَلَا يَصِحُّ فِيمَا يُبْتَنَى تَعَدُّدُهُ عَلَيْهِ قَالَ: وَهَذَا الْوَجْهُ مَذْكُورٌ فِي الْهِدَايَةِ، وَهُوَ غَيْرُ شَامِلٍ لِمِثْلِ طَلَّقْتُك، وَهَذَا لَيْسَ اعْتِرَاضًا عَلَى الْهِدَايَةِ بَلْ عَلَى جَعْلِ هَذَا الْكَلَامِ جَوَابًا عَنْ الْمُعَارَضَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ ذِكْرَ الطَّالِقِ ذِكْرٌ لِلطَّلَاقِ لُغَةً كَذِكْرِ الْعَالِمِ ذِكْرٌ لِلْعِلْمِ فَقَالَ ذِكْرُ الطَّالِقِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ هُوَ صِفَةُ لِلْمَرْأَةِ لَا لِطَلَاقٍ هُوَ تَطْلِيقٌ هَذِهِ عِبَارَتُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى مَا ذَكَرَ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّابِتَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ

بَلْ الشَّرْعُ فِي جَمِيعِ أَوْضَاعِهِ اعْتَبَرَ الْأَوْضَاعَ اللُّغَوِيَّةَ حَتَّى اخْتَارَ لِلْإِنْشَاءِ أَلْفَاظًا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ مَعَانِيهَا فِي الْحَالِ كَأَلْفَاظِ الْمَاضِي، وَالْأَلْفَاظِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْحَالِ فَإِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ لِلْإِخْبَارِ يَجِبُ كَوْنُ الْمَرْأَةِ مَوْصُوفَةً بِهِ فِي الْحَالِ فَيُثْبِتُ الشَّرْعُ الْإِيقَاعَ مِنْ جِهَةِ الْمُتَكَلِّمِ اقْتِضَاءً لِيَصِحَّ هَذَا الْكَلَامُ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً فَهَذَا مَعْنَى وَضْعِ الشَّرْعِ لِلْإِنْشَاءِ، وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ لِلْمُقْتَضَى وَلِأَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ إنَّمَا تَصِحُّ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الثَّلَاثَ وَاحِدٌ اعْتِبَارِيٌّ، وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْمَجَازِ إلَّا فِي اللَّفْظِ كَنِيَّةِ التَّخْصِيصِ، وَثَانِيهمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لُغَةً، وَيَدُلُّ عَلَى التَّطْلِيقِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ اقْتِضَاءً فَاَلَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فِي ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا التَّعَدُّدُ فِي التَّطْلِيقِ حَقِيقَةً، وَبِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِهِ يَتَعَدَّدُ لَازِمِهِ أَيْ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ فَلَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَأَمَّا الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ اقْتِضَاءً، وَهَذَا الْوَجْهُ مَذْكُورٌ فِي الْهِدَايَةِ، وَالْجَوَابُ الْأَوَّلُ شَامِلٌ لِأَنْتِ طَالِقٌ، وَطَلَّقْتُك، وَالثَّانِي مَخْصُوصٌ بِأَنْتِ طَالِقٌ، وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا أَوْ أَنْتِ الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ فِيهِمَا نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَوَجْهُهُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ الثَّانِي مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ ـــــــــــــــــــــــــــــQثَابِتٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ فَلَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الْمُعَارَضَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَهُوَ أَنَّ التَّطْلِيقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الرَّجُلِ لَيْسَ بِثَابِتٍ اقْتِضَاءً بَلْ عِبَارَةً؛ لِأَنَّ مِثْلَ أَنْتِ طَالِقٌ وَطَلَّقْتُك فِي الشَّرْعِ إنْشَاءٌ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِلزَّوْجِ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ ثَابِتًا بِهِ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ فَتَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ، وَلَا مَدْفَعَ لِذَلِكَ إلَّا مَنْعُ كَوْنِهِ إنْشَاءً، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ إخْبَارٌ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الطَّلَاقِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ تَصْحِيحًا لَهُ فَيَصِيرُ بِعَيْنِهِ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ فِي الْهِدَايَةِ مَنْقُوضٌ بِمِثْلِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، وَأَنْتِ الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ صِفَةُ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ صَحَّتْ نِيَّةُ الثَّلَاثِ اتِّفَاقًا، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَمَّا تَوَلَّى الثَّلَاثَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّلَاقِ التَّطْلِيقَ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدَهُ عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ أَنْتِ طَالِقٌ بِأَنْتِ ذَاتٌ وَقَعَ عَلَيْك التَّطْلِيقُ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لَا يُقَالُ: صِحَّةُ نِيَّةِ الثَّلَاثِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ الطَّلَاقِ مُرَادًا بِهِ التَّطْلِيقُ، وَلَوْ تَوَقَّفَ ذَلِكَ عَلَى نِيَّةِ الثَّلَاثِ لَزِمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى نِيَّةِ الثَّلَاثِ هُوَ عِلْمُنَا بِأَنَّهُ أَرَادَ بِالطَّلَاقِ التَّطْلِيقَ لَا نَفْسَ إرَادَتِهِ لَا يُقَالُ: الْجَوَابُ الثَّانِي لَيْسَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لَا يَتَعَدَّدُ، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ أَصْلًا بَلْ إنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِيهِ إلَّا بِتَبَعِيَّةِ التَّطْلِيقِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ النَّقْضُ لِأَنَّا نَقُولُ: التَّطْلِيقُ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ لَهُ لِذَاتِهِ ثَابِتٌ فِي أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، وَأَنْتِ الطَّلَاقُ بِطَرِيقِ

الثَّانِي هُوَ أَنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَفِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا، لَا شَكَّ أَنَّ طَلَاقًا هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ. فَنَقُولُ: إذَا نَوَى الثَّلَاثَ تَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّلَاقِ هُوَ التَّطْلِيقُ فَيَكُونُ مَصْدَرُ الْفِعْلِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ لِأَنِّي طَلَّقْتُك تَطْلِيقَاتٍ، وَقَوْلُهُ ثَلَاثًا أَنْتِ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى الثَّلَاثَ فَمَعْنَاهُ أَنْتِ ذَاتٌ، وَقَعَ عَلَيْك التَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ، وَأَمَّا عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجِيءُ هَذَا الْإِشْكَالُ إذْ لَمْ يَقُلْ: إنَّ الطَّلَاقَ الَّذِي هُوَ صِفَةُ الْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ بَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَالطَّلَاقُ مَلْفُوظٌ فَيَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِلْمَرْأَةِ، وَقَوْلُهُ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ إذَا كَانَ كَالْمَلْفُوظِ لَكِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ، وَهُوَ اسْمٌ فَرْدٌ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ أَوْ الِاعْتِبَارِيِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ إذَا كَانَتْ مَلْفُوظَةً لَا تَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ عَلَى الْوَاحِدِ إمَّا حَقِيقَةً أَوْ اعْتِبَارًا عَلَى مَا يَأْتِي فِي فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعُمُومِ، وَالتَّكْرَارُ أَنَّ الطَّلَاقَ اسْمٌ فَرْدٌ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ الْحَقِيقِيَّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْوَاحِدُ الِاعْتِبَارِيُّ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ، وَالْمَجْمُوعُ فِي الطَّلَاقِ هُوَ الثَّلَاثُ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ ثُبُوتُ الْبَيْنُونَةِ هَذَا إشْكَالٌ عَلَى بُطْلَانِ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ إنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَثْبُتُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ إنْشَاءً أَمْرٌ شَرْعِيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاقْتِضَاءِ كَمَا فِي أَنْتِ طَالِقٌ بِعَيْنِهِ فَلَوْ كَانَ صِحَّةُ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فِي الطَّلَاقِ مَبْنِيًّا عَلَى صِحَّتِهِ فِي التَّطْلِيقِ لَمَا صَحَّتْ هَاهُنَا، وَهُوَ النَّقْضُ، وَهُوَ لَا يَنْدَفِعُ إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى فِي اصْطِلَاحِهِمْ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ كَيْفَ يَكُونُ بِمَعْنَى لَا يَكُونُ. (قَوْلُهُ أَيْ إذَا كَانَ كَالْمَلْفُوظِ) شَرْطٌ، جَوَابُهُ قَوْلُهُ: لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ تَقْدِيرُهُ إذَا كَانَ كَالْمَلْفُوظِ وَهُوَ لَيْسَ بِاسْمٍ عَامٍّ لَكِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ (قَوْلُهُ قُلْنَا نَعَمْ) يَعْنِي أَنَّ صِحَّةَ نِيَّةِ الثَّلَاثِ فِي أَنْتِ بَائِنٌ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى عُمُومِ الْمُقْتَضَى بَلْ مِنْ قَبِيلِ إرَادَةِ أَحَدِ مَعْنَيَيْ الْمُشْتَرَكِ أَوْ أَحَدِ نَوْعَيْ الْجِنْسِ فِي بَابِ الْمُقْتَضَى، وَهُوَ جَائِزٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى الْخَفِيفَةِ، وَهِيَ الْقَاطِعَةُ لِلْحِلِّ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ فِي الْحَالِ، وَعَلَى الْغَلِيظَةِ، وَهِيَ الْقَاطِعَةُ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ بِأَنْ لَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْبَيْنُونَةِ مَوْضُوعًا لِكُلٍّ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ وَضْعًا عَلَى حِدَةٍ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لَفْظًا، وَإِلَّا لَكَانَ جِنْسُهُمَا لَهُمَا. (قَوْلُهُ لَكِنْ لَا يَصِحُّ فِيهِ) أَيْ فِي الْمُقْتَضَى نِيَّةُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ، أَيْ كَائِنٍ فِي الْمُقْتَضَى، وَهَذَا تَكْرِيرٌ لِمَا سَبَقَ، وَزِيَادَةُ تَوْضِيحٍ لِلْمَقْصُودِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِيَّةُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ فِي الْمُقْتَضَى لَا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ، وَلَا عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا) أَيْ فِي النَّوْعَيْنِ الْأَقَلُّ الْمُتَيَقَّنُ يُشْكِلُ بِمَا قَالُوا: إنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا تَعَيَّنَ الْأَدْنَى، أَيْ الْخَفِيفَةُ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يُمْكِنْ رَفْعُهُ أَصْلًا) وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ فِي الرَّجْعِيِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْحَالِ حُكْمُ الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ إزَالَةُ

[فصل مفهوم المخالفة]

لَا لُغَوِيٌّ فَيَكُونُ ثَابِتًا اقْتِضَاءً فَلَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فَكَذَلِكَ ثُبُوتُ الْبَيْنُونَةِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ بَائِنٌ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَقَوْلُهُ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الْبَيْنُونَةَ جَوَابٌ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ، وَوَجْهُهُ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْبَيْنُونَةَ ثَابِتَةٌ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لَكِنَّ الْبَيْنُونَةَ مِنْ حَيْثُ هِيَ الْبَيْنُونَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ الْخَفِيفَةِ، وَهِيَ الَّتِي يُمْكِنُ رَفْعُهَا، وَالْغَلِيظَةِ، وَهِيَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ رَفْعُهَا، وَهِيَ الثَّلَاثُ أَوْ هِيَ جِنْسٌ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمَا، وَنِيَّةُ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ صَحِيحَةٌ فِي الْمُقْتَضَى، وَكَذَلِكَ نِيَّةُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ أَحَدُهُمَا، وَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَهُمَا لَكِنْ لَا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ فِيهِ إذْ لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْأَفْرَادِ أَصْلًا؛ وَلِأَنَّ الْمُقْتَضَى ثَابِتٌ ضَرُورَةً، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ فَيَثْبُتُ مَا تَرْتَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ، وَهُوَ الْأَقَلُّ الْمُتَيَقَّنُ، وَلَا كَذَلِكَ فِي النَّوْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا الْأَقَلُّ الْمُتَيَقَّنَ؛ لِأَنَّ الْأَنْوَاعَ لَا تَكُونُ إلَّا مُتَنَافِيَةً فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَصِحَّ نِيَّةُ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ. وَأَيْضًا لَا تَصِحُّ نِيَّةُ الْمَجَازِ فِي الْمُقْتَضَى كَنِيَّةِ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فِي أَنْتِ طَالِقٌ طَلَاقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا وَاحِدٌ اعْتِبَارِيٌّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَوْلُهُ، وَلَا كَذَلِكَ الطَّلَاقُ فَإِنَّهُ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَفْرَادِهِ بِحَسَبِ النَّوْعِ بَلْ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعَدَدِ فَقَطْ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الطَّلَاقَ يَتَنَوَّعُ عَلَى مَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ وَعَلَى مَا لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ أَصْلًا، وَقَوْلُهُ، وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ أَيْ بِالْمُقْتَضَى هُوَ الْمَحْذُوفُ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمِلْكِ لِكَوْنِهِ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ جَعْلِهِ بَائِنًا، وَلَا إزَالَةَ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى انْضِمَامِ الطَّلْقَتَيْنِ إلَيْهِ، وَعَدَمُ ثُبُوتِ حُكْمِ الشَّيْءِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ شَرَائِطِهِ لَيْسَ رَفْعًا لَهُ. (قَوْلُهُ، وَمِمَّا يَتَّصِلُ) وَجْهُ اتِّصَالِ الْمَحْذُوفِ بِالْمُقْتَضَى ظَاهِرٌ حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ جَعَلُوهُ مِنْ الْمُقْتَضَى، وَفَسَّرُوا الْمُقْتَضَى بِجَعْلِ غَيْرِ الْمَنْطُوقِ مَنْطُوقًا تَصْحِيحًا لِلْمَنْطُوقِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا أَوْ لُغَةً، وَبَعْضُهُمْ فَرَّقُوا بِأَنَّ الْمَحْذُوفَ مَفْهُومٌ يُغَيِّر إثْبَاتُهُ الْمَنْطُوقَ، وَالْمُقْتَضَى مَفْهُومٌ لَا يُغَيِّرُ إثْبَاتُهُ الْمَنْطُوقَ فَالْمَحْذُوفُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ يَجْرِي فِيهِ مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، وَتَكُونُ دَلَالَتُهُ عَلَى مَعْنَاهُ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ دَلَالَةً أَوْ اقْتِضَاءً، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ تَوَجُّهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُقْتَضَى وَالْمَحْذُوفِ وُجُودُ التَّغْيِيرِ وَعَدَمُهُ، فَلَا تَغْيِيرَ فِي مِثْلِ فَانْفَجَرَتْ، أَيْ فَضَرَبَهُ فَانْفَجَرَتْ، وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً {فَأَرْسِلُونِ - يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ} [يوسف: 45 - 46] ، أَيْ أَرْسَلُوهُ فَأَتَاهُ، وَقَالَ: أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْمَحْذُوفِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ عَدَمَ التَّغْيِيرِ لَازِمٌ فِي الْمُقْتَضَى وَلَيْسَ بِلَازِمٍ فِي الْمَحْذُوفِ لَمْ يَتَمَيَّزْ الْمَحْذُوفُ الَّذِي لَا تَغْيِيرَ فِيهِ عَنْ الْمُقْتَضَى [فَصْلٌ مَفْهُوم الْمُخَالَفَةِ] [شَرْطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) قَسَّمَ الشَّافِعِيَّةُ الْمَفْهُومَ إلَى مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ، أَيْ غَيْرُ الْمَذْكُورِ مُوَافِقًا لِلْمَنْطُوقِ، أَيْ الْمَذْكُورِ فِي الْحُكْمِ إثْبَاتًا وَنَفْيًا، وَإِلَى مَفْهُومِ مُخَالَفَةٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ

النَّاسِ الْمَحْذُوفُ بِالْمُقْتَضَى، وَلَا يَعْرِفُونَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَيُعْطُونَ أَحَدَهُمَا حُكْمَ الْآخَرِ، وَيَغْلَطُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِنْ تَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْمَحْذُوفَ يَصِيرُ قِسْمًا خَامِسًا بَعْدَ الْعِبَارَةِ، وَالْإِشَارَةِ، وَالدَّلَالَةِ، وَالِاقْتِضَاءِ فَيَبْطُلُ الْحَصْرُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فَهَذَا وَهْمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَنَا بِاللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْمَعْنَى فِي مَوْرِدِ الْقِسْمَةِ اللَّفْظُ إمَّا حَقِيقَةً وَإِمَّا تَقْدِيرًا، وَكُلُّ مَا هُوَ مَحْذُوفٌ فَهُوَ غَيْرُ مَلْفُوظٍ لَكِنَّهُ ثَابِتٌ لُغَةً فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَلْفُوظِ فَيَكُونُ اللَّفْظُ الْمَنْطُوقُ دَالًّا عَلَى اللَّفْظِ الْمَحْذُوفِ، ثُمَّ اللَّفْظُ الْمَحْذُوفُ دَالٌّ عَلَى مَعْنَاهُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ فَالدَّلَالَةُ الْمُنْقَسِمَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى أَمَّا دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى لَفْظٍ آخَرَ فَلَيْسَتْ مِنْ بَابِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى (فَصْلٌ اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُونَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا ثَبَتَ فِي الْمَنْطُوقِ، وَشَرْطُهُ) أَيْ، وَشَرْطُهُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ (أَنْ لَا تَظْهَرَ أَوْلَوِيَّتُهُ) أَيْ أَوْلَوِيَّةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنْ الْمَنْطُوقِ بِالْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ (وَلَا مُسَاوَاتُهُ إيَّاهُ) أَيْ مُسَاوَاةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ الْمَنْطُوقَ فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ لِلْمَنْطُوقِ حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَوْلَوِيَّةُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ أَوْ مُسَاوَاتُهُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ الَّذِي وَرَدَ فِي الْمَنْطُوقِ أَوْ بِقِيَاسِهِ عَلَيْهِ (وَلَا يَخْرُجُ) أَيْ الْمَنْطُوقُ (مَخْرَجَ الْعَادَةِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] حَرَّمَ الرَّبَائِبَ عَلَى أَزْوَاجِ الْأُمَّهَاتِ، وَوُصِفْنَ بِكَوْنِهِنَّ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْهُ مُخَالِفًا لَهُ فِيهِ، وَشَرَطُوا لِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ الشَّرَائِطَ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا، وَقَالَ فِي آخِرِ ذِكْرِ الشَّرَائِطِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ الْمَنْطُوقِ بِالذِّكْرِ فَعُلِمَ أَنَّ شَرْطَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِتَخْصِيصِ الْمَنْطُوقِ بِالذِّكْرِ فَائِدَةٌ غَيْرُ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَالْمُصَنِّفُ حَصَرَ الشَّرَائِطَ فِي الْمَعْدُودَاتِ، وَسَكَتَ عَنْ تَعْمِيمِهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ عَلَى دَلِيلِهِمْ فِي مَفْهُومِ الصِّفَةِ وَالشَّرْطِ بِإِيرَادِ صُوَرٍ تُوجَدُ فِيهَا الشَّرَائِطُ الْمَعْدُودَةُ مَعَ عَدَمِ نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَوْلُهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ أَوْلَوِيَّتَهُ، وَلَا مُسَاوَاتَهُ) حَتَّى لَوْ ظَهَرَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ، أَيْ مَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ أَوْ بِالْقِيَاسِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ، أَيْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فِي صُورَةِ الْأَوْلَوِيَّةِ، وَبِالْقِيَاسِ فِي صُورَةِ الْمُسَاوَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَغَيْرِهِ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُوَافَقَةِ تَنْبِيهٌ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى، وَلِذَلِكَ، كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ أَوْلَى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثُّبُوتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فِي صُورَةِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَالْمُسَاوَاةِ أَيْضًا إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الِاجْتِهَادِ، وَبِالْقِيَاسِ إذَا تَوَقَّفَتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ النَّصِّ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْأَوْلَوِيَّةِ كَثُبُوتِ الرَّجْمِ فِي الزِّنَا بِدَلَالَةِ نَصٍّ

[أقسام مفهوم المخالفة]

حُجُورِهِمْ فَلَوْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْوَصْفُ لَا يُقَالُ: بِانْتِفَاءِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَصَفَ الرَّبَائِبَ بِكَوْنِهِنَّ فِي حُجُورِهِمْ إخْرَاجًا لِلْكَلَامِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ فَإِنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِكَوْنِ الرَّبَائِبِ فِي حُجُورِهِمْ فَحِينَئِذٍ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ. (وَلَا يَكُونُ) أَيْ الْمَنْطُوقُ (لِسُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ) كَمَا إذَا سُئِلَ عَنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ لَا الْإِبِلِ السَّائِمَةِ مَثَلًا فَقَالَ: بِنَاءً عَلَى السُّؤَالِ أَوْ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ الْحَادِثَةِ إنَّ «فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ زَكَاةً» فَوَصْفُهَا بِالسَّوْمِ هَاهُنَا لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عِنْدَ عَدَمِ السَّوْمِ (أَوْ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِسُؤَالِي (بِأَنَّ السَّامِعَ يَسْمَعُ هَذَا الْحُكْمَ الْمَخْصُوصَ) كَمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ السَّامِعَ لَا يَعْلَمُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ فَقَالَ: بِنَاءً عَلَى هَذَا: إنَّ فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ لَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ السَّوْمِ فَإِذَا بَيَّنَّ شَرَائِطَ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ شَرَعَ فِي أَقْسَامِهِ فَقَالَ: (مِنْهُ) أَيْ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَهِيَ (أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِاسْمِهِ) سَوَاءٌ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ أَوْ اسْمَ عَلَمٍ (يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ) أَيْ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ الشَّيْءِ (عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» ) أَيْ الْغُسْلُ مِنْ الْمَنِيِّ (عَدَمَ وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِكْسَالِ) ، وَهُوَ أَنْ يَفْتُرَ الذَّكَرُ قَبْلَ الْإِنْزَالِ (وَعِنْدَنَا لَا يَدُلُّ وَلَا يَلْزَمُ الْكُفْرُ وَالْكَذِبُ فِي: مُحَمَّدٌ رَسُولِ اللَّهِ، وَفِي: زَيْدٌ مَوْجُودٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَرَدَ فِي مَاعِزٍ، وَفِي غَيْرِ مَاعِزٍ [أَقْسَامِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ] [تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِاسْمِهِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ] (قَوْلُهُ وَإِلَّا يَلْزَمُ الْكُفْرُ وَالْكَذِبُ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَزَيْدٌ مَوْجُودٌ) يَعْنِي يَلْزَمُ الْأَمْرَانِ فِي كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ مُحَمَّدٍ لَيْسَ بِرَسُولِ اللَّهِ، وَهُوَ كَذِبٌ وَكُفْرٌ، وَالثَّانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ زَيْدٍ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَهُوَ أَيْضًا كَذِبٌ وَكُفْرٌ لِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى وَالْمُصَنِّفُ خَصَّصَ الْكُفْرَ بِالْأَوَّلِ، وَالْكَذِبَ بِالثَّانِي فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ شَرَائِطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ هَاهُنَا مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَضَى لِلتَّخْصِيصِ بِالذِّكْرِ هُوَ قَصْدُ الْإِخْبَارِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَوُجُودِ زَيْدٍ، وَلَا طَرِيقَ إلَى ذَلِكَ سِوَى التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ قُلْنَا فَحِينَئِذٍ لَا يَتَحَقَّقُ مَفْهُومُ اللَّقَبِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ حَاصِلَةٌ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ. (قَوْلُهُ، وَلَإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ) يَعْنِي أَنَّ الْقَوْلَ بِمَفْهُومِ اللَّقَبِ يُؤَدِّي إلَى نَفْيِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَعْلِيلُ النَّصِّ، وَإِثْبَاتُ حُكْمِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيمَا يُشَارِكُهُ فِي الْعِلَّةِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْفَرْعَ إنْ تَنَاوَلَهُ اسْمُ الْأَصْلِ فَلَا قِيَاسَ لِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِيهِ بِالنَّصِّ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ فَقَدْ دَلَّ النَّصُّ بِحَسْب الْمَفْهُومِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ إذْ لَا عِبْرَةَ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلنَّصِّ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ مَوْضِعَ الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ الْمُسَاوَاةَ، وَمِنْ شَرْطِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عَدَمَهَا عَلَى مَا مَرَّ، وَاسْتُدِلَّ أَيْضًا بِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْمَنْطُوقِ فِي إيجَابِ الْحُكْمِ مَعَ أَنَّهُ وُضِعَ لِلْإِيجَابِ فَلَأَنْ لَا يَتَنَاوَلَ غَيْرَهُ لِنَفْيِ

[تخصيص الشيء بالوصف يدل على نفي الحكم عما عداه]

وَنَحْوِهِمَا) أَيْ إنْ دَلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَا يَلْزَمُ الْكُفْرُ فِي قَوْلِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ مُحَمَّدٍ رَسُولَ اللَّهِ، وَهُوَ كُفْرٌ، وَيَلْزَمُ الْكَذِبُ فِي: زَيْدٌ مَوْجُودٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ زَيْدٍ مَوْجُودًا (وَلِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ) فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ التَّعْلِيلِ وَالْقِيَاسِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِاسْمِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ إثْبَاتُ حُكْمٍ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِلْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْحُكْمِ الْمُخَالِفِ فِيمَا عَدَاهُ (، وَإِنَّمَا فَهِمُوا ذَلِكَ) أَيْ عَدَمَ وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْإِكْسَالِ (مِنْ اللَّازِمِ، وَهُوَ لِلِاسْتِغْرَاقِ غَيْرَ أَنَّ الْمَاءَ يَثْبُتُ مَرَّةً عِيَانًا، وَمَرَّةً دَلَالَةً) جَوَابٌ عَنْ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَمَّا قُلْتُمْ إنَّ اللَّامَ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ أَفْرَادِ الْغُسْلِ فِي صُورَةِ وُجُودِ الْمَنِيِّ فَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بِلَا مَاءٍ فَأَجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ بِدُونِ الْمَاءِ إلَّا أَنَّ الْتِقَاءَ الْخِتَانَيْنِ دَلِيلُ الْإِنْزَالِ، وَالْإِنْزَالُ أَمْرٌ خَفِيٌّ فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَ دَلِيلِ الْإِنْزَالِ، وَهُوَ الْتِقَاءُ الْخِتَانَيْنِ كَمَا تَدُورُ الرُّخْصَةُ مَعَ دَلِيلِ الْمَشَقَّةِ وَهُوَ السَّفَرُ (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَهِيَ (أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) أَوْ نَقُولُ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ مُبْتَدَأٌ، وَمِنْهُ خَبَرُهُ، وَقَوْلُهُ يَدُلُّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ، وَهُوَ الرَّاجِعُ إلَى تَخْصِيصِ الشَّيْءِ، وَقَوْلُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحُكْمِ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوضَعْ لِلنَّفْيِ أَوْلَى. ، وَبِأَنَّ مَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إثْبَاتِ شَيْءٍ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إثْبَاتِ ضِدِّهِ، وَرُدَّ كِلَاهُمَا بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ النَّصُّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ بِالْمَنْطُوقِ، وَنَفْيَهُ عَنْ مَحَلٍّ آخَرَ بِالْمَفْهُومِ، وَيَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ فِي مَحَلٍّ، وَإِثْبَاتِ ضِدِّهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَعَدَمِ تَنَاوُلَ النَّصِّ لِغَيْرِ الْمَنْطُوقِ عَيْنَ النِّزَاعِ بَلْ يَتَنَاوَلُهُ نَفْيًا لَا إثْبَاتًا (قَوْلُهُ، وَهُوَ) أَيْ اللَّامُ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ أَفْرَادِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ نَاشِئَةٌ مِنْ وُجُودِ الْمَنِيِّ بِقَرِينَةِ وُرُودِ الْحَدِيثِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ [تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ] (قَوْلُهُ وَمِنْهُ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالصِّفَةِ) أَيْ نَقْضُ شُيُوعِهِ، وَتَقْلِيلُ اشْتِرَاكِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَى مَا لَهُ تِلْكَ الصِّفَةُ، وَعَلَى غَيْرِهِ فَيَتَقَيَّدُ بِالْوَصْفِ لِيَقْتَصِرَ عَلَى الدَّلَالَةِ عَلَى مَا لَهُ تِلْكَ الصِّفَةُ دُونَ الْقِسْمِ الْآخَرِ، وَلِهَذَا قَدْ يُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِإِحْدَى صِفَتَيْ الذَّاتِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى دَلَالَتِهِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا لَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ عُرْفًا، وَلِهَذَا يُسْتَقْبَحُ مِثْلُ: الْإِنْسَانُ الطَّوِيلُ لَا يَطِيرُ، وَأَجَابَ بِأَنَّ الِاسْتِقْبَاحَ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ فَائِدَةِ التَّخْصِيصِ فِي هَذَا الْمِثَالِ، وَالْمِثَالُ الْجُزْئِيُّ لَا يُصَحِّحُ الْقَاعِدَةَ الْكُلِّيَّةَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فَهِمُوا ذَلِكَ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي صُوَرٍ جُزْئِيَّةٍ، وَالْغَرَضُ مِنْ الْمِثَالِ التَّنْبِيهُ

عَمَّا عَدَاهُ أَيْ مَا عَدَا ذَلِكَ الْوَصْفَ، وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْحُكْمِ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] خَصَّ الْحِلَّ بِالْفَتَيَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَيَلْزَمُ عِنْدَهُمْ عَدَمُ حِلِّ نِكَاحِ الْفَتَيَاتِ، أَيْ الْإِمَاءِ غَيْرِ الْمُؤْمِنَاتِ (لِلْعُرْفِ فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ: الْإِنْسَانُ الطَّوِيلُ لَا يَطِيرُ يَتَبَادَرُ الْفَهْمُ مِنْهُ إلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلِهَذَا يَسْتَقْبِحُهُ الْعُقَلَاءُ) ، وَالِاسْتِقْبَاحُ لَيْسَ لِأَجْلِ نِسْبَةِ عَدَمِ الطَّيَرَانِ إلَى الْإِنْسَانِ الطَّوِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: الْإِنْسَانُ الطَّوِيلُ، وَغَيْرُ الطَّوِيلِ لَا يَطِيرُ لَا يَسْتَقْبِحُهُ الْعُقَلَاءُ فَعُلِمَ أَنَّ الِاسْتِقْبَاحَ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الطَّوِيلِ يَطِيرُ (وَلِتَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تِلْكَ الْفَائِدَةُ لَكَانَ ذِكْرُهُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَكَانَ الْحُكْمُ فِيمَا عَدَا الْمَوْصُوفِ ثَابِتًا فَتَخْصِيصُ الْحُكْمِ بِالْمَوْصُوفِ يَكُونُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ تَقْدِيرُ عَدَمِ الْمُرَجِّحَاتِ الْأُخَرِ كَالْخُرُوجِ مَخْرَجَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى أَنَّ كُلَّ صُورَةٍ تَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ أُخْرَى يَفْهَمُ مِنْهُ أَهْلُ اللِّسَانِ هَذَا الْمَعْنَى فَلَوْلَا أَنَّهُمْ عَارِفُونَ أَنَّهُ لُغَةٌ لَمَا فَهِمُوهُ، الثَّانِي أَنَّ الْحَمْلَ عَلَى إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ، وَنَفْيِ غَيْرِهِ أَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ إثْبَاتِ الْمَذْكُورِ وَحْدَهُ، وَتَكْثُرُ الْفَائِدَةُ مِمَّا يُرَجَّحُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مُلَائِمًا لِغَرَضِ الْعُقَلَاءِ فَإِنْ قِيلَ: فَحِينَئِذٍ تَتَوَقَّفُ دَلَالَتُهُ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ عَلَى تَكْثِيرِ الْفَائِدَةِ إذْ بِهِ تَثْبُتُ وَتَكْثُرُ الْفَائِدَةُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِدَلَالَتِهِ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ دَوْرٌ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ هُوَ تَكَثُّرُ الْفَائِدَةِ عَقْلًا، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ دَلَّ كَثُرَتْ الْفَائِدَةُ، وَلَا تَكْثُرُ الْفَائِدَةُ عَيْنًا، وَهُوَ حُصُولُهَا فِي الْوَاقِعِ، وَالْمُتَوَقِّفُ عَلَى الدَّلَالَةِ هُوَ تَكَثُّرُ الْفَائِدَةِ عَيْنًا لَا عَقْلًا، أَيْ حُصُولُهَا فِي الْوَاقِعِ لَا تَعَقُّلُ حُصُولِهَا عِنْدَ الدَّلَالَةِ، وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْوَضْعَ لَا يَثْبُتُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ بَلْ بِالنَّقْلِ فَلَمْ يَذْكُرْهُ لِظُهُورِهِ، الثَّالِثُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ الدَّلَالَةُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَنْ الْغَيْرِ لَكَانَ ذِكْرُ الْوَصْفِ تَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ عَدَمُ الْفَوَائِدِ الْأُخَرِ، وَاللَّازِمُ ظَنٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ تَخْصِيصُ كَلَامِ آحَادِ الْبُلَغَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ مُرَجِّحَةٍ فَكَلَامُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَجْدَرُ، وَلَيْسَ هَذَا إثْبَاتًا لِلْوَضْعِ بِمَا فِيهِ مِنْ الْفَائِدَةِ بَلْ بِالِاسْتِقْرَاءِ عَنْهُمْ أَنَّ كُلَّ مَا ظُنَّ أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي اللَّفْظِ سِوَاهُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا، وَهَذَا كَذَلِكَ فَانْدَرَجَ فِي الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ الِاسْتِقْرَائِيَّة، وَلَا يَجْرِي هَذَا فِي مَفْهُومِ اللَّقَبِ؛ لِأَنَّ الْمُرَجِّحَ هُنَاكَ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَبَّرْ عَنْهُ بِالِاسْمِ لَاخْتَلَّ الْمَقْصُودُ لَا يُقَالُ الْمُرَجِّحُ هُوَ نَيْلُ ثَوَابِ الِاجْتِهَادِ بِأَنْ يُقَاسَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ عَلَى الْمَنْطُوقِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَحَلُّ الْقِيَاسِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ لِمَا مَرَّ، الرَّابِعُ أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالشَّيْءِ الْمَذْكُورِ صِفَتُهُ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ فَيَقْتَضِي عَدَمَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِانْتِفَاءِ الْمَعْلُولِ بِانْتِفَاءِ الْعِلَّةِ. (قَوْلُهُ وَعِنْدَنَا لَا يَدُلُّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا ذُكِرَ) فَإِنْ قِيلَ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ

الْعَادَةِ إلَخْ. (وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ هَذَا الْوَصْفِ نَحْوُ فِي الْإِبِلِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ فَيَقْتَضِي الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ، وَعِنْدَنَا لَا يَدُلُّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا ذُكِرَ) اعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ذَكَرُوا فِي شَرَائِطِهِ أَنَّ التَّخْصِيصَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مَخْرَجَ الْعَادَةِ، وَلَمْ يَكُنْ لِسُؤَالٍ أَوْ حَادِثَةٍ أَوْ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّ السَّامِعَ يَجْهَلُ هَذَا الْحُكْمَ الْمَخْصُوصَ فَجَعَلُوا مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ بِالْحُكْمِ مُنْحَصِرَةً فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَفِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةُ عُلِمَ أَنَّ التَّخْصِيصَ لِنَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَأَقُولُ: إنَّ مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ لَا تَنْحَصِرُ فِي تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ (نَحْوُ: الْجِسْمُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ الْعَمِيقُ مُتَحَيِّزٌ) فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُوجَدُ فِيهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُرَادُ مِنْهُ نَفْيُ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِنَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ يَلْزَمُ أَنَّ الْجِسْمَ الَّذِي لَا يُوجَدُ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ بِإِبْطَالِ أَدِلَّةِ الْخَصْمِ بَلْ بَعْضِهَا فَلَا يَكُونُ مُوَجَّهًا قُلْت إذَا كَانَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ دَعْوَى ثُبُوتِ الشَّيْءِ، وَالْمَطْلُوبُ مَنْعُ ذَلِكَ وَنَفْيُهُ، كَفَى فِي الْمَطْلُوبِ رَدُّ مَا ذَكَرَهُ الْحَصْمُ مِنْ الْأَدِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُنْتَفٍ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَإِنَّمَا سَكَتَ عَنْ رَدِّ الْبَعْضِ لِظُهُورِهِ، عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا عَلَى مَذْهَبِهِ لِمَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ قُلْت أَوَّلُ شَرَائِطِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنْ لَا يُظْهِرَ أَوْلَوِيَّةً وَلَا مُسَاوَاةً عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، أَيْضًا فَكَيْفَ ادَّعَى أَنَّهُمْ حَصَرُوا مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ؟ قُلْت؛ لِأَنَّ ظُهُورَ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ الْمُسَاوَاةِ، وَإِنْ شُرِطَ عَدَمُهُ فِي الْمَفْهُومِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مُوجِبًا لِلتَّخْصِيصِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. (قَوْلُهُ نَحْوُ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّ مَعْنَى زِيَادَةِ " فِي الْأَرْضِ " وَ " يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ " هُوَ زِيَادَةُ التَّعْمِيمِ وَالْإِحَاطَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ قَطُّ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَمَا مِنْ طَائِرٍ قَطُّ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مِنْ جَمِيعِ مَا يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَحْفُوظَةٌ أَحْوَالُهَا غَيْرُ مُهْمَلٍ أَمْرُهَا، وَقَالَ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ ذَكَرَ فِي الْأَرْضِ مَعَ دَابَّةٍ، وَيَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ مَعَ طَائِرٍ لِبَيَانِ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ لَفْظِ دَابَّةٍ وَلَفْظِ طَائِرٍ إنَّمَا هُوَ إلَى الْجِنْسَيْنِ، وَإِلَى تَقْرِيرِهِمَا يَعْنِي أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ حَامِلٌ لِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ، وَالْوَحْدَةِ فَإِذَا شُفِعَ بِمَا هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْجِنْسِ دُونَ الْفَرْدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ بِهِ إنَّمَا هُوَ إلَى الْجِنْسِ لَا لِفَرْدٍ، وَالْمَعْنَى الَّذِي حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَلَامَ الْمِفْتَاحِ مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا ذُكِرَ الْوَصْفُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ دَابَّةً مَخْصُوصَةً بَعِيدٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ قَطْعًا بِدُونِ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَنْفِيَّةَ لَا سِيَّمَا مَعَ مِنْ الِاسْتِقْرَائِيَّة قَطْعِيَّةٌ فِي الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ لَا تَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَصْلًا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ. (قَوْلُهُ فَلَمْ يُوجَدْ الْجَزْمُ) تَقْرِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ

فِيهِ ذَلِكَ الْوَصْفُ لَا يَكُونُ مُتَحَيِّزًا، وَهَذَا مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْجِسْمَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ تَعْرِيفًا لِلْجِسْمِ، وَإِشَارَةً إلَى أَنَّ عِلَّةَ التَّحَيُّزِ هَذَا الْوَصْفُ. (وَكَالْمَدْحِ، أَوْ الذَّمِّ) فَإِنَّهُ قَدْ يُوصَفُ الشَّيْءُ لِلْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ، وَلَا يُرَادُ بِالْوَصْفِ نَفْيُ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ مَعَ أَنَّ الْأُمُورَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ، وَقَوْلُهُ كَالْمَدْحِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ نَحْوِ الْجِسْمِ أَيْ مُوجِبَاتُ التَّخْصِيصِ لَا تَنْحَصِرُ فِيمَا ذَكَرَ نَحْوُ: الْجِسْمُ إلَخْ، وَنَحْوُ: الْمَدْحُ وَالذَّمُّ فَإِنَّ مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَشْيَاءُ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرُوا (أَوْ التَّأْكِيدُ نَحْوُ: أَمْسُ الدَّابِرُ لَا يَعُودُ أَوْ غَيْرُهُ) أَيْ غَيْرُ التَّأْكِيدَ (نَحْوُ {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 38] فَلَمْ يُوجَدْ الْجَزْمُ بِأَنَّ كُلَّ الْمُوجِبَاتِ مَنْفِيَّةٌ إلَّا نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ) فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} [الأنعام: 38] ، وَصَفَ الدَّابَّةَ بِكَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا يُرَادُ نَفْيُ الْحُكْمِ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْأَرْضِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمِفْتَاحِ أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا فِي الْأَرْضِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ دَابَّةً مَخْصُوصَةً بَلْ كُلُّ مَا يَدِبُّ فِي الْأَرْضِ فَعُلِمَ أَنَّ مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ، وَفَوَائِدَهُ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَلَا يَحْصُلُ الْجَزْمُ بِأَنَّ كُلَّ مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ مُنْتَفِيَةٌ إلَّا نَفْيَ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ اسْتِقْبَاحِ الْعُقَلَاءِ فَلِأَنَّهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ مَشْرُوطَةٌ بِالْجَزْمِ بِأَنْ لَا مُوجِبَ لِلتَّخْصِيصِ سِوَى ذَلِكَ، وَالشَّرْطُ مُنْتَفٍ دَائِمًا فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْمَشْرُوطِ دَائِمًا أَمَّا الِاشْتِرَاطُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا انْتِفَاءُ الشَّرْطِ دَائِمًا فَلِأَنَّ فَوَائِدَ الْوَصْفِ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، وَلَا مَضْبُوطَةٍ خُصُوصًا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ يَعْجِزُ عَنْ إدْرَاكِهَا فَهْمُ الْعُقَلَاءِ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مَحْصُورَةً مَعْلُومَةً لَمْ يَحْصُلْ الْجَزْمُ بِانْتِفَاءِ الْجَمِيعِ سِوَى الدَّلَالَةِ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهَاهُنَا نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّ مَا نَقَلَهُ مِنْ أَنَّهُمْ حَصَرُوا مُوجِبَاتِ التَّخْصِيصِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَفِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ سَهْوٌ ظَاهِرٌ لِمَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَغَيْرِهِ أَنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يُظْهِرَ أَوْلَوِيَّةً وَلَا مُسَاوَاةً، وَلَا يَخْرُجَ مَخْرَجَ الْأَغْلَبِ، وَلَا لِسُؤَالٍ، وَلَا لِحَادِثَةٍ، وَلَا تَقْرِيرِ جَهَالَةٍ أَوْ خَوْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْتَضِي تَخْصِيصَهُ بِالذِّكْرِ، وَلَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ لِلْوَصْفِ فَائِدَةٌ أُخْرَى أَصْلًا، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْوَصْفَ لِلْكَشْفِ أَوْ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ أَوْ التَّأْكِيدِ لَيْسَ مِنْ التَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ فِي شَيْءٍ؛ لِمَا عَرَفْت فَكَأَنَّهُ فُهِمَ مِنْ التَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ ذِكْرُ الْوَصْفِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ الْوَصْفُ الَّذِي يَكُونُ لِلتَّخْصِيصِ، أَيْ نَقْصُ الشُّيُوعِ، وَتَقْلِيلُ الِاشْتِرَاكِ، وَأَمَّا ثَالِثًا؛ فَلِأَنَّهُ لَا نِزَاعَ لَهُمْ فِي أَنَّ الْمَفْهُومَ ظَنِّيٌّ يُعَارِضُهُ الْقِيَاسُ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْجَزْمِ بِانْتِفَاءِ الْمُوجِبَاتِ الْأُخَرِ بَلْ يَكْفِي الظَّنُّ

لَمْ يَجِدُوا فِي مِثْلِ هَذَا الْمِثَالِ لِوَصْفِ الْإِنْسَانِ بِالطُّولِ فَائِدَةً أَصْلًا لَكِنَّ الْمِثَالَ الْوَاحِدَ لَا يُفِيدُ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ عَلَى أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَكُونُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ لِكَلِمَةِ وَاحِدَةٍ أَلْفُ فَائِدَةٍ تَعْجِزُ عَنْ دَرْكِهَا أَفْهَامُ الْعُقَلَاءِ وَقَوْلُهُ لَكَانَ ذِكْرُهُ تَرْجِيحًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْمُرَجِّحَ لَا يَنْحَصِرُ فِيمَا ذُكِرَ (وَلِأَنَّ أَقْصَى دَرَجَاتِهِ) أَيْ الْوَصْفِ (أَنْ يَكُونَ عِلَّةً، وَهِيَ لَا تَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِعِلَلٍ شَتَّى) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ؛ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلُّ. (وَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا بِعَدَمِ الْحُكْمِ) أَيْ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ (لَكِنْ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ) فَيَكُونُ عَدَمُ الْحُكْمِ عَدَمًا أَصْلِيًّا لَا حُكْمًا شَرْعِيًّا (لَا أَنَّهُ عِلَّةٌ لِعَدَمِهِ) أَيْ لَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَدَمَ الْوَصْفِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدِ عَدَمِ الْوَصْفِ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ حُكْمًا عَدَمِيًّا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ الثُّبُوتِيُّ فِيمَا عَدَا الْوَصْفَ عِنْدَنَا كَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَيْسَ فِي الْعَلُوفَةِ زَكَاةٌ» فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الْإِبِلَ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلُوفَةً كَانَ فِيهَا زَكَاةٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثُّبُوتِيَّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ فِيمَا عَدَا الْوَصْفَ الْحُكْمُ الثُّبُوتِيُّ، وَأَيْضًا مِنْ ثَمَرَاتِ الْخِلَافِ صِحَّةُ التَّعْدِيَةِ، وَعَدَمُهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] هَلْ تَصِحُّ تَعْدِيَةُ عَدَمِ جَوَازِ الْكَافِرَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ إلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ (، وَنَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِذَلِكَ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِعَدَمِ ظُهُورِ شَيْءٍ مِنْ الْمُوجِبَاتِ بَعْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّفَحُّصِ. قَوْلُهُ (وَقَوْلُهُ لَكَانَ ذِكْرُهُ تَرْجِيحًا) يَعْنِي بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ يُظْهِرُ الْجَوَابَ عَنْ دَلِيلِهِمْ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْفَوَائِدِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمُرَجِّحِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَجِّحٌ آخَرُ غَيْرُهَا. (قَوْلُهُ، وَلِأَنَّ أَقْصَى دَرَجَاتِهِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ إنَّمَا يَقُولُونَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَظْهَرْ لِلْحُكْمِ عِلَّةٌ أُخْرَى بَعْدَ التَّفَحُّصِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الظَّنُّ، وَهُوَ كَافٍ إذْ لَا قَائِلَ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ قَطْعِيٌّ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ: إنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْوَصْفُ لَثَبَتَ إمَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ اتِّفَاقًا أَوْ بِالْآحَادِ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْأُصُولِ. (قَوْلُهُ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْخُرُوجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ) ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ لَا يَنْكِحَ الْمُؤْمِنُ إلَّا الْمُؤْمِنَةَ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْخُرُوجِ مَخْرَجَ الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْوَصْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِاتِّصَافِ الْمَذْكُورِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ، وَأَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الِاتِّصَافُ كَكَوْنِ الرَّبَائِبِ فِي حُجُورِكُمْ، وَلَوْ كَانَتْ الْفَتَيَاتُ، أَيْ الْإِمَاءُ مُؤْمِنَاتٍ فِي الْغَالِبِ، وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ لَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ. (قَوْلُهُ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ) بِأَنْ تَكُونَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا (قَوْلُهُ أَمَّا هَاهُنَا فَلَا) يَعْنِي أَنَّ الْفِرَاشَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَةِ فَكَانَ انْفِصَالُ الْوَلَدَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفِرَاشِ فِيهَا فَيَكُونَانِ وَلَدَيْ الْأَمَةِ (قَوْلُهُ فِي أَرْضِ كَذَا) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً وَارِثًا، وَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِلَا نَعْلَمُ فَيَكُونُ مُنَاسِبًا لِلتَّخْصِيصِ بِالصِّفَةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ تَقْيِيدٌ، وَهَذَا كَمَا أَوْرَدُوا فِي بَحْثِ التَّخْصِيصِ

[التعليق بالشرط يوجب العدم عند عدمه]

{مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] هَذَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْخُرُوجَ مَخْرَجَ الْعَادَةِ) فَالْعَادَةُ أَنْ لَا يَنْكِحَ الْمُؤْمِنُ إلَّا الْمُؤْمِنَةَ، ثُمَّ أَوْرَدَ مَسْأَلَتَيْنِ يَتَوَهَّمُ فِيهِمَا أَنَّا قَائِلُونَ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهُمَا مَسْأَلَتَا الدَّعْوَةِ، وَالشَّهَادَةِ فَقَالَ: (وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْنَا أَمَةٌ، وَلَدَتْ ثَلَاثَةً فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَقَالَ: الْمَوْلَى الْأَكْبَرُ مِنِّي فَإِنَّهُ نَفَى الْأَخِيرَيْنِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ لِتَخْصِيصِهِ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ لَا يَلْزَمُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كَوْنَهُ نَفْيًا لِلْآخَرَيْنِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّ التَّخْصِيصَ دَالٌّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ (بَلْ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ بَيَانٌ) فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ أَيْ إلَى الدَّعْوَةِ لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْهُ فَلَمَّا سَكَتَ عَنْ الدَّعْوَةِ يَكُونُ بَيَانًا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ. وَأَيْضًا إنَّمَا انْتَفَى نَسَبُ الْآخَرَيْنِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا، وَلَمْ تُوجَدْ لَا لِأَنَّهُ نَفَى نَسَبَهُمَا، وَإِنَّمَا قَالَ: فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ حَتَّى لَوْ وَلَدَتْ فِي بَطْنٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْوَاحِدِ دَعْوَةٌ لِلْجَمِيعِ (لَا يُقَالُ: لَا حَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّهَا صَارَتْ بِالْأَوَّلِ أُمَّ وَلَدٍ فَيَثْبُتُ نَسَبَا الْأَخِيرَيْنِ بِلَا دَعْوَةٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالصِّفَةِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] . [التَّعْلِيق بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ] (قَوْلُهُ عَمَلًا بِشَرْطِيَّتِهِ) فَإِنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَحَقُّقُهُ، وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَا مُؤَثِّرًا فِيهِ فَبِالضَّرُورَةِ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ، وَهَذَا دَلِيلٌ يَنْفَرِدُ بِهِ الشَّرْطُ، وَإِلَّا فَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي الصِّفَةِ مِنْ الْمَقْبُولِ وَالْمُزَيَّفِ جَارٍ هَاهُنَا، وَبِالْجُمْلَةِ دَلَائِلُ مَفْهُومِ الشَّرْطِ أَقْوَى حَتَّى ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ مَنْ لَمْ يَذْهَبْ إلَى مَفْهُومِ الصِّفَةِ. (قَوْلُهُ بِعَيْنِ مَا ذَكَرْنَا) أَيْ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ عِلَّةِ الْحُكْمِ لَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَدَمَ الشَّرْطِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ الْحُكْمِ (قَوْلُهُ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ) يَعْنِي لَوْ قَالَ: إنْ كَانَتْ الْإِبِلُ مَعْلُوفَةً فَلَا تُؤَدَّ زَكَاتُهَا لَا يَجِبُ بِذَلِكَ الزَّكَاةُ فِي السَّائِمَةِ خِلَافًا لَهُ، وَأَيْضًا الْحُكْمُ الْمَعْدُومُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ تَعْدِيَتُهُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ. (قَوْلُهُ لَهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ) جَوَابٌ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الشَّرْطَ هَاهُنَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ بَلْ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَالدُّخُولِ فِي مِثْلِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَالْمَعْنَيَانِ الْمَذْكُورَانِ لِلشَّرْطِ كِلَاهُمَا شَائِعٌ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ، وَالشَّرْطُ فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ، وَلَا مُؤَثِّرًا فِيهِ، وَفِي اصْطِلَاحِ النُّحَاةِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَدَوَاتِ الْمَخْصُوصَةِ الدَّالَّةِ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ (وَ) مُسَبِّبِيَّةِ الثَّانِي ذِهْنًا أَوْ خَارِجًا سَوَاءٌ كَانَ عِلَّةً لِلْجَزَاءِ، مِثْلُ: إنْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ، أَوْ مَعْلُومًا مِثْلُ إنْ كَانَ النَّهَارُ مَوْجُودًا فَالشَّمْسُ طَالِعَةٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِثْلُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَمَحَلُّ النِّزَاعِ هُوَ الشَّرْطُ النَّحْوِيُّ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ إنْ اتَّحَدَ

لَوْ كَانَتْ دَعْوَةُ الْأَكْبَرِ قَبْلَ وِلَادَةِ الْأَخِيرَيْنِ) أَمَّا هَاهُنَا فَلَا فَإِنَّ دَعْوَةَ الْأَكْبَرِ فِي مَسْأَلَتِنَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ وِلَادَةِ الْأَخِيرَيْنِ فَلَا يَكُونُ الْأَخِيرَانِ وَلَدَيْ أُمٍّ لِوَلَدٍ بَلْ هُمَا وَلَدَا الْأَمَةِ فَيَحْتَاجُ ثُبُوتُ نَسَبِهِمَا إلَى الدَّعْوَةِ. (وَلَا يَلْزَمُ إذَا قَالَ الشُّهُودُ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا فِي أَرَضِ كَذَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عِنْدَهُمَا فَهَذَا) أَيْ عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمَا (بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ دَالٌّ عَلَى مَا قُلْنَا) أَيْ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الشُّهُودَ يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا فِي غَيْرِ تِلْكَ الْأَرْضِ فَبِنَاءً عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ (لِأَنَّ الشَّاهِدَ) دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَلْزَمُ (لَمَّا ذَكَرَ مَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ جَاءَ شُبْهَةٌ، وَبِهَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ، وَنَحْنُ لَا نَنْفِي الشُّبْهَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ) أَيْ فِي التَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ أَيْ لَا نَنْفِيَ كَوْنَهُ شُبْهَةً فِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، وَالشُّبْهَةُ كَافِيَةٌ فِي عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الدَّلَالَةِ (وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا) أَيْ السُّكُوتُ عَنْ غَيْرِ الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ (سُكُوتٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَكَانِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَهُوَ هَاهُنَا) أَيْ ذِكْرُ الْمَكَانِ الْمَذْكُورِ (يَحْتَمِلُ الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمُجَازَفَةِ) فَإِنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا مُتَفَحِّصِينَ عَلَى أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَرْضِ فَأَرَادُوا بِنَفْيِ عِلْمِهِمْ بِالْوَارِثِ فِي أَرْضِ كَذَا نَفْيَ وُجُودِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهَا لَكَانُوا عَالِمِينَ بِهِ أَمَّا ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّبَبُ فَالْحُكْمُ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ، وَإِلَّا فَإِنْ ظَهَرَ سَبَبٌ آخَرُ فَلَا نِزَاعَ فِي عَدَمِ الْمَفْهُومِ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَيَحْصُلُ الظَّنُّ بِالْمَفْهُومِ، وَلَا نِزَاعَ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ. (قَوْلُهُ {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} [النساء: 25] ، أَيْ، وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ زِيَادَةً فِي الْمَالِ يَقْدِرُ بِهَا عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ فَلْيَنْكِحْ مَمْلُوكَةً مِنْ الْإِمَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ فَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عِنْدَ اسْتِطَاعَةِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ، وَيَكُونُ هَذَا حُكْمًا شَرْعِيًّا ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وَعِنْدَنَا هُوَ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ لَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَنَّ الْمُخَصِّصَ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا بِالْعَامِّ، وَلَا نَاسِخًا لَهُ عَلَى مَا هُوَ مَذْهَبُنَا فِي الْمُتَرَاخِي أَنَّهُ نَسْخٌ لَا تَخْصِيصٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسِخَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَا عَدَمًا أَصْلِيًّا، وَقَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا، أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ الِاتِّصَالِ، وَلَا نَاسِخًا، أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الِاتِّصَالِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الِاتِّصَالِ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ فِيهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا، وَلَا نَاسِخًا يَبْقَى الْجَوَازُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فَإِنَّهُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ قَبْلَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَإِنْ قِيلَ: الْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ ثُبُوتِهِ، وَهَذَا فِيمَا ثَبَتَ قَبْلَ الشَّرْطِ مُحَالٌ كَجَوَازِ

سَائِرُ الْأَرَاضِي فَلَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِأَحْوَالِهَا فَخَصُّوا عَدَمَ الْوَارِثِ بِالْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ سَائِرِ الْأَرَاضِي احْتِرَازًا عَنْ الْمُجَازَفَةِ (وَمِنْهُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْعَدَمَ عِنْدَ عَدَمِهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَلًا بِشَرْطِيَّتِهِ فَإِنَّ الشَّرْطَ مَا يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ، وَعِنْدَنَا الْعَدَمُ لَا يَثْبُتُ بِهِ) أَيْ بِالتَّعْلِيقِ (بَلْ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ) حَتَّى لَا يَكُونَ هَذَا الْعَدَمُ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَلْ عَدَمًا أَصْلِيًّا بِعَيْنِ مَا ذَكَرْنَا فِي التَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ ثَمَّتَ يَظْهَرُ هُنَا أَيْضًا (لِأَنَّ الشَّرْطَ يُقَالُ: لِأَمْرٍ خَارِجٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ كَالْوُضُوءِ، وَقَدْ يُقَالُ: لِلْمُعَلَّقِ بِهِ، وَهُوَ مَا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، فَالشَّرْطُ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ يُوجِبُ مَا ذَكَرْتُمْ لَا بِالْمَعْنَى الثَّانِي) أَيْ يَنْتَفِي الْمَشْرُوطُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَالْوُضُوءِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَنْتَفِي صِحَّةُ الصَّلَاةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْوُضُوءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ انْتِفَاءَ الْمَشْرُوطِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ بِهَذَا الْمَعْنَى حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بَلْ لَا شَكَّ أَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْوُضُوءِ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ عَدَمُ الْوُضُوءِ دَالًّا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الشَّرْطُ بِالْمَعْنَى الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ لِانْتِفَائِهِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ بِدُونِ الشَّرْطِ نَحْوُ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَعِنْدَ انْتِفَاءِ الدُّخُولِ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ بِسَبَبٍ آخَرَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQنِكَاحِ الْأَمَةِ قُلْنَا يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَهُ فِي الْخَارِجِ قَبْلَ ذَلِكَ بِنَصٍّ آخَرَ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ مَثَلًا فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْأَمْرِ مَعَ أَنَّ إثْبَاتَ الثَّابِتِ مُحَالٌ (قَوْلُهُ وَهَذَا بِنَاءٌ) التَّحْقِيقُ فِي الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْجَزَاءُ وَحْدَهُ، وَالشَّرْطُ قَيْدٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الظَّرْفِ وَالْحَالِ، حَتَّى إنَّ الْجَزَاءَ إنْ كَانَ خَبَرًا فَالشَّرْطِيَّةُ خَبَرِيَّةٌ، وَإِنْ كَانَ إنْشَاءً فَإِنْشَائِيَّةٌ، وَعِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ أَنَّ مَجْمُوعَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ دَالٌّ عَلَى رَبْطِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، وَثُبُوتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى الِانْتِفَاءِ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ فَكُلٌّ مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ جُزْءٌ مِنْ الْكَلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ فَمَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى الْأَوَّلِ، وَجَعَلَ التَّعْلِيقَ إيجَابًا لِلْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَإِعْدَامًا لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الثُّبُوتِ وَالِانْتِفَاءِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ثَابِتًا بِاللَّفْظِ مَنْطُوقًا وَمَفْهُومًا، وَصَارَ الشَّرْطُ عِنْدَهُ تَخْصِيصًا وَقَصْرًا لِعُمُومِ التَّقَادِيرِ عَلَى بَعْضِهَا، وَمَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى الثَّانِي فَجَعَلَ الْكَلَامَ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الشَّرْطِ سَاكِتًا عَنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ فَصَارَ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ عَدَمًا أَصْلِيًّا مَبْنِيًّا عَلَى عَدَمِ الثُّبُوتِ لَا حُكْمًا شَرْعِيًّا مُسْتَفَادًا مِنْ النَّظْمِ، وَلَمْ يَكُنْ الشَّرْطُ تَخْصِيصًا إذْ لَا دَلَالَةَ عَلَى عُمُومِ التَّقَادِيرِ حَتَّى يُقْصَرَ عَلَى الْبَعْضِ. (قَوْلُهُ وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ) أَيْ وَجَوَّزَ تَعْجِيلَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إذَا كَانَتْ

(فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا} [النساء: 25] الْآيَةَ يُوجِبُ عَدَمَ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَ طَوْلِ الْحُرَّةِ عِنْدَهُ، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] عَلَّقَ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ فَإِنْ كَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ ثَابِتَةً يَثْبُتُ عَدَمُ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عِنْدَهُ فَيَصِيرُ مَفْهُومُ هَذِهِ الْآيَةِ مُخَصِّصًا عِنْدَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وَعِنْدَنَا لَمَّا لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ لَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا، وَلَا نَاسِخًا لِتِلْكَ الْآيَةِ، فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ بِتِلْكَ الْآيَةِ (وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى) أَيْ هَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى (أَنَّ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ الْمَشْرُوطَ بِدُونِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحُكْمَ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَالتَّعْلِيقُ قَيَّدَهُ) أَيْ الْحُكْمَ (بِتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ، وَأَعْدَمَهُ) أَيْ الْحُكْمَ (عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ لَهُ) أَيْ لِلتَّعْلِيقِ (تَأْثِيرٌ فِي الْعَدَمِ) أَيْ عَدَمِ الْحُكْمِ (وَنَحْنُ نَعْتَبِرُهُ مَعَهُ) أَيْ نَعْتَبِرُ الْمَشْرُوطَ مَعَ الشَّرْطِ (فَإِنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ كَلَامٌ وَاحِدٌ أَوْجَبَ الْحُكْمَ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ فَالْمَشْرُوطُ بِدُونِ الشَّرْطِ مِثْلُ أَنْتِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ) أَيْ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَالِيَّةً بِأَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً أَوْ يُطْعِمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَوْ يَكْسُوَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَحْنَثَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ السَّبَبَ يَنْعَقِدُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَأَثَرُ الشَّرْطِ إنَّمَا هُوَ فِي تَأْخِيرِ الْحُكْمِ إلَى زَمَانِ وُجُودِهِ لَا فِي مَنْعِ السَّبَبِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا لَيْسَ مِنْ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فِي شَيْءٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ فِيهِ قُلْنَا: لَمَّا قُرِّرَ هَذَا الْأَصْلُ فِي نَحْوِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ حَيْثُ كَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ سَبَبًا، وَالدُّخُولُ شَرْطًا أَشَارَ إلَى أَنَّهُ جَازَ فِي السَّبَبِ وَالشَّرْطِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ وُجِدَ فِيهِ صُورَةُ التَّعْلِيقِ، وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ أَوْ لَا، فَإِنَّ الْحَلِفَ عِنْدَهُ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ بِدَلِيلِ إضَافَتِهَا إلَيْهِ، وَالْحِنْثُ شَرْطٌ لِتَوَقُّفِ وُجُوبِ أَدَائِهَا عَلَيْهِ إجْمَاعًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ فِي مَعْنَى مَنْ حَلَفَ فَلْيُكَفِّرْ إنْ حَنِثَ فَيَصِيرُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. (قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ جَوَّزَ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ لَا بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ. (قَوْلُهُ وَفِي الْبَدَنِيِّ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ) أَيْ نَفْسُ الْوُجُوبِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ إجْمَاعًا، وَالْوُجُوبُ فِي الْبَدَنِيِّ: إمَّا عَيْنُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ أَوْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ لَا انْفِكَاكَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَتَعْجِيلُهُ قَبْلَ الشَّرْطِ يَكُونُ تَعْجِيلًا قَبْلَ الْوُجُوبِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ قَبْلَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحُلُولِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي صَلَاةِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي فَإِنَّهَا وَاجِبَةٌ لِوُجُودِ السَّبَبِ، وَتَعَلُّقِ الْخِطَابِ، وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةِ الْأَدَاءِ بَلْ يَظْهَرُ الْأَثَرُ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْوَقْتِ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ، وَأَمَّا تَعَلُّقُ الْوُجُوبِ بِنَفْسِ الْمَالِ

الْمَشْرُوطِ، وَهُوَ قَوْلُنَا أَنْتِ طَالِقٌ فِي قَوْلِنَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ، إذَا أُخِذَ مُجَرَّدًا عَنْ الشَّرْطِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَلَامٍ بَلْ مَجْمُوعُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَلَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ كَمَا زَعَمَ (فَعَلَى هَذَا) أَيْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَشْرُوطَ بِدُونِ الشَّرْطِ، وَنَحْنُ اعْتَبَرْنَا الْمَشْرُوطَ مَعَ الشَّرْطِ (الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ) نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ انْعَقَدَ سَبَبًا عِنْدَهُ لَكِنَّ التَّعْلِيقَ أَخَّرَ الْحُكْمَ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ (عَلَى مَا ذَكَرْنَا) مِنْ أَنَّ الْمَشْرُوطَ بِدُونِ الشَّرْطِ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَالتَّعْلِيقُ قَيَّدَ الْحُكْمِ بِتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ، وَأَعْدَمَ الْحُكْمَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ التَّقَادِيرِ فَصَارَ أَنْتِ طَالِقٌ سَبَبًا لِلْحُكْمِ، وَيَكُونُ تَأْثِيرُ التَّعْلِيقِ فِي تَأْخِيرِ الْحُكْمِ لَا فِي مَنْعِ السَّبَبِيَّةِ (فَأَبْطَلَ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ) هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ انْعَقَدَ سَبَبًا عِنْدَهُ فَإِنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَالْمُعَلَّقُ انْعَقَدَ سَبَبًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِذَا عُلِّقَ الطَّلَاقُ أَوْ الْعَتَاقُ بِالْمِلْكِ فَالْمِلْكُ غَيْرُ مَوْجُودٍ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ فَيَبْطُلُ التَّعْلِيقُ (وَجُوِّزَ تَعْجِيلُ النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ) فَإِنَّ التَّعْجِيلَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ قَبْلَ: وُجُوبُ الْأَدَاءِ صَحِيحٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا يُطَابِقُ أُصُولَهُمْ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بَلْ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا الْخِطَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، وَلِهَذَا صَرَّحُوا فِي نَحْوِ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وَ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحَذْفِ بِقَرِينَةِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَمِنْ تَابَعَهُمَا إلَى أَنَّ الْحُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ، وَمَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ خُرُوجُهَا أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ خُرُوجُهُ مِنْ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْحَذْفِ أَوْ الْمَجَازِ، وَأَيْضًا مَعْنَى الْحُرْمَةِ الْمَنْعُ فَمَعْنَى حُرْمَةِ الْفِعْلِ أَنَّ الْعَبْدَ مُنِعَ عَنْ اكْتِسَابِهِ وَتَحْصِيلِهِ فَالْعَبْدُ مَمْنُوعٌ، وَالْفِعْلُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: لَا تَشْرَبْ هَذَا الْمَاءَ، وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ أَنَّهَا مُنِعَتْ عَنْ الْعَبْدِ تَصَرُّفًا فِيهَا فَالْعَيْنُ مَمْنُوعَةٌ وَالْعَبْدُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ، وَذَلِكَ كَمَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَهَذَا أَوْكَدُ، وَأَبْلَغُ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ إنَّمَا أَنْكَرُوا حُرْمَةَ الْأَعْيَانِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُمْ نِسْبَةُ خَلْقِ الْقَبِيحِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ مُحَرَّمٍ قَبِيحٌ، وَالْأَقْرَبُ مَا ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الْحِلَّ أَوْ الْحُرْمَةَ إذَا كَانَ لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ أُضِيفَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا سَبَبُهُ كَمَا يُقَالُ: جَرَى النَّهْرُ فَيُقَالُ حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا لِمَعْنًى فِيهَا، وَلَا يُقَالُ: حُرِّمَتْ شَاةُ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ حُرْمَتَهَا لِاحْتِرَامِ الْمَالِكِ لَا لِمَعْنًى فِيهَا. (قَوْلُهُ، وَعِنْدَنَا لَا يَنْعَقِدُ) أَيْ الْمُعَلَّقُ سَبَبًا لِلْحُكْمِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ، وَلَهُمْ فِي بَيَانِ ذَلِكَ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُعَلَّقَ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ جُزْءِ السَّبَبِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ أَنْتِ طَالِقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ

بِالِاتِّفَاقِ كَتَعْجِيلِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحُلُولِ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ، وَهُوَ النِّصَابُ فَالنَّذْرُ الْمُعَلَّقُ انْعَقَدَ سَبَبًا عِنْدَهُ فَيَجُوزُ التَّعْجِيلُ (وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ إذَا كَانَتْ مَالِيَّةً) فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَوَّزَ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ قَبْلَ الْحِنْثِ فَإِنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَيَثْبُتُ نَفْسُ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى السَّبَبِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ عِنْدَ الشَّرْطِ، وَهُوَ الْحِنْثُ (لِأَنَّ الْمَالِيَّ يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ بَيْنَ نَفْسِ الْوُجُوبِ، وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الثَّمَنِ بِأَنْ يَثْبُتَ الْمَالُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ بِخِلَافِ الْبَدَنِيِّ) فَفِي الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ الْفَصْلُ بَيْنَ نَفْسِ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ ثَابِتٌ كَمَا فِي الثَّمَنِ فَإِنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ بِالشِّرَاءِ، وَوُجُوبَ الْأَدَاءِ بِالْمُطَالَبَةِ فَأَمَّا فِي الْبَدَنِيَّةِ فَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَفِي الْمَالِيِّ لَمَّا ثَبَتَ نَفْسُ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى السَّبَبِ أَفَادَ صِحَّةَ الْأَدَاءِ، وَفِي الْبَدَنِيِّ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَصِحَّ الْأَدَاءُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَلَا يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَفِي فَصْلِ الْأَمْرِ يَأْتِي أَنَّ فِي الْعِبَادَةِ الْبَدَنِيَّةِ لَا يَنْفَكُّ نَفْسُ الْوُجُوبِ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ. (وَعِنْدَنَا لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ، وَقَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا عَهِدْنَا مِنْ الْأَصْلِ) ، وَهُوَ أَنَّا نَعْتَبِرُ الْمَشْرُوطَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَنْزِلَةِ أَنْتِ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ، وَجُزْءُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ سَبَبًا الثَّانِي: أَنَّ التَّعْلِيقَ مَانِعٌ لِلْمُعَلَّقِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ، وَالْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تَصِيرُ أَسْبَابًا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ؛ لِأَنَّهَا عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ وَمُفْضِيًا إلَيْهِ، فَكَمَا لَا يَكُونُ شَطْرُ الْبَيْعِ عِلَّةً لِلْبَيْعِ لِعَدَمِ التَّمَامِ كَذَلِكَ بَيْعُ الْحُرِّ لِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَى الْمَحَلِّ، وَأُورِدَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِضَافَةَ أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَانِعَةً مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ التَّعْلِيقَ يَمِينٌ، وَهِيَ لِتَحْقِيقِ الْبِرِّ فِيهِ إعْدَامُ مُوجَبِ الْمُعَلَّقِ لَا وُجُودُهُ فَلَا يَكُونُ الْمُعَلَّقُ مُفْضِيًا إلَى وُجُودِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ فَإِنَّهَا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ بِالْإِيجَابِ فِي وَقْتِهِ لَا لِمَنْعِ الْحُكْمِ فَيَتَحَقَّقُ السَّبَبُ لِوُجُودِهِ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ إذْ الزَّمَانُ مِنْ لَوَازِمِ الْوُقُوعِ، وَأُورِدَ عَلَى الثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إلَى الْمَحَلِّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْغُوَ كَمَا إذَا قَالَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَرْجُوَّ الْوُصُولِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ، وَانْحِلَالِ التَّعْلِيقِ جُعِلَ كَلَامًا صَحِيحًا لَهُ عَرْضِيَّةٌ أَنْ يَصِيرَ سَبَبًا كَشَطْرِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ عُلِّقَ بِشَرْطٍ لَا يُرْجَى الْوُقُوفُ عَلَى وُجُودِهِ لَغَا مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَوْلُهُ فَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ) يُشْكِلُ بِمَا رُوِيَ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهَا إلَّا بِزِيَادَةِ صَدَاقٍ، فَقَالَ إنْ تَزَوَّجْتُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ» فَإِنَّ الْحَدِيثَ مُفَسَّرٌ لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيَّنَ نَسْخُهُ أَوْ عَدَمُ صِحَّتِهِ. (قَوْلُهُ، وَالسَّبَبُ لِلْكَفَّارَةِ هُوَ الْحِنْثُ عِنْدَنَا) لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ

مَعَ الشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبَا لِلْوُقُوعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَزَاءَ بِمَنْزِلَةِ أَنْتِ فِي قَوْلِنَا أَنْتِ طَالِقٌ فَلَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْحُكْمِ بَلْ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ (فَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ لِلْبِرِّ فَكَيْفَ تَكُونُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ بَلْ سَبَبُهَا الْحِنْثُ) ؟ لَمَّا لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا عِنْدَنَا اخْتَلَفَ الْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فَيَجُوزُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُتَحَقِّقٌ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ قَطْعًا، وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ النَّذْرِ، وَالْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ قَبْلَ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فِي بَابِ النَّذْرِ، وَالسَّبَبُ لِلْكَفَّارَةِ، هُوَ الْحِنْثُ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْيَمِينَ لَمْ تَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا انْعَقَدَتْ لِلْبِرِّ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ فَلَا يَكُونُ الْيَمِينُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ بَلْ هِيَ شَرْطٌ لَهَا، وَالْحِنْثُ سَبَبٌ. (وَفَرْقُهُ بَيْنَ الْمَالِيِّ وَالْبَدَنِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ إذْ الْمَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى) ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَدَاءُ فَيَصِيرُ كَالْبَدَنِيَّةِ (وَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ) أَيْ عَلَى مَذْهَبِنَا (بَيْنَ الشَّرْطِ، وَبَيْنَ الْأَجَلِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّ هَذَيْنِ دَخَلَا عَلَى الْحُكْمِ أَمَّا الْأَجَلُ فَظَاهِرٌ) فَإِنَّهُ دَاخِلٌ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ لِلْبِرِّ، وَوُضِعَتْ لِلْإِفْضَاءِ إلَيْهِ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْبِرِّ فَلَا يَكُونُ الْيَمِينُ مُفْضِيًا إلَيْهَا لِامْتِنَاعِ إفْضَاءِ الشَّيْءِ إلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَالثَّانِي أَنَّ السَّبَبَ يَجِبُ تَقَرُّرُهُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسَبَّبِ، وَالْيَمِينُ لَا يَبْقَى عِنْدَ وُجُودِ الْكَفَّارَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الْحِنْثِ الَّذِي هُوَ نَقْضٌ لِلْيَمِينِ بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْحِنْثُ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى الْكَفَّارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ وَهَتْكٌ لَكِنَّهَا لَا تُوجَدُ بِدُونِ الْيَمِينِ فَيَكُونُ شَرْطًا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: عَلَى الْأَوَّلِ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْضِيَ الْيَمِينُ إلَى الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ وَالْخَلْفِيَّةِ عَنْ الْبِرِّ كَالصَّوْمِ وَالْإِحْرَامِ فَإِنَّهُمَا يَمْنَعَانِ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورَيْهِمَا وَبَعْدَ الِارْتِكَابِ يَصِيرَانِ سَبَبَيْنِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ الِانْقِلَابِ؟ وَعَلَى الثَّانِي لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى الْخَلَفُ أَعْنِي الْكَفَّارَةَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْعِلَّةِ كَالْمَهْرِ يَبْقَى بَعْدَ انْقِطَاعِ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِلَّةٌ لِإِيجَابِ الْأَصْلِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَالْخَلَفُ يَخْلُفُهُ فِي الْبَقَاءِ، وَفِي كَوْنِ سَبَبِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْإِحْرَامُ أَوْ الصَّوْمُ نَظَرٌ بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِمَا. (قَوْلُهُ، وَفَرْقُهُ) أَيْ فَرْقُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ بِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ فِي الْمَالِيَّةِ الْوُجُوبُ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَيَنْعَقِدُ السَّبَبُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْأَدَاءُ بِخِلَافِ الْبَدَنِيَّةِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ هُوَ الْعِبَادَةُ، وَهُوَ فِعْلٌ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ بِخِلَافِ هُوَ نَفْسُهُ ابْتِغَاءً لِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَالُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا فِي ذَلِكَ بَلْ آلَةً يَتَأَدَّى بِهَا الْوَاجِبُ بِمَنْزِلَةِ مَنَافِعِ الْبَدَنِ فَتَصِيرُ الْحُقُوقُ الْمَالِيَّةُ كَالْبَدَنِيَّةِ فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوُجُوبِ هُوَ الْأَدَاءُ، وَأَنَّ تَعْلِيقَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِيَّةِ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَإِنَّمَا

الثَّمَنِ لَا عَلَى الْبَيْعِ (وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَلِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ الْحَظْرَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَدُخُولُهُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ أَسْهَلُ مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ فَيَحْتَمِلَانِ الْحَظْرَ) أَيْ الشَّرْطَ، وَالْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُهُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالشَّرْطِ قِمَارًا فَشَرْطُ الْخِيَارِ شَرْطٌ مَعَ الْمُنَافِي فَإِنْ كَانَ دَاخِلًا عَلَى السَّبَبِ يَكُونُ دَاخِلًا عَلَى السَّبَبِ وَالْحُكْمِ مَعًا فَدُخُولُهُ عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ أَسْهَلُ مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهِمَا فَأَمَّا الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ فَيَحْتَمِلَانِ الشَّرْطَ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَدْخُلَ التَّعْلِيقُ فِي السَّبَبِ كَيْ لَا يَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ السَّبَبِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ دُخُولِهِ عَلَى السَّبَبِ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ (الْبَابُ الثَّانِي فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ) أَيْ فِي إفَادَةِ اللَّفْظِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا (اللَّفْظُ الْمُفِيدُ لَهُ) إمَّا خَبَرٌ إنْ احْتَمَلَ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ (مِنْ حَيْثُ هُوَ) أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْعَوَارِضِ كَكَوْنِهِ خَبَرَ مُخْبِرٍ صَادِقٍ (أَوْ إنْشَاءٌ) إنْ لَمْ يَحْتَمِلْ (وَأَخْبَارُ الشَّارِعِ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] (آكَدُ) أَيْ مِنْ الْإِنْشَاءِ (لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى الْوُجُودِ) اعْلَمْ أَنَّ إخْبَارَ الشَّارِعِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ مَجَازًا، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ الْأَمْرِ إلَى الْإِخْبَارِ؛ لِأَنَّ الْمُخْبَرَ بِهِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَخْبَارِ يَلْزَمُ كَذِبُ الشَّارِعِ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فَإِذَا أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ فِي وُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ عُدِلَ إلَى لَفْظِ الْإِخْبَارِ مَجَازًا (وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ فَالْمُعْتَبَرُ مِنْ أَقْسَامِهِ هَاهُنَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، فَالْأَمْرُ، قَوْلُ الْقَائِلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQجَازَتْ النِّيَابَةُ فِي الْمَالِيَّةِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْمَشَقَّةُ، وَمُخَالَفَةُ هَوَى النَّفْسِ بِخِلَافِهِ فِي الْبَدَنِيَّةِ، وَسَيَجِيءُ فِي بَابِ الْأَمْرِ أَنَّ الْوُجُوبَ يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الْبَدَنِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَالَ هُوَ الْمَقْصُودُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ إذْ بِهِ يَنْتَفِعُ الْإِنْسَانُ، وَيَنْدَفِعُ الْخُسْرَانُ. (قَوْلُهُ وَتَبَيَّنَ الْفَرْقُ) لَمَّا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ، وَشَرْطَ الْخِيَارِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنْ (الِانْعِقَادِ) وَإِنَّمَا يُؤَخِّرُ الْحُكْمَ فَقَطْ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بِأَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى الثَّمَنِ فَيُفِيدُ تَأْخِيرَ لُزُومِ الْمُطَالَبَةِ، وَلَا مَعْنَى لِمَنْعِهِ السَّبَبَ عَنْ الِانْعِقَادِ وَالْمِلْكَ عَنْ الثُّبُوتِ إذْ لَا جِهَةَ لِتَأْثِيرِ الشَّيْءِ فِيمَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ دَخَلَ فِي الْحُكْمِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْغَبْنِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِدُخُولِهِ فِي مُجَرَّدِ الْحُكْمِ بِأَنْ يَنْعَقِدَ السَّبَبُ وَيَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ حَيْثُ يُمْكِنُ لِصَاحِبِ الْخِيَارِ فَسْخُ الْبَيْعِ بِدُونِ رِضَا صَاحِبِهِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي السَّبَبِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ عَلَى السَّبَبِ دُخُولٌ عَلَى الْحُكْمِ وَتَأْخِيرٌ لَهُ ضَرُورَةَ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْمُسَبِّبِ ثَابِتٌ بِهِ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ فَهُمَا مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ دُونَ الْإِثْبَاتَاتِ فَيَحْتَمِلَانِ الشَّرْطَ فَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ التَّعْلِيقُ عَلَى السَّبَبِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَأْخِيرُ الْحُكْمِ عَنْ سَبَبِهِ، وَأَنْ يُحْمَلَ الشَّيْءُ عَلَى كَمَالِهِ، وَكَمَالُ التَّعْلِيقِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى السَّبَبِ إذْ لَا ضَرُورَةَ هُنَا فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى مُجَرَّدِ الْحُكْمِ وَحَمْلِ

[الباب الثاني في إفادة اللفظ الحكم الشرعي]

اسْتِعْلَاءً افْعَلْ، وَالنَّهْيُ قَوْلُهُ اسْتِعْلَاءً لَا تَفْعَلْ، وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ فِي هَذَا الْقَوْلِ اتِّفَاقًا مَجَازٌ عَنْ الْفِعْلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ حَقِيقَةٌ، فَمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ) أَيْ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ (لِلْإِيجَابِ يَدُلُّ عَلَى إيجَابِ فِعْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ أَمْرٌ حَقِيقَةً، وَكُلُّ أَمْرٍ لِلْإِيجَابِ احْتَجُّوا عَلَى الْأَصْلِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّعْلِيقِ عَلَى النَّاقِصِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْحَظْرَ أَيْ الشَّرْطَ لِكَوْنِهِ مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ فَيَصِيرُ بِالشَّرْطِ قِمَارًا وَهُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِعْتَاقُ أَيْضًا مِنْ الْإِثْبَاتَاتِ دُونَ الْإِسْقَاطَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُ أَنَّهُ إثْبَاتُ الْقُوَّةِ الْحُكْمِيَّةِ لَا أَنَّهُ إزَالَةُ الرِّقِّ [الْبَابُ الثَّانِي فِي إفَادَةِ اللَّفْظِ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ] [الْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةُ لِلْأَمْرِ] (قَوْلُهُ الْبَابُ الثَّانِي) أَيْ الثَّانِي مِنْ الْبَابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَوْرَدَ فِيهِمَا أَبْحَاثَ الْكِتَابِ فِي الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِإِفَادَةِ اللَّفْظِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَذَلِكَ مَبَاحِثُ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ. (قَوْلُهُ اللَّفْظُ الْمُفِيدُ لَهُ) الظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ إلَّا أَنَّ الْخَبَرَ وَالْإِنْشَاءَ مِنْ اللَّفْظِ الْمُفِيدِ لِمُطْلَقِ الْحُكْمِ قَيَّدَ اللَّفْظَ بِالْمُفِيدِ لِيَخْرُجَ الْمُفْرَدُ عَنْ مَوْرِدِ الْقِسْمَةِ فَلَا يَنْتَقِضُ حَدُّ الْإِنْشَاءِ بِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَقَيَّدَ الِاحْتِمَالَ بِكَوْنِهِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ اللَّفْظِ الْمُفِيدِ لِلْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَوَارِضِ قَدْ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ كَخَبَرِ الشَّارِعِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا لَا يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ بِاعْتِبَارِ الْعَارِضِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: السَّمَاءُ تَحْتَنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي اللَّفْظِ الْمُفِيدِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فِيهِ فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ احْتِمَالُ أَحَدِهِمَا، وَمَعْنَى احْتِمَالِهِ لَهُمَا إمْكَانُ اتِّصَافِهِ بِهِمَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَمَا يُوصَفُ بِهِ الْقَائِلُ يُوصَفُ بِهِ الْقَوْلُ، لَا يُقَالُ: الصِّدْقُ مُطَابَقَةُ نِسْبَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ، وَالْكَذِبُ عَدَمُهَا فَتَعْرِيفُ الْخَبَرِ بِهِمَا دَوْرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا تَقْسِيمٌ بِاعْتِبَارِ اللَّازِمِ الْمَشْهُورِ لَا تَعْرِيفٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَمَاهِيَّةُ الْخَبَرِ وَالْإِنْشَاءِ وَاضِحَةٌ عِنْدَ الْعَقْلِ، وَالْمَقْصُودُ تَفْسِيرُ لَفْظِ الْخَبَرِ، وَتَعْرِيفُ الْخَبَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَدْلُولُ لَفْظِ الْخَبَرِ لَا مِنْ حَيْثُ الْمَاهِيَّةِ، وَالْمَأْخُوذُ فِي تَعْرِيفِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ نَفْسُ مَاهِيَّةِ الْخَبَرِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَدْلُولُ هَذَا اللَّفْظِ فَلَا دَوْرَ. (قَوْلُهُ، وَإِخْبَارُ الشَّارِعِ) لَمَّا كَانَ مَدْلُولُ الْخَبَرِ هُوَ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ مَفْهُومٍ لِمَفْهُومٍ أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُ فَالْمَحْكُومُ بِهِ فِي خَبَرِ الشَّارِعِ إنْ كَانَ هُوَ الْحُكْمَ الشَّرْعِيُّ مِثْلَ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُفِيدُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْإِنْشَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَوَجْهُ إفَادَتِهِ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ أَنْ يُجْعَلَ الْإِثْبَاتُ مَجَازًا عَنْ الْأَمْرِ، وَالنَّفْيُ مَجَازًا عَنْ النَّهْيِ فَيُفِيدُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ؛ لِأَنَّهُ إذَا حُكِمَ بِثُبُوتِ الشَّيْءِ أَوْ نَفْيِهِ فَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ لَزِمَ كَذِبُ الشَّارِعِ، وَهُوَ مُحَالٌ بِخِلَافِ الْأَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَذِبُ الشَّارِعِ. فَإِنْ قُلْت هَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا كَانَ الْخَبَرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَأَمَّا إذَا جُعِلَ مَجَازًا عَنْ الْأَمْرِ فَمِنْ أَيْنَ يُتَصَوَّرُ الْكَذِبُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ قُلْت نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ صُورَةِ

وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي الْفِعْلِ (بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أَيْ فِعْلُهُ (وَعَلَى الْفَرْعِ) ، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْإِيجَابِ (بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» قُلْنَا لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ خِلَافُ الْأَصْلِ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ وَلَمْ يَقُلْ افْعَلْ يَصِحُّ نَفْيُهُ) أَيْ نَفْيُ الْأَمْرِ أَيْ يَصِحُّ لُغَةً، وَعُرْفًا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ، وَمِنْ هَذَا الدَّلِيلِ ظَهَرَ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخَبَرِ فَإِنْ قُلْت فَفِي مِثْلِ {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ عَنْ الْأَمْرِ هُوَ مَجْمُوعُ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ أَمْ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ وَحْدَهُ قُلْت مَيْلُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ إلَى الثَّانِي، وَأَنَّ الْمَعْنَى، وَالْوَالِدَاتُ لِيُرْضِعْنَ، وَبَعْضُهُمْ يَمِيلُونَ إلَى الْأَوَّلِ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَكُونُ جُمْلَةً إنْشَائِيَّةً، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ. (قَوْلُهُ، وَأَمَّا الْإِنْشَاءُ) فَهُوَ إمَّا طَلَبِيٌّ أَوْ غَيْرُ طَلَبِيٍّ، وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمُعْتَبَرُ مِنْهُمَا فِي بَحْثِ إفَادَةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ إذْ بِهِمَا يَثْبُتُ أَكْثَرُ الْأَحْكَامِ وَعَلَيْهِمَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا صُدِّرَ بَعْضُ كُتُبِ الْأُصُولِ بِبَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَحَقُّ مَا يُبْتَدَأُ بِهِ فِي الْبَيَانِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِابْتِلَاءِ بِهِمَا، وَبِمُعْرِفَتِهِمَا يَتِمُّ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ، وَيَتَمَيَّزُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَإِنَّمَا قَالَ: هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي هُوَ الِاسْتِفْهَامُ لِكَثْرَةِ مَبَاحِثِهِ. (قَوْلُهُ فَالْأَمْرُ قَوْلُ الْقَائِلِ اسْتِعْلَاءً) أَيْ عَلَى سَبِيلِ طَلَبِ الْعُلُوِّ وَعَدِّ نَفْسَهُ عَالِيًا افْعَلْ، وَاحْتَرَزَ بِقَيْدِ الِاسْتِعْلَاءِ عَنْ الدُّعَاءِ، وَالِالْتِمَاسِ مِمَّا هُوَ بِطَرِيقِ الْخُضُوعِ أَوْ التَّسَاوِي، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْعُلُوَّ لِيَدْخُلَ فِيهِ قَوْلُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى افْعَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ وَلِهَذَا يُنْسَبُ إلَى سُوءِ الْأَدَبِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُ فِرْعَوْنَ لِقَوْمِهِ مَاذَا تَأْمُرُونَ مَجَازًا، أَيْ تُشِيرُونَ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ افْعَلْ مَا يَكُونُ مُشْتَقًّا مِنْ مَصْدَرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ اشْتِقَاقِ افْعَلْ مِنْ الْفِعْلِ، ثُمَّ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ صِيغَةِ افْعَلْ صَادِرَةً عَنْ الْقَائِلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَعَلَى التَّكَلُّمِ بِالصِّيغَةِ وَطَلَبِ الْفِعْلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ الْأَمْرُ اقْتِضَاءُ فِعْلٍ غَيْرِ كَفٍّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ غَيْرِ كَفٍّ عَنْ النَّهْيِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ نَحْوُ اُكْفُفْ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ غَيْرُ كَفٍّ عَنْ الْفِعْلِ الَّذِي اُشْتُقَّتْ مِنْهُ صِيغَةُ الِاقْتِضَاءِ، وَبِاعْتِبَارِ الثَّانِي، وَهُوَ كَوْنُ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ يُشْتَقُّ مِنْهُ الْفِعْلُ وَغَيْرُهُ مِثْلُ أَمَرَ يَأْمُرُ، وَالْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَكَذَا الْقَوْلُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَقُولِ، وَبِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَالتَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ يُمْكِنُ تَطْبِيقُهُ عَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَنْسَبُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ، وَالنَّهْيَ مِنْ أَقْسَامِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِنْشَاءُ قِسْمًا مِنْ اللَّفْظِ الْمُفِيدِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ اصْطِلَاحُ الْعَرَبِيَّةِ فَالتَّعْرِيفُ غَيْرُ جَامِعٍ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ عِنْدَهُمْ أَمْرٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى طَرِيقَ الِاسْتِعْلَاءِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ اصْطِلَاحُ الْأُصُولِ فَغَيْرُ مَانِعٍ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ افْعَلْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ قَدْ يَكُونُ لِلتَّهْدِيدِ وَالتَّعْجِيزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَيْسَتْ بِأَمْرٍ، لَا يُقَالُ: الْمُرَادُ

هُوَ مَصْدَرٌ لَيْسَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لَيْسَ بِمَعْنَى الشَّأْنِ. (، وَتَسْمِيَتُهُ أَمْرًا مَجَازٌ إذْ الْفِعْلُ يَجِبُ بِهِ) قَوْلُهُ إذْ الْفِعْلُ إلَخْ بَيَانٌ لِعَلَاقَةِ الْمَجَازِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَالْفِعْلِ (سَلَّمْنَا أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ) أَيْ فِي الْفِعْلِ (لَكِنَّ الدَّلَائِلَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ لِلْإِيجَابِ لَا الْفِعْلِ) أَيْ الدَّلَائِلُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْقَوْلِيَّ لِلْإِيجَابِ لَا الْفِعْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQصِيغَةُ افْعَلْ مُرَادًا بِهَا مَا يَتَبَادَرُ مِنْهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَيْدُ الِاسْتِعْلَاءِ مُسْتَدْرَكًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ فَإِنْ قِيلَ: وَيَرِدُ عَلَى عَكْسِ التَّعْرِيفِ قَوْلُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى افْعَلْ تَبْلِيغًا أَوْ حِكَايَةً عَنْ الْآمِر الْمُسْتَعْلِي فَإِنَّهُ أَمْرٌ، وَلَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ مِنْ الْقَائِل؟ قُلْنَا: مِثْلُهُ لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مَقُولُ هَذَا الْقَائِلِ الْأَدْنَى بَلْ مَقُولُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ، وَفِيهِ اسْتِعْلَاءٌ مِنْ جِهَتِهِ. (قَوْلُهُ، وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ) أَعَادَ صَرِيحَ اللَّفْظِ دُونَ الْكِنَايَةِ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ الِاسْمَ دُونَ الْمُسَمَّى كَمَا يُقَالُ: الْأَسَدُ حَقِيقَةٌ فِي السَّبُعِ مَجَازٌ فِي غَيْرِهِ، يَعْنِي أَنَّ أَمَرَ حَقِيقَةٌ فِي صِيغَةِ افْعَلْ اسْتِعْلَاءً بِالِاتِّفَاقِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ مَجَازًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَحَقِيقَةً عِنْدَ الْبَعْضِ حَتَّى يَكُونَ مُشْتَرَكًا فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ وَالشَّيْءِ وَالْفِعْلِ، وَالصِّفَةِ وَالشَّأْنِ لِتَبَادُرِ الذِّهْنِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ إلَى هَذِهِ الْأُمُورِ، وَرُدَّ بِالْمَنْعِ بَلْ يَتَبَادَرُ إلَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ، وَقِيلَ: هُوَ حَقِيقَةٌ لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْقَوْلِ أَعْنِي مَفْهُومَ أَحَدِهِمَا دَفْعًا لِلْمَجَازِ وَالِاشْتِرَاكِ، وَهُوَ قَوْلٌ حَادِثٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ، أَيْضًا فَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الْإِيجَابِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ أَمْرٌ وَكُلُّ أَمْرٍ لِلْإِيجَابِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِعُمُومِ الْمُشْتَرَكِ لِيَكُونَ قَوْلُنَا كُلُّ أَمْرٍ شَامِلًا لِلْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْإِيجَابِ فَرْعٌ عَلَى كَوْنِهِ أَمْرًا فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلٌ فَإِنْ كَانَ سَهْوًا أَوْ طَبْعًا أَوْ خَاصًّا بِهِ فَلَا يُجَابُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلِ الْكِتَابِ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ إجْمَاعًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ حَقِيقَةً أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا، وَهَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْبَعْضُ نَعَمْ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ لَا، وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَلِلْمُخَالِفِينَ مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا الْأَصْلُ، وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ أَمْرٌ، وَالثَّانِي مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِيجَابِ فَاحْتَجُّوا عَلَى الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] ، أَيْ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْصُوفُ بِالرَّشِيدِ، وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 152] {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، وَاحْتَجُّوا عَنْ الْفَرْعِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» قَالَهُ حِينَ شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَقَضَاهَا مُرَتَّبَةً فَثَبَتَ بِهَذَا النَّفْيِ أَنَّ فِعْلَهُ وَاجِبُ

فَإِنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ غَيْرُ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ الْقَوْلِيُّ، وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى الْفَعْلِيِّ، وَسَيَأْتِي، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] فَالضَّمِيرُ فِي أَمْرِهِ إنْ كَانَ رَاجِعًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إلَى الرَّسُولِ فَالْقَوْلُ مُرَادٌ إجْمَاعًا فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا يُرَادُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعْنًى ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاتِّبَاعِ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهِ لِلْإِيجَابِ كَمَا ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92] أَنَّ قَوْلَهُ مُوجِبٌ فَإِنْ قُلْت: أَيُّ حَاجَةٍ إلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْفَرْعِ بَعْدَ إثْبَاتِ الْأَصْلِ؟ قُلْت فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ مَعَ ابْتِنَائِهِ عَلَى الْأَصْلِ وَثُبُوتِهِ بِأَدِلَّتِهِ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ مُسْتَقِلٍّ. (قَوْلُهُ قُلْنَا) لَمَّا احْتَجَّ الْخَصْمُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ عَلَى حِدَةٍ احْتَجَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى بُطْلَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ إشَارَةٍ إلَى جَوَابٍ عَنْ احْتِجَاجِهِ، وَالِاحْتِجَاجُ عَلَى بُطْلَانِ الْأَصْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ بِخُصُوصِهِ اتِّفَاقًا فَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ أَيْضًا يَلْزَمُ الِاشْتِرَاكُ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ لِإِخْلَالِهِ بِالتَّفَاهُمِ فَلَا يُرْتَكَبُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَالْمَجَازُ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ رَاجِحٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ لِكَوْنِهِ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا إنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ بِخُصُوصِهِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لَا يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِلْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا كَالْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ، وَلَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ بَلْ هُوَ مُتَوَاطِئٌ، الثَّانِي أَنَّ الْأَمْرَ لَوْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ لَمَا صَحَّ نَفْيُهُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النَّفْيِ مِنْ لَوَازِمِ الْحَقِيقَةِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا وَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ صِيغَةُ افْعَلْ يَصِحُّ عُرْفًا وَلُغَةً أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ، وَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ أَعَمُّ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ لَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الْفَعْلِ بِالْفَتْحِ أَعْنِي مَصْدَرَ فَعَلَ حَتَّى يُشْتَقَّ مِنْهُ أَمَرَ بِمَعْنَى فَعَلَ، وَيَأْمُرُ بِمَعْنَى يَفْعُلُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ لَا يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الْفِعْلِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الشَّأْنِ ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى نَفْسِ صِيغَةِ افْعَلْ اسْتِعْلَاءً، وَعَلَى اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الِاسْتِعْلَاءِ، وَالْأَوَّلُ اسْمٌ وَالثَّانِي مَصْدَرٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ، وَالْخَبَرِ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ هَلْ يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الْحَاصِلِ مِنْ الْمَصْدَرِ أَعْنِي الشَّأْنَ، وَالثَّانِي هَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ بِمَصْدَرِ فَعَلَ يَفْعُلُ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ احْتِجَاجِ الْخَصْمِ بِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْفِعْلِ أَمْرٌ كَمَا فِي {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْآيَاتِ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ بِاعْتِبَارِ إطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ يَجِبُ بِالْأَمْرِ وَيَثْبُتُ بِهِ فَيَكُونُ مِنْ آثَارِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: شَبَّهَ الدَّاعِيَ إلَى الْفِعْلِ بِالْأَمْرِ فَسَمَّى الْفِعْلَ أَمْرًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِالْمَصْدَرِ كَتَسْمِيَةِ الْمَشْئُونِ أَيْ الْمَقْصُودِ بِالشَّأْنِ الَّذِي هُوَ

وَاحِدٍ عَلَى أَنَّا لَا نَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُرَادٍ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْفِعْلُ، وَنَحْنُ فِي صَدَدِ الْمَنْعِ فَصَحَّ مَا قُلْنَا إنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلْإِيجَابِ. (وَاللَّفْظُ كَافٍ) أَيْ الْأَمْرُ الْقَوْلِيُّ كَافٍ (لِلْمَقْصُودِ، وَهُوَ الْإِيجَابُ، وَالتَّرَادُفُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَإِيجَابُ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صَلُّوا عَلَى أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى الْأَصْحَابِ صَوْمَ الْوِصَالِ، وَخَلْعَ النِّعَالِ مَعَ أَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَصْدَرٌ شَأَنْتُ، أَيْ قَصَدْت، وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الْأَمْرِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} [هود: 97] ، أَيْ أَطَاعُوهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] فَوَصْفُهُ بِالرُّشْدِ مَجَازٌ مِنْ بَابِ وَصْفِ الشَّيْءَ بِوَصْفِ صَاحِبِهِ، (وَقَوْلُهُ سَلَّمْنَا) لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ، وَهُوَ كَوْنُ الْأَمْرِ حَقِيقَةً فِي الْفِعْلِ بَحْثًا لُغَوِيًّا رُبَّمَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالنَّقْلِ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَالشُّيُوعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ سَلَّمَهُ وَاشْتَغَلَ بِمَا هُوَ مِنْ مَبَاحِثِ الْأُصُولِ، وَهُوَ كَوْنُ الْفِعْلِ مُوجِبًا أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ فَأَبْطَلَ التَّفْرِيعَ أَوَّلًا، وَالْفَرْعَ ثَانِيًا، وَالدَّلِيلَ ثَالِثًا أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْمَذْكُورَةَ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ لِلْإِيجَابِ، وَلَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِيجَابِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، وَاسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُرَادٍ بِأَنَّ الْقَوْلَ مُرَادٌ إجْمَاعًا فَلَا يُرَادُ الْفِعْلُ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَكَ لَا عُمُومَ لَهُ، وَلَمَّا كَانَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ عُمُومَ الْمُشْتَرَكِ أَعْرَضَ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ إلَى الْمَنْعِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ هُوَ الَّذِي يَسْتَدِلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ قَوْلًا كَانَ أَوْ فِعْلًا فَيَكْفِينَا أَنْ نَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ بِمَعْنَى الْفِعْلِ مُرَادٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ أَمَّا فِي غَيْرِ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] فَظَاهِرٌ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلِتَوَقُّفِهِ عَلَى عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ إبْطَالُ كَوْنِ الْفِعْلِ مُوجِبًا فَلِأَنَّ تَعَدُّدَ الدَّالِّ مَعَ اتِّحَادِ الْمَدْلُولِ خِلَافُ الْأَصْلِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِوَاحِدٍ اتِّفَاقًا، وَهَاهُنَا اللَّفْظُ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ اتِّفَاقًا فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ الْفِعْلِ أَيْضًا لِلْإِيجَابِ مَصِيرٌ إلَى مَا هُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ فَلَا يُرْتَكَبُ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا فِي تَعَدُّدِ الْمَدْلُولِ مَعَ اتِّحَادِ الدَّالِّ أَعْنِي الِاشْتِرَاكَ، وَإِطْلَاقُ التَّرَادُفِ عَلَى تَوَافُقِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْإِيجَابِ خِلَافُ الِاصْطِلَاحِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى تَوَافُقِ اللَّفْظَيْنِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ وَاضِحٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْمَوْضُوعَ لِلْمَعَانِي إنَّمَا هِيَ الْعِبَارَاتُ لَا غَيْرُ، وَهِيَ وَافِيَةٌ بِالْمَقَاصِدِ بَلْ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا فَيَكُونُ الدَّالُّ عَلَى الْإِيجَابِ هُوَ الْقَوْلُ لَا الْفِعْلُ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ لِكَوْنِهِ مَبْنَى الْأَحْكَامِ، وَمَنَاطَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ بِالصِّيغَةِ، وَلَا يَحْصُلَ بِغَيْرِهَا كَمَقَاصِدِ الْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِصِيَغِهَا، وَكِلَاهُمَا

فَعَلَ، وَمُوجَبُهُ التَّوَقُّفُ عِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ) : الْإِيجَابُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] النَّدْبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] التَّأْدِيبُ كَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُلْ مِمَّا يَلِيكَ» الْإِرْشَادَاتُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] الْإِبَاحَةُ نَحْوُ {كُلُوا} [البقرة: 168] التَّهْدِيدُ نَحْوُ {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] الِامْتِنَانُ نَحْوُ {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 88] الْإِكْرَامُ نَحْوُ {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] التَّعْجِيزُ نَحْوُ {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} [البقرة: 23] التَّسْخِيرُ نَحْوُ {كُونُوا قِرَدَةً} [البقرة: 65] الْإِهَانَةُ نَحْوُ {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] التَّسْوِيَةُ: نَحْوُ {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا} [الطور: 16] الدُّعَاءُ: نَحْوُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي التَّمَنِّي: نَحْوُ أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِي الِاحْتِقَارُ نَحْوُ {أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ} [يونس: 80] التَّكْوِينُ: نَحْوُ {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] (قُلْنَا لَوْ وَجَبَ التَّوَقُّفُ هُنَا لَوَجَبَ فِي النَّهْيِ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي مَعَانٍ) ، وَهِيَ التَّحْرِيمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَأْكُلُوا الرِّبَا} [آل عمران: 130] ، وَالْكَرَاهَةُ كَالنَّهْيِ عَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ انْحِصَارَ الْمَوْضُوعِ فِي اللَّفْظِ، وَفَاءٌ بِالْمَقَاصِدِ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْفِعْلِ لِلْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ بِهِ لَا يَدَّعُونَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا لِذَلِكَ بَلْ يَدَّعُونَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَفْعَالِهِ الَّتِي لَيْسَتْ بِسَهْوٍ، وَلَا طَبْعٍ، وَلَا مُخْتَصَّةٍ بِهِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَعِظَمُ الْمَقْصُودِ لَا يَقْتَضِي اتِّحَادَ الدَّالِّ عَلَيْهِ بَلْ تَعَدُّدَهُ لِشِدَّةِ الِاهْتِمَامِ، وَكَثْرَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ، وَلِهَذَا كَثُرَتْ الْأَلْفَاظُ الْمُتَرَادِفَةُ فِيمَا لَهُمْ بِهِ اهْتِمَامٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ، وَهُوَ إبْطَالُ احْتِجَاجِهِمْ عَلَى الْفَرْعِ فَلِأَنَّ كَوْنَ فِعْلِهِ مُوجِبًا مُسْتَفَادًا مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَهُوَ صِيغَةُ الْأَمْرِ لَا مِنْ نَفْسِ الْفِعْلِ، وَإِلَّا لَمَا اُحْتِيجَ إلَى هَذَا الْأَمْرِ بَعْدَ قَوْله تَعَالَى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92] ، وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ مُوجِبًا مُسْتَفَادٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ هُوَ عَيْنُ دَعْوَى الْخَصْمِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: وُجُوبُ الِاتِّبَاعِ فِي الصَّلَاةِ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لَا بِالْفِعْلِ فَالْمُوجِبُ هُوَ الْقَوْلُ لَا غَيْرُ، ثُمَّ عَارَضَ تَمَسُّكَهُمْ بِالسُّنَّةِ بِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ إذْ خَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى يَسَارِهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْقَوْمُ أَلْقَوْا نِعَالَهُمْ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى إلْقَائِكُمْ نِعَالَكُمْ قَالُوا رَأَيْنَاكَ أَلْقَيْتَ نَعْلَيْكَ فَقَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فِيهِمَا قَذَرًا إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا فَلْيَمْسَحْهُ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا» ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاصَلَ فَوَاصَلَ أَصْحَابُهُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَيُّكُمْ مِثْلِي يُطْعِمُنِي رَبِّي، وَيَسْقِينِي فَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ مُوجِبًا لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ، وَنِعْمَ مَا قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ فَكَيْفَ صَارَ اتِّبَاعُهُمْ فِي الْبَعْضِ دَلِيلًا، وَلَمْ يَصِرْ مُخَالَفَتُهُمْ فِي الْبَعْضِ دَلِيلًا. 1 - (قَوْلُهُ وَمُوجَبُهُ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا هُوَ الْمَدْلُولُ

الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالتَّنْزِيهُ نَحْوُ {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] ، وَالتَّحْقِيرُ نَحْوُ {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} [طه: 131] ، وَبَيَانُ الْعَاقِبَةِ: نَحْوُ {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ، وَالْإِرْشَادُ: نَحْوُ {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} [المائدة: 101] ، وَالشَّفَقَةُ نَحْوُ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الدَّوَابِّ كَرَاسِيَّ وَالْمَشْيِ فِي نَعْلٍ وَاحِدٍ (وَلِأَنَّ النَّهْيَ أَمْرٌ بِالِانْتِهَاءِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِاسْتِعْمَالِهِ فِي مَعَانٍ فَلَا يَبْقَى الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِك (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ) ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُوجَبُهُمَا التَّوَقُّفَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ وَطَلَبِ التَّرْكِ ثَابِتٌ بَدِيهَةً. (وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يُبْطِلُ الْحَقَائِقَ) يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَا حَقَائِقُ الْأَشْيَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ اعْتَبَرَ مِثْلَ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَجُوزُ أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَقِيقِيُّ لِلَفْظِ الْأَمْرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمَدْلُولُ الْحَقِيقِيُّ لِمُسَمَّاهُ أَعْنِي لِصِيغَةِ افْعَلْ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ مُوجَبَ الْأَمْرِ، أَيْ الْأَثَرِ الثَّابِتِ بِهِ التَّوَقُّفُ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانٍ كَثِيرَةٍ بَعْضُهَا حَقِيقَةً اتِّفَاقًا، وَبَعْضُهَا مَجَازٌ اتِّفَاقًا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَكُونُ مُحْتَمِلًا لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ، وَالِاحْتِمَالُ يُوجِبُ التَّوْقِيفَ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ فَالتَّوَقُّفُ عِنْدَهُ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ عِنْدَ الِاسْتِعْمَالِ لَا فِي تَعْيِينِ الْمَوْضُوعِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مَوْضُوعُ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ لِلْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَالتَّهْدِيدِ، وَذَهَبَ الْغَزَالِيُّ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ إلَى التَّوَقُّفِ، وَتَعْيِينِ الْمَوْضُوعِ لَهُ أَنَّهُ الْوُجُوبُ فَقَطْ أَوْ النَّدْبُ فَقَطْ أَوْ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا لَفْظًا. (قَوْلُهُ التَّأْدِيبُ) هُوَ قَرِيبٌ مِنْ النَّدْبِ إلَّا أَنَّ النَّدْبَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَالتَّأْدِيبَ لِتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ وَإِصْلَاحِ الْعَادَاتِ، وَكَذَا الْإِرْشَادُ قَرِيبٌ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالتَّهْدِيدُ هُوَ التَّخْوِيفُ، وَيَقْرُبُ مِنْهُ الْإِنْذَارُ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا} [الزمر: 8] فَإِنَّهُ إبْلَاغٌ مَعَ تَخْوِيفٍ، وَقَوْلُهُ كُلُوا لِلِامْتِنَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأنعام: 142] ، وَقَوْلُهُ اُدْخُلُوهَا، أَيْ الْجَنَّةَ لِلْإِكْرَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ {بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر: 46] ، وَقَوْلُهُ: انْجَلِي، أَيْ انْكَشِفِي جَعَلَهُ لِلتَّمَنِّي؛ لِأَنَّهُ اسْتَطَالَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى كَانَ انْجِلَاؤُهَا بِالصُّبْحِ مِنْ قَبِيلِ الْمُحَالَاتِ الَّتِي لَا رَجَاءَ فِي حُصُولِهَا، وَقَوْلُهُ أَلْقُوا احْتِقَارٌ لِسِحْرِ السَّحَرَةِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُعْجِزَةِ الْبَاهِرَةِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ، وَالتَّكْوِينُ هُوَ الْإِيجَادُ. (قَوْلُهُ قُلْنَا) إبْطَالُ دَلِيلِ التَّوَقُّفِ بِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالنَّهْيِ فَإِنَّهُ أَيْضًا يُسْتَعْمَلُ لِمَعَانٍ مَعَ أَنَّ مُوجَبَهُ لَيْسَ التَّوَقُّفَ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِأَنَّهُ لَيْسَ مُوجَبُ " افْعَلْ، وَلَا تَفْعَلْ " وَاحِدًا ثُمَّ عَارَضَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوجَبُ الْأَمْرِ هُوَ التَّوَقُّفَ لَكَانَ مُوجَبُ النَّهْيِ، أَيْضًا التَّوَقُّفَ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالِانْتِهَاءِ وَكَفِّ النَّفْسِ عَنْ الْفِعْلِ، ثُمَّ أَبْطَلَ الْمُقَدِّمَةَ الْقَائِلَةَ: إنَّ الِاحْتِمَالَ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ حَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ لِاحْتِمَالِ تَبَدُّلِهَا فِي السَّاعَاتِ أَوْ بُطْلَانَ حَقَائِقِ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَتَحَقَّقُ حَمْلُهَا عَلَى مَعَانِيهَا لِاحْتِمَالِ نَسْخٍ أَوْ خُصُوصٍ أَوْ مَجَازٍ أَوْ اشْتِرَاكٍ. الثَّانِي إلَّا إنْ بَانَ أَنَّهُ إنَّمَا يُنَافِي الْقَطْعَ بِأَحَدِ الْمَعَانِي لَا الظُّهُورَ فِيهِ، وَنَحْنُ لَا نَدَّعِي أَنَّ الْأَمْرَ مُحْكَمٌ فِي أَحَدِ الْمَعَانِي

لَا يَكُونَ زَيْدٌ زَيْدًا بَلْ عُدِمَ الشَّخْصُ الْأَوَّلُ، وَخُلِقَ مَكَانَهُ شَخْصٌ آخَرُ، وَهُوَ عَيْنُ مَذْهَبِ السُّوفُسْطائيَّةِ النَّافِينَ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ حَقَائِقُ الْأَلْفَاظِ إذْ مَا مِنْ لَفْظٍ إلَّا وَلَهُ احْتِمَالٌ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ مِنْ نَسْخٍ أَوْ خُصُوصٍ أَوْ اشْتِرَاكٍ أَوْ مَجَازٍ فَإِنْ اُعْتُبِرَتْ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ مَعَ عَدَمِ الْقَرِينَةِ تَبْطُلُ دَلَالَاتُ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي الْمَوْضُوعِ لَهَا (وَأَيْضًا لَمْ نَدَّعِ أَنَّهُ مُحْكَمٌ، وَعِنْدَ الْعَامَّةِ مُوجَبُهُ وَاحِدٌ إذْ الِاشْتِرَاكُ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ إذْ هِيَ الْأَدْنَى، وَالنَّدْبُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ إذْ لَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ جَانِبِ الْوُجُودِ، وَأَدْنَاهُ النَّدْبُ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ خَوْفُ إصَابَةِ الْفِتْنَةِ أَوْ الْعَذَابِ بِمُخَالَفَةِ الْأَمْرِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ الْخَوْفُ لَقَبُحَ التَّحْذِيرُ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ وَاجِبًا إذْ لَيْسَ عَلَى تَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ خَوْفُ الْفِتْنَةِ أَوْ الْعَذَابِ. وَ {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، الْقَضَاءُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَأَمْرًا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ أَصْلًا بَلْ نَدَّعِي أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْوُجُوبِ مَثَلًا، وَيَحْتَمِلُ الْغَيْرَ، وَعِنْدَ ظُهُورِ الْبَعْضِ لَا وَجْهَ لِلتَّوَقُّفِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى يُوجَدَ صَارِفٌ عَنْهُ، وَهَاهُنَا نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْوَاقِفِينَ فِي الْأَمْرِ، وَاقِفُونَ فِي النَّهْيِ، وَثُبُوتُ الْفَرْقِ بَيْنَ طَلَبِ الْفِعْلِ، وَطَلَبِ التَّرْكِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْأَمْرِ تَوَقُّفٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ جَازِمًا (وَ) هُوَ الْوُجُوبُ أَوْ رَاجِحًا (وَ) هُوَ النَّدْبُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِطَلَبِ التَّرْكِ، وَالتَّوَقُّفُ فِي النَّهْيِ تَوَقُّفٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ طَلَبُ التَّرْكِ جَازِمًا وَهُوَ التَّحْرِيمُ، أَوْ رَاجِحًا وَهُوَ الْكَرَاهَةُ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِطَلَبِ الْفِعْلِ فَالتَّوَقُّفُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَوَقُّفٌ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ التَّسَاوِي، وَعَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ افْعَلْ، وَلَا تَفْعَلْ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الِاحْتِمَالَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ احْتِمَالٌ نَاشِئٌ عَنْ الدَّلِيلِ عَلَى تَعَدُّدِ الْمَعَانِي، وَهُوَ الْوَضْعُ أَوْ الشُّيُوعُ وَكَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ احْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْأَشْخَاصِ أَوْ احْتِمَالِ الْأَلْفَاظِ لِغَيْرِ مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ؟ (قَوْلُهُ وَبَيَانُ الْعَاقِبَةِ نَحْوُ {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] هَكَذَا وَقَعَ فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَفِي بَعْضِهَا لَا تَعْتَذِرُوا، وَالْحَقُّ أَنَّهُ سَقَطَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يُكْتَبَ هَكَذَا، وَبَيَانُ الْعَاقِبَةِ نَحْوُ {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم: 42] ، وَالْيَأْسُ نَحْوُ {لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة: 66] . (قَوْلُهُ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ) أَيْ اعْتِبَارُهُ، وَالتَّوَقُّفُ بِسَبَبِهِ يُبْطِلُ الْحَقَائِقَ. (قَوْلُهُ وَعِنْدَ الْعَامَّةِ) أَيْ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مُوجَبَ الْأَمْرِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ وَضْعِ الْكَلَامِ هُوَ الْإِفْهَامُ، وَالِاشْتِرَاكُ مُخِلٌّ بِهِ فَلَا يُرْتَكَبُ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَهَذَا يَنْفِي الْقَوْلَ بِاشْتِرَاكِهِ لَفْظًا بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَ الْإِبَاحَةِ أَوْ بَيْنَ

مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ أَوْ حَالٌ أَوْ تَمْيِيزٌ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْقَضَاءِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] ؛ لِأَنَّ عَطْفَ الرَّسُولِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يَمْنَعُ ذَلِكَ، وَلَا يُرَادُ الْقَضَاءُ الَّذِي يُذْكَرُ فِي جَنْبِ الْقَدَرِ بِعَيْنِ ذَلِكَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْحُكْمُ، وَالْمُرَادَ مِنْ الْأَمْرِ الْقَوْلُ لَا الْفِعْلُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْفِعْلُ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ فِعْلُ الْقَاضِي أَوْ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ لَا يَلِيقُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا فَعَلَ فِعْلًا فَلَا مَعْنَى لِنَفْيِ الْخِيَرَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ فِعْلُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَالْمُرَادُ إذَا قَضَى بِأَمْرٍ فَالْأَصْلُ عَدَمُ تَقْدِيرِ الْبَاءِ، وَأَيْضًا يَكُونُ الْمَعْنَى إذَا حَكَمَ بِفِعْلٍ لَا تَكُونُ الْخِيَرَةُ، وَالْحُكْمُ بِفِعْلٍ مُطْلَقًا لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْخِيَرَةِ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِإِبَاحَةِ فِعْلٍ أَوْ نَدْبِهِ، وَإِنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُدَّعِي فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ مَا ذَكَرْنَا لَا الْفِعْلُ. وَ {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] فَالذَّمُّ عَلَى تَرْكِهِ يُوجِبُ الْوُجُوبَ وَ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ، وَهَذَا حَقِيقَةٌ لَا مَجَازٌ عَنْ سُرْعَةِ الْإِيجَادِ) ذَهَبَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّلَاثَةِ وَبَيْن التَّهْدِيدِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشِّيعَةُ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، وَلَا يَنْفِي الْقَوْلَ بِاشْتِرَاكِهِ مَعْنًى بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ؛ لِأَنَّ مُوجَبَهُ وَاحِدٌ، وَهُوَ الطَّلَبُ جَازِمًا كَانَ أَوْ رَاجِحًا، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِتَرْجِيحِ الْفِعْلِ، أَوْ بَيْنَ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُرْتَضَى مِنْ الشِّيعَةِ فَإِنَّ مُوجَبَهُ حِينَئِذٍ، أَيْضًا وَاحِدٌ، وَهُوَ الْإِذْنُ فِي الْفِعْلِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ مُوجَبَهُ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فِي ذَلِكَ الْوَاحِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: إنَّهُ الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّهُ لِطَلَبِ وُجُودِ الْفِعْلِ، وَأَدْنَاهُ الْمُتَيَقَّنُ إبَاحَتُهُ، وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَعَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُ النَّدْبُ؛ لِأَنَّهُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ رُجْحَانِ جَانِبِهِ عَلَى جَانِبِ التَّرْكِ، وَأَدْنَاهُ النَّدْبُ لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْإِبَاحَةِ، وَكَوْنِ الْمَنْعِ عَنْ التَّرْكِ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الرُّجْحَانِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءُ إنَّهُ الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ كَمَالُ الطَّلَبِ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَشْيَاءِ الْكَمَالُ؛ لِأَنَّ النَّاقِصَ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَمَنْ جَعَلَهُ لِلْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ جَعَلَ النُّقْصَانَ أَصْلًا وَالْكَمَالَ عَارِضًا، وَهُوَ قَلْبُ الْمَعْقُولِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا إثْبَاتًا لِلُّغَةِ بِالتَّرْجِيحِ أَعْرَضَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَتَمَسَّكَ بِالنَّصِّ وَدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ أَمَّا النَّصُّ فَآيَاتٌ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالْوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ فَخَوْفُهُمْ، وَحَذَرُهُمْ مِنْ إصَابَةِ الْفِتْنَةِ فِي الدُّنْيَا أَوْ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ الْأَمْرَ، وَهِيَ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا أَنَّ مُوَافَقَتَهُ الْإِتْيَانُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْفَهْمِ لَا عَدَمُ اعْتِقَادِ حَقِّيَّتِهِ، وَلَا حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ مَثَلًا فَيُحْمَلُ عَلَى غَيْرِهِ يُقَالُ: خَالَفَنِي فُلَانٌ عَنْ كَذَا إذَا أَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَنْتَ قَاصِدٌ

أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى أَنَّ هَذَا مَجَازٌ عَنْ سُرْعَةِ الْإِيجَادِ وَالْمُرَادُ التَّمْثِيلُ لَا حَقِيقَةُ الْقَوْلِ، وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْكَلَامِ مُرَادَةٌ بِأَنْ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى سُنَنَهُ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يُكَوِّنَهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ لَكِنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْكَلَامُ النَّفْسِيُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ يَكُونُ الْوُجُودُ مُرَادًا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ قَرِينَةً لِلْإِيجَادِ، وَمَثَّلَ سُرْعَةَ الْإِيجَادِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَذَا الْأَمْرِ وَتَرَتُّبِ وُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوُجُودَ مَقْصُودٌ مِنْ الْأَمْرِ لَمَا صَحَّ هَذَا التَّمْثِيلُ. (فَيَكُونُ الْوُجُودُ مُرَادًا بِهَذَا الْأَمْرِ) أَيْ إرَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْأَمْرُ يُوجَدُ الْمَأْمُورُ بِهِ (فَكَذَا فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ كُنْ فَاعِلًا لِهَذَا الْفِعْلِ) أَيْ يَكُونُ الْوُجُودُ مُرَادًا فِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ فَإِنَّ مَعْنَاهُ كُنْ فَاعِلًا لِهَذَا الْفِعْلِ فَقَوْلُهُ: صَلِّ، أَيْ ـــــــــــــــــــــــــــــQإيَّاهُ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ فَالْمَعْنَى يُخَالِفُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ أَوْ أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَضْمِينِ الْمُخَالَفَةِ مَعْنَى الْإِعْرَاضِ، أَيْ يُعْرِضُونَ عَنْ الْأَمْرِ وَلَا يَأْتُونَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، فَسَوْقُ الْآيَةِ لِلتَّحْذِيرِ عَنْ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهَا خَوْفُ الْفِتْنَةِ أَوْ الْعَذَابِ إذْ لَا مَعْنَى لِلتَّحْذِيرِ عَمَّا لَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ مَكْرُوهٌ، وَلَا يَكُونُ فِي مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ خَوْفُ الْفِتْنَةِ أَوْ الْعَذَابِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَاجِبًا إذْ لَا مَحْذُورَ فِي تَرْكِ غَيْرِ الْوَاجِبِ، لَا يُقَالُ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ الْخَوْفِ وَالْحَذَرِ بِقَوْلِهِ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ} [النور: 63] ، وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ وَعَيْنُ النِّزَاعِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ أَمْرِهِ عَامًّا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ، وَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِ بَعْضِ الْأَوَامِرِ لِلْوُجُوبِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِيجَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْأَمْرُ بِالْحَذَرِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ، وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى هَاهُنَا لِلنَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ بَلْ الْحَذَرُ عَنْ إصَابَةِ الْمَكْرُوهِ وَاجِبٌ، وَأَمْرِهِ مَصْدَرٌ مُضَافٌ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى مَعْهُودٍ فَيَكُونُ عَامًّا لَا مُطْلَقًا وَعَلَى تَقْدِيرٍ كَوْنِهِ مُطْلَقًا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لِلْوُجُوبِ، وَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِهِ مَجَازًا بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْآيَةِ التَّهْدِيدُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ وَإِلْحَاقُ الْوَعِيدِ بِهَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ حَرَامًا وَتَرْكًا لِلْوَاجِبِ لِيَلْحَقَ بِهَا الْوَعِيدُ وَالتَّهْدِيدُ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] ، الضَّمِيرُ فِي لَهُمْ لِمُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ جُمِعَ لِعُمُومِهَا بِالْوُقُوعِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ وَفِي أَمْرِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ جُمِعَ لِلتَّعْظِيمِ، وَالْمَعْنَى مَا صَحَّ لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا مِنْ أَمْرِهِمَا شَيْئًا، وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ تَرْكِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْمُطَاوَعَةُ وَجَعْلُ اخْتِيَارِهِمْ تَبَعًا لِاخْتِيَارِهِمَا فِي جَمِيعِ أَوَامِرِهِمَا بِدَلِيلِ وُقُوعِ الْأَمْرِ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ مِثْلُ إذَا جَاءَك رَجُلٌ فَأَكْرِمْهُ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْقَوْلِ بِوُقُوعِهِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ.

كُنْ فَاعِلًا لِلصَّلَاةِ: وَزَكِّ، أَيْ كُنْ فَاعِلًا لِلزَّكَاةِ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ أَمْرٍ أَمْرٌ بِالْكَوْنِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَكَوَّنَ ذَلِكَ الْفِعْلُ (إلَّا أَنَّ هَذَا) أَيْ كَوْنَ الْوُجُودِ مُرَادًا مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (يُعْدِمُ الِاخْتِيَارَ فَلَمْ يَثْبُتْ الْوُجُودُ، وَيَثْبُتْ الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْوُجُودِ وَغَيْرِهَا مِنْ النُّصُوصِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQثُمَّ لَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ بَيَانٍ الْأَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْقَضَاءَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْحُكْمِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إتْمَامُ الشَّيْءِ قَوْلًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] ، أَيْ حَكَمَ أَوْ فِعْلًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] ، أَيْ خَلَقَهُنَّ وَأَتْقَنَ أَمْرَهُنَّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْإِسْنَادَ إلَى الرَّسُولِ يَأْبَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَأَمَّا إطْلَاقُهُ عَلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُهُ فَمَجَازٌ، وَثَانِيهمَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَمْرِ هُوَ الْقَوْلُ دُونَ الْفِعْلِ أَوْ الشَّيْءِ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي قَوْله تَعَالَى {إِذَا قَضَى أَمْرًا} [آل عمران: 47] ، أَيْ إذَا أَرَادَ شَيْئًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُرِيدَ فَعَلَ فِعْلًا فَلَا مَعْنَى لِنَفْيِ خِيَرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَوْ أُرِيدَ حَكَمَ بِفِعْلٍ أَوْ شَيْءٍ اُحْتِيجَ إلَى تَقْدِيرِ الْبَاءِ، وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ ارْتِكَابِهِ لَا يَصِحُّ نَفْيُ الْخِيَرَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِنَدْبِ فِعْلِ شَيْءٍ أَوْ إبَاحَتِهِ، وَحِينَئِذٍ تَثْبُتُ الْخِيَرَةُ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِفِعْلٍ مُوجِبًا لِنَفْيِ الْخِيَرَةِ يُثْبِتُ الْمُدَّعَى، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْخِيَرَةِ لِلْعِبَادِ وَلُزُومَ الْمُتَابَعَةِ وَالِانْقِيَادِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ، مِنْ أَمْرِهِمْ هُوَ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ إمَّا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَوْ نَفْسِ الصِّيغَةِ سَوَاءٌ جُعِلَ أَمْرًا نَصْبًا عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ التَّمْيِيزِ لِمَا فِي الْحُكْمِ مِنْ الْإِبْهَامِ أَوْ الْحَالِ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ بِمَعْنَى اسْمِ الْفَاعِلِ كَمَا تَقُولُ جَاءَنِي زَيْدٌ رُكُوبًا فَأَعْجَبَنِي رُكُوبُهُ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أَيْ مَا مَنَعَكَ مِنْ السُّجُودِ عَلَى زِيَادَةِ لَا أَوْ مَا دَعَاك إلَى تَرْكِ السُّجُودِ مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الشَّيْءِ دَاعٍ إلَى نَقِيضِهِ، وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ وَالْإِنْكَارِ وَالِاعْتِرَاضِ وَهُوَ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ لِيَسْتَحِقَّ تَارِكُهُ الذَّمَّ، وَإِلَّا فَلَهُ أَنْ يَقُولَ: إنَّك مَا أَلْزَمْتَنِي السُّجُودَ فَعَلَامَ اللَّوْمُ وَالْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ فَإِنْ قُلْت هَذَا لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ لِلْوُجُوبِ، وَلَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ فِي اسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً لَهُ، وَخَاصًّا بِهِ. قُلْت إطْلَاقُ قَوْلِهِ {اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة: 34] مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ مَعَ قَوْلِهِ {إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] دُونَ أَنْ يَقُولَ: إذْ أَمَرْتُك أَمْرًا يُجَابُ وَإِلْزَامُ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لِلْوُجُوبِ، وَهُوَ الْمُدَّعِي (إذْ) لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْمُقَيَّدَ بِالْقَرِينَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْإِيجَابِ مَجَازًا، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] ذَهَبَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَجَازٌ عَنْ سُرْعَةِ الْإِيجَادِ وَسُهُولَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ، تَمْثِيلًا لِلْغَائِبِ أَعْنِي تَأْثِيرَ قُدْرَتِهِ فِي الْمُرَادِ بِالشَّاهِدِ أَعْنِي أَمْرَ الْمُطَاعِ لِلْمُطِيعِ فِي حُصُولِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ غَيْرِ

كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] وقَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] ، وَلِلْعُرْفِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُرِيدُ طَلَبَ الْفِعْلِ جَزْمًا يَطْلُبُ بِهَذَا اللَّفْظِ (مَسْأَلَةٌ، وَكَذَا بَعْدَ الْحَظْرِ) لِمَا قُلْنَا، وَقِيلَ: لِلنَّدْبِ كَمَا فِي {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] أَيْ اُطْلُبُوا الرِّزْقَ، وَقِيلَ لِلْإِبَاحَةِ كَمَا فِي فَاصْطَادُوا قُلْنَا ثَبَتَ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQامْتِنَاعٍ وَتَوَقُّفٍ وَلَا افْتِقَارٍ إلَى مُزَاوَلَةِ عَمَلٍ وَاسْتِعْمَالِ آلَةٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا قَوْلٌ وَلَا كَلَامٌ وَإِنَّمَا وُجُودُ الْأَشْيَاءِ بِالْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ مَقْرُونًا بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَجْرَى سُنَنَهُ فِي تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يُكَوِّنَهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ تَكْوِينُهَا بِغَيْرِهَا، وَالْمَعْنَى نَقُولُ لَهُ: اُحْدُثْ فَيَحْدُثُ عَقِيبَ هَذَا الْقَوْلِ لَكِنَّ الْمُرَادَ الْكَلَامُ الْأَزَلِيُّ الْقَائِمُ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا الْكَلَامُ اللَّفْظِيُّ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ فَيَحْتَاجُ إلَى خِطَابٍ آخَرَ، وَيَتَسَلْسَلُ، وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ قِيَامُ الصَّوْتِ وَالْحَرْفِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا لَمْ يَتَوَقَّفْ خِطَابُ التَّكْوِينِ عَلَى الْفَهْمِ، وَاشْتَمَلَ عَلَى أَعْظَمِ الْفَوَائِدِ، وَهُوَ الْوُجُودُ جَازَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَعْدُومِ بَلْ خِطَابُ التَّكْلِيفِ أَيْضًا أَزَلِيٌّ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَعْدُومِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي سَيُوجَدُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَزَلِ لَا يُسَمَّى خِطَابًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى مُخَاطَبٍ، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ قَوْله تَعَالَى {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117] مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً يَكُونُ الْوُجُودُ وَالْحُدُوثُ مُرَادًا مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَعْنِي كُنْ. أَمَّا عَلَى الثَّانِي فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى نَقُولُ: حَدَثَ فَيَحْدُثُ، أَيْ كُلَّمَا وُجِدَ الْأَمْرُ بِالْوُجُودِ تَحَقَّقَ الْوُجُودُ عَقِيبَهُ، وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ قَرِينَةَ الْإِيجَادِ، وَمَثَّلَ سُرْعَةَ الْإِيجَادِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ وَتَرَتُّبِ وُجُودُ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَيْهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْوُجُودُ مَقْصُودًا بِأَمْرِ كُنْ لَمَا صَحَّ هَذَا التَّمْثِيلُ لِعَدَمِ الْجَامِعِ، فَسَوَاءٌ جَعَلْنَا هَذَا الْكَلَامَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُودُ مُرَادًا بِأَمْرِ كُنْ (وَ) كَمَا يَكُونُ الْوُجُودُ مُرَادًا بِأَمْرِ كُنْ يَكُونُ مُرَادًا بِجَمِيعِ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهَا كُلُّهَا مِنْ قَبِيلِ أَمْرِ كُنْ؛ لِأَنَّ مَعْنَى أَقِيمُوا الصَّلَاةَ كُونُوا مُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ فِي أَمْرِ التَّكْوِينِ هُوَ الْكَوْنُ بِمَعْنَى الْحُدُوثِ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، وَفِي أَمْرِ التَّكْلِيفِ هُوَ الْكَوْنُ بِمَعْنَى وُجُودِ الشَّيْءِ عَلَى صِفَةٍ مِنْ كَانَ النَّاقِصَةِ، وَإِذَا كَانَ كُلُّ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبًا لِلْكَوْنِ يَجِبُ تَكُونُ الْمَطْلُوبِ، أَيْ حُدُوثُ الشَّيْءِ فِي أَمْرِ التَّكْوِينِ وَحُصُولُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي أَمْرِ التَّكْلِيفِ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ الْوُجُودُ وَالتَّكْوِينُ مُرَادًا مِنْ جَمِيعِ الْأَوَامِرِ حَتَّى أَمْرِ التَّكْلِيفِ لَزِمَ إعْدَامُ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ بِأَنْ يَحْدُثَ الْفِعْلُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ كَمَا فِي أَمْرِ الْإِيجَادِ، وَحِينَئِذٍ تَبْطُلُ قَاعِدَةُ التَّكْلِيفِ إذْ لَا بُدَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَأْمُورِ بِهِ نَوْعُ اخْتِيَارٍ، وَإِنْ كَانَ ضَرُورِيًّا تَابِعًا لِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] ، وَإِلَّا لَصَارَ مُلْحَقًا بِالْجَمَادَاتِ فَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ الْوُجُودِ مُرَادًا فِي أَمْرِ التَّكْلِيفِ بَلْ نَقَلَ الشَّرْعُ لُزُومَ الْوُجُودِ لِلْأَمْرِ إلَى

بِالْقَرِينَةِ، أَيْ النَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ فِي الْآيَتَيْنِ ثَبَتَا بِالْقَرِينَةِ فَإِنَّ الِابْتِغَاءَ وَالِاصْطِيَادَ إنَّمَا أُمِرَ بِهِمَا لِحَقِّ الْعِبَادِ وَمَنْفَعَتِهِمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَا عَلَى وَجْهٍ تَنْقَلِبُ الْمَنْفَعَةُ مَضَرَّةً بِأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ (مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ فَاسْتِعَارَةٌ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَالْجَامِعُ جَوَازُ الْفِعْلِ لَا إطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّيِّ عَلَى الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُبَايِنَةٌ لِلْوُجُوبِ لَا جُزْؤُهُ) . اعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ حَقِيقَةً فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQلُزُومِ الْوُجُوبِ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُفْضٍ إلَى الْوُجُودِ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ وَالدِّيَانَةِ فَصَارَ لَازِمُ الْأَمْرِ هُوَ الْوُجُوبُ بَعْدَمَا كَانَ لَازِمُهُ الْوُجُودَ. حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَمْرِ يُوجِبُ وُجُودَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَقِيقَةً، وَاعْتِبَارَ كَوْنِ الْمَأْمُورِ مُخَاطَبًا مُكَلَّفًا يُوجِبُ التَّرَاخِيَ إلَى حِينِ إيجَادِهِ فَاعْتَبَرْنَا الْمَعْنَيَيْنِ فَأَثْبَتنَا بِالْأَمْرِ آكَدَ مَا يَكُونُ مِنْ وُجُوهِ الطَّلَبِ وَهُوَ الْوُجُوبُ خَلَفًا مِنْ الْوُجُودِ، وَقُلْنَا بِتَرَاخِي الْوُجُوبِ إلَى حِينِ اخْتِيَارِهِ فَإِنْ قُلْت فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْأَمْرُ حَقِيقَةً فِي طَلَبِ الْوُجُودِ وَإِرَادَتِهِ مَجَازًا فِي الْإِيجَابِ قُلْت: نَعَمْ بِحَسَبِ اللُّغَةِ لَكِنَّهُ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْإِيجَابِ إذْ لَا وُجُوبَ إلَّا بِالشَّرْعِ فَإِنْ قُلْت: الْكَلَامُ فِي مَدْلُولِ صِيغَةِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ الْوُجُوبُ قُلْت: نَعَمْ بِمَعْنَى أَنَّهُ لِطَلَبِ وُجُودِ الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ مَعَ الْمَنْعِ عَنْ النَّقِيضِ، وَهُوَ إيجَابٌ وَإِلْزَامٌ لَكِنَّهُ مِنْ الْعِبَادِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُودَ لِجَوَازِ تَخَلُّفِ مَطَالِبِهِمْ عَنْ الطَّلَبِ فَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ فِي الْإِيجَابِ بِمَعْنَى الْإِلْزَامِ وَطَلَبِ الْفِعْلِ وَإِرَادَتِهِ جَزْمًا، وَحَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْإِيجَابِ بِمَعْنَى الطَّلَبِ وَالْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ تَارِكِهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ لَا بِمَعْنَى إرَادَةِ وُجُودِ الْفِعْلِ، وَالْأَدِلَّةُ يَدُلُّ بَعْضُهَا عَلَى الْأَوَّلِ وَبَعْضُهَا عَلَى الثَّانِي، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ فِي اللُّغَةِ لِإِرَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ لِطَلَبِهِ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِرَادَةَ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعَهَا فَيَحْصُلُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ يَكُونُ بِدُونِهَا فَلَا يَحْصُلُ، وَلَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِ الْعِبَادِ فِي نَفْسِ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، وَلَا بِأَنَّ أَوَامِرَ الشَّرْعِ مَجَازَاتٌ لُغَوِيَّةٌ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ أَمْرُ كُنْ لِطَلَبِ وُجُودِ الْحَادِثِ وَإِرَادَةِ تَكَوُّنِهِ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّفٍ وَتَرَاخٍ وَكَانَ أَزَلِيًّا لَزِمَ قِدَمُ الْحَوَادِثِ، وَأَيْضًا إذَا كَانَ أَزَلِيًّا لَمْ يَصِحَّ تَرَتُّبُهُ عَلَى تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِوُجُودِ الشَّيْءِ عَلَى مَا تُنْبِئُ عَنْهُ الْآيَةُ فَالْأَوْلَى أَنَّ الْكَلَامَ مَجَازٌ وَتَمْثِيلٌ لِسُرْعَةِ التَّكْوِينِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ وَكَلَامٍ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] ، أَيْ تَرَكْت مُوجَبَهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَاصٍ، وَكُلُّ عَاصٍ يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [الجن: 23] ، أَيْ مَاكِثًا الْمُكْثَ الطَّوِيلَ، وَالْوَعِيدُ عَلَى التَّرْكِ دَلِيلُ الْوُجُودِ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] ذَمَّهُمْ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ، وَهُوَ مَعْنَى الْوُجُوبِ فَإِنْ قِيلَ: مِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّ الْوَعِيدَ وَالذَّمَّ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ الْوُجُوبُ فِي مُطْلَقِ الْأَمْرِ قُلْنَا مِنْ تَرَتُّبِ الْوَعِيدِ وَالذَّمِّ عَلَى نَفْسِ مُخَالَفَةِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ

[مسألة إذا أريد بالأمر الإباحة أو الندب]

الْوُجُوبِ فَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْمَجَازَ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ فَقَدْ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا فَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ وَالْجَصَّاصِ مَجَازٌ فِيهِمَا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ اخْتَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا. وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمَجَازَ فِي اصْطِلَاحِهِ لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى خَارِجٌ عَنْ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ جَزَاءُ الْمَوْضُوعِ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُسَمِّيهِ مَجَازًا بَلْ يُسَمِّيهِ حَقِيقَةً قَاصِرَةً، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَنَّ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ، وَالنَّدْبِ مِنْ الْوُجُوبِ بَعْضُهُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَاصِرٌ لَا مُغَايِرٌ أَمَّا فِي اصْطِلَاحِ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَالْمَجَازُ لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ جُزْأَهُ أَوْ مَعْنًى خَارِجًا عَنْهُ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ صَحِيحٌ عِنْدَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ مُوجَبَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هُوَ الْوُجُوبُ فَلِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَاللُّغَةِ عَلَى أَنَّ مَنْ يُرِيدُ طَلَبَ الْفِعْلِ مَعَ الْمَنْعِ عَنْ تَرْكِهِ يَطْلُبُهُ بِمِثْلِ صِيغَةِ افْعَلْ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ جَزْمًا وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَأَيْضًا لَمْ يَزَلْ الْعُلَمَاءُ يَسْتَدِلُّونَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ عَلَى الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي إثْبَاتِ مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ. (قَوْلُهُ مَسْأَلَةٌ) اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ فِي مُوجَبِ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ حَظْرِهِ، وَتَحْرِيمِهِ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ أَيْضًا لِلْوُجُوبِ بِالدَّلَالَةِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّهَا لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ الْوَارِدَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ وَغَيْرِهِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الدَّلَائِلُ الْمَذْكُورَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ وَالْوُرُودُ بَعْدَ الْحَظْرِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ رَفْعُ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرِ إلَى الْفَهْمِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالْإِبَاحَةِ، وَالْوُجُوبُ أَوْ النَّدْبُ زِيَادَةٌ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ دَلِيلٍ، وَقِيلَ لِلنَّدْبِ كَالْأَمْرِ بِطَلَبِ الرِّزْقِ، وَكَسْبِ الْمَعِيشَةِ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْ الْجُمُعَةِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إذَا انْصَرَفْتَ مِنْ الْجُمُعَةِ فَسَاوِمْ بِشَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ تَشْتَرِهِ، وَقِيلَ: لِلْإِبَاحَةِ كَالْأَمْرِ بِالِاصْطِيَادِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمِثَالَ الْجُزْئِيَّ لَا يُصَحِّحُ الْقَاعِدَةَ الْكُلِّيَّةَ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ النَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ فِي الْآيَتَيْنِ بِمَعُونَةِ الْقَرِينَةِ، وَهِيَ أَنَّ مِثْلَ الْكَسْبِ وَالِاصْطِيَادِ إنَّمَا شُرِعَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَلَوْ وَجَبَ لَصَارَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَيَعُودُ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] لِلْإِيجَابِ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ هُوَ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] » الْآيَةَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَشْهُورَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ بَعْدَ الْحَظْرِ لِلْإِبَاحَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَلِلْوُجُوبِ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى التَّوَقُّفِ، وَلَيْسَ الْقَوْلُ بِكَوْنِهِ لِلنَّدَبِ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ، وَلَا نِزَاعَ فِي الْحَمْلِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ عِنْدَ انْضِمَامِ الْقَرِينَةِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ] (قَوْلُهُ: مَسْأَلَةٌ) قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ فَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ، وَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَالْجَصَّاصُ إنَّهُ مَجَازٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَيْسَ فِي صِيغَةِ

لَكِنْ يُحْمَلُ غَيْرُ الْمَوْضُوعِ لَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْخَارِجِيِّ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ إطْلَاقِ الْغَيْرِ عَلَى الْجُزْءِ فَإِنَّ الْجُزْءَ عِنْدَهُ لَيْسَ عَيْنًا، وَلَا غَيْرًا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ تَفْسِيرِ الْغَيْرِ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ فَحَاصِلُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ أَهُوَ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ أَمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ؟ وَمَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ أَنْ تَكُونَ عَلَاقَةُ الْمَجَازِ وَصْفًا بَيِّنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَجَازِيِّ كَالشَّجَاعَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ، وَالْأَسَدِ (وَالْأَصَحُّ الثَّانِي) ، وَهُوَ إطْلَاقُ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ؛ لِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِبَاحَةَ مُبَايِنَةٌ لِلْوُجُوبِ فَإِنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَمْرِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَمَا أَثْبَتَ كَوْنَهَا حَقِيقَةً لِلْوُجُوبِ خَاصَّةً، وَنَفَى الِاشْتِرَاكَ اخْتَارَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ، وَقَالَ هَذَا أَصَحُّ: وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا بِصِحَّةِ النَّفْيِ مِثْلَمَا أُمِرْتَ بِصَلَاةِ الضُّحَى أَوْ صَوْمِ أَيَّامِ الْبِيضِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا عَلَى كَوْنِ " صَلُّوا صَلَاةَ الضُّحَى أَوْ صُومُوا أَيَّامَ الْبِيضِ " مَجَازًا، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأَمْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ بَلْ الْخِلَافُ فِي أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ أَمْرٍ عَلَى الصِّيغَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْإِبَاحَةِ، وَالنَّدْبِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {كُلُوا وَاشْرَبُوا} [البقرة: 60] ، وقَوْله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33] ، وَنَحْوُ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا، وَهَذَا مَا ذُكِرَ فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ خِلَافًا لِلْكَرْخِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَهُوَ الْجَصَّاصُ، وَالْمُبَاحُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ طَاعَةٌ، وَالطَّاعَةُ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ وَلِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ يَنْقَسِمُ إلَى أَمْرِ إيجَابٍ، وَأَمْرِ نَدْبٍ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ صِيغَةِ الْأَمْرِ مَجَازًا فِي النَّدْبِ، وَأَمَّا الْإِبَاحَةُ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مَجَازًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلطَّلَبِ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ تَرْجِيحَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ. وَأَمَّا عِنْدَ الْكَعْبِيِّ فَالْمُبَاحُ وَاجِبٌ لِكَوْنِهِ تَرْكَ الْحَرَامِ أَوْ مُقَدِّمَةً لَهُ فَيَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُبَاحَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ تَرْكُ الْحَرَامِ لَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ تَرْكُ الْحَرَامِ بِمُبَاحٍ آخَرَ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ وَاجِبًا مُخَيَّرًا؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا مُبْهَمًا مِنْ أُمُورٍ مَحْصُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَالْمُبَاحَاتُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا تَرْكُ الْحَرَامِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَهَذَا مَحْمَلٌ جَيِّدٌ لِكَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْلَا نَظْمُ النَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ، وَتَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالْكَرْخِيِّ وَالْجَصَّاصِ؛ فَلِهَذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ الشَّارِحِينَ إلَى أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَأَوَّلُوا كَلَامَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةُ الْوُجُوبِ خَاصَّةً عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَلِلنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ عِنْدَ انْضِمَامِ الْقَرِينَةِ كَمَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ حَقِيقَةٌ فِي الْكُلِّ خَاصَّةً بِدُونِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي الْبَاقِي مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَمَّا كَانَ فَسَادُ هَذَا التَّأْوِيلِ ظَاهِرَ التَّأْدِيَةِ إلَى إبْطَالِ الْمَجَازِ بِالْكُلِّيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَعَ الْقَرِينَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ

مَعْنَى الْإِبَاحَةِ جَوَازُ الْفِعْلِ، وَجَوَازُ التَّرْكِ، وَمَعْنَى الْوُجُوبِ جَوَازُ الْفِعْلِ مَعَ حُرْمَةِ التَّرْكِ لَكِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ هُوَ أَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَى جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنْ الْإِبَاحَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْحَقِيقَةِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِيمَا وُضِعَ لَهُ أَيْ دَلَّ عَلَيْهِ بِلَا قَرِينَةٍ ذَكَرُوا لَهُ تَأْوِيلًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي جُزْءِ مَا وُضِعَ لَهُ لَيْسَ بِمَجَازٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمَجَازِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَالْجُزْءُ لَيْسَ غَيْرَ الْكُلِّ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَيْنَهُ لِأَنَّ الْغَيْرَيْنِ مَوْجُودَانِ يَجُوزُ وُجُودُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِدُونِ وُجُودِ الْآخَرِ وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ الْكُلِّ بِدُونِ الْجُزْءِ فَلَا يَكُونُ غَيْرَهُ. فَعِنْدَهُ اللَّفْظُ إنْ اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ أَيْ فِي مَعْنًى خَارِجٍ عَمَّا وُضِعَ لَهُ فَمَجَازٌ، وَإِلَّا فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ فِي عَيْنِهِ فَحَقِيقَةٌ وَإِلَّا فَحَقِيقَةٌ قَاصِرَةٌ، وَكُلٌّ مِنْ النَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْ الْوُجُوبِ فَتَكُونُ صِيغَةُ الْأَمْرِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْوُجُوبِ حَقِيقَةً قَاصِرَةً فِيهِمَا فَيُؤَوَّلُ الْخِلَافُ إلَى أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِي النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ لِيَكُونَ مَجَازًا أَوْ مِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ لِيَكُونَ حَقِيقَةً قَاصِرَةً فَذَهَبَ الْبَعْضُ إلَى أَنَّهُ اسْتِعَارَةٌ بِجَامِعِ اشْتِرَاكِ الثَّلَاثَةِ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ إلَّا أَنَّهُ فِي الْوُجُوبِ مَعَ امْتِنَاعِ التَّرْكِ وَفِيهِمَا مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ عَلَى التَّسَاوِي فِي الْإِبَاحَةِ، وَعَلَى رُجْحَانِ الْفِعْلِ فِي النَّدْبِ فَكُلٌّ مِنْ النَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ مُقَيَّدٌ بِجَوَازِ التَّرْكِ، وَلَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْوُجُوبِ الْمُقَيَّدِ بِامْتِنَاعِ التَّرْكِ فَلَا يَكُونُ جُزْءًا لَهُ لِامْتِنَاعِ تَحَقُّقِ الْكُلِّ بِدُونِ الْجُزْءِ فَالْمُرَادُ بِالْمُبَايَنَةِ امْتِنَاعُ اجْتِمَاعِ الْإِبَاحَةِ، وَالْوُجُوبِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ لِامْتِنَاعِ صِدْقِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي الْجُزْئِيَّةَ كَالسَّقْفِ، وَالْبَيْتِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ لَيْسَ النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ مُجَرَّدَ جَوَازِ الْفِعْلِ لِيَكُونَ جُزْءًا لِلْوُجُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ بَلْ الثَّلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مُتَبَايِنَةٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ جِنْسِ الْحُكْمِ يَخْتَصُّ الْوُجُوبُ بِامْتِنَاعِ التَّرْكِ، وَالنَّدْبُ بِجَوَازِهِ مَرْجُوحًا، وَالْإِبَاحَةُ بِجَوَازِهِ عَلَى التَّسَاوِي. وَلِهَذَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ، وَالنَّدْبِ مِنْ الْوُجُوبِ بَعْضُهُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ قَاصِرٌ لَا مُغَايِرٌ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ جُزْءًا قَاصِرًا بِالتَّحْقِيقِ، وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى مَا اخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ لَكِنْ قَرَّرَهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ عَنْهُ الِاعْتِرَاضُ السَّابِقُ، وَحَاصِلُهُ أَنْ لَيْسَ مَعْنَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ، وَجَوَازِ التَّرْكِ مَرْجُوحًا أَوْ مُتَسَاوِيًا حَتَّى يَكُونَ الْمَجْمُوعُ مَدْلُولَ اللَّفْظِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الصِّيغَةَ لِلطَّلَبِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهَا عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ أَصْلًا بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ أَعْنِي جَوَازَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ لَهُمَا، وَلِلْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ أَوْ امْتِنَاعِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ جَوَازُ التَّرْكِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى حُرْمَةِ التَّرْكِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مُجَرَّدَ جَوَازِ الْفِعْلِ جُزْءٌ مِنْ الْوُجُوبِ الْمُرَكَّبِ مِنْ جَوَازِ الْفِعْلِ مَعَ امْتِنَاعِ التَّرْكِ فَيَكُونُ اسْتِعْمَالُهُ الصِّيغَةَ الْمَوْضُوعَةَ

وَهُوَ جَوَازُ الْفِعْلِ فَقَطْ لَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كِلَا جُزْأَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ أَصْلًا بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ جَوَازُ التَّرْكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ التَّرْكِ الَّتِي هِيَ جُزْءٌ آخَرُ لِلْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ جَوَازُ التَّرْكِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ فَجَوَازُ الْفِعْلِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْأَمْرِ جُزْءٌ لِلْوُجُوبِ فَيَكُونُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ دَالٌّ عَلَى جَوَازِ (الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ جُزْؤُهُمَا) أَيْ الْإِبَاحَةِ، وَالْوُجُوبِ (لَا عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ الَّذِي بِهِ الْمُبَايَنَةُ لَكِنْ يَثْبُتُ ذَا لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى حُرْمَةِ التَّرْكِ الَّتِي هِيَ جُزْءٌ آخَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْوُجُوبِ فِي مُجَرَّدِ جَوَازِ الْفِعْلِ مِنْ قَبِيلِ اسْتِعْمَالِ الْكُلِّ فِي الْجُزْءِ، وَيَكُونُ مَعْنَى اسْتِعْمَالِهَا فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ اسْتِعْمَالَهَا فِي جُزْأَيْهِمَا الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ لَهُمَا فَيَثْبُتُ الْفَصْلُ الَّذِي هُوَ جَوَازُ التَّرْكِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ لَا بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَيَثْبُتُ رُجْحَانُ الْفِعْلِ فِي النَّدْبِ بِوَاسِطَةِ الْقَرِينَةِ. فَإِنْ قُلْت: الْوُجُوبُ هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى طَلَبِ الْفِعْلِ، وَمَنْعِ النَّقِيضِ أَوْ الْأَثَرِ الثَّابِتِ بِهِ أَعْنِي كَوْنَ الْفِعْلِ مَطْلُوبًا مَمْنُوعُ التَّرْكِ أَوْ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يُحْمَدُ فَاعِلُهُ، وَيُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا أَوْ كَوْنُهُ بِحَيْثُ يُثَابُ فَاعِلُهُ، وَيُعَاقَبُ أَوْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ تَارِكُهُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ جَوَازَ الْفِعْلِ جُزْءٌ مِنْ مَفْهُومِهِ، وَمَا نُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ عَدَمَ الْمُعَاقَبَةِ جُزْءٌ لَهُ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَازِ الْفِعْلِ فَمَمْنُوعٌ بِمُقَدَّمَتَيْهِ. قُلْت: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ عَدَمُ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ مَعَ الْحَرَجِ فِي التَّرْكِ، وَالْإِبَاحَةُ هُوَ عَدَمُ الْحَرَجِ لَا فِي الْفِعْلِ، وَلَا فِي التَّرْكِ، وَأَنَّ الْمَأْذُونَ فِيهِ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ، وَالْمُبَاحِ، وَالْمَنْدُوبِ، وَالْمُرَادُ بِجَوَازِ الْفِعْلِ هُوَ عَدَمُ الْحَرَجِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَأْذُونًا فِيهِ، وَالْمُنَاقَشَةُ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَلِيقُ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ. أَلَا يُرَى أَنَّ قَوْلَهُمْ الْأَمْرُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ وُجُوبَ الْقِيَامِ مَثَلًا هُوَ الْمَدْلُولُ الْمُطَابِقُ لِلَفْظِ قُمْ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لِطَلَبِ الْقِيَامِ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ، وَالْمَنْعِ عَنْ التَّرْكِ. فَإِنْ قُلْت قَدْ صَرَّحُوا بِاسْتِعْمَالِ الْأَمْرِ فِي النَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَإِرَادَتِهِمَا مِنْهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَمْلِ كَلَامِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي جِنْسِ النَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ، وَمَا ذُكِرَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ أَصْلًا إنْ أَرَادَ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ فَغَيْرُ مُفِيدٍ، وَإِنْ أَرَادَ بِحَسَبِ الْمَجَازِ فَمَمْنُوعٌ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ جَزْمًا فِي طَلَبِ الْفِعْلِ مَعَ إجَازَةِ التَّرْكِ. وَالْإِذْنُ فِيهِ مَرْجُوحًا أَوْ مُسَاوِيًا بِجَامِعِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي جَوَازِ الْفِعْلِ وَالْإِذْنِ فِيهِ قُلْت كَمَا صَرَّحُوا بِاسْتِعْمَالِ الْأَسَدِ فِي الْإِنْسَانِ الشُّجَاعِ، وَإِرَادَتِهِ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الشُّجَاعِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ لَفْظَ الْأَسَدِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِيَّاتِ الْإِنْسَانِ كَالنَّاطِقِ مَثَلًا فَإِذَا كَانَ الْجَامِعُ هَاهُنَا هُوَ جَوَازَ الْفِعْلِ، وَالْإِذْنَ فِيهِ، وَيُثْبِتُ خُصُوصِيَّةَ كَوْنِهِ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ أَوْ بِدُونِهِ بِالْقَرِينَةِ كَمَا أَنَّ الْأَسَدَ يُسْتَعْمَلُ فِي الشُّجَاعِ

[فصل الأمر المطلق عند البعض يوجب العموم والتكرار]

لِلْوُجُوبِ) ، وَهَذَا بَحْثٌ دَقِيقٌ مَا مَسَّهُ إلَّا خَاطِرِي (هَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ وَأُرِيدَ الْإِبَاحَةُ أَوْ النَّدْبُ مَا إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْوُجُوبِ لَكِنْ عَدَمُ الْوُجُوبِ بِالنَّسْخِ حَتَّى يَبْقَى النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَكُونُ مَجَازًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ دَلَالَةُ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ. وَالْمَجَازُ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ) أَيْ هَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ أَنَّ دَلَالَةَ الْأَمْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بِطَرِيقِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ أَمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَ الْأَمْرُ، وَأُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ أَمَّا إذَا اُسْتُعْمِلَ الْأَمْرُ، وَأُرِيدَ بِهِ الْوُجُوبُ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ، وَبَقِيَ النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَالْأَمْرُ هَلْ يَكُونُ مَجَازًا أَمْ لَا فَأَقُولُ لَا يَكُونُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيُعْلَمُ كَوْنُهُ إنْسَانًا بِالْقَرِينَةِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْفَرَسِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ حَيَوَانًا أَوْ مَاشِيًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ بَلْ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى خُصُوصِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ الْمُنْصِفِ الْفَرْقُ بَيْنَ صِيغَةِ افْعَلْ، وَلَا تَفْعَلْ عِنْدَ قَصْدِ الْإِبَاحَةِ بِأَنَّ مَدْلُولَ الْأَوَّلِ جَوَازُ الْفِعْلِ، وَمَدْلُولَ الثَّانِي جَوَازُ التَّرْكِ لَا أَنَّ مَدْلُولَ كُلٍّ مِنْهُمَا جَوَازُ الْفِعْلِ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ فَإِنْ قُلْت فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِنَا: هَذَا الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ، وَقَوْلِنَا هُوَ لِلْإِبَاحَةِ، إذْ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ قُلْت: الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ لِلنَّدْبِ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي جَوَازِ الْفِعْلِ مَعَ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ الْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ لِلْإِبَاحَةِ أَنَّهُ خَالٍ عَنْ ذَلِكَ كَمَا إذَا قُلْنَا يُرْمَى الْحَيَوَانُ أَوْ يَطِيرُ حَيَوَانٌ فَإِنَّ مَدْلُولَ اللَّفْظِ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْسَانِ، وَالثَّانِي فِي الطَّيْرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْبَحْثَ الدَّقِيقَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّحْقِيقِ. (قَوْلُهُ هَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ) يَعْنِي أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ عَدَمُ الْحَرَجِ فِي الْفِعْلِ مَعَ الْحَرَجِ فِي التَّرْكِ فَارْتِفَاعُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِارْتِفَاعِ الْجُزْأَيْنِ جَمِيعًا، وَأَنْ يَكُونَ بِارْتِفَاعِ أَحَدِهِمَا فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَبَقَاءِ الْجَوَازِ الثَّابِتِ فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَدُلُّ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُوبِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ، وَامْتِنَاعِ التَّرْكِ، وَدَلِيلَ النَّسْخِ لَا يُنَافِي الْجَوَازَ لِجَوَازِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْمُرَكَّبُ بِارْتِفَاعِ أَحَدِ جُزْأَيْهِ فَبَقِيَ دَلِيلُ الْجَوَازِ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ هَذَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ فَلَا نِزَاعَ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ جَوَازَ الْوَاجِبِ لَا يَرْتَفِعُ بِنَسْخِ الْوُجُوبِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِ الْمُحَرَّمِ، وَدَلَالَةَ أَمْرِ الْوُجُوبِ عَلَى جَوَازِ الْفِعْلِ دَلَالَةَ الْحَقِيقَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا التَّضَمُّنِيِّ لَا دَلَالَةَ الْمَجَازِ عَلَى مَدْلُولِهِ الْمَجَازِيِّ فَعَلَى تَقْدِيرِ نَسْخِ الْوُجُوبِ، وَبَقَاءِ الْجَوَازِ لَا يَصِيرُ اللَّفْظُ مَجَازًا أَوْ حَقِيقَةً قَاصِرَةً عَلَى اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ انْقِلَابُ اللَّفْظِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ [فَصْلٌ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُوجِبُ الْعُمُومَ وَالتَّكْرَارَ] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) عُمُومُ الْفِعْلِ شُمُولُهُ أَفْرَادَهُ، وَتَكْرَارُهُ وُقُوعُهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَذَلِكَ بِإِيقَاعِ أَفْعَالٍ مُتَمَاثِلَةٍ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا يَجِبُ

مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَفْظٌ أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ مَا وُضِعَ لَهُ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِالْأَمْرِ الْوُجُوبُ بَلْ يَكُونُ دَلَالَةَ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، وَالدَّلَالَةُ لَا تَكُونُ مَجَازًا فَإِنَّكَ إذَا أَطْلَقْتَ الْإِنْسَانَ، وَأَرَدْت بِهِ الْحَيَوَانَ النَّاطِقَ فَإِنَّ اللَّفْظَ يَدُلُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ، وَلَا مَجَازَ هُنَا بَلْ إنَّمَا يَكُونُ مَجَازًا إذَا أَطْلَقْتَ الْإِنْسَانَ، وَأَرَدْتَ بِهِ الْحَيَوَانَ فَقَطْ أَوْ النَّاطِقَ فَقَطْ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَذْهَبِنَا إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ لَا تَبْقَى الْإِبَاحَةُ الَّتِي تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْوُجُوبِ كَمَا أَنَّ قَطْعَ الثَّوْبِ كَانَ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ إذَا أَصَابَتْهُ نَجَاسَةٌ، ثُمَّ نُسِخَ الْوُجُوبُ فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْقَطْعُ مُسْتَحَبًّا، وَلَا مُبَاحًا. (فَصْلٌ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَ الْبَعْضِ يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَالتَّكْرَارَ؛ لِأَنَّ " اضْرِبْ " مُخْتَصَرٌ مِنْ أَطْلَبُ مِنْكَ الضَّرْبَ، وَالضَّرْبُ اسْمُ جِنْسٍ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَلِسُؤَالِ السَّائِلِ فِي الْحَجِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ الْمُدَاوَمَةُ، وَإِنْ كَانَ مُوَقَّتًا يَجِبُ إيقَاعُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُدَّةَ الْعُمُرِ مِثْلُ صَلُّوا الْفَجْرَ يَجِبُ الْعَوْدُ إلَى الصَّلَاةِ فِي كُلِّ فَجْرٍ فَيَتَلَازَمَانِ فِي مِثْلِ صَلُّوا، وَصُومُوا لِامْتِنَاعِ إيقَاعِ الْأَفْرَادِ فِي زَمَانٍ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي مِثْلِ طَلِّقِي نَفْسَك لِجَوَازِ أَنْ يَقْصِدَ الْعُمُومَ دُونَ التَّكْرَارِ، وَعَامَّةُ أَوَامِرِ الشَّرْعِ مِمَّا يَسْتَلْزِمُ فِيهِ الْعُمُومُ التَّكْرَارَ فَلِذَا يَقْتَصِرُ فِي تَحْرِيرِ الْمَبْحَثِ عَلَى ذِكْرِ التَّكْرَارِ، وَقَدْ يُذْكَرُ الْعُمُومُ أَيْضًا نَظَرًا إلَى تَغَايُرِ الْمَفْهُومَيْنِ، وَصِحَّةِ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِقَرِينَةِ الْعُمُومِ، وَالتَّكْرَارِ أَوْ الْخُصُوصِ، وَالْمَرَّةِ يُفِيدُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعُمُومَ فِي الْأَفْرَادِ، وَالتَّكْرَارَ فِي الزَّمَانِ، أَمَّا الْعُمُومُ فَلِدَلَالَتِهِ عَلَى مَصْدَرٍ مُعَرَّفٍ بِاللَّامِ؛ لِأَنَّ اضْرِبْ مُخْتَصَرٌ مِنْ أَطْلُبُ مِنْكَ الضَّرْبَ عَلَى قَصْدِ إنْشَاءِ الطَّلَبِ دُونَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ، وَسَتَعْرِفُ جَوَابَهُ، وَأَمَّا التَّكْرَارُ، فَلِأَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ فَهِمَ التَّكْرَارَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ حِينَ سَأَلَ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ لَا يُقَالُ: لَوْ فَهِمَ لَمَا سَأَلَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ عَلِمَ أَنْ لَا حَرَجَ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ فِي حَمْلِ الْأَمْرِ بِالْحَجِّ عَلَى مُوجِبِهِ مِنْ التَّكْرَارِ حَرَجًا عَظِيمًا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ. وَجَوَابُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ فَهِمَ التَّكْرَارَ، بَلْ إنَّمَا سَأَلَ لِاعْتِبَارِهِ الْحَجَّ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالزَّكَاةِ حَيْثُ تَكَرَّرَتْ بِتَكَرُّرِ الْأَوْقَاتِ، وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ رَأَى الْحَجَّ مُتَعَلِّقًا بِالْوَقْتِ، وَهُوَ مُتَكَرِّرٌ، وَبِالسَّبَبِ أَعْنِي الْبَيْتَ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَكَرِّرٍ، وَفِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ أَنَّ السَّائِلَ هُوَ سُرَاقَةُ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْأَمْرِ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ فَهُوَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا

أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ) . سَأَلَ أَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فِي الْحَجِّ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَهِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَجِّ يُوجِبُ التَّكْرَارَ (قُلْنَا اعْتَبَرَهُ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْتَمِلُهُ؛ لِمَا قُلْنَا غَيْرَ أَنَّ الْمَصْدَرَ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَخُصُّ عَلَى احْتِمَالِ الْعُمُومِ، وَعِنْدَ بَعْضِ عُلَمَائِنَا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِوَصْفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] قُلْنَا لُزُومٌ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ لَا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَائِنَا لَا يَحْتَمِلُهُمَا أَصْلًا؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَصْدَرِ فَرْدٌ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ مُتَيَقَّنٌ أَوْ مَجْمُوعُ الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ حَيْثُ الْمَجْمُوعُ، وَذَا مُحْتَمَلٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنِّيَّةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْضِ) أَيْ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَدَدِ الْمَحْضِ (فَفِي طَلِّقِي نَفْسَكِ يُوجِبُ الثَّلَاثَ عَلَى الْأَوَّلِ، وَيَحْتَمِلُ الِاثْنَيْنِ، وَالثَّلَاثَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَنَا يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ، وَيَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ لَا الِاثْنَيْنِ) ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مَجْمُوعُ أَفْرَادِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ وَاحِدًا اعْتِبَارِيًّا، وَلَا يَصِحُّ نِيَّةُ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ عَدَدٌ مَحْضٌ، وَلَا دَلَالَةَ لِاسْمِ الْفَرْدِ عَلَى الْعَدَدِ فَذَكَرُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQثَلَاثًا فَقَالَ: لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ، وَالْمَعْنَى لَوْ قُلْت نَعَمْ لَتَقَرَّرَ الْوُجُوبُ كُلَّ عَامٍ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْأَمْرِ، قُلْنَا: لَا بَلْ مَعْنَاهُ لَصَارَ الْوَقْتُ سَبَبًا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ صَاحِبَ الشَّرْعِ، وَإِلَيْهِ نَصْبُ الشَّرَائِعِ. الثَّانِي مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَالتَّكْرَارَ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لِطَلَبِ الْفِعْلِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً، وَمُتَكَرِّرًا، وَلِهَذَا يَتَقَيَّدُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا مِثْلُ اضْرِبْهُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ، وَذَلِكَ لِمَا مَرَّ مِنْ سُؤَالِ الْأَقْرَعِ، وَمِنْ كَوْنِهِ مُخْتَصَرًا مِنْ أَطْلُبُ مِنْك ضَرْبًا أَوْ أَفْعَلُ ضَرْبًا، وَالنَّكِرَةُ فِي الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَدَّرَ الْمَصْدَرُ مَعْرِفَةً بِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ فَيُفِيدُ الْعُمُومَ، وَوَحَّدَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ يَحْتَمِلُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْعُمُومِ، وَالتَّكْرَارِ وَاحِدٌ. الثَّالِثُ مَذْهَبُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ إلَّا إذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] أَوْ مُقَيَّدًا بِثُبُوتِ وَصْفٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] قَيَّدَ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ بِتَحَقُّقِ وَصْفِ دُلُوكِ الشَّمْسِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ التَّكْرَارَ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَوَامِرِ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ تَجَدُّدِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِتَجَدُّدِ الْمُسَبِّبِ لَا مِنْ مُطْلَقِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ أَوْ الْمُقَيَّدِ بِوَصْفٍ، وَلَا يَلْزَمُ تَكَرُّرُ الْمَشْرُوطِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَشْرُوطِ بِخِلَافِ السَّبَبِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي وُجُودَ الْمُسَبَّبِ فَإِنْ قُلْت: الْكَلَامُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ، وَالْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ مُقَيَّدٍ فَلَا يَكُونُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ، وَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ لَا لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ لَمْ يَدَّعِ أَنَّهُ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بَلْ لِلْمُقَيَّدِ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ قُلْت: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هُوَ

بَيَانًا لِثَمَرَةِ الِاخْتِلَافِ وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَمَرَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ مَنْ قَالَ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ فَأَوْرَدْت هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَهِيَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ فَعَلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ يَنْبَغِي؛ أَنْ يَثْبُتَ التَّكْرَارُ وَإِنَّمَا قُلْتُ يَنْبَغِي لِأَنَّهُ لَا رِوَايَةَ عَنْ هَؤُلَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَكِنْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ، وَهُوَ أَنَّهُ يُوجِبُ التَّكْرَارَ إذَا كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ يَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ التَّكْرَارُ عِنْدَهُمْ. (وَفِي إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَطَلِّقِي نَفْسَكِ يَنْبَغِي ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُجَرَّدُ عَنْ قَرِينَةِ التَّكْرَارِ أَوْ الْمَرَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِوَصْفٍ أَوْ مُجَرَّدًا عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ لَا إشْكَالَ، وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ أَوْ الْوَصْفِ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُوجِبُهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ حَتَّى لَا يَنْتَفِي إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَطَلِّقِي نَفْسَك، وَلِهَذَا عَبَّرَ فِي التَّقْوِيمِ عَنْ هَذَا الْمَذْهَبِ بِأَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَقْتَضِي تَكْرَارًا لَكِنَّ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤَثِّرُ التَّعَلُّقُ فِي إثْبَاتِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ قُلْنَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ فَإِنَّ الْقَيْدَ رُبَّمَا يَصْرِفُ اللَّفْظَ عَنْ مَدْلُولِهِ كَصِيَغِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُوجِبُ الْوُقُوعَ فِي الْحَالِ وَإِذَا عُلِّقَ بِالشَّرْطِ يَتَأَخَّرُ الْحُكْمُ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الشَّرْطِ. الرَّابِعُ مَذْهَبُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ، وَالتَّكْرَارَ بَلْ هُوَ لِلْخُصُوصِ، وَالْمَرَّةِ سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا مِثْلُ اُدْخُلْ الدَّارَ أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ وَصْفٍ مِثْلُ إنْ دَخَلْت السُّوقَ فَاشْتَرِ اللَّحْمَ لَا يَقْتَضِي إلَّا اشْتِرَاءَ اللَّحْمِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ الْعُمُومُ، وَالتَّكْرَارُ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجِيٍّ كَتَكَرُّرِ السَّبَبِ مَثَلًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ: الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّكْرَارَ، وَلَا يَحْتَمِلُهُ سَوَاءٌ كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مَخْصُوصًا بِصِفَةٍ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ يَقَعُ عَلَى أَقَلِّ جِنْسِهِ، وَهُوَ أَدْنَى مَا يُعَدُّ بِهِ مُمْتَثِلًا، وَيُحْتَمَلُ كُلُّ الْجِنْسِ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَى مَصْدَرٍ مُفْرَدٍ، وَالْمُفْرَدُ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَدَدِ بَلْ عَلَى الْوَاحِدِ حَقِيقَةً، وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ فَيَتَعَيَّنُ، أَوْ اعْتِبَارًا أَعْنِي الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ فَإِنَّهُ يُقَالُ: الْحَيَوَانُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ الْأَجْنَاسِ، وَالطَّلَاقُ جِنْسٌ وَاحِدٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ، وَكَثْرَةُ الْأَجْزَاءِ أَوْ الْجُزْئِيَّاتِ لَا يَمْنَعُ الْوَحْدَةَ الِاعْتِبَارِيَّةَ، وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنِّيَّةِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ لَمَا صَحَّ تَفْسِيرُهُ بِهِ مِثْلُ: طَلِّقِي نَفْسَكِ ثِنْتَيْنِ أَوْ صُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ تَفْسِيرٌ بَلْ تَغْيِيرٌ إلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا قُرِنَ بِالصِّيغَةِ ذِكْرُ الْعَدَدِ فِي الْإِيقَاعِ يَكُونُ الْوُقُوعُ بِلَفْظِ الْعَدَدِ لَا بِالصِّيغَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: طَلَّقْتُك ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً، وَقَدْ مَاتَتْ قَبْلَ ذِكْرِ الْعَدَدِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ طَلَّقْتُك، وَطَلِّقِي نَفْسَك فَقَدْ سَبَقَ فِي بَحْثِ الِاقْتِضَاءِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ؛ أَنَّ الْمُفْرَدَ لَا يَقَعُ عَلَى الْعَدَدِ فَإِنَّ الْمُفْرَدَ الْمُقْتَرِنَ بِشَيْءٍ مِنْ

[فصل الإتيان بالمأمور به نوعان أداء وقضاء]

أَنْ يَثْبُتَ التَّكْرَارُ عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ لَا عِنْدَنَا وقَوْله تَعَالَى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لَا يُرَادُ بِهِ كُلُّ الْأَفْرَادِ إجْمَاعًا فَيُرَادُ الْوَاحِدُ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى الْيَسَارِ) . (فَصْلٌ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ نَوْعَانِ: أَدَاءٌ) أَيْ تَسَلُّمُ عَيْنِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ (، وَقَضَاءٌ) أَيْ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ بِهِ، وَقُلْنَا فِي الْأَوَّلِ الثَّابِتُ بِهِ لِيَشْمَلَ النَّفَلَ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَدَوَاتِ الْعُمُومِ، وَالِاسْتِغْرَاقِ يَكُونُ بِمَعْنَى كُلِّ فَرْدٍ لَا بِمَعْنَى مَجْمُوعِ الْأَفْرَادِ فَإِنْ زَعَمْت أَنَّهُ أَيْضًا وَاحِدٌ اعْتِبَارِيٌّ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ إذْ لَا نَعْنِي بِاحْتِمَالِ الْأَمْرِ لِلْعُمُومِ، وَالتَّكْرَارِ سِوَى أَنَّهُ يُرَادُ إيقَاعُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْفِعْلِ (قَوْلُهُ وقَوْله تَعَالَى فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) قَدْ فَرَّعُوا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَهُوَ أَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ مَسْأَلَةَ عَدَمِ قَطْعِ يَسَارِ السَّارِقِ فِي الْكَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَكَلَامُ الْقَوْمِ صَرِيحٌ فِي ابْتِنَائِهَا عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَاعِلِ، وَهُوَ السَّارِقُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ أَنَّ كُلَّ اسْمِ فَاعِلٍ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ لُغَةً مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لَمْ يَحْتَمِلْ الْعَدَدَ أَيْ كُلُّ اسْمِ فَاعِلٍ دَلَّ عَلَى مَصْدَرِهِ لَمْ يَحْتَمِلْ مَصْدَرُهُ الْعَدَدَ فَاللَّامُ فِي الْمَصْدَرِ عِوَضٌ عَنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَضَمِيرٌ لَمْ يُحْتَمَلُ لِمَصْدَرِهِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الرَّبْطُ فَيَصِحُّ الْكَلَامُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَصْدَرَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَاعِلِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَدَدَ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فَمَعْنَى السَّارِقُ الَّذِي سَرَقَ سَرِقَةً وَاحِدَةً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْوَاحِدُ الِاعْتِبَارِيُّ الَّذِي هُوَ مَجْمُوعُ السَّرِقَاتِ، وَإِلَّا لَتَوَقَّفَ قَطْعُ السَّارِقِ عَلَى آخِرِ الْحَيَاةِ إذْ لَا يُعْلَمُ تَحَقُّقُ جَمِيعِ سَرِقَاتِهِ إلَّا حِينَئِذٍ، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ثُمَّ الْوَاجِبُ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ قَطْعُ يَدٍ وَاحِدَةٍ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَعْنَى الَّذِي سَرَقَ، وَاَلَّتِي سَرَقَتْ سَرِقَةً وَاحِدَةً يُقْطَعُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْيُمْنَى بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ، وَالسُّنَّةِ قَوْلًا، وَفِعْلًا، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْمَانَهُمَا فَلَا يَكُونُ قَطْعُ الْيُسْرَى مُرَادًا أَصْلًا، وَلَا يُمْكِنُ تَكَرُّرِ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ، وَهُوَ الْيَمِينُ بِخِلَافِ تَكَرُّرِ الْجَلْدِ بِتَكَرُّرِ الزِّنَا فَإِنَّ الْمَحَلَّ بَاقٍ، وَهُوَ الْبَدَنُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ظَاهِرٌ فِي ابْتِنَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَصْدَرِ الْأَمْرِ أَعْنِي اقْطَعُوا فَإِنَّ الْوَاحِدَ الْحَقِيقِيَّ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ إلَّا يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَقَطْعُ الْيَمِينِ مُرَادٌ إجْمَاعًا فَلَا تَدُلُّ الْآيَةُ عَلَى قَطْعِ الْيَسَارِ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّصُّ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ تَقْرِيرِ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ كَالسَّارِقِ مَثَلًا عَامٌّ، وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي عُمُومَ الْمَصْدَرِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ قِيَامِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ بِالْمَجْمُوعِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَحْدَةِ وَحْدَةُ الْمَصْدَرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ السَّارِقِ مَثَلًا. [فَصْلٌ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ نَوْعَانِ أَدَاءٌ وَقَضَاءٌ] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ إطْلَاقَ الْأَدَاءِ، وَالْقَضَاءِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُؤَقَّتَاتِ، وَغَيْرِهَا مِثْلُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْأَمَانَةِ، وَقَضَاءِ الْحُقُوقِ، وَقَضَاءِ الْحَجِّ، وَالْإِتْيَانِ ثَانِيًا

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَ فَسَادِ الْأَوَّلِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَمَّا بِحَسَبِ اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَعِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَخْتَصَّانِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُؤَقَّتَةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ إلَّا فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْقَضَاءُ فَلِهَذَا قَالُوا: الْأَدَاءُ مَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا أَوَّلًا، وَالْقَضَاءُ مَا فُعِلَ بَعْدَ وَقْتِ الْأَدَاءِ اسْتِدْرَاكًا لِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا، وَقَوْلُهُمْ مُطْلَقًا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ لِيَدْخُلَ فِيهِ قَضَاءُ النَّائِمِ، وَالْحَائِضِ إذْ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنْ وُجِدَ السَّبَبُ لِوُجُودِ الْمَانِعِ كَيْفَ، وَجَوَازُ التَّرْكِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُنَافِي الْوُجُوبَ، وَالْإِعَادَةُ مَا فُعِلَ فِي وَقْتِ الْأَدَاءِ ثَانِيًا لِخَلَلٍ فِي الْأَوَّلِ، وَقِيلَ: لِعُذْرٍ فَالصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مُنْفَرِدًا تَكُونُ إعَادَةً عَلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْفَضِيلَةِ عُذْرٌ لَا عَلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الْخَلَلِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْإِعَادَةَ قِسْمٌ مُقَابِلٌ لِلْأَدَاءِ، وَالْقَضَاءُ خَارِجٌ عَنْ تَعْرِيفِ الْأَدَاءِ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا بِنَاءَ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَعَلَ فَإِنَّ الْإِعَادَةَ مَا فُعِلَ ثَانِيًا لَا أَوَّلًا. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ إلَى أَنَّهَا قِسْمٌ مِنْ الْأَدَاءِ، وَإِنَّ قَوْلَهُ فِي تَعْرِيفِ الْأَدَاءِ أَوَّلًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: الْمُقَدَّرُ لَهُ شَرْعًا احْتِرَازًا عَنْ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ فِي وَقْتِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ شَرْعًا ثَانِيًا حَيْثُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا فَقَضَاءُ صَلَاةِ النَّائِمِ أَوْ النَّاسِي عِنْدَ التَّذَكُّرِ قَدْ فُعِلَ فِي وَقْتِهَا الْمُقَدَّرِ لَهَا ثَانِيًا لَا أَوَّلًا، وَعِنْدَ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَدَاءُ، وَالْقَضَاءُ مِنْ أَقْسَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُوَقَّتًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُوَقَّتٍ فَالْأَدَاءُ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا ثَبَتَ بِالْأَمْرِ وَاجِبًا كَانَ أَوْ نَفْلًا، وَالْقَضَاءُ تَسْلِيمُ مِثْلِ مَا وَجَبَ بِالْأَمْرِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّابِتِ بِالْأَمْرِ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالْأَمْرِ لَا مَا ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِهِ إذْ الْوُجُوبُ إنَّمَا هُوَ السَّبَبُ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ تَسْلِيمُ عَيْنِ الثَّابِتِ مَعَ أَنَّ الْوَاجِبَ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ لَا يَقْبَلُ التَّصَرُّفَ مِنْ الْعَبْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَدَاءُ عَيْنِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا وَجَبَ بِالسَّبَبِ، وَثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لَا تَسْلِيمُ عَيْنِ مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ بِالْأَمْرِ كَفِعْلِ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا أَوْ إيتَاءِ رُبُعِ الْعُشْرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَيْنِيَّةَ، وَالْمِثْلِيَّةَ بِالْقِيَاسِ إلَى مَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ مِنْ الْأَمْرِ لَا مَا ثَبَتَ بِالسَّبَبِ فِي الذِّمَّةِ، وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى مَا يُقَالُ: إنَّ الشَّرْعَ شَغَلَ الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ، ثُمَّ أَمَرَ بِتَفْرِيغِهَا فَأَخَذَ مَا يَحْصُلُ بِهِ فَرَاغُ الذِّمَّةِ حُكْمَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ كَأَنَّهُ عَيْنُهُ، وَالثَّابِتُ بِالْأَمْرِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ بِصَرِيحِ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] أَوْ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، وَمَعْنَى تَسْلِيمِ الْعَيْنِ أَوْ الْمِثْلِ فِي الْأَفْعَالِ، وَالْأَعْرَاضِ إيجَادُهَا، وَالْإِتْيَانُ بِهَا كَأَنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَبْدُ يُؤَدِّيهَا، وَيُسَلِّمُهَا إلَيْهِ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ التَّقْيِيدَ بِالْوَقْتِ لِيَعُمَّ أَدَاءَ الزَّكَوَاتِ، وَالْأَمَانَاتِ، وَالْمَنْذُورَاتِ، وَالْكَفَّارَاتِ، وَقَالَ: الثَّابِتُ بِالْأَمْرِ دُونَ الْوَاجِبِ بِهِ لِيَعُمَّ أَدَاءَ النَّوَافِلِ فَاعْتُبِرَ فِي الْقَضَاءِ الْوُجُوبُ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِ الْمَتْرُوكِ لَا مَضْمُونًا، وَالنَّفَلُ لَا يُضْمَنُ بِالتَّرْكِ، وَأَمَّا إذَا شَرَعَ فِيهِ، وَأَفْسَدَهُ فَقَدْ صَارَ بِالشُّرُوعِ وَاجِبًا فَيُقْضَى، وَالْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ هَاهُنَا مَا يَعُمُّ الْفَرْضَ أَيْضًا، وَبَعْضُهُمْ قَيَّدَ مِثْلَ الْوَاجِبِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ

(وَيُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ مَجَازًا) . (، وَالْقَضَاءُ يَجِبُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنْدِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ احْتِرَازًا عَنْ صَرْفِ دَرَاهِمِ الْغَيْرِ إلَى دَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَضَاءً، وَلِلْمَالِكِ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ، وَكَذَا لَوْ نَوَى أَنْ يَكُونَ ظُهْرَ يَوْمِهِ قَضَاءً مِنْ ظُهْرِ أَمْسِهِ أَوْ عَصْرِهِ قَضَاءً مِنْ ظُهْرِهِ لَا يَصِحُّ مَعَ قُوَّةِ الْمُمَاثَلَةِ بِخِلَافِ صَرْفِ النَّفْلِ مَعَ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيهِ أَدْنَى فَإِنْ قُلْت: يَدْخُلُ فِي تَعْرِيفِ الْأَدَاءِ الْإِتْيَانُ بِالْمُبَاحِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الْأَمْرُ كَالِاصْطِيَادِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ، وَلَا يُسَمَّى أَدَاءً قُلْت: الْمُبَاحُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ فَالثَّابِتُ بِالْأَمْرِ لَا يَكُونُ إلَّا وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا، وَلِهَذَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَ مَا فَسَّرَ الْأَدَاءَ بِتَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْأَدَاءِ قِسْمٌ آخَرُ، هُوَ النَّفَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ حَقِيقَةً فِي الْإِبَاحَةِ، وَالنَّدْبِ يَعْنِي أَنَّ الْأَدَاءَ، وَالْقَضَاءَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنْ جُعِلَ الْأَمْرُ اسْمًا لِلطَّلَبِ الْجَازِمِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْبَعْضِ اخْتَصَّ الْأَدَاءُ بِالْوَاجِبِ، وَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ أَقْسَامِ مُوجِبِ الْأَمْرِ، وَإِنْ جُعِلَ اسْمًا لِلطَّلَبِ جَازِمًا كَانَ أَوْ رَاجِحًا عَلَى التَّرْكِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ دَخَلَ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ الْوَاجِبُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمُبَاحُ فَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالنَّفْلِ، وَهُوَ مَا يُثَابُ فَاعِلُهُ، وَلَا يُسِيءُ تَارِكُهُ، وَهَذَا مَعْنَى الْمَنْدُوبِ أَدَاءً فَيُفَسَّرُ بِتَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمَنْدُوبِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمُوجِبِ الْأَمْرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْمُبَاحِ إذْ لَيْسَ فِي الْعُرْفِ إطْلَاقُ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ كَالِاصْطِيَادِ مَثَلًا إلَّا مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشْفِ مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُسَمَّى أَدَاءً عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً لِلنَّدْبِ، وَالْإِبَاحَةِ بِأَنَّ الْكُلَّ مُوجِبُ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ هُوَ أَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ فِي الْأَدَاءِ قِسْمٌ آخَرُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقَةً فِي الْإِبَاحَةِ، وَالنَّدْبِ أَيْ يَجْعَلُهَا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْوُجُوبِ، وَالْإِبَاحَةِ، وَالنَّدْبِ لَفْظًا أَوْ يَجْعَلُهَا مَوْضُوعَةً لِلْإِذْنِ فِي الْفِعْلِ فَيَكُونُ حَقِيقَةً فِي كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُ الْمُبَاحِ أَيْضًا أَدَاءً لَاكْتَفَى بِقَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهَا حَقِيقَةً فِي الْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ بِاعْتِبَارِ الِاشْتِرَاكِ لَفْظًا أَوْ مَعْنًى، وَقَدْ أَطْلَعْنَاك عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا لَفْظُ الْأَمْرِ لَا صِيغَتُهُ، وَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى مَا سَبَقَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي اسْمِ الْأَمْرِ حَقِيقَةً فِي الطَّلَبِ الْجَازِمِ أَوْ مُطْلَقِ الطَّلَبِ جَازِمًا أَوْ رَاجِحًا أَوْ مُسَاوِيًا. لَكِنَّ التَّحْقِيقَ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الطَّلَبِ الْجَازِمِ أَوْ الرَّاجِحِ فَيَدْخُلُ فِي الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ الْوَاجِبُ وَالْمَنْدُوبُ، وَإِنْ كَانَ صِيغَةُ الْأَمْرِ مَجَازًا فِي النَّدْبِ فِي الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِالْأَلْفَاظِ الْمَجَازِيَّةِ ثَابِتَةً بِالنَّصِّ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَدْخُلُ الْمُبَاحُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِالْأَمْرِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْكَعْبِيِّ. (قَوْلُهُ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْأَدَاءِ، وَالْقَضَاءِ عَلَى الْآخَرِ مَجَازًا شَرْعِيًّا لِتَبَايُنِ الْمَعْنَيَيْنِ مِنْ اشْتِرَاكِهِمَا فِي تَسْلِيمِ الشَّيْءِ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَفِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] أَيْ أَدَّيْتُمْ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ

عُرِفَتْ فِي وَقْتِهَا فَإِذَا فَاتَ شَرَفُ الْوَقْتِ لَا يُعْرَفُ لَهُ مِثْلٌ إلَّا بِنَصٍّ، وَعِنْدَ عَامَّةِ أَصْحَابِنَا يَجِبُ بِمَا أَوْجَبَ الْأَدَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ بِسَبَبِهِ لَا يَسْقُطُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَلَهُ مِثْلٌ مِنْ عِنْدِهِ يَصْرِفُهُ إلَى مَا عَلَيْهِ فَمَا فَاتَ إلَّا شَرَفُ الْوَقْتِ، وَقَدْ فَاتَ غَيْرَ مَضْمُونٍ إلَّا بِالْإِثْمِ إذَا كَانَ عَامِدًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ» الْحَدِيثَ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَلَى صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا» اسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ، وَالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ شَرَفَ الْوَقْتِ غَيْرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَكَقَوْلِك أَدَّيْت الدَّيْنَ، وَنَوَيْت أَدَاءَ ظُهْرِ الْأَمْسِ، وَأَمَّا بِحَسَبِ اللُّغَةِ فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْقَضَاءَ حَقِيقَةٌ فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَالْمِثْلِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الْإِسْقَاطُ، وَالْإِتْمَامُ، وَالْإِحْكَامُ، وَأَنَّ الْأَدَاءَ مَجَازٌ فِي تَسْلِيمِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الرِّعَايَةِ، وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي الْخُرُوجِ عَمَّا لَزِمَهُ، وَذَلِكَ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ دُونَ الْمِثْلِ (قَوْلُهُ وَالْقَضَاءُ) لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ يَكُونُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَضَاءِ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ فَعِنْدَ الْبَعْضِ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ أَيْ نَصٍّ مُبْتَدَأٍ مُغَايِرٍ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ بِوُجُوبِ الْأَدَاءِ فَفِي عِبَارَةِ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ هَاهُنَا مَا يُعْلَمُ بِهِ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لَا مَا يَثْبُتُ بِهِ الْوُجُودُ كَالْوَقْتِ مَثَلًا، وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي أَثْنَاءِ الدَّلِيلِ، وَعِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي أَبِي زَيْدٍ، وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءُ يَجِبُ بِالدَّلِيلِ الَّذِي أَوْجَبَ الْأَدَاءَ احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنَّ إقَامَةَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ إنَّمَا عُرِفَتْ قُرْبَةً شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُمْكِنُنَا إقَامَةُ مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ فِي وَقْتٍ آخَرَ مَقَامَهُ بِالْقِيَاسِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ، وَتَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ فَإِنَّ إقَامَةَ الْخُطْبَةِ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ لَيْسَتْ مَشْرُوعَةً فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَذَا الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ عَقِيبَ الصَّلَوَاتِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: فَإِذَا فَاتَ شَرَفُ الْوَقْتِ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَيْ لِلْفِعْلِ الَّذِي عُرِفَ كَوْنُهُ قُرْبَةً مِثْلٌ إلَّا بِنَصٍّ إذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي مَقَادِيرِ الْعِبَادَاتِ، وَهَيْئَاتِهَا، وَإِثْبَاتِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا لَا يُقَالُ: لَوْ وَجَبَ بِنَصٍّ جَدِيدٍ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً فَلَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَتُهُ قَضَاءً حَقِيقَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ سُمِّيَ قَضَاءً لِكَوْنِهِ اسْتِدْرَاكًا لِوُجُوبٍ سَابِقٍ بِخِلَافِ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً. وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا وَجَبَ فِي وَقْتِهِ بِسَبَبِهِ أَيْ بِدَلِيلِهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ لَا يَسْقُطُ وُجُوبُهُ لِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَالْحَالُ أَنَّ لِلْفِعْلِ مِثْلًا مِنْ عِنْدِ الْمُكَلَّفِ يَصْرِفُهُ إلَى مَا وَجَبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ يُقَرِّرُ تَرْكَ الِامْتِثَالِ، وَهُوَ يُقَرِّرُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْعُهْدَةِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ، وَلَهُ مِثْلٌ مِنْ عِنْدِهِ عَنْ الْجُمُعَةِ، وَتَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ حَيْثُ لَمْ يُشْرَعْ إقَامَةُ الْخُطْبَةِ مَقَامَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَالْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنْ قِيلَ: مِنْ جُمْلَةِ الْهَيْئَاتِ وَالْأَوْصَافِ هُوَ الْوَقْتُ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ قُلْنَا فَيُقْصَرُ الْفَوَاتُ عَلَى مَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ إدْرَاكُ شَرَفِ الْوَقْتِ، وَيَبْقَى أَصْلُ الْعِبَادَةِ مَقْدُورًا مَضْمُونًا فَيُطَالَبُ بِالْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَتِهِ بِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ

مَضْمُونٍ أَصْلًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَامِدًا فِي التَّرْكِ. (وَإِذَا ثَبَتَ فِي الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَهُوَ مَعْقُولٌ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِمَا كَالْمَنْذُورَاتِ الْمُعَيَّنَةِ، وَالِاعْتِكَافِ قِيَاسًا، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّصِّ لِإِعْلَامِ أَنَّ مَا وَجَبَ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ غَيْرُ سَاقِطٍ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَأَنَّ شَرَفَ الْوَقْتِ سَاقِطٌ لَا لِلْإِيجَابِ ابْتِدَاءً) جَوَابُ إشْكَالٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا وَجَبَ بِالنَّصِّ وَهُوَ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فَيَكُونُ، وَاجِبًا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ لَا بِالسَّبَبِ الَّذِي أَوْجَبَ الْأَدَاءَ فَقَالَ فِي جَوَابِهِ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّصِّ لِإِعْلَامِ إلَخْ، وَأَيْضًا (لَا يَرِدُ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ، وَالْمَنْذُورَاتِ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الْأَصْلُ) ، وَهُوَ أَنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ بِمَا أَوْجَبَ الْأَدَاءَ (قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ فِي رَمَضَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ فِي رَمَضَانَ آخَرَ) أَيْ إذَا نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِي رَمَضَانَ، وَلَمْ يَعْتَكِفْ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَهُ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَيُمَاثِلُهُ فِي الْهَيْئَاتِ، وَالْأَذْكَارِ حِسًّا، وَعَقْلًا، وَفِي إزَالَةِ الْمَأْثَمِ شَرْعًا، وَإِنْ لَمْ يُمَاثِلْهُ فِي إحْرَازِ الْفَضِيلَةِ فَإِنْ قِيلَ: الْوَاجِبُ بِصِفَةٍ لَا يَبْقَى بِدُونِهَا كَالْوَاجِبِ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ يَسْقُطُ بِسُقُوطِهَا قُلْنَا: نَعَمْ إذَا كَانَتْ الصِّفَةُ مَقْصُودَةً، وَالْوَقْتُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِبَادَةِ هُوَ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ، وَامْتِنَاعُ التَّقْدِيمِ عَلَى الْوَقْتِ إنَّمَا هُوَ لِامْتِنَاعِ تَقْدِيمِ الْحُكْمِ عَلَى السَّبَبِ فَإِنْ قِيلَ: الْفَائِتُ يُقَابَلُ بِالْمِثْلِ أَوْ الضَّمَانِ فَمَا الَّذِي قُوبِلَ بِهِ شَرَفُ الْوَقْتِ الْفَائِتِ قُلْنَا: قَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ مُقَابَلَتِهِ بِالْمِثْلِ إذَا لَمْ يُشْرَعْ لِلْعَبْدِ مَا يُمَاثِلُ شَرَفَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا الْمُقَابَلَةُ بِالضَّمَانِ فَقَدْ انْتَفَتْ فِي غَيْرِ الْعَمْدِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ، وَالنِّسْيَانُ» ، وَيَثْبُتُ تَحْقِيقُ الْإِثْمِ فِي الْعَمْدِ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى تَأْثِيمِ تَارِكِ الْوَاجِبِ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ، ثُمَّ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْقَوْمِ أَنْ يُرَادَ الْآيَةُ، وَالْحَدِيثُ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِلتَّمَسُّكِ بِهِمَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ لَا يَسْقُطُ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ صَرَّحَ بِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ إذَا كَانَ عَامِدًا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَامِدًا لَا يَكُونُ شَرَفُ الْوَقْتِ مَضْمُونًا أَصْلًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ جَزَاءَ التَّرْكِ غَيْرَ عَامِدٍ، وَهُوَ الْإِتْيَانُ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ، وَالصَّلَاةِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِشَيْءٍ آخَرَ بَلْ مَعَ إيمَاءٍ إلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَأْتِيِّ بِهِ فِي وَقْتِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الِاسْتِدْلَالَ بِهِمَا عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ لِخُرُوجِ الْوَقْتِ إلَّا أَنَّهُ نَبَّهَ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى زِيَادَةِ فَائِدَةٍ. وَبِالْجُمْلَةِ بَقَاءُ الْوُجُوبِ بَعْدَ الْوَقْتِ ثَابِتٌ فِي الصَّوْمِ بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَفِي الصَّلَاةِ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَكِلَاهُمَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْوَقْتِ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا، وَلَا عَجْزَ فِي حَقِّ أَصْلِ الْعِبَادَةِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ كَالْمَنْذُورِ، وَالِاعْتِكَافِ قِيَاسًا عَلَيْهِمَا بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عِبَادَةٌ، وَجَبَتْ بِسَبَبِهَا فَإِنْ قِيلَ: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ لَا لَكُمْ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ قَضَاءِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ

الْمَنْذُورِ فِي رَمَضَانَ آخَرَ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ بِمَا أَوْجَبَ الْأَدَاءَ، وَالْأَدَاءُ قَدْ أَوْجَبَهُ النَّذْرُ، وَالنَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ لَمْ يُوجِبْ صَوْمًا مَخْصُوصًا بِالِاعْتِكَافِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي رَمَضَانَ آخَرَ. (قُلْنَا: الْقَضَاءُ هَاهُنَا يَجِبُ بِمَا أَوْجَبَ الْأَدَاءَ) أَيْ النَّذْرُ (وَهُوَ يَقْتَضِي صَوْمًا مَخْصُوصًا بِالِاعْتِكَافِ لَكِنَّهُ) أَيْ الصَّوْمَ الْمَخْصُوصَ بِالِاعْتِكَافِ (سَقَطَ فِي رَمَضَانَ بِعَارِضِ شَرَفِ الْوَقْتِ فَإِذَا فَاتَ هَذَا) أَيْ عَارِضُ شَرَفِ الْوَقْتِ (بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ دَرْكُهُ إلَّا بِوَقْتٍ مَدِيدٍ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ) وَهُوَ مِنْ شَوَّالٍ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ (عَادَ إلَى الْأَصْلِ مُوجِبًا لِصَوْمٍ مَقْصُودٍ) أَيْ لِصَوْمٍ مَخْصُوصٍ بِالِاعْتِكَافِ (فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ مَعَ سُقُوطِ شَرَفِ الْوَقْتِ أَحْوَطُ مِنْ وُجُوبِهِ مَعَ رِعَايَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ إذْ سُقُوطُهُ يُوجِبُ صَوْمًا مَقْصُودًا، وَفَضِيلَةُ الصَّوْمِ الْمَقْصُودِ أَحْوَطُ مِنْ فَضِيلَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ) هَذَا هُوَ مُرَادُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ، وَكَانَ هَذَا أَحْوَطَ الْوَجْهَيْنِ، وَالْإِشَارَةُ تَرْجِعُ إلَى السُّقُوطِ فِي قَوْلِهِ فَسَقَطَ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالسُّنَّةِ، وَوُجُوبَ قَضَاءِ غَيْرِهِمَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ بِالْقِيَاسِ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ، وَدَلِيلٍ مُبْتَدَأٍ لَا بِمَا أَوْجَبَ الْأَدَاءَ، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّصَّ لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ بَلْ لِلْإِعْلَامِ بِبَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَسُقُوطِ شَرَفِ الْوَقْتِ لَا إلَى مِثْلٍ، وَضَمَانٍ فِيمَا إذَا كَانَ إخْرَاجُ الْوَاجِبِ عَنْ الْوَقْتِ بِعُذْرٍ، وَالْقِيَاسُ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ فَيَكُونُ بَقَاءُ وُجُوبِ الْمَنْذُورِ، وَالِاعْتِكَافِ ثَابِتًا بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِي بَقَاءِ وُجُوبِ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ، وَيَكُونُ الْوُجُوبُ فِي الْكُلِّ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ لَا يُقَالُ: لَوْ ثَبَتَ الْقَضَاءُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ لَكَانَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لَهُ، وَنَحْنُ قَاطِعُونَ بِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: صُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَا يَقْتَضِي صَوْمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَأَيْضًا لَوْ اقْتَضَاهُ لَكَانَ أَدَاءً بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَقُولَ: صُمْ إمَّا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَإِمَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَلَكَانَا سَوَاءً فَلَا يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُمِرَ بِالصَّوْمِ، وَبِإِيقَاعِهِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ فَلَمَّا فَاتَ إيقَاعُهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ الَّذِي بِهِ كَمَالُ الْمَأْمُورِ بِهِ بَقِيَ الْوُجُوبُ مَعَ نَقْصٍ فِيهِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ اقْتِضَاءُ خُصُوصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَلَا كَوْنُهُ أَدَاءً فِيهِ، وَلَا كَوْنُ صَوْمِ الْيَوْمَيْنِ سَوَاءً. (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكَفَ رَمَضَانَ أَوْ أَعْتَكَفَ هَذَا الشَّهْرَ مُشِيرًا إلَى رَمَضَانَ فَصَامَهُ، وَلَمْ يَعْتَكِفْ لَزِمَهُ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ شَهْرًا مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ مُبْتَدَأٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ فِي رَمَضَانَ آخَرَ مُكْتَفِيًا بِصَوْمِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلَوْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ النَّذْرُ لَجَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ الْآخَرَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي كَوْنِ الصَّوْمِ مَشْرُوعًا فِيهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ، وَكَوْنُ الِاعْتِكَافِ فِيهِ صَحِيحًا، وَلَمَّا لَمْ يَجُزْ عُلِمَ أَنَّهُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ هُوَ التَّفْوِيتُ، وَهُوَ سَبَبٌ مُطْلَقٌ يُوجِبُ الِاعْتِكَافَ بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ مَخْصُوصٍ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا نَذَرَ ابْتِدَاءً أَنْ يَصُومَ شَهْرًا فَظَاهِرُ هَذَا التَّقْرِيرِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ الْجَدِيدِ أَوْ السَّبَبِ

مِنْ الزِّيَادَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ، وُجُوبَ الْقَضَاءِ مَعَ سُقُوطِ زِيَادَةٍ تَثْبُتُ بِشَرَفِ الْوَقْتِ أَحْوَطُ مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنْ يَجِبَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُوبِ رِعَايَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ كَمَا أَنَّ الْأَدَاءَ وَجَبَ مَعَهُ فَكَأَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي سُقُوطِ شَرَفِ الْوَقْتِ تَرْكَ الِاحْتِيَاطِ فَنُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا أَحْوَطُ مِنْ وُجُوبِ رِعَايَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَحْوَطِيَّةِ مَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ إلَخْ فَمَعْنَاهُ أَنَّ شَرَفَ الْوَقْتِ أَوْجَبَ زِيَادَةً، وَأَوْجَبَ نُقْصَانًا فَالزِّيَادَةُ هِيَ أَفْضَلِيَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى صِيَامِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَالنُّقْصَانُ هُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّوْمِ الْمَقْصُودِ فَلَمَّا مَضَى رَمَضَانُ سَقَطَ وُجُوبُ رِعَايَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ إمْكَانِ الْمَوْتِ قَبْلَ رَمَضَانَ آخَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطُ ذَلِكَ النُّقْصَانُ الْمُنْجَبِرُ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ أَيْضًا، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّوْمِ الْمَقْصُودِ بِالطَّرِيقَةِ الْأُولَى. وَوَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ الْعِبَادَةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ فَسُقُوطُ النُّقْصَانِ أَوْلَى مِنْ سُقُوطِ الزِّيَادَةِ، وَأَيْضًا سُقُوطُ الزِّيَادَةِ بِشَرَفِ الْوَقْتِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِخَوْفِ الْمَوْتِ، وَسُقُوطُ النُّقْصَانِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُوبِ صَوْمٍ مَقْصُودٍ يَثْبُتُ بِخَوْفِ الْمَوْتِ، وَالنَّذْرِ بِالِاعْتِكَافِ أَيْضًا فَإِذَا سَقَطَتْ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ سَقَطَ النُّقْصَانُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. وَسُقُوطُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَوَّلِ هُوَ سَبَبُ الْحُكْمِ لَا النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ: السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْأَدَاءِ هُوَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، وَالسَّبَبُ الْجَدِيدُ هُوَ قِيَاسُ الْمَنْذُورِ عَلَى الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ بَلْ النَّصُّ الْوَارِدُ فِي وُجُوبِ قَضَائِهِمَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَوْنُ سَبَبِ الْقَضَاءِ هُوَ النَّذْرَ كِنَايَةً عَنْ وُجُوبِهِ بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الْمَنْذُورِ، وَكَوْنُهُ هُوَ التَّفْوِيتَ كِنَايَةً عَنْ وُجُوبِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ تَعْبِيرًا بِاللَّازِمِ عَنْ الْمَلْزُومِ، وَفِي لَفْظِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إلَى هَذَا الْمَعْنَى. أَوْ يُقَالُ: هَذَا تَمْثِيلٌ لِإِيجَابِ الشَّارِعِ الْفِعْلَ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِإِيجَابِ الْمُكَلَّفِ إيَّاهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِيمَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ يَكُونُ بِمُوجِبٍ جَدِيدٍ لَا بِالْمُوجِبِ الْأَوَّلِ فَكَذَا فِي إيجَابِ الشَّارِعِ، وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ، وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ بِالنَّذْرِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي صَوْمًا، وَلِلِاعْتِكَافِ أَثَرٌ فِي إيجَابِهِ، وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا النُّقْصَانُ فِي مَسْأَلَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَارِضِ شَرَفِ الْوَقْتِ، وَمَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ فَقَدْ فَاتَ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اكْتِسَابِ مِثْلِهِ إلَّا بِالْحَيَاةِ إلَى رَمَضَانَ آخَرَ، وَهُوَ وَقْتٌ مَدِيدٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْحَيَاةُ، وَالْمَمَاتُ فَلَمْ تَثْبُتْ الْقُدْرَةُ فَسَقَطَ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ مِنْ الزِّيَادَةِ فَبَقِيَ مَضْمُونًا بِإِطْلَاقِهِ، وَكَانَ هَذَا أَحْوَطَ الْوَجْهَيْنِ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ مِنْ الزِّيَادَةِ لَمَّا احْتَمَلَ السُّقُوطَ، فَالنُّقْصَانُ، وَالرُّخْصَةُ الْوَاقِعَةُ بِالشَّرَفِ لَأَنْ يَحْتَمِلَ السُّقُوطَ، وَالْعَوْدَ إلَى الِاعْتِكَافِ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْلَى فَإِذَا عَادَ لَمْ يَتَأَدَّ فِي رَمَضَانَ الثَّانِي فَقَوْلُهُ يَقْتَضِي صَوْمًا مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ» ، وَإِيجَابُ الشَّيْءِ إيجَابٌ لِتَوَابِعِهِ، وَشَرَائِطِهِ الَّتِي لَا يَتَوَسَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهَا، وَيَكُونُ مِمَّا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِمَّا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ صَلَاةً، وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ جَازَ أَدَاؤُهَا بِهِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى وُضُوءٍ لِأَجْلِهَا، وَقَوْلُهُ: وَإِنَّمَا جَاءَ هَذَا النُّقْصَانُ أَيْ عَدَمُ وُجُوبِ صَوْمٍ مَقْصُودٍ مَخْصُوصٍ بِالِاعْتِكَافِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِوَاسِطَةِ أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ بِشَرَفِهِ، وَاخْتِصَاصِهِ بِفَرْضِيَّةِ الصَّوْمِ فِيهِ لَا يَقْبَلُ إيجَابَ الصَّوْمِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ وُجُوبُ الصَّوْمِ الْمُخَصَّصِ بِالِاعْتِكَافِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَمَا أَمْكَنَ إدْرَاكُ فَضِيلَةِ الِاعْتِكَافِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّرِيفِ فَثَبَتَ بِعَارِضِ شَرَفِ الْوَقْتِ نُقْصَانٌ هُوَ عَدَمُ وُجُوبِ صَوْمٍ مَخْصُوصٍ بِالِاعْتِكَافِ، وَزِيَادَةٌ هِيَ فَضِيلَةُ الْعِبَادَةِ فِي الْوَقْتِ الشَّرِيفِ، وَفَضْلُ صِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى صِيَامِ سَائِرِ الْأَيَّامِ، وَقَوْلُهُ فَلَمْ تَثْبُتْ الْقُدْرَةُ أَيْ عَلَى اكْتِسَابِ مِثْلِ مَا فَاتَ مِنْ زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ الثَّابِتَةِ بِشَرَفِ الْوَقْتِ فَسَقَطَ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ اكْتِسَابِهِ فَبَقِيَ الِاعْتِكَافُ مَضْمُونًا بِإِطْلَاقِهِ إذْ لَا عَجْزَ عَنْهُ، وَإِطْلَاقُهُ يَقْتَضِي صَوْمًا مَقْصُودًا مَخْصُوصًا بِهِ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ صَلَاةٍ وَجَبَتْ مَعَ شَرَفِ الْوَقْتِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ إدْرَاكِ شَرَفِ الْوَقْتِ لِخُرُوجِهِ فَبَقِيَ أَصْلُ الصَّلَاةِ مَضْمُونًا بِشَرَائِطِهَا، وَقَوْلُهُ، وَكَانَ هَذَا أَيْ سُقُوطُ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ مِنْ زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ، وَبَقَاءِ الِاعْتِكَافِ مَضْمُونًا بِإِطْلَاقِهِ أَحْوَطُ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا: وُجُوبُ الْقَضَاءِ مَعَ سُقُوطِ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجِبَ الْقَضَاءُ بِصَوْمٍ مَخْصُوصٍ، وَالْآخَرُ وُجُوبُ الْقَضَاءِ مَعَ رِعَايَةِ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ مِنْ الزِّيَادَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْضِيَ الِاعْتِكَافَ فِي رَمَضَانَ آخَرَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ أَحْوَطَ الْوَجْهَيْنِ: هُوَ أَنَّ مَا ثَبَتَ بِشَرَفِ الْوَقْتِ مِنْ الزِّيَادَةِ لَمَّا احْتَمَلَ السُّقُوطَ بِمُضِيِّ رَمَضَانَ فَالنُّقْصَانُ الثَّابِتُ، وَالرُّخْصَةُ الْوَاقِعَةُ بِشَرَفِ الْوَقْتِ أَوْلَى بِاحْتِمَالِ السُّقُوطِ، وَالْعَوْدَةِ إلَى الْكَمَالِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَهُوَ أَنْ يَقْتَرِنَ بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ مَخْصُوصٍ بِهِ، وَإِذَا عَادَ الِاعْتِكَافُ الْمَنْذُورُ إلَى كَمَالِهِ لَمْ يَتَأَدَّ بِالِاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ الثَّانِي لِخُلُوِّهِ عَنْ الصَّوْمِ الْمَخْصُوصِ بِالِاعْتِكَافِ؛ وَلِأَنَّهُ وَجَبَ كَامِلًا فَلَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا. وَوَجْهُ أَوْلَوِيَّةِ سُقُوطِ النُّقْصَانِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْعِبَادَةِ أَحْوَطُ مِنْ تَرْكِهَا، وَإِيجَابَهَا أَوْلَى مِنْ نَفْيِهَا، وَزِيَادَتَهَا خَيْرٌ مِنْ النُّقْصَانِ فِيهَا فَسُقُوطُ النُّقْصَانِ فِيهَا يَكُونُ أَوْلَى مِنْ سُقُوطِ الزِّيَادَةِ، وَأَيْضًا سُقُوطُ النُّقْصَانِ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُوبِ صَوْمٍ مَخْصُوصٍ بِهِ فَهُوَ تَكْثِيرٌ لِلْعِبَادَةِ، وَتَكْمِيلٌ لِلِاعْتِكَافِ فَيَكُونُ أَوْلَى، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مُوجِبَ سُقُوطِ الزِّيَادَةِ أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ خَوْفُ الْمَوْتِ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ الثَّانِي، وَمُوجِبُ سُقُوطِ النُّقْصَانِ أَمْرَانِ: خَوْفُ الْمَوْتِ، وَالنَّذْرُ بِالِاعْتِكَافِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ خَوْفَ

النُّقْصَانِ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُوبِ صَوْمٍ مَقْصُودٍ فَعُلِمَ أَنَّ سُقُوطَ شَرَفِ الْوَقْتِ يُوجِبُ وُجُوبَ صَوْمٍ مَقْصُودٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ مَعَ فَضِيلَةِ الصَّوْمِ الْمَقْصُودِ أَحْوَطُ مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَوْتِ قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ الثَّانِي يُوجِبُ قَضَاءَ الِاعْتِكَافِ قَبْلَهُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا بِسُقُوطِ النُّقْصَانِ، وَإِيجَابِ صَوْمٍ مَخْصُوصٍ بِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ الِاعْتِكَافَ شَرْعٌ بِصَوْمٍ لَهُ أَثَرٌ فِي إيجَابِهِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ إلَّا بِعَارِضٍ فَبِالنَّذْرِ بِالِاعْتِكَافِ يَثْبُتُ صَوْمٌ مَخْصُوصٌ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى سُقُوطِ النُّقْصَانِ فَإِذَا ثَبَتَ مَا يُثْبِتُهُ خَوْفُ الْمَوْتِ فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ مَا يُثْبِتُهُ خَوْفُ الْمَوْتِ، وَشَيْءٌ آخَرُ مَعَ تَحَقُّقِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّ قُوَّةَ السَّبَبِ، وَكَثْرَتِهِ أَدْعَى إلَى وُجُودِ الْمُسَبِّبِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُؤَثِّرَيْنِ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِثْبَاتِ هَاهُنَا الِاسْتِلْزَامُ وَالِاقْتِضَاءِ لَا التَّأْثِيرُ، وَالْإِيجَادُ فَإِنْ قُلْت: الزِّيَادَةُ، وَالنُّقْصَانُ قَدْ ثَبَتَا بِعَارِضِ شَرَفِ الْوَقْتِ فَيَسْقُطَانِ لِفَوَاتِهِ لِانْعِدَامِ الْأَثَرِ بِانْعِدَامِ الْمُؤَثِّرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ التَّطْوِيلِ قُلْت السَّبَبُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا لِحُدُوثِ الْمُسَبِّبِ دُونَ بَقَائِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِهِ كَالصَّلَاةِ وَجَبَتْ بِالْوَقْتِ، وَبَقِيَ الْوُجُوبُ بَعْدَ انْقِضَائِهِ فَلَا بُدَّ فِي بَيَانِ الْمَطْلُوبِ مِمَّا ذَكَرُوا فِيهِ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ سُقُوطَ شَيْءٍ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ صَوْمٍ مَقْصُودٍ فَيَكُونُ وُجُوبُهُ ثَابِتًا بِلَا دَلِيلٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ بِالِاعْتِكَافِ مُوجِبٌ لِصَوْمٍ مَقْصُودٍ إلَّا أَنَّ عَارِضَ شَرَفِ الْوَقْتِ كَانَ مَانِعًا عَنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَبَعْدَ انْعِدَامِهِ ثَبَتَ الْحُكْمُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ، وَقَوْلُهُ؛ لَأَنْ يَحْتَمِلَ بِفَتْحِ اللَّامِ عَلَى أَنَّهَا اللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الَّتِي مُبْتَدَؤُهَا أَنْ يَحْتَمِلَ، وَخَبَرُهَا أَوْلَى، وَضَمِيرُ يَحْتَمِلُ عَائِدٌ إلَى النُّقْصَانِ وَالرُّخْصَةِ وَحْدَهُ لِاتِّحَادِهِمَا مَعْنًى إذْ الْمُرَادُ بِهِمَا عَدَمُ وُجُوبِ الصَّوْمِ الْمَقْصُودِ. وَقَوْلُهُ رَمَضَانَ آخَرَ، وَرَمَضَانُ الثَّانِي بِتَنْكِيرِ الْوَصْفِ، وَتَعْرِيفِهِ أُخْرَى مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ إذَا قُصِدَ بِهِ مُعَيَّنٌ، وَمُنَكَّرٌ إذَا قَصَدْت بِهِ مُبْهَمًا مِثْلُ مَرَرْت بِزَيْدٍ الْفَاضِلِ، وَزَيْدٍ آخَرَ فَأَرَادَ بِرَمَضَانَ آخَرَ رَمَضَانَ مُغَايِرًا لِلَّذِي نَذَرَ الِاعْتِكَافَ فِيهِ أَيًّا كَانَ، وَبِرَمَضَانَ الثَّانِي الَّذِي يَلِيهِ، وَهُوَ مُعَيَّنٌ. إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ، وَلَا يُجْزِئُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْآخَرَ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِالنَّكِيرِ، وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي رَمَضَانَ آخَرَ لِإِبْهَامِهِ، وَإِلَى رَمَضَانَ الْآخَرَ لِتَعَيُّنِهِ، وَالْعَلَمُ هُوَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِالْإِضَافَةِ، وَرَمَضَانُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحَذْفِ لِتَخْفِيفِ ذِكْرِهِ فِي الْكَشَّافِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ رَمَضَانُ عَلَمًا لَكَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ بِمَنْزِلَةِ إنْسَانِ زَيْدٍ، وَلَا يَخْفَى قُبْحُهُ، وَلِهَذَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ شَهْرُ رَمَضَانَ، وَلَمْ يُسْمَعْ شَهْرُ رَجَبٍ، وَشَهْرُ شَعْبَانَ عَلَى الْإِضَافَةِ (قَوْلُهُ، وَسُقُوطُ النُّقْصَانِ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُوبِ صَوْمٍ مَقْصُودٍ) ذَكَرَهُ قُبَيْلَ هَذَا عَلَى قَصْدِ التَّفْسِيرِ وَهَاهُنَا عَلَى قَصْدِ التَّقْرِيرِ لِيَسْتَنْتِجَ مِنْهُ أَنَّ سُقُوطَ شَرَفِ الْوَقْتِ يُوجِبُ وُجُوبَ صَوْمٍ مَقْصُودٍ

مَعَ فَضِيلَةِ شَرَفِ الْوَقْتِ إذْ فَضِيلَةُ شَرَفِ الْوَقْتِ فَضِيلَةٌ يَغْلِبُ فَوْتُهَا بِخِلَافِ فَضِيلَةِ الصَّوْمِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا الْبَحْثُ مِنْ مُشْكِلَاتِ مَبَاحِثِ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ فَسَّرَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي الْوَجْهَانِ بِغَيْرِ مَا فَسَّرْت لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْكِيَاسَةِ الْمُمَارِسِينَ لِلْعُلُومِ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى الْأَحْوَطِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْت لَا مَا تَوَهَّمُوهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مُلْهِمِ الصَّوَابَ. (وَالْأَدَاءُ إمَّا كَامِلٌ، وَهُوَ أَنْ يُؤَدَّى بِالْوَصْفِ الَّذِي شُرِعَ كَالْجَمَاعَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ يُوجِبُ سُقُوطَ النُّقْصَانِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ وُجُوبِ صَوْمٍ مَقْصُودٍ. وَسُقُوطُ الْعَدَمِ ثُبُوتٌ؛ لِأَنَّ نَفْيَ النَّفْيِ إثْبَاتٌ فَيَكُونُ سُقُوطُ النُّقْصَانِ عِبَارَةً عَنْ وُجُوبِ صَوْمٍ مَقْصُودٍ فَيَكُونُ مُوجِبُ السُّقُوطِ مُوجِبًا لَهُ (قَوْلُهُ إذْ فَضِيلَةُ شَرَفِ الْوَقْتِ فَضِيلَةٌ يَغْلِبُ فَوْتُهَا) ؛ لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ مَشْرُوعٌ فِي جَمِيعِ الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَهَذِهِ الْفَضِيلَةُ لَا تُوجَدُ إلَّا فِي وَاحِدٍ مِنْهَا بِخِلَافِ فَضِيلَةِ الصَّوْمِ الْمَقْصُودِ فَإِنَّ فَوْتَهَا نَادِرٌ لَا يَكُونُ إلَّا بِنَذْرِ الِاعْتِكَافِ فِي رَمَضَانَ (قَوْلُهُ وَقَدْ فَسَّرَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي الْوَجْهَانِ بِغَيْرِ مَا فَسَّرْت) فَقِيلَ: أَحَدُهُمَا إيجَابُ الْقَضَاءِ بِمَا أَوْجَبَ الْأَدَاءَ، وَالْآخَرُ: إيجَابُهُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ هُوَ التَّفْوِيتُ، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي صُورَةِ الْفَوَاتِ دُونَ التَّفْوِيتِ كَمَا إذَا حَدَثَ بِهِ فِي رَمَضَانَ مَرَضٌ مَانِعٌ مِنْ الِاعْتِكَافِ دُونَ الصَّوْمِ كَالْإِسْهَالِ مَثَلًا، وَقِيلَ أَحَدُهُمَا: إيجَابُ الْقَضَاءِ بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ، وَالْآخَرُ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ بِزَوَالِ الْوَقْتِ لِتَعَذُّرِ الِاعْتِكَافِ بِلَا صَوْمٍ، وَتَعَذُّرِ إيجَابِ الصَّوْمِ بِلَا مُوجِبٍ كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالْأَوَّلُ أَحْوَطُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إسْقَاطَ النُّقْصَانِ، وَإِعَادَةَ الْوَاجِبِ إلَى صِفَةِ الْكَمَالِ بِإِيجَادِ مَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ بِوُجُوبِهِ، وَفِي الثَّانِي إسْقَاطُ أَصْلِ الْوَاجِبِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ التَّبَعِ. وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَحْوَطُ مِنْ الثَّانِي بِهَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَتِيجَةَ الدَّلِيلِ هُوَ عَدَمُ التَّأَدِّي فِي رَمَضَانَ الثَّانِي فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَجْهُ الثَّانِي الْغَيْرُ الْأَحْوَطِ هُوَ التَّأَدِّي فِي رَمَضَانَ الثَّانِي بِأَنْ يَجِبَ الْقَضَاءُ مَعَ رِعَايَةِ الزِّيَادَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا الْوُجُوبُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ، وَلَا سُقُوطُ الْقَضَاءِ عَنْ أَصْلِهِ كَمَا فِي التَّفْسِيرِ الثَّانِي، وَلِهَذَا اعْتَرَفَ الذَّاهِبُونَ إلَى التَّفْسِيرَيْنِ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ لَيْسَ دَلِيلًا عَلَى الْأَحْوَطِيَّةِ بَلْ بَيَانًا لِإِمْكَانِ إيجَابِ الْقَضَاءِ بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ بِمَعْنَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الثَّابِتَةَ لِلْعِبَادَةِ بِشَرَفِ الْوَقْتِ وَقَدْ تَسْقُطُ بِزَوَالِ الْوَقْتِ كَمَا فِي الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ فَسُقُوطُ النُّقْصَانِ، وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الصَّوْمِ، وَالْعَوْدُ مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الْكَمَالِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَوْدٌ مِنْ الْكَمَالِ إلَى النُّقْصَانِ، وَهَذَا عَوْدٌ مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الْكَمَالِ، وَمِنْ الرُّخْصَةِ إلَى الْعَزِيمَةِ، وَلَمَّا سَقَطَ النُّقْصَانُ، وَعَادَ إلَى الْكَمَالِ لَمْ يَتَأَدَّ فِي رَمَضَانَ الثَّانِي، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ بَعِيدٌ لَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ (قَوْلُهُ، وَالْأَدَاءُ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمَأْمُورَ

أَوْ قَاصِرٌ إنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ كَصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ، وَالْمَسْبُوقُ مُنْفَرِدٌ أَوْ شَبِيهٌ بِالْقَضَاءِ كَفِعْلِ اللَّاحِقِ فَإِنَّهُ أَدَاءٌ بِاعْتِبَارِ الْوَقْتِ، وَقَضَاءٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ بِمِثْلِهِ فَكَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَعَلَى هَذَا إنْ اقْتَدَى الْمُسَافِرُ بِمِثْلِهِ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ، ثُمَّ أَقَامَ) إمَّا بِدُخُولِ مِصْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ، وَإِمَّا بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ (، وَقَدْ فَرَغَ إمَامُهُ يَبْنِي رَكْعَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَضَاءٌ) ، وَالْقَضَاءُ لَا يَتَغَيَّرُ أَصْلًا لَا بِإِقَامَةٍ، وَلَا بِالسَّفَرِ (وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ) أَيْ إمَامُهُ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ اقْتَدَى مُسَافِرٌ بِمُسَافِرٍ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ سَبَقَ الْمُقْتَدِي حَدَثٌ فَدَخَلَ مِصْرَهُ لِلْوُضُوءِ أَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ، وَالْإِمَامُ لَمْ يَفْرُغْ يُتِمُّ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ اعْتَرَضَتْ عَلَى الْأَدَاءِ فَصَارَ فَرْضًا أَرْبَعًا (أَوْ كَانَ هَذَا الْمُسَافِرُ مَسْبُوقًا) أَيْ كَانَ الْمُسَافِرُ الَّذِي اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْوَقْتِ مَسْبُوقًا أَيْ اقْتَدَى بَعْدَ مَا صَلَّى الْإِمَامُ رَكْعَةً فَلَمَّا تَمَّ صَلَاةُ الْإِمَامِ نَوَى الْمُقْتَدِي الْإِقَامَةَ فَإِنَّهُ يُتِمُّ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ اعْتَرَضَتْ عَلَى قَدْرِ مَا سَبَقَ، وَهُوَ مُؤَدٍّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ كُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِهِ إمَّا أَدَاءٌ أَوْ قَضَاءٌ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا مَحْضٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَبَهُ الْآخَرِ أَوْ غَيْرُ مَحْضٍ إنْ كَانَ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةً، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: الْأَمْرُ يَتَنَوَّعُ بِنَوْعَيْنِ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُمَا يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْأَدَاءِ الْمَحْضِ، وَالْقَضَاءِ الْمَحْضِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ الْمَحْضَ إنْ كَانَ مُسْتَجْمِعًا لِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ الْمَشْرُوعَةِ فَأَدَاءٌ كَامِلٌ، وَإِلَّا فَقَاصِرٌ، وَالْقَضَاءُ الْمَحْضُ إمَّا أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ فَقَضَاءٌ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُعْقَلَ فَقَضَاءٌ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَصِيرُ الْأَقْسَامُ سِتَّةً، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ صِفَةَ حُكْمِ الْأَمْرِ أَدَاءٌ، وَقَضَاءٌ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ فَالْأَقْسَامُ بِحَسَبِ الْإِجْمَالِ أَرْبَعَةٌ، وَبِحَسَبِ التَّفْصِيلِ سِتَّةٌ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْ السِّتَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ يَصِيرُ اثْنَيْ عَشَرَ قِسْمًا فَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ تَقْسِيمَ مُطْلَقِ الْأَدَاءِ إلَى الْكَامِلِ، وَالْقَاصِرِ حَاصِلٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْيِ، وَالْإِثْبَاتِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّبِيهُ بِالْقَضَاءِ قِسْمًا مِنْهُمَا، وَقَدْ جَعَلَهُ قَسِيمًا لَهُمَا إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَفِي الْعِبَارَةِ اخْتِصَارٌ أَيْ الْأَدَاءُ إمَّا مَحْضٌ، وَهُوَ كَامِلٌ أَوْ قَاصِرٌ وَإِمَّا تَشْبِيهٌ بِالْقَضَاءِ (قَوْلُهُ كَالْجَمَاعَةِ) يَعْنِي فِيمَا شُرِعَتْ فِيهِ الْجَمَاعَةُ مِثْلُ الْمَكْتُوبَاتِ، وَالْعِيدَيْنِ، وَالْوِتْرِ فِي رَمَضَانَ، وَالتَّرَاوِيحِ، وَإِلَّا فَالْجَمَاعَةُ صِفَةُ قُصُورٍ بِمَنْزِلَةِ الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ، ثُمَّ الصَّلَاةُ الَّتِي شُرِعَتْ فِيهَا الْجَمَاعَةُ إمَّا أَنْ تُؤَدَّى كُلُّهَا بِالْجَمَاعَةِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ الْكَامِلُ أَوْ كُلُّهَا بِالِانْفِرَادِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ الْقَاصِرُ أَوْ يُؤَدَّى بِالِانْفِرَادِ بَعْضُهَا فَقَطْ فَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا الْأَوَّلَ فَهُوَ أَيْضًا قَاصِرٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا الْآخَرَ فَهُوَ أَدَاءٌ شَبِيهٌ بِالْقَضَاءِ، وَفِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ، وَالْمَسْبُوقُ مُنْفَرِدًا أَيْ فِيمَا سُبِقَ بِهِ فَيَكُونُ أَدَاؤُهُ قَاصِرًا فَفِي التَّمْثِيلِ لِلْقَاصِرِ بِالْمِثَالَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِبَادَةً تَامَّةً كَالصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ

الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ بَاقٍ، وَلَمْ يَلْتَزِمْ أَدَاءَ هَذَا الْقَدْرِ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَكُونَ قَاضِيًا لِمَا الْتَزَمَ أَدَاءَهُ مَعَ الْإِمَامِ أَمَّا اللَّاحِقُ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ جَمِيعِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ فَيَكُونُ فِي الْمِقْدَارِ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ، وَلَمْ يُؤَدِّ مَعَ الْإِمَامِ قَاضِيًا. (أَوْ تَكَلَّمَ) أَيْ تَكَلَّمَ اللَّاحِقُ (بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ أَوْ قَبْلَهُ، وَنَوَى الْإِقَامَةَ) (يُتِمُّ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّهُ أَدَاءٌ فَيَتَغَيَّرُ بِالْإِقَامَةِ) لِأَنَّ عَلَيْهِ الِاسْتِئْنَافَ فَإِذَا اسْتَأْنَفَ يَكُونُ مُؤَدِّيًا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَنِيَّةُ الْإِقَامَةِ اعْتَرَضَتْ عَلَى الْأَدَاءِ فَيُتِمُّ أَرْبَعًا (وَلِهَذَا لَا يَقْرَأُ اللَّاحِقُ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ) أَيْ لِأَجْلِ أَنَّ اللَّاحِقَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ لَا يَقْرَأُ، وَلَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ أَيْ إذَا سَهَا فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ كَالْمُقْتَدِي إذَا سَهَا لَا يَسْجُدُ لِلسَّهْوِ (بِخِلَافِ الْمَسْبُوقِ) فَإِنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا سُبِقَ فَيَقْرَأُ، وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ. (، وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَإِمَّا بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ كَالصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ، وَإِمَّا بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ كَالْفِدْيَةِ لِلصَّوْمِ، وَثَوَابِ النَّفَقَةِ لِلْحَجِّ، وَكُلُّ مَا لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ قُرْبَةٌ لَا يُقْضَى إلَّا بِنَصٍّ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ، وَالْأُضْحِيَّةِ) ، وَتَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهَا عَلَى صِفَةِ الْجَهْرِ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي هَذَا الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْإِخْفَاءُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ} [الأعراف: 205] ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (فَإِنَّ كَوْنَهَا قُرْبَةً مَخْصُوصٌ بِزَمَانٍ، وَلَا يُقْضَى تَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْضًا مِنْهَا كَفِعْلِ الْمَسْبُوقِ، وَيَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْكَامِلِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْبَعْضَ الْمُؤَدَّى بِالْجَمَاعَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَاصِرًا كَانَ كَامِلًا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْقَاصِرَ، وَالشَّبِيهَ بِالْقَضَاءِ هُوَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا فِي الصُّورَتَيْنِ، وَالتَّمْثِيلُ بِالْمِثَالَيْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَفَاوُتِ الْقُصُورِ زِيَادَةً وَنُقْصَانًا. (قَوْلُهُ كَفِعْلِ اللَّاحِقِ) هُوَ الَّذِي أَدْرَكَ أَوَّلًا الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَةِ، وَفَاتَهُ الْبَاقِي بِأَنْ نَامَ خَلْفَ الْإِمَامِ، ثُمَّ انْتَبَهَ بَعْدَ فَرَاغِهِ أَوْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ خَلْفَ الْإِمَامِ فَتَوَضَّأَ، وَجَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَأَتَمَّ صَلَاتَهُ فَفِعْلُهُ أَدَاءٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِي الْوَقْتِ قَضَاءٌ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ فَهُوَ يَقْضِي مَا انْعَقَدَ لَهُ إحْرَامُ الْإِمَامِ مِنْ الْمُتَابَعَةِ لَهُ، وَالْمُشَارَكَةِ مَعَهُ بِمِثْلِهِ أَيْ بِمِثْلِ مَا انْعَقَدَ لَهُ الْإِحْرَامُ لَا بِعَيْنِهِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَزِيمَةُ فِي حَقِّهِ الْأَدَاءَ مَعَ الْإِمَامِ لِكَوْنِهِ مُقْتَدِيًا، وَقَدْ فَاتَهُ ذَلِكَ بِعُذْرٍ جَعَلَ الشَّرْعُ أَدَاءَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْأَدَاءِ مَعَ الْإِمَامِ فَصَارَ كَأَنَّهُ خَلْفَ الْإِمَامِ أَدَاءً، وَلَمَّا كَانَ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ قَضَاءً بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ جُعِلَ أَدَاءً شَبِيهًا بِالْقَضَاءِ لَا شَبِيهًا بِالْأَدَاءِ (قَوْلُهُ فِي الْوَقْتِ) إذْ لَوْ اقْتَدَى بِهِ خَارِجَ الْوَقْتِ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحَالُ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ فَرَغَ) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ ثُمَّ أَقَامَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ دُخُولَ الْمِصْرِ أَوْ نِيَّةَ الْإِقَامَةِ يَكُونُ مَعَ حُصُولِ فَرَاغِ الْإِمَامِ (قَوْلُهُ وَالْقَضَاءُ لَا يَتَغَيَّرُ) ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ، وَهُوَ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي نَفْسِهِ لِانْقِضَائِهِ، وَالْخُلْفُ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْقَضَاءُ) يَعْنِي أَنَّهُ إمَّا مَحْضٌ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ

لِأَنَّ إبْطَالَ الْأَصْلِ بِالْوَصْفِ بَاطِلٌ، وَالْوَصْفُ وَحْدَهُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْإِثْمُ، وَكَذَا صِفَةُ الْجَوْدَةِ) أَيْ لَا تُقْضَى؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْأَصْلِ إلَخْ (إذَا أَدَّى الزُّيُوفَ فِي الزَّكَاةِ فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ أَوْجَبْتُمْ الْفِدْيَةَ فِي الصَّلَاةِ قِيَاسًا) أَيْ عَلَى الصَّوْمِ؟ هَذَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِهِ، وَمَا لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ، قَوْلُهُ لَا يُقْضَى إلَّا بِنَصٍّ، وَقَدْ عُدِمَ النَّصُّ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ إذَا فَاتَتْ الصَّلَاةُ لِلشَّيْخِ الْفَانِي، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الصَّوْمِ بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ، وَهَذَا حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَأَمَّا الْأُضْحِيَّةُ فَلِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَلَا يُدْرَى أَنَّ التَّصَدُّقَ بِعَيْنِ الشَّاةِ أَوْ بِقِيمَتِهَا هَلْ هُوَ مِثْلُ قُرْبَةِ الْإِرَاقَةِ أَمْ لَا (وَالتَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ قُلْنَا يُحْتَمَلُ فِي الصَّوْمِ التَّعْلِيلُ بِالْعَجْزِ فَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ احْتِيَاطًا فَيَكُونُ آتِيًا بِالْمَنْدُوبِ أَوْ الْوَاجِبِ، وَنَرْجُو الْقَبُولَ) فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْفِدْيَةُ وَاجِبَةً قَضَاءً لِلصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ آتِيًا بِالْمَنْدُوبِ وَمُحَمَّدٌ قَالَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نَرْجُو الْقَبُولَ. (فِي الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ إلَّا أَنَّهُ نُقِلَ إلَى الْإِرَاقَةِ تَطْيِيبًا لِلطَّعَامِ، وَتَحْقِيقًا لِضِيَافَةِ اللَّهِ لَكِنْ لَمْ نَعْمَلْ بِهَذَا التَّعْلِيلِ الْمَظْنُونِ) ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعِبَادَةِ الْمَالِيَّةِ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ (وَفِي الْوَقْتِ) حَتَّى لَمْ نَقُلْ إنَّ التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ فِي الْوَقْتِ يَجُوزُ (فِي مَعْرِضِ النَّصِّ، وَعَمِلْنَا بِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ احْتِيَاطًا فَلِهَذَا) الْإِشَارَةُ تَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ، وَعَمِلْنَا بِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ (إذَا جَاءَ الْعَامُ الثَّانِي لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى التَّضْحِيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ غَيْرِ مَعْقُولٍ وَإِمَّا غَيْرُ مَحْضٍ (قَوْلُهُ: وَثَوَابُ النَّفَقَةِ لِلْحَجِّ) يُشِيرُ إلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْحَجَّ يَقَعُ عَنْ الْمُبَاشِرِ، وَلِلْآمِرِ ثَوَابُ الْإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تَجْرِي فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ إلَّا أَنَّ فِي الْحَجِّ شَائِبَةَ الْمَالِيَّةِ مِنْ جِهَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الزَّادِ، وَالرَّاحِلَةِ فَمِنْ جِهَة الْمُبَاشَرَةِ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ، وَمِنْ جِهَةِ الْإِنْفَاقِ عَنْ الْآمِرِ.، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْآمِرِ بِظَوَاهِر الْأَحَادِيثِ، وَعَلَى التَّقْدِيرِ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْآمِرِ مُبَاشَرَةُ الْأَفْعَالِ، وَالصَّادِرُ عَنْهُ هُوَ الْإِنْفَاقُ، وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مَعْقُولَةٍ، وَفِي قَوْلِهِ، وَثَوَابُ النَّفَقَةِ لِلْحَجِّ يُسَامَحُ؛ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ إمَّا لِلْقَضَاءِ أَوْ لِلْمِثْلِ، وَالثَّوَابُ لَيْسَ شَيْئًا مِنْهُمَا. (قَوْلُهُ، وَلَا يَقْضِي تَعْدِيلَ الْأَرْكَانِ) الْفَائِتَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا صِفَةَ الْجَوْدَةِ الْفَائِتَةِ فِي الدَّرَاهِمِ الْمُؤَدَّاةِ فِي الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقْضِيَ الْوَصْفَ وَحْدَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ، وَلَا يُوجَدُ لَهُ نَصٌّ أَوْ مَعَ الْأَصْلِ بِأَنْ يَقْضِيَ صَلَاةً مُعْتَدِلَةَ الْأَرْكَانِ أَوْ يَقْضِيَ نَفْسَ الرُّكْنِ بِصِفَةِ الِاعْتِدَالِ، وَيَقْضِيَ دَرَاهِمَ جِيَادًا، وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْأَصْلِ بِوَاسِطَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ، وَهُوَ نَقْضُ الْأُصُولِ، وَقَلْبُ الْمَعْقُولِ (قَوْلُهُ فَقُلْنَا بِالْوُجُوبِ احْتِيَاطًا) أَيْ لَا قِيَاسًا، وَلَا دَلَالَةً؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرَ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ كَالْعَجْزِ مَثَلًا مَشْكُوكٌ لَا مَعْلُومٌ إلَّا أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعْلِيلِ بِالْعَجْزِ تَكُونُ الْفِدْيَةُ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا وَاجِبَةً بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّعْلِيلِ تَكُونُ حَسَنَةً مَنْدُوبَةً تَمْحُو سَيِّئَةً فَيَكُونُ الْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَحْوَطَ

لِأَنَّهُ لَمَّا اُحْتُمِلَ جِهَةُ أَصَالَتِهِ، وَوَقَعَ الْحُكْمُ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ بِالشَّكِّ، وَإِمَّا قَضَاءٍ يُشْبِهُ الْأَدَاءَ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَإِمَّا بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ (كَمَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الْعِيدِ رَاكِعًا كَبَّرَ فِي رُكُوعِهِ) أَيْ كَبَّرَ تَكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ (فَإِنَّهُ، وَإِنْ فَاتَ مَوْضِعُهُ، وَلَيْسَ لِتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ قَضَاءٌ إذْ لَيْسَ لَهَا الْمِثْلُ قُرْبَةً لَكِنْ لِلرُّكُوعِ شَبَهٌ بِالْقِيَامِ فَيَكُونُ شَبِيهًا بِالْأَدَاءِ) . (، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ أَيْضًا تَنْقَسِمُ إلَى هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيُرْجَى قَبُولُهَا، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الزِّيَادَاتِ فِي فِدْيَةِ الصَّلَاةِ تُجْزِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (قَوْلُهُ: وَفِي الْأُضْحِيَّةِ) عَطْفٌ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ أَيْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الْفِدْيَةِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِمَا ذُكِرَ، وَبِوُجُوبِ التَّصْدِيقِ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ فِي الْأُضْحِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ تَثْبُتُ فِي قُرْبَةٍ بِالْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ التَّصَدُّقُ بِالْعَيْنِ مُخَالَفَةٌ لِهَوَى النَّفْسِ بِتَرْكِ الْمَحْبُوبِ إلَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ نُقِلَ فِي الْأُضْحِيَّةِ إلَى إرَاقَةِ الدَّمِ تَطْيِيبًا لِلطَّعَامِ بِإِزَالَةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مَالُ الصَّدَقَةِ مِنْ أَوْسَاخِ الذُّنُوبِ، وَالْآثَامِ فَبِالْإِرَاقَةِ يَنْتَقِلُ الْخُبْثُ إلَى الدِّمَاءِ فَتَصِيرُ ضِيَافَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَطْيَبَ مَا عِنْدَهُ عَلَى مَا هُوَ مَادَّةُ الْكِرَامِ، وَيَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ، وَالْفَقِيرُ إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ التَّضْحِيَةِ، وَالْإِرَاقَةِ أَصْلًا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى التَّصَدُّقِ فَفِي الْوَقْتِ لَمْ نَعْمَلْ بِالتَّعْلِيلِ الْمَظْنُونِ، وَلَمْ نَقُلْ بِجَوَازِ التَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ أَوْ الْقِيمَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ لِقِيَامِ النَّصِّ الْوَارِدِ بِالتَّضْحِيَةِ وَبَعْدَ الْوَقْتِ عَمِلْنَا بِالْأَصْلِ، وَأَوْجَبْنَا التَّصَدُّقَ بِعَيْنِ الشَّاةِ الَّتِي عُيِّنَتْ لِلتَّضْحِيَةِ أَوْ بِالْقِيمَةِ إنْ اُسْتُهْلِكَتْ الْمُعَيَّنَةُ أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا احْتِيَاطًا فِي بَابِ الْعِبَادَةِ، وَأَخَذَ بِالْمُحْتَمَلِ لَا عَمَلًا بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَقَوْلُهُ فِي الْوَقْتِ، وَفِي مَعْرِضِ النَّصِّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَمْ نَعْمَلْ بِهَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرًا إلَى عِبَارَةِ الْمَتْنِ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ فِي الْوَقْتِ مُتَعَلِّقًا بِالتَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ مِنْ كَلَامِ شَرْحِ (قَوْلِهِ لَمْ يَبْطُلْ بِالشَّكِّ) أَيْ بِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْإِرَاقَةُ أَصْلًا، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْمِثْلِ بِمَجِيءِ أَيَّامِ النَّحْرِ. فَإِنْ قُلْت فَكَيْفَ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى الصَّوْمِ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ عَنْ الصَّوْمِ فَقَدَرَ عَلَى الصَّوْمِ؟ قُلْت؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَصْلِ فِي الشَّهْرِ هُوَ الصَّوْمُ لَيْسَ بِمَشْكُوكٍ بَلْ مُتَيَقَّنٌ فَعِنْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ تَيَقَّنَ بَقَاءَ وُجُوبِ الصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] (قَوْلُهُ لَكِنَّ لِلرُّكُوعِ شَبَهٌ بِالْقِيَامِ) مِنْ جِهَةِ بَقَاءِ الِانْتِصَابِ، وَالِاسْتِوَاءِ فِي النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْ الْبَدَنِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْقُعُودُ بِانْتِفَائِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ أَعَالِي الْبَدَنِ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِقِيَامٍ حَقِيقَةً لِمَكَانِ الِانْحِنَاءِ قَوْلُهُ (تَنْقَسِمُ إلَى هَذَا الْوَجْهِ) الصَّوَابُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَمَا هُوَ لَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ، وَالْبَيْعُ) أَيْ وَكَتَسْلِيمِ عَيْنِ الْحَقِّ فِي الْبَيْعِ، وَفِي عَقْدِ الصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ فَيَكُونُ هَذَا الْعَطْفُ مِنْ قَبِيلِ عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا لِأَنَّ الرَّدَّ يَقْتَضِي سَابِقِيَّةَ الْأَخْذِ فَيَصِحُّ فِي الْغَصْبِ دُونَ الْبَيْعِ، وَفِي التَّمْثِيلِ بِالْأَمْثِلَةِ الْأَرْبَعَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَدَاءَ الْكَامِلَ قَدْ

الْوَجْهِ فَالْأَدَاءُ الْكَامِلُ كَرَدِّ غَيْرِ الْحَقِّ فِي الْغَصْبِ، وَالْبَيْعِ، وَالصَّرْفِ، وَالسَّلَمِ لَمَّا عَقَدَ الصَّرْفَ أَوْ السَّلَمِ يَجِبُ لَهُ بَدَلُ الصَّرْفِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ فِي الذِّمَّةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَسْلِيمُ بَدَلِ الصَّرْفِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ قَضَاءً إذْ الْعَيْنُ غَيْرُ الدَّيْنِ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ عَيْنَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ لِئَلَّا يَكُونَ اسْتِبْدَالًا فِي بَدَلِ الصَّرْفِ، وَالْمُسْلَمِ فِيهِ، وَالِاسْتِبْدَالُ فِيهِمَا حَرَامٌ، وَالْقَاصِرُ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَالْمَبِيعِ مَشْغُولًا بِجِنَايَةٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا) بِأَنْ كَانَ حَامِلًا أَوْ مَرِيضًا (حَتَّى إذَا هَلَكَ بِذَلِكَ السَّبَبِ اُنْتُقِضَ الْقَبْضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَكُونُ تَسْلِيمُ عَيْنِ الْوَاجِبِ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ الْغَصْبُ، وَالْبَيْعُ، وَقَدْ يَكُونُ تَسْلِيمُ عَيْنِ الْوَاجِبِ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ كَتَسْلِيمِ بَدَلِ الصَّرْفِ، وَتَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، وَهُوَ وَصْفٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْمُؤَدَّى عَيْنَ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الِاسْتِبْدَالُ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ، وَالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَهُوَ حَرَامٌ لِئَلَّا يَلْزَمَ امْتِنَاعُ الْجَبْرِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ مَوْقُوفٌ عَلَى التَّرَاضِي، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ضَرُورَةَ أَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ، وَالْعَيْنُ الْمُؤَدَّى مُغَايِرٌ لَهُ إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَهُ عَيْنَ الْوَاجِبِ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قِيلَ: الْقَضَاءُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَصَوُّرِ الْأَدَاءِ إذْ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا تَسْلِيمُ مِثْلِ مَا يَكُونُ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ أَدَاءً فَإِذَا امْتَنَعَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ امْتَنَعَ تَسْلِيمُ الْمِثْلِ قُلْنَا: الْعَيْنُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ، وَالْمُمْتَنَعُ فِي الدَّيْنِ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ، وَانْتِفَاءُ الْخَاصِّ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْعَامِّ فَالْمُؤَدَّى فِي الدَّيْنِ عَيْنُ الْحَقِّ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلًا لِلْعَيْنِ بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ لَا نَفْسِهِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ التَّغَايُرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَرْضِ فَإِنَّ الْمُؤَدَّى مِثْلٌ لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّرْعُ عَيْنَ الثَّابِتِ فِي الذِّمَّةِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَقْبُوضِ مُمْكِنٌ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْبُوضِ يَكُونُ الْمُؤَدَّى مِثْلًا، وَأَمَّا مَا يُقَالُ: مِنْ أَنَّ مَعْنَى قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمِثْلِ أَنَّ الْمَدْيُونَ لَمَّا سَلَّمَ الْمَالَ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ صَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ مَالُهُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَيَتَقَاضَانِ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ تَسْلِيمَ عَيْنِ الثَّابِتِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا تَسْلِيمَ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ هُوَ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الدَّيْنِ. وَالتَّسْلِيمُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ الْمُؤَدَّى، وَأَيْضًا عَلَى هَذَا لَا يَكُونُ بَيْنَ قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالْقَرْضِ فَرْقٌ، وَقَدْ صَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَغَيْرُهُ بِأَنَّ تَأْدِيَةَ الْقَرْضِ قَضَاءٌ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ، وَتَأْدِيَةَ الدَّيْنِ أَدَاءً كَامِلٌ. (قَوْلُهُ وَالْقَاصِرُ) يَعْنِي إذَا غَصَبَ عَبْدًا فَارِغًا فَرَدَّهُ مَشْغُولًا بِجِنَايَةٍ يَسْتَحِقُّ بِهَا رَقَبَتَهُ أَوْ طُرْفَةٍ أَوْ بِدَيْنٍ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ فِي يَدِهِ مَالَ إنْسَانٍ تَعَلَّقَ الضَّمَانُ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِمَرَضٍ حَدَثَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ غَصَبَ جَارِيَةً فَرَدَّهَا حَامِلًا أَوْ بَاعَ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً سَالِمًا عَنْ ذَلِكَ فَسَلَّمَهُ بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ فَهَذَا

[الأداء الذي يشبه القضاء]

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا هَذَا عَيْبٌ، وَهُوَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ التَّسْلِيمِ، وَكَأَدَاءِ الزُّيُوفِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ حَتَّى لَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ بَطَلَ حَقُّهُ أَصْلًا؛ لِمَا مَرَّ) . (وَالْأَدَاءُ الَّذِي يُشْبِهُ الْقَضَاءَ كَمَا إذَا أَمْهَرَ أَبَاهَا فَاسْتَحَقَّ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ أَبُ الْمَرْأَةِ عَبْدَ الرَّجُلِ فَتَزَوَّجَهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ أَبُوهَا فَاسْتُحِقَّ (حَتَّى وَجَبَتْ قِيمَتُهُ) لِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ (وَلَمْ يَقْضِ بِهَا الْقَاضِي حَتَّى مَلَكَهُ ثَانِيًا فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَيْنُ حَقِّهَا أَدَاءٌ) أَيْ تَسْلِيمُ الزَّوْجِ إلَيْهَا أَدَاءٌ (فَلَا يَمْلِكُ مَنْعَهُ) أَيْ إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الزَّوْجِ أَنْ يُسَلِّمَ أَبَاهَا إلَيْهَا لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْهَا (وَمِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَدَاءٌ لِوُرُودِهِ عَلَى عَيْنِ مَا غَصَبَ أَوْ بَاعَ لَكِنَّهُ قَاصِرٌ لِكَوْنِهِ لَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى قُصُورِ الْأَدَاءِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ فَقُتِلَ لِتِلْكَ الْجِنَايَةِ اُنْتُقِضَ الْقَبْضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى كَانَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَقْبِضْهُ فَيَرْجِعُ الْبَائِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ يَدَيْ الْمُشْتَرِي زَالَتْ عَنْ الْمَبِيعِ بِسَبَبٍ كَانَتْ إزَالَتُهَا بِهِ مُسْتَحَقَّةً فِي يَدِ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَحَقَّهُ مَالِكٌ أَوْ مُرْتَهِنٌ أَوْ صَاحِبُ دَيْنٍ، وَهَذَا اسْتِحْقَاقٌ فَوْقَ الْعَيْبِ. وَعِنْدَهُمَا الشَّغْلُ بِالْجِنَايَةِ عَيْبٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَرَضِ بَلْ أَشَدُّ، وَالْعَيْبُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ التَّسْلِيمِ فَالْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ بِكُلِّ الثَّمَنِ بَلْ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْعَبْدُ حَلَالَ الدَّمِ، وَحَرَامَ الدَّمِ فَيَرْجِعُ بِتَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الثَّمَنِ فَفِي لَفْظِ هَلَكَ، وَلَفْظِ التَّسْلِيمِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمُشْتَغِلِ بِالْجِنَايَةِ دُونَ الدَّيْنِ، وَفِي الْمَبِيعِ دُونَ الْمَغْصُوبِ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا رَدَّ الْجَارِيَةَ الْمَغْصُوبَةَ حَامِلًا. (قَوْلُهُ وَكَأَدَاءِ الزُّيُوفِ) جَمْعُ زَيْفٍ، وَهُوَ مَا يَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ، وَيُرَوَّجُ فِيمَا بَيْنَ التِّجَارَةِ فَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمَدْيُونِ دَرَاهِمُ جِيَادٌ فَأَدَّى زُيُوفًا فَهُوَ مِنْ حَيْثُ تَسْلِيمُ الْوَاجِبِ أَدَاءٌ، وَمِنْ حَيْثُ فَوَاتُ وَصْفِ الْجَوْدَةِ قَاصِرٌ فَرَبُّ الدَّيْنِ إنْ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ الْقَبْضِ كَوْنَ الْمَقْبُوضِ زُيُوفًا فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْأَدَاءَ، وَيُطَالِبَ الْمَدْيُونَ بِالْجِيَادِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ فِي الْوَصْفِ، وَإِنْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ رَبِّ الدَّيْنِ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْجَوْدَةِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى الْمَدْيُونِ بِشَيْءٍ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ الْأَصْلِ بِالْوَصْفِ، وَهَذَا أَدَاءٌ بِأَصْلِهِ إذْ لَا مِثْلَ لِلْوَصْفِ مُنْفَرِدَ الِامْتِنَاعِ قِيَامُهُ بِنَفْسِهِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ، وَيُطَالِبَ الْمَدْيُونَ بِالْجِيَادِ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ دُونَ حَقِّهِ وَصْفًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ دُونَ حَقِّهِ قَدْرًا، وَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ إلَى الْقِيمَةِ لِتَأَدِّيهِ إلَى الرِّبَا فَيَرُدُّ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ كَمَا يَرُدُّ عَيْنَهُ إذَا كَانَ قَائِمًا فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ قَيْدًا لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْمَقْبُوضِ لَا لِكَوْنِ الْأَدَاءِ قَاصِرًا عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ [الْأَدَاءُ الَّذِي يُشْبِهُ الْقَضَاءَ] (قَوْلُهُ: وَالْأَدَاءُ الَّذِي يُشْبِهُ الْقَضَاءَ) كَمَا إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ لَهُ هُوَ أَبُو الْمَرْأَةِ فَعَتَقَ الْأَبُ لِتَمَلُّكِ الْمَهْرِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَإِنْ

حَيْثُ إنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْعَيْنِ قَضَاءٌ) رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَى بَرِيرَةَ فَأَتَتْ بَرِيرَةُ بِتَمْرٍ، وَالْقِدْرُ كَانَ يَغْلِي بِاللَّحْمِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَلَا تَجْعَلِينَ لَنَا مِنْ اللَّحْمِ نَصِيبًا فَقَالَتْ هُوَ لَحْمٌ تُصُدِّقَ عَلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: هِيَ لَكِ صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ» فَقَدْ جَعَلَ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ مُوجِبًا لِتَبَدُّلِ الْعَيْنِ حُكْمًا مَعَ أَنَّ الْعَيْنَ وَاحِدٌ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ عَلَى الشَّيْءِ بِالْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ، وَغَيْرِهِمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَمْلُوكٌ لَا مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ حُكْمُ الشَّرْعِ يَتَعَلَّقُ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ لَا يَتَغَيَّرُ أَصْلًا كَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ، وَنَجِسٌ لِعَيْنِهِ أَمَّا إذَا تَعَلَّقَ حُكْمُ الشَّرْعِ بِهَذَا الذَّاتِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِبَارِ فَإِذَا تَبَدَّلَ الِاعْتِبَارُ تَبَدَّلَ هَذَا الْمَجْمُوعُ، وَقَدْ أَرَادَ بِالْعَيْنِ هَذَا الْمَجْمُوعَ أَيْ الذَّاتَ مَعَ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQاُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَطَلَ مِلْكُهَا، وَعِتْقُهُ، وَوَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَالًا، وَعَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ إلَى أَنْ مَلَكَ الزَّوْجُ ذَلِكَ الْعَبْدَ ثَانِيًا بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ لَزِمَ عَلَى الزَّوْجِ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ إلَى الْمَرْأَةِ فَهَذَا التَّسْلِيمُ أَدَاءٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَبْدَ عَيْنُ حَقِّ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَحَقَّتْهُ بِالتَّسْمِيَةِ لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْقَضَاءَ مِنْ حَيْثُ إنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْعَيْنِ بِدَلِيلِ السُّنَّةِ، وَالْمَعْقُولِ، فَالْعَبْدُ الْمُتَمَلَّكُ ثَانِيًا كَأَنَّهُ مِثْلُ مَا اسْتَحَقَّتْهُ بِالتَّسْمِيَةِ لَا عَيْنُهُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِهِ أَدَاءً أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إذَا طَلَبَتْهُ الْمَرْأَةُ لِكَوْنِهِ عَيْنَ حَقِّهَا مَعَ قِيَامِ مُوجِبِ التَّسْلِيمِ، وَهُوَ النِّكَاحُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ عَبْدًا فَاسْتُحِقَّ بِقَضَاءٍ، ثُمَّ مَلَكَهُ الْبَائِعُ ثَانِيًا لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي إذَا طَلَبَهُ لِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِالِاسْتِحْقَاقِ تَوَقُّفُ الْبَيْعِ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ فَحِينَ لَمْ يَجُزْ بَطَلَ، وَانْفَسَخَ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِهِ شِبْهَ الْقَضَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُعْتَقُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَى الزَّوْجَةِ، وَأَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْعَبْدِ بِالْإِعْتَاقِ، وَالْكِتَابَةِ، وَالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفَاتٌ صَادَفَتْ مِلْكَ نَفْسِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ الْعَبْدِ مِثْلَ الْمُسَمَّى لَا عَيْنَهُ حُكْمًا أَنَّهُ لَوْ قَضَى فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِلزَّوْجَةِ ثُمَّ مَلَكَ الزَّوْجُ الْعَبْدَ ثَانِيًا لَا يَعُودُ حَقُّ الْمَرْأَةِ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى التَّسْلِيمِ، وَلَا الزَّوْجَةُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا قَدْ انْتَقَلَ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ الْحُكْمُ الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ لَعَادَ حَقُّهَا فِيهِ إذَا كَانَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ بِقَوْلِ الزَّوْجِ مَعَ الْيَمِينِ كَالْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ مِنْ إبَاقِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ يَعُودُ حَقُّهُ إذَا كَانَ الْقَضَاءُ بِقَوْلِ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ. (قَوْلُهُ: دَخَلَ عَلَى بَرِيرَةَ) هِيَ مَوْلَاةُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وَعَائِشَةُ مِنْ بَنِي تَيْمٍ، وَلَا تَحْرُمُ الصَّدَقَةُ عَلَى مَوَالِيهَا بَلْ عَلَى مَوَالِي بَنِي هَاشِمٍ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، وَهِيَ لَا تَحْرُمُ إلَّا عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ)

الْعَيْنَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ هُوَ هَذَا الْمَجْمُوعُ (فَلَا يُعْتَقُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهَا، وَيَمْلِكُ الزَّوْجُ إعْتَاقَهُ، وَبَيْعَهُ، وَقَبْلَهُ) أَيْ بَيْعِ الْعَبْدِ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَيْهَا (وَإِنْ كَانَ قَضَى الْقَاضِي بِقِيمَتِهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ مَلَكَهُ لَا يَعُودُ حَقُّهَا فِيهِ، وَمِنْ الْأَدَاءِ الْقَاصِرِ مَا إذَا أَطْعَمَ الْمَغْصُوبُ الْمَالِكَ جَاهِلًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ لَا بِالتَّغْرِيرِ، وَرُبَّمَا يَأْكُلُ الْإِنْسَانُ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَوْقَ مَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِهِ، وَلَنَا أَنَّهُ أَدَاءٌ حَقِيقَةً، وَإِنْ كَانَ فِيهِ قُصُورٌ فَتَمَّ بِالْإِتْلَافِ، وَبِالْجَهْلِ لَا يُعْذَرُ، وَالْعَادَةُ الْمُخَالِفَةُ لِلدِّيَانَةِ لَغْوٌ) ، وَهُوَ أَنْ يَأْكُلَ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَوْقَ مَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِهِ. (، وَالْقَضَاءُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ إمَّا كَامِلٌ كَالْمِثْلِ صُورَةً، وَمَعْنًى ـــــــــــــــــــــــــــــQدَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى أَنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْعَيْنِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَيْنِ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ الشَّيْءِ، وَمِنْ وَصْفِ مَمْلُوكِيَّتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِحُرْمَةِ التَّصْرِيفِ فِيهِ عَلَى بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ، وَبِحِلِّهِ لِلْبَعْضِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْءُ مَعَ وَصْفِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَالْكُلُّ يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ، وَعَلَى ظَاهِرِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ مُنَاقَشَةٌ لَا تَخْفَى، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُتَّصِفَةُ بِالْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِقَيْدِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَتَبَدُّلُ الْأَوْصَافِ لَا يُوجِبُ تَبَدُّلَ الذَّاتِ، وَقَدْ عَرَفْت الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَجْمُوعِ وَالْمُقَيَّدِ فَالْأَوْلَى التَّمَسُّكُ بِالسُّنَّةِ (قَوْلُهُ: وَمِنْ الْأَدَاءِ الْقَاصِرِ) فَصَلَ هَذَا الْمِثَالَ عَنْ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ، وَأَخَّرَهُ عَنْ ذِكْرِ الْأَدَاءِ الَّذِي يُشْبِهُ الْقَضَاءَ اقْتِدَاءً بِفَخْرِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانَ الْمُنَاسِبُ تَقْدِيمَهُ يَعْنِي: لَوْ غَصَبَ طَعَامًا فَقَدَّمَهُ إلَى مَالِكِهِ، وَأَبَاحَهُ أَكْلَهُ فَأَكَلَهُ جَاهِلًا بِأَنَّهُ الطَّعَامُ الَّذِي غُصِبَ مِنْهُ فَهُوَ أَدَاءٌ قَاصِرٌ يَبْرَأُ بِهِ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ، وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خِلَافُهُ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي كُتُبِ أَصْحَابِهِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: أُطْعِمَ الْمَغْصُوبُ إلَى أَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَهُ مَا هُوَ مُتَّخَذٌ مِنْ الْمَغْصُوبِ بِأَنْ كَانَ دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أَوْ لَحْمًا فَطَبَخَهُ لَا يَبْرَأُ، وَقُيِّدَ بِالْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ الْمَغْصُوبَ مِنْ الْمَالِكِ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ أَوْ بَاعَهُ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَوْ أَكَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْعِمَهُ الْغَاصِبُ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ بِالِاتِّفَاقِ تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْغَاصِبَ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ، وَلَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ مِنْهُ تَغْرِيرٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ أَدَاءً مَأْمُورًا بِهِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ تَغْرِيرٌ لِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ فَوْقَ مَا يَأْكُلُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِعَدَمِ الْمَانِعِ الْحِسِّيِّ أَوْ الشَّرْعِ، وَحَاصِلُ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ صُورَةُ الْأَدَاءِ بِتَسْلِيمِ عَيْنِ حَقِّهِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ بَطَلَ مَعْنَى الْأَدَاءِ، وَهُوَ إيصَالُ حَقِّ الْمَالِكِ إلَيْهِ نَفْيًا لِلْغُرُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ أَدَاءً حَقِيقَةً، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ نُكْتَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ تَغْرِيرٌ، وَالتَّغْرِيرُ لَا يَكُونُ أَدَاءً؛ لِأَنَّ التَّغْرِيرَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالْأَدَاءُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي

وَإِمَّا قَاصِرٌ كَالْقِيمَةِ إذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ أَوْ لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الصُّورَةِ قَدْ فَاتَ لِلْعَجْزِ فَبَقِيَ الْمَعْنَى فَلَا يَجِبُ الْقَاصِرُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْكَامِلِ فَفِي قَطْعِ الْيَدِ، ثُمَّ الْقَتْلِ خُيِّرَ الْوَلِيُّ بَيْنَ الْقَطْعِ، ثُمَّ الْقَتْلِ، وَهُوَ مِثْلٌ كَامِلٌ، وَبَيْنَ الْقَتْلِ فَقَطْ، وَهُوَ قَاصِرٌ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْطَعُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَصُّ بِالْقَطْعِ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْرِ فَإِذَا أَفْضَى إلَيْهِ يَدْخُلُ مُوجِبُهُ فِي مُوجِبِ الْقَتْلِ) الْمُرَادُ بِالْمُوجِبِ هُنَا مَا يَجِبُ بِالْقَتْلِ، وَالْقَطْعِ، وَهُوَ الْقِصَاصُ (إذْ الْقَتْلُ أَتَمَّ مُوجَبَ الْقَطْعِ) الْمُرَادُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَلْزُومَاتِ، وَالْبَرَاءَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْأَدَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ أَدَاءٌ قَاصِرٌ فَلَا يُعْتَبَرُ نَفْيًا لِلْغُرُورِ. (قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ أَدَاءٌ حَقِيقَةً) ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْمَغْصُوبَ إلَى يَدِ الْمَالِكِ أَصْلًا، وَوَضْعًا بِحَيْثُ صَارَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ أَزَالَ يَدًا مُطْلَقَةً بِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمَا أَعَادَ إلَّا يَدَ الْإِبَاحَةِ، وَالْقَاصِرُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْكَامِلِ، قُلْنَا عَنْ تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْقُصُورِ فِيهِ فَقَدْ تَمَّ بِالْإِتْلَافِ كَمَا فِي أَدَاءِ الزُّيُوفِ عَنْ الْجِيَادِ فَإِنْ قِيلَ: جَهْلُ الْمِلْكِ بِهِ يُبْطِلُ الْأَدَاءَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغُرُورِ قُلْنَا: الْجَهْلُ عَارٌ، وَنَقِيصَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِهِ الْمَالِكُ فِي إبْطَالِ مَا وَجَبَ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ كَمَا لَوْ غَصَبَ عَبْدًا فَقَالَ لِلْمَالِكِ: أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ فَأَعْتَقَهُ، وَهُوَ جَاهِلٌ بِأَنَّهُ عَبْدُهُ يُعْتَقُ الْعَبْدُ، وَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ فِي مَوْضِعِ الْإِبَاحَةِ عَادَةً مُخَالَفَةً لِلدِّيَانَةِ الْكَامِلَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ لَغْوًا لَا يُبْطِلُ الْأَدَاءَ (قَوْلُهُ: وَالْقَضَاءُ بِمِثْلٍ مَعْقُولٍ) قِيلَ: يَجْرِي مِثْلُ هَذَا التَّقْسِيمِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا كَقَضَاءِ الْفَائِتَةِ بِالْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ كَامِلٌ، وَبِالِانْفِرَادِ فَإِنَّهُ قَاصِرٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الثَّابِتَ فِي الذِّمَّةِ هُوَ أَصْلُ الصَّلَاةِ لَا وَصْفُ الْجَمَاعَةِ فَالْقَضَاءُ بِجَمَاعَةٍ أَوْ مُنْفَرِدًا إتْيَانٌ بِالْمِثْلِ الْكَامِلِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَكْمَلُ. (قَوْلُهُ فَفِي قَطْعِ الْيَدِ ثُمَّ الْقَتْلِ) إمَّا أَنْ يَصْدُرَ عَنْ شَخْصٍ أَوْ شَخْصَيْنِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَا خَطَأَيْنِ أَوْ عَمْدَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرُ خَطَأً وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ قَبْلَ الْبُرْءِ أَوْ بَعْدَهُ، وَتَفَاصِيلُ الْأَحْكَامِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا كَانَ الْقَاطِعُ، وَالْقَاتِلُ شَخْصًا وَاحِدًا مُتَعَمِّدًا، وَيَكُونُ الْقَاتِلُ قَبْلَ الْبُرْءِ (قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا) لَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقْطَعَ بَلْ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْتَصُّ بِالْقَطْعِ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَسْرِ إلَى الْقَتْلِ بِحُكْمِ النَّصِّ فَإِذَا أَفْضَى إلَى الْقَتْلِ بِأَنْ قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا سَقَطَ حُكْمُ الْقَطْعِ فِي نَفْسِهِ وَصَارَ قَتْلًا، وَدَخَلَ مُوجِبُهُ الشَّرْعِيُّ، وَهُوَ الْقِصَاصُ فِي مُوجِبِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ أَتَمَّ الْأَثَرَ الثَّابِتَ بِالْقَطْعِ حِسًّا، وَحَقِيقَةً بِدَلِيلِ أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ السِّرَايَةِ فَيَكُونُ الْقَطْعُ، ثُمَّ الْقَتْلُ جِنَايَةً وَاحِدَةً بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا قَتَلَهُ ضَرَبَاتٍ فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ فِيهِ إلَّا الْقَتْلُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِفْضَاءَ إلَى الْقَتْلِ بِمَنْزِلَةِ السِّرَايَةِ إلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُوجِبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِالشَّيْءِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ ثَابِتٌ شَرْعًا، وَالثَّانِي حِسًّا، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَعْيِينٌ لِمَا صَدَقَ عَلَيْهِ الْمُوجِبُ فِي

بِالْمُوجَبِ هُنَا الْأَثَرُ الْحَاصِلُ بِالْقَطْعِ فِي مَحَلِّهِ (فَصَارَ كَمَا إذَا قَتَلَهُ بِضَرِبَاتٍ، قُلْنَا هَذَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى) أَيْ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ أَنَّ الْقَتْلَ أَتَمَّ أَثَرَ الْقَطْعِ فَاتَّحَدَ الْجِنَايَةُ فَيَتَّحِدُ مُوجَبُهُمَا إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى (أَمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ فِي جَزَاءِ الْفِعْلِ فَلَا) ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ، وَهُوَ الْقَطْعُ، وَالْقَتْلُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ مُتَعَدِّدٌ فَيَتَعَدَّدُ مَا هُوَ جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَهُوَ الْقِصَاصُ (وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي جَزَاءِ الْمَحَلِّ) أَيْ إنَّمَا يَدْخُلُ ضَمَانُ الْجُزْءِ فِي ضَمَانِ الْكُلِّ فِيمَا هُوَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ (كَمَا يَدْخُلُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي دِيَةِ الشَّعْرِ) ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ (وَالْقَتْلُ قَدْ يَمْحُو أَثَرَ الْقَطْعِ كَمَا يُتِمُّ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] جَعَلَ الْقَتْلَ مَاحِيًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَوْضِعَيْنِ لَا بَيَانُ اخْتِلَافِهِمَا بِالْمَفْهُومِ. (قَوْلُهُ: وَالْقَتْلُ قَدْ يَمْحُو أَثَرَ الْقَطْعِ) مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِتْمَامُ، وَالسِّرَايَةُ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) يَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْمِثْلُ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ، وَالْخَلْفُ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْغَصْبُ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ؛ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْقِيمَةِ لِلْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ آخِرَ يَوْمٍ كَانَ مَوْجُودًا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَالْقَطْعُ (قَوْلُهُ: فَلَا تُضْمَنُ الْمَنَافِعُ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ) قَيَّدَ بِالْمُتَقَوِّمِ تَنْصِيصًا عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ، وَهُوَ أَنَّهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُضْمَنُ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ، وَتَوْطِئَةً لِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ فَإِنَّهُ يَقُومُ عَلَى سَلْبِ التَّقَوُّمِ عَنْ الْمَنَافِعِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَالًا أَوْ لَمْ تَكُنْ اقْتِصَارًا عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ انْتِفَاءُ الْمُمَاثَلَةِ بِانْتِفَاءِ التَّقَوُّمِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مِلْكٌ لَا مَالٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُتَصَرَّفَ فِيهِ بِوَصْفِ الِاخْتِصَاصِ، وَالْمَالُ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُدَّخَرَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ وَقْتَ الْحَاجَةِ، وَالتَّقَوُّمُ يَسْتَلْزِمُ الْمَالِيَّةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْمِلْكِيَّةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَعِنْدَهُ مَنَافِعُ الْمَغْصُوبِ تُضْمَنُ بِالْغَصْبِ بِأَنْ يَمْسِكَ الْعَيْنَ الْمَغْصُوبَةَ مُدَّةً وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا، وَبِالْإِتْلَافِ بِأَنْ يَسْتَخْدِمَ الْعَبْدَ، وَيَرْكَبَ الدَّابَّةَ، وَيَسْكُنَ الدَّارَ مَثَلًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ غَيْرُ بَاقٍ، وَغَيْرُ الْبَاقِي غَيْرُ مُحْرَزٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ هُوَ الصِّيَانَةُ، وَالِادِّخَارُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَقَاءِ لَا مَحَالَةَ. وَمَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ كَالصَّيْدِ، وَالْحَشِيشِ فَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ فَلَا تَكُونُ مِثْلًا لِلْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَلَا يَقْضِي إلَّا بِنَصٍّ، وَلَا نَصَّ، وَعَلَى عَدَمِ بَقَاءِ الْإِعْرَاضِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ انْعِدَامَ الْأَلْوَانِ فِي كُلِّ آنٍ، وَتَجَدُّدُ أَمْثَالِهَا بِمَنْزِلَةِ انْعِدَامِ الْأَعْيَانِ، وَحُدُوثِ أَمْثَالِهَا فِي كُلِّ آنٍ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ سَفْسَطَةٌ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِالْأَعْرَاضِ الْمُتَصَرِّمَةِ مِثْلَ الْمَنَافِعِ مَثَلًا، وَأَيْضًا لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: بَلْ التَّقَوُّمُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِيَّةِ، وَإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ، وَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى الْمَنَافِعِ إذْ بِهَا إقَامَةُ الْمَصَالِحِ، وَتَقْضِيَةُ الْحَوَائِجِ

أَثَرَ الْجُرْحِ فَهَذَا مَنْعٌ لِقَوْلِهِ إنَّ الْقَتْلَ أَتَمَّ أَثَرَ الْقَطْعِ (وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ) أَيْ الْقِصَاصُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَتَلَهُ بِضَرَبَاتٍ (بِتِلْكَ الضَّرَبَاتِ إذْ لَا قِصَاصَ فِيهَا، وَإِذَا انْقَطَعَ الْمِثْلُ يَجِبُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْكَامِلِ بِالْقَضَاءِ) أَيْ قَضَاءِ الْقَاضِي، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ. (وَالْقَضَاءُ بِمِثْلٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ كَالنَّفْسِ تُضْمَنُ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَ احْتِمَالِ الْمِثَالِ الْمَعْقُولِ صُورَةً، وَمَعْنًى، وَهُوَ الْقِصَاصُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -) فَإِنَّ عِنْدَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ، وَأَخْذِ الدِّيَةِ (وَإِنَّمَا شُرِعَ) أَيْ الْمَالُ (عِنْدَ عَدَمِ احْتِمَالِهِ) أَيْ الْقِصَاصِ (مِنْهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِأَنْ سَلَّمَ نَفْسَهُ، وَعَلَى الْقَتِيلِ بِأَنْ لَمْ يُهْدَرْ حَقُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَا لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ لَا يُقْضَى إلَّا بِنَصٍّ) قَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْآنَ نَذْكُرُهَا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ لِنُفَرِّعَ عَلَيْهَا فُرُوعَهَا. (فَلَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ إذْ لَا تُقَوَّمُ بِلَا إحْرَازٍ، وَلَا إحْرَازَ بِلَا بَقَاءٍ، وَلَا بَقَاءَ لِلْأَعْرَاضِ فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ يُرَدُّ الْعَقْدُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا بِنَفْسِ الْأَمْوَالِ. (قَوْلُهُ تَقَوُّمُهَا فِي الْعَقْدِ ثَبَتَ بِالرِّضَى) مَنْعٌ لِقَوْلِهِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ لَا يَصِيرُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ مُتَقَوِّمًا فَإِنْ قُلْت فِيهِ تَسْلِيمٌ لِعَدَمِ صَيْرُورَتِهِ مُتَقَوِّمًا بِالْعَقْدِ بَلْ بِالرِّضَى قُلْت لَمَّا اشْتَمَلَ الْعَقْدُ عَلَى الرِّضَى كَانَ التَّقَوُّمُ بِالرِّضَى تَقَوُّمًا بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِأَحَدِ أَجْزَائِهِ أَوْ لَوَازِمِهِ (قَوْلُهُ: فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ) أَيْ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ بِتَقَوُّمِ الْمَنَافِعِ فِي الْغَصْبِ بِالْقِيَاسِ عَلَى تَقَوُّمِهَا فِي الْعَقْدِ، وَلَا إثْبَاتُ أَصْلِ الْمُدَّعَى، وَهُوَ مُقَابَلَةُ الْمَنَافِعِ فِي الْغَصْبِ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مُقَابَلَتِهَا بِهِ فِي الْعَقْدِ، أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِانْتِفَاءِ الْإِحْرَازِ فَلَا يَصِحُّ مَقِيسًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُودِ الْفَارِقِ، وَهُوَ الرِّضَى فَإِنَّ لَهُ أَثَرًا فِي إيجَابِ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا فِي الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ لَا يُقَالُ: كُلٌّ مِنْ الْمَانِعَيْنِ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ إبْطَالِ الْأَوَّلِ بِكَوْنِ الْأَصْلِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَإِبْطَالِ الثَّانِي بِوُجُودِ الْفَارِقِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الثَّابِتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ هُوَ تَقَوُّمُ مَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ لَا مُقَابَلَةُ غَيْرِ الْمَالِ بِالْمَالِ لِتَحَقُّقِ الِانْتِفَاعِ الْمَقْصُودِ، وَقَضَاءِ الْحَوَائِجِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالرِّضَى إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي صِحَّةِ اسْتِبْدَالِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِالْمَالِ لَا فِي جَعْلِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ مُتَقَوِّمًا فَيَخْتَصُّ كُلٌّ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ بِمَانِعٍ. (قَوْلُهُ هُوَ) أَيْ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مَعْنًى لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ، وَالْمَالُ لَيْسَ مِثْلًا لَهُ صُورَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مَعْنَى الْإِحْيَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ شَرِّ الْقَاتِلِ، وَدَفْعِ هَلَاكِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَلَى يَدِهِ بِنَاءً عَلَى قِيَامِ الْعَدَاوَةِ، وَفِي حَيَاةِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، وَأَبْنَائِهِ حَيَاةٌ لِلْمَقْتُولِ، وَبَقَاءٌ لِذِكْرِهِ

[القضاء الشبيه بالأداء]

عَلَيْهَا) أَيْ إنْ لَمْ تَكُنْ الْمَنَافِعُ مُتَقَوِّمَةً فَكَيْفَ يُرَدُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمَنَافِعِ؟ (قُلْنَا بِإِقَامَةِ الْعَيْنِ مَقَامَهَا فَإِنْ قِيلَ: هِيَ فِي الْعَقْدِ مُتَقَوِّمَةٌ) أَيْ الْمَنَافِعُ فِي الْعَقْدِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِتَقَوُّمِهَا فِي عَقْدِ النِّكَاح (لِأَنَّ ابْتِغَاءَ الْبُضْعِ) ، وَهُوَ النِّكَاحُ (لَا يَجُوزُ إلَّا بِهِ) أَيْ بِالْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] (وَيَجُوزُ) أَيْ ابْتِغَاءُ الْبُضْعِ (بِمَنْفَعَةِ الْإِجَارَةِ) فَتَكُونُ مَنْفَعَةُ الْإِجَارَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَالًا مُتَقَوِّمًا (فَتَكُونُ فِي نَفْسِهَا كَذَلِكَ) أَيْ لَمَّا كَانَتْ الْمَنَافِعُ فِي الْعَقْدِ مُتَقَوِّمَةً كَانَتْ فِي نَفْسِهَا مُتَقَوِّمَةً (لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا يَصِيرُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ مُتَقَوِّمًا؛ وَلِأَنَّ تَقَوُّمَهَا لَيْسَ لِاحْتِيَاجِ الْعَقْدِ إلَيْهِ) هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى قَوْلِهِ فَتَكُونُ فِي نَفْسِهَا كَذَلِكَ (لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَصِحُّ بِدُونِهِ كَالْخُلْعِ) فَإِنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ فِي حَالِ الْخُرُوجِ عَنْ الْعَقْدِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَوِّمَةً فِي حَالِ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ فَمَعَ أَنَّهَا غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ حَالَ الْخُرُوجِ يَصِحُّ مُقَابَلَتُهَا بِالْمَالِ فِي الْعَقْدِ، وَهُوَ عَقْدُ الْخُلْعِ فَعُلِمَ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَقَوُّمِهَا فَتَقَوُّمُهَا فِي الْعَقْدِ لَيْسَ لِضَرُورَةِ الْعَقْدِ، وَلَمَّا ثَبَتَ تَقَوُّمُهَا فِي الْعَقْدِ تَكُونُ فِي نَفْسِهَا مُتَقَوِّمَةً (قُلْنَا تَقَوُّمُهَا فِي الْعَقْدِ ثَبَتَ بِالرِّضَا) هَذَا مَنْعٌ لِقَوْلِهِ إنَّ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا يَصِيرُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ مُتَقَوِّمًا بَلْ يَصِيرُ فِي الْعَقْدِ مُتَقَوِّمًا بِالرِّضَا (بِخِلَافِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْمَالِ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ فِي الْخَطَأِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ضَرُورَةَ صِيَانَةِ الدَّمِ الْمَعْصُومِ عَنْ الْهَدَرِ بِالْكُلِّيَّةِ [الْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ] (قَوْلُهُ: وَالْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ) كَتَسْلِيمِ الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالْإِبِلِ فِي الدِّيَةِ، وَالْغُرَّةِ فِي الْجَنِينِ، وَهَذَا جَهَالَةٌ فِي الْوَصْفِ لَا فِي الْجِنْسِ كَمَا فِي تَسْمِيَةِ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ فَيُحْتَمَلُ فِيمَا يُبْنَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَالنِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَمَلْ فِي الْبَيْعِ فَتَسْلِيمُ عَبْدٍ وَسَطُ أَدَاءً، وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ قَضَاءٌ حَقِيقَةً لِكَوْنِهَا مِثْلَ الْوَاجِبِ لَا عَيْنَهُ لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْأَدَاءَ لِمَا فِي الْقِيمَةِ مِنْ جِهَةِ الْأَصَالَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ بِجَهَالَةٍ، وَصِفَةٍ لَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِتَعْيِينِهِ، وَلَا تَعْيِينَ إلَّا بِالتَّقَوُّمِ فَصَارَتْ الْقِيمَةُ أَصْلًا يُرْجَعُ إلَيْهِ، وَيُعْتَبَرُ مُقَدَّمًا عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى إنْ كَانَ الْعَبْدُ خَلَفًا عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَعَيَّنَ الْقِيمَةُ وَلَا يُخَيَّرُ الزَّوْجُ بَيْنَ أَدَاءِ الْعَبْدِ وَالْقِيمَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَعْلُومُ الْجِنْسِ مَجْهُولُ الْوَصْفِ فَبِالنَّظَرِ إلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ هُوَ كَمَا لَوْ أَمْهَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الثَّانِي تَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا لَوْ أَمْهَرَ عَبْدَ غَيْرِهِ فَصَارَ الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ كَأَنَّهُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ فَيُخَيَّرُ الزَّوْجُ إذْ التَّسْلِيمُ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْمَرْأَةِ فَأَيُّهُمَا أَدَّى تُجْبَرُ الْمَرْأَةُ عَلَى الْقَبُولِ. فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ وَأَيْضًا الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ الْوَسَطُ، وَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِيمَةِ فَصَارَتْ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ لَا يَصْلُحُ وَجْهًا بِرَأْسِهِ فِي أَصَالَةِ الْقِيمَةِ بَلْ هُوَ تَوْضِيحٌ، وَتَتْمِيمٌ لِمَا سَبَقَ عَلَى مَا قَرَّرْنَا إذْ بِمُجَرَّدِ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْعَبْدُ لَا يَتَحَقَّقُ أَصَالَةُ الْبَدَلِ، وَهُوَ الْقِيمَةُ لِجَرَيَانِهِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْأَدَاءِ [فَصْلٌ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) مِنْ قَضَايَا الشَّرْعِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ حَكِيمٌ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ فَلَا امْتِنَاعَ

الْقِيَاسِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَقَوُّمَ بِلَا إحْرَازٍ (فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ) فَيَشْمَلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يُقَاسُ تَقَوُّمُ الْمَنَافِعِ فِي الْغَصْبِ عَلَى تَقَوُّمِهَا فِي الْعَقْدِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُقَاسُ كَوْنُ الْمَنَافِعِ مُقَابَلًا بِالْمَالِ فِي الْغَصْبِ عَلَى كَوْنِهَا مُقَابَلًا بِالْمَالِ فِي الْعَقْدِ. (لِهَذَا) أَيْ لِكَوْنِهِ التَّقَوُّمَ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَقَوْلُهُ (وَلِلْفَارِقِ أَيْضًا، وَهُوَ الرِّضَا) دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي (فَإِنَّ لَهُ أَثَرًا فِي إيجَابِ الْمَالِ مُقَابَلًا بِغَيْرِ الْمَالِ، وَلَا يَضْمَنُ الشَّاهِدُ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ الْقِصَاصَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ) هَذَا تَفْرِيعٌ آخَرُ عَلَى قَوْلِهِ، وَمَا لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ لَا يُقْضَى إلَّا بِنَصٍّ، وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ شَهِدَ شَاهِدَانِ بِعَفْوِ الْوَلِيِّ عَنْ الْقِصَاصِ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْعَفْوِ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ لَمْ يَضْمَنَا (وَلَا غَيْرُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ إذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ) أَيْ لَا يَضْمَنُ غَيْرُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ إذَا قَتَلَ الْقَاتِلَ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ، وَقَاتِلَ الْقَتِيلِ لَمْ يُفَوِّتُوا لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ شَيْئًا إلَّا اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ، وَهُوَ مَعْنًى لَا يُعْقَلُ لَهُ مِثْلٌ. (، وَالْقَضَاءُ الشَّبِيهُ بِالْأَدَاءِ كَالْقِيمَةِ فِيمَا إذَا أَمْهَرَ عَبْدًا غَيْرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ اشْرَبْ عَلَى سَبِيلِ الْإِلْزَامِ أَمْرٌ لُغَةً، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ أَحْسَنَ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ مُوجِبَاتِ الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْأَمْرِ أَوْ مِنْ مَدْلُولَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ، وَالْأَمْرُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَمُعَرِّفٌ لَهُ فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَبْلَ تَفْصِيلِ الْمَذَاهِبِ، وَالدَّلَائِلِ أَجْمَلَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ سَوَاءٌ ثَبَتَ بِنَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بِالْعَقْلِ قَبْلَهُ قَالَ فِي الْمِيزَانِ، وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ لِلْعَقْلِ حَظٌّ فِي مَعْرِفَةِ حُسْنِ بَعْضِ الْمَشْرُوعَاتِ كَالْإِيمَانِ، وَأَصْلِ الْعِبَادَاتِ كَانَ الْأَمْرُ دَلِيلًا، وَمُعَرِّفًا لِمَا ثَبَتَ حُسْنُهُ فِي الْعَقْلِ، وَمُوجِبًا لِمَا لَمْ يُعَرِّفْ بِهِ. (قَوْلُهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ) يَعْنِي مَسْأَلَةَ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ مِنْ أُمَّهَاتِ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَبْوَابِهِ بَابُ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، وَهُوَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَقُبْحَ النَّهْيِ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ، ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَبَاحِثُ مِنْ أَنَّ الْحُسْنَ حُسْنٌ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَمِنْ مُهِمَّاتِ مَبَاحِثِ الْمَعْقُولِ، وَالْمَنْقُولِ) يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ عِلْمَ الْأُصُولِ فَإِنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ، وَأَنْ يُرِيدَ بِالْمَعْقُولِ الْكَلَامَ، وَبِالْمَنْقُولِ الْفِقْهَ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَلَامِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ الْبَحْثِ عَنْ أَفْعَالِ الْبَارِي تَعَالَى هَلْ تَتَّصِفُ بِالْحُسْنِ، وَهَلْ تَدْخُلُ الْقَبَائِحُ تَحْتَ إرَادَتِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَهَلْ تَكُونُ بِخَلْقِهِ، وَمَشِيئَتِهِ، وَأُصُولِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا بَحْثٌ عَنْ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالْأَمْرِ يَكُونُ حَسَنًا، وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ يَكُونُ قَبِيحًا ثُمَّ إنَّ مَعْرِفَتَهُمَا أَمْرٌ مُهِمٌّ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ لِئَلَّا يُثْبِتَ بِالْأَمْرِ مَا لَيْسَ بِحَسَنٍ، وَبِالنَّهْيِ مَا لَيْسَ بِقَبِيحٍ. (قَوْلُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ) زِيَادَةُ تَحْرِيضٍ عَلَى شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا أَصْلٌ لِفُرُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَفَرْعٌ لِأَصْلٍ عَمِيقٍ صَعْبِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ مُتَعَسِّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَبَوَادِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ، وَالْقَدَرِ الْمُدْرِكَاتُ الَّتِي تُطْلَبُ فِيهَا الطُّرُقُ الْمُوَصِّلَةُ إلَيْهَا، وَمَبَادِيهَا الْمُقَدِّمَاتُ الْمُتَرَتِّبَةُ بِالْقُوَى

مُعَيَّنٍ فَإِنَّهَا قَضَاءٌ حَقِيقَةً لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ مَجْهُولًا مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ ثَبَتَ الْعَجْزُ) أَيْ عَنْ أَدَاءِ الْأَصْلِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ (فَوَجَبَ الْقِيمَةُ فَكَأَنَّهَا أَصْلٌ، وَلَمَّا كَانَ) أَيْ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْعَبْدُ (مَعْلُومًا مِنْ حَيْثُ الْجِنْسُ يَجِبُ هُوَ) أَيْ الْأَصْلُ، وَهُوَ الْعَبْدُ (فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ الْقِيمَةِ، وَأَيُّهُمَا أَدَّى تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ) ، وَأَيْضًا الْوَاجِبُ مِنْ الْأَصْلِ الْوَسَطُ، وَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقِيمَةِ فَصَارَتْ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ فَقَضَاؤُهَا يُشْبِهُ الْأَدَاءَ. (فَصْلٌ: لَا بُدَّ لِلْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْحُسْنِ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ، وَمُهِمَّاتِ مَبَاحِثِ الْمَعْقُولِ، وَالْمَنْقُولِ، وَمَعَ ذَلِكَ هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ، وَالْقَدَرِ الَّذِي زَلَّتْ فِي بِوَادِيهَا أَقْدَامُ الرَّاسِخِينَ، وَضَلَّتْ فِي مَبَادِيهَا أَفْهَامُ الْمُتَفَكِّرِينَ، وَغَرِقَتْ فِي بِحَارِهَا عُقُولُ الْمُتَبَحِّرِينَ، وَحَقِيقَةُ الْحَقِّ فِيهَا أَعْنِي الْحَقَّ بَيْنَ طَرَفَيْ الْإِفْرَاطِ، وَالتَّفْرِيطِ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا خَوَاصُّ عِبَادِهِ، وَهَا أَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْفِكْرِيَّةِ لِلْوُصُولِ إلَيْهَا، وَبِحَارُهَا مَا وَصَلَ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ بِقُوَّةِ فِكْرِهِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ مُجَاوَزَتَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ زَلَّ قَدَمُهُ فِي الْبَوَادِي أَوْ ضَلَّ فَهْمُهُ فِي الْمَبَادِي فَقَدْ يُرْجَى عَوْدُهُ إلَى طَرِيقِ الْحَقِّ أَوْ اعْتِرَافُهُ بِالْعَجْزِ، وَمَنْ غَرِقَ فِي بَحْرِهِ، وَلَمْ يَنْتَبِهْ لِلْخَطَأِ فِي مُقَدِّمَاتِهِ فَقَدْ هَلَكَ. (قَوْلُهُ: وَحَقِيقَةُ الْحَقِّ) الْجَبْرُ إفْرَاطٌ فِي تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِحَيْثُ يَصِيرُ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ جَمَادٍ لَا إرَادَةَ لَهُ، وَلَا اخْتِيَارَ، وَالْقَدَرُ تَفْرِيطٌ فِي ذَلِكَ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْعَبْدُ خَالِقًا لِأَفْعَالِهِ مُسْتَقِلًّا فِي إيجَادِ الشُّرُورِ، وَالْقَبَائِحِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ، وَالْحَقُّ أَيْ الثَّابِتُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ إلْحَاقُ أَيْ الْوَسَطُ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ، وَالتَّفْرِيطِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ حَيْثُ قَالَ: لَا جَبْرَ، وَلَا تَفْوِيضَ، وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَحَقِيقَةُ الْحَقِّ احْتِرَازٌ عَنْ مَجَازِهِ أَيْ عَمَّا يُشْبِهُ الْحَقَّ، وَلَيْسَ بِحَقٍّ. (قَوْلُهُ وَقَّفْتُ) أَيْ جَعَلْتُ وَاقِفًا عَلَيْهِ، وَوَفَّقْتُ أَيْ جَعَلْتُ الْأَسْبَابَ مُتَوَافِقَةً لِإِيرَادِهِ فَالْأَوَّلُ مِنْ التَّوْقِيفِ، وَالثَّانِي مِنْ التَّوْفِيقِ (قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ) تَحْرِيرٌ لِلْمَبْحَثِ، وَتَلْخِيصٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ فِي الْمُنَاظَرَةِ فَكُلٌّ مِنْ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثِ مَعَانٍ فَبِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ: الْحُلْوُ حَسَنٌ، وَالْمُرُّ قَبِيحٌ، وَبِالثَّانِي الْعِلْمُ حَسَنٌ، وَالْجَهْلُ قَبِيحٌ، وَبِالثَّالِثِ الطَّاعَةُ حَسَنَةٌ، وَالْمَعْصِيَةُ قَبِيحَةٌ، وَمَعْنَى كَوْنِ الشَّيْءِ مُتَعَلِّقَ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ أَوْ الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ شَرْعًا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى دَلِيلِهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي جَوَازَ الْعَفْوِ، وَلِذَا قَالُوا كَوْنُهُ مُتَعَلَّقَ الْعِقَابِ، وَلَمْ يَقُولُوا كَوْنُهُ بِحَيْثُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ هُوَ الثَّالِثُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ الْأَفْعَالُ حَسَنَةٌ، وَقَبِيحَةٌ لِذَوَاتِهَا، أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهَا فَمِنْهَا مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ كَحُسْنِ الصِّدْقِ النَّافِعِ، وَقُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ نَظَرِيٌّ كَحُسْنِ الْكَذِبِ النَّافِعِ، وَقُبْحِ الصِّدْقِ الضَّارِّ، وَمِنْهَا مَا لَا يُدْرَكُ إلَّا بِالشَّرْعِ كَحُسْنِ صَوْمِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَقُبْحِ صَوْمِ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا سَبِيلَ لِلْعَقْلِ

بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ لَكِنْ أَوْرَدْت مَعَ الْعَجْزِ عَنْ دَرْك الْإِدْرَاكِ قَدْرَ مَا وَقَفْت عَلَيْهِ، وَوَقَفْت لِإِيرَادِهِ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ يُطْلَقَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ كَوْنُ الشَّيْءِ مُلَائِمًا لِلطَّبْعِ، وَمُنَافِرًا لَهُ، وَالثَّانِي كَوْنُهُ صِفَةَ كَمَالٍ، وَكَوْنُهُ صِفَةَ نُقْصَانٍ، وَالثَّالِثُ كَوْنُ الشَّيْءِ مُتَعَلِّقَ الْمَدْحِ عَاجِلًا، وَالثَّوَابِ آجِلًا، وَكَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الذَّمِّ عَاجِلًا، وَالْعِقَابِ آجِلًا فَالْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ بِالْمَعْنَيَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ يَثْبُتَانِ بِالْعَقْلِ اتِّفَاقًا أَمَّا بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَثْبُتَانِ بِالْعَقْلِ بَلْ بِالشَّرْعِ فَقَطْ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمَا لَيْسَا لِذَاتِ الْفِعْلِ وَلَيْسَ لِلْفِعْلِ صِفَةٌ يَحْسُنُ الْفِعْلُ أَوْ يَقْبُحُ لِأَجْلِهَا عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ عِنْدَهُ فَلَا يُوصَفُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ، وَمَعَ ذَلِكَ جَوَّزَ كَوْنَهُ مُتَعَلَّقَ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ بِالشَّرْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَهُ لَا يَقْبُحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُثِيبَ الْعَبْدَ أَوْ يُعَاقِبَهُ عَلَى مَا لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ لَكِنَّ الشَّرْعَ إذَا وَرَدَ بِهِ كَشْفٌ عَنْ حُسْنٍ، وَقُبْحٍ ذَاتِيَّيْنِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَثْبُتُ الْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَمْرَيْنِ يَعْنِي أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ أَمْرَانِ: أَحَدَهُمَا أَنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ، وَقُبْحَهُ لَيْسَا لِذَاتِ الْفِعْلِ، وَلَا لِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ حَتَّى يَحْكُمَ الْعَقْلُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٍ بِنَاءً عَلَى تَحَقُّقِ مَا بِهِ الْحُسْنُ أَوْ الْقُبْحُ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ اضْطِرَارِيٌّ لَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ بِاسْتِحْقَاقٍ فِي الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ عَلَى مَا لَا اخْتِيَارَ لِلْفَاعِلِ فِيهِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهَا لِيَثْبُتَ مَذْهَبُهُ بَلْ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُسْتَقِلٌّ بِإِفَادَةِ مَطْلُوبِهِ بَلْ، وَلَهُ أَدِلَّةٌ أُخْرَى عَلَى مَذْهَبِهِ مُسْتَغْنِيَةٌ عَنْ الْأَمْرَيْنِ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ لَا يُنْسَبَانِ إلَى أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكُتُبِ الْكَلَامِيَّةِ أَنَّهُ لَا قَبِيحَ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بَلْ كُلُّ أَفْعَالِهِ حَسَنَةٌ وَاقِعَةٌ عَلَى نَهْجِ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُ الْأُمُورِ عَلَى الْإِطْلَاقِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ، وَلَا غَايَةَ لِفِعْلِهِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُفَسِّرُونَ الْحُسْنَ بِمَا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَجَمِيعُ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَبِمَعْنَى كَوْنِهِ صِفَةَ كَمَالِ، وَأَمَّا بِمَعْنَى كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَلَّقَ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ فَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَمَا ذَكَرُوا مِنْ تَفْسِيرِ الْحَسَنِ بِمَا أُمِرَ بِهِ، وَالْقَبِيحِ بِمَا نُهِيَ عَنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ خَاصَّةً، وَكَوْنُ الْمُبَاحِ دَاخِلًا فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنِ عِنْدَهُمْ مَحَلُّ نَظَرٍ لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ عَلَى مَا مَرَّ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَلَّقِ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ بِلَا نِزَاعٍ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَسَنِ. وَالْأَوْضَحُ أَنْ يُقَالَ: الْقَبِيحُ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَالْحَسَنُ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِيَشْمَلَ الْمُبَاحَ، وَفِعْلَ الْبَارِي تَعَالَى. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ) لِكُلٍّ مِنْ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ تَفْسِيرَانِ: أَحَدُهُمَا الْحُسْنُ مَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلِهِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَالْقُبْحُ مَا يُذَمُّ عَلَيْهِ، وَثَانِيهِمَا الْحَسَنُ مَا يَكُونُ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَالْقَبِيحُ مَا لَيْسَ

لِأَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ لَا يُنْسَبَانِ إلَى أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُ فَالْحَسَنُ، وَالْقَبِيحُ بِالْمَعْنَى الثَّالِثِ يَكُونَانِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ بِمُجَرَّدِ كَوْنِ الْفِعْلِ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فَلِهَذَا قَالَ (فَالْحُسْنُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مَا أُمِرَ بِهِ) سَوَاءٌ كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ أَوْ الْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ (وَالْقَبِيحُ مَا نُهِيَ عَنْهُ) سَوَاءٌ كَانَ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلْكَرَاهَةِ (وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلِهِ) سَوَاءٌ كَانَ يُحْمَدُ عَلَيْهِ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، وَهَذَا تَفْسِيرُ الْحُسْنِ (وَمَا يُذَمُّ عَلَى فِعْلِهِ) هَذَا تَفْسِيرُ الْقَبِيحِ (وَبِالتَّفْسِيرِ الْآخَرِ مَا يَكُونُ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَوْ يَفْعَلُهُ) احْتَرَزَ بِالْقَيْدَيْنِ عَنْ فِعْلِ الْمُضْطَرِّ، وَالْمَجْنُونِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ آخَرُ لِلْحَسَنِ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ فَسَّرُوا الْحَسَنَ، وَالْقَبِيحَ بِتَفْسِيرَيْنِ فَالْحَسَنُ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ، وَالْمَنْدُوبِ، وَبِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي يَتَنَاوَلُ الْمُبَاحَ أَيْضًا. (وَمَا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ) أَيْ الْقَبِيحُ مَا لَيْسَ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَكِلَا تَفْسِيرَيْ الْقَبِيحِ مُتَسَاوِيَانِ لَا يَتَنَاوَلَانِ إلَّا الْحَرَامَ، وَالْمَكْرُوهَ فَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِلْحَسَنِ الْمُبَاحِ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ، وَعَلَى الثَّانِي لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا (فَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَثْبُتَانِ إلَّا بِالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ) لِمَا ذَكَرْت أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عِنْدَهُ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَاحْتَرَزُوا بِالْقَادِرِ أَيْ الَّذِي إنْ شَاءَ فَعَلَ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ عَنْ الْمُضْطَرِّ، وَبِالْعَالِمِ عَنْ الْمَجْنُونِ؛ لِأَنَّ مَا لَهُمَا أَنْ يَفْعَلَاهُ قَدْ لَا يَكُونُ حَسَنًا بَلْ قَبِيحًا فَلَوْ لَمْ يُقَيَّدْ لَانْتَقَضَ التَّعْرِيفَانِ جَمْعًا وَمَنْعًا، وَالْحَسَنُ بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي أَعَمُّ لِتَنَاوُلِهِ الْمُبَاحَ أَيْضًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْوَاجِبِ، وَالْمَنْدُوبِ إذْ لَا مَدْحَ عَلَى الْمُبَاحِ، وَلَا ذَمَّ كَالتَّنَفُّسِ مَثَلًا فَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ عَلَى التَّفْسِيرِ الثَّانِي لَا وَاسِطَةَ لِأَنَّ الْحُسْنَ يَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ وَالْقَبِيحَ يَشْمَلُ الْحَرَامَ، وَالْمَكْرُوهُ كَمَا يَشْمَلُهُمَا بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ فَالْقَبِيحُ بِكِلَا التَّفْسِيرَيْنِ لَا يَشْمَلُ إلَّا الْحَرَامَ، وَالْمَكْرُوهَ فَيَكُونُ التَّفْسِيرَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَهَاهُنَا بَحْثَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفِعْلَ الْغَيْرَ الْمَقْدُورِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ حَالُهُ مِمَّا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلُهُ فَيَكُونُ وَاسِطَةً بِالتَّفْسِيرِ الثَّانِي، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْقَبِيحِ إذْ لَيْسَ لِلْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ أَوْ الْعِلْمِ بِحَالِهِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَهُمْ يُمْدَحُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَا يُذَمُّ عَلَى فِعْلِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْقَبِيحِ بَلْ يَكُونُ وَاسِطَةً بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاحِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يُمْدَحُ تَارِكُهُ بِخِلَافِ الْمُبَاحِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ هُوَ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ قَبِيحٌ بِالتَّفْسِيرَيْنِ، وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاسِطَةً، وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ بِمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ لَا يَفْعَلَهُ مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ فَالْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ دَاخِلٌ فِي الْحَسَنِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَإِنْ أُرِيدَ مِنْ شَأْنِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ بِحَالِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَيَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ، وَمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ فِي الْقَبِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَفْعَلَ

أَصْلَيْنِ أَوْرَدْت عَلَى مَذْهَبِهِ دَلِيلَيْنِ لِإِثْبَاتِ الْأَصْلَيْنِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُمَا لَيْسَا لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ لَهُ، وَإِلَّا يَلْزَمُ قِيَامُ الْعَرَضِ وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ) أَيْ ضَعْفُ هَذَا الدَّلِيلِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ عُنِيَ بِقِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ اتِّصَافُهُ بِهِ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَهُ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ كَقَوْلِنَا: هَذِهِ الْحَرَكَةُ سَرِيعَةٌ أَوْ بَطِيئَةٌ عَلَى أَنَّ قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ بِهَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا شَرْعِيَّيْنِ أَيْضًا نَحْوُ: هَذَا الْفِعْلُ حَسَنٌ شَرْعًا أَوْ قَبِيحٌ شَرْعًا، وَإِنْ عُنِيَ أَنَّ الْعَرَضَ لَا يَقُومُ بِعَرَضٍ آخَرَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ جَوْهَرٍ يَقُومُ بِهِ الْعَرَضَانِ فَالْقِيَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ لَازِمٍ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ لَهُ إذْ لَا بُدَّ مِنْ فَاعِلٍ يَقُومُ الْفِعْلُ الْحَسَنُ بِهِ، وَإِنْ عُنِيَ بِهِ مَعْنًى آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ لِنَتَكَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فَاعِلَ الْقَبِيحِ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَرْكِهِ فَفِعْلُهُ اضْطِرَارِيٌّ، وَإِنْ تَمَكَّنَ فَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى مُرَجِّحٍ كَانَ اتِّفَاقِيًّا، وَإِنْ تَوَقَّفَ يَجِبُ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّا فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا، وَلِئَلَّا يَتَرَجَّحَ الْمَرْجُوحُ، وَلَا يَكُونُ الْمُرَجَّحُ بِاخْتِيَارِهِ لِئَلَّا يَتَسَلْسَلَ فَيَكُونُ اضْطِرَارِيًّا، وَالِاضْطِرَارِيُّ، وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يُوصَفَانِ بِهِمَا اتِّفَاقًا) تَقْرِيرُهُ أَنَّ فَاعِلَ الْقَبِيحِ لَا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ فَفِعْلُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَسْتَحِقُّ بِتَرْكِهِ الْمَدْحَ لَمْ يَكُنْ كِلَا تَفْسِيرَيْ الْقَبِيحِ مُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ الثَّانِي أَعَمُّ لِشُمُولِهِ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ التَّنْزِيهِ. (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْت أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ) ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ إنَّمَا يَثْبُتَانِ بِأَمْرِ الشَّارِعِ، وَنَهْيِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَذَكَرَ الْأَدِلَّةَ لِإِثْبَاتِ الْأَصْلَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ عَقْلِيَّةٌ، وَنَقْلِيَّةٌ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا تَتَعَرَّضُ لِنَفْيِ كَوْنِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ نَعَمْ هَذَا الْمَعْنَى لَازِمٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ إذْ لَوْ كَانَ الْحُسْنُ وَالْقُبْحُ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ لِمَا كَانَ بِالشَّرْعِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْمَقَامِ دَلِيلَانِ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ قَدْ اعْتَرَفُوا بِضَعْفِهِمَا، وَعَدَمِ تَمَامِهِمَا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْحَسَنَ مَفْهُومٌ زَائِدٌ عَلَى مَفْهُومِ الْفِعْلِ الْمُتَّصِفِ بِهِ إذْ قَدْ يُعْقَلُ الْفِعْلُ، وَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ حُسْنُهُ، ثُمَّ هُوَ وُجُودِيٌّ؛ لِأَنَّ نَقِيضَةَ لَا حُسْنٌ، وَهُوَ عَدَمِيٌّ، وَإِلَّا لَمَا صَدَقَ عَلَى الْمَعْدُومِ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُسْنٍ ضَرُورَةً أَوْ الْوُجُودِيُّ يَقْتَضِي مَحَلًّا مَوْجُودًا فَهُوَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى الْمَحَلِّ وُجُودِيٌّ فَيَكُونُ عَرَضًا ثُمَّ هُوَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ عَرَضٌ فَيَكُونُ قَائِمًا بِهِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يُوصَفَ الشَّيْءُ بِمَعْنًى هُوَ قَائِمٌ بِشَيْءٍ آخَرَ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ لِمَحَلِّ الْفِعْلِ لَا لَهُ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ قِيَامُهُمَا مَعًا بِالْجَوْهَرِ إذْ هُمَا مَعًا حَيْثُ الْجَوْهَرُ تَبَعًا لَهُ. وَحَقِيقَةُ قِيَامِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ هُوَ كَوْنُهُ تَابِعًا لَهُ فِي التَّحَيُّزِ، وَأَيْضًا مَعْنَى قِيَامِهِ بِهِ أَنَّهُ حَيْثُ ذَلِكَ الْعَرَضِ، وَحَيْثُ ذَلِكَ الْعَرَضِ هُوَ حَيْثُ ذَلِكَ الْجَوْهَرُ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْعَرَضِ فَهُمَا مَعًا حَيْثُ ذَلِكَ

اضْطِرَارِيٌّ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْفِعْلِ مَعَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرْكِ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِهِ إذْ لَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ أَمْ لَا فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلْسَلَ أَوْ يَنْتَهِيَ إلَى الِاضْطِرَارِ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَرْكِهِ فَفِعْلُهُ إنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى مُرَجِّحٍ يَكُونُ اتِّفَاقِيًّا وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ اتِّفَاقًا، وَأَيْضًا يَكُونُ رُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ؛ لِأَنَّا فَرَضْنَاهُ مُرَجِّحًا تَامًّا أَيْ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَوْهَرُ، وَقَائِمَانِ بِهِ فَلَا مَعْنَى لِقِيَامِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ غَايَتُهُ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْجَوْهَرِ مَشْرُوطٌ بِقِيَامِ الْآخَرِ بِهِ، وَضَعْفُهُ ظَاهِرٌ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقِيَامِ اخْتِصَاصُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ أَحَدُهُمَا مَنْعُوتًا، وَيُسَمَّى مَحَلًّا، وَالْآخَرُ نَاعِتًا، وَيُسَمَّى حَالًا فَمَا ذَكَرْتُمْ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ بِهَذَا الْمَعْنَى بَلْ هُوَ وَاقِعٌ كَاتِّصَافِ الْحَرَكَةِ بِالسُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ، وَإِنْ أُرِيدَ كَوْنُهُ تَابِعًا لَهُ فِي التَّحَيُّزِ فَالْقِيَامُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَلْزَمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلْفِعْلِ ثَابِتًا لَهُ، وَلَا يَكُونُ تَابِعًا لَهُ فِي التَّحَيُّزِ بَلْ تَابِعًا لِلْجَوْهَرِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْفِعْلُ: الثَّانِي أَنَّ الصِّدْقَ عَلَى الْمَعْدُومِ لَا يَقْتَضِي الْعَدَمِيَّةَ مُطْلَقًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومٌ كُلِّيٌّ يَصْدُقُ عَلَى مَوْجُودٍ فَتَكُونُ حِصَّةٌ مِنْهُ مَوْجُودَةً، وَعَلَى مَعْدُومٍ فَتَكُونَ حِصَّةٌ مِنْهُ مَعْدُومَةً كَاللَّامُمْتَنِعِ الصَّادِقِ عَلَى الْوَاجِبِ، وَالْمَعْدُومِ الْمُمْكِنِ. وَبِالْجُمْلَةِ عَدَمِيَّةُ صُورَةِ النَّفْيِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى كَوْنِ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّفْيِ وُجُودِيًّا بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّامَعْدُومَ وُجُودِيٌّ فَلَوْ أَثْبَتَ وُجُودِيَّةَ مَا دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ النَّفْيِ بِعَدَمِيَّةِ صُورَةِ النَّفْيِ لَزِمَ الدَّوْرُ الثَّالِثُ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِاتِّصَافِ الْفِعْلِ بِالْإِمْكَانِ الْوُجُودِيِّ بِعَيْنِ مَا ذُكِرَ مِنْ الدَّلِيلِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْإِمْكَانُ ذَاتِيًّا لَهُ. الرَّابِعُ أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ الشَّرْعِيَّ أَيْضًا عَرَضٌ بِالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فَيَلْزَمُ مِنْ اتِّصَافِ الْفِعْلِ بِهِ قِيَامُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، فَإِنْ قِيلَ: هُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الْأَعْيَانِ، وَمِثْلُهُ لَا يُعَدُّ مِنْ قِيَامِ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ، وَلِهَذَا احْتَاجُوا إلَى إثْبَاتِ كَوْنِ الْحَسَنِ الْعَقْلِيِّ وُجُودِيًّا، قُلْنَا: الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ عَلَى إثْبَاتِ وُجُودِيَّةِ الْحُسْنِ الْعَقْلِيِّ جَازَ هَاهُنَا بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَتَقْرِيرُهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَازِمَ الصُّدُورِ عَنْهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ التَّرْكُ فَوَاضِحٌ أَنَّهُ اضْطِرَارِيٌّ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا وُجُودُهُ، وَعَدَمُهُ فَإِنْ افْتَقَرَ إلَى مُرَجِّحٍ فَمَعَ الْمُرَجِّحِ يَعُودُ التَّقَسُّمُ فِيهِ بِأَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ لَازِمًا فَاضْطِرَارِيٌّ، وَإِلَّا احْتَاجَ إلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ، وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى مُرَجِّحٍ بَلْ يَصْدُرُ عَنْهُ تَارَةً، وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ أُخْرَى مَعَ تَسَاوِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَحَدُّدِ أَمْرٍ مِنْ الْفَاعِلِ فَهُوَ اتِّفَاقِيٌّ، وَالِاتِّفَاقِيُّ، وَالِاضْطِرَارِيُّ لَا يُوصَفَانِ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ عَقْلًا بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا جِهَةَ لِلتَّخْصِيصِ بِفِعْلِ الْقَبِيحِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ عَلَى تَقْدِيرِ

الْفِعْلِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ الْفِعْلُ مَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَصُدُورُ الْفِعْلِ مَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ تَارَةً، وَعَدَمُ صُدُورِهِ أُخْرَى يَكُونُ رُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ حِينَئِذٍ يُمْكِنُ عَدَمُهُ لَكِنْ عَدَمُهُ يُوجِبُ رُجْحَانَ الْمَرْجُوحِ، وَهُوَ أَشَدُّ امْتِنَاعًا مِنْ رُجْحَانِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِذَا وَجَبَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لَا يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا؛ لِأَنَّ الْمُرَجِّحَ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِهِ، وَأَلَّا نَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ كَمَا ذَكَرْنَا فَيُؤَدِّي إلَى التَّسَلْسُلِ أَوْ الِاضْطِرَارِ، وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ اضْطِرَارِيٌّ، وَالِاضْطِرَارِيُّ يُوصَفُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ اتِّفَاقًا، وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ اعْتَقَدُوا هَذَا الدَّلِيلَ يَقِينِيًّا، وَالْبَعْضُ الَّذِي لَا يَعْتَقِدُونَهُ يَقِينِيًّا لَمْ يُورِدُوا عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ مَنْعًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ شَيْءٌ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى كُلِّ الْفَرِيقَيْنِ مَوَاقِعُ الْغَلَطِ فِيهِ، وَأَنَا أُسْمِعُكَ مَا سَنَحَ لِخَاطِرِي، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ (الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى) أَنَّ الْفِعْلَ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ الْمَصْدَرُ بِإِزَائِهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمَعْنَى ـــــــــــــــــــــــــــــQعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرْكِ إلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْفِعْلِ اضْطِرَارِيًّا إذْ لَا مَعْنَى لِلِاخْتِيَارِيِّ إلَّا مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ، وَالتَّرْكِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى مُرَجِّحٍ كَانَ اتِّفَاقِيًّا، وَرُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ إنْ أَرَادَ بِهِ عَدَمَ التَّوَقُّفِ عَلَى مُرَجِّحٍ مِنْ عِنْدِ الْفَاعِلِ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي عِبَارَةِ الْبَعْضِ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ الرُّجْحَانِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ فَإِنَّ نَفْيَ الْخَاصِّ لَا يُوجِبُ نَفْيَ الْعَامِّ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ عَدَمَ التَّوَقُّفِ عَلَى مُرَجِّحٍ أَصْلًا يَصِحُّ كَوْنُهُ اتِّفَاقِيًّا إذْ لَا بُدَّ لِلِاتِّفَاقِيِّ مِنْ وُجُودِ الْعِلَّةِ أَعْنِي جَمِيعَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَقَعُ بِدُونِ عِلَّتِهِ، وَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا مَظِنَّةُ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لَمْ يَكُنْ اخْتِيَارِيًّا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمُرَجِّحُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ نَفْسُ اخْتِيَارِهِ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّا نَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى ذَلِكَ الِاخْتِيَارِ حَتَّى يَنْتَهِي إلَى مُرَجِّحٍ لَا يَكُونُ بِاخْتِيَارِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْمُحَالِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ صِفَةٌ مُتَحَقِّقَةٌ لَا أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ حَتَّى يَنْقَطِعَ التَّسَلْسُلُ بِانْقِطَاعِ الِاعْتِبَارِ أَوْ يَكُونَ اخْتِيَارُ الِاخْتِيَارِ عَيْنَ اخْتِيَارٍ. وَاعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ إنَّا نَجِدُ تَفْرِقَةً ضَرُورِيَّةً بَيْنَ الْأَفْعَالِ الِاضْطِرَارِيَّةِ، وَالِاخْتِيَارِيَّة كَالسُّقُوطِ، وَالصُّعُودِ، وَحَرَكَتَيْ الْأَخْذِ، وَالرَّعْشَةِ فَيَكُونُ مَا ذَكَرْتُمْ اسْتِدْلَالًا فِي مُقَابَلَةِ الضَّرُورَةِ فَلَا يُسْمَعُ، وَيَكُونُ بَاطِلًا، الثَّانِي أَنَّهُ يَجْرِي فِي فِعْلِ الْبَارِي تَعَالَى فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارًا وَهُوَ بَاطِلٌ، الثَّالِثُ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَوْ لَا يُوصَفُ فِعْلُ الْعَبْدِ بِحُسْنٍ، وَلَا قُبْحٍ شَرْعًا؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِغَيْرِ الْمُخْتَارِ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا لَكِنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ. الرَّابِعُ أَنَّا نَخْتَارُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ، وَسَوَاءً قُلْنَا يَجِبُ بِهِ الْفِعْلُ أَوْ لَا يَجِبُ يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا إذْ لَا مَعْنَى لِلِاخْتِيَارِيِّ إلَّا مَا يَتَرَجَّحُ بِالِاخْتِيَارِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الِاخْتِيَارِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ بِالنَّظَرِ إلَى الْقُدْرَةِ، وَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا بِحَسَبِ الْإِرَادَةِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ فَالْمُرَجِّحُ

الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ فَإِنَّهُ إذَا تَحَرَّكَ زَيْدٌ فَقَدْ قَامَتْ الْحَرَكَةُ بِزَيْدٍ فَإِنْ أُرِيدَ بِالْحَرَكَةِ الْحَالَةُ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُتَحَرِّكِ فِي أَيِّ جُزْءٍ يُفْرَضُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ فَهِيَ الْمَعْنَى الثَّانِي، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا إيقَاعُ تِلْكَ الْحَالَةِ فَهِيَ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي مَوْجُودٌ فِي الْخَارِجِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَمْرٌ يَعْتَبِرُهُ الْعَقْلُ، وَلَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ إذْ لَوْ كَانَ لَكَانَ لَهُ مَوْقِعٌ، ثُمَّ إيقَاعُ ذَلِكَ الْإِيقَاعِ يَكُونُ وَاقِعًا إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ فِي طَرَفِ الْمَبْدَأِ فِي الْأُمُورِ الْوَاقِعَةِ فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنَّهُ إذَا أَوْقَعَ الْفَاعِلُ شَيْئًا وَاحِدًا فَقَدْ أَوْجَدَ أُمُورًا غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، وَهَذَا بَدِيهِيُّ الِاسْتِحَالَةِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْإِيقَاعِ أَمْرًا غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ أَظْهَرُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّ التَّكْوِينَ عِنْدَهُ أَمْرٌ غَيْرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQهُوَ الْإِرَادَةُ الَّتِي يَجِبُ الْفِعْلُ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا، وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَعْلُومَ ضَرُورَةً هُوَ وُجُودُ الْقُدْرَةِ لَا تَأْثِيرُهَا، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مُرَجِّحَ فَاعِلِيَّتِهِ قَدْ تَمَّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ مُتَجَدِّدٍ إذْ عِلَّةُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْمُرَجِّحِ عِنْدَنَا الْحُدُوثُ دُونَ الْإِمْكَانِ، وَعَنْ الثَّالِثِ بِأَنَّ وُجُودَ الِاخْتِيَارِ، وَمَقْدُورِيَّةِ الْفِعْلِ كَافٍ فِي الشَّرْعِ، وَعِنْدَكُمْ لَوْلَا اسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ بِالْفِعْلِ، وَتَأْثِيرُ قُدْرَتِهِ فِيهِ لَقَبُحَ التَّكْلِيفُ عَقْلًا وَعَنْ الرَّابِعِ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَا يَجِبُ الْفِعْلُ عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَطَلَ اسْتِقْلَالُ الْعَبْدِ بِهِ فَقَبُحَ التَّكْلِيفُ عِنْدَكُمْ كَمَا إذَا كَانَ مُوجِدَ الْفِعْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَلِهَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّهُمْ لَمْ يُورِدُوا عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ مَنْعًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَأَنَّهُ قَدْ خَفِيَ مَنْشَأُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَعْنِي الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَهُ يَقِينِيًّا، وَاَلَّذِينَ لَا يَعْتَقِدُونَهُ يَقِينِيًّا وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْرَدَ الْمَنْعَ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ بِأَنَّهُ إنْ تَوَقَّفَ عَلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ إنْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْحَالَةُ الْحَاصِلَةُ بِالْإِيقَاعِ كَمَا لِلْمُتَحَرِّكِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ، وَعَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ بِأَنَّهُ إذَا وَجَبَ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لَا يَكُونُ اخْتِيَارِيًّا إنْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ نَفْسُ الْإِيقَاعِ، وَبَنَى تَحْقِيقَ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعِ مُقَدِّمَاتٍ. (قَوْلُهُ: الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى) إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَصَادِرِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ لِلْفَاعِلِ مَعْنًى ثَابِتٌ قَائِمٌ بِهِ كَمَا إذَا قَامَ فَحَصَلَ هَيْئَةٌ هِيَ الْقِيَامُ أَوْ تَسَخَّنَ فَحَصَلَ لَهُ صِفَةٌ هِيَ الْحَرَارَةُ أَوْ تَحَرَّكَ فَحَصَلَ لَهُ حَالَةٌ هِيَ الْحَرَكَةُ فَلَفْظُ الْفِعْلِ، وَكَثِيرٌ مِنْ صِيَغِ الْمَصَادِرِ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ إيقَاعِ الْفَاعِلِ ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ، وَيُسَمَّى تَأْثِيرًا كَإِحْدَاثِ الْحَرَكَةِ، وَإِيجَادِهَا فِي ذَاتِ الْمُوقِعِ، وَالْمُحْدِثِ فَإِنَّهُ تَحَرَّكَ لَا كَإِيقَاعِ الْحَرَكَةِ فِي جِسْمٍ آخَرَ حَتَّى يَكُونَ تَحْرِيكًا، وَكَإِيقَاعِ الْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ فِي ذَاتِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْوَصْفِ الْحَاصِلِ لِلْفَاعِلِ بِذَلِكَ الْإِيقَاعِ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ وَصْفًا كَالْقِيَامِ أَوْ كَيْفِيَّةً كَالْحَرَارَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ كَالْحَالَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُحَرِّكِ مَا دَامَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْمَبْدَأِ، وَالْمُنْتَهَى، وَالْأَوَّلُ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَهُوَ الْجُزْءُ مِنْ

مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ. (الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ) كُلُّ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى مُوجِدٍ، وَأَلَّا يَكُونَ وَاجِبًا بِالذَّاتِ، ثُمَّ إنْ لَمْ يُوجَدْ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ، وَإِلَّا أَمْكَنَ وُجُودُهُ، وَكُلُّ مُمْكِنٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ وَهَاهُنَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَقَعَ بِدُونِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ لَمْ تَكُنْ هِيَ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَالْمَفْرُوضُ خِلَافُهُ، وَإِنْ وُجِدَ تِلْكَ الْجُمْلَةُ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَهَا، وَإِلَّا أَمْكَنَ عَدَمُهُ فَفِي حَالِ الْعَدَمِ إنْ تَوَقَّفَ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ الْمَفْرُوضُ جُمْلَةً وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ فَوُجُودُهُ مَعَ الْجُمْلَةِ تَارَةً، وَعَدَمُهُ أُخْرَى رُجْحَانٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَهُوَ مُحَالٌ فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُحَالٌ بَلْ الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِدَهُ شَيْءٌ آخَرُ مُحَالٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْمَعْنَى قُلْت قَدْ لَزِمَ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَفْهُومِ الْفِعْلِ الِاصْطِلَاحِيِّ، وَهُوَ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْخَارِجِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَكَانَ لَهُ مَوْقِعٌ فَيَكُونُ لَهُ إيقَاعٌ، وَهَكَذَا إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ، وَكُلُّ إيقَاعٍ مَعْلُولٌ لِإِيقَاعِهِ. وَالتَّقْدِيرُ أَنَّ الْإِيقَاعَاتِ أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ فِي جَانِبِ الْمَبْدَأِ أَيْ الْعِلَّةِ فِي أُمُورٍ مَوْجُودَةٍ فِي الْخَارِجِ عَلَى مَا هُوَ الْمَفْرُوضُ لَا فِي أُمُورٍ اعْتِبَارِيَّةٍ حَتَّى يَنْقَطِعَ بِانْقِطَاعِ الِاعْتِبَارِ أَوْ يَكُونَ إيقَاعُ الْإِيقَاعِ بَيْنَ الْإِيقَاعِ كَمَا فِي لُزُومِ اللُّزُومِ، وَإِمْكَانِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا قَالَ: فِي الْمَبْدَأِ؛ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ التَّسَلْسُلِ فِي جَانِبِ الْعِلَّةِ مِمَّا قَامَ عَلَيْهِ الْبُرْهَانُ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَعْلُولِ فَإِنَّهُ لَا بُرْهَانَ عَلَيْهِ، وَبُرْهَانُ التَّطْبِيقِ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، الثَّانِي أَنَّهُ يَلْزَمُ عِنْدَ إيجَادِ الْفَاعِلِ شَيْئًا أَنْ يُوجَدَ أُمُورٌ مُتَحَقِّقَةٌ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ هِيَ الْإِيقَاعَاتُ الْمُتَرَتِّبَةُ، وَبَدِيهَةُ الْعَقْلِ قَاطِعَةٌ بِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَلْزَمُ لَوْ كَانَ إيقَاعُ الْإِيقَاعِ أَيْضًا فِعْلُهُ أَمَّا لَوْ أَوْجَدَ شَيْئًا بِإِيقَاعِهِ، وَكَانَ إيقَاعُهُ بِإِيقَاعِ فَاعِلٍ آخَرَ كَالْبَارِي تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَإِذَا انْتَهَى إلَى إيقَاعٍ قَدِيمٍ كَالْوَصْفِ الَّذِي يُسَمَّى تَكْوِينًا لَمْ يَلْزَمْ التَّسَلْسُلُ أَيْضًا. الثَّالِثُ وَهُوَ جَوَابٌ إلْزَامِيٌّ أَنَّ الْإِيقَاعَ مَعْنَاهُ التَّكْوِينُ، وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَالْإِلْزَامُ لَيْسَ بِتَامٍّ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ التَّكْوِينَ لَيْسَ صِفَةً حَقِيقَةً أَزَلِيَّةً مُغَايِرَةً لِلْقُدْرَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ التَّكْوِينِ الْحَادِثِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ لِوُجُودِ الشَّيْءِ بَلْ الْعُمْدَةُ فِي إثْبَاتِ هَذَا الْمَطْلُوبِ هُوَ لُزُومُ التَّسَلْسُلِ فِي الْإِيقَاعَاتِ، وَيَمْتَنِعُ انْتِهَاؤُهُ إلَى إيقَاعٍ قَدِيمٍ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ قِدَمَ الْحَادِثِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إيقَاعًا بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَقَعُ بِهِ. (قَوْلُهُ: الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ) حَاصِلُهَا أَنَّهُ لَا بُدَّ لِكُلِّ مُمْكِنٍ مِنْ عِلَّةٍ يَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَعَدَمُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا فَهُوَ بِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ وَاجِبٌ، وَهُوَ الْوُجُوبُ بِالْغَيْرِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِهَا مُمْتَنِعٌ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ بِالْغَيْرِ مَا تَوَقَّفَ وُجُودُ الْمُمْكِنُ عَلَى عِلَّةٍ مُوجِدَةٍ فَضَرُورِيٌّ وَاضِحٌ

إنْ أَمْكَنَ عَدَمُهُ مَعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يَجِبُ أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ فَرْضِ عَدَمِهِ مُحَالٌ لَكِنَّهُ يَلْزَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي زَمَانِ عَدَمِهِ لَمْ يُوجِدْهُ شَيْءٌ فَفِي الزَّمَانِ الَّذِي وُجِدَ إنْ وُجِدَ بِإِيجَادِ شَيْءٍ آخَرَ إيَّاهُ يَكُونُ الْإِيجَادُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ مُلَاحَظَةِ مَفْهُومِ الْمُمْكِنِ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ وُجُودُهُ، وَلَا عَدَمُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْأَذْهَانِ لِعَدَمِ مُلَاحَظَةِ مَفْهُومِ الْإِمْكَانِ أَوْ مَعْنَى الِاحْتِيَاجِ إلَى الْمُوجِدِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الضَّرُورَةَ قَدْ يُنَبِّهُ عَلَيْهِ بِصُورَةِ الِاسْتِدْلَالِ فَلِهَذَا قَالَ، وَإِلَّا أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ وُجُودُهُ عَلَى مُوجِدٍ لَكَانَ وَاجِبًا إذْ لَا نَعْنِي بِالْوَاجِبِ إلَّا مَا يَكُونُ وُجُودُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُوجِدٍ، وَأَمَّا كَوْنُ عِلَّةِ الْمُمْكِنِ بِحَيْثُ يَجِبُ عَدَمُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ عَدَمِهَا، وَيَجِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، وَشَرَائِطِهَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِجُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ فَحَاصِلُهُ مُقَدِّمَتَانِ: إحْدَاهُمَا قَوْلُنَا: كُلَّمَا عَدِمَتْ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ امْتَنَعَ وُجُودُهُ. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُنَا: كُلَّمَا وُجِدَتْ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ وَجَبَ وُجُودُهُ أَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَصْدُقْ لَصَدَقَ قَوْلُنَا قَدْ يَكُونُ إذَا عَدِمَتْ الْجُمْلَةُ لَمْ يَمْتَنِعْ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بَلْ أَمْكَنَ بِالْإِمْكَانِ الْعَامِّ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مُمْكِنًا لَمَا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ أَمَّا الْمُلَازَمَةُ؛ فَلِأَنَّ اسْتِحَالَةَ اللَّازِمِ تُوجِبُ اسْتِحَالَةَ الْمَلْزُومِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْمَلْزُومِ، وَالْمُسْتَحِيلُ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا، وَأَمَّا بُطْلَانُ اللَّازِمِ فَلِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ وُقُوعُ وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِدُونِ وُجُودِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ بَعْضُ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَهَذَا مُحَالٌ، وَبَيَانُ الْمَلْزُومِ ظَاهِرٌ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ؛ فَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَصْدُقْ لَصَدَقَ قَوْلُنَا: قَدْ يَكُونُ إذَا وُجِدَتْ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ لَمْ يَجِبْ وُجُودُهُ بَلْ أَمْكَنَ عَدَمُهُ بِالْإِمْكَانِ الْعَامِّ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمُمْكِنِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْجُمْلَةِ، وَكَانَ مُمْكِنًا لِمَا لَزِمَ مِنْ فَرْضِ وُقُوعِهِ مُحَالٌ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ. لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا وُقُوعَ عَدَمِ الْمُمْكِنِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ إمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ الْوُجُودُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ أَوْ لَا، وَكِلَاهُمَا مُحَالٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِاسْتِلْزَامِهِ أَنْ لَا يَكُونَ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ جُمْلَةً لِبَقَاءِ شَيْءٍ آخَرَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِاسْتِلْزَامِهِ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهُوَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ تَارَةً، وَعَدَمُهُ أُخْرَى مَعَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ تُرَجِّحَ الْوُجُودَ أَوْ الْعَدَمَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَعَدَمَ كَوْنِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةً مُحَالٌ بِالضَّرُورَةِ فَعَدَمُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ مُحَالٌ فَوُجُودُهُ وَاجِبٌ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَإِنْ قِيلَ: إنْ أَرَدْتُمْ الرُّجْحَانَ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ وُجُودَ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجِدَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَيْ

عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَلَا يَكُونُ الْمَفْرُوضُ جُمْلَةً، وَإِنْ وُجِدَ مِنْ غَيْرِ إيجَادِ شَيْءٍ آخَرَ إيَّاهُ لَزِمَ مَا سَلَّمْتُمْ اسْتِحَالَتَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِوُجُودِ كُلِّ شَيْءٍ مُمْكِنٍ مِنْ شَيْءٍ يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ، وَلَوْلَاهُ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ عِنْدَ وُجُودِ جُمْلَةٍ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَالْحُكَمَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُغَايِرٌ لِذَاتِ الْمُمْكِنِ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُمْكِنِ مَعَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَإِنَّ تِلْكَ الْجُمْلَةِ عِلَّةٌ مُوجِدَةٌ غَايَتُهُ أَنَّ الْمَعْلُولَ لَا يَجِبُ مَعَهَا، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلَ تَحَقُّقِ الْمَعْلُولِ مَعَ عِلَّتِهِ الْمُوجِدَةِ تَارَةً، وَعَدَمِ تَحَقُّقِهِ مَعَهَا أُخْرَى فَلَا نُسَلِّمُ اسْتِحَالَةَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْإِيجَادَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ حَالَةَ الْعَدَمِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فَفِي حَالَةِ الْوُجُودِ إنْ تَحَقَّقَ لَمْ يَكُنْ الْمَفْرُوضُ جُمْلَةَ مَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهِ الْإِيجَادُ، وَقَدْ كَانَ مُنْتَفِيًا فِي حَالَةِ الْعَدَمِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ لَزِمَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا إيجَادِ شَيْءٍ إيَّاهُ، وَهُوَ مَعْنَى الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَيَظْهَرُ لَك بِهَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - زِيَادَةً لَا حَاجَةَ إلَيْهَا إذْ يَكْفِي أَنْ يُقَالَ: قَدْ لَزِمَ هَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي زَمَانِ عَدَمِهِ لَمْ يُوجِدْهُ شَيْءٌ إلَى الْآخَرِ فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِكُمْ يَمْتَنِعُ وُجُودُهُ أَوْ يَجِبُ وُجُودُهُ الِامْتِنَاعَ، وَالْوُجُوبَ بِحَسَبِ الذَّاتِ فَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُمْكِنِ وَإِنْ أُرِيدَ بِحَسَبِ الْغَيْرِ فَالْإِمْكَانُ لَا يُنَاقِضُهُمَا فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِكُمْ، وَإِلَّا لَأَمْكَنَ وُجُودُهُ أَوْ عَدَمُهُ. قُلْنَا الْمُرَادُ بِامْتِنَاعِ الْوُجُودِ اسْتِحَالَتُهُ بِالنَّظَرِ إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ، وَبِإِمْكَانِهِ عَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَكَذَا الْمُرَادُ بِوُجُوبِ الْوُجُودِ اسْتِحَالَةُ الْعَدَمِ بِالنَّظَرِ إلَى وُجُودِ الْعِلَّةِ، وَبِإِمْكَانِ الْعَدَمِ عَدَمُ اسْتِحَالَتِهِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي تَنَاقُضِهِمَا، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ: إنَّ الْمُمْكِنَةَ تُنَاقِضُ الضَّرُورِيَّةَ فَإِنْ قِيلَ: الْمَعْلُولُ النَّوْعِيُّ قَدْ يَتَعَدَّدُ عِلَلُهُ كَالشَّمْسِ، وَالْقَمَرِ، وَالنَّارِ لِلضَّوْءِ، وَمَعَ انْتِفَاءِ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَعْلُولِ قُلْنَا إذَا اعْتَبَرْت الْمَعْلُولَ نَوْعِيًّا فَعِلَّتُهُ أَحَدُ الْأُمُورِ، وَانْتِفَاؤُهُ، إنَّمَا يَكُونُ بِانْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ وُجُودُ الْمَعْلُولِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِيجَادَ أَمْرٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ اعْتِبَارٌ عَقْلِيٌّ يَحْصُلُ فِي الذِّهْنِ مِنْ اعْتِبَارِ إضَافَةِ الْعِلَّةِ إلَى الْمَعْلُولِ فَهُوَ فِي الذِّهْنِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُمَا، وَفِي الْخَارِجِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ أَصْلًا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ عَدَمُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ كَانَ وُجُودُهُ تَارَةً، وَعَدَمُهُ أُخْرَى تَخْصِيصًا بِلَا مُخَصِّصٍ، وَتَرْجِيحًا بِلَا مُرَجِّحٍ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ عَلَى السَّوِيَّةِ، وَبُطْلَانَهُ ضَرُورِيٌّ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَكْفِي فِي وُقُوعِ الْمُمْكِنِ أَوْلَوِيَّتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَهِي إلَى الْوُجُوبِ، وَحِينَئِذٍ يُمْكِنُ عَدَمُهُ مَعَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ إنَّمَا يُفِيدُ

لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ بِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْمُوجِبُ بِالذَّاتِ فَإِنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ يَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ إيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يُوجِدَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَا زَعَمُوا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ مَحْفُوفٌ بِوَجْهَيْنِ سَابِقٍ، وَلَاحِقٍ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ السَّبْقُ الزَّمَانِيُّ فَمُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْلَوِيَّتَهُ لَا وُجُوبَهُ؟ قُلْنَا: إنْ أَمْكَنَ الْعَدَمُ مَعَ تِلْكَ الْأَوْلَوِيَّةِ فَوُقُوعُهُ إنْ كَانَ لَا لِسَبَبٍ لَزِمَ رُجْحَانُ الْمَرْجُوحِ وَإِنْ كَانَ لِسَبَبٍ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ عَدَمُ ذَلِكَ السَّبَبِ فَلَا يَكُونُ الْمَفْرُوضُ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ. (قَوْلُهُ: وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ) ، وَهِيَ احْتِيَاجُ كُلِّ مُمْكِنٍ إلَى عِلَّةٍ يَجِبُ وُجُودُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ وُجُودِهَا، وَعَدَمُهُ عِنْدَ عَدَمِهَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحُكَمَاءُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ السُّنَّةِ يَعْنِي أَنَّهَا مَعَ كَوْنِهَا أَوَّلِيَّةً مَشْهُورَةً لَمْ يُنَازِعْ فِيهَا إلَّا قَوْمٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ إنَّمَا يَصْدُرُ عَنْهُ الْفِعْلُ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ دُونَ الْوُجُوبِ لَكِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ يَقُولُونَ إنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ وَاجِبٌ عَلَى تَقْدِيرِ إيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ، بِإِرَادَتِهِ، وَاخْتِيَارِهِ أَيَّ وَقْتٍ أَرَادَ فَاَللَّهُ تَعَالَى مُخْتَارٌ، وَالْمَعْلُولُ حَادِثٌ، وَاعْتِرَاضُ الْحُكَمَاءِ عَلَيْهِ بِأَنَّ اخْتِيَارَهُ إنْ كَانَ قَدِيمًا يَلْزَمُ قِدَمُ الْمَعْلُولِ لِامْتِنَاعِ التَّخَلُّفِ، وَإِنْ كَانَ حَادِثًا يُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَيْهِ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ أَوْ قِدَمُ الْمَعْلُولِ (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ) أَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَ الْحُكَمَاءِ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ مُمْكِنٍ مَحْفُوفٌ بِوُجُوبَيْنِ سَابِقٍ، وَهُوَ وُجُوبُ صُدُورِهِ عَنْ الْعِلَّةِ، وَلَاحِقٍ، وَهُوَ وُجُوبُ وُجُودِهِ مَا دَامَ مَوْجُودًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ التَّسَاوِي، وَلَمْ يَنْتَهِ إلَى حَدِّ الْوُجُوبِ لَمْ يُوجَدْ لِمَا مَرَّ، وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُودِ امْتَنَعَ الْعَدَمُ مَا دَامَ الْوُجُودُ مُتَحَقِّقًا ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِسَبَقِ الْوُجُوبِ عَلَى الْوُجُودِ السَّبَقُ الزَّمَانِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ مَوْجُودًا فِي زَمَانٍ قَبْلَ زَمَانِ تَحَقُّقِ الْمُتَأَخِّرِ يَلْزَمُ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْوُجُوبُ فِي زَمَانِ عَدَمِ الْمُمْكِنِ، وَهُوَ مُحَالٌ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ السَّبْقُ الِاحْتِيَاجِيُّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُتَأَخِّرُ كَسَبْقِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ أَوْ الْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ حَتَّى يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ عَنْ الْعِلَّةِ مُحْتَاجٌ إلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ فَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الِاحْتِيَاجُ فِي الْعَقْلِ فَظَاهِرٌ أَنَّ تَعَقُّلَ وُجُودِ الْمُمْكِنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعَقُّلِ وُجُوبِهِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ، وَإِنْ أُرِيدَ فِي الْخَارِجِ، وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالنَّظَرِ إلَى الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْعِلَّةِ التَّامَّةِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَا وُجُوبَ مَعَ الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ إذْ النِّزَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ مَعَ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ أَمْ لَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ إذَا كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْوُجُودُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ فَكَانَ جُزْءًا مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ فَيَلْزَمُ تَقَدُّمُهُ عَلَى نَفْسِهِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ لِلْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ بِجَمِيعِ

يَلْزَمُ وُجُوبُ وُجُودِ الشَّيْءِ حَالَ عَدَمِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ سَبْقُ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فَكَذَا؛ لِأَنَّهُ مَعَ الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ لَا يَجِبُ، وَمَعَ التَّامَّةِ لَا يَكُونُ الْوُجُوبُ مِنْهَا ضَرُورَةَ أَنَّ الْوُجُوبَ مَعْلُولُهَا فَالْوُجُوبُ لَيْسَ إلَّا مُقَارِنًا بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ الْوُجُودُ إلَيْهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَثَرُ الْمُؤَثِّرِ التَّامِّ ثُمَّ الْعَقْلُ قَدْ يَعْتَبِرُ أَحَدَ الْمُتَضَايِفَيْنِ مُؤَخَّرًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْآخَرِ فِي التَّعَقُّلِ، وَمُقَدَّمًا مِنْ حَيْثُ إنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَجْزَائِهَا، وَشَرَائِطهَا وَجَبَ الْمَعْلُولُ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ أَثَرًا لِلْعِلَّةِ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا، وَكَوْنُهُ جُزْءًا مِنْهَا يَقْتَضِي تَقَدُّمَهُ عَلَيْهَا هَذَا مُحَالٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَوْنَ الْوُجُوبِ أَثَرًا لِلْعِلَّةِ التَّامَّةِ الَّتِي هِيَ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ يُنَافِي سَبْقَهُ عَلَى الْوُجُودِ بِمَعْنَى احْتِيَاجِ الْوُجُودِ إلَيْهِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ كَوْنِ الشَّيْءِ أَثَرَ الشَّيْءِ، وَجُزْءًا مِنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَوَّلُ فَيَنْتَفِي الثَّانِي، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ السَّبْقُ لِاحْتِيَاجٍ إلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ عِنْدَ مُلَاحَظَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِأَنَّ الْمُمْكِنَ مَا لَمْ يَجِبْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِمَا مَرَّ فَالْوُجُوبُ أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ لَكِنَّهُمْ حِينَ قَالُوا يَجِبُ وُجُودُ الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ أَرَادُوا بِهَا جَمِيعَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمُمْكِنُ سِوَى الْوَاجِبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اعْتِبَارٌ عَقْلِيٌّ، وَهُوَ تَأْكِيدُ الْوُجُودِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ هُوَ فَلَمْ يَجْعَلُوهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ فَإِنْ أَبَيْتُمْ هَذَا الْإِطْلَاقَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّ مَا سِوَى الْوُجُوبِ عِلَّةٌ نَاقِصَةٌ؛ لِأَنَّهَا بَعْضُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ فَنَقُولُ: إنْ أَرَدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ لَا يَجِبُ الْوُجُودُ مَعَ الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ السَّلْبَ الْجُزْئِيَّ فَهُوَ لَا يَضُرُّنَا، وَإِنْ أَرَدْتُمْ السَّلْبَ الْكُلِّيَّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْعِلَلِ النَّاقِصَةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مِنْ الْعِلَلِ النَّاقِصَةِ مَا إذَا تَحَقَّقَتْ تَحَقَّقَ الْوُجُوبُ، وَهِيَ جُمْلَةُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ سِوَى الْوُجُوبِ فَالْوُجُوبُ أَثَرٌ لَهَا مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا بِالذَّاتِ، وَسَابِقٌ عَلَى الْوُجُوبِ بِالذَّاتِ بِمَعْنَى الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ، وَلَا فَسَادَ فِي ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: مَعَ الْعِلَّةِ النَّاقِصَةِ) أَوْ التَّامَّةِ أَرَادَ الْمَعِيَّةَ الزَّمَانِيَّةَ، وَإِلَّا فَالْمَعْلُولُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ بِالذَّاتِ لَا مَحَالَةَ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْعَقْلُ) كَأَنَّهُ تَنْبِيهٌ عَلَى مَنْشَأِ الْغَلَطِ فِي سَبْقِ الْوُجُوبِ عَلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا مَعًا مَعْلُولَا عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْمُؤَثِّرُ التَّامُّ فَلَا يُمْكِنُ تَحَقُّقٌ بِأَحَدِهِمَا بِدُونِ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِ النَّهَارِ، وَإِضَاءَةِ الْعَالَمِ الْمَعْلُولَيْنِ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ فَلِلْعَقْلِ أَنْ يَعْتَبِرَهُمَا مَعًا نَظَرًا إلَى تَرَتُّبِهِمَا عَلَى الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَنْ يَعْتَبِرَ أَحَدَهُمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْآخَرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الْآخَرِ، وَمُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْآخَرَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ كَالْإِخْوَةِ مَثَلًا فَإِنَّ أُخُوَّةَ زَيْدٍ مُقَارِنَةٌ لِأُخُوَّةِ عَمْرٍو، وَمُتَأَخِّرَةٌ عَنْهَا، وَمُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهَا لَكِنْ بِحَسَبِ اعْتِبَارَاتِ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ: لَهُ دَوْرُ الْمَعِيَّةِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى احْتِيَاجِ الْوُجُودِ إلَى الْوُجُوبِ جَزَمَ بِأَنَّهُ سَابِقٌ عَلَى الْوُجُودِ، وَلَمْ يُلَاحِظْ مُقَارَنَتَهُمَا بِالذَّاتِ، وَتَأَخُّرَ الْوُجُوبِ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْوُجُودِ وَقَدْ نَبَّهْنَاكَ عَلَى أَنَّ الْوُجُودَ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا لَا يَتَوَقَّفُ

الْآخَرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَيْضًا مُقَارِنًا مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ. (الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ) لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِوُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ مِنْ شَيْءٍ يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ ذَلِكَ الْمُمْكِنِ يَلْزَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ الْحَادِثِ أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَلَا مَعْدُومَةٌ كَالْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، وَهُوَ الْقَوْلُ بِالْحَالِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ زَيْدٍ الْحَادِثِ لَا يَكُونُ تَمَامُهَا قَدِيمًا؛ لِأَنَّ الْقَدِيمَ إنْ أَوْجَبَهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَحُدُوثُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَكُونُ تَمَامُ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ قَدِيمًا، وَإِنْ أَوْجَبَهُ لَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَحُدُوثُهُ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ رُجْحَانٌ مِنْ غَيْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ الْوُجُوبُ، وَهُوَ نَفْسُ الْوُجُوبِ فَلَا يَكُونَانِ مَعْلُولَيْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ بَلْ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ مُقَارَنَتَهُمَا، وَلَا يُنَافِي تَقَدُّمَ أَحَدِهِمَا بِمَعْنَى احْتِيَاجِ الْآخَرِ إلَيْهِ، وَأَيْضًا لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: وَجَبَ صُدُورُهُ فَوُجِدَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وُجِدَ فَوَجَبَ صُدُورُهُ إنَّ تَوَقُّفَ الْمَعِيَّةِ لَا يَقْتَضِي السَّبْقَ كَمَا بَيْنَ وُجُودِ النَّهَارِ، وَإِضَاءَةِ الْعَالَمِ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ، وَالْوُجُودَ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِمَا مَعْلُولَيْ عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَا مُضَافَيْنِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْتَبَرَ وَصْفُ الْمُقَارَنَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ. (قَوْلُهُ الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ) أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى أَمْرٍ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ كَالْإِيقَاعِ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ إضَافِيٌّ مَثَلًا، وَهَذَا قَوْلٌ بِالْحَالِ، وَانْقِسَامُ الْمَفْهُومِ إلَى الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ وَالْوَاسِطَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَوْنٌ فَهُوَ الْمَعْدُومُ، وَإِلَّا فَإِنْ اسْتَقَلَّ بِالْكَائِنِيَّةِ فَمَوْجُودٌ، وَإِلَّا فَحَالٌ، وَهِيَ صِفَةٌ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَلَا مَعْدُومَةٍ قَائِمَةٌ بِمَوْجُودٍ، وَتَقْرِيرُ الدَّلِيلِ أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ زَيْدٍ الْحَارِثِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْحُدُوثِ إنْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ زَيْدٍ لَمْ يَكُنْ الْمَفْرُوضُ قَبْلَ الْوَقْتِ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ هَذَا خُلْفٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَتِهَا كَانَ حُدُوثُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ إيجَادِ شَيْءٍ إيَّاهُ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ إيجَادٌ، وَبَعْدَهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَيْءٌ آخَرُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ فَلَزِمَ الْوُجُودُ بِلَا إيجَادٍ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُودُ الْإِرَادَةُ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا تَرْجِيحُ مَا شَاءَ مَتَى شَاءَ؟ وَالْأَخْصَرُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ الْمَجْمُوعُ قَدِيمًا لَزِمَ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ؛ لِمَا مَرَّ مِنْ وُجُوبِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَحَقُّقِ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَيَكْفِي أَنْ يُقَالَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ أَمْرٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ، لَكَانَتْ إمَّا مَوْجُودَاتٌ مَحْضَةٌ أَوْ مَعْدُومَاتٌ مَحْضَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ، وَالْأَقْسَامُ بَاطِلَةٌ بِأَسْرِهَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوَاجِبِ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ فِي طَرَفِ الْمَبْدَأِ فَحِينَئِذٍ إنْ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ تِلْكَ

مُرَجِّحٍ فَيَكُونُ بَعْضُهَا حَادِثَةً فَحِينَئِذٍ إنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ فَهِيَ، إمَّا مَوْجُودَاتٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ إمَّا قِدَمُ الْحَادِثِ أَوْ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ، وَإِمَّا مَعْدُومَاتٌ مَحْضَةٌ، وَهِيَ لَا تَصْلُحُ عِلَّةَ الْمَوْجُودِ، وَأَيْضًا وُجُودُ زَيْدٍ مُتَوَقِّفٌ عَلَى أَجْزَائِهِ الْمَوْجُودَةِ، وَإِمَّا الْمَوْجُودَاتُ مَعَ مَعْدُومَاتٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ثَابِتَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا زَيْدٌ يُوجَدُ زَيْدٌ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو مَثَلًا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِهِ الَّذِي بَعْدَ الْوُجُودِ؛ لِأَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَوْجُودَاتِ مَعْدُومًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ لَزِمَ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ بِالزَّمَانِ ضَرُورَةَ دَوَامِ الْمَعْلُولِ بِدَوَامِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ. وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْهَا مَعْدُومًا فَعَدَمُهُ يَكُونُ بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَدْ يُقَالُ فِي تَقْدِيرِهِ: إنَّ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ إنْ انْتَهَتْ إلَى الْوَاجِبِ كَانَتْ قَدِيمَةً، وَلَزِمَ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَهِ إلَيْهِ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ، وَهِيَ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْوَاجِبِ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ، وَإِنَّ عَدَمَ انْتِهَاءِ الْمُمْكِنَاتِ إلَى الْوَاجِبِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءً. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَعْدُومَ الْمَحْضَ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِوُجُودِ الْمُمْكِنِ، وَهَذَا بَدِيهِيٌّ؛ وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي زَيْدٍ الْمُرَكَّبِ، وَوُجُودُ الْمُرَكَّبِ يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ أَجْزَائِهِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا يَكُونُ جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مَعْدُومَاتٌ مَحْضَةٌ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ عِلَّةَ الْحَادِثِ لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَاتٍ مَعَ مَعْدُومَاتٍ لَمَّا كَانَ وُجُودُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا وُجُودُ الْحَادِثِ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِ الْحَادِثِ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِهِ عَلَى الْمَعْدُومَاتِ أَيْضًا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ ثَابِتَةٌ، وَهِيَ قَوْلُنَا: كُلَّمَا وُجِدَ جَمِيعُ الْوُجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ لَوُجِدَ زَيْدٌ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ مَا إذْ لَوْ تَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ، وَلْنَفْرِضْهُ عَدَمَ عَمْرٍو فَأَمَّا أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى عَدَمِهِ السَّابِقِ أَوْ عَلَى عَدَمِهِ اللَّاحِقِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ عَدَمَهُ السَّابِقَ قَدِيمٌ أَيْ أَزَلِيٌّ فَيَلْزَمُ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ الْعَدَمَ الَّذِي هُوَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ قَدِيمٌ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ قِدَمُ مَجْمُوعِ الْعِلَّةِ حَتَّى يَلْزَمَ قِدَمُ الْمَعْلُولِ قُلْنَا: مِنْ جِهَةِ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْوَاجِبِ، وَإِلَى عَدَمٍ قَدِيمٍ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ قَدِيمَةٌ فَإِنْ كَانَ الْعَدَمُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ زَيْدٍ أَيْضًا قَدِيمًا كَانَتْ الْعِلَّةُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا قَدِيمَةً فَإِنْ قِيلَ: الْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ حُدُوثِ بَعْضِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ زَيْدٍ قُلْنَا نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ لَزِمَ قِدَمُهُ بِالضَّرُورَةِ عَلَى تَقْدِيرِ تَرَكُّبِ الْعِلَّةِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ الَّتِي عَدَمُهَا أَزَلِيٌّ ضَرُورَةَ اسْتِنَادِهِ إلَى

الْعَدَمَ الَّذِي قَبْلَ الْوُجُودِ قَدِيمٌ فَيَلْزَمُ قِدَمُ زَيْدٍ الْحَادِثِ، ثُمَّ عَدَمُ عَمْرٍو الَّذِي بَعْدَ الْوُجُودِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ جُزْءٍ مِنْ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِوُجُودِ عَمْرٍو أَوْ بَقَائِهِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا فَيَصِيرُ مَعْدُومًا وَهَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْدُومًا إلَّا بِعَدَمِ جُزْءٍ مِنْ عِلَّةِ وُجُودِهِ أَوْ بَقَائِهِ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى الْوَاجِبِ فَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ عَمْرٍو حِينَئِذٍ لَا يُمْكِنُ وُجُودُ زَيْدٍ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو، وَكَلَامُنَا فِي زَيْدٍ الْمَوْجُودِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَزَوَالُ ذَلِكَ الْعَدَمِ هُوَ الْوُجُودُ. وَنَفْرِضُهُ وُجُودَ بَكْرٍ فَعَدَمُ عَمْرٍو يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ بَكْرٍ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ وُجُودَ زَيْدٍ مُتَوَقِّفًا عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو فَيَلْزَمُ تَوَقُّفُ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى وُجُودِ بَكْرٍ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا زَيْدٌ هَذَا خُلْفٌ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَضِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ يَلْزَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا عُدِمَ زَيْدٌ لَا يَكُونُ عَدَمُهُ إلَّا بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ، ثُمَّ هَكَذَا الْوَاجِبُ فَيَثْبُتُ عَلَى تَقْدِيرِ افْتِقَارِ وُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ ذَلِكَ الْمُمْكِنُ عِنْدَهُ دُخُولُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَدِيمِ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ تَوَقُّفُ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو اللَّاحِقِ أَعْنِي عَدَمَهُ الْحَادِثَ بَعْدَ وُجُودِهِ؛ فَلِأَنَّ عَدَمَ عَمْرٍو بَعْدَ وُجُودِهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ شَيْءٍ لِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ عَمْرٍو أَوْ بَقَاؤُهُ إذْ لَوْ وُجِدَ عِلَّةُ الْوُجُودِ وَالْبَقَاءُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا امْتَنَعَ عَدَمُ الْمَعْلُولِ لِمَا مَرَّ مِنْ وُجُوبِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عِنْدَ وُجُودِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ فَذَلِكَ الْجُزْءُ الَّذِي يَحْدُثُ عَدَمُ عَمْرٍو بِزَوَالِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا فَيَزُولَ بِأَنْ يَصِيرَ مَعْدُومًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا بَلْ مَعْدُومًا مَحْضًا أَوْ مُرَكَّبًا مِنْ الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ، وَلَا يَكُونُ زَوَالًا بِزَوَالِ الْمَوْجُودِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ بِعَيْنِهِ بَلْ بِزَوَالِ الْمَعْدُومِ أَوْ بِزَوَالِ كِلَا الْجُزْأَيْنِ أَعْنِي الْمَوْجُودَ، وَالْمَعْدُومَ، وَزَوَالُ الْمَعْدُومِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِزَوَالِ عَدَمِهِ فَلِذَا عَبَّرَ عَنْ هَذَا الشِّقِّ بِقَوْلِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مُقَابِلًا لِقَوْلِهِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا فَكَأَنَّهُ قَالَ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي يَنْعَدِمُ عَمْرٌو بِزَوَالِهِ أَوْ يَكُونُ. وَكِلَا الْقِسْمَيْنِ بَاطِلٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ انْعِدَامَ ذَلِكَ الْجُزْءِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ جُزْءٍ مِنْ عِلَّةِ وُجُودِهِ أَوْ بَقَائِهِ وَنَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى ذَلِكَ الْجُزْءِ بِأَنَّهُ إمَّا مَعْدُومٌ صَارَ مَوْجُودًا، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَإِمَّا مَوْجُودٌ صَارَ مَعْدُومًا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِانْعِدَامِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَمَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَالَ مُحَالٌ فَيَلْزَمُ اسْتِحَالَةَ وُجُودِ زَيْدٍ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْمُحَالِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي زَيْدٍ الْمَوْجُودِ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ فَلِأَنَّ زَوَالَ الْعَدَمِ وُجُودٌ، وَلْنَفْرِضْهُ وُجُودَ بَكْرٍ فَيَكُونُ وُجُودُ زَيْدٍ بَعْدَ تَحَقُّقِ مَجْمُوعِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ مَوْقُوفًا عَلَى وُجُودِ بَكْرٍ ضَرُورَةَ تَوَقُّفِهِ عَلَى عَدَمِ عَمْرٍو الْمَوْقُوفِ عَلَى زَوَالِ جُزْءِ عِلَّتِهِ الْمَوْقُوفُ عَلَى وُجُودِ بَكْرٍ هَذَا خُلْفٌ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ مَا فَرَضْنَاهُ مَجْمُوعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ لَا يَكُونُ مَجْمُوعًا ضَرُورَةً وَبَقَاءُ بَكْرٍ الْمَوْجُودِ لَا يُقَالُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ بَكْرٍ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ وُجُودُ بَكْرٍ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي فَرَضْنَاهَا مُتَحَقِّقَةً لَكَانَ زَوَالُ عَدَمِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مُتَحَقِّقًا؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ بَكْرٍ فَيَكُونُ زَوَالُ ذَلِكَ الْجُزْءِ الَّذِي فَرَضْنَاهُ مَعْدُومًا مُتَحَقِّقًا ضَرُورَةَ زَوَالِ الْمَعْدُومِ بِزَوَالِ عَدَمِهِ فَيَلْزَمُ تَحَقُّقُ عَدَمِ عَمْرٍو، وَضَرُورَةَ انْتِفَاءِ جُزْءٍ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَيَلْزَمُ تَحَقُّقُ وُجُودِ زَيْدٍ ضَرُورَةَ وُجُودِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا الْمَوْجُودَةِ، وَالْمَعْدُومَةِ هَذَا خُلْفٌ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّهُ تَحَقُّقُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ، وَلَمْ يُوجَدْ زَيْدٌ الْحَادِثُ بِنَاءً عَلَى تَوَقُّفِهِ عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ فَرَضْنَاهُ عَمْرًا، وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ تَوَقُّفِ وُجُودِ الْحَادِثِ بَعْدَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ مَا ثَبَتَ قَوْلُنَا كُلَّمَا وُجِدَ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا وُجُودُ زَيْدٍ، وَهِيَ الْقَضِيَّةُ الَّتِي ادَّعَيْنَا أَنَّهَا ثَابِتَةٌ، وَتَنْعَكِسُ بِعَكْسِ النَّقِيضِ إلَى قَوْلِنَا كُلَّمَا لَمْ يُوجَدْ زَيْدٌ لَمْ يُوجَدْ الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي يَفْتَقِرُ وُجُودُهُ إلَيْهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كُلَّمَا عَدِمَ زَيْدٌ لَا يَكُونُ عَدَمُهُ إلَّا بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ إلَيْهَا وُجُودُهُ ثُمَّ نَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَدَمِ شَيْءٍ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ وَاسِطَةٌ فَعَدَمُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَدَمِ الْوَاجِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَهَذَا تَقْرِيرُ الدَّلِيلِ عَلَى امْتِنَاعِ تَرَكُّبِ عِلَّةِ وُجُودِ الْحَادِثِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ. وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُوجِبُ إلَّا لُزُومَ وُجُودِ الْحَادِثِ عِنْدَ وُجُودِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ هُوَ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ شَيْءٍ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ عَدَمَ تَرْكِيبِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ لِجَوَازِ أَنْ تَتَرَكَّبَ مِنْهُمَا، وَيَكُونَ وُجُودُ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَيْهَا مُسْتَلْزِمًا لِلْعَدَمِ الَّذِي لَهُ مَدْخَلٌ فِي الْعِلَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِعَدَمِ الْمَانِعِ دَخْلًا فِي عِلَّةِ الْحَادِثِ فَإِنْ قُلْت: الشَّرْطِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ تُوجِبُ لُزُومَ وُجُودِ زَيْدٍ عَلَى جَمِيعِ أَوْضَاعِ الْمُقَدَّمِ، وَتَقَادِيرُهُ فَيَثْبُتُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْ الْإِعْدَامِ الَّتِي جَعَلْتُمُوهَا دَاخِلَةً فِي الْعِلَّةِ قُلْت: إنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْإِعْدَامِ مِنْ التَّقَادِيرِ الْمُمْكِنَةِ الِاجْتِمَاعِ مَعَ الْمُقَدَّمِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَدَّمُ أَعْنِي وُجُودَ جَمِيعِ الْمَوْجُودَات الْمُفْتَقِرَةِ إلَيْهَا مُسْتَلْزِمًا لِتِلْكَ الْإِعْدَامِ، وَيَمْتَنِعُ عَدَمُ تَحَقُّقِ اللَّازِمِ مَعَ تَحَقُّقِ الْمَلْزُومِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْقَضِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ يَلْزَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا عَدِمَ زَيْدٌ لَا يَكُونُ عَدَمُهُ إلَّا بِعَدَمِ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ إلَى آخِرِهِ مِمَّا لَا دَخَلَ لَهُ فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ، وَيُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQبِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ جُمْلَةَ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ الْحَادِثِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودَاتٍ مَعَ مَعْدُومَاتٍ؛ لِأَنَّ الْقَضِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِقَوْلِنَا كُلَّمَا عُدِمَ زَيْدٌ عَدِمَ شَيْءٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الْمُفْتَقِرِ هُوَ إلَيْهَا الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ، وَهَذَا مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ انْتِفَاءَ الْوَاجِبِ إذْ عَدَمُ ذَلِكَ الْمَوْجُودِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ شَيْءٍ مِمَّا يَفْتَقِرُ هُوَ إلَيْهِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَهَكَذَا إلَى الْوَاجِبِ فَيَكُونُ عَدَمُ زَيْدٍ مُحَالًا مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِي زَيْدٍ الْحَادِثِ الْمَسْبُوقِ بِالْعَدَمِ، وَاسْتِحَالَةِ الْعَدَمِ بِوَاسِطَةِ الِاسْتِنَادِ إلَى الْوَاجِبِ. وَإِنْ لَمْ تُنَافِ الْإِمْكَانَ بِالذَّاتِ لَكِنْ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا تُنَافِي الْحُدُوثَ الزَّمَانِيَّ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَبَ وُجُودُ الْمَعْلُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ لَا يَكُونُ عِلَّةُ الْحَادِثِ مَوْجُودًا مَحْضًا، وَلَا مَوْجُودًا مَعَ مَعْدُومٍ فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ يُوجِدُ الْحَادِثَ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ؟ قُلْت: لِأَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ الْمَعْلُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فَفِي أَيِّ وَقْتٍ أَوَجْدَ الْمُخْتَارُ ذَلِكَ الْحَادِثَ وَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ قَبْلَهُ جَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ هُوَ إلَيْهَا مِمَّا يُسَمَّى إرَادَةً أَوْ اخْتِيَارًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُوجَدْ الْحَادِثُ فَيَلْزَمُ التَّخَلُّفُ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ فَيُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ بِأَنَّ عَدَمَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي يَفْتَقِرُ هُوَ إلَيْهَا، وَهَكَذَا إلَى الْوَاجِبِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَلْزَمُ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ تَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعِلَّةِ، وَالْمَعْلُولِ لِئَلَّا يَكُونَ صُدُورُهُ رُجْحَانًا بِلَا مُرَجِّحٍ، وَلِيَكُونَ وُجُودُ الْعِلَّةِ مُسْتَلْزِمًا لِوُجُودِ الْمَعْلُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُوجِبَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً بِالْمُوجِبِ مِنْ الْمُخْتَارِ فَلَا يُفِيضُ مِنْ الْمُوجِبِ إلَّا الْمُوجِبُ، وَضَعْفُ هَذَا الْكَلَامِ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ، وَإِذْ قَدْ بَطَلَتْ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ وُجُودِ الْمَعْلُولِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ أَمْرٌ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ الْحَرَكَاتُ الْفَلَكِيَّةُ عَلَى أَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ، وَعَدَمُ كُلِّ سَابِقٍ مِنْهَا مُعَدٌّ لِوُجُودِ اللَّاحِقِ، وَالْكُلُّ مُسْتَنِدٌ إلَى الْوَاجِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِدَايَةٌ، وَالْحَرَكَةُ أَمْرٌ غَيْرُ قَادِرِ الذَّاتِ فَيَرْتَفِعُ لِامْتِنَاعِ بَقَائِهَا لَا لِارْتِفَاعِ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَفْتَقِرُ هِيَ إلَيْهَا حَتَّى يَلْزَمَ ارْتِفَاعُ الْوَاجِبِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ لِبُرْهَانٍ عَلَى امْتِنَاعِ تَرَكُّبِ عِلَلِ الْحَوَادِثِ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ أُجُورٍ لَا مَوْجُودَةٍ، وَلَا مَعْدُومَةٍ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْحَرَكَةُ إلَّا بِأَنْ يُوجَدَ أَيْنٌ أَيْ كَوْنُهُ فِي مَكَان أَوْ وَضْعٍ فَيَنْعَدِمُ، وَيَحْدُثُ أَيْنٌ أَوْ وَضْعٌ آخَرُ فَالْأَيْنُ أَوْ الْوَضْعُ الْأَوَّلُ مُمْكِنُ الْبَقَاءِ فَلَوْ اسْتَنَدَ إلَى الْوَاجِبِ وُجُوبًا يَجِبُ بَقَاؤُهُ فَلَا يَحْدُثُ حَرَكَةٌ أَصْلًا فَالْمَاهِيَّةُ الْغَيْرُ الْقَارَّةِ لَا تَكُونُ أَثَرًا لِلْمُوجِبِ، وَالذَّاتُ الَّتِي يَمْتَنِعُ زَوَالُهَا كَيْفَ تُوجِبُ أَثَرًا يَجِبُ زَوَالُهُ،. فَإِنْ قِيلَ: الذَّاتُ تَكُونُ عِلَّةً لِمُطْلَقِ الْحَرَكَةِ، وَهُوَ أَمْرٌ سَرْمَدِيٌّ، وَإِنْ كَانَ أَفْرَادُهُ بِحَيْثُ يَجِبُ زَوَالُهَا قُلْت مَاهِيَّةُ الْحَرَكَةِ لَيْسَتْ مَاهِيَّةً مُحَقَّقَةً، وَإِلَّا لَمْ

مَعْدُومٍ فِي جُمْلَةِ مَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ الْحَادِثِ فَإِنْ قِيلَ: لَا يَثْبُتُ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِالْمَعْدُومِ نَقِيضُ الْمَوْجُودِ فَالْأَمْرُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ حَالًا دَاخِلٌ فِي أَحَدِ النَّقِيضَيْنِ ضَرُورَةً. قُلْت: هَذَا التَّأْوِيلُ صَحِيحٌ إلَّا فِي قَوْلِهِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا إلَى آخِرِهِ فَإِنَّ الِانْحِصَارَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَكُنْ طَبِيعَةُ الْمُطْلَقِ مُخَالِفَةً لِطَبِيعَةِ الْأَفْرَادِ بَلْ هِيَ مَاهِيَّةٌ اعْتِبَارِيَّةٌ رَكَّبَهَا الْعَقْلُ مِنْ حُدُوثِ كَوْنٍ، ثُمَّ عَدَمُهُ، وَحُدُوثُ كَوْنٍ آخَرَ، فَإِنْ قِيلَ: يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُطْلَقُ بَاقِيًا بِتَجَدُّدِ الْأَفْرَادِ مَعَ أَنَّ الْأَفْرَادَ غَيْرُ بَاقِيَةٍ قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي طَبِيعَةِ الْأَفْرَادِ امْتِنَاعُ الْبَقَاءِ، وَفِي طَبِيعَةِ الْمُطْلَقِ إمْكَانُ الْبَقَاءِ بَلْ طَبِيعَةُ الْأَفْرَادِ، وَالْمُطْلَقِ تَكُونُ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ فِي الْإِمْكَانِ، وَالِامْتِنَاعِ، وَهَاهُنَا طَبِيعَةُ كُلِّ فَرْدٍ تَقْتَضِي عَدَمَ الْبَقَاءِ فَلَا يَكُونُ لِلْمُطْلَقِ طَبِيعَةٌ نَوْعِيَّةٌ مَوْجُودَةٌ تَحْتَهَا أَفْرَادٌ، فَلَا يَكُونُ الْمُطْلَقُ مَعْلُولَ الْمُوجِبِ، وَلَا أَفْرَادُهُ أَيْضًا لِامْتِنَاعِ بَقَائِهَا كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَهُوَ لَا يَدْفَعُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ اسْتِنَادِ الْحَرَكَاتِ إلَى إرَادَاتٍ حَادِثَةٍ مِنْ النُّفُوسِ الْفَلَكِيَّةِ لَا إلَى بِدَايَةٍ، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ مَوْضِعُهُ عُلُومٌ أُخَرُ. وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى إثْبَاتِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ بِأَنَّ الْإِيجَادَ لَيْسَ اعْتِبَارًا عَقْلِيًّا لِلْقَطْعِ بِتَحَقُّقِهِ سَوَاءٌ وُجِدَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ، وَلَا أَمْرًا مُحَقَّقًا مَوْجُودًا، وَإِلَّا لَاحْتَاجَ إلَى إيجَادٍ آخَرَ، وَلُزُومِ التَّسَلْسُلِ مِنْ جَانِبِ الْمَبْدَأِ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ، وَيَمْتَنِعُ كَوْنُ إيجَادِ الْإِيجَادِ عَيْنُهُ ضَرُورَةَ تَغَايُرِ الْمُحْتَاجِ، وَالْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، وَلِجَوَابِ أَنَّ الْمَعْلُومَ قَطْعًا هُوَ أَنَّ الْفَاعِلَ أَوْجَدَ شَيْئًا، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْإِيجَادِ أَمْرًا اعْتِبَارِيًّا غَيْرَ مُتَحَقِّقٍ فِي الْخَارِجِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ مَبْدَأِ الْمَحْمُولِ انْتِفَاءُ الْحَمْلِ كَمَا فِي قَوْلِنَا: زَيْدٌ أَعْمًى فَإِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ سَوَاءٌ وُجِدَ اعْتِبَارُ الْعَقْلِ أَوْ لَمْ يُوجَدْ مَعَ أَنَّ الْعَمَى أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَإِذَا قَتَلَ زَيْدٌ عُمْرًا صَدَقَ أَنَّهُ أَوْجَدَ الْقَتْلَ، وَلَمْ يَصْدُقْ أَنَّ الْإِيجَادَ مَعْدُومٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُوجِدْ الْقَتْلُ لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي صِدْقَ قَوْلِنَا الْإِيجَادُ مَعْدُومٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا مُتَحَقِّقًا مَوْجُودًا فِي الْخَارِجِ. (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ:) تَقْدِيرُ السُّؤَالِ عَلَى مَا سَبَقَ إلَيْهِ الْأَذْهَانُ إنَّمَا نَعْنِي بِالْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ مَا لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ الْوَاسِطَةُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَصَوَّرَ فَهُوَ إمَّا ثَابِتٌ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ أَوَّلًا، وَهُوَ الْمَعْدُومُ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ فَالْأَمْرُ الَّذِي سَمَّيْتُمُوهُ حَالًا، وَجَعَلْتُمُوهُ وَاسِطَةً بَيْنَ الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ إنْ كَانَ لَهُ ثُبُوتٌ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْمَوْجُودِ، وَإِلَّا فَفِي الْمَعْدُومِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِاسْتِلْزَامِهِ وُرُودَ الْمَنْعِ عَلَى بَعْضِ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِنَا عَلَى امْتِنَاعِ تَرَكُّبِ عِلَّةِ الْحَادِثِ مِنْ مَوْجُودَاتٍ، وَمَعْدُومَاتٍ، وَهَلْ سَمِعْت عَاقِلًا يُجِيبُ عَنْ مُعَارَضَةِ الْخَصْمِ بِأَنَّهَا فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهَا بُطْلَانُ الدَّلِيلِ الَّذِي أَنَا أَوْرَدْته عَلَى نَقِيضِ

لِعَمْرٍو أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ كَالْإِضَافِيَّاتِ فَإِنْ فُسِّرَ الْمَوْجُودُ بِمَا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْإِضَافِيَّاتُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَجِبُ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ، وَهَلُمَّ جَرًّا إلَى الْوَاجِبِ، وَإِنْ فُسِّرَ بِمَا لَا يَنْدَرِجُ فِيهِ الْإِضَافِيَّاتُ فِي الْمَوْجُودِ بَلْ فِي الْمَعْدُومِ لَا نُسَلِّمُ حِينَئِذٍ أَنَّ زَوَالَ كُلِّ مَعْدُومٍ لَا يَكُونُ إلَّا بِوُجُودِ شَيْءٍ فَإِنَّ الْإِضَافِيَّاتِ الْوُجُودِيَّةِ مَعْدُومَةٌ فِي الْخَارِجِ، وَزَوَالُهَا لَا يَكُونُ بِوُجُودِ شَيْءٍ فَثَبَتَ تَوَقُّفُ الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ عَلَى أُمُورٍ لَا مَوْجُودَةٍ، وَلَا مَعْدُومَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُ تِلْكَ الْأُمُورِ إلَى الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَطْلُوبِكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصْدُرُ عَمَّنْ لَهُ أَدْنَى تَمَيُّزٍ فَكَيْفَ يُنْسَبُ هَذَا إلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ عَلَمُ التَّحْقِيقِ، وَعَالِمُ التَّدْقِيقِ، وَمَنْشَأُ التَّوْجِيهِ، وَالتَّوْضِيحِ، وَمَنْشَأُ التَّعْدِيلِ، وَالتَّنْقِيحِ بَلْ تَوْجِيهُ السُّؤَالِ: إنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى امْتِنَاعِ كَوْنِ عِلَّةِ الْحَادِثِ مَوْجُودَاتٌ مَحْضَةٌ أَوْ مَعْدُومَاتٌ مَحْضَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ دَالٌّ بِعَيْنِهِ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَعْدُومِ نَقِيضُ الْمَوْجُودِ أَيْ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ النَّقِيضَيْنِ فَتِلْكَ الْأُمُورُ إمَّا ثَابِتَةٌ فَتَكُونُ مَوْجُودَةً أَوْ لَا فَتَكُونُ مَعْدُومَةً فَالْمُرَكَّبُ مِنْهَا، وَمِنْ غَيْرِهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودَاتٍ مَحْضَةً أَوْ مَعْدُومَاتٍ مَحْضَةً أَوْ مُرَكَّبَةً مِنْ الْمَوْجُودَاتِ، وَالْمَعْدُومَاتِ، وَالْكُلُّ بَاطِلٌ بِعَيْنِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الدَّلِيلِ فَأَجَابَ بِأَنَّ دَلِيلَنَا لَا يَجْرِي فِيمَا ذَكَرْتُمْ لِوُرُودِ الْمَنْعِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ: بِأَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ الَّذِي يَنْعَدِمُ عَمْرٌو بِزَوَالِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مَحْضًا، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَدْخُلَ فِي عِلَّةِ وُجُودِ عَمْرٍو أُمُورٌ لَا مَوْجُودَةٌ، وَلَا مَعْدُومَةٌ بِزَعْمِنَا كَالْإِيقَاعِ، وَالِاخْتِيَارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْإِضَافِيَّاتِ فَإِنْ جَعَلْتُمُوهَا دَاخِلَةً فِي الْمَوْجُودَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ مُمْكِنٌ فَهُوَ وَاجِبٌ بِالنَّظَرِ إلَى عِلَّتِهِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ انْعِدَامِهِ انْعِدَامُ عِلَّتِهِ مُنْتَهِيًا إلَى الْوَاجِبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الِاخْتِيَارُ الَّذِي مِنْ شَأْنِ الْإِيقَاعِ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَلِّلَ الِاخْتِيَارَ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَ الْوُجُودُ بِلَا إيجَادٍ بَلْ لَا يَلْزَمُ إلَّا تَرْجِيحُ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَاسْتِحَالَتُهُ مَمْنُوعَةٌ، وَإِنْ جَعَلْتُمُوهَا دَاخِلَةً فِي الْمَعْدُومِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ زَوَالَ كُلِّ مَعْدُومٍ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ الْعَدَمِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ مَا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ زَوَالِ ذَلِكَ الْجُزْءِ الْمَعْدُومِ الَّذِي هُوَ إضَافِيٌّ زَوَالُ الْعَدَمِ بِمَعْنَى وُجُودِ بَكْرٍ مَثَلًا يَلْزَمُ الْخُلْفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِضَافِيَّاتِ الَّتِي لَا يَدْخُلُ الْعَدَمُ فِي مَفْهُومَاتِهَا كَالْأُبُوَّةِ، وَالْأُخُوَّةِ، وَالْإِيقَاعِ، وَتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كُلُّهَا مَعْدُومَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَزَوَالُهَا

يَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْمُحَالَاتُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ قِدَمِ الْحَادِثِ، وَانْتِقَاءِ الْوَاجِبِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِنَادِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ اسْتِغْنَاؤُهَا عَنْ الْوَاجِبِ إذْ لَا شَكَّ أَنَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْوَاجِبِ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَيْهِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْتِزَامِ التَّسَلْسُلِ فِيهَا، وَهَذَا بَاطِلٌ أَوْ بِكَوْنِ إضَافَةِ الْإِضَافَةِ عَيْنَ الْأُولَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَجِبَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَقَّ هَذَا فَإِنَّ إيقَاعَ الْحَرَكَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَمَعَ ذَلِكَ أَوْقَعَهَا الْفَاعِلُ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، ثُمَّ الْحَرَكَةُ أَيْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ تَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيقَاعِ إذْ لَوْ لَمْ تَجِبْ فَوُجُودُهَا رُجْحَانٌ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَلَا يَلْزَمُ فِي الْإِيقَاعِ الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ الْوُجُودُ بِلَا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَكُونُ بِوُجُودِ شَيْءٍ كَمَا إذَا تَعَلَّقَتْ الْإِرَادَةُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ انْقَطَعَتْ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ دَاخِلَةً فِي الْوُجُودِ يُرَدُّ، وَمَنَعَ لُزُومَ قِدَمِ الْحَوَادِثِ أَوْ انْتِفَاءَ الْوَاجِبِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ عِلَّةِ الْحَادِثِ مَوْجُودَاتٍ مَحْضَةً إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لِانْسِيَاقِ الذِّهْنِ إلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَجِبُ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ؛ وَلِأَنَّ الْوَاقِعَ دُخُولُ الْمَعْدُومِ فِي جُمْلَةِ مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ وُجُودُ الْحَادِثِ ضَرُورَةَ افْتِقَارِهِ إلَى عَدَمِ الْمَانِعِ، وَاعْلَمْ أَنَّنِي لَوْ لَمْ أَزِدْهُ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ، عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا الْبَابِ، بَلْ عَلَى تَوْجِيهِ هَذَا السُّؤَالِ، وَالْجَوَابِ، لَكَفَى فَلَقَدْ رَاجَعْت فِيهِ كَثِيرًا مِنْ الْحُذَّاقِ فَمَا زَادُوا عَلَى إتْعَابِ النَّوَاظِرِ، وَالْأَحْدَاقِ، وَأَنَّنِي لَوْ اقْتَدَيْت بِالْمُصَنِّفِ فِي الْإِشَارَةِ إلَى مَا تَفَرَّدْت بِهِ لَطَالَ الْكَلَامُ، وَكَثُرَ الْمَلَامُ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْمَرَامِ. (قَوْلُهُ: فَيَثْبُتُ) أَيْ لَمَّا ثَبَتَ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ سَالِمًا عَنْ النَّقْضِ ثَبَتَ تَوَقُّفُ وُجُودِ الْحَوَادِثِ عَلَى أُمُورٍ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ، وَلَا مَعْدُومَةٍ، وَتِلْكَ الْأُمُورُ مُمْكِنَةٌ فَيَجِبُ اسْتِنَادُهَا إلَى عِلَّةٍ لَا مُحَاوَلَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُهَا إلَى الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ لَزِمَ انْتِفَاءُ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الصَّادِرَ عَنْ الشَّيْءِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ يَكُونُ لَازِمًا لَهُ، وَعَدَمُ اللَّازِمِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْمَلْزُومِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَنْفِيَّةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ لَزِمَ قِدَمُ الْحَادِثِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى الْوَاجِدِ بِوَاسِطَةِ الْإِيقَاعِ الَّذِي لَا يَنْتَفِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ فَإِنْ قِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى أُمُورٍ أُخَرَ مَوْجُودَةٍ قُلْنَا الْكَلَامُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ كَمَا فِي هَذَا الْحَادِثِ، وَيَلْزَمُ قِدَمُهَا فَيَثْبُتُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا تَسْتَنِدُ إلَى الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِغْنَاؤُهَا عَنْ الْوَاجِبِ بَلْ لَا شَكَّ أَنَّهَا مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَإِيجَادِ الْمَعْلُولِ الْأَوَّلِ مَثَلًا أَوْ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الصِّحَّةِ، وَالِاخْتِيَارِ دُونَ الْوُجُوبِ إذْ لَوْ كَانَ اسْتِنَادُهَا إلَى الْوَاجِبِ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ

مُوجِدٍ إذْ لَا وُجُودَ لِلْإِيقَاعِ: وَاعْلَمْ أَنَّ إثْبَاتَ تِلْكَ الْأُمُورِ عَنْ تَقْدِيرِ أَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ يَحْتَاجُ وُجُودُهُ إلَى مُؤَثِّرٍ يُوجِبُهُ مُخَلِّصٌ عَنْ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بِالذَّاتِ، وَمُوجِبٌ لِلْفَاعِلِ بِالِاخْتِيَارِ، وَلَوْلَا تِلْكَ الْأُمُورُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُ الْمُوجِبِ بِالذَّاتِ إلَّا بِالْتِزَامِ وُجُودِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ، وَهُوَ مُحَالٌ كَمَا مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ لَزِمَ قِدَمُهَا ضَرُورَةَ قِدَمِ الْوَسَائِطِ، وَيَلْزَمُ قِدَمُ الْحَوَادِثِ فَقَوْلُهُ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ قَيْدٌ لِاسْتِنَادِ الْمَوْجُودَاتِ إلَى الْوَاجِبِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَيْهِ، وَإِذْ قَدْ افْتَقَرَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ إلَى الْوَاجِبِ فَصُدُورُهَا عَنْهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ، وَالْوُجُوبُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّسَلْسُلِ بِأَنْ يَفْتَقِرَ كُلُّ إيقَاعٍ إلَى إيقَاعٍ قَبْلَهُ لَا إلَى نِهَايَةٍ، وَالتَّسَلْسُلُ بَاطِلٌ بِالْبُرْهَانِ الْمَذْكُورِ فِي مَوْضِعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ كَوْنِ إيقَاعِ الْإِيقَاعِ عَيْنُ الْإِيقَاعِ بِالذَّاتِ حَتَّى لَا يَفْتَقِرَ إلَى إيقَاعَاتٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ جَازِمٌ بِأَنَّ إيقَاعَ الْحَادِثِ مُغَايِرٌ لِإِيقَاعِ إيقَاعِهِ. وَهَذَانِ الطَّرِيقَانِ، وَإِنْ أَمْكَنَ تَمْشِيَتُهُمَا بِمَنْعِ اسْتِحَالَةِ التَّسَلْسُلِ فِي غَيْرِ الْمَوْجُودَاتِ، وَبِمَنْعِ مُغَايَرَةِ إيقَاعِ الْإِيقَاعِ لِلْإِيقَاعِ بِالذَّاتِ بَلْ لَا تَغَايُرَ إلَّا بِالِاعْتِبَارِ لَكِنَّ الْقَوْلَ بِصُدُورِ الْإِيقَاعِ عَنْ الْعِلَّةِ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ دُونَ الْوُجُوبِ أَظْهَرُ عِنْدَ الْعُقُولِ، وَأَجْدَرُ بِالْقَبُولِ فَإِنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ يُوقِعُ الْحَرَكَةَ مَعَ عَدَمِ وُجُوبِ إيقَاعِهَا بَلْ مَعَ تَسَاوِي الْإِيقَاعِ، وَلِلْإِيقَاعِ النِّسْبَةُ إلَيْهِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي تَرْجِيحِ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُومٍ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهَا مَعَ الْعِلَّةِ تَارَةً، وَعَدَمِ ثُبُوتِهَا أُخْرَى رُجْحَانُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ، وَلَا إيجَادٍ إذْ لَا وُجُودَ لِلْإِيقَاعِ بِخِلَافِ الْحَرَكَةِ بِمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنْ الْمَصْدَرِ، وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّابِتَةُ لِلْمُتَحَرِّكِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ فَإِنَّهَا مَوْجُودَةٌ فَيَجِبُ وُجُودُهَا عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيقَاعِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ وُجِدَتْ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مِنْ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ، وَالْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ أَعْنِي الْإِيقَاعَ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ كَانَ وُجُودُهَا رُجْحَانًا مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ وَإِيجَادٍ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهَا تَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِيقَاعِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ الْإِيقَاعِ بِدُونِ الْوُقُوعِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَمْرِ اللَّامَوْجُودِ، وَاللَّامَعْدُومِ كَإِيقَاعِ الْحَرَكَةِ، وَبَيْنَ الْأَمْرِ الْمَوْجُودِ كَالْحَالَةِ الَّتِي هِيَ الْحَرَكَةُ فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَا يَجِبُ مَعَ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، وَالثَّانِي يَجِبُ. 1 - (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ إثْبَاتَ) الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ كَالِاخْتِيَارِ، وَالْإِيقَاعِ مُخَلِّصٌ عَنْ لُزُومِ الْقَوْلِ

(الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ) الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ، وَكَذَا التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لَكِنَّ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ الْمَرْجُوحُ، وَاقِعٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ تَرْجِيحٌ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ لِلرَّاجِحِ فَقَطْ أَوْ الْمُتَسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا التَّرْجِيحُ لَا يُوجَدُ مُمْكِنٌ أَصْلًا، وَكَذَا تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ رَاجِحًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْغَيْرِ فَتَرْجِيحُ الرَّاجِحِ يُؤَدِّي إلَى إثْبَاتِ الثَّابِتِ أَوْ احْتِيَاجِ كُلِّ تَرْجِيحٍ إلَى تَرْجِيحٍ قَبْلَهُ إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ فَالتَّرْجِيحُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْمُتَسَاوِي، وَالْمَرْجُوحِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مُمْكِنٍ مَعْدُومٌ فَعَدَمُهُ رَاجِحٌ عَلَى وُجُودِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلَّةِ الْعَدَمِ، وَمُسَاوٍ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى ذَاتِ الْمُمْكِنِ فَإِيجَادُهُ تَرْجِيحُ الْمَرْجُوحِ أَوْ الْمُسَاوِي عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُرَجِّحَ الْفَاعِلُ بِهَا أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ الْمَرْجُوحَ عَلَى الْآخَرِ فَعُلِمَ أَنَّ الْإِرَادَةَ لَا تُعَلَّلُ كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ بِالذَّاتِ لَا يُعَلَّلُ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الْإِرَادَةِ تَقْتَضِي مَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ رُجْحَانُ الْمَرْجُوحِ أَوْ الْمُتَسَاوِي مَا دَامَا كَذَلِكَ فَإِذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِكَوْنِ الْوَاجِبِ تَعَالَى مُوجِبًا بِالذَّاتِ، وَمُوجِبًا لِكَوْنِهِ فَاعِلًا بِالِاخْتِيَارِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ مُوجِبًا إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِالِاخْتِيَارِ لَكَانَ فِعْلُهُ جَائِزَ التَّرْكِ فَيَلْزَمُ عَدَمُ الْمُمْكِنِ مَعَ وُجُودِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ وَلَوْ مَنَعَ تَمَامِيَّةِ الْعِلَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاخْتِيَارَ أَيْضًا مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْفِعْلُ لِنَقْلِ الْكَلَامِ إلَى الِاخْتِيَارِ بِأَنَّهُ إمَّا قَدِيمٌ فَيَلْزَمُ قِدَمُ الْحَادِثِ أَوْ حَادِثٌ فَيَتَسَلْسَلُ الِاخْتِيَارَاتُ فَيَلْزَمُ قِيَامُ الْحَوَادِثِ بِذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا مُخَلِّصَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ إثْبَاتِ الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ إلَّا بِالْتِزَامِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِدُونِ وُجُوبِهِ حَتَّى إنَّ الْفِعْلَ يَصْدُرُ عَنْ الْوَاجِبِ، وَلَا يَجِبُ وُجُودُهُ مَا دَامَ ذَاتَ الْوَاجِبِ بَلْ يَجُوزُ عَدَمُهُ مَعَ وُجُودِ جَمِيعِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا مُسْتَلْزِمٌ لِلرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ، وَإِيجَادٍ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ إثْبَاتِ الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ فَلَا يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِالْإِيجَابِ؛ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الْمُمْكِنِ الْإِيقَاعُ، وَالِاخْتِيَارُ، وَالْإِيقَاعُ لَا يَجِبُ ثُبُوتُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِهِ الْمُحَالُ الْمَذْكُورُ أَعْنِي الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ مِنْ غَيْرِ مُوجِدٍ إذْ لَا وُجُودَ لِلْإِيقَاعِ، وَلَا لِلِاخْتِيَارِ كَمَا لَا عَدَمَ لَهُمَا. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يُمْكِنُ اسْتِنَادُهَا إلَى الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ قِدَمِ الْحَوَادِثِ أَوْ انْتِفَاءِ الْوَاجِبِ فَيَلْزَمُ اسْتِنَادُهَا إلَيْهِ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. (قَوْلُهُ: الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ أَنَّ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ) أَيْ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ بَاطِلٌ، وَكَذَا التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ أَيْ الْإِيجَادُ بِلَا مُوجِدٍ، وَبُطْلَانُ ذَلِكَ بَدِيهِيٌّ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ، وَأَمَّا تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ تَرْجِيحُ الْمَرْجُوحِ فَجَائِزٌ وَاقِعٌ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إمَّا

رَجَحَ الْفَاعِلُ لَمْ يَبْقَيَا كَذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ أَوْرَدُوا لِتَجْوِيزِ تَرْجِيحِ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ الْمِثَالَ الْمَشْهُورَ، وَهُوَ الْهَارِبُ مِنْ السَّبُعِ إذَا رَأَى طَرِيقَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَقَالَ الْحُكَمَاءُ الْقَضِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ الَّتِي لَوْلَاهَا لَانْسَدَّ بَابُ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ هُوَ أَنَّ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ وَلَا تَبْطُلُ بِإِيرَادِ مِثَالٍ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمُرَجِّحِ بَلْ غَايَتُهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْمُرَجِّحِ، فَأَقُولُ: الْقَضِيَّةُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي إثْبَاتِ الْعِلْمِ بِالصَّانِعِ هِيَ أَنَّ رُجْحَانَ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ مُحَالٌ بِمَعْنَى أَنَّ وُجُودَهُ بِلَا مُوجِدٍ مُحَالٌ مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُ هَذَا الْمَطْلُوبِ مَعَ الْغُنْيَة عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِأَنْ نَقُولَ: الْمَوْجُودُ إمَّا أَنْ لَا يَحْتَاجَ فِي وُجُودِهِ إلَى غَيْرِهِ أَوْ يَحْتَاجُ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْأَوَّلِ قَطْعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ لَا يَكُونَ تَرْجِيحٌ أَصْلًا أَوْ يَكُونَ لِلرَّاجِحِ أَوْ لِلْمُسَاوِي أَوْ لِلْمَرْجُوحِ، وَالْأَوَّلَانِ بَاطِلَانِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَوْلَا: التَّرْجِيحُ لَمَا وُجِدَ مُمْكِنٌ أَصْلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ الْإِيجَادِ، وَالْإِيجَادُ تَرْجِيحٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُمْكِنَ لَا يَكُونُ رَاجِحًا إلَّا بِوَاسِطَةِ مُرَجِّحٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ لِاسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ بِالنَّظَرِ إلَى ذَاتِهِ فَلَوْ جَازَ تَرْجِيحُ الرَّاجِحِ أَيْ إثْبَاتُ الرُّجْحَانِ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ الرُّجْحَانُ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فَيَلْزَمُ إثْبَاتُ الثَّابِتِ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَهُوَ مُحَالٌ وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ رُجْحَانٌ زَائِدٌ عَلَى مَا لَهُ مِنْ الرُّجْحَانِ فَيَكُونُ كُلُّ تَرْجِيحٍ مَسْبُوقًا بِتَرْجِيحٍ آخَرَ وَهُوَ لَا مَحَالَةَ يَكُونُ بِمُرَجِّحٍ فَيَلْزَمُ تَسَلْسُلُ التَّرْجِيحَاتِ، وَالْمُرَجِّحَاتِ لَا إلَى نِهَايَةٍ فَيَفْتَقِرُ وُجُودُ كُلِّ حَادِثٍ إلَى أُمُورٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ الْمُدَّعَى بُطْلَانَ تَرْجِيحِ الرَّاجِحِ فِي الْجُمْلَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ التَّرْجِيحِ بِتَرْجِيحِ لِلرَّاجِحِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ عَدَمُ تَنَاهِي التَّرْجِيحَاتِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى تَرْجِيحِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ أَيْ إلَى تَرْجِيحٍ لَا يَكُونُ قَبْلَهُ تَرْجِيحٌ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى بُطْلَانَ انْحِصَارِ تَرْجِيحٍ فِي تَرْجِيحِ الرَّاجِحِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ تَرْجِيحٍ تَرْجِيحًا لِلرَّاجِحِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ فَالتَّرْجِيحُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ انْحِصَارِ التَّرْجِيحِ فِي تَرْجِيحِ الرَّاجِحِ ثُبُوتُ انْحِصَارِهِ فِي تَرْجِيحِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ. قُلْنَا مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ التَّرْجِيحُ بِالْآخِرَةِ، إلَّا لِلْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ، وَيَثْبُتُ بِهِ الْمَطْلُوبُ، وَهُوَ وُقُوعُ تَرْجِيحِ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ الثَّانِي أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ مُسَاوٍ لِعَدَمِهِ نَظَرًا إلَى ذَاتِ الْمُمْكِنِ، وَمَرْجُوحٌ نَظَرًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ السَّابِقُ أَعْنِي عَدَمَ عِلَّةِ الْوُجُودِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْعَدَمِ فَإِيجَادُ الْمُمْكِنِ يَكُونُ تَرْجِيحًا لِلْمُسَاوِي نَظَرًا إلَى الذَّاتِ، وَلِلْمَرْجُوحِ نَظَرًا إلَى الْعِلَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ صِفَةٌ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يُرَجِّحَ الْفَاعِلُ بِهَا أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَوْ الْمَرْجُوحَ عَلَى الرَّاجِحِ فَالْإِيجَابُ بِالِاخْتِيَارِ قَدْ يَكُونُ تَرْجِيحًا لِذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: اخْتِيَارُ الْمُخْتَارِ أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ تَرْجِيحٌ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، قُلْنَا: الْإِرَادَةُ، وَالِاخْتِيَارُ لَا يُعَلَّلُ بِأَنَّهُ لِمَ اخْتَارَ هَذَا دُونَ ذَاكَ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهَا كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ بِالذَّاتِ لَا يُعَلَّلُ بِأَنَّ الْمُوجِبَ لِمَ أَوْجَبَ هَذَا دُونَ ذَاكَ؛ فَإِنْ قِيلَ التَّرْجِيحُ يَسْتَلْزِمُ الرُّجْحَانَ ضَرُورَةً فَتَرْجِيحُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ يُوجِبُ رُجْحَانَهُ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ بِالضَّرُورَةِ. قُلْنَا الْمُمْتَنِعُ

لِلتَّسَلْسُلِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ، وَبَدَاهَتِهَا الْفَاعِلُ هُوَ الْمُرَجِّحُ فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ وَأَيْضًا، إنَّمَا أَوْرَدُوا الْمِثَالَ سَنَدًا لِلْمَنْعِ فَعَلَيْكُمْ الْبُرْهَانُ عَلَى الرُّجْحَانِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ: إنْ وَجَبَ الْمَرْجُوحُ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِحَسَبِ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الَّذِي لَا يُطَابِقُ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَافٍ لِلْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِحَسَبِ اعْتِقَادِ الْفَاعِلِ، وَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا إذْ يَفْعَلُ أَفْعَالًا مَعَ عَدَمِ اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ كَمَا فِي الْهَارِبِ بَلْ مَعَ اعْتِقَادِ الْمَرْجُوحِيَّةِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَقَدْ أَنْكَرَ الْوِجْدَانِيَّاتِ فَبَطَلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQهُوَ رُجْحَانُ الْمُسَاوِي أَوْ الْمَرْجُوحِ مَا دَامَ الْمُسَاوِي مُسَاوِيًا، وَالْمَرْجُوحُ مَرْجُوحًا ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ النَّقِيضَيْنِ أَعْنِي الرُّجْحَانَ، وَعَدَمَهُ، وَعِنْدَ تَرْجِيحِ الْفَاعِلِ إيَّاهُمَا لَمْ يَبْقَيَا مُسَاوِيًا، وَمَرْجُوحًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرْجِيحِ إثْبَاتُ الرُّجْحَانِ، وَجَعْلُ الشَّيْءِ رَاجِحًا، وَإِخْرَاجُهُ عَنْ حَدِّ التَّسَاوِي فَضْلًا عَنْ الْمَرْجُوحِيَّةِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الْقَضِيَّةُ الْبَدِيهِيَّةُ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ، وَهُوَ أَنَّ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ، وَالْعِلْمُ بِوُجُودِ الْوَاجِبِ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ إذْ الْعُمْدَةُ فِيهِ أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي وُجُودِ مَوْجُودٍ فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُوجِدٍ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ تَرَجُّحِ أَحَدِ طَرَفَيْ الْمُمْكِنِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَيُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَى مُوجِدِهِ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَلْسَلَ، وَهُوَ مُحَالٌ أَوْ يَنْتَهِيَ إلَى الْوَاجِبِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ صِحَّةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إنَّمَا يُبْتَنَى عَلَى بُطْلَانِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ لَا عَلَى بُطْلَانِ تَرْجِيحِ الْفَاعِلِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ قِيلَ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ بِوُجُودِ الْمُمْكِنِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى مُوجِدٍ، وَيَتَسَلْسَلُ أَوْ يَلْزَمُ وُجُودُهُ بِلَا مُوجِدٍ، قُلْنَا إرَادَةُ الْإِرَادَةِ عَيْنِهَا أَوْ الْإِرَادَةُ تُرَجَّحُ لِذَاتِهَا أَوْ تَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ بَلْ حَالٌ فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ نِزَاعَ الْحُكَمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ لَا فِي تَرْجِيحِ الْمُخْتَارِ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَجَعْلِهِ رَاجِحًا بِالْإِرَادَةِ. (قَوْلُهُ: مَعَ أَنَّهُ يُمْكِنُ) الِاسْتِدْلَال عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِوَجْهٍ لَا يَبْتَنِي عَلَى بُطْلَانِ الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ بِأَنْ يُقَالَ: لَا بُدَّ مِنْ مَوْجُودٍ لَا يُحْتَاجُ فِي وُجُودِهِ إلَى الْغَيْرِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ إذْ لَوْ احْتَاجَ كُلُّ مَوْجُودٍ إلَى غَيْرِهِ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ إنْ ذَهَبَ إلَى لَا نِهَايَةٍ أَوْ الدَّوْرُ، وَإِنْ عَادَ إلَى الْأَوَّلِ، وَالدَّوْرُ نَوْعٌ مِنْ التَّسَلْسُلِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَنَاهِي التَّوَقُّفَاتِ، وَالِاحْتِيَاجَاتِ فَلِذَا اكْتَفَى بِذِكْرِهِ، وَأَقُولُ: الْمَوْجُودُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِي وُجُودِهِ إلَى الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَإِلَّا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، وَلَا يَكُونُ وُجُودُهُ مِنْ ذَاتِهِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ بَلْ يَحْصُلُ بَعْدَ الْعَدَمِ بِلَا مُوجِدٍ فَلَا غُنْيَةَ عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ

قَوْلُهُمْ إنَّ غَايَتَهُ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالرُّجْحَانِ فَإِنَّ عَدَمَ عِلْمِ الْفَاعِلِ بِالرُّجْحَانِ كَافٍ فِي هَذَا الْغَرَضِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِنَا: إنَّ الرُّجْحَانَ بِلَا مُرَجِّحٍ بَاطِلٌ هُوَ أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ مُحَالٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُوجِدُ مُوجِبًا أَوْ لَا فَالرُّجْحَانُ هُوَ الْوُجُودُ فَقَطْ لَا أَنَّهُ يَصِيرُ رَاجِحًا قَبْلَ الْوُجُودِ إذَا عَرَفْت هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ فَقَوْلُهُ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ إنْ أَرَادَ بِالْفِعْلِ الْحَالَةَ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُتَحَرِّكِ فِي أَيِّ جُزْءٍ يُفْرَضُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ فَعَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ بِوُجُودِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَذْكُرْهَا فِي اللَّفْظِ. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا) يَعْنِي أَنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ لِامْتِنَاعِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ الْمِثَالَ سَنَدًا لِلْمَنْعِ أَيْ لِمَ لَا يَجُوزُ تَرْجِيحُ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ كَمَا فِي الْهَارِبِ مِنْ السَّبُعِ يَسْلُكُ أَحَدَ الطَّرِيقَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يُمْنَعُ نَفْسُ الْمُدَّعَى، قُلْنَا: بَلْ هُوَ جُزْءٌ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى كَوْنِ الْوَاجِبِ مُوجِبًا بِالذَّاتِ فَيَجِبُ عَلَى الْحُكَمَاءِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى هَذِهِ الْقَضِيَّةِ أَوْ عَلَى كَوْنِهَا بَدِيهِيَّةً، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ فَخَارِجٌ عَنْ قَانُونِ التَّوْجِيهِ إذْ عَلَى الْمُسْتَدِلِّ الْبُرْهَانُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ لَا عَلَى بُطْلَانِ السَّنَدِ، وَإِنْ أَوْرَدَ الْمِثَالَ بِطَرِيقِ النَّقْضِ كَانَ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ الدَّلِيلُ عَلَى تَخَلُّفِ الْحُكْمِ فِيهِ، وَإِثْبَاتُ عَدَمِ الرُّجْحَانِ، وَلَيْسَ لِلْحَكِيمِ إلَّا مَنْعُ التَّسَاوِي أَوْ عَدَمُ الْمُرَجِّحِ فِيهِ. (قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّا نَقُولُ) عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّعِ بِإِثْبَاتِ سَنَدِ الْمَنْعِ، وَبَعْدَ إثْبَاتِهِ يَكُونُ نَقْضًا لِدَعْوَى الْحُكَمَاءِ، وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاحْتِيَاجِ إلَى مُرَجِّحٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَاطِلٌ قَطْعًا إذْ كَثِيرًا مَا يَكُونُ الطَّرِيقُ الَّذِي يَخْتَارُهُ الْهَارِبُ مَرْجُوحًا مُؤَدِّيًا إلَى مَهَالِكٍ، وَسِبَاعٍ أَكْثَرَ فَبَقِيَ الِاحْتِيَاجُ إلَى مُرَجِّحٍ بِحَسَبِ عِلْمِ الْفَاعِلِ، وَاعْتِقَادِهِ فَإِذَا سَلَّمُوا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ لَا عِلْمَ بِالرُّجْحَانِ فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ، وَهُوَ عَدَمُ الْمُرَجِّحِ فِي عِلْمِ الْهَارِبِ، وَاعْتِقَادُهُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِلْمِ بِالرُّجْحَانِ فِي اعْتِقَادِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الرُّجْحَانِ فِي اعْتِقَادِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَاجِحًا فِي اعْتِقَادِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا يُلَاحِظُهُ. فَإِنْ قُلْت قَدْ سَلَّمَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بُطْلَانَ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَكَيْفَ صَحَّ مِنْهُ إثْبَاتُ عَدَمِ الْمُرَجِّحِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ؟ قُلْت: الْمُسَلَّمُ هُوَ بُطْلَانُ الْإِيجَادِ بِلَا مُوجِدٍ وَالْمُدَّعَى فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ عَدَمُ مُرَجِّحٍ غَيْرُ الْفَاعِلِ، وَاخْتِيَارُهُ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ رَاجِحًا لِيُؤْثِرَهُ الْفَاعِلُ. (قَوْلُهُ فَعُلِمَ) مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ هُوَ وَاقِعٌ، وَأَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ الْإِيقَاعِ مِنْ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ تَارَةً، وَعَدَمِهِ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَأَنَّ الْمُمْتَنِعَ إنَّمَا هُوَ وُجُودُ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ الْمُرَادَ بِالْقَضِيَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَهُوَ امْتِنَاعُ الرُّجْحَانِ بِلَا مُرَجِّحٍ فَالرُّجْحَانُ هُوَ الْمَوْجُودُ، وَلَا حَالَةَ لِلْمُمْكِنِ قَبْلَ الْوُجُودِ بِهَا يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى جَانِبِ

بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِلَا وُجُوبٍ نَمْنَعُ وُجُوبَ تِلْكَ الْحَالَةِ فَلَا يَلْزَمُ الْجَبْرُ عَلَى أَنَّا قَدْ أَبْطَلْنَا هَذَا التَّقْدِيرَ لَكِنَّ إثْبَاتَ الْمَطْلُوبِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا أَقْرَبُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ امْتِنَاعِ وُجُودِ الْأَشْيَاءِ بِلَا وُجُوبِ الْجَبْرِ مُنْتَفٍ أَيْضًا إمَّا بِالْقَوْلِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الِاخْتِيَارِ عَيْنُ الِاخْتِيَارِ فَلَا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الْمُرَجِّحِ مِنْ الْعَبْدِ، وَإِمَّا بِأَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ تَوَقُّفُ الْمَوْجُودِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوُجُودِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْدُومًا فَلَا يَكُونُ جَانِبُ الْوُجُودِ رَاجِحًا، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُودِ، وَزَوَالِ الْعَدَمِ، وَهَذَا جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ تَخْصِيصَ الرُّجْحَانِ بِالْوُجُودِ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي بَلْ الْعَدَمُ أَيْضًا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِعَدَمِ عِلَّةِ الْوُجُودِ فَكَمَا أَنَّ وُجُودَ الْمُمْكِنِ بِلَا عِلَّةِ الْوُجُودِ مُحَالٌ كَذَلِكَ عَدَمُهُ بِلَا عِلَّةِ الْعَدَمِ، وَهُوَ عَدَمُ عِلَّةٍ الْوُجُودِ مُحَالٌ. (قَوْلُهُ إذَا عَرَفْت) هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ الْأَرْبَعَ فَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْفِعْلِ فِي قَوْلِكُمْ أَنَّ تَوَقُّفَ فِعْلِ الْعَبْدِ عَلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وُجُودُ الْفِعْلِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ أَمَّا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ بِالْمَصْدَرِ كَالْحَالَةِ الَّتِي تَكُونُ لِلْمُتَحَرِّكِ فِي أَيِّ جُزْءٍ يُفْرَضُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَسَافَةِ وَأَمَّا نَفْسُ الْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ الْمَصْدَرُ بِإِزَائِهِ، وَهُوَ الْإِحْدَاثُ، وَالْإِيقَاعُ كَإِيقَاعِ تِلْكَ الْحَرَكَةِ فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَالْجَبْرُ أَيْ عَدَمُ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فِي فِعْلِهِ مُنْتَفٍ إمَّا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَوَقُّفِ وُجُودِ الْمُمْكِنِ عَلَى وُجُوبِهِ فَظَاهِرٌ إذْ الْجَبْرُ إنَّمَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ الْوُجُوبِ، وَعَدَمِ بَقَاءِ الِاخْتِيَارِ، وَهَذَا التَّقْدِيرُ، وَإِنْ بَيَّنَ بُطْلَانَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا أَنَّ إثْبَاتَ الْمَطْلُوبِ أَعْنِي عَدَمَ الْجَبْرِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ ثُبُوتُ الْجَبْرِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ وَإِمَّا عَلَى تَقْدِيرِ تَوَقُّفِ وُجُودِ كُلِّ مُمْكِنٍ عَلَى وُجُوبِهِ فَلِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجِّحُ مِنْ الْفَاعِلِ، وَبِاخْتِيَارِهِ قَوْلُكُمْ نُقِلَ الْكَلَامُ إلَى الِاخْتِيَارِ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ أَوَّلًا بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُ الِاضْطِرَارُ، قُلْنَا: هُوَ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَ التَّسَلْسُلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اخْتِيَارُ الِاخْتِيَارِ أَوْ نَقُولُ لَا يَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لِجَوَازِ تَوَقُّفِهِ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ، وَوُجُودُ الْمُرَجِّحِ التَّامِّ أَيْ وُجُودُ جُمْلَةِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي التَّوَقُّفَ عَلَى تَحَقُّقِ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ كَالْإِيقَاعِ فَإِنْ قِيلَ: تَنْقُلُ الْكَلَامَ إلَى صُدُورِ الْإِيقَاعِ عَنْ الْفَاعِلِ، قُلْنَا: يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّسَلْسُلِ فِي الْإِيقَاعَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْجُودَاتٍ حَتَّى يَسْتَحِيلَ التَّسَلْسُلُ فِيهَا أَوْ بِطَرِيقِ عَدَمِ التَّسَلْسُلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ إيقَاعَ الْإِيقَاعِ عَيْنُ الْإِيقَاعِ أَوْ لَا يَجِبُ أَصْلًا، وَهُوَ الظَّاهِرُ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ إسْنَادَ الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ كَالْإِيقَاعِ مَثَلًا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْإِيجَابِ بَلْ بِطَرِيقِ الصِّحَّةِ، وَالِاخْتِيَارِ فَإِنَّ الْإِيقَاعَ، وَعَدَمَهُ مُتَسَاوِيَانِ بِالنَّظَرِ إلَى اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ فَهُوَ يَخْتَارُ الْإِيقَاعَ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ تَرْجِيحًا لِأَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ

عَلَى مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ فَالْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرٍ لَا مَوْجُودٍ وَلَا مَعْدُومٍ كَالْإِيقَاعِ مَثَلًا، ثُمَّ هُوَ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِطَرِيقِ التَّسَلْسُلِ أَوْ بِأَنَّ إيقَاعَ الْإِيقَاعِ عَيْنُ الْأَوَّلِ. وَإِمَّا أَنْ لَا يَجِبَ لَكِنَّ الْفَاعِلَ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْفِعْلِ الْإِيقَاعَ فَيُعَيِّنُ مَا قُلْنَا فِي الْإِيقَاعِ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ إبْطَالُ دَلِيلِ الْجَبْرِ فَالْآنَ جِئْنَا إلَى إثْبَاتِ مَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ التَّوَسُّطُ بَيْنَ الْجَبْرِ، وَالْقَدَرِ أَيْ مَا هُوَ حَاصِلٌ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِعْلِ الْعَبْدِ فَنَقُولُ: التَّفْرِقَةُ ضَرُورِيَّةٌ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالِاضْطِرَارِيَّة، وَلَيْسَتْ التَّفْرِقَةُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا مُوَافِقَةً لِإِرَادَتِنَا؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ إنْ كَانَتْ صِفَةً بِهَا يُرَجِّحُ الْفَاعِلُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَيُخَصِّصُ الْأَشْيَاءَ بِمَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْخُصُوصِيَّاتِ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْإِرَادَةِ لَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQأُرِيدَ الثَّانِي أَيْ الْفِعْلُ بِمَعْنَى الْإِيقَاعِ فَلَا جَبْرَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَصْدُرُ عَنْ فَاعِلِهِ لَا بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الرُّجْحَانُ بِلَا مُرَجِّحٍ بِمَعْنَى وُجُودِ الْمُمْكِنِ بِلَا مُوجِدٍ إذْ لَا وُجُودَ لِلْإِيقَاعِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُشِرْ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَاهُنَا إلَى بُطْلَانِ طَرِيقٍ مُتَسَلْسِلٍ، وَرُجْحَانِ طَرِيقِ عَدَمِ الْوُجُوبِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا سَبَقَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّالِثَةِ. (قَوْلُهُ: فَالْآنَ جِئْنَا إلَى إثْبَاتِ مَا هُوَ الْحَقُّ) قَدْ، وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْقَدَرِيَّةَ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَالْمَجُوسُ قَائِلُونَ بِإِلَهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَبْدَأُ الْخَيْرِ، وَالْآخَرُ مَبْدَأُ الشَّرِّ، وَهَذَا يُلَائِمُ الْقَوْلَ بِكَوْنِ خَالِقِ الشَّرِّ، وَالْقَبِيحِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا قَائِلُونَ: بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ شَيْئًا، ثُمَّ يَتَبَرَّأُ عَنْهُ كَخَلْقِ إبْلِيسَ، وَهَذَا يُلَائِمُ الْقَوْلَ بِكَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِقًا لِلشُّرُورِ، وَالْقَبَائِحِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرْضَاهَا فَبِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يَنْسُبُ الْقَدَرَ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى، وَالْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى نَفْيِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَإِثْبَاتِ أَمْرٍ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي فِعْلِ الْعَبْدِ مَجْمُوعُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتِيَارُ الْعَبْدِ لَا الْأَوَّلُ فَقَطْ لِيَكُونَ جَبْرًا، وَلَا الثَّانِي فَقَطْ لِيَكُونَ قَدَرًا وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْرَدَ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلَيْنِ: الْأَوَّلُ حَاصِلُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ لِلْعَبْدِ قَصْدًا، وَاخْتِيَارًا فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ وَأَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ، وَالِاخْتِيَارَ لَا يَكْفِي فِي وُجُودِ ذَلِكَ الْفِعْلِ إذْ قَدْ لَا يَقَعُ مَعَ تَحَقُّقِ جَمِيعِ أَسْبَابِهِ الَّتِي مِنْ الْعَبْدِ، وَقَدْ يَقَعُ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ الَّتِي مِنْ عِنْدِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ حَاصِلٌ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَقِيبَ إرَادَةِ الْعَبْدِ، وَقَصْدِهِ الْجَازِمِ بِطَرِيقِ جَرْيِ الْعَادَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُهُ عَقِيبَ قَصْدِ الْعَبْدِ، وَلَا يَخْلُقُهُ بِدُونِهِ، وَبَاقِي الْكَلَامِ تَنْبِيهٌ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ، وَتَوْضِيحٌ لَهَا، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: خَوَارِقُ الْعَادَاتِ، وَعَدَمُ وُقُوعِ الْمُرَادَاتِ مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي، وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْعَبْدِ هُوَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَثِّرُ قُدْرَتَهُ، وَاخْتِيَارُهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُرِيدَ اللَّهُ تَعَالَى عَدَمَ وُقُوعِ الْفِعْلِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْعَبْدُ شَيْئًا، وَأَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافَهُ يَقَعُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى أَلْبَتَّةَ لَا مُرَادُ الْعَبْدِ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ تَأْثِيرِهِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ

كَوْنُ التَّرْجِيحِ، وَالتَّخْصِيصِ صَادِرَيْنِ مِنَّا، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا صَادِرَيْنِ مِنَّا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا مُجَرَّدَ شَوْقٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ فَرْقٌ بَيْنَ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالِاضْطِرَارِيَّة الَّتِي تَشْتَاقُ إلَيْهَا كَحَرَكَةِ نَبْضِنَا عَلَى نَسَقٍ نَشْتَهِي أَنْ تَكُونَ عَلَيْهِ لَكِنَّا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْأُولَى بِفِعْلِنَا لَا الثَّانِيَةَ، وَأَيْضًا نُفَرِّقُ فِي الِاخْتِيَارِيَّات بَيْنَ مَا نَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ، وَبَيْنَ مَا لَا نَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ كَانْحِدَارٍ إلَى صَبَبٍ بِالْعَدْوِ الشَّدِيدِ الَّذِي لَا نَقْدِرُ عَلَى الْإِمْسَاكِ عَنْهُ، وَكَذَا نُفَرِّقُ فِي التَّرْكِ بَيْنَ مَا نَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ، وَبَيْنَ مَا لَا نَقْدِرُ أَيْضًا قَدْ نَفْعَلُ بِدَاعِيَةٍ، وَقَدْ نَفْعَلُ بِلَا دَاعِيَةٍ فَعُلِمَ أَنَّ الْعِلْمَ الْوِجْدَانَيَّ قَاضٍ بِأَنَّا نَفْعَلُ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ، وَلَا وُجُوبٍ، وَنُرَجِّحُ أَحَدَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ الْمَرْجُوحَ، وَهَذَا التَّرْجِيحُ هُوَ الِاخْتِيَارُ، وَالْقَصْدُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ نُشَاهِدُ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا هُوَ الْمُدَّعَى. (قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُونَا صَادِرَيْنِ مِنَّا لَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا مُجَرَّدُ شَوْقٍ) هَذَا الْكَلَامُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْإِلْزَامِ فَإِنَّ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ الْإِرَادَةَ فِي الْحَيَوَانِ شَوْقٌ إلَى حُصُولِ الْمُرَادِ، وَدَاعٍ يَدْعُو إلَى تَحْصِيلِهِ لِمَا يُعْقَلُ أَوْ يُتَخَيَّلُ مِنْ مُلَائِمَتِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَقَعَ فَرْقٌ بَيْنَ الِاخْتِيَارِيَّةِ، وَالِاضْطِرَارِيَّة الَّتِي يَشْتَاقُ إلَيْهَا لَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاخْتِيَارِيَّ مَا يَكُونُ مَعَ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ بِهِ، وَسَتَعْرِفُ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَكُونُ مُتَعَلِّقَ الْإِرَادَةِ دُونَ الْقُدْرَةِ، وَبِالْعَكْسِ. (قَوْلُهُ: نُفَرِّقُ فِي الِاخْتِيَارِيَّات بَيْنَ مَا نَقْدِرُ عَلَى تَرْكِهِ، وَمَا لَا نَقْدِرُ) فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا، وَالِاخْتِيَارِيُّ مَا يُتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ، وَالتَّرْكِ قُلْنَا نَعَمْ، وَلَكِنْ قَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا يَمْنَعُ التَّمَكُّنَ مِنْ التَّرْكِ كَمِثْلِ الْأَثْقَالِ إلَى الْمُرَكَّزِ بِالطَّبْعِ فِي صُورَةِ الِانْحِدَارِ إلَى صَبَبٍ، وَهُوَ مَا انْحَدَرَ مِنْ الْأَرْضِ، وَكَذَا نُفَرِّقُ فِي التَّرْكِ بَيْنَ مَا نَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ كَتَرْكِ الْحَرَكَةِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ، وَبَيْنَ مَا لَا نَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ كَتَرْكِ الْحَرَكَةِ فِي الْبِنَاءِ الْعَالِي، وَأَيْضًا قَدْ نَجِدُ فِي الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ بَاعِثًا عَلَيْهِ، وَدَاعِيًا إلَيْهِ مِنْ أَنْفُسِنَا كَالْمَشْيِ إلَى مَحْبُوبٍ بِخِلَافِ الْمَشْيِ إلَى مَكْرُوهٍ. (قَوْلُهُ كَقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ) لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْ الْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يُنْكِرُونَهُ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْقَصْدُ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: إنَّ قَصْدَ الْعَبْدِ اضْطِرَارِيٌّ لَا اخْتِيَارِيٌّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ لِلْعَبْدِ، وَإِلَّا لَتَسَلْسَلَتْ الِاخْتِيَارَاتُ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْقَصْدَ مَخْلُوقُ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى اسْتِنَادِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْمَوْجُودَةِ كَالْقُدْرَةِ مَثَلًا لَكِنَّهُ مِنْ الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ فَلَا يَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ الْقَصْدُ الَّذِي هُوَ صَرْفُ الْقُدْرَةِ إلَى الْفِعْلِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى قَصْدًا لَكَانَ الْفَاعِلُ مُضْطَرًّا إلَى الْفِعْلِ غَيْرَ مُتَمَكِّنٍ مِنْ التَّرْكِ، وَهَذَا يُنَافِي خَلْقَ الْقُدْرَةِ الَّتِي مِنْ

صُدُورِ الْأَفْعَالِ كَالْحَرَكَاتِ الْقَوِيَّةِ مِنْ الْقُوَى الضَّعِيفَةِ كَقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، وَأَمْثَالِهِ، وَكَذَا فِي عَدَمِ صُدُورِهَا كَمَا تَوَاتَرَ فِي أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالصِّدِّيقِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ قَصَدُوهُمْ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ مَعَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ، وَتَوَافُرِ الدَّوَاعِي، وَالْإِرَادَاتِ مَعَ قُدْرَتِهِمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ عَلَى أُمُورٍ أَشَقُّ مِنْ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُودِ الْحَرَكَةِ أَيْ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ، وَإِرَادَتُهُ إذْ لَوْ كَانَ لَمْ يُخَالِفْ إرَادَتَهُ، وَلَوْ كَانَ مُؤَثِّرًا طَبْعًا فِيمَا جَرَى عَلَيْهِ الْعَادَةُ لَمْ يُوجَدْ خَوَارِقُ الْعَادَاتِ، وَأَيْضًا لَا تُمَكَّنُ الْحَرَكَاتُ إلَّا بِتَمْدِيدِ الْأَعْصَابِ، وَإِرْخَائِهَا، وَلَا شُعُورَ لَنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا نَدْرِي أَيَّ عَصَبَةٍ يَجِبُ تَمْدِيدُهَا لِتَحْصِيلِ الْحَرَكَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَكَذَا لَا شُعُورَ لَنَا بِكَيْفِيَّةِ خُرُوجِ الْحُرُوفِ عَنْ مَخَارِجِهَا فَعُلِمَ مِنْ وِجْدَانِ مَا يَدُلُّ عَلَى الِاخْتِيَارِ، وَوُجْدَانِ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي وُجُودِ الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّهُ جَرَى عَادَتُهُ تَعَالَى أَنَّا مَتَى قَصَدْنَا الْحَرَكَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ قَصْدًا جَازِمًا مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ إلَى الْقَصْدِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى عَقِيبَهُ الْحَالَةَ الْمَذْكُورَةَ الِاخْتِيَارِيَّةَ، وَإِنْ لَمْ نَقْصِدْ لَمْ يَخْلُقْ، ثُمَّ الْقَصْدُ مَخْلُوقُ اللَّهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ قُدْرَةً يَصْرِفُهَا الْعَبْدُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، ثُمَّ صَرَفَهَا إلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ بِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَهُوَ الْقَصْدُ، وَالِاخْتِيَارُ فَالْقَصْدُ مَخْلُوقُ اللَّهِ بِمَعْنَى اسْتِنَادِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ إلَى مَوْجُودَاتٍ هِيَ مَخْلُوقَةُ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ هَذَا الصَّرْفَ مَقْصُورًا؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَافِي خَلْقَ الْقُدْرَةِ فَحَصَلَتْ الْحَالَةُ الْمَذْكُورَةُ بِمَجْمُوعِ خَلْقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَأْنِهَا التَّمَكُّنُ مِنْ الْفِعْلِ، وَالتَّرْكِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَوْ كَانَ الِاسْتِنَادُ إلَى مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ كَافِيًا فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ فِي كَوْنِ فِعْلِ الْعَبْدِ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى ضَرُورَةَ اسْتِنَادِهِ إلَى الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْعَبْدِ مُوجِدًا لَهُ، وَمُؤَثِّرًا فِيهِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِنَادَ لَا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي الْأُمُورِ اللَّامَوْجُودَةِ، واللَّامَعْدُومةِ كَالْقَصْدِ مَثَلًا لَا فِي الْمَوْجُودَةِ كَالْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الْإِيقَاعِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَمَا مَرَّ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّالِثَةِ. (قَوْلُهُ بُرْهَانٌ آخَرُ) هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الثَّانِي، وَحَاصِلُهُ: أَنَّا نَعْلَمُ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ لِلْعَبْدِ صُنْعًا مَا أَيْ فِعْلًا مَا بِالِاخْتِيَارِ، وَصُنْعُهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَمْرٍ لَا مَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ لَا فِي أَمْرٍ مَوْجُودٍ؛ لِأَنَّ صُنْعَهُ فِيهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا وَاسِطَةٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ وُجُودِ شَيْءٍ أَوْ بِوَاسِطَةِ عَدَمِ شَيْءٍ، وَالْأَقْسَامُ بِأَسْرِهَا بَاطِلَةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الشَّيْءِ يَجِبُ عِنْدَ تَمَامِ عِلَّتِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ صُنْعُ الْعَبْدِ فِيهِ أَيْ تَأْثِيرُهُ الِاخْتِيَارِيُّ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ الْأَمْرِ الَّذِي يَكُونُ الصُّنْعُ بِوَاسِطَتِهِ يَجِبُ بِالْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ وَاجِبًا، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْعَدَمَ إنْ

اللَّهِ، وَاخْتِيَارِ الْعَبْدِ؛ فَلِهَذَا قَالَ (قُلْنَا تَوَقُّفُهُ عَلَى مُرَجِّحٍ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ اضْطِرَارِيًّا؛ لِأَنَّ لِاخْتِيَارِهِ تَأْثِيرًا فِي فِعْلِهِ أَيْضًا) . وَإِنَّمَا قَالَ أَيْضًا لِيُعْلِمَ أَنَّ الِاخْتِيَارَ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ تَامٍّ بَلْ هُوَ جُزْءُ الْمُؤَثِّرِ بِبُرْهَانٍ آخَرَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ شَيْءٌ إلَّا، وَأَنْ يَجِبَ وُجُودُهُ بِالْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مُوجِبًا لِوُجُودٍ بِلَا وَاسِطَةِ أَمْرٍ فَلَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ كَمَا لَا صُنْعَ لَهُ فِي وُجُودِهِ، وَفِي ذَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ يُتَوَسَّطُ وُجُودَ أَمْرٍ فَذَلِكَ الْأَمْرُ يَجِبُ بِالْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَسَّطُ عَدَمَ أَمْرٍ لَا يَكُونُ ذَلِكَ الْعَدَمُ الْعَدَمَ السَّابِقَ عَلَى الْوُجُودِ إذْ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهِ فَيَكُونُ الْعَدَمُ الَّذِي بَعْدَ الْوُجُودِ، وَهَذَا الْعَدَمُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِزَوَالِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِذَلِكَ الْأَمْرِ أَوْ لِبَقَائِهِ فَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَاتٍ مَحْضَةٍ تَكُونُ وَاجِبَةً بِالِاسْتِنَادِ إلَى الْوَاجِبِ تَعَالَى فَلَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَى إعْدَامِهَا، وَإِنْ كَانَ لِلْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ فَزَوَالُ الْعَدَمِ هُوَ الْوُجُودُ فَيَكُونُ يَتَوَسَّطُ وُجُودَ أَمْرٍ، وَقَدْ مَرَّ امْتِنَاعُهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْوِجْدَانِ أَنَّ لِلْعَبْدِ صُنْعًا مَا فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي أَمْرٍ لَا مَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْأَمْرُ، وَاجِبًا بِوَاسِطَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَانَ عَدَمًا سَابِقًا فَهُوَ قَدِيمٌ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عَدَمًا لَاحِقًا تَوَقَّفَ عَلَى زَوَالِ جُزْءٍ مِنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِلْوُجُودِ، وَذَلِكَ الْجُزْءُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا كَانَ وَاجِبًا بِالِاسْتِنَادِ إلَى الْوَاجِبِ فَيَمْتَنِعُ الْعَبْدُ إزَالَتَهُ، وَإِنْ كَانَ لِزَوَالِ الْعَدَمِ مَدْخَلٌ فِي زَوَالِهِ عَادَ الْمَحْذُورُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْعَدَمِ وُجُودٌ فَيَكُونُ بِوَاسِطَةِ وُجُودِ شَيْءٍ هُوَ وَاجِبٌ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ فَيَخْرُجُ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ صُنْعَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي أَمْرٍ لَا مَوْجُودٍ، وَلَا مَعْدُومٍ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ لَا يَجِبُ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ، وَإِلَّا لَخَرَجَ عَنْ صُنْعِ الْعَبْدِ فَلَمْ يَبْقَ لِصُنْعِ الْعَبْدِ أَثَرٌ فِي فِعْلِ أَمْرٍ مَا، وَيَلْزَمُ مِنْهُ بُطْلَانُ مَا ثَبَتَ بِالْوِجْدَانِ. ثُمَّ ذَلِكَ الْأَمْرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِيقَاعُ، وَالْإِيجَادُ الَّذِي يَجِبُ عِنْدَهُ الْفِعْلُ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ مُوجِدًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَوْجُودِ خَالِقًا لَهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ يَتَوَقَّفُ عَلَى أُمُورٍ لَا أَثَرَ لِلْعَبْدِ فِي وُجُودِهَا كَوُجُودِ الْعَبْدِ، وَقُدْرَتِهِ، وَسَلَامَةِ الْآلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَتَعَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ اللَّامَوْجُودَ، وَاللَّامَعْدُومَ الصَّادِرَ عَنْ الْعَبْدِ أَمْرٌ لَا يَجِبُ عِنْدَهُ وُجُودُ الْأَثَرِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْكَسْبِ، وَالْفِعْلُ حَاصِلٌ بِهِ، وَيَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مَقْدُورَهُ إلَّا أَنَّهُ فِي الْخَلْقِ يَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِالْإِيقَاعِ الْمَقْدُورِ، وَفِي الْكَسْبِ لَا يَصِحُّ، وَأَيْضًا فِي الْخَلْقِ يَقَعُ الْفِعْلُ الْمَقْدُورُ لَا فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ فِي الْكَسْبِ يَقَعُ الْمَقْدُورُ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ مَثَلًا: حَرَكَةُ زَيْدٍ وَقَعَتْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ، وَهُوَ زَيْدٌ، وَوَقَعَتْ بِكَسْبِ زَيْدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي قَامَتْ بِهِ قُدْرَةُ زَيْدٍ، وَهُوَ نَفْسُ زَيْدٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَثَرَ الْخَالِقِ إيجَادُ الْفِعْلِ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ مِنْ ذَاتِهِ، وَأَثَرُ الْكَاسِبِ صُنْعُهُ فِي مَحَلٍّ قَائِمٍ بِهِ

الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ تَعَالَى إذْ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ، ثُمَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ لَا يَجِبُ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ الْأَمْرِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى أُمُورٍ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهَا أَصْلًا كَقُدْرَةِ الْعَبْدِ وَوُجُودِهِ، وَأَمْثَالِهِمَا فَالْأَمْرُ الْإِضَافِيُّ الَّذِي هُوَ الصَّادِرُ مِنْ الْعَبْدِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَجِبُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَثَرِ يُسَمَّى كَسْبًا، وَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّ مَا يَقَعُ بِهِ الْمَقْدُورُ مَعَ صِحَّةِ انْفِرَادِ الْقَادِرِ بِهِ فَهُوَ خَلْقٌ، وَمَا يَقَعُ بِهِ الْمَقْدُورُ لَا مَعَ صِحَّةِ انْفِرَادِ الْقَادِرِ بِهِ فَهُوَ كَسْبٌ، ثُمَّ إنَّ مَقْدُورَاتِ اللَّهِ قِسْمَانِ: الْأَوَّلُ مَا يَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِهِ مَعَ تَحَقُّقِ الِانْفِرَادِ كَمَا فِي الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ فِيهَا، وَالثَّانِي مَا يَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِهِ لَكِنْ لَا يَكُونُ مُنْفَرِدًا بَلْ يَكُونُ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ مَدْخَلٌ مَا فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ كَالْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ لِلْعِبَادَةِ، وَقَدْ قِيلَ: مَا وَقَعَ لَا فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ فَهُوَ خَلْقٌ، وَمَا وَقَعَ فِي مَحَلِّ قُدْرَتِهِ فَهُوَ كَسْبٌ، هَذَا وَإِنْ كَانَ تَفْسِيرًا آخَرَ لَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ: الْمَجْمُوعُ تَفْسِيرٌ وَاحِدٌ فَالْخَلْقُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَجِبُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الْمَقْدُورُ لَا فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ، وَيَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِإِيقَاعِ الْمَقْدُورِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالْكَسْبُ أَمْرٌ إضَافِيٌّ يَقَعُ بِهِ الْمَقْدُورُ فِي مَحَلِّ الْقُدْرَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا، وَلَكِنْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وُجُوبُ الْفِعْلِ بِوَاسِطَةِ الْمَوْجُودَاتِ الْمُسْتَنِدَةِ إلَى الْوَاجِبِ لَا يُنَافِيَ كَوْنَهُ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، وَمَخْلُوقًا لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اسْتِنَادُهُ بِوَاسِطَةِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ، وَإِرَادَتِهِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّرْجِيحُ، وَالْإِيجَادُ وَأَيْضًا الْوُجُوبُ بِالْقُدْرَةِ، وَالدَّاعِي لَا يُنَافِي تَعَلُّقَ أَصْلِ الْقُدْرَةِ بِأَصْلِ الْفِعْلِ الْمُمْكِنِ، وَكَوْنَهُ مَخْلُوقًا لِلْقَادِرِ، وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ بِخَلْقِهِ، وَإِرَادَتِهِ لَا يُنَازِعُونَ فِي تَوَقُّفِهِ عَلَى أُمُورٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى كَإِيجَادِ الْعَبْدِ، وَإِقْدَارِهِ، وَتَمْكِينِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مُلَخَّصَ كَلَامِ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ بَعْضَ أَحْوَالِ الْحَيَوَانِ لَا شُعُورَ لَهُ بِهَا كَالنُّمُوِّ، وَهَضْمِ الْغِذَاءِ، وَبَعْضَهَا مَشْعُورٌ بِهِ لَكِنْ لَيْسَ بِإِرَادَتِهِ كَمَرَضِهِ، وَصِحَّتِهِ، وَنَوْمِهِ، وَيَقَظَتِهِ، وَبَعْضَهَا مِمَّا لَهُ قَصْدٌ إلَى صُدُورِهِ، وَصِحَّةُ الصُّدُورِ غَيْرُ الْقَصْدِ إذْ رُبَّمَا يَصِحُّ صُدُورُ فِعْلٍ لَا يَقْصِدُهُ، وَرُبَّمَا يَقْصِدُ مَا لَا يَصِحُّ صُدُورُهُ فَصِحَّةُ الصُّدُورِ، وَاللَّاصُدُورِ هِيَ الْمُسَمَّى بِالْقُدْرَةِ، وَهِيَ لَا تَكْفِي فِي الصُّدُورِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا هُوَ بِالْقَصْدِ الَّذِي هُوَ الْمُسَمَّى بِالْإِرَادَةِ أَوْ بِالدَّاعِي، وَعِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَالدَّاعِي يَجِبُ الصُّدُورُ عِنْدَ فَقْدِ أَحَدِهِمَا يَمْتَنِعُ، وَالْقَوْلُ بِصُدُورِ الْفِعْلِ عَنْ الْقَادِرِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تَمَسُّكًا بِالْأَمْثِلَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَاطِلٌ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بِالْعِلْمِ غَيْرُ الْعِلْمِ بِالتَّرْجِيحِ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى وُجُودِ الْمُرَجِّحِ لَا إلَى الْعِلْمِ بِهِ، وَكُلُّ فِعْلٍ يَصْدُرُ عَنْ فَاعِلِهِ بِسَبَبِ حُصُولِ قُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ فَهُوَ بِاخْتِيَارِهِ، وَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ فَهُوَ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، وَسُؤَالُ السَّائِلِ أَنَّهُ بَعْدَ حُصُولِ الْقُدْرَةِ، وَالْإِرَادَةِ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى التَّرْكِ كَقَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ الْمُمْكِنَ بَعْدَ وُجُودِهِ هَلْ يُمْكِنُ

وَلَا يَصِحُّ انْفِرَادُ الْقَادِرِ بِإِيقَاعِ الْمَقْدُورِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ فَالْكَسْبُ لَا يُوجِبُ وُجُودَ الْمَقْدُورِ بَلْ يُوجِبُ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَسْبٌ اتِّصَافَ الْفَاعِلِ بِذَلِكَ الْمَقْدُورِ ثُمَّ اخْتِلَافَ الْإِضَافَاتِ كَكَوْنِهِ طَاعَةً أَوْ مَعْصِيَةً حَسَنَةً أَوْ قَبِيحَةً مَبْنِيَّةً عَلَى الْكَسْبِ لَا عَلَى الْخَلْقِ إذْ خَلْقُ الْقَبِيحِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ إذْ خَلْقُهُ لَا يُنَافِي الْمَصْلَحَةَ، وَالْعَاقِبَةَ الْحَمِيدَةَ بَلْ يَشْتَمِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمَا، وَإِنَّمَا الِاتِّصَافُ بِهِ بِإِرَادَتِهِ، وَقَصْدِهِ قَبِيحٌ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكَسْبَ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ يُوجِبُ الِاتِّصَافَ بِهِ فَالْقَصْدُ إلَيْهِ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إلَى الْقَبِيحِ؛ لِأَنَّهُ يُعْلَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا قَصَدَهُ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا جَبْرَ فِي الْقَصْدِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَنْفُونَ عَنْ الْعَبْدَ قُدْرَةَ الْإِيجَادِ، وَالتَّكْوِينِ فَلَا خَالِقَ، وَلَا مُكَوِّنَ إلَّا اللَّهُ لَكِنْ يَقُولُونَ: إنَّ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً مَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُ أَمْرٍ حَقِيقِيٍّ لَمْ يَكُنْ بَلْ إنَّمَا يَخْتَلِفُ بِقُدْرَتِهِ النَّسَبُ، وَالْإِضَافَاتُ فَقَطْ كَتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ، وَتَرْجِيحِهِ هَذَا مَا وَقَفْت عَلَيْهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ، وَالْقُدْرَةِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعْنَا إلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ فَقَوْلُهُ: إنَّ الِاتِّفَاقِيَّ، وَالِاضْطِرَارِيَّ لَا يُوصَفَانِ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ اتِّفَاقِيًّا أَوْ اضْطِرَارِيًّا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَسَنًا لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُوجِبَ ذَاتُ الْفِعْلِ أَوْ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ لُحُوقَ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ بِكُلِّ مَنْ اتَّصَفَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ اتِّصَافُهُ بِهِ اخْتِيَارِيًّا أَوْ اضْطِرَارِيًّا أَوْ اتِّفَاقِيًّا أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْمَدُ عَلَى صِفَاتِهِ الْعُلْيَا مَعَ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِهَا لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ عَلَى أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ يُسَلِّمُ الْقُبْحَ، وَالْحُسْنَ عَقْلًا بِمَعْنَى الْكَمَالِ، وَالنُّقْصَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا حَالَ وُجُودِهِ ثُمَّ حُصُولُ قُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَسْبَابٍ لَا تَكُونُ بِقُدْرَتِهِ، وَإِرَادَتِهِ دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَ الْأَسْبَابِ يَجِبُ الْفِعْلُ، وَعِنْدَ فُقْدَانِهَا يَمْتَنِعُ فَاَلَّذِي يَنْظُرُ إلَى الْأَسْبَابِ الْأُولَى، وَيَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، وَلَا بِإِرَادَتِهِ يَحْكُمُ بِالْجَبْرِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْقَرِيبَ لِلْفِعْلِ هُوَ قُدْرَةُ الْعَبْدِ، وَإِرَادَتِهِ، وَاَلَّذِي يَنْظُرُ إلَى السَّبَبِ الْقَرِيبِ يَحْكُمُ بِالِاخْتِيَارِ، وَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَحْصُلْ، بِأَسْبَابٍ كُلِّهَا مَقْدُورَةٌ، وَمُرَادُهُ فَالْحَقُّ أَنْ لَا جَبْرَ، وَلَا تَفْوِيضَ، وَلَكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ اخْتِلَافُ الْإِضَافَاتِ) لَمَّا جَعَلَ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا مَخْلُوقَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ قَبِيحٌ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الْقَبَائِحِ حَاوَلَ التَّقَصِّيَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ، وَالطَّاعَةَ، وَالْمَعْصِيَةَ اعْتِبَارَاتٌ رَاجِعَةٌ إلَى الْكَسْبِ دُونَ الْخَلْقِ فَيَسْتَنِدُ إلَى الْعَبْدِ لَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ خَلْقَ الْمَعْصِيَةِ لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ، وَخَلْقَ الْقَبِيحِ لَيْسَ بِقَبِيحٍ بَلْ رُبَّمَا يَتَضَمَّنُ مَصَالِحَ، وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ كَسْبُ الْمَعْصِيَةِ، وَالْقَبِيحِ فَلَا يَقْبُحُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى خَلْقُهَا، وَيَقْبُحُ مِنْ الْعَبْدِ كَسْبُهَا. (قَوْلُهُ: فَقَوْلُهُ إنَّ الِاتِّفَاقِيَّ، وَالِاضْطِرَارِيَّ لَا يُوصَفَانِ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ) مَنْعٌ

فَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ مَحْمُودٌ، وَكُلَّ نُقْصَانٍ مَذْمُومٌ، وَأَنَّ أَصْحَابَ الْكِمَالَاتِ مَحْمُودُونَ بِكِمَالَاتِهِمْ، وَأَصْحَابَ النَّقَائِصِ مَذْمُومُونَ بِنَقَائِصِهِمْ فَإِنْكَارُهُ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا صِفَتَانِ لِأَجْلِهِمَا يُحْمَدُ أَوْ يُذَمُّ الْمَوْصُوفُ بِهِمَا فِي غَايَةِ التَّنَاقُضِ، وَإِنْ أَنْكَرَهُمَا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْفِعْلِ شَيْءٌ يُثَابُ الْفَاعِلُ أَوْ يُعَاقَبُ لِأَجْلِهِ فَنَقُولُ إنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِثَابَةُ، وَالْعِقَابُ لِأَجْلِهِ فَنَحْنُ نُسَاعِدُهُ فِي هَذَا الْفِعْلِ، وَإِنْ عُنِيَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مَعْرِضِ ذَلِكَ فَهَذَا بَعِيدٌ عَنْ الْحَقِّ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ، وَالْعِقَابَ آجِلًا، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِمَعْرِفَةِ كَيْفِيَّتِهِمَا لَكِنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْكُلِّيَّاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلِمَ أَنَّهُ غَرِيقٌ فِي نِعَمِ اللَّهِ فِي كُلِّ لَمْحَةٍ، وَلَحْظَةٍ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يَنْسُبُ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْأَفْعَالِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ، وَالشَّنَاعَةِ إلَيْهِ، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا فَلَمْ يَرَ بِعَقْلِهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ مَذَمَّةً، وَلَمْ يَتَيَقَّنْ أَنَّهُ فِي مَعْرِضِ سَخَطٍ عَظِيمٍ، وَعَذَابٍ أَلِيمٍ فَقَدْ سَجَّلَ غِوَايَتَهُ عَلَى غَبَاوَتِهِ، وَلَجَاجَتِهِ، وَبَرْهَنَ عَلَى سَخَافَةِ عَقْلِهِ، وَاعْوِجَاجِهِ، وَاسْتَخَفَّ بِفِكْرِهِ، وَرَأْيِهِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ بِالشَّرِّ الَّذِي فِي وَرَائِهِ عَصَمَنَا اللَّهُ مِنْ الْغَبَاوَةِ، وَالْغَوَايَةِ، وَأَهْدَانَا هَدَايَا الْهِدَايَةِ. فَلَمَّا أَبْطَلْنَا دَلِيلَ الْأَشْعَرِيِّ رَجَعْنَا إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَذْهَبِنَا، وَإِلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَنَا، وَبَيْنَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ دَلِيلِ الْخَصْمِ، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ غَيْرُ اخْتِيَارِيٍّ، وَلَا شَيْءَ مِنْ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ بِحَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهَا مُقَدِّمَةٌ إجْمَاعِيَّةٌ مُسَلَّمَةٌ عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا وَجْهَ لِمَنْعِهَا، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَبَاحِثِ السَّالِفَةِ إنَّمَا كَانَ لِتَحْقِيقِ مَنْعِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى، وَالتَّقَصِّي عَمَّا أَوْرَدَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الْعَبْدِ اخْتِيَارِيًّا، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ تَوْضِيحُهُ سَنَدَ الْمَنْعِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُ يُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَبِكِمَالَاتِ الْإِنْسَانِ، وَنَقَائِصِهِ حَيْثُ يُحْمَدُ عَلَيْهَا، وَيُذَمُّ، وَادِّعَاؤُهُ التَّنَاقُضَ فِي كَلَامِ الْأَشْعَرِيِّ حَيْثُ جَعَلَ كُلَّ كَمَالٍ حَسَنًا، وَكُلَّ نُقْصَانٍ قَبِيحًا مَعَ أَنَّهُ قَرَّرَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ أَنَّ النِّزَاعَ فِي الْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ أَوْ الذَّمِّ فِي الدُّنْيَا، وَالثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَ هَذَا عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى ذَكَرَ فِي سَنَدِ الْمَنْعِ مَا ذُكِرَ، ثُمَّ أَوْرَدَ مَا هُوَ مَذْهَبَ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى سَبِيلِ التَّرْدِيدِ، وَالِاحْتِمَالِ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ عَنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي مَعْرِضِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ مِنْ أَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ بِحَيْثُ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ فَاعِلَهُ يَسْتَحِقُّ فِي الدُّنْيَا الْمَدْحَ أَوْ الذَّمَّ، وَفِي الْآخِرَةِ الثَّوَابَ أَوْ الْعِقَابَ بَلْ كُلُّ مَا نَصَّ الشَّارِعُ بِهِ أَوْ بِدَلِيلِهِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَدْحِ، وَالثَّوَابِ فَحَسَنٌ أَوْ الذَّمُّ، وَالْعِقَابُ فَقَبِيحٌ، وَلَيْسَ لِلْمُخَالِفِ دَلِيلٌ يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَا مَنْعٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ تَلْفِيقِ الْعِبَارَاتِ، وَتَنْمِيقِ الِاسْتِعَارَاتِ

الْمُعْتَزِلَةِ (وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَالْمُعْتَزِلَةِ حُسْنُ بَعْضِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَقُبْحِهَا يَكُونَانِ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِصِفَةٍ لَهُ، وَيُعْرَفَانِ عَقْلًا أَيْضًا) أَيْ يَكُونُ ذَاتَ الْفِعْلِ بِحَيْثُ يُحْمَدُ فَاعِلُهُ عَاجِلًا، وَيُثَابُ آجِلًا أَوْ يُذَمُّ فَاعِلُهُ عَاجِلًا، وَيُعَاقَبُ آجِلًا أَوْ يَكُونُ لِلْفِعْلِ صِفَةٌ يُحْمَدُ فَاعِلُ الْفِعْلِ، وَيُثَابُ لِأَجْلِهَا أَوْ يُذَمُّ، وَيُعَاقَبُ لِأَجْلِهَا، وَإِنَّمَا قَالَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُمَا يُعْرَفَانِ شَرْعًا (لِأَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ تَوَقَّفَ عَلَى الشَّرْعِ يَلْزَمُ الدَّوْرُ) ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا ادَّعَى النُّبُوَّةَ، وَأَظْهَرَ الْمُعْجِزَةَ، وَعَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَخْبَرَ بِأُمُورٍ مِثْلِ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْكُمْ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى السَّامِعِ تَصْدِيقُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَبْطُلُ فَائِدَةُ النُّبُوَّةِ، وَإِنْ وَجَبَ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ تَصْدِيقِ بَعْضِ إخْبَارَاتِهِ عَقْلِيًّا أَوْ لَا يَكُونُ بَلْ يَكُونُ وُجُوبُ تَصْدِيقِ كُلِّ إخْبَارَاتِهِ شَرْعِيًّا، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وُجُوبُ تَصْدِيقِ الْكُلِّ شَرْعِيًّا لَكَانَ وُجُوبُهُ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَوَّلُ الْإِخْبَارَاتِ الْوَاجِبَةِ التَّصْدِيقِ لَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ تَصْدِيقُهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ تَصْدِيقَ الْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ وَاجِبٌ فَنَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ لَمْ يَجِبْ تَصْدِيقُهُ لَا يَجِبُ تَصْدِيقُ الْأَوَّلِ، وَإِنْ وَجَبَ فَإِمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْإِخْبَارِ الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أَوْ بِقَوْلٍ آخَرَ فَنَتَكَلَّمُ فِيهِ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ، وَهُوَ كَوْنُ وُجُوبِ تَصْدِيقِ شَيْءٍ مِنْ إخْبَارَاتِهِ عَقْلِيًّا فَقَوْلُهُ. (وَإِلَّا) أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الشَّرْعِ (كَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَعْدِيلِ الْأَسْجَاعِ، وَتَكْثِيرِ الْإِقْرَاعِ فَلَعَلَّهُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ كَصَرِيرِ بَابٍ أَوْ كَطَنِينِ ذُبَابٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ،. (قَوْلُهُ فِي وَرَائِهِ) الصَّوَابُ مِنْ وَرَائِهِ (قَوْلُهُ وَعِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا) تَمَسُّكٌ عَلَى كَوْنِ حُسْنِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ، وَقُبْحِهِ عَقْلِيَّيْنِ بِوَجْهَيْنِ حَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّ تَصْدِيقَ أَوْ إخْبَارَاتِ مَنْ ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ وَاجِبٌ عَقْلًا، وَكُلُّ وَاجِبٍ عَقْلًا فَهُوَ حَسَنٌ عَقْلًا أَمَّا الصُّغْرَى فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ شَرْعًا لَتَوَقَّفَ عَلَى نَصٍّ آخَرَ يُوجِبُ تَصْدِيقَهُ فَالنَّصُّ الثَّانِي إنْ كَانَ وُجُوبُ تَصْدِيقِهِ بِنَفْسِهِ لَزِمَ تَوَقُّفُ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ بِالنَّصِّ الْأَوَّلِ لَزِمَ الدَّوْرُ، وَإِنْ كَانَ بِنَصٍّ ثَالِثٍ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَأَمَّا الْكُبْرَى فَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَقْلًا أَخَصُّ مِنْ الْحَسَنِ عَقْلًا عَلَى مَا سَبَقَ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ التَّصْدِيقِ حَرَامًا عَقْلًا فَيَكُونُ قَبِيحًا عَقْلًا، وَحَاصِلُ الثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ مَوْقُوفٌ عَلَى حُرْمَةِ كَذِبِهِ إذْ لَوْ جَازَ كَذِبُهُ لَمَا وَجَبَ تَصْدِيقُهُ، وَحُرْمَةُ كَذِبِهِ عَقْلِيَّةٌ إذْ لَوْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً لَتَوَقَّفَ عَلَى نَصٍّ آخَرَ، وَهُوَ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى حُرْمَةِ كَذِبِهِ فَأَمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِذَلِكَ النَّصِّ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بِالْأَوَّلِ فَيَدُورُ أَوْ بِثَالِثٍ فَيَتَسَلْسَلُ، وَالْحُرْمَةُ الْعَقْلِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْقُبْحَ الْعَقْلِيَّ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ صِدْقُهُ وَاجِبًا عَقْلًا. وَالْجَوَابُ

وَاجِبًا عَقْلًا فَيَكُونُ حَسَنًا عَقْلًا) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْعَقْلِيَّ مَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُذَمُّ عَلَى تَرْكِهِ عَقْلًا، وَالْحَسَنُ الْعَقْلِيُّ مَا يُحْمَدُ عَلَى فِعْلِهِ عَقْلًا فَالْوَاجِبُ الْعَقْلِيُّ أَخَصُّ مِنْ الْحَسَنِ الْعَقْلِيِّ (وَكَذَلِكَ) نَقُولُ فِي امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ إنَّهُ إمَّا وَاجِبٌ عَقْلًا إلَخْ هَذَا الدَّلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْعَقْلِيِّ صَرِيحًا، وَقَوْلُهُ (وَأَيْضًا وُجُوبُ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَوْقُوفٌ عَلَى حُرْمَةِ الْكَذِبِ فَهِيَ إنْ ثَبَتَتْ شَرْعًا يَلْزَمُ الدَّوْرِ وَإِنْ ثَبَتَتْ عَقْلًا يَلْزَمُ قُبْحُهَا عَقْلًا) هَذَا يَدُلُّ عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ صَرِيحًا، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْآخَرِ الْتِزَامًا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ وَاجِبًا عَقْلًا يَكُونُ تَرْكُهُ قَبِيحًا عَقْلًا، وَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ حَرَامًا عَقْلًا فَتَرْكُهُ يَكُونُ وَاجِبًا فَيَكُونُ حَسَنًا عَقْلًا (ثُمَّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ: الْعَقْلُ حَاكِمٌ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحُ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ بِهِمَا وَعِنْدَنَا: الْحَاكِمُ بِهِمَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعَقْلُ آلَةٌ لِلْعِلْمِ بِهِمَا فَيَخْلُقُ اللَّهُ الْعِلْمَ عَقِيبَ نَظَرِ الْعَقْلِ نَظَرًا صَحِيحًا) لَمَّا أَثْبَتْنَا الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَفِي هَذَا الْقَدْرِ لَا خِلَافَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ أَرَدْنَا أَنْ نَذْكُرَ بَعْدَ ذَلِكَ الْخِلَافَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ فِي أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَقْلَ عَنْدَهُمْ حَاكِمٌ مُطْلَقٌ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الْعِبَادِ أَمَّا عَلَى اللَّهِ فَلِأَنَّ الْأَصْلَحَ لِلْعِبَادِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ بِالْعَقْلِ فَيَكُونُ تَرْكُهُ حَرَامًا عَلَى اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ وُجُوبَ التَّصْدِيقِ، وَحُرْمَةَ الْكَذِبِ بِمَعْنَى جَزْمِ الْعَقْلِ بِأَنَّ صِدْقَهُ ثَابِتٌ قَطْعًا، وَكَذِبُهُ مُمْتَنِعٌ لِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ عَقْلِيًّا كَالتَّصْدِيقِ بِوُجُودِ الصَّانِعِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ أَوْ الْعِقَابِ فِي الْآجِلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ، وَهُوَ دَعْوَى النُّبُوَّةِ، وَإِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَصٍّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ تَصْدِيقُ كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ، وَيَحْرُمُ كَذِبُهُ أَوْ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمِ بِوُجُوبِ طَاعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ ظُهُورَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَكَلُّمِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ مَا ثَبَتَ صِدْقُهُ بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ. (قَوْلُهُ: وَكَذَلِكَ) امْتِثَالُ أَوَامِرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنْ وَجَبَ عَقْلًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ وَجَبَ شَرْعًا تَوَقَّفَ عَلَى أَمْرِ الشَّارِعِ، وَوُجُوبُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ بِالِامْتِثَالِ إنْ كَانَ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ دَارَ، وَإِلَّا تَسَلْسَلَ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوُجُوبَ بِمَعْنَى اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ ثَابِتٌ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ، وَبِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ ثَابِتٌ بِنَصِّ الشَّارِعِ عَلَى دَلِيلِهِ كَمَا مَرَّ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] بَعْدَ مَا عُلِمَ وُجُوبُ الِامْتِثَالِ بِمَعْنَى اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَمَا عُلِمَ لُزُومُ تَصْدِيقِ مَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْقَطْعِيَّةُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْهَنْدَسِيَّةِ، ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ، وَالْعِقَابِ أَمْرٌ آخَرُ يَثْبُتُ بِحُكْمِ الشَّارِعِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْهَنْدَسِيَّاتِ. (قَوْلُهُ فَلِأَنَّ الْأَصْلَحَ وَاجِبٌ) لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْحُسْنُ، وَالْقُبْحُ بِالْمَعْنَى الْمُتَنَازَعِ فِيهِ فَإِنْ

وَالْحُكْمُ بِالْوُجُوبِ، وَالْحُرْمَةِ يَكُونُ حُكْمًا بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ ضَرُورَةً، وَأَمَّا عَلَى الْعِبَادِ فَلِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ يُوجِبُ الْأَفْعَالَ عَلَيْهِمْ، وَيُبِيحُهَا، وَيُحَرِّمُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَعِنْدَنَا الْحَاكِمُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ مُتَعَالٍ عَنْ أَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَعَنْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ خَالِقُ أَفْعَالٍ الْعِبَادِ عَلَى مَا مَرَّ جَاعِلٌ بَعْضَهَا حَسَنًا، وَبَعْضَهَا قَبِيحًا، وَلَهُ فِي كُلِّ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ أَوْ جُزْئِيَّةٍ حُكْمٌ مُعَيَّنٌ، وَقَضَاءٌ مُبِينٌ، وَإِحَاطَةٌ بِظَوَاهِرِهَا، وَبَوَاطِنهَا، وَقَدْ وَضَعَ فِيهَا مَا وَضَعَ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَمِنْ نَفْعٍ أَوْ ضُرٍّ، وَمِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ مُوجِبٌ لِلْعِلْمِ بِالْحَسَنِ، وَالْقَبِيحِ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ بِأَنْ يُوَلِّدَ الْعَقْلُ الْعِلْمَ بِالنَّتِيجَةِ عَقِيبَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ، وَعِنْدَنَا الْعَقْلُ آلَةٌ لِمَعْرِفَةِ بَعْضٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ كَثِيرٌ مِمَّا يَحْكُمُ اللَّهُ بِحُسْنِهِ أَوْ قُبْحِهِ لَمْ يَطَّلِعْ الْعَقْلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ مَعْرِفَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى تَبْلِيغِ الرُّسُلِ لَكِنَّ الْبَعْضَ مِنْهُ قَدْ أَوْقَفَ اللَّهُ الْعَقْلَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُوَلِّدٍ لِلْعِلْمِ بَلْ أَجَرَى عَادَتَهُ أَنَّهُ خَلَقَ بَعْضَهُ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ، وَبَعْضَهُ بَعْدَ الْكَسْبِ أَيْ تَرْتِيبُ الْعَقْلِ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَعْلُومَةِ تَرْتِيبًا صَحِيحًا عَلَى مَا مَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا قُدْرَةُ إيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ، وَتَرْتِيبُ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ بِإِيجَادٍ (وَالْمَأْمُورُ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ نَوْعَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقُلْت: فَمَا مَعْنَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٌ أَمْ لَا؟ . قُلْت: مَعْنَاهُ أَنَّهُ هَلْ يَكُونُ بَعْضُ الْأَفْعَالِ الْمُمْكِنَةِ فِي نَفْسِهَا بِحَيْثُ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِامْتِنَاعِ صُدُورِهِ أَوْ لَا صُدُورِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى كَرِعَايَةِ مَا هُوَ أَصْلَحُ لِعِبَادِهِ، وَكَقَبُولِ الشَّفَاعَةِ، وَإِخْرَاجِ الْفَاسِقِ عَنْ النَّارِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَنَا الْحَاكِمُ بِالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى) لَا يُقَالُ: هَذَا مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْفَرْقُ هُوَ أَنَّ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بَعْدَ كِتَابٍ، وَنَبِيٍّ، وَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ قَدْ يَعْرِفُهُمَا الْعَقْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا ضَرُورِيًّا فَبِهِمَا إمَّا بِلَا كَسْبٍ كَحُسْنِ تَصْدِيقِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقُبْحِ الْكَذِبِ الضَّارِّ، وَإِمَّا مَعَ كَسْبٍ كَالْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ الْمُسْتَفَادَيْنِ مِنْ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ، وَقَدْ لَا يُعْرَفَانِ إلَّا بِالنَّبِيِّ، وَالْكِتَابِ كَأَكْثَرِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ. (قَوْلُهُ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ) هُوَ أَنْ يَحْصُلَ الْفِعْلُ عَنْ فَاعِلِهِ بِتَوَسُّطِ فِعْلٍ آخَرَ كَحَرَكَةِ الْمِفْتَاحِ، وَالْمُبَاشَرَةُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدُونِ تَوَسُّطِ فِعْلٍ آخَرَ كَحَرَكَةِ الْيَدِ، وَلَا تَوْلِيدَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لِاسْتِنَادِ الْأَفْعَالِ كُلِّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِلَا وَاسِطَةٍ بِمَعْنَى خَالِقِهَا، وَمُوجِدِهَا فَحُصُولُ الْعِلْمِ عَقِيبَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عَادَةً بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَحْصُلَ، وَالْعَادَةُ هُوَ تَكَرُّرُ الْفِعْلِ أَوْ وُقُوعُهُ دَائِمِيًّا أَوْ أَكْثَرِيًّا، وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ بِمَعْنَى أَنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ بَعْدَ الذِّهْنِ لِفَيَضَانِ النَّتِيجَةِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ حُصُولُهَا ضَرُورَةَ تَمَامِ الْقَابِلِ، وَالْفَاعِلِ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يُوَلِّدُ الْعِلْمَ

[المأمور به في صفة الحسن نوعان]

حُسْنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَحُسْنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ) لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ يُعْرَفَانِ عَقْلًا عُلِمَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بَلْ إنَّمَا يَحْسُنُ الْفِعْلُ أَوْ يَقْبُحُ إمَّا لِعَيْنِهِ أَوْ لِشَيْءٍ آخَرَ، ثُمَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ أَوْ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ جُزْءَ ذَلِكَ الْفِعْلِ أَوْ خَارِجًا عَنْهُ، وَالْجُزْءُ إمَّا صَادِقٌ عَلَى الْكُلِّ كَالْعِبَادَةِ تَصْدُقُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ عِبَادَةٌ مَعَ خُصُوصِيَّةٍ، فَالْعَادَةُ جُزْؤُهَا أَوْ لَمْ تَصْدُقْ كَالْأَجْزَاءِ الْخَارِجِيَّةِ كَالسُّجُودِ لَا يَصْدُقُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَالْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ يَعُمُّ الْحَسَنَ لِعَيْنِهِ وَالْحَسَنَ لِجُزْئِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحَسَنَ بِاعْتِبَارِ الْجُزْءِ إنَّمَا يَكُونُ حَسَنًا إذَا كَانَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ حَسَنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ جُزْءٌ وَاحِدٌ مِنْهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ، إذْ لَوْ كَانَ لَا يَكُونُ الْمَجْمُوعُ حَسَنًا، ثُمَّ الْخَارِجُ إمَّا أَنْ يَكُونَ صَادِقًا عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ نَحْوُ: الْجِهَادُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْجِهَادُ حَسَنٌ لِكَوْنِهِ إعْلَاءً، وَالْإِعْلَاءُ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِ الْجِهَادِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ صَادِقًا كَالْوُضُوءِ حَسَنٌ لِلصَّلَاةِ، وَالصَّلَاةُ لَا تَصْدُقُ عَلَى الْوُضُوءِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَسَنَ يَنْقَسِمُ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ، وَكَذَا الْقَبِيحُ لَكِنَّ أَمْثِلَةَ هَذَا سَتَأْتِي فِي فَصْلِ النَّهْيِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ عَلَى الْحَسَنِ لِعَيْنِهِ إمَّا اصْطِلَاحًا وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ أَوْ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَ لِعَيْنِهِ هُوَ الْفِعْلُ الْمُطْلَقُ كَالْعِبَادَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيُوجِبُهُ بِوَاسِطَةِ تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ اسْتِنَادِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ إلَى غَيْرِ الْبَارِي تَعَالَى، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ النَّظَرَ الصَّحِيحَ هُوَ الَّذِي يُوَلِّدُ النَّتِيجَةَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَقْرَبُ، وَأَنْسَبُ بِتَفْسِيرِهِمْ التَّوْلِيدَ بِإِيجَادِ الْفَاعِلِ فِعْلًا بِتَوَسُّطِ فِعْلٍ آخَرَ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ ذَلِكَ الشَّيْءُ) لَفْظُهُ ثُمَّ أَشَارَ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لِأَجْلِهِ يَحْسُنُ الْفِعْلُ أَوْ يَقْبُحُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْآخِرَةِ حَسَنًا لِعَيْنِهِ أَوْ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ إذْ لَوْ تَوَقَّفَ حُسْنُ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى حُسْنِ شَيْءٍ آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ بِمَعْنَى وُجُودِ أَشْيَاءَ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ نَظَرًا إلَى غَيْرِ الْأَشْيَاءِ، وَبِمَعْنَى تَرْتِيبِ أُمُورٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ نَظَرًا إلَى وَصْفِ الْحُسْنِ [الْمَأْمُورُ بِهِ فِي صِفَةِ الْحُسْنِ نَوْعَانِ] [الْحُسْنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ] (قَوْلُهُ: وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ) الْمُرَكَّبُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ أَوْ بِبَعْضِهَا مَعَ قُبْحِ الْبَعْضِ الْآخَرِ أَوْ بِدُونِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ أَوْ بِبَعْضِهَا مَعَ حُسْنِ الْبَعْضِ الْآخَرِ أَوْ بِدُونِهِ فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَصَّ الْحَسَنَ بِاعْتِبَارِ جُزْئِهِ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَعْنِي مَا يَكُونُ حَسَنًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِمَا يَشْمَلُ الْقِسْمَ الثَّالِثَ أَيْضًا أَعْنِي مَا يَكُونُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ حَسَنًا وَبَعْضُهَا لَا حَسَنًا وَلَا قَبِيحًا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْحَسَنَ بِاعْتِبَارِ جُزْئِهِ مَا لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِجَانِبِ الْقُبْحِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ أَجْزَائِهِ حَسَنًا وَبَعْضُهَا قَبِيحًا يُجْعَلُ مِنْ قِسْمِ الْقَبِيحِ تَغَلُّبًا لِجَانِبِ الْقُبْحِ وَالْحُرْمَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ حَسَنًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ كَانَ حَسَنًا لِعَيْنِهِ، وَجَعْلُهُ

مَثَلًا، وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي ضِمْنِ جُزْئِيَّاتِهِ إلَّا الْمَوْجُودَةِ، وَبَحْثُنَا فِي تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَعْلُومِ وُجُودُهَا حِسًّا، وَهِيَ لَا تَكُونُ إلَّا حَسَنَةً لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا أَوْ حَسَنَةً لِغَيْرِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُزْءِ الصَّادِقِ وَبَيْنَ الْخَارِجِ الصَّادِقِ أَنَّ مَا يَكُونُ مَفْهُومُ الْفِعْلِ مُتَوَقِّفًا عَلَيْهِ فَهُوَ الْجُزْءُ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَهُوَ الْخَارِجُ كَالصَّلَاةِ مَثَلًا، فَإِنَّ مَفْهُومَهَا الشَّرْعِيَّ إنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ بِالْخُصُوصِيَّاتِ الْمَعْلُومَةِ فَمَفْهُومُهَا مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا الْجِهَادُ فَمَفْهُومُهُ الْقَتْلُ، وَالضَّرْبُ، وَالنَّهْبُ مَعَ الْكُفَّارِ، وَلَيْسَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى دَاخِلًا فِي هَذَا الْمَفْهُومِ بَلْ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ فَيَكُونُ لَازِمًا لَا جُزْءًا، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ، إذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت بُطْلَانَ قَوْلِ مَنْ أَنْكَرَ كَوْنَ الْفِعْلِ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا لِذَاتِهِ بِأَنْ قَالَ: قَدْ يَخْتَلِفُ حُسْنُ الْفِعْلِ وَقُبْحُهُ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ فَلَا يَكُونُ حَسَنًا لِذَاتِهِ أَوْ قَبِيحًا لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِالْإِضَافَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ دَاخِلَةٌ فِي ذَاتِ ذَلِكَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَعْرَاضِ النِّسْبِيَّةِ، وَالْأَعْرَاضُ النِّسْبِيَّةُ تَتَقَوَّمُ بِالنِّسَبِ، وَالْإِضَافَاتِ، فَالْإِضَافَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فُصُولٌ مُقَوِّمَةٌ لَهَا فَقَوْلُنَا شُكْرُ الْمُنْعِمِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ مَعْنَاهُ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَسَنًا بِاعْتِبَارِ الْجُزْءِ إنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا الْقَبِيحُ) يَنْقَسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِذَاتِهِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِجُزْئِهِ أَوْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ وَكُلٌّ مِنْ الْجُزْءِ وَالْخَارِجِ إمَّا مَحْمُولٌ أَوْ غَيْرُ مَحْمُولٍ، وَمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحُسْنَ أَوْ الْقُبْحَ يَكُونُ لِذَاتِهِ أَوْ لِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ فَلَا يُنَافِي ثُبُوتَهُ فِي بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ غَيْرِ مَحْمُولٍ كَالصَّلَاةِ لِلْوُضُوءِ. (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا أُطْلِقَ) لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْحَسَنَ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ يَعُمُّ الْحَسَنَ لِعَيْنِهِ وَالْحَسَنَ لِجُزْئِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْحَسَنِ لِجُزْئِهِ ضَرُورَةً، أَيْ: جُزْءُ الشَّيْءِ مَعْنًى كَائِنٌ فِيهِ، وَلَا يَصِحُّ فِي الْحَسَنِ لِعَيْنِهِ إذَا لَيْسَ ذَاتُ الشَّيْءِ مَعْنًى فِيهِ، فَأَجَابَ أَوَّلًا بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ، وَكَأَنَّهُ تَغَلَّبَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَامَّةَ الْأَشْيَاءِ يَكُونُ حُسْنُهَا بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ، وَثَانِيًا بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَفْعَالِ الْمَوْجُودَةِ الصَّادِرَةِ عَنْ فَاعِلِهَا، وَهِيَ لَا مَحَالَةَ تَكُونُ جُزْئِيَّاتٍ مُشَخِّصَةً مُرَكَّبَةً مِنْ التَّشَخُّصِ، وَمِنْ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ الْحَسَنِ لِذَاتِهِ كَالْعِبَادَةِ مَثَلًا، فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْمُرَكَّبِ الِاعْتِبَارِيِّ يَكُونُ الْحُسْنُ رَاجِعًا إلَى جُزْئِهِ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ، وَالْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِالْحُسْنِ بِاعْتِبَارِ حُسْنٍ ثَبَتَ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ كَانَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ بِخِلَافِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَتَّصِفُ بِحُسْنٍ ثَبَتَ فِي غَيْرِهِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا يُقَالُ إنَّ الدَّارَ حَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا أَيْ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْهَا. (قَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجُزْءِ) قَدْ اسْتَدَلَّ نُفَاةُ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ حَسُنَ الْفِعْلُ أَوْ قَبُحَ لِذَاتِهِ لَمَا اخْتَلَفَ بِأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ حَسَنًا تَارَةً وَقَبِيحًا أُخْرَى لِأَنَّ مَا بِالذَّاتِ يَدُومُ بِدَوَامِ الذَّاتِ

الشُّكْرَ الْمُضَافَ إلَى الْمُنْعِمِ حَسَنٌ لَا أَنَّ ذَاتَ الشُّكْرِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ حَسَنٌ. (أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ لَا يَقْبَلَ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ كَالتَّصْدِيقِ، وَإِمَّا أَنْ يَقْبَلَ كَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ يَسْقُطُ حَالَ الْإِكْرَاهِ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الْأَصْلُ، وَالْإِقْرَارُ مُلْحَقٌ بِهِ؛ لِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ فَلَا تَتِمُّ صِفَةٌ إلَّا بِأَنْ تَظْهَرَ مِنْ الْبَاطِنِ إلَى الظَّاهِرِ بِالْكَلَامِ الَّذِي هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْبَاطِنِ وَلَا كَذَلِكَ سَائِرُ الْأَفْعَالِ) إنَّمَا قَالَ هَذَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَعَمَلِ الْأَرْكَانِ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ نَجْعَلُهُ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ، وَلَا نَجْعَلُ عَمَلَ الْأَرْكَانِ دَاخِلًا فِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِأَنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ حَسَنٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ ثُمَّ يَحْسُنُ إذَا كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ نَبِيٍّ مِنْ ظَالِمٍ، فَأَشَارَ إلَى جَوَابِهِ بِأَنَّ الْحَسَنَ أَوْ الْقَبِيحَ لِذَاتِهِ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْإِضَافَاتِ هُوَ الْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْفِعْلِ وَالْإِضَافَةِ فَالْفِعْلُ جِنْسٌ، وَالْإِضَافَاتُ فُصُولٌ مُقَوَّمَةٌ لِأَنْوَاعِهِ، وَالْحَسَنُ أَوْ الْقَبِيحُ لِذَاتِهِ هُوَ الْأَنْوَاعُ لَا الْجِنْسُ نَفْسُهُ. (قَوْلُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْمَأْمُورُ بِهِ الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ شَبِيهًا بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَقْبَلَ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ بِهِ أَوْ لَا، وَإِنَّمَا جُعِلَ الشَّبِيهُ بِالْحَسَنِ بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ مُقَابِلًا لِهَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ نَظَرًا إلَى أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ بَلْ كُلُّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَقَدْ يُقَالُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا يَكُونُ حُسْنُهُ لِكَوْنِهِ إتْيَانًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِجُزْئِهِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلَيْنِ وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِحُّ جَعْلُهُ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ عِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إمَّا أَنْ يَقْبَلَ سُقُوطَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ لَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إشَارَةٌ إلَى كَوْنِهِ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ السَّاقِطَ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ هُوَ وُجُوبُ الْإِقْرَارِ لَا حُسْنُهُ حَتَّى لَوْ صَبَرَ عَلَيْهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا، فَلِذَا غَيَّرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى سُقُوطِ التَّكْلِيفِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِمَا قِيلَ: إنَّ هَذَا الْوَصْفَ إشَارَةٌ إلَى كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ بِمَعْنَى أَمْرِ الْوُجُوبِ لَا يُقَالُ حُسْنُهُ كَانَ بِالْأَمْرِ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَسَنًا بِاعْتِبَارِ أَمْرِ النَّدْبِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، وَسَيُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَفْيِهِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ الْحُسْنُ بِالْأَمْرِ بَلْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ لِكَوْنِهِ حَسَنًا لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ. (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ) يَعْنِي ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ الْإِيمَانِ، وَلَا شَرْطَ لَهُ بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا حَتَّى إنَّ مَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ مُؤْمِنٍ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمَّا وُجِدَ مِنْهُ

وَإِنَّمَا الْإِقْرَارُ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَيْهِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ مَعًا. (فَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَتَرَكَ الْإِقْرَارَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا) اعْتِبَارُ الْجِهَةِ رُكْنِيَّةَ الْإِقْرَارِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ. (وَإِنْ صَدَّقَ وَلَمْ يُصَادِفْ وَقْتًا يُقِرُّ فِيهِ يَكُونُ مُؤْمِنًا) اعْتِبَارُ الْجِهَةِ التَّبَعِيَّةَ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ. (وَكَالصَّلَاةِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ) وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: كَالْإِقْرَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِقْرَارُ دُونَ التَّصْدِيقِ كَانَ مُؤْمِنًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَافِرًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَمَسَّكُوا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَأَنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَبِأَنَّ مَنْ أَحْدَثَ الْإِيمَانَ يُوصَفُ بِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ وَإِنْ انْقَضَى الْإِقْرَارُ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ تَمَسُّكًا بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِ كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِهَا، وَيَكْتَفِي، وَيَجْعَلُهَا أَهَمَّ مِنْ الْأَعْمَالِ، إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ جُزْءٌ لَهُ شَائِبَةُ الْعَرَضِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةِ، فَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ تُعْتَبَرُ جِهَةُ الْجُزْئِيَّةِ حَتَّى لَا يَكُونَ تَارِكُ الْإِقْرَارِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي حَالِ الِاضْطِرَارِ تُعْتَبَرُ جِهَةُ الْعَرَضِيَّةِ وَالتَّبَعِيَّةِ حَتَّى يُحْكَمَ بِإِيمَانِ مَنْ صَدَّقَ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْإِقْرَارِ، وَأَمَّا أَنَّ رُكْنَ الشَّيْءِ كَيْفَ يَسْقُطُ وَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَيَجِيءُ جَوَابُهُ، وَلَقَدْ طَالَ النِّزَاعُ بَيْنَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَيْنَ بَعْضِ مُعَاصِرِيهِ فِي تَفْسِيرِ التَّصْدِيقِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْإِيمَانِ وَأَنَّهُ تَصْدِيقُ الَّذِي قَسَّمَ الْعِلْمَ إلَيْهِ وَإِلَى التَّصَوُّرِ فِي أَوَائِلِ الْمَنْطِقِ أَوْ غَيْرُهُ، وَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ مَعْنَاهُ هُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ كرويدن وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّصْدِيقِ فِي الْمَنْطِقِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ سِينَا، وَحَاصِلُهُ إذْعَانٌ وَقَبُولٌ لِوُقُوعِ النِّسْبَةِ أَوْ لَا وُقُوعَهَا وَتَسْمِيَتُهُ تَسْلِيمًا زِيَادَةُ تَوْضِيحٍ لِلْمَقْصُودِ وَجَعْلُهُ مُغَايِرًا لِلتَّصْدِيقِ الْمَنْطِقِيِّ وَهْمٌ وَحُصُولُهُ لِلْكُفَّارِ مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ كُفْرُهُ بِاعْتِبَارِ جُحُودِهِ بِاللِّسَانِ وَاسْتِكْبَارِهِ عَنْ الْإِذْعَانِ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُصَدِّقِينَ الْمُقِرِّينَ يَكْفُرُ بِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَمَارَاتِ الْإِنْكَارِ وَعَلَامَاتِ الِاسْتِكْبَارِ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ التَّصْدِيقُ مِنْ الْكَيْفِيَّاتِ دُونَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ.؟ قُلْنَا بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ وَعَلَى صَرْفِ الْقُوَّةِ وَتَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ وَرَفْعِ الْمَوَانِعِ وَاسْتِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ تِلْكَ الْكَيْفِيَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَمَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْعِلْمِ وَالتَّيَقُّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّصْدِيقَ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ هُوَ نِسْبَةُ الصِّدْقِ إلَى الْمُخْبِرِ اخْتِيَارًا حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْقَلْبِ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ضَرُورَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْسُبَهُ إلَيْهِ اخْتِيَارًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَصْدِيقًا، وَنَحْنُ إذَا قَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ فِعْلِ اللِّسَانِ لَا نَفْهَمُ مِنْ نِسْبَةِ الصِّدْقِ إلَى الْمُتَكَلِّمِ إلَّا قَوْلٌ حُكْمُهُ الْإِذْعَانُ لَهُ، وَبِالْجُمْلَةِ الْمَعْنَى الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْفَارِسِيَّةِ بكرويدن تَصْدِيقٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلْقَلْبِ اخْتِيَارٌ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَإِنْ

(وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شَبِيهًا لِلْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حُسْنُهَا بِالْغَيْرِ، وَهُوَ دَفْعُ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَقَهْرُ النَّفْسِ وَزِيَارَةُ الْبَيْتِ، لَكِنَّ الْفَقِيرَ وَالْبَيْتَ لَا يَسْتَحِقَّانِ هَذِهِ الْعِبَادَةَ، وَالنَّفْسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَحْسُنُ قَهْرُهَا فَارْتَفَعَ الْوَسَائِطُ فَصَارَتْ تَعَبُّدًا ـــــــــــــــــــــــــــــQقِيلَ لِمَ جُعِلَ الْإِقْرَارُ الَّذِي هُوَ عَمَلُ اللِّسَانِ دَاخِلًا فِي الْإِيمَانِ بِخِلَافِ أَعْمَالِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ فَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَصْفٌ لِلْإِنْسَانِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَالتَّصْدِيقُ عَمَلُ الرُّوحِ فَجُعِلَ عَمَلُ شَيْءٍ مِنْ الْجَسَدِ أَيْضًا دَاخِلًا فِيهِ تَحْقِيقًا لِكَمَالِ اتِّصَالِ الْإِنْسَانِ بِالْإِيمَانِ وَتَعَيَّنَ فِعْلُ اللِّسَانِ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ لِلْبَيَانِ، وَإِظْهَارِ مَا فِي الْبَاطِنِ بِحَسَبِ الْوَضْعِ، وَلِهَذَا جُعِلَ الْحَمْدُ الَّذِي هُوَ فِعْلُ اللِّسَانِ رَأْسَ الشُّكْرِ، وَفِي التَّمْثِيلِ بِالْإِيمَانِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْحَسَنَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَتَوَقَّفَ إدْرَاكُ الْفِعْلِ حُسْنَهُ عَلَى وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ أَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ، فَإِنَّ حُسْنَ الْإِيمَانِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ مُدْرَكٌ بِالْعَقْلِ نَفْسِهِ. (قَوْلُهُ: كَالزَّكَاةِ) يُرِيدُ أَنَّ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْحُسْنِ فِي التَّصْدِيقِ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، ثُمَّ فِي الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ مِنْ الْإِيمَانِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، ثُمَّ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ لَكِنَّهَا حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا بِحَيْثُ لَا تُشْبِهُ الْحَسَنَ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، فَإِنَّهَا مَعَ احْتِمَالِ سُقُوطِهَا وَعَدَمِ رُكْنِيَّتِهَا تُشْبِهُ الْحَسَنَ لِغَيْرِهِ، فَالصَّلَاةُ حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا لِكَوْنِهَا تَعْظِيمًا لِلْبَارِي وَشُكْرًا لِلْمُنْعِمِ وَعِبَادَةً لِمَنْ يَسْتَحِقُّهَا لَا يُقَالُ حُسْنُهَا بِوَاسِطَةِ اسْتِحْقَاقِ الْمَعْبُودِ الَّذِي لَا تَحْسُنُ لِغَيْرِهِ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا لَا يُنَافِي الْحُسْنَ لِعَيْنِهَا بَلْ يُؤَكِّدُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ لِعَيْنِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَالْكُفْرُ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ وَبِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ فَالْمُتَّصِفُ بِالْحُسْنِ هُوَ الْأَفْعَالُ الْمُضَافَةُ الَّتِي وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا إلَّا أَنَّ مِنْهَا مَا يَحْسُنُ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ الْمُضَافِ كَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ الْمَأْمُورِ بِهِمَا، وَمِنْهَا مَا يَحْسُنُ لِغَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ بِالْأَمْرِ هُوَ ذَلِكَ الْغَيْرُ لَا نَفْسُ الْفِعْلِ الْمُضَافِ كَالْوُضُوءِ وَالْجِهَادِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ فَكُلٌّ مِنْهَا حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْحَسَنَ بِالْغَيْرِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّهُ حَسَنٌ بِالْغَيْرِ إلَّا أَنَّهُ الِاعْتِبَارُ بِحُسْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ حَتَّى إنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، فَصَارَ كُلٌّ مِنْهَا كَأَنَّهُ حَسَنٌ لَا بِوَاسِطَةِ أَمْرٍ فَجُعِلَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَهَاهُنَا مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ لَيْسَتْ حَسَنَةً بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِهَا بَلْ بِوَاسِطَةِ أُمُورٍ يَعْرِفُ الْعَقْلُ أَنَّهَا الْمَطْلُوبَةُ بِالْأَمْرِ وَالْمُتَّصِفَةُ بِالْحُسْنِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ، وَأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ حَتَّى كَانَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ هُوَ نَفْسُ الْأَفْعَالِ الَّتِي وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي نَفْسِهَا تَنْقِيصٌ لِلْمَالِ إنَّمَا تَحْسُنُ بِوَاسِطَةِ حُسْنِ دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ، وَالصَّوْمُ فِي نَفْسِهِ إضْرَارٌ بِالنَّفْسِ وَمَنْعٌ لَهَا عَمَّا أَبَاحَ لَهَا مَالِكُهَا مِنْ النِّعَمِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِوَاسِطَةِ حُسْنِ قَهْرِ

مَحْضًا لِلَّهِ تَعَالَى) يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّكُمْ إنْ أَرَدْتُمْ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ الْحُسْنُ لِذَاتِ الْفِعْلِ أَوْ لِجُزْئِهِ لَا تَكُونُ الزَّكَاةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ هَذَا الْقِسْمِ إذَا بَيَّنْتُمْ أَنَّ جِهَةَ حُسْنِهَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا كَوْنُهَا تَعَبُّدًا مَحْضًا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ عَيْنُهَا حَسَنًا لِكَوْنِهَا مَأْمُورًا بِهَا لَا لِذَاتِهَا وَلَا لِجُزْئِهَا، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَوْنَ الْفِعْلِ مَأْمُورًا بِهِ فَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ الَّتِي هِيَ أَعْدَى أَعْدَاءِ الْإِنْسَانِ زَجْرًا لَهَا عَنْ ارْتِكَابِ الْمَنْهِيَّاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَالْحَجُّ فِي نَفْسِهِ قَطْعٌ لِلْمَسَافَةِ إلَى أَمْكِنَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَزِيَارَةٌ لَهَا بِمَنْزِلَةِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَزِيَارَةِ الْبُلْدَانِ وَالْأَمَاكِنِ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِوَاسِطَةِ زِيَارَةِ الْبَيْتِ الشَّرِيفِ الْمُكَرَّمِ بِتَكْرِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ وَإِضَافَتِهِ إلَيْهِ فَفِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْفَقِيرَ وَالْبَيْتَ وَإِنْ كَانَ يَسْتَحِقَّانِ الْإِحْسَانَ وَالزِّيَارَةَ نَظَرًا إلَى الْفَقْرِ وَالشَّرَفِ لَكِنَّهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ هَذِهِ الْعِبَادَةَ أَعْنِي الزَّكَاةَ وَالْحَجَّ إذْ الْعِبَادَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: الْفَقِيرُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْإِحْسَانَ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، وَالْبَيْتُ لَا يَسْتَحِقُّ الزِّيَارَةَ وَالتَّعْظِيمَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ بَيْتٌ كَسَائِرِ الْبُيُوتِ، وَالنَّفْسُ وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ الْفِطْرَةِ مَحَلًّا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ إلَّا أَنَّهَا لِلْمَعَاصِي أَقْبَلُ وَإِلَى الشَّهَوَاتِ أَمْيَلُ حَتَّى كَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَمْرٍ جِبِلِّيٍّ لَهَا فَكَأَنَّهَا مَجْبُولَةٌ عَلَى الْمَعَاصِي بِمَنْزِلَةِ النَّارِ عَلَى الْإِحْرَاقِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْسُنُ قَهْرُهَا فَسَقَطَ حُسْنُ دَفْعِ الْحَاجَةِ وَزِيَارَةِ الْبَيْتِ وَقَهْرِ النَّفْسِ عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ، وَصَارَ كُلٌّ مِنْ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ وَعِبَادَةً خَالِصَةً بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذِهِ الْوَسَائِطَ لَمْ تُعْتَبَرْ لِأَنَّهُ لَا دَخْلَ فِيهَا لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ وَاخْتِيَارِهِ فَلَمْ يُجْعَلْ الْحُسْنُ بِاعْتِبَارِهَا، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْوَسَائِطَ هِيَ دَفْعُ الْحَاجَةِ، وَقَهْرُ النَّفْسِ وَزِيَارَةُ الْبَيْتِ، وَهِيَ بِاخْتِيَارِهِ لَا نَفْسَ الْحَاجَةِ وَشَهْوَةَ النَّفْسِ وَشَرَفَ الْأَمْكِنَةِ مِمَّا لَا دَخْلَ فِيهِ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَةِ وَقَهْرَ النَّفْسِ وَزِيَارَةَ الْبَيْتِ نَفْسُ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ فَكَيْفَ تَكُونُ وَسَائِطَ حُسْنِهَا، وَإِنَّمَا الْوَسَائِطُ هِيَ الْحَاجَةُ وَالشَّهْوَةُ وَشَرَفُ الْمَكَانِ، وَلَا اخْتِيَارَ لِلْعَبْدِ فِيهَا وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الْوَاسِطَةُ مَا يَكُونُ حُسْنُ الْفِعْلِ لِأَجْلِ أَحْسَنِهَا، وَظَاهِرٌ أَنَّ نَفْسَ الْحَاجَةِ أَوْ الشَّهْوَةِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلِهَذَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْوَسَائِطَ هِيَ لِدَفْعِ الْقَهْرِ وَالزِّيَارَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ نَفْسَ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَفِي عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْوَسَائِطَ هِيَ قَهْرُ النَّفْسِ وَحَاجَةُ الْفَقِيرِ وَشَرَفُ الْمَكَانِ، وَالْمَقْصُودُ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ: يَرِدُ عَلَيْهِ) قَدْ خَرَّجَ بِمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِيرَادِ، وَهُوَ أَنَّ حُسْنَ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهَا بِدَلَالَةِ الْعَقْلِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا حَسَنَةٌ لَا بِوَاسِطَةِ

وَلَا يَسْتَقِيمُ تَقْسِيمُ الْحَسَنِ إلَى الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ الْمَأْمُورَاتِ حَسَنَةٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْجَوَابُ عَنْهُ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ حُسْنَ الْفِعْلِ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ، وَعِنْدَنَا لَا بَلْ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَسَنًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَدْلًا وَإِحْسَانًا قَبْلَ الْأَمْرِ لَكِنَّهُ خَفِيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهَا، فَأُلْحِقَتْ بِمَا هُوَ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ كَالصَّلَاةِ، وَجُعِلَتْ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ لَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَمَّا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَدْ أَجَابَ بِوَجْهَيْنِ حَاصِلُ الْأَوَّلِ أَنَّا لَا نَجْعَلُ جِهَةَ حُسْنِهَا كَوْنَهَا مَأْمُورًا بِهَا بَلْ نَسْتَدِلُّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا حَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ جِهَةَ حُسْنِهَا كَمَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَحَاصِلُ الثَّانِي أَنَّ كُلَّ مَا أَمَرَ بِهِ الشَّارِعُ فَالْإِتْيَانُ بِهِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالَ أَمْرِهِ حَسَنٌ لِذَاتِهِ فَيَحْسُنُ الْإِتْيَانُ بِالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ لِكَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ لَا يَحْسُنُ ذَلِكَ عَقْلًا بَلْ الشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ وَحُسْنِهَا، فَالْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَكُونُ حُسْنُهُ لِعَيْنِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ، وَنَوْعٌ يَكُونُ حُسْنُهُ لِكَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي حُسْنِ هَذَا النَّوْعِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِهِ لِأَجْلِ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ لُزُومُ حُسْنِ جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يُؤْتَى بِهِ لَا عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ كَالْوُضُوءِ لِلتَّبَرُّدِ فَيَحْسُنُ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَيْدِ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ صَارَ النَّوْعُ الثَّانِي مُغَايِرًا لِلنَّوْعِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ أَيْضًا حَسَنٌ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ النَّوْعَانِ وَإِنْ تَبَايَنَا بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ وَالِاعْتِبَارِ فَلَا تَبَايُنَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُصُولِ لِأَمْرٍ وَاحِدٍ كَالْإِيمَانِ يَحْسُنُ لِذَاتِهِ وَلِكَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْأَوَّلُ يَثْبُتُ قَبْلَ الشَّرْعِ دُونَ الثَّانِي، وَعَلَى هَذَا لَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْحَسَنِ لِذَاتِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ كَالْوُضُوءِ الْمَنْوِيِّ حَسَنٌ لِذَاتِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَلِغَيْرِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ الْإِتْيَانُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذْ الْعَبْدُ إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَإِحْدَاثِهِ فَمَا مَعْنَى الْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَالْإِتْيَانُ هُوَ نَفْسُ الْمَأْمُورِ بِهِ.؟ قُلْنَا قَدْ سَبَقَ أَنَّ هَاهُنَا مَعْنًى مَصْدَرِيًّا وَمَعْنًى حَاصِلًا بِالْمَصْدَرِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْإِيقَاعُ، وَالثَّانِي هُوَ الْهَيْئَةُ الْمُوقِعَةُ، فَأَرَادُوا بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْحَاصِلِ بِالْمَصْدَرِ كَالْحَرَكَةِ بِمَعْنَى الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ وَبِالْإِتْيَانِ بِهِ إيقَاعَهُ وَإِحْدَاثَهُ، فَإِنْ قِيلَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ الْحَسَنُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَعَ أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ قُلْنَا الْمَأْمُورُ بِهِ فِي التَّحْقِيقِ هُوَ الْإِيقَاعُ وَالْإِحْدَاثُ فَحُسْنُهُ

[الحسن لمعنى في غيره]

عَنْ الْعَقْلِ فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَمْرِ فَالْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهَا دَالٌّ عَلَى حُسْنِهَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا عَلَى مَا يَأْتِي فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا لَكِنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَالثَّانِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْيَانٌ بِالْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكَ مُخَالَفَتِهِ مِمَّا يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِحُسْنِهِ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ، فَإِنَّ شُكْرَ الْمُنْعِمِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحَسَنٍ عَقْلًا، فَأَدَاءُ الزَّكَاةِ يَكُونُ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إتْيَانٌ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ إنَّمَا يَحْسُنُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَصْدُقُ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْحَسَنِ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ أَنَّهُ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ حَسَنًا إمَّا لِعَيْنِهِ، وَإِمَّا لِجُزْئِهِ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِكَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْمَعْنَيَانِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُ حَسَنٌ لِعَيْنِهِ وَإِتْيَانٌ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَقَدْ يُوجَدُ الْأَوَّلُ بِدُونِ الثَّانِي، وَإِذَا أَتَى بِهِ لِكَوْنِهِ حَسَنًا لِعَيْنِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ لَكِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ، وَأَيْضًا عَلَى الْعَكْسِ فِي الْحَسَنِ لَا لِجُزْئِهِ، وَلَا لِعَيْنِهِ لَكِنْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَقَدْ أَتَى بِهِ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ كَالْوُضُوءِ فَعُلِمَ فَسَادُ مَا قَالَ أَنَّ كُلَّ الْمَأْمُورَاتِ حَسَنَةٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQحُسْنُ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كُلٌّ مِنْ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ عِبَادَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَالْعِبَادَةُ حَسَنَةٌ لِعَيْنِهَا فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهَا حَسَنًا لِجُزْئِهِ فَيَكُونُ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ التَّكَلُّفَاتِ قُلْنَا كَوْنُهُ عِبَادَةً مَخْصُوصَةً لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْعِبَادَةِ جُزْءًا مِنْهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا عَنْهُ صَادِقًا عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ إذْ لَيْسَتْ جُزْءًا مِنْ مَفْهُومِ شَيْءٍ مِنْهَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. (قَوْلُهُ: يَقْتَضِي كَوْنَهُ عَدْلًا وَإِحْسَانًا) لَا نِزَاعَ لِلْأَشْعَرِيِّ فِي كَوْنِ الْعَدْلِ عَدْلًا وَالْإِحْسَانِ إحْسَانًا قَبْلَ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي كَوْنِهِ مَنَاطًا لِلْمَدْحِ عَاجِلًا وَالثَّوَابِ آجِلًا. (قَوْلُهُ: فَالْأَمْرُ بِالزَّكَاةِ وَأَمْثَالِهَا دَالٌّ عَلَى حُسْنِهَا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَمْرٌ مُطْلَقٌ بَلْ الْعَقْلُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ بِهَا لِدَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَنَحْوِهِ. [الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ] (قَوْلُهُ: فَذَلِكَ الْغَيْرُ إمَّا مُنْفَصِلٌ) عِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَضَرْبٌ مِنْهُ مَا هُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مَقْصُودٌ لَا يَتَأَدَّى بِاَلَّذِي قَبْلَهُ بِحَالٍ أَيْ بِالْمَأْمُورِ بِهِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، وَضَرْبٌ مِنْهُ مَا هُوَ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَكِنَّهُ أَيْ: ذَلِكَ الْغَيْرُ يَتَأَدَّى بِنَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ أَنْ لَا يَتَأَدَّى بِالْإِتْيَانِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى إتْيَانٍ بِهِ عَلَى حِدَةٍ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِ مُنْفَصِلًا فَيَكُونُ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِهِ، وَظَاهِرٌ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ مَا لَا يَفْتَقِرُ فِي التَّحَيُّزِ وَالْإِشَارَةِ إلَى التَّبَعِيَّةِ لِلْغَيْرِ كَالْجَوَاهِرِ لِأَنَّ مِثْلَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ مَثَلًا عَرْضٌ فَكَيْفَ

يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا أَتَى بِهِ لِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ، فَالْوُضُوءُ الْغَيْرُ الْمَنْوِيِّ حَسَنٌ لِغَيْرِهِ عِنْدَنَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ، وَالْمَنْوِيُّ بِنِيَّةِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنٌ لِغَيْرِهِ، وَلِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ إتْيَانٌ بِالْمَأْمُورِ بِهِ. (حَتَّى شُرِطَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ) فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ يُشْتَرَطُ لَهَا الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي فَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ الْحَسَنُ لِغَيْرِهِ. (فَذَلِكَ الْغَيْرُ إمَّا مُنْفَصِلٌ عَنْ هَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ) كَأَدَاءِ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَنْ السَّعْيِ، وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ تَغْيِيرٌ، وَقَدْ كَانَتْ قَبْلَ التَّغْيِيرِ هَكَذَا فَذَلِكَ الْغَيْرُ إمَّا قَائِمٌ بِنَفْسِهِ مُنْفَصِلٌ عَنْ هَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ، فَأَسْقَطْتُ قَوْلِي إمَّا قَائِمٌ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَاضَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا فَالْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَائِمًا بِهَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ فَقَوْلُهُ: مُنْفَصِلٌ يَكُونُ مُكَرَّرًا. (كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ حَسَنٌ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فَالْوُضُوءُ حَسَنٌ لِلصَّلَاةِ وَلَيْسَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً حَيْثُ يَسْقُطُ بِسُقُوطِهَا فَلَا يَحْتَاجُ فِي كَوْنِهِ وَسِيلَةً لَهَا إلَى النِّيَّةِ، وَإِمَّا قَائِمٌ بِهَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ كَالْجِهَادِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ لِقَضَاءِ حَقِّ الْمَيِّتِ حَتَّى إنْ أَسْلَمَ الْكُفَّارُ بِأَجْمَعِهِمْ لَا يُشْرَعُ الْجِهَادُ، وَإِنْ قَضَى الْبَعْضُ حَقَّ الْمَيِّتِ يَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ يَتَأَدَّى بِعَيْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ هَذَا الضَّرْبُ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَيْرُ قَائِمًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ. (لَا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْغَيْرُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ. (شَبِيهًا بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَجْهُ الْمُشَابَهَةِ أَنَّ مَفْهُومَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَقُومُ بِنَفْسِهِ، وَكَانَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ: إمَّا مُنْفَصِلٌ، وَإِمَّا غَيْرُ مُنْفَصِلٍ لَكِنَّهُ قَالَ: وَإِمَّا قَائِمٌ بِهَذَا الْمَأْمُورِ بِهِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ وَبِالْمَأْمُورِ بِهِ الْمُنْفَصِلُ عَنْهُ وَغَيْرُ الْمُنْفَصِلِ. (قَوْلُهُ: فَلَا يَحْتَاجُ) أَيْ الْوُضُوءُ فِي كَوْنِهِ وَسِيلَةً لِلصَّلَاةِ إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تَفْتَقِرُ إلَى الْوُضُوءِ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ طَهَارَةً لَا بِاعْتِبَارِ وَصْفِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ عِبَادَةً، وَالْمُفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ هُوَ وَصْفُهُ لَا ذَاتُهُ. (قَوْلُهُ: كَالْجِهَادِ) فَإِنَّهُ يَحْسُنُ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ تَحْسُنُ بِوَاسِطَةِ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ قَضَاءُ حَقِّ الْمَيِّتِ، فَالْغَيْرَانِ أَمْرَانِ حَسَنَانِ حَاصِلَانِ بِنَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْنِي الْجِهَادَ وَالصَّلَاةَ لَا يَنْفَصِلَانِ عَنْهُمَا، وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمَا إنَّمَا صَارَا حَسَنَيْنِ لِمَعْنَى كُفْرِ الْكَافِرِ وَإِسْلَامِ الْمَيِّتِ، وَذَلِكَ مَعْنًى مُنْفَصِلٌ عَنْ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنْ لَيْسَ كُفْرُ الْكَافِرِ وَإِسْلَامُ الْمَيِّتِ مِمَّا يَتَأَدَّى بِنَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْنِي الْجِهَادَ وَالصَّلَاةَ، وَأَنْ لَا مَعْنَى لِبَيَانِ الِانْفِصَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ عَدَمَ الِانْفِصَالِ بِمَعْنَى تَأَدِّيهِ بِنَفْسِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَعَدَمِ قِيَامِهِ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِالِانْفِصَالِ التَّغَايُرَ، وَالتَّبَايُنَ تَحْقِيقًا لِكَوْنِ حُسْنِ الْجِهَادِ وَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ بِالْغَيْرِ. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ) يَعْنِي أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْحَسَنَ لِغَيْرِهِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ مُغَايِرٌ لِذَلِكَ الْغَيْرِ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ، فَإِنْ كَانَ مُغَايِرًا

الْجِهَادِ وَهُوَ الْقَتْلُ وَالضَّرْبُ وَأَمْثَالُهُمَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ مَفْهُومَ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ فِي الْخَارِجِ صَارَ هَذَا الْقَتْلُ وَالضَّرْبُ إعْلَاءَ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ السَّعْيَ فِي الْمَفْهُومِ غَيْرُ الْأَدَاءِ لَكِنْ فِي الْخَارِجِ عَيْنُهُ، وَكَمَا أَنَّ الْحَيَوَانَ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَفْهُومِ غَيْرُ النَّاطِقِ وَالْكَاتِبِ لَكِنْ فِي الْخَارِجِ هُوَ عَيْنُهُمَا فَالْجِهَادُ حَقِيقَةٌ، وَهِيَ الْقَتْلُ لَيْسَتْ حَسَنَةً لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا لَكِنْ فِي الْخَارِجِ، وَهُوَ عَيْنُ الْإِعْلَاءِ، وَالْإِعْلَاءُ حَسَنٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَشَابَهَ هَذَا الضَّرْبُ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ لَا الضَّرْبَ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَفْهُومِ، وَفِي الْخَارِجِ. (وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى الْحُسْنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ. (يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَيُصْرَفُ عَنْهُ إنْ دَلَّ الدَّلِيلُ) أَيْ الَّذِي لَا يَقْبَلُ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ مِنْ الْحَسَنِ بِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ. لِأَنَّ كَمَالَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي كَمَالَ صِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَمَّا عُلِمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ لَزِمَ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَكُونُ أَمْرًا كَامِلًا بِأَنْ يَكُونَ لِلْإِيجَابِ، فَأَمَّا الْأَمْرُ الَّذِي لِلْإِبَاحَةِ أَوْ النَّدْبِ فَنَاقِصٌ فِي كَوْنِهِ أَمْرًا إذَا ثَبَتَ هَذَا، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْحُسْنَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ أَيْ لَوْ لَمْ يَكُنْ الشَّيْءُ حَسَنًا لَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ (فَيَكُونُ الْأَمْرُ الْكَامِلُ) أَيْ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ لِلْإِيجَابِ (مُقْتَضِيًا لِلْحُسْنِ الْكَامِلِ) ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَيْثُ يَكُونُ فِي فِعْلِهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِي تَرْكِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ لَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQلَهُ بِحَسَبِ الْخَارِجِ أَيْضًا كَأَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالسَّعْيِ فَلَا شَبَهَ لَهُ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُغَايِرًا لَهُ بِحَسَبِ الْخَارِجِ كَالْجِهَادِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فِي الْخَارِجِ عَيْنَ ذَلِكَ الْغَيْرِ الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ جُعِلَ هَذَا الْقِسْمُ مِنْ قَبِيلِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ الشَّبِيهِ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ دُونَ الْعَكْسِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ.؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ لَا جِهَةَ هُنَا لِارْتِفَاعِ الْوَسَائِطِ وَصَيْرُورَتِهَا فِي الْحُكْمِ الْعَدَمَ بِخِلَافِهَا ثَمَّةَ، وَقَدْ يُقَالُ لِأَنَّ الْوَاسِطَةَ هَاهُنَا كُفْرُ الْكَافِرِ، وَإِسْلَامُ الْمَيِّتِ، وَهُمَا اخْتِيَارُ الْعَبْدِ، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا فِيهِ. (قَوْلُهُ: وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ) عِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ فِي اقْتِضَاءِ صِفَةِ الْحُسْنِ يَتَنَاوَلُ الضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي كَمَالَ صِفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَكَذَلِكَ كَوْنُهُ عِبَادَةً يَقْتَضِي هَذَا الْمَعْنَى، وَيَحْتَمِلُ الضَّرْبَ الثَّانِيَ بِدَلِيلٍ فَحَمَلَ الْمُصَنِّفُ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ عَلَى الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَالضَّرْبَ الْأَوَّلَ مِنْهُ عَلَى مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ وَعَدَلَ عَنْ قَوْلِهِ: وَيَحْتَمِلُ الضَّرْبُ الثَّانِي إلَى قَوْلِهِ: وَيُصْرَفُ عَنْهُ لِيَشْمَلَ الْحَسَنَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالْجِهَادِ، وَمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَوْ يُشْبِهُ الْحَسَنَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَفِي الْجِهَادِ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ حَسَنًا لِغَيْرِهِ، وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى احْتِمَالِ سُقُوطِ التَّكْلِيفِ، وَفِي الزَّكَاةِ عَلَى كَوْنِهَا شَبِيهَةً بِالْحَسَنِ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ اسْتِدْلَالَهُ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ

[فصل التكليف بما لا يطاق]

فِعْلَهُ لِيَكُونَ الْإِيجَابُ مُحَصِّلًا لِفِعْلِهِ، وَمَانِعًا مِنْ تَرْكِهِ فَالْإِيجَابُ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ الْعِنَايَةِ بِوُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَكَمَالُ الْعِنَايَةِ بِوُجُودِ الْمَأْمُورِ بِهِ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ حُسْنِهِ، وَكَمَالُ الْحُسْنِ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ. (وَكَوْنُهُ عِبَادَةً يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا) وَقَوْلُهُ: ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إتْيَانٌ بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْت فِي الْأَوَّلِ لَفْظَ يَقْتَضِي، وَفِي الثَّانِي يُوجِبُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ، وَالثَّانِي مُوجِبُ الْأَمْرِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَهْلِ التَّحْصِيلِ. (فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَمْرُ بِالْجُمُعَةِ يُوجِبُ صِفَةَ حُسْنِهَا، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْرُوعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَّا هِيَ فَلَا يَجُوزُ ظُهْرُ غَيْرِ الْمَعْذُورِ إذَا لَمْ تَفُتْ الْجُمُعَةُ، وَلَمَّا لَمْ يُخَاطَبْ الْمَعْذُورُ بِالْجُمُعَةِ) فَإِذَا أَدَّى الظُّهْرَ (لَمْ يَنْتَقِضْ بِالْجُمُعَةِ قُلْنَا لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ قَضَاءَ الظُّهْرِ لَا الْجُمُعَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الظُّهْرُ لَكِنَّا أُمِرْنَا بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ مُقَامَهُ فِي الْوَقْتِ فَصَارَتْ مُقَرِّرَةً لَهُ لَا نَاسِخَةً، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ لِعُمُومِ {فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] لَكِنْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْجُمُعَةُ رُخْصَةً فَإِذَا أَتَى بِالْعَزِيمَةِ صَارَ كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ فَانْتَقَضَ الظُّهْرُ) . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي مَا ذَكَرَهُ، وَالْخِلَافُ هُنَا فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَعْذُورِ إذَا أَدَّى الظُّهْرَ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ فَوَاتِ الْجُمُعَةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQعِبَادَةً يُوجِبُ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى كَوْنِهِ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى عَدَمِ احْتِمَالِهِ سُقُوطَ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَلِذَا صَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِعَدَمِ احْتِمَالِ سُقُوطِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَذَكَرَ فِي شُرُوحِ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّرْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ هُوَ مَا يَحْسُنُ لِعَيْنِهِ حَقِيقَةً لَا مَا أُلْحِقَ بِهِ حُكْمًا، وَهُوَ الشَّبِيهُ بِالْحَسَنِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِالضَّرْبِ الثَّانِي مَا يُقَابِلُ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ أَعْنِي: مَا يَكُونُ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ، وَمِثْلُ هَذَا غَيْرُ عَزِيزٍ فِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا) هُوَ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ مُتَقَدِّمٌ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّيْءَ يَكُونُ حَسَنًا، ثُمَّ يَتَعَلَّقُ بِهِ، الْأَمْرُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَا هُوَ حَسَنٌ، وَالْمُوجِبُ مُتَأَخِّرٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ يُوجِبُ حُسْنَهُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِهِ، وَهَذَا مَا يُقَالُ: إنَّ حُسْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَنَا مِنْ مَدْلُولَاتِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ مِنْ مُوجِبَاتِهِ. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا لَمْ يُخَاطَبْ الْمَعْذُورُ بِالْجُمُعَةِ) مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ عَيْنًا بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الظُّهْرِ فَإِذَا أَدَّى أَحَدَهُمَا انْدَفَعَ الْآخَرُ [فَصْلٌ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَنَّ مِنْ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ ضَرْبًا ثَالِثًا يُسَمَّى الْجَامِعَ، وَهُوَ مَا يَكُونُ حَسَنًا لِحُسْنِ شَرْطِهِ بَعْدَمَا كَانَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ، وَهِيَ

هَذَا الْيَوْمِ الْجُمُعَةُ عِنْدَهُ، وَالظُّهْرُ عِنْدَنَا، وَدَلِيلُنَا فِي الْمَتْنِ مَذْكُورٌ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمَعْذُورَ إذَا أَدَّى الظُّهْرَ هَلْ يَنْتَقِضُ إذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ أَمْ لَا فَعِنْدَهُ لَا، وَعِنْدَنَا يَنْتَقِضُ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسَّعْيِ يَعُمُّ الْمَعْذُورَ وَغَيْرَ الْمَعْذُورِ فَالْعَزِيمَةُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ مَقَامَ الظُّهْرِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لَكِنَّ هَذَا سَاقِطٌ مِنْ الْمَعْذُورِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ فَإِذَا حَضَرَ الْجُمُعَةَ صَارَ كَغَيْرِ الْمَعْذُورِ فَانْتَقَضَ الظُّهْرُ (فَصْلٌ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ غَيْرُ جَائِزٍ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الْحَكِيمِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ اتِّفَاقًا وَاقِعٌ عِنْدَهُ فِي غَيْرِهِ) أَيْ وَاقِعٌ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ فِي غَيْرِ الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ. (كَإِيمَانِ أَبِي جَهْلٍ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ هَذَا تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ تَأْثِيرًا فِي أَفْعَالِهِ تَوَسُّطًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْعَبْدُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ، وَحَاصِلُ كَلَامِهِ أَنَّ وُجُوبَ أَدَاءِ الْعِبَادَةِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقُدْرَةِ تَوَقُّفَ وُجُوبِ السَّعْيِ عَلَى وُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَصَارَ حَسَنًا لِغَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهِ حَسَنًا لِذَاتِهِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مَبَاحِثَ الْقُدْرَةِ وَتَفَارِيعَهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِيهِ نَوْعَ تَكَلُّفٍ، وَأَنَّ جَعْلَهُ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْحَسَنِ لِذَاتِهِ، فَلِذَا أَفْرَدَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِتِلْكَ الْمَبَاحِثِ فَصْلًا عَلَى حِدَةٍ، وَذَكَرَ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ أَيْ: لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزٍ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِالشَّيْءِ اسْتِدْعَاءُ حُصُولِهِ، وَاسْتِدْعَاءُ مَا لَا يُمْكِنُ حُصُولُهُ سَفَهٌ فَلَا يَلِيقُ بِالْحَكِيمِ بِنَاءً عَلَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْعَقْلِيَّيْنِ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَمِ وُقُوعِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَ {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَكُلُّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعَدَمِ وُقُوعِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ، وَإِلَّا لَزِمَ إمْكَانُ كَذِبِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَإِمْكَانُ الْمُحَالِ مُحَالٌ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ، وَإِلَّا فَالظَّاهِرُ مِنْهَا الدَّلَالَةُ عَلَى عَدَمِ الْوُقُوعِ دُونَ عَدَمِ الْجَوَازِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَصْرِيحُ الْأَشْعَرِيِّ بِتَكْلِيفِ الْمُحَالِ إلَّا أَنَّهُ نَسَبَ إلَيْهِ الْأَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ بَلْ هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ لَا قَبْلَهُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ، وَالتَّكْلِيفُ قَبْلَ الْفِعْلِ لَا مَعَهُ لِأَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْفِعْلِ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ حَالَ التَّكْلِيفِ مُسْتَطِيعٌ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ) مَا لَا يُطْلَقُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا لِذَاتِهِ كَإِعْدَامِ الْقَدِيمِ وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِهِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ أَيْضًا شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ نَاطِقَةٌ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُمْتَنِعًا لِغَيْرِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ عَنْ الْمُكَلَّفِ لِانْتِفَاءِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ التَّكْلِيفَ بِهِ غَيْرُ وَاقِعٍ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ، وَلَا نِزَاعَ فِي وُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَقَعَ أَوْ أَخْبَرَ بِذَلِكَ كَبَعْضِ تَكَالِيفِ

بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ) ، وَقَدْ سَبَقَ تَقْرِيرُهُ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ، فَإِنْ قِيلَ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لَازِمٌ عَلَى تَقْدِيرِ التَّوَسُّطِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إيجَادِ الْفِعْلِ بَلْ يُوجَدُ بِخَلْقِ اللَّهِ فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ قُلْنَا: نَعَمْ، لَكِنْ لِلْعَبْدِ قَصْدٌ اخْتِيَارِيٌّ فَالْمُرَادُ بِالتَّكْلِيفِ بِالْحَرَكَةِ التَّكْلِيفُ بِالْقَصْدِ إلَيْهَا، ثُمَّ بَعْدَ الْقَصْدِ الْجَازِمِ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَكَةَ أَيْ: الْحَالَةَ الْمَذْكُورَةَ بِإِجْرَاءِ عَادَتِهِ أَوْ التَّكْلِيفُ بِالْحَرَكَةِ بِنَاءً عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى سَبَبِهَا الْمُوصِلِ إلَيْهَا غَالِبًا وَهُوَ الْقَصْدُ. (عَلَى أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ حَيِّزِ الْإِمْكَانِ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ دَلِيلِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ فِي الْأَزَلِ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لَا يُؤْمِنُ أَصْلًا، فَإِنْ آمَنَ يَنْقَلِبُ عِلْمُ اللَّهِ جَهْلًا، وَهُوَ مُحَالٌ فَإِيمَانُهُ مُحَالٌ فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ يَكُونُ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعُصَاةِ وَالْكُفَّارِ، فَصَارَ حَاصِلُ النِّزَاعِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ هَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَا لَا يُطَاقُ حَتَّى يَكُونَ التَّكْلِيفُ الْوَاقِعُ بِهِ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ أَمْ لَا، فَعِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ مِمَّا يُطَاقُ بِمَعْنَى أَنَّ الْعَبْدَ قَادِرٌ عَلَى الْقَصْدِ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ الْفِعْلَ عَقِيبَ قَصْدِهِ، وَلَا مَعْنَى لِتَأْثِيرِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ إلَّا هَذَا عَلَى مَا سَبَقَ فِي تَحْقِيقِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ هُوَ مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ الْمُحَالَ، وَهُوَ انْقِلَابُ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى جَهْلًا أَوْ وُقُوعُ الْكَذِبِ فِي اخْتِيَارِهِ فَإِيمَانُ أَبِي جَهْلٍ مُحَالٌ، وَهُوَ مُكَلَّفٌ بِهِ فَالتَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُطَاقُ وَاقِعٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِعَدَمِ إيمَانِهِ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْإِمْكَانِ أَيْ: عَنْ كَوْنِهِ مَقْدُورًا لِأَبِي جَهْلٍ وَمُخْتَارًا لَهُ بِمَعْنَى صِحَّةِ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُحْدِثُهُ عَقِيبَ قَصْدِهِ، وَإِنَّمَا فُسِّرَ الْإِمْكَانُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَلَى الْإِمْكَانِ الذَّاتِيِّ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَقَوْلُهُ: الْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الْجَوَابِ إلَّا أَنَّهُ دَفْعٌ لِمَا يُقَالُ أَنَّ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ ضَرُورَةَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا مُتَعَلِّقٌ بِوُجُودِ الْفِعْلِ فَيَجِبُ أَوْ بِعَدَمِهِ فَيَمْتَنِعُ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ بِمُسْتَطَاعٍ وَمُقَدَّرٍ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْعِلْمِ تَابِعًا لِلْمَعْلُومِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ فِي الْأَزَلِ بِكُلِّ شَيْءٍ أَنَّهُ يَكُونُ أَوْ لَا يَكُونُ، وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الْوُجُوبُ أَوْ الِامْتِنَاعُ، وَلِهَذَا صَرَّحَ الْمُحَقِّقُونَ بِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِ عِلْمِهِ تَابِعًا لِلْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُطَابَقَةَ تُعْتَبَرُ مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى طِبْقِ الْمَعْلُومِ وُقُوعًا أَوْ عَدَمَ وُقُوعٍ، وَيَكْفِي فِي الْجَوَابِ أَنَّ الْوُجُوبَ أَوْ الِامْتِنَاعَ بِوَاسِطَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إخْبَارِهِ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ أَوْ لَا يُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ وَقُدْرَتِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا وَقُدْرَةً فِي الْإِيمَانِ وَعَدَمِهِ، وَكَذَا فِي الْإِخْبَارِ، وَقَدْ يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْأَشْعَرِيِّ إنَّ أَبَا جَهْلٍ مُكَلَّفٌ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ تَصْدِيقُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي جَمِيعِ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ فَقَدْ كُلِّفَ

فَنُجِيبُ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْعِلْمُ تَابِعٌ لِلْمَعْلُومِ فَعِلْمُهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِاخْتِيَارِهِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ حَيِّزِ الْإِمْكَانِ أَيْ: عَنْ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا وَمُخْتَارًا لَهُ. (وَعِنْدَهُ لَا تَأْثِيرَ لَهَا) أَيْ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ فِي أَفْعَالِهِ. (بَلْ هُوَ مَجْبُورٌ، ثُمَّ عِنْدَنَا عَدَمُ جَوَازِهِ) أَيْ: عَدَمُ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ. (لَيْسَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَحَ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ بَلْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِحُكْمِهِ وَفَضْلِهِ، ثُمَّ الْقُدْرَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ لَا لِنَفْسِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقُدْرَةِ) وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ نَفْسِ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَأَخِّرِ. (بَلْ هُوَ يَثْبُتُ) أَيْ: نَفْسُ الْوُجُوبِ (بِالسَّبَبِ وَالْأَهْلِيَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي) أَيْ: فِي فَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ. (وَالْقُدْرَةُ نَوْعَانِ مُمَكِّنَةٌ وَمُيَسِّرَةٌ فَالْمُمَكِّنَةُ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ الْمَأْمُورُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنْ يُصَدِّقَهُ فِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ، وَهُوَ مُحَالٌ فَلَزِمَ وُقُوعُ التَّكْلِيفِ بِالْمُمْتَنِعِ بِالذَّاتِ فَضْلًا عَمَّا لَا يُطَاقُ، وَمَا ذُكِرَ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ، وَلَا مُخَلِّصَ إلَّا بِمَا قِيلَ إنَّ تَكْلِيفَهُ بِجَمِيعِ مَا أُنْزِلَ إنَّمَا كَانَ قَبْلَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَبَعْدَهُ هُوَ مُكَلَّفٌ بِمَا عَدَا التَّصْدِيقَ بِأَنَّهُ لَا يُصَدِّقُ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَهُ) أَيْ: لَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَا يُوجَدُ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ التَّكَالِيفِ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيِّ فِي أَنَّ الْعَبْدَ مَجْبُورٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا تَأْثِيرَ لِقُدْرَتِهِ أَصْلًا، وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ إذْ الْأَشْعَرِيُّ وَإِنْ قَالَ بِالْوُقُوعِ لَمْ يَقُلْ بِالْعُمُومِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ عِنْدَنَا) يَعْنِي أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ أَصْلَحُ لِعِبَادِهِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ عَدَمَ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ أَصْلَحُ فَيَكُونُ وَاجِبًا فَيَكُونُ التَّكْلِيفُ مُمْتَنِعًا، وَعِنْدَنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ أَنْ يُكَلِّفَ عِبَادَهُ بِمَا لَا يُطِيقُونَهُ أَصْلًا فَيَلْزَمُ التَّرْكُ بِالضَّرُورَةِ وَيَسْتَحِقُّوا الْعَذَابَ وَمَا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ سَفَهٌ، وَتَرْكُ إحْسَانٍ إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهُ، وَهُوَ قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ صُدُورُهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ مَعْنَى الْوُجُوبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ بَلْ اللُّزُومُ وَعَدَمُ جَوَازِ التَّرْكِ، فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ وَالْفَضْلِ قَوْلٌ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ تَفَضُّلًا عَلَى الْعِبَادِ وَإِحْسَانًا، وَهَذَا قَوْلٌ بِوُجُوبِ الْأَصْلَحِ، فَإِنْ قِيلَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّرْكُ لَكِنَّهُ يَتْرُكُ تَفَضُّلًا وَإِحْسَانًا قُلْنَا فَحِينَئِذٍ لَا يَثْبُتُ عَدَمُ الْجَوَازِ وَهُوَ الْمُدَّعِي بَلْ يَثْبُتُ عَدَمُ الْوُقُوعِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْقُدْرَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ) فَإِنْ قِيلَ نَفْسُ الْوُجُوبِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ التَّكْلِيفِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْأَمْرِ، وَالتَّكْلِيفُ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ فَكَيْفَ يَنْفَكُّ نَفْسُ الْوُجُوبِ عَنْ الْقُدْرَةِ.؟ أُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ التَّكْلِيفَ هُوَ طَلَبُ إيقَاعِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ، وَنَفْسُ الْوُجُوبِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَتَعْرِفُ مِنْ أَنَّ نَفْسَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ هُوَ لُزُومُ وُقُوعِ هَيْئَةٍ مَخْصُوصَةٍ مَوْضُوعَةٍ لِلْعِبَادَةِ عِنْدَ

عَلَى أَدَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ) أَيْ: مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ (غَالِبًا) وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِهَذَا؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ فِي الْحَجِّ مِنْ قَبِيلِ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ. (وَهِيَ شَرْطٌ لِأَدَاءِ كُلِّ وَاجِبٍ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَدَنِيًّا كَانَ أَوْ مَالِيًّا فَلِهَذَا يَجِبُ التَّيَمُّمُ مَعَ الْعَجْزِ وَالصَّلَاةُ قَاعِدًا أَوْ مُومِيًا مَعَهُ) أَيْ: مَعَ الْعَجْزِ. (وَتَسْقُطُ الزَّكَاةُ إذَا هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ اتِّفَاقًا فَعَلَى هَذَا) يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ شَرْطٌ لِأَدَاءِ كُلِّ وَاجِبٍ. (قَالَ زُفَرُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَدَاءُ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ قُلْنَا إنَّمَا يُشْتَرَطُ حَقِيقَةُ الْقُدْرَةِ لِلْأَدَاءِ إذَا كَانَ هُوَ الْفَرْضَ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْفَرْضُ الْقَضَاءُ، وَقَدْ وُجِدَ السَّبَبُ فَإِمْكَانُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِإِمْكَانِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ كَافٍ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ كَمَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِمَسِّ السَّمَاءِ) فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُضُورِ الْوَقْتِ الشَّرِيفِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ لُزُومُ إيقَاعِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّكْلِيفُ أَلَا يَرَى أَنَّ صَوْمَ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَاجِبٌ، وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَا الزَّكَاةُ قَبْلَ الْحَوْلِ الثَّانِي، إنَّ مَعْنَى اشْتِرَاطِ التَّكْلِيفِ بِالْقُدْرَةِ هُوَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِمَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ إيقَاعَهُ وَاحِدًا أَنَّهُ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا كَلَامَ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يَكُونُ مَقْدُورًا عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ، وَعِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْوُجُودِ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ التَّكْلِيفَ قَبْلَ الْفِعْلِ وَالْقُدْرَةَ مَعَهُ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ قَدْ يَنْفَكُّ) أَيْ: قَدْ يُوجَدُ نَفْسُ الْوُجُوبِ بِدُونِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقُدْرَةِ الَّتِي مَنْشَأُ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا هُوَ الْأَدَاءُ، وَهُوَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذْ لَيْسَ الْمُدَّعَى، إلَّا أَنَّ الْمُحْتَاجَ إلَى الْقُدْرَةِ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ لَا نَفْسُ الْوُجُوبِ. (قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ غَالِبًا) قَيَّدَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بِدُونِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ نَادِرًا، وَبِدُونِ الرَّاحِلَةِ كَثِيرًا لَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بِدُونِهِمَا إلَّا بِحَرَجٍ عَظِيمٍ فِي الْغَالِبِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْغَالِبِ وَالْكَثِيرِ بِأَنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ بِكَثِيرٍ نَادِرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِغَالِبٍ نَادِرًا بَلْ قَدْ يَكُونُ كَثِيرًا، وَاعْتُبِرَ بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَالْجُذَامِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ غَالِبٌ، وَالثَّانِيَ كَثِيرٌ، وَالثَّالِثَ نَادِرٌ. (قَوْلُهُ: وَهِيَ) أَيْ: الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ أَدَاءِ كُلِّ وَاجِبٍ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِدُونِهَا هِيَ مَا تَكُونُ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ فَاشْتِرَاطُ سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ قَبْلَ الْفِعْلِ يَكُونُ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَمِنَّةً. (قَوْلُهُ: فَإِمْكَانُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِإِمْكَانِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ) كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَافٍ لِلْقَضَاءِ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ إمْكَانُ الْقُدْرَةِ فِي الْحَجِّ بِدُونِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَإِمْكَانُ قُدْرَةِ الشَّيْخِ الْفَانِي عَلَى الصَّوْمِ، وَالْمُقْعَدِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَزَوَالِ عَمَى الْأَعْمَى مَعَ أَنَّ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ امْتِدَادِ الْوَقْتِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَيْضًا مُتَعَذِّرٌ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ. (قَوْلُهُ: كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْحَلِفِ بِمَسِّ السَّمَاءِ) هَذَا بِخِلَافِ يَمِينِ الْغَمُوسِ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْتَنِعُ إمْكَانُ إعَادَةِ الزَّمَانِ

لِإِمْكَانِ الْبِرِّ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا كَانَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِمْكَانُ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْبِرُّ كَافٍ لِوُجُوبِ الْخَلَفِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي شَرَطْنَاهَا مُتَقَدِّمَةً هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ فَقَطْ، وَقَدْ وُجِدَتْ هُنَا، (فَأَمَّا الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ، فَإِنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ) أَيْ: وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ إمْكَانَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ غَيْرُ كَافٍ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ بَلْ يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْقَضَاءِ وُجُودُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ فَوُجُودُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ حَاصِلٌ هُنَا؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي تُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْعِبَادَاتِ مُتَقَدِّمَةٌ هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ فَقَطْ، وَهِيَ حَاصِلَةٌ هُنَا، وَلَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا مُقَارِنَةٌ لِلْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ تَكُونُ مُقَارِنَةً لِلْمَعْلُولِ إذْ لَوْ كَانَتْ سَابِقَةً زَمَانًا يَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ. (أَوْ نَقُولُ الْقَضَاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَاضِي، وَلَوْ سُلِّمَ فَصِدْقُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مُحَالٌ إذْ بِإِعَادَةِ الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يَصِيرُ الْفِعْلُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَالِفِ مَوْجُودًا فِيهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْفِعْلِ مِنْ الشَّخْصِ بِدُونِ أَنْ يَفْعَلَ. (قَوْلُهُ: فَأَمَّا الْقُدْرَةُ الْحَقِيقِيَّةُ) قَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهُ، وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْقُدْرَةِ الْقُوَّةُ الَّتِي تَصِيرُ مُؤَثِّرَةً عِنْدَ انْضِمَامِ الْإِرَادَةِ إلَيْهَا فَهِيَ تُوجَدُ قَبْلَ الْفِعْلِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ أُرِيدَ الْقُوَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ الْمُسْتَجْمِعَةُ لِجَمِيعِ الشَّرَائِطِ فَهِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً بِالذَّاتِ بِمَعْنَى احْتِيَاجِ الْفِعْلِ إلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْفِعْلِ لِامْتِنَاعِ تَخَلُّفِ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ أَعْنِي جُمْلَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لِمَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ فَلِهَذَا قَالَ: إنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي شُرِطَ تَقَدُّمُهَا عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ هِيَ سَلَامَةُ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ لَا الْقُدْرَةُ الْمُؤَثِّرَةُ الْمُسْتَجْمِعَةُ لِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّأْثِيرِ، فَإِنْ قِيلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّكْلِيفُ مَشْرُوطًا بِالْقُدْرَةِ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ الْمُسْتَجْمِعَةِ لِجَمِيعِ الشَّرَائِطِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِهَا مُمْتَنِعٌ، وَلَا تَكْلِيفَ بِالْمُمْتَنِعِ قُلْنَا: مُعَارَضٌ بِأَنَّ الْفِعْلَ عِنْدَ جَمِيعِ شَرَائِطِ التَّأْثِيرِ وَاجِبٌ لِامْتِنَاعِ التَّخَلُّفِ، وَلَا تَكْلِيفَ بِالْوَاجِبِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ التَّرْكِ وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ التَّكْلِيفُ مَشْرُوطًا بِمَا ذَكَرْتُمْ لَمَا تَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إلَّا حَالَ الْمُبَاشَرَةِ، وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَعْصِيَ بِتَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِدُونِ الْمُبَاشَرَةِ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قَبْلَ الْمُبَاشَرَةِ مُكَلَّفٌ بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَامْتِنَاعُ الْفِعْلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْفِعْلِ مَقْدُورًا مُخْتَارًا لَهُ بِمَعْنَى صِحَّةِ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ إلَى إيقَاعِهِ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مِمَّا لَا يَصِحُّ تَعَلُّقُ قُدْرَةِ الْعَبْدِ بِهِ وَقَصْدِهِ إلَى إيجَادِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ إنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ مُمْتَنِعٌ وَمَعَهَا وَاجِبٌ فَلَا تَكْلِيفَ إلَّا بِالْمُحَالِ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَكْلِيفًا بِالْمَشْرُوطِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَفِي الثَّانِي تَكْلِيفًا بِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ. (قَوْلُهُ: أَوْ نَقُولُ) جَوَابٌ ثَالِثٌ عَنْ دَلِيلِ زُفَرَ حَاصِلُهُ مَنْعُ الْمُقَدِّمَةِ الْمَطْوِيَّةِ الْقَائِلَةِ بِأَنَّ مَا لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ

يُبْتَنَى عَلَى نَفْسِ الْوُجُوبِ لَا عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي قَضَاءِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ الصَّوْمَ، وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ هَذِهِ الْقُدْرَةِ) أَيْ: الْمُمَكِّنَةِ (لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ إذْ التَّمَكُّنُ عَلَى الْأَدَاءِ يَسْتَغْنِي عَنْ بَقَائِهَا) أَيْ: اسْتِمْرَارِهَا فَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ لِلْقَضَاءِ فَلِهَذَا إذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ فَلَمْ يَحُجَّ فَهَلَكَ الْمَالُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَجَبَ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ أَدْنَى مَا يُتَمَكَّنُ بِهِ (عَلَى هَذَا السَّفَرِ غَالِبًا) اعْلَمْ أَنَّ جَعْلَ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي شَرَطْنَاهَا مُتَقَدِّمَةً إلَخْ. (وَالْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ مَا يُوجِبُ الْيُسْرَ عَلَى الْأَدَاءِ كَالنَّمَاءِ فِي الزَّكَاةِ، وَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ إلَى الْعُسْرِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي هَلَاكِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ؛ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا شَرَطْتُمْ بَقَاءَهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ يَجِبُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَقَاءُ النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ فِي الْبَعْضِ فَلَا تَجِبُ بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِهِ فِي الْبَاقِي) ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَالسَّنَدُ هُوَ وُجُوبُ قَضَاءِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ مَعَ عَدَمِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ. (قَوْلُهُ: وَلَا يُشْتَرَطُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا آخَرَ عَنْ دَلِيلِ زُفَرَ وَأَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَجِبُ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ بِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ لِأَنَّ الْمُفْتَقِرَ إلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ وَبَقَائِهَا هُوَ حَقِيقَةُ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ فَمُسْتَغْنٍ عَنْ بَقَائِهَا بَلْ يَكْفِي مُجَرَّدُ إمْكَانِهَا وَتَوَهُّمِهَا، وَإِذَا كَانَ الْوُجُوبُ بَاقِيًا بِدُونِ بَقَاءِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ، كَانَ الْقَضَاءُ ثَابِتًا بِدُونِهَا فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بَلْ لِلْأَدَاءِ فَقَطْ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلَا يَلْزَمُ تَكْلِيفُ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ ابْتِدَاءَ تَكْلِيفٍ بَلْ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا هُوَ بِالسَّبَبِ الْأَوَّلِ لَا بِنَصٍّ جَدِيدٍ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ بِالْأَدَاءِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ فِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ مِنْ الْعُمْرِ قَضَاءُ جَمِيعِ الْمَتْرُوكَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْخَلَفِ كَمَا فِي الْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْوَقْتِ إذْ لَا خَلَفَ لِلْقَضَاءِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ كَالْمَيِّتِ يَبْقَى عَلَيْهِ الْوَاجِبَاتُ فِي حَقِّ بَقَاءِ الْإِثْمِ الْمُؤَاخَذَةُ مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ عَجْزٌ كُلِّيٌّ يَسْقُطُ مَعَهُ الْفِعْلُ قَطْعًا، وَمِنْ هَاهُنَا قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَدَاءِ، وَالْقَضَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا إنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِنَفْسِ الْفِعْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ بِدُونِهَا، وَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا لِأَمْرٍ آخَرَ يَكْفِي تَوَهُّمُ الْقُدْرَةِ فَفِي النَّفَسِ الْأَخِيرِ تَبْقَى الْوَاجِبَاتُ بِتَوَهُّمِ امْتِدَادِ الْوَقْتِ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، وَكَذَا الصَّلَاةُ بَعْدَ فَوَاتِ الْقُدْرَةِ تَبْقَى فِي الذِّمَّةِ لِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ حَتَّى لَا يَشْتَرِطُ بَقَاءَهُمَا وُجُوبُ الْحَجِّ، ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْآلَاتِ الَّتِي هِيَ وَسَائِطُ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ فَجَعْلُهُمَا مِنْ الْقُدْرَةِ

تَوْجِيهُ السُّؤَالِ أَنَّكُمْ شَرَطْتُمْ بَقَاءَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَالنِّصَابُ شَرْطُ لِلْيُسْرِ فَيَجِبُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَقَاءُ النِّصَابِ لِلْوُجُوبِ فِي الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الْبَاقِي إذَا هَلَكَ بَعْضُ النِّصَابِ. فَنُجِيبُ بِأَنَّ النِّصَابَ مَا شُرِطَ لِلْيُسْرِ بَلْ لِلتَّمَكُّنِ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَا فِيهِ. (قُلْنَا النِّصَابُ مَا شُرِطَ لِلْيُسْرِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ، وَنِسْبَتُهُ إلَى كُلِّ الْمَقَادِيرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُمَكِّنَةِ لَا يُنَاقِضُ تَفْسِيرَهَا بِسَلَامَةِ الْآلَاتِ وَالْأَسْبَابِ عَلَى مَا زَعَمَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ: وَالْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ مَا تُوجِبُ الْيُسْرَ عَلَى الْأَدَاءِ) أَيْ: يُسْرَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ يَسَّرَ الْأَدَاءَ عَلَى الْعَبْدِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْإِمْكَانُ بِالْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ فَهِيَ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ، وَلِهَذَا اُشْتُرِطَتْ فِي أَكْثَرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي أَدَاؤُهَا أَشَقُّ عَلَى النَّفْسِ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَذَلِكَ كَالنَّمَاءِ فِي الزَّكَاةِ، فَإِنَّ الْأَدَاءَ مُمْكِنٌ بِدُونِهِ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ أَيْسَرَ حَيْثُ يُنْتَقَصُ أَصْلُ الْمَالِ، وَإِنَّمَا يَفُوتُ بَعْضُ النَّمَاءِ، ثُمَّ الْقُدْرَةُ الْمُمَكِّنَةُ لَمَّا كَانَتْ شَرْطًا لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، وَإِحْدَاثِهِ كَانَتْ شَرْطًا مَحْضًا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ إذْ الْبَقَاءُ غَيْرُ الْوُجُودِ، وَشَرْطُ الْوُجُودِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لِلْبَقَاءِ كَالشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ شَرْطٌ لِلِانْعِقَادِ دُونَ الْبَقَاءِ بِخِلَافِ الْمُيَسِّرَةِ، فَإِنَّهَا شَرْطٌ فِيهِ مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ، لِأَنَّهَا غَيَّرَتْ صِفَةَ الْوَاجِبِ مِنْ الْعُسْرِ إلَى الْيُسْرِ إذْ جَازَ أَنْ يَجِبَ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ لَكِنْ بِصِفَةِ الْعُسْرِ، فَأَثَّرَتْ فِيهِ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ وَأَوْجَبَتْهُ بِصِفَةِ الْيُسْرِ فَيُشْتَرَطُ دَوَامُهَا نَظَرًا إلَى مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ بَقَاءُ الْحُكْمِ بِدُونِهَا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْيُسْرُ بِدُونِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ، وَالْوَاجِبُ لَا يَبْقَى بِدُونِ صِفَةِ الْيُسْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَلِهَذَا اُشْتُرِطَ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ دُونَ الْمُمَكِّنَةِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ النَّظَرِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ إذْ الْفِعْلُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْإِمْكَانِ وَيُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْيُسْرِ. (قَوْلُهُ: فَلَا يَجِبُ) يَعْنِي بَعْدَمَا تَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ لَمْ يَبْقَ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِأَنْ هَلَكَ الْمَالُ كَمَا تَمَّ الْحَوْلُ فَلَا ضَمَانَ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنْ قِيلَ فَفِي صُورَةِ الِاسْتِهْلَاكِ بِأَنْ يُنْفِقَ الْمَالَ فِي حَاجَتِهِ أَوْ يُلْقِيَهُ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ انْتَفَتْ الْقُدْرَةُ الْمُيَسِّرَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ، فَجَوَابُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ إنَّمَا كَانَ نَظَرًا لِلْمُكَلَّفِ، وَقَدْ خَرَجَ بِالتَّعَدِّي عَنْ اسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ لَهُ فَلَمْ يَسْقُطْ الْوُجُوبُ عَنْهُ، أَوْ نَقُولُ نَجْعَلُ الْقُدْرَةَ الْمُيَسِّرَةَ بَاقِيَةً تَقْدِيرًا زَجْرًا عَلَى الْمُتَعَدِّي وَرَدًّا لِمَا قَصَدَهُ مِنْ إسْقَاطِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَنْهُ نَفْسِهِ وَنَظَرًا لِلْفَقِيرِ. (قَوْلُهُ: وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَا فِيهِ) يَعْنِي أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مِلْكِ النِّصَابِ بَلْ

سَوَاءٌ بَلْ لِيَصِيرَ غَنِيًّا فَيَصِيرَ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَلَا حَدَّ لَهُ فَقَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِالنِّصَابِ، وَكَذَا الْكَفَّارَةُ وَجَبَتْ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ لِدَلَالَةِ التَّخْيِيرِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَجْزَ فِي الْعُمْرِ؛ لِأَنَّ ذَا يُبْطِلُ أَدَاءُ الصَّوْمِ فَالْمُرَادُ الْعَجْزُ الْحَالِيُّ مَعَ احْتِمَالِ الْقُدْرَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ) أَيْ: تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ الْمُقَارِنَةُ لِلْأَدَاءِ. (كَالِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ) أَيْ: الْقُدْرَةُ التَّامَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تُقَارِنُ الْفِعْلَ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فَالْقُدْرَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي الْكَفَّارَةِ قُدْرَةٌ كَذَلِكَ أَيْ: مُقَارِنَةٌ لِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ لَا سَابِقَةٌ وَلَا لَاحِقَةٌ. (وَذَا دَلِيلُ الْيُسْرِ) أَيْ: اشْتِرَاطُ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ دَلِيلُ الْيُسْرِ. (فَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ) أَيْ: يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ حَتَّى إنْ تَحَقَّقَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْإِعْتَاقِ فَوَجَبَ الْإِعْتَاقُ، ثُمَّ إنْ لَمْ تَبْقَ الْقُدْرَةُ يَسْقُطُ الْإِعْتَاقُ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَتَّصِلْ بِالْأَدَاءِ عُلِمَ أَنَّ الْقُدْرَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَكْفِي مِلْكُ قَدْرِ الْمُؤَدَّى، فَكَيْفَ يَكُونُ وُجُودُ النِّصَابِ مِنْ شَرَائِطِ التَّمَكُّنِ وَرَاجِعًا إلَى الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ عَلَى أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُدْرَةَ الْمُمَكِّنَةَ بِسَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَالنِّصَابُ لَيْسَ مِنْهَا، وَهَذَا لَا يَرِدُ عَلَى كَلَامِ الْقَوْمِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا النِّصَابَ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ بَلْ هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وَحُصُولِ الْأَهْلِيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ غَنِيًّا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِغْنَاءِ لَا مِنْ شَرَائِطِ الْيُسْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ الْوَاجِبَ مِنْ الْعُسْرِ إلَى الْيُسْرِ؛ لِأَنَّ إيتَاءَ الْخَمْسَةِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ وَإِيتَاءَ الدِّرْهَمِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ سَوَاءٌ فِي الْيُسْرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَنِسْبَةُ رُبُعِ الْعُشْرِ إلَى كُلِّ الْمَقَادِيرِ سَوَاءٌ بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ إيتَاءُ الدِّرْهَمِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ أَيْسَرَ مِنْ إيتَاءِ الْخَمْسَةِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ، وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ شَرْطَ الْوُجُوبِ لَا شَرْطَ الْيُسْرِ لَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاؤُهُ لِبَقَاءِ الْوُجُوبِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ النِّصَابِ عِنْدَ هَلَاكِ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي وَاجِبٍ وَاحِدٍ لَا يَتَكَرَّرُ فَلَا يُشْتَرَطُ دَوَامُ شَرْطِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْقُطَ الزَّكَاةُ بِهَلَاكِ جَمِيعِ النِّصَابِ قُلْنَا: إنَّمَا تَسْقُطُ لِفَوَاتِ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ الَّتِي هِيَ وَصْفُ النَّمَاءِ لَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ النِّصَابُ، وَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ بِهَلَاكِ بَعْضِ النِّصَابِ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْبَعْضِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ، مَا قِيلَ إنَّ تَفْرِيعَ قَوْلِهِ فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي هَلَاكِ النِّصَابِ عَلَى قَوْلِهِ، وَيُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ النِّصَابَ مِنْ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ، وَإِلَّا فَلَا وَجْهَ لِلتَّفْرِيعِ. 1 - (قَوْلُهُ: «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» ) أَيْ: إلَّا صَادِرَةً عَنْ غِنًى، وَالظَّهْرُ مُقْحَمٌ كَمَا فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ وَظَهْرِ الْقَلْبِ أَوْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْقُوَّةِ إذْ الْمَالُ لِلْغَنِيِّ بِمَنْزِلَةِ الظَّهْرِ الَّذِي عَلَيْهِ اعْتِمَادُهُ، وَإِلَيْهِ اسْتِنَادُهُ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْغِنَى لِأَهْلِيَّةِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ تَارَةً بِهَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ لِنَفْيِ الْوُجُوبِ لَا لِنَفْيِ الْوُجُودِ إذْ كَثِيرًا مَا تُوجَدُ الصَّدَقَةُ عَنْ الْفَقِيرِ، وَتَارَةً بِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ إغْنَاءٌ لِلْفَقِيرِ، وَلَا يَصِيرُ الْمَرْءُ أَهْلًا لِلْإِغْنَاءِ إلَّا بِالْغِنَى كَمَا لَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلتَّمْلِيكِ إلَّا

الْمُقَارِنَةَ لِلْأَدَاءِ لَمْ تُوجَدْ، وَهُوَ الشَّرْطُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ فَيُشْتَرَطُ بَقَاؤُهَا. (إلَّا أَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا غَيْرُ عَيْنٍ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِهْلَاكُ تَعَدِّيًا فَيَكُونُ كَالْهَلَاكِ) جَوَابُ سُؤَالٍ مَقْدُورٍ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا سَوَّى بَيْنَ الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَةِ فِي أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ بِالْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَسْقُطَ الْكَفَّارَةُ بِالْمَالِ إذَا اُسْتُهْلِكَ الْمَالُ كَمَا لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فِي الْكَفَّارَةِ فَلَا يَكُونُ الِاسْتِهْلَاكُ تَعَدِّيًا، وَهُوَ فِي الزَّكَاةِ مُعَيَّنٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، فَإِذَا اسْتَهْلَكَ الْمَالَ كُلَّهُ اسْتَهْلَكَ الْوَاجِبَ فَيَضْمَنُ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ بَقَاءَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ، وَإِلَّا انْقَلَبَ الْيُسْرُ عُسْرًا نَوْعُ نَظَرٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا أَمْرًا لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَثْبُتَ يُسْرٌ آخَرُ، وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمِلْكِ وَعَلَيْهِ اعْتِرَاضٌ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الزَّكَاةِ لَيْسَ هُوَ الْإِغْنَاءَ الشَّرْعِيَّ بَلْ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ، وَيَدْفَعُ حَاجَةَ الْفَقِيرِ، وَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغِنَى الشَّرْعِيِّ فَلِذَا جَمَعَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَجَعَلَ الْحَدِيثَ دَلِيلًا عَلَى تَوَقُّفِ أَهْلِيَّةِ إغْنَاءِ الْفَقِيرِ عَلَى الْغِنَى، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْإِغْنَاءَ بِصِفَةِ الْحُسْنِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْغِنَى الشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْفَقِيرِ عَدَمُ الصَّبْرِ عَلَى شَدَائِدِ الْفَقْرِ وَالْجَزَعُ عَلَى مَكَايِدِ الْحَاجَةِ فَلَا بُدَّ فِي أَهْلِيَّةِ الْإِغْنَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْغِنَى الشَّرْعِيِّ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الْجَزَعِ الْمَذْمُومِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ جُهْدُ الْمُقِلِّ» قُلْت إنْ جَعَلْت هَذَا الْحَدِيثَ نَفْيًا لِلْوُجُوبِ، فَظَاهِرٌ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ عَدَمِ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ إلَّا عَلَى الْغَنِيِّ، وَبَيْنَ كَوْنِ صَدَقَةِ الْفَقِيرِ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ أَكْثَرَ ثَوَابًا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا أَشَقَّ، فَإِنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا، وَإِنْ جَعَلْتَهُ نَفْيًا لِلْفَضِيلَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا يَكُونُ عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنَّ الْمُرَادَ تَفْضِيلُ صَدَقَةِ الْغَنِيِّ عَلَى صَدَقَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي لَا يَصْبِرُ عَلَى شِدَّةِ الْفَقْرِ، وَيَجْزَعُ لَدَى الْحَاجَةِ عَلَى مَا هُوَ الْأَعَمُّ الْأَغْلَبُ، وَتَفْضِيلُ صَدَقَةِ الْفَقِيرِ الَّذِي اُخْتُصَّ بِتَأْيِيدٍ وَتَوْفِيقٍ إلَهِيٍّ فِي الصَّبْرِ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ، وَإِيثَارِ مُرَادِ الْغَيْرِ عَلَى مُرَادِهِ، وَلَوْ كَانَ بِهِ خَصَاصَةٌ، وَقَدْ يُقَالُ: الْمُرَادُ بِالْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ حَتَّى يَصْبِرَ عَلَى فَقْرِهِ، وَيَتَثَبَّتَ عَنْ التَّكَفُّفِ إنْ كَانَ فَقِيرًا، وَلَا يَبْقَى لَهُ تَعَلُّقُ قَلْبٍ بِمَا تَصَدَّقَ بِهِ بِحَيْثُ يُفْضِي إلَى إبْطَالِهِ بِالْمَنِّ، وَالِاسْتِكْثَارِ إنْ كَانَ غَنِيًّا، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْقَى التَّمَسُّكُ الْمَذْكُورُ. (قَوْلُهُ: وَلَا حَدَّ لَهُ) أَيْ: لِلْغِنَى لِأَنَّهُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَحْوَالِ فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ بِالنِّصَابِ فَصَارَ الْغَنِيُّ مَنْ لَهُ النِّصَابُ، وَالْفَقِيرُ مَنْ لَا نِصَابَ لَهُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْفَقِيرِ الْمُقَابِلِ لِلْمِسْكِينِ بِمَعْنَى مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ. (قَوْلُهُ: لِدَلَالَةِ التَّخْيِيرِ) يَعْنِي أَنَّ التَّخْيِيرَ

بَقَاءُ النِّصَابِ أَبَدًا، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ هَذَا الْيُسْرِ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ إنْ أَخَّرَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ خَمْسِينَ سَنَةً، ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَيْضًا لَا يَنْقَلِبُ الْيُسْرُ عُسْرًا، فَإِنَّ الْيُسْرَ الَّذِي حَصَلَ بِاشْتِرَاطِ الْحَوْلِ لَا يَنْقَلِبُ عُسْرًا بَلْ غَايَتُهُ أَنْ لَا يُثْبِتَ يُسْرًا آخَرَ أَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَامِلَ، وَهُوَ التَّخْيِيرُ فِي الصُّورَةِ وَالْمَعْنَى بِأَنْ يَكُونَ بَيْنَ أُمُورٍ مُتَفَاوِتَةٍ بَعْضُهَا أَسْهَلُ مِنْ الْبَعْضِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ دَلِيلُ التَّيْسِيرِ بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ صُورَةً فَقَطْ بِأَنْ تَكُونَ الْأُمُورُ مُتَمَاثِلَةً فِي الْمَالِيَّةِ كَمَا فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مِنْ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ، فَإِنَّهُ دَلِيلُ التَّأْكِيدِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَدَاءِ أَلْبَتَّةَ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ ذَا) أَيْ: كَوْنَ الْمُرَادِ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْمَالِ هُوَ الْعَجْزُ فِي الْعُمْرِ يُبْطِلُ أَدَاءَ الصَّوْمِ لِأَنَّ هَذَا الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي آخِرِ الْعُمْرِ، وَبَعْدَهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الصَّوْمِ فَلَا يَصِحُّ تَرَتُّبُ الصَّوْمِ عَلَى عَدَمِ الْوِجْدَانِ بِهَذَا الْمَعْنَى فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَجْزُ فِي الْحَالِ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ تَحْصُلَ الْقُدْرَةُ فِي الِاسْتِقْبَالِ. (قَوْلُهُ: حَتَّى إنْ تَحَقَّقَ الْقُدْرَةُ) أَرَادَ بِهَا مِلْكَ الرَّقَبَةِ أَوْ ثَمَنِهَا الْقُدْرَةُ الْحَقِيقَةُ الْمُسْتَجْمِعَةُ لِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّأْثِيرِ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ فَلَا مَعْنَى لِزَوَالِهَا وَسَقُوطِ الْإِعْتَاقِ. (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا غَيْرُ عَيْنٍ) فَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ إشْكَالٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفَّارَةِ يَعُودُ بِهِ هَلَاكُ الْمَالِ بِإِصَابَةِ مَالٍ آخَرَ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَلَا يَعُودُ فِي الزَّكَاةِ فَيَكُونُ دُونَ الزَّكَاةِ. (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ) اُعْتُرِضَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى قَوْلِهِمْ يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ لِبَقَاءِ الْوَاجِبِ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ الْيُسْرُ عُسْرًا أَوَّلًا بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فِيمَا إذَا أَخَّرَ أَدَاءَ الزَّكَاةِ خَمْسِينَ سَنَةً ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ، وَثَانِيًا بِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ الْقُدْرَةِ انْقِلَابُ الْيُسْرِ عُسْرًا بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ أَحَدِ الْيُسْرَيْنِ، وَهُوَ النَّمَاءُ مَثَلًا دُونَ الْآخَرِ، وَهُوَ الْبَقَاءُ، فَإِنَّ حُصُولَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسِّرَةِ يُسْرٌ وَبَقَاؤُهَا يُسْرٌ آخَرُ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ الْتِزَامُ الْفَوَاتِ فِي صُورَةِ هَلَاكِ الْمَالِ، وَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا فُوِّتَ بِهَذَا الْحَبْسِ عَلَى أَحَدٍ مِلْكًا وَلَا يَدًا بَلْ الْمَالُ حَقُّهُ مِلْكًا، وَيَدًا، وَإِنَّمَا حَقُّ الْفَقِيرِ فِي أَنْ يُعَيَّنَ مَحَلًّا لِلصَّرْفِ إلَيْهِ وَلِصَاحِبِ الْمَالِ الْخِيَارُ فِي اخْتِيَارِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ فَلَعَلَّهُ حُبِسَ عَنْ هَذَا الْمَحَلِّ لِيُؤَدِّيَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا يَضْمَنُ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْعَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ عَنْ الشَّفِيعِ حَتَّى صَارَ بَحْرًا، وَمَنْعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمَدْيُونَ عَنْ الْبَيْعِ أَوْ الْعَبْدَ الْجَانِيَ عَنْ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْأَرْشِ حَتَّى هَلَكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ مَعْنَى انْقِلَابِ الْيُسْرِ إلَى الْعُسْرِ أَنَّهُ وَجَبَ بِطَرِيقِ إيجَابِ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ يُسْرًا أَوْ سُهُولَةً فَلَوْ أَوْجَبْنَاهُ عَلَى تَقْدِيرِ الْهَلَاكِ لَوَجَبَ بِطَرِيقِ الْغَرَامَةِ وَالتَّضْمِينِ فَيَصِيرُ عُسْرًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الْيُسْرِ يَصِيرُ عُسْرًا، فَإِنَّهُ مُحَالٌ عَقْلًا، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْيَسِيرُ عَسِيرًا، وَبِالْعَكْسِ فَلْيُتَأَمَّلْ إنَّهُ الْمُيَسِّرُ

[فصل المأمور به نوعان مطلق ومؤقت]

الْمُيَسِّرُ لِلصَّوَابِ (فَصْلٌ الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ) هَذَا الْفَصْلُ هُوَ أَصْلُ الشَّرَائِعِ قَدْ تَأَسَّسَ عَلَيْهِ مَبَانِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، فَإِنْ طَالَعْت هَذَا الْمَوْضِعَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلِمْت سَعْيِي فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَتَحْقِيقِهَا الْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ غَيْرُ الْمُؤَقَّتِ كَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَالزَّكَاةِ. (أَمَّا الْمُطْلَقُ فَعَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّهُ) أَيْ الْأَمْرَ. (جَاءَ لِلْفَوْرِ وَجَاءَ لِلتَّرَاخِي فَلَا يَثْبُتُ الْفَوْرُ إلَّا بِالْقَرِينَةِ، وَحَيْثُ عُدِمَتْ يَثْبُتُ التَّرَاخِي لَا أَنَّ الْأَمْرَ يَدُلُّ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَوْرِ الْوُجُوبُ فِي الْحَالِ، وَالْمُرَادَ بِالتَّرَاخِي عَدَمُ التَّقْيِيدِ بِالْحَالِ لَا التَّقْيِيدُ بِالْمُسْتَقْبَلِ حَتَّى ـــــــــــــــــــــــــــــQلِكُلِّ عَسِيرٍ [فَصْلٌ الْمَأْمُورُ بِهِ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ] [أَقْسَامُ الْمَأْمُور بِهِ الْمُؤَقَّت] [الْقَسْم الْأَوَّل الْوَقْت الضَّيِّق وَالْفَاضِل عَنْ الواجب] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) فِي تَقْسِيمِ الْمَأْمُورِ بِهِ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ غَيْرِ قَائِمٍ بِهِ وَهُوَ الْوَقْتُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ التَّقْسِيمِ إلَى الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالْحُسْنِ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ بِاعْتِبَارِ حَالَةٍ لِلْمَأْمُورِ بِهِ فِي نَفْسِهِ فَلِذَا جَعَلَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى، وَقَالَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ لَا بُدَّ مِنْ تَرْتِيبِهِ عَلَى الدَّرَجَةِ الْأُولَى أَيْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ هَذَا التَّقْسِيمِ وَإِيرَادِهِ عَقِيبَ التَّقْسِيمِ الَّذِي وَرَدَ فِي الدَّرَجَةِ الْأُولَى، وَهَذَا الْفَصْلُ أَصْلٌ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ يَبْتَنِي عَلَيْهِ أَدِلَّةُ عَامَّةِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ فِي الْفِقْهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَبَاحِثِ الْمُؤَقَّتِ وَغَيْرِ الْمُؤَقَّتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنْ الْأَقْسَامِ وَالْأَحْكَامِ، وَذَلِكَ مُعْظَمُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. (قَوْلُهُ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ) الْمُرَادُ بِالْمُؤَقَّتِ مَا يَتَعَلَّقُ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَدَاءً بَلْ يَكُونُ قَضَاءً كَالصَّلَاةِ خَارِجَ الْوَقْتِ أَوْ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا أَصْلًا كَالصَّوْمِ فِي غَيْرِ النَّهَارِ وَبِالْمُطْلَقِ مَا لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي وَقْتٍ لَا مَحَالَةَ. (قَوْلُهُ أَمَّا الْمُطْلَقُ فَعَلَى التَّرَاخِي) اخْتَلَفُوا فِي مُوجَبِ الْأَمْرِ فَذَهَبَ كَثِيرٌ إلَى أَنَّ حَقَّهُ الْفَوْرُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا عَلَى التَّرَاخِي بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ، وَهَؤُلَاءِ يَعْنُونَ بِالْفَوْرِ امْتِثَالَ الْمَأْجُورِ بِهِ عَقِيبَ وُرُودِ الْأَمْرِ، وَبِالتَّرَاخِي الْإِتْيَانَ بِهِ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ لِلتَّرَاخِي إلَّا أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالتَّرَاخِي عَدَمُ التَّقْيِيدِ بِالْحَالِ، وَالْمُصَنِّفُ اصْطَلَحَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّرَاخِي عَدَمُ التَّقْيِيدِ بِالْحَالِ لَا التَّقْيِيدَ بِالِاسْتِقْبَالِ فَالتَّرَاخِي عِنْدَهُ أَعَمُّ مِنْ الْفَوْرِ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا اُسْتُدِلَّ عَلَى كَوْنِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ لِلتَّرَاخِي بِأَنَّ الْأَمْرَ جَاءَ لِلْفَوْرِ وَجَاءَ لِلتَّرَاخِي فَلَا يَثْبُتُ الْفَوْرُ إلَّا بِالْقَرِينَةِ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَعَدَمِ الْقَرِينَةِ يَثْبُتُ التَّرَاخِي لِضَرُورَةِ عَدَمِ قَرِينَةِ الْفَوْرِ لَا بِدَلَالَةِ الْأَمْرِ كَانَ لِمُعَارِضٍ أَنْ يَقُولَ جَاءَ لِلْفَوْرِ التَّرَاخِي فَلَا يَثْبُتُ التَّرَاخِي إلَّا بِقَرِينَةٍ فَعِنْدَ عَدَمِهَا يَثْبُتُ الْفَوْرُ، فَدَفَعَهَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْفَوْرَ أَمْرٌ زَائِدٌ ثُبُوتِيٌّ فَيَحْتَاجُ إلَى الْقَرِينَةِ، بِخِلَافِ التَّرَاخِي فَإِنَّهُ عَدَمُ أَصْلِيٍّ فَصَارَ مَا ذَكَرَهُ مُوَافِقًا لِمَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ وَلَا عَلَى التَّرَاخِي بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ فَلَا دَلَالَةَ لِلْأَمْرِ عَلَى أَحَدِهِمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ. (قَوْلُهُ

لَوْ أَدَّاهُ فِي الْحَالِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، فَالْفَوْرُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَرِينَةِ لَا التَّرَاخِي. (وَأَمَّا الْمُؤَقَّتُ فَإِمَّا أَنْ يَتَضَيَّقَ الْوَقْتُ عَنْ الْوَاجِبِ، وَهَذَا غَيْرُ وَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ إلَّا لِغَرَضِ الْقَضَاءِ كَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ آخِرَ الْوَقْتِ إمَّا أَنْ يَفْضُلَ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَإِمَّا أَنْ يُسَاوِيَ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ لَا يَكُونَ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ، وَقِسْمٌ آخَرُ كَالْحَجِّ مُشْكِلٌ فِي أَنْ يَفْضُلَ أَوْ يُسَاوِيَ كَالْحَجِّ) أَمَّا وَقْتُ الصَّلَاةِ فَهُوَ ظَرْفٌ لِلْمُؤَدَّيْ وَشَرْطٌ لِلْأَدَاءِ إذْ الْأَدَاءُ يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ تَسْلِيمُ عَيْنِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ، وَالثَّابِتُ بِالْأَمْرِ هُوَ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ أَمَّا الصَّلَاةُ خَارِجَ الْوَقْتِ فَتَسْلِيمُ مِثْلِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ. (وَسَبَبٌ لِلْوُجُوبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وَلِإِضَافَةِ الصَّلَاةِ إلَيْهِ) إذْ الْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصٍ فَمُطْلَقُهَا يَنْصَرِفُ إلَى الِاخْتِصَاصِ الْكَامِلِ أَنْ يُرَى أَنَّ قَوْلَهُ الْمَالُ لِزَيْدٍ يَنْصَرِفُ إلَى الِاخْتِصَاصِ بِطَرِيقِ الْمِلْكِ، وَلَوْ لَمْ يُمْكِنْ يَنْصَرِفُ إلَى مَا دُونَهُ أَمَّا الْإِضَافَةُ بِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ فَمَجَازٌ فَالِاخْتِصَاصُ الْكَامِلُ فِي مِثْلِ قَوْلِنَا صَلَاةُ الْفَجْرِ إنَّمَا هُوَ بِالسَّبَبِيَّةِ فَالْأُمُورُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ لَا يَكُونُ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ) جَعَلُوا صِيَامَ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ وَقَضَاءَ رَمَضَانَ مِنْ الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّهَارِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْمُطْلَقِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْمِيزَانِ؛ لِأَنَّ التَّعَلُّقَ بِالنَّهَارِ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الصَّوْمِ لَا قَيْدٌ لَهُ، ثُمَّ الْقَضَاءُ وَاجِبٌ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ، وَصَوْمُ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ بِالنَّذْرِ وَالْحِنْثِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَكُونُ النَّهَارُ الَّذِي يُصَامُ فِيهِ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ. (قَوْلُهُ وَقِسْمٌ آخَرُ مُشْكِلٌ) حَقُّ التَّقْسِيمِ أَنْ يُقَالَ الْمُؤَقَّتُ إمَّا أَنْ يَتَضَيَّقَ وَقْتُهُ أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يُعْلَمَ فَضْلُهُ كَالصَّلَاةِ، وَإِمَّا أَنْ يُعْلَمُ مُسَاوَاتُهُ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُسَاوَاتُهُ سَبَبًا كَصَوْمِ رَمَضَانَ أَوْ لَا كَصَوْمِ الْقَضَاءِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُعْلَمَ فَضْلُهُ وَلَا مُسَاوَاتُهُ كَالْحَجِّ أَوْ يُقَالَ الْوَقْتُ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ مِعْيَارًا لِلْأَدَاءِ هَذَا وَلَا ذَاكَ أَوْ سَبَبًا لَا مِعْيَارًا أَوْ بِالْعَكْسِ. (قَوْلُهُ أَمَّا وَقْتُ الصَّلَاةِ) الْمُؤَدَّى مِنْ الصَّلَاةِ هِيَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنْ الْأَرْكَانِ الْمَخْصُوصَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْوَقْتِ، وَالْأَدَاءُ إخْرَاجُهَا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ، وَالْوُجُوبُ لُزُومُ وُقُوعِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِشَرَفٍ فِيهِ فَوَقْتُ الصَّلَاةِ ظَرْفٌ لِلْمُؤَدَّى أَيْ زَمَانٌ يُحِيطُ بِهِ وَيَفْضُلُ عَنْهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَشَرْطٌ لِأَدَائِهِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ بِدُونِهِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَفْهُومِ الْأَدَاءِ، وَلَا مُؤَثِّرٌ فِي وُجُودِهِ، وَلَيْسَ شَرْطًا لِلْمُؤَدَّيْ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْوَقْتِ هُوَ صِفَةُ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ لَا نَفْسُ الْهَيْئَةِ فَإِنْ قُلْت ظَرْفِيَّةُ الْوَقْتِ لِلْمُؤَدَّى تَسْتَلْزِمُ شَرْطِيَّةَ الْأَدَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِهَا قُلْت لَوْ سُلِّمَ فَلِأَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لُزُومٌ بَيِّنٌ حَتَّى يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ بَيَانُ اشْتِرَاكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فِي شَرْطِيَّةِ الْوَقْتِ، وَامْتِيَازُ الصَّلَاةِ بِظَرْفِيَّتِهِ وَالْوَقْتِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمُؤَدَّى أَيْ لُزُومُ تِلْكَ الْهَيْئَةِ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ

آخِرِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِالسَّبَبِيَّةِ لَكِنَّ مَجْمُوعَهَا يُفِيدُ الْقَطْعَ. (وَلِتَغَيُّرِهَا بِتَغَيُّرِهِ صِحَّةً وَكَرَاهَةً وَفَسَادًا وَلِتَجَدُّدِ الْوُجُوبِ بِتَجَدُّدِهِ وَلِبُطْلَانِ التَّقْدِيمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الشَّرْطِ) أَيْ التَّقْدِيمَ عَلَى شَرْطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ صَحِيحٌ (كَالزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ يُحَقِّقُهُ) أَيْ يُحَقِّقُ كَوْنَ الْوَقْتِ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ. (إنَّ الْوَقْتَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِي ذَاتِهِ بَلْ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى رَتَّبَ الْأَحْكَامَ عَلَى أُمُورٍ ظَاهِرَةٍ تَيْسِيرًا كَالْمِلْكِ عَلَى الشِّرَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَتَكُونُ الْأَحْكَامُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا مُضَافَةً إلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مُؤَثِّرَةٌ فِي الْأَحْكَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَتَّى كَأَنَّهُ الْمُؤَثِّرُ بِالنَّظَرِ إلَيْنَا تَيْسِيرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ يَرْبِطُ الْأَحْكَامَ بِالْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ كَالْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ مِنْ أَنَّ النِّعَمَ مُتَرَادِفَةٌ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْعِبَادَةَ شُكْرٌ فَأُقِيمَ الْمَحَلُّ مَقَامَ الْحَالِ، وَالْمُتَقَدِّمُونَ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ نِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتِلَافُ الْعِبَادَاتِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاسْتُدِلَّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْوَقْتِ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ كُلٌّ مِنْهَا أَمَارَةٌ تُفِيدُ الظَّنَّ لَا الْقَطْعَ لِقِيَامِ الِاحْتِمَالِ إلَّا أَنَّ الْمَجْمُوعَ يُفِيدُ الْقَطْعَ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ الْمَظْنُونِ يَتَزَايَدُ بِكَثْرَةِ الْأَمَارَاتِ إلَى أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ الْقَطْعِ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَجُودِ حَاتِمٍ، وَفِيهِ مُنَاقَشَةٌ لَا تَخْفَى. (قَوْلُهُ وَلِتَغَيُّرِهَا) أَيْ لِتَغَيُّرِ الصَّلَاةِ بِتَغَيُّرِ الْوَقْتِ حَيْثُ تَصِحُّ فِي وَقْتِهِ الْكَامِلِ، وَتُكْرَهُ فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَتَفْسُدُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، وَالْأَصْلُ فِي اخْتِلَافِ الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِاخْتِلَافِ الظَّرْفِ أَوْ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ أَمَارَةَ السَّبَبِيَّةِ نَعَمْ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ هُوَ الْمُؤَدَّى أَوْ الْأَدَاءُ وَالْمُدَّعِي سَبَبِيَّتَهُ لِنَفْسِ الْوُجُوبِ. (قَوْلُهُ وَلِتَجَدُّدِ الْوُجُوبِ بِتَجَدُّدِ الْوَقْتِ) هَذَا أَيْضًا يُفِيدُ الظَّنَّ؛ لِأَنَّ دَوَرَانَ الشَّيْءِ مَعَ الشَّيْءِ أَمَارَةُ كَوْنِ الْمُدَارِ عِلَّةً لِلدَّائِرِ. (قَوْلُهُ فَإِنَّ التَّقْدِيمَ عَلَى الشَّرْطِ صَحِيحٌ) دَفْعٌ لِمَا يُقَالُ إنَّ بُطْلَانَ تَقْدِيمِ وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَقْتِ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّتِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا لَهُ، وَتَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى الشَّرْطِ أَيْضًا بَاطِلٌ فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ مُسْتَنِدًا بِصِحَّةِ تَقْدِيمِ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ تَقْدِيمِ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطِهِ ضَرُورِيٌّ؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الشَّرْطِ فَلَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ، وَفِي الزَّكَاةِ الْحَوْلُ لَيْسَ شَرْطًا لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلْأَدَاءِ بَلْ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُ تَقْدِيمِ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ شَرْطِيَّتِهِ لَا بِاعْتِبَارِ سَبَبِيَّتِهِ لِنَفْسِ الْوُجُوبِ عَلَى مَا هُوَ الْمُدَّعَى، وَالْحَقُّ أَنَّ بُطْلَانَ تَقْدِيمِ الشَّيْءِ عَلَى شَرْطِهِ أَظْهَرُ مِنْ بُطْلَانِ تَقْدِيمِهِ عَلَى السَّبَبِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ بِأَسْبَابٍ شَتَّى فَبُطْلَانُ التَّقْدِيمِ لَا يَصْلُحُ أَمَارَةً عَلَى السَّبَبِيَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ احْتِمَالَ الشَّرْطِيَّةِ قَائِمٌ إلَّا أَنَّ الْأَدِلَّةَ السَّابِقَةَ تُرَجِّحُ جَانِبَ السَّبَبِيَّةِ كَالْمُشْتَرَكِ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى أَحَدِ مَدْلُولَيْهِ بِمَعُونَةِ الْقَرِينَةِ. (قَوْلُهُ ثُمَّ هُوَ سَبَبٌ لِنَفْسِ الْوُجُوبِ) يُرِيدُ أَنَّ هَاهُنَا وُجُوبًا وَوُجُوبَ أَدَاءً وَوُجُودَ أَدَاءً وَلِكُلٍّ مِنْهَا سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ وَسَبَبٌ ظَاهِرِيٌّ فَالْوُجُوبُ سَبَبُهُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْإِيجَابُ

بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى كَالنَّارِ فِي الْإِحْرَاقِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِنْ قِيلَ الْحُكْمُ قَدِيمٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَادِثُ قُلْنَا الْإِيجَابُ قَدِيمٌ وَهُوَ حُكْمُهُ تَعَالَى فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ زَيْدٌ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَا وَأَثَرُهُ وَهُوَ الْحُكْمُ الْمُصْطَلَحُ) أَيْ الْوُجُوبُ (حَادِثٌ، فَإِنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْحَادِثِ فَلَا يُوجَدُ قَبْلَهُ، ثُمَّ هُوَ) أَيْ الْوَقْتُ لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُجُوبِ نَفْسُ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ. (سَبَبٌ لِنَفْسِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهَا الْحَقِيقِيَّ الْإِيجَابُ الْقَدِيمُ وَهُوَ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى شَيْءٍ ظَاهِرٍ فَكَانَ هَذَا) أَيْ الشَّيْءُ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الْوَقْتُ (سَبَبًا لَهَا) أَيْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَدِيمُ، وَسَبَبُهُ الظَّاهِرِيُّ هُوَ الْوَقْتُ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ سَبَبُهُ الْحَقِيقِيُّ تَعَلُّقُ الطَّلَبِ بِالْفِعْلِ وَسَبَبُهُ الظَّاهِرِيُّ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى ذَلِكَ، وَوُجُودُ الْأَدَاءِ سَبَبُهُ الْحَقِيقِيُّ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتُهُ وَسَبَبُهُ الظَّاهِرِيُّ وَاسْتِطَاعَةُ الْعَبْدِ أَيْ قُدْرَتُهُ الْمُؤَثِّرَةُ الْمُسْتَجْمِعَةُ لِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّأْثِيرِ فَهِيَ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْفِعْلِ بِالزَّمَانِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْوُجُوبِ جَبْرًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِيجَابِ لَا بِالْخِطَابِ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُقَارِنَةً لِلْفِعْلِ، إذْ لَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ لَكَانَتْ إمَّا مَعَ الْوُجُوبِ وَهُوَ جَبْرٌ لَا اخْتِيَارٌ فِيهِ، أَوْ مَعَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ صِحَّةُ الْأَسْبَابِ وَسَلَامَةُ الْآلَاتِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْفِعْلِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ تَصَانِيفِهِ حَيْثُ قَالَ إنَّ السَّبَبَ مُوجِبٌ، وَهُوَ جَبْرِيٌّ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَشْتَرِطْ الْقُدْرَةَ سَابِقَةً عَلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهُ نَفْسُ الْوُجُوبِ وَهُوَ جَبْرُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَأَنَّهُ لَا يَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ الْحَقِيقِيَّةَ، أَمَّا فِعْلُ الْأَدَاءِ فَيَعْتَمِدُ الْقُدْرَةَ فَلِذَلِكَ كَانَتْ الِاسْتِطَاعَةُ مَعَ الْفِعْلِ. 1 - (قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفْسِ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ) اعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ عِبَارَتِهِمْ فِي تَفْسِيرِهِ يَرْجِعُ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ تَارِكُهُ الذَّمَّ فِي الْعَاجِلِ وَالْعِقَابَ فِي الْآجِلِ، فَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا لُزُومُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ بِدُونِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِمَعْنَى الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ الْأَعَمِّ مِنْ الْأَدَاءِ وَالْقَضَاءِ وَالْإِعَادَةِ، فَإِذَا تَحَقَّقَ السَّبَبُ وَوُجِدَ الْمَحَلُّ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ تَحَقَّقَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ حَتَّى يَأْثَمَ تَارِكُهُ، وَيَجِبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَإِنْ وُجِدَ فِي الْوَقْتِ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ أَوْ عَقْلِيٌّ مِنْ حَيْضٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَالْوُجُوبُ يَتَأَخَّرُ إلَى زَمَانِ ارْتِفَاعِ الْمَانِعِ، وَحِينَئِذٍ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي قَضَاءٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ سَبْقُ الْوُجُوبِ فِي الْجُمْلَةِ لَا سَبْقُ الْوُجُوبِ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِعْلُ النَّائِمِ وَالْحَائِضِ وَنَحْوِهِمَا قَضَاءً وَبَعْضُهُمْ يَعْتَبِرُ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِعْلُ النَّائِمِ وَالْحَائِضِ وَنَحْوِهِمَا قَضَاءً لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ التَّرْكِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ بِمَعْنَى انْعِقَادِ السَّبَبِ وَصَلَاحِيَّةِ الْمَحَلِّ وَتَحَقُّقِ اللُّزُومِ لَوْلَا الْمَانِعُ وَيُسَمِّيهِ وُجُوبًا بِدُونِ وُجُوبِ

لِنَفْسِ الْوُجُوبِ (بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا، ثُمَّ لَفْظُ الْأَمْرِ لِمُطَالَبَةِ مَا وَجَبَ بِالْإِيجَابِ الْمُرَتِّبِ الْحُكْمَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ) وَهُوَ الْوَقْتُ (فَيَكُونُ) أَيْ لَفْظُ الْأَمْرِ (سَبَبًا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَفْسِ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ اشْتِغَالُ ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ بِالشَّيْءِ، وَالثَّانِي هُوَ لُزُومُ تَفْرِيغِ الذِّمَّةِ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهَا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبْقِ حَقٍّ فِي ذِمَّتِهِ فَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَثْبُتُ الثَّمَنُ فِي الذِّمَّةِ) فَثُبُوتُ الثَّمَنِ فِي الذِّمَّةِ نَفْسُ الْوُجُوبِ. (أَمَّا لُزُومُ الْأَدَاءِ فَعِنْدَ الْمُطَالَبَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ الْوُجُوبِ، وَأَيْضًا وَاجِبٌ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَلَا أَدَاءَ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَدَاءِ، وَلَيْسَ هَذَا إلَّا تَغْيِيرَ عِبَارَةٍ، وَأَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ حَتَّى إنَّ الشَّيْخَ الْمُحَقِّقَ أَبَا الْمُعِينِ بَالَغَ فِي رَدِّهِ وَإِنْكَارِهِ، وَادَّعَى أَنَّ اسْتِحَالَتَهُ غَنِيَّةٌ عَنْ الْبَيَانِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ مَثَلًا إنَّمَا هُوَ الْإِمْسَاكُ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ نَهَارًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْإِمْسَاكُ فِعْلُ الْعَبْدِ فَإِذَا حَصَلَ حَصَلَ الْأَدَاءُ، وَلَوْ كَانَا مُتَغَايِرَيْنِ لَكَانَ الصَّائِمُ فَاعِلًا فِعْلَيْنِ الْإِمْسَاكَ وَأَدَاءَ الْإِمْسَاكِ، وَكَذَا كُلُّ فَاعِلٍ كَالْآكِلِ وَالشَّارِبِ كَانَ فَاعِلًا فِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ الْفِعْلُ، وَالْآخَرُ أَدَاؤُهُ، وَهَذِهِ مُكَابَرَةٌ عَظِيمَةٌ، ثُمَّ قَالَ إنَّ جَعْلَ أَصْلِ الْوُجُوبِ غَيْرَ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الْوَاجِبِ الْبَدَنِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْهُذَيْلِ الْعَلَّافِ مِنْ شَيَاطِينِ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَالْحَجَّ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الْمَخْصُوصَةِ بَلْ عَنْ مَعَانٍ وَرَاءَهَا تُقَارِنُهَا فَبِالسَّبَبِ تَجِبُ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَتَشْتَغِلُ الذِّمَّةُ بِهَا، وَبِالْأَمْرِ يَجِبُ وُجُودُ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ تِلْكَ الْمَعَانِي بِهَا أَوْ مَعَهَا فَيَكُونُ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ مِنْ الْعَبْدِ أَدَاءً لَهَا وَتَحْصِيلًا، ثُمَّ قَالَ إنَّ الشَّارِعَ أَوْجَبَ عَلَى مَنْ مَضَى عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَهُوَ نَائِمٌ مَثَلًا بَعْدَ زَوَالِ النَّوْمِ مَا كَانَ يُوجِبُهُ فِي الْوَقْتِ لَوْلَا النَّوْمُ بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فِي بَابِ الصِّبَا وَالْكُفْرِ، وَهُوَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وَأَوْجَبَ الصَّوْمَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ مُعَلِّقًا بِاخْتِيَارِهِمَا الْوَقْتَ تَخْفِيفًا وَمَرْحَمَةً فَإِنْ اخْتَارَ الْأَدَاءَ فِي الشَّهْرِ كَانَ الصَّوْمُ وَاجِبًا فِيهِ، وَإِنْ أَخَّرَاهُ إلَى الصِّحَّةِ وَالْإِقَامَةِ كَانَ وَاجِبًا بَعْدَهُمَا، بِخِلَافِ الْوَاجِبِ الْمَالِيِّ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمَالُ وَالْأَدَاءُ فِعْلٌ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَدَاءُ مَا وُضِعَ فِي ذِمَّةِ الصَّبِيِّ مِنْ الْمَالِ كَمَا لَوْ وَضَعَ فِي بَيْتِ الصَّبِيِّ مَالٌ مُعَيَّنٌ. وَأَمَّا الذَّاهِبُونَ إلَى الْفَرْقِ فَمِنْهُمْ مَنْ اكْتَفَى بِالتَّمْثِيلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ التَّحْقِيقَ فَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشْفِ إلَى أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ عِبَارَةٌ عَنْ اشْتِغَالِ الذِّمَّةِ بِوُجُودِ الْفِعْلِ الذِّهْنِيِّ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ إخْرَاجِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ، وَلَا شَكَّ فِي تَغَايُرِهِمَا، وَلِذَا لَا يَتَبَدَّلُ ذَلِكَ التَّصَوُّرُ بِتَبَدُّلِ الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ بِالْعَدَمِ بَلْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ، وَكَذَا فِي الْمَالِ أَصْلُ الْوُجُوبِ لُزُومُ مَالٍ مُتَصَوَّرٍ فِي الذِّمَّةِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ إخْرَاجُهُ مِنْ الْعَدَمِ إلَى

الْخِطَابِ) أَمَّا فِي الْأَوَّلَيْنِ فَلِأَنَّ خِطَابَ مَنْ لَا يَفْهَمُ لَغْوٌ، وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَيْنِ فَلِأَنَّهُمَا مُخَاطَبَانِ بِالصَّوْمِ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ. (وَلَا بُدَّ لِلْقَضَاءِ مِنْ وُجُوبِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ نَفْسُ الْوُجُوبِ ثَابِتًا وَيَكُونُ سَبَبُهُ) أَيْ سَبَبُ نَفْسِ الْوُجُوبِ (شَيْئًا غَيْرَ الْخِطَابِ وَهُوَ الْوَقْتُ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الْخِطَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُ الْوَقْتِ، وَالْخِطَابُ يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ فَالسَّبَبِيَّةُ مُنْحَصِرَةٌ فِيهِمَا إمَّا لِهَذَا أَوْ لِلْإِجْمَاعِ فَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ الْآخَرِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لَا يُدْرِكُونَ الْفَرْقَ بَيْنَ نَفْسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ أُقِيمَ مَالٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِهِ مَقَامَهُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْأَدَاءِ وَالْخُرُوجِ عَنْ الْعُهْدَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ ذَلِكَ الْمَالُ الْوَاجِبُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ الدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَأَدَاءِ الْفِعْلِ هَذَا كَلَامُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ اشْتِغَالَ الذِّمَّةِ بِوُجُودِ الْفِعْلِ الذِّهْنِيِّ أَوْ الْمَالِ الْمُتَصَوَّرِ مُجَرَّدُ عِبَارَةٍ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ تَصَوُّرُ مَنْ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَافِلًا كَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَلَا التَّصَوُّرُ فِي الْجُمْلَةِ إذْ لَا مَعْنَى لِاشْتِغَالِ ذِمَّةِ النَّائِمِ أَوْ الصَّبِيِّ بِصَلَاةٍ أَوْ مَالٍ يُوجَدُ فِي ذِهْنِ زَيْدٍ مَثَلًا، ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ تَسَامُحٌ، وَالْمُرَادُ لُزُومُ الْإِخْرَاجِ، وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ هُوَ اشْتِغَالُ الذِّمَّةِ بِفِعْلٍ أَوْ مَالٍ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ لُزُومُ تَفْرِيغِ الذِّمَّةِ عَمَّا اشْتَغَلَتْ بِهِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ لِلْفِعْلِ مَعْنًى مَصْدَرِيًّا هُوَ الْإِيقَاعُ وَمَعْنًى حَاصِلًا بِالْمَصْدَرِ وَهُوَ الْحَالَةُ الْمَخْصُوصَةُ فَلُزُومُ وُقُوعِ تِلْكَ الْحَالَةِ هُوَ نَفْسُ الْوُجُوبِ، وَلُزُومُ إيقَاعِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، وَكَذَا فِي الْمَالِيِّ لُزُومُ الْمَالِيِّ وَثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ نَفْسُ وُجُوبٍ، وَلُزُومُ تَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ لَهُ الْحَقُّ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَالْوُجُوبُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا صِفَةٌ لِشَيْءٍ آخَرَ فَهَذَا وَجْهُ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى، ثُمَّ إنَّهُمَا (يَفْتَرِقَانِ فِي) الْوُجُودِ أَمَّا فِي الْبَدَنِيِّ فَكَمَا فِي صَلَاةِ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَصَوْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فَإِنَّ وُقُوعَ الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي هِيَ الصَّلَاةُ أَوْ الصَّوْمُ لَازِمٌ نَظَرًا إلَى وُجُودِ السَّبَبِ وَأَهْلِيَّةِ الْمَحَلِّ، وَإِيقَاعُهَا مِنْ هَؤُلَاءِ غَيْرُ لَازِمٍ لِعَدَمِ الْخِطَابِ وَقِيَامِ الْمَانِعِ، وَأَمَّا فِي الْمَالِيِّ فَكَمَا فِي الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى الرَّجُلُ شَيْئًا بِثَمَنٍ غَيْرِ مُشَارٍ إلَيْهِ بِالتَّعْيِينِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ضَرُورَةُ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ بِلَا ثَمَنٍ، وَلَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ هَذَا حَاصِلُ كَلَامِهِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِلُزُومِ وُجُودِ الْحَالَةِ الْمَخْصُوصَةِ عَقِيبَ السَّبَبِ لُزُومُ وُجُودِهَا مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ كَالنَّائِمِ وَالْمَرِيضِ مَثَلًا فَلُزُومُ وُقُوعِ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ مِنْ الشَّخْصِ بِدُونِ لُزُومِ إيقَاعِهِ إيَّاهُ لَيْسَ بِمَعْقُولٍ بَلْ لُزُومُ الْوُقُوعِ عَنْهُ تِلْكَ الْحَالَةِ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ وَبَعْدَهَا كَمَا يَلْزَمُ الْوُقُوعُ يَلْزَمُ الْإِيقَاعُ، وَإِنْ أُرِيدَ لُزُومُ وُجُودِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِي الْجُمْلَةِ فَهَذَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْقَضَاءَ قَدْ يَكُونُ بِدُونِ سَابِقِيَّةِ الْوُجُوبِ عَلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَبْقِ وُجُوبٍ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ

الْوُجُوبِ وَوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَيَقُولُونَ إنَّ الْوُجُوبَ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْفِعْلِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ نَفْسُ الْوُجُوبِ هِيَ نَفْسُ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَهُمَا، وَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ أَبْدَعَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَمَا أَدَقَّ نَظَرَهُ، وَمَا أَمْتَنَ حِكْمَتَهُ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَقْتُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَ وَقْتٌ شَرِيفٌ كَانَ لَازِمًا أَنْ يُوجَدَ فِيهِ هَيْئَةٌ مَخْصُوصَةٌ وُضِعَتْ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ الصَّلَاةُ فَلُزُومُ وُجُودِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ عَقِيبَ السَّبَبِ هُوَ نَفْسُ الْوُجُوبِ، ثُمَّ الْأَدَاءُ هُوَ إيقَاعُ تِلْكَ الْهَيْئَةِ فَوُجُوبُ الْأَدَاءِ هُوَ لُزُومُ إيقَاعِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ، وَذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ أَوْجَبَ وُجُودَ تِلْكَ الْهَيْئَةِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ الدَّاعِي، ثُمَّ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْوُجُوبِ يَجِبُ إيقَاعُ تِلْكَ الْهَيْئَةِ فَالْوُجُوبُ الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ، وَهِيَ الْهَيْئَةُ، وَالثَّانِي بِأَدَائِهَا حَتَّى لَوْ كَانَ السَّبَبُ بِذَاتِهِ دَاعِيًا إلَى نَفْسِ الْإِيقَاعِ لَا إلَى الْهَيْئَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَلْزَمَ وُقُوعُ الْفِعْلِ مِنْ شَخْصٍ بِإِيقَاعِهِ إيَّاهُ فَلَمْ يَثْبُتْ وُجُوبٌ بِدُونِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَكَأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا يَتَعَسَّرُ التَّعْبِيرُ عَنْهُ فَإِنَّ الْمَعْذُورَ يَلْزَمُهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْعُذْرِ أَنْ يُوقِعَ الْفِعْلَ بَعْدَ زَوَالِ الْعُذْرِ لَوْ أَدْرَكَهُ، وَالْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ قَبْلَ الْمُطَالَبَةِ أَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ عِنْدَ الْمُطَالَبَةِ، وَلَا يَلْزَمُهُمَا الْإِيقَاعُ وَالْأَدَاءُ فِي الْحَالِ فَلَوْ قُلْنَا إنَّ الْوُجُوبَ هُوَ لُزُومُ إيقَاعِ الْفِعْلِ أَوْ أَدَاءِ الْمَالِ فِي زَمَانِ مَا بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ لُزُومُهُ فِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ لَمْ يَكُنْ بَعِيدًا. (قَوْلُهُ وَلَا أَدَاءَ عَلَيْهِمْ لِعَدَمِ الْخِطَابِ) فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ صَوْمُ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ أَدَاءً لِلْوَاجِبِ وَإِتْيَانًا بِالْمَأْمُورِ بِهِ قُلْنَا بَعْدَ الشُّرُوعِ بِتَوَجُّهِ الْخِطَابِ، وَيَلْزَمُ أَدَاءٌ كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ عَلَى الرَّأْيِ الْأَصَحِّ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبِ وَاحِدٌ لَا عَلَى التَّعْيِينِ. (قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ لِلْقَضَاءِ مِنْ وُجُوبِ الْأَصْلِ) ؛ لِأَنَّهُ إتْيَانٌ بِمِثْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ إلَّا أَنَّهُ يَكْفِي نَفْسُ الْوُجُوبِ عَلَى مَا مَرَّ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُوبِ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ قَدْ يَكُونُ نَفْسَ الْفِعْلِ فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَيَفْتَقِرُ إلَى الْقُدْرَةِ بِمَعْنَى سَلَامَةِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، وَقَدْ يَكُونُ ثُبُوتُ خَلْفِهِ، وَيَكْفِي فِيهِ تَوَهُّمُ ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ فَفِي مِثْلِ النَّائِمِ يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الْأَدَاءِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِتَوَهُّمِ حُدُوثِ الِانْتِبَاهِ، صَرَّحَ بِذَلِكَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ. (قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ الْخِطَابِ) تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ السَّبَبِ غَيْرَ الْخِطَابِ، وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ غَيْرُ الْوَقْتِ، وَالْخِطَابُ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ هُوَ الْوَقْتُ يَعْنِي أَنَّ السَّبَبِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْوَقْتِ وَالْخِطَابِ إمَّا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ وَلَا شَيْءَ غَيْرُهُمَا يَصْلُحُ لِلسَّبَبِيَّةِ، وَإِمَّا لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْوَقْتُ أَوْ الْخِطَابُ فَإِذَا انْتَفَى الْخِطَابُ تَعَيَّنَ الْوَقْتُ لِلسَّبَبِيَّةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ عَدَمَ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ اللَّغْوُ لَوْ كَانَ مُخَاطَبًا بِأَنْ يَفْعَلَ فِي حَالَةِ النَّوْمِ مَثَلًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُخَاطَبٌ

الْحَاصِلَةِ بِالْإِيقَاعِ فَلُزُومُ ذَلِكَ الْإِيقَاعِ يَكُونُ نَفْسَ الْوُجُوبِ فَإِذَا تَصَوَّرَهُ الْعَقْلُ لَازِمُ الْوُقُوعِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إيقَاعٍ فَلَزِمَ إيقَاعُ الْإِيقَاعِ هُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ، وَقَدْ يُوجَدُ نَفْسُ الْوُجُوبِ بِدُونِ الْوُجُوبِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، فَإِنَّ لُزُومَ وُجُودِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ الصَّوْمُ حَاصِلٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اللُّزُومَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّبَبَ دَاعٍ إلَيْهِ وَالْمَحَلُّ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ صَالِحٌ لِهَذَا فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ اللُّزُومُ لَمَا كَانَ السَّبَبُ سَبَبًا لَكِنْ لَا يَجِبُ إيقَاعُهُ مَعَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا إذَا وُجِدَ الْبَيْعُ بِثَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَالْبَيْعُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَقَدْ مَلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْلِكَ الْبَائِعُ مَالًا عَلَى الْمُشْتَرِي تَحْقِيقًا لِلْمُبَادَلَةِ فَهَذَا نَفْسُ الْوُجُوبِ، ثُمَّ لُزُومُ أَدَاءِ الْمَالِ الْوَاجِبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِأَنْ يَفْعَلَ بَعْدَ الِانْتِبَاهِ، وَالْمَرِيضُ مُخَاطَبٌ بِأَنْ يَفْعَلَ فِي الْوَقْتِ أَوْ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا خِطَابَ الْمَعْدُومِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ صُدُورُ الْفِعْلِ حَالَةَ الْوُجُودِ حَتَّى قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ الْقُدْرَةُ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ الْمَأْمُورُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْأَمْرِ بَلْ عِنْدَ الْأَدَاءِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مَبْعُوثًا إلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَصَحَّ أَمْرُهُ فِي حَقِّ مَنْ وُجِدَ بَعْدَهُ، وَيَلْزَمُهُمْ الْأَدَاءُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْلُغَهُمْ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْأَدَاءِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كَالْمَرِيضِ يُؤْمَرُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا بَرَّأَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء: 103] أَيْ إذَا أَمِنْتُمْ مِنْ الْخَوْفِ فَصَلُّوا بِلَا إيمَاءٍ. (قَوْلُهُ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبَبِ الدَّاعِي) لَا الْمُوجِدُ الْمُؤَثِّرُ فِي حُصُولِ الشَّيْءِ حَتَّى يَمْنَعَ صَلَاحِيَّةَ الْوَقْتِ لِلسَّبَبِيَّةِ. (قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ السَّبَبُ بِذَاتِهِ) يَعْنِي أَنَّ الْوُجُوبَ هُوَ لُزُومُ مَا كَانَ السَّبَبُ دَاعِيًا إلَيْهِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ لُزُومُ إيقَاعِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ السَّبَبُ إيقَاعًا أَوْ غَيْرَ إيقَاعٍ حَتَّى لَوْ كَانَ إيقَاعًا فَنَفْسُ الْوُجُوبِ هُوَ لُزُومُ الْإِيقَاعِ، وَوُجُوبُ الْأَدَاءِ هُوَ لُزُومُ إيقَاعِ الْإِيقَاعِ، وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِمَا يُقَالُ إنَّ الْوَاجِبَ رُبَّمَا يَكُونُ الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْإِيقَاعِ فَيَكُونُ لُزُومُ الْإِيقَاعِ نَفْسَ الْوُجُوبِ لَا وُجُوبَ الْأَدَاءِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ إذَا كَانَ الْوَقْتُ) لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَقْتِ وَالظَّرْفِ هُوَ مُطْلَقُ الْوَقْتِ حَتَّى يَقَعَ أَدَاءٌ فِي أَيِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ أَوْقَعَهُ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُؤَدِّي بِنِيَّةِ الْفَرْضِ وَالْأَدَاءِ وَلَا يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا السَّبَبُ فَكُلُّ الْوَقْتِ إنْ أَخْرَجَ الْفَرْضَ عَنْ وَقْتِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، وَإِلَّا فَالْبَعْضُ إذْ لَوْ كَانَ هُوَ الْكُلُّ لَزِمَ تَقَدُّمُ الْمُسَبِّبِ عَلَى السَّبَبِ أَوْ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بَعْدَ وَقْتِهِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ، أَمَّا لُزُومُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ فَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إنْ وَجَبَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ فَهُوَ الْأَمْرُ الثَّانِي، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ لَزِمَ تَقَدُّمُ وُجُوبِهَا عَلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ جَمِيعُ الْوَقْتِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْكُلَّ لَا يُوجَدُ إلَّا بِوُجُودِ جَمِيعِ

فَرْعٌ عَلَى الْأَوَّلِ فَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِنَفْسِ الْوُجُوبِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ السَّبَبَ لَيْسَ كُلَّ الْوَقْتِ بَلْ بَعْضَهُ فَقَالَ (ثُمَّ إذَا كَانَ الْوَقْتُ سَبَبًا، وَلَيْسَ ذَلِكَ كُلَّهُ) أَيْ السَّبَبُ لَيْسَ كُلَّ الْوَقْتِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْكُلُّ سَبَبًا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَجِبَ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ يَلْزَمُ التَّقَدُّمُ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْكُلُّ سَبَبًا فَمَا لَمْ يَنْقَضِ كُلُّ الْوَقْتِ لَا يُوجَدُ السَّبَبُ إنْ وَجَبَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ لَزِمَ الْأَدَاءُ بَعْدَ الْوَقْتِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَاطِلٌ فَلَا يَكُونُ الْكُلُّ سَبَبًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (لِأَنَّهُ إنْ وَجَبَتْ فِي الْوَقْتِ تَقَدَّمَ الْأَدَاءُ عَلَى السَّبَبِ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ فِيهِ تَأَخَّرَ الْأَدَاءُ عَنْ الْوَقْتِ فَالْبَعْضُ سَبَبٌ، وَلَا يَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ الْوُجُوبِ عَلَى مَنْ صَارَ أَهْلًا فِي الْآخِرِ إجْمَاعًا وَلَا الْآخِرُ، وَإِلَّا لَمَّا صَحَّ التَّقْدِيمُ عَلَيْهِ فَالْجُزْءُ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الْأَدَاءُ سَبَبٌ فَهَذَا الْجُزْءُ إنْ كَانَ كَامِلًا يَجِبُ الْأَدَاءُ كَامِلًا، فَإِذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ بِطُلُوعِ الشَّمْسِ يَفْسُدُ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا كَوَقْتِ الْأَحْمَرِ يَجِبُ كَذَلِكَ فَإِذَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ بِالْغُرُوبِ لَا يَفْسُدُ لِتَحَقُّقِ الْمُلَاءَمَةِ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْمُؤَدَّى) ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ نَاقِصًا، وَقَدْ أَدَّى كَمَا وَجَبَ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ شَرَعَ فِي الْوَقْتِ الْكَامِلِ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَجْزَائِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْنَ ظَرْفِيَّةِ كُلِّ الْوَقْتِ وَسَبَبِيَّتِهِ مُنَافَاةَ ضَرُورَةِ أَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَقْتَضِي الْإِحَاطَةَ وَالسَّبَبِيَّةَ التَّقَدُّمَ، وَقَدْ ثَبَتَ الْأَوَّلُ فَانْتَفَى الثَّانِي، ثُمَّ ذَلِكَ الْبَعْضُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَتْ عَلَى مَنْ صَارَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ بِقَدْرِ مَا يَسَعُهَا، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا آخِرَ الْوَقْتِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ الْأَدَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِامْتِنَاعِ التَّقَدُّمِ عَلَى السَّبَبِ فَإِنْ قِيلَ هُوَ سَبَبٌ لِنَفْسِ الْوُجُوبِ لَا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ قُلْنَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى نَفْسِ الْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَوَّلُ وَلَا الْآخِرُ فَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ، وَيَلِيهِ الشُّرُوعُ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السَّبَبِ هُوَ الْوُجُودُ، وَالِاتِّصَالُ بِالْمُسَبِّبِ فَلَا وَجْهَ لِلْعُدُولِ عَنْ الْقَرِيبِ الْقَائِمِ إلَى الْبَعِيدِ الْمُنْقَضِي، فَإِنْ قِيلَ الْمُسَبِّبُ هَاهُنَا نَفْسُ الْوُجُوبِ لَا الْأَدَاءُ حَتَّى يُعْتَبَرُ الِاتِّصَالُ قُلْنَا نَعَمْ إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ مُفْضٍ إلَى الْوُجُودِ أَعْنِي الْأَدَاءَ فَيَصِيرُ هُوَ أَيْضًا مُسَبِّبًا بِوَاسِطَةٍ فَيُعْتَبَرُ الِاتِّصَالُ بِهِ فَإِنْ اتَّصَلَ الْأَدَاءُ بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ تَعَيَّنَ لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ، وَإِلَّا تَنْتَقِلُ السَّبَبِيَّةُ إلَى الْجُزْءِ الَّذِي يَلِيهِ، وَهَكَذَا إلَى الْجُزْءِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ حِينَئِذٍ هُوَ جَمِيعُ الْأَجْزَاءِ مِنْ الْأَوَّلِ إلَى الِاتِّصَالِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَخَطِّيًا مِنْ الْقَلِيلِ إلَى الْكَثِيرِ بِلَا دَلِيلٍ، وَأَيْضًا فِيهِ جَعْلُ السَّبَبِ مَوْجُودًا بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ، وَهُوَ الْجُزْءُ الْقَائِمُ الْمُتَّصِلُ فَإِنْ قِيلَ: إنْ اتَّصَلَ الْأَدَاءُ بِالْجُزْءِ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ السَّبَبِيَّةُ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ، وَإِلَّا فَلَا سَبَبِيَّةَ لَهُ حَتَّى يَنْتَقِلَ عَنْهُ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَلَا انْتِقَالَ

كَامِلٌ لَا نُقْصَانَ فِيهِ قَطْعًا فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَامِلًا فَإِذَا فَسَدَ الْوَقْتُ بِالطُّلُوعِ يَكُونُ مُؤَدِّيًا كَمَا وَجَبَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَبَدَةَ الشَّمْسِ يَعْبُدُونَهَا فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ فَالْعِبَادَةُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مُشَابِهَةٌ لِعِبَادَةِ الشَّمْسِ فَلِهَذَا وَرَدَ النَّهْيُ وَعِبَادَةُ الشَّمْسِ إنَّمَا هِيَ بَعْدَ الطُّلُوعِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فَقَبْلَ الطُّلُوعِ وَقْتٌ كَامِلٌ وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْغُرُوبِ. (فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُ أَنْ يَفْسُدَ الْعَصْرُ إذَا شَرَعَ فِيهِ فِي الْجُزْءِ الصَّحِيحِ وَمَدَّهَا إلَى أَنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ قُلْنَا لَمَّا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا جَازَ لَهُ شَغْلُ كُلِّ الْوَقْتِ فَيُعْفَى الْفَسَادُ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْبِنَاءِ) الْبِنَاءُ هُنَا ضِدُّ الِابْتِدَاءِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ ابْتَدَأَ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتِ الْكَامِلِ، وَالْفَسَادُ الَّذِي اعْتَرَضَ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ جُعِلَ عُذْرًا؛ لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ مَعَ الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ مُتَعَذِّرٌ لَكِنَّ هَذَا يُشْكِلُ بِالْفَجْرِ، يَعْنِي مِنْ شَرْعِ فِي الْفَجْرِ وَمَدُّهَا إلَى أَنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْسُدَ كَمَا فِي الْعَصْرِ إذَا شَرَعَ فِي الْوَقْتِ الْكَامِلِ، وَمَدُّهَا إلَى أَنْ غَرَبَتْ، فَإِنَّ الصُّورَتَيْنِ الشُّرُوعُ فِي الْوَقْتِ الْكَامِلِ فَالْفَسَادُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْعَصْرِ أَنْ جُعِلَ عَفْوًا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ فِي الْفَجْرِ عَفْوًا بِعَيْنِ تِلْكَ الْعِلَّةِ هَذَا إشْكَالٌ اخْتَلَجَ ـــــــــــــــــــــــــــــQقُلْنَا لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ السَّبَبِيَّةِ عَنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ اتِّصَالِ الْأَدَاءِ بِهِ، وَإِنَّمَا الْمُنْتَفَى عَنْهُ تَقَرُّرُ السَّبَبِيَّةِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الِانْتِقَالَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ جُزْءٍ سَبَبٌ عَلَى طَرِيقِ التَّرْتِيبِ وَالِانْتِقَالِ لَكِنَّ تَقَرُّرَ السَّبَبِيَّةِ مَوْقُوفٌ عَلَى اتِّصَالِ الْأَدَاءِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ أَوْ تَوَقُّفُ السَّبَبِيَّةِ عَلَى الْأَدَاءِ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْوُجُوبِ الْمَوْقُوفِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ يَلْزَمُ الدَّوْرُ، وَكَذَا مَا يُقَالُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْوُجُوبُ مَا لَمْ يَشْرَعْ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ سَبَبِهِ وَفَسَادُهُ بَيِّنٌ. (قَوْلُهُ وَمَدَّهَا) أَيْ صَلَاةَ الْعَصْرِ إلَى أَنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ أَيْ قَبْلَ فَرَاغِهِ مِنْهَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِيَتَحَقَّقَ اعْتِرَاضُ الْفَسَادِ إذْ لَوْ حَصَلَ الْفَرَاغُ مَعَ الْغُرُوبِ لَمْ يَكُنْ فَسَادًا. (قَوْلُهُ قُلْنَا لَمَّا كَانَ الْوَقْتُ) كَلِمَةُ لَمَّا لَيْسَتْ فِي مَوْقِعِهَا إذْ لَا مَعْنَى لِسَبَبِيَّةِ الْأَوَّلِ لِلثَّانِي، وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْوَقْتَ مُتَّسَعًا، وَلَكِنْ جَعَلَ لَهُ حَقَّ شُغْلِ كُلِّ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي يَعْتَرِضُ عَلَى مَا وَجَبَ بِسَبَبٍ كَامِلٍ كَمَا فِي الْفَجْرِ أَوْ نَاقِصٍ كَمَا فِي الْعَصْرِ، وَيَتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْعَزِيمَةِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ هُوَ وُقُوعُ بَعْضِ الْأَدَاءِ خَارِجَ الْوَقْتِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ صَرَّحَ بِاعْتِرَاضِ الْفَسَادِ بِالْغُرُوبِ عَلَى مَا ابْتَدَأَ فِي وَقْتِ الِاحْمِرَارِ، وَوَجْهُ تَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ أَنْ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ أَنْ يَقَعَ فَرَاغُهُ مِنْ الصَّلَاةِ مَعَ تَمَامِ الْوَقْتِ مُقَارِنًا بَلْ لَا يَحْصُلُ التَّيَقُّنُ بِشُغْلِ كُلِّ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ إلَّا بِامْتِدَادِ الْأَدَاءِ إلَى التَّيَقُّنِ بِخُرُوجِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ الْقَوْمِ فَهُوَ وُقُوعُ بَعْضِ الْأَدَاءِ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ كَمَا بَعْدَ الْفَجْرِ وَمَا قَبْلَ الْمَغْرِبِ لَا مُجَرَّدُ وُقُوعِهِ

فِي خَاطِرِي، وَلَمْ أَذْكُرْ لَهُ جَوَابًا فِي الْمَتْنِ فَيَخْطِرُ بِبَالِي عَنْهُ جَوَابٌ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْعَصْرِ لَمَّا كَانَ لَهُ شُغْلٌ فِي الْوَقْتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَدِّيَ الْبَعْضَ فِي الْوَقْتِ الْكَامِلِ وَالْبَعْضَ فِي الْوَقْتِ النَّاقِصِ، وَهُوَ وَقْتُ الِاحْمِرَارِ فَاعْتَرَضَ الْفَسَادُ بِالْغُرُوبِ عَلَى الْبَعْضِ النَّاقِصِ فَلَا تَفْسُدُ، وَأَمَّا فِي الْفَجْرِ فَإِنَّ كُلَّ وَقْتِهِ كَامِلٌ فَيَجِبُ أَدَاءُ الْكُلِّ فِي الْوَقْتِ الْكَامِلِ، فَإِنْ شَغَلَ كُلَّ الْوَقْتِ يَجِبُ أَنْ يَشْغَلَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْتَرِضُ الْفَسَادُ بِالطُّلُوعِ عَلَى الْكَامِلِ. (وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ فَكُلُّ الْوَقْتِ سَبَبٌ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْكُلِّ إلَى الْجُزْءِ فِي الْأَدَاءِ كَانَ لِضَرُورَةٍ وَقَدْ انْتَفَتْ هُنَا) هَذَا الْبَحْثُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْوَقْتِ سَبَبٌ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَدَاءِ أَمَّا إذَا لَمْ يُؤَدِّ فِي الْوَقْتِ فَفِي حَقِّ الْقَضَاءِ كُلُّ الْوَقْتِ سَبَبٌ؛ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ دَالَّةٌ عَلَى سَبَبِيَّةِ كُلِّهِ لَكِنْ فِي الْأَدَاءِ عَدَلْنَا عَنْ سَبَبِيَّةِ الْكُلِّ إلَى سَبَبِيَّةِ الْبَعْضِ لِضَرُورَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ التَّقَدُّمُ عَلَى السَّبَبِ أَوْ تَأَخُّرُ الْأَدَاءِ عَنْ الْوَقْتِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي الْقَضَاءِ. (فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ) أَيْ لَا نَقُولُ إنَّهُ إذْ لَمْ يُؤَدِّ فِي الْوَقْتِ انْتَقَلَتْ السَّبَبِيَّةُ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْدَ الْوَقْتِ، إذْ لَا فَسَادَ فِيهِ لِمَا ذَكَرَ فِي طَرِيقَةِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ الْمَذْهَبَ هُوَ أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي الْوَقْتِ فِي الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ أَوْ الْعِشَاءِ فَأَتَمَّ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ كَانَ ذَلِكَ أَدَاءً لَا قَضَاءً، وَظَاهِرٌ أَنَّ شُغْلَ كُلِّ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ بِدُونِ هَذَا الْفَسَادِ مُمْتَنِعٌ فِي الْعَصْرِ دُونَ الْفَجْرِ بِلَا إشْكَالٍ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ إشْكَالِ الْفَجْرِ بِأَنَّ الْعَصْرَ يَخْرُجُ إلَى مَا هُوَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فِي الْجُمْلَةِ، بِخِلَافِ الْفَجْرِ أَوْ بِأَنَّ فِي الطُّلُوعِ دُخُولًا فِي الْكَرَاهَةِ وَفِي الْغُرُوبِ خُرُوجًا عَنْهَا، وَأَمَّا جَوَابُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ شُغْلَ كُلِّ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْتَرِضُ الْفَسَادَ بِالطُّلُوعِ عَلَى الْكَامِلِ مُتَعَذِّرٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا مَرَّ، فَعِنْدَ الْإِتْيَانِ بِالْعَزِيمَةِ أَعْنِي شُغْلَ كُلِّ الْوَقْتِ بِالْأَدَاءِ يَلْزَمُ احْتِمَالُ اعْتِرَاضِ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إلَى أَنَّ لَيْسَ مَعْنَى سَبَبِيَّةِ الْجُزْءِ الْمُتَّصِلِ بِالْأَدَاءِ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْءُ الَّذِي قُبَيْلَ الشُّرُوعِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فَكُلُّ جُزْءٍ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْجُزْءِ الَّذِي يُلَاقِيهِ وَمَحَلٌّ لِأَدَائِهِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ أَصْلُ السُّؤَالِ فِي الْعَصْرِ الْمُمْتَدِّ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي طَرَأَ عَلَيْهِ الْفَسَادُ بِالْغُرُوبِ وَجَبَ بِسَبَبٍ نَاقِصٍ. (قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ) فَالسَّبَبُ كُلُّ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ إذْ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ السَّبَبُ هُوَ الْجُزْءُ الْمُلَاصِقُ وَاحِدًا فَوَاحِدًا، إذْ لَوْ كَانَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْأَدَاءِ أَيْضًا جَمِيعَ الْوَقْتِ لَمَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي الْوَقْتِ، وَلَمْ يَأْثَمْ الْمُكَلَّفُ بِالتَّرْكِ عَلَى مَا مَرَّ. (قَوْلُهُ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ) حَتَّى لَا يَجُوزَ قَضَاءُ الْعَصْرِ الْفَائِتِ بِحَيْثُ يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ فَإِنْ قِيلَ السَّبَبُ، وَهُوَ كُلُّ الْوَقْتِ نَاقِصٌ بِنُقْصَانِ الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ قُلْنَا: لَمَّا صَارَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثَبَتَ بِصِفَةِ

إلَى آخِرِهِ فَاسْتَقَرَّتْ السَّبَبِيَّةُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ حَتَّى يَجِبَ الْقَضَاءُ نَاقِصًا فِي الْعَصْرِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي وَقْتِ الْغُرُوبِ بَلْ نَقُولُ الْكُلُّ سَبَبٌ لِلْقَضَاءِ فَيَجِبُ كَامِلًا. (ثُمَّ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ آخِرَ الْوَقْتِ إذْ هُنَا تَوَجَّهَ الْخِطَابُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ الْآنَ يَأْثَمُ بِالتَّرْكِ لَا قَبْلَهُ حَتَّى إذَا مَاتَ فِي الْوَقْتِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا شَرْعًا، وَالِاخْتِيَارُ فِي الْأَدَاءِ إلَى الْعَبْدِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِتَعْيِينِهِ نَصًّا إذْ لَيْسَ لَهُ، وَضْعُ الشَّرَائِعِ، وَإِنَّمَا لَهُ الِارْتِفَاقُ فِعْلًا فَيَتَعَيَّنُ فِعْلًا كَالْخِيَارِ فِي الْكَفَّارَاتِ، وَمِنْهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا شُرِعَ فِيهِ غَيْرُ هَذَا الْوَاجِبِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ، وَلَا يَسْقُطُ التَّعْيِينُ إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ بِحَيْثُ لَا يَسَعُ إلَّا لِهَذَا الْوَاجِبِ) هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْيِينَ إنَّمَا وَجَبَ لِاتِّسَاعِ الْوَقْتِ فَإِذَا ضَاقَ الْوَقْتُ يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ التَّعْيِينُ فَقَالَ. (لِأَنَّ مَا ثَبَتَ حُكْمًا أَصْلِيًّا) وَهُوَ وُجُوبُ التَّعْيِينِ بِالنِّيَّةِ، وَقَوْلُهُ حُكْمًا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ (بِنَاءً عَلَى سَعَةِ الْوَقْتِ لَا يَسْقُطُ بِالْعِوَاضِ وَتَقْصِيرِ الْعِبَادِ) . (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكَمَالِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْوَقْتِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْعِبَادَةِ فِيهِ تَشَبُّهًا بِالْكَفَرَةِ، فَإِذَا مَضَى خَالِيًا عَنْ الْفِعْلِ زَالَتْ مُخْلِيَتُهُ، وَبَقِيَتْ سَبَبِيَّتُهُ فَكَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا بِسَبَبٍ كَامِلٍ، وَلِهَذَا يَجِبُ الْقَضَاءُ كَامِلًا عَلَى مَنْ صَارَ أَهْلًا فِي آخِرِ الْعَصْرِ كَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْأَجْزَاءَ الصَّحِيحَةَ أَكْثَرُ فَيَجِبُ الْقَضَاءُ كَامِلًا تَرْجِيحًا لِلْأَكْثَرِ الصَّحِيحِ عَلَى الْأَقَلِّ الْفَاسِدِ. (قَوْلُهُ ثُمَّ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَثْبُتُ آخِرَ الْوَقْتِ) ، وَهُوَ مَا إذَا تَضَيَّقَ عَلَيْهِ الْوَاجِبُ بِحَيْثُ لَا يَفْضُلُ عَنْهُ جُزْءٌ مِنْ الْوَقْتِ إذْ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا يُقَالُ فَالْمُؤَدَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَا يَكُونُ إتْيَانًا بِالْأَدَاءِ الْوَاجِبِ وَبِالْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بَعْدَ الشُّرُوعِ يَجِبُ الْأَدَاءُ، وَيُتَوَجَّهُ الْخِطَابُ عَلَى مَا مَرَّ. (قَوْلُهُ وَمِنْ حُكْمِ هَذَا الْقِسْمِ) وَهُوَ مَا يَكُونُ الْوَقْتُ فَاضِلًا عَنْ الْوَاجِبِ، وَيُسَمَّى الْوَاجِبَ، الْمُوَسَّعَ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ نَصًّا بِأَنْ يَقُولَ عَيَّنْت هَذَا الْجُزْءَ لِلسَّبَبِيَّةِ وَلَا قَصْدًا بِأَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، وَهَذَا يُعْلَمُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ مِنْ وَضْعِ الشَّرَائِعِ، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لِلْعَبْدِ الِارْتِفَاقُ فِعْلًا أَيْ اخْتِيَارُ فِعْلٍ فِيهِ رِفْقٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِتَعْيِينِ جُزْءٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَيَسَّرُ فِيهِ الْأَدَاءُ بَلْ لَهُ الِاخْتِيَارُ فِي تَعْيِينِهِ فِعْلًا بِأَنْ يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ فِي أَيِّ جُزْءٍ يُرِيدُ فَيَتَعَيَّنُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ ذَلِكَ الْجُزْءُ وَقْتًا لِفِعْلِهِ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأُمُورِ مِنْ الْإِعْتَاقِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِطْعَامِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ شَيْءٌ مِنْهَا بِتَعْيِينِ الْمُكَلَّفِ قَصْدًا وَلَا نَصًّا بَلْ يَخْتَارُ أَيَّهَا شَاءَ فَيَفْعَلُهُ فَيَصِيرُ هُوَ الْوَاجِبُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُوَسَّعِ هُوَ الْأَدَاءُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ، وَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ وَفِي الْمُخَيَّرِ هُوَ أَحَدُ الْأُمُورِ

[القسم الثاني كون الوقت مساويا للواجب وسببا للوجوب]

الْوَقْتُ مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ. (فَوَقْتُ الصَّوْمِ وَهُوَ رَمَضَانُ) أَيْ نَهَارُ رَمَضَانَ (شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ وَمِعْيَارٌ لِلْمُؤَدَّيْ؛ لِأَنَّهُ قُدِّرَ وَعُرِفَ بِهِ) ، فَإِنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِالْوَقْتِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَمُعَرَّفٌ بِالْوَقْتِ، فَإِنَّهُ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ الصُّبْحِ إلَى الْغُرُوبِ مَعَ النِّيَّةِ فَالْوَقْتُ دَاخِلٌ فِي تَعْرِيفِ الصَّوْمِ. (وَسَبَبٌ لِلْوُجُوبِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لِلتَّعْلِيلِ) وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الشَّيْءُ خَبَرَا لِلِاسْمِ الْمَوْصُولِ، فَإِنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ لِلْخَبَرِ، وَقَدْ ذُكِرَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّهُ إذَا حُكِمَ عَلَى الْمُشْتَقِّ، فَإِنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ عِلَّةٌ لَهُ وَهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} [البقرة: 185] مَعْنَاهُ شَاهَدَ الشَّهْرَ فَالشُّهُودُ عِلَّةٌ. (وَلِنِسْبَةِ الصَّوْمِ إلَيْهِ وَلِتَكَرُّرِهِ بِهِ وَلِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فِيهِ لِلْمُسَافِرِ مَعَ عَدَمِ الْخِطَابِ، وَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ لَا يُشْرَعَ فِيهِ غَيْرُهُ فَلِهَذَا يَقَعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ رَمَضَانَ إذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ لَا كَمَا يُقَالُ فِي الْمُوَسَّعِ إنَّهُ لَا يَجِبُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَفِي الْآخِرِ قَضَاءٌ أَوْ يَجِبُ فِي الْآخِرِ، وَفِي الْأَوَّلِ نَفْلٌ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ، وَفِي الْمُخَيَّرِ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْجَمِيعُ وَيَسْقُطُ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ أَوْ الْوَاجِبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ شَيْءٌ آخَرُ وَهُوَ مَا يَفْعَلُهُ أَوْ الْوَاجِبُ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ لَكِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ وَبِالْآخَرِ [الْقِسْمُ الثَّانِي كون الْوَقْت مُسَاوِيًا لِلْوَاجِبِ وَسَبَبًا لِلْوُجُوبِ] (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ) أَيْ الصَّوْمَ قُدِّرَ بِالْوَقْتِ، وَلِهَذَا يَزْدَادُ بِازْدِيَادِهِ وَيَنْتَقِصُ بِانْتِقَاصِهِ وَعُرِفَ بِهِ أَيْ عُلِمَ مِقْدَارُ الصَّوْمِ بِهِ كَمَا يُعْلَمُ مَقَادِيرُ الْأَوْزَانِ بِالْمِعْيَارِ، وَأَمَّا التَّعْرِيفُ بِهِ بِمَعْنَى دُخُولِهِ فِي تَعْرِيفِ الصَّوْمِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا دَخْلَ لَهُ فِي الْمِعْيَارِ بِهِ إلَّا بِتَكَلُّفٍ. (قَوْلُهُ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ لِلتَّعْلِيلِ) أَيْ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَوْصُولِ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّةِ الصِّلَةِ لِلْخَبَرِ عَنْ صَلَاحِهَا لِذَلِكَ، بِخِلَافِ قَوْلِنَا الَّذِي فِي الدَّارِ رَجُلٌ عَالِمٌ عَلَى أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ مَنْ هَاهُنَا شَرْطِيَّةٌ فَتَكُونُ عَلَى السَّبَبِيَّةِ أَدَلَّ. (قَوْلُهُ وَلِنِسْبَةِ الصَّوْمِ) إلَى الشَّهْرِ كَقَوْلِنَا صَوْمُ رَمَضَانَ، وَالْأَصْلُ فِي الْإِضَافَةِ الِاخْتِصَاصُ الْأَكْمَلُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الثُّبُوتِ بِالسَّبَبِ سَابِقٌ عَلَى سَائِرِ وُجُوهِ الِاخْتِصَاصِ إلَّا أَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالْوَقْتِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى اخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَأُقِيمَ الْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ وَمُفْضٍ إلَى الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ مَقَامَهُ. (قَوْلُهُ وَلِصِحَّةِ الْأَدَاءِ فِيهِ) يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ إمَّا الْوَقْتُ وَإِمَّا الْخِطَابُ لِلْإِجْمَاعِ أَوْ لِعَدَمِ الثَّالِثِ، وَلَيْسَ هُوَ الْخِطَابُ بِدَلِيلِ صِحَّةِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ فِي الشَّهْرِ مَعَ عَدَمِ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِمَا فَتَعَيَّنَ الْوَقْتُ، ثُمَّ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ؛ لِأَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ بِالِارْتِفَاعِ عِنْدَ طَرَيَانِ النَّاقِضِ كَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا فَيَتَعَلَّقُ كُلٌّ بِسَبَبٍ، وَلِأَنَّ اللَّيْلَ يُنَافِي الصَّوْمَ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِهِ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ السَّبَبَ مُطْلَقُ شُهُودِ الشَّهْرِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ

نَوَى الْمُسَافِرُ وَاجِبًا آخَرَ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ هَذَا لَا غَيْرُ) إشَارَةٌ إلَى الصَّوْمِ الْمَخْصُوصِ بِرَمَضَانَ. (فِي حَقِّ الْجَمِيعِ وَلِهَذَا يَصِحُّ الْأَدَاءُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمُسَافِرِ. (لَكِنَّهُ رَخَّصَ بِالْفِطْرِ، وَذَا لَا يَجْعَلُ غَيْرَهُ مَشْرُوعًا فِيهِ قُلْنَا لَمَّا رُخِّصَ فِيهِ لِمَصَالِحِ بَدَنِهِ فَمَصَالِحُ دِينِهِ، وَهُوَ قَضَاءُ دِينِهِ أَوْلَى، وَإِنَّمَا لَمْ يُشْرَعْ لِلْمُسَافِرِ غَيْرُهُ إنْ أَتَى بِالْعَزِيمَةِ، وَهُنَا لَمْ يَأْتِ إذْ صَامَ وَاجِبًا آخَرَ) جَوَابٌ عَمَّا قَالَا إنَّ الْمَشْرُوعَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ صَوْمُ رَمَضَانَ لَا غَيْرُ فَنَقُولُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ هَذَا لَا غَيْرُ مُطْلَقًا بَلْ إنْ أَتَى الْمُسَافِرُ بِالْعَزِيمَةِ أَمَّا إذَا أَعْرَضَ عَنْهَا فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ. (وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ سَاقِطٌ عَنْهُ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فَعَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ) وَهُوَ قَوْلُهُ فَمَصَالِحُ دِينِهِ وَهُوَ قَضَاءُ دِينِهِ أَوْلَى. (إنْ شَرَعَ فِي النَّفْلِ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي وَاجِبٍ آخَرَ إنَّمَا يَقَعُ عَنْهُ لِمَصَالِحِ دِينِهِ، فَإِنَّ قَضَاءَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ النَّصِّ وَالْإِضَافَةِ فَإِنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ إلَّا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَقَدُّمُ الشَّيْءِ عَلَى سَبَبِهِ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ أَهْلًا فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ، ثُمَّ جُنَّ قَبْلَ الْإِصْبَاحِ وَأَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ، وَلِهَذَا يَجُوزُ نِيَّةُ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مَعَ عَدَمِ جَوَازِ النِّيَّةِ قَبْلَ سَبَبِ الْوُجُوبِ كَمَا إذَا نَوَى قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَسَبَبِيَّةُ اللَّيْلِ لَا تَقْتَضِي جَوَازَ الْأَدَاءِ فِيهِ كَمَنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ الرُّؤْيَةِ إجْمَاعًا بَلْ مَا يَثْبُتُ بِهَا وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ وَلَا لَا جِهَةَ لِلتَّعْبِيرِ بِالرُّؤْيَةِ عَنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَكُلٌّ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَإِنْ أَمْكَنَ دَفْعُهُ إلَّا أَنَّهَا أَمَارَاتٌ تُفِيدُ بِمَجْمُوعِهَا رُجْحَانَ سَبَبِيَّةِ شُهُودِ الشَّهْرِ مُطْلَقًا. (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ) عَطْفٌ عَلَى مَضْمُونِ الْكَلَامِ السَّابِقِ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَخَّصَ إلَخْ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ سَاقِطٌ عَنْهُ فَصَارَ رَمَضَانُ فِي حَقِّهِ أَيْ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ بَلْ فِي حَقِّ أَدَائِهِ وَتَسْلِيمِ مَا عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ شَعْبَانَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي حَقِّ أَدَائِهِ فِي حَقِّ نَفْسِ الْوُجُوبِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ شَعْبَانَ لِتَحَقُّقِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِيهِ دُونَ شَعْبَانَ. (قَوْلُهُ وَهُنَا رِوَايَتَانِ) رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَرَوَى الْحَسَنُ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ هَذَا إذَا نَوَى النَّفَلَ، وَإِنْ أَطْلَقَ النِّيَّةَ فَقِيلَ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ عَلَى مُقْتَضَى رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ فِي نِيَّةِ النَّفْلِ وَعَنْ النَّفْلِ عَلَى مُقْتَضَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ عَلَى جَمِيعِ الرِّوَايَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعْرِضْ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ بِصَرِيحِ نِيَّةِ النَّفْلِ فَانْصَرَفَ إطْلَاقُ النِّيَّةِ مِنْهُ إلَى صَوْمِ الْوَقْتِ كَالْمُقِيمِ، فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ جَازَ تَرْكُ الدَّلِيلِ الثَّانِي بِالْكُلِّيَّةِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ إنَّمَا يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ شَعْبَانَ إذَا تَحَقَّقَ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْعَزِيمَةِ، وَذَلِكَ بِنِيَّةِ صَرِيحِ النَّفْلِ أَوْ وَاجِبٍ آخَرَ. (قَوْلُهُ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ نَظَرٌ) جَوَابُهُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي

مَا فَاتَ أَوْلَى لِلْمُسَافِرِ مِنْ أَدَاءِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ قَبْلَ إدْرَاكِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَعَلَيْهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَإِذَا كَانَ الْوُقُوعُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ لِمَصَالِحِ دِينِهِ فَفِيمَا إذَا نَوَى النَّفَلَ فَمَصَالِحُ دِينِهِ إنَّمَا هِيَ أَدَاءُ رَمَضَانَ لَا النَّفْلِ. (وَعَلَى الثَّانِي) أَيْ وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّ الْوَقْتَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَشَعْبَانَ (يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ وَهُنَا رِوَايَتَانِ) أَيْ بِنَاءً عَلَى هَذَيْنِ الدَّلِيلَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. (وَإِنْ أَطْلَقَ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ إذَا لَمْ يُعْرِضْ عَنْ الْعَزِيمَةِ، وَأَمَّا الْمَرِيضُ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ لِتَعَلُّقِ الرُّخْصَةِ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ فَإِذَا صَامَ ظَهَرَ فَوَاتُ شَرْطِ الرُّخْصَةِ فِيهِ فَصَارَ كَالصَّحِيحِ، وَفِي الْمُسَافِرِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِدَلِيلِ الْعَجْزِ وَهُوَ السَّفَرُ فَشَرْطُ الرُّخْصَةِ ثَابِتٌ هُنَا) قَوْلُهُ ظَهَرَ فَوَاتُ شَرْطِ الرُّخْصَةِ فِيهِ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَخِّصَ هُوَ الْمَرَضُ الَّذِي يَزْدَادُ بِالصَّوْمِ لَا الْمَرَضِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الصَّوْمِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا صَامَ ظَهَرَ فَوَاتُ شَرْطِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَرِيضِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ، وَتَتَعَلَّقُ الرُّخْصَةُ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ، وَأَمَّا الَّذِي يَخَافُ فِيهِ ازْدِيَادَ الْمَرَضِ فَهُوَ كَالْمُسَافِرِ بِلَا خِلَافٍ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ بِالْمَرِيضِ الَّذِي يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ ازْدِيَادَ الْمَرَضِ. (قَوْلُهُ وَقَالَ زُفَرُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يَقَعُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ تَفْرِيعٍ آخَرَ عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ فِي الصَّوْمِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا إذَا أَمْسَكَ الصَّحِيحُ الْمُقِيمُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ فَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ صَوْمًا وَاقِعًا عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفِعْلِ فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ إيجَادُهُ لَكِنَّهُ أَخَذَ حُكْمَ الْمُعَيَّنِ الْمُسْتَحَقِّ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ، فَعَلَى أَيِّ وَصْفٍ وُجِدَ يَقَعُ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ، وَهَذَا كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا كَانَ فِعْلُهُ وَاقِعًا عَنْ جِهَةِ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَصَدَ بِهِ التَّبَرُّعَ أَوْ أَدَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ، وَقَيَّدَ الْأَجِيرَ بِالْخَاصِّ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي الْأَجِيرِ لِلْمُشْتَرَكِ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الثَّوْبِ لَا مَنَافِعُ الْأَجِيرِ، وَكَمَا إذَا وُهِبَ كُلُّ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ بِغَيْرِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ فَإِنْ قِيلَ: إيتَاءُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَى الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ زُفَرَ فَكَيْفَ بِالْهِبَةِ قُلْنَا الْمُرَادُ الْهِبَةُ مُتَفَرِّقَةً أَوْ الْفَقِيرُ الْمَدْيُونُ أَوْ الْكَلَامُ إلْزَامِيٌّ، وَالْجَوَابُ أَنَّ تَغْيِيرَ الْوَقْتِ لِلصَّوْمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقًا لِمَنَافِعِ الْعَبْدِ وَإِمْسَاكَاتِهِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ جَبْرُ الْعَدَمِ اخْتِيَارَ الْعَبْدِ فِي صَرْفِهَا فَلَا يَصْلُحُ عِبَادَةً وَقُرْبَةً؛ لِأَنَّهَا الْفِعْلُ الَّذِي يَقْصِدُ بِهِ الْعَبْدُ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَصْرِفُهُ عَنْ الْعَادَةِ إلَى الْعِبَادَةِ بِاخْتِيَارِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى تَعْيِينِ الشَّرْعِ إمْسَاكَ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْوَقْتِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَيَّنَ

الرُّخْصَةِ فَصَارَ كَالصَّحِيحِ. (وَقَالَ زُفَرُ) هَذِهِ مَسْأَلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَهِيَ أَنَّهُ (لَمَّا صَارَ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لَهُ فَكُلُّ إمْسَاكٍ يَقَعُ فِيهِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْفَاعِلِ) . أَيْ يَكُونُ حَقًّا مُسْتَحَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْفَاعِلِ كَالْأَجِيرِ الْخَاصِّ، فَإِنَّ مَنَافِعَهُ حَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ. (فَيَقَعُ الْفَرْضُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَهِبَةِ كُلِّ النِّصَابِ مِنْ الْفَقِيرِ بِغَيْرِ النِّيَّةِ قُلْنَا هَذَا يَكُونُ جَبْرًا، وَالشَّرْعُ عَيَّنَ الْإِمْسَاكَ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ لِهَذَا) أَيْ لِصَوْمِ رَمَضَانَ. (وَلَا قُرْبَةَ بِدُونِ الْقَصْدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا كَانَ مَنَافِعُهُ عَلَى مِلْكِهِ) لَا أَنَّ مَنَافِعَهُ صَارَتْ حَقًّا لِلَّهِ جَبْرًا لَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ لِئَلَّا يَصِيرَ جَبْرًا فِي صِفَةِ الْعِبَادَةِ قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْمُتَعَيَّنِ تَعْيِينٌ هَذَا قَوْلٌ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ أَيْ تَسْلِيمُ دَلِيلِ الْمُعَلَّلِ مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ عَلَى مَا يَأْتِي فَحَاصِلُهُ أَنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّعْيِينَ وَاجِبٌ لَكِنْ نَقُولُ الْإِطْلَاقُ فِي الْمُتَعَيَّنِ تَعْيِينٌ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ وَحْدَهُ فَقَالَ آخَرُ يَا إنْسَانُ فَالْمُرَادُ بِهِ زَيْدٌ. (وَلَا يَضُرُّ الْخَطَأُ فِي الْوَصْفِ) بِأَنْ نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ (لِأَنَّ الْوَصْفَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا يَبْطُلُ فَبَقِيَ الْإِطْلَاقُ وَهُوَ تَعْيِينٌ وَقَالَ) أَيْ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (لَمَّا وَجَبَ التَّعْيِينُ وَجَبَ ـــــــــــــــــــــــــــــQإمْسَاكَهُ الَّذِي يَكُونُ قُرْبَةً؛ لَأَنْ يَكُونَ صَوْمَ رَمَضَانَ لَا صَوْمًا آخَرَ، وَالْإِمْسَاكُ بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ النِّيَّةِ إذْ لَا قُرْبَةَ بِدُونِ الْقَصْدِ فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ الْمَنَافِعُ عَلَى مِلْكِ الْعَبْدِ غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَيْهِ فَلِمَ لَمْ يَجُزْ صَرْفُهَا إلَى صَوْمٍ آخَرَ قُلْنَا لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ صَوْمٍ آخَرَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا فِي اللَّيْلِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ فِيهِ أَصْلًا فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الْإِمْسَاكَ اخْتِيَارِيٌّ لَا جَبْرِيٌّ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ عَدَمِ تَحْقِيقِ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَأَمَّا هِبَةُ النِّصَابِ فَإِنَّمَا صَارَتْ زَكَاةً مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَجَازًا مِنْ الصَّدَقَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى لَا عِوَضٌ مِنْ الْفَقِيرِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَعْنَى الْقَصْدِ حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْمَحَلِّ، وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ بِحَاجَةِ الْمَحَلِّ لِحُصُولِ الثَّوَابِ بِمُجَرَّدِ الْهِبَةِ مِنْ الْفَقِيرِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ. (قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) لَمَّا كَانَتْ مَنَافِعُ الْعَبْدِ عَلَى مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَصِيرَ مُسْتَحَقَّةً لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ لَزِمَ تَعْيِينُ نِيَّةِ الْفَرْضِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجُبْنُ فِي صِفَةِ الْعِبَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ إمْسَاكُهُ عَلَى قَصْدِ الْقُرْبَةِ لِلْعِبَادَةِ الْمَفْرُوضَةِ شَاءَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَى، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ وَصْفَ الْعِبَادَةِ أَيْضًا عِبَادَةٌ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ ثَوَابًا فَكَمَا لَا بُدَّ لِصَيْرُورَةِ الْفِعْلِ قُرْبَةً مِنْ النِّيَّةِ كَذَلِكَ لَا بُدَّ لِصَيْرُورَةِ الْقُرْبَةِ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا مِنْهَا احْتِرَازًا عَنْ الْجَبْرِ، وَتَعْيِينُ الْمَحَلِّ إنَّمَا يَكْفِي لِلتَّمْيِيزِ لَا لِنَفْيِ الْجَبْرِ وَإِثْبَاتِ الْقَصْدِ، وَأَمَّا تَأَدِّي فَرْضِ الْحَجِّ بِدُونِ التَّعْيِينِ فَإِنَّمَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَتَأَدَّى فَرْضُ الصَّوْمِ بِنِيَّةِ التَّطَوُّعِ أَوْ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ مُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَلَوْ فِي الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ، وَالْجَوَابُ أَنَّا نُسَلِّمُ وُجُوبَ التَّعْيِينِ إلَّا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ التَّعْيِينُ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ، فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْمُتَعَيَّنِ تَعْيِينٌ كَمَا إذَا كَانَ فِي الدَّارِ زَيْدٌ

مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ فَإِذَا عُدِمَتْ فِي الْبَعْضِ فَسَدَ ذَلِكَ فَيَفْسُدُ الْكُلُّ لِعَدَمِ التَّجَزِّي) أَيْ لِعَدَمِ تَجَزِّي الصَّوْمِ صِحَّةً وَفَسَادًا، فَإِنَّهُ إذَا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ مِنْ الصَّوْمِ شَاعَ وَفَسَدَ الْكُلُّ. (وَالنِّيَّةُ الْمُعْتَرِضَةُ لَا تَقْبَلُ التَّقَدُّمَ قُلْنَا لَمَّا صَحَّ بِالنِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْ الْكُلِّ فَلَأَنْ يَصِحَّ بِالْمُتَّصِلَةِ بِالْبَعْضِ أَوْلَى) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّ النِّيَّةَ الْمُعْتَرِضَةَ لَا تَقْبَلُ التَّقَدُّمَ وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الِاسْتِنَادَ هُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ، وَيَرْجِعَ الْقَهْقَرَى حَتَّى يُحْكَمَ بِثُبُوتِهِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ كَالْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ حَتَّى إذَا اسْتَوْلَدَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَةَ فَهَلَكَتْ فَأَدَّى الضَّمَانَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْغَاصِبِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: إذَا اعْتَرَضَ النِّيَّةَ فِي النَّهَارِ لَا يُمْكِنُ تَقَدُّمُهُ إلَى الْفَجْرِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إنَّمَا يُمْكِنُ فِي الْأُمُورِ الثَّابِتَةِ شَرْعًا كَالْمِلْكِ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا فِي الْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِنَادُ، وَهُنَا صِحَّةُ الصَّوْمِ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ النِّيَّةِ وَهِيَ أَمْرٌ وِجْدَانِيٌّ فَإِذَا كَانَ حَاصِلًا فِي وَقْتٍ لَا يَكُونُ حَاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَنِدُ إذَا اعْتَرَضَتْ النِّيَّةُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَكَمَا فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ فَإِذَا لَمْ تَسْتَنِدْ بَقِيَ الْبَعْضُ بِلَا نِيَّةٍ. فَنُجِيبُ بِأَنَّا لَا نَقُولُ إنَّ النِّيَّةَ الْمُعْتَرِضَةَ تَثْبُتُ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ بِطَرِيقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَحْدَهُ، وَقُلْت يَا إنْسَانُ تَعَيَّنَ هُوَ لِلْإِحْضَارِ وَطَلَبِ الْإِقْبَالِ فَكَذَا هَاهُنَا لَمَّا لَمْ يُشْرَعْ فِي الْوَقْتِ إلَّا الصَّوْمُ الْفَرْضُ وَنَوَيْت مُطْلَقَ الصَّوْمِ تَعَيَّنَ هُوَ لِلْإِيجَادِ وَطَلَبِ الْحُصُولِ، فَإِنْ قِيلَ سَلَّمْنَا ذَلِكَ فِي إطْلَاقِ النِّيَّةِ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْصُلَ بِالْخَطَأِ فِي الْوَصْفِ بِأَنْ يَنْوِيَ النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ كَمَا لَا يُقَالُ زَيْدٌ بِاسْمِ عَمْرٍو قُلْنَا لَمَّا نَوَى الْأَصْلَ وَالْوَصْفَ، وَالْوَقْتُ قَابِلٌ لِلْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بُطْلَانِ الْوَصْفِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ اقْتَصَرَ الْبُطْلَانُ عَلَى الْوَصْفِ، وَبَقِيَ إطْلَاقُ أَصْلِ الصَّوْمِ فَإِنْ قُلْت الْوَصْفُ هَاهُنَا لَازِمٌ ضَرُورَةَ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يُوجَدُ بِدُونِ وَصْفٍ، وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا سِوَى النَّفْلِ فَبُطْلَانُهُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ الْأَصْلِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ بَلْ الْأَصْلُ وَالْوَصْفُ، وَإِنْ تَغَايَرَا بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ فَهُمَا وَاحِدٌ بِحَسَبِ الْوُجُودِ فَبُطْلَانُ أَحَدِهِمَا بُطْلَانُ الْآخَرِ قُلْت: اللَّازِمُ أَحَدُ الْأَوْصَافِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ فَبُطْلَانُ وَصْفٍ مُعَيَّنٍ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْأَصْلِ لِجَوَازِ أَنْ يُوجَدَ مَعَ وَصْفٍ آخَرَ كَالْفَرْضِ هَاهُنَا، ثُمَّ إنَّهَا أَوْصَافٌ رَاجِعَةٌ إلَى اعْتِبَارِ الشَّارِعِ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِبُطْلَانِ الْوَصْفِ بِمَعْنَى انْتِفَاءِ وَصْفِ النِّفَايَةِ عَنْ الصَّوْمِ لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَفِي الشَّيْءُ الَّذِي هُوَ نَفْلٌ لِيَكُونَ نَفْيًا لِلصَّوْمِ فَإِنْ قُلْتَ: نِيَّةُ النَّفْلِ إعْرَاضٌ عَنْ الْفَرْضِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَافَاةِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ النِّيَّةِ قُلْت الْإِعْرَاضُ إنَّمَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ نِيَّةِ النَّفْلِ، وَقَدْ لَغَتْ فَيَلْغُو مَا فِي ضِمْنِهَا، وَقَدْ يُجَابُ عَنْ أَصْلِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَصْفَ الْعِبَادَةِ يَكُونُ

الِاسْتِنَادِ بَلْ نَقُولُ إنَّ النِّيَّةَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ مُتَحَقِّقَةٌ تَقْدِيرًا، فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ مُقَارَنَةُ الْعَمَلِ بِالنِّيَّةِ فَإِذَا نَوَى فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ فَجَعَلَهَا الشَّرْعُ مُقَارِنَةً لِلْعَمَلِ تَقْدِيرًا فَكَذَا هُنَا، وَأَيْضًا إذَا كَانَ الْأَكْثَرُ مَقْرُونًا بِالنِّيَّةِ، وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ يَكُونُ الْكُلُّ مُقَارِنًا بِالنِّيَّةِ تَقْدِيرًا فَلِهَذَا قَالَ. (وَتَكُونُ تَقْدِيرِيَّةً لَا مُسْتَنِدَةً وَالطَّاعَةُ قَاصِرَةٌ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَادَةُ النَّاسِ فَيَكْفِيهَا النِّيَّةُ التَّقْدِيرِيَّةُ) فَلَا نَقُولُ إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ الصَّوْمِ إذَا خَلَا عَنْ النِّيَّةِ فَسَدَ، وَيَشِيعُ ذَلِكَ الْفَسَادُ، وَلَا يَعُودُ صَحِيحًا بِاعْتِرَاضِ النِّيَّةِ بَلْ نَقُولُ إنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِقَصْدِ الْعَبْدِ بَلْ هُوَ إلْزَامٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْغَرَضَ اسْمٌ لِمَا أَلْزَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ، وَثَبَتَ ذَلِكَ بِطَرِيقٍ قَطْعِيٍّ، بِخِلَافِ أَصْلِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَحْصُلُ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِالنِّيَّةِ بِأَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ تَوْجِيهَ فِعْلِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِمْسَاكُ الْمَقْرُونُ بِالنِّيَّةِ كَانَ عِبَادَةً، ثُمَّ اتِّصَافُهُ بِصِفَةِ الْفَرْضِيَّةِ لَا يَكُونُ بِفِعْلِ الْعَبْدِ بَلْ بِوُجُودِ الْإِلْزَامِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَنِيَّةُ النَّفْلِ أَوْ وَاجِبًا آخَرُ لَا يُسْقِطُ الْفَرْضِيَّةَ الثَّابِتَةَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إذْ لَا أَثَرَ لِظَنِّهِ أَنَّ اللَّازِمَ لَيْسَ بِلَازِمٍ كَالْمَوْلُودِ الثَّانِي يَتَّصِفُ بِالْأُخُوَّةِ، وَإِنْ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَخٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أُمَّهُ لَمْ تَلِدْ مَوْلُودًا آخَرَ ظَنًّا فَاسِدًا. (قَوْلُهُ فَيَفْسُدُ الْكُلُّ لِعَدَمِ التَّجَزِّي) لَا يُقَالُ صَحَّ الْبَعْضُ فَيَصِحُّ الْكُلُّ لِعَدَمِ التَّجَزِّي؛ لِأَنَّا نَقُولُ الصِّحَّةِ وُجُودِيٍّ فَنَفْتَقِرُ إلَى صِحَّةِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْفَسَادِ، وَأَيْضًا تَرْجِيحُ الْفَسَادِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ أَحْوَطُ. (قَوْلُهُ وَالنِّيَّةُ الْمُعْتَرِضَةُ) يَعْنِي أَنَّ اقْتِرَانَ النِّيَّةِ بِجَمِيعِ الْأَجْزَاءِ مُتَعَذِّرٌ وَبِأَوَّلِ الْأَجْزَاءِ مُتَعَسِّرٌ وَحَرِجٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيمِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْزِمَ فِي اللَّيْلِ أَنَّهُ يُمْسِكُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ وَلَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ عَزْمٌ عَلَى التَّرْكِ فَيُعْتَبَرُ اسْتِدَامَتُهُ كَالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ تُجْعَلُ بَاقِيَةً إلَى آخِرِهَا، وَأَمَّا النِّيَّةُ الْمُعْتَرِضَةُ فِي خِلَالِ الصَّوْمِ فَلَا تَقْبَلُ التَّقْدِيمَ عَلَى مَا مَضَى مِنْ الْإِمْسَاكَاتِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ حُكْمًا إذَا تُصُوِّرَ حَقِيقَةً كَالنِّيَّةِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَا تُعْتَبَرُ مُتَقَدِّمَةً، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّا لَا نَجْعَلُ النِّيَّةَ الْمُتَأَخِّرَةَ مُتَقَدِّمَةً بَلْ نَجْعَلُ النِّيَّةَ الْمَعْدُومَةَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُقَارِنَةَ لِبَعْضِ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ مُتَحَقِّقَةً تَقْدِيرًا كَمَا أَنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ الَّتِي لَا تُقَارِنُ شَيْئًا مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ تُعْتَبَرُ مُقَارِنَةً لَهَا تَقْدِيرًا، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ الصَّوْمُ بِالنِّيَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ فَلَأَنْ يَصِحَّ بِالنِّيَّةِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْبَعْضِ أَوْلَى لَكِنَّ جَعْلَ النِّيَّةِ بِاللَّيْلِ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُسَارَعَةِ إلَى الِامْتِثَالِ، فَإِنْ قِيلَ الْمَعْدُومُ الْمَسْبُوقُ بِالْوُجُودِ يُمْكِنُ أَنْ يُقَدَّرَ تَحَقُّقُهُ بِأَنْ يُجْعَلَ وُجُودُهُ فِي حُكْمِ الْبَاقِي بَلْ رُبَّمَا يُمْنَعُ طَرَيَانُ الْعَدَمِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِاللَّيْلِ، فَإِنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى فِعْلٍ يُجْعَلُ عَازِمًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى تَرْكِهِ، وَأَمَّا الْمَعْدُومُ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَلَا

الْجُزْءَ الْأَوَّلَ لَمْ يَفْسُدْ بَلْ مَوْقُوفَةٌ، فَإِنْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِي الْأَكْثَرِ عُلِمَ أَنَّ النِّيَّةَ التَّقْدِيرِيَّةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْأَوَّلِ، وَالنِّيَّةُ التَّقْدِيرِيَّةُ كَافِيَةٌ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ لِقُصُورِ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِي الْأَكْثَرِ عُلِمَ أَنَّ النِّيَّةَ التَّقْدِيرِيَّةَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِي الْأَوَّلِ. (عَلَى أَنَّا نُرَجِّحُ بِالْكَثْرَةِ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ، وَهَذَا التَّرْجِيحُ الَّذِي بِالذَّاتِ أَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِهِ بِالْوَصْفِ عَلَى مَا يَأْتِي فِي بَابِ التَّرْجِيحِ) اعْلَمْ أَنَّا نُرَجِّحُ الْبَعْضَ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ النِّيَّةُ عَلَى الْبَعْضِ الَّذِي لَمْ تُوجَدْ فِيهِ النِّيَّةُ بِالْكَثْرَةِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُرَجِّحُ عَلَى الْعَكْسِ بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ بِدُونِ النِّيَّةِ فَيَفْسُدُ ذَلِكَ الْبَعْضُ فَيَشِيعُ الْفَسَادُ إلَى الْبَعْضِ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ النِّيَّةُ فَيَرْجِعُ الْبَعْضُ الْفَاسِدُ عَلَى الْبَعْضِ الصَّحِيحِ بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ، وَنَحْنُ نُرَجِّحُ الْبَعْضَ الصَّحِيحَ عَلَى الْبَعْضِ الْفَاسِدِ الَّذِي لَمْ تُوجَدْ فِيهِ النِّيَّةُ بِالْكَثْرَةِ، وَتَرْجِيحُنَا تَرْجِيحٌ بِالذَّاتِيِّ؛ لِأَنَّا نُرَجِّحُ بِالْإِجْزَاءِ، وَتَرْجِيحُهُ بِالْوَصْفِ غَيْرُ الذَّاتِيِّ، وَهُوَ وَصْفُ الْعِبَادَةِ، فَإِنْ قِيلَ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَى لِتَقْدِيرِ تَحَقُّقِهِ قُلْنَا كَمَا أَنَّ الْمُنْقَضِيَ يُجْعَلُ كَائِنًا تَقْدِيرًا فَكَذَلِكَ الْآتِي؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ الْكَوْنِ، وَأَيْضًا يُجْعَلُ الِاقْتِرَانُ بِبَعْضِ الْأَجْزَاءِ بِمَنْزِلَةِ الِاقْتِرَانِ بِالْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ صَوْمًا جُمْلَةُ الْإِمْسَاكَاتِ فِي الْيَوْمِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَالْمُقْتَرِنُ بِجُزْءٍ مِنْهُ مُقْتَرِنٌ بِالْكُلِّ حُكْمًا، وَأَيْضًا لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيُجْعَلُ اقْتِرَانُ الْأَكْثَرِ بِالنِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ اقْتِرَانِ الْكُلِّ بِهَا فَإِنْ قِيلَ: الْبَعْضُ الْأَوَّلُ يَفْسُدُ قَبْلَ أَنْ تَقْتَرِنَ بِهِ النِّيَّةُ، وَبَعْدَ الْفَسَادِ لَا يَعُودُ صَحِيحًا قُلْنَا لَا بَلْ تَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ لِصُلُوحِهَا لِلصَّوْمِ، فَإِنْ صَادَفَتْ نِيَّةً فِي الْأَكْثَرِ صَارَتْ صَوْمًا، وَإِلَّا فَسَدَتْ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الِاقْتِرَانُ بِالْبَعْضِ كَافِيًا لَصَحَّ الصَّوْمُ بِنِيَّةٍ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ قُلْنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِمَّا لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ مِنْ وَجْهٍ لِيَكُونَ الِاقْتِرَانُ فِي حُكْمِ الِاقْتِرَانِ بِالْكُلِّ. (قَوْلُهُ وَالطَّاعَةُ قَاصِرَةٌ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ) لِقِلَّةِ مُخَالَفَةِ الْهَوَى بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِيَادِ الْأَكْلِ فِيهِ فَتَرْكُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهِ خَارِجٌ مَخْرَجَ الْعَادَةِ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَابْتِدَاءُ كَمَالِ الطَّاعَةِ مِنْ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى. (قَوْلُهُ وَفِي التَّأْخِيرِ أَيْضًا ضَرُورَةٌ) فَإِنْ قِيلَ ضَرُورَةُ التَّقْدِيمِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ الْجَمِيعِ، وَضَرُورَةُ التَّأْخِيرِ مُخْتَصَّةٌ بِالْبَعْضِ وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ دُونَ الْقَلِيلِ النَّادِرِ قُلْنَا: إنَّمَا سَوَّيْنَا فِي أَصْلِ الْحَاجَةِ لَا فِي قَدْرِهَا، وَالْخَاصُّ فِي مَوَاضِعِهِ كَالْعَامِّ فِي مَوَاضِعِهِ، وَضَرُورَةُ التَّأْخِيرِ لَيْسَتْ مِنْ النَّادِرِ الَّذِي لَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ بَلْ هِيَ كَثِيرَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً بِالْإِضَافَةِ إلَى ضَرُورَةِ التَّقْدِيمِ، فَإِنْ قِيلَ ضَرُورَةُ التَّأْخِيرِ لَا تَخْتَصُّ بِمَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ قُلْنَا نَعَمْ إلَّا أَنَّ فِيمَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ يُتْرَكُ الْكُلُّ إلَى خَلْفٍ وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَفِيمَا بَعْدَهُ يَفُوتُ الْأَصْلُ، وَالْخَلْفُ جَمِيعًا فَيَفُوتُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ بِمُقَابَلَةِ الْأَكْثَرِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، وَاعْلَمْ

التَّقْدِيمِ ضَرُورَةٌ، فَإِنَّ مُحَافَظَةَ وَقْتِ الصُّبْحِ مُتَعَذِّرَةٌ جِدًّا فَالتَّقْدِيمُ الَّذِي لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ الْمُنَافِي كَالِاتِّصَالِ قُلْنَا: وَفِي التَّأْخِيرِ أَيْضًا ضَرُورَةٌ كَمَا فِي يَوْمِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ نِيَّةِ الْفَرْضِ حَرَامٌ، وَنِيَّةُ النَّفْلِ لَغْوٌ عِنْدَكُمْ فَيَثْبُتُ الضَّرُورَةُ، وَأَيْضًا الضَّرُورَةُ لَازِمَةٌ فِي غَيْرِ يَوْمِ الشَّكِّ أَيْضًا إذَا نَسِيَ النِّيَّةَ فِي اللَّيْلِ أَوْ نَامَ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْوَقْتِ الَّذِي لَا دَرَكَ لَهُ أَصْلًا وَاجِبَةٌ حَتَّى أَنَّ الْأَدَاءَ مَعَ النُّقْصَانِ أَفْضَلُ مِنْ الْقَضَاءِ بِدُونِهِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا كَفَّارَةَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ الْمَنْوِيِّ نَهَارًا أَوَّلُهُمَا قَوْلُهُ لَمَا صَحَّ بِالنِّيَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ، وَثَانِيهِمَا قَوْلُهُ، وَلِأَنَّ صِيَانَةَ الْوَقْتِ الَّذِي إلَخْ، وَالدَّلِيلُ الثَّانِي يُشْعِرُ بِأَنَّ الصَّوْمَ الْمَنْوِيَّ نَهَارًا إنَّمَا يَصِحُّ ضَرُورَةَ أَنَّ الصِّيَانَةَ وَاجِبَةٌ فَعَلَى هَذَا الدَّلِيلِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إذَا أَفْسَدَهُ. (وَمِنْ حُكْمِهِ) أَيْ مِنْ حُكْمِ هَذَا الْقِسْمِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لِلْمُؤَدَّى. (أَنَّ الصَّوْمَ مُقَدَّرٌ بِكُلِّ الْيَوْمِ فَلَا يُقَدَّرُ النَّفَلُ بِبَعْضِهِ) أَيْ بِبَعْضِ النَّهَارِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَإِنَّ عِنْدَهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ مِنْ النَّهَارِ يَكُونُ صَوْمُهُ مِنْ زَمَانِ النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الزَّوَالِ. (وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ) أَيْ مِنْ جِنْسِ صَوْمِ رَمَضَانَ. (الْمَنْذُورُ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ يَصِحُّ بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَنِيَّةِ النَّفْلِ لَكِنْ إنْ صَامَ عَنْ، وَاجِبٍ آخَرَ يَصِحُّ عَنْهُ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ مُؤَثِّرٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ الْمُرَادَ بِنِصْفِ النَّهَارِ هَاهُنَا هُوَ الضَّحْوَةُ الْكُبْرَى؛ لِأَنَّهَا نِصْفُ النَّهَارِ الصَّوْمِيِّ أَعْنِي مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَمَّا الزَّوَالُ فَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ بِاعْتِبَارِ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَوْ نَوَى قُبَيْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِأَكْثَرِ النَّهَارِ الصَّوْمِيِّ. (قَوْلُهُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ) - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمَسْطُورُ فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ يَجُوزُ النَّفَلُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ بِشَرْطِ الْإِمْسَاكِ وَالْأَهْلِيَّةِ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ أَيْضًا، وَأَنَّهُ يَكُونُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ وَيَنَالُ ثَوَابَ صَوْمِ الْجَمِيعِ كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ (قَوْلُهُ وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ) يَعْنِي لَوْ نَذَرَ صَوْمَ رَجَبٍ أَوْ صَوْمَ يَوْمِ الْخَمِيسِ مَثَلًا فَهَذَا الصَّوْمُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْوَقْتَ مِعْيَارٌ لَا سَبَبٌ إلَّا أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ صَوْمِ رَمَضَانَ فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ لِذَلِكَ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ لَكِنْ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ وَقْتِ الْمَنْذُورِ إنَّمَا حَصَلَ بِتَعْيِينٍ مِنْ النَّاذِرِ لَا بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ فَيُؤَثِّرُ فِيمَا هُوَ حَقُّ النَّاذِرِ كَالنَّفْلِ حَتَّى يَنْصَرِفَ إلَى مَا تَعَيَّنَ لَهُ الْوَقْتُ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا هُوَ حَقُّ الشَّارِعِ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْآخَرُ فَلَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمَنْذُورِ بَلْ يَقَعُ عَمَّا نَوَى، فَإِنْ قُلْت قَدْ قَيَّدُوا، النَّذْرَ فِي أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ بِأَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَجَعَلُوا حُكْمَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ أَنَّ الْوَقْتَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا لِلصَّوْمِ افْتَقَرَ إلَى نِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمَنْذُورَ الْمُعَيَّنَ لَيْسَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ

[القسم الثالث كون الوقت معيارا لا سببا]

فِي حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَلُ لَا فِي حَقِّ الشَّارِعِ) ، فَإِنَّ الْوَقْتَ صَارَ مُتَعَيَّنًا بِتَعْيِينِ النَّاذِرِ فَتَعْيِينُهُ صَارَ مُؤَثِّرٌ فِي حَقِّهِ، وَهُوَ النَّفَلُ حَتَّى يَقَعَ عَنْ الْمَنْذُورِ بِسَبَبِ أَنَّ الْوَقْتَ مُتَعَيَّنٌ لِلْمَنْذُورِ بِتَعْيِينِهِ لَكِنْ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ أَيْ إنْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ لَا يَقَعُ عَنْ الْمَنْذُورِ. (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فَالْوَقْتُ مِعْيَارٌ لَا سَبَبٌ كَالْكَفَّارَاتِ، وَالنُّذُورِ الْمُطْلَقَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْوَقْتُ مُتَعَيَّنًا لَهَا كَانَ الصَّوْمُ مِنْ عَوَارِضِ الْوَقْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّبْيِيتِ) أَيْ مِنْ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ بِخِلَافِ صَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّ الْوَقْتَ مُتَعَيَّنٌ فَتَكْفِي النِّيَّةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْأَكْثَرِ، وَتَكُونُ النِّيَّةُ التَّقْدِيرِيَّةُ حَاصِلَةً فِي أَوَّلِ النَّهَارِ بِنَاءً عَلَى تَعْيِينِ الْوَقْتِ، فَإِنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ يُوجِبُ كَوْنَهُ صَائِمًا، وَهُنَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْوَقْتُ فَوَجَبَتْ النِّيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ الْمَشْرُوعُ الْأَصْلِيُّ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ كَالْفَرْضِ فِي رَمَضَانَ فَتَكْفِي النِّيَّةُ فِي الْأَكْثَرِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْحَجُّ فَيُشْبِهُ الظَّرْفَ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهُ لَا تَسْتَغْرِقُ أَوْقَاتَهُ، وَيُشْبِهُ الْمِعْيَارَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي عَامٍّ وَاحِدٍ إلَّا حَجٌّ وَاحِدٌ، وَلِأَنَّ وَقْتَهُ الْعُمْرُ فَيَكُونُ ظَرْفًا حَتَّى إنْ أَتَى بِهِ بَعْدَ الْعَامِ الْأَوَّلِ يَكُونُ أَدَاءً بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ مُضَيَّقًا لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَا يَسَعُ إلَّا حَجًّا وَاحِدًا فَيُشْبِهُ الْمِعْيَارَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ بِشَرْطِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْوَقْتَ فِيهِ لَيْسَ بِسَبَبٍ، وَإِنَّمَا السَّبَبُ هُوَ النَّذْرُ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْضًا بَلْ قِسْمًا بِرَأْسِهِ فَلَا تَنْحَصِرُ الْأَقْسَامُ فِي الْأَرْبَعَةِ قُلْنَا: لَيْسَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّالِثِ إلَّا مَا يَكُونُ الْوَقْتُ فِيهِ مِعْيَارًا لَا سَبَبًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَنْذُورَ الْمُعَيَّنَ كَذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ شَبِيهًا بِالْقِسْمِ الثَّانِي فِي تَعْيِينِ الْوَقْتِ، وَقَدْ بَيَّنُوا حُكْمَهُ اقْتَصَرُوا فِي أَمْثِلَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ وَأَحْكَامِهِ عَلَى مَا لَا يَكُونُ لَهُ شَبَهٌ بِالْقِسْمِ الثَّانِي فَقَيَّدُوا النَّذْرَ بِالْمُطْلَقِ لَا يُقَالُ الْوَقْتُ فِي الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ شَرْطٌ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِعْيَارٌ لَا غَيْرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّهَارَ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِ الصَّوْمِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا، وَالنَّهَارُ الْمُعَيَّنُ خَارِجٌ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ فِي الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ فَيَكُونُ شَرْطًا فِيهِ دُونَ الْمُطْلَقِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ عَدَمُ شَرْطِيَّةِ الْوَقْتِ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا يَكُونُ الْوَقْتُ مِعْيَارًا لَا سَبَبًا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِهِ شَرْطًا أَوْ غَيْرَ شَرْطٍ. [الْقِسْمُ الثَّالِثُ كَوْن الْوَقْت مِعْيَارًا لَا سَبَبًا] (قَوْلُهُ وَأَمَّا النَّفَلُ) جَوَابُ سُؤَالٍ تَقْرِيرُهُ أَنَّ عَدَمَ تَعَيُّنِ الْوَقْتِ لَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلتَّبْيِيتِ لَمَا صَحَّ النَّفَلُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَشْرُوعَ الْأَصْلِيَّ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ هُوَ صَوْمُ النَّفْلِ كَالْفَرْضِ فِي رَمَضَانَ فَيَكْفِي اقْتِرَانُ النِّيَّةِ بِالْأَكْثَرِ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِمْسَاكَاتِ الْغَيْرَ الْمُقْتَرِنَةِ بِالنِّيَّةِ تَكُونُ مَوْقُوفَةً لِأَجْلِ مَا هُوَ مَشْرُوعُ الْوَقْتِ، وَهُوَ الْفَرْضُ فِي رَمَضَانَ وَالنَّذْرُ فِي يَوْمِ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَالنَّفَلُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ الْأُخَرُ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ الْمُحْتَمَلَاتِ، فَإِذَا صَادَفَتْ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ نِيَّةَ

[القسم الرابع الحج يشبه الظرف والمعيار]

أَنْ لَا يَفُوتَهُ قَالَ الْكَرْخِيُّ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيْنَهُمَا فِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ أَيُوجِبُ الْفَوْرَ أَمْ لَا، وَعِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَمْرَ الْمُطْلَقِ لَا يُوجِبُ الْفَوْرَ اتِّفَاقًا بَيْنَنَا فَمَسْأَلَةُ الْحَجِّ مُبْتَدَأَةٌ فَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا كَانَ الْإِتْيَانُ بِهِ فِي الْعُمْرِ أَدَاءً إجْمَاعًا عُلِمَ أَنَّ كُلَّ الْعُمْرِ وَقْتُهُ كَقَضَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا وَجَبَ عَلَيْهِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ مَشْكُوكَةٌ حَتَّى إذَا أَدْرَكَ الْقَابِلَ زَالَ ذَلِكَ الشَّكُّ فَقَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّ الْحَيَاةَ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي غَالِبَةٌ فَاسْتَوَتْ الْأَيَّامُ كُلُّهَا، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا تَعَيَّنَ الْعَامُ الْأَوَّلُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْرَعَ فِيهِ النَّفَلَ قُلْنَا إنَّمَا عَيَّنَّا احْتِيَاطِيًّا احْتِرَازًا عَنْ الْفَوْتِ فَظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الِاسْمِ فَقَطْ لَا فِي أَنْ يُبْطِلَ اخْتِيَارَ جِهَةِ التَّقْصِيرِ وَالْإِثْمِ أَيْ لَمَّا كَانَ الْحَجُّ فَرْضَ الْعُمْرِ كَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ بِالْعَامِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا عَيَّنَّا احْتِيَاطًا لِئَلَّا يَفُوتَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا هُوَ مِنْ مَشْرُوعَاتِ الْوَقْتِ وَمُتَعَيِّنَاتِهِ انْصَرَفَتْ إلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ الْفَرْضُ وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ وَالنَّفَلُ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ [الْقِسْمُ الرَّابِعُ الْحَجُّ يُشْبِهُ الظَّرْفَ وَالْمِعْيَارَ] (قَوْلُهُ وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ) مِنْ الْمُوَقَّتِ فَهُوَ الْحَجُّ، فَإِنَّ وَقْتَهُ مُشْكِلٌ فِي الزِّيَادَةِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى سَنَةِ الْحَجِّ، وَذَلِكَ أَنَّ وَقْتَهُ يُشْبِهُ الظَّرْفَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ لَا تَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ وَقْتِ الْحَجِّ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ، وَيُشْبِهُ الْمِعْيَارَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي عَامٍ وَاحِدٍ إلَّا حَجٌّ وَاحِدٌ كَالنَّهَارِ لِلصَّوْمِ، وَثَانِيهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى سِنِي الْعُمْرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَقْتَهُ الْعُمْرُ وَهُوَ فَاضِلٌ عَلَى الْوَاجِبِ حَتَّى لَوْ أَتَى بِهِ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَانَ أَدَاءً بِالِاتِّفَاقِ لِوُقُوعِهِ فِي الْوَقْتِ إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ مُضَيَّقًا حَتَّى لَا يَجُوزَ تَأْخِيرُهُ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ لَا يَسَعُ إلَّا حَجًّا وَاحِدًا فَأَشْبَهَ الْمِعْيَارَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَسَعُ وَاجِبَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ، فَإِنْ عَاشَ أَدَّى، وَكَانَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ كُلِّ عَامٍ صَالِحَةً لِلْأَدَاءِ كَإِجْزَاءِ الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ مَاتَ تَعَيَّنَتْ الْأَشْهُرُ مِنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ كَالنَّهَارِ لِلصَّوْمِ فَثَبَتَ الْإِشْكَالُ، فَإِنْ قُلْت كَلَامُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشْكَلُ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَضَيَّقَ الْوَاجِبُ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ بِحَيْثُ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَعَيَّنَ أَنَّ وَقْتَهُ الْعَامُ الْأَوَّلُ لَا جَمِيعُ الْعُمْرِ فَكَيْفَ يَكُونُ فِي الْعَامِ الثَّانِي أَدَاءً، وَلَمَّا ثَبَتَ التَّوَسُّعُ وَجَازَ التَّأْخِيرُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَعَيَّنَ أَنَّ وَقْتَهُ جَمِيعُ الْعُمْرِ فَكَيْفَ يَأْثَمُ بِالْمَوْتِ فِي الْعَامِ الثَّانِي قُلْت حَكَمَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالتَّضْيِيقِ لِلِاحْتِيَاطِ لَا لِانْقِطَاعِ التَّوَسُّعِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَلِهَذَا جَازَ أَدَاؤُهُ فِي الْعَامِ الثَّانِي، وَحَكَمَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالتَّوَسُّعِ لِظَاهِرِ الْحَالِ فِي بَقَاءِ الْإِنْسَانِ لَا لِانْقِطَاعِ التَّضْيِيقِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلِهَذَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ لَوْ مَاتَ الْعَامَ الثَّانِي فَثَبَتَ أَنَّ وَقْتَهُ يُشْبِهُ كُلًّا مِنْ الظَّرْفِ وَالْمِعْيَارِ

[فصل الكفار هل يخاطبون بالشرائع أم لا]

وَيَظْهَرُ أَثَرُ هَذَا التَّعْيِينِ فِي الْإِثْمِ فَقَطْ أَيْ إنْ أَخَّرَ عَنْ الْعَامِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُدْرِكْ الْحَجَّ كَانَ آثِمًا لَكِنْ لَا يَظْهَرُ أَثَرُ التَّعْيِينِ فِي بُطْلَانِ اخْتِيَارِهِ لَمَّا اخْتَارَ جِهَةَ التَّقْصِيرِ وَالْإِثْمِ بِأَنْ أَدْرَكَ الْوَقْفَةَ وَلَمْ يَنْوِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بَلْ نَوَى النَّفَلَ. (وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَقْتُ يُشْبِهُ الْمِعْيَارَ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ لِمَا قُلْنَا، وَلِأَنَّ أَفْعَالَهُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِالْوَقْتِ) بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْوَقْتِ، فَإِنَّ الْمِعْيَارَ هُوَ مَا يُقَدَّرُ الشَّيْءُ بِهِ كَالْمِكْيَالِ وَنَحْوِهِ. (فَإِنْ تَطَوَّعَ) هَذَا جَوَابُ إذَا فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَقْتُ (وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ يَصِحُّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ إشْفَاقًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا) أَيْ التَّطَوُّعَ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ (مِنْ السَّفَهِ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ) أَيْ إذَا نَوَى التَّطَوُّعَ يُحْجَرُ عَنْ نِيَّةِ التَّطَوُّعِ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ فَبَقِيَتْ النِّيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، وَهِيَ كَافِيَةٌ. (عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ، وَبِلَا نِيَّةٍ كَمَنْ أَحْرَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ قُلْنَا: الْحَجْرُ يُفَوِّتُ الِاخْتِيَارَ، وَلَا عِبَادَةَ بِدُونِهِ أَمَّا الْإِطْلَاقُ فَفِيهِ دَلَالَةُ التَّعْيِينِ إذْ الظَّاهِرُ أَنْ لَا يَقْصِدَ النَّفَلَ، وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، وَالْإِحْرَامُ غَيْرُ مَقْصُودٍ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَمَنْ أَحْرَمَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعِنْدَهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ الرَّاجِحَ فِي الِاعْتِبَارِ هُوَ الْمِعْيَارِيَّةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالظَّرْفِيَّةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ احْتِرَازًا عَنْ الْفَوْتِ) يَعْنِي أَنَّ التَّعْيِينَ هُنَا ثَبَتَ بِعَارِضِ خَوْفِ الْمَوْتِ لَا أَنَّهُ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ فَأَثَرُ التَّعْيِينِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي حُرْمَةِ التَّأْخِيرِ وَحُصُولِ الْإِثْمِ لَا فِي انْتِفَاءِ شَرْعِيَّةِ النَّفْلِ، بِخِلَافِ تَعَيُّنِ رَمَضَانَ لِلْفَرْدِ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ أَصْلِيٌّ ثَبَتَ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ فَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الِاسْمِ وَعَدَمِ جَوَازِ النَّفْلِ جَمِيعًا. (قَوْلُهُ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ لَا تَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ أَجْزَاءِ وَقْتِهِ، وَلِأَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِالْوَقْتِ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ لَمْ يُقَدَّرْ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ وَقْتِ كَذَا إلَى وَقْتِ كَذَا كَمَا قُدِّرَ الصَّوْمُ بِكَوْنِهِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَإِذَا لَمْ يُقَدَّرْ بِالْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ الْوَقْتُ مِعْيَارًا، فَإِنْ قُلْت أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ قُلْت الْأَوَّلُ اسْتِدْلَالٌ بِعَدَمِ اللَّازِمِ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ، وَالثَّانِي اسْتِدْلَالٌ بِعَدَمِ الْحَدِّ عَلَى عَدَمِ الْمَحْدُودِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسْأَلَةَ صِحَّةِ التَّطَوُّعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِشَبَهِهِ بِالْمِعْيَارِ مَدْخَلٌ فِي ذَلِكَ فَذِكْرُهُ فِي مَضْمُونِ الشَّرْطِ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي. [فَصْلٌ الْكُفَّار هَلْ يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) فِي أَنَّ الْكُفَّارَ هَلْ يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي آخِرِ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَيَانِ الْأَهْلِيَّةِ حَيْثُ قَالَ: الْكَافِرُ أَهْلُ أَحْكَامٍ لَا يُرَادُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِأَدَائِهَا فَكَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِوُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ الَّتِي هِيَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الْخِطَابُ بِهَا مَوْضُوعًا عَنْهُ عِنْدَنَا، وَلَزِمَهُ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِأَدَائِهِ وَوُجُوبِ

عَنْهُ أَصْحَابُهُ. (بَلْ هُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا كَالْوُضُوءِ فَيَصِحُّ بِفِعْلِ غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ الْأَمْرِ) ، فَإِنَّ عَقْدَ الرَّفَاقَةِ دَلِيلُ الْأَمْرِ بِالْمُعَاوَنَةِ. (فَصْلٌ) هَذَا الْفَصْلُ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ هَلْ يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي أُصُولِ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَمَّا كَانَ مَهْمَا نَقَلْتُهُ مِنْ أُصُولِ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ. (ذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْكُفَّارَ يُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ، وَالْعُقُوبَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَبِالْعِبَادَاتِ فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الْآيَةَ اعْلَمْ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مُطْلَقًا إجْمَاعًا أَمَّا بِالْعِبَادَاتِ فَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ اتِّفَاقًا أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] وَأَمَّا فِي حَقِّ وُجُوبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُكْمِهِ، وَلَمْ يُجْعَلْ مُخَاطَبًا بِالشَّرَائِعِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ رَأْسُ أَسْبَابِ أَهْلِيَّةِ أَحْكَامِ نَعِيمِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يُجْعَلَ شَرْطًا مُقْتَضًى، وَقِيلَ إنَّ تَرْجَمَةَ الْفَصْلِ بِمَا ذَكَرَ خَطَأٌ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ مِنْ الْكَافِرِ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فَكَيْفَ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِهَا بَلْ التَّرْجَمَةُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ الْكُفَّارَ هَلْ يُخَاطَبُونَ بِالتَّوَصُّلِ إلَى فُرُوعِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ تَرْجَمَتَهُ هُوَ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ لِصِحَّةِ الشَّيْءِ كَالْإِيمَانِ لِصِحَّةِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّهَارَةِ لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَهَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ بِوُجُوبِ أَدَائِهِ أَمْ لَا، ثُمَّ صَوَّرُوا الْمَسْأَلَةَ فِي جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ، وَهُوَ تَكْلِيفُ الْكَافِرِ بِالْفُرُوعِ تَسْهِيلًا لِلْمُنَاظَرَةِ. (قَوْلُهُ فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْعِبَادَاتِ خَاصَّةً، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِتَرْكِ الِاعْتِقَادِ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْأَمْرِ اعْتِقَادُ اللُّزُومِ وَالْأَدَاءِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَمَذْهَبُ الْعِرَاقِيِّينَ أَنَّ الْخِطَابَ يَتَنَاوَلُهُمْ وَأَنَّ الْأَدَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِ دِيَارِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ أَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَاءِ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ وَالْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْأَدَاءِ حَالَ الْكُفْرِ وَلَا فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي أَنَّهُمْ هَلْ يُعَاقَبُونَ فِي الْآخِرَةِ بِتَرْكِ الْعِبَادَاتِ زِيَادَةً عَلَى عُقُوبَةِ الْكُفْرِ كَمَا يُعَاقَبُونَ بِتَرْكِ الِاعْتِقَادِ كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْمِيزَانِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرَ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ مِنْ أَنَّ تَكْلِيفَهُمْ بِالْفُرُوعِ إنَّمَا هُوَ لِتَعْذِيبِهِمْ بِتَرْكِهَا كَمَا يُعَذَّبُونَ بِتَرْكِ الْأُصُولِ فَظَهَرَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ هُوَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى تَرْكِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِتَرْكِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ. (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر: 44] أَوْرَدَ الْآيَةَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعَادَاتِ فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ، وَقَدْ نَبَّهْنَاكَ

الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَتْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ (أَمَّا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ) فَكَذَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجِبْ لَا يُؤَاخَذُونَ عَلَى تَرْكِهَا، وَلِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يَصْلُحُ مُخَفِّفًا، وَلَا يَضُرُّ كَوْنُهَا غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا مَعَ الْكُفْرِ. (جَوَابُ إشْكَالٍ وَهُوَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُعْتَدًّا بِهَا مَعَ الْكُفْرِ لَا يَكُونُ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ فَائِدَةٌ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ كَالْجُنُبِ يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِشَرْطِ الطَّهَارَةِ لَا عِنْدَ مَشَايِخِ دِيَارِنَا) يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَكَذَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ (لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُدْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ» الْحَدِيثَ) يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مُخْتَصَّةٌ بِتَقْدِيرِ الْإِجَابَةِ فَعَلَى تَقْدِيمِ عَدَمِ الْإِجَابَةِ لَا تُفْرَضُ أَمَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ لَا أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْفَرْضِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. (وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ، وَلَيْسَ فِي سُقُوطِ الْعِبَادَةِ عَنْهُمْ تَخْفِيفٌ بَلْ تَغْلِيظٌ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ الطَّبِيبَ لَا يَأْمُرُ الْعَلِيلَ بِشُرْبِ الدَّوَاءِ عِنْدَ الْيَأْسِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ فَكَذَا هَاهُنَا، وَقَدْ ذَكَرَ) أَيْ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (أَنَّ عُلَمَاءَنَا لَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْوِفَاقِ لَيْسَ هُوَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَرْكِ الْأَعْمَالِ بَلْ عَلَى تَرْكِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ، فَالْآيَةُ تَمَسُّكٌ لِلْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى تَرْكِ الْأَعْمَالِ أَيْضًا، وَلِذَا أَجَابَ عَنْهُ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ لَمْ نَكُنْ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ فَرْضِيَّةَ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْعَذَابُ عَلَى تَرْكِ الِاعْتِقَادِ، وَرُدَّ بِأَنَّهُ مَجَازٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ، فَإِنْ قِيلَ لَا حُجَّةَ فِي الْآيَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونُوا كَاذِبِينَ فِي إضَافَةِ الْعَذَابِ إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَلَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى تَكْذِيبُهُمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وَ {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} [النحل: 28] وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يَكُونُ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ تَرَكُوا الصَّلَاةَ حَالَ رِدَّتِهِمْ قُلْنَا: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ تَصْدِيقُهُمْ فِيمَا قَالُوا وَتَحْذِيرُ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ كَانَ كَذِبًا لَمَا كَانَ فِي الْآيَةِ فَائِدَةٌ، وَتَرْكُ التَّكْذِيبِ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا كَانَ الْعَقْلُ مُسْتَقِلًّا بِكَذِبِهِ كَمَا فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَهَاهُنَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَالْمُجْرِمُونَ عَامٌّ لَا مُخَصِّصَ لَهُ بِالْمُرْتَدِّينَ. (قَوْلُهُ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى الْفَرْضِيَّةِ) مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةَ فِي حَقِّ فَرْضِيَّةِ الصَّلَاةِ دَلِيلٌ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِعْلَامِ لَا نَفْسُ الْفَرْضِيَّةِ. (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْعِبَادَةِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ) أُجِيبَ بِأَنَّهُ لِنَيْلِ الثَّوَابِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ بِهِ وَلِاسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّرْكِ فَالْكُفَّارُ إنْ تَوَصَّلُوا إلَى الْمَأْمُورِ بِهِ بِتَحْصِيلِ شَرَائِطِهِ فَالثَّوَابُ وَإِلَّا فَالْعِقَابُ وَعَدَمُ الْأَهْلِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَحْصِيلِ

يَنُصُّوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَدَلُّوا مِنْ مَسَائِلِهِمْ عَلَى هَذَا، وَعَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَاسْتَدَلَّ الْبَعْضُ بِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ صَلَاةِ الرِّدَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُخَاطَبٌ بِهَا. (وَالْبَعْضُ بِأَنَّهُ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَعَلَيْهِ الْأَدَاءُ خِلَافًا لَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ يَنْعَدِمُ بِالرِّدَّةِ، وَصِحَّةُ مَا مَضَى كَانَتْ بِنَاءً عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْخِطَابِ فَإِذَا عُلِمَ الْخِطَابُ عُدِمَ صِحَّةُ مَا مَضَى (فَبَطَلَ ذَلِكَ الْأَدَاءُ فَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ، وَجَبَ ابْتِدَاءً، وَعِنْدَهُ الْخِطَابُ بَاقٍ فَلَا يَبْطُلُ الْأَدَاءُ، وَالْبَعْضُ فَرَّعُوهُ عَلَى أَنَّ الشَّرَائِعَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، وَهُمْ يُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ فَقَطْ) فَلَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْإِيمَانِ، وَيُخَاطَبُونَ عِنْدَهُ لِكَوْنِهَا مِنْ الْإِيمَانِ عِنْدَهُ. (وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ) فَاحْتَجَّ عَلَى ضَعْفِ الِاسْتِدْلَالِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْقُطُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فَسُقُوطُ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بَلْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا لَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَنْتَهُوا} [الأنفال: 38] الْآيَةَ، وَاحْتَجَّ عَلَى ضَعْفِ الِاسْتِدْلَالِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّ الْمُؤَدَّى إنَّمَا بَطَلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْطِ أَعْنِي الْإِيمَانَ، وَأَيْضًا مَنْقُوضٌ بِالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا لِنَيْلِ الثَّوَابِ، فَإِنْ قِيلَ الْإِيمَانُ رَأْسُ الطَّاعَاتِ وَأَسَاسُ الْعِبَادَاتِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ شَرْطًا وَتَبَعًا لِوُجُوبِ الْفُرُوعِ أَلَا يُرَى أَنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ تَزَوَّجْ أَرْبَعًا لَا تُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ بِذَلِكَ.؟ قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَثْبُتُ وُجُوبُ الْإِيمَانِ بِالْأَوَامِرِ الْمُسْتَقِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِيهِ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ الْأَمْرِ بِالْفُرُوعِ. (قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي سُقُوطِ الْعِبَادَةِ عَنْهُمْ تَخْفِيفٌ) جَوَابٌ عَنْ التَّمَسُّكِ الثَّانِي لِلْفَرِيقِ الْأَوَّلِ يَعْنِي أَنَّ سُقُوطَ الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لَيْسَ لِلتَّخْفِيفِ بَلْ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْ أَهْلِيَّةِ ثَوَابِ الْعِبَادَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ الْخِطَابَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا أَوْ لَا تُسَلَّمُ الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى تَرْكِ الْعِبَادَةِ بَلْ هُوَ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَإِنَّمَا الْمُؤَاخَذَةُ عَلَى تَرْكِ اعْتِقَادِ الْوُجُوبِ عَلَى مَا مَرَّ. (قَوْلُهُ وَصِحَّةُ مَا مَضَى كَانَتْ بِنَاءً عَلَى الْخِطَابِ) ضَعِيفٌ إذْ الصِّحَّةُ إنَّمَا تُبْتَنَى عَلَى وُرُودِ الْخِطَابِ وَتَعَلُّقِهِ لَا عَلَى بَقَاءِ تَعَلُّقِهِ كَيْفَ وَالْأَدَاءُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا هُوَ لِسُقُوطِ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُؤَدِّي. (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ} [المائدة: 5] الْآيَةَ، هُوَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] الْآيَةَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ. (قَوْلُهُ عِنْدَنَا) لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بَلْ هُوَ لِتَحْقِيقِ أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي كَوْنِ

[فصل النهي إما عن الحسيات وإما عن الشرعيات]

{وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] فَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْوَقْتِ يَجِبُ لَا مَحَالَةَ) أَيْ فَإِذَا حَبِطَ الْعَمَلُ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَالْوَقْتُ بَاقٍ يَجِبُ عَلَيْهِ قَطْعًا، وَاحْتَجَّ عَلَى ضَعْفِ التَّفْرِيعِ الْمَذْكُورِ بِقَوْلِهِ. (وَلِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ لِلْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَعَ الْإِيمَانِ) فَقَوْلُهُمْ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ فَقَطْ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ لَمَّا أَبْطَلَ الِاسْتِدْلَالَاتِ الْمَذْكُورَةَ قَالَ (وَالِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ بِصَوْمِ شَهْرٍ، ثُمَّ ارْتَدَّ، ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ) فَعُلِمَ أَنَّ الرِّدَّةَ تُبْطِلُ وُجُوبَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ. (فَصْلٌ وَالنَّهْيُ إمَّا عَنْ الْحِسِّيَّاتِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ) الْمُرَادُ بِالْحِسِّيَّاتِ مَا لَهَا وُجُودٌ حِسِّيٌّ فَقَطْ، وَالْمُرَادُ بِالشَّرْعِيَّاتِ مَا لَهَا وُجُودٌ شَرْعِيٌّ مَعَ الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ كَالْبَيْعِ، فَإِنَّ لَهُ وُجُودًا حِسِّيًّا، فَإِنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ مَوْجُودَانِ حِسًّا، وَمَعَ هَذَا الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ الشَّرْعَ يَحْكُمُ بِأَنَّ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولَ الْمَوْجُودَيْنِ حِسًّا يَرْتَبِطَانِ ارْتِبَاطًا حُكْمِيًّا فَيَحْصُلُ مَعْنًى شَرْعِيٌّ يَكُونُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي أَثَرًا لَهُ فَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْبَيْعُ حَتَّى إذَا وُجِدَ الْإِيجَابُ، وَالْقَبُولُ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ لَا يَعْتَبِرُهُ الشَّرْعُ بَيْعًا، وَإِذَا وُجِدَ مَعَ الْخِيَارِ يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِوُجُودِ الْبَيْعِ بِلَا تَرَتُّبِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ. (فَيَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ اتِّفَاقًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِبَادَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ. (قَوْلُهُ وَالِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ) لَا يُقَالُ إنَّهُ خَرَجَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا فِي السَّيِّئَاتِ، وَنَذْرُ الصَّوْمِ مِنْ الْحَسَنَاتِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ النَّذْرَ مِنْ الْأَعْمَالِ فَيَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ. [فَصْلٌ النَّهْيُ إمَّا عَنْ الْحِسِّيَّاتِ وَإِمَّا عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ] (قَوْلُهُ فَصْلٌ) النَّهْيُ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ لَا تَفْعَلْ اسْتِعْلَاءً أَوْ طَلَبُ تَرْكِ الْفِعْلِ أَوْ طَلَبُ كَفٍّ عَنْ الْفِعْلِ اسْتِعْلَاءً، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ أَوْ الْكَرَاهَةِ أَوْ فِيهِمَا اشْتِرَاكًا لَفْظِيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا كَمَا سَبَقَ فِي الْأَمْرِ، ثُمَّ النَّهْيُ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ اعْتِقَادَاتِهِمْ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَهْيًا عَنْ فِعْلٍ حِسِّيٍّ أَوْ شَرْعِيٍّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أَوْ مَعَ قَرِينَةٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ حُكْمِ الْمُطْلَقِ، وَفُسِّرَ الشَّرْعِيُّ بِمَا يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقُهُ عَلَى الشَّرْعِيِّ وَالْحِسِّيِّ بِخِلَافِهِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُكَلَّفِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الشَّرْعِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُسْتَغْنِيَ عَنْ الشَّرْعِ هُوَ نَفْسُ الْفِعْلِ، وَأَمَّا مَعَ وَصْفِ كَوْنِهِ عِبَادَةً أَوْ عُقِدَ مَخْصُوصًا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَرَائِطَ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الشَّرْعِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُتَوَقِّفَ عَلَى الشَّرْعِ حِينَئِذٍ هُوَ وَصْفُ كَوْنِهِ عِبَادَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ فَفِي الْحِسِّيَّاتِ أَيْضًا وَصْفُ كَوْنِ الزِّنَا أَوْ الشُّرْبِ مَعْصِيَةً لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالشُّرْبِ، فَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِمَا يَكُونُ لَهُ مَعَ تَحَقُّقِهِ الْحِسِّيِّ تَحَقُّقَ شَرْعِيٍّ بِأَرْكَانٍ وَشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ بِحَيْثُ لَوْ انْتَفَى بَعْضُهَا لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَلَمْ يَحْكُمْ بِتَحَقُّقِهِ كَالصَّلَاةِ بِلَا طَهَارَةٍ وَالْبَيْعِ الْوَارِدِ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَحَلٍّ، وَإِنْ وُجِدَ الْفِعْلُ الْحِسِّيُّ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْإِيجَابِ

إلَّا بِدَلِيلِ أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ غَيْرِهِ فَهُوَ إنْ كَانَ وَصْفًا فَكَالْأَوَّلِ لَا إنْ كَانَ مُجَاوِرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَأَمَّا عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ كَالصَّوْمِ وَالْبَيْعِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ كَالْأَوَّلِ، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ فَيَصِحُّ وَيُشْرَعُ بِأَصْلِهِ إلَّا بِدَلِيلِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ إنَّ الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا) اعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْقُبْحَ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَفْظَ الِاقْتِضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا يَنْهَى عَنْ الشَّيْءِ لِقُبْحِهِ لَا أَنَّ النَّهْيَ يُثْبِتُ الْقُبْحَ، فَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ عَيْنُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قَبِيحًا لَا غَيْرُهُ فَقُبْحُ عَيْنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إمَّا لِقُبْحِ جَمِيعِ أَجْزَائِهِ أَوْ بَعْضِ أَجْزَائِهِ، فَالْقُبْحُ لِبَعْضِ أَجْزَائِهِ دَاخِلٌ فِي الْقُبْحِ لِعَيْنِهِ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ لَا يُصْرَفُ عَنْهُ إلَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَبِيحًا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ ذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ وَصْفًا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ الْقِسْمَ الْأَوَّلَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ، وَهَذَا حَرَامٌ لِغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرًا لَا يُلْحَقُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] دَلَّ الدَّلِيلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْقَبُولِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْفِعْلَ إنْ كَانَ مَوْضُوعًا فِي الشَّرْعِ لِحُكْمٍ مَطْلُوبٍ فَشَرْعِيٌّ وَإِلَّا فَحِسِّيٌّ. (قَوْلُهُ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ) أَشَارَ بِلَفْظِ الِاقْتِضَاءِ إلَى أَنَّ الْقُبْحَ لَازِمٌ مُتَقَدِّمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ قَبِيحًا فَيَنْهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا أَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ قُبْحَهُ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْقُبْحِ لِعَيْنِهِ أَيْ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ، بِوَاسِطَةِ الْقَرِينَةِ يُحْمَلُ عَلَى الْقَبِيحِ لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرِ إنْ كَانَ وَصْفًا، قَائِمًا بِالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرًا مُنْفَصِلًا عَنْهُ فَلَا، وَالنَّهْيُ عَنْ الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الْقَبِيحِ لِغَيْرِهِ بِوَاسِطَةِ الْقَرِينَةِ عَلَى الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْعَكْسِ، وَثَمَرَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ هَلْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ أَمْ لَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّارِعَ وَضَعَ بَعْضَ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ لِأَحْكَامٍ مَقْصُودَةٍ كَالصَّوْمِ لِلثَّوَابِ وَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ، وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَهَلْ بَقِيَ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ ذَلِكَ الْوَضْعُ الشَّرْعِيُّ حَتَّى يَكُونَ الصَّوْمُ فِي يَوْمِ الْعِيدِ مَنَاطًا لِلثَّوَابِ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ أَوْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الْوَضْعُ فِيهَا فَمَنْ حَكَمَ بِارْتِفَاعِ الْوَضْعِ جَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ وَمَنْ لَا فَلَا لِتَنَافِي الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ وَالْقُبْحُ الذَّاتِيُّ ثُمَّ الْفِعْلُ الشَّرْعِيُّ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ إنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ قُبْحَهُ لِعَيْنِهِ فَبَاطِلٌ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ مُجَاوِرًا فَهُوَ صَحِيحٌ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا فَفَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قُبْحَهُ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَبَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى لَا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِحُّ بِأَصْلِهِ لَكِنْ لَا يَفْسُدُ بِوَصْفِهِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْقُبْحَ لِوَصْفِهِ. (قَوْلُهُ قُلْنَا: حَقِيقَةُ النَّهْيِ) أَصْلُ هَذَا الدَّلِيلِ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْقُرْبَانِ لِلْمُجَاوِرِ، وَهُوَ الْأَذَى حَتَّى إنْ قَرِبَهَا وَوُجِدَ الْعُلُوقُ يَثْبُتُ النَّسَبُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ كَالْأَوَّلِ أَيْ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ إلَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِغَيْرِهِ، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ بِأَصْلِهِ إلَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِعَيْنِهِ، ثُمَّ كُلُّ مَا هُوَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا، وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَا لِلشَّرْعِيَّاتِ نَظِيرَيْنِ الصَّوْمَ وَالْبَيْعَ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ يَقُولُ لَا صِحَّةَ لَهَا أَيْ لِلشَّرْعِيَّاتِ (شَرْعًا إلَّا وَأَنْ تَكُونَ مَشْرُوعَةً، وَلَا تَكُونُ مَشْرُوعَةً مَعَ نَهْيِ الشَّرْعِ عَنْهَا إذْ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْمَشْرُوعِيَّةِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ انْتَفَتْ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْقُبْحَ وَهُوَ يُنَافِي الْمَشْرُوعِيَّةَ) اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَمْرَيْنِ أَوَّلُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ بِلَا قَرِينَةٍ أَصْلًا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ عِنْدَهُ، وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ بَاطِلًا، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ وَالصِّحَّةَ بِأَصْلِهِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ إذَا وُجِدَتْ الْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ بِسَبَبِ الْقُبْحِ لِغَيْرِهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْغَيْرُ وَصْفًا، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَنَا يَكُونُ صَحِيحًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي بَابِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ الطَّلَاقَ لِغَيْرِ السُّنَّةِ لَا يَقَعُ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ» أَنَهَانَا عَمَّا يَتَكَوَّنُ أَوْ عَمَّا لَا يَتَكَوَّنُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا لَا يَتَكَوَّنُ لَغْوٌ إذْ لَا يُقَالُ لِلْأَعْمَى لَا تُبْصِرْ وَلِلْآدَمِيِّ لَا تَطِرْ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ بِحَيْثُ لَوْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ لَوُجِدَ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ مُبْتَلًى بَيْنَ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى الْفِعْلِ فَيُعَاقَبَ بِإِقْدَامِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْفِعْلِ فَيُثَابَ بِامْتِنَاعِهِ، بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ لِبَيَانِ أَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَبْقَ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ شَرْعًا كَالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَحِلِّ الْأَخَوَاتِ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى أَنَّ مِثْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْبَيْعِ فِي الْأَوَامِرِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ دُونَ اللُّغَوِيَّةِ لِلْعُرْفِ الطَّارِئِ وَمَا وَجَدْنَا ذَلِكَ الْعُرْفَ فِي النَّوَاهِي فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ مِنْ الْمَعَانِي اللُّغَوِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» ، فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى النَّهْيِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ إمْكَانَ الْفِعْلِ بِاعْتِبَارِ اللُّغَةِ كَافٍ فِي النَّهْيِ، وَلَا نُسَلِّمُ احْتِيَاجَهُ إلَى إمْكَانِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ وَهُوَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْحَائِضَ إنَّمَا نُهِيَتْ عَمَّا سَمَّاهُ الشَّرْعُ صَوْمًا وَصَلَاةً لَا عَنْ نَفْسِ الْإِمْسَاكِ وَالدُّعَاءِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَصَّلَ الْكَلَامَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ، وَحَاوَلَ الرَّدَّ فِي الْبَيْعِ الَّذِي مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْقَوَاطِعِ أَنَّ وُجُودَ الْفِعْلِ الْمَشْرُوعِ بِأَمْرَيْنِ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَبِإِطْلَاقِ الشَّرْعِ فَبِالنَّهْيِ امْتَنَعَ الْإِطْلَاقُ فَلَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا لَكِنَّ تَصَوُّرَ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فَيَصِحُّ النَّهْيُ

بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ وَنُسَمِّيهِ فَاسِدًا، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَسَيَجِيءُ هَذَا الْخِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَالدَّلِيلَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْمَتْنِ يَدُلَّانِ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي الْخِلَافِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ كَوْنُ التَّصَرُّفِ بَاطِلًا. (قُلْنَا حَقِيقَةُ النَّهْيِ تُوجِبُ كَوْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مُمْكِنًا فَيُثَابُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ، وَيُعَاقَبُ بِفِعْلِهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُسْتَحِيلِ عَبَثٌ) هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الْمَشْهُورُ لِأَصْحَابِنَا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّرْعِيَّاتِ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ، وَقَدْ أَوْرَدَ الْخَصْمُ عَلَيْهِمْ أَنَّ إمْكَانَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ كَافٍ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ فَأَجَبْت عَنْ هَذَا بِقَوْلِي (فَإِمْكَانُهُ إمَّا بِحَسَبِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ أَوْ اللُّغَوِيِّ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ لَا يُوجِبُ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي نَهَى لِأَجْلِهَا حَتَّى لَوْ وَجَبَ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ، وَلَا نِزَاعَ فِيهِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ) تَحْقِيقُهُ أَنَّهُ إذَا نَهَى عَنْ بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَهُنَا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَمْرٌ لَغَوِيٌّ مِنْ غَيْرِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُهُمَا بِعْت وَاشْتَرَيْت، وَهَذَا أَمْرٌ حِسِّيٌّ، وَالثَّانِي هَذَا الْقَوْلُ مَعَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الشَّرْعِيُّ، فَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ، وَحِينَئِذٍ إنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ الَّتِي نَهَى لِأَجْلِهَا فِي نَفْسِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْقَوْلُ فَلَا نِزَاعَ فِي كَوْنِهِ بَاطِلًا لَكِنَّ الْوَاقِعَ لَيْسَ هَذَا الْقِسْمَ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَيْسَتْ فِي نَفْسِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ بِعْت هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِنَاءً عَلَيْهِ مَثَلًا أَنَّ الْعَبْدَ مَأْمُورٌ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الْإِمْسَاكُ مَعَ النِّيَّةِ فِي النَّهَارِ، فَأَمَّا صَيْرُورَتُهُ عِبَادَةً فَإِلَى الشَّارِعِ فَفِي يَوْمِ النَّحْرِ لَمَّا زَالَ إذْنُ الشَّارِعِ لَمْ يَبْقَ صَوْمًا مَشْرُوعًا مَعَ بَقَاءِ تَصَوُّرِ الْفِعْلِ مِنْ الْعَبْدِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ مُطْلَقِ الصَّوْمِ فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَالْفِعْلُ الْمَخْصُوصُ بِدُونِ اعْتِبَارِ الشَّرْعِ لَا يُسَمَّى صَوْمًا كَالْإِمْسَاكِ مَعَ النِّيَّةِ فِي اللَّيْلِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلصَّوْمِ شَرْعًا إلَّا الْإِمْسَاكُ مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْمَغْرِبِ مَعَ النِّيَّةِ، وَهَذَا مُتَصَوَّرٌ مِنْ الْعَبْدِ، وَقَدْ نَهَاهُ الشَّارِعُ عَنْهُ حَتَّى صَارَ يَوْمُ النَّحْرِ بِمَنْزِلَةِ اللَّيْلِ فَلَا يَكُونُ عِبَادَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الثَّوَابُ، وَحَاصِلُ الِاسْتِدْلَالِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّهْيَ لَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الصِّحَّةِ لَكَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ غَيْرَ الشَّرْعِيِّ أَيْ غَيْرَ الْمُعْتَبَرِ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعِيَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الصَّحِيحُ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَصَلَاةِ الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ إنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ، وَالصَّلَاةُ الشَّرْعِيَّانِ لَا الْإِمْسَاكُ وَالدُّعَاءُ، وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَكَانَ مُمْتَنِعًا فَلَا يُمْنَعُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ عَنْ الْمُمْتَنِعِ عَبَثٌ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الشَّرْعِيَّ لَيْسَ مَعْنَاهُ الْمُعْتَبَرَ شَرْعًا بَلْ مَا يُسَمِّيهِ الشَّارِعُ بِذَلِكَ الِاسْمِ، وَهُوَ الصُّورَةُ الْمَعْنِيَّةُ، وَالْحَالَةُ الْمَخْصُوصَةُ صَحَّتْ أَمْ لَا نَقُولُ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ وَصَلَاةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، وَصَلَاةُ الْجُنُبِ، وَصَلَاةُ الْحَائِضِ بَاطِلَةٌ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ مَنْعُ الْمُمْتَنِعِ بِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى كَالْحَاصِلِ يَمْتَنِعُ تَحْصِيلُهُ إذَا كَانَ حَاصِلًا بِغَيْرِ هَذَا

الدِّرْهَمَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ الْحِسِّيِّ لَا يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْأَمْرِ الثَّانِي، يَجِبُ إمْكَانُهُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ فَلَا يَكُونُ النَّهْيُ لِلْقُبْحِ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي إمْكَانَ وُجُودِهِ شَرْعًا فَيَكُونُ لِقُبْحِ أَمْرٍ خَارِجِيٍّ، وَأَيْضًا إذَا اجْتَمَعَ الْمَوْضُوعُ لَهُ لُغَةً، وَشَرْعًا لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَوْضُوعِ لَهُ الشَّرْعِيِّ فَيَجِبُ الْإِمْكَانُ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، فَإِنْ قِيلَ النَّهْيُ عَنْ الْبَيْعِ مَثَلًا لَيْسَ إلَّا عَنْ التَّصَرُّفِ الْحِسِّيِّ فَأَمَّا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ فَلَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهُ قُلْنَا الشَّارِعُ قَدْ وَضَعَ اللَّفْظَ لِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى الْمَحَلِّ يُوجَدُ إنْشَاءُ الْبَيْعِ الشَّرْعِيِّ قَطْعًا فَالْقُدْرَةُ حَاصِلَةٌ عَلَى إنْشَاءِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ بِأَنْ يَتَكَلَّمَ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ مُضَافًا إلَى الْمَحَلِّ الصَّالِحِ لَهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مَقْدُورًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، ثُمَّ بِتَبَعِيَّةِ هَذَا النَّهْيِ يَكُونُ التَّكَلُّمُ بِاللَّفْظِ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَكَلَّمَ بِهِ يُثْبِتُ بِهِ مَا هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ وَهُوَ الْإِنْشَاءُ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهِ ثَبَتَ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعُ لَهُ، وَهُوَ الْإِنْشَاءُ الشَّرْعِيُّ، وَنَظِيرُهُ الطَّلَاقُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ (وَلِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَعْصِيَةً لَا عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ لِحُكْمِهِ كَالْمِلْكِ مَثَلًا فَنَقُولُ بِصِحَّتِهِ لِإِبَاحَتِهِ، وَالْقُبْحُ مُقْتَضَى النَّهْيِ فَلَا يَثْبُتُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّحْصِيلِ. 1 - (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ النَّهْيَ) جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ الْخَصْمِ لَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى اقْتِضَاءِ النَّهْيِ الصِّحَّةَ، وَكَذَا قَوْلُهُ وَالْقُبْحُ مُقْتَضَى النَّهْيِ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْقُبْحِ لِذَاتِهِ بَلْ الْفِعْلُ إنَّمَا يَحْسُنُ لِلْأَمْرِ، وَيَقْبُحُ لِلنَّهْيِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالصِّحَّةِ إمْكَانُ الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى فِي الشَّرْعِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الصِّحَّةِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَسُقُوطِ الْقَضَاءِ وَمُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَتَرَتُّبِ الْآثَارِ عَلَيْهِ كَالْمِلْكِ، وَلَا دَلَالَةَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْتُمْ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ. (قَوْلُهُ فَيَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ) يَعْنِي أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْقُبْحَ، وَالْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَقْتَضِي الْإِمْكَانَ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْأَمْرَيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْقُبْحِ لِلْغَيْرِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي الصِّحَّةَ فَيَكُونُ مُحَافَظَةً عَلَى الْمُقْتَضَى وَهُوَ الْقُبْحُ، وَعَلَى الْمُقْتَضِي وَهُوَ النَّهْيُ بِأَنْ لَا يَكُونَ نَهْيًا عَلَى الْمُسْتَحِيلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ الْقُبْحُ عَلَى الْقُبْحِ لِعَيْنِهِ، وَحُكِمَ بِبُطْلَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ إسْقَاطُ النَّهْيِ وَجَعْلُهُ لَغْوًا عَبَثًا. (قَوْلُهُ وَالْبَعْضُ سَلَّمُوا) ذَهَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْجُبَّائِيُّ وَأَبُو هَاشِمٍ وَأَحْمَدُ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إلَى عَدَمِ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ إلَى أَنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ يَسْقُطُ الطَّلَبُ عِنْدَهَا؛ لَا بِهَا يَعْنِي لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهَا تَصِحُّ اسْتَدَلَّ الْمَانِعُونَ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ لِتَضَادِّ الْأَمْرِ

عَلَى وَجْهٍ يُبْطِلُ النَّهْيَ) ، وَقَدْ ثَبَتَ فِيمَا مَضَى أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنًا قَبْلَ الْأَمْرِ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي كَوْنَهُ قَبِيحًا قَبْلَهُ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ، وَهَذَا مَعْنَى الِاقْتِضَاءِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ الْمُقْتَضَى عَلَى وَجْهٍ يُبْطِلُ الْمُقْتَضِيَ وَهُوَ النَّهْيُ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ يَكُونُ بَاطِلًا أَيْ لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ شَرْعًا، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُسْتَحِيلِ عَبَثٌ (فَيَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ) ، وَهُوَ الْقُبْحُ لِغَيْرِهِ. (وَالْبَعْضُ سَلَّمُوا ذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لِمَا قُلْنَا لَا فِي الْعِبَادَاتِ أَصْلًا فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ) اعْلَمْ أَنَّ أَبَا الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيَّ أَخَذَ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَذْهَبَنَا عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي يَأْتِي أَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ فَمَذْهَبُهُ أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي الْبُطْلَانَ مُطْلَقًا، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ دَالًّا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ بِسَبَبِ الْقُبْحِ فِي الْمُجَاوِرِ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ عِنْدَهُ، وَأَمَّا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَحِيحَةٌ لَكِنْ عَلَى صِفَةِ الْكَرَاهَةِ (لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ قُلْنَا كُلُّ مُعَيَّنٍ يَأْتِي بِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ بَلْ مُطْلَقُ الْفِعْلِ مَأْمُورٌ بِهِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ بِإِتْيَانِهِ بِمُعَيَّنٍ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ ذَاتًا وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَرَضًا، وَالْمَشْرُوعَاتُ تَحْتَمِلُ هَذَا الْوَصْفَ إجْمَاعًا كَالْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ، وَالطَّلَاقِ الْحَرَامِ، وَالنِّكَاحِ الْحَرَامِ، وَنَحْوِهِمَا) وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا ذَاتًا وَعَرَضًا؛ لِأَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالنَّهْيِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ نَفْسُ مَفْهُومِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَهُوَ مُحَالٌ إذْ الْمَأْتِيُّ بِهِ لَا يَكُونُ لَا مُعَيَّنًا، وَهُوَ غَيْرُ الْمَأْمُورِ بِهِ ضَرُورَةَ تَغَايُرِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِمَا هُوَ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِفْرَادِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِالْغَيْرِ لَا يَكُونُ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَوْلُهُ هُمَا مُتَضَادَّانِ قُلْنَا: التَّضَادُّ إنَّمَا هُوَ بَيْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِذَاتِهِ، وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِهِ بِالذَّاتِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ بِالْعَرَضِ فَلَا نُسَلِّمُ تَضَادَّهُمَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الِامْتِنَاعُ لَوْ اتَّحَدَ جِهَتَا الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَجِبُ هَذَا الْفِعْلُ لِكَوْنِهِ صَلَاةً، وَيَحْرُمُ لِكَوْنِهِ غَصْبًا كَالسَّيِّدِ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ وَلَا تَخِطْهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ فَلَوْ خَاطَهُ فِيهِ يُعَدُّ مُمْتَثِلًا بِالْخِيَاطَةِ وَعَاصِيًا لِكَوْنِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. (قَوْلُهُ فَهَذَا الْجُزْءُ الْقَبِيحُ يَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ) أَيْ مُنْتَهِيًا إلَيْهِ إذْ لَوْ كَانَ قَبِيحًا لِجُزْئِهِ يُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَيْهِ، وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ أَيْ وُجُودُ أَجْزَاءٍ غَيْرِ مُتَنَاهِيَةٍ لِأَمْرٍ مَوْجُودٍ أَتَى بِهِ الْمُكَلَّفُ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُبْحُ ذَلِكَ الْجُزْءِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ قُلْنَا: لِأَنَّ ذَلِكَ الْخَارِجَ إنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ الْكُلِّ أَيْضًا لَا يَكُونُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الْقَبِيحِ لِجُزْئِهِ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ يُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَى قُبْحِهِ. (قَوْلُهُ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا) قَدْ سَبَقَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْحُسْنِ، فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ وَقَبِيحًا لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ بِأَنْ يَتَرَكَّبَ عَنْ جُزْأَيْنِ أَحَدُهُمَا حَسَنٌ لِعَيْنِهِ، وَالْآخَرُ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ.؟ قُلْنَا: هُوَ جَائِزٌ إلَّا أَنَّ مِثْلَهُ قَبِيحٌ

بِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِهِ لِذَاتِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ أَوْ مَأْمُورًا بِهِ بِالْعَرَضِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْعَرَضِ، أَوْ مَأْمُورًا بِهِ بِالذَّاتِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ بِالْعَرَضِ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَمُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا بِحَسَبِ عَيْنِهِ فَيُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَسَنًا لِعَيْنِهِ وَقَبِيحًا لِعَيْنِهِ فَيَجْتَمِعُ الضِّدَّانِ وَأَمَّا بِحَسَبِ جُزْئِهِ فَهَذَا الْجُزْءُ الْقَبِيحُ يَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ فَيَكُونُ بَاطِلًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الْكُلُّ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْقَبِيحَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَبِيحًا لِجُزْءٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْحَسَنُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ أَجْزَائِهِ حَسَنًا أَيْ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْحُسْنَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ بِالْعَرْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا حَسَنٌ لِغَيْرِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ فَهَذَا الْقِسْمُ مُمْكِنٌ بَلْ وَاقِعٌ لَكِنْ لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ أَمْرًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا الرَّابِعُ وَهُوَ الْعَكْسُ فَيَكُونُ بَاطِلًا لَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ فَبَقِيَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْمُدَّعَى، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّكُمْ قَدْ اخْتَرَعْتُمْ نَوْعًا مِنْ الْحُكْمِ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ فَيَكُونُ نَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ فَنَقُولُ فِي جَوَابِهِ الْمَشْرُوعَاتُ تَحْتَمِلُ هَذَا الْوَصْفَ أَيْ كَوْنَهُ حَسَنًا لِعَيْنِهِ قَبِيحًا لِغَيْرِهِ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى كَوْنَهُ مَأْمُورًا بِهِ لِذَاتِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِعَارِضٍ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى كَوْنَهُ صَحِيحًا وَمَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ إذْ الْحُسْنُ شَرْعًا وَعَقْلًا مَا يَكُونُ حَسَنًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ؛ لِأَنَّ الْحُسْنَ بِمَنْزِلَةِ الْوُجُودِ وَالْقَبِيحَ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، وَوُجُودُ الْمُرَكَّبِ يَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْعَدَمِ. (قَوْلُهُ بَلْ وَاقِعٌ) كَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ الْمَغْصُوبِ فَلَوْ كَانَتْ الطَّهَارَةُ مَأْمُورًا بِهَا أَمْرًا مُطْلَقًا أَيْ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ عَلَى أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ لِلْغَيْرِ لِمَا تَأَدَّى بِهَا الْمَأْمُورُ بِهِ. (قَوْلُهُ وَأَمَّا الرَّابِعُ) هُوَ مَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ وَمَأْمُورًا بِهِ بِالْعَرَضِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُورُ بِهِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْحُسْنَ لِذَاتِهِ. (قَوْلُهُ وَعِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ عِبَارَتَانِ عَمَّا يُقَابِلُ الصَّحِيحَ بِمَعْنَى عَدَمِ سُقُوطِ الْقَضَاءِ أَوْ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَمْرِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَبِمَعْنَى خُرُوجِهِ عَنْ السَّبَبِيَّةِ لِلثَّمَرَاتِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَلَا نِزَاعَ فِي التَّسْمِيَةِ، فَإِنَّهَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ، وَلَا فِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ قَدْ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ قَدْ يَكُونُ صَحِيحًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ أَمْ لَا. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَجْزَاءِ وَالشُّرُوطِ كَافِيَةٌ) فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يُقَيَّدَ الْوَصْفُ اللَّازِمُ بِأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الشُّرُوطِ، ثُمَّ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْوَقْتَ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَقَدْ جَعَلَهُ فِي الصَّلَاةِ مُجَاوِرًا، وَفِي الصَّوْمِ لَفْظًا لَازِمًا لِمَا سَيَجِيءُ. (قَوْلُهُ كَالْبَيْعِ بِالشَّرْطِ) يَعْنِي شَرْطًا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ نَفْعٌ أَوْ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَدْ «نَهَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ

لَا بِوَصْفِهِ أَوْ مُجَاوِرِهِ، وَالْكُلُّ وَاحِدٌ. (فَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَشْرُوعَاتِ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ عِنْدَهُ إلَّا بِدَلِيلِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِغَيْرِهِ، وَعِنْدَنَا يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِغَيْرِهِ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَشْرُوعِيَّةُ بِأَصْلِهِ إلَّا بِدَلِيلِ أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِعَيْنِهِ. (إنْ لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ) عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِعَيْنِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ (يَبْطُلُ عِنْدَهُ، وَيَصِحُّ بِأَصْلِهِ عِنْدَنَا، وَإِنْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْقُبْحِ لِغَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ وَصْفًا لَهُ يَبْطُلُ عِنْدَهُ، وَيَفْسُدُ عِنْدَنَا أَيْ يَصِحُّ بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ إذْ الصِّحَّةُ تَتْبَعُ الْأَرْكَانَ وَالشَّرَائِطَ فَيَحْسُنُ لِعَيْنِهِ وَيَقْبُحُ لِغَيْرِهِ بِلَا تَرْجِيحِ الْعَارِضِيِّ عَلَى الْأَصْلِيِّ، وَعِنْدَهُ الْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ سَوَاءٌ) هَذَا هُوَ الْخِلَافُ الْآخَرُ الَّذِي وَعَدْت ذِكْرَهُ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ الْبُطْلَانَ عِنْدَهُ يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى أَصْلِهِ الْأَوَّلِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، فَالضَّرُورَةُ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى مَا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ الْمُجَاوِرِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ أَمَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ الْوَصْفِ اللَّازِمِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي أَنْ لَا يَجْرِيَ النَّهْيُ عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّ بُطْلَانَ الْوَصْفِ اللَّازِمِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْمُجَاوَرَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّهْيِ عَنْهُ إذَا كَانَ تَصَرُّفًا شَرْعِيًّا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ وَصِحَّتُهُ شَرْعًا فَيَجْرِيَ عَلَى أَصْلِهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبَيْعٍ وَشَرْطٍ» وَالنَّهْيُ رَاجِعٌ لِلشَّرْطِ فَيَبْقَى أَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ لَكِنْ بِصِفَةِ الْفَسَادِ وَالْحُرْمَةِ كَالشَّرْطِ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى الْبَيْعِ لَازِمٌ لَهُ لِكَوْنِهِ مَشْرُوطًا فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. (قَوْلُهُ وَالرِّبَا) أَيْ وَكَالْبَيْعِ بِالرِّبَا، وَهُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ، وَإِنْ فُسِّرَ الرِّبَا بِمُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَفِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ لَا عَلَى الشَّرْطِ. (قَوْلُهُ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ) ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْخَمْرَ جُعِلَتْ ثَمَنًا وَهُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ إذْ الِانْتِفَاعُ بِالْأَعْيَانِ لَا بِالْأَثْمَانِ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَ الثَّمَنُ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ بِمَنْزِلَةِ آلَاتِ الصُّنَّاعِ فَيَفْسُدُ الْبَيْعُ لِكَوْنِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ غَيْرَ مُتَقَوِّمٍ إذْ الْمُتَقَوِّمُ مَا يَجِبُ إبْقَاؤُهُ بِعَيْنِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، وَالْخَمْرُ وَاجِبٌ اجْتِنَابُهَا بِالنَّصِّ لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا لَكِنَّهَا تَصْلُحُ لِلثَّمَنِ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَمِيلُ إلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُدَّخَرُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ أَوْ مَا خُلِقَ لِمَصَالِحِ الْآدَمِيِّ، وَيَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ. (قَوْلُهُ وَصَوْمِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ) أَعْنِي الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَإِنَّهُ فَاسِدٌ لَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ نَفْسَهُ مَشْرُوعٌ لِكَوْنِهِ إمْسَاكًا عَلَى قَصْدِ الْقُرْبَةِ وَقَهْرِ النَّفْسِ لِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا وَتَحْرِيضًا لَهَا عَلَى مُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى شِدَّةِ حَالِهِمْ، وَالنَّهْيُ إنَّمَا هُوَ لِهَذِهِ الْأَوْقَاتِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَالْوَقْتُ مِعْيَارٌ لِلصَّوْمِ

أَنَّ الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ أَمَّا إذَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ الْوَصْفِ اللَّازِمِ فَلَا ضَرُورَةَ فِي الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَجْزَاءِ وَالشُّرُوطِ فِيهِ كَافِيَةٌ لِصِحَّةِ الشَّيْءِ، وَتَرْجِيحُ الصِّحَّةِ بِصِحَّةِ الْأَجْزَاءِ أَوْلَى مِنْ تَرْجِيحِ الْبُطْلَانِ بِالْوَصْفِ الْخَارِجِيِّ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ الضَّرُورَةُ قَائِمَةً هُنَا يَجْرِي النَّهْيُ عَلَى أَصْلِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ مَوْجُودًا شَرْعًا أَيْ صَحِيحًا. (وَذَلِكَ كَالْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، وَالرِّبَا، وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ، وَصَوْمِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ) هَذِهِ أَمْثِلَةُ الصَّحِيحِ بِأَصْلِهِ لَا بِوَصْفِهِ الَّذِي نُسَمِّيهِ فَاسِدًا. (لَكِنْ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ) أَيْ مَعَ أَنَّ صَوْمَ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ فَاسِدٌ يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ. (لِأَنَّهُ طَاعَةٌ وَالْمَعْصِيَةُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِهِ ذِكْرًا بَلْ فِعْلًا) ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا فِي ذِكْرِهِ وَالتَّلَفُّظِ بِهِ فَلَا مَعْصِيَةَ فَصَحَّ النَّذْرُ بِهِ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ ذِكْرُهُ لَا فِعْلُهُ. (فَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ) ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِعْلٌ وَهُوَ مَعْصِيَةٌ. (وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ فَقَدْ نُهِيَتْ لِفَسَادٍ فِي الْوَقْتِ، وَهُوَ سَبَبُهَا، وَظَرْفُهَا فَأَوْجَبَ نُقْصَانًا فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَامِلُ لَا مِعْيَارُهَا فَلَمْ يُوجِبْ فَسَادًا فَيَضْمَنُ بِالشُّرُوعِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ) اعْلَمْ أَنَّ الْوَقْتَ سَبَبٌ لِلصَّلَاةِ، وَظَرْفٌ لَهَا، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ يَجِبُ الْمُلَاءَمَةُ بَيْنَهُمَا فَإِذَا وَجَبَ كَامِلًا لَا يَتَأَدَّى نَاقِصًا كَمَا فِي الْفَجْرِ وَقَضَاءِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ، وَإِنْ وَجَبَ نَاقِصًا يَتَأَدَّى نَاقِصًا كَمَا فِي أَدَاءِ الْعَصْرِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ ظَرْفٌ لَا مِعْيَارٌ يَكُونُ تَعَلُّقُهُ بِالصَّلَاةِ تَعَلُّقَ الْمُجَاوَرَةِ لَا تَعَلُّقَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَتَقَدَّرُ بِهِ، وَيُعْرَفُ بِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لَازِمٍ خَارِجٍ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ وَصْفٌ لَازِمٌ لِلصَّوْمِ خَارِجٌ عَنْهُ أَيْ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي مَفْهُومِهِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَرْكَ الْإِجَابَةِ مُغَايِرٌ لِلصَّوْمِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ كَتَرْكِ السُّكُونِ، فَإِنَّهُ عَيْنُ التَّحَرُّكِ وَبِالْعَكْسِ وَفِي الطَّرِيقَةِ الْمَعْنِيَّةِ أَنَّ النَّهْيَ وَرَدَ عَنْ الصَّوْمِ فَصَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ عُدُولٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِعْلِ الشَّرْعِيِّ يَقْتَضِي عِنْدَ الْإِطْلَاقِ قُبْحَهُ لِغَيْرِهِ إذْ لَوْ قَبُحَ لِذَاتِهِ لَمَا كَانَ مَشْرُوعًا، وَأَيْضًا فَوَائِدُ الصَّوْمِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ، ثُمَّ قَالَ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ تَرْكٌ لِلْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْإِجَابَةُ فَمِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُفْطِرَاتِ يَكُونُ عِبَادَةً مُسْتَحْسَنَةً وَمِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى إجَابَةِ الدَّعْوَى يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبِ، وَالضِّدُّ الْأَصْلِيُّ لِلصَّوْمِ هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ فَالصَّوْمُ بِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى الْأَضْدَادِ الَّتِي هِيَ الْأَكْلُ، وَالشُّرْبُ، وَالْجِمَاعُ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ، وَبِاعْتِبَارِ الْإِضَافَةِ إلَى الْإِجَابَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ فَتَرْكُ الْإِجَابَةِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ، وَتَرْكُ الْمُفْطِرَاتِ الثَّلَاثِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ فَبَقِيَ الصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِوَصْفِهِ فَكَانَ فَاسِدًا لَا بَاطِلًا. (قَوْلُهُ لَكِنْ صَحَّ النَّذْرُ بِهِ) أَيْ بِالصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ نَفْسَهُ طَاعَةٌ، وَإِنَّمَا الْمَعْصِيَةُ هِيَ الْإِعْرَاضُ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ

الْوَصْفِيَّةِ فَلَا يُوجِبُ الْفَسَادَ بَلْ يُوجِبُ النُّقْصَانَ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْوَقْتَ مِعْيَارُهُ فَالصَّوْمُ عِبَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِالْوَقْتِ فَيَكُونُ كَالْوَصْفِ لَهُ فَفَسَادُهُ يُوجِبُ فَسَادَ الصَّوْمِ، وَهَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي النَّفْلِ حَتَّى لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُهَا، وَلَوْ أَفْسَدَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا أَمَّا إنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ لَا يَجِبُ إتْمَامُهُ بَلْ يَجِبُ رَفْضُهُ، فَإِنْ رَفَضَهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ. (وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرًا يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ) هَذَا الْكَلَامُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ إنْ كَانَ وَصْفًا لَهُ، وَإِنَّمَا قَالَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ النَّهْيَ فِي الْعِبَادَاتِ يُوجِبُ الْبُطْلَانَ مُطْلَقًا مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ يَكُونُ دَالًّا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِقُبْحِ أَمْرٍ مُجَاوِرٍ. (كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ) أَوْرَدْت هُنَا مِثَالَيْنِ أَحَدُهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعَالَى وَهِيَ فِي فِعْلِ الصَّوْمِ لَا فِي ذِكْرِ اسْمِهِ وَإِيجَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلصَّوْمِ جِهَةَ طَاعَةٍ وَجِهَةَ مَعْصِيَةٍ، وَانْعِقَادُ النَّذْرِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ الْأُولَى حَتَّى قَالُوا لَوْ صَرَّحَ بِذِكْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِأَنْ يَقُولَ: لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا لَوْ قَالَتْ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ غَدًا، وَكَانَ الْغَدُ يَوْمَ نَحْرٍ أَوْ حَيْضٍ، وَأَمَّا ضَرْبُ أَبِيهِ وَشَتْمُ أُمِّهِ فَلَا جِهَةَ فِيهِ لِغَيْرِ الْمَعْصِيَةِ فَلَا يَصِحُّ النَّذْرُ بِهِ أَصْلًا، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ النَّذْرَ إيجَابٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوْلِ، وَبِالْقَوْلِ أَمْكَنَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْمَشْرُوعِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالْمَشْرُوعُ إيجَابٌ بِالْفِعْلِ، وَفِي الْفِعْلِ لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ، وَهَذَا كَمَا جَوَّزُوا بَيْعَ السَّمْنِ الذَّائِبِ الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ لِإِمْكَانِ إيرَادِ الْبَيْعِ عَلَى السَّمْنِ دُونَ النَّجَاسَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِاسْتِحَالَةِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهُمَا. (قَوْلُهُ وَأَمَّا الصَّلَاةُ) يُشِيرُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّوْمِ فِي الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ وَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيَّةِ حَيْثُ يَفْسُدُ الصَّوْمُ دُونَ الصَّلَاةِ، وَيَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ الصَّلَاةُ دُونَ الصَّوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّوْمِ مِنْ قَبِيلِ الْوَصْفِ اللَّازِمِ لِكَوْنِهِ مِعْيَارًا لَهُ وَلِلصَّلَاةِ مِنْ قَبِيلِ الْمُجَاوِرِ لِكَوْنِهِ ظَرْفًا لَهَا، وَفِي الطَّرِيقَةِ الْمَعْنِيَّةِ أَنَّ الْمُرَكَّبَ قَدْ يَكُونُ جُزْؤُهُ كَالْكُلِّ فِي الِاسْمِ كَالْمَاءِ، وَقَدْ لَا يَكُونُ كَالْحَيَوَانِ، وَالصَّوْمُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ إمْسَاكَاتٍ مُتَّفِقَةِ الْحَقِيقَةِ كُلٌّ مِنْهَا صَوْمٌ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَصُومُ حَنِثَ بِصَوْمِ سَاعَةٍ، فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا مَنْهِيًّا عَنْهُ لِكَوْنِهِ صَوْمًا فَكَانَ مَا انْعَقَدَ مِنْهُ انْعَقَدَ مَشْرُوعًا مَحْظُورًا، وَالْمُضِيُّ إنَّمَا يَلْزَمُ لِإِبْقَاءِ مَا انْعَقَدَ فَلَا يَلْزَمُ هَاهُنَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ حَرَامٌ وَاجِبُ التَّرْكِ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ تَقْرِيرُ مَا انْعَقَدَ مَشْرُوعًا وَاجِبًا لَكِنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَخْبَارُ، بِخِلَافِ وُجُوبِ تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، فَإِنَّهُ قَطْعِيٌّ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ التَّرْكِ فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ إبْعَاضَهَا مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا يُسَمَّى صَلَاةً مَا لَمْ يَجْتَمِعْ، وَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِالسَّجْدَةِ فَمَا انْعَقَدَ

لِلْعِبَادَاتِ، وَالْآخَرُ لِلْمُعَامَلَاتِ. (وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِعَيْنِهِ) أَيْ لِذَاتِهِ أَوْ لِجُزْئِهِ (يَبْطُلُ اتِّفَاقًا) هَذَا الْكَلَامُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ (كَالْمَلَاقِيحِ، وَالْمَضَامِينِ، فَإِنَّ الرُّكْنَ مَعْدُومٌ فَدَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ النَّسْخِ فَيَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ) قَوْلُهُ فَيَكُونُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ، فَإِنَّ الرُّكْنَ مَعْدُومٌ فَيَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِهِ قُبْحُهُ لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ الْمَلَاقِيحُ جَمْعُ مَلْقُوحَةٍ، وَهِيَ مَا فِي الْبَطْنِ مِنْ الْجَنِينِ، وَالْمَضَامِينُ جَمْعُ مَضْمُونٍ، وَهُوَ مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ مِنْ الْمَاءِ وَفِي الْحَدِيثِ «نُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ» فَلَمَّا كَانَ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمَبِيعُ مَعْدُومًا لَا يُمْكِنُ وُجُودُ الْبَيْعِ فَلَا يُرَادُ حَقِيقَةُ النَّهْيِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُسْتَحِيلِ عَبَثٌ فَيَكُونُ النَّهْيُ مَجَازًا عَنْ النَّسْخِ، فَإِنَّ النَّسْخَ لِإِعْدَامِ الصِّحَّةِ وَالْمَشْرُوعِيَّةِ رُوعِيَّةِ، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالنَّسْخِ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْحُرْمَةِ بِالنَّهْيِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْفَصْلِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الْجُزْءِ وَالْوَصْفِ وَالْمُجَاوِرِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إمَّا أَنْ يَصْدُقَ عَلَى ذَلِكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ أَوْ لَمْ يَصْدُقْ فَالْجُزْءُ إمَّا صَادِقٌ عَلَى الْكُلِّ، وَهُوَ مَا يَصْدُقُ عَلَى الشَّيْءِ، وَيَتَوَقَّفُ تَصَوُّرُ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى تَصَوُّرِهِ كَالْعِبَادَةِ لِلصَّلَاةِ، وَإِمَّا غَيْرُ صَادِقٍ كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِلصَّلَاةِ، وَالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ، وَالْمَبِيعِ لِلْبَيْعِ، وَأَمَّا الْوَصْفُ فَالْمُرَادُ بِهِ اللَّازِمُ الْخَارِجِيُّ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَصْدُقَ عَلَى الْمَلْزُومِ نَحْوُ: الْجِهَادُ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَصَوْمُ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ إعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِمَّا أَنْ لَا يَصْدُقَ كَالثَّمَنِ، فَإِنَّهُ كُلَّمَا يُوجَدُ الْبَيْعُ يُوجَدُ الثَّمَنُ لَكِنَّ الثَّمَنَ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَيْسَ رُكْنَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَبِيعِ لَا مَقْصُودٌ أَصْلِيٌّ فَجَرَى مَجْرَى آلَاتِ الصِّنَاعَةِ كَالْقَدُومِ، وَأَمَّا الْمُجَاوِرُ فَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَصْحَبُهُ وَيُفَارِقُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَهُوَ إمَّا صَادِقٌ عَلَى الشَّيْءِ كَمَا يُقَالُ الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ اشْتِغَالٌ عَنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُوجَدُ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ عِبَادَةً مَحْضَةً يَجِبُ صِيَانَتُهَا، وَالْمُضِيُّ عَلَيْهَا فَيَكُونُ الْمُضِيُّ فِي حَقِّ مَا مَضَى امْتِنَاعًا عَنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ، وَهُوَ وَاجِبٌ، وَفِي حَقِّ مَا يُسْتَقْبَلُ تَحْصِيلُ الطَّاعَةِ وَتَحْصِيلُ الْمَعْصِيَةِ فَكَانَ الْمُضِيُّ طَاعَةً وَمَعْصِيَةً وَامْتِنَاعًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ أَعْنِي إبْطَالَ الْعِبَادَةِ وَتَرْكَ الْمُضِيِّ امْتِنَاعًا عَنْ مَعْصِيَةٍ وَطَاعَةٍ وَارْتِكَابًا لِمَعْصِيَةٍ هِيَ إبْطَالُ عِبَادَةٍ فَتَرَجَّحَتْ فِيهَا جِهَةُ الْمُضِيِّ، فَإِذَا أَفْسَدَهَا فَقَدْ أَفْسَدَ عِبَادَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِيهَا فَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ. (قَوْلُهُ وَهَذَا الْفَرْقُ إنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي النَّفْلِ) إذْ لَا فَرْضَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَأَمَّا مِثْلُ الْقَضَاءِ وَالْمَنْذُورَاتِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ صَلَاةً كَانَتْ أَوْ صِيَامًا لِوُجُوبِهَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ. (قَوْلُهُ الْمَلَاقِيحُ جَمْعُ مَلْقُوحَةٍ) مُوَافِقٌ لِمَا فِي الصِّحَاحِ، وَذَكَرَ فِي الْفَائِقِ أَنَّهَا جَمْعُ مَلْقُوحٍ يُقَالُ لَقِحَتْ النَّاقَةُ وَوَلَدُهَا مَلْقُوحٌ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُ بِحَذْفِ الْجَارِّ. (قَوْلُهُ وَلَيْسَ) أَيْ الثَّمَنُ رُكْنَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَبِيعِ لِقَائِلٍ

الِاشْتِغَالُ عَنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ بِدُونِ الْبَيْعِ، وَأَيْضًا عَلَى الْعَكْسِ إذَا جَرَى الْبَيْعُ فِي حَالَةِ السَّعْيِ، وَإِمَّا غَيْرُ صَادِقٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ لَا يَصْدُقُ عَلَى السَّفَرِ بَلْ السَّفَرُ الْمُوصِلُ إلَى الْقَطْعِ فَالْقَطْعُ يُوجَدُ بِدُونِ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ كَمَا إذَا قَطَعَ بِدُونِ السَّفَرِ أَوْ سَافَرَ لِلْحَجِّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ، وَأَيْضًا عَلَى الْعَكْسِ بِأَنْ سَافَرَ بِدُونِ نِيَّةِ الْقَطْعِ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَطْعُ أَوْ سَافَرَ بِنِيَّةِ الْقَطْعِ لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ الْقَطْعُ إذَا ثَبَتَ هَذَا جِئْنَا إلَى تَطْبِيقِ هَذِهِ الْأُصُولِ عَلَى الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمَّا الرِّبَا، فَإِنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ شُرِطَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ كَانَ لَازِمًا لِلْعَقْدِ، ثُمَّ هُوَ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا إلَّا لِمِثْلِهِ، فَإِنَّ الْمُعَادَلَةَ بَيْنَ الزَّائِدِ وَالنَّاقِصِ عُدُولٌ عَنْ قَضِيَّةِ الْعَدْلِ فَلَمْ تُوجَدْ الْمُبَادَلَةُ فِي الزَّائِدِ لَكِنَّ الزَّائِدَ هُوَ فَرْعٌ عَلَى الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَالْوَصْفِ أَوْ نَقُولُ رُكْنُ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ، وَقَدْ وُجِدَ لَكِنْ لَمْ تُوجَدْ الْمُبَادَلَةُ التَّامَّةُ فَأَصْلُ الْمُبَادَلَةِ حَاصِلٌ لَا وَصْفُهَا، وَهُوَ كَوْنُهَا تَامَّةٌ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالشَّرْطِ فَكَالرِّبَا؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ أَمْرٌ زَائِدٌ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالْخَمْرِ، فَإِنَّ الْخَمْرَ مَالٌ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فَجَعَلَهَا ثَمَنًا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّمَنَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ تَابِعٌ وَوَسِيلَةٌ فَيَجْرِيَ مَجْرَى الْأَوْصَافِ التَّابِعَةِ، وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ، وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مُتَحَقِّقٌ لَكِنَّ الْمُبَادَلَةَ التَّامَّةَ لَمْ تُوجَدْ لِعَدَمِ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَأَمَّا صَوْمُ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَقْتَ كَالْوَصْفِ، وَلِأَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا وَصْفٌ لَهُ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الْأَرْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ رُكْنَيْ الشَّيْءِ وَسِيلَةً إلَى الْآخَرِ، وَالْآخَرُ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا بَلْ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ هُوَ أَنَّ الْبَيْعَ يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الثَّمَنِ، وَلَا يَجُوزُ مَعَ عَدَمِ الْمَبِيعِ نَعَمْ تَصَوُّرُ مَفْهُومِ الْبَيْعِ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ عَلَى التَّرَاضِي، وَالتَّلَفُّظُ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ شَرْعًا بِدُونِ ذِكْرِ الثَّمَنِ كَالْمَبِيعِ إلَّا أَنَّهُ اُخْتُصَّ الْمَبِيعُ بِأَنَّ الْبِيَعَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ وُجُودِهِ فَجَعَلُوهُ رُكْنًا، بِخِلَافِ الثَّمَنِ. (قَوْلُهُ وَأَمَّا الْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. (قَوْلُهُ وَكَذَا) أَيْ مِثْلُ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ فِي الْبُطْلَانِ لَا فِي أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِذَاتِهِ إذْ لَا نَهْيَ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِالشُّهُودِ» نَفْيٌ لِتَحَقُّقِ النِّكَاحِ الشَّرْعِيِّ بِدُونِ الشُّهُودِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْضُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ فِيهِ مِنْ سُقُوطِ الْحَدِّ وَثُبُوتِ النَّسَبِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ، وَهِيَ وُجُودُ صُورَتِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ، وَلَمَّا كَانَ هُنَا مَظِنَّةُ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذَا النَّفْيَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} [البقرة: 197] وَأَيْضًا قَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ النِّكَاحِ مَعَ بُطْلَانِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] أَشَارَ إلَى جَوَابٍ أَعَمَّ وَأَتَمَّ وَهُوَ أَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا شُرِّعَ لِلْحِلِّ ضَرُورَةَ

الْمَغْصُوبَةِ، فَإِنَّ شُغْلَ مَكَانِ الْغَيْرِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ الصَّلَاةِ بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ الْمُصَلِّي فَإِنَّ كُلَّ جِسْمٍ مُتَمَكِّنٍ فَوَقَعَ بَيْنَ شُغْلِ مَكَانِ الْغَيْرِ، وَبَيْنَ الصَّلَاةِ مُلَازَمَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ، وَأَمَّا الْبِيَعُ الْفَاسِدَةُ، فَإِنَّهَا أَوْجَبْت تِلْكَ الْمَفَاسِدَ أَيْ الْمَفَاسِدَ الْمَذْكُورَةَ كَالْبَيْعِ بِالشَّرْطِ، وَالرِّبَا فَتَكُونُ قَبِيحَةً بِوَصْفِهَا، وَأَمَّا الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ فَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاشْتِغَالِ عَنْ السَّعْيِ مُلَازَمَةٌ اتِّفَاقِيَّةٌ. (وَكَذَا النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ؛ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ» ) أَيْ يَكُونُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ لَا مَنْهِيٌّ، وَكَلَامُنَا فِي الْمَنْهِيِّ فَيَرِدُ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَاطِلًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُثْبِتَ النَّسَبَ، وَلَا يُسْقِطَ الْحَدَّ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَإِنَّمَا النَّسَبُ وَسُقُوطُ الْحَدِّ لِلشُّبْهَةِ، وَلِأَنَّهُ) عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْفِيٌّ. (وُضِعَ لِلْحِلِّ فَلَا يَنْفَصِلُ عَنْهُ، وَالْبَيْعُ وُضِعَ لِلْمِلْكِ، وَالْحِلُّ تَابِعٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْرَعُ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ أَصْلًا كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْعَبْدِ) أَيْ وَإِنْ سَلِمَ أَنَّ النِّكَاحَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَإِنَّ نَهْيَهُ يُوجِبُ الْبُطْلَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ النَّهْيَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَالنِّكَاحَ عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِلْحِلِّ فَلَمَّا انْفَصَلَ عَنْهُ مَا وُضِعَ لَهُ، وَهُوَ الْحِلُّ يَكُونُ بَاطِلًا بِخِلَافِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَقَاءِ التَّنَاسُلِ، وَبِالنَّهْيِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ، وَيَنْتَفِي الْحِلُّ إجْمَاعًا فَيَنْتَفِي مَشْرُوعِيَّتُهُ ضَرُورَةَ أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ إنَّمَا تُرَادُ لِأَحْكَامِهَا لَا لِذَوَاتِهَا، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ شُرِّعَ لِلْمِلْكِ فَانْتِفَاءُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ لَا يُنَافِيهِ، وَأَمَّا النِّكَاحُ حَالَةَ الْإِحْرَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَيْضِ، فَإِنَّمَا لَمْ يَبْطُلْ لِظُهُورِ أَثَرِهِ فِي الْمَآلِ أَعْنِي بَعْدَ زَوَالِ هَذِهِ الْعَوَارِضِ لَا يُقَالُ الْبَيْعُ مَشْرُوعٌ لِلْمِلْكِ وَلِحِلِّ الِانْتِفَاعِ، وَالصَّوْمُ لِلطَّاعَةِ فَيَلْزَمُ بُطْلَانُهُمَا بِالنَّهْيِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ حَرَامٌ وَمَعْصِيَةٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ الْبَيْعُ مَشْرُوعٌ لِلْمِلْكِ، وَحِلُّ الِانْتِفَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ، وَنَفْسُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً إلَّا إذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْهُ لِذَاتِهِ، وَالصَّوْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ. (قَوْلُهُ فَإِنْ قِيلَ) ظَاهِرُ السُّؤَالِ نَقْضٌ عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْفِعْلِ الْحِسِّيِّ يَقْتَضِي قُبْحَهُ لِعَيْنِهِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْقَبِيحَ لِعَيْنِهِ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الزِّنَا وَالْغَصْبِ وَاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فِعْلٌ حِسِّيٌّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالزِّنَا حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَبِالْغَصْبِ وَالِاسْتِيلَاءِ الْمِلْكُ وَبِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ رُخْصَةُ الْإِفْطَارِ، وَقَصْرُ الصَّلَاةُ وَالْمَسْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَعَلَى هَذَا لَا يُتَوَجَّهُ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الْمُنَاقِضِ بُطْلَانُ الْقَاعِدَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ السُّؤَالُ ابْتِدَاءَ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ مَا هَذَا شَأْنُهُ فَهُوَ قَبِيحٌ لِعَيْنِهِ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ بِمُفِيدٍ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا تَكُونَ الْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ مُفِيدَةً لِلْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ مَنْعًا لِلنَّتِيجَةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْقَدْحِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُمَا اجْتِمَاعِيَّتَانِ، ثُمَّ اسْتِنَادُ الْمَنْعِ بِالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ لَيْسَ

الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِلْمِلْكِ لَا لِلْحِلِّ بِدَلِيلِ مَشْرُوعِيَّتِهِ فِي مَوْضِعِ الْحُرْمَةِ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْحِلَّ أَصْلًا كَالْعَبْدِ فَإِذَا انْفَصَلَ عَنْهُ الْحِلُّ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ. (فَإِنْ قِيلَ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ يَقْتَضِي الْقُبْحَ لِعَيْنِهِ، وَالْقُبْحُ لِعَيْنِهِ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا إجْمَاعًا فَلَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا وَالْمِلْكَ بِالْغَصْبِ وَاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ، وَالرُّخْصَةُ بِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ لَا تُوجِبُ النِّعْمَةَ) ثُمَّ وَرَدَ عَلَى هَذَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَالظِّهَارَ يُفِيدُ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ شَرْعِيَّانِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ اُعْتُبِرَ لَهُمَا فِي الشَّرْعِ شَرَائِطُ وَخُصُوصِيَّاتٌ لَا حِسِّيَّانِ بِمَنْزِلَةِ الشُّرْبِ وَالزِّنَا، وَلَيْتَهُ أَوْرَدَ فِي هَذَا الْمَقَامِ كَوْنَ كُلٍّ مِنْ الشُّرْبِ وَالزِّنَا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ اسْتِقَامَةِ مَا ذَكَرَ فَالْجَوَابُ عَنْ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ كَلَامٌ عَلَى السَّنَدِ، وَكَأَنَّهُ سَكَتَ عَنْ جَوَابِ الْمَنْعِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَنَبَّهَ عَلَى فَسَادِ مَا تُوُهِّمَ مِنْ كَوْنِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِذَاتِهِ وَكَوْنِ الْكَفَّارَةِ مِنْ أَحْكَامِ الظِّهَارِ وَالْآثَارِ الْمَطْلُوبَةِ بِهِ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِحَلِّ الْإِشْكَالِ وَدَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ نَقْضًا لِلْقَاعِدَةِ. (قَوْلُهُ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُوجِبُ النِّعْمَةَ) تَأْكِيدٌ، وَزِيَادَةُ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ الْمَنْهِيَّةَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُوجِبَ الْأَحْكَامَ الْمَذْكُورَةَ لِكَوْنِهَا نِعَمًا أَمَّا الْمِلْكُ وَالرُّخْصَةُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ ثُبُوتِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. (قَوْلُهُ وَالْأَسْبَابُ) مَعْنَاهُ، ثُمَّ تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى الْأَطْرَافِ، وَإِيجَابُ الْحُرْمَةِ إلَى الْأَسْبَابِ، ثُمَّ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي السَّبَبِ كَالْوَطْءِ مَثَلًا كَوْنُهُ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْوَلَدِ، وَهُوَ عَيْنٌ لَا يَتَّصِفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ حَرَامٌ زَادَهُ أَنَّهُ لَيْسَ وَلَدٌ مِنْ وَطْءٍ حَرَامٍ لَا يُقَالُ هُوَ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءَيْنِ امْتَزَجَا امْتِزَاجًا غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مَشْرُوعٍ، وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» وَلَا قَرِينَةَ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِمَوْلُودٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا مَعْنَى لِاتِّصَافِ امْتِزَاجِ الْمَاءَيْنِ وَانْخِلَاقِ الْوَلَدِ بِكَوْنِهِ حَرَامًا وَبَاطِلًا وَغَيْرَ مَشْرُوعٍ، وَقَدْ نُشَاهِدُ وَلَدَ الزِّنَا أَصْلَحَ مِنْ وَلَدِ الرَّشْدَةِ فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ وَلَدُ الزِّنَا جَمِيعَ الْكَرَامَاتِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا وَلَدُ الرَّشْدَةِ مِنْ قَبُولِ عِبَادَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَصِحَّةِ قَضَائِهِ وَإِمَامَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْجُزْءِ لَا يَجُوزُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَاكِحُ الْيَدِ مَلْعُونٌ» . (قَوْلُهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْوَلَدِ الْحُرْمَةِ إلَى أَطْرَافِهِ أَيْ فُرُوعِهِ مِنْ الْأَبْنَاءِ وَالْبَنَاتِ وَأُصُولِهِ مِنْ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ

فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ. (وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ يُوجِبُ حُكْمًا شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ قَبِيحٌ لِغَيْرِهِ وَلَا الظِّهَارَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حُكْمٍ مَطْلُوبٍ عَنْ سَبَبٍ لَا فِي حُكْمٍ زَاجِرٍ، فَإِنَّ هَذَا يَعْتَمِدُ حُرْمَةَ سَبَبِهِ) فَحَاصِلُ الْجَوَابِ فِي الطَّلَاقِ إنْ بَحَثْنَا فِي النَّهْيِ عَنْ الْحِسِّيَّاتِ إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لِقُبْحِ الْمُجَاوِرِ، وَفِي الطَّلَاقِ قَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ، وَأَمَّا فِي الظِّهَارِ فَبَحَثْنَا فِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا هُوَ مَطْلُوبٌ عَنْ السَّبَبِ، وَالظِّهَارُ لَا يُفِيدُ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَذَلِكَ بَلْ أَفَادَ حُكْمًا شَرْعِيًّا هُوَ زَاجِرٌ. (قُلْنَا الزِّنَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْوَلَدِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ، ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى الْأَطْرَافِ وَالْأَسْبَابِ كَالْوَطْءِ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ الزِّنَا بِذَاتِهِ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ حَتَّى يَرِدَ الْإِشْكَالُ بَلْ لِأَنَّ الْوَلَدَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْجُزْءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنِّسَاءِ ضَرُورَةَ إقَامَةِ النَّسْلِ كَمَا سَقَطَتْ حَقِيقَةُ الْبَعْضِيَّةِ فِي حَقِّ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلِهَذَا صَرَّحَ بِذِكْرِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَفَسَّرَ صَاحِبُ الْكَشْفِ الْأَطْرَافَ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ وَمَنَعَ تَفْسِيرَهَا بِالْأَبِ وَالْأَجْدَادِ وَالْأُمِّ وَالْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ أُمَّهَاتِ الْمَوْطُوءَةِ وَبَنَاتِهَا لَا يَتَعَدَّى إلَّا إلَى الْأَبِ، وَكَذَا حُرْمَةُ آبَاءِ الْوَاطِئِ وَأَبْنَائِهِ لَا تَتَعَدَّى إلَّا إلَى الْأُمِّ حَتَّى لَا يُحَرِّمَ أُمَّ الزَّوْجَةِ أَوْ جَدَّتَهَا عَلَى أَبِ الزَّوْجِ أَوْ جَدِّهِ، فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّ حُرْمَةَ الْوَلَدِ تَتَعَدَّى إلَى فُرُوعِهِ لِوُجُودِ الْبَعْضِيَّةِ فَمَا وَجْهُ تَعَدِّيهَا إلَى الْأُصُولِ.؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ يَخْتَلِطُ فِي الرَّحِمِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ، وَيَصِيرُ شَيْئًا وَاحِدًا وَيَثْبُتُ لِهَذَا الْمَاءِ بَعْضِيَّةٌ مِنْ الْوَاطِئِ وَأُصُولِهِ وَبَعْضِيَّةٌ مِنْ الْمَوْطُوءَةِ وَأُصُولِهَا، فَإِذَا صَارَ الْمَاءُ إنْسَانًا تُعَدَّى الْبَعْضِيَّةُ مِنْهُ إلَى الْوَاطِئِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ جُزْءًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ صَارَ جُزْءًا مِنْ الْآخَرِ إذْ الْوَلَدُ بِكَمَالِهِ يُضَافُ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَعْضًا مِنْ الْآخَرِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إلَّا أَنَّهُ تُرِكَ فِي حَقِّ الْمَوْطُوءَةِ خَاصَّةً لِضَرُورَةِ التَّنَاسُلِ، وَفِي حَقِّ مَا بَيْنَ الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ ضَعِيفٌ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الْأَبَاعِدِ. (قَوْلُهُ وَالْمِلْكُ بِالْغَصْبِ) فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ بِنَاءً عَلَى صَيْرُورَةِ الضَّمَانِ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لَمَّا ثَبَتَ الْمِلْكُ قَبْلَهُ فَلَمْ يَنْفُذْ بَيْعُ الْغَاصِبِ، وَلَمْ يُسَلَّمُ الْكَسْبُ لَهُ قُلْنَا: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُوَ مِلْكُ الضَّمَانِ أَوْ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ بَلْ السَّبَبُ هُوَ الْغَصْبُ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْصُودًا مِنْ الْغَصْبِ بَلْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ شَرْطًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ الْمُتَوَقِّفِ عَلَى خُرُوجِ الْمَغْصُوبِ عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِيَكُونَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ جَبْرًا لِمَا فَاتَ إذْ لَا جَبْرَ بِدُونِ الْفَوَاتِ، وَمَا ثَبَّتَ شَرْطًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَكُونُ حَسَنًا بِحُسْنِهِ، وَإِنْ قَبُحَ فِي نَفْسِهِ، وَيُعْتَبَرُ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ ضَرُورَةَ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ عَلَى الْمَشْرُوطِ، فَزَوَالُ مِلْكِ الْأَصْلِ مُقْتَضًى، وَمِلْكُ الْبَدَلِ مُتَرَتِّبٌ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ زَوَالُ الْمِلْكِ ضَرُورِيًّا لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ الَّتِي لَا تَبَعِيَّةَ لَهَا

لَا يَجُوزُ، ثُمَّ تَتَعَدَّى مِنْهُ الْحُرْمَةُ إلَى أَطْرَافِهِ أَيْ فُرُوعِهِ وَأُصُولِهِ كَأُمَّهَاتِ النِّسَاءِ، وَتَتَعَدَّى إلَى الْأَسْبَابِ أَيْ الْوَلَدِ هُوَ مُوجِبٌ لِحُرْمَةِ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ فَأُقِيمَ مَا هُوَ سَبَبُ الْوَلَدِ مَقَامَ الْوَلَدِ فِي إيجَابِ حُرْمَتِهِنَّ كَمَا أَقَمْنَا السَّفَرَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي إثْبَاتِ الرُّخْصَةِ، وَسَبَبُ الْوَلَدِ هُوَ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ فَجَعَلْنَاهَا مُوجِبَةً لِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لَا ذَاتًا بَلْ بِتَبَعِيَّةِ الْوَلَدِ. (وَمَا يَعْمَلُ بِالْخَلَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ فِي عَمَلِهِ صِفَةً لِأَصْلٍ، وَالْأَصْلُ وَهُوَ الْوَلَدُ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ) أَيْ لَمَّا جُعِلَ الْوَطْءُ مُوجِبًا لِحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لِكَوْنِهِ خَلَفًا عَنْ الْوَلَدِ لَا تُعْتَبَرُ حُرْمَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْخَلَفِ صِفَاتُ الْأَصْلِيِّ لَا صِفَاتُ الْخَلَفِ كَالتُّرَابِ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ لَا تُعْتَبَرُ صِفَاتُ التُّرَابِ بَلْ تُعْتَبَرُ صِفَاتُ الْمَاءِ مِنْ الطَّهُورِيَّةِ وَنَحْوِهَا فَهُنَا لَا يُعْتَبَرُ صِفَاتُ الْوَطْءِ، وَهِيَ الْحُرْمَةُ بَلْ الْمُعْتَبَرُ الْوَلَدُ، وَهُوَ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالْوَلَدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ، وَالْوَلَدُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ فَلَيْسَ يَتْبَعُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ، بِخِلَافِ الزَّوَائِدِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْكَسْبِ، فَإِنَّهُ تَبَعٌ مَحْضٌ يَثْبُتُ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَدَلُ خِلَافَةٍ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ لَا بَدَلُ مُقَابَلَةٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا إذَا عَادَ الْعَبْدُ الْآبِقُ قُلْنَا: نَعَمْ إلَّا أَنَّا نَحْتَاجُ إلَى إزَالَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ عِنْدَ الْقَضَاءِ لِثُبُوتِ مِلْكِ الْبَدَلِ احْتِرَازًا عَنْ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَعِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ لَا عِبْرَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ كَمَا إذَا تَيَمَّمَ وَصَلَّى بِهِ، ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ. (قَوْلُهُ لَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ) يَعْنِي أَنَّ مِلْكَ الْمُدَبَّرِ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ الِانْتِقَالَ فَهَاهُنَا قَدْ زَالَ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ كَالْوَقْفِ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إذْ بِهِ تَنْدَفِعُ الضَّرُورَةُ أَعْنِي امْتِنَاعَ اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَا حَاجَةَ إلَى دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ قُلْنَا: هَذَا خِلَافُ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَلِأَنَّ الْغُرْمَ بِإِزَاءِ الْغُنْمِ فَلَا يُرْتَكَبُ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ. (قَوْلُهُ أَوْ هُوَ) أَيْ ضَمَانُ الْمُدَبَّرِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ فِي الْغَصْبِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ وَالْمَضْمُونُ الْأَصْلِيُّ الْوَاجِبُ الرَّدُّ وَالْمُتَقَوِّمُ إلَّا أَنَّهُ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ لِتَعَذُّرِ انْعِدَامِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ فَجُعِلَ بَدَلًا عَنْ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِهِ كَضَمَانِ الْعِتْقِ يُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ عِنْدَ احْتِمَالِ إيجَادِ شَرْطِهِ أَعْنِي تَمْلِيكَ الْعَيْنِ كَمَا فِي الْقِنِّ، وَلَا يُجْعَلُ بَدَلًا عَنْهُ عِنْدَ عَدَمِهِ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ. (قَوْلُهُ وَأَمَّا الِاسْتِيلَاءُ) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِ الِاسْتِيلَاءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْمَالِ الْمُبَاحِ، وَعَلَى الصَّيْدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ عِصْمَةُ الْمَحَلِّ أَعْنِي كَوْنَ الشَّيْءِ مُحَرَّمَ التَّعَرُّضِ مَحْضًا لِحَقِّ الشَّرْعِ أَوْ لِحَقِّ الْعَبْدِ، وَعِصْمَةُ أَمْوَالِنَا غَيْرُ

[فصل اختلفوا في الأمر والنهي هل لهما حكم في الضد أم لا]

(وَالْمِلْكُ بِالْغَصْبِ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا بَلْ شَرْطًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ الضَّمَانُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِالْغَصْبِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْغَصْبَ لَا يُفِيدُ مِلْكًا مَقْصُودًا بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمَغْصُوبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمَانَ صَارَ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ الْمَغْصُوبُ عَنْ مِلْكِهِ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ لَاجْتَمَعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ هَذَا لَا يَجُوزُ، ثُمَّ وَرَدَ عَلَى هَذَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ اجْتِمَاعَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ مِلْكِهِ فَأَجَابَ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ. (وَالْمُدَبَّرُ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى تَحْقِيقًا لِلضَّمَانِ لَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ ضَرُورَةً لِئَلَّا يَبْطُلَ حَقُّهُ) أَيْ الْمُدَبَّرُ يَخْرُجُ ـــــــــــــــــــــــــــــQثَابِتَةٍ فِي زَعْمِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ إبَاحَتَهَا وَتَمَلُّكَهَا بِالِاسْتِيلَاءِ فَكَانُوا فِي حَقِّ الْخِطَابِ بِثُبُوتِ عِصْمَةِ أَمْوَالِنَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْخِطَابُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيَكُونُ اسْتِيلَاؤُهُمْ عَلَيْهَا كَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى الصَّيْدِ، وَلَمَّا كَانَ هُنَا مَظِنَّةُ أَنْ يُقَالَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِصْمَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي زَعْمِهِمْ بَلْ هُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَجْحَدُونَ عِنَادًا أَشَارَ إلَى جَوَابٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ مَا دَامَ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالْيَدِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً أَوْ بِالدَّارِ، وَبَعْدَ اسْتِيلَائِهِمْ وَإِحْرَازِهِمْ إيَّاهُ بِدَارِ الْحَرْبِ قَدْ زَالَ الْإِحْرَازُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْعِصْمَةِ فَسَقَطَتْ الْعِصْمَةُ فَلَمْ يَبْقَ الِاسْتِيلَاءُ مَحْظُورًا، وَالِاسْتِيلَاءُ فِعْلٌ مُمْتَدٌّ لَهُ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَصَارَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ كَأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ ابْتِدَاءً فَيَمْلِكُهُ كَالْمُسْلِمِ لِلصَّيْدِ. (قَوْلُهُ وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ) لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ لِذَاتِهِ وَلَا لِجُزْئِهِ بَلْ لِمُجَاوِرِهِ عَلَى مَا سَبَقَ. [فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَلْ لَهُمَا حُكْمٌ فِي الضِّدِّ أَمْ لَا] (قَوْلُهُ فَصْلٌ اخْتَلَفُوا) فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَبِالْعَكْسِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي الْمَفْهُومَيْنِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ مُخَالِفٌ لِمَفْهُومِ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، وَلَا فِي اللَّفْظَيْنِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ افْعَلْ وَصِيغَةَ النَّهْيِ لَا تَفْعَلْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ إذَا أُمِرَ بِهِ فَهَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ الشَّيْءِ الْمُضَادِّ لَهُ فَقِيلَ إنَّهُ لَيْسَ نَفْسَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، وَلَا مُتَضَمِّنًا لَهُ عَقْلًا، وَقِيلَ نَفْسُهُ وَقِيلَ يَتَضَمَّنُهُ، ثُمَّ اقْتَصَرَ قَوْمٌ عَلَى هَذَا، وَقَالَ آخَرُونَ إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ نَفْسُ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ، وَقِيلَ يَتَضَمَّنُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَ الْقَوْلَ فِي أَمْرِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فَجَعَلَهُمَا نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ أَمْرَ الْوُجُوبِ فَجَعَلَهُ نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ تَحْرِيمًا دُونَ النَّدْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ الْحُكْمَ بِمَا إذَا اتَّحَدَ الضِّدُّ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ عِنْدَ التَّعَدُّدِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَ فِي الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ وَالْمُخْتَارِ، عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ ضِدَّ الْمَأْمُورِ بِهِ إنْ كَانَ مُفَوِّتًا

عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذْ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَدْخُلُ الضَّمَانُ فِي مِلْكِهِ لَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ إذْ لَوْ دَخَلَ لَبَطَلَ حَقُّ الْمُدَبَّرِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ، ثُمَّ أَجَابَ بِجَوَابٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ (أَوْ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ) فَلَمَّا كَانَ ضَمَانُ الْمُدَبَّرِ فِي مُقَابَلَةِ إزَالَةِ مِلْكِ الْيَدِ فَلَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ. (وَأَمَّا الِاسْتِيلَاءُ فَإِنَّمَا نُهِيَ لِعِصْمَةِ أَمْوَالِنَا، وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي زَعْمِهِمْ أَوْ هِيَ ثَابِتَةٌ مَا دَامَ مُحَرَّزًا، وَقَدْ زَالَ فَسَقَطَ النَّهْيُ فِي حَقِّ الدُّنْيَا) أَمَّا فِي حَقِّ الْآخِرَةِ فَلَا حَتَّى يَكُونَ آثِمًا مُؤَاخَذًا بِهِ، وَأَجَابَ عَنْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ (وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ قَبِيحٌ لِمُجَاوِرِهِ) عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ. (فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَلْ لَهُمَا حُكْمٌ فِي الضِّدِّ أَمْ لَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ يَحْرُمُ، وَإِنْ فَوَّتَ عَدَمُهُ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ يَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْ فَالْأَمْرُ يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ، وَالنَّهْيُ كَوْنَهُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً) يَعْنِي ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمَقْصُودِ يَكُونُ حَرَامًا، وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا، وَكَذَا عَدَمُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَثَلًا إذَا تَعَيَّنَ زَمَانُ وُجُوبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالضِّدُّ الْمُفَوِّتُ لَهُ يَكُونُ حَرَامًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ سَاءَ اتَّحَدَ أَوْ تَعَدَّدَ حَتَّى لَوْ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ عَنْ الدَّارِ فَبِأَيِّ ضِدٍّ يَشْتَغِلُ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ فِي الدَّارِ يَكُونُ حَرَامًا لِفَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ حُرْمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا إنَّمَا تَكُونُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ السُّكُونُ فِي الدَّارِ كَالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ يُوجِبُ حُرْمَةَ النِّفَاقِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة لِكَوْنِهَا مِنْ أَفْرَادِ الْكُفْرِ، وَفِي النَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَجِبُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ إذْ تَرْكُ الْقِيَامِ مَثَلًا يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ وُجُوبَ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ تَرْكِهِ وَحُرْمَةَ الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ نِزَاعٌ. (قَوْلُهُ وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: 228] وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ حِلِّ الْكِتْمَانِ إلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَهْيٌ عَنْ الْكِتْمَانِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِظْهَارِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَدَمَ الْكِتْمَانِ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ وقَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فِي مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ أَيْ يَكْفُفْنَ، وَيَحْبِسْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَنْ نِكَاحٍ آخَرَ وَوَطْءٍ آخَرَ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ لِكَوْنِهِ مُفَوِّتًا لِلتَّرَبُّصِ، وَالنَّهْيُ عَنْ عَزْمِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْكَفِّ عَنْ التَّزَوُّجِ، وَهَذَا أَيْضًا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُوبَ ضِدِّهِ الْمُفَوِّتِ لَهُ كَالْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ فِيهِ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَوَطِئَهَا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى وَتَحْتَسِبُ مَا تَرَى مِنْ الْإِقْرَاءِ مِنْ الْعِدَّتَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْكَفِّ، وَذِكْرُ الْمُدَّةِ تَقْدِيرٌ لِلرُّكْنِ الَّذِي هُوَ الْكَفُّ كَتَقْدِيرِ الصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ كَفَّانِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَأَدَاءِ صَوْمَيْنِ

إذَا أُمِرَ بِالشَّيْءِ فَضِدُّ ذَلِكَ الشَّيْءِ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ فَفِعْلُ الضِّدِّ يَكُونُ حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْهُ يَكُونُ فِعْلُهُ مَكْرُوهًا، وَإِذَا نُهِيَ عَنْ الشَّيْءِ فَعَدَمُ ضِدِّهِ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ فَفِعْلُ الضِّدِّ يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْهُ فَفِعْلُهُ يَكُونُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ وُجِدَ شَرَائِطُ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْآخَرِ، وَحُرْمَةُ أَحَدِهِمَا تُوجِبُ وُجُوبَ الْآخَرِ (لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْ الضِّدَّ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا مِنْ حَيْثُ يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ فَيَكُونُ هَذَا الْقَدْرُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِذَا لَمْ يُفَوِّتْ الْمَقْصُودَ نَقُولُ بِكَرَاهَتِهِ وَكَوْنِهِ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً مُلَاحَظَةً لِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) ، فَإِنَّ مُشَابَهَةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تُوجِبُ الْكَرَاهَةَ، وَمُشَابَهَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ تُوجِبُ النَّدْبَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ بِالْعِدَّةِ لَيْسَ هُوَ الْكَفُّ بَلْ هُوَ الْمُحَرَّمَاتُ مِنْ النِّكَاحِ وَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً حَالَ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقُ شُرِّعَ لِإِزَالَتِهَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَخَّرَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكَفُّ لَمَّا كَانَ الْخُرُوجُ أَوْ النِّكَاحُ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ فَلَوْ تَحَقَّقَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ إلَّا إثْمَ تَرْكِ الْكَفِّ لَا إثْمَ الْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحُرُمَاتُ وَالتُّرُوكُ تَدَاخَلَتْ الْعِدَّتَانِ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي اجْتِمَاعِ الْحُرُمَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ مُؤَجَّلَةً إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِقْرَاءِ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِدَّةَ أَجَلًا، وَالْآجَالُ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ لِوَاحِدٍ انْقَضَتْ مُدَّةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الدُّيُونِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اتِّصَافُ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِفِعْلَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ كَجُلُوسَيْنِ. (قَوْلُهُ وَالْمَأْمُورُ بِالْقِيَامِ) تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ ضِدَّ الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا لَمْ يُفَوِّتْهُ كَانَ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا، فَإِنَّ قُعُودَ الْمُصَلِّي لَا يُفَوِّتُ الْقِيَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الزَّمَانِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْقِيَامُ مَأْمُورًا بِهِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ حُرِّمَ الْقُعُودُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ لَا يَبْطُلُ مَعْنَاهُ لَا يَفْسُدُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْبُطْلَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَلَا يُبْطِلُهَا. (قَوْلُهُ وَالْمُحْرِمُ) تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ عَدَمَ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذَا لَمْ يُفَوِّتْهُ كَانَ مَنْدُوبًا لَا وَاجِبًا، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ مُدَّةَ إحْرَامِهِ، وَعَدَمُ ضِدِّهِ أَعْنِي عَدَمَ لُبْسِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ لَيْسَ بِمُفَوِّتٍ لِلْمَقْصُودِ بِالنَّهْيِ أَعْنِي تَرْكَ لُبْسِ الْمَخِيطِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَلْبَسَ الْمَخِيطَ وَلَا شَيْئًا مِنْ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ فَيَكُونُ لُبْسُ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ سُنَّةً لَا وَاجِبًا لَا يُقَالُ ضِدُّ لُبْسِ الْمَخِيطِ تَرْكُهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا آخَرَ، أَوْ لَا عَدَمُ التَّرْكِ مُفَوِّتٌ لِلْمَقْصُودِ بِالنَّهْيِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارَاتِهِمْ مِنْ أَنَّ ضِدَّ الْقِيَامِ هُوَ الْقُعُودُ وَالِاضْطِجَاعُ وَنَحْوُهُمَا لَا تَرْكُ الْقِيَامِ فَضِدُّ لُبْسِ الْمَخِيطِ، هُوَ لُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِإِصْلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنَّ الضِّدَّ يَكُونُ وُجُودِيًّا. (قَوْلُهُ وَالسُّجُودُ) تَفْرِيعٌ عَلَى أَصْلَيْنِ مِمَّا سَبَقَ، وَذَلِكَ

وَكَوْنَهُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً. (فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: 228] ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِظْهَارِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّرَبُّصِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالْكَفِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَيَجْرِي التَّدَاخُلُ فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ، وَهُوَ مَقْصُودٌ. (وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ إذَا قَعَدَ ثُمَّ قَامَ لَا يُبْطِلُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَالْمُحْرِمُ لَمَّا نُهِيَ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ كَانَ لُبْسُ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ سُنَّةً، وَالسُّجُودُ عَلَى النَّجِسِ لَا يُفْسِدُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ حَتَّى إذَا أَعَادَهُ عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجِسِ فِي عَمَلٍ هُوَ فَرْضٌ، وَالتَّطْهِيرُ عَنْ النَّجَاسَةِ فِي الْأَرْكَانِ فَرْضٌ دَائِمٌ فَيَصِيرُ ضِدُّهُ مُفَوِّتًا) فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تَفْرِيعَاتٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَصْلِ، وَبَعْدَ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْأَصْلِ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْفُرُوعِ تَكُونُ سَهْلَةً إنَّهُ الْمُسَهِّلُ لِكُلِّ عَسِيرٍ. ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ السُّجُودَ عَلَى الطَّاهِرِ مَأْمُورٌ بِهِ فَإِذَا سَجَدَ عَلَى النَّجِسِ لَا يَكُونُ مُفَوِّتًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الطَّاهِرِ فَتَجُوزُ، وَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا تَفْسُدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِدَوَامِ التَّطْهِيرِ فِي جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، فَاسْتِعْمَالُ النَّجِسِ فِي عَمَلٍ هُوَ فَرْضٌ فِي وَقْتٍ مَا يَكُونُ مُفَوِّتًا لِلْمَقْصُودِ بِالْأَمْرِ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي عَمَلٍ هُوَ فَرْضٌ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرُّكْبَتَيْنِ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرُّكْبَتَيْنِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَيَكُونُ وَضْعُهُمَا عَلَى النَّجِسِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الْوَضْعِ وَهُوَ لَا يُفْسِدُ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجِسِ إذَا كَانَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ تَحْقِيقًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا إذَا كَانَ فِي مَكَانِ وَضْعِ الْوَجْهِ نَجَسٌ، فَإِنَّ النَّجَاسَةَ تَصِيرُ وَصْفًا لِلْوَجْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اتِّصَالَهُ بِالْأَرْضِ وَلُصُوقَهُ بِهَا فَرْضٌ لَازِمٌ فَيَصِيرُ مَا هُوَ صِفَةٌ لِلْأَرْضِ صِفَةً لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَا لَمْ يَكُنْ اللُّصُوقُ لَازِمًا فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى هَذِهِ الْقُوَّةَ، ثُمَّ لَا يَخْفَى لُطْفُ الْإِيهَامِ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ الْمُسَهِّلُ لِكُلِّ عَسِيرٍ.

[الركن الثاني في السنة]

(الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَى فِعْلِهِ، وَالْحَدِيثُ مُخْتَصٌّ بِقَوْلِهِ: وَالْأَقْسَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي كِتَابٍ) كَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُشْتَرَكِ إلَى آخِرِهَا وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ثَابِتَةٌ هَهُنَا أَيْضًا فَلَا نَشْتَغِلُ بِهَا، وَإِنَّمَا بَحْثُنَا فِي بَيَانِ الِاتِّصَالِ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَنَبْحَثُ فِي أُمُورٍ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَالِ، وَفِي الِانْقِطَاعِ، وَفِي مَحَلِّ الْخَبَرِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ السَّمَاعِ وَالضَّبْطِ وَالتَّبْلِيغِ، وَفِي الطَّعْنِ. (فَصْلٌ) فِي الِاتِّصَالِ الْخَبَرُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ رُوَاتُهُ فِي كُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQ [الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ] [فَصْلٌ اتِّصَالُ الْخَبَرِ] [التَّوَاتُرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ] قَوْلُهُ: (الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ وَهِيَ) فِي اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ فِي الْعِبَادَاتِ النَّافِلَةِ وَفِي الْأَدِلَّةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا مَا صَدَرَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - غَيْرُ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ وَيُسَمَّى الْحَدِيثَ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ، وَالْمَقْصُودُ بِالْبَحْثِ هَاهُنَا بَيَانُ اتِّصَالِ السُّنَّةِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَالِ بِأَنَّهُ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ أَوْ غَيْرِهِ وَعَنْ حَالِ الرَّاوِي، وَعَنْ شَرَائِطِهِ وَعَنْ ضِدِّ الِاتِّصَالِ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ، وَعَنْ مُتَعَلَّقِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخَبَرِ، وَعَنْ وُصُولِهِ مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى فِي الْمَبْدَأِ وَهُوَ السَّمَاعُ، أَوْ الْمُنْتَهَى، وَهُوَ التَّبْلِيغُ، أَوْ الْوَسَطِ، وَهُوَ الضَّبْطُ عَنْ قَدْحِ الْقَادِحِ فِيهِ، وَهُوَ الطَّعْنُ وَعَمَّا يَخُصُّ نَوْعًا خَاصًّا مِنْ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْفِعْلُ وَعَنْ مَبْدَأِ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْوَحْيُ، وَعَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا تَعَلُّقَ السَّوَابِقِ كَشَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ تَعَلُّقَ اللَّوَاحِقِ كَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَأَوْرَدَ هَذِهِ الْمَبَاحِثَ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَصْلًا. قَوْلُهُ: (فَصْلٌ فِي الِاتِّصَالِ) فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ جَعَلَ مَوْرِدَ الْقِسْمَةِ الْخَبَرَ، وَفِي السُّنَّةِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَلْ الْفِعْلُ أَيْضًا يُنْقَلُ بِالطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ قُلْتُ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ حَقِيقَةً بِالتَّوَاتُرِ وَغَيْرِهِ هُوَ الْخَبَرُ وَمَعْنَى اتِّصَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِهِ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِكَوْنِهِ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُتَوَاتِرٌ وَمَعْنَى الْمُتَوَاتِرِ عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِ مَا يَكُونُ رُوَاتُهُ فِي كُلِّ عَهْدٍ قَوْمًا لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ فَقَوْلُهُ: فِي كُلِّ عَهْدٍ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَشْهُورِ وَقَوْلُهُ: لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ خَبَرِ قَوْمٍ مَحْصُورٍ، وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوَاتُرِ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ اشْتِرَاطِ خَمْسَةٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ عِشْرِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ

عَهْدٍ قَوْمًا لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ أَوْ تَصِيرُ كَذَلِكَ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا تَصِيرُ كَذَلِكَ بَلْ رُوَاتُهُ آحَادٌ. وَالْأَوَّلُ مُتَوَاتِرٌ وَالثَّانِي مَشْهُورٌ وَالثَّالِثُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ إذَا لَمْ يَصِلْ حَدَّ التَّوَاتُرِ. وَالْأَوَّلُ: يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى شَيْءٍ مُخْتَرَعٍ مَعَ تَبَايُنِ هُمُومِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ مِمَّا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا. وَالثَّانِي يُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ وَهُوَ عِلْمٌ تَطْمَئِنُّ بِهِ النَّفْسُ، وَتَظُنُّهُ يَقِينًا لَكِنْ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَقِينٍ كَمَا إذَا رَأَى قَوْمًا جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ يَقَعُ لَهُ عِلْمٌ عَنْ غَفْلَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ خَمْسِينَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ. وَقَوْلُهُ: وَلَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ أَيْ: تَوَافُقُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ تَفْسِيرٌ لِلْكَثْرَةِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَثْرَةِ الْمُخْبِرِينَ بُلُوغُهُمْ حَدًّا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الْعَقْلِ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَ جَمْعٌ غَيْرُ مَحْصُورٍ بِمَا يَجُوزُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ لَا يَكُونُ مُتَوَاتِرًا وَأَمَّا ذِكْرُ الْعَدَالَةِ وَتَبَايُنُ الْأَمَاكِنِ فَتَأْكِيدٌ لِعَدَمِ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّوَاتُرِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَ جَمْعٌ غَيْرُ مَحْصُورٍ بِمَا يَجُوزُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ لَا يَكُونُ مُتَوَاتِرًا وَأَمَّا ذِكْرُ الْعِدَالَةِ وَتَبَايُنُ الْأَمَاكِنِ فَتَأْكِيدٌ لِعَدَمِ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّوَاتُرِ، حَتَّى لَوْ أَخْبَرَ جَمْعٌ غَيْرُ مَحْصُورٍ مِنْ كُفَّارِ بَلْدَةٍ بِمَوْتِ مَلِكِهِمْ حَصَلَ لَنَا الْيَقِينُ وَأَمَّا مِثْلُ خَبَرِ الْيَهُودِ بِقَتْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَأْبِيدِ دِينِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا نُسَلِّمُ تَوَاتُرَهُ وَحُصُولَ شَرَائِطِهِ فِي كُلِّ عَهْدٍ ثُمَّ الْمُتَوَاتِرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إلَى الْحِسِّ سَمْعًا أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ إقْلِيمٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ عَقْلِيَّةٍ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْيَقِينُ حَتَّى يَقُومَ الْبُرْهَانُ. قَوْلُهُ: (وَالْأَوَّلُ) أَيْ: الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ لِأَنَّ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْغَيْرِ الْمَحْصُورِ عَلَى شَيْءٍ مُخْتَرَعٍ لَا ثُبُوتَ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ تَبَايُنِ آرَائِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا بِمَعْنَى أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ حُكْمًا قَطْعِيًّا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَاطَئُوا عَلَى الْكَذِبِ وَأَنَّ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلنَّقِيضِ لَا بِمَعْنَى سَلْبِ الْإِمْكَانِ الْعَقْلِيِّ عَلَى تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِالْبِلَادِ النَّائِيَةِ كَمَكَّةَ وَبَغْدَادَ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضُ أَصْلًا وَمَا ذَاكَ إلَّا بِالْأَخْبَارِ ثُمَّ حُصُولُ الْعِلْمِ مِنْ التَّوَاتُرِ ضَرُورِيٌّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَرْكِيبِ الْحُجَّةِ حَتَّى إنَّهُ يَحْصُلُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كَالصِّبْيَانِ وَجَوَازُ تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ كَمَا فِي بَعْضِ الضَّرُورِيَّاتِ فَإِنْ قِيلَ جَوَازُ كَذِبِ كُلِّ وَاحِدٍ يُوجِبُ جَوَازَ كَذِبِ الْآخَرِينَ لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ مَعَ أَنَّ الْمَجْمُوعَ لَيْسَ إلَّا نَفْسَ الْآحَادِ فَجَوَازُ كَذِبِ كُلِّ وَاحِدٍ يُوجِبُ جَوَازَ كَذِبِ الْمَجْمُوعِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ الْقَطْعُ بِالنَّقِيضَيْنِ عِنْدَ تَوَاتُرِهِمَا، وَأَيْضًا إذَا عَرَضْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وُجُودَ إسْكَنْدَرَ وَكَوْنَ الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ نَجِدُ الثَّانِيَ أَقْوَى بِالضَّرُورَةِ فَلَوْ كَانَا ضَرُورِيَّيْنِ لَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَأَيْضًا الضَّرُورِيُّ يَسْتَلْزِمُ الْوِفَاقَ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْمُتَوَاتِرِ لِمُخَالَفَةِ السُّمَنِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ.

عَنْ التَّأَمُّلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْمُوَاضَعَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ آحَادُ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ أَيْ: الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ (ذَلِكَ) أَيْ: عِلْمَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَصْلِ خَبَرُ وَاحِدٍ، لَكِنَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَنَزَّهُوا عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ فَأَوْجَبَ مَا ذَكَرْنَا، وَالثَّالِثُ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ إذَا اجْتَمَعَ الشَّرَائِطُ الَّتِي نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَلَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُوجِبُ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ فَأَمَّا إيجَابُهُ الْعَمَلَ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] الطَّائِفَةُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَصَاعِدًا وَالرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبِلَ خَبَرَ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَأَرْسَلَ الْأَفْرَادَ إلَى الْآفَاقِ وَالْأَخْبَارُ فِي أَحْكَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأُجِيبَ إجْمَالًا بِأَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي الضَّرُورِيِّ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ كَشُبَهِ السُّوفُسْطائيَّةِ وَتَفْصِيلًا بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ قَدْ يُخَالِفُ حُكْمَ الْآحَادِ كَالْعَسْكَرِ الَّذِي يَفْتَحُ الْبِلَادَ، وَتَوَاتُرُ النَّقِيضَيْنِ مُحَالٌ عَادَةً، وَلَا امْتِنَاعَ فِي اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الضَّرُورِيِّ بِحَسْبِ السُّرْعَةِ وَالْوُضُوحِ بِوَاسِطَةِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ وَكَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ وَالْأَخْطَارِ بِالْبَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي عَدَمِ احْتِمَالِ النَّقِيضِ، وَالضَّرُورِيُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوِفَاقَ لِجَوَازِ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ كَمَا لِلسُّوفِسْطَائِيَّةِ. قَوْلُهُ: (وَالثَّانِي) أَيْ: الْمَشْهُورُ يُفِيدُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَالطُّمَأْنِينَةُ زِيَادَةُ تَوْطِينٍ وَتَسْكِينٍ يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ عَلَى مَا أَدْرَكَتْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ يَقِينِيًّا فَاطْمِئْنَانُهَا زِيَادَةُ الْيَقِينِ وَكَمَالُهُ كَمَا يَحْصُلُ لِلْمُتَيَقِّنِ بِوُجُودِ مَكَّةَ بَعْدَ مَا يُشَاهِدُهَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا فَاطْمِئْنَانُهَا رُجْحَانُ جَانِبِ الظَّنِّ بِحَيْثُ يَكَادُ يَدْخُلُ فِي حَدِّ الْيَقِينِ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا وَحَاصِلُهُ سُكُونُ النَّفْسِ عَنْ الِاضْطِرَابِ بِشُبْهَةٍ إلَّا عَنْهُ مُلَاحَظَةُ كَوْنِهِ آحَادَ الْأَصْلِ، فَالْمُتَوَاتِرُ لَا شُبْهَةَ فِي اتِّصَالِهِ صُورَةً، وَلَا مَعْنًى، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي اتِّصَالِهِ شُبْهَةُ صُورَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَمَعْنًى حَيْثُ لَا تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَالْمَشْهُورُ فِي اتِّصَالِهِ شُبْهَةُ صُورَةٍ لِكَوْنِهِ آحَادَ الْأَصْلِ لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ فَأَفَادَ حُكْمًا دُونَ الْيَقِينِ وَفَوْقَ أَصْلِ الظَّنِّ فَإِنْ قِيلَ هُوَ فِي الْأَصْلِ خَبَرُ وَاحِدٍ وَلَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ فِي الِاتِّصَالِ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَزِيدُ عَلَى الظَّنِّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ قُلْنَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَزَّهُوا عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ أَيْ: الْغَالِبُ الرَّاجِحُ مِنْ حَالِهِمْ الصِّدْقُ فَيَحْصُلُ الظَّنُّ بِمُجَرَّدِ أَصْلِ النَّقْلِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَحْصُلُ زِيَادَةُ رُجْحَانٍ بِدُخُولِهِ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ وَتَلَقِّيهِ مِنْ الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ فَيُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِتَنَزُّهِهِمْ عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ أَنَّ نَقْلَهُمْ صَادِقٌ قَطْعًا بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، وَإِلَّا لَكَانَ الْمَشْهُورُ مُوجِبًا عِلْمَ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ الْقَرْنَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهَا عَنْ الْكَذِبِ إلَّا أَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ.

الْآخِرَةِ لَا تُوجِبُ إلَّا الِاعْتِقَادَ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ يَتَرَجَّحُ الصِّدْقُ، وَلَنَا هَذِهِ الدَّلَائِلُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ، وَالْعَقْلُ يَشْهَدُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ. وَالْأَحَادِيثُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِنْهَا مَا اشْتَهَرَ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّهَا تُوجِبُ عَقْدَ الْقَلْبِ، وَهُوَ عَمَلٌ فَيَكْفِي لَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَفِي هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَمَّا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَأَكْثَرُ أَخْبَارِ الْآحَادِ نُقِلَتْ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ لِتَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الْأَحَادِيثِ وَتَدْوِينِهَا فِي الْكُتُبِ، وَفِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاوِيهِ الْأَوَّلُ مُتَنَزِّهًا عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ لَا يُفِيدُ عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَإِنْ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ كَمَا يَشْتَهِرُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ فِي الْبِلَادِ. قَوْلُهُ: (وَالثَّالِثُ، وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ) يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَقِيلَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْهُمَا وَقِيلَ يُوجِبُهُمَا جَمِيعًا وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ وَقَدْ دَلَّ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [الأنعام: 116] عَلَى اسْتِلْزَامِ الْعَمَلِ الْعِلْمَ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ أَيْضًا احْتِجَاجًا بِنَفْيِ اللَّازِمِ، وَهُوَ عِلْمٌ عَلَى نَفْيِ الْمَلْزُومِ وَطَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ أَيْضًا احْتِجَاجًا بِوُجُودِ الْمَلْزُومِ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنَعَ اللُّزُومَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِدَفْعِ الدَّلِيلِ وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ إلَّا أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى ظُهُورِهِ. وَهُوَ أَنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ، وَلَا عُمُومَ لِلْآيَتَيْنِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِدْرَاكِ جَازِمًا مَا كَانَ أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ، وَالظَّنُّ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَهْمِ وَاسْتُدِلَّ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122] الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ لَوْلَا هَهُنَا لِلطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ لِامْتِنَاعِ التَّرَجِّي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّائِفَةُ بَعْضٌ مِنْ الْفِرْقَةِ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ إذْ الْفِرْقَةُ هِيَ الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْآحَادِ يُوجِبُ الْحَذَرَ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْفَتْوَى فِي الْفُرُوعِ بِقَرِينَةِ التَّفَقُّهِ وَيَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْقَوْمِ بِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَلْزَمُهُ وُجُوبُ الْحَذَرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغٌ وَمَحَالٌّ؛ عَلَى أَنَّ كَوْنَ لَوْلَا لِلْإِيجَابِ وَالطَّلَبِ مَحَلُّ نَظَرٍ ثُمَّ قَوْله تَعَالَى {كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122] ، وَإِنْ كَانَ عَامًّا إلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبِلَ خَبَرَ بَرِيرَةَ فِي الْهَدَايَا وَخَبَرَ سَلْمَانَ فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ حِينَ أُتِيَ بِطَبَقِ رُطَبٍ فَقَالَ هَذَا صَدَقَةٌ فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْأَكْلِ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَبَقِ رُطَبٍ وَقَالَ هَذَا هَدِيَّةٌ فَأَكَلَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْأَكْلِ وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُرْسِلُ الْأَفْرَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَى الْآفَاقِ لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ، وَإِيجَابِ قَبُولِهَا عَلَى الْأَنَامِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلْمٌ بِصِدْقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ دُونَ الْوُجُوبِ. فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ

[فصل الراوي إما معروف بالرواية وإما مجهول]

نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَصَّ هَذَا بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ بَلْ يَكُونُ كُلُّ الِاعْتِقَادِيَّاتِ كَذَلِكَ. [فَصْلٌ] الرَّاوِي إمَّا مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ وَإِمَّا مَجْهُولٌ أَيْ: لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ حَدِيثَيْنِ، وَالْمَعْرُوفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْعَبَادِلَةِ (أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ) وَزَيْدٍ، وَمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَعَائِشَةَ وَنَحْوِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَحَدِيثُهُ يُقْبَلُ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَوْ خَالَفَهُ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَخْبَارُ آحَادٍ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهَا كَوْنُ خَبَرِ الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَهُوَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؟ قُلْنَا: تَفَاصِيلُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ آحَادًا إلَّا أَنَّ جُمْلَتَهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وَجُودِ حَاتِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ التَّوَاتُرُ فَلَا أَقَلَّ مِنْ الشُّهْرَةِ وَرُبَّمَا يُسْتَدَلُّ بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ الِاسْتِدْلَال بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَعَمَلُهُمْ بِهِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُحْصَى، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ وَشَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ عَادَةً بِإِجْمَاعِهِمْ كَالْقَوْلِ الصَّرِيحِ، وَقَدْ دَلَّ سِيَاقُ الْأَخْبَارِ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ كَانَ بِنَفْسِ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَمَا نُقِلَ مِنْ إنْكَارِهِمْ بَعْضَ أَخْبَارِ الْآحَادِ إنَّمَا كَانَ عِنْدَ قُصُورٍ فِي إفَادَةِ الظَّنِّ وَوُقُوعِ رِيبَةٍ فِي الصِّدْقِ. (قَوْلُهُ: وَالْإِخْبَارُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ) دَلِيلَانِ مُسْتَقِلَّانِ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ تَقْرِيرُ الْأَوَّلِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَتَفَاصِيلِ الْحَشْرِ وَالصِّرَاطِ وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الِاعْتِقَادَ إذْ لَا يَثْبُتُ بِهِ عَمَلٌ مِنْ الْفُرُوعِ. وَتَقْرِيرُ الثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى احْتِمَالُ الْكَذِبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْعِلْمِ وَجَوَابِهِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَرَجُّحَ جَانِبِ الصِّدْقِ إلَى حَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ الْكَذِبُ أَصْلًا بَلْ الْعَقْلُ شَاهِدٌ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ، وَأَنَّ احْتِمَالَ الْكَذِبِ قَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا وَإِلَّا لَزِمَ الْقَطْعُ بِالنَّقِيضَيْنِ عِنْدَ إخْبَارِ الْعَدْلَيْنِ بِهِمَا. وَجَوَابُ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي بَابِ الْآخِرَةِ مِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ فَيُوجِبُ عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فَيُفِيدُ الظَّنَّ وَذَلِكَ فِي التَّفَاصِيلِ وَالْفُرُوعِ، وَمِنْهَا مَا تَوَاتَرَ وَاعْتُضِدَ بِالْكِتَابِ وَهُوَ فِي الْجُمَلِ وَالْأُصُولِ فَيُفِيدُ الْقَطْعَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ عَقْدُ الْقَلْبِ، وَهُوَ عَمَلٌ فَيَكْفِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَقْدُ الْقَلْبِ فِي غَيْرِ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ مَعْنَى الْعِلْمِ، وَقَدْ بُيِّنَ فَسَادُهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ إنَّمَا وَرَدَتْ لِعَقْدِ الْقَلْبِ وَالْجَزْمِ بِالْحُكْمِ، وَفِي غَيْرِهَا لِلْعَمَلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ فَوَجَبَ الْإِتْيَانُ بِمَا كُلِّفْنَا بِهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا [فَصْلٌ الرَّاوِي إمَّا مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ وَإِمَّا مَجْهُولٌ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) حَاصِلُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ إمَّا مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ أَوْ مَجْهُولٌ أَمَّا الْمَعْرُوفُ فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ يُقْبَلُ سَوَاءٌ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَمْ لَا، وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ يُوَافِقَ قِيَاسًا مَا فَيُقْبَلُ أَوْ لَا فَيُرَدُّ، وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَإِمَّا أَنْ يَظْهَرَ حَدِيثُهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ

أَنَّ الْقِيَاسَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ وَرُدَّ بِأَنَّهُ يَقِينٌ بِأَصْلِهِ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي نَقْلِهِ، وَفِي الْقِيَاسِ الْعِلَّةُ مُحْتَمَلَةٌ، وَهِيَ الْأَصْلُ، وَأَيْضًا إذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا عِلَّةٌ قَطْعًا لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي الْفَرْعِ مَانِعٌ أَوْ لِخُصُوصِيَّةِ الْأَصْلِ أَثَرٌ، أَوْ بِالرِّوَايَةِ فَقَطْ كَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ قُبِلَ، وَكَذَا إنْ خَالَفَ قِيَاسًا وَوَافَقَ قِيَاسًا آخَرَ لَكِنَّهُ إنْ خَالَفَ جَمِيعَ الْأَقْيِسَةِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَنَا، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ السَّدَادِ بَابِ الرَّأْيِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى كَانَ مُسْتَفِيضًا ـــــــــــــــــــــــــــــQيَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ لَا بَعْدَهُ وَإِنْ ظَهَرَ فَإِمَّا أَنْ يَشْهَدَ السَّلَفُ لَهُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ فَيُقْبَلُ أَوْ بِرَدِّهِ فَلَا يُقْبَلَ أَوْ يَسْكُتُوا عَنْهُ فَيُقْبَلَ أَوْ يَقْبَلَ الْبَعْضُ وَيَرُدَّ الْبَعْضُ مَعَ نَقْلِ الثِّقَاتِ عَنْهُ فَإِنْ وَافَقَ قِيَاسًا، وَإِلَّا فَلَا. (قَوْلُهُ: وَحَدِيثُهُ يُقْبَلُ) أَيْ: يُعْمَلُ بِحَدِيثِ الرَّاوِي الْمَعْرُوفِ بِالرِّوَايَةِ وَالْفِقْهِ سَوَاءٌ وَافَقَ الْقِيَاسَ حَتَّى يَكُونَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِهِ لَا بِالْقِيَاسِ أَوْ خَالَفَهُ حَتَّى يَثْبُتَ مُوجَبُهُ لَا مُوجِبُ الْقِيَاسِ، وَذَهَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّ الْعِلَّةَ إنْ ثَبَتَتْ بِنَصٍّ رَاجِحٍ عَلَى الْخَبَرِ فِي الدَّلَالَةِ فَإِنْ كَانَ وُجُودُهَا فِي الْفَرْعِ قَطْعِيًّا فَالْقِيَاسُ مُقَدَّمٌ رَاجِحٌ عَلَى الْخَبَرِ، وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا فَالتَّوَقُّفُ، وَإِنْ ثَبَتَتْ لَا بِنَصٍّ رَاجِحٍ فَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ، وَعَنْ أَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَقَدُّمِ الْقِيَاسِ إنْ ثَبَتَتْ الْعِلَّةُ بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ، وَفِي تَقَدُّمِ الْخَبَرِ إنْ ثَبَتَتْ بِنَصٍّ ظَنِّيٍّ أَوْ اُسْتُنْبِطَتْ مِنْ أَصْلٍ ظَنِّيٍّ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا اُسْتُنْبِطَتْ مِنْ أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى تَقَدُّمِ الْخَبَرِ بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَبَرَ يَقِينٌ بِأَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَوْلُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِي عَارِضِ النَّقْلِ حَيْثُ يَحْتَمِلُ الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ وَالْكَذِبَ، وَالْقِيَاسُ مُحْتَمِلٌ بِأَصْلِهِ أَيْ: عِلَّتِهِ الَّتِي تُبْنَى عَلَيْهَا الْأَحْكَامُ فَإِنَّهَا لَا تَتَحَقَّقُ يَقِينًا إلَّا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَهُوَ أَمْرٌ عَارِضٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُتَيَقَّنَ الْأَصْلِ رَاجِحٌ عَلَى مُحْتَمَلِهِ. الثَّانِي أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ قَطْعًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خُصُوصِيَّةُ الْأَصْلِ شَرْطًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْ خُصُوصِيَّةُ الْفَرْعِ مَانِعًا عَنْهُ فَيَكُونُ تَطَرُّقُ الِاحْتِمَالِ إلَى الْقِيَاسِ أَكْثَرَ فَيُؤَخَّرُ عَنْ الْخَبَرِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ الِاحْتِمَالُ إلَّا فِي طَرِيقِ نَقْلِهِ هُوَ عَارِضٌ ثُمَّ تَرَكَ الصَّحَابَةُ الْقِيَاسَ بِالْخَبَرِ مُتَوَاتِرِ الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهُ غَيْرَ مُتَوَاتِرَةٍ فَيَكُونُ إجْمَاعًا. (قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ) أَيْ: خَبَرَ الرَّاوِي الْمَعْرُوفِ بِالرِّوَايَةِ دُونَ الْفِقْهِ إنْ خَالَفَ جَمِيعَ الْأَقْيِسَةِ الَّتِي لَا يَكُونُ ثُبُوتُ أُصُولِهَا بِخَبَرِ رَاوٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ بِالْفِقْهِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَنَا، وَفِيهِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا؛ فَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْقِيَاسِ فِي أُمُورٍ سِتَّةٍ حُكْمُ الْأَصْلِ وَتَعْلِيلُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَتَعَيُّنُ الْوَصْفِ الَّذِي بِهِ التَّعْلِيلُ، وَوُجُودُ ذَلِكَ الْوَصْفِ فِي الْفُرُوعِ، وَنَفْيُ الْمُعَارِضِ فِي الْأَصْلِ وَنَفْيُهُ فِي الْفَرْعِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ عُدُولِ الصَّحَابَةِ نَقْلُ الْحَدِيثِ بِلَفْظِهِ وَلِهَذَا نَجِدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ شَكَّ الرَّاوِي

فِيهِمْ فَإِذَا قَصُرَ فِقْهُ الرَّاوِي لَمْ يُؤْمَنْ مِنْ أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْ مَعَانِيهِ فَتَدْخُلُهُ شُبْهَةٌ زَائِدَةٌ يَخْلُو عَنْهَا الْقِيَاسُ. وَذَلِكَ كَحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ، وَهِيَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «مَنْ اشْتَرَى شَاةً فَوَجَدَهَا مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» . وَالْمُحَفَّلَةُ شَاةٌ جُمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا بِتَرْكِ حَلْبِهَا لِيَظُنَّهَا الْمُشْتَرِي سَمِينَةً فَيَغْتَرَّ. فَهَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنَّمَا اسْتَفَاضَ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِتَقْرِيرِ لَفْظِ الْحَدِيثِ بِالرِّوَايَةِ، وَالتَّدْوِينِ. وَأَمَّا ثَالِثًا؛ فَلِأَنَّهُ نُقِلَ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْغَيْرِ الْمَعْرُوفِ بِالْفِقْهِ، وَقَدْ نَقَلَ صَاحِبُ الْكَشْفِ مَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ هَذَا الْفَرْقَ مُسْتَحْدَثٌ، وَأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَمَا رُوِيَ مِنْ اسْتِبْعَادِ ابْنِ عَبَّاسٍ خَبَرَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ لَيْسَ تَقْدِيمًا لِلْقِيَاسِ بَلْ اسْتِبْعَادًا لِلْخَبَرِ لِظُهُورِ خِلَافِهِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّ الْكِتَابَ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْكِتَابِ، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْآيَةِ حَتَّى يَثْبُتَ بِهِ قِيَاسٌ يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَلَوْ سُلِّمَ فَقَدْ خُصَّ مِنْهُ الْقِيَاسُ الَّذِي يُعَارِضُهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ فَلَمْ يَبْقَ قَطْعِيًّا، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِالْخَبَرِ، وَالْقِيَاسِ. (قَوْلُهُ: كَحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ) مِنْ صَرَيْتُهُ إذَا جَمَعْتُهُ، وَالْمُرَادُ الشَّاةُ الَّتِي جُمِعَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهَا بِالشَّدِّ، وَتَرْكِ الْحَلْبِ مُدَّةً لِيَظُنَّهَا الْمُشْتَرِي كَثِيرَةَ اللَّبَنِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِيَظُنَّهَا الْمُشْتَرِي سَمِينَةً فِيهِ نَظَرٌ وَكَذَا الْمُحَفَّلَةُ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ «لَا تُصَرُّوا الْإِبِلَ، وَالْغَنَمَ فَمَنْ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» وَيُرْوَى «بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ» وَيُرْوَى «مَنْ اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» الْحَدِيثَ. وَوَجْهُ كَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَنَّ تَقْدِيرَ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ بِالْمِثْلِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَتَقْدِيرُهُ بِالْقِيمَةِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَعْتَقَ شِقْصًا لَهُ فِي عَبْدٍ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا» ، وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ عَلَى وُجُوبِ الْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ عِنْدَ فَوَاتِ الْعَيْنِ فَإِنْ قِيلَ فَيَكُونُ رَدُّ هَذَا الْحَدِيثِ بِنَاءً عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ، وَلَا نِزَاعَ فِي ذَلِكَ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَيْسَتْ مِنْ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ صَرِيحًا لَكِنَّهُ بَعْدَ فَسْخِ الْعَقْدِ ظَهَرَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِلَا رِضَاهُ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا رَضِيَ لِحَلْبِ الشَّاةِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي فَيَثْبُتُ فِيهَا الضَّمَانُ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ قِيَاسًا عَلَى صُورَةِ الْعُدْوَانِ الصَّرِيحِ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ

بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةٍ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَإِنْ رَوَى عَنْهُ السَّلَفِ وَشَهِدُوا لَهُ بِصِحَّةِ الْحَدِيثِ صَارَ مِثْلَ الْمَعْرُوفِ بِالرِّوَايَةِ، وَإِنْ سَكَتُوا عَنْ الطَّعْنِ بَعْدَ النَّقْلِ فَكَذَا؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ، وَإِنْ قَبِلَ الْبَعْضُ وَرَدَّ الْبَعْضُ مَعَ نَقْلِ الثِّقَاتِ عَنْهُ يُقْبَلُ إنْ وَافَقَ قِيَاسًا «كَحَدِيثِ مَعْقِلِ بْنِ سِنَانٍ فِي بِرْوَعَ مَاتَ عَنْهَا هِلَالُ بْنُ مُرَّةَ، وَمَا سَمَّى لَهَا مَهْرًا، وَمَا دَخَلَ بِهَا (فَقَضَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِ نِسَائِهَا» فَقَبِلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَرَدَّهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) وَقَالَ مَا نَصْنَعُ بِقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْكَرْدَرِيُّ إنَّ مِنْ عَادَةِ الْأَعْرَابِيِّ الْجُلُوسَ مُحْتَبِيًا فَإِذَا بَالَ يَقَعُ الْبَوْلُ عَلَى عَقِبَيْهِ، وَهَذَا لِبَيَانِ قِلَّةِ احْتِيَاطِ الْأَعْرَابِ حَيْثُ لَمْ يَسْتَنْزِهُوا الْبَوْلَ، وَهَذَا طَعْنٌ مِنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (وَقَدْ رَوَى عَنْهُ الثِّقَاتُ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلْقَمَةَ، وَمَسْرُوقٍ وَغَيْرِهِمْ فَعَمِلْنَا بِهِ لَمَّا وَافَقَ الْقِيَاسَ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْمَوْتَ كَالدُّخُولِ) بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي الْمَوْتِ (وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) لَمَّا خَالَفَ الْقِيَاسَ عِنْدَهُ. (وَإِنْ رَدَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَظَاهِرُ كَلَامِ، فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ نَاسِخٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمُعَارِضٌ لِلْإِجْمَاعِ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ بِالْمِثْلِ أَوْ الْقِيمَةِ وَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِ الْقِيَاسِ حُجَّةً، وَالْقَوْلُ بِنَفْيِ الْقِيَاسِ إنَّمَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَسَيُصَرِّحُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي فَصْلِ الِانْقِطَاعِ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْمَجْهُولُ) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ هَذَا كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ مَجْهُولَ الْعَدَالَةِ، وَالضَّبْطِ إذْ مَعْلُومُ الْعَدَالَةِ، وَالضَّبْطِ لَا بَأْسَ بِكَوْنِهِ مُنْفَرِدًا بِحَدِيثٍ أَوْ حَدِيثَيْنِ، فَإِنْ قِيلَ عَدَالَةُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ ثَابِتَةٌ بِالْآيَاتِ، وَالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي فَضَائِلِهِمْ قُلْنَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الصَّحَابِيَّ اسْمٌ لِمَنْ اُشْتُهِرَ بِطُولِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى طَرِيقِ التَّتَبُّعِ لَهُ، وَالْأَخْذِ مِنْهُ وَبَعْضُهُمْ أَنَّهُ اسْمٌ لِمُؤْمِنٍ رَأَى النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَوَاءٌ طَالَتْ صُحْبَتُهُ أَمْ لَا إلَّا أَنَّ الْجَزْمَ بِالْعَدَالَةِ مُخْتَصٌّ بِمَنْ اُشْتُهِرَ بِذَلِكَ، وَالْبَاقُونَ كَسَائِرِ النَّاسِ فِيهِمْ عُدُولٌ وَغَيْرُ عُدُولٍ. (قَوْلُهُ: فِي بِرْوَعَ) بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَكْسِرُونَهَا. (قَوْلُهُ: لَمَّا خَالَفَ الْقِيَاسُ عِنْدَهُ) وَذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْفَرْضِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا عَادَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إلَيْهَا سَالِمًا لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِمُقَابَلَتِهِ عِوَضًا كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَكَهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ. (قَوْلُهُ: كَحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هُوَ مِمَّا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ بِهِ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ وَأَحْمَدُ فَكَيْفَ يَكُونُ مِمَّا رَدَّهُ الْكُلُّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ مَعَ كَوْنِهِ

[فصل شرائط الراوي]

الْكُلُّ فَهُوَ مُسْتَنْكَرٌ لَا يُعْمَلُ بِهِ «كَحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً، وَلَا سُكْنَى، وَقَدْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا» فَرَدَّهُ عُمَرُ وَغَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ) وَقَالَ عُمَرُ لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا، وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ أَحَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ فِيهِ: أَرَادَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِهِمَا حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] وَحَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الْقِيَاسِ مَشْهُورٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ بِالْكِتَابِ قَوْله تَعَالَى {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وَأَرَادَ بِالسُّنَّةِ مَا قَالَ عُمَرُ سَمِعْتُ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ» . (وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَدِيثُهُ فِي السَّلَفِ كَانَ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا وَافَقَ الْقِيَاسَ؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ غَالِبٌ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِينَ أَنَا فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» فَالْقَرْنُ الْأَوَّلُ الصَّحَابَةُ وَالثَّانِي التَّابِعُونَ وَالثَّالِثُ تَبَعُ التَّابِعِينَ) أَمَّا بَعْدَ الْقَرْنِ الثَّالِثِ فَلَا لِغَلَبَةِ الْكَذِبِ فَلِهَذَا صَحَّ عِنْدَهُ الْقَضَاءُ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا فَهَذَا لِاخْتِلَافِ الْعَهْدِ. (فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ الرَّاوِي، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْعَقْلُ وَالضَّبْطُ وَالْعَدَالَةُ وَالْإِسْلَامُ) أَمَّا الْعَقْلُ فَيُعْتَبَرُ هُنَا كَمَالُهُ، وَهُوَ مُقَدَّرٌ بِالْبُلُوغِ عَلَى مَا يَأْتِي فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ. وَأَمَّا الضَّبْطُ فَهُوَ سَمَاعُ الْكَلَامِ كَمَا يَحِقُّ سَمَاعُهُ ثُمَّ فَهْمُ مَعْنَاهُ ثُمَّ حِفْظُ لَفْظِهِ ثُمَّ الثَّبَاتُ عَلَيْهِ مَعَ الْمُرَاقَبَةِ إلَى حِينِ الْأَدَاءِ، وَكَمَالُهُ أَنْ يَنْضَمَّ إلَى هَذَا الْوُقُوفُ عَلَى مَعَانِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ. (قَوْلُهُ: قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خَيْرُ الْقُرُونِ» الْحَدِيثَ) فَإِنْ قِيلَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَثَلُ أُمَّتِي مَثَلُ الْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ» فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ قُلْنَا الْخَيْرِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِالْإِضَافَاتِ، وَالِاعْتِبَارَاتِ فَالْقُرُونُ السَّابِقَةُ خَيْرٌ بِنَيْلِ شَرَفِ قُرْبِ الْعَهْدِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلُزُومِ سِيرَةِ الْعَدْلِ، وَالصِّدْقِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ «قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الصَّوَابِ وَنَيْلِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يُدْرَى إنَّ الْأَوَّلَ خَيْرٌ لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ، وَقِلَّةِ مَعْصِيَتِهِ أَمْ الْآخِرُ لِإِيمَانِهِ بِالْغَيْبِ طَوْعًا وَرَغْبَةً مَعَ انْقِضَاءِ زَمَنِ مُشَاهَدَةِ آثَارِ الْوَحْيِ وَظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ بِالْتِزَامِهِ طَرِيقَ السُّنَّةِ مَعَ فَسَادِ الزَّمَانِ [فَصْلٌ شَرَائِطُ الرَّاوِي] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي شَرَائِطِ الرَّاوِي) لَمْ يَكْتَفِ بِذِكْرِ الضَّبْطِ، وَالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْكَامِلَ التَّمْيِيزِ رُبَّمَا يَكُونُ ضَابِطًا لَكِنْ لَا يَجْتَنِبُ الْكَذِبَ لِعِلْمِهِ بِأَنْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ رُبَّمَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا عَلَى مُعْتَقَدِهِ وَلِهَذَا يَسْأَلُ الْقَاضِي عَنْ عَدَالَةِ الْكَافِرِ إذَا شَهِدَ عَلَى الْكَافِرِ عِنْدَ طَعْنِ الْخَصْمِ نَعَمْ لَوْ فَسَّرَ الْعَدَالَةَ بِمُحَافَظَةِ دِينِهِ يُحْمَلُ عَلَى مُلَازَمَةِ التَّقْوَى، وَالْمُرُوءَةِ مِنْ غَيْرِ بِدْعَةٍ وَجَعَلَ عَلَامَتَهَا اجْتِنَابَ الْكَبَائِرِ، وَتَرْكَ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَتَرْكَ بَعْضِ الصَّغَائِرِ وَالْمُبَاحَاتِ الَّتِي مِمَّا يَدُلُّ عَلَى خِسَّةِ النَّفْسِ وَدَنَاءَةِ الْهِمَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالتَّطْفِيفِ فِي.

[فصل في انقطاع الحديث]

الشَّرْعِيَّةِ. وَشَرَطْنَا حَقَّ السَّمَاعِ احْتِرَازًا عَنْ أَنْ يَحْضُرَ رَجُلٌ مَجْلِسًا، وَقَدْ مَضَى صَدْرٌ مِنْ الْكَلَامِ وَيَخْفَى عَلَى الْمُتَكَلِّمِ هُجُومُهُ لِيُعِيدَهُ، وَهُوَ يَزْدَرِي نَفْسَهُ فَلَا يَسْتَعِيدُهُ. (وَفَهْمَ الْمَعْنَى) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ عَلَى حَقِّ السَّمَاعِ فِي قَوْلِهِ: وَشَرَطْنَا حَقَّ السَّمَاعِ (هُنَا لَا فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي نَقْلِهِ نَظْمُهُ فَلِهَذَا يُبَالَغُ فِي حِفْظِهِ عَادَةً بِخِلَافِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُنْقَلُ بِالْمَعْنَى حَتَّى وَلَوْ بُولِغَ فِي حِفْظِهِ كَانَتْ كَافِيَةً؛ وَلِأَنَّهُ مَحْفُوظٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وَالْمُرَاقَبَةَ) بِالنَّصْبِ عَطْفٌ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ (احْتِرَازًا عَمَّا لَا يَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِلتَّبْلِيغِ فَيُقَصِّرُ فِي مُرَاقَبَةِ بَعْضِ مَا أُلْقِيَ إلَيْهِ، وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَهِيَ الِاسْتِقَامَةُ، وَهِيَ الِانْزِجَارُ عَنْ مَحْظُورَاتِ دِينِهِ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَأَقْصَاهَا أَنْ يَسْتَقِيمَ كَمَا أُمِرَ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاعْتُبِرَ مَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَهُوَ رُجْحَانُ جِهَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ عَلَى دَاعِي الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ فَقِيلَ إنَّ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ، وَإِذَا أَصَرَّ عَلَى الصَّغِيرَةِ فَكَذَا. أَمَّا مَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ فَتَامُّ الْعَدَالَةِ فَشَهَادَةُ الْمَسْتُورِ، وَإِنْ كَانَتْ مَرْدُودَةً لَكِنَّ خَبَرَ الْمَجْهُولِ يُقْبَلُ عِنْدَنَا لِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى ذَلِكَ الْقَرْنِ بِالْعَدَالَةِ. وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَإِنَّمَا شَرَطْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَزْنِ بِحَبَّةٍ، وَالِاجْتِمَاعِ مَعَ الْأَرْذَالِ، وَالِاشْتِغَالِ بِالْحِرَفِ الدَّنِيئَةِ، فَلَا خَفَاءَ فِي شُمُولِهَا الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ فَيَخْرُجُ بِقَيْدِ الْعَدَالَةِ الْكَافِرُ كَمَا يَخْرُجُ الْمُبْتَدِعُ، وَالْفَاسِقُ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الضَّبْطُ) لَا يَخْفَى أَنَّ الضَّبْطَ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْبَلُونَ أَخْبَارَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ الِاتِّصَافُ بِذَلِكَ وَشَاعَ وَذَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ إلَّا أَنَّ هَذَا يُفِيدُ الرُّجْحَانَ عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي سَائِرِ كُتُبِ الْأُصُولِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا فِي التَّرْجِيحِ [فَصْلٌ فِي انْقِطَاعِ الْحَدِيثِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي الِانْقِطَاعِ) وَهُوَ قِسْمَانِ ظَاهِرٌ كَالْإِرْسَالِ وَبَاطِنٌ وَذَلِكَ إمَّا؛ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْخَبَرِ بِكَوْنِهِ مُعَارِضًا لِلْكِتَابِ أَوْ لِلْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَوْ الْمَشْهُورِ أَوْ بِكَوْنِهِ شَاذًّا فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَإِمَّا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ النَّاقِلِ كَنُقْصَانٍ فِي الْعَقْلِ كَخَبَرِ الْمَعْتُوهِ وَالصَّبِيِّ أَوْ فِي الضَّبْطِ كَخَبَرِ الْمُغَفَّلِ أَوْ فِي الْعَدَالَةِ كَخَبَرِ الْفَاسِقِ، وَالْمَسْتُورِ أَوْ فِي الْإِسْلَامِ كَخَبَرِ الْمُبْتَدِعِ، وَإِمَّا لِأَمْرٍ غَيْرِ ذَلِكَ كَإِعْرَاضِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ إنْ ذَكَرَ الرَّاوِي الَّذِي لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ جَمِيعَ الْوَسَائِطِ فَالْخَبَرُ مُسْنَدٌ، وَإِنْ تَرَكَ وَاسِطَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الرَّاوِيَيْنِ فَمُنْقَطِعٌ، وَإِنْ تَرَكَ وَاسِطَةً فَوْقَ الْوَاحِدِ فَمُعْضَلٌ بِفَتْحِ الضَّادِ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْوَاسِطَةَ أَصْلًا فَمُرْسَلٌ. (قَوْلُهُ: وَمُرْسَلُ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ خَمْسَةٍ أَنْ يُسْنِدَهُ غَيْرُهُ أَوْ أَنْ يُرْسِلَهُ آخَرُ، وَعُلِمَ أَنَّ شُيُوخَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ أَوْ أَنْ يَعْضُدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ أَوْ أَنْ يَعْضُدَهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

الْكَذِبُ حَرَامًا فِي كُلِّ دِينٍ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ يَسْعَى فِي هَدْمِ دِينِ الْإِسْلَامِ تَعَصُّبًا فَيَرُدُّ قَوْلَهُ، فِي أُمُورِهِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ، وَهُوَ نَوْعَانِ ظَاهِرٌ بِنُشُوئِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَثَابِتٌ بِالْبَيَانِ بِأَنْ يَصِفَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا هُوَ إلَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ حَرَجًا فَيَكْفِي الْإِجْمَالُ بِأَنْ يُصَدِّقَ بِكُلِّ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلِهَذَا قُلْنَا الْوَاجِبُ أَنْ يُسْتَوْصَفُ فَيُقَالُ أَهُوَ كَذَا، وَكَذَا فَإِذَا قَالَ نَعَمْ يَكْمُلُ إيمَانُهُ) أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّ الْإِجْمَالَ كَافٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ فِي الدِّينِ قُلْنَا إنَّ الْوَاجِبَ الِاسْتِيصَافُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِيصَافِ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَسْأَلَهُ عَنْ الْإِيمَانِ مَا هُوَ، وَمَا صِفَتُهُ فَإِنَّ هَذَا بَحْرٌ عَمِيقٌ تَغْرَقُ فِيهِ الْعُقُولُ وَالْأَفْهَامُ، وَلَا يَكَادُ الْعُلَمَاءُ يَعْلَمُونَ صِفَاتِ اللَّهِ بَلْ الْمُرَادُ أَنْ نَذْكُرَ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَنَسْأَلَهُ أَهُوَ كَذَلِكَ أَيْ: أَتَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيَكْمُلُ إيمَانُهُ. (وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ يُقْبَلُ حَدِيثُهُ سَوَاءٌ كَانَ أَعْمَى أَوْ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ تَائِبًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ النَّاسِ فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى تَمْيِيزٍ زَائِدٍ يَنْعَدِمُ بِالْعَمَى، وَإِلَى وِلَايَةٍ كَامِلَةٍ تَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ وَتَقْصُرُ بِالْأُنُوثَةِ) . فَإِنَّ الشَّهَادَةَ وَالْقَضَاءَ وِلَايَةٌ لِلشَّاهِدِ وَالْقَاضِي عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أَلَا يُرَى أَنَّ الشَّاهِدَ يُلْزِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ شَيْئًا، (وَهَذَا) أَيْ: الْإِخْبَارُ بِالْحَدِيثِ (لَيْسَ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ أَنْ يُعْلَمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا بِرِوَايَتِهِ عَنْ عَدْلٍ فَإِنْ قِيلَ: اشْتِرَاطُ إسْنَادِ غَيْرِهِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ، وَالْأَرْبَعَةِ الْبَاقِيَةِ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا بِدَلِيلٍ وَانْضِمَامُ غَيْرِ الْمَقْبُولِ إلَى غَيْرِ الْمَقْبُولِ لَا يُصَيِّرُهُ مَقْبُولًا قُلْنَا الْمُسْنَدُ قَدْ لَا يَثْبُتُ عَدَالَةُ رُوَاتِهِ فَيُقْبَلُ الْمُرْسَلُ وَيُعْمَلُ بِهِ وَبِانْضِمَامِ أَمْرٍ إلَى أَمْرٍ قَدْ يَحْصُلُ الظَّنُّ أَوْ يَقْوَى فَيَجِبُ الْعَمَلُ، وَعِنْدَنَا يُقْبَلُ بَلْ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُسْنَدِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ قَبُولَ الرِّوَايَةِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِ الرَّاوِي مُتَّصِفًا بِالْعَقْلِ، وَالْعَدَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الرُّوَاةِ، وَعِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ الرَّاوِي لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْقَبُولِ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ثَالِثُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَوْقَ الْمُسْنَدِ الْأَوَّلُ إرْسَالُ الصَّحَابَةِ، وَقَبُولُهُ مَعَ وُجُودِ الْوَاسِطَةِ فِي الْبَعْضِ الثَّانِي أَوْ كَلَامُنَا فِي إرْسَالِ الْعَدْلِ الَّذِي لَوْ أَسْنَدَهُ لَا يُظَنُّ أَنَّهُ كَذَبَ عَلَى مَنْ رَوَى عَنْهُ، وَإِذَا لَمْ يُظَنَّ بِهِ الْكَذِبُ عَلَى مَنْ يَجُوزُ أَنْ يَكْذِبَ فَعَدَمُ ظَنِّ كَذِبِهِ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ مَعْصُومٌ أَوْلَى. وَقَدْ عَرَفْت أَنْ لَيْسَ النِّزَاعُ فِي مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ وَمُرْسَلِ مَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا بِرِوَايَتِهِ عَنْ عَدْلٍ. الثَّالِثُ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ وَاضِحًا لِلنَّاقِلِ جَزَمَ بِنَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ إسْنَادٍ.

بَابِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّ الْمُخْبِرَ لَا يُلْزِمُهُ) أَيْ: النَّاقِلَ لَا يُلْزِمُ الْمَنْقُولَ إلَيْهِ شَيْئًا (بَلْ يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِهِ) أَيْ: يَلْزَمُ الْحُكْمُ عَلَى الْمَنْقُولِ إلَيْهِ بِالْتِزَامِهِ الشَّرَائِعَ (وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى الْغَيْرِ) أَيْ: يَلْزَمُ الْحُكْمُ النَّاقِلَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى الْغَيْرِ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ. (وَلَا تُشْتَرَطُ لِمِثْلِهِ الْوِلَايَةُ) أَيْ: لِمِثْلِ الْحُكْمِ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى الْغَيْرِ بِتَبَعِيَّةِ لُزُومِهِ أَوَّلًا عَلَى الشَّاهِدِ وَبِالْتِزَامِ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ شَيْئًا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ بِهِلَالِ رَمَضَانَ فَإِنَّ الصَّوْمَ يَلْزَمُ الشَّاهِدَ أَوَّلًا ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى الْغَيْرِ تَبَعًا فَلَا يَكُونُ وِلَايَةً عَلَى الْغَيْرِ أَيْ: ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ بِالتَّبَعِيَّةِ عَلَى الْغَيْرِ إذْ لَيْسَ هُوَ إلْزَامًا عَلَى الْغَيْرِ قَصْدًا فَلِهَذَا يُقْبَلُ مِنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ الشَّهَادَةُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ (وَرَدُّ الشَّهَادَةِ أَبَدًا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ) هَذَا بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَبُولِ الْحَدِيثِ مِنْ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ، وَبَيْنَ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ مِنْهُ فَإِنَّ حَدِيثَهُ مَقْبُولٌ وَشَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فَإِنَّ عَدَمَ قَبُولِ شَهَادَتِهِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] . فَبَعْدَ التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا لَكِنْ يُقْبَلُ حَدِيثُهُمْ بِنَاءً عَلَى عَدَالَتِهِمْ (وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَصْحَابِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبُولُ الْحَدِيثِ عَنْ الْأَعْمَى وَالْمَرْأَةِ كَعَائِشَةَ، وَهُوَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبِلَ خَبَرَ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -. ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِذَا لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا نَسَبَهُ إلَى الْغَيْرِ لِيُحَمِّلَ النَّاقِلُ ذَلِكَ الْغَيْرَ الشَّيْءَ الَّذِي حَمَلَهُ هُوَ أَيْ: النَّاقِلُ فَالْمُرْسَلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاضِحٌ لِلنَّاقِلِ بِخِلَافِ الْمُسْنَدِ، وَقَدْ يُمْنَعُ جَرْيُ الْعَادَةِ بِذَلِكَ بَلْ رُبَّمَا يُرْسِلُ؛ لِعَدَمِ إحَاطَتِهِ بِالرُّوَاةِ، وَكَيْفِيَّةِ الِاتِّصَالِ وَيُسْنِدُ إلَى الْعُدُولِ تَحْقِيقًا لِلْحَالِ، وَأَنَّهُ عَلَى ثِقَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَقَالِ. (قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْنِي أَنَّ جَهْلَ السَّامِعِ بِصِفَاتِ الرَّاوِي لَا يَضُرُّ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنَّ النَّاقِلَ عَدْلٌ ضَابِطٌ، فَلَا يُتَّهَمُ بِالْغَفْلَةِ عَنْ حَالِ الرُّوَاةِ، وَلَا يَجْزِمُ بِنَقْلِ الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ عَدْلٍ، وَقَدْ يُدْفَعُ بِأَنَّ أَمْرَ الْعَدَالَةِ عَلَى الظَّنِّ وَالِاجْتِهَادِ، فَرُبَّمَا يَظُنُّ غَيْرَ الْعَدْلِ عَدْلًا. (قَوْلُهُ: أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ أَخْبَرَنِي ثِقَةٌ يُقْبَلُ) كَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَثِيرًا مَا يَقُولُ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُهُ إلَّا أَنَّ مُرَادَهُ بِالثِّقَةِ إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ وَبِمَنْ لَا يَتَّهِمُ يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ وَذَلِكَ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ. (قَوْلُهُ: كَحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ) فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي خَبَرِ الْعَدْلِ، وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ مُتَّهَمٌ رُوَاتُهُ بِالْكَذِبِ، وَالْغَفْلَةِ، وَالنِّسْيَانِ لَا لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ: أَحَفِظْت أَمْ نَسِيتَ وَصَدَقْت أَمْ كَذَبْت مَعْنًى، وَأَيْضًا لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ، وَلَا مُفِيدَةٌ لِلْقَطْعِ فَكَيْفَ يُرَدُّ الْحَدِيثُ لِمُعَارَضَتِهَا؟ وَكَيْفَ يُقْبَلُ مِنْ الرَّاوِي أَنَّ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقْبَلُ أَنَّ ذَاكَ كَلَامُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِمَرْأًى مِنْهُ وَمَسْمَعٍ؟ (قَوْلُهُ: وَكَحَدِيثِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ) هُوَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

(فَصْلٌ فِي الِانْقِطَاعِ) أَيْ: انْقِطَاعِ الْحَدِيثِ عَنْ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَهُوَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَمَّا الظَّاهِرُ فَكَالْإِرْسَالِ) الْإِرْسَالُ عَدَمُ الْإِسْنَادِ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّاوِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ الْإِسْنَادَ وَالْإِسْنَادُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُرْسَلُ مُنْقَطِعٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ لِعَدَمِ الْإِسْنَادِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الِاتِّصَالُ لَا مِنْ حَيْثُ الْبَاطِنُ لِلدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ. (وَمُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ وَيُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ، وَمُرْسَلُ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا أَنْ يَثْبُتَ اتِّصَالُهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَمَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ؛ لِأَنِّي وَجَدْتهَا مَسَانِيدَ، لِلْجَهْلِ بِصِفَاتِ الرَّاوِي الَّتِي تَصِحُّ بِهَا الرِّوَايَةُ) ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَيُقْبَلُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ، وَهُوَ فَوْقَ الْمُسْنَدِ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَرْسَلُوا، وَقَالَ الْبَرَاءُ مَا كُلُّ مَا نُحَدِّثُهُ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنَّمَا حُدِّثْنَا عَنْهُ لَكِنَّا لَا نَكْذِبُ. وَلِأَنَّ كَلَامَنَا فِي إرْسَالِ مَنْ لَوْ أَسْنَدَ لَا يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ فَلَأَنْ لَا يُظَنَّ الْكَذِبُ عَلَى الرَّسُولِ أَوْلَى، وَالْمُعْتَادُ أَنَّهُ إذَا وَضَحَ لَهُ الْأَمْرُ طَوَى الْإِسْنَادَ وَجَزَمَ، وَإِذَا لَمْ يَتَّضِحْ نَسَبُهُ إلَى الْغَيْرِ لِيُحَمِّلَهُ مَا حَمَلَهُ) هَذَا جَوَابُ فِي دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الطَّالِبِ» ، وَهُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] الْآيَةَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِشْهَادِ مُجْمَلٌ فِي حَقِّ مَا هُوَ شَهَادَةٌ فَفَسَّرَهُ بِرَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَتَفْسِيرُ الْمُجْمَلِ يَكُونُ بَيَانًا لِجَمِيعِ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ الثَّانِي أَنَّ قَوْله تَعَالَى {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] نَصٌّ عَلَى أَنَّ أَدْنَى مَا يَنْتَفِي بِهِ الرِّيبَةُ هُوَ هَذَانِ النَّوْعَانِ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْأَدْنَى شَيْءٌ الثَّالِثُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُمْنَعُ الْإِجْمَالُ، وَالْحَصْرُ فِيمَا ذُكِرَ بَلْ لِلشَّارِعِ أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ الْأُمُورِ إلَى الِاجْتِهَادِ أَوْ إلَى الْحَدِيثِ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى ذَلِكُمْ إشَارَةٌ إلَى أَنْ تَكْتُبُوهُ، وَأَدْنَاهُ مَعْنَاهُ أَقْرَبُ مِنْ انْتِفَاءِ الرِّيَبِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّفْسِيرِ (قَوْلُهُ: وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ ابْتَدَعَهُ مُعَاوِيَةُ فِي الدِّينِ بِنَاءً عَلَى خَطَئِهِ كَالْبَغْيِ فِي الْإِسْلَامِ، وَمُحَارَبَةِ الْإِمَامِ، وَقَتْلِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَمْرٌ مُبْتَدَعٌ لَمْ يَقَعْ الْعَمَلُ بِهِ إلَى زَمَنِ مُعَاوِيَةَ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَكِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ» وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَقْضُونَ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي» ، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِالشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ مُبْتَدَعَاتِ مُعَاوِيَةَ. (قَوْلُهُ: وَكَحَدِيثِ

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ لِلْجَهْلِ بِصِفَاتِ الرَّاوِي (وَلَا بَأْسَ بِالْجَهَالَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرْسِلَ إذَا كَانَ ثِقَةً لَا يُتَّهَمُ بِالْغَفْلَةِ عَلَى حَالِ مَنْ سَكَتَ عَنْهُ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَخْبَرَنِي ثِقَةٌ يُقْبَلُ مَعَ الْجَهْلِ، وَلَا يَعْزِمُ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ الثِّقَةِ. وَمُرْسَلُ مَنْ دُونَ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَيُرَدُّ عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ زَمَانُ الْفِسْقِ وَالْكَذِبِ إلَّا أَنْ يَرْوِيَ الثِّقَاتُ مُرْسَلَهُ كَمَا رَوَوْا مُسْنَدَهُ مِثْلَ إرْسَالِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ الْبَاطِنُ فَإِمَّا بِالْمُعَارَضَةِ أَوْ بِنُقْصَانٍ فِي النَّاقِلِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِمَّا بِمُعَارَضَةِ الْكِتَابِ كَحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَوْله تَعَالَى) بِالنَّصْبِ أَيْ: كَمُعَارَضَةِ حَدِيثِ فَاطِمَةَ قَوْله تَعَالَى فَنُصِبَ قَوْله تَعَالَى لِكَوْنِهِ مَفْعُولَ الْمُعَارَضَةِ {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] أَمَّا فِي السُّكْنَى فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا فِي النَّفَقَةِ فَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] يُحْمَلُ عِنْدَنَا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهِيَ: وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَكَحَدِيثِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ الْمُدَّعِي) قَوْله تَعَالَى بِالنَّصْبِ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى، وَهَكَذَا الْأَمْثِلَةُ الَّتِي تَأْتِي {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] الْآيَةَ، وَعِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ أَوْجَبَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ وَحَيْثُ نَقَلَ إلَى مَا لَيْسَ بِمَعْهُودٍ فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ دَلَّ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَعَ الْيَمِينِ) فَإِنَّ حُضُورَ النِّسَاءِ لَا يُعْهَدُ فِي مَجَالِسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُصَرَّاةِ) صَرِيحٌ فِي كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ لَا لِمُجَرَّدِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا نُقِلَ عَنْهُ. (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا يُرَدُّ) أَيْ: خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُقَدَّمٌ؛ لِكَوْنِهِ قَطْعِيًّا مُتَوَاتِرَ النَّظْمِ لَا شُبْهَةَ فِي مَتْنِهِ، وَلَا فِي سَنَدِهِ لَكِنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي عُمُومَاتِ الْكِتَابِ وَظَوَاهِرِهِ فَمَنْ يَجْعَلُهَا ظَنِّيَّةً يَعْتَبِرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ عَلَى شَرَائِطِهِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ وَمَنْ يَجْعَلُ الْعَامَّ قَطْعِيًّا، فَلَا يَعْمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي مُعَارَضَتِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الظَّنِّيَّ يَضْمَحِلُّ بِالْقَطْعِيِّ، فَلَا يُنْسَخُ الْكِتَابُ بِهِ، وَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ مِنْ بَعْدِي فَإِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَمَا وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا خَالَفَهُ فَرُدُّوهُ» وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ، وَقَدْ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ أَعْنِي: الْمُتَوَاتِرَ وَالْمَشْهُورَ، فَلَا يَكُونُ قَطْعِيًّا فَكَيْفَ يُثْبِتُ بِهِ مَسْأَلَةَ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّهُ يُخَالِفُ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ، وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ الْمُحَدِّثُونَ بِأَنَّ فِي رُوَاتِهِ يَزِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَتَرَكَ فِي إسْنَادِهِ وَاسِطَةً بَيْنَ الْأَشْعَثِ وَثَوْبَانَ فَيَكُونُ مُنْقَطِعًا وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَنَّهُ حَدِيثٌ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ، وَإِيرَادُ الْبُخَارِيِّ إيَّاهُ فِي صَحِيحِهِ لَا يُنَافِي الِانْقِطَاعَ أَوْ كَوْنَ أَحَدِ رُوَاتِهِ غَيْرَ مَعْرُوفٍ بِالرِّوَايَةِ فَإِنْ قِيلَ الْمَشْهُورُ أَيْضًا لَا يُفِيدُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ فِي مُعَارَضَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ، وَهُوَ قَطْعِيٌّ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُفِيدُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ.

الْحُكْمِ، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ كَافِيَةً مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ مَقَامَ الْمَرْأَتَيْنِ لَمَا أَوْجَبَ حُضُورَهُمَا عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ مَمْنُوعَاتٌ مِنْ الْخُرُوجِ وَحُضُورِ مَجَالِسِ الرِّجَالِ وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ بِدْعَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ. (وَكَحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ قَوْله تَعَالَى فَاعْتَدُوا، وَإِنَّمَا يُرَدُّ لِتَقَدُّمِ الْكِتَابِ حَتَّى يَكُونَ عَامُّ الْكِتَابِ وَظَاهِرُهُ أَوْلَى مِنْ خَاصِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَنَصِّهِ، وَلَا يُنْسَخُ ذَلِكَ بِهَذَا، وَلَا يُزَادُ بِهِ عَلَيْهِ. وَإِمَّا بِمُعَارَضَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَحَدِيثِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَكَحَدِيثِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ «فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الرُّطَبُ هُوَ التَّمْرُ يُعَارِضُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» ، وَقَوْلَهُ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُعَارِضُ قَوْلَهُ «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» ) تَحْقِيقُهُ: أَنَّ الرُّطَبَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَمْرًا أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ كَانَ تَمْرًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ يَكُونُ مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» ، وَلَا يُقَالُ إنَّهُ تَمْرٌ لَكِنْ الرُّطَبُ وَالتَّمْرُ مُخْتَلِفَانِ فِي الصِّفَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا اعْتِبَارَ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيُّهَا سَوَاءٌ» وَلِدَفْعِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ صَرِيحًا زِدْت قَوْلَهُ «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» (وَأَمَّا بِكَوْنِهِ شَاذًّا فِي الْبَلْوَى الْعَامِّ كَحَدِيثِ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ فَخَفَاؤُهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ مِمَّا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ) . فَإِنْ قِيلَ جَعَلَ هَذَا النَّوْعَ مِنْ أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ، وَلَا مُعَارَضَةَ فِيهِ قُلْتُ أَمْثَالُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ التَّبْلِيغِ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQوَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْيَقِينِ، وَالْعَامُّ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بِحَيْثُ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الظَّنِّ، وَقَدْ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومَاتِ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ كَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ» ، وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا» وَغَيْرِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ) حَصَرَ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَجِنْسَ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ، فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الشَّاهِدِ، وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. (قَوْلُهُ: وَكَحَدِيثِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ) هُوَ مَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ إذَا جَفَّ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ قَالَ، فَلَا إذَنْ» إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُورِدَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ دَارَ عَلَى زَيْدِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ وَاسْتَحْسَنَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُ هَذَا الطَّعْنَ حَتَّى قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ كَيْفَ يُقَالُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، وَهُوَ يَقُولُ زَيْدُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ مِمَّنْ لَا يُقْبَلُ حَدِيثُهُ؟ كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ رَدِّ خَبَرِ الْوَاحِدِ بِنَاءً عَلَى مُعَارَضَتِهِ لِلْخَبَرِ الْمَشْهُورِ، وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ الرُّطَبُ تَمْرًا مُطْلَقًا؛ لِفَوَاتِ وَصْفِ الْيُبُوسَةِ، وَلَا نَوْعًا آخَرَ لِبَقَاءِ أَجْزَائِهِ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ تَمْرًا كَالْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ لَيْسَتْ حِنْطَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ لِفَوَاتِ

أَوْ عَلَى تَرْكِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - التَّبْلِيغَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ فَتَكُونُ مُعَارِضَةً لِدَلَائِلِ وُجُوبِ التَّبْلِيغِ أَوْ لِدَلَائِلَ تَدُلُّ عَلَى عَدَالَتِهِمْ أَوْ تَكُونُ مُعَارِضَةً لِلْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَاشْتَهَرَ، وَفِي الْمَتْنِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا (وَإِمَّا بِإِعْرَاضِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ نَحْوَ «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ، وَلَمْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ. وَأَمَّا الثَّانِي) : وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ الِانْقِطَاعُ بِنُقْصَانٍ فِي النَّاقِلِ فَصَارَ الِانْقِطَاعُ الْبَاطِنُ عَلَى قِسْمَيْنِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُعَارَضًا. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الِانْقِطَاعُ بِنُقْصَانٍ فِي النَّاقِلِ، وَالْأَوَّلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ بِكَوْنِهِ شَاذًّا فِي الْبَلْوَى الْعَامِّ أَوْ بِإِعْرَاضِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ فَإِنَّهُ مُعَارِضٌ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ. فَلَمَّا ذَكَرَ الْوُجُوهَ الْأَرْبَعَةَ شَرَعَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِانْقِطَاعِ الْبَاطِنِ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّصِلَيْنِ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْإِسْنَادِ لَكِنَّهُمَا مُنْقَطِعَانِ بَاطِنًا وَحَقِيقَةً. أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ مِنْ بَعْدِي فَإِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَاقْبَلُوهُ، وَمَا خَالَفَ فَرُدُّوهُ» فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَدِيثٍ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَدِيثِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَإِنَّمَا هُوَ مُفْتَرًى، وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدِيثٍ يُعَارِضُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَصْفِ الْإِنْبَاتِ، وَلَا نَوْعًا آخَرَ لِوُجُودِ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ فِيهَا، وَكَذَا الْحِنْطَةُ مَعَ الدَّقِيقِ. (قَوْلُهُ: لَا اعْتِبَارَ لِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ» ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ عَدَمُ اعْتِبَارِ الِاخْتِلَافِ بِالْوَصْفِ أَصْلًا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَبَرُ بَعْضَ اخْتِلَافِ الْأَوْصَافِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مُوجِبًا لِتَبَدُّلِ الِاسْمِ، وَالْحَقِيقَةِ فِي الْعُرْفِ حَتَّى إنَّ الْإِتْيَانَ بِالتَّمْرِ لَا يُعَدُّ امْتِثَالًا لِطَلَبِ الرُّطَبِ كَالزَّبِيبِ وَالْعِنَبِ فَإِنْ قِيلَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِوَاءِ كَوْنُ الْوَصْفِ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ الْعِبَادِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ الْعِلَّةُ عَدَمُ تَبَدُّلِ الِاسْمِ وَالْحَقِيقَةِ فِي الْعُرْفِ وَلَوْ سُلِّمَ، فَلَا عِبْرَةَ بِالْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ الْخَبَرِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا بِكَوْنِهِ شَاذًّا) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَمَّا بِمُعَارَضَةِ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ وَكَذَا قَوْلُهُ: وَإِمَّا بِإِعْرَاضِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَقْسَامِ الِانْقِطَاعِ بِالْمُعَارَضَةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْخَبَرَ الشَّاذَّ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى يُعَارِضُ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ وَتَأْدِيَةِ مَقَالَاتِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّبْلِيغِ إنْ كَانَ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ لَزِمَ عَدَمُ عَدَالَتِهِمْ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَرْكًا لِلْوَاجِبِ لَزِمَ عَدَمُ وُجُوبِ التَّبْلِيغِ فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قِسْمًا آخَرَ بَلْ مِنْ الِانْقِطَاعِ بِوَاسِطَةِ مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ أَوْ الْخَبَرِ الْمَشْهُورِ قُلْنَا جَعَلَهُ قِسْمًا آخَرَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ كُلًّا مِمَّا ذَكَرْتُمْ مَعَ احْتِمَالِ الْمُعَارَضَةِ لِلْقَضِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ هَذَا الْحَدِيثُ لَاشْتَهَرَ لِتَوَفُّرِ.

دَلِيلًا أَقْوَى مِنْهُ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِنَّمَا التَّنَاقُضُ مِنْ الْجَهْلِ الْمَحْضِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاتِّصَالُ بِوُجُودِ الشَّرَائِطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الرَّاوِي فَحَيْثُ عُدِمَ بَعْضِهَا لَا يَثْبُتُ الِاتِّصَالُ (فَكَخَبَرِ الْمَسْتُورِ إلَّا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمَجْهُولِ وَخَبَرِ الْفَاسِقِ) بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ خَبَرِ الْمَسْتُورِ (وَالْمَعْتُوهِ) وَسَيَأْتِي مَعْنَاهُ فِي فَصْلِ الْعَوَارِضِ. (وَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْمُغَفَّلِ الشَّدِيدِ الْغَفْلَةِ لَا مَنْ غَالِبُ حَالِهِ التَّيَقُّظُ وَالْمُسَاهِلِ) أَيْ: الْمُجَازِفِ الَّذِي لَا يُبَالِي مِنْ السَّهْوِ وَالْخَطَأِ وَالتَّزْوِيرِ وَصَاحِبِ الْهَوَى (فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ لِلشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ) أَيْ: لِاشْتِرَاطِ الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الرَّاوِي. (فَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ) أَيْ: الْحَادِثَةِ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْخَبَرُ (وَهُوَ إمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ إمَّا الْعِبَادَاتُ أَوْ الْعُقُوبَاتُ. وَالْأُولَى تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الدِّيَانَاتِ كَالْإِخْبَارِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ فَكَذَا) أَيْ: يَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ بِالشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ أَيْ: إذَا أَخْبَرَ الْوَاحِدُ الْعَدْلُ أَنَّ هَذَا الْمَاءَ طَاهِرٌ أَوْ نَجِسٌ يُقْبَلُ خَبَرُهُ ثُمَّ اسْتَدْرَكَ عَنْ قَوْلِهِ: فَكَذَا بِقَوْلِهِ: (لَكِنْ إنْ أَخْبَرَ بِهَا الْفَاسِقُ أَوْ الْمَسْتُورُ يُتَحَرَّى؛ لِأَنَّ هَذَا) إشَارَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالدَّوَاعِي، وَعُمُومِ حَاجَةِ الْكُلِّ إلَيْهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْقَضِيَّةَ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً حَتَّى يُرَدَّ الْخَبَرُ بِمُعَارَضَتِهَا نَعَمْ الْأَصْلُ هُوَ الِاشْتِهَارُ لَكِنْ رُبَّ أَصْلٍ قَلَعَهُ الْحَدِيثُ، وَأَيْضًا لَيْسَ وُجُوبُ التَّبْلِيغِ أَنْ يُبَلِّغَ كُلُّ وَاحِدٍ كُلَّ حَدِيثٍ إلَى كُلِّ أَحَدٍ بَلْ عَدَمُ الْإِخْفَاءِ وَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل: 43] ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْمَشْهُورِ حَتَّى إنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ احْتَجُّوا بِهِ عَلَى مِثْلِ مُعَاوِيَةَ وَرَدُّوهُ عَنْ تَرْكِ الْجَهْرِ بِالتَّسْمِيَةِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ أَنَسٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ اضْطَرَبَتْ رِوَايَاتُهُ فِيهِ بِسَبَبِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يُبَالِغُ فِي الْجَهْرِ وَحَاوَلَ مُعَاوِيَةُ وَبَنُو أُمَيَّةَ مَحْوَ آثَارِهِ فَبَالَغُوا عَلَى التَّرْكِ فَخَافَ أَنَسٌ وَرُوِيَ الْجَهْرُ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِمْ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَرْكَ الْجَهْرِ نَفْيٌ، وَالْجَهْرُ إثْبَاتٌ فَرُبَّمَا لَا يَسْمَعُهُ الرَّاوِي لَا سِيَّمَا مِثْلُ أَنَسٍ، وَقَدْ كَانَ يَقِفُ خَلْفَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَبْعَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي سَمَاعَهُ الْفَاتِحَةَ عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانُوا يَجْهَرُونَ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، وَأَيْضًا رُوِيَ أَنَّ أَنَسًا سُئِلَ عَنْ الْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ فَقَالَ: لَا أَدْرِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَالسَّبَبُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ انْقِطَاعُ الْخَبَرِ بِالْمُعَارَضَةِ بِسَبَبِ إعْرَاضِ الصَّحَابَةِ؛ فَلِأَنَّهُ يُعَارِضُ إجْمَاعَهُمْ عَلَى عَدَمِ قَبُولِهِ، وَعَلَى تَرْكِ الْعَمَلِ بِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَهْوٌ أَوْ مَنْسُوخٌ. لَا يُقَالُ لَا إجْمَاعَ مَعَ مُخَالَفَةِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّلَاقَ يُعْتَبَرُ بِحَالِ الرِّجَالِ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَرَاوِي الْحَدِيثِ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَرْكِ الْحُكْمِ بَلْ عَدَمَ التَّمَسُّكِ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ.

[فصل في محل الخبر]

إلَى الْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ (أَمْرٌ لَا يَسْتَقِيمُ تَلَقِّيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ بِخِلَافِ أَمْرِ الْحَدِيثِ) فَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْوَالِ لَا يَكُونُ الْعَدْلُ حَاضِرًا عِنْدَ الْمَاءِ فَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ بِمَعْرِفَةِ الْمَاءِ حَرَجٌ، فَلَا يَكُونُ خَبَرُ الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ فَأَوْجَبْنَا انْضِمَامَ التَّحَرِّي بِهِ بِخِلَافِ أَمْرِ الْأَحَادِيثِ فَإِنَّ الَّذِينَ يَتَلَقَّوْنَهَا هُمْ الْعُلَمَاءُ الْأَتْقِيَاءُ، فَلَا حَرَجَ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُ الْفَسَقَةِ وَالْمَسْتُورِينَ فِي الْأَحَادِيثِ، فَلَا اعْتِبَارَ؛ لِأَحَادِيثِهِمْ أَصْلًا. (وَأَمَّا أَخْبَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَالْكَافِرِ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا أَصْلًا) أَيْ: لَا يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ كَالْإِخْبَارِ عَنْ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ أَصْلًا أَيْ: لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِ: فَلَا يَجِبُ التَّحَرِّي بِخِلَافِ أَخْبَارِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ التَّحَرِّي. (وَالثَّانِيَةُ) أَيْ: الْعُقُوبَاتُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَيْ: تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَصِحُّ بِهِ الْعَمَلُ فِي الْحُدُودِ كَالْبَيِّنَاتِ؛ وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْعُقُوبَاتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ.) وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فِيهِ شُبْهَةٌ فَعُلِمَ أَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الثَّابِتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ قَطْعِيٌّ بِمَعْنَى قَطْعِ الِاحْتِمَالِ النَّاشِئِ عَنْ دَلِيلٍ كَحُرْمَةِ الضَّرْبِ مِنْ قَوْله تَعَالَى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] وَالثَّابِتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ (وَعِنْدَنَا لَا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي الدَّلِيلِ وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بِالنَّصِّ) أَيْ: كَانَ الْقِيَاسُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ اتِّفَاقُ غَيْرِ هَذَا الرَّاوِي، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ. (قَوْلُهُ: إلَّا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ) يَعْنِي: الْقَرْنَ الْأَوَّلَ، وَالثَّانِي، وَالثَّالِثَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ فِيهَا أَصْلٌ بِشَهَادَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَفِي غَيْرِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ الْمَسْتُورُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْفِسْقِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ غَالِبٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْعَدَالَةِ الْمُرَجِّحَةِ جَانِبَ الصِّدْقِ. (قَوْلُهُ: وَصَاحِبِ الْهَوَى) وَهُوَ الْمَيْلُ إلَى الشَّهَوَاتِ، وَالْمُسْتَلَذَّات مِنْ غَيْرِ دَاعِيَةِ الشَّرْعِ، وَالْمُرَادُ الْمُبْتَدِعُ الْمَائِلُ إلَى مَا يَهْوَاهُ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَإِنْ تَأَدَّى إلَى أَنْ يَجِبَ إكْفَارُهُ كَغُلَاةِ الرَّوَافِضِ، وَالْمُجَسِّمَةِ، وَالْخَوَارِجِ، فَلَا خَفَاءَ فِي عَدَمِ قَبُولِ الرِّوَايَةِ؛ لِانْتِفَاءِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَّا فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رِوَايَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ وَضْعَ الْأَحَادِيثِ إلَّا إذَا كَانَ دَاعِيًا إلَى هَوَاهُ بِذَلِكَ الْحَدِيثِ فَقَوْلُهُ: لِلشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَوَى مَا يُؤَدِّي إلَى الْكُفْرِ أَوْ الْفِسْقِ [فَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ) سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَالْمُرَادُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَلِذَا حَصَرَ الْمَحَلَّ فِي الْفُرُوعِ وَالْأَعْمَالِ إذْ الِاعْتِقَادِيَّات لَا تَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ؛ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْيَقِينِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا أَخْبَارُ الصَّبِيِّ) فَإِنْ قِيلَ إنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَخْبَرَ أَهْلَ قُبَاءَ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَاسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَكَانَ صَبِيًّا قُلْنَا لَوْ سُلِّمَ كَوْنُهُ صَبِيًّا فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ أَنَسٌ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمَا جَاءَا بِهِ جَمِيعًا فَأَخْبَرَاهُمْ. (قَوْلُهُ: لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ) قَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلشُّبْهَةِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ كَوْنُهُ خَبَرِ الْوَاحِدِ

أَنْ لَا تَثْبُتَ الْعُقُوبَاتُ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِالْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَإِنَّ كُلَّ مَا دُونَ التَّوَاتُرِ خَبَرُ الْوَاحِدِ فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ دَلِيلًا فِيهِ شُبْهَةٌ وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا لَكِنْ إنَّمَا تَثْبُتُ الْعُقُوبَاتُ بِالْبَيِّنَةِ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يُقَاسُ ثُبُوتُهَا بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ عَلَى ثُبُوتِهَا بِالْبَيِّنَةِ. (وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَتَثْبُتُ بِحَدِيثٍ يَرْوِيهِ الْوَاحِدُ بِالشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَمَّا ثُبُوتُهَا بِخَبَرٍ يَكُونُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ فَمَا كَانَ فِيهِ إلْزَامٌ مَحْضٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ) ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ (وَالْعَدَدِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ) حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ الْعَدَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُ فِيهِ الْعَدَدُ عُرْفًا كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ (مَعَ سَائِرِ شَرَائِطِ الرِّوَايَةِ صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فَيَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ، وَالشَّهَادَةُ بِهِلَالِ الْفِطْرِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ) أَيْ: لَهُ حُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ التَّزْوِيرِ وَالتَّلْبِيسِ (وَمَا لَيْسَ فِي الْإِلْزَامِ كَالْوَكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالرِّسَالَاتِ فِي الْهَدَايَا، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَالْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ تَثْبُتُ بِأَخْبَارِ الْوَاحِدِ بِشَرْطِ التَّمْيِيزِ دُونَ الْعَدَالَةِ فَيُقْبَلُ فِيهَا خَبَرُ الْفَاسِقِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ لَا إلْزَامَ فِيهِ وَلِلضَّرُورَةِ اللَّازِمَةِ هُنَا) . فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ غَايَةَ الْحَرَجِ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ بَعْثُ الصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ بِهَذِهِ الْأَشْغَالِ. وَالْعُدُولُ الثِّقَاتُ لَا يَنْتَصِبُونَ دَائِمًا لِلْمُعَامَلَاتِ الْخَسِيسَةِ لَا سِيَّمَا؛ لِأَجْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُجَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ وَمَعَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَجِبُ مُقَدَّرَةً بِالْجِنَايَاتِ، وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: مَعَ سَائِرِ شَرَائِطِ الرِّوَايَةِ) يُخْرِجُ الْفَاسِقَ، وَالْمُغَفَّلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَيْدُ الْوِلَايَةِ يُخْرِجُ الْعَبْدَ، وَمِثْلُ الصَّبِيِّ يَخْرُجُ بِكُلٍّ مِنْ الْقَيْدَيْنِ بَعْدَ تَفَرُّدِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِفَائِدَةٍ. (قَوْلُهُ: صِيَانَةً لِحُقُوقِ الْعِبَادِ) يَعْنِي تُشْتَرَطُ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ لِئَلَّا تَثْبُتَ الْحُقُوقُ الْمَعْصُومَةُ بِمُجَرَّدِ إخْبَارِ عَدْلٍ أَوْ هُوَ تَعْلِيلٌ لِثُبُوتِ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِخَبَرٍ يَكُونُ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ) تَعْلِيلٌ لِاشْتِرَاطِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنَّ قَوْلَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِكَذَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. (قَوْلُهُ: فَيَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ تَوْكِيدٍ) أَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ كَمَالِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ هِيَ الْمُعَايَنَةُ، وَالْعِلْمُ شَرْطٌ فِي الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ، وَإِلَّا فَدَعْ» ، وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَلِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ كَوْنَ الْمُخْبِرِ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَنْفِيذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ أَبَى وَذَلِكَ مِنْ أَمَارَاتِ الصِّدْقِ، وَأَمَّا الْعَدَدُ فَلِأَنَّ اطْمِئْنَانَ الْقَلْبِ بِقَوْلِ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْهُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ؛ وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ يُعَارِضُهُ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ بِانْضِمَامِ شَاهِدٍ آخَرَ إلَيْهِ. (قَوْلُهُ: وَالشَّهَادَةُ بِهِلَالِ الْفِطْرِ) يُشْتَرَطُ لَهَا لَفْظُ الشَّهَادَةِ، وَالْوِلَايَةِ، وَالْعَدَدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ إثْبَاتِ الْحُقُوقِ، الَّتِي فِيهَا مَعْنَى الْإِلْزَامِ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ مِمَّا يُخَافُ فِيهِ

الْغَيْرِ (بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَإِنَّ ضَرُورَتَهُمَا غَيْرُ لَازِمَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مُمْكِنٌ) فَإِنَّهُ قَدْ سَبَقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ أَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يَسْتَقِيمُ تَلَقِّيهِ مِنْ جِهَةِ الْعُدُولِ. فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الضَّرُورَةَ حَاصِلَةٌ فِي قَبُولِ خَبَرِ غَيْرِ الْعُدُولِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ لَكِنْ نَذْكُرُ هُنَا أَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهِمَا غَيْرُ لَازِمَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مُمْكِنٌ فَأَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَالضَّرُورَةُ لَازِمَةٌ فَلَمْ يُقْبَلْ خَبَرُ الْعُدُولِ ثَمَّةَ مُطْلَقًا بَلْ مَعَ انْضِمَامِ التَّحَرِّي، وَقُبِلَ هُنَا مُطْلَقًا (وَمَا فِيهِ إلْزَامٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ) فَإِنَّهُ إلْزَامٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُبْطِلُ عَمَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَيْسَ بِإِلْزَامٍ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ (وَحَجْرُ الْمَأْذُونِ، وَفَسْخِ الشَّرِكَةِ) لِمَا ذَكَرْنَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ (وَإِنْكَاحِ الْوَلِيِّ الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ) فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِهَذَا التَّزَوُّجِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى تَقْدِيرِ نَفَاذِ هَذَا الْإِنْكَاحِ إلْزَامٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمْكِنُ لَهَا فَسْخُ هَذَا الْإِنْكَاحِ لَيْسَ بِإِلْزَامٍ (فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ وَكِيلًا أَوْ رَسُولًا يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ غَيْرِ الْعَدْلِ، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ بَعْدَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ) . إنَّمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالرَّسُولِ وَبَيْنَ الْفُضُولِيِّ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ وَالرَّسُولَ يَقُومَانِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ وَالْمُرْسِلِ فَيَنْتَقِلُ عِبَارَتُهُمَا إلَيْهِمَا، فَلَا يُشْتَرَطُ شَرَائِطُ الْأَخْبَارِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَنَحْوِهَا فِي الْوَكِيلِ وَالرَّسُولِ بِخِلَافِ الْفُضُولِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّلْبِيسُ وَالتَّزْوِيرُ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ. وَهَذَا أَظْهَرُ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِبَادَ يَنْتَفِعُونَ بِالْفِطْرِ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِهِمْ وَيَلْزَمُهُمْ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّوْمِ يَوْمَ الْفِطْرِ فَكَانَ فِيهِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ؛ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ انْتِفَاعَهُمْ بِالصَّوْمِ أَكْثَرُ، وَإِلْزَامَهُمْ فِيهِ أَظْهَرُ مَعَ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ. (قَوْلُهُ: وَمَا لَيْسَ فِيهِ إلْزَامٌ) ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ أَخْبَارَ الْمُمَيِّزِ يُقْبَلُ فِي مِثْلِ الْوَكَالَةِ، وَالْهَدَايَا مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ التَّحَرِّي، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمُحَمَّدٌ ذَكَرَ الْقَيْدَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِهَذَا فَيُشْتَرَطُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ اسْتِحْسَانًا، وَلَا يُشْتَرَطُ رُخْصَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ. (قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ) لَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَبَرِ بِالْوَكَالَةِ، وَالْإِذْنِ وَنَحْوِهِمَا الْعَدَالَةُ، وَالتَّكْلِيفُ، وَالْحُرِّيَّةُ سَوَاءٌ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ وَكِيلُ فُلَانٍ أَوْ مَأْذُونُهُ؛ أَوْ أَخْبَرَ بِأَنَّ، فُلَانًا وَكَّلَ الْمَبْعُوثَ إلَيْهِ أَوْ جَعَلَهُ مَأْذُونًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَجِدُ الْمُسْتَجْمِعَ لِلشَّرَائِطِ يَبْعَثُهُ لِهَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ أَوْ لِإِخْبَارِ الْغَيْرِ بِأَنَّهُ وَكِيلٌ فِي ذَلِكَ وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْبَعْضِ مُشْعِرٌ بِالْقِسْمِ الثَّانِي حَيْثُ يَقُولُونَ الْإِنْسَانُ قَلَّمَا يَجِدُ الْمُسْتَجْمِعَ لِلشَّرَائِطِ يَبْعَثُهُ إلَى وَكِيلِهِ أَوْ غُلَامِهِ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ) أَيْ: الْمُخْبِرُ بِمَا فِيهِ إلْزَامٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عَلَى الْأَصَحِّ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ الْعَدَالَةِ. وَالِاخْتِلَافُ

[فصل في كيفية السماع والضبط والتبليغ]

وَأَيْضًا قَلَّمَا يَتَطَرَّقُ الْكَذِبُ فِي الْوَكَالَةِ وَالرِّسَالَةِ بِأَنْ يَقُولَ كَاذِبًا وَكَّلَنِي فُلَانٌ أَوْ أَرْسَلَنِي إلَيْكَ، وَيَقُولَ: كَذَا وَكَذَا. وَأَمَّا الْأَخْبَارُ الْكَاذِبَةُ مِنْ غَيْرِ رِسَالَةٍ وَوَكَالَةٍ فَكَثِيرَةُ الْوُقُوعِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَخَافَةَ ظُهُورِ الْكَذِبِ وَلُزُومِ الضَّرَرِ فِي الْأَوَّلَيْنِ أَشَدُّ. وَقَوْلُهُ: (رِعَايَةً لِلشَّبَهَيْنِ) أَيْ: شَبَهِ الْإِلْزَامِ وَعَدَمِ الْإِلْزَامِ. [فَصْلٌ] فِي كَيْفِيَّةِ السَّمَاعِ وَالضَّبْطِ وَالتَّبْلِيغِ أَمَّا السَّمَاعُ فَهُوَ الْعَزِيمَةُ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ إمَّا بِأَنْ يَقْرَأَ الْمُحَدِّثُ عَلَيْكَ أَوْ بِأَنْ تَقْرَأَ عَلَيْهِ فَتَقُولُ: أَهُوَ كَمَا قَرَأْتُ فَيَقُولُ نَعَمْ وَالْأَوَّلُ أَعْلَى عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَإِنَّهُ طَرِيقَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَانَ ذَلِكَ أَحَقَّ مِنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ كَانَ مَأْمُونًا عَنْ السَّهْوِ أَمَّا فِي غَيْرِهِ، فَلَا عَلَى أَنَّ رِعَايَةَ الطَّالِبِ أَشَدُّ عَادَةً وَطَبِيعَةً، وَأَيْضًا إذَا قَرَأَ التِّلْمِيذُ فَالْمُحَافَظَةُ مِنْ الطَّرَفَيْنِ، وَإِذَا قَرَأَ الْأُسْتَاذُ لَا تَكُونُ الْمُحَافَظَةُ إلَّا مِنْهُ. وَأَمَّا الْكِتَابَةُ وَالرِّسَالَةُ فَقَائِمٌ مَقَامَ الْخِطَابِ فَإِنَّ تَبْلِيغَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ بِالْكِتَابِ وَالْإِرْسَالِ أَيْضًا وَالْمُخْتَارُ فِي الْأَوَّلَيْنِ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنَا، وَفِي الْأَخِيرَيْنِ أَخْبَرَنَا. وَأَمَّا الرُّخْصَةُ فَهِيَ الْإِجَازَةُ وَالْمُنَاوَلَةُ فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِمَا فِي الْكِتَابِ يَجُوزُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: أَجَازَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَخْبَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِمَا فِيهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ كَمَا فِي كِتَابِ الْقَاضِي. لَهُمَا أَنَّ أَمْرَ السُّنَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّمَا وَقَعَ مِنْ لَفْظِ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ إذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ، وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يُرْسِلْهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ حَجْرًا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ يَعْرِفُهُ الْعَبْدُ فَجَعَلَ بَعْضُهُمْ الْعَدَالَةَ لِلْمَجْمُوعِ وَبَعْضُهُمْ لِلرَّجُلِ فَقَطْ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ لِلْعَدَدِ تَأْثِيرًا فِي الِاطْمِئْنَانِ وَلِأَنَّهُ لَوْ اُشْتُرِطَ فِي الرَّجُلَيْنِ الْعَدَالَةُ كَانَ ذِكْرُهُ ضَائِعًا، وَيَكْفِي أَنْ يُقَالَ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلٌ عَدْلٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَبْسُوطِ اشْتِرَاطَ وُجُودِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ أَعْنِي: الذُّكُورَةَ، وَالْحُرِّيَّةَ، وَالْبُلُوغَ لَا نَفْيًا، وَلَا إثْبَاتًا فَلِذَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَيْرُهُ إنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُشْتَرَطَ سَائِرُ شَرَائِطِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى لَا يَقْبَلَ خَبَرَ الْعَبْدِ، وَالْمَرْأَةِ، وَالصَّبِيِّ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْكُلُّ سَوَاءٌ أَيْ: يَكْفِي فِي هَذَا الْقِسْمِ قَوْلُ كُلِّ مُمَيِّزٍ كَمَا فِي الْقِسْمِ الَّذِي لَا إلْزَامَ فِيهِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَزَمَ بِاشْتِرَاطِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ قُصُورٌ فِي رِعَايَةِ شَبَهِ عَدَمِ الْإِلْزَامِ فَقَوْلُهُ: رِعَايَةً لِلشَّبَهَيْنِ تَعْلِيلٌ لِلِاكْتِفَاءِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ [فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ السَّمَاعِ وَالضَّبْطِ وَالتَّبْلِيغِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) فِي كَيْفِيَّةِ السَّمَاعِ، وَهُوَ الْإِجَازَةُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ أَجَزْتُ لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْكِتَابَ أَوْ مَجْمُوعَ مَسْمُوعَاتِي أَوْ مَقْرُوءَاتِي وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَالْمُنَاوَلَةُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُحَدِّثُ كِتَابَ سَمَاعِهِ بِيَدِهِ وَيَقُولَ: أَجَزْتُ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي هَذَا الْكِتَابَ، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ إعْطَاءِ الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ طَرِيقُ الْإِجَازَةِ ضَرُورَةُ

أَمْرٌ عَظِيمٌ مِمَّا لَا يُتَسَاهَلُ فِيهِ وَتَصْحِيحُ الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا فِيهِ، وَفِيهِ فَتْحٌ لِبَابِ التَّقْصِيرِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، وَهَذَا أَمْرٌ يُتَبَرَّكُ بِهِ لَا أَمْرٌ يَقَعُ بِهِ الِاحْتِجَاجُ. وَأَمَّا الضَّبْطُ فَالْعَزِيمَةُ فِيهِ الْحِفْظُ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ، وَأَمَّا الْكِتَابَةُ فَقَدْ كَانَتْ رُخْصَةً فَانْقَلَبَتْ عَزِيمَةً فِي هَذَا الزَّمَانِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ. وَالْكِتَابَةُ نَوْعَانِ مُذَكِّرٌ أَيْ: إذَا رَأَى الْخَطَّ تَذَكَّرَ الْحَادِثَةَ هَذَا هُوَ الَّذِي انْقَلَبَ عَزِيمَةً، وَأَمَامٌ، وَهُوَ لَا يُفِيدُ التَّذَكُّرَ، وَالْأَوَّلُ حُجَّةٌ سَوَاءٌ خَطَّهُ هُوَ أَوْ رَجُلٌ مَعْرُوفٌ أَوْ مَجْهُولٌ. وَالثَّانِي: لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَصْلًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنْ كَانَ تَحْتَ يَدِهِ يُقْبَلُ فِي الْأَحَادِيثِ وَدِيوَانِ الْقَضَاءِ لِلْأَمْنِ مِنْ التَّزْوِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ لَا يُقْبَلُ فِي دِيوَانِ الْقَضَاءِ، وَيُقْبَلُ فِي الْأَحَادِيثِ إذَا كَانَ خَطًّا مَعْرُوفًا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ التَّبْدِيلُ عَادَةً، وَلَا يُقْبَلُ فِي الصُّكُوكِ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ الْخَصْمِ حَتَّى إذَا كَانَ فِي يَدِ الشَّاهِدِ يُقْبَلُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقْبَلُ أَيْضًا فِي الصُّكُوكِ إذَا عُلِمَ بِلَا شَكٍّ أَنَّهُ خَطُّهُ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ فِيهِ نَادِرٌ، وَمَا يَجِدُهُ بِخَطِّ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ فِي كِتَابٍ مَعْرُوفٍ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: وَجَدْت بِخَطِّ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَّا الْخَطُّ الْمَجْهُولُ فَإِنْ ضُمَّ إلَيْهِ خَطُّ جَمَاعَةٍ لَا يُتَوَهَّمُ التَّزْوِيرُ فِي مِثْلِهِ وَالنِّسْبَةُ تَامَّةٌ يُقْبَلُ وَغَيْرُ مَضْمُومٍ لَا الْمُرَادُ مِنْ النِّسْبَةِ التَّامَّةِ أَنْ يَذْكُرَ الْأَبَ وَالْجَدَّ (وَأَمَّا التَّبْلِيغُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ كُلَّ مُحَدِّثٍ لَا يَجِدُ رَاغِبًا إلَى سَمَاعِ جَمِيعِ مَا صَحَّ عِنْدَهُ فَيَلْزَمُ تَعْطِيلُ السُّنَنِ وَانْقِطَاعُهَا فَلِذَا كَانَتْ رُخْصَةً. (قَوْلُهُ: وَهَذَا أَمْرٌ يُتَبَرَّكُ بِهِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ أَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَعْتَبِرُونَ الْإِجَازَةَ، وَالْمُنَاوَلَةَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُجَازِ لَهُ بِمَا فِيهِ. (قَوْلُهُ: وَإِمَامٌ) يَعْنِي أَنَّ الرَّاوِيَ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْهُ التَّذَكُّرَ بَلْ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ اعْتِمَادَ الْمُقْتَدِي عَلَى إمَامِهِ. (قَوْلُهُ: وَالثَّانِي لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّظَرِ فِي الْكِتَابِ عِنْدَهُ التَّذَكُّرُ، وَالْعَوْدُ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحِفْظِ حَتَّى تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْ حِفْظٍ تَامٍّ إذْ الْحِفْظُ الدَّائِمُ مِمَّا يَتَعَسَّرُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِ الِاشْتِغَالِ بِأَنْوَاعِ الْعُلُومِ، وَفُرُوعِ الْأَحْكَامِ وَذَكَرَ فِي الْمُعْتَمَدِ أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ الْخِلَافِ هُوَ مَا إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي قِرَاءَتِهِ وَلَكِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَدِيوَانُ الْقَضَاءِ) هُوَ الْمَجْمُوعَةُ مِنْ قِطَعِ الْقَرَاطِيسِ يُقَالُ دَوَّنْت الْكُتُبَ جَمَعْتهَا، وَقَدْ يُقَالُ الدِّيوَانُ لِمَجْمَعِ الْحَاكِمِ. (قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً» ) الْحَدِيثَ. أُجِيبَ بِأَنَّ النَّقْلَ بِالْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ تَغَيُّرٍ أَدَاءٌ كَمَا سَمِعَ وَلَوْ سُلِّمَ، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْجَوَازِ غَايَتُهُ أَنَّهُ دُعَاءٌ لِلنَّاقِلِ بِاللَّفْظِ؛ لِكَوْنِهِ أَفْضَلَ. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ) يَعْنِي: يُوجَدُ فِي الْحَدِيثِ أَلْفَاظٌ يَسِيرَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ لَا يَقْدِرُ غَيْرُهُ عَلَى تَأْدِيَةِ تِلْكَ الْمَعَانِي بِعِبَارَتِهِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ» .

[فصل في الطعن]

بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى «لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً أَيْ: نَعَّمَ اللَّهُ سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا، وَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا» ؛ لِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ يَجُوزُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَزِيمَةَ هُوَ الْأَوَّلُ وَالتَّبَرُّكُ بِلَفْظِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْلَى لَكِنْ إذَا ضَبَطَ الْمَعْنَى وَنَسِيَ اللَّفْظَ فَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا، وَهُوَ فِي ذَلِكَ أَنْوَاعٌ) أَيْ: الْحَدِيثُ فِي النَّقْلِ بِالْمَعْنَى أَنْوَاعٌ (فَمَا كَانَ مُحْكَمًا يَجُوزُ لِلْعَالِمِ بِاللُّغَةِ، وَمَا كَانَ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ الْغَيْرَ كَعَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ أَوْ حَقِيقَةٍ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ يَجُوزُ لِلْمُجْتَهِدِ فَقَطْ، وَمَا كَانَ مُشْتَرَكًا أَوْ مُجْمَلًا أَوْ مُتَشَابِهًا أَوْ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ لَا يَجُوزُ أَصْلًا؛ لِأَنَّ ` ` فِي الْأَوَّلِ) أَيْ: الْمُشْتَرَكِ (إنْ أَمْكَنَ التَّأْوِيلُ فَتَأْوِيلُهُ لَا يَصِيرُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ) أَيْ: الْمُجْمَلِ وَالْمُتَشَابِهِ (لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُمَا بِالْمَعْنَى، وَفِي الْأَخِيرِ) أَيْ: مَا كَانَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ (لَا يُؤْمَنُ الْغَلَطُ فِيهِ لِإِحَاطَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمَعَانٍ تَقْصُرُ عَنْهَا عُقُولُ غَيْرِهِ) . (فَصْلٌ) فِي الطَّعْنِ، وَهُوَ إمَّا مِنْ الرَّاوِي أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ إمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِهِ بَعْدَ الرِّوَايَةِ فَيَصِيرُ مَجْرُوحًا كَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» ثُمَّ زَوَّجَتْ بَعْدَهَا ابْنَةَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ غَائِبٌ وَكَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الرُّكُوعِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَشْرَ سِنِينَ فَلَمْ أَرَهُ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَّا فِي تَكْبِيرَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَفِي «الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ» ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي غَيْرِ جَوَامِعِ الْكَلِمِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ لِمَعْرِفَةِ النَّاقِلِ بِمَوَاقِعِ الْأَلْفَاظِ، وَالْعُمْدَةُ فِي جَوَازِ ذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَمَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَذَا وَنَهَى عَنْ كَذَا وَرَخَّصَ فِي كَذَا وَشَاعَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ اتِّفَاقًا. (قَوْلُهُ: فَمَا كَانَ مُحْكَمًا) أَيْ: مُتَّضِحَ الْمَعْنَى بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ مَعْنَاهُ، وَلَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا مُتَعَدِّدَةً عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ لَا مَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ فِي أَقْسَامٍ الْكِتَابِ [فَصْلٌ فِي الطَّعْنِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي الطَّعْنِ) كَحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَدْ يُقَالُ: إنَّ غَيْبَةَ الْأَبِ لَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ بِلَا وَلِيٍّ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ تَنْتَقِلُ إلَى الْأَبْعَدِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْأَقْرَبِ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ عَمِلَ) أَيْ: الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى قَبْلَ الرِّوَايَةِ لَا يُجَرَّحُ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَانَ مَذْهَبَهُ فَتَرَكَهُ بِالْحَدِيثِ وَكَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ بِيَقِينٍ، فَلَا يَسْقُطُ بِالشَّكِّ. (قَوْلُهُ: عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) تَرَكَ بَيْنَهُمَا ذِكْرَ عُرْوَةَ، وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. (قَوْلُهُ: لِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ) هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ، وَقِيلَ لِطُولِ يَدَيْهِ اسْتَدَلَّ بِالْقِصَّةِ عَلَى أَنَّ رَدَّ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ لَا يَكُونُ جَرْحًا وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَبِلَ رِوَايَةَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَلَّمَ عَلَى رَأْسِ

الِافْتِتَاحِ، وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهِ قَبْلَهَا أَوْ لَا يُعْلَمُ التَّارِيخُ لَا يُجَرَّحُ، وَأَمَّا بِأَنْ يَعْمَلَ بِبَعْضِ مُحْتَمَلَاتِهِ؛ فَإِنَّهُ رَدٌّ مِنْهُ لِلْبَاقِي بِطَرِيقِ التَّأْوِيلِ لَا جَرْحٌ كَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَقَالَ لَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ، وَأَمَّا بِأَنْ أَنْكَرَهَا صَرِيحًا (كَحَدِيثِ عَائِشَةَ «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ عَنْ مُوسَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وَقَدْ أَنْكَرَ الزُّهْرِيُّ لَا يَكُونُ جَرْحًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِقِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ) ، وَهِيَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى إحْدَى الْعِشَاءَيْنِ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَالَ وَبَعْضُ ذَلِكَ قَدْ كَانَ فَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالَا: نَعَمْ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» فَقَبِلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رِوَايَتَهُمَا عَنْهُ مَعَ إنْكَارِهِ. وَمَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ كَلَامَ النَّاسِي يُبْطِلُ الصَّلَاةَ زَعَمَ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ نُسِخَ (وَلِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى نِسْيَانِهِ أَوْلَى مِنْ تَكْذِيبِ الثِّقَةِ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ، وَيَكُونُ جَرْحًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ «عَمَّارًا قَالَ لِعُمَرَ أَمَا تَذْكُرُ حَيْثُ كُنَّا فِي إبِلٍ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرَّكْعَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَوَّلًا؛ لِأَنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا عَمِلَ بِقَوْلِهِمَا إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ. وَكَلَامُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا جَرَى عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ قَدْ أَكْمَلَ الصَّلَاةَ فَكَانَ فِي حُكْمِ النَّاسِي وَكَلَامُ النَّاسِي لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ تَأْوِيلٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَ بِمَكَّةَ وَحُدُوثَ هَذَا الْأَمْرِ إنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ رَاوِيَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَهُوَ مُتَأَخِّرُ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ رَوَاهُ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ، وَهِجْرَتُهُ مُتَأَخِّرَةٌ كَذَا فِي شَرْحِ السُّنَّةِ. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى نِسْيَانِهِ أَوْلَى مِنْ تَكْذِيبِ الثِّقَةِ الَّذِي يَرْوِي عَنْهُ) فَإِنْ قِيلَ: إنْ أُرِيدَ بِالتَّكْذِيبِ النِّسْبَةُ إلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا أَوْلَوِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُ أَيْضًا ثِقَةٌ قُلْنَا تَعَارَضَا فَبَقِيَ أَصْلُ الْخَبَرِ مَعْمُولًا بِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا إذَا صَرَّحَ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ وَالتَّكْذِيبِ، وَلَا يُشْعِرُ بِالْحُكْمِ فِيمَا إذَا تَوَقَّفَ، وَقَالَ: لَا أَتَذَكَّرُ ذَلِكَ. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الثَّانِي، وَفِي الْأَوَّلِ يَسْقُطُ بِلَا خِلَافٍ، وَقِيلَ إنْ تَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الْجَزْمِ فَهُوَ الْمُعْتَبَرُ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فَقَدْ تَسَاقَطَا، فَلَا يُعْمَلُ بِالْحَدِيثِ. (قَوْلُهُ: وَيَكُونُ جَرْحًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ) لِقِصَّةِ عَمَّارٍ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ الِانْقِطَاعُ، وَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مُغَفَّلًا وَجَوَابُهُ أَنَّ عَدَمَ التَّذَكُّرِ فِي حَادِثَةٍ لَا يُوجِبُ كَوْنَهُ مُغَفَّلًا بِحَيْثُ يُرَدُّ خَبَرُهُ، وَقَلَّمَا يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ النِّسْيَانِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْ عُمَرَ، وَعَمَّارٍ عَدْلٌ ضَابِطٌ، وَأَيْضًا عَدَالَةُ كُلٍّ

إلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَقْبَلْهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ كُنَّا فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: أَمَا كَانَ يَكْفِيكَ ضَرْبَتَانِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْهُ عُمَرُ فَلَمْ يَقْبَلْ قَوْلَ عَمَّارٍ» يُقَالُ: تَمَعَّكَتْ الدَّابَّةُ فِي التُّرَابِ أَيْ: تَمَرَّغَتْ. وَوَجْهُ التَّمَسُّكِ بِهَذَا أَنَّ عَمَّارًا لَوْ لَمْ يَحْكِ حُضُورَ عُمَرَ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ لَقَبِلَهُ عُمَرُ لِعَدَالَةِ عَمَّارٍ فَالْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ أَنَّ عَمَّارًا حَكَى حُضُورَ عُمَرَ وَعُمَرُ لَمْ يَتَذَكَّرْ ذَاكَ فَبِالْأَوْلَى إذَا نُقِلَ عَنْ رَجُلٍ حَدِيثٌ، وَهُوَ لَا يَتَذَكَّرُهُ لَا يَكُونُ مَقْبُولًا. وَنَقَلَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سُفْيَانَ «عَنْ شَقِيقٍ كُنْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي مُوسَى فَقَالَ أَبُو مُوسَى أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَ عَمَّارٍ لِعُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَنِي أَنَا وَأَنْتَ فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ الصَّعِيدَ فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ وَاحِدَةً، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَفَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بِقَوْلِ عَمَّارٍ؟» . (وَهَذَا فَرْعُ خِلَافِهِمَا فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى قَاضٍ أَنَّهُ قَضَى بِهَذَا، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْقَاضِي، وَالثَّانِي أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ يَكُونُ جَرْحًا نَحْوَ «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» ) وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ عُمَرُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلَا يُمْكِنُ خَفَاءُ مِثْلِ هَذَا الْحُكْمِ عَنْهُمَا، وَفِيمَا يَحْتَمِلُ الْخَفَاءَ لَا يَكُونُ جَرْحًا كَمَا لَمْ يَعْمَلْ أَبُو مُوسَى بِحَدِيثِ الْوُضُوءِ عَلَى مَنْ قَهْقَهَ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْحَوَادِثِ النَّادِرَةِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْخَفَاءِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنْ كَانَ الطَّعْنُ مُجْمَلًا لَا يُقْبَلُ، وَإِنْ كَانَ مُفَسَّرًا، فَإِنْ فَسَّرَ بِمَا هُوَ جَرْحٌ شَرْعًا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَالطَّاعِنُ مِنْ أَهْلِ النَّصِيحَةِ لَا مِنْ أَهْلِ الْعَدَاوَةِ وَالْعَصَبِيَّةِ يَكُونُ جَرْحًا ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْهُمَا وَضَبْطُهُ يَقِينٌ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِالشَّكِّ. (قَوْلُهُ: وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ عُمَرُ) ،، وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَفَى رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ مُرْتَدًّا فَحَلَفَ، وَاَللَّهِ لَا أَنْفِي أَبَدًا أُجِيبَ بِأَنَّهُ كَانَ سِيَاسَةً إذْ لَوْ كَانَ حَدًّا لَمَا حَلَفَ إذْ الْحَدُّ لَا يُتْرَكُ بِالِارْتِدَادِ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ لَا قَطْعَ بِهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ بِذَلِكَ، وَالْإِنْصَافُ أَنَّ قِصَّةَ أَعْرَابِيٍّ وَقَعَ فِي كُوَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَقَهْقَهَتْ الْأَصْحَابُ فِي الصَّلَاةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ كِبَارِ الْأَصْحَابِ، وَأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُمْ بِإِعَادَةِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ لَيْسَتْ أَخْفَى مِنْ حَدِيثٍ فِي تَغْرِيبِ الْعَامِ فِي زِنَا الْبِكْرِ بِالْبِكْرِ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرَوَاهُ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. (قَوْلُهُ: فَإِنْ كَانَ الطَّعْنُ مُجْمَلًا) بِأَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ أَوْ مُنْكَرٌ أَوْ مَجْرُوحٌ أَوْ رَاوِيهِ مَتْرُوكِ الْحَدِيثِ أَوْ غَيْرُ الْعَدْلِ لَمْ يُقْبَلْ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ أَصْلٌ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ نَظَرًا إلَى الْعَقْلِ وَالدِّينِ لَا سِيَّمَا الصَّدْرُ الْأَوَّلُ، فَلَا يُتْرَكُ بِالْجَرْحِ الْمُبْهَمِ لِجَوَازِ أَنْ يَعْتَقِدَ الْجَارِحُ مَا لَيْسَ تَجْرِيحًا، وَقِيلَ يُقْبَلُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ الْجَارِحِ الصِّدْقُ، وَالْبَصَارَةُ بِأَسْبَابِ

[فصل في أفعاله عليه الصلاة والسلام]

وَإِلَّا، فَلَا، وَمَا لَيْسَ بِطَعْنٍ شَرْعًا فَمَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ فَإِنْ أَرَدْت فَعَلَيْكَ بِالْمُطَالَعَةِ فِيهِ. (فَصْلٌ) فِي أَفْعَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَمِنْهَا مَا يُقْتَدَى بِهِ وَهُوَ مُبَاحٌ وَمُسْتَحَبٌّ وَوَاجِبٌ، وَفَرْضٌ وَغَيْرُ الْمُقْتَدَى بِهِ، وَهُوَ إمَّا مَخْصُوصٌ بِهِ أَوْ زَلَّةٌ، وَهِيَ فِعْلُهُ مِنْ الصَّغَائِرِ يَفْعَلُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهَا لِئَلَّا يُقْتَدَى بِهَا فَفِعْلُهُ الْمُطْلَقُ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ عِنْدَ الْبَعْضِ لِلْجَهْلِ بِصِفَتِهِ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُتَابَعَةُ إلَّا بِإِتْيَانِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] أَيْ: فِعْلِهِ وَطَرِيقَتِهِ وَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ يَثْبُتُ الْمُتَيَقَّنُ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، وَلَا يَكُونُ لَنَا اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِهِ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا الْإِبَاحَةُ لَكِنْ يَكُونُ لَنَا اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ بُعِثَ لِيُقْتَدَى بِأَقْوَالِهِ، وَأَفْعَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] وَذَلِكَ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَالْمَخْصُوصُ بِهِ نَادِرٌ. (فَصْلٌ) فِي الْوَحْيِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ أَمَّا الظَّاهِرُ فَثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ: مَا ثَبَتَ بِلِسَانِ الْمَلَكِ فَوَقَعَ فِي سَمْعِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْمُبَلِّغِ بِآيَةٍ قَاطِعَةٍ وَالْقُرْآنُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَالثَّانِي: مَا وَضَحَ لَهُ بِإِشَارَةِ الْمَلَكِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ بِالْكَلَامِ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ - الْحَدِيثَ - حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ» . الرَّوْعُ الْقَلْبُ (وَهَذَا يُسَمَّى خَاطِرَ الْمَلَكِ وَالثَّالِثُ مَا تَبَدَّى لِقَلْبِهِ بِلَا شُبْهَةٍ بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ بِأَنْ أَرَاهُ بِنُورٍ مِنْ عِنْدِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وَكُلُّ ذَلِكَ حُجَّةٌ مُطْلَقًا بِخِلَافِ الْإِلْهَامِ لِلْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ (وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَمَا يُنَالُ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ) وَفِيهِ خِلَافٌ فَعِنْدَ الْبَعْضِ حَظُّهُ الْوَحْيُ الظَّاهِرُ لَا غَيْرُ، وَإِنَّمَا الرَّأْيُ، وَهُوَ الْمُحْتَمِلُ لِلْخَطَأِ يَكُونُ لِغَيْرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجَرْحِ وَمَوَاقِعِ الْخِلَافِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْجَارِحَ إنْ كَانَ ثِقَةً بَصِيرًا بِأَسْبَابِ الْجَرْحِ وَمَوَاقِعِ الْخِلَافِ ضَابِطًا لِذَلِكَ يُقْبَلُ جَرْحُهُ الْمُبْهَمُ، وَإِلَّا، فَلَا. (قَوْلُهُ: مَا لَيْسَ بِطَعْنٍ شَرْعًا) مِثْلُ رَكْضِ الْخَيْلِ، وَالْمُزَاحِ وَتَحَمُّلِ الْحَدِيثِ فِي الصِّغَرِ وَمِثْلُ الْإِرْسَالِ، وَالِاسْتِكْسَارِ مِنْ فُرُوعِ الْفِقْهِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ [فَصْلٌ فِي أَفْعَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي أَفْعَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) يَعْنِي أَنَّ الْأَفْعَالَ الَّتِي لَمْ يَتَّضِحْ فِيهَا أَمْرُ الْجِبِلَّةِ كَالْقِيَامِ، وَالْقُعُودِ، وَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ بِلَا خِلَافٍ فَيَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْأَقْسَامِ أَوْ يَدْخُلُ فِي الْمُبَاحِ الَّذِي يُقْتَدَى بِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَنَا أَيْضًا فِعْلُهُ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ حَصْرُ غَيْرِ الْمُقْتَدَى بِهِ فِي الْمَخْصُوصِ، وَالزَّلَّةِ إذْ لَا يَجُوزُ مِنْهُ الْكَبَائِرُ، وَلَا الصَّغَائِرُ. (قَوْلُهُ: وَوَاجِبٌ، وَفَرْضٌ) يَعْنِي أَنَّ فِعْلَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا يَتَّصِفُ بِذَلِكَ بِأَنْ يُجْعَلَ الْوَتْرَ وَاجِبًا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مُسْتَحَبًّا أَوْ فَرْضًا، وَإِلَّا فَالثَّابِتُ عِنْدَهُ بِدَلِيلٍ يَكُونُ قَطْعِيًّا لَا مَحَالَةَ حَتَّى إنَّ قِيَاسَهُ وَاجْتِهَادَهُ أَيْضًا قَطْعِيٌّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَرَّرُ عَنْ الْخَطَأِ عَلَى مَا سَيَأْتِي. (قَوْلُهُ: وَهُوَ فِعْلُهُ مِنْ

لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَهُ الْعَمَلُ بِهِمَا وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ ثُمَّ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ لِعُمُومِ {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَلِحُكْمِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالرَّأْيِ فِي نَفْشِ غَنَمِ الْقَوْمِ) يُقَالُ: نَفَشَتْ الْغَنَمُ وَالْإِبِلُ نُفُوشًا أَيْ: رَعَتْ لَيْلًا بِلَا رَاعٍ رُوِيَ أَنَّ غَنَمَ قَوْمٍ وَقَعَتْ لَيْلًا فِي زَرْعِ جَمَاعَةٍ فَأَفْسَدَتْهُ فَتَخَاصَمُوا عِنْدَ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَحَكَمَ دَاوُد بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ فَقَالَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ ابْنُ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً غَيْرُ هَذَا أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ أَرَى أَنْ تُدْفَعَ الْغَنَمُ إلَى أَهْلِ الْحَرْثِ يَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَانِهَا، وَأَوْلَادِهَا، وَأَصْوَافِهَا، وَالْحَرْثَ إلَى أَرْبَابِ الشَّاةِ يَقُومُونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أَفْسَدَتْهُ ثُمَّ يَتَرَادُّونَ فَقَالَ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْقَضَاءُ مَا قَضَيْت، وَأَمْضَى الْحُكْمَ بِذَلِكَ. أَمَّا وَجْهُ حُكُومَةِ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّ الضَّرَرَ وَقَعَ بِالْغَنَمِ فَسُلِّمَتْ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْعَبْدِ الْجَانِي، وَأَمَّا وَجْهُ حُكُومَةِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ جَعَلَ الِانْتِفَاعَ بِالْغَنَمِ بِإِزَاءِ مَا فَاتَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْحَرْثِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْ الْغَنَمِ وَأَوْجَبَ عَلَى صَاحِبِ الْغَنَمِ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْحَرْثِ حَتَّى يَزُولَ الضَّرَرُ وَالنُّقْصَانُ. (وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ» الْحَدِيثُ) رُوِيَ «أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَيُجْزِينِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرَأَيْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّغَائِرِ) رَدٌّ لِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَنَّ زَلَّةَ الْأَنْبِيَاءِ هِيَ الزَّلَلُ مِنْ الْأَفْضَلِ إلَى الْفَاضِلِ وَمِنْ الْأَصْوَبِ إلَى الصَّوَابِ لَا عَنْ الْحَقِّ إلَى الْبَاطِلِ، وَعَنْ الطَّاعَةِ إلَى الْمَعْصِيَةِ لَكِنْ يُعَاتَبُونَ لِجَلَالَةِ قَدْرِهِمْ وَلِأَنَّ تَرْكَ الْأَفْضَلِ عَنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الْوَاجِبِ عَنْ الْغَيْرِ. (قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ) قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا الزَّلَّةُ، فَلَا يُوجَدُ فِيهَا الْقَصْدُ إلَى عَيْنِهَا وَلَكِنْ يُوجَدُ الْقَصْدُ إلَى أَصْلِ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ قَوْلِهِمْ زَلَّ الرَّجُلُ فِي الطِّينِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْقَصْدُ إلَى الْوُقُوعِ، وَلَا إلَى الثَّبَاتِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَلَكِنْ وُجِدَ الْقَصْدُ إلَى الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَقْصِيرٍ يُمْكِنُ لِلْمُكَلَّفِ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ عِنْدَ التَّثَبُّتِ، وَأَمَّا الْمَعْصِيَةُ حَقِيقَةً فَهِيَ فِعْلُ حَرَامٍ يُقْصَدُ إلَى نَفْسِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهِ. (قَوْلُهُ: فَفِعْلُهُ الْمُطْلَقُ) أَيْ: الْخَالِي عَنْ قَرِينَةِ الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، وَالْإِبَاحَةِ وَكَوْنِهِ زِلَّةً أَوْ سَهْوًا أَوْ مَخْصُوصًا بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ حَاصِلَا الْأَوَّلَيْنِ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ الْجَزْمِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالِاخْتِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَلْزَمُنَا الِاتِّبَاعُ أَوْ يُتَوَقَّفُ فِي الِاتِّبَاعِ أَيْضًا، وَحَاصِلُ الْأَخِيرَيْنِ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُ الْإِبَاحَةُ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

[فصل في الوحي وهو ظاهر وباطن]

لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْكِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ قَالَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْبَلَ» . (وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ» الْحَدِيثَ) رُوِيَ «أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قُبْلَةِ الصَّائِمِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ؟» . (لَكِنْ يُحْتَمَلُ فِي الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَهُ بِالْوَحْيِ لَكِنْ بَيَّنَهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِمَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ؛ وَلِأَنَّهُ أَسْبَقُ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ الْمُتَشَابِهَ وَالْمُجْمَلَ، فَمُحَالٌ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَعَانِي النَّصِّ) الْمُرَادُ بِهَا الْعِلَلُ. (فَإِذَا وَضَحَ لَهُ لَزِمَهُ الْعَمَلُ؛ وَلِأَنَّهُ شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَأَخَذَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى يَوْمَ بَدْرٍ بِسَبْعِينَ أَسِيرًا فِيهِمْ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَقِيلُ ابْنُ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فَاسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ فِيهِمْ فَقَالَ: قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ فَاسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً يَقْوَى بِهَا أَصْحَابُكَ، وَقَالَ عُمَرُ كَذَّبُوكَ، وَأَخْرَجُوك فَقَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَغْنَاكَ عَنْ الْفِدَاءِ مَكِّنْ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ وَحَمْزَةَ مِنْ عَبَّاسٍ، وَمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ لِنَسِيبٍ لَهُ فَلْنَضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالِاخْتِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لَنَا الِاتِّبَاعُ أَمْ لَا؟ . وَاعْتُرِضُ عَلَى مَذْهَبِ التَّوَقُّفِ بِأَنَّا إمَّا أَنْ نَمْنَعَ الْأُمَّةَ مِنْ الْفِعْلِ، وَنَذُمَّهُمْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ حَرَامًا أَوْ لَا فَيَكُونُ مُبَاحًا، فَلَا يَتَحَقَّقُ الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ، وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَمْنَعُهُمْ، وَلَا نَذُمُّهُمْ لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِالْحُكْمِ فِي حَقِّهِمْ لَا لِتَحَقُّقِ الْإِبَاحَةِ، وَقَدْ يُقَالُ عَلَى الْأَوَّلِ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْمُتَابَعَةِ مُجَرَّدُ الْإِتْيَانِ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِصِفَةٍ، وَعَلَى الثَّانِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمْرَ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ وَالطَّرِيقَةِ بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْقَوْلِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَعَلَى الثَّالِثِ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ جَوَازِ الْفِعْلِ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ، وَأَيْضًا فِيهِ إثْبَاتُ الْحُرْمَةِ بِلَا دَلِيلٍ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْإِبَاحَةُ. وَعَلَى الرَّابِعِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْإِبَاحَةِ جَوَازُ الْفِعْلِ مَعَ جَوَازِ التَّرْكِ عَلَى مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ، فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُرِيدَ مُجَرَّدُ جَوَازِ الْفِعْلِ، فَلَا نِزَاعَ لِلْوَاقِفِيَّةِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ الْإِبَاحَةُ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ وَتَثْبُتُ بِحُكْمِ الْأَصْلِ [فَصْلٌ فِي الْوَحْيِ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ] (قَوْلُهُ: فَعِنْدَ الْبَعْضِ حَظُّهُ الْوَحْيُ الظَّاهِرُ لَا الِاجْتِهَادُ) وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ} [النجم: 4] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَنْطِقُ بِهِ إنَّمَا هُوَ وَحْيٌ لَا غَيْرُ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْوَحْيِ مَا أَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ بِلِسَانِ الْمَلَكِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالِاجْتِهَادِ كَانَ حُكْمُهُ بِالِاجْتِهَادِ أَيْضًا وَحْيًا لَا نُطْقًا عَنْ الْهَوَى، وَاسْتَدَلَّ أَيْضًا إشَارَةً بِأَنَّ الِاجْتِهَادَ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ دَلِيلٍ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ، وَلَا عَجْزَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوُجُودِ الْوَحْيِ الْقَاطِعِ، وَأَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّ اجْتِهَادَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقَرَارَ عَلَى الْخَطَأِ فَتَقْرِيرُهُ

[فصل في شرائع من قبلنا]

فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الرَّأْيُ عِنْدَهُ فَمَنَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] » أَيْ: لَوْلَا حُكْمُ اللَّهِ سَبَقَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ أَحَدٌ بِالْخَطَأِ، فَكَانَ هَذَا خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي أَنَّ اسْتِبْقَاءَهُمْ رُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ وَتَوْبَتِهِمْ وَأَنَّ فِدَاءَهُمْ يُتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ أَنَّ قَتْلَهُمْ أَعَزُّ لِلْإِسْلَامِ، وَأَهْيَبُ لِمَنْ وَرَاءَهُمْ، وَأَقَلُّ لِشَوْكَتِهِمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا إلَّا عُمَرُ» وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَأْوِيلٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الِاجْتِهَادِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ) أَيْ: مِثْلُ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْيِ أَصْحَابِهِ كَثِيرٌ، وَبَعْضُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الْبَزْدَوِيِّ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ أَنْ يُعْطِيَ الْمُشْرِكِينَ شَطْرَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَا إنْ كَانَ هَذَا عَنْ وَحْيٍ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيٍ، فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ قَدْ كُنَّا نَحْنُ، وَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَنَا وَلَهُمْ دِينٌ كَانُوا لَا يَطْعَمُونَ مِنْ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ قِرًى فَإِذَا أَعَزَّنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالدِّينِ أَنُعْطِيهِمْ ثِمَارَ الْمَدِينَةِ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنِّي رَأَيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْتُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ فَإِذَا أَبَيْتُمْ فَذَاكَ ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى مُجْتَهَدِهِ قَاطِعٌ لِلِاحْتِمَالِ كَالْإِجْمَاعِ الَّذِي سَنَدُهُ الِاجْتِهَادُ. وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِهِمْ الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَجَازَ مُخَالَفَتُهُ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُخَالَفَةِ مِنْ لَوَازِمِ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ؛ لِعَدَمِ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَهُ الِاجْتِهَادُ لَمَا تَوَقَّفَ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ بَلْ اجْتَهَدَ وَبَيَّنَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ فَأَشَارَ فِي تَقْرِيرِ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ إلَى جَوَابِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِانْتِظَارِ فَهُوَ شَرْطٌ لِاجْتِهَادِهِ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الِاجْتِهَادِ أَيْضًا يَقْتَضِي زَمَانًا وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْمُخْتَارِ بِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ عَلَيْهِ؛ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] . الثَّانِي وُقُوعُهُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَدَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ الثَّالِثِ. وُقُوعُهُ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قِصَّةِ الْخَثْعَمِيَّةِ وَجَوَازُ قُبْلَةِ الصَّائِمِ الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَالِمٌ بِعِلَلِ النُّصُوصِ وَكُلُّ مَنْ هُوَ عَالِمٌ بِهَا يَلْزَمُهُ الْعَمَلُ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِ الْعِلَّةُ وَذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا لِتَقْرِيبِ الْوُجُوهِ وَلِتَخْيِيرِ الرَّأْيِ إذْ لَوْ كَانَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِرَأْيِهِمْ كَانَ ذَلِكَ إيذَاءً وَاسْتِهْزَاءً لَا تَطْيِيبًا وَإِنْ عَمِلَ، فَلَا شَكَّ أَنَّ رَأْيَهُ أَقْوَى، وَإِذَا جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِرَأْيِهِمْ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ فَبِرَأْيِهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى [فَصْلٌ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا] (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ) أَيْ: شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا الْخُصُوصُ

[فصل في تقليد الصحابي]

لِلَّذِينَ جَاءُوا لِلصُّلْحِ اذْهَبُوا، فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ» . (وَاجْتِهَادُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقَرَارَ عَلَى الْخَطَأِ لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ الْوَحْيُ الظَّاهِرُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَعْلَى؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ لَا ابْتِدَاءً، وَلَا بَقَاءً وَالْبَاطِنُ لَا يَحْتَمِلُ بَقَاءً) أَيْ: الْوَحْيُ الْبَاطِنُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ لَا حَالَةَ الِابْتِدَاءِ لَكِنْ لَا يَحْتَمِلُ الْقَرَارَ عَلَى الْخَطَأِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْبَقَاءِ وَالْوَحْيُ الظَّاهِرُ لَا يَحْتَمِلُ الْخَطَأَ أَصْلًا لَا ابْتِدَاءً، وَلَا بَقَاءً فَكَانَ أَقْوَى. (وَمُدَّةُ الِانْتِظَارِ مَا يَرْجُو نُزُولَهُ فَإِذَا خَافَ الْفَوْتَ فِي الْحَادِثَةِ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ) لَمَّا ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِانْتِظَارِ الْوَحْيِ لِلْعَمَلِ بِالرَّأْيِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الِانْتِظَارِ بَيَّنَ مُدَّةَ الِانْتِظَارِ، وَهِيَ مَا يَرْجُو نُزُولَهُ. (وَاَللَّهُ تَعَالَى إذَا سَوَّغَ لَهُ الِاجْتِهَادَ، كَانَ الِاجْتِهَادُ، وَمَا يَسْتَنِدُ إلَيْهِ) ، وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ بِالِاجْتِهَادِ (وَحْيًا لَا نُطْقًا عَنْ الْهَوَى) ، وَهَذَا جَوَابُ التَّمَسُّكِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] . (فَصْلٌ فِي شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهِيَ تَلْزَمُنَا حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى النَّسْخِ عِنْدَ الْبَعْضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] قَوْله تَعَالَى {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [المائدة: 46] وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ؛ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرَائِعِ الْمَاضِيَةِ الْخُصُوصُ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا كَانَ فِي الْمَكَانِ) أَيْ: كَانَ فِي الْقُرُونِ الْأُولَى لِكُلِّ قَوْمٍ نَبِيٌّ، وَيَتْبَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَبِيَّهُمْ دُونَ الْآخَرِ وَكُلٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ مَخْصُوصٌ لِمُعَيَّنٍ. (وَمَا ذَكَرُوا) ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] وقَوْله تَعَالَى {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة: 97] (فَذَلِكَ فِي أُصُولِ الدِّينِ) وَعِنْدَ الْبَعْضِ تَلْزَمُنَا عَلَى أَنَّهَا شَرِيعَةٌ لَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِزَمَانٍ إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ تَبَعٌ لِلْأَوَّلِ فِي الزَّمَانِ وَدَاعٍ إلَى مَا دَعَا إلَيْهِ كَلُوطٍ لِإِبْرَاهِيمَ، وَهَارُونَ لِمُوسَى - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَمَا كَانَ الْأَصْلُ فِيهَا الْخُصُوصَ بِمَكَانِ كَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ وَمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَنْ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْخُصُوصُ، فَلَا يَثْبُتُ الْعُمُومُ فِي الْأَمْكِنَةِ، وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأُمَمِ. (قَوْلُهُ: وَمَا ذَكَرُوا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْأُصُولِ) دَفْعٌ لِمَا أَوْرَدَهُ الْفَرِيقُ الثَّانِي مِنْ اخْتِصَاصِ الْآيَتَيْنِ بِالْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ وَلِمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ أَحْكَامِهِمْ مِمَّا لَحِقَهُ النَّسْخُ، فَلَا يُقْتَدَى بِهِ، وَيَكُونُ مُغَيِّرًا لَهُ لَا مُصَدِّقًا أَجَابَ بِأَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ تَغْيِيرًا بَلْ بَيَانًا لِمُدَّتِهِ فَمَا انْتَهَتْ مُدَّتُهُ ارْتَفَعَ وَلَمْ يَبْقَ لَنَا الِاتِّبَاعُ، وَمَا بَقِيَ لَزِمَنَا الِاتِّبَاعُ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [فَصْلٌ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ] (قَوْلُهُ: وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمَا) مَحَلُّ الْخِلَافِ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ الْمُجْتَهِدِ هَلْ يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُجْتَهِدٍ غَيْرِ صَحَابِيٍّ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ دَلِيلٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا التَّابِعِيُّ) مَا ذَكَرَهُ رِوَايَةُ النَّوَادِرِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تَقْلِيدَ إذْ هُمْ رِجَالٌ، وَنَحْنُ رِجَالٌ بِخِلَافِ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ فَإِنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً لِاحْتِمَالِ السَّمَاعِ وَزِيَادَةِ الْإِصَابَةِ فِي الرَّأْيِ بِبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

[باب البيان]

لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} [فاطر: 32] الْآيَةَ، وَالْإِرْثُ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ مَخْصُوصًا بِهِ فَنَعْمَلُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا لَمَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي» ، وَمَا ذَكَرُوا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْأُصُولِ بَلْ فِي الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ النَّسْخَ لَيْسَ تَغْيِيرًا بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا هَذَا لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَبْقَ الِاعْتِمَادُ عَلَى كُتُبِهِمْ لِلتَّحْرِيفِ شَرَطْنَا أَنْ يَقُصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ. (فَصْلٌ فِي تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ يَجِبُ إجْمَاعًا فِيمَا شَاعَ فَسَكَتُوا مُسَلِّمِينَ، وَلَا يَجِبُ إجْمَاعًا فِيمَا ثَبَتَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ، وَاخْتُلِفَ فِي غَيْرِهِمَا) ، وَهُوَ مَا لَمْ يُعْلَمْ اتِّفَاقُهُمْ، وَلَا اخْتِلَافُهُمْ. (فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرْفَعْهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ، وَفِي الِاجْتِهَادِ هُمْ وَسَائِرُ الْمُجْتَهِدِينَ سَوَاءٌ) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِقَوْلِ التَّابِعِيِّ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يُعْتَدُّ بِهِ فِي إجْمَاعِ الصَّحَابِيِّ حَتَّى لَا يَتِمَّ إجْمَاعُهُمْ مَعَ خِلَافِهِ فَعِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُعْتَدُّ بِهِ [بَابُ الْبَيَانِ] (قَوْلُهُ: بَابُ الْبَيَانِ، وَيَلْحَقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْبَيَانُ) وَهُوَ يُشَارِكُ الْعَامَّ، وَالْخَاصَّ وَالْمُشْتَرَكَ وَنَحْوَهَا مِنْ جِهَةِ جَرَيَانِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَهَا، وَأَخَّرَ ذِكْرَ الْبَيَانِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ الْبَيَانُ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْمُبَيِّنِ كَالسَّلَامِ، وَالْكَلَامِ، وَعَلَى مَا حَصَلَ بِهِ التَّبْيِينُ كَالدَّلِيلِ، وَعَلَى مُتَعَلَّقِ التَّبْيِينِ وَمَحَلِّهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ وَبِالنَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ قِيلَ هُوَ: إيضَاحُ الْمَقْصُودِ، وَقِيلَ الدَّلِيلُ، وَقِيلَ الْعِلْمُ عَنْ الدَّلِيلِ، وَإِلَى الْأَوَّلِ ذَهَبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَحَصَرَهُ فِي بَيَانِ الضَّرُورَةِ وَبَيَانِ التَّبْدِيلِ، وَبَيَانِ التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ التَّغْيِيرِ، وَبَيَانِ التَّقْرِيرِ وَذَكَرَ فِيهِ وَجْهَ ضَبْطٍ وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ، وَالتَّعْلِيقَ بَيَانَ تَبْدِيلٍ وَلَمْ يَجْعَلْ النَّسْخَ مِنْ أَقْسَامِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْحُكْمِ لَا إظْهَارٌ لِحُكْمِ الْحَادِثَةِ إلَّا أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اعْتَبَرَ كَوْنَهُ إظْهَارًا لِانْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْبَيَانِ مُجَرَّدُ إظْهَارِ الْمَقْصُودِ فَالنَّسْخُ بَيَانٌ وَكَذَا غَيْرُهُ مِنْ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً. وَإِنْ أُرِيدَ إظْهَارُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَلَامٍ سَابِقٍ فَلَيْسَ بَيَانًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ إظْهَارُ الْمُرَادِ بَعْدَ سَبْقِ كَلَامٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ لِيَشْمَلَ النَّسْخَ دُونَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ ابْتِدَاءً مِثْلَ {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72] ثُمَّ التَّخْصِيصُ أَيْضًا مِنْ بَيَانِ التَّغْيِيرِ إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَ ذِكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبَحْثِ وَالتَّفْصِيلِ وَلَمْ يَعُدَّهُ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ، وَالْغَايَةِ فَإِنْ قِيلَ الْغَايَةُ أَيْضًا بَيَانٌ لِلْمُدَّةِ فَكَيْفَ جَعَلَهَا بَيَانًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ إلَّا لِلَازِمِهِ قُلْنَا النَّسْخُ بَيَانٌ لِمُدَّةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ لَا لِشَيْءٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَلَامِ وَمُرَادِهِ بِهِ بِخِلَافِ الْغَايَةِ فَإِنَّهَا بَيَانٌ لِمُدَّةِ مَعْنًى هُوَ مَدْلُولُ الْكَلَامِ حَتَّى

{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. (وَعِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ يَجِبُ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ إنْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» «اقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي» ) تَمَامُ الْحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ. (وَلِأَنَّ أَكَثَرَ أَقْوَالِهِمْ مَسْمُوعٌ مِنْ حَضْرَةِ الرِّسَالَةِ، وَإِنْ اجْتَهَدُوا فَرَأْيُهُمْ أَصْوَبُ؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا مَوَارِدَ النُّصُوصِ وَلِتَقَدُّمِهِمْ فِي الدِّينِ، وَبَرَكَةِ صُحْبَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَوْنِهِمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ، وَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ يَجِبُ فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لَهُ إلَّا السَّمَاعُ أَوْ الْكَذِبُ. وَالثَّانِي مُنْتَفٍ لَا فِيمَا يُدْرَكُ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِالرَّأْيِ مِنْهُمْ مَشْهُورٌ، وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ، وَيُصِيبُ، وَالِاقْتِدَاءُ فِي الْبَعْضِ بِمَا ذَكَرْنَا) أَيْ: الِاقْتِدَاءُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِأَنْ نُقَلِّدَهُمْ، وَنَأْخُذَ بِقَوْلِهِمْ (وَفِي الْبَعْضِ) أَيْ: فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ (بِأَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يَتِمَّ الْكَلَامُ بِدُونِ اعْتِبَارِهِ مِثْلَ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فَلِهَذَا جَعَلَ الْغَايَةَ بَيَانًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ دُونَ مُدَّةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْكَلَامِ ثُمَّ كَوْنُ النَّسْخِ تَبْدِيلًا إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا حَيْثُ نَفْهَمُ مِنْ إطْلَاقِ الْحُكْمِ التَّأْبِيدَ. (قَوْلُهُ: فَلَا يَجُوزُ التَّخْصِيصُ) أَيْ: تَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ دُونَ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ، وَالْكِتَابُ قَطْعِيٌّ، فَلَا يُخَصِّصُهُ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ تَغْيِيرٌ وَتَغْيِيرُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا يُسَاوِيهِ أَوْ يَكُونُ بِمَا فَوْقَهُ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْعَامَّ قَطْعِيٌّ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ، وَإِلَّا فَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ عَامَّ الْكِتَابِ قَطْعِيُّ الْمَتْنِ لَا الدَّلَالَةِ، وَالتَّخْصِيصُ إنَّمَا يَقَعُ فِي الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ رَفْعُ الدَّلَالَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَارِدِ فَيَكُونُ تَرْكُ ظَنِّيٍّ بِظَنِّيٍّ وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى الْكِتَابُ قَطْعِيُّ الْمَتْنِ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ، وَالْخَبَرُ بِالْعَكْسِ فَكَانَ لِكُلٍّ قُوَّةٌ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ الْجَمْعُ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ الْخَبَرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يُخَصِّصُونَ الْكِتَابَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِهِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَطْعِيٌّ عِنْدَ الصَّحَابِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَعَ أَنَّهُمْ إنَّمَا كَانُوا يُخَصِّصُونَ الْكِتَابَ بِالْخَبَرِ بَعْدَ مَا ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِقَطْعِيٍّ مِنْ إجْمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يَصِيرُ ظَنِّيًّا، وَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ) إلَّا عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ، وَلَا اعْتِدَادَ بِهِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] وَلَمْ يَنْزِلْ {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فَكَانَ أَحَدُنَا إذَا أَرَادَ الصَّوْمَ وَضَعَ عِقَالَيْنِ أَبْيَضَ، وَأَسْوَدَ وَكَانَ يَأْكُلُ، وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الصَّنِيعَ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ مِنْ الصَّوْمِ، وَوَقْتُ الْحَاجَةِ إنَّمَا هُوَ الصَّوْمُ الْفَرْضُ. (قَوْلُهُ: فَبَيَانُ التَّقْرِيرِ، وَالتَّفْسِيرِ يَجُوزُ مَوْصُولًا وَمُتَرَاخِيًا اتِّفَاقًا) أَيْ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِلَّا فَعِنْدَ أَكْثَرِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ عَنْ وَقْتِ

نَسْلُكَ مَسْلَكَهُمْ) أَيْ: فِي الِاجْتِهَادِ (وَنَجْتَهِدَ كَمَا اجْتَهَدُوا) ، وَهَذَا اقْتِدَاءٌ أَيْضًا، وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ» . (وَأَيْضًا كُلُّ مَا ثَبَتَ فِيهِ اتِّفَاقُ الشَّيْخَيْنِ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَأَمَّا التَّابِعِيُّ فَإِنْ ظَهَرَ فَتْوَاهُ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَهُوَ كَالصَّحَابِيِّ عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُمْ بِتَسْلِيمِهِمْ إيَّاهُ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِمْ كَشُرَيْحٍ خَالَفَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَرَدَّ شَهَادَةَ الْحَسَنِ لَهُ) وَكَانَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ قَبُولَ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ. (وَابْنُ عَبَّاسٍ رَجَعَ إلَى فَتْوَى مَسْرُوقٍ فِي النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ) وَكَانَ مَذْهَبُهُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ إذْ هِيَ الدِّيَةُ فَرَجَعَ إلَى فَتْوَى مَسْرُوقٍ، وَهِيَ أَنْ يَجِبَ ذَبْحُ شَاةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (بَابُ الْبَيَانِ، وَيَلْحَقُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْبَيَانُ، وَهُوَ إظْهَارُ الْمُرَادِ، وَهُوَ إمَّا بِالْمَنْطُوقِ أَوْ غَيْرِهِ الثَّانِي بَيَانُ ضَرُورَةٍ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِمَعْنَى الْكَلَامِ أَوْ اللَّازِمِ لَهُ كَالْمُدَّةِ. الثَّانِي بَيَانُ تَبْدِيلٍ. وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا تَغْيِيرٍ أَوْ مَعَهُ. الثَّانِي بَيَانُ تَغْيِيرٍ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَالشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَالْغَايَةِ. وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَعْلُومًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخِطَابِ. فَإِنْ قُلْت فَمَا فَائِدَةُ الْخِطَابِ عَلَى تَقْدِيرِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ؟ قُلْتُ فَائِدَتُهُ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ، وَالتَّهَيُّؤُ لَهُ عِنْدَ وُرُودِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَحَدُ الْمَدْلُولَاتِ بِخِلَافِ الْخِطَابِ بِالْمُهْمَلِ فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا أَصْلًا وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَرَاخِي بَيَانِ التَّفْسِيرِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] أَيْ: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ بِلِسَانِ جِبْرِيلَ عَلَيْكَ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فَتُكَرِّرُ فِيهِ حَتَّى يَتَرَسَّخَ فِي ذِهْنِكَ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ مَا أَشْكَلَ عَلَيْكَ مِنْ مَعَانِيهِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى بَيَانِ التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ هُوَ الْإِيضَاحُ وَرَفْعُ الِاشْتِبَاهِ، وَأَمَّا تَسْمِيَةُ التَّغْيِيرِ بَيَانًا فَاصْطِلَاحًا وَلَوْ سُلِّمَ فَبَيَانُ التَّفْسِيرِ مُرَادٌ إجْمَاعًا، فَلَا يُرَادُ غَيْرُهُ دَفْعًا لِعُمُومِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَلَيْسَ بِمُشْتَرَكٍ فَبَيَانُ التَّغْيِيرِ، وَقَدْ خُصَّ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ. (قَوْلُهُ: وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ) إنْ كَانَ بِمُسْتَقِلٍّ فَسَيَأْتِي حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ كَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا بِحَيْثُ لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ مُنْفَصِلًا حَتَّى لَا يَضُرَّ قَطْعُهُ بِتَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجُوزُ مُتَرَاخِيًا تَمَسَّكَ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ» الْحَدِيثَ وَجْهُ التَّمَسُّكِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الِانْفِصَالُ لَمَا أَوْجَبَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - التَّكْفِيرَ مُعَيِّنًا بَلْ قَالَ فَلْيَسْتَثْنِ أَوْ يُكَفِّرْ فَأَوْجَبَ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ إذْ لَا حِنْثَ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى التَّعْيِينِ بَلْ الْوَاجِبُ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ التَّرَاخِي لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا لَا مُعَيِّنًا، وَلَا مُخْبِرًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى» ، وَأَيْضًا «سَأَلَهُ الْيَهُودُ عَنْ مُدَّةِ لُبْثِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فِي كَهْفِهِمْ فَقَالَ أُجِيبُكُمْ غَدًا فَتَأَخَّرَ الْوَحْيُ بِضْعَةَ عَشْرَ يَوْمًا ثُمَّ نَزَلَ {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24]

لَكِنَّ الثَّانِيَ أَكَّدَهُ بِمَا قَطَعَ الِاحْتِمَالَ أَوْ مَجْهُولًا كَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُجْمَلِ. الثَّانِي بَيَانُ تَفْسِيرٍ وَالْأَوَّلُ بَيَانُ تَقْرِيرٍ فَبَيَانُ التَّقْرِيرِ وَالتَّفْسِيرِ يَجُوزُ لِلْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ دُونَ التَّغْيِيرِ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ، فَلَا يُغَيِّرُهُ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ فَبَيَانُ التَّقْرِيرِ وَالتَّفْسِيرِ يَجُوزُ مَوْصُولًا، وَمُتَرَاخِيًا اتِّفَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ لَا يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا إلَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» الْحَدِيثَ) . جَاءَ بِرِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ لْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ» وَالْأُخْرَى «فَلْيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ لْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» وَجْهُ التَّمَسُّكِ لَنَا أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَدْ صَحَّ انْفِصَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَنْ قَوْلِهِ: «أُجِيبُكُمْ غَدًا» بِأَيَّامٍ. فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ السُّكُوتَ الْعَارِضَ يُحْمَلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَحْوِ تَنَفُّسٍ أَوْ سُعَالٍ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنْ شَاءَ اللَّهُ» لَا يَلْزَمُ أَنْ يَعُودَ إلَى قَوْلِهِ: «غَدًا أُجِيبُكُمْ» بَلْ مَعْنَاهُ أَفْعَلُ ذَلِكَ أَيْ: أُعَلِّقُ كُلَّ مَا أَقُولُ لَهُ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ اللَّهُ كَمَا يُقَالُ لَك افْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَتَقُولُ: إنْ شَاءَ اللَّهُ فَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يَصِحُّ دَعْوَى نِيَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْهُ. وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ مِنْ جَوَازِ اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَائِيَّة وَإِنْ لَمْ تَقَعْ تَلَفُّظًا، فَإِنْ قِيلَ بَيَانُ التَّغْيِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ الِاتِّصَالِ مُشْتَمِلٌ عَلَى إثْبَاتِ شَيْءٍ وَنَفْيِهِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ تَغْيِيرًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْمِلُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ ذَلِكَ التَّنَافِي وَذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَجْعَلُ الْمَجْمُوعَ كَلَامًا وَاحِدًا مُوجِبًا لِلْحُكْمِ عَلَى تَقْدِيرِ الشَّرْطِ أَوْ الصِّفَةِ مَثَلًا وَسَاكِتًا عَنْ ثُبُوتِهِ وَنَفْيِهِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهِ حَتَّى لَوْ ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ ثَبَتَ، وَلَوْ انْتَفَى انْتَفَى بِنَاءً عَلَى عَدَمِ دَلِيلِ الثُّبُوتِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى التَّغْيِيرِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ قُلْتُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُفْهَمُ الْإِطْلَاقُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ ذِكْرِ الْمُغَيِّرِ فَبَعْدَ ذِكْرِهِ تَغَيَّرَ الْمُرَادُ الَّذِي كَانَ يَفْهَمُهُ السَّامِعُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُغَيِّرِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ جَمِيعُ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ التَّغْيِيرِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ كَانَ أَوَّلًا لِلْإِيجَابِ وَبَعْدَ الْبَيَانِ صَارَ تَصَرُّفَ يَمِينٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي بَعْضِ صُوَرِ الشَّرْطِ لَا غَيْرُ. (قَوْلُهُ: وَاخْتُلِفَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ) أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا أَمْ لَا وَذَكَرَ الْمُسْتَقِلَّ لِلتَّحْقِيقِ وَالتَّوْضِيحِ دُونَ التَّقْيِيدِ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْكَلَامِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُسْتَقِلِّ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ قَصْرِ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِكَلَامٍ مُتَرَاخٍ عَنْهُ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ تَخْصِيصٌ حَتَّى يَصِيرَ الْعَامُّ فِي الْبَاقِي ظَنِّيًّا أَوْ نَسْخٌ حَتَّى يَبْقَى قَطْعِيًّا بِنَاءً عَلَى أَنَّ

النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ، وَلَوْ جَازَ بَيَانُ التَّغْيِيرِ مُتَرَاخِيًا لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ أَصْلًا لِجَوَازِ أَنْ يَقُولَ: مُتَرَاخِيًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيَبْطُلُ يَمِينُهُ، وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ. (وَطَرِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُ التَّنَاقُضُ فَقُلْنَا الْكَلَامُ إذَا تَعَقَّبَهُ مُغَيِّرٌ تَوَقَّفَ عَلَى الْآخَرِ فَيَصِيرُ الْمَجْمُوعُ كَلَامًا وَاحِدًا كَمَا ذُكِرَ فِي الشَّرْطِ) أَيْ: فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ كَلَامٌ وَاحِدٌ أَوْجَبَ الْحُكْمَ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَهُوَ سَاكِتٌ عَنْ غَيْرِهِ. (وَاخْتُلِفَ فِي التَّخْصِيصِ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا، وَعِنْدَنَا لَا بَلْ يَكُونُ نَسْخًا) أَيْ: الْمُتَرَاخِي لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا بَلْ يَكُونُ نَسْخًا. (لَهُ قِصَّةُ الْبَقَرَةِ) أَيْ: قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] يَعُمُّ الصَّفْرَاءَ وَغَيْرَهَا ثُمَّ خُصَّ مُتَرَاخِيًا وَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بَقَرَةٌ مَخْصُوصَةٌ (وقَوْله تَعَالَى {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] فِي قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27] «وقَوْله تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ـــــــــــــــــــــــــــــQدَلِيلَ النَّسْخِ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيلَ، وَقَدْ نَبَّهْتُ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الِاسْتِقْلَالِ، وَالْمُقَارَنَةِ فِي التَّخْصِيصِ مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ مَعَ أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي التَّخْصِيصِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إنَّمَا هِيَ الِاسْتِثْنَاءُ، وَالشَّرْطُ، وَالصِّفَةُ، وَالْغَايَةُ، وَيَدُلُّ الْبَعْضُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ لَهُمْ الْجَرْيُ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ لِتَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّ الْعَامَّ إذَا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ صَارَ ظَنِّيًّا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَالْقِيَاسِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ مُقَارِنٍ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ ثُمَّ الْخِلَافُ فِي جَوَازِ التَّرَاخِي جَارٍ فِي كُلِّ ظَاهِرٍ يُسْتَعْمَلُ فِي خِلَافِهِ كَالْمُطْلَقِ فِي الْمُقَيَّدِ، وَالنَّكِرَةِ فِي الْمُعَيَّنِ وَلِهَذَا صَحَّ اسْتِدْلَالُ الشَّافِعِيَّةِ بِقِصَّةِ الْبَقَرَةِ، وَإِلَّا فَلَفْظُ بَقَرَةٍ نَكِرَةٌ فِي الْإِثْبَاتِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ الْعُمُومِ فِي شَيْءٍ. وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَعَ أَنَّ اللَّفْظَ مُطْلَقٌ وَرَدَ بَيَانُهُ مُتَرَاخِيًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمْ أُمِرُوا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة: 69] لِلْبَقَرَةِ الْمَأْمُورِ بِذَبْحِهَا وَلِلْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمَرُوا ثَانِيًا بِمُتَجَدِّدٍ وَبِأَنَّ الِامْتِثَالَ إنَّمَا حَصَلَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَالْجَوَابُ مَنْعُ ذَلِكَ بَلْ الْمَأْمُورُ بِذَبْحِهَا كَانَتْ بَقَرَةً مُطْلَقَةً عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ رَئِيسُ الْمُفَسِّرِينَ لَوْ ذَبَحُوا أَدْنَى بَقَرَةٍ لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ. وَقَدْ دَلَّ قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى الْفِعْلِ، وَأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ التَّعْيِينِ كَانَ تَعَنُّتًا وَتَعَلُّلًا ثُمَّ نَسَخَ الْأَمْرَ بِالْمُطْلَقِ، وَأَمَرَ بِالْمُعَيَّنِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى النَّسْخِ قَبْلَ الِاعْتِقَادِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ جَمِيعًا إذْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ الْعِلْمُ بِالْوَاجِبِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَالْبَيَانِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الْوَاجِبَ بَقَرَةٌ مُطْلَقَةٌ، وَإِطْلَاقُ اللَّفْظِ كَافٍ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَالتَّرَدُّدُ إنَّمَا وَقَعَ فِي التَّفْصِيلِ، وَالتَّعْيِينِ. (قَوْلُهُ: فِي قَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَاسْلُكْ)

نُقِلَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَأَنْتَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ وَبَنُو مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا بَلْ هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] » يَعْنِي عُزَيْرًا وَعِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ. (خُصَّتَا مُتَرَاخِيًا) أَيْ: خُصَّتْ الْآيَتَانِ تَخْصِيصًا مُتَرَاخِيًا، وَهُمَا قَوْله تَعَالَى {وَأَهْلَكَ} [هود: 40] وقَوْله تَعَالَى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] (بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101] قُلْنَا فِي قِصَّةِ الْبَقَرَةِ نُسِخَ الْإِطْلَاقُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ يَجُوزُ ذَبْحُ أَيِّ بَقَرَةٍ شَاءُوا ثُمَّ نُسِخَ هَذَا، وَالْأَهْلُ لَمْ يَكُنْ مُتَنَاوِلًا لِلِابْنِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَتَّبِعُ الرَّسُولَ لَا يَكُونُ أَهْلًا لَهُ، وَلَوْ سَلَّمْنَا تَنَاوُلَهُ لَكِنْ اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَنْ سَبَقَ} [هود: 40] فَإِنْ أُرِيدَ بِالْأَهْلِ الْأَهْلُ قَرَابَةً حَتَّى يَشْمَلَ الِابْنَ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَقَوْلُهُ: {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أَيْ: مِنْ الْأَهْلِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَإِنْ أُرِيدَ الْأَهْلُ إيمَانًا فَاسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْأَهْلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَهْلُ إيمَانًا أَوْ الْأَهْلُ قَرَابَةً فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْأَوَّلُ لَا يَتَنَاوَلُ الِابْنَ؛ لِأَنَّهُ كَافِرٌ فَالِاسْتِثْنَاءُ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] عَلَى هَذَا مُنْقَطِعٌ وقَوْله تَعَالَى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِعَدَمِ تَنَاوُلِ الْأَهْلِ الِابْنَ الْكَافِرَ. وَإِنْ أُرِيدَ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ: أَدْخِلْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ الْحَيَوَانِ ذَكَرًا وَأُنْثَى، وَأَدْخِلْ فِيهَا نِسَاءَكَ، وَأَوْلَادَك ثُمَّ خَصَّ ابْنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] . (قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ) فَذَهَبَ الْبَعْضُ وَجُمْهُورُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهَا تَعُمُّ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ لَمَا أَوْرَدَ ابْنُ الزِّبَعْرَى هَذَا السُّؤَالَ، وَهُوَ مِنْ الْفُصَحَاءِ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ وَلَمَا سَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَخْطِئَتِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا أَوْرَدَهُ تَعَنُّتًا بِطَرِيقِ الْمَجَازِ أَوْ التَّغْلِيبِ فَإِنَّ أَكْثَرَ مَعْبُودَاتِهِمْ الْبَاطِلَةِ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْعُقُولِ فَغَلَّبَ جَانِبَ الْكَثْرَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّغْلِيبَ أَيْضًا نَوْعٌ مِنْ الْمَجَازِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ «مَا أَجْهَلَكَ بِلُغَةِ قَوْمِكَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا لِمَا لَا يَعْقِلُ» فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101] لِدَفْعِ احْتِمَالِ الْمَجَازِ لَا لِتَخْصِيصِ الْعَامِّ. (قَوْلُهُ: وَأَصْحَابُنَا قَالُوا) إنَّ الْخِلَافَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْمُسْتَقِلِّ بَيَانُ تَغْيِيرٍ عِنْدَنَا وَبَيَانُ تَفْسِيرٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثُمَّ رَدُّ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ التَّخْصِيصِ بِالْمُسْتَقِلِّ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَيَانُ تَفْسِيرٍ، وَإِنَّمَا افْتَرَقَا فِي جَوَازِ التَّرَاخِي بِنَاءً عَلَى الِاسْتِقْلَالِ، وَعَدَمِهِ، وَأَقْوَالُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ الْمُسْتَقِلِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُخَصِّصَاتِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ مَجْمُوعُ الْأَفْرَادِ.

[فصل في الاستثناء]

الثَّانِي أَيْ: الْأَهْلُ قَرَابَةً يَتَنَاوَلُ الِابْنَ لَكِنْ اُسْتُثْنِيَ الِابْنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] فَخَرَجَ الِابْنُ بِالِاسْتِثْنَاءِ لَا بِالتَّخْصِيصِ الْمُتَرَاخِي لِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أَيْ: مِنْ الْأَهْلِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، وَالْمُرَادُ بِسَبْقِ الْقَوْلِ مَا وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِهْلَاكِ الْكُفَّارِ. (وقَوْله تَعَالَى {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98] لَمْ يَتَنَاوَلْ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَقِيقَةً) ؛ لِأَنَّ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ (وَإِنَّمَا أَوْرَدَهُ تَعَنُّتًا بِالْمَجَازِ أَوْ التَّغْلِيبِ فَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ} [الأنبياء: 101] لِدَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَأَصْحَابُنَا قَالُوا كُلُّ مَا هُوَ تَفْسِيرٌ يَصِحُّ مُتَرَاخِيًا اتِّفَاقًا، وَمَا هُوَ تَغْيِيرٌ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا اتِّفَاقًا كَالِاسْتِثْنَاءِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّخْصِيصِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عِنْدَنَا بَيَانُ تَغْيِيرٍ، وَعِنْدَهُ بَيَانُ تَفْسِيرٍ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْعَامَّ عِنْدَهُ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ، فَيَحْتَمِلُ الْكُلَّ وَالْبَعْضَ فَبَيَانُ إرَادَةِ الْبَعْضِ يَكُونُ تَفْسِيرًا فَيَصِحُّ مُتَرَاخِيًا كَبَيَانِ الْمُجْمَلِ وَعِنْدَنَا قَطْعِيٌّ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ تَغْيِيرَ مُوجَبِهِ) . أَقُولُ لَا فَرْقَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَامَّ مُحْتَمِلٌ عِنْدَهُ فَعَلَى هَذَا كِلَاهُمَا يَكُونَانِ تَفْسِيرًا عِنْدَهُ لَكِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ لَا بُدَّ مِنْ اتِّصَالِهِ وَالتَّخْصِيصَ مُسْتَقِلٌّ فَيَجُوزُ فِيهِ التَّرَاخِي وَعِنْدَنَا كِلَاهُمَا تَغْيِيرٌ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا مَوْصُولًا. (فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ) ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الثَّنْيِ يُقَالُ: ثَنَى عَنَانَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَكِنْ لَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ إلَّا بَعْدَ إخْرَاجِ الْبَعْضِ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ التَّخْصِيصِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَيَانٌ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضُ [فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ) قَدْ اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ حَقِيقَةٌ فِي الْمُتَّصِلِ مَجَازٌ فِي الْمُنْقَطِعِ وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ صِيَغُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا لَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ فَحَقِيقَةٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ فِي الْقِسْمَيْنِ بِلَا نِزَاعٍ فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَسَّمَ أَوَّلًا إلَى الْقِسْمَيْنِ ثُمَّ يُعَرَّفَ كُلٌّ عَلَى حِدَةٍ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَهَبَ إلَى أَنَّ لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ مَجَازٌ فِي الْمُنْقَطِعِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَقْسَامِ الِاسْتِثْنَاءِ ثُمَّ الْمُتَعَارَفُ فِي عِبَارَةِ الْقَوْمِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هُوَ الْإِخْرَاجُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِإِلَّا، وَأَخَوَاتِهَا، وَعَدَلَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ ذَلِكَ إلَى الْمَنْعِ عَنْ الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ الْإِخْرَاجُ عَنْ الْحُكْمِ فَالْبَعْضُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ حَتَّى يَخْرُجَ، وَإِنْ أُرِيدَ الْإِخْرَاجُ عَنْ تَنَاوُلِ اللَّفْظِ إيَّاهُ وَانْفِهَامِهِ مِنْ اللَّفْظِ، فَلَا إخْرَاجَ؛ لِأَنَّ التَّنَاوُلَ بَاقٍ بَعْدُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِخْرَاجِ الْمَنْعُ عَنْ الدُّخُولِ فَهُوَ مَجَازٌ يَجِبُ صِيَانَةُ الْحُدُودِ عَنْهُ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ تَعْرِيفَاتِ الْأَدَاءِ مَشْحُونَةٌ بِالْمَجَازِ عَلَى أَنَّ الدُّخُولَ، وَالْخُرُوجَ هَاهُنَا مَجَازٌ أَلْبَتَّةَ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الْحَرَكَةُ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ، وَالْمَخْرُوجُ بِالْعَكْسِ. (قَوْلُهُ: بِإِلَّا، وَأَخَوَاتِهَا) احْتِرَازٌ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ التَّخْصِيصِ أَعَنَى الشَّرْطَ، وَالصِّفَةَ، وَالْغَايَةَ وَبَدَلَ الْبَعْضِ، وَالتَّخْصِيصَ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِطْلَاقَ التَّخْصِيصِ عَلَى الْجَمِيعِ بِاعْتِبَارَاتِهَا قَصْرٌ لِلْعُمُومِ وَنَقْضٌ لِلشُّيُوعِ عَلَى مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الشَّافِعِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ يَدْخُلُ

فَرَسِهِ إذَا مَنَعَهُ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الصَّوْبِ الَّذِي هُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهِ اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَسَّمُوا الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ ثُمَّ عَرَّفُوا كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ بِهِ لَكِنِّي لَمْ أَفْعَلْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمُتَّصِلُ، وَإِنَّمَا الْمُنْقَطِعُ يُسَمَّى اسْتِثْنَاءً بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلَمْ أَجْعَلْ الْمُنْقَطِعَ قِسْمًا مِنْهُ لَكِنْ أَوْرَدْتُهُ فِي ذُنَابَةِ (الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ الْمَنْعُ عَنْ دُخُولِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ) . أَيْ: فِي حُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ، وَفِي مُتَعَلِّقٍ بِالدُّخُولِ، وَقَوْلُهُ: بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ لِيُخْرِجَ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُسْتَغْرَقَ. (بِإِلَّا، وَأَخَوَاتِهَا) مُتَعَلِّقٌ بِالْمَنْعِ، وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ سَائِرِ التَّخْصِيصَاتِ، وَهَذَا تَعْرِيفٌ تَفَرَّدْتُ بِهِ، وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ سَائِرِ التَّعْرِيفَاتِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَالَ هُوَ إخْرَاجٌ بِإِلَّا وَأَخَوَاتِهَا إنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الْإِخْرَاجِ فَمُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحُكْمِ فَيَكُونَ تَنَاقُضًا وَالِاسْتِثْنَاءُ وَاقِعٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ قَبْلَ الْحُكْمِ وَحَقِيقَةُ الْإِخْرَاجِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ وَالْمُسْتَثْنَى غَيْرُ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ، فَيَمْتَنِعُ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَثْنَى دَاخِلٌ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ التَّنَاوُلُ أَيْ: مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفْهَمُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ صَدْرِ الْكَلَامِ وَضْعًا وَالْإِخْرَاجُ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ التَّنَاوُلُ؛ لِأَنَّ التَّنَاوُلَ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ بَاقٍ فَعُلِمَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِخْرَاجِ غَيْرُ مُرَادَةٍ عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ. فَعُلِمَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي التَّعْرِيفِ الْوَصْفُ بِإِلَّا وَغَيْرِ وَسِوَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ قُلْنَا إنْ تَحَقَّقَ تَنَاوُلُ صَدْرِ الْكَلَامِ، وَعُمُومِهِ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ، وَإِلَّا، فَلَا انْتِقَاضَ لِعَدَمِ التَّنَاوُلِ. (قَوْلُهُ: قَالُوا) تَحْقِيقُ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ بَيَانَ تَغْيِيرٍ أَمَّا التَّغْيِيرُ فَبِالنَّظَرِ إلَى شُمُولِ الْحُكْمِ لِلْجَمِيعِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا الْبَيَانُ فَبِالنَّظَرِ إلَى أَنَّهُ إظْهَارُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ أَرَادَ الْبَعْضَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، وَلَيْسَ مُخْتَارًا عِنْدَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: مُوجَبُ الْكَلَامِ بِدُونِ الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الثُّبُوتُ لِلْكُلِّ فَغُيِّرَ إلَى الثُّبُوتِ لِلْبَعْضِ وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ لِلْبَعْضِ، وَقَالَ فِي التَّقْوِيمِ هُوَ تَغْيِيرٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ رَفْعُ الْبَعْضِ، وَبَيَانٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَرَّرَ الْبَاقِي (قَوْلُهُ: وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَمَلِهِ) قَدْ سَبَقَ إلَى الْفَهْمِ أَنَّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ تَنَاقُضًا مِنْ حَيْثُ إنَّ قَوْلَكَ لِزَيْدٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً إثْبَاتٌ لِلثَّلَاثَةِ فِي ضِمْنِ الْعَشَرَةِ وَنَفْيٌ لَهَا صَرِيحًا فَاضْطُرُّوا إلَى بَيَانِ كَيْفِيَّةِ عَمَلِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرِدُ ذَلِكَ، وَحَاصِلُ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ أَنَّ الْعَشَرَةَ مَجَازٌ عَنْ السَّبْعَةِ، وَإِلَّا ثَلَاثَةً قَرِينَةٌ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِعَشْرَةٍ مَعْنَاهَا أَيْ: عَشْرَةُ أَفْرَادٍ فَيَتَنَاوَلُ السَّبْعَةَ، وَالثَّلَاثَةَ مَعًا ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْهَا ثَلَاثَةً حَتَّى بَقِيَتْ سَبْعَةٌ ثُمَّ أَسْنَدَ الْحُكْمَ إلَى الْعَشَرَةِ الْمُخْرَجِ مِنْهَا الثَّلَاثَةُ فَلَمْ يَقَعْ الْإِسْنَادُ إلَّا عَلَى سَبْعَةٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَجْمُوعَ أَعْنِي عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ سَبْعَةٍ حَتَّى كَأَنَّهُ وُضِعَ لَهَا اسْمَانِ مُفْرَدٌ هُوَ سَبْعَةٌ وَمُرَكَّبٌ هُوَ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً. (قَوْلُهُ: مَعَ فَرْقٍ آخَرَ) هَذِهِ مَسْأَلَةُ

أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِخْرَاجِ الْمَنْعُ مِنْ الدُّخُولِ مَجَازًا، وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْحُدُودِ فَالتَّعْرِيفُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ أَوْلَى (قَالُوا هُوَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يُغَيَّرُ مُوجَبُ صَدْرِ الْكَلَامِ إذْ لَوْلَاهُ لَشَمِلَ الْكُلَّ، وَمَعَ ذَلِكَ إنَّهُ بَيَانٌ لِمَعْنَى الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْبَعْضُ بِخِلَافِ النَّسْخِ فَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ مَحْضٌ لِمَعْنَى الْكَلَامِ) . (وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ عَمَلِهِ فَفِي قَوْلِهِ: عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أَطْلَقَ الْعَشَرَةَ عَلَى السَّبْعَةِ فَحِينَئِذٍ قَوْلُهُ: إلَّا ثَلَاثَةً يَكُونُ بَيَانًا لِهَذَا فَهُوَ كَمَا قَالَ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا فَيَكُونُ كَالتَّخْصِيصِ بِالْمُسْتَقِلِّ) فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَارِدٌ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ، وَالْحُكْمُ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ مُخَالِفٌ لِلْحُكْمِ فِي الْبَعْضِ الْأَوَّلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَلَامٌ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ، وَالتَّخْصِيصُ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ وَعِنْدَنَا هَذَا الْفَرْقُ ثَابِتٌ بَيْنَهُمَا مَعَ فَرْقٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدْرِ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ، وَهُوَ أَنَّ الْعَشَرَةَ يُرَادُ بِهَا السَّبْعَةُ إلَخْ هُوَ مَا قَالَ مَشَايِخُنَا: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ مِثْلَ دَلِيلِ الْخُصُوصِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُعَارَضَةِ أَنْ يُثْبِتَ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ. وَإِنَّمَا قُلْتُ: إنَّ مُرَادَهُمْ بِالْمَنْعِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ هَذَا الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ عَنْهُ أَنَّ الْأَلْفَ اسْمُ عَلَمٍ لِلْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ لَا يَقَعُ عَلَى غَيْرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ هَلْ هُوَ نَفْيٌ أَمْ لَا فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَعَمْ حَتَّى يَكُونُ مَعْنَى إلَّا ثَلَاثَةً أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيَّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا حَتَّى يَكُونُ مَعْنَاهُ عَدَمَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ الثَّلَاثَةِ، وَجَعْلُهَا فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ لَا إثْبَاتٌ، وَلَا نَفْيٌ بِخِلَافِ التَّخْصِيصِ بِالْمُسْتَقِلِّ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ اتِّفَاقًا. (قَوْلُهُ: وَهَذَا الْمَذْهَبُ) ذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الْبَيَانِ بِمَعْنَى الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْبَعْضَ غَيْرُ ثَابِتٍ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى كَأَنَّهُ قِيلَ: عَلَيَّ سَبْعَةٌ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ التَّكَلُّمُ بِالْعَشَرَةِ فِي حَقِّ لُزُومِ الثَّلَاثَةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْكَلَامِ بِجَعْلِهِ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ بِمَعْنَى أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ إيقَاعٌ لِلْكُلِّ لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ، وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ الدَّالُّ عَلَى النَّفْيِ عَنْ الْبَعْضِ حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ إلَّا ثَلَاثَةً فَإِنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيَّ، فَلَا يَلْزَمُهُ الثَّلَاثَةُ لِلدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لِأَوَّلِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفًا فِي الْحُكْمِ فَأَجَابُوا بِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ بَعْدَ مَا انْعَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَمَا فِي التَّخْصِيصِ. وَقَدْ لَا يَنْعَقِدُ بِحُكْمِهِ كَمَا فِي طَلَاقِ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ إلْحَاقَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالثَّانِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعَشَرَةَ بَلْ السَّبْعَةَ فَقَطْ لَزِمَ إثْبَاتُ مَا لَيْسَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ إذْ السَّبْعَةُ لَا تَصْلُحُ مُسَمًّى لِلَفْظِ الْعَشَرَةِ لَا حَقِيقَةً، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا مَجَازًا إلَّا أَنَّ اسْمَ الْعَدَدِ نَصٌّ فِي

وَلَا يَحْتَمِلُهُ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى تِسْعُمِائَةٍ أَلْفًا بِخِلَافِ دَلِيلِ الْخُصُوصِ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا خُصَّ مِنْهُمْ نَوْعٌ كَانَ الِاسْمُ وَاقِعًا عَلَى الْبَاقِي بِلَا خَلَلٍ، وَهَذَا الْكَلَامُ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْمُرَادَ بِالْعَشَرَةِ هُوَ السَّبْعَةُ أَوْ أَطْلَقَ الْعَشَرَةَ عَلَى عَشْرَةِ أَفْرَادٍ ثُمَّ أَخْرَجَ ثَلَاثَةً بَعْدَ الْحُكْمِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ، وَإِنْكَارٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ، وَلَا أَظُنُّهُ مَذْهَبَ أَحَدٍ أَوْ قَبْلَهُ ثُمَّ حَكَمَ عَلَى الْبَاقِي أَوْ أَطْلَقَ عَشْرَةً إلَّا ثَلَاثَةً عَلَى السَّبْعَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ سَبْعَةٌ فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ (فَعَلَى هَذَيْنِ) أَيْ: عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ (يَكُونُ) أَيْ: الِاسْتِثْنَاءُ (تَكَلُّمًا بِالْبَاقِي) فِي صَدْرِ الْكَلَامِ (بَعْدَ الثُّنْيَا) أَيْ: الْمُسْتَثْنَى فَفِي قَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً صَدْرُ الْكَلَامِ عَشْرَةٌ، وَالثُّنْيَا ثَلَاثَةٌ، وَالْبَاقِي فِي صَدْرِ الْكَلَامِ بَعْدَ الْمُسْتَثْنَى سَبْعَةٌ فَكَأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالسَّبْعَةِ، وَقَالَ لَهُ عَلَيَّ سَبْعَةٌ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْأَخِيرَيْنِ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا أَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ فَلِأَنَّ عَشْرَةً إلَّا ثَلَاثَةً مَوْضُوعَةٌ لِلسَّبْعَةِ فَيَكُونُ تَكَلُّمًا بِالسَّبْعَةِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ أَخْرَجَ الثَّلَاثَةَ قَبْلَ الْحُكْمِ مِنْ أَفْرَادِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ حَكَمَ عَلَى السَّبْعَةِ فَالتَّكَلُّمُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ يَكُونُ بِالسَّبْعَةِ أَيْ: يَكُونُ الْحُكْمُ عَلَى السَّبْعَةِ فَقَطْ لَا عَلَى الثَّلَاثَةِ لَا بِالنَّفْيِ، وَلَا بِالْإِثْبَاتِ. (إلَّا أَنَّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ يَكُونُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَدَدِيًّا كَالتَّخْصِيصِ بِالْعَلَمِ، وَفِي غَيْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَدْلُولِهِ لَا يُحْتَمَلُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمَجَازُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَرْجُوحًا. فَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِكَوْنِهِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ هُوَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَدْرِ الْبَاقِي مَجَازًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ قَرِينَةٌ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْمِفْتَاحِ حَيْثُ قَالَ: إنَّ اسْتِعْمَالَ الْمُتَكَلِّمِ لِلْعَشْرَةِ فِي التِّسْعَةِ مَجَازٌ، وَإِلَّا وَاحِدًا قَرِينَةُ الْمَجَازِ. (قَوْلُهُ: أَوْ قَبْلَهُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: بَعْدَ الْحُكْمِ أَيْ: أَطْلَقَ الْعَشَرَةَ عَلَى عَشْرَةِ أَفْرَادٍ ثُمَّ أَخْرَجَ ثَلَاثَةً قَبْلَ الْحُكْمِ ثُمَّ حَكَمَ عَلَى الْبَاقِي مِنْ الْعَشَرَةِ، وَهُوَ السَّبْعَةُ. (قَوْلُهُ: حُجَّتُهُ) قَدْ احْتَجَّ الذَّاهِبُونَ إلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِعَشْرَةٍ كَمَالُهَا أَوْ سَبْعَةٌ إذْ لَا ثَالِثَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ إلَّا بِسَبْعَةٍ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ عَشْرَةً بِكَمَالِهَا لَامْتَنَعَ مِنْ الصَّادِقِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] لِمَا يَلْزَمُ مِنْ إثْبَاتِ لَبْثِ خَمْسِينَ وَنَفْيِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ الْكُلُّ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بَعْدَ إخْرَاجِ الْبَعْضِ إذْ الْكَلَامُ يَتِمُّ بِآخِرِهِ، فَلَا فَسَادَ، وَقَدْ أَوْرَدَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثَلَاثَ حُجَجٍ مِنْ قِبَلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ دُونَ الْبَيَانِ. وَلَمَّا ذَهَبَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ مَعْنَاهُ الْقَوْلُ بِالْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ جَعَلَهَا حُجَجًا عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ. تَقْرِيرُ الْأُولَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى جَعْلِ الْمُسْتَثْنَى فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ إعْدَامَ التَّكَلُّمِ أَيْ: الْقَوْلُ بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ الْمَوْجُودِ حَقِيقَةً غَيْرُ

الْعَدَدِيِّ كَالتَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ كَأَنَّهُ قَالَ جَاءَنِي زَيْدٌ) لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى كِلَيْهِمَا تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْفَرْقَ الَّذِي بَيْنَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إذَا كَانَ عَدَدِيًّا كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَهُ عَلَيَّ سَبْعَةٌ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدْرِ كَالتَّخْصِيصِ بِالْعَلَمِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَدَدِيٍّ كَجَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا فَهُوَ كَقَوْلِهِ: جَاءَنِي مِنْ الْقَوْمِ غَيْرُ زَيْدٍ فَيَكُونُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدْرِ كَالتَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ زَيْدٍ صِفَةٌ، فَلَا فَرْقَ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ عَدَدِيٍّ بَيْنَ إلَّا وَغَيْرِ صِفَةً. (وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي آكَدُ مِنْ هَذَا) أَيْ: الْمَذْهَبِ الثَّانِي هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَشَرَةِ عَشَرَةُ أَفْرَادٌ، وَالْإِخْرَاجُ قَبْلَ الْحُكْمِ فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ آكَدُ فِي دَلَالَتِهِ عَلَى كَوْنِ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدْرِ مِنْ التَّخْصِيصِ بِالْعَلَمِ وَالْوَصْفِ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُمَا. (لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَجْمُوعِ أَوَّلًا ثُمَّ إخْرَاجَ الْبَعْضِ ثُمَّ الْإِسْنَادَ إلَى الْبَاقِي يُشِيرُ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى خِلَافُ حُكْمِ الصَّدْرِ بِخِلَافِ جَاءَنِي غَيْرُ زَيْدٍ وَعَلَى الْأَوَّلِ) أَيْ: عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ (يَكُونُ إثْبَاتًا وَنَفْيًا بِالْمَنْطُوقِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْقُولٍ بَلْ هُوَ إنْكَارٌ لِلْحَقَائِقِ بِخِلَافِ وُجُودِ التَّكَلُّمِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ أَيْ: الْأَثَرِ الثَّابِتِ بِهِ بِنَاءً عَلَى مَانِعٍ فَإِنَّهُ شَائِعٌ مُسْتَفِيضٌ كَالْعَامِّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يَمْتَنِعُ حُكْمُهُ فِي الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ فَهَاهُنَا يَثْبُتُ التَّكَلُّمُ بِالْكُلِّ، وَيَنْعَقِدُ الْكَلَامُ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْحُكْمُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى لِوُجُودِ الْمُعَارِضِ، وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ. وَتَقْرِيرُ الثَّانِيَةِ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الصَّدْرِ فَيَكُونُ مُعَارِضًا لَهُ لَا فِي حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَتَقْرِيرُ الثَّالِثَةِ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةُ تَوْحِيدٍ أَيْ: إقْرَارٍ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَإِثْبَاتِهِ حُكْمًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الصَّدْرِ لَمَا لَزِمَ الْإِقْرَارُ بِوُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ بِنَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ مَا سِوَاهُ، وَالتَّوْحِيدُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَنَفْيِهَا عَمَّا سِوَاهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ دَهْرِيٌّ، مُنْكِرٌ لِوُجُودِ الصَّانِعِ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ وَرُجُوعِهِ عَنْ مُعْتَقَدِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ حُكْمٍ مُخَالِفٍ لِلصَّدْرِ هَذَا تَقْرِيرُ الْحُجَجِ عَلَى وَفْقِ مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ احْتِجَاجًا بِهَا عَلَى أَنَّ عَمَلَ الِاسْتِثْنَاءِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَأَنَّهُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَبِالْعَكْسِ. وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ حُجَجًا عَلَى إثْبَاتِهِ، وَأَيْضًا أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ

أَيْ: يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ جُمْلَتَيْنِ إحْدَاهُمَا مُثْبَتَةٌ، وَالْأُخْرَى مَنْفِيَّةٌ، وَالْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ يَكُونَانِ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ لَا الْمَفْهُومِ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ يَكُونُ كَالتَّخْصِيصِ بِالْعَلَمِ أَوْ الْوَصْفِ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُمَا عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُمَا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ يَكُونُ دَلَالَتُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومُ، وَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي يَكُونُ آكَدَ مِنْ هَذَا فَدَلَالَتُهُ عَلَى الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى تَكُونُ إشَارَةً لَا مَنْطُوقًا. (حُجَّتُهُ) أَيْ: حُجَّةُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ (أَنَّ وُجُودَ التَّكَلُّمِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ فِي الْبَعْضِ شَائِعٌ كَالتَّخْصِيصِ فَأَمَّا إعْدَامُ التَّكَلُّمِ الْمَوْجُودِ، فَلَا، وَإِجْمَاعُهُمْ) أَيْ: إجْمَاعُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ وُجُودَ التَّكَلُّمِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ فِي الْبَعْضِ شَائِعٌ. (عَلَى أَنَّهُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَبِالْعَكْسِ، وَأَيْضًا لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ تَوْحِيدًا تَامًّا فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْبَعْضَ يَلْزَمُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ مِنْ النِّصْفِ فِي اشْتَرَيْت الْجَارِيَةَ إلَّا النِّصْفَ أَوْ التَّسَلْسُلَ) هَذَا دَلِيلٌ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى نَفْيِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، وَإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُ وَلَمَّا وَجَدْتُهُ زَيْفًا أَوْرَدْتُهُ عَلَى طَرِيقِ الْإِشْكَالِ وَبَيَّنْت فَسَادَهُ وَتَوْجِيهُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ الْعَشَرَةِ سَبْعَةً كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ فَإِذَا قُلْت اشْتَرَيْت الْجَارِيَةَ إلَّا النِّصْفَ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْجَارِيَةِ النِّصْفَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنِّصْفِ الْمُسْتَثْنَى نِصْفَ الْجَارِيَةِ فَقَدْ اسْتَثْنَيْت نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِنْ نِصْفِ الْجَارِيَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا نَفْيٌ، وَالْآخَرُ إثْبَاتٌ بَلْ حُكْمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ أَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالصَّدْرِ بَعْدَ إخْرَاجِ الْبَعْضِ مِنْهُ، فَلَا حُكْمَ فِيهِ إلَّا عَلَى الْبَاقِي. وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ فَلِأَنَّ مَجْمُوعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمُسْتَثْنَى وَآلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي، وَلَا حُكْمَ إلَّا عَلَيْهِ هَذَا، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحُجَّةَ الْأُولَى لَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إعْدَامٌ لِلتَّكَلُّمِ بَلْ قَوْلٌ بِأَنَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً اسْمٌ لِلسَّبْعَةِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْعُدُولُ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْأَخْصَرِ إلَى التَّكَلُّمِ بِالْأَطْوَلِ. 1 - (قَوْلُهُ: فَإِنْ قِيلَ تَقْرِيرُ السُّؤَالِ) ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ وَتَوْجِيهِ الْجَوَابِ مَنْعُ الْمُلَازَمَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنِّصْفِ الْمُسْتَثْنَى نِصْفُ الْجَارِيَةِ لَزِمَ اسْتِثْنَاءُ نِصْفِ الْجَارِيَةِ مِنْ نِصْفِ الْجَارِيَةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ النِّصْفُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمُرَادِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمُتَنَاوِلِ أَيْ: مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، وَهُوَ الْجَارِيَةُ بِكَمَالِهَا عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ دُخُولِ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ صَدْرُ الْكَلَامِ فِي حُكْمِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ اللَّفْظُ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَنَاوَلُهُ بِحَسَبِ الِاسْتِعْمَالِ، وَقَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ لَا بِحَسَبِ الْوَضْعِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ الْحَقِيقِيِّ عَنْ اللَّفْظِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ إذَا كَانَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا مِثْلَ {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7] إلَّا أُصُولَهَا بِأَنْ يُرَادَ بِالْأَصَابِعِ الْأَنَامِلُ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا الْأُصُولُ عَلَى أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالنِّصْفِ الْمُسْتَثْنَى نِصْفَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْجَارِيَةِ فَالْمُرَادُ بِالْجَارِيَةِ كَانَ النِّصْفَ ثُمَّ نِصْفُ هَذَا النِّصْفِ مُسْتَثْنًى مِنْ النِّصْفِ. فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِيَةِ لَمْ يَكُنْ نِصْفًا بَلْ رُبْعًا وَالْمَفْرُوضُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى نِصْفُ مَا هُوَ الْمُرَادُ فَيَكُونُ نِصْفُ الرُّبْعِ مُسْتَثْنًى فَيَتَسَلْسَلُ هَذَا حِكَايَةُ مَا أَوْرَدَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْجَوَابُ الَّذِي خَطَرَ بِبَالِي هُوَ قَوْلُهُ:. (قُلْنَا هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْبَعْضُ لَا أَنَّ الْمُتَنَاوِلَ هُوَ الْبَعْضُ فَإِنَّ اللَّفْظَ مُتَنَاوِلٌ لِلْكُلِّ ثُمَّ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْمُتَنَاوَلِ لَا مِنْ الْمُرَادِ) أَيْ: الِاسْتِثْنَاءُ هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْبَعْضُ لَا أَنَّ الْمُتَنَاوِلَ هُوَ الْبَعْضُ فَإِنَّ اللَّفْظَ مُتَنَاوِلٌ لِلْكُلِّ ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الْمُتَنَاوِلِ إلَّا مِنْ الْمُرَادِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ النِّصْفِ مِنْ الْكُلِّ. (وَالْجَوَابُ) أَيْ: عَنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ (أَنَّ الْعَشَرَةَ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّ وُجُودَ التَّكَلُّمِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ فِي الْبَعْضِ شَائِعٌ. (لَفْظٌ خَاصٌّ لِلْعَدَدِ الْمُعَيَّنِ لَا عَامٌّ كَالْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَجُوزُ إرَادَةُ الْبَعْضِ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَمَا لَا يَجُوزُ بِالتَّخْصِيصِ، وَلَوْ صَحَّتْ مَجَازًا فَالْأَصْلُ عَدَمُهُ، وَقَوْلُهُمْ هُوَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَبِالْعَكْسِ مَجَازٌ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الصَّدْرِ لَا أَنَّهُ حُكِمَ عَلَيْهِ بِنَقِيضِ حُكْمِ الصَّدْرِ وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» هُوَ كَقَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ بِغَيْرِ طُهُورٍ» وَلَوْ كَانَ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا يَلْزَمُ صَلَاةٌ طَهُورٌ ثَابِتَةٌ فَيَصِحُّ كُلُّ صَلَاةٍ بِطَهُورٍ لِعُمُومِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ فَرْدٍ) وَقَوْلُهُمْ هُوَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ إلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ: وَإِجْمَاعُهُمْ، وَقَوْلُهُ: لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ أَيْ: عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَارِيَةِ نِصْفَهَا مَجَازًا، وَأَخْرَجَ النِّصْفَ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِحَسَبِ الْوَضْعِ، أَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ غَيَّرَ اعْتِرَاضَ ابْنِ الْحَاجِبِ هَرَبًا عَنْ إشْكَالِ الضَّمِيرِ وَتَقْرِيرُ اعْتِرَاضِهِ أَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ مَنْ قَالَ اشْتَرَيْت الْجَارِيَةَ إلَّا نِصْفَهَا لَمْ يُرِدْ بِالْجَارِيَةِ نِصْفَهَا، وَإِلَّا لَزِمَ اسْتِثْنَاءُ نِصْفِهَا مِنْ نِصْفِهَا، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا، وَأَيْضًا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ النِّصْفِ مِنْ الْجَارِيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ بِهَا النِّصْفُ، وَإِخْرَاجُ النِّصْفِ مِنْ النِّصْفِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ بِهِ الرُّبُعُ، وَإِخْرَاجُ النِّصْفِ مِنْ الرُّبْعِ يَقْتَضِي أَنْ يُرَادَ بِهِ الثُّمُنُ، وَهَكَذَا إلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ. وَأَيْضًا إنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الضَّمِيرَ يَعُودُ إلَى الْجَارِيَةِ بِكَمَالِهَا لَا إلَى نِصْفِهَا مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ مَدْلُولَ الْجَارِيَةِ وَضَمِيرَهَا وَاحِدٌ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُ أَنْ يُرَادَ بِالْجَارِيَةِ مَعْنَاهَا الْمَجَازِيُّ وَبِضَمِيرِهَا مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيُّ عَلَى عَكْسِ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي صَنْعَةِ الِاسْتِخْدَامِ. (قَوْلُهُ: وَالْجَوَابُ) أَجَابَ عَنْ الْحُجَّةِ الْأُولَى بِأَنَّ الْقَوْلَ بَلْ الِاسْتِثْنَاءَ يَعْمَلُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الْبَعْضُ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَهُوَ إذَا كَانَ اسْمَ عَدَدٍ فَإِنَّهُ لَفْظٌ خَاصٌّ فِي مَدْلُولِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَمِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ حَقِيقَةً، وَلَا مَجَازًا وَلَمَّا كَانَ هَذَا ضَعِيفًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ بِاعْتِبَارِ إطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ شَائِعٌ حَتَّى يَجْرِيَ فِي الْأَعْلَامِ بِأَنْ يُطْلَقَ زَيْدٌ

الْمُسْتَثْنَى، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا قَوْلَهُمْ عَلَى الْمَجَازِ؛ لِأَنَّا لَمَّا أَبْطَلْنَا الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ فَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ لَا بِالنَّفْيِ، وَلَا بِالْإِثْبَاتِ وَوَجْهُ الْمَجَازِ إطْلَاقُ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِنَقِيضِ حُكْمِ الصَّدْرِ أَخَصُّ مِنْ قَوْلِنَا حُكْمُ (الصَّدْرِ مُنْتَفٍ عَنْهُ وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا، وَهُوَ لَا صَلَاةَ) بِغَيْرِ طَهُورٍ، وَلَيْسَ هُوَ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ لَا صَلَاةَ ثَابِتَةً إلَّا صَلَاةٌ مُلْصَقَةٌ بِطَهُورٍ فَلَوْ كَانَ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا فَالْجُمْلَةُ الْإِثْبَاتِيَّةُ هِيَ صَلَاةٌ مُلْصَقَةٌ بِطَهُورٍ ثَابِتَةٌ، وَصَلَاةٌ مُلْصَقَةٌ بِطَهُورٍ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَهِيَ عَامَّةٌ لِعُمُومِ الصِّفَةِ عَلَى مَا دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي فَصْلِ الْعَامِّ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: كُلُّ صَلَاةٍ بِطَهُورٍ ثَابِتَةٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الشَّرَائِطَ الْأُخَرَ إنْ كَانَتْ مَفْقُودَةً وَالطَّهُورُ مَوْجُودًا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ، وَأَيْضًا صَدْرُ الْكَلَامِ يُوجِبُ السَّلْبَ الْكُلِّيَّ أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ جَائِزَةٍ ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ يَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ، وَإِلَّا يَلْزَمُ جَوَازُ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ بِلَا طَهُورٍ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَعَلِّقًا بِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا يَلْزَمُ تَعَلُّقُ الْإِثْبَاتِ بِكُلِّ وَاحِدٍ فَيَلْزَمُ كُلُّ صَلَاةٍ بِطَهُورٍ جَائِزَةٌ مَعْنَاهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيُرَادَ بَعْضُ أَعْضَائِهِ قَالَ وَلَوْ صَحَّتْ الْإِرَادَةُ مَجَازًا فَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَجَازِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَهَاهُنَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ الْكُلُّ، وَيَكُونَ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بَعْدَ إخْرَاجِ الْبَعْضِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى نَفْيِ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ، وَلَا بُدَّ فِي جَعْلِهِ جَوَابًا عَنْ الْحُجَّةِ الْأُولَى مِنْ تَكَلُّفٍ. وَأَجَابَ عَنْ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ قَوْلَ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ وَبِالْعَكْسِ مَجَازٌ لِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا أَيْ: يُسْتَخْرَجُ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا وَيُجْعَلُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنَى فَظَاهِرُ الْإِجْمَاعَيْنِ مُتَنَافٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَجَازِ، وَإِنَّمَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ هَذَا الْوَجْهِ لِضَعْفِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ الثَّانِي مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بِحَسْبِ وَضْعِهِ وَحَقِيقَتِهِ، وَإِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ بِحَسْبِ إشَارَتِهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ كَوْنَهُ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ كَصَدْرِ الْكَلَامِ إلَّا أَنَّ مُوجِبَ صَدْرِ الْكَلَامِ ثَابِتٌ قَصْدًا، وَكَوْنُ الِاسْتِثْنَاءِ نَفْيًا، وَإِثْبَاتًا ثَابِتٌ إشَارَةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِشَارَةِ ثَابِتٌ بِنَفْسِ الصِّيغَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السَّوْقُ لِأَجْلِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا وَبِالْعَكْسِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ دُونَ الْأَخِيرَيْنِ، وَقَدْ أَبْطَلْنَا الْمَذْهَبَ الْأَوَّلَ بِمَا سَبَقَ مِنْ الدَّلِيلِ فَبَطَلَ صِحَّةُ كَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا وَبِالْعَكْسِ

كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ غَيْرُ جَائِزَةٍ فِي حَالٍ إلَّا فِي حَالِ اقْتِرَانِهَا بِالطَّهُورِ فَالْجُمْلَةُ الْإِثْبَاتِيَّةُ قَوْلُنَا كُلُّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ جَائِزَةٌ فِي حَالِ اقْتِرَانِهَا بِالطَّهُورِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» يَشْكُلُ عَلَيْكُمْ لَا عَلَيْنَا؛ لِأَنَّكُمْ قَدْ ذَكَرْتُمْ فِي فَصْلِ الْعَامِّ أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَوْصُوفَةَ عَامَّةٌ لِعُمُومِ الصِّفَةِ وَأَوْرَدْتُمْ لِلْمِثَالِ لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا، لَهُ أَنْ يُجَالِسَ كُلَّ عَالِمٍ فَقَوْلُهُ: ـــــــــــــــــــــــــــــQفَوَجَبَ تَأْوِيلُ الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِهِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا وَبِالْعَكْسِ لَا يَصِحُّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ كَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» عَلَى مَا سَيَأْتِي وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا وَبِالْعَكْسِ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ، وَأَمَّا عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ، فَلَا حُكْمَ عَلَى الْمُسْتَثْنَى أَصْلًا لَا بِالنَّفْيِ، وَلَا بِالْإِثْبَاتِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ جُمْهُورَ الْقَائِلِينَ بِالْمَذْهَبِ الثَّانِي كَابْنِ الْحَاجِبِ وَغَيْرِهِ قَائِلُونَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَبِالْعَكْسِ بِمَعْنَى أَنَّهُ أُخْرِجَتْ مِنْ الْعَشَرَةِ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ تَعَلَّقَ بِالْعَشَرَةِ الْمُخْرَجِ مِنْهَا الثَّلَاثَةُ الْحُكْمُ بِالثُّبُوتِ وَبِالثَّلَاثَةِ الْحُكْمُ بِعَدَمِ الثُّبُوتِ. (قَوْلُهُ: وَوَجْهُ الْمَجَازِ) أَيْ: طَرِيقُ هَذَا الْمَجَازِ إطْلَاقُ الْأَخَصِّ عَلَى الْأَعَمِّ، وَالْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ حُكْمِ الصَّدْرِ لَازِمٌ لِلْحُكْمِ بِخِلَافِ حُكْمِ الصَّدْرِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا تَحَقَّقَ الْحُكْمُ بِنَقِيضِ حُكْمِ الصَّدْرِ انْتَفَى حُكْمُ الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» فَإِنَّ حُكْمَ الصَّدْرِ، وَهُوَ عَدَمُ الصِّحَّةِ مُنْتَفٍ عَنْ الصَّلَاةِ بِطُهُورٍ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْحُكْمُ بِنَقِيضِهِ، وَهُوَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ كُلِّ صَلَاةٍ بِطُهُورٍ فَعَبَّرُوا عَنْ انْتِفَاءِ حُكْمِ الصَّدْرِ بِالْحُكْمِ بِنَقِيضِ حُكْمِ الصَّدْرِ تَعْبِيرًا عَنْ اللَّازِمِ بِالْمَلْزُومِ فَقَالُوا: هُوَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَبِالْعَكْسِ قَالَ فِي التَّقْوِيمِ: إنَّ قَوْلَهُمْ هُوَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ إطْلَاقٌ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ مَجَازًا؛ لِأَنَّكَ إذَا قُلْت لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةً لَمْ يَجِبْ الْعَشَرَةُ كَمَا لَوْ نَفَيْتهَا، وَلَكِنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُقِرِّ لَيْسَ بِنَصٍّ نَافٍ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ بَلْ لِعَدَمِ دَلِيلِ الْوُجُوبِ. (قَوْلُهُ: وَلَيْسَ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا) أَوْرَدَ دَلِيلَيْنِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي مِثْلِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّفْيِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ إثْبَاتًا لَكَانَ مَعْنَاهُ صَلَاةٌ بِطُهُورٍ ثَابِتَةٌ أَيْ: صَحِيحَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ النَّكِرَةَ الْمَوْصُوفَةَ تَعُمُّ بِعُمُومِ الصِّفَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى كُلُّ صَلَاةٍ بِطُهُورٍ صَحِيحَةٌ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الصَّلَاةِ الْمُلْصَقَةِ بِالطَّهُورِ بَاطِلَةٌ كَالصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَبِدُونِ النِّيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مِثْلَ قَوْلِنَا أَكْرَمْت رَجُلًا عَالِمًا لَا يَدُلُّ عَلَى إكْرَامِ كُلِّ عَالِمٍ وَكَوْنُ الْوَصْفِ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحُكْمِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ غَيْرَ مُسَلَّمٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ فَضْلًا عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَالْقَوْلُ بِعُمُومِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ مِمَّا قَدَحَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ فَضْلًا عَنْ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ

«لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» عَامٌّ فِي زَعْمِكُمْ فَيَلْزَمَ عَلَيْكُمْ فَسَادَانِ. أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْتُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ صَلَاةٍ بِطَهُورٍ جَائِزَةً. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ، إثْبَاتًا، وَأَنْتُمْ لَا تَقُولُونَ بِهِ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَيْنَا لِأَنَّ النَّكِرَةَ الْمَوْصُوفَةَ لَا تَعُمُّ عِنْدَنَا فَإِنْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا يَصِيرُ كَقَوْلِهِ: بَعْضُ صَلَاةٍ بِطَهُورٍ جَائِزَةٌ، وَهَذَا حَقٌّ قُلْت الْمُسْتَثْنَى فِي كِلْتَا الصُّورَتَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإثْبَاتٌ وَبِالْعَكْسِ، وَلَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ فِي أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَأُكْرِمَنَّ رَجُلًا عَالِمًا يَبَرُّ بِإِكْرَامِ عَالِمٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا مَنْ حَلَفَ لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا فَإِنَّمَا لَا يَحْنَثُ بِمُجَالَسَةِ عَالِمَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ قَرِينَةُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ النَّوْعُ لَا الْفَرْدُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِعُمُومِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ لَا يَشْتَرِطُونَ فِي الْعُمُومِ الِاسْتِغْرَاقَ الثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا صَلَاةَ سَلْبٌ كُلِّيٌّ بِمَعْنَى لَا شَيْءَ مِنْ الصَّلَاةِ بِجَائِزَةٍ، وَالسَّلْبُ الْكُلِّيُّ عِنْدَ وُجُوبِ الْمَوْضُوعِ فِي قُوَّةِ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ الْمَعْدُولِ الْمَحْمُولِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّلَاةِ غَيْرُ جَائِزٍ إلَّا فِي حَالِ اقْتِرَانِهَا بِالطَّهُورِ فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَلَّقَ الِاسْتِثْنَاءُ بِكُلِّ صَلَاةٍ؛ إذْ لَوْ تَعَلَّقَ بِالْبَعْضِ لَزِمَ جَوَازُ الْبَعْضِ الْآخَرِ بِلَا طُهُورٍ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَمْ يُشْتَرَطْ الطَّهُورُ إلَّا فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ، وَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِذَا تَعَلَّقَ الِاسْتِثْنَاءُ بِكُلِّ فَرْدٍ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ لَزِمَ تَعَلُّقُ إثْبَاتِ مَا نُفِيَ عَنْ الصَّدْرِ بِكُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّلَاةِ جَائِزٌ حَالَ اقْتِرَانِهَا بِالطَّهُورِ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا مَرَّ. فَإِنْ قُلْت مَعْنَى تَعَلُّقِ الِاسْتِثْنَاءِ بِكُلِّ وَاحِدٍ أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي هُوَ الْمُسْتَثْنَى قَدْ أُخْرِجَ مِنْ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِكُلِّ وَاحِدٍ، وَهُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ وَأُثْبِتَ لَهُ حُكْمٌ مُخَالِفٌ لَهُ، وَهُوَ الْجَوَازُ، فَلَا يَلْزَمُ جَوَازُ كُلِّ صَلَاةٍ مُلْتَصِقَةٍ بِالطَّهُورِ قُلْتُ الْمُخْرَجُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَعْضُ الْأَحْوَالِ لَا بَعْضُ أَفْرَادِ الصَّلَاةِ إذْ الدَّلِيلُ الثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: إلَّا بِطُهُورٍ حَالًا، وَالْمَعْنَى لَا صَلَاةَ جَائِزَةً فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ اقْتِرَانِهَا بِالطَّهُورِ بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ فَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ حِينَئِذٍ كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَنِي الْقَوْمُ إلَّا رَاكِبِينَ بِمَعْنَى جَاءُوا رَاكِبِينَ لَا مَاشِينَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُثْبَتَ عَلَى الْحَالَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ يَكُونُ بِعَيْنِهِ هُوَ الْمَنْفِيَّ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَبِالْعَكْسِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ تَعَلُّقَ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْبَعْضِ يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ بَعْضِ الصَّلَاةِ بِلَا طُهُورٍ فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً كَيْفَ، وَالْحُكْمُ الْكُلِّيُّ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوطَ بِالطَّهُورِ هُوَ جَوَازُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. وَالدَّلِيلُ الْأَوَّلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ يَكُونَ خَبَرًا، وَالْمَعْنَى لَا صَلَاةَ إلَّا صَلَاةٌ مُلْتَصِقَةٌ بِالطَّهُورِ نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ الْمَوْضُوعَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ نَكِرَةٌ دَالَّةٌ عَلَى فَرْدٍ مَا، وَإِنَّمَا جَاءَ عُمُومُهَا مِنْ ضَرُورَةِ وُقُوعِهَا فِي

أَيْ: فِي قَوْلِهِ: لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا، عَالِمًا وَقَوْلُهُ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» عَامٌّ عِنْدَنَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَيْسَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا فِي كِلْتَيْهِمَا لَكِنْ فِي قَوْلِهِ: لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا لَا يَدْخُلُ فِي الْخُلْفِ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْعَالِمِ، وَمِنْ ضَرُورَةِ هَذَا أَنْ يَكُونَ لَهُ مُجَالَسَةُ كُلِّ عَالِمٍ فَإِبَاحَةُ الْمُجَالَسَةِ لِكُلِّ عَالِمٍ لِهَذَا الْمَعْنَى لَا، لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» كُلُّ صَلَاةٍ بِطُهُورٍ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ إلَّا أَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ بِالْجَوَازِ عِنْدَنَا، فَلَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ الْفَسَادَيْنِ عَلَيْنَا بَلْ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ، وَأَيْضًا يَجِيءُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ أَنَّ الْفَرْقَ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ يَدُلُّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْمُسْتَثْنَى فَتَكُونُ الصَّلَاةُ الْخَالِيَةُ عَنْ الطَّهُورِ عِلَّةً؛ لِعَدَمِ جَوَازِهَا فَكُلَّمَا خَلَتْ عَنْهُ لَا تَجُوزُ فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا يَكُونُ كَوْنُهَا مُقَارِنَةً لِلطَّهُورِ عِلَّةً لِلْجُمْلَةِ الْإِثْبَاتِيَّةِ فَتَعُمُّ لِعُمُومِ الْعِلَّةِ. (وقَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] هُوَ كَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا عَمْدًا إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ خَطَأً؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ إذْنَ ـــــــــــــــــــــــــــــQسِيَاقِ النَّفْيِ فَفِي جَانِبِ الِاسْتِثْنَاءِ يُوجَدُ أَيْضًا ذَلِكَ الْمَوْضُوعُ، وَلَا يَعُمُّ لِكَوْنِهِ فِي الْإِثْبَاتِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى لَا صَلَاةَ جَائِزَةٌ إلَّا فِي حَالِ الِاقْتِرَانِ بِالطَّهُورِ فَإِنَّ فِيهَا يَنْتَفِي هَذَا الْحُكْمُ، وَيَثْبُتُ نَقِيضُهُ، وَهُوَ جَوَازُ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ إذْ نَقِيضُ السَّلْبِ الْكُلِّيِّ إيجَابٌ جُزْئِيٌّ كَمَا يُقَالُ: مَا جَاءَنِي أَحَدٌ إلَّا رَاكِبًا. (قَوْلُهُ: فَإِنْ قِيلَ) حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّكُمْ قَائِلُونَ بِعُمُومِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ، وَقَدْ ذَكَرْتُمْ فِي مِثْلِ لَا أُجَالِسُ إلَّا رَجُلًا عَالِمًا أَنَّ لَهُ أَنْ يُجَالِسَ كُلَّ عَالِمٍ فَيَلْزَمُ هَاهُنَا أَيْضًا أَنْ تَصِحَّ كُلُّ صَلَاةٍ بِطُهُورٍ، وَهَذَا قَوْلٌ بِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّا قَائِلُونَ بِالْعُمُومِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُنَا الْحُكْمُ بِجَوَازِ كُلِّ صَلَاةٍ بِطُهُورٍ بَلْ يَلْزَمُنَا عَدَمُ الْحُكْمِ بِعَدَمِ جَوَازِ كُلِّ صَلَاةٍ بِطُهُورٍ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْحُكْمِ بِالْجَوَازِ، وَالْعَامُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْخَاصَّ، وَأَمَّا جَوَازُ مُجَالَسَةِ كُلِّ عَامٍّ فَإِنَّمَا هِيَ بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ لَا بِدَلَالَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ إنَّمَا حَرَّمَ مُجَالَسَةَ غَيْرِ الْعَالِمِ فَبِالِاسْتِثْنَاءِ أَخْرَجَ الْعَالِمَ عَنْ تَحْرِيمِ الْمُجَالَسَةِ فَبَقِيَ مُبَاحَ الْمُجَالَسَةِ بِحُكْمِ الْأَصْلِ. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا) لَمَّا لَمْ يُسَلِّمْ الْخَصْمُ قَاعِدَةَ عُمُومِ النَّكِرَةِ الْمَوْصُوفَةِ أَثْبَتَ لُزُومَ الْعُمُومِ فِي مِثْلِ لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ بِطَرِيقٍ إلْزَامِيٍّ، وَهُوَ أَنَّهُ سَلَّمَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ، أَنَّ مِنْ مَرَاتِبِ إثْبَاتِ الْعِلِّيَّةِ بِطَرِيقِ الْإِيمَاءِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمَيْنِ بِوَصْفَيْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فَإِنَّ الْعَفْوَ عِلَّةٌ لِسُقُوطِ الْمَفْرُوضِ فَهَاهُنَا لَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ إثْبَاتًا لَكَانَ الِاقْتِرَانُ بِالطَّهُورِ عِلَّةَ الْجَوَازِ، وَالْخُلُوُّ عَنْهُ عِلَّةَ عَدَمِ الْجَوَازِ فَيَلْزَمُ جَوَازُ كُلِّ صَلَاةٍ مُقْتَرِنَةٍ بِالطَّهُورِ ضَرُورَةَ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ ظَنِّيٌّ، وَقَدْ عَارَضَهُ الْأَدِلَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ الطَّهُورِ لَيْسَ عِلَّةً لِلْجَوَازِ بَلْ يَفْتَقِرُ إلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْعِلِّيَّةُ لَمْ

الشَّرْعِ بِهِ) ، وَلَا يَجُوزُ إذْنُ الشَّرْعِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْحُرْمَةِ ثَابِتَةٌ فِيهِ بِنَاءً عَلَى تَرْكِ التَّرَوِّي، وَلِهَذَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَوْ كَانَ مُبَاحًا مَحْضًا لَمَا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ، وَهَذَا دَلِيلٌ تَفَرَّدْت بِإِيرَادِهِ، وَهَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ. وَالشَّافِعِيَّةُ حَمَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: {إِلا خَطَأً} [النساء: 92] عَلَى الْمُنْقَطِعِ فِرَارًا عَنْ هَذَا لَكِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمُتَّصِلُ (وَأَمَّا كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَأَيْضًا لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ تَوْحِيدًا تَامًّا (فَلِأَنَّ مُعْظَمَ الْكُفَّارِ كَانُوا أَشْرَكُوا، وَفِي عُقُولِهِمْ وُجُودُ الْإِلَهِ ثَابِتٌ فَسِيقَ لِنَفْيِ الْغَيْرِ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْهُ وُجُودُهُ تَعَالَى إشَارَةً عَلَى الثَّانِي) أَيْ: عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إخْرَاجٌ قَبْلَ الْحُكْمِ ثُمَّ حُكْمٌ عَلَى الْبَاقِي، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ وُجُودَهُ تَعَالَى يَثْبُتُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْإِلَهَ ثُمَّ أَخْرَجَ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ حَكَمَ عَلَى الْبَاقِي بِالنَّفْيِ يَكُونُ إشَارَةً إلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQيَضُرَّ لِجَوَازِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ جَوَازُ كُلِّ صَلَاةٍ بِطُهُورٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِأَنَّ مِثْلَ قَوْلِنَا مَا كَتَبْت إلَّا بِالْقَلَمِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ بِالْقَلَمِ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَوَقَّفَ الْكِتَابَةُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا أَقْوَى دَلِيلٍ) لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ دَلِيلًا إذْ لَا دَلَالَةَ مَعَ احْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ وَكَوْنُ الْأَصْلِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ هُوَ الِاتِّصَالُ لَا يُفِيدُ لِجَوَازِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْ الْأَصْلِ بِقَرِينَةِ عَدَمِ ظُهُورِ مَا يَصْلُحُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ فَالْأَوْجَهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْلَهُ إلَّا خَطَأً مَفْعُولٌ أَوْ حَالٌ أَوْ صِفَةُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ فَيَكُونُ مُفَرَّغًا، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُفَرَّغُ مُتَّصِلٌ؛ لِأَنَّهُ مُعْرَبٌ عَلَى حَسَبِ الْعَوَامِلِ فَيَكُونُ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ، وَيَفْتَقِرُ إلَى تَقْدِيرِ مُسْتَثْنًى مِنْهُ عَامٍّ مُنَاسِبٍ لَهُ فِي جِنْسِهِ وَوَصْفِهِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا كِلْمَةُ التَّوْحِيدِ) جَوَابٌ عَنْ الْحُجَّةِ الثَّالِثَةِ وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ فَإِنْ قِيلَ لُزُومُ وُجُودِهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ اعْتِرَافٌ بِمَذْهَبِ الْخَصْمِ فَإِنَّهُ لَا يَدَّعِي أَنَّهُ يُفِيدُ الْإِثْبَاتَ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ السَّوْقُ لِأَجْلِهِ بَلْ يَدَّعِي أَنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَلُزُومُ وُجُودِهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِيرَ الدَّهْرِيُّ النَّافِي لِلصَّانِعِ مُؤْمِنًا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. أُجِيبَ عَلَى الْأَوَّلِ بِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ هُوَ اطِّرَادُ هَذَا الْحُكْمِ أَعْنِي كَوْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا، وَثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يُوجِبُ الِاطِّرَادَ لِانْتِفَائِهِ فِي مِثْلِ «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَبْنَى الْأَمْرِ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَحُكِمَ بِإِسْلَامِهِ عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ. (قَوْلُهُ: وَمَا قِيلَ) حَاوَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: أَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كُلٍّ مِنْ الْمُسْتَثْنَى، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَآلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مَعْنَاهُ الْإِفْرَادِيِّ، وَالْمُفْرَدُ لَا يُقْصَدُ بِجُزْءٍ مِنْهُ الدَّلَالَةُ عَلَى جُزْءٍ مَعْنَاهُ الثَّانِي أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ قَانُونِ لُغَةِ الْعَرَبِ إذْ لَمْ يُعْهَدْ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ، وَلَا مُرَكَّبٌ أُعْرِبَ

أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمُسْتَثْنَى خِلَافُ حُكْمِ الصَّدْرِ، وَإِلَّا لَمَا أُخْرِجَ مِنْهُ. (وَضَرُورَةً عَلَى الْأَخِيرِ) أَيْ: عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَشَرَةَ إلَّا ثَلَاثَةً مَوْضُوعَةٌ لِلسَّبْعَةِ فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وُجُودُهُ تَعَالَى يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْإِلَهِ لَمَّا كَانَ ثَابِتًا فِي عُقُولِهِمْ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ غَيْرِهِ وُجُودُهُ ضَرُورَةً؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ لَا إلَهَ غَيْرُ اللَّهِ مَوْجُودٌ فَيَكُونُ كَالتَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ، وَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ عِنْدَنَا، فَلَا دَلَالَةَ لِلْكَلَامِ عَلَى وُجُودِهِ تَعَالَى مَنْطُوقًا، وَمَفْهُومًا بَلْ ضَرُورَةً فَقَطْ. (وَمَا قِيلَ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ هَذَا دَلِيلٌ حَاوَلَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ نَفْيَ الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ (إنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَفْظٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQجُزْؤُهُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَى جُزْءِ الِاسْمِ فِي مِثْلِ اشْتَرَيْت الْجَارِيَةَ إلَّا نِصْفَهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إخْرَاجُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً اسْمًا لِلسَّبْعَةِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى مَنْعِ الْوَجْهِ الثَّانِي وَنَقْضِهِ وَحَلِّهِ عَلَى وَجْهٍ يَنْدَفِعُ بِهِ الْوُجُوهُ الْأَرْبَعَةُ أَمَّا الْمَنْعُ فَهُوَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَعْلَامِ كَذَلِكَ مِثْلَ شَابَ قَرْنَاهَا وَبَرَقَ نَحْرُهُ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَأَمَّا النَّقْضُ فَهُوَ أَنَّ مِثْلَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَمٌ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ مَعَ أَنَّ الْإِعْرَابَ فِي وَسَطِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِنَا جَاءَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَمَرَرْت بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْحَلُّ فَهُوَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تَرَكُّبُ الْمَوْضُوعِ الشَّخْصِيِّ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَالْمُسْتَثْنَى، وَأَدَاةَ الِاسْتِثْنَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي لَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ بِالشَّخْصِ بِمَنْزِلَةِ بَعْلَبَكَّ وَمَعْدِي كَرِبَ بَلْ أَرَادُوا أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَهُ بِالنَّوْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ الْوَاضِعِ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ ذَلِكَ فُهِمَ مِنْهُ الْبَاقِي كَمَا ثَبَتَ مِنْهُ أَنَّهُ إذَا غَيَّرَ صِيغَةَ فَعَلَ بِالْفَتْحِ إلَى فُعِلَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ يُفْهَمُ مِنْهَا مَعْنَى الْمَبْنِيّ لِلْمَفْعُولِ، وَإِذَا رُكِّبَ زَيْدٌ مَعَ قَائِمٍ وَجُعِلَا مَرْفُوعَيْنِ فُهِمَ مِنْهُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ الْقِيَامِ لِزَيْدٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَوَاعِدِ الصَّرْفِيَّةِ، وَالنَّحْوِيَّةِ فَإِنَّهَا أَوْضَاعٌ كُلِّيَّةٌ. وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ تَرَكُّبُ الْمَوْضُوعِ النَّوْعِيِّ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ فَإِنَّ جَمِيعَ الْمُرَكَّبَاتِ مَوْضُوعَةٌ بِالنَّوْعِ سَوَاءٌ تَرَكَّبَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِثْلَ قَوْلِنَا حَيَوَانٌ ذُو نُطْقٍ، وَقَوْلِنَا جِسْمٌ نَامٍ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَةِ وَنُطْقٌ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِنْسَانِ بِالنَّوْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ الْوَاضِعِ أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ اسْمُ جِنْسٍ وَوُصِفَ بِمَا يَخُصُّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ فُهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ النَّوْعُ فَالْمَوْضُوعُ النَّوْعِيُّ كَثِيرًا مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ كَلِمَتَيْنِ، وَيَكُونُ الْإِعْرَابُ فِي وَسَطِهِ كَمَا تَرَى، وَيَكُونُ لِأَجْزَائِهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَعَانِيهَا الْإِفْرَادِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا كَلِمَاتٌ، وَلَا يَصِيرُ الْمَجْمُوعُ كَلِمَةً وَاحِدَةً حَتَّى يَكُونَ كُلٌّ مِنْ

مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ) أَيْ: الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَأَدَاةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى بَلْ عُهِدَ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ كَبَعْلَبَكَّ (وَمُرَكَّبٌ أُعْرِبَ فِي وَسَطِهِ ضَعِيفٌ إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مَوْضُوعٌ مِثْلَ بَعْلَبَكَّ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ مَعْنَاهُ مُطَابِقٌ لِمَعْنَى السَّبْعَةِ مَثَلًا فَيَكُونُ هُنَاكَ وَضْعٌ كُلِّيٌّ) أَيْ: وَضْعُ الْوَاضِعِ اللَّفْظَ الَّذِي اُسْتُثْنِيَ مِنْهُ الْبَاقِي وَضْعًا كُلِّيًّا لَا وَضْعًا جُزْئِيًّا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَضْعَ عَلَى نَوْعَيْنِ وَضْعٌ جُزْئِيٌّ كَوَضْعِ اللُّغَاتِ وَوَضْعٌ كُلِّيٌّ كَالْأَوْضَاعِ التَّصْرِيفِيَّةِ وَالنَّحْوِيَّةِ فَفِي الْأَوْضَاعِ الْجُزْئِيَّةِ سَلَّمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ مَعَ أَنَّهُ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ نَحْوَ شَابَ قَرْنَاهَا، وَبَرَقَ نَحْرُهُ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ الْعَبْدِ وَاللَّامِ وَرَحْمَنِ لَكِنْ فِي الْأَوْضَاعِ الْكُلِّيَّةِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ فِي مَعْنَى الْمُرَكَّبِ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ يُطَابِقُ مَعْنَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّ مَنْ لَهُ يَدٌ فِي الْإِيجَازِ وَالْإِطْنَابِ يَسْهُلُ عَلَيْهِ أَنْ يُفِيدَ مَعْنَى الْكَلِمَاتِ الْكَثِيرَةِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُفِيدَ مَعْنَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِكَلِمَاتٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّ لَفْظَ إنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُفْرَدَاتِ جُزْءًا مِنْ الْكَلِمَةِ فَيَمْتَنِعُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَيْهِ بَلْ يَكُونُ عَوْدُ الضَّمِيرِ إلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ عَوْدِهِ إلَى الْمُبْتَدَأِ فِي مِثْلِ زَيْدٌ أَبُوهُ قَائِمٌ مَعَ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمُرَكَّبِ الْمَوْضُوعِ بِالنَّوْعِ. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُنَافِي فِي الْإِخْرَاجِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يُفِيدُهُ أَدَاةُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمَعَانِي الْإِفْرَادِيَّةُ لَيْسَتْ مَهْجُورَةً فِي الْمَوْضُوعَاتِ النَّوْعِيَّةِ، وَأَقُولُ أَمَّا الْمَنْعُ فَجَوَابُهُ الِاسْتِقْرَاءُ وَنَقْلُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ، وَأَمَّا النَّقْضُ بِمِثْلِ شَابَ قَرْنَاهَا فَمَدْفُوعٌ بِمَا ذُكِرَ فِي الْكَشَّافِ جَوَابًا عَمَّا قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ التَّسْمِيَةُ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ فَصَاعِدًا فَكَيْفَ تَكُونُ الْكَلِمَاتُ الْمُتَهَجَّى بِهَا أَسْمَاءً لِلصُّوَرِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ التَّسْمِيَةَ بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ فَصَاعِدًا مُسْتَنْكَرَةٌ لَعَمْرِي وَخُرُوجٌ عَنْ كَلَامِ الْعَرَبِ لَكِنْ إذَا جُعِلَتْ اسْمًا وَاحِدًا عَلَى طَرِيقَةِ حَضْرَمَوْتَ، وَأَمَّا غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ مَنْثُورَةٌ نَثْرَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ، فَلَا اسْتِنْكَارَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ التَّسْمِيَةِ بِمَا حَقُّهُ أَنْ يُحْكَى حِكَايَةً كَمَا سُمُّوا بِتَأَبَّطَ شَرًّا وَبَرَقَ نَحْرُهُ وَشَابَ قَرْنَاهَا وَكَمَا لَوْ سُمِّيَ بِزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ وَبِبَيْتٍ مِنْ الشِّعْرِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ مِثْلَ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً لَيْسَ مَحْكِيًّا بَلْ مُعْرَبًا بِحَسْبِ الْعَوَامِلِ. وَأَمَّا النَّقْضُ بِمِثْلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ حَيْثُ أُعْرِبَ فِي وَسَطِهِ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ قَدْ احْتَرَزَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ، وَلَا يُعْرَبُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ، وَلَا أَدْرِي كَيْفَ خَفِيَ هَذَا عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَمَّا الْحَلُّ فَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ التَّنَاقُضِ الْمُتَوَهَّمِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ حَيْثُ أُسْنِدَ الْحُكْمُ إلَى الْكُلِّ وَأُخْرِجَ الْبَعْضُ فَالْقَوْلُ بِكَوْنِ الْمُرَكَّبِ مَوْضُوعًا لِلْبَاقِي وَضْعًا كُلِّيًّا لَيْسَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَوْ يَقَعُ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَوْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَابِلًا لِلْمَذْهَبَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَكِنَّهُ لَا يَفِي بِالْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّ الْمُفْرَدَاتِ حِينَئِذٍ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعَانِيهَا الْإِفْرَادِيَّةِ فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْعَشَرَةِ فِي قَوْلِنَا لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً

ذِي نُطْقٍ كُلٌّ مِنْهَا يَقُومُ مَقَامَ الْآخَرِ، وَكَذَا لَفْظُ فَرَسٍ وَحَيَوَانٍ ذِي صَهِيلٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. (وَأَيْضًا مَنْقُوضٌ بِنَحْوِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ) فَإِنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَالْإِعْرَابُ فِي وَسَطِهِ (وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ عُلَمَائِنَا، وَبَعْضُهُمْ) أَيْ: بَعْضُ مَشَايِخِنَا كَالْقَاضِي الْإِمَامِ أَبِي زَيْدٍ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى (مَالُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْغَيْرِ الْعَدَدِيِّ إلَى الثَّانِي بِحُكْمِ الْعُرْفِ) أَيْ: إلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي، وَهُوَ أَنَّهُ إخْرَاجٌ قَبْلَ الْحُكْمِ ثُمَّ حُكْمٌ عَلَى الْبَاقِي. (وَقَدْ فُهِمَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِمْ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ: أَنَّ إثْبَاتَ الْإِلَهِ بِالْإِشَارَةِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى الْأَخِيرِ كَالتَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ بَلْ شَبَّهُوا الِاسْتِثْنَاءَ بِالْغَايَةِ) . اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَشْرَةُ أَفْرَادٍ وَيُحْكَمَ بِإِثْبَاتِهَا، وَهُوَ التَّنَاقُضُ أَوْ يُرَادَ سَبْعَةُ أَفْرَادٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ أَوْ يُرَادَ عَشْرَةُ أَفْرَادٍ لَكِنْ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِهَا بَعْدَ إخْرَاجِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ الثَّانِي. فَمُجَرَّدُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَجْمُوعَ مَوْضُوعٌ لِلسَّبْعَةِ بِالنَّوْعِ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا بَلْ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ أَنَّ عَشْرَةً أُخْرِجَتْ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ مَجَازٌ لِلسَّبْعَةِ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ الَّتِي أُخْرِجَتْ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ عَشْرَةٌ، وَلَا شَيْءَ مِنْ السَّبْعَةِ بِعَشْرَةٍ، وَالْعَشَرَةُ بَعْدَ إخْرَاجِ الثَّلَاثَةِ وَقَبْلَهُ مَفْهُومٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتْ السَّبْعَةُ بِعَشْرَةٍ عَلَى حَالٍ أَطْلَقْتهَا أَوْ قَيَّدْتهَا إنَّمَا هِيَ الْبَاقِي مِنْ الْعَشَرَةِ بَعْدَ إخْرَاجِ الثَّلَاثَةِ كَمَا يُقَالُ: إنَّهَا أَرْبَعَةٌ ضُمَّتْ إلَيْهَا ثَلَاثَةٌ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِأَرْبَعَةٍ أَصْلًا. وَإِنَّمَا هِيَ الْحَاصِلُ مِنْ ضَمِّ الْأَرْبَعَةِ إلَى الثَّلَاثَةِ ثُمَّ إنَّ السَّبْعَةَ مُرَادَةٌ فِي مِثْلِ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً فَإِنْ قُلْنَا: هَذَا التَّرْكِيبُ حَقِيقَةٌ فِي عَشْرَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِأَنَّهَا أُخْرِجَتْ مِنْهَا ثَلَاثَةٌ، فَكَانَ مَجَازًا فِي السَّبْعَةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَإِنْ قُلْنَا: هُوَ مَوْضُوعٌ لِلْبَاقِي مِنْ الْعَشَرَةِ بَعْدَ إخْرَاجِ الثَّلَاثَةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَّا ذَلِكَ، وَلَيْسَ مَدْلُولُهَا عَشْرَةً مُقَيَّدَةً فَهُوَ مَوْضُوعٌ لِلسَّبْعَةِ لَا عَلَى أَنَّهُ وُضِعَ لَهُ وَضْعًا وَاحِدًا كَمَا يُتَصَوَّرُ بَلْ عَلَى أَنَّهُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَازِمٍ مُرَكَّبٍ، وَالشَّيْءُ قَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِاسْمِهِ الْخَاصِّ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِمُرَكَّبٍ يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ لَوَازِمِهِ، وَذَلِكَ فِي الْعَدَدِ ظَاهِرٌ فَإِنَّكَ قَدْ تَنْقُضُ عَدَدًا مِنْ عَدَدٍ حَتَّى يَبْقَى الْمَقْصُودُ كَمَا تَنْقُضُ ثَلَاثَةً مِنْ عَشْرَةٍ حَتَّى تَبْقَى سَبْعَةٌ، وَقَدْ يُضَمُّ عَدَدٌ إلَى عَدَدٍ حَتَّى يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: بِنْتُ سَبْعٍ وَأَرْبَعٍ وَثَلَاثٍ ... هِيَ حُبُّ الْمُتَيَّمِ الْمُشْتَاقِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ بِنْتُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِغَيْرِهِمَا كَمَا يُقَالُ: الْعَشَرَةُ جِذْرُ الْمِائَةِ وَضِعْفُ الْخَمْسَةِ وَرُبْعُ الْأَرْبَعِينَ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْمَذْهَبُ الْأَخِيرُ، وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي يَرْجِعُ إلَى أَحَدِهِمَا، وَأَنْتَ بَعْدَ ذَلِكَ خَبِيرٌ بِمَا يَرِدُ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي أَبْطَلُوا بِهَا الْمَذْهَبَيْنِ. (قَوْلُهُ: شَبَّهُوا الِاسْتِثْنَاءَ بِالْغَايَةِ) حَيْثُ قَالُوا: إنَّ مُوجَبَ صَدْرِ الْكَلَامِ يَنْتَهِي بِالِاسْتِثْنَاءِ انْتِهَاءَ الْإِثْبَاتِ

[مسألة شرط الاستثناء]

يُصَرِّحُوا بِهَذَا الْمَذْهَبِ لَكِنْ قَالُوا فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إنَّ إثْبَاتَ الْإِلَهِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ فَفَهِمْت مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَذْهَبُهُمْ هُوَ الثَّالِثَ، وَهُوَ أَنَّ الْعَشَرَةَ إلَّا ثَلَاثَةً مَوْضُوعَةٌ لِلسَّبْعَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْغَيْرَ الْعَدَدِيِّ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ كَالتَّخْصِيصِ بِالْوَصْفِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ: لَا إلَهَ إلَّا غَيْرُ اللَّهِ مَوْجُودٌ، وَالتَّخْصِيصُ بِالْوَصْفِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ، فَلَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى وُجُودِهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ فَعُلِمَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ لَيْسَ هَذَا الثَّالِثَ، وَأَنَّهُمْ شَبَّهُوا الِاسْتِثْنَاءَ بِالْغَايَةِ، وَيَقُولُونَ: إنَّ حُكْمَ مَا بَعْدِ الْغَايَةِ يُخَالِفُ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْغَايَةِ، وَلَيْسَ مَذْهَبُهُمْ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ عَلَى الْأَوَّلِ النَّفْيُ وَالْإِثْبَاتُ بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ لَا بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ. فَعُلِمَ أَنَّ مَذْهَبَهُمْ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْغَيْرِ الْعَدَدِيِّ هُوَ الثَّانِي بِحُكْمِ الْعُرْفِ (وَهَذَا مُنَاسِبًا لِمَا قَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْعَدَمِ، وَالنَّفْيِ بِالْوُجُودِ كَمَا يَنْتَهِي بِالْغَايَةِ أَصْلُ الْكَلَامِ وَلَزِمَ مِنْ انْتِهَاءِ الْأَوَّلِ إثْبَاتُ الْغَايَةِ فَصَارَ كُلٌّ مِنْ الْإِثْبَاتِ، وَالنَّفْيِ فِي الْمُسْتَثْنَى ثَابِتًا بِدَلَالَةِ اللُّغَةِ كَالصَّدْرِ إلَّا أَنَّ حُكْمَ الصَّدْرِ ثَابِتٌ قَصْدًا، وَعِبَارَةً، وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى ضِمْنًا وَإِشَارَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مِثْلَ مَا جَاءَنِي إلَّا زَيْدٌ، وَمَا زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ مَسُوقٌ لِإِثْبَاتِ مَجِيءِ زَيْدٍ وَقِيَامِهِ بِأَبْلَغِ وَجْهٍ وَأَوْكَدِهِ حَتَّى قَالُوا: إنَّهُ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ. (قَوْلُهُ: بِحُكْمِ الْعُرْفِ) يَعْنِي: أَنَّ الْعُرْفَ شَاهِدٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُفِيدُ إثْبَاتَ حُكْمٍ مُخَالِفٍ لِلصَّدْرِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ دُونَ الْعِبَارَةِ، وَهُوَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُهُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ وَدُونَ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الْكَلَامَ فِي ثُبُوتِ هَذَا الْعُرْفِ، وَفَرْقِهِ بَيْنَ الْعَدَدِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَيْضًا مَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتًا، وَبِالْعَكْسِ مَنْطُوقٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا مُنَاسِبٌ) يَعْنِي فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْغَيْرَ الْعَدَدِيِّ يُفِيدُ النَّفْيَ، وَالْإِثْبَاتَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ تَوْفِيقٌ بَيْنَ الْإِجْمَاعَاتِ الْأَرْبَعَةِ، الْأَوَّلُ مَا قَالَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ فِي إفَادَةِ مَا، وَإِلَّا لِلْقَصْرِ مِثْلَ مَا جَاءَنِي إلَّا زَيْدٌ إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ التَّشْرِيكِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُشَارِكُ الْمُسْتَثْنَى فِي الْحُكْمِ غَيْرُهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ التَّخْصِيصُ أَيْ: إثْبَاتُ الْحُكْمِ لِلْمُسْتَثْنَى وَنَفْيُهُ عَمَّا سِوَاهُ، وَهُوَ مَعْنَى الْقَصْرِ الثَّانِي، إجْمَاعُ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ إخْرَاجٌ أَيْ: لِلْمُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. الثَّالِثُ: إجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي أَيْ: قَصْدٌ إلَى الْحُكْمِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ الْأَفْرَادِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَى إثْبَاتٍ أَوْ نَفْيٍ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى، وَإِنْ كَانَ لَازِمًا. الرَّابِعُ: إجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ أَيْ: ضِمْنًا، وَإِشَارَةً لَا قَصْدًا، وَعِبَارَةً [مَسْأَلَةٌ شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ] (قَوْلُهُ: مَسْأَلَةُ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ) الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُسْتَثْنَى قَصْدًا وَحَقِيقَةً عَلَى تَقْدِيرِ السُّكُوتِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ لَا تَبَعًا، وَحُكْمًا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ

عُلَمَاءُ الْبَيَانِ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وُضِعَ لِنَفْيِ التَّشْرِيكِ، وَالتَّخْصِيصُ يُفْهَمُ مِنْهُ، وَلِمَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: إنَّهُ إخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي، وَمِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَبِالْعَكْسِ فَيَكُونُ إخْرَاجًا مِنْ الْأَفْرَادِ وَتَكَلُّمًا بِالْبَاقِي فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَنَفْيًا، وَإِثْبَاتًا بِالْإِشَارَةِ، وَفِي الْعَدَدِيِّ ذَهَبُوا إلَى الْأَخِيرِ حَتَّى قَالُوا فِي إنْ كَانَ لِي إلَّا مِائَةٌ فَكَذَا وَلَمْ يَمْلِكْ إلَّا خَمْسِينَ لَا يَحْنَثُ) فَعَلَى الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ هُوَ كَقَوْلِهِ: إنْ كَانَ لِي فَوْقَ الْمِائَةِ، فَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمِائَةِ. (وَلَوْ قَالَ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا ثَلَاثَةً لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ سَبْعَةٌ) . (مَسْأَلَةٌ) شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَوْجَبَهُ الصِّيغَةُ قَصْدًا لَا مِمَّا يَثْبُتُ بِهَا ضِمْنًا؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: (لَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ غَيْرَ جَائِزِ الْإِقْرَارِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْرَارُ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ لَا لِأَنَّهُ مِنْ الْخُصُومَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا بِالْوَكَالَةِ ضِمْنًا، فَلَا يُسْتَثْنَى إلَّا أَنْ يَنْقُضَ الْوَكَالَةَ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ أَيْ: لَكِنْ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْوَكَالَةَ. (وَيَصِحُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ فَيَقْتَصِرُ عَمَلُهُ عَلَى مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ، وَلَا يَعْمَلُ فِيمَا يَثْبُتُ حُكْمًا فَلَوْ وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ، وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ ثَبَتَ ضِمْنًا بِوَاسِطَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ لَا بِوَاسِطَةِ أَنَّ الْإِقْرَارَ يَدْخُلُ فِيهَا قَصْدًا حَتَّى يَصِحَّ إخْرَاجُهُ مِنْهَا، فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَلَا إبْطَالُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ إلَّا بِنَقْضِ الْوَكَالَةِ، وَيَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخُصُومَةَ لَمَّا كَانَتْ مَهْجُورَةً شَرْعًا صَارَ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلًا بِالْجَوَابِ عَمَلًا بِالْمَجَازِ فَدَخَلَ فِيهَا الْإِقْرَارُ وَالْإِنْكَارُ قَصْدًا فَصَحَّ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ. الثَّانِي أَنَّهُ بَيَانُ تَقْرِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْخُصُومَةِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيَّ الَّذِي هُوَ الْخُصُومَةُ لَا الشَّرْعِيَّ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ الْجَوَابِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَاسْتَثْنَى الْإِنْكَارَ قِيلَ لَا يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَةٍ أَعْنِي الْمُنَازَعَةَ، وَالْإِنْكَارَ وَمَجَازِهِ أَعْنِي مُطْلَقَ الْجَوَابِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ بِنَاءً عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ أَنَّهُ مَجَازٌ عَنْ الْجَوَابِ شَامِلٌ لِلْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ فَيَجُوزُ اسْتِثْنَاءً أَيِّهِمَا كَانَ، وَلَا يَلْزَمُ تَعْطِيلُ اللَّفْظِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ مَجَازَهُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضَ أَفْرَادِ الْمَجَازِ كَمَا يُقَالُ: رَأَيْتُ فِي الْحَمَّامِ الْأُسُودَ إلَّا هَذَا الْأَسَدَ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْإِنْكَارِ فِيهِ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ نَظَرًا إلَى عُمُومِ الْمَجَازِ، وَالْإِقْرَارُ وَإِنْ كَانَ ضِمْنًا، وَتَبَعًا لِلْإِنْكَارِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا صَارَ مَجَازًا عَنْ مُطْلَقِ الْجَوَابِ دَخَلَ كُلٌّ مِنْهُمَا فِيهِ بِحَسَبِ الْأَصَالَةِ. وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْإِنْكَارِ لَكِنْ لَا لِلدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي عَدَمِ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ. الْإِقْرَارُ إذْ الْإِنْكَارُ ثَبَتَ بِالْخُصُومَةِ قَصْدًا لَا ضِمْنًا بَلْ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالْخُصُومَةِ وَكَالَةٌ بِالْإِنْكَارِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِثْنَاءِ الشَّيْءِ

[مسألة الاستثناء متصل ومنقطع]

عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُصُومَةِ الْجَوَابُ مَجَازًا فَيَتَنَاوَلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ مَوْصُولًا؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ تَقْرِيرٍ نَظَرًا إلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُسَالَمَةٌ لَا مُخَاصَمَةٌ فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مَفْصُولًا، وَلَوْ قَالَ غَيْرُ جَائِزِ الْإِنْكَارِ فَأَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ بِنَاءً عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ لِمُحَمَّدٍ) . وَهُوَ أَنَّ الْخُصُومَةَ تَشْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالْإِنْكَارَ فَيَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتِثْنَاءُ الْإِنْكَارِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي لِمُحَمَّدٍ، وَهُوَ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ بَيَانُ تَقْرِيرٍ نَظَرًا إلَى الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ؛ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِنْكَارِ لَيْسَ تَقْرِيرًا لِلْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ بَلْ إبْطَالٌ لَهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ لَا لِلدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَ فِي اسْتِثْنَاءِ الْإِقْرَارِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ الْإِقْرَارَ لَيْسَ مِنْ الْخُصُومَةِ، فَالْخُصُومَةُ هِيَ الْإِنْكَارُ فَقَطْ، فَلَا يُمْكِنُ اسْتِثْنَاءُ الْإِنْكَارِ مِنْهَا هَذَا مَا خَطَرَ بِبَالِي. (مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَمُنْقَطِعٌ وَالثَّانِي مَجَازٌ) فَإِنْ قِيلَ قَسَّمْت الِاسْتِثْنَاءَ عَلَى الْمُتَّصِلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ نَفْسِهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْإِقْرَارُ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ قَصْدًا وَحِينَئِذٍ لَا يَتَعَذَّرُ إخْرَاجُ الْإِنْكَارِ وَلَا يَلْزَمُ إبْطَالُ الصِّيغَةِ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ الْإِقْرَارُ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلْإِنْكَارِ عِنْدَهُ فَإِذَا اسْتَثْنَى الْإِنْكَارَ لَزِمَ اسْتِثْنَاءُ الْإِقْرَارِ أَيْضًا فَيَلْزَمُ اسْتِثْنَاءُ الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ وَمُنْقَطِعٌ] (قَوْلُهُ: مَسْأَلَةٌ) الْمُسْتَثْنَى إنْ كَانَ بَعْضَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَإِلَّا فَمُنْقَطِعٌ وَلَفْظُ الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُسْتَثْنَى حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِي الْقِسْمَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، وَأَمَّا صِيغَةُ الِاسْتِثْنَاءِ، فَحَقِيقَةٌ فِي الْمُتَّصِلِ مَجَازٌ فِي الْمُنْقَطِعِ؛ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْإِخْرَاجِ، وَلَا إخْرَاجَ فِي الْمُنْقَطِعِ فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ أَيْ: الصِّيغَةَ الَّتِي يُطْلَقُ عَلَيْهَا هَذَا اللَّفْظُ مَجَازٌ فِي الْمُنْقَطِعِ فَإِنَّ لَفْظَ الِاسْتِثْنَاءِ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الْمُتَكَلِّمِ، وَعَلَى الْمُسْتَثْنَى، وَعَلَى نَفْسِ الصِّيغَةِ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ أَوْرَدَ أَصْحَابُنَا) الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] مُتَّصِلٌ أَيْ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَرْمُونَ مَحْكُومٌ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ إلَّا التَّائِبِينَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ؛ لِأَنَّ التَّائِبَ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْفِسْقُ هُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَالْخُرُوجُ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَيْرُهُ مُنْقَطِعًا وَبَيَّنُوهُ بِوُجُوهٍ. الْأَوَّلُ: مَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى، وَإِنْ دَخَلَ فِي الصَّدْرِ لَكِنْ لَمْ يُقْصَدْ إخْرَاجُهُ مِنْ حُكْمِهِ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِهِ قَصْدُ إثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ التَّائِبَ لَا يَبْقَى فَاسِقًا، وَلَا يَخْفَى إنَّمَا يَتِمُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَى {هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] الثَّبَاتُ عَلَى الْفِسْقِ، وَالدَّوَامُ وَإِلَّا، فَلَا تَعَذُّرَ لِلِاتِّصَالِ، فَلَا وَجْهَ لِلِانْقِطَاعِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى غَيْرُ دَاخِلٍ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ التَّائِبَ لَيْسَ بِفَاسِقٍ ضَرُورَةَ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَمَّا قَامَ بِهِ الْفِسْقُ، وَالتَّائِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِزَوَالِ الْفِسْقِ بِالتَّوْبَةِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ

وَالْمُنْقَطِعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ قَوْلُكَ، وَالثَّانِي مَجَازٌ قُلْتُ لَيْسَ هَذَا قِسْمَةً حَقِيقَةً بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ، وَالثَّانِي بِطَرِيقِ الْمَجَازِ. (وَقَدْ أَوْرَدَ أَصْحَابُنَا قَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] مِنْ أَمْثِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ هُوَ إخْرَاجٌ عَنْ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الصَّدْرِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ فَهُوَ فَاسِقٌ، (وَهُنَا لَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَبْقَى فَاسِقًا بَعْدَ التَّوْبَةِ فَهَذَا حُكْمٌ آخَرُ) أَوْرَدَهُ أَصْحَابُنَا مِنْ أَمْثِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كَوْنِهِ مُنْقَطِعًا هُوَ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ الْفَاسِقُونَ، وَالتَّائِبُونَ لَيْسُوا مِنْ الْفَاسِقِينَ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ لِأَنَّ الْفَاسِقِينَ لَيْسَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ بَلْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْلُهُ: وَأُولَئِكَ أَيْ: الَّذِينَ يَرْمُونَ، وَالْفَاسِقُونَ حُكْمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّمَاةَ التَّائِبِينَ دَاخِلُونَ فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ أُولَئِكَ غَيْرُ دَاخِلِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَقِيقَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ بَقَاءُ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ ذَلِكَ فَيَتَحَقَّقُ التَّنَاوُلُ لَكِنْ لَا يَصِحُّ الْإِخْرَاجُ؛ لِأَنَّ التَّائِبَ لَيْسَ بِمُخْرَجٍ مِمَّنْ كَانَ فَاسِقًا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي، وَهَذَا حَاصِلُ. الْوَجْهِ الثَّالِثُ، وَهُوَ أَنَّ التَّائِبَ قَاذِفٌ، وَالْقَاذِفُ فَاسِقٌ لِأَنَّ الْفِسْقَ لَازِمُ الْقَذْفِ، وَبِالتَّوْبَةِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ قَاذِفًا فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْفِسْقُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَاسِقًا فِي الْحَالِ وَاعْتَرَضَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ اتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ هُمْ الْفَاسِقِينَ بَلْ الَّذِينَ حُكِمَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، وَهُمْ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُشَارُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّائِبِينَ دَاخِلُونَ فِيهِمْ مُخْرَجُونَ عَنْ حُكْمِهِمْ، وَهُوَ الْفِسْقُ كَأَنَّهُ قِيلَ جَمِيعُ الْقَاذِفِينَ فَاسِقُونَ إلَّا التَّائِبِينَ مِنْهُمْ كَمَا يُقَالُ: الْقَوْمُ مُنْطَلِقُونَ إلَّا زَيْدًا اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ زَيْدًا دَاخِلٌ فِي الْقَوْمِ مُخْرَجٌ عَنْ حُكْمِ الِانْطِلَاقِ فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَّصِلُ سَوَاءٌ جُعِلَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِحَسَبِ اللَّفْظِ، وَهُوَ الْقَوْمُ أَوْ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي مُنْطَلِقُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ، وَأَنَّ عَمَلَ الصِّفَةِ فِي الْمُسْتَثْنَى أَظْهَرُ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَفْظًا هُوَ لَفْظُ الْقَوْمِ أَلْبَتَّةَ، وَإِذَا جُعِلَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ضَمِيرَ مُنْطَلِقُونَ فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّ زَيْدًا دَاخِلٌ فِي الذَّوَاتِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِمْ بِالِانْطِلَاقِ فَخَرَجَ عَنْ حُكْمِ الِانْطِلَاقِ كَمَا فِي قَوْلِنَا: انْطَلَقَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الْآيَةِ، وَأَجَابَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ بِكَلَامٍ تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْفَاسِقَ هَاهُنَا إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاسِقِ عَلَى قَصْدِ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ أَوْ بِمَعْنَى مَنْ صَدَرَ عَنْهُ الْفِسْقُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي أَوْ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِسْقُ فِي الْجُمْلَةِ مَاضِيًا كَانَ أَوْ حَالًا فَإِنْ أُرِيدَ الْأَوَّلُ فَالتَّائِبُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ ضَرُورَةَ قَضَاءِ الشَّرْعِ بِأَنَّ التَّائِبَ لَيْسَ بِفَاسِقٍ حَقِيقَةً، وَمِنْ شَرْطِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَنَاوِلًا الْمُسْتَثْنَى عَلَى تَقْدِيرِ السُّكُوتِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا مُرَادُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَ تَنَاوُلِ الْفَاسِقِينَ التَّائِبِينَ بِخِلَافِ مُنْطَلِقُونَ فَإِنَّهُ

فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَهُوَ الْفَاسِقُونَ كَمَا تَقُولُ الْقَوْمُ مُنْطَلِقُونَ إلَّا زَيْدًا فَزَيْدٌ دَاخِلٌ فِي الْقَوْمِ وَغَيْرُ دَاخِلٍ فِي مُنْطَلِقُونَ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ وَجْهٌ حَسَنٌ لِكَوْنِهِ مُنْقَطِعًا فَأَوْرَدْت ذَلِكَ فِي الْمَتْنِ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ إخْرَاجٌ عَنْ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ أَنَّ مَعْنَى الْإِخْرَاجِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ الدُّخُولِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي حَدِّ الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ هُوَ أَنْ يُذْكَرَ شَيْءٌ بَعْدَ إلَّا وَأَخَوَاتِهَا غَيْرُ مُخْرَجٍ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فَقَوْلُنَا غَيْرُ مُخْرَجٍ يَتَنَاوَلُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا فِي صَدْرِ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِيهِ لَكِنْ لَا يَخْرُجُ عَنْ عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَحُكْمُ صَدْرِ الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ صَارَ فَاسِقًا وقَوْله تَعَالَى {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] لَا يَخْرُجُ عَنْ عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ تَابَ لَا يَبْقَى فَاسِقًا بَعْدَ التَّوْبَةِ فَهَذَا حُكْمٌ آخَرُ وَنَظَائِرُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا وقَوْله تَعَالَى {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] فَإِنَّ قَوْلَهُ {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] أَيْ: الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ الَّذِي قَدْ سَلَفَ دَاخِلٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُخْرَجٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَدْخُلُ فِيهِ زَيْدٌ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَإِنْ أُرِيدَ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثُ، فَلَا صِحَّةَ لِإِخْرَاجِ التَّائِبِ عَنْ الْفَاسِقِينَ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ بِمَعْنَى صُدُورِ الْفِسْقِ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ قَاذِفٌ، وَالْقَذْفُ فِسْقٌ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْعَ دُخُولِ التَّائِبِينَ فِي الْفَاسِقِينَ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، وَمَنْعَ عَدَمِ صِحَّةِ إخْرَاجِهِمْ عَنْ الْفَاسِقِينَ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ لَيْسَ بِمُوَجَّهٍ، وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى دُخُولِهِمْ بِأَنَّهُ قَدْ حُكِمَ بِالْفِسْقِ عَلَى أُولَئِكَ الْمُشَارِ بِهِ إلَى الَّذِينَ يَرْمُونَ، وَهُوَ عَامٌّ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِلْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ عَلَى أَنَّهُ لَا فِسْقَ مَعَ التَّوْبَةِ، وَكَفَى بِهِ مُخَصِّصًا، وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ أَنَّ دُخُولَ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ تَنَاوُلِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَشُمُولِهِ إيَّاهُ لَا بِحَسَبِ ثُبُوتِهِ لَهُ فِي الْوَاقِعِ كَيْفَ وَلَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ لَهُ لَمَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ فَهَاهُنَا الَّذِينَ يَرْمُونَ شَامِلٌ لِلتَّائِبَيْنِ مِنْهُمْ، فَلَا يَضُرُّ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِفَاسِقِينَ فِي الْوَاقِعِ. وَأَنَّ التَّوْبَةَ تُنَافِي ثُبُوتَ الْفِسْقِ كَمَا إذَا لَمْ يَدُلَّ زَيْدٌ فِي الِانْطِلَاقِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ بِاعْتِبَارِ دُخُولِهِ فِي الْقَوْمِ مِثْلَ انْطَلَقَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الِاسْتِثْنَاءِ دُخُولُ الْمُسْتَثْنَى فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ بِحَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ بِحَسَبِ دَلِيلٍ خَارِجٍ كَمَا يُقَالُ: خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا ذَاتَهُ وَصِفَاتَهُ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَعْلُومٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُنْقَطِعِ الْمُفِيدِ لِفَائِدَةٍ جَدِيدَةٍ، وَهَذَا مُرَادُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِعَدَمِ دُخُولِ التَّائِبِينَ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ اعْتِرَاضُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُقَالُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الْفَاسِقُونَ، وَيَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ لِإِخْرَاجِ التَّائِبِينَ مِنْهُمْ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحَمْلُ عَلَى أُولَئِكَ الْقَاذِفِينَ، وَالْإِثْبَاتُ لَهُمْ فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَمَا

[مسألة الاستثناء إذا تعقب الجمل المعطوفة]

مِنْ حُكْمِ صَدْرِ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ أَيْضًا لَكِنَّهُ أَثْبَتَ فِيهِ حُكْمًا آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ مَغْفُورٌ. (مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرَقُ بَاطِلٌ) ، وَأَصْحَابُنَا قَيَّدُوهُ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَا يُسَاوِيهِ نَحْوَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا عَبِيدِي أَوْ إلَّا مَمَالِيكِي لَكِنْ إنْ اسْتَثْنَى بِلَفْظٍ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْهُ فِي الْمَفْهُومِ لَكِنْ فِي الْوُجُودِ يُسَاوِيهِ يَصِحُّ نَحْوَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا هَؤُلَاءِ، وَلَا عَبِيدَ لَهُ سِوَاهُمْ. [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا تَعَقَّبَ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَةَ] مَسْأَلَةٌ (إذَا تَعَقَّبَ الِاسْتِثْنَاءُ الْجُمَلَ الْمَعْطُوفَةَ كَآيَةِ الْقَذْفِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكُلِّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَنَا إلَى الْأَقْرَبِ) لِقُرْبِهِ، وَاتِّصَالِهِ بِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَمَّا سِوَاهُ؛ وَلِأَنَّ تَوَقُّفَ صَدْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَجُوزُ مِنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ: كِرَامُ بَلْدَتِنَا أَغْنِيَاؤُهُمْ إلَّا زَيْدًا، بِمَعْنَى أَنَّ زَيْدًا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْحَمْلِ عَنْ الْكِرَامِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ التَّائِبُونَ مِنْ الْفَاسِقِينَ، وَلَا يَكُونُونَ مِنْ الْقَاذِفِينَ، وَالْأَمْرُ بِالْعَكْسِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ فَاسِقُونَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا حَالَ التَّوْبَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفٍ فِي التَّقْدِيرِ أَيْ: فِي الْأَحْوَالِ إلَّا حَالَ تَوْبَةِ الَّذِينَ تَابُوا، وَإِلَّا تَوْبَةَ الْقَاذِفِينَ أَيْ: وَقْتَ تَوْبَتِهِمْ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ الَّذِينَ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا لَا اسْمًا مَوْصُولًا وَضَمِيرُ تَابُوا عَائِدٌ إلَى أُولَئِكَ وَبَعْدَ اللَّتَيَّا، وَاَلَّتِي يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغًا مُتَّصِلًا لَا مُنْقَطِعًا [مَسْأَلَةٌ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرَقُ] (قَوْلُهُ: مَسْأَلَةٌ إذَا) وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَقِيبَ جُمَلٍ مَعْطُوفَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِالْوَاوِ، فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ رَدِّهِ إلَى الْجَمِيعِ، وَإِلَى الْأَخِيرَةِ خَاصَّةً، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الظُّهُورِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْجَمِيعِ وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى التَّوَقُّفِ وَبَعْضُهُمْ إلَى التَّفْصِيلِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي الْعَوْدِ إلَى الْأَخِيرِ لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلَةٌ بِهِ مُنْقَطِعَةٌ عَمَّا سَبَقَهَا مِنْ الْجُمَلِ نَظَرًا إلَى حُكْمِهَا، وَإِنْ اتَّصَلَتْ بِهِ بِاعْتِبَارِ ضَمِيرٍ أَوْ اسْمِ إشَارَةٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُجْعَلَ الْقُرْبُ، وَالِاتِّصَالُ دَلِيلًا، وَالِانْقِطَاعُ عَمَّا سَبَقَ دَلِيلًا آخَرَ. بِمَعْنَى أَنَّ الْأَخِيرَةَ بِسَبَبِ انْقِطَاعِهَا تَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ حَائِلٍ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَالسُّكُوتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ الْمَجْمُوعُ بِمَنْزِلَةِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاتِّصَالُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الِاسْتِثْنَاءِ. الثَّانِي أَنَّ عَوْدَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى مَا قَبْلَهُ إنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ اسْتِقْلَالِهِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالْعَوْدِ إلَى وَاحِدَةٍ، وَقَدْ عَادَ إلَى الْأَخِيرَةِ بِالِاتِّفَاقِ، فَلَا ضَرُورَةَ فِي الْعَوْدِ إلَى غَيْرِهَا وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَثْبَتَ الضَّرُورَةَ فِي جَانِبِ صَدْرِ الْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الِاسْتِثْنَاءُ لَزِمَ تَوَقُّفُ صَدْرِ الْكَلَامِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُغَيِّرٍ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِتَوَقُّفِ جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَا تَتَجَاوَزُ إلَى الْأَكْثَرِ، وَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا مَظِنَّةُ أَنْ يُقَالَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيكِ فَيُفِيدُ اشْتِرَاكَ الْجُمَلِ فِي

الْكَلَامِ ثَبَتَ ضَرُورَةً فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ فِي الْحُكْمِ فَفِي الِاسْتِثْنَاءِ أَوْلَى، وَصَرْفُهُ إلَى الْكُلِّ فِي الْجُمَلِ الْمُخْتَلِفَةِ كَآيَةِ الْقَذْفِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاجْلِدُوا - وَلا تَقْبَلُوا} [النور: 2 - 4] رَدًّا عَلَى سَبِيلِ الْجَزَاءِ بِلَفْظِ الْإِنْشَاءِ ثُمَّ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] (جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ بِلَفْظِ الْإِخْبَارِ) أَيْ: صَرَفَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الِاسْتِثْنَاءَ إلَى الْكُلِّ فَفِي آيَةِ الْقَذْفِ قَطَعَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْله تَعَالَى، وَلَا تَقْبَلُوا عَنْ قَوْلِهِ: فَاجْلِدُوهُمْ حَتَّى لَمْ يَجْعَلْ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ وَجَعَلَ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا ثُمَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِثْنَاءِ أَجَابَ بِأَنَّ الْعَطْفَ لَا يُفِيدُ شَرِكَةَ الْجُمَلِ التَّامَّةِ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ مَعَ أَنَّ وَضْعَ الْعَاطِفِ لِلتَّشْرِيكِ فِي الْإِعْرَابِ، وَالْحُكْمِ فَلَأَنْ لَا يُفِيدَ التَّشْرِيكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ لِكَلَامٍ لَا حُكْمَ لَهُ أَوْلَى. (قَوْلُهُ: وَصَرْفُهُ إلَى الْكُلِّ) تَنَزُّلٌ بَعْدَ إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ إلَى صُورَةٍ جُزْئِيَّةٍ وَقَعَ فِيهَا النِّزَاعُ وَكَثُرَ فِيهَا الْكَلَامُ، وَهِيَ آيَةُ الْقَذْفِ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى جُمَلٍ ثَلَاثٍ هِيَ فَاجْلِدُوا، وَلَا تَقْبَلُوا {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وَاسْتُدِلَّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ جُمْلَةَ، وَلَا تَقْبَلُوا مُنْقَطِعَةً عَنْ جُمْلَةِ فَاجْلِدُوا مَعَ أَنَّ كَوْنَهَا مَعْطُوفَةً عَلَيْهَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى وَجَعَلَ جُمْلَةَ {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ، وَلَا تَقْبَلُوا مَعَ أَنَّهَا جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ إخْبَارِيَّةٌ ظَاهِرُهَا الِاسْتِئْنَافُ بَيَانًا لِحَالِ الْقَاذِفِينَ وَجَرِيمَتِهِمْ غَيْرُ صَالِحَةٍ أَنْ تَكُونَ جَزَاءً لِلْقَذْفِ وَتَتْمِيمًا لِلْحَدِّ، وَلَا تَقْبَلُوا فِعْلِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ مَسُوقَةٌ جَزَاءً لِلْقَذْفِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَحَكَمَ عَلَيْهِ بِعَدَمِ الْفِسْقِ وَلَمْ يُسْقِطْ عَنْهُ الْجَلْدَ فَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ تَعَلُّقُ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْأَخِيرَتَيْنِ، وَقَطَعَ، وَلَا تَقْبَلُوا عَنْ فَاجْلِدُوا إذْ لَوْ كَانَ عَطْفًا عَلَيْهِ لَسَقَطَ الْجَلْدُ عَنْ التَّائِبِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ مِنْ صَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْكُلِّ، وَفِيهِ بَحْثٌ إذْ لَا نِزَاعَ لِأَحَدٍ فِي أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَلَا تَقْبَلُوا عَطْفٌ عَلَى فَاجْلِدُوا إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْحَدَّ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ فِعْلٌ يَلْزَمُ عَلَى الْإِمَامِ إقَامَتُهُ لَا حُرْمَةُ فِعْلٍ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْجَلْدُ بِالتَّوْبَةِ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ، وَلِهَذَا أَسْقَطَهُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ وَصَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْكُلِّ عِنْدَهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ بَلْ هُوَ ظَاهِرٌ يُعْدَلُ عَنْهُ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَظُهُورِ الْمَانِعِ مَعَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى هُوَ الَّذِينَ تَابُوا، وَأَصْلَحُوا وَمِنْ جُمْلَةِ الْإِصْلَاحِ الِاسْتِحْلَالُ وَطَلَبُ عَفْوِ الْمَقْذُوفِ، وَعِنْدَ وُقُوعِ ذَلِكَ يَسْقُطُ الْجَلْدُ أَيْضًا فَيَصِحُّ صَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْكُلِّ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ) مُبْتَدَأَةٌ غَيْرُ وَاقِعَةٍ مَوْقِعَ الْجَزَاءِ بَلْ هِيَ إزَالَةٌ لِمَا عَسَى أَنْ يُسْتَبْعَدَ مِنْ صَيْرُورَةِ الْقَذْفِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مَعَ أَنَّ الْقَذْفَ خَبَرٌ

جَعَلَ الِاسْتِثْنَاءَ مَصْرُوفًا إلَى قَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا، وَقَوْلِهِ: وَأُولَئِكَ لَا إلَى قَوْلِهِ: فَاجْلِدُوا حَتَّى أَنَّ الْجَلْدَ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ. وَعَدَمَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْفِسْقَ يَسْقُطَانِ بِالتَّوْبَةِ عِنْدَهُ، وَالْجُمَلُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي آيَةِ الْقَذْفِ هِيَ قَوْلُهُ: فَاجْلِدُوا، وَقَوْلُهُ: وَلَا تَقْبَلُوا، وَقَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] وَنَحْنُ جَعَلْنَا الْأَوَّلَيْنِ جَزَاءً؛ لِأَنَّهُمَا أُخْرِجَا بِلَفْظِ الطَّلَبِ مُفَوَّضَيْنِ إلَى الْأَئِمَّةِ وَجَعَلْنَا " وَأُولَئِكَ " مُسْتَأْنَفًا؛ لِأَنَّهَا بِطَرِيقِ الْإِخْبَارِ، وَالِاسْتِثْنَاءَ مَصْرُوفًا إلَى أُولَئِكَ. (وَمِنْ أَقْسَامِ بَيَانِ التَّغْيِيرِ الشَّرْطُ، وَقَدْ مَرَّ) أَيْ: فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. (وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ يَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ: بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ إلَّا نِصْفَ الْعَبْدِ أَنَّهُ يَقَعُ الْبَيْعُ عَلَى النِّصْفِ بِأَلْفٍ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي فَكَأَنَّهُ قَالَ: بِعْت نِصْفَ الْعَبْدِ بِأَلْفٍ. (وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ يَقَعُ عَلَى النِّصْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَكَأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِفَائِدَةِ تَقْسِيمِ الثَّمَنِ ثُمَّ يَخْرُجُ، وَلَا يَفْسُدُ بِهَذَا الشَّرْطِ) ؛ لِأَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَحْتَمِلُ الصِّدْقَ، وَالْكَذِبَ، وَرُبَّمَا يَكُونُ حِسْبَةً يَعْنِي أَنَّهُمْ الْفَاسِقُونَ الْعَاصُونَ بِهَتْكِ سِتْرِ الْعِفَّةِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ حِينَ عَجَزُوا عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَلِهَذَا اسْتَحَقُّوا الْعُقُوبَةَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ حَتَّى يَكُونَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ فَتُقْبَلُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِزَوَالِ الْفِسْقِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تُعْطَفُ عَلَى الْحُكْمِ بِالْوَاوِ بَلْ رُبَّمَا يَذْكُرُ الْفَاءَ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَرِدُ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِهَا عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ فَإِنْ قِيلَ الْوَاوُ لِمُجَرَّدِ النَّسَقِ، وَالنَّظْمِ دُونَ الْعَطْفِ عَلَى حُكْمٍ قُلْنَا فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ إذَا جَعَلْنَاهَا فِي مَعْرِضِ الْعِلَّةِ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ مَعَ أَنَّهُ أَقْرَبُ (قَوْلُهُ: وَمِنْ أَقْسَامِ بَيَانِ التَّغْيِيرِ الشَّرْطُ) أَمَّا أَنَّهُ تَغْيِيرٌ فَلِأَنَّهُ غَيَّرَ الصِّيغَةَ عَنْ أَنْ تَصِيرَ إيقَاعًا، وَيَثْبُتُ مُوجَبُهَا، وَأَمَّا أَنَّهُ بَيَانٌ فَلِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ يَحْتَمِلُ عَدَمَ الْإِيجَابِ فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ التَّكَلُّمِ بِالْعِلَّةِ مَعَ تَرَاخِي الْحُكْمِ كَبَيْعِ الْخِيَارِ، وَبِالشَّرْطِ ظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْمُحْتَمَلَ مُرَادٌ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّهُ بَيَانُ تَبْدِيلٍ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى أَنْتَ حُرٌّ نُزُولُ الْعِتْقِ فِي الْمَحَلِّ وَاسْتِقْرَارُهُ فِيهِ، وَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ فَبِالشَّرْطِ يَتَبَدَّلُ ذَلِكَ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ تَامَّةٍ، وَلَا إيجَابَ لِلْعِتْقِ بَلْ يَمِينٌ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ تَغْيِيرٌ لَا تَبْدِيلٌ إذْ لَمْ يَخْرُجْ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إخْبَارًا بِالْوَاجِبِ. وَقَدْ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِيجَابِ إلَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ فِي بَعْضِ الْجُمْلَةِ حَتَّى لَا يَبْقَى مُوجَبًا فِيهِ لَا فِي الْحَالِ، وَلَا فِي الْمَآلِ، وَالتَّعْلِيقُ يَمْنَعُ الِانْعِقَادَ فِي الْحَالِ لَا فِي الْمَآلِ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَفْسُدُ) أَيْ: الْبَيْعُ الْوَاقِعُ بِقَبُولِهِ بِعْت هَذَا الْعَبْدَ مِنْك بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ كَوْنُ نِصْفِهِ لَهُ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ كَلِمَةَ عَلَى تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ مَعَ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّ هَذَا بِالتَّحْقِيقِ لَيْسَ بَيْعًا بِالشَّرْطِ بَلْ هُوَ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ شَيْئَيْنِ أَيْ: أَحَدِ النِّصْفَيْنِ مِنْ نِصْفَيْ الْعَبْدِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ شَرْطٌ مِنْ جِهَةٍ

[فصل في بيان التبديل]

بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ شَيْئَيْنِ (فَصْلٌ) فِي بَيَانِ التَّبْدِيلِ، وَهُوَ النَّسْخُ وَالْبَحْثُ هُنَا فِي تَعْرِيفِهِ وَجَوَازِهِ، وَمَحَلِّهِ وَشَرْطِهِ. وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخِ: وَهُوَ أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُتَرَاخِيًا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُقْتَضِيًا خِلَافَ حُكْمِهِ وَلَمَّا كَانَ الشَّارِعُ عَالِمًا بِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ مُؤَقَّتٌ إلَى وَقْتِ كَذَا كَانَ دَلِيلُ الثَّانِي بَيَانًا مَحْضًا لِمُدَّةِ الْحُكْمِ فِي حَقِّهِ، وَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ مُطْلَقًا كَانَ الْبَقَاءُ فِيهِ أَصْلًا عِنْدَنَا لِجَهْلِنَا عَنْ مُدَّتِهِ فَالثَّانِي يَكُونُ تَبْدِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى عِلْمِنَا كَالْقَتْلِ بَيَانٌ لِلْأَجَلِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ، وَفِي حَقِّنَا تَبْدِيلٌ. (وَهُوَ جَائِزٌ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلْيَهُودِ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ فَعِنْدَ بَعْضِهِمْ بَاطِلٌ نَقْلًا، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ عَقْلًا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ مُسْلِمٍ) إنْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّ الشَّرَائِعَ الْمَاضِيَةَ لَمْ تَرْتَفِعْ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتِلْكَ الشَّرَائِعُ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ لَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ لَمْ يُجَوِّزُوا النَّسْخَ لَمْ يَرَوْا هَذَا الْمَعْنَى بَلْ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَأَفَادَ تَوْزِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ حَقِيقَةً فَلَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ [فَصْلٌ فِي بَيَانِ التَّبْدِيلِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) النَّسْخُ فِي اللُّغَةِ الْإِزَالَةُ يُقَالُ: نَسَخَتْ الشَّمْسُ الظِّلَّ أَيْ: أَزَالَتْهُ، وَالنَّقْلُ يُقَالُ: نَسَخْت الْكِتَابَ أَيْ: نَقَلْت مَا فِيهِ إلَى آخَرَ وَنَسَخْت النَّخْلَ نَقَلْتهَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَمِنْهُ الْمُنَاسَخَاتُ فِي الْمَوَارِيثِ لِانْتِقَالِ الْمَالِ مِنْ وَارِثٍ إلَى وَارِثٍ، وَفِي الشَّرْعِ هُوَ أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُتَرَاخِيًا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُقْتَضِيًا خِلَافَ حُكْمِهِ أَيْ: حُكْمِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الْمُتَقَدِّمِ فَخَرَجَ التَّخْصِيصُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَرَاخِيًا وَخُرُوجُ وَوُرُودُ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ مُقْتَضِيًا خِلَافَ حُكْمِ الْعَقْلِ مِنْ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِخِلَافِ حُكْمِهِ مَا يُدَافِعُهُ وَيُنَافِيهِ لَا مُجَرَّدُ الْمُغَايَرَةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَنَكَّرَ الدَّلِيلَ لِيَشْمَلَ الْكِتَابَ، وَالسُّنَّةَ قَوْلًا، وَفِعْلًا، وَغَيْرَ ذَلِكَ وَخَرَجَ مَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ، وَالْإِذْهَابِ عَنْ الْقُلُوبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ وَكَذَا نَسْخُ التِّلَاوَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْرِيفُ النَّسْخِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْأَحْكَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلدَّلِيلِ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ، وَهُوَ النَّاسِخِيَّةُ لَا مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، وَهُوَ الْمَنْسُوخِيَّةُ، وَقَدْ يُطْلَقُ النَّسْخُ بِمَعْنَى النَّاسِخِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ قَالَ: هُوَ الْخِطَابُ الدَّالُّ عَلَى ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى وَجْهٍ لَوْلَاهُ لَكَانَ بَاقِيًا ثَابِتًا مَعَ تَرَاخِيهِ عَنْهُ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى فِعْلِ الشَّارِعِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ قَالَ هُوَ رَفْعُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ مُتَأَخِّرٍ لَا يُقَالُ: مَا ثَبَتَ فِي الْمَاضِي لَا يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُهُ لِتَحَقُّقِهِ قَطْعًا، وَمَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ فَكَيْفَ يَبْطُلُ فَأَيًّا مَا كَانَ لَا رَفْعَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالرَّفْعِ الْبُطْلَانَ بَلْ زَوَالَ مَا نَظُنُّ مِنْ التَّعَلُّقِ بِالْمُسْتَقْبَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا النَّاسِخُ لَكَانَ فِي عُقُولِنَا ظَنُّ التَّعَلُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَبِالنَّاسِخِ زَالَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ الْمَظْنُونُ. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ الشَّارِعُ) يَعْنِي أَنَّ النَّسْخَ بَيَانٌ لِلْمُدَّةِ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِ اللَّهِ وَتَبْدِيلٌ بِالنَّظَرِ إلَى عِلْمِنَا حَيْثُ ارْتَفَعَ بَقَاءُ مَا كَانَ الْأَصْلُ بَقَاءَهُ عِنْدَنَا (قَوْلُهُ: وَنَحْنُ

مُرَادُهُمْ أَنَّ الشَّرِيعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُؤَقَّتَةٌ إلَى وَقْتِ وُرُودِ الشَّرِيعَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ إذْ ثَبَتَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مُوسَى وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بَشَّرَا بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَوْجَبَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِهِ، وَإِذَا كَانَ مُؤَقَّتًا الْأَوَّلُ لَا يُسَمَّى الثَّانِي نَاسِخًا وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ نَسْخًا بِقَوْلِهِ: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الْآيَةَ. (أَمَّا النَّقْلُ فَفِي التَّوْرَاةِ تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَادَّعَوْا نَقْلَهُ تَوَاتُرًا، وَيَدَّعُونَ النَّقْلَ عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنْ لَا نَسْخَ لِشَرِيعَتِهِ) قُلْنَا هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِوُجُودِ التَّحْرِيفِ. (وَأَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فَيَكُونُ حَسَنًا وَقَبِيحًا؛ وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ الْبَدَاءَ وَالْجَهْلَ بِالْعَوَاقِبِ، وَلَنَا أَنَّ حِلَّ الْأَخَوَاتِ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQنَقُولُ) فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ النَّسْخِ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَقَدْ وَرَدَ بِهِ التَّنْزِيلُ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي وُرُودِ نَصٍّ يَقْتَضِي حُكْمًا مُخَالِفًا لِمَا يَقْتَضِيهِ نَصٌّ سَابِقٌ غَيْرُ دَالٍّ عَلَى تَوْقِيتٍ بَلْ جَارٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْهُ التَّأْبِيدُ، وَلِهَذَا كَانَ تَفْصِي الْمُخَالِفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَنْ ارْتِفَاعِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً إلَى ظُهُورِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا مُطْلَقَةً يُفْهَمُ مِنْهُ التَّأْبِيدُ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ قَوْله تَعَالَى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الْآيَةَ لَا يُنَافِي ذَلِكَ بَلْ الْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ بِشَارَةَ مُوسَى، وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِشَرْعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِيجَابَهُمَا الرُّجُوعَ إلَيْهِ يَقْتَضِيَانِ تَوْقِيتَ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُفَسِّرًا أَوْ مُقَرِّرًا أَوْ مُبَدِّلًا لِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ التَّوْقِيتُ بَلْ هِيَ مُطْلَقَةٌ يُفْهَمُ مِنْهَا التَّأْبِيدُ فَتَبْدِيلُهَا يَكُونُ نَسْخًا، وَلَوْ سُلِّمَ فَمِثْلُ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ كَانَ مُطْلَقًا فَرُفِعَ. (قَوْلُهُ: أَمَّا النَّقْلُ:) الْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِ نَسْخِ شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَقْلًا تَمَسَّكُوا بِكِتَابِهِمْ، وَقَوْلِ نَبِيِّهِمْ وَادَّعَوْا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ أَمَّا الْكِتَابُ فَمَا نَقَلُوا أَنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ تَمَسَّكُوا بِالسَّبْتِ أَيْ: بِالْعِبَادَةِ فِيهِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَلَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ بَيْنَ السَّبْتِ وَغَيْرِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَمَا نَقَلُوا عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ هَذِهِ شَرِيعَةٌ مُؤَبَّدَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَفِي لَفْظِ الِادِّعَاءِ إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ، وَهُوَ مَنْعُ التَّوَاتُرِ، وَالْوُثُوقُ عَلَى كِتَابِهِمْ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ التَّحْرِيفِ وَاخْتِلَافِ النُّسَخِ وَتَنَاقُضِ الْأَحْكَامِ كَيْفَ وَلَمْ يَبْقَ فِي زَمَنِ بُخْتُ نَصَّرَ مِنْ الْيَهُودِ عَدَدٌ يَكُونُ إخْبَارُهُمْ مُتَوَاتِرًا وَخَبَرُ تَأْبِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى مِمَّا افْتَرَاهُ ابْنُ الرَّاوَنْدِيِّ لِيُعَارِضَ بِهِ دَعْوَى الرِّسَالَةِ مِنْ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ لَاشْتَهَرَ مُعَارَضَتُهُمْ بِهِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى دَفْعِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَالْقَائِلُونَ بِبُطْلَانِ النَّسْخِ عَقْلًا تَمَسَّكُوا بِوَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ مَأْمُورًا بِهِ وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فَيَلْزَمُ حُسْنُهُ، وَقُبْحُهُ لِذَاتِهِ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. الثَّانِي: أَنَّ

شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَحِلَّ الْجُزْءِ أَيْ: حَوَّاءَ لَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ثُمَّ نُسِخَ فِي غَيْرِ شَرِيعَتِهِ؛ وَلِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بَلْ الدَّلِيلُ الثَّانِي بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةً لَنَا، وَقَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُمْ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ نَصٌّ مَا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُجَّةً إلَّا فِي وَقْتِ نُزُولِهِ فَأَمَّا بَعْدَهُ، فَلَا. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا إمَّا بِالْتِزَامِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ أَيْ: فِي كُلِّ صُورَةٍ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُغَيَّرْ، وَإِمَّا بِأَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةٍ مُوجَبَةٍ قَطْعًا إلَى زَمَانِ نُزُولِ النَّاسِخِ فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ الْمَذْكُورُ) اعْلَمْ أَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِمْ: أَنَّهُ يُوجِبُ كَوْنَ الشَّيْءِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمَأْمُورًا بِهِ بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ لَا لِلْبَقَاءِ، إنَّمَا الْبَقَاءُ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَلَا يَلْزَمُ كَوْنُ الشَّيْءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّسْخَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ مَصْلَحَةٍ لِامْتِنَاعِ الْعَبَثِ عَلَى الْحَكِيمِ تَعَالَى بَلْ يَكُونُ لِحِكْمَةٍ خَفِيَتْ أَوَّلًا فَظَهَرَتْ ثَانِيًا، وَهَذَا رُجُوعٌ عَنْ الْمَصْلَحَةِ الْأَوْلَى بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى فَيَلْزَمُ الْبَدَاءُ وَالْجَهْلُ وَكِلَاهُمَا مُحَالَانِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّ أَوَّلًا عَلَى ثُبُوتِ النَّسْخِ بِمَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ نَسْخُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ فِي زَمَنِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْقَوْلَ بِتَأْبِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِدَلِيلِ نَقْلِيٍّ لَا يُقَالُ: الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ كَانَتْ جَائِزَةً بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ دُونَ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَرَفْعُهَا لَا يَكُونُ نَسْخًا وَلَوْ سُلِّمَ كَانَتْ فِي حَقِّ أُمَّةٍ مَخْصُوصَةٍ أَوْ كَانَتْ مُؤَقَّتَةً إلَى ظُهُورِ شَرِيعَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ ثَبَتَ الْإِطْلَاقُ وَاحْتِمَالُ التَّقْيِيدِ لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ، فَلَا يُعْبَأُ بِهِ، وَالْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ عِنْدَنَا بِالشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي زَمَانٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ فَرَفْعُهَا يَكُونُ نَسْخًا لَا مَحَالَةَ. وَأَجَابَ ثَانِيًا عَنْ دَلِيلِ الْقَائِلِينَ بِبُطْلَانِ النَّسْخِ عَقْلًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَوْمُ، وَأَشَارَ ثَالِثًا إلَى بُطْلَانِ دَلِيلِهِمْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ تَبَدُّلُ الْأَفْعَالِ حُسْنًا، وَقُبْحًا بِحَسْبِ تَبَدُّلِ الْأَزْمَانِ، وَالْأَحْوَالِ، وَالْأَشْخَاصِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ، وَالْقُبْحِ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الِاعْتِرَاضُ إنَّمَا هُوَ عَلَى فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَائِلٌ بِأَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ أَصْلًا، وَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي صُورَةٍ مَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ مَذْهَبِهِ، فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ، وَكَذَا الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِأَنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْبَقَاءَ لَيْسَ لِلِاسْتِصْحَابِ يَكُونُ دَفْعًا لِكَلَامِهِ لَا تَوْجِيهًا لَهُ (قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَحَلُّهُ) أَيْ: مَحَلُّ النَّسْخِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَرْعِيٌّ لَمْ يَلْحَقْهُ تَأْبِيدٌ، وَلَا تَوْقِيتٌ فَخَرَجَ الْأَحْكَامُ الْعَقْلِيَّةُ، وَالْحِسِّيَّةُ، وَالْإِخْبَارُ عَنْ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ أَوْ الْوَاقِعَةِ فِي الْحَالِ أَوْ الِاسْتِقْبَالِ مِمَّا يُؤَدِّي نَسْخُهُ إلَى كَذِبٍ أَوْ جَهْلٍ بِخِلَافِ الْإِخْبَارِ عَنْ حِلِّ الشَّيْءِ أَوْ حُرْمَتِهِ

مَأْمُورًا بِهِ وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْبَقَاءُ بِالِاسْتِصْحَابِ. وَالِاسْتِصْحَابُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ عُلَمَائِنَا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ نَصٌّ مَا فِي زَمَنِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حُجَّةً لَا فِي حَالَةِ نُزُولِهِ، وَلَا يَكُونَ حُجَّةً بَعْدَهَا، وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَاهُ بِزَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ بِوَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ارْتَفَعَ احْتِمَالُ النَّسْخِ وَبَقِيَ الشَّرَائِعُ الَّتِي قُبِضَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهَا حُجَّةً قَطْعِيَّةً مُؤَبَّدَةً. وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي عَنْ هَذَا النَّظَرِ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ نَلْتَزِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِصْحَابِ حُجَّةٌ أَيْ: كُلُّ اسْتِصْحَابٍ يَكُونُ فِيهِ عَدَمُ التَّغْيِيرِ مَعْلُومًا فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُكْمٌ فَثُبُوتُهُ بِالنَّصِّ وَبَقَاؤُهُ بِالِاسْتِصْحَابِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مُغَيِّرٌ إذْ لَوْ نَزَلَ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَمَّا لَمْ يُبَيِّنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ فَمِثْلُ الِاسْتِصْحَابِ يَكُونُ حُجَّةً. وَثَانِيهِمَا: أَنَّا لَا نَقُولُ: إنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَلْ النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةٍ مُوجَبَةٍ قَطْعًا إلَى زَمَانِ نُزُولِ النَّاسِخِ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ الْمَذْكُورُ، وَهُوَ كَوْنُ الشَّيْءِ مَأْمُورًا بِهِ، وَمَنْهِيًّا عَنْهُ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْأَوَّلَ حُكْمُهُ مُؤَقَّتٌ إلَى زَمَانِ نُزُولِ النَّاسِخِ فَإِذَا نَزَلَ النَّاسِخُ فَلَمْ يَبْقَ مُوجَبُ الْأَوَّلِ، وَهَذَا عَيْنُ مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الشَّارِعُ عَالِمًا بِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ مُؤَقَّتٌ إلَخْ، فَلَا يُحْتَاجُ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِثْلَ هَذَا حَلَالٌ، وَذَاكَ حَرَامٌ. وَالْمُرَادُ بِالتَّأْبِيدِ دَوَامُ الْحُكْمِ مَا دَامَتْ دَارُ التَّكْلِيفِ، وَلِهَذَا كَانَ التَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ تَأْبِيدًا لَا تَوْقِيتًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ صِيَغُ التَّأْبِيدِ فِي الْمُكْثِ الطَّوِيلِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَ الْحُكْمَ تَأْبِيدٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الدَّوَامُ، وَيَكُونُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى طُولَ الزَّمَانِ، فَيَرِدُ دَلِيلٌ يُبَيِّنُ انْتِهَاءَهُ فَيَكُونُ نَسْخًا فِي حَقِّنَا. قُلْنَا حَقِيقَةُ التَّأْبِيدِ هُوَ الدَّوَامُ وَاسْتِمْرَارُ جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ، وَإِرَادَةُ الْبَعْضِ مَجَازٌ لَا مَسَاغَ لَهُ بِدُونِ الْقَرِينَةِ وَبَعْدَ الدَّلَالَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ كَانَ رَفْعُهُ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ مِنْ بَابِ الْبَدَاءِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ. هَذَا إذَا كَانَ التَّأْبِيدُ قَيْدًا لِلْحُكْمِ كَالْوُجُوبِ مَثَلًا أَمَّا إذَا كَانَ قَيْدًا لِلْوَاجِبِ مِثْلَ صُومُوا أَبَدًا فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُهُ إذْ لَا يَزِيدُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جُزْئِيَّاتِ الزَّمَانِ عَلَى دَلَالَةِ قَوْلِنَا صُمْ غَدًا عَلَى صَوْمِ غَدٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِلنَّسْخِ فَإِنْ قِيلَ التَّأْبِيدُ يُفِيدُ الدَّوَامَ، وَالنَّسْخُ يَنْفِيهِ فَيَلْزَمُ التَّنَاقُضُ قُلْنَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إيجَابِ فِعْلٍ مُقَيَّدٍ بِالْأَبَدِ، وَعَدَمِ أَبَدِيَّةِ التَّكْلِيفِ بِهِ كَمَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إيجَابِ صَوْمٍ مُقَيَّدٍ بِزَمَانٍ، وَأَنْ لَا يُوجَدَ التَّكْلِيفُ بِهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَمَا يُقَالُ: صُمْ غَدًا ثُمَّ يُنْسَخُ قَبْلَهُ، وَذَلِكَ كَمَا يُكَلَّفُ بِصَوْمِ غَدٍ ثُمَّ يَمُوتُ قَبْلَ غَدٍ، فَلَا يُوجَدُ التَّكْلِيفُ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ قَوْلَهُ صُمْ أَبَدًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَوْمَ كُلِّ شَهْرٍ مِنْ شُهُورِ رَمَضَانَ إلَى الْأَبَدِ وَاجِبٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِ لِلْوُجُوبِ بِالِاسْتِمْرَارِ إلَى الْأَبَدِ فَلَمْ يَكُنْ رَفْعُ الْوُجُوبِ بِمَعْنَى عَدَمِ

الْمَذْكُورِ إلَى أَنْ نَقُولَ: إنَّ الْبَقَاءَ بِالِاسْتِصْحَابِ (وَفِي هَذَا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ، وَهُوَ كَالْإِحْيَاءِ ثُمَّ الْإِمَاتَةُ، وَأَيْضًا يُمْكِنُ حُسْنُ الشَّيْءِ، وَقُبْحُهُ فِي زَمَانَيْنِ) . (وَأَمَّا مَحَلُّهُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ إمَّا أَنْ لَا يَحْتَمِلَ النَّسْخَ فِي نَفْسِهِ كَالْأَحْكَامِ الْعَقْلِيَّةِ) مِثْلَ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَأَمْثَالِهَا (وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهَا) كَالْأُمُورِ الْحِسِّيَّةِ وَالْإِخْبَارَاتِ عَنْ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ أَوْ الْحَاضِرَةِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلَةِ نَحْوَ {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} [الحجر: 30] . (وَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ كَالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ثُمَّ هَذَا إمَّا إنْ لَحِقَهُ تَأْبِيدٌ نَصًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} [آل عمران: 55] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْجِهَادُ مَاضٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَوْ دَلَالَةً كَالشَّرَائِعِ الَّتِي قُبِضَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ بِدَلَالَةِ أَنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ أَوْ تَوْقِيتٌ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: تَأْبِيدٌ فِي قَوْلِهِ: أَمَّا إنْ لَحِقَهُ تَأْبِيدٌ. (فَإِنَّ النَّسْخَ قَبْلَ تَمَامِ الْوَقْتِ بَدَاءٌ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ مُطْلَقًا عَنْهُمَا) أَيْ: عِنْدَ التَّأْبِيدِ وَالتَّوْقِيتِ. (فَاَلَّذِي يَجْرِي فِيهِ النَّسْخُ هَذَا فَقَطْ، وَأَمَّا شَرْطُهُ فَالتَّمَكُّنُ مِنْ الِاعْتِقَادِ كَافٍ لَا حَاجَةَ إلَى التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَصِحُّ قَبْلَ الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْفِعْلُ فَقَبْلَ حُصُولِهِ يَكُونُ بَدْءًا، وَلَنَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُمِرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQاسْتِمْرَارِهِ مُنَاقِضًا لَهُ، وَذَلِكَ كَمَا تَقُولُ: صُمْ كُلَّ رَمَضَانَ. فَإِنَّ جَمِيعَ الرَّمَضَانَاتِ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْخِطَابِ، وَإِذَا مَاتَ انْقَطَعَ الْوُجُوبُ قَطْعًا وَلَمْ يَكُنْ نَفْيًا؛ لِتَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِشَيْءٍ مِنْ الرَّمَضَانَاتِ وَتَنَاوُلِ الْخِطَابَاتِ لَهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الْوَاجِبِ غَيْرَ زَمَانِ الْوُجُوبِ فَقَدْ يَتَقَيَّدُ الْأَوَّلُ بِالْأَبَدِ دُونَ الثَّانِي فَإِنْ قُلْتَ قَوْله تَعَالَى {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ} [آل عمران: 55] مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارِ فَكَيْفَ جَعَلَهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. قُلْتَ: مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حُكْمُ وُجُوبِ تَقَدُّمِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْكَافِرِ فِي بَابِ الشَّرَفِ، وَالْكَرَامَةِ كَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهَا. (قَوْلُهُ: فَذَبْحُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ثُمَّ نُسِخَ بِوُرُودِ الْفِدَاءِ بِذَبْحِ الشَّاةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ كَانَ مَأْمُورًا بِهِ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] ، وَالْفِدَاءُ إنَّمَا يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُقَدِّمَاتِ الذَّبْحِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْفِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِهَا. وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ الذَّبْحُ مَأْمُورًا بِهِ لَامْتَنَعَ شَرْعًا وَعَادَةً اشْتِغَالُهُ بِذَلِكَ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى التَّرْوِيعِ، وَإِمْرَارُهُ الْمُدْيَةَ عَلَى حَلْقِ الْوَلَدِ وَتَلُّهُ لِلْجَبِينِ. وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنْسَخْ لَكَانَ تَرْكُهُ مَعْصِيَةً فَإِنْ قِيلَ قَدْ وُجِدَ الذَّبْحُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ ذَبَحَ وَكَانَ كُلَّمَا قَطَعَ شَيْئًا يَلْتَحِمُ عَقِيبَ الْقَطْعِ قُلْنَا هَذَا خِلَافُ الْعَادَةِ، وَالظَّاهِرِ وَلَمْ يُنْقَلْ نَقْلًا يُعْتَدُّ بِهِ، وَلَوْ كَانَ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْفِدَاءِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا النَّسْخَ لَيْسَ مِنْ قِبَلِ النَّسْخِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ كَمَا فِي نَسْخِ الصَّلَوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِمَانِعٍ مِنْ الْخَارِجِ. وَأَمَّا كَوْنُهُ قَبْلَ الْفِعْلِ فَالنَّسْخُ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ نَسْخُ

[بيان الناسخ]

لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِخَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ نُسِخَ الزَّائِدُ عَلَى الْخَمْسِ مَعَ عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْعَمَلِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ هُوَ الِاعْتِقَادَ فَقَطْ أَوْ الِاعْتِقَادَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا، وَهُنَا) أَيْ: فِي صُورَةٍ يَكُونُ الْمَقْصُودُ الِاعْتِقَادَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا. (الِاعْتِقَادُ أَقْوَى فَإِنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً مَقْصُودَةً كَمَا فِي الْمُتَشَابِهِ، وَهُوَ) أَيْ: الِاعْتِقَادُ (لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِخِلَافِ الْعَمَلِ) فَإِنَّ الْعَمَلَ يُمْكِنُ أَنْ يَسْقُطَ بِعُذْرٍ كَالْإِقْرَارِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهَا (فَذَبْحُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ) أَيْ: مِنْ قَبِيلِ النَّسْخِ قَبْلَ الْفِعْلِ عِنْدَ الْبَعْضِ. (وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَيْسَ بِنَسْخٍ فَإِنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَا يَكُونُ نَسْخًا) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ تَقْرِيرِ الْأَصْلِ عَلَى مَا كَانَ (وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ابْتِلَاءً عَلَى الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قِيلَ الْأَمْرُ بِالْفِدَاءِ حَرَّمَ الْأَصْلَ فَيَكُونُ نَسْخًا) هَذَا إشْكَالٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ ذَبْحَ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْسَ بِنَسْخٍ (قُلْنَا لَمَّا قَامَ الْغَيْرُ مَقَامَهُ عَادَ الْحُرْمَةُ الْأَصْلِيَّةُ) . (وَأَمَّا النَّاسِخُ فَهُوَ إمَّا الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ لَا الْقِيَاسُ عَلَى مَا يَأْتِي ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا مَضَى. وَلِذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلُّ نَسْخٍ وَاقِعٍ فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا كَانَ يُقَدَّرُ وُقُوعُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنَّ النَّسْخَ لَا يَنْعَطِفُ عَلَى مُقَدَّمِ سِيَاقٍ بَلْ الْغَرَضُ أَنَّهُ إذَا فُرِضَ وُرُودُ الْأَمْرِ بِشَيْءٍ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ وَقْتِ اتِّصَالِ الْأَمْرِ بِهِ مَا يَتَّسِعُ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِفِعْلٍ ظَاهِرٍ فِي الِاسْتِمْرَارِ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِشَيْءٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: حُجُّوا هَذِهِ السَّنَةَ وَصُومُوا غَدًا ثُمَّ قَالَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْحَجِّ وَالْغَدِ: لَا تَحُجُّوا أَوْ لَا تَصُومُوا، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ إذْ لَا رَفْعَ هُنَا، وَلَا بَيَانَ لِلِانْتِهَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتِخْلَافٌ، وَجَعَلَ ذَبْحَ الشَّاةِ بَدَلًا عَنْ ذَبْحِ الْوَلَدِ إذْ الْفِدَاءُ اسْمٌ لِمَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ فِي قَبُولِ مَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْمَكْرُوهِ يُقَالُ: فَدَيْتُكَ نَفْسِي أَيْ: قَبِلْت مَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْكَ مِنْ الْمَكْرُوهِ. وَلَوْ كَانَ ذَبْحُ الْوَلَدِ مُرْتَفِعًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى قِيَامِ شَيْءٍ مَقَامَهُ وَحَيْثُ قَامَ الْخَلَفُ مَقَامَ الْأَصْلِ لَمْ يَتَحَقَّقْ تَرْكُ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى يَلْزَمَ الْإِثْمُ فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّ الْخَلَفَ قَامَ مَقَامَ الْأَصْلِ لَكِنَّهُ اسْتَلْزَمَ حُرْمَةَ الْأَصْلِ أَعْنِي ذَبْحَ الْوَلَدِ، وَتَحْرِيمُ الشَّيْءِ بَعْدَ وُجُوبِهِ نَسْخٌ لَا مَحَالَةَ. فَجَوَابُهُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَهُ نَسْخًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَإِنَّ حُرْمَةَ ذَبْحِ الْوَلَدِ ثَابِتَةٌ فِي الْأَصْلِ فَزَالَتْ بِالْوُجُوبِ ثُمَّ عَادَتْ بِقِيَامِ الشَّاةِ مَقَامَ الْوَلَدِ، فَلَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا حَتَّى يَكُونَ ثُبُوتُهَا نَسْخًا لِلْوُجُوبِ [بَيَانُ النَّاسِخِ] (قَوْلُهُ: لَا الْقِيَاسُ) ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ التَّعَدِّي إلَى فَرْعٍ لَا نَصَّ فِيهِ. (قَوْلُهُ: فَلَا نَسْخَ حِينَئِذٍ) أَيْ: بَعْدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ صَارَتْ مُؤَبَّدَةً بِانْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَحْكَامِ الْمَنْصُوصَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ سَقَطَ نَصِيبُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ الْمُنْعَقِدِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَثَبَتَ حَجْبُ الْأُمِّ عَنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ

وَلَا الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَكُونُ مِنْ بَابِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُتَفَرِّدٌ بِبَيَانِ الشَّرَائِعِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ، فَلَا نَسْخَ حِينَئِذٍ فَيَكُونُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ أَوْ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِفَسَادِ الْأَخِيرَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] دَلِيلٌ عَلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ (وَالسُّنَّةُ دُونَهُ) أَيْ: دُونَ الْكِتَابِ. (وقَوْله تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ» الْحَدِيثَ) أَوَّلُهُ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَكْثُرُ لَكُمْ الْأَحَادِيثُ مِنْ بَعْدِي فَإِذَا رُوِيَ لَكُمْ عَنِّي حَدِيثٌ فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ وَافَقَهُ فَاقْبَلُوهُ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَرُدُّوهُ» . (وَلِأَنَّهُ إنْ نُسِخَ الْكِتَابُ بِالسُّنَّةِ يَقُولُ الطَّاعِنُ خَالَفَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ كَلَامُ رَبِّهِ، وَإِنْ نُسِخَ السُّنَّةُ بِالْكِتَابِ يَقُولُ كَذَّبَهُ رَبُّهُ، فَلَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْأَخَوَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تُحْجَبُ بِالْإِخْوَةِ دُونَ الْأَخَوَيْنِ. قُلْنَا نَصِيبُ الْمُؤَلَّفَةِ سَقَطَ لِسُقُوطِ سَبَبِهِ لَا لِوُرُودِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ عَلَى ارْتِفَاعِهِ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ عَلَى عَدَمِ الْحَجْبِ بِالْأَخَوَيْنِ تُبْتَنَى عَلَى كَوْنِ الْمَفْهُومِ حُجَّةً وَكَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةً، وَلَا قَطْعَ بِذَلِكَ وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَابِ الْإِجْمَاعِ أَنَّ نَسْخَ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ جَائِزٌ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَنْعَقِدُ أَلْبَتَّةَ بِخِلَافِ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لَهُمَا، وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْعَقِدَ إجْمَاعٌ لِمَصْلَحَةٍ ثُمَّ تَتَبَدَّلُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ فَيَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ نَاسِخٌ لَهُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْسَخُ، وَلَا يُنْسَخُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَلَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهُ بَعْدَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا ظُهُورُهُ لِاسْتِلْزَامِهِ إجْمَاعَهُمْ أَوَّلًا عَلَى الْخَطَأِ مَعَ لُزُومِ كَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ. فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ الثَّانِي قِيَاسًا قُلْنَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْقِيَاسِ عَدَمُ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْسُوخُ بِالْإِجْمَاعِ هُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الشَّيْءِ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ النَّسْخِ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُخَالِفَ لِلنَّصِّ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إلَى نَصٍّ رَاجِحٍ عَلَى النَّصِّ الْأَوَّلِ الَّذِي نَجْعَلُهُ مَنْسُوخًا بِهِ لَا يُقَالُ: فَحِينَئِذٍ يَكُونُ النَّاسِخُ هُوَ النَّصُّ الرَّاجِحُ لَا الْإِجْمَاعُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُعْلَمَ تَرَاخِي ذَلِكَ النَّصِّ، فَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُ نَاسِخًا بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَرَاخِيًا لَا مَحَالَةَ فَيَصْلُحُ نَاسِخًا. (قَوْلُهُ: وَإِلَى هَذَا) يَعْنِي أَشَارَ بِقَوْلِهِ: تَعَالَى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11] إلَى أَنَّ الْإِيصَاءَ الَّذِي فَوَّضَ إلَى الْعِبَادِ قَدْ تَوَلَّاهُ بِنَفْسِهِ لِعِلْمِهِ بِجَهْلِ الْعِبَادِ، وَعَجْزِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِهِ فَصَارَ بَيَانُ الْمَوَارِيثِ كَأَنَّهُ الْإِيصَاءُ، وَكَذَا الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» مُشْعِرٌ بِأَنَّ ارْتِفَاعَ وَصِيَّةِ الْوَارِثِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ شَرْعِيَّةِ الْمِيرَاثِ كَمَا يُقَالُ: زَارَنِي

نُصَدِّقُهُ فَالتَّعَاوُنُ بَيْنَهُمَا أَوْلَى، وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) أَيْ: عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ (بِأَنَّهُ نُسِخَ قَوْله تَعَالَى {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] أَوَّلُ الْآيَةِ قَوْلُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] (بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ، وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231] الْآيَةَ) أَوَّلُ الْآيَةِ قَوْله تَعَالَى {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النساء: 15] نُسِخَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ» وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ (أَيْ: مَا مَرَّ مِنْ الِاحْتِجَاجَيْنِ لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا فَاسِدٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى فَسَادِ الِاحْتِجَاجِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ نُسِخَتْ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ إذْ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَأَكْرَمْتُهُ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الثَّابِتَ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وُجُوبُ حَقٍّ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ حَقٍّ آخَرَ بِطَرِيقٍ آخَرَ، فَلَا رَافِعَ لِلْوَصِيَّةِ إلَّا السُّنَّةُ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّ الْمَنْفِيَّ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ إنَّمَا هُوَ وُجُوبُ الْوَصِيَّةِ لَا جَوَازُهَا، وَالْجَوَازُ إنَّمَا انْتَفَى بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» ضَرُورَةَ نَفْيِ أَصْلِ الْوَصِيَّةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ جَوَازَهَا لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَلْ إبَاحَةٌ أَصْلِيَّةٌ، وَالثَّابِتُ بِالْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ الْوُجُوبُ الْمُرْتَفِعُ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ. (قَوْلُهُ: وَكَانَ هَذَا مِمَّا يُتْلَى فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) يَعْنِي أَنَّ حُكْمَ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] قَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ فَهَذَا مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ دُونَ الْحُكْمِ، وَقَوْلُهُ: {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [النساء: 15] بِالْعَكْسِ وَمَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا مُتَوَاتِرًا مَتْلُوًّا مَكْتُوبًا فِي الْمَصَاحِفِ لَكِنَّهُ يُجْعَلُ مِنْ قِسْمِ الْكِتَابِ لَا السُّنَّةِ، وَلِذَا قَالَ عُمَرُ لَوْلَا أَنَّنِي أَخْشَى أَنْ يُقَالَ زَادَ عُمَرُ فِي الْقُرْآنِ مَا لَيْسَ مِنْهُ لَأَلْحَقْت الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إلَخْ بِالْمُصْحَفِ. (قَوْلُهُ: فَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ) مُتَيَقَّنٌ فِيهِ بَحْثٌ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى كَوْنِ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَابِتًا بِالسُّنَّةِ سِوَى أَنَّهُ غَيْرُ مَتْلُوٍّ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ كَالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ قَبْلَ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ ثَابِتًا بِالْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ آيَةَ التَّوَجُّهِ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إنَّمَا نَزَلَتْ بَعْدَ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِالْمَدِينَةِ فَإِنْ قِيلَ التَّوَجُّهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنْ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا، وَهِيَ ثَابِتَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام: 90] قُلْنَا قَدْ ظَهَرَ انْتِسَاخُهُ بِالسُّنَّةِ حَيْثُ كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَتَوَجَّهُ بِمَكَّةَ إلَى الْكَعْبَةِ. (قَوْلُهُ: وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ) فِيهِ بَحْثٌ لِعَدَمِ النِّزَاعِ فِي أَنَّ الْكِتَابَ لَا يُنْسَخُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ بِمُجَرَّدِ إخْبَارِ الرَّاوِي مِنْ غَيْرِ نَقْلِ حَدِيثٍ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهَا " حَتَّى أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ " ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ بِالْكِتَابِ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ قَوْله تَعَالَى

[مسألة كون الناسخ أشق]

فِي الْأَوَّلِ فَوَّضَهَا إلَيْنَا ثُمَّ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ بَيَانَ حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] ، قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» (ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى فَسَادِ الِاحْتِجَاجِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ:) : وَلِأَنَّ عُمَرَ قَالَ: إنَّ الرَّجْمَ كَانَ مِمَّا يُتْلَى فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَوْلُهُ: تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] لَمْ يُنْسَخْ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ» بَلْ نُسِخَ بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا، وَكَانَ هَذَا مِمَّا يُتْلَى فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَنُسِخَ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ فَسَادَ مَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالسُّنَّةِ بِالْكِتَابِ أَرَادَ أَنْ يَذْكُرَ الْحُجَّةَ الصَّحِيحَةَ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ فَقَالَ. (وَالْحُجَّةُ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي إلَى الْكَعْبَةِ وَبَعْدَمَا قَدِمَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَالْأَوَّلُ إنْ كَانَ بِالْكِتَابِ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ، وَالثَّانِي كَانَ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ بِالْكِتَابِ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا كَانَ بِمَكَّةَ كَانَ يَتَوَجَّهُ إلَى الْكَعْبَةِ، وَلَا يُدْرَى أَنَّهُ كَانَ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ إلَى الْمَدِينَةِ تَوَجَّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَلَيْسَ هَذَا بِالْكِتَابِ بَلْ بِالسُّنَّةِ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا بِالْكِتَابِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ مُتَيَقَّنٌ بِهِ أَمَّا نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: (، وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ـــــــــــــــــــــــــــــQ {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] وَأَشَارَ الشَّيْخُ أَبُو الْيُسْرِ إلَى أَنَّ حُرْمَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى التِّسْعِ حُكْمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] بِمَنْزِلَةِ التَّأْبِيدِ إذْ الْبَعْدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ تَتَنَاوَلُ الْأَبَدَ. (قَوْلُهُ: وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ) فَإِنْ قُلْت: هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِالِاجْتِهَادِ قُلْتُ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْوَحْيِ حَيْثُ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقِرَّهُ عَلَى الْخَطَأِ. (قَوْلُهُ: بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ) فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ خَبَرٌ لَا يُقْطَعُ بِصِحَّتِهِ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ فَإِذَا سَمِعْتُمْ مِنِّي، وَقِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْحَدِيثِ مُطْلَقًا. [مَسْأَلَةٌ كَوْنُ النَّاسِخِ أَشَقَّ] (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ إنَّمَا هُوَ فِي مَنْسُوخِ الْكِتَابِ إذْ الْحَدِيثُ لَيْسَ الْوَحْيَ الْمَتْلُوَّ حَتَّى يَكُونَ مَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ بَلْ لَا يَجْرِي النَّسْخُ إلَّا فِي حُكْمِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ هَاهُنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى الْكِتَابِ لَا بِنَظْمِهِ. (قَوْلُهُ قَالُوا وَقَدْ يُرْفَعَانِ) بَحْثٌ اسْتِطْرَادِيٌّ يَعْنِي: كَمَا يُرْفَعُ الْحُكْمُ وَالتِّلَاوَةُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ حَتَّى يَكُونَ نَسْخًا وَقَدْ يُرْفَعَانِ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُكْمِ هُوَ الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ وَنَحْوِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي ارْتِفَاعِ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ أَوْ بِإِذْهَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ الْعِلْمَ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ إنَّمَا يَقُومُ بِالرُّوحِ وَهُوَ لَا يَفْنَى بِالْمَوْتِ فَلِذَا أَحَالَ هَذَا الْبَحْثَ عَلَى غَيْرِهِ. (قَوْلُهُ {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7]

مَا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ) فَتَكُونُ السُّنَّةُ نَاسِخَةً لِقَوْلِهِ: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] . (وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بُعِثَ مُبَيِّنًا فَجَازَ لَهُ بَيَانُ مُدَّةِ حُكْمِ الْكِتَابِ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبَيِّنَ اللَّهُ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ مُدَّةَ حُكْمٍ ثَبَتَ بِوَحْيٍ غَيْرِ مَتْلُوٍّ وقَوْله تَعَالَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ} [البقرة: 106] أَيْ: فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ دُونَ النَّظْمِ، وَإِنْ سُلِّمَ هَذَا لَكِنَّهَا إنَّمَا نُسِخَ حُكْمُهُ لَا نَظْمُهُ، وَهُمَا فِي الْحُكْمِ مِثْلَانِ) أَيْ: إنْ سُلِّمَ: أَنَّ الْمُرَادَ الْخَيْرِيَّةُ مِنْ حَيْثُ النَّظْمُ فَالسُّنَّةُ لَا تَنْسَخُ نَظْمَ الْكِتَابِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالنَّظْمِ بَاقِيَةٌ كَمَا كَانَتْ بَلْ تَنْسَخُ حُكْمَهُ وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ مِثْلَانِ، وَإِنَّ الْكِتَابَ رَاجِحٌ فِي النَّظْمِ بِأَنَّ نَظْمَهُ مُعْجِزٌ وَتَثْبُتُ بِنَظْمِهِ أَحْكَامٌ كَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا. (وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] أَيْ: لَيْسَ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْله تَعَالَى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] . (وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَاعْرِضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ» إذَا أَشْكَلَ تَارِيخُهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الصِّحَّةِ بِحَيْثُ يُنْسَخُ بِهِ الْكِتَابُ بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْحَدِيثِ) ، وَهُوَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَكْثُرُ الْأَحَادِيثُ مِنْ بَعْدِي» (وَمَا ذُكِرَ مِنْ الطَّعْنِ فَإِنَّهُ فِي نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ وَارِدٌ فَإِنَّ مَنْ هُوَ مُصَدِّقٌ يَتَيَقَّنُ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ النِّسْيَانِ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ إشَارَةً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عِبَارَةً، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ. (قَوْلُهُ: فَقَدْ اخْتَلَفُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ أَمْ لَا) يَعْنِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ كَانَتْ عِبَادَةً مُسْتَقِلَّةً كَزِيَادَةِ صَلَاةٍ سَادِسَةٍ مَثَلًا فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْجُمْهُورِ فِي أَنَّهَا لَا تَكُونُ نَسْخًا، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ، وَمَثَّلُوا لَهُ بِزِيَادَةِ جُزْءٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ زِيَادَةِ مَا يَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى سِتَّةِ مَذَاهِبَ: (الْأَوَّلِ) أَنَّهُ نَسْخٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُلَمَاءُ الْحَنَفِيَّةِ. (الثَّانِي) أَنَّهُ لَيْسَ بِنَسْخٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ. (الثَّالِثِ) إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ تَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فَنَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا. (الرَّابِعِ) إنْ غَيَّرَتْ الزِّيَادَةُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ صَارَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ شَرْعًا فَنَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ. (الْخَامِسِ) إنْ اتَّحَدَتْ الزِّيَادَةُ مَعَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَرْتَفِعُ التَّعَدُّدُ وَالِانْفِصَالُ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَلَا. (السَّادِسِ) أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ رَفَعَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَنَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُمْ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، وَالتَّأْكِيدِ سَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ رَفَعَتْ أَوْ بِثُبُوتِهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ الرَّافِعَةَ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا تَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ. وَكَذَا ثُبُوتُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي تَثْبُتُ بِهِ الزِّيَادَةُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصْلُحُ نَاسِخًا هَذَا تَفْصِيلُ الْمَذَاهِبِ عَلَى مَا فِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَلِلْمُصَنِّفِ

وَمَنْ هُوَ مُكَذِّبٌ يَطْعَنُ فِي الْكُلِّ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالطَّعْنِ الْبَاطِلِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا إعْلَاءُ مَنْزِلَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَتَعْظِيمُ سُنَّتِهِ وَنَظَائِرُ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ كَثِيرَةٌ) كَنَسْخِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَالِدَيْنِ بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - مَا قُبِضَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَا شَاءَ فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] مَنْسُوخًا بِالسُّنَّةِ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ نَسْخُ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] (وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا» . الْحَدِيثَ) . مَسْأَلَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّاسِخُ أَشَقَّ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهِ الصِّيَامُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَالْفِدْيَةِ ثُمَّ صَارَ الصَّوْمُ حَتْمًا وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْمِثْلِ أَوْ الْأَخَفِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] الْآيَةَ. قُلْنَا الْأَشَقُّ قَدْ يَكُونُ خَيْرًا؛ لِأَنَّ فِيهِ فَضْلَ الثَّوَابِ مَسْأَلَةٌ لَا يُنْسَخُ الْمُتَوَاتِرُ بِالْآحَادِ وَيُنْسَخُ بِالْمَشْهُورِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيَانٌ يَجُوزُ بِالْآحَادِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَبْدِيلٌ يُشْتَرَطُ التَّوَاتُرُ فَيَجُوزُ بِمَا هُوَ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا أَيْ: بَيْنَ الْمُتَوَاتِرِ وَخَبَرِ الْآحَادِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. . ( ـــــــــــــــــــــــــــــQ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ مُؤَاخَذَتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ يَجِبُ إخْرَاجُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُهُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا مُؤَاخَذَةَ فِي ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ لِمَا عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ فِي الِاخْتِصَارِ بِالسُّكُوتِ عَمَّا هُوَ مَعْلُومٌ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ أَوْرَدَ الزِّيَادَةِ الَّتِي تُغَيِّرُ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ بِثَلَاثَةِ أَمْثِلَةٍ: الْأَوَّلِ: زِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ. وَالثَّانِي: زِيَادَةِ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى ثَمَانِينَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ. وَالثَّالِثِ: التَّخْيِيرِ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ بَعْدَ التَّخْيِيرِ فِي أَمْرَيْنِ كَمَا يُقَالُ صُمْ أَوْ اعْتِقْ ثُمَّ يُقَالُ صُمْ أَوْ اعْتِقْ أَوْ أَطْعِمْ، وَقَدْ فُسِّرَ فِي الْمَحْصُولِ وَغَيْرِهِ تَغْيِيرُ الْأَصْلِ بِحَيْثُ يَصِيرُ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ أَعْنِي: الْمَزِيدَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَوْ يُؤْتَى بِهِ كَمَا هُوَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ تَجِبُ الْإِعَادَةُ وَالِاسْتِئْنَافُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ إذْ لَوْ فَرَضْنَا كَوْنَ الْفَجْرِ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَمَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَسَلَّمَ تَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ بِرَكَعَاتِهَا الثَّلَاثِ بِخِلَافِ الْمِثَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ إذْ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا تَجِبُ إلَّا زِيَادَةُ عِشْرِينَ مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ لِلثَّمَانِينَ، وَكَذَا لَوْ أَتَى بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَعْنِي: الصَّوْمَ، أَوْ الْإِعْتَاقَ كَانَ كَافِيًا مِنْ غَيْرِ وُجُوبِ شَيْءٍ آخَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ اقْتَصَرَ فِي تَفْسِيرِ تَغْيِيرِ الْأَصْلِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ وُجُودُ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، فَالْمِثَالُ الثَّانِي مُسْتَقِيمٌ إذْ الثَّمَانُونَ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهَا إقَامَةُ

وَأَمَّا الْمَنْسُوخُ فَهُوَ إمَّا الْحُكْمُ وَالتِّلَاوَةُ مَعًا قَالُوا وَقَدْ يُرْفَعَانِ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ أَوْ بِالْإِنْسَاءِ كَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالْإِنْسَاءُ كَانَ لِلْقُرْآنِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] فَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَإِمَّا الْحُكْمُ فَقَطْ وَإِمَّا التِّلَاوَةُ فَقَطْ وَمَنَعَهُ الْبَعْضُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ بِحُكْمِهِ، وَالْحُكْمَ بِالنَّصِّ فَلَا انْفِكَاكَ بَيْنَهُمَا وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] نُسِخَ حُكْمُهُ وَبَقِيَ تِلَاوَتُهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ) كَوَصِيَّةِ الْوَالِدَيْنِ وَسُورَةِ الْكَافِرِينَ وَنَحْوِهِمَا (وَنَسْخُ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ) وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ؛ وَلِأَنَّ حُكْمَهُ (أَيْ: حُكْمَ النَّصِّ) عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدِهِمَا: يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَاهُ. وَالْآخَرِ: بِنَظْمِهِ كَالْإِعْجَازِ وَجَوَازِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَتِهِ لِلْجُنُبِ، وَالْحَائِضِ فَيَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ أَحَدُهُمَا بِدُونِ الْآخَرِ (وَإِمَّا وَصْفُ الْحُكْمِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَإِمَّا الْحُكْمُ فَقَطْ، وَإِمَّا التِّلَاوَةُ فَقَطْ (فَقَدْ اخْتَلَفُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ أَمْ لَا وَذَكَرُوا أَنَّهَا إمَّا بِزِيَادَةِ جُزْءٍ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، أَوْ شَرْطٍ كَالْإِيمَانِ فِي الْكَفَّارَةِ. وَإِمَّا بِرَفْعِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ كَمَا لَوْ قَالَ فِي «الْعَلُوفَةِ زَكَاةٌ» بَعْدَ قَوْلِهِ «فِي السَّائِمَةِ زَكَاةٌ» وَهِيَ نَسْخٌ عِنْدَنَا) أَيْ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ عِنْدَنَا (وَيَجِبُ اسْتِثْنَاءُ الثَّالِثِ إذْ لَا نَقُولُ بِالْمَفْهُومِ) أَيْ: بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. اعْلَمْ أَنَّ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحَدِّ. وَيَبْقَى الْإِشْكَالُ فِي الْمِثَالِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ بَلْ يَحْصُلُ الْإِتْيَانُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَغَايَةُ تَوْجِيهِهِ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْأَوَّلَيْنِ مَعَ فِعْلِ الثَّالِثِ غَيْرُ مُحَرَّمٍ وَقَدْ كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ الزِّيَادَةِ فَهُوَ كَالْعَدَمِ فِي انْتِفَاءِ الْحُرْمَةِ عَنْهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِثَالَ الثَّانِيَ أَعْنِي: زِيَادَةَ عِشْرِينَ عَلَى الثَّمَانِينَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ النَّسْخِ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّ الْمِثَالَ الثَّالِثَ نَسْخٌ عِنْدَهُ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ دُخُولُهُ فِي ضَابِطِ تَغْيِيرِ الْأَصْلِ بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّ مَذْهَبَهُ هُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ غَيَّرَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ وَيَلْزَمُ اسْتِئْنَافُهُ، أَوْ كَانَتْ زِيَادَةُ فِعْلٍ ثَالِثٍ بَعْدَ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ فَنَسْخٌ، وَإِلَّا فَلَا كَزِيَادَةِ عِشْرِينَ عَلَى ثَمَانِينَ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْآمِدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ قَدْ غَيَّرَتْ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ تَغْيِيرًا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ صَارَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ لَوْ فُعِلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى حَسَبِ مَا كَانَ يُفْعَلُ قَبْلَهَا كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَوَجَبَ اسْتِئْنَافُهُ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا. أَوْ كَانَ قَدْ خُيِّرَ بَيْنَ فِعْلَيْنِ فَزِيدَ فِعْلٌ ثَالِثٌ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَسْخًا لِتَحْرِيمِ تَرْكِ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَإِلَّا فَلَا وَذَلِكَ كَزِيَادَةِ التَّغْرِيبِ عَلَى الْجَلْدِ وَزِيَادَةِ عِشْرِينَ جَلْدَةً عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ وَزِيَادَةِ شَرْطٍ مُنْفَصِلٍ فِي شَرَائِطِ الصَّلَاةِ كَاشْتِرَاطِ الْوُضُوءِ وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ

الْمَحْصُولِ وَأُصُولِ ابْن الْحَاجِب ذَكَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ إمَّا بِزِيَادَةِ الْجُزْءِ، أَوْ بِزِيَادَةِ الشَّرْطِ أَوْ بِزِيَادَةِ مَا يَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَقُولُ يَجِبُ اسْتِثْنَاءُ الثَّالِثِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ بِمَا يَرْفَعُ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ لَا تَكُونُ نَسْخًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَقُولُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ: نَسْخٌ فِي الثَّالِثِ، وَقِيلَ: نَسْخٌ إنْ غَيَّرَتْ الْأَصْلَ حَتَّى لَوْ أَتَى بِهِ كَمَا هُوَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ تَجِبُ الْإِعَادَةُ كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ فِي الْفَجْرِ وَعِشْرِينَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ مَثَلًا، وَالتَّخْيِيرِ فِي الثَّلَاثَةِ بَعْدَ مَا كَانَ فِي الِاثْنَيْنِ كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ) كَانَ فِي الْكِتَابِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَزَادَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمْرًا ثَالِثًا، وَهُوَ الشَّاهِدُ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي لَكِنَّ الْأَخِيرَيْنِ لَا يَسْتَقِيمَانِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ. اعْلَمْ أَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ أَوْرَدَ هُنَا ثَلَاثَةَ أَمْثِلَةٍ: فَالْأَوَّلُ: هُوَ زِيَادَةُ رَكْعَةٍ فِي الْفَجْرِ مَثَلًا، وَهَذَا الْمِثَالُ مُسْتَقِيمٌ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ الزِّيَادَةِ إنْ أَتَى بِهِ كَمَا هُوَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ تَجِبُ الْإِعَادَةُ، وَالْمِثَالَانِ الْأَخِيرَانِ وَهُمَا زِيَادَةُ عِشْرِينَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ لَا يَسْتَقِيمَانِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَإِنَّهُ فَسَّرَ تَغْيِيرَ الْأَصْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذِهِ عِبَارَةُ الْأَحْكَامِ وَفِي مُعْتَمَدِ الْأُصُولِ أَنَّهُ قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ: إنَّ الزِّيَادَةَ إذَا كَانَتْ مُغَيِّرَةً حُكْمَ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ تَغْيِيرًا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَ الْمَزِيدَ عَلَيْهِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَهَا لَمْ يُجْزِهِ، وَلَزِمَ اسْتِئْنَافُهُ كَانَتْ نَسْخًا، وَإِنْ فَعَلَ بَعْدَ الزِّيَادَةِ يَصِحُّ وَلَمْ يَلْزَمْ اسْتِئْنَافُهُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ضَمُّ شَيْءٍ آخَرَ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ نَسْخًا، وَقَالَ لَوْ خَيَّرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ وَاجِبَيْنِ لَكَانَتْ زِيَادَةُ ثَالِثٍ نَسْخًا لِقُبْحِ تَرْكِهِمَا فَظَهَرَ أَنَّ فِي نَقْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ خَلَلًا بَيِّنًا. (قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ فُسِّرَ) يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْحَاجِبِ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ. (قَوْلُهُ: فَتَرْفَعُ أَجْزَاءَ الْأَصْلِ) قِيلَ: مَعْنَى الْإِجْزَاءِ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ، وَالْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَدَفْعُ وُجُوبِ الْقَضَاءِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالِامْتِثَالُ بِفِعْلِ الْأَصْلِ لَمْ يَرْتَفِعْ، وَمَا ارْتَفَعَ وَهُوَ عَدَمُ تَوَقُّفِهِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ لَيْسَ بِنَسْخٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ إلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ إنَّهُ نَسْخٌ لِتَحْرِيمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ مَثَلًا، وَأَيْضًا قِيلَ: إنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ مَعْنَاهُ وُجُوبُ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُرْتَفِعٍ، وَالْمُرْتَفِعُ وَهُوَ عَدَمُ قِيَامِ غَيْرِهِمَا مَقَامَهُمَا ثَابِتٌ لِحُكْمِ النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَكُونُ رَفْعُهُ نَسْخًا. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا الْمُطْلَقُ) يَعْنِي: أَنَّ الْإِطْلَاقَ مَعْنًى مَقْصُودٌ لَهُ حُكْمٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْجَوَازُ بِمَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى الْقَيْدِ وَحُكْمُ الْمُقَيَّدِ الْجَوَازُ بِمَا اشْتَمَلَ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْجَوَازِ بِدُونِهِ فَثُبُوتُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ حُكْمِ

بِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ كَمَا هُوَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ تَجِبُ الْإِعَادَةُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُمَا لَا يَسْتَقِيمَانِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ؛ لِأَنَّ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ إنْ أَتَى بِهِ كَمَا هُوَ قَبْلَ الزِّيَادَةِ لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ (وَقِيلَ: إنْ صَارَ الْكُلُّ شَيْئًا وَاحِدًا كَانَ نَسْخًا كَزِيَادَةِ رَكْعَةٍ لَا كَالْوُضُوءِ فِي الطَّوَافِ، وَاخْتَارَ الْبَعْضُ قَوْلَ أَبِي الْحُسَيْنِ) وَذَكَرَ فِي الْمَحْصُولِ وَأُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الْمُخْتَارَ قَوْلُ أَبِي الْحُسَيْنِ، وَهُوَ: أَنَّهُ (لَا شَكَّ أَنَّ الزِّيَادَةَ تُبَدِّلُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ) أَيْ: الشَّيْءُ الْمُبَدَّلُ (حُكْمًا شَرْعِيًّا تَكُونُ نَسْخًا وَإِلَّا نَحْوَ أَنْ يَكُونَ عَدَمًا أَصْلِيًّا فَلَا. وَلَنَا أَنَّ زِيَادَةَ الْجُزْءِ إمَّا بِالتَّخْيِيرِ فِي اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بَعْدَ مَا كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا أَوْ وَاحِدَ اثْنَيْنِ فَتَرْفَعُ حُرْمَةَ التَّرْكِ، وَإِمَّا بِإِيجَابِ شَيْءٍ زَائِدٍ فَتَرْفَعُ أَجْزَاءِ الْأَصْلِ كَزِيَادَةِ الشَّرْطِ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُخْتَلَفَ فِيهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ زِيَادَةُ الْجُزْءِ وَزِيَادَةُ الشَّرْطِ، أَمَّا زِيَادَةُ الْجُزْءِ فَإِنَّمَا تَكُونُ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلِ بِالتَّخْيِيرِ فِي اثْنَيْنِ بَعْدَمَا كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا فَالزِّيَادَةُ هُنَا تَرْفَعُ حُرْمَةَ تَرْكِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الْوَاحِدِ. وَالثَّانِي بِالتَّخْيِيرِ فِي الثَّلَاثَةِ بَعْدَ مَا كَانَ الْوَاجِبُ أَحَدَ اثْنَيْنِ فَالزِّيَادَةُ هُنَا تَرْفَعُ حُرْمَةَ تَرْكِ أَحَدِ هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ، وَالثَّالِثِ: بِإِيجَابِ شَيْءٍ زَائِدٍ فَالزِّيَادَةُ هُنَا تَرْفَعُ أَجْزَاءَ الْأَصْلِ، وَأَمَّا زِيَادَةُ الشَّرْطِ فَإِنَّهَا تَرْفَعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْآخَرِ فَيَكُونُ نَسْخًا، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُقَيَّدَ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْجَوَازِ بِدُونِ الْقَيْدِ بِحَسَبِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ قَوْلٌ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِحَسَبِ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَهُوَ لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا. (قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمَ) أَيْ: لَوْ كَانَ التَّوَقُّفُ عَلَى عَدَمِ الْخَلَفِ مُوجِبًا لِكَوْنِ الْحُكْمِ غَيْرَ شَرْعِيٍّ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ شَرْعِيًّا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ كُلِّ شَيْءٍ، وَحُرْمَةَ تَرْكِهِ يُبْتَنَى عَلَى عَدَمِ الْخَلَفِ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخَلَفِ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ مَعًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، فَيَكُونُ فَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ مَثَلًا ثَابِتَةً بِالنَّصِّ، وَحُرْمَةُ تَرْكِهِمَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى عَدَمِ الْخَلَفِ، وَأَيْضًا لَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ حُرْمَةِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْخَلَفِ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ نَفْيُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى عَدَمِ الْخَلَفِ حُكْمًا شَرْعِيًّا؟ (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا التَّخْيِيرُ) لَمَّا جَعَلَ الْخَصْمُ التَّخْيِيرَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِخْلَافِ حَتَّى سَوَّى بَيْنَ التَّخْيِيرِ فِي رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَشَاهِدٍ مَعَ يَمِينٍ، وَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ أَبْطَلَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّخْيِيرِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَوْ الْأُمُورِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ فِي الِاسْتِخْلَافِ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْوُجُوبُ أَوَّلًا كَالْغُسْلِ مَثَلًا، وَكَالْوُضُوءِ إلَّا أَنَّ الْخَلَفَ جُعِلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ ذَلِكَ الْأَصْلِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَرْتَفِعْ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِخْلَافُ نَسْخًا بِخِلَافِ التَّخْيِيرِ

أَجْزَاءَ الْأَصْلِ، وَهَذَا مَا قَالَ فِي الْمَتْنِ كَزِيَادَةِ الشَّرْطِ. (وَالْكُلُّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُسْتَفَادٌ مِنْ النَّصِّ، وَأَيْضًا الْمُطْلَقُ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ كَمَا ذَكَرْنَا) أَيْ: حُرْمَةَ تَرْكِ الْوَاجِبِ الْوَاحِدِ، وَحُرْمَةَ تَرْكِ أَحَدِ اثْنَيْنِ وَأَجْزَاءِ الْأَصْلِ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ. (قَالُوا: حُرْمَةُ التَّرْكِ الَّتِي يَرْفَعُهَا التَّخْيِيرُ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّرْكِ لِهَذَا الْوَاجِبِ الْوَاحِدِ إنَّمَا كَانَتْ ثَابِتَةً إذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ آخَرُ خَلَفًا عَنْهُ وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ التَّخْيِيرَ يَرْفَعُ حُرْمَةَ التَّرْكِ، وَهِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهُمْ يَقُولُونَ حُرْمَةُ التَّرْكِ الَّتِي يَرْفَعُهَا التَّخْيِيرُ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّرْكِ لِهَذَا الْوَاجِبِ إنَّمَا كَانَتْ ثَابِتَةً إذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ آخَرُ خَلَفًا عَنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الْوَاحِدِ أَمَّا إذَا كَانَ شَيْءٌ آخَرُ خَلَفًا عَنْ ذَلِكَ الْوَاجِبِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ تَرْكُهُ حَرَامًا فَعُلِمَ أَنَّ حُرْمَةَ تَرْكِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْخَلَفِ وَعَدَمُ الْخَلَفِ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ فَكُلُّ حَقٍّ مَبْنِيٍّ عَلَى عَدَمٍ أَصْلِيٍّ لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَحُرْمَةُ تَرْكِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ لَا تَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَرَفْعُهَا لَا يَكُونُ نَسْخًا. (فَلِهَذَا) أَيْ: لِأَجْلِ أَنَّ حُرْمَةَ التَّرْكِ الَّتِي تَرَى فِيهَا التَّخْيِيرَ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ (يَثْبُتُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ غَسْلِ الرِّجْلِ وَمَسْحِ الْخُفِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَكَذَا بَيْنَ التَّيَمُّمِ وَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ نَاسِخًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282] هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحُسَيْنِ فَنَصُّ الْكِتَابِ أَوْجَبَ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى التَّعْيِينِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِ الْخُفِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَأَيْضًا أَوْجَبَ النَّصُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَإِنَّهُ نَسْخٌ لِحُرْمَةِ تَرْكِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ أَوَّلًا عَلَى التَّعْيِينِ. (قَوْلُهُ: وقَوْله تَعَالَى {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلَانِ، فَالْوَاجِبُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْحُكْمُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ رَفْعًا لِذَلِكَ الْوُجُوبِ، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِشْهَادِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا التَّقْدِيرُ فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ فَالْمُسْتَشْهَدُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ إفَادَتِهِ انْحِصَارَ الِاسْتِشْهَادِ فِي النَّوْعَيْنِ لَا يَنْفِي صِحَّةَ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاسْتَشْهِدُوا} [النساء: 15] مُجْمَلٌ فِي حَقِّ الشَّاهِدِ وَقَدْ فُسِّرَ بِالنَّوْعَيْنِ فَيَلْزَمُ الِانْحِصَارُ؛ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ بَيَانٌ لِجَمِيعِ مَا أُرِيدَ بِالْمُجْمَلِ، وَأَيْضًا قَدْ نَقَلَ الْحُكْمَ عَنْ الْمُعْتَادِ إذْ مَا لَيْسَ بِمُعْتَادٍ مِنْ حُضُورِ النِّسَاءِ مَجَالِسَ الْقَضَاءِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ غَايَتَهُ الدَّلَالَةُ عَلَى انْحِصَارِ الِاسْتِشْهَادِ فِي النَّوْعَيْنِ، وَعَلَى أَنَّ غَيْرَهُمَا لَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ التَّدَيُّنِ لَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْقَضَاءِ بِغَيْرِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: فَلَا يُزَادُ التَّغْرِيبُ) بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» ، وَالنِّيَّةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، وَالتَّرْتِيبُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ» وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الطَّهُورَ مَوَاضِعَهُ، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ ثُمَّ يَغْسِلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَمْسَحَ رَأْسَهُ ثُمَّ يَغْسِلَ رِجْلَيْهِ» ، وَالْوَلَاءُ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُوَالِي

التَّيَمُّمَ عَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ التَّيَمُّمِ، وَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ، وَأَيْضًا النَّصُّ أَوْجَبَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الرَّجُلَيْنِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبَيْنَ الْيَمِينِ وَالشَّاهِدِ. (قُلْنَا حُرْمَةَ التَّرْكِ تَثْبُتُ بِلَفْظِ النَّصِّ عِنْدَ عَدَمِ الْخَلَفِ لَا بِهِ) أَيْ: لَا بِعَدَمِ الْخَلَفِ يَعْنِي: عَدَمَ الْخَلَفِ لَيْسَ عِلَّةً لِحُرْمَةِ التَّرْكِ بَلْ النَّصُّ عِلَّةٌ لِحُرْمَةِ التَّرْكِ لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ الْخَلَفِ فَيَكُونُ حُرْمَةُ التَّرْكِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْوَاجِبَةِ حُكْمًا شَرْعِيًّا إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ حُرْمَةُ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْخَلَفِ وَأَيْضًا وُجُوبُهُمَا. (وَأَيْضًا التَّخْيِيرُ لَيْسَ بِاسْتِخْلَافٍ إذْ فِي الْأَوَّلِ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا، وَفِي الثَّانِي الْأَصْلُ لَكِنَّ الْخَلَفَ كَأَنَّهُ هُوَ فَلَا يَكُونُ) أَيْ: الِاسْتِخْلَافُ (نَسْخًا وَإِنْ كَانَ فَفِي الْمَسْحِ وَالنَّبِيذِ ثَبَتَ بِخَبَرٍ مَشْهُورٍ) أَيْ: وَإِنْ كَانَ الِاسْتِخْلَافُ نَسْخًا فَفِي مَسْأَلَةِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ ثَبَتَ بِخَبَرٍ مَشْهُورٍ وَنَسْخُ الْكِتَابِ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ جَائِزٌ عِنْدَنَا. (وقَوْله تَعَالَى {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] أَيْ: فَالْوَاجِبُ هَذَا فَيَكُونُ الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ نَاسِخًا) ثُمَّ أَوْرَدَ الْفُرُوعَ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ نَسْخٌ عِنْدَنَا وَقَالَ: (فَلَا يُزَادُ التَّغْرِيبُ عَلَى الْجَلْدِ، وَالنِّيَّةُ، وَالتَّرْتِيبُ وَالْوَلَاءُ عَلَى الْوُضُوءِ، وَهُوَ) أَيْ: الْوُضُوءُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي وُضُوئِهِ» أَوْ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» . وَالْوُضُوءُ عَلَى الطَّوَافِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ» وَفَرْضِيَّةُ الْفَاتِحَةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَفَرْضِيَّةُ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ فِي الصَّلَاةِ «بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَعْرَابِيٍّ خَفَّفَ فِي صَلَاتِهِ قُمْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ زِيدَ وُجُوبُ الْفَاتِحَةِ وَالتَّعْدِيلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ لَا تَرْفَعُ أَجْزَاءَ الْأَصْلِ فَلَا تَكُونُ نَسْخًا فَلَا تَمْتَنِعُ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ بِطَرِيقِ الْفَرْضِيَّةِ بِمَعْنَى عَدَمِ الصِّحَّةِ بِدُونِهَا فَإِنَّهَا تَرْفَعُ حُكْمَ الْكِتَابِ، وَرُبَّمَا يُجَابُ بِأَنَّ خَبَرَ الْفَاتِحَةِ، وَالتَّعْدِيلَ مَشْهُورٌ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ هَاهُنَا فَوَاتُ الصِّحَّةِ وَعَدَمُهَا إذْ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَإِنْ قُلْت فَهَلَّا زِيدَ تَغْرِيبُ الْعَامِ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ قُلْنَا؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ فِيهِ غَرِيبٌ مَعَ عُمُومِ الْبَلْوَى وَلِأَنَّهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْفَسَادِ عَلَى مَا مَرَّ. فَإِنْ قُلْت إذَا اقْتَصَرَ الْمُصَلِّي عَلَى الْفَاتِحَةِ تَكُونُ فَرْضًا لَا مَحَالَةَ فَتَكُونُ فَرْضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ. قُلْتُ النِّزَاعُ فِيمَا شُرِعَ فَرْضًا لَا فِيمَا يَقَعُ فَرْضًا كَمَا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّهَا تَقَعُ فَرْضًا، وَلَمْ تُشْرَعْ فَرْضًا بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ قُلْت فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْفَاتِحَةُ فَرْضًا، وَوَاجِبًا مَعَ أَنَّهُمَا مُتَنَافِيَانِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْفَرْضَ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَالْوَاجِبَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ لَا قَطْعِيٍّ قُلْتُ فَرْضٌ مِنْ حَيْثُ

[فصل في بيان الضرورة]

(عَلَى الطَّوَافِ، وَالْفَاتِحَةُ وَتَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِيَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ) يَرْجِعُ إلَى الْكُلِّ (وَالْإِيمَانُ عَلَى الرَّقَبَةِ بِالْقِيَاسِ) أَيْ: لَا يُزَادُ قَيْدُ الْإِيمَانِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ. (يَرِدُ هُنَا أَنَّكُمْ زِدْتُمْ الْفَاتِحَةَ وَالتَّعْدِيلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ حَتَّى وَجَبَا، وَإِنَّمَا لَمْ تَثْبُتْ الْفَرْضِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَكُمْ) فَإِنَّ الْفَرْضَ عِنْدَكُمْ مَا ثَبَتَ لُزُومُهُ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وَالْوَاجِبُ مَا ثَبَتَ لُزُومُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَقَدْ زِدْتُمْ عَلَى الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ بِهِ وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّا لَمْ نَزِدْ الْفَاتِحَةَ وَالتَّعْدِيلَ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ نَسْخُ الْكِتَابِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَقُلْ بِعَدَمِ إجْزَاءِ الْأَصْلِ لَوْلَا الْفَاتِحَةُ وَالتَّعْدِيلُ حَتَّى يَلْزَمَ النَّسْخُ حِينَئِذٍ بَلْ قُلْنَا بِالْوُجُوبِ فَقَطْ. بِمَعْنَى أَنَّهُ يَأْثَمُ تَارِكُهُمَا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا يَلْزَمُ نَسْخُ الْكِتَابِ أَصْلًا وَلَا يُمْكِنُ مِثْلُ هَذَا فِي الْوُضُوءِ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ، وَالتَّرْتِيبُ وَاجِبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ عِبَادَةً مَقْصُودَةً بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهِ وَاجِبًا لِعَيْنِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَأْثَمُ تَارِكُهُ بَلْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ فَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِ النِّيَّةِ وَالتَّرْتِيبِ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِمَا فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِهِمَا عَدَمُ إجْزَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ، وَهَذَا سِرُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ فِي الصَّلَاةِ وَاجِبَاتٍ وَلَمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَوْنُهَا قُرْآنًا وَاجِبٌ مِنْ حَيْثُ خُصُوصِيَّةُ الْفَاتِحَةِ، وَعِنْدَ تَغَايُرِ الْحَيْثِيَّتَيْنِ لَا مُنَافَاةَ. (قَوْلُهُ: بَلْ هُوَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ) يَعْنِي: أَنَّ الْكَلَامَ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ مِفْتَاحًا لِلصَّلَاةِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ قُرْبَةً فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ بِلَا خِلَافٍ إذْ بِهَا تَتَمَيَّزُ الْعِبَادَةُ عَنْ الْعَادَةِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ، وَالتَّرْتِيبُ وَاجِبَيْنِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى قَصْدِ الْقُرْبَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونَ قُرْبَةً بِدُونِهِمَا. (قَوْلُهُ: بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي آثِمًا بِاعْتِبَارِ تَرْكِهِ النِّيَّةَ، أَوْ التَّرْتِيبَ فِي الْوُضُوءِ مَعَ صِحَّةِ صَلَاتِهِ كَمَا فِي تَرْكِ الْفَاتِحَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ النَّسْخُ. (قَوْلُهُ: فَيَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِهِمَا عَدَمُ إجْزَاءِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ) الْأَنْسَبُ أَنْ يُفَسِّرَ الْأَصْلَ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَمَعْنَى عَدَمِ إجْزَائِهِ كَوْنُهُ غَيْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ هُوَ الْمَزِيدُ عَلَيْهِ الَّذِي تَرْفَعُ الزِّيَادَةُ أَجْزَاءَهُ. (قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ تِلْكَ) أَيْ: الْوَاجِبَاتِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَأْثَمُ تَارِكُهَا فِي الْوُضُوءِ، وَإِلَّا فَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ غَسْلَ الْمِرْفَقِ، وَمِقْدَارَ الرُّبُعِ فِي الْمَسْحِ وَاجِبٌ بِمَعْنَى اللَّازِمِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ بِحَيْثُ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ. (قَوْلُهُ: أَصْلُهُ ثَابِتٌ) اقْتِبَاسٌ لَطِيفٌ بِتَغْيِيرٍ يَسِيرٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ لُطْفِ الْإِبْهَامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اسْمُ أَبِيهِ ثَابِتٌ كَمَا أَنَّ قَوَاعِدَ فِقْهِهِ، وَأُصُولِهِ ثَابِتَةٌ مُحْكَمَةٌ وَنَتَائِجُ فِكْرِهِ عَالِيَةٌ مُشْتَهِرَةٌ كَفُرُوعِ فِقْهِهِ. [فَصْلٌ فِي بَيَانِ الضَّرُورَةِ] (قَوْلُهُ لِلشَّرِكَةِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ) وَهُوَ عَقْدُ

يَجْعَلْ تِلْكَ فِي الْوُضُوءِ فَلِلَّهِ دَرُّهُ مَا أَدَقَّ نَظَرَهُ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْغَرَّاءِ، وَهُوَ الَّذِي أَصْلُهُ ثَابِتٌ وَفُرُوعُهُ فِي السَّمَاءِ. (فَصْلٌ فِي بَيَانِ الضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: مَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَاقِيَ لِلْأَبِ، وَكَذَا نَصِيبُ الْمُضَارِبِ) أَيْ: إذَا بَيَّنَ تَعَيَّنَ الْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا. (وَكَذَا نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ اسْتِحْسَانًا لِلشَّرِكَةِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ) أَيْ: إذَا بَيَّنَ تَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ اسْتِحْسَانًا لَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ نَمَاءُ مِلْكِهِ فَيَكُونُ لَهُ حَتَّى إذَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ يَكُونُ كُلُّ الرِّبْحِ لِلْمَالِكِ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ عَمَلِهِ هَذَا هُوَ وَجْهُ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَمَذْكُورٌ فِي الْمَتْنِ، (وَالثَّانِي: مَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ حَالَ الْمُتَكَلِّمِ كَسُكُوتِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَنْ تَغْيِيرِ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّتِهِ وَكَذَا السُّكُوتُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ كَسُكُوتِ الصَّحَابَةِ عَنْ تَقْوِيمِ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ) رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - حَكَمَ فِيمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بِرَدِّ الْجَارِيَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَرَدِّ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ، وَكَانَ شَاوَرَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاشْتُهِرَ فِي الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرُدَّهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَقْضِ بِرَدِّ قِيمَةِ الْمَنَافِعِ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَمَا حَلَّ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ تَنْصِيصٌ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ وَبَيَانُ نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيَانٌ لِنَصِيبِ الْآخَرِ فَإِذَا قَالَ عَلَيَّ إنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَكَأَنَّهُ قَالَ، وَلَك مَا بَقِيَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْطُوقِ. (وَقَوْلُهُ: بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ) أَيْ: الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ التَّكَلُّمُ فِي الْحَادِثَةِ كَالشَّارِعِ، وَالْمُجْتَهِدِ، وَصَاحِبِ الْحَادِثَةِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا السُّكُوتُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ) كَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ يُقَدِّمَ ذَلِكَ وَيَجْعَلَ سُكُوتَ صَاحِبِ الشَّرْعِ وَسُكُوتَ الصَّحَابَةِ وَسُكُوتَ الْبِكْرِ مِنْ أَمْثِلَتِهِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ الَّذِي يُعَايِنُهُ الشَّارِعُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَاحْتِيجَ إلَى تَغْيِيرِهِ ضَرُورَةَ أَنَّ الشَّارِعَ لَا يَسْكُتُ عَنْ تَغْيِيرِ الْبَاطِلِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا سُكُوتُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ جُعِلَ بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ الْحَيَاءَ) وَهِيَ الْإِجَازَةُ الْمُنْبِئَةُ عَنْ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ، وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ فِي النِّكَاحِ جُعِلَ بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ ذَلِكَ أَيْ: السُّكُوتَ وَهِيَ أَيْ: تِلْكَ الْحَالَةُ هِيَ الْحَيَاءُ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ السُّكُوتَ جُعِلَ بَيَانًا لِلْحَيَاءِ عَنْ التَّكَلُّمِ بِمَا حَصَلَ لَهَا مِنْ الرِّضَا، وَالْإِجَازَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ جُعِلَ بَيَانًا لِحَالٍ يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْ: كَوْنَهُ بَيَانًا وَهِيَ الْحَيَاءُ فَجُعِلَ سُكُوتُهَا دَلِيلًا عَلَى مَا يَمْنَعُ الْحَيَاءَ مِنْ التَّكَلُّمِ بِهِ وَهُوَ الْإِجَازَةُ، وَالصَّوَابُ أَنَّ اللَّازِمَ فِي قَوْلِهِ لِحَالِهَا لَيْسَتْ صِلَةً لِلْبَيَانِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيلٌ إذْ الْمَعْنَى جُعِلَ السُّكُوتُ بَيَانًا لِلرِّضَا؛ لِأَجْلِ حَالٍ فِي الْبِكْرِ يُوجِبُ السُّكُوتَ وَهِيَ الْحَيَاءُ عَنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ وَمَعْنَى عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

بَعْدَمَا رُفِعَتْ إلَيْهِ الْقَضِيَّةُ، وَطُلِبَ مِنْهُ الْقَضَاءُ بِمَا لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ. (وَكَذَا سُكُوتُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ جُعِلَ بَيَانًا لِحَالِهَا الَّتِي تُوجِبُ الْحَيَاءَ، وَكَذَا النُّكُولُ وَطَلَبَ مِنْهُ الْقَضَاءَ بِمَا لِلْمَوْلَى جُعِلَ بَيَانًا) أَيْ: جُعِلَ إقْرَارُ الْحَالِ فِي النَّاكِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ، وَهُوَ الْيَمِينُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا فَيَدُلُّ ذَلِكَ الِامْتِنَاعُ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْمُدَّعَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالْمُسْلِمِ الِامْتِنَاعُ عَمَّا هُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ مُحِقًّا فِي الِامْتِنَاعِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ كَاذِبَةً إنْ حَلَفَ وَلَا تَكُونُ كَاذِبَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ. (وَالثَّالِثُ مَا جُعِلَ بَيَانًا لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْغُرُورِ كَالْمَوْلَى يَسْكُتُ حِينَ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ، وَيَشْتَرِي يَكُونُ إذْنًا) دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ. (وَكَذَا سُكُوتُ الشَّفِيعِ) جُعِلَ تَسْلِيمًا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُجْعَلْ تَسْلِيمٌ فَإِنْ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ التَّصَرُّفِ يَكُونُ ذَلِكَ ضَرَرًا لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ وَتَصَرَّفَ ثُمَّ يَنْقُضُ الشَّفِيعُ تَصَرُّفَهُ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي أَيْضًا. (وَالرَّابِعُ مَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ الْكَلَامِ نَحْوَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ وَمِائَةٌ، وَدِينَارٌ وَمِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ يَكُونُ الْآخَرُ بَيَانًا لِلْأَوَّلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمِائَةُ مُجْمَلَةٌ عَلَيْهِ بَيَانُهَا كَمَا فِي مِائَةٍ وَثَوْبٍ وَمِائَةٍ وَشَاةٍ، لَنَا أَنَّ حَذْفَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْعَدَدِ مُتَعَارَفٌ لِلْخِفَّةِ نَحْوَ بِعْت بِمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَنَظَائِرُهَا فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مُقَدَّرٌ بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَثْبُتَانِ فِي الذِّمَّةِ) . فَقَوْلُهُ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ أَيْ: حَذْفُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُ جُعِلَ بَيَانًا لِلْإِجَازَةِ؛ لِأَجْلِ حَالِهَا الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاءِ، وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِي الرِّجَالِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا النُّكُولُ) جُعِلَ بَيَانًا لِثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ، وَإِقْرَارِهِ بِهِ؛ لِأَجْلِ حَالٍ فِي النَّاكِلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ أَنَّ الْبَيَانَ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ حَالِ الْمُتَكَلِّمِ. (قَوْلُهُ: كَالْمَوْلَى يَسْكُتُ حِينَ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي يَكُونُ إذْنًا) فَإِنْ قِيلَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ لِفَرْطِ الْغَيْظِ، وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مَحْجُورٌ شَرْعًا قُلْتُ: يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ، وَالْعَادَةِ فِي أَنَّ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ يُظْهِرُ النَّهْيَ وَيَرِدُ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ مُنْدَرِجٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَعْنِي: ثُبُوتَ الْبَيَانِ بِدَلَالَةِ حَالَ الْمُتَكَلِّمِ. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمِائَةُ مُجْمَلَةٌ) يَعْنِي: أَنَّ عَطْفَ الدِّرْهَمِ عَلَيْهَا لَيْسَ بَيَانًا وَتَفْسِيرًا لَهَا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْعَطْفِ عَلَى التَّغَايُرِ وَمَبْنَى التَّفْسِيرِ عَلَى الِاتِّحَادِ. (قَوْلُهُ: لَنَا) اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ الْمَعْطُوفِ بَيَانًا لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ بِأَنْ حَذَفَ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ أَيْ: حَذْفُ تَمْيِيزِهِ وَتَفْسِيرِهِ مُتَعَارَفٌ فِي الْعَدَدِ إذَا عُطِفَ عَلَيْهِ عَدَدٌ مُفَسِّرٌ مِثْلُ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ حَتَّى إنَّ ذِكْرَهُ يُسْتَهْجَنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ فَيُعَدُّ تَكْرَارًا، فَصُورَةُ عَطْفِ غَيْرِ الْعَدَدِ أَيْضًا يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ أَيْ: عَلَى حَذْفِ مُفَسِّرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِقَرِينَةِ الْمَعْطُوفِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ مُقَدَّرًا بِالْعَدَدِ مِثْلَ مِائَةٌ

[الركن الثالث في الإجماع وفيه خمسة أمور]

إذَا ذُكِرَ بَعْدَ الْمِائَةِ عَدَدٌ مُضَافٌ نَحْوَ مِائَةٍ، وَثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فَإِنَّ الْأَخِيرَ بَيَانُ الْمِائَةِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْمِائَةِ شَيْءٌ مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ كَالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَالْقَفِيزِ نَجْعَلُهُ بَيَانًا لِلْمِائَةِ قِيَاسًا عَلَى الْعَدَدِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهُمَا مُقَدَّرَيْنِ، فَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ قُلْنَا الْمِائَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ أَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ الْمِائَةِ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ كَالْعَبْدِ وَالثَّوْب كَقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ وَمِائَةٌ وَعَبْدٌ لَا نَجْعَلُهُ بَيَانًا لِلْمِائَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ، وَهُوَ اتِّفَاقُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عَصْرٍ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ) بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَيَّدُوا الْإِجْمَاعَ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وَبَعْضُهُمْ قَالُوا عَلَى أَمْرٍ حَتَّى يَعُمَّ الْحُكْمَ الشَّرْعِيَّ وَغَيْرَهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحْكَامَ إمَّا دِينِيَّةٌ، وَإِمَّا غَيْرُ دِينِيَّةٍ كَالْحُكْمِ بِأَنَّ السَّقَمُونْيَا مُسَهِّلٌ فَإِنْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى مِثْلِ هَذَا أَوْ لَمْ يَقَعْ فَهُمَا سَوَاءٌ حَتَّى إنْ أَنْكَرَهُ أَحَدٌ لَا يَكُونُ كُفْرًا بَلْ يَكُونُ جَهْلًا بِهَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ أَوْ لَمْ يَقَعْ، أَمَّا الْأَحْكَامُ الدِّينِيَّةُ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ شَرْعِيَّةً، أَوْ غَيْرَ شَرْعِيَّةٍ. وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ مَا ذَكَرْتُ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ مَا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِدْرَاكُهُ إمَّا بِالْحِسِّ أَوْ بِالْعَقْلِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفِيدُ الْيَقِينَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَمْرُ أَمْرًا حِسِّيًّا مَاضِيًا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَدِرْهَمٌ أَوْ بِالْوَزْنِ مِثْلَ مِائَةٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ لِمُشَابَهَتِهِ الْعَدَدَ. بِخِلَافِ نَحْوِ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَعَبْدٌ أَوْ ثَوْبٌ فَإِنَّ الثَّانِيَ لَا يَكُونُ بَيَانًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْبِهُ الْعَدَدَ حَتَّى يَصْلُحَ قِيَاسَهُ عَلَى مِثْلِ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مَعَ مَانِعٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ تَفْسِيرَ الْمِائَةِ بِالْعَبْدِ أَوْ الثَّوْبِ لَا يُلَائِمُ لَفْظَ عَلَيَّ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الثُّبُوتُ فِي الذِّمَّةِ، وَمِثْلُ الْعَبْدِ وَالثَّوْبِ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ إلَّا فِي السَّلَمِ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يُرْتَكَبُ إلَّا فِيمَا صُرِّحَ بِهِ كَالْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكْثُرُ كَثْرَةَ الْعَدَدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ التَّخْفِيفَ، فَإِنْ قِيلَ: الْقِيَاسُ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ فِي مِثْلِ مِائَةٍ وَثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ هُوَ مُمَيِّزُ الْمَعْطُوفِ أَعْنِي: الْمُضَافَ إلَيْهِ لَا نَفْسَ الْمَعْطُوفِ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ فِي مِائَةٍ وَدِرْهَمٍ قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ الْمُفَسِّرُ هُوَ الْمَعْطُوفُ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ دِرْهَمًا كَانَ أَوْ دِينَارًا أَوْ غَيْرَهُمَا. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ قِيَاسٌ فِي اللُّغَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ ابْتِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبِيلِ الْبَيَانِ، وَأَيْضًا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ كَوْنُ الْمَعْطُوفِ مِنْ قَبِيلِ الْمُقَدَّرَاتِ بَلْ كَوْنُ الْعَطْفِ مُقْتَضِيًا لِلشَّرِكَةِ فِيمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْمَعْطُوفُ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ كَالْجَزَاءِ، وَالشَّرْطِ فَكَذَا التَّفْسِيرُ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِخِلَافِ مِائَةٍ وَدِرْهَمٍ إذْ لَا إبْهَامَ فِي الْمَعْطُوفِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى التَّفْسِيرِ [الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ وَفِيهِ خَمْسَةُ أُمُورٍ] [الْأَمْرُ الْأَوَّلُ رُكْنُ الْإِجْمَاعِ] (قَوْلُهُ: الرُّكْنُ الثَّالِثُ فِي الْإِجْمَاعِ) هُوَ فِي اللُّغَةِ الْعَزْمُ يُقَالُ: أَجْمَعَ فُلَانٌ عَلَى كَذَا أَيْ: عَزَمَ، وَالِاتِّفَاقُ يُقَالُ أَجْمَعَ الْقَوْمُ عَلَى كَذَا أَيْ: اتَّفَقُوا، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: اتِّفَاقُ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عَصْرٍ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَالْمُرَادُ بِالِاتِّفَاقِ

فَالْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ يَكُونُ إخْبَارًا فَلَا يَكُونُ مِنْ قِسْمِ الْإِجْمَاعِ الْمَخْصُوصِ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ الِاجْتِهَادُ بَلْ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْإِخْبَارَاتِ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا حِسِّيًّا مُسْتَقْبَلًا كَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ مَثَلًا فَمَعْرِفَتُهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِالنَّقْلِ عَنْ مُخْبِرٍ صَادِقٍ يُوقَفُ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ كَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَثَلًا فَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إجْمَاعٌ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ لَكِنْ يُعْتَبَرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَنْقُولٌ عَمَّنْ يُوقَفُ عَلَى الْغَيْبِ فَرَجَعَ إلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَحْسُوسًا مَاضِيًا، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فَالْعَقْلُ يُفِيدُ الْيَقِينَ، فَالدَّلِيلُ هُوَ الْعَقْلُ لَا الْإِجْمَاعُ بِخِلَافِ الشَّرْعِيَّاتِ فَإِنَّ مُسْتَنَدَ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ قَطْعِيًّا ثُمَّ الْإِجْمَاعُ يُفِيدُهَا قَطْعِيَّةً. (فَالْبَحْثُ هُنَا فِي أُمُورٍ: الْأَوَّلِ: فِي رُكْنِهِ، وَهُوَ الِاتِّفَاقُ، وَالْعَزِيمَةُ فِيهِ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ إمَّا بِالتَّكَلُّمِ مِنْهُمْ أَوْ بِعَمَلِهِمْ بِهِ، وَالرُّخْصَةُ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْبَعْضُ أَوْ يَعْمَلَ بِهِ، وَيَسْكُتَ الْبَاقِي بَعْدَ بُلُوغِ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَمُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي مَالٍ فَضَلَ عِنْدَهُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَاكِتٌ حَتَّى سَأَلَهُ فَرَوَى حَدِيثًا فِي قِسْمَةِ الْفَضْلِ) لَمَّا شَاوَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ أَشَارَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ بِتَأْخِيرِ الْقِسْمَةِ وَالْإِمْسَاكِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاشْتِرَاكُ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ، وَقُيِّدَ بِالْمُجْتَهِدِينَ إذْ لَا عِبْرَةَ بِاتِّفَاقِ الْعَوَامّ، وَعُرِّفَ فَاللَّامُ الِاسْتِغْرَاقِ احْتِرَازًا عَنْ اتِّفَاقِ بَعْضِ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ اتِّفَاقِ مُجْتَهِدِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، وَقَوْلُهُ فِي عَصْرٍ حَالٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ مَعْنَاهُ زَمَانٌ مَا، قَلَّ أَوْ كَثُرَ. وَفَائِدَتُهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا يَرِدُ عَلَى مَنْ تَرَكَ هَذَا الْقَيْدَ مِنْ لُزُومِ عَدَمِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ إلَى آخِرِ الزَّمَانِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ اتِّفَاقُ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ إلَّا حِينَئِذٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ تَرَكَهُ إنَّمَا تَرَكَهُ لِوُضُوحِهِ لَكِنَّ التَّصْرِيحَ بِهِ أَنْسَبُ بِالتَّعْرِيفَاتِ، وَأَطْلَقَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ الْأَمْرَ لِيَعُمَّ الشَّرْعِيَّ وَغَيْرَهُ حَتَّى يَجِبُ اتِّبَاعُ إجْمَاعِ آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي أَمْرِ الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا، وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ تَارِكَ الِاتِّبَاعِ إنْ أَثِمَ فَهُوَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - خَصَّهُ بِالشَّرْعِ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْإِجْمَاعِ فِي الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالدِّينِيَّةِ الْغَيْرِ الشَّرْعِيَّةِ وَفِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْبَيَانِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْلِيَّ قَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا فَبِالْإِجْمَاعِ يَصِيرُ قَطْعِيًّا كَمَا فِي تَفْضِيلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَثِيرٍ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّات، وَأَيْضًا الْحِسِّيُّ الِاسْتِقْبَالِيُّ قَدْ يَكُونُ مِمَّا لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ الْمُخْبِرُ الصَّادِقُ بَلْ اسْتَنْبَطَهُ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ نُصُوصِهِ فَيُفِيدُ الْإِجْمَاعُ قَطْعِيَّتَهُ. (قَوْلُهُ: فَالْبَحْث هُنَا فِي أُمُورٍ) رُكْنِهِ، وَأَهْلِهِ وَشَرْطِهِ، وَحُكْمِهِ، وَسَبَبِهِ أَعْنِي: السَّنَدَ، وَالنَّاقِلَ وَعَلَى هَذَا كَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ الْأَوَّلُ رُكْنُهُ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْبَحْثِ الْمَعْنَى الْجِنْسِيَّ فَكَأَنَّهُ قَالَ، وَالْأَبْحَاثُ هَاهُنَا فِي

[مسألة إذا اختلفت الصحابة في قولين]

سَاكِتٌ حَتَّى سَأَلَهُ فَقَالَ أَرَى أَنْ يُقْسَمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَوَى فِي ذَلِكَ حَدِيثًا فَعَمِلَ عُمَرُ بِذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَهُ دَلِيلَ الْمُوَافَقَةِ حَتَّى شَافَهَهُ وَجَوَّزَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السُّكُوتَ مَعَ أَنَّ الْحَقَّ عِنْدَهُ خِلَافُهُمْ. (وَشَاوَرَهُمْ فِي إسْقَاطِ الْجَنِينِ فَأَشَارُوا بِأَنْ لَا غُرْمَ عَلَيْكَ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَاكِتٌ فَلَمَّا سَأَلَهُ قَالَ أَرَى عَلَيْكَ الْغُرْمَ فَلَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ تَسْلِيمًا) رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضَرَبَ امْرَأَةً لِجِنَايَةٍ فَأَسْقَطَتْ الْجَنِينَ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالُوا لَا غُرْمَ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ مُؤَدِّبٌ وَمَا أَرَدْت إلَّا الْخَيْرَ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَاكِتٌ فَلَمَّا سَأَلَهُ قَالَ أَرَى عَلَيْكَ الْغُرْمَ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْمَهَابَةِ كَمَا قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا مَنَعَك أَنْ تُخْبِرَ عُمَرَ بِقَوْلِك فِي الْعَوْلِ فَقَالَ رَدَّتُهُ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ سِرَاجُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِهِ لِلْفَرَائِضِ أَنَّ الْعَوْلَ ثَابِتٌ عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بَاطِلٌ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُوَ يُدْخِلُ النَّقْصَ عَلَى الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ، وَالْأَخَوَاتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ مِثَالُهُ تَرَكَتْ زَوْجًا وَأُمًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ فَعِنْدَ الْعَامَّةِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ وَتَعُولُ إلَى الثَّمَانِيَةِ وَعِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ، وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ اثْنَانِ وَلِلْأُخْتِ الْبَاقِي، وَهَذِهِ أَوَّلُ حَادِثَةٍ وَقَعَتْ فِي نَوْبَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَأَشَارَ الْعَبَّاسُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQأُمُورٍ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَحَّ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فِي رُكْنِهِ. (قَوْلُهُ ضَرَبَ امْرَأَةً لِجِنَايَةٍ) رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَبَلَغَ عُمَرَ أَنَّهَا تُجَالِسُ الرِّجَالَ وَتُحَدِّثُهُمْ فَأَشْخَصَ إلَيْهَا لِيَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ فَأَمْلَصَتْ مِنْ هَيْبَتِهِ أَيْ: أَزْلَفَتْ الْجَنِينَ وَأَسْقَطَتْهُ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ يَكُونُ) أَيْ: سُكُوتُ الْمُجْتَهِدِ لِلتَّأَمُّلِ وَغَيْرِهِ كَاعْتِقَادِ حَقِيقَةِ اجْتِهَادِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ أَوْ كَوْنِ الْقَائِلِ أَكْبَرَ سِنًّا مِنْهُ أَوْ أَعْظَمَ قَدْرًا أَوْ أَوْفَرَ عِلْمًا أَوْ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ حَتَّى لَوْ حَضَرَ مُجْتَهِدٌ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ تَكَلَّمَ أَحَدُهُمْ بِمَا يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ، وَسَكَتَ الْآخَرُونَ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا وَلَا يَحْصُلُ سُكُوتُهُمْ عَلَى الرِّضَا لِتَقَرُّرِ الْخِلَافِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ اشْتِرَاطَ مُضِيِّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ إنَّمَا يَدْفَعُ احْتِمَالَ كَوْنِ السُّكُوتِ لِلتَّأَمُّلِ. وَلَا يَدْفَعُ احْتِمَالَ كَوْنِهِ لِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ أَوْ اسْتِقْرَارِ الْخِلَافِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ عَلِمَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِجْمَاعِ يُسَمَّى الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ لَا يَكُونُ جَاحِدُهُ كَافِرًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِّ مِنْ النُّصُوصِ. [مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي قَوْلَيْنِ] (قَوْلُهُ: بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ) هِيَ الْجُذَامُ، وَالْبَرَصُ، وَالْجُنُونُ فِي أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَالْجَبُّ، وَالْعُنَّةُ فِي الزَّوْجِ، وَالرَّتَقُ، وَالْقَرَنُ فِي الزَّوْجَةِ. (قَوْلُهُ: فَشُمُولُ الْعَدَمِ) هُوَ فِي حُكْمِ الْغَسْلِ أَنْ لَا يَجِبَ غَسْلُ الْمَخْرَجِ وَلَا غَسْلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَشُمُولُ الْوُجُودِ أَنْ يَجِبَ غَسْلُهُمَا جَمِيعًا، وَفِي حُكْمِ النَّقْضِ شُمُولُ الْوُجُودِ أَنْ تُنْتَقَضَ الطَّهَارَةُ بِكُلٍّ مِنْ خُرُوجِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَبِمَسِّ الْمَرْأَةِ، وَشُمُولُ الْعَدَمِ أَنْ لَا يُنْتَقَضَ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا. (قَوْلُهُ: وَقَالَ

إلَى أَنْ يَقْسِمَ الْمَالَ عَلَى سِهَامِهِمْ فَقَبِلُوا مِنْهُ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ صَبِيًّا فَلَمَّا بَلَغَ خَالَفَ وَقَالَ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ إنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا لَمْ يَجْعَلْ فِي الْمَالِ نِصْفَيْنِ وَثُلُثًا، فَقِيلَ: هَلَّا قُلْت ذَلِكَ فِي عَهْدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ كُنْت صَبِيًّا وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبْته. (وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّأَمُّلِ وَغَيْرِهِ) أَيْ: يَكُونُ السُّكُوتُ لِلتَّأَمُّلِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ لِلْإِظْهَارِ. (وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ التَّكَلُّمِ مِنْ الْكُلِّ مُتَعَسِّرٌ غَيْرُ مُعْتَادٍ وَالْمُعْتَادُ أَنْ يَتَوَلَّى الْكِبَارُ الْفَتْوَى وَيُسَلِّمَ سَائِرُهُمْ، وَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ مُخَالِفًا فَالسُّكُوتُ حَرَامٌ وَالصَّحَابَةُ لَا يُتَّهَمُونَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا سُكُوتُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ مَا أَفْتَوْا بِهِ مِنْ إمْسَاكِ الْمَالِ) أَيْ: مَالٍ فَضَلَ عِنْدَهُ، (وَعَدَمِ الْغُرْمِ عَلَيْهِ) أَيْ: فِي مَسْأَلَةِ الْإِسْقَاطِ. (كَانَ حَسَنًا إلَّا أَنَّ تَعْجِيلَ أَدَاءِ الصَّدَقَةِ، وَالْتِزَامَ الْغُرْمِ صِيَانَةً عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَرِعَايَةً لِحُسْنِ الثَّنَاءِ وَالْعَدْلِ كَانَ أَحْسَنَ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ) أَيْ: بَعْدَ تَسْلِيمِ مَا أَفْتَوْا بِهِ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا وَكَانَ خَطَأً. (فَالسُّكُوتُ بِشَرْطِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْفَوْتِ جَائِزٌ وَذَلِكَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ تَعْظِيمًا لِلْفُتْيَا وَحَدِيثُ الدِّرَّةِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ وَالْمُنَاظَرَةَ بَيْنَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ الْعَوْلِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ عُمَرُ أَلْيَنَ لِلْحَقِّ، وَإِنْ صَحَّ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ اعْتَذَرَ عَنْ الْكَفِّ عَنْ الْمُنَاظَرَةِ مَعَهُ لَا عَنْ بَيَانِ مَذْهَبِهِ) فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَذْهَبَهُ وَمَا هُوَ حَقٌّ عِنْدَهُ لِئَلَّا ـــــــــــــــــــــــــــــQبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ) ذَكَرَ الْآمِدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمُخْتَارَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ إنْ كَانَ يَرْفَعُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَلَا إذْ لَيْسَ فِيهِ خَرْقُ الْإِجْمَاعِ حَيْثُ وَافَقَ كُلًّا مِنْ الْقَوْلَيْنِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْ خَالَفَهُ مِنْ وَجْهٍ وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ الْقِسْمَيْنِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: كُلٌّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ غَيْرُ قَائِلٍ بِالتَّفْصِيلِ فَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ قَائِلٌ فَيَكُونُ بَاطِلًا قُلْنَا عَدَمُ الْقَوْلِ بِهِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْقَوْلِ بِهِ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ الْحُكْمُ فِي وَاقِعَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ لَمْ يَسْبِقْ فِيهَا قَوْلٌ لِأَحَدٍ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ اتَّفَقَ الْقَوْلَانِ عَلَى نَفْيِ التَّفْصِيلِ فَالْقَوْلُ بِالتَّفْصِيلِ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ عَدَمَ الْقَوْلِ بِالتَّفْصِيلِ أَعَمُّ مِنْ الْقَوْلِ بِعَدَمِ التَّفْصِيلِ، وَالْأَعَمُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَخَصَّ نَعَمْ لَوْ صَرَّحَ الْقَوْلَانِ بِنَفْيِ التَّفْصِيلِ لَمَا جَازَ الْقَوْلُ بِهِ فَإِنْ قِيلَ فَفِي التَّفْصِيلِ تَخْطِئَةُ كُلٍّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي بَعْضِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ هِيَ تَخْطِئَةٌ لِلْأُمَّةِ فَيَمْتَنِعُ. قُلْنَا: الْمُمْتَنِعُ تَخْطِئَةُ الْأُمَّةِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَا تَخْطِئَةَ كُلِّ بَعْضٍ فِيمَا لَا اتِّفَاقَ عَلَيْهِ، فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ الْقَوْلِ بِالْفَصْلِ، وَإِنْ اُشْتُهِرَ فِي الْمُنَاظَرَاتِ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِمَّا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى قَبُولِهِ. وَإِنَّمَا يُقْبَلُ حَيْثُ يَصْلُحُ إلْزَامًا لِلْخَصْمِ بِأَنْ يَلْزَمَ مِنْ التَّفْصِيلِ بُطْلَانُ مَذْهَبِهِ، ثُمَّ التَّفْصِيلُ الَّذِي اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْأَحْكَامِ وَمَنْ تَبِعَهُ أَصْلٌ كُلِّيٌّ يُفِيدُ مَعْرِفَةَ أَحْكَامِ الْجُزْئِيَّاتِ إذْ لَا يَخْفَى عَلَى

يَكُونُ شَيْطَانًا أَخْرَسَ؛ لِسُكُوتِهِ عَنْ الْحَقِّ. لَكِنَّ الْمُنَاظَرَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنَّمَا اعْتَذَرَ عَنْ الْكَفِّ عَنْ الْمُنَاظَرَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ. (وَلَمَّا شَرَطْنَا مُضِيَّ مُدَّةِ التَّأَمُّلِ لَمْ تَرِدْ الشُّبْهَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ) ، وَهِيَ أَنَّ السُّكُوتَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّأَمُّلِ وَغَيْرِهِ. (مَسْأَلَةٌ إذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي قَوْلَيْنِ يَكُونُ إجْمَاعًا عَلَى نَفْيِ قَوْلٍ ثَالِثٍ عِنْدَنَا وَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ فَكَذَا عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا، وَبَعْضُهُمْ خَصُّوا ذَلِكَ بِالصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ الْجَهْلُ أَصْلًا) نَظِيرُهُ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي عِدَّةِ حَامِلٍ تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَعِنْدَ الْبَعْضِ تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَالِاكْتِفَاءُ بِالْأَشْهُرِ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فَعِنْدَ الْبَعْضِ كُلُّ الْمَالِ لِلْجَدِّ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ الْمُقَاسَمَةُ فَحِرْمَانُ الْجَدِّ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي عِلَّةِ الرِّبَا فَعِنْدَنَا الْعِلَّةُ هِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الطُّعْمُ مَعَ الْجِنْسِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الطُّعْمُ وَالِادِّخَارُ مَعَ الْجِنْسِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْعِلَّةَ غَيْرُ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي الزَّوْجِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ فَعِنْدَ الْبَعْضِ لِلْأُمِّ ثُلُثُ الْكُلِّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ ثُلُثُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ فَالْقَوْلُ بِثُلُثِ الْكُلِّ فِي إحْدَاهُمَا وَثُلُثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ هَلْ يَشْتَمِلُ عَلَى رَفْعِ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ أَمْ لَا لَيْسَ عَلَى الْأُصُولِيِّ التَّعَرُّضُ لِتَفَاصِيلِ الْجُزْئِيَّاتِ. وَمَا ادَّعَاهُ الْخَصْمُ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ مُسْتَلْزِمٌ لِبُطْلَانِ الْإِجْمَاعِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ ادِّعَاءٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ أَحَدِ الشُّمُولَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ كَيْفَ وَقَدْ يَصْدُقُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ الشُّمُولَيْنِ بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الْبَعْضِ؟ وَلِهَذَا أَحْدَثَ التَّابِعُونَ قَوْلًا ثَالِثًا فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ بِثُلُثِ الْكُلِّ فِي زَوْجٍ، وَأَبَوَيْنِ دُونَ زَوْجَةٍ، وَأَبَوَيْنِ. وَقَالَ تَابِعِيٌّ آخَرُ بِالْعَكْسِ، وَكَذَا فِي الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ لَيْسَ شُمُولُ الْوُجُودِ، وَلَا شُمُولُ الْعَدَمِ بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْبَوَاقِي مَثَلًا لَا إجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْمَخْرَجِ لِمُخَالَفَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلَا عَلَى وُجُوبِ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لِمُخَالَفَةِ الشَّافِعِيِّ. - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِذَا صَدَقَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ وَلَا وَاحِدَ مِنْ الطَّهَارَتَيْنِ مِمَّا يَجِبُ إجْمَاعًا فَكَيْفَ يَصْدُقُ أَنَّ إحْدَاهُمَا وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا؟ غَايَةُ مَا فِي الْأَمْرِ أَنَّهُ رُكِّبَتْ مُغَلَّظَةً بِحَسَبِ التَّعْبِيرِ عَنْ الْأَمْرَيْنِ بِمَفْهُومٍ يَشْمَلُهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، وَيَكُونُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِهِ فِي كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِاعْتِبَارِ فَرْدٍ آخَرَ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْحُكْمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْإِفْرَادِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ، وَالْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَشْهُرِ

الْبَاقِي فِي الْأُخْرَى قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ فَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا فَسْخَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ حَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتٌ فِي كُلٍّ مِنْهَا فَالْفَسْخُ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، وَيُعَبَّرُ عَنْ هَذَا بِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَعِنْدَ الْبَعْضِ غَسْلُ الْمَخْرَجِ فَقَطْ وَاجِبٌ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَاجِبٌ فَقَطْ فَشُمُولُ الْعَدَمِ أَوْ شُمُولُ الْوُجُودِ قَوْلٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَأَيْضًا الْخُرُوجُ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ نَاقِضٌ عِنْدَنَا لَا مَسُّ الْمَرْأَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَسُّ نَاقِضٌ لَا الْخُرُوجُ فَشُمُولُ الْوُجُودِ أَوْ شُمُولُ الْعَدَمِ ثَالِثٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. (وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: الْحَقُّ هُوَ التَّفْصِيلُ) ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ إنْ اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُهُ، وَإِلَّا جَازَ مِثَالُ الْأَوَّلِ الصُّورَتَانِ الْأُولَيَانِ فَإِنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْأَشْهُرِ قَبْلَ الْوَضْعِ مُنْتَفٍ بِالْإِجْمَاعِ إمَّا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ وَضْعُ الْحَمْلِ فَهَذَا يُسَمَّى إجْمَاعًا مُرَكَّبًا، فَمَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ، وَهُوَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِالْأَشْهُرِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَفِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ اتِّفَاقُ الْفَرِيقَيْنِ وَاقِعٌ عَلَى عَدَمِ حِرْمَانِ الْجَدِّ، وَمِثَالُ الثَّانِي الْأَمْثِلَةُ الْأَخِيرَةُ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ صُورَةٍ إلَّا مُخَالَفَةُ مَذْهَبٍ وَاحِدٍ لَا مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ وَلَوْ كَانَ مِثْلُ هَذَا مَرْدُودًا يَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ وَافَقَ صَحَابِيًّا، أَوْ مُجْتَهِدًا فِي مَسْأَلَةٍ يَلْزَمُهُ أَنْ يُوَافِقَهُ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ، وَهَذَا بَاطِلٌ إجْمَاعًا. فَإِنَّ عِنْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَبْلَ الْوَضْعِ، وَعَلَى عَدَمِ جَوَازِ حِرْمَانِ الْجَدِّ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ عِلَّةِ الرِّبَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ إنْ كَانَ قَوْلًا بِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْعِلِّيَّةِ كَانَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَلَا إذْ لَمْ يَقَعْ اتِّفَاقُ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ إلَّا عَلَى اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْعِلِّيَّةِ. (قَوْلُهُ: أَمَّا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) دَاخِلٌ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ يَعْنِي لَا قَائِلَ بِأَنَّ الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنْ كَوْنِ عِدَّةِ الْحَامِلِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَمِنْ انْتِفَاءِ حَجْبِ الْمَحْرُومِ مُنْتَفٍ بِإِجْمَاعِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَيْرِهِ أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ الْجُزْءَ الثَّانِيَ أَعْنِي: انْتِفَاءَ الْحَجْبِ مُنْتَفٍ؛ لِأَنَّ الْحَجْبَ ثَابِتٌ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ فَلِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ أَعْنِي: كَوْنَ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ مُنْتَفٍ لِكَوْنِهَا بَعْدَ الْأَجَلَيْنِ، وَالْمُرَكَّبُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ أَحَدِ جُزْأَيْهِ. (قَوْلُهُ: فِي الضِّمَارِ) هُوَ الْمَالُ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُرْجَى فَإِنْ رُجِيَ فَلَيْسَ بِضِمَارٍ، وَقِيلَ هُوَ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ. (قَوْلُهُ: فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ) تَقْرِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ إنْ اشْتَرَكَا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَإِحْدَاثُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ يَكُونُ إبْطَالًا لِلْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِكَا فِي ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ فِيهِ وَاحِدًا بِالْحَقِيقَةِ أَوْ كَانَ وَاحِدًا لَكِنْ لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَإِحْدَاثُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلْإِجْمَاعِ وَعِنْدَ تَقْرِيرِ هَذَا الضَّابِطِ لَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِي أَنَّ أَيَّ مَوْضِعٍ يَشْتَرِكُ فِيهِ الْقَوْلَانِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ

ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْحَامِلَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَافَقَهُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُوَافِقْهُ فِي أَنَّ الْمَحْرُومَ يُحْجَبُ حَجْبَ النُّقْصَانِ عِنْدَهُ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنْ كَوْنِ عِدَّتِهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحَجْبِ مُنْتَفٍ إجْمَاعًا، أَمَّا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِثُبُوتِ الثَّانِي، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ فَلِانْتِفَاءِ الْأَوَّلِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدِينَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَافَقُوا بَعْضَ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مَعَ أَنَّهُمْ خَالَفُوا ذَلِكَ الْبَعْضَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، أَقُولُ التَّمَسُّكُ بِالْإِجْمَاعِ الْمُرَكَّبِ وَبِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ مَشْهُورٌ فِي الْمُنَاظَرَاتِ، وَإِبْطَالُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نَقَلْته عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ لَيْسَ بِحَقٍّ. بَلْ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْغَرَضُ إلْزَامَ الْخَصْمِ يَكُونُ مَقْبُولًا فِي هَذَا الْغَرَضِ كَمَا يُقَالُ فِي الْوُجُوبِ فِي الْحُلِيِّ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الضِّمَارِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الضِّمَارِ يَكُونُ ثَابِتًا فِي الْحُلِيِّ قِيَاسًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الضِّمَارِ يَكُونُ ثَابِتًا فِي الْحُلِيِّ إذْ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْحُلِيِّ يَلْزَمُ الْعَدَمُ فِي الضِّمَارِ مَعَ الْعَدَمِ فِي الْحُلِيِّ، وَهَذَا مُنْتَفٍ إجْمَاعًا فَهَذَا لَا يُفِيدُ حَقِّيَّةَ الْوُجُوبِ فِي الْحُلِيِّ لَكِنْ يُفِيدُ نَفْيَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ فِي الْحُلِيِّ يَلْزَمُ الْعَدَمَانِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. أَمَّا إنْ لَمْ يَكُنِ الْغَرَضُ إلْزَامَ الْخَصْمِ بَلْ إظْهَارُ مَا هُوَ الْحَقُّ، فَاعْلَمْ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَيَّ مَوْضِعٍ لَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ فِي ذَلِكَ فَنَقُولُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ قَدْ يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا مُتَعَلِّقًا بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِأَكْثَرَ مِنْ مَحَلٍّ وَاحِدٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ فَالْقَوْلَانِ فِيهِ قَدْ يَظْهَرُ اشْتِرَاكُهُمَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ فَيَبْطُلُ الثَّالِثُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ، وَالْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَقَدْ يَظْهَرُ عَدَمُ اشْتِرَاكِهِمَا فِي ذَلِكَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا فَلَا يَبْطُلُ الثَّالِثُ، وَقَدْ يَكُونَانِ بِحَيْثُ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُمَا اشْتِرَاكٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ وَافْتِرَاقٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَحِينَئِذٍ إنْ كَانَ الِافْتِرَاقُ مِمَّا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ ذَاتِ الزَّوْجَيْنِ فَإِنَّ الْقَوْلَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي إثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْ أَحَدِهِمَا. وَفِي أَنَّ الثُّبُوتِ مِنْ أَحَدِهِمَا يُنَافِي الثُّبُوتَ مِنْ الْآخَرِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، فَإِحْدَاثُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ قَوْلًا بِشُمُولِ الْوُجُودِ أَعْنِي: ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْهُمَا جَمِيعًا أَوْ بِشُمُولِ الْعَدَمِ أَعْنِي: عَدَمَ ثُبُوتِهِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الِافْتِرَاقُ مِمَّا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حَيْثُ اتَّفَقَ الْقَوْلَانِ عَلَى وُجُوبِ التَّطْهِيرِ أَعْنِي الْوُضُوءَ أَوْ غَسْلَ الْمَخْرَجِ، وَعَلَى الِافْتِرَاقِ أَعْنِي كَوْنَ الْوَاجِبِ أَحَدُهُمَا فَقَطْ لَكِنْ لَمْ يَحْكُمْ الشَّرْعُ بِأَنَّ وُجُوبَ أَحَدِهِمَا يُنَافِي وُجُوبَ الْآخَرِ فَالْقَوْلُ الثَّالِثُ إنْ كَانَ قَوْلًا بِشُمُولِ الْعَدَمِ أَعْنِي: عَدَمَ وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْهُمَا كَانَ بَاطِلًا وَمُبْطِلًا لِلْإِجْمَاعِ السَّابِقِ. وَإِنْ كَانَ قَوْلًا بِشُمُولِ الْوُجُودِ أَعْنِي: وُجُوبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ بَاطِلًا لِعَدَمِ

التَّفْصِيلَ الَّذِي اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ إحْدَاثُهُ كَلَامٌ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ إنْ اسْتَلْزَمَ إبْطَالَ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ كَانَ مَرْدُودًا، وَالْخَصْمُ يُسَلِّمُ هَذَا الْمَعْنَى لَكِنْ يَدَّعِي أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِبْطَالِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إمَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ وَحِرْمَانِ الْجَدِّ وَإِمَّا فِي مَجْمُوعِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَفِي مَسْأَلَةِ الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ أَحَدُ الشَّمُولَيْنِ ثَابِتٌ، وَهُوَ ثُلُثُ الْكُلِّ فِي كِلَيْهِمَا، أَوْ ثُلُثُ الْبَاقِي فِي كِلَيْهِمَا فَالْقَوْلُ بِثُلُثِ الْكُلِّ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَكَذَا فِي الْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ إحْدَى الطَّهَارَتَيْنِ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا فَالْقَوْلُ بِأَنْ لَا شَيْءَ مِنْهَا وَاجِبٌ مُبْطِلٌ لِلْإِجْمَاعِ، وَكَذَا فِي الْحُلِيِّ وَالضِّمَارِ وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ الْمَذْكُورَةَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ مَعَ انْتِفَاءِ الْحَجْبِ الْمَذْكُورِ مُبْطِلٌ لِلْإِجْمَاعِ، فَالشَّأْنُ فِي تَمْيِيزِ صُورَةٍ يَلْزَمُ فِيهَا بُطْلَانُ الْإِجْمَاعِ عَنْ صُورَةٍ لَا يَلْزَمُ فِيهَا ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَابِطٍ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنْ كَانَا يَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ، وَهُوَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ مُسْتَلْزِمًا لِإِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَلَا فَعِنْدَ ذَلِكَ نَقُولُ: إنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ إمَّا حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَحَلٍّ وَاحِدٍ، أَوْ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِأَكْثَرَ مِنْ مَحَلٍّ وَاحِدٍ. أَمَّا الْأَوَّلُ فَكَمَسْأَلَةِ الْعِدَّةِ وَالْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَيْنِ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِالْأَشْهُرِ وَحْدَهَا، وَأَنَّ الْجَدَّ لَا يُحْرَمُ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQاسْتِلْزَامِهِ إبْطَالَ الْإِجْمَاعِ، وَلَزِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَكَ الْقَوْلَانِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ كَانَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ مُسْتَلْزِمًا لِإِبْطَالِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِأَكْثَرَ مِنْ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَاخْتِلَافُ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلِ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَائِلًا بِثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي صُورَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى، وَالْآخَرُ قَائِلًا بِالْعَكْسِ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالِانْتِقَاضِ بِالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ لَا بِمَسِّ الْمَرْأَةِ وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالِانْتِقَاضِ بِالْمَسِّ دُونَ الْخُرُوجِ، فَالْقَوْلُ بِالِانْتِقَاضِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ بِعَدَمِ الِانْتِقَاضِ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَائِلًا بِالثُّبُوتِ فِي الصُّورَتَيْنِ وَهُوَ مَعْنَى شُمُولِ الْوُجُودِ، وَالْآخَرُ بِالْعَدَمِ فِيهِمَا، وَهُوَ مَعْنَى شُمُولِ الْعَدَمِ فَإِنْ اتَّفَقَ الشُّمُولَانِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ كَتَسْوِيَةِ الْأَبِ، وَالْجَدِّ فِي الْوِلَايَةِ كَانَ الْقَوْلُ بِالِافْتِرَاقِ مُبْطِلًا لِلْإِجْمَاعِ، وَإِلَّا فَلَا كَالْقَوْلِ بِجَوَازِ الْفَسْخِ بِبَعْضِ الْعُيُوبِ دُونَ الْبَعْضِ. الثَّالِثِ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَائِلًا بِالثُّبُوتِ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ بِعَيْنِهَا وَالْعَدَمِ فِي الْأُخْرَى، وَالْآخَرُ قَائِلًا بِالثُّبُوتِ فِي كِلْتَا الصُّورَتَيْنِ فَيَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى الثُّبُوتِ فِي صُورَةٍ بِعَيْنِهَا، أَوْ بِالْعَدَمِ فِيهِمَا فَيَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى الْعَدَمِ فَلَا

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرِّبَا فَعِلَّتُهُ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ، أَوْ الطُّعْمُ مَعَ الْجِنْسِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَلَوْ جُعِلَ مَفْهُومُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ أَحَدِ الْأُمُورِ أَمْرًا وَاحِدًا فَذَلِكَ لَيْسَ بِأَمْرٍ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَاحِدٌ بَلْ وَاحِدٌ اعْتِبَارِيٌّ، وَلَوْ كَانَ أَمْرًا وَاحِدًا فَلَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْغُسْلَيْنِ. إمَّا الْوُضُوءُ أَوْ غَسْلُ الْمَخْرَجِ فَهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ وُجُوبُ التَّطْهِيرِ، فَالتَّطْهِيرُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ فَذَلِكَ التَّطْهِيرُ الْوَاجِبُ هُوَ الْوُضُوءُ عِنْدَنَا، وَغَسْلُ الْمَخْرَجِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَالْقَوْلُ بِأَنْ لَا شَيْءَ مِنْ التَّطْهِيرِ بِوَاجِبٍ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ. أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ وَاجِبٌ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ وَلَوْ قِيلَ الِافْتِرَاقُ ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ فَشُمُولُ الْوُجُودِ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَنَقُولُ الِافْتِرَاقُ هُنَا لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا أَيْ: لَمْ يَحْكُمَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْمُنَافَاةَ ثَابِتَةٌ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ عَدَمِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الِافْتِرَاقُ حُكْمًا شَرْعِيًّا كَمَا إذَا أَخْبَرَتْ امْرَأَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا الْغَائِبَ مَاتَ فَتَزَوَّجَتْ، وَوَلَدَتْ فَجَاءَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ فَعِنْدَنَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْأَخِيرِ فَثُبُوتُهُ مِنْ كِلَيْهِمَا، أَوْ عَدَمُ الثُّبُوتِ مِنْ أَحَدِهِمَا مُنْتَفٍ إجْمَاعًا فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ الِافْتِرَاقُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَأَمَّا الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQصُورَةَ بِعَيْنِهَا فَيَكُونُ الْقَوْلُ الثَّالِثُ إبْطَالًا لِلْمُجْمَعِ عَلَيْهِ كَمَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الْكَعْبَةِ نَفْلًا وَفَرْضًا وَيَجْعَلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ، وَمَسْأَلَةَ مُسَاوَاةِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي يَتَبَيَّنُ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِ أَنْ يَشْتَرِكَ الْقَوْلَانِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ، وَبِالثَّانِي أَنْ لَا يَشْتَرِكَا فِيهِ. وَأَمَّا مَسْأَلَةُ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ، وَالْبَيْعِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْمَبْحَثِ، فَإِنَّ بُطْلَانَ بَيْعِ الْمَلَاقِيحِ مَسْأَلَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَالْبَيْعُ بِالشَّرْطِ مَسْأَلَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا لَا تَعَلُّقَ لِإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى. وَالْمَبْحَثُ هُوَ أَنَّهُ إذَا سَبَقَ فِي مَسْأَلَةٍ اخْتِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَإِحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ هَلْ يَكُونُ إبْطَالًا لِلْإِجْمَاعِ أَمْ لَا. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الرِّبَا) أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِيهَا عِلِّيَّةُ الْقَدْرِ مَعَ الْجِنْسِ، وَالْآخَرُ الطُّعْمُ مَعَ الْجِنْسِ أَوْ الِادِّخَارُ مَعَ الْجِنْسِ، وَهُمَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِي وَاحِدٍ حَقِيقِيٍّ هُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، فَإِنَّ مَفْهُومَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَاحِدٌ بِحَسَبِ الِاعْتِبَارِ بَلْ بِحَسَبِ الْعِبَارَةِ دُونَ الْحَقِيقَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَتْ الْعِلِّيَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَا يُدْرَكُ لَوْلَا خِطَابُ الشَّارِعِ بَلْ قَدْ يُسْتَنْبَطُ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْقَوْلَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَا رِبَا فِي غَيْرِ الْجِنْسِ، وَهَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ دُخُولِ الْجِنْسِ فِي الْعِلِّيَّةِ رَفْعٌ لِذَلِكَ. (قَوْلُهُ: فَالتَّطْهِيرُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ) قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ يَصْدُقُ لَا شَيْءَ مِنْ التَّطْهِيرَيْنِ بِمُجْمَعٍ عَلَى وُجُوبِهِ أَمَّا غَسْلُ الْمَخْرَجِ فَلِمُخَالَفَةِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا غَسْلُ الْأَعْضَاءِ فَلِمُخَالَفَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا يَصْدُقُ أَنَّ أَحَدَهُمَا وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ. (قَوْلُهُ: وَلَوْ جُعِلَ

[الأمر الثاني أهلية من ينعقد به الإجماع]

يَكُونَ الثَّابِتُ عِنْدَ الْبَعْضِ الْوُجُودَ فِي صُورَةٍ مَعَ الْعَدَمِ فِي الْأُخْرَى، وَعِنْدَ الْبَعْضِ عَكْسُ ذَلِكَ كَمَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ وَالْمَسِّ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا نَاقِضٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُمَا نَاقِضًا لَا يَكُونُ خِلَافَ الْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ بِانْتِقَاضِ كُلٍّ مِنْهُمَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ الْمَسِّ، وَلِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا مُخَالَفَةُ الْإِجْمَاعِ وَلَوْ جُعِلَ الْحُكْمَانِ حُكْمًا وَاحِدًا كَمَا يُقَالُ الِانْتِقَاضُ فِي الْخُرُوجِ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْمَسِّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعَكْسُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهُمَا لَا يَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ جَعَلَ أَحَدَ الِافْتِرَاقَيْنِ مُشْتَرَكًا فَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَلَوْ قِيلَ: يَشْتَرِكَانِ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ مَنْ احْتَجَمَ وَمَسَّ الْمَرْأَةَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِالْإِجْمَاعِ. أَمَّا عِنْدَنَا فَلِلِاحْتِجَامِ، وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِلْمَسِّ فَاَلَّذِي يَخْطُرُ بِبَالِي أَنْ لَا يُقَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ بَاطِلَةٌ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا أَنَّهَا لَا تَجُوزُ لِلِاحْتِجَامِ، وَالْحُكْمَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهَا لَا تَجُوزُ لِلْمَسِّ وَكُلٌّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ لَا تَعَلُّقَ لِأَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. فَيُمْكِنُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ مُخْطِئًا فِي الْخُرُوجِ مُصِيبًا فِي الْمَسِّ، وَالشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ مُخْطِئًا فِي الْمَسِّ مُصِيبًا فِي الْخُرُوجِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ مُخْطِئًا فِي أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ مُخْطِئًا فِي الْآخَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ عِنْدَ الْبَعْضِ الْوُجُودَ فِي الصُّورَتَيْنِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ الْعَدَمَ فِي الصُّورَتَيْنِ وَيُسَمَّى هَذَا عَدَمُ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الْمُرَكَّبُ فَأَعَمُّ مِنْ هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحُكْمَانِ) يَعْنِي: لَوْ اُعْتُبِرَ التَّرْكِيبُ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ لِيَصِيرَ حُكْمًا وَاحِدًا بِأَنْ يُقَالَ الِانْتِقَاضُ بِالْخُرُوجِ مَعَ عَدَمِ الِانْتِقَاضِ بِالْمَسِّ حُكْمٌ وَاحِدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالِانْتِقَاضُ بِالْمَسِّ مَعَ عَدَمِ الِانْتِقَاضِ بِالْخُرُوجِ حُكْمٌ وَاحِدٌ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَهَذَانِ لَا يَشْتَرِكَانِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ مُخَالَفَتُهُ إبْطَالًا لِلْإِجْمَاعِ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَحَدِ الِافْتِرَاقَيْنِ أَعْنِي: انْتِقَاضَ الْخُرُوجِ دُونَ الْمَسِّ أَوْ بِالْعَكْسِ. فَالْجَوَابُ مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ وَاحِدًا اعْتِبَارِيًّا لَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ بِشُمُولِ الْعَدَمِ مُبْطِلًا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ بُطْلَانُ صَلَاةِ مَنْ احْتَجَمَ وَمَسَّ. فَالْجَوَابُ أَنَّ بُطْلَانَهَا لَيْسَ بِمُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ فَاَلَّذِي يَخْطِرُ بِبَالِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جِهَةِ الْبُطْلَانِ فَالْحُكْمَانِ مُتَّحِدَانِ لَا تَغَايُرَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا، وَإِنَّمَا التَّغَايُرُ فِي الْعِلَّةِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الْمُرَكَّبُ فَأَعَمُّ مِنْ هَذَا) أَيْ: مِمَّا يُسَمَّى عَدَمَ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا قَائِلًا بِالثُّبُوتِ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ فَقَطْ، وَالْآخَرُ بِالثُّبُوتِ فِيهِمَا أَوْ بِالْعَدَمِ فِيهِمَا [الْأَمْرُ الثَّانِي أَهْلِيَّةُ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ] (قَوْلُهُ: وَلَيْسَ هُوَ) أَيْ: صَاحِبُ الْبِدْعَةِ الَّذِي يَدْعُو النَّاسَ

[الأمر الثالث شروط الإجماع]

كَمَسْأَلَةِ الزَّوْجِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ، وَالزَّوْجَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ، وَمَسْأَلَةِ الْفَسْخِ بِالْعُيُوبِ، فَإِنَّ الثَّابِتَ شُمُولُ الْوُجُودِ، أَوْ شُمُولُ الْعَدَمِ فَيَجِبُ أَنْ يُنْظَرَ أَنَّ شُمُولَ الْوُجُودِ وَشُمُولَ الْعَدَمِ إنْ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِافْتِرَاقُ إبْطَالًا لِلْإِجْمَاعِ نَظِيرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وَالْجَدِّ إجْبَارُ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ عَلَى النِّكَاحِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ فَالْقَوْلُ بِوِلَايَةِ الْأَبِ دُونَ الْجَدِّ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ شُمُولَ الْوُجُودِ، وَشُمُولَ الْعَدَمِ يَشْتَرِكَانِ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ وُجُوبُ الْمُسَاوَاةِ فَإِنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ شَرْعًا عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ فَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ بِخِلَافِ الزَّوْجِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجَةِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّ مُسَاوَاةَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي أَنَّ لِلْأُمِّ ثُلُثَ الْكُلِّ، أَوْ ثُلُثَ الْبَاقِي لَمْ يُعْهَدْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَكَذَا فِي الْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا لَمْ تُعْهَدْ حُكْمًا شَرْعِيًّا. وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّابِتُ عِنْدَ الْبَعْضِ الْوُجُودَ فِي أَحَدِهِمَا مَعَ الْعَدَمِ فِي الْأُخْرَى، وَعِنْدَ الْبَعْضِ الْوُجُودَ فِي كِلَيْهِمَا أَوْ الْعَدَمَ فِي كِلَيْهِمَا كَجَوَازِ النَّفْلِ دُونَ الْفَرْضِ فِي الْكَعْبَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَجَوَازَيْهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَجَوَازُ النَّفْلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ جَوَازِهِمَا أَوْ جَوَازِ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ وَكَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ فَإِنَّ الثَّانِيَ يُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دُونَ الْأَوَّلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فَالْمَلَاقِيحُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا فَالْقَوْلُ بِإِفَادَتِهِمَا الْمِلْكَ أَوْ إفَادَةِ الْمَلَاقِيحِ لَا الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَهَذَا غَايَةُ التَّحْقِيقِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (وَأَمَّا الثَّانِي فَفِي أَهْلِيَّةِ مَنْ يَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجْمَاعُ، وَهِيَ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ لَيْسَ فِيهِ فِسْقٌ وَلَا بِدْعَةٌ فَإِنَّ الْفِسْقَ فِيهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهَا لَيْسَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فَهُوَ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ دُونَ الْمُتَابَعَةِ كَالْكُفَّارِ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ لِأُمَّةِ الْمُتَابَعَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالْعِصْمَةِ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو إلَيْهَا وَلَكِنَّهُ مَشْهُورٌ بِهَا فَقِيلَ لَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَضِلُّ فِيهِ، وَأَمَّا فِيمَا سِوَاهُ فَيُعْتَدُّ بِهِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُظْهِرًا لَهَا فَلَا يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ أَصْلًا، وَإِلَّا فَالْحُكْمُ كَمَا ذَكَرَ. (قَوْلُهُ: بِالتَّعَصُّبِ) هُوَ عَدَمُ قَبُولِ الْحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِ الدَّلِيلِ بِنَاءً عَلَى مَيْلٍ إلَى جَانِبٍ. (قَوْلُهُ: لَا يَكْفُرُ بِالْمُخَالَفَةِ) يَعْنِي: فِي صُورَةِ عَدَمِ تَمَامِ الْإِجْمَاعِ بِنَاءً عَلَى بَقَاءِ مُخَالِفٍ وَاحِدٍ [الْأَمْرُ الثَّالِثُ شُرُوطُ الْإِجْمَاعِ] (قَوْلُهُ: انْقِرَاضُ الْعَصْرِ) عِبَارَةٌ عَنْ مَوْتِ جَمِيعِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي وَقْتِ نُزُولِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى حُكْمٍ فِيهَا، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ جَوَازُ الرُّجُوعِ قَبْلَ الِانْقِرَاضِ لَا دُخُولُ مَنْ سَيَحْدُثُ، وَقِيلَ: جَوَازُ الرُّجُوعِ، وَدُخُولُ مَنْ أَدْرَكَ عَصْرَهُمْ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي إجْمَاعِهِمْ أَيْضًا، وَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالِاشْتِرَاطِ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ لَكِنْ لَا يَبْقَى حُجَّةً بَعْدَ الرُّجُوعِ وَقِيلَ لَا يَنْعَقِدُ مَعَ احْتِمَالِ الرُّجُوعِ. (قَوْلُهُ: فَجَعَلُوا الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ مَانِعًا) يَعْنِي: إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِ الْبَحْثِ عَنْ الْمَأْخَذِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْمُنَاظَرَةِ بَلْ عَلَى أَنْ يَعْتَقِدَ كُلٌّ حَقِّيَّةَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَانِعًا وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

[الأمر الرابع حكم الإجماع]

يُورِثُ التُّهْمَةَ، وَيُسْقِطُ الْعَدَالَةَ، وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ يَدْعُو النَّاسَ إلَيْهَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَسَقَطَتْ الْعَدَالَةُ بِالتَّعَصُّبِ أَوْ السَّفَهِ وَكَذَا الْمُجُونُ) اعْلَمْ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا تَعَصُّبٌ، وَإِمَّا سَفَهٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ وَافِرَ الْعَقْلِ عَالِمًا بِقُبْحِ مَا يَعْتَقِدُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يُعَانِدُ الْحَقَّ وَيُكَابِرُهُ فَهُوَ الْمُتَعَصِّبُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَافِرَ الْعَقْلِ كَانَ سَفِيهًا إذْ السَّفَهُ خِفَّةٌ، وَاضْطِرَابٌ يَحْمِلُهُ عَلَى فِعْلٍ مُخَالِفٍ لِلْعَقْلِ لِقِلَّةِ التَّأَمُّلِ وَأَمَّا الْمُجُونُ فَهُوَ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ فَالْمُفْتِي الْمَاجِنُ هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ. (وَأَمَّا عَامَّةُ النَّاسِ فَفِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى الرَّأْيِ كَنَقْلِ الْقُرْآنِ، وَأُمَّهَاتُ الشَّرَائِعِ دَاخِلُونَ فِي الْإِجْمَاعِ كَالْمُجْتَهِدِينَ وَفِيمَا يَحْتَاجُ لَا عِبْرَةَ بِهِمْ) اعْلَمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَوْعَيْنِ أَحَدِهِمَا: إجْمَاعٌ يُفِيدُ قَطْعِيَّةَ الْحُكْمِ أَيْ: سَنَدُ الْإِجْمَاعِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ بَلْ الْإِجْمَاعُ يُفِيدُ الْقَطْعِيَّةَ. وَالثَّانِي: إجْمَاعٌ لَا يُفِيدُ قَطْعِيَّةَ الْحُكْمِ بِأَنْ يَكُونَ سَنَدَ الْإِجْمَاعِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ ثُمَّ الْإِجْمَاعُ يُفِيدُ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ، فَنَقْلُ الْقُرْآنِ وَأُمَّهَاتِ الشَّرَائِعِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ. وَالْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ لَا يَنْعَقِدُ مَا بَقِيَ مُخَالِفٌ وَاحِدٌ، وَذَلِكَ الْمُخَالِفُ أَوْ مُخَالِفٌ آخَرُ فِي عَهْدٍ آخَرَ لَا يَكْفُرُ بِالْمُخَالَفَةِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الثَّانِي فَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْحُكْمَ قَطْعِيٌّ بِدُونِهِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوَافِقْ جَمِيعَ الْعَوَامّ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِجْمَاعُ حَتَّى لَا يَكْفُرَ الْجَاحِدُ بَلْ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَوَاصِّ وَالْعَوَامِّ الْمُخَالَفَةُ حَتَّى لَوْ خَالَفَ أَحَدٌ يَكْفُرُ. (وَبَعْضُ النَّاسِ خَصُّوا الْإِجْمَاعَ بِالصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يُشْعِرُ بِالْمَنْعِ وَذَلِكَ كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ كَانَ مُخْتَلَفًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَأَجْمَعَ التَّابِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَلَوْ قَضَى بِهِ قَاضٍ لَا يَنْفُذُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ فَقِيلَ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ، وَقِيلَ: عَلَى أَنَّ فِيهِ شُبْهَةً حَيْثُ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. (قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ لَمْ يَبْقَ) أَيْ: لَمْ يَبْقَ دَلِيلًا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ نَسْخٌ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا نَسْخَ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْوَحْيِ، وَأُجِيبُ بِجَوَازِهِ فِيمَا يَثْبُتُ بِالِاجْتِهَادِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى ذَلِكَ الْحُكْمُ بِانْتِهَاءِ الْمَصْلَحَةِ وَفَّقَ اللَّهُ تَعَالَى أَئِمَّةَ الْمُجْتَهِدِينَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ، وَرَفْعِ الْخِلَافِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا مُدَّةَ الْحُكْمِ، وَتَبَدُّلَ الْمَصْلَحَةِ. [الْأَمْرُ الرَّابِعُ حُكْمُ الْإِجْمَاعِ] (قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ) أَيْ: الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ إذْ الْحُكْمُ الدُّنْيَوِيُّ لَا يَثْبُتُ يَقِينًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَكُونُ فَوْقَ صَرِيحِ قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا «لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قِصَّةِ التَّلْقِيحِ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ» وَرُبَّمَا كَانَ يَتْرُكُ رَأْيَهُ فِي الْحُرُوبِ بِمُرَاجَعَةِ الصَّحَابَةِ وَقِيلَ: يَثْبُتُ الْحُكْمُ مُطْلَقًا لَكِنْ فِي الدُّنْيَوِيِّ تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ بَعْدَ تَبَدُّلِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ إجْمَاعُهُ ظَنِّيًّا لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا

هُمْ الْأُصُولُ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالْبَعْضُ بِعِتْرَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِطَهَارَتِهِمْ عَنْ الرِّجْسِ وَالْبَعْضُ بِأَهْلِ الْمَدِينَةِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ الْمَدِينَةَ طَيِّبَةٌ تَنْفِي خَبَثَهَا» ، وَإِنَّ الْخَطَأَ خَبَثٌ. (إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ زَائِدَةٌ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً لَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ الْكُلِّ بَلْ الْأَكْثَرُ كَافٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» ) وَعِنْدَنَا يُشْتَرَطُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ لَا يَكُونُ إجْمَاعًا وَرُبَّمَا كَانَ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ وَالْمُخَالِفُ وَاحِدٌ فِي مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ الْكَثِيرِ وَالسَّوَادُ الْأَعْظَمُ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ هُوَ أُمَّةٌ مُطْلَقَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ الْمُطْلَقَةِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَهُمْ الَّذِينَ طَرِيقَتُهُمْ طَرِيقَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَصْحَابِهِ دُونَ أَهْلِ الْبِدَعِ. (وَأَمَّا الثَّالِثُ فَفِي شُرُوطِهِ انْقِرَاضُ الْعَصْرِ لَيْسَ شَرْطًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُشْتَرَطُ أَنْ يَمُوتُوا عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعِ لِاحْتِمَالِ رُجُوعِ بَعْضِهِمْ وَلَنَا أَنَّهُ تَحَقَّقَ الْإِجْمَاعُ فَلَا يُعْتَبَرُ تَوَهُّمُ رُجُوعِ الْبَعْضِ حَتَّى لَوْ رَجَعَ لَا يُعْتَبَرُ عِنْدَنَا. مَسْأَلَةٌ شَرَطَ الْبَعْضُ كَوْنَهُ فِي مَسْأَلَةٍ غَيْرِ مُجْتَهَدٍ فِيهَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَجَعَلُوا الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ مَانِعًا مِنْ الْإِجْمَاعِ الْمُتَأَخِّرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ إنَّمَا اُعْتُبِرَ خِلَافُهُ لِدَلِيلِهِ لَا لَعَيْنِهِ، وَدَلِيلُهُ بَاقٍ؛ وَلِأَنَّ فِي تَصْحِيحِ هَذَا الْإِجْمَاعِ تَضْلِيلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْعَصْرِ وَقَدْ وُجِدَ وَدَلِيلُهُ كَانَ دَلِيلًا لَكِنَّهُ لَمْ يَبْقَ كَمَا إذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقِيلَ: يَكْفُرُ وَقِيلَ: لَا يَكْفُرُ، وَالْحَقُّ أَنَّ نَحْوَ الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ مِمَّا عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ كَوْنُهُ مِنْ الدِّينِ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ اتِّفَاقًا. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي غَيْرِهِ وَسَيَأْتِي فِيهِ تَفْصِيلٌ وَاسْتَدَلَّ عَلَى إفَادَةِ الْإِجْمَاعِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ يَقِينًا بِوُجُوهٍ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَوْعَدَ بِاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بِضَمِّهِ إلَى مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ الَّتِي هِيَ كُفْرٌ فَيَحْرُمُ إذْ لَا يُضَمُّ مُبَاحٌ إلَى حَرَامٍ فِي الْوَعِيدِ، وَإِذَا حَرَّمَ اتِّبَاعَ غَيْرِ سَبِيلِهِمْ يَلْزَمُ اتِّبَاعُ سَبِيلِهِمْ إذْ لَا مَخْرَجَ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ تَرْكَ الِاتِّبَاعِ غَيْرُ سَبِيلِهِمْ فَيَدْخُلُ فِي اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِهِمْ، وَالْإِجْمَاعُ سَبِيلُهُمْ فَيَلْزَمُ اتِّبَاعُهُ. فَإِنْ قِيلَ لَفْظُ الْغَيْرِ مُفْرَدٌ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فَلَا يَلْزَمُ حُرْمَةُ اتِّبَاعِ كُلِّ مَا يُغَايِرُ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ الْكُفْرُ وَالتَّكْذِيبُ قُلْنَا بَلْ هُوَ عَامٌّ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجِنْسِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ قَطْعًا، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَكْفِي الْإِطْلَاقُ فَإِنْ قِيلَ: السَّبِيلُ حَقِيقَةٌ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يَمْشِي فِيهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ اتِّفَاقًا، وَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ اعْتِقَادٍ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الدَّلِيلِ الَّذِي اتَّبَعُوهُ قُلْنَا: اتِّبَاعُ غَيْرِ الدَّلِيلِ إنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسُ دَاخِلٌ فِي مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ أَيْ: مُخَالَفَةِ حُكْمِهِ إذْ الْقِيَاسُ أَيْضًا مُسْتَنِدٌ إلَى نَصٍّ

نَزَلَ نَصٌّ بَعْدَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فَلَا يَلْزَمُ التَّضْلِيلُ الَّذِي ذُكِرَ) . اعْلَمْ أَنَّ الضَّلَالَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ أَيْ: لَا يَكُونُ الدَّلِيلُ مَقْرُونًا بِشَرَائِطِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ مَقْرُونًا بِشَرَائِطِهِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُوَصِّلًا إلَى الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ بِتَضْلِيلِ الصَّحَابَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ فَلَا نُسَلِّمُ لُزُومَهُ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ إذَا اخْتَلَفُوا وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الدَّلِيلَ مَقْرُونًا بِشَرَائِطِهِ لَا يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ضَالًّا وَلَا مُخْطِئًا بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ ثُمَّ إذَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ بَعْدَهُمْ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَدَلِيلُ الْمُخَالِفِ لَمْ يَبْقَ الْآنَ دَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ حَدَثَ دَلِيلٌ أَقْوَى، وَهُوَ الْإِجْمَاعُ لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّ الدَّلِيلَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ مَقْرُونًا بِشَرَائِطِهِ فَلَا يَكُونُ تَضْلِيلًا بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَعْنَى الثَّانِيَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ تَضْلِيلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ مُمْتَنِعٌ بَلْ تَضْلِيلُ كُلِّهِمْ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ مُمْتَنِعٌ، فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فَإِصَابَةُ الْحَقِّ لَا تَعْدُوهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَهُمْ مُخْطِئٌ نَظَرًا إلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ عِنْدَنَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا بِالتَّضْلِيلِ التَّضْلِيلَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الدَّلِيلِ فَالتَّضْلِيلُ غَيْرُ لَازِمٍ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُمْ كَانَ دَلِيلًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَكِنَّهُ لَمْ يَبْقَ دَلِيلًا فِي زَمَانِ حُدُوثِ الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ أَرَادُوا التَّضْلِيلَ بِالنِّسْبَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ عَمَّ لَزِمَ اتِّبَاعُ الْمُبَاحَاتِ، وَإِسْنَادُ الْحُكْمِ إلَى الدَّلِيلِ الَّذِي أَسْنَدَ الْمُؤْمِنُونَ إجْمَاعَهُمْ إلَيْهِ قُلْنَا خُصَّ ذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُتَابَعَةُ فِي الْمُبَاحِ. وَأَنَّ الِاتِّبَاعَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِ فِعْلِ الْغَيْرِ لِكَوْنِهِ فِعْلَ الْغَيْرِ لَا لِكَوْنِهِ مِمَّا سَاقَ إلَيْهِ الدَّلِيلُ مَثَلًا إيمَانُ الْمُؤْمِنِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَنُبُوَّةِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يُعَدُّ اتِّبَاعًا لِلْيَهُودِ وَذَلِكَ كَمَا خُصَّ الْمُؤْمِنُونَ بِالْمُجْتَهِدِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي عَصْرٍ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَوْ مُنَاصَرَتِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ، أَوْ فِيمَا صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِهِ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي طَعْمَةَ بْنِ تِصْحَابَ حِينَ سَرَقَ دِرْعًا وَارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ. أُجِيبُ بِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْعُمُومَاتِ وَالْإِطْلَاقَاتِ دُونَ خُصُوصِيَّاتِ الْأَسْبَابِ وَالِاحْتِمَالَاتِ، وَالثَّابِتُ بِالنُّصُوصِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ ظَوَاهِرُهَا وَلَمْ يَصْرِفْ عَنْهُ قَرِينَةٌ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ التَّمَسُّكَ بِالظَّوَاهِرِ، وَوُجُوبَ الْعَمَلِ بِهَا إنَّمَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْلَاهُ لَوَجَبَ الْعَمَلُ بِالدَّلَائِلِ الْمَانِعَةِ عَنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ، وَاعْتَرَضَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَكْفِي فِي صِحَّةِ الْعَطْفِ تَغَايُرُ الْمَفْهُومَيْنِ، وَجَوَابُهُ أَنَّا لَا نَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْعَطْفُ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ لَا مُخَصِّصَ لَهُ بِمَا ثَبَتَ إتْيَانُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعَ أَنَّ حَمْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْفَائِدَةِ الْجَدِيدَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ

إلَى الْوَاقِعِ فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَهُ؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَإِذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوَاقِعِ، وَإِلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُخْطِئٌ وَضَالٌّ. (وَأَمَّا الرَّابِعُ فَفِي حُكْمِهِ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ يَقِينًا حَتَّى يَكْفُرَ جَاحِدُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فَإِنْ قِيلَ الْوَعِيدُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجْمُوعِ، وَهُوَ الْمُشَاقَّةُ وَالِاتِّبَاعُ قُلْنَا بَلْ بِكُلِّ وَاحِدٍ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي ضَمِّهِ إلَى الْمُشَاقَّةِ فَائِدَةٌ) أَوَّلُ الْآيَةِ {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115] أَيْ: نَجْعَلُهُ وَالِيًا لِمَا تَوَلَّى مِنْ الضَّلَالَةِ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ، وَاتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْوَعِيدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ مُشَاقَّةَ الرَّسُولِ وَحْدَهَا تَسْتَوْجِبُ الْوَعِيدَ فَلَوْلَا أَنَّ الِاتِّبَاعَ الْمَذْكُورَ حَرَامٌ لَمْ يَكُنْ فِي ضَمِّهِ إلَى الْمُشَاقَّةِ فَائِدَةٌ، فَكَانَ الْكَلَامُ حِينَئِذٍ رَكِيكًا كَمَا لَوْ قَالَ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ وَيَأْكُلْ الْخُبْزَ، وَإِذَا كَانَ اتِّبَاعُ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَامًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّبَاعَ سَبِيلٍ مِنْ السُّبُلِ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] الْآيَةَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ اتِّبَاعَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَيْنَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاتِّبَاعُ غَيْرِهِ يَكُونُ مُخَالَفَةَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَكُونُ الْمَعْطُوفُ أَيْ: الِاتِّبَاعُ عَيْنَ الْمَعْطُوفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى التَّكْرَارِ، وَتَغَايُرُ الْمَفْهُومَيْنِ لَا يَدْفَعُ التَّكْرَارَ كَمَا فِي قَوْلِنَا اتَّبِعُوا الْقُرْآنَ، وَكِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالتَّنْزِيلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ وَلَا يُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ أَحْكَامًا لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) هَذَا مِمَّا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَدْخُلُ اتِّبَاعُ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْوَعِيدِ؛ لِأَنَّ عَطْفَ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِلْحَاقِ الْوَعِيدِ بِهِمَا قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ اتِّبَاعَ مَا أَتَى بِهِ وَامْتِثَالَ أَوَامِرِهِ لَا يَدْخُلُ فِي الْوَعِيدِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى مَا الْتَزَمَهُ مِنْ أَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَيْسَ غَيْرَهُ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ اتَّفَقَ عَلَى بُطْلَانِهِ جُمْهُورُ الْمُتَمَسِّكِينَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ. (قَوْلُهُ وقَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] أَثْبَتَ لِمَجْمُوعِ الْأُمَّةِ الْعَدَالَةَ وَهِيَ تَقْتَضِي الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ، وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقَةَ الثَّابِتَةَ بِتَعْدِيلِ اللَّهِ تَعَالَى تُنَافِي الْكَذِبَ وَالْمَيْلَ إلَى جَانِبِ الْبَاطِلِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمَّةِ فَتَعَيَّنَ الْمَجْمُوعُ، وَأَيْضًا الشَّاهِدُ حَقِيقَةً هُوَ الْمُخْبِرُ بِالصِّدْقِ، وَاللَّفْظُ مُطْلَقٌ يَتَنَاوَلُ الشَّهَادَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْأُمَّةِ حَقًّا وَصِدْقًا لِيَخْتَارَهُمْ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ لِلشَّهَادَةِ عَلَى النَّاسِ. (قَوْلُهُ: وَكُلُّ الْفَضَائِلِ مُنْحَصِرَةٌ فِي التَّوَسُّطِ) تَقْدِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْخَالِقَ تَعَالَى

عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُشَاقَّةُ، وَلَا يُمْكِنُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ أَحْكَامًا لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَيَكُونُ اتِّبَاعُهُ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ فَيَكُونُ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ مَجْمُوعًا مُرَكَّبًا مِمَّا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْ غَيْرِهِ فَهَذَا الْغَيْرُ يَكُونُ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ، فَإِنْ شَرَطَ لِكَوْنِهِ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ اتِّفَاقَ الْأُمَّةِ حَصَلَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ فَمَعَ عَدَمِ الِاتِّفَاقِ إذَا كَانَ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ فَمَعَ تَحَقُّقِ الِاتِّفَاقِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الِاتِّبَاعِ. فَإِنْ قِيلَ إنْ كَانَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ مُرَكَّبًا مِمَّا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْ غَيْرِهِ فَمَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكُونُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَاتِّبَاعُهُ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْوَعِيدِ قُلْنَا لَا يَكُونُ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُهُ كَمَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَيْنُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَقَطْ يَصْدُقُ أَنْ يَقُولَ لَيْسَ لِي غَيْرُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ أَجْزَاءَ الْعَشَرَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ لَيْسَ بِقَوِيٍّ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَيْنَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْمَعْطُوفُ عَيْنَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ مُشَاقَّةِ الرَّسُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَقَدَّسَ قَدْ رَكَّبَ فِي الْإِنْسَانِ ثَلَاثَ قُوًى. إحْدَاهَا مَبْدَأُ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَالسَّوْقِ إلَى النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْقُوَّةِ النُّطْقِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَالنَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ، وَالْمَلَكِيَّةِ. وَالثَّانِيَةُ: مَبْدَأُ جَذْبِ الْمَنَافِعِ وَطَلَبِ الْمَلَاذِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَتُسَمَّى الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ وَالْبَهِيمِيَّةُ، وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ. وَالثَّالِثَةُ: مَبْدَأُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَهْوَالِ وَالشَّوْقِ إلَى التَّسَلُّطِ وَالتَّرَفُّعِ وَهِيَ الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ وَالسَّبُعِيَّةُ، وَالنَّفْسُ اللَّوَّامَةُ وَتَحْدُثُ مِنْ اعْتِدَالِ الْحَرَكَةِ لِلْأُولَى الْحِكْمَةُ، وَلِلثَّانِيَةِ الْعِفَّةُ، وَلِلثَّالِثَةِ الشَّجَاعَةُ، فَأُمَّهَاتُ الْفَضَائِلِ هِيَ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَفْرِيعَاتِهَا وَتَرْكِيبَاتِهَا، وَكُلٌّ مِنْهَا مُحْتَوِشٌ بِطَرَفَيْ إفْرَاطٍ وَتَفْرِيطٍ هُمَا رَذِيلَتَانِ. أَمَّا الْحِكْمَةُ فَهِيَ مَعْرِفَةُ الْحَقَائِقِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَهِيَ الْعِلْمُ النَّافِعُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِمَعْرِفَةِ النَّفْسِ مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] ، وَإِفْرَاطُهَا الْجَرْبَزَةُ وَهِيَ اسْتِعْمَالُ الْفِكْرِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَالْمُتَشَابِهَاتِ وَعَلَى وَجْهٍ لَا يَنْبَغِي كَمُخَالَفَةِ الشَّرَائِعِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَتَفْرِيطُهَا الْغَبَاوَةُ الَّتِي هِيَ تَعْطِيلُ الْقُوَّةِ الْفِكْرِيَّةِ بِالْإِرَادَةِ وَالْوُقُوفِ عَنْ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ النَّافِعَةِ. وَأَمَّا الشَّجَاعَةُ فَهِيَ انْقِيَادُ السَّبُعِيَّةِ لِلنَّاطِقِيَّةِ فِي الْأُمُورِ لِيَكُونَ إقْدَامُهَا عَلَى حَسَبِ الرَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَابٍ فِي الْأُمُورِ الْهَائِلَةِ حَتَّى يَكُونَ فِعْلُهَا جَمِيلًا، وَصَبْرُهَا مَحْمُودًا، وَإِفْرَاطُهَا التَّهَوُّرُ أَيْ: الْإِقْدَامُ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي، وَتَفْرِيطُهَا الْجُبْنُ أَيْ: الْحَذَرُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي الْحَذَرُ عَنْهُ، وَأَمَّا الْعِفَّةُ فَهِيَ انْقِيَادُ الْبَهِيمِيَّةِ

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غَيْرُ مَفْهُومِ اتِّبَاعِ غَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ فَهَذِهِ الْغَيْرِيَّةُ كَافِيَةٌ لِصِحَّةِ الْعَطْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] مَعَ أَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ عَيْنُ إطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] لَكِنَّهُ غَيْرُهُ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ. (وقَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ وَالْخَيْرِيَّةُ تُوجِبُ الْحَقِّيَّةَ فِيمَا اجْتَمَعُوا؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا كَانَ ضَلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأُمَّةَ الضَّالِّينَ لَا يَكُونُونَ خَيْرَ الْأُمَمِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْأَمْرِ بِشَيْءٍ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْرُوفًا، وَإِذَا نَهَوْا عَنْ الشَّيْءِ يَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُنْكَرًا، فَيَكُونُ إجْمَاعُهُمْ حُجَّةً وقَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} [البقرة: 143] وَالْوَسَاطَةُ الْعَدَالَةُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] وَكُلُّ الْفَضَائِلِ مُنْحَصِرَةٌ فِي التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، فَإِنَّ رُءُوسَ الْفَضَائِلِ الْحِكْمَةُ، وَالْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، وَالْعَدَالَةُ فَالْحِكْمَةُ نَتِيجَةُ تَكْمِيلِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْجَرْبَزَةِ وَالْغَبَاوَةِ، فَتَوَسُّطُهُ أَنْ تَنْتَهِيَ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ إلَى حَدٍّ يُمْكِنُ لِلْعَقْلِ الْوُصُولُ إلَيْهِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي وَجَبَ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَيْهِ، وَلَا يَتَعَمَّقُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ التَّعَمُّقُ كَالتَّفَكُّرِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَالتَّفْتِيشِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ، وَالْقَدَرِ، وَالشُّرُوعِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمُعَادِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْفَلَاسِفَةِ. وَالْعِفَّةُ هِيَ نَتِيجَةُ تَهْذِيبِ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَهِيَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلنَّاطِقِيَّةِ لِيَكُونَ تَصَرُّفَاتُهَا بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ النَّاطِقِيَّةِ لِيَسْلَمَ عَنْ اسْتِعْبَادِ الْهَوَى إيَّاهَا وَاسْتِخْدَامِ اللَّذَّاتِ. وَإِفْرَاطُهَا الْخَلَاعَةُ، وَالْفُجُورُ أَيْ: الْوُقُوعُ فِي ازْدِيَادِ اللَّذَّاتِ عَلَى مَا يَجِبُ، وَتَفْرِيطُهَا الْخُمُودُ أَيْ: السُّكُوتُ عَنْ طَلَبِ اللَّذَّاتِ بِقَدْرِ مَا رَخَّصَ فِيهِ الْعَقْلُ وَالشَّرْعُ إيثَارًا لَا خِلْقَةً فَالْأَوْسَاطُ فَضَائِلُ، وَالْأَطْرَافُ رَذَائِلُ، وَإِذَا امْتَزَجَتْ الْفَضَائِلُ الثَّلَاثَةُ حَصَلَتْ مِنْ امْتِزَاجِهَا حَالَةٌ مُتَشَابِهَةٌ هِيَ الْعَدَالَةُ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عَبَّرَ عَنْ الْعَدَالَةِ بِالْوَسَاطَةِ، وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا» ، وَالْحِكْمَةُ فِي النَّفْسِ الْبَهِيمِيَّةِ بَقَاءُ الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مَرْكَبُ النَّفْسِ النَّاطِقَةِ لِتَصِلَ بِذَلِكَ إلَى كَمَالِهَا اللَّائِقِ بِهَا وَمَقْصُودِهَا الْمُتَوَجِّهَةِ إلَيْهِ. وَفِي السَّبُعِيَّةِ كَسْرُ الْبَهِيمِيَّةِ وَقَهْرُهَا وَدَفْعُ الْفَسَادِ الْمُتَوَقَّعِ مِنْ اسْتِيلَائِهَا، وَاشْتُرِطَ التَّوَسُّطَ فِي أَفْعَالِهِمَا لِئَلَّا تَسْتَبْعِدَ النَّاطِقَةُ فِي هَوَاهُمَا، وَتَصَرُّفَاتهمَا عَنْ كَمَالِهَا وَمَقْصِدِهَا وَقَدْ مَثَّلَ ذَلِكَ بِفَارِسٍ اسْتَرْدَفَ سَبُعًا وَبَهِيمَةً لِلِاصْطِيَادِ فَإِنْ انْقَادَ السَّبُعُ، وَالْبَهِيمَةُ لِلْفَارِسِ وَاسْتَعْمَلَهُمَا عَلَى مَا يَنْبَغِي حَصَلَ مَقْصُودُ الْكُلِّ بِوُصُولِ الْفَارِسِ إلَى الصَّيْدِ، وَالسَّبُعِ إلَى الطُّعْمَةِ، وَالْبَهِيمَةِ إلَى الْعَلَفِ، وَإِلَّا هَلَكَ الْكُلُّ، فَقَوْلُهُ: النَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ أَرَادَ بِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْبَهِيمِيَّةِ وَالسَّبُعِيَّةِ. وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ نُفُوسٌ مُتَعَدِّدَةٌ أَمْ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ مُخْتَلِفَةٌ بِالِاعْتِبَارَاتِ أَمْ قُوًى، وَكَيْفِيَّاتٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ

مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الْخَلَاعَةِ وَالْجُمُودِ. وَالشَّجَاعَةُ نَتِيجَةُ تَهْذِيبِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَهِيَ مُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ، وَإِنَّمَا يُحْمَدُ فِيهَا التَّوَسُّطُ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ الْحَيَوَانِيَّةَ هِيَ مَرْكَبٌ لِلرُّوحِ الْإِنْسَانِيَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَوَسُّطِهَا لِئَلَّا تَضْعُفَ عَنْ السَّيْرِ وَلَا تَجْمَحَ بَلْ تَنْقَادُ لِلرُّوحِ، ثُمَّ التَّوَسُّطُ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ أَيْ: الْحِكْمَةِ وَالْعِفَّةِ وَالشَّجَاعَةِ هِيَ الْعَدَالَةُ فَلِهَذَا فَسَّرَ الْوَسَاطَةَ بِالْعَدَالَةِ فَالْعَدَالَةُ تَقْتَضِي الرُّسُوخَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَتَنْفِي الزَّيْغَ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ. (وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» ) هَذِهِ هِيَ الْأَدِلَّةُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء: 115] فَقَدْ عَرَفْت مَا عَلَيْهِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْآيَاتِ فَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ وَاحِدٍ حُجَّةٌ لَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَبُلُوغُ مَجْمُوعِهَا إلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ عَلَى هَذَا الْمَدْلُولِ الْمَطْلُوبِ فَأَنَا أَذْكُرُ مَا سَنَحَ لِخَاطِرِي فَأَقُولُ الْقَضَايَا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ النَّاسِ نَحْوَ الْعَدْلُ حَسَنٌ، وَالظُّلْمُ قَبِيحٌ فَهَذَا النَّوْعُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ يَقِينِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQفَمَوْضِعُهُ عِلْمٌ آخَرُ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْآيَاتِ فَدَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّ اتِّفَاقَ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ وَاحِدٍ حُجَّةٌ) قَطْعِيَّةٌ لَيْسَتْ بِقَوِيَّةٍ أَمَّا قَوْله تَعَالَى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ؛ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْخِطَابَ لِلصَّحَابَةِ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْله تَعَالَى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى} [آل عمران: 111] ، وَأَنَّ الضَّلَالَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِنَاءً عَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ بَعْدَ بَذْلِ الْوُسْعِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ بِالشَّرَائِعِ الْمُمْتَثِلِينَ لِلْأَوَامِرِ خَيْرَ الْأُمَمِ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ لَيْسَا عَلَى الْعُمُومِ إذْ رُبَّ مُنْكَرٍ لَمْ يُنْهَوْا عَنْهُ لِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْرُوفَ وَالْمُنْكَرَ بِحَسَبِ الرَّأْيِ، وَالِاجْتِهَادِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَا كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ، وَبَعْدَ تَسْلِيمِ جَمِيعِ ذَلِكَ لَا دَلَالَةَ لَهُ قَطْعًا عَلَى قَطْعِيَّةِ إجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ عَصْرٍ. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] الْآيَةَ فَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُنَافِي الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ إذْ لَا فِسْقَ فِيهِ بَلْ هُوَ مَأْجُورٌ؛ وَلِأَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُمْ وَسَطًا بِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأُمَمِ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِعَدَالَةِ الْمَجْمُوعِ بَعْدَ الْقَطْعِ بِعَدَمِ عَدَالَةِ كُلٍّ مِنْ الْأَحَادِ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ لَا دَلَالَةَ عَلَى قَطْعِيَّةِ إجْمَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ قَوْلُهُ: (وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَخْبَارِ) قَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ الْأَخْبَارَ فِي عِصْمَةِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ مَعَ اخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ، وَكَوْنِ كُلٍّ مِنْهَا خَبَرًا وَاحِدًا قَدْ تَظَاهَرَتْ حَتَّى صَارَتْ مُتَوَاتِرَةَ الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ شَجَاعَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَجُودِ حَاتِمٍ فَأَجَابَ بِأَنَّ بُلُوغَ مَجْمُوعِهَا حَدَّ التَّوَاتُرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا يَرِدُ عَلَى كُلِّ مَا اُدُّعِيَ تَوَاتُرُ مَعْنَاهُ. (قَوْلُهُ فَأَنَا أَذْكُرُ) قَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِمَّا سَنَحَ لَهُ قَطْعِيَّةَ

يُضَاهِي الْمُتَوَاتِرَاتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى قَضِيَّةٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ فَتَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ مِمَّا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ يَلْزَمُ الْقَدْحُ فِي الْمُتَوَاتِرَاتِ، وَإِنْ كَانَتْ ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ فَحُكْمُ الْعَقْلِ بِهَا إنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى السَّمْعِ فَإِنْ كَانَ حُكْمًا وَاجِبًا عَلَى تَقْدِيرِ تَصَوُّرِ الطَّرَفَيْنِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَدِيهَةً، أَوْ كَسْبًا فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فِي اعْتِقَادِهِمْ إلَّا أَنَّهُ خَطَأٌ فَوُقُوعُ الْخَطَأِ بِحَيْثُ لَمْ يَتَنَبَّهْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْحُكَمَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَطَاوِلَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا اعْتِمَادَ عَلَى الْعَقْلِ أَصْلًا، وَأَيْضًا الْحُكْمُ الضَّرُورِيُّ لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا أَنَّهُ مَا يَقَعُ فِي الْعُقُولِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَصْلًا بَلْ وَقَعَ اتِّفَاقًا وَالِاتِّفَاقِيُّ لَا يَكْثُرُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَلَزِمَ الْقَدْحُ فِي الْمُجَرَّبَاتِ، وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى السَّمْعِ فَإِنْ حَكَمَ الْعَقْلُ بِوُجُوبٍ عَلَى قَبُولِهِ بِأَنْ يَحْكُمَ بِامْتِنَاعِ الْكَذِبِ مِنْ قَائِلِهِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ فَاتِّفَاقُ الْجُمْهُورِ عَلَى قَبُولِهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ بَاطِلٌ لِمَا مَرَّ. فَإِنْ قُلْت لِمَ لَا يَجُوزُ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الشَّوْكَةِ حَكَمَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ مُتَابِعُوهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ اتَّبَعَهُمْ النَّاسُ كَمَا نُشَاهِدُهُ مِنْ الرُّسُومِ وَالْعَادَاتِ؟ قُلْت: كَلَامُنَا فِيمَا يَعْتَقِدُهُ النَّاسُ أَنَّهُ حَسَنٌ أَوْ قَبِيحٌ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِجْمَاعِ سِتَّةَ أَوْجُهٍ. حَاصِلُ الْأَوَّلِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِإِكْمَالِهِ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ مُهْمَلًا وَلَا شَكَّ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْحَوَادِثِ مِمَّا لَمْ يُبَيَّنْ بِصَرِيحِ الْوَحْيِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُنْدَرِجًا تَحْتَ الْوَحْيِ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ لِلْأُمَّةِ اسْتِنْبَاطُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِدْرَاجِ أَوْ يُمْكِنُ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ خَاصَّةً، وَهُوَ بَاطِلٌ بِالضَّرُورَةِ فَتَعَيَّنَ اسْتِنْبَاطُهُ لِلْمُجْتَهِدِينَ وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَسْتَنْبِطَهُ قَطْعًا وَيَقِينًا كُلُّ مُجْتَهِدٍ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَافِ، أَوْ جَمِيعُ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فَتَعَيَّنَ اسْتِنْبَاطُ جَمْعٍ مِنْ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَلَا دَلَالَةَ عَلَى تَعْيِينِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَعْصَارِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ عَصْرٌ وَاحِدٌ وَحِينَئِذٍ لَا تَرْجِيحَ لِلْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ فَتَعَيَّنَ اعْتِبَارُ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ اتِّفَاقُهُمْ بَيَانًا لِلْحُكْمِ وَبَيِّنَةً عَلَيْهِ فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الْبَيِّنَةِ هَذَا غَايَةُ تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: وُجُوبُ الِاتِّبَاعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَطْعَ، وَأَيْضًا مَا ذَكَرَ لَا يَدُلُّ عَلَى حُجِّيَّةِ إجْمَاعِ مُجْتَهِدِي كُلِّ عَصْرٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُنْدَرِجُ فِي الْوَحْيِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ وَاحِدٌ أَوْ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ آخَرَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَأَيْضًا إكْمَالُ الدِّينِ هُوَ التَّنْصِيصُ عَلَى قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ، وَالتَّوْقِيفُ عَلَى أُصُولِ الشَّرَائِعِ، وَقَوَانِينِ الِاجْتِهَادِ لِإِدْرَاجِ حُكْمِ كُلِّ حَادِثَةٍ فِي الْقُرْآنِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ الْقَضَايَا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا نَوْعَيْنِ: أَحَدَهُمَا: مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ النَّاسِ. وَالثَّانِيَ: مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ

عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَأَهْلَ الْحَقِّ لَمْ يَخَافُوا أَنْ يُعَنِّتَهُمْ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ الرُّسُومِ بَلْ رَفَضُوهَا وَهُمْ قَدْ اعْتَقَدُوا مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَأَيْضًا مِثْلُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ يَرِدُ عَلَى الْمُتَوَاتِرَاتِ الْمَاضِيَةِ وَلَمْ يَقْدَحْ فِيهَا. وَالثَّانِي: مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عَصْرٍ عَلَى أَمْرٍ فَهَذَا مِنْ خَوَاصِّ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ فَلَا وَحْيَ بَعْدَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَثْبُتُ بِصَرِيحِ الْوَحْيِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَوَادِثِ الْوَاقِعَةِ قَلِيلَةٌ غَايَةَ الْقِلَّةِ فَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَحْكَامُ تِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ الْوَحْيِ الصَّرِيحِ وَبَقِيَتْ أَحْكَامُهَا مُهْمَلَةً لَا يَكُونُ الدِّينُ كَامِلًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمُجْتَهِدِينَ وِلَايَةُ اسْتِنْبَاطِ أَحْكَامِهَا مِنْ الْوَحْيِ، فَإِنْ اسْتَنْبَطَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي عَصْرٍ حُكْمًا، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْعَصْرِ قَبُولُهُ فَاتِّفَاقُهُمْ صَارَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ مُخَالَفَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وقَوْله تَعَالَى ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عَصْرٍ، وَظَاهِرٌ أَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَا لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهَا جَمِيعُ النَّاسِ بَلْ بَعْضُهُمْ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَصْرِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ تَطْوِيلًا وَتَفْصِيلًا لَا دَخْلَ لَهُ فِي الْمَقْصُودِ إلَّا بَيَانُ أَنَّ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْمُجْتَهِدُونَ فِي عَصْرٍ يَجِبُ عَلَى ذَلِكَ الْعَصْرِ قَبُولُهُ كَمَا أَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ يَجِبُ قَبُولُهَا، وَثُبُوتُهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَاتِرَاتِ وَالْمُجَرَّبَاتِ. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ} [التوبة: 122] الْآيَةَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا لَا يُفِيدُ إلَّا كَوْنُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ طَوَائِفُ الْفُقَهَاءِ حُجَّةً عَلَى غَيْرِ الْفُقَهَاءِ، وَالْكَلَامُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ حَتَّى لَا يَسَعُهُمْ مُخَالَفَتُهُ، وَأَيْضًا وُجُوبُ الْعَمَلِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَطْعَ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ مُجْتَهِدٍ وَاحِدٍ فِي عَصْرٍ لَا مُجْتَهِدَ فِيهِ غَيْرَهُ حُجَّةً قَطْعِيَّةً لِكَوْنِهِ بَيِّنَةً عَلَى الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} [التوبة: 115] الْآيَةَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْمُرَادُ عَدَمُ الْإِضْلَالِ بِالْإِلْجَاءِ إلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الْهِدَايَةِ إلَى الْإِيمَانِ إذْ كَثِيرًا مَا يَقَعُ الْخَطَأُ لِجَمَاعَاتِ الْعُلَمَاءِ، وَأَيْضًا هَذَا لَا يَنْفِي وُقُوعَ الضَّلَالِ وَالذَّهَابِ إلَى غَيْرِ الْحَقِّ مِنْ النَّفْسِ أَوْ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا يَنْفِي وُقُوعَ الْإِضْلَالِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَيْضًا لَوْ أُجْرِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَخْطَأَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَطُّ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى تَعْيِينِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] الْآيَةَ الْوَاوُ لِلْقَسَمِ، وَمَعْنَى تَنْكِيرِ نَفْسٍ التَّكْثِيرُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ نَفْسُ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَعْنَى إلْهَامِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إفْهَامُهَا، وَتَعْرِيفُ حَالِهَا وَالتَّمْكِينُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِمَا، وَمَعْنَى تَزْكِيَتِهَا إنْمَاؤُهَا بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَمَعْنَى تَدْسِيَتِهَا نَقْضُهَا، وَإِخْفَاؤُهَا بِالْجَهَالَةِ

[الإجماع على مراتب]

{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الْآيَةَ. يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ كُلِّ قَوْمٍ طَائِفَتَهُ الْمُتَفَقِّهَةَ فَإِنْ اتَّفَقَ الطَّوَائِفُ عَلَى حُكْمٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ وَحْيٌ صَرِيحٌ وَأَمَرُوا أَقْوَامَهُمْ بِهِ يَجِبُ قَبُولُهُ فَاتِّفَاقُهُمْ صَارَ بَيِّنَةً عَلَى الْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ الْمُخَالَفَةُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فَأُولُوا الْأَمْرِ إنْ كَانُوا هُمْ الْمُجْتَهِدِينَ فَإِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ صَرِيحُ الْوَحْيِ يَجِبُ إطَاعَتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْحُكَّامُ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مُجْتَهِدِينَ، وَلَمْ يَعْلَمُوا الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ السُّؤَالُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَإِذَا سَأَلُوهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى الْجَوَابِ يَجِبُ الْقَبُولُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ فِي السُّؤَالِ فَائِدَةٌ فَيَجِبُ عَلَى النَّاسِ الْإِطَاعَةُ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ وَكَذَا بَعْدَهُ لِمَا مَرَّ وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} [التوبة: 115] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُلْقِي فِي قُلُوبِ قَوْمٍ هُمْ الْعُلَمَاءُ الْمَهْدِيُّونَ خِلَافَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْفُسُوقِ وَلَيْسَ مَعْنَى إلْهَامِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى أَنْ يَعْلَمَ كُلَّ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَلَا اخْتِصَاصَ لِذَلِكَ بِالنَّفْسِ الْمُزَكَّاةِ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عَصْرٍ. وَالْعَجَبُ مِنْ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَيْفَ رَدَّ اسْتِدْلَالَاتِ الْقَوْمِ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ قَطْعِيَّةَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً قَطْعِيَّةً، وَأَوْرَدَ مِمَّا سَنَحَ لَهُ مَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِلْحَاقُ هَذِهِ الْوُجُوهِ بِالْكِتَابِ مِمَّا اتَّفَقَ لَهُ فِي آخِرِ عَهْدِهِ وَلَا يُوجَدُ فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مُرَادَهُ الِاسْتِدْلَال بِمَجْمُوعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ وَذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ كَلَامِهِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ إذْ لَا دَلَالَة لِلْمَجْمُوعِ أَيْضًا قَطْعًا. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا الْعُلَمَاءُ) اسْتِدْلَالٌ جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ مُتَوَاتِرَةُ الْمَعْنَى وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ مَنَعَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا مَظِنَّةَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ خَالَفَ، وَزَعَمَ أَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ إجْمَاعُ الْعِتْرَةِ أَجَابَ بِأَنَّ مَا نَدَّعِي كَوْنَهُ حُجَّةً أَخَصُّ الْإِجْمَاعَاتِ؛ لِأَنَّهُ إجْمَاعُ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَصْرٍ فَيَدْخُلُ فِيهِمْ الْمُجْتَهِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْعِتْرَةِ بِخِلَافِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ الْعِتْرَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ إجْمَاعَ الْكُلِّ، وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُوجَدُ فِي الْعَصْرِ مُجْتَهِدٌ مِنْ الْعِتْرَةِ أَوْ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ، وَمَا بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ أَخَصَّ، وَلَا تَدُلُّ أَدِلَّتُهُمْ عَلَى مَطْلُوبِنَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُمْ هُوَ اشْتِمَالُ إجْمَاعِ الْعِتْرَةِ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ بَلْ الْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ اتِّفَاقُ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ، وَالْجَمَاعَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ خَالَفَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْهَوَى، وَالْبِدَعِ [الْإِجْمَاعُ عَلَى مَرَاتِبَ] (قَوْلُهُ: ثُمَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَرَاتِبَ) فَالْأُولَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ يَكْفُرُ جَاحِدُهُ. وَالثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ

[الأمر الخامس سند الإجماع]

الْحَقِّ؛ لِكَوْنِهِ ضَلَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ الْمُزَكَّاةَ يُلْهِمُهَا اللَّهُ الْخَيْرَ لَا الشَّرَّ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَالنَّفْسُ الْمُزَكَّاةُ هِيَ الْمُشَرَّفَةُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. وَأَيْضًا الْعُلَمَاءُ إذَا قَالُوا: أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ قَطْعِيًّا إلَّا وَأَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَيْهِ قَطْعِيًّا فَإِخْبَارُهُمْ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ إخْبَارٌ بِأَنْ قَدْ وَصَلُوا إلَى دَلِيلٍ دَالٍّ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَا يَكُونُ كَلَامُهُمْ إلَّا كَاذِبًا، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ الْمُجْتَهِدُونَ الْكَثِيرُونَ غَايَةَ الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ، وَذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ يُضَلَّلُ جَاحِدُهُ. وَالثَّالِثَةُ: لَا يُضَلَّلُ جَاحِدُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ. (قَوْلُهُ: وَفِي مِثْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ يَجُوزُ التَّبْدِيلُ) ذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَسْخُ الْإِجْمَاعِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كَانَ قَطْعِيًّا حَتَّى لَوْ أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى حُكْمٍ ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِهِ جَازَ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ هُوَ التَّفْصِيلُ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْقَطْعِيَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ يَجُوزُ تَبْدِيلُهُ كَمَا إذَا أَجْمَعَ الْقَرْنُ الثَّانِي عَلَى حُكْمٍ يُرْوَى فِيهِ خِلَافٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ثُمَّ أَجْمَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ، أَوْ أَجْمَعَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِجَوَازِ أَنْ تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ فَيُوَفِّقُ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْإِجْمَاعِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِهِ. وَمَا يُقَالُ إنَّ انْقِطَاعَ الْوَحْيِ يُوجِبُ امْتِنَاعَ النَّسْخِ فَمُخْتَصٌّ بِمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْوَحْيِ، وَالْإِجْمَاعُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَدْ تَحَاشَى عَنْ إطْلَاقِ لَفْظِ النَّسْخِ إلَى لَفْظِ التَّبْدِيلِ مُحَافَظَةً عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْقَوْمِ عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ وَلَا يُنْسَخُ بِهِ [الْأَمْرُ الْخَامِسُ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ] (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْخَامِسُ فَفِي السَّنَدِ وَالنَّاقِلِ) جَمَعَهُمَا فِي بَحْثٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَبٌ. فَالْأَوَّلُ سَبَبُ ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِي سَبَبُ ظُهُورِهِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجْمَاعُ إلَّا عَنْ سَنَدٍ مِنْ دَلِيلٍ أَوْ أَمَارَةٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ السَّنَدِ يَسْتَلْزِمُ الْخَطَأَ إذْ الْحُكْمُ فِي الدِّينِ بِلَا دَلِيلٍ خَطَأٌ وَيَمْتَنِعُ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى الْخَطَأِ، وَأَيْضًا اتِّفَاقُ الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ يَسْتَحِيلُ عَادَةً كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَكْلِ طَعَامٍ وَاحِدٍ. وَفَائِدَةُ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ وُجُودِ السَّنَدِ سُقُوطُ الْبَحْثِ، وَحُرْمَةُ الْمُخَالَفَةِ، وَصَيْرُورَةُ الْحُكْمِ قَطْعِيًّا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي السَّنَدِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيَاسًا، وَأَنَّهُ وَقَعَ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ قِيَاسًا عَلَى إمَامَتِهِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى قِيلَ رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْرِ دِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِأَمْرِ دُنْيَانَا. وَذَهَبَ الشِّيعَةُ وَدَاوُد الظَّاهِرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ إلَى الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ. وَأَمَّا جَوَازُ كَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ كَذَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ وَقَدْ وَقَعَ فِي الْمِيزَانِ، وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْمَذْكُورِينَ

الدَّلِيلُ لَا يَكُونُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ الْقَطْعِيَّةَ عِنْدَهُمْ وَلَا الْإِجْمَاعَ لِلدُّورِ بَقِيَ الدَّلِيلُ الَّذِي هُوَ الْوَحْيُ فَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَالَ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيَّ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَإِذَا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ كَانَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَحْيًا مُتَوَاتِرًا، عَلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الَّذِي نَدَّعِي أَنَّهُ حُجَّةٌ أَخَصُّ الْإِجْمَاعَاتِ فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ وَقَوْمًا قَالُوا: إجْمَاعُ الْعِتْرَةِ حُجَّةٌ، وَنَحْنُ لَا نَكْتَفِي بِهَذَا بَلْ نَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ اتِّفَاقِ جَمِيعِ الْمُجْتَهِدِينَ حَتَّى يَدْخُلَ فِيهِمْ الْعِتْرَةُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ فَأَدِلَّتُهُمْ تَدُلُّ عَلَى مَطْلُوبِنَا وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَطْلُوبِ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ خَالَفَ الْجَمَاعَةَ قَدْرَ شِبْرٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQخَالَفُوا فِي الظَّنِّيِّ قِيَاسًا كَانَ أَوْ خَبَرَ وَاحِدٍ وَلَمْ يُجَوِّزُوا الْإِجْمَاعَ إلَّا عَلَى قَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ فَلَا يُبْتَنَى إلَّا عَلَى قَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ. وَجَوَابُهُ أَنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى دَلِيلٍ أَيْ: سَنَدِهِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ لِذَاتِهِ كَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاسْتِدَامَةً لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ أَنَّهُ لَوْ اُشْتُرِطَ كَوْنُ السَّنَدِ قَطْعِيًّا لَوَقَعَ الْإِجْمَاعُ لَغْوًا ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْحُكْمِ قَطْعًا بِالدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْإِجْمَاعُ عَنْ قَطْعِيٍّ أَصْلًا لِوُقُوعِهِ لَغْوًا. قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّهُ لَوْ اُشْتُرِطَ كَوْنُ السَّنَدِ قَطْعِيًّا لَكَانَ الْإِجْمَاعُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ لَغْوًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ حُكْمًا وَلَا يُوجِبُ أَمْرًا مَقْصُودًا فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ إذْ التَّأْكِيدُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ أَصْلِيٍّ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ، فَإِنَّ السَّنَدَ إذَا كَانَ ظَنِّيًّا فَهُوَ يُفِيدُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ، وَإِذَا كَانَ قَطْعِيًّا فَهُوَ يُفِيدُ التَّأْكِيدَ كَمَا فِي النُّصُوصِ الْمُتَعَاضِدَةِ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ، فَلَا يَكُونُ لَغْوًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنِّزَاعِ فِي جَوَازِ كَوْنِ السَّنَدِ قَطْعِيًّا؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي عَصْرٍ عَلَى حُكْمٍ ثَابِتٍ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ فَظَاهِرٌ الْبُطْلَانَ، وَكَذَا إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى إجْمَاعًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ صَادِقٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْحُكْمَ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ نِزَاعٌ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الثَّابِتِ مُحَالٌ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا النَّاقِلُ) نَقْلُ الْإِجْمَاعِ إلَيْنَا قَدْ يَكُونُ بِالتَّوَاتُرِ فَيُفِيدُ الْقَطْعَ وَقَدْ يَكُونُ بِالشُّهْرَةِ فَيَقْرُبُ مِنْهُ وَقَدْ يَكُونُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيُفِيدُ الظَّنَّ، وَيُوجِبُ الْعَمَلَ لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ بِالدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ. قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ: وُجُوبُ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ثَبَتَ إجْمَاعًا وَذَلِكَ فِيمَا نُقِلَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَمَّا فِيمَا نُقِلَ عَنْ الْأُمَّةِ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَلَمْ يَدُلَّ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ نَصٌّ، وَلَا إجْمَاعٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ صِحَّةُ الْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ وَلَسْنَا نَقْطَعُ بِبُطْلَانِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَاسْتُدِلَّ بِأَنَّ نَقْلَ الظَّنِّيِّ مَعَ تَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ النَّاقِلِ وَالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُوجِبُ الْعَمَلَ فَنَقْلُ الْقَطْعِ أَوْلَى، وَأُجِيبُ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إنَّمَا يَكُونُ ظَنِّيًّا بِوَاسِطَةِ شُبْهَةٍ فِي النَّاقِلِ، وَإِلَّا فَهُوَ فِي الْأَصْلِ قَطْعِيٌّ كَالْإِجْمَاعِ بَلْ أَوْلَى إذْ لَا شُبْهَةَ لِأَحَدٍ فِي أَنَّ الْخَبَرَ الْمَسْمُوعَ

[الركن الرابع القياس]

فَقَدْ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ» فَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْأَدِلَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ قَدْ وَصَلَتْ إلَى الْعُلَمَاءِ بِحَيْثُ تُوجِبُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ. ثُمَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى مَرَاتِبَ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ثُمَّ إجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِيمَا لَمْ يُرْوَ فِيهِ خِلَافُ الصَّحَابَةِ ثُمَّ إجْمَاعُهُمْ فِيمَا رُوِيَ خِلَافُهُمْ فَهَذَا إجْمَاعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَفِي مِثْلِ هَذَا الْإِجْمَاعِ يَجُوزُ التَّبْدِيلُ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ، وَفِي عَصْرَيْنِ وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي ثَبَتَ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إجْمَاعٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ أَيْضًا. وَأَمَّا الْخَامِسُ فَفِي السَّنَدِ وَالنَّاقِلِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَنَدُ الْإِجْمَاعِ خَبَرَ الْوَاحِدِ أَوْ الْقِيَاسَ عِنْدَنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حُجَّةٌ قَطْعًا [الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْقِيَاسُ] (قَوْلُهُ: الرُّكْنُ الرَّابِعُ فِي الْقِيَاسِ) هُوَ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ وَالْمُسَاوَاةُ يُقَالُ قِسْت النَّعْلَ بِالنَّعْلِ أَيْ: قَدَّرْتهَا بِهَا وَفُلَانٌ لَا يُقَاسُ بِفُلَانٍ أَيْ: لَا يُسَاوَى وَقَدْ تَعَدَّى بِعَلَى بِتَضْمِينِ مَعْنَى الِابْتِنَاءِ كَقَوْلِهِمْ قَاسَ الشَّيْءَ عَلَى الشَّيْءِ، وَفِي الشَّرْعِ: مُسَاوَاةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُكْمٍ مَطْلُوبٍ بِهِ، وَلَهُ مَحَلُّ ضَرُورَةٍ، وَالْمَقْصُودُ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ لِثُبُوتِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ يُقَاسُ هَذَا بِهِ، فَكَانَ هَذَا فَرْعًا وَذَلِكَ أَصْلًا لِاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِ، وَابْتِنَائِهِ عَلَيْهِ، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي كُلِّ شَيْئَيْنِ بَلْ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَمْرٌ مُشْتَرَكٌ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ، وَيُسَمَّى عِلَّةَ الْحُكْمِ وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ مِثْلِهَا فِي الْفَرْعِ إذْ ثُبُوتُ عَيْنِهَا فِيهِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الشَّخْصِيَّ لَا يَقُومُ بِمَحَلَّيْنِ، وَبِذَلِكَ يَحْصُلُ الظَّنُّ مِثْلَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَقَدْ وَقَعَ فِي عِبَارَةِ الْقَوْمِ أَنَّهُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُتَّحِدَةٍ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ لِاسْتِحَالَةِ الِانْتِقَالِ عَلَى الْأَوْصَافِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيَلْزَمُ عَدَمُ بَقَاءِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ لِانْتِقَالِهِ عَنْهُ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالثَّابِتُ فِي الْفَرْعِ لَا يَكُونُ حُكْمَ الْأَصْلِ بَلْ مِثْلَهُ ضَرُورَةَ تَعَدُّدِ الْأَوْصَافِ بِتَعَدُّدِ الْمَحَالِّ فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - زَادَ تَقْيِيدَ الْعِلَّةِ بِمَا لَا يُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ احْتِرَازًا عَنْ دَلَالَةِ النَّصِّ وَفَسَّرَ تَعْدِيَةَ حُكْمِ الْأَصْلِ بِإِثْبَاتِ حُكْمٍ مِثْلَ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَبِهَذَا خَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمَذْكُورَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَرَّضَ لِبَعْضِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ عَلَى مَا سَيُشِيرُ إلَيْهِ. (قَوْلُهُ: وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ) فَإِنْ قُلْت تَفْسِيرُ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بِالْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَالْمَقِيسُ يَسْتَلْزِمُ الدَّوْرَ لَتَوَقُّفِ مَعْرِفَتِهِمَا عَلَى مَعْرِفَةِ الْقِيَاسِ قُلْتُ لَيْسَ هَذَا تَفْسِيرًا لِلْأَصْلِ وَالْفَرْعِ بَلْ بَيَانًا لِمَا صَدَقَا عَلَيْهِ أَيْ: الْمُرَادُ بِالْأَصْلِ الْمَحَلُّ الَّذِي يُسَمَّى مَقِيسًا عَلَيْهِ لَا نَفْسَ الْحُكْمِ، وَلَا دَلِيلَهُ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اصْطِلَاحُ الْبَعْضِ، وَكَذَا فِي الْفَرْعِ مَثَلًا إذَا قِسْنَا الذُّرَةَ عَلَى الْبُرِّ فِي حُرْمَةِ الرِّبَا فَالْأَصْلُ هُوَ الْبُرُّ، وَالْفَرْعُ هُوَ الذُّرَةُ لِابْتِنَائِهَا عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، لَا يُقَالُ فَيَخْرُجُ عَنْ التَّعْرِيفِ قِيَاسُ الْمَعْدُومِ عَلَى الْمَعْدُومِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَالْفَرْعَ مَا يُبْتَنَى عَلَى غَيْرِهِ، وَالْمَعْدُومُ

وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِيٍّ قُلْنَا يَكُونُ الْإِجْمَاعُ لَغْوًا حِينَئِذٍ وَكَوْنُهُ حُجَّةً لَيْسَ مِنْ قِبَلِ دَلِيلٍ بَلْ لِعَيْنِهِ كَرَامَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَمَّا النَّاقِلُ فَكَمَا ذَكَرْنَا فِي نَقْلِ السُّنَّةِ. (الرُّكْنُ الرَّابِعُ) فِي الْقِيَاسِ، وَهُوَ (تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُتَّحِدَةٍ لَا تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ) أَيْ: إثْبَاتُ حُكْمٍ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَصْلِ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ وَالْفَرْعِ الْمَقِيسُ، وَقَدْ قِيلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّنَا نَقُولُ لَفْظُهُ مَا عِبَارَةٌ عَمَّا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمَوْجُودِ، وَالْمَعْدُومِ أَعْنِي: الْمَعْلُومَ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْوُجُودُ فِي الذِّهْنِ كَافٍ فِي الشَّيْئِيَّةِ. (قَوْلُهُ: بَلْ تُشْعِرُ بِبَقَائِهِ فِي الْأَصْلِ) فِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْدِيَةِ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ مُتَجَاوِزًا عَنْ الشَّيْءِ وَمُتَبَاعِدًا عَنْهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْدِيَةَ فِي اصْطِلَاحِ التَّصْرِيفِ مَجَازٌ أَوْ مَنْقُولٌ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الِاعْتِذَارِ بَعْدَ تَفْسِيرِ التَّعْدِيَةِ بِإِثْبَاتِ مِثْلِ الْحُكْمِ عَلَى مَا سَبَقَ، وَلَا إلَى الِاعْتِذَارِ عَنْ تَرْكِ قَيْدِ الْمُتَّحِدِ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إلَّا إذَا كَانَ مُتَّحِدًا بِالنَّوْعِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنْ تَكُونَ التَّعْدِيَةُ حَقِيقَةً هَاهُنَا، وَهَذَا بَاطِلٌ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّعْدِيَةُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالِانْتِقَالُ عَلَى الْأَوْصَافِ. (قَوْلُهُ: وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا) ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رُكْنَ الْقِيَاسِ مَا جُعِلَ عَلَمًا عَلَى حُكْمِ النَّصِّ مِمَّا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ النَّصُّ، وَجُعِلَ الْفَرْعُ نَظِيرًا لَهُ فِي حُكْمِهِ؛ لِوُجُودِهِ فِيهِ وَقَالَ: أَمَّا الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِتَعْلِيلِ النُّصُوصِ فَتَعْدِيَةُ حُكْمِ النَّصِّ إلَى مَا لَا نَصَّ فِيهِ لِيَثْبُتَ فِيهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ رُكْنٌ وَالتَّعْدِيَةَ حُكْمٌ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ هُوَ التَّعْلِيلُ أَيْ: تَبْيِينُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هَذَا لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ رُكْنُ الْقِيَاسِ أَيْ: مَا يَتَقَوَّمُ بِهِ وَيَتَحَصَّلُ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنْ يُرَادَ بِالرُّكْنِ نَفْسُ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أَنَّ رُكْنَ الْقِيَاسِ هُوَ الْوَصْفُ الصَّالِحُ الْمُؤَثِّرُ، وَمَا سِوَاهُ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ شَرَائِطُ لَا أَرْكَانُ. وَثَانِيَهُمَا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكْنِ جُزْءُ الشَّيْءِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةٌ: الْأَصْلُ، وَالْفَرْعُ وَحُكْمُ الْأَصْلِ، وَالْوَصْفُ الْجَامِعُ. وَأَمَّا حُكْمُ الْفَرْعِ فَثَمَرَةُ الْقِيَاسِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَيْهِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ الْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ تَحَقُّقُ الْقِيَاسِ وَوُجُودُهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ شُرُوطِ الْقِيَاسِ تَعَدِّيَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ، وَلَا نَصَّ فِيهِ وَشَرْطُ الشَّيْءِ مُتَقَدِّمٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَثَرًا لَهُ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ التَّعْدِيَةُ حُكْمَ الْقِيَاسِ، وَأَثَرُهُ شَرْطٌ أَوْ أَنَّ التَّعْدِيَةَ شَرْطٌ لِلْعِلْمِ بِصِحَّةِ الْقِيَاسِ لَا لِلْقِيَاسِ نَفْسِهِ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةً) هَذَا ظَاهِرٌ عَلَى تَفْسِيرِهِ التَّعْدِيَةَ

[القياس يفيد غلبة الظن]

عَلَيْهِ إنَّ التَّعْدِيَةَ تُوجِبُ أَنْ لَا يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، وَأَيْضًا لَا تُشْعِرُ بِعَدَمِ بَقَائِهِ فِي الْأَصْلِ بَلْ تُشْعِرُ بِبَقَائِهِ فِي الْأَصْلِ فِي وَضْعِهَا اللُّغَوِيِّ أَلَا يَرَى أَنَّ تَعْدِيَةَ الْفِعْلِ هِيَ أَنْ لَا يَقْتَصِرَ عَلَى التَّعَلُّقِ بِالْفَاعِلِ بَلْ يَتَعَلَّقَ بِالْمَفْعُولِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَاعِلِ. فَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ لَا يَقْتَصِرَ ذَلِكَ النَّوْعُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ بَلْ يَثْبُتُ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا، وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ الْمُتَّحِدِ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ لَا تُمْكِنُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَّحِدًا مِنْ حَيْثُ النَّوْعُ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ إذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ دَلِيلُ إثْبَاتِ حُرْمَةِ الرِّبَا فِي الذُّرَةِ هُوَ الْقِيَاسُ وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هُوَ إثْبَاتُ حُرْمَةِ الرِّبَا فِيهِ [الْقِيَاسُ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ] (قَوْلُهُ: لِأَنَّ مُثْبِتَ الْحُكْمِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى) غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الْأَدِلَّةِ مُثْبِتًا لِلْحُكْمِ بَلْ يُجْعَلَ مُظْهِرًا عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَنَّ مَرْجِعَ الْكُلِّ إلَى الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَالْأَوْجَهُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ الْوَارِدِ فِي الْأَصْلِ، وَالْقِيَاسُ بَيَانٌ لِعُمُومِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَعَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِالْأَصْلِ، وَهَذَا أَوْضَحُ ثُمَّ الْأَظْهَرُ أَنْ تُفَسَّرَ التَّعْدِيَةُ بِالْإِبَانَةِ وَالْإِظْهَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْقِيَاسَ إبَانَةُ مِثْلِ حُكْمِ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ بِمِثْلِ عِلَّتِهِ فِي الْآخَرِ. (قَوْلُهُ: وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ نَفَوْهُ) أَيْ: الْقِيَاسَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ حَمْلُ النَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ الْعَقْلِيَّاتِ وَالْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ أَوْ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَقْلِ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ خَاصَّةً إمَّا لِامْتِنَاعِهِ عَقْلًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشِّيعَةِ وَالنَّظَّامُ، وَإِمَّا لِامْتِنَاعِهِ سَمْعًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَدِلَّةُ الْمَذْهَبِ الْأَخِيرِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْأَوَّلَيْنِ؛ لِأَنَّا قَاطِعُونَ بِأَنَّ الشَّارِعَ لَوْ قَالَ: إذَا وَجَدْت مُسَاوَاةَ فَرْعِ لِأَصْلٍ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، فَأَثْبِتْ فِيهِ مِثْلَ حُكْمِهِ، وَاعْمَلْ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ مُحَالٌ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ فَقِيلَ هُوَ وَاجِبٌ عَقْلًا لِئَلَّا تَخْلُوَ الْوَقَائِعُ عَنْ الْأَحْكَامِ إذْ النَّصُّ لَا يَفِي بِالْحَوَادِثِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِيَةِ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ أَجْنَاسَ الْأَحْكَامِ، وَكُلِّيَّاتِهَا مُتَنَاهِيَةٌ يَجُوزُ التَّنْصِيصُ عَلَيْهَا بِالْعُمُومَاتِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ النَّهْرَوَانِيُّ وَالْقَاشَانِيُّ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاقِعٍ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ وَاقِعٌ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي ثُبُوتِهِ. فَقِيلَ: بِالْعَقْلِ. وَقِيلَ: بِالسَّمْعِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالسَّمْعِ فَقِيلَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَقِيلَ قَطْعِيٍّ وَبِهِ يُشْعِرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِدَلَالَةِ نَصِّ الْكِتَابِ وَبِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَبِالْإِجْمَاعِ. (قَوْلُهُ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ لَوْحٌ مِنْ دِرَّةٍ بَيْضَاءَ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَعَرْضُهُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ

يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ. وَقَوْلُهُ لَا تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ اللُّغَةِ احْتِرَازٌ عَنْ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَذِكْرُ هَذَا الْقَيْدِ وَاجِبٌ لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ دَلَالَةِ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ. (وَبَعْضُ أَصْحَابِنَا جَعَلُوا الْعِلَّةَ رُكْنَ الْقِيَاسِ وَالتَّعْدِيَةَ حُكْمَهُ فَالْقِيَاسُ تَبْيِينُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هَذَا لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ) . ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعِلَّةَ رُكْنُ الْقِيَاسِ وَالتَّعْدِيَةَ حُكْمُهُ فَالرُّكْنُ مَا يَتَقَوَّمُ بِهِ الشَّيْءُ وَالْحُكْمُ هُوَ الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِالشَّيْءِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَتَقَوَّمُ بِهِ وَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْقِيَاسُ هُوَ الْعِلَّةُ أَيْ: الْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ ثُمَّ التَّعْدِيَةُ هِيَ أَثَرُ الْقِيَاسِ، فَالْقِيَاسُ هُوَ تَبْيِينُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هَذَا الشَّيْءُ لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ فَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ التَّعْدِيَةُ نَتِيجَةُ الْقِيَاسِ وَالْغَرَضُ مِنْهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا لِيَثْبُتَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ حَتَّى لَوْ عُلِّلَ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَكُونُ هَذَا التَّعْلِيلُ قِيَاسًا، وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ جَعْلِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةً، وَإِثْبَاتًا لِلْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ مُعَلَّلٌ بِالْقِيَاسِ، وَالْعِلَّةُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ خَارِجَةً عَنْ الْمَعْلُولِ، وَعِلَّةُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لَيْسَتْ إلَّا الْحُكْمُ بِالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فِي الْعِلَّةِ لِتَثْبُتَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ. (وَهُوَ يُفِيدُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِأَنَّ الْحُكْمَ هَذَا إلَّا أَنَّهُ مُثْبَتٌ لَهُ ابْتِدَاءً) أَيْ: الْقِيَاسُ يُفِيدُ غَلَبَةَ ظَنِّنَا بِأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ هَذَا فَمَا ذَكَرْنَا مِنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ، فَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى لَا أَنَّ الْقِيَاسَ مُثْبِتٌ لِلْحُكْمِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ مُثْبِتَ الْحُكْمِ هُوَ اللَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ الْمُنْتَقِشُ بِصُورَةِ الْكَائِنَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْهُ تَنْطَبِعُ الْعُلُومُ فِي عُقُولِ النَّاسِ، وَقِيلَ: هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا لَا اسْتِدْلَالَ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ هُوَ الْقُرْآنُ فَلَا اسْتِدْلَالَ أَيْضًا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام: 59] الْآيَةَ مَجْرُورٌ مَعْطُوفٌ عَلَى وَرَقَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] أَيْ: مَا يَسْقُطُ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمُنْبِتٍ وَغَيْرِ مُنْبِتٍ وَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِلتَّعْمِيمِ الْمُرَادِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِمْ مَا تَرَكَ فُلَانٌ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا جَمَعَهُ نَعَمْ لَوْ حَمَلَ قِرَاءَةَ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ دُونَ الْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ مِنْ وَرَقَةٍ لَكَانَ فِيهِ تَمَسُّكٌ يَحْتَاجُ إلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْجَوَابِ. وَهُوَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ فُرِضَ فَهُوَ كَائِنٌ فِي الْقُرْآنِ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظًا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي قَوْله تَعَالَى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فَحُكْمُ الْمَقِيسِ مَذْكُورٌ فِيهِ مَعْنًى، وَهُوَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْقِيَاسِ مُظْهِرًا عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ تَمَسُّكُ لُزُومِ أَنْ لَا يَكُونَ غَيْرُ الْقُرْآنِ حُجَّةً فَإِنْ قِيلَ الْكُلُّ فِي الْقُرْآنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ قُلْنَا فَلْيَكُنْ فِيهِ حُكْمُ الْقِيَاسِ وَيَعْرِفُهُ الْمُجْتَهِدُ. (قَوْلُهُ أَوْلَادُ السَّبَايَا) جَمْعُ سَبِيَّةٍ بِمَعْنَى مَسْبِيَّةٍ يَعْنِي: أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا الْجَوَارِيَ سُرِّيَّاتٍ فَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلَادًا غَيْرَ نُجَبَاءَ (قَوْلُهُ: فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِمَا

تَعَالَى، وَهَذَا مَا قَالُوا: إنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ لَا مُثْبِتٌ. (وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ نَفَوْهُ فَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنْ لَا عِبْرَةَ لِلْعَقْلِ أَصْلًا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنْ لَا عِبْرَةَ لَهُ فِي الشَّرْعِيَّاتِ لَهُمْ قَوْله تَعَالَى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وَلَمَّا كَانَ الْكِتَابُ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ يَكُونُ كُلُّ الْأَحْكَامِ مُسْتَفَادَةً مِنْ الْكِتَابِ، وَالْقِيَاسُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا لَا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ. (وقَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فَلَا تَمَسُّكَ لَهُمْ حِينَئِذٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْقُرْآنَ فَالتَّمَسُّكُ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] . (وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَقَاسُوا مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» ) لَفْظُ الْحَدِيثِ هَكَذَا «لَمْ يَزَلْ أَمْرُ بَنِي إسْرَائِيلَ مُسْتَقِيمًا حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ أَوْلَادُ السَّبَايَا فَقَاسُوا» إلَخْ. (وَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ مُمْكِنٌ وَقَدْ دُعِينَا إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] أَيْ: دُعِينَا إلَى الْعَمَلِ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ، وَالْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَإِنَّمَا دُعِينَا إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ، وَكُلُّ مَا لَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُحَرَّمًا لَا يَكُونُ مُحَرَّمًا بَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ. (وَلِأَنَّ الْحُكْمَ حَقُّ الشَّارِعِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْبَيَانِ الْقَطْعِيِّ فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى الْإِثْبَاتِ أَيْ: إثْبَاتُ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ. (فِي حَقِّهِ تَعَالَى؛ وَلِأَنَّهُ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ: الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِ شُبْهَةٌ) احْتِرَازٌ عَنْ الْإِجْمَاعِ إذْ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَأَمَّا خَبَرُ الْوَاحِدِ فَهُوَ بَيَانٌ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ قَطْعِيٌّ فِي الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي طَرِيقِ الِانْتِقَالِ إلَيْنَا، وَهَذَا يُخَالِفُ حُقُوقَ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ كَالشَّهَادَاتِ؛ لِعَجْزِهِمْ عَنْ الْإِثْبَاتِ بِقَطْعِيٍّ. (قَوْلُهُ بِخِلَافِ أَمْرِ الْحَرْبِ) حَاصِلُهُ أَنَّا نَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ الْعَمَلُ بِالْأَصْلِ وَيَكُونُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَكُونُ مُدْرَكَةً بِالْحِسِّ وَلَا بِالْعَقْلِ إذْ لَوْ أُدْرِكَ بِهِ صَارَ قَطْعِيًّا. (قَوْلُهُ: وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ بِأَنْ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَصْلُ الَّذِي يُرَدُّ إلَيْهِ النَّظَائِرُ عِبْرَةً وَهَذَا يَشْمَلُ الِاتِّعَاظَ وَالْقِيَاسَ الْعَقْلِيَّ وَالشَّرْعِيَّ وَلَا شَكَّ أَنَّ سَوْقَ الْآيَةِ لِلِاتِّعَاظِ فَيَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ وَعَلَى الْقِيَاسِ إشَارَةً فَإِنْ قِيلَ: الِاعْتِبَارُ هُوَ الِاتِّعَاظُ، وَحَقِيقَتُهُ تَتَبُّعُ الشَّيْءِ بِالتَّأَمُّلِ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الِاسْتِعْمَالُ، وَنَقْلُ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْقِيَاسِ فِي الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ كَمَا يُقَالُ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ اعْتَبِرْ بِالدَّارِ وَهَلْ يُمْكِنُ حُدُوثُهَا بِغَيْرِ صَانِعٍ فَمَا ظَنُّكَ بِالْعَالَمِ، وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ مِثْلِ اعْتَبِرْ قِسْ الذُّرَةَ بِالْحِنْطَةِ قُلْنَا لَوْ سُلِّمَ فَيَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ فَاءُ التَّعْلِيلِ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالِاعْتِبَارِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ

طَاعَةُ اللَّهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحُكْمِ هُنَا الْمَحْكُومُ بِهِ. (وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي دَرْكِهَا) كَالْمُقَدَّرَاتِ مِثْلَ أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَسَائِرِ الْمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي دَرْكِهَا. (بِخِلَافِ أَمْرِ الْحَرْبِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْأَصْلِ لَا يُمْكِنُ هُنَا، وَهِيَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ تُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ الْعَقْلِ) فَقَوْلُهُ بِخِلَافِ أَمْرِ الْحَرْبِ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ يَصِحُّ فِيهَا الْقِيَاسُ وَالْعَمَلُ بِالرَّأْيِ اتِّفَاقًا فَصَحَّ ثُبُوتُ بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِالْقِيَاسِ فَأَجَابَ بِالْفَرْقِ الْمَذْكُورِ. (وَكَذَا أَمْرُ الْقِبْلَةِ) أَيْ: يُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ الْعَقْلِ أَوْ بِالسَّفَرِ أَوْ بِمُحَاذَاةِ الْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهِمَا، (وَالِاعْتِبَارُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاتِّعَاظِ بِالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ) اعْلَمْ أَنَّ النَّصَّ التَّمَسُّكُ بِهِ لِلْقَائِسِينَ هُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وَالْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ بِالْقُرُونِ الْخَالِيَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ. (وقَوْله تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] مَحْمُولٌ عَلَى الْحَرْبِ) أَيْ: إنْ تَمَسَّكَ بِهَا أَحَدٌ عَلَى صِحَّةِ الْعَمَلِ بِالرَّأْيِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ نَقُولُ إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَمْرِ الْحَرْبِ. (وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] الْآيَةَ فَإِنَّ الِاعْتِبَارَ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَاللَّفْظُ عَامٌّ يَشْمَلُ الِاتِّعَاظَ، وَكُلَّ مَا هُوَ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ أَيْ: الْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ بِمَا هُوَ ثَابِتٌ لِنَظِيرِهِ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْعُبُورِ وَالتَّرْكِيبِ يَدُلُّ عَلَى التَّجَاوُزِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِوُجُودِ السَّبَبِ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِوُجُودِ الْمُسَبَّبِ وَهُوَ مَعْنَى الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ بَلْ صَرِيحَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَقْتَضِي الْعِلِّيَّةَ التَّامَّةَ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ وُجُوبِ الِاتِّعَاظِ. هَذِهِ الْقِصَّةُ السَّابِقَةُ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ لَهَا دَخْلٌ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ وُجُودَ السَّبَبِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِوُجُودِ الْمُسَبَّبِ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّحْقِيقِ مِمَّا يَشُكُّ فِيهِ الْأَفْرَادُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ مَنْ يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا عُمُومَ فِي الْآيَةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقَدْ خُصَّ مِنْهُ مَا يَنْتَفِي فِيهِ شَرَائِطُ الْقِيَاسِ وَمَا تَعَارَضَتْ فِيهِ الْأَقْيِسَةُ، وَصِيغَةُ الْأَمْرِ تَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَغَيْرَهُ، وَالْمَرَّةَ وَالتَّكْرَارَ وَالْخِطَابَ مَعَ الْحَاضِرِينَ فَقَطْ وَالتَّقْيِيدَ بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِذَلِكَ وُجُوبُ الْعَمَلِ لِكُلِّ مُجْتَهِدٍ بِكُلِّ قِيَاسٍ صَحِيحٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ؟ . وَجَوَابُهُ أَنَّ اعْتَبِرُوا فِي مَعْنَى افْعَلُوا الِاعْتِبَارَ وَهُوَ عَامٌّ وَتَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالْفِعْلِ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ قَطْعِيًّا، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ الْعُمُومِ فَالْإِطْلَاقُ كَافٍ وَلَفْظُ {أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] يَعُمُّ الْمُجْتَهِدِينَ بِلَا نِزَاعٍ وَلَا عِبْرَةَ بِبَاقِي الِاحْتِمَالَاتِ، وَإِلَّا لَمَا صَحَّ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ) الظَّاهِرُ: أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ، وَالتَّقْيِيدُ بِالصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ عِنْدَ انْتِفَائِهَا لَكِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ جَوَازَ الْبَيْعِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الصِّفَةِ مُنْتَفِيًا بِحُكْمِ

وَالتَّعَدِّي. (فَيَدُلُّ عَلَى الِاتِّعَاظِ عِبَارَةً وَعَلَى الْقِيَاسِ إشَارَةً) ؛ لِأَنَّ الِاتِّعَاظَ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ مَعَ أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ لَهُ، وَالْقِيَاسَ يَكُونُ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْمَنْطُوقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ سِيَاقُ الْكَلَامِ لَهُ. (سَلَّمْنَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ هُوَ الِاتِّعَاظُ لَكِنْ يَثْبُتُ الْقِيَاسُ دَلَالَةً) أَيْ: مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ إشَارَةً كَانَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِبَارِ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ فَالْآنَ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظُ، وَمَعَ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْقِيَاسِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ الَّتِي تُسَمَّى فَحْوَى الْخِطَابِ. (وَطَرِيقُهَا) أَيْ: طَرِيقُ دَلَالَةِ النَّصِّ فِي هَذِهِ أَنَّ الصُّورَةَ (فِي النَّصِّ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَلَاكُ قَوْمٍ بِنَاءً عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ اغْتِرَارُهُمْ بِالْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ ثُمَّ أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ لِيَكُفّ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ لِئَلَّا يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ) ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعِلَّةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِحُكْمِهِ، فَكَذَا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اجْتِهَادٍ فَيَكُونُ دَلَالَةَ نَصٍّ لَا قِيَاسًا حَتَّى لَا يَكُونَ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَصْلِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْجَوَازُ لَزِمَهُ الْمَصِيرُ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْإِيجَابِ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ بِمَعْنَى أَنَّ بَيْعَ الْحِنْطَةِ مُبَاحٌ إلَّا أَنَّ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَاجِبَةٌ كَمَا أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ جَائِزٌ وَالْقَبْضَ فِيهِ وَاجِبٌ. فَإِنْ قُلْت مَعْنَى كَوْنِ الْأَمْرِ لِلْإِيجَابِ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ وَاجِبٌ، وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذْ لَا وُجُوبَ لِبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِوَصْفِ الْمُمَاثَلَةِ، وَلَا لِأَخْذِ الرَّهْنِ بِوَصْفِ الْقَبْضِ قُلْتُ مُرَادُهُ أَنَّ الْأَمْرَ مُنْصَرِفٌ إلَى رِعَايَةِ الْوَصْفِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ كَأَنْ قِيلَ: إذَا بِعْتُمْ الْحِنْطَةَ فَرَاعُوا الْمُمَاثَلَةَ، وَإِذَا أَخَذْتُمْ الرَّهْنَ فَاقْبِضُوا. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا حَدِيثُ مُعَاذٍ) فَإِنَّهُ مَشْهُورٌ يَثْبُتُ بِهِ الْأُصُولُ فَإِنْ قُلْت الِاجْتِهَادُ قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ الْقِيَاسِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ كَالِاسْتِنْبَاطِ مِنْ النُّصُوصِ الْخَفِيَّةِ الدَّلَالَةِ أَوْ الْحُكْمِ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ الْقِيَاسِ الْمَنْصُوصِ الْعِلَّةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى الْجَوَازِ لِغَيْرِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قُلْتُ الِاسْتِنْبَاطُ بِالنُّصُوصِ مِمَّا يُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَا الْبَرَاءَةُ أَصْلِيَّةٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ احْتِيَاجِهَا لِلِاجْتِهَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الْآيَةَ. فَبَقِيَ الْقِيَاسُ وَهُوَ مُطْلَقٌ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى مَنْصُوصِ الْعِلَّةِ لَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ لِبَقَاءِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ وَهِيَ الَّتِي تُبْتَنَى عَلَى قِيَاسٍ غَيْرِ مَنْصُوصِ الْعِلَّةِ وَجَوَازُ ذَلِكَ لِمُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ اجْتِهَادِهِ فَثَبَتَ فِي غَيْرِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حُكْمِي عَلَى الْوَاحِدِ حُكْمِي عَلَى الْجَمَاعَةِ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ رَوَيْنَا) فِي آخِرِ بَابِ السُّنَّةِ أَحَادِيثَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ بِالْقِيَاسِ وَهِيَ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْبَارُ آحَادٍ إلَّا أَنَّ جُمْلَةَ

فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالِاعْتِبَارِ الِاتِّعَاظَ مَعْنَاهُ اجْتَنِبُوا عَنْ مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ؛ لِأَنَّكُمْ إنْ أَتَيْتُمْ بِمِثْلِهِ يَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِكُمْ مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ فَلَمَّا أَدْخَلَ فَاءَ التَّعْلِيلِ عَلَى قَوْلِهِ {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] جَعَلَ الْقِصَّةَ الْمَذْكُورَةَ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ. وَإِنَّمَا تَكُونُ عِلَّةً لِوُجُوبِ الِاتِّعَاظِ بِاعْتِبَارِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ بِوُجُودِ السَّبَبِ يَجِبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الْمُسَبِّبِ حَتَّى لَوْ لَمْ تُقَدَّرْ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ لَا يَصْدُقُ التَّعْلِيلُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنَّمَا يَكُونُ صَادِقًا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْكُلِّيُّ صَادِقًا فَيَكُونُ حِينَئِذٍ هَذَا الْحُكْمُ الْجُزْئِيُّ صَادِقًا فَإِذَا ثَبَتَتْ الْقَضِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُفْهَمُ مِنْ لَفْظِ الْفَاءِ، وَهِيَ لِلتَّعْلِيلِ فَيَكُونُ مَفْهُومًا بِطَرِيقِ اللُّغَةِ فَيَكُونُ دَلَالَةً نَصًّا لَا قِيَاسًا فَلَا يَلْزَمُ الدَّوْرُ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْقِيَاسِ بِالْقِيَاسِ، وَدَلَالَةُ النَّصِّ مَقْبُولَةٌ اتِّفَاقًا. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ الَّذِي يُعْرَفُ فِيهِ الْعِلَّةُ اسْتِنْبَاطًا وَاجْتِهَادًا (وَنَظِيرِهِ) أَيْ: نَظِيرُ الْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا النَّظِيرَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ اعْتِبَارٌ حَسَبَ الِاعْتِبَارِ فِي الْأُمُورِ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الِاعْتِبَارِ فِي الْقِيَاسِ، وَكَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ الْعِلَّةِ. (قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ» بِالنَّصْبِ أَيْ: بِيعُوا الْحِنْطَةَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ، وَالْبَيْعُ مُبَاحٌ يُصْرَفُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَمْرِ بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ وَهِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ فَيَكُونُ حُجَّةً رُبَّمَا يَجْعَلُ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَذْكُرُ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ إلْحَاقَ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَمَا كَانَتْ لِذِكْرِ الْعِلَلِ فَائِدَةٌ، وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذِكْرَ الْأَحْكَامِ بِعِلَلِهَا لَا يُوجِبُ صِحَّةَ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ بَلْ فَائِدَتُهَا مَعْرِفَةُ الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ مَعًا فَإِنَّهَا أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ، وَأَدْخَلُ فِي الْقَبُولِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِصِحَّةِ الْقِيَاسِ. (قَوْلُهُ وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ) إشَارَةٌ إلَى دَلِيلٍ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَإِنْ كَانَتْ تَفَاصِيلُ ذَلِكَ آحَادًا، وَالْعَادَةُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ قَاطِعٍ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً، وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْهُ بِالتَّعْيِينِ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ عَمَلَهُمْ بِالْقِيَاسِ وَمُبَاحَثَتَهُمْ فِيهِ بِتَرْجِيحِ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ تَكَرَّرَ وَشَاعَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَهَذَا وِفَاقٌ، وَإِجْمَاعٌ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ وَمَا نُقِلَ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إنَّمَا كَانَ فِي الْبَعْضِ لِكَوْنِهِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ أَوْ لِعَدَمِ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ، وَشُيُوعُ الْأَقْيِسَةِ الْكَثِيرَةِ بِلَا إنْكَارٍ مَقْطُوعٌ بِهِ مَعَ الْجَزْمِ بِأَنَّ الْعَمَلَ كَانَ بِهَا لِظُهُورِهَا لَا لِخُصُوصِيَّاتِهَا. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ أَوْ عَدَمَهُ فِي زَمَانٍ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ بِكَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ كَوُجُودِ مَكَّةَ وَوُجُودِ بَغْدَادَ وَعَدَمِ جَبَلٍ مِنْ الْيَاقُوتِ وَبَحْرٍ مِنْ

[فصل في شروط القياس]

إلَى قَوْلِهِ «مِثْلًا بِمِثْلٍ» ) أَيْ: يُصْرَفُ الْإِيجَابُ إلَى قَوْلِهِ «مِثْلًا بِمِثْلٍ» كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] يُصْرَفُ الْإِيجَابُ إلَى الْقَبْضِ حَتَّى يَصِيرَ الْقَبْضُ شَرْطًا لِلرَّهْنِ. (فَتَكُونُ هَذِهِ الْحَالَةُ شَرْطًا وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْقَدْرُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَيْضًا «كَيْلًا بِكَيْلٍ» ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالْفَضْلُ رِبًا» أَيْ: الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ بِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ فَحُكْمُ النَّصِّ وُجُوبُ الْمُسَاوَاةِ ثُمَّ الْحُرْمَةُ بِنَاءً عَلَى فَوْتِهَا وَالدَّاعِي إلَى هَذَا الْحُكْمِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ إذْ بِهِمَا يُثْبِتُ الْمُسَاوَاةَ صُورَةً وَمَعْنًى، فَإِذَا وَجَدْنَا هَذِهِ الْعِلَّةَ فِي سَائِرِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ اعْتَبَرْنَاهَا بِالْحِنْطَةِ، وَأَيْضًا حَدِيثُ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ فَاعْتَبِرُوا وَحَدِيثُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ قَالَ لَهُ بِمَ تَقْضِي؟ قَالَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ بِرَأْيِي. قَالَ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ بِمَا يَرْضَى بِهِ رَسُولُهُ» . (وَقَدْ رَوَيْنَا مَا هُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالزِّئْبَقِ مَعَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْوُجُودِ هُوَ الْوُجُودُ حَتَّى يَظْهَرَ دَلِيلُ الْعَدَمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَعْدُومِ هُوَ الْعَدَمُ حَتَّى يَظْهَرَ دَلِيلُ الْوُجُودِ وَبِالْجُمْلَةِ الْحُكْمُ بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ شَائِعٌ، فِيمَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ إنْكَارُهُ عَلَى مَا سَبَقَ فِي مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ [فَصْلٌ فِي شُرُوطِ الْقِيَاسِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) فِي شَرَائِطِ الْقِيَاسُ عِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْأَصْلُ مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ بِنَصٍّ آخَرَ أَيْ: لَا يَكُونَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مُنْفَرِدًا بِحُكْمِهِ بِسَبَبِ نَصٍّ آخَرَ دَالٍّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، وَذَلِكَ كَمَا اُخْتُصَّ خُزَيْمَةُ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ، يُقَالُ خُصَّ زَيْدٌ بِالذِّكْرِ إذَا ذُكِرَ هُوَ دُونَ غَيْرِهِ، وَفِي عِبَارَةِ الْفُقَهَاءِ خُصَّ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِكَذَا وَكَذَا وَفِي الْكَشَّافِ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] مَعْنَاهُ نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ لَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ الْبَاءِ فِي الْمَقْصُورِ عَلَيْهِ فَقَلِيلٌ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ فِي مَا زَيْدٌ إلَّا قَائِمٌ أَنَّهُ لِتَخْصِيصِ زَيْدٍ بِالْقِيَامِ لَكِنَّهُ مِمَّا يَتَبَادَرُ إلَيْهِ الْوَهْمُ كَثِيرًا حَتَّى إنَّهُ يَحْمِلُ الِاسْتِعْمَالَ الشَّائِعَ عَلَى الْقَلْبِ فَلِذَا غَيَّرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عِبَارَةَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى قَوْلِهِ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَخْصُوصًا بِهِ كَاخْتِصَاصِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَاحِدِ بِخُزَيْمَةَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ» وَذَلِكَ أَنَّهُ شَهِدَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ أَدَّى الْأَعْرَابِيَّ ثَمَنَ نَاقَتِهِ أَوْ أَنَّهُ بَاعَ نَاقَتَهُ عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَتَيْنِ. وَذَلِكَ التَّخْصِيصُ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ بَيْنِ الْحَاضِرِينَ جَوَازَ الشَّهَادَةِ لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِنَاءً عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُعَايَنَةِ. (قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَخْ) أَيْ: مَعْدُولًا بِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْعُدُولِ وَهُوَ لَازِمٌ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْعَدْلِ وَهُوَ الصَّرْفُ فَيَكُونُ مُعْتَدِيًا. (قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَنْفِي رُكْنَ الصَّوْمِ) فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ صَحَّ قِيَاسُ الْوِقَاعِ نَاسِيًا عَلَى الْآكِلِ فِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ قُلْنَا لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ بَقَاءَ صَوْمِ النَّاسِي فِي الْأَكْلِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ غَيْرُ جَانٍ لَا بِاعْتِبَارِ

قِيَاسٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) فِي آخِرِ رُكْنِ السُّنَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ» الْحَدِيثَ وَحَدِيثُ قُبْلَةِ الصَّائِمِ. (وَعَمَلُ الصَّحَابَةِ وَمُنَاظَرَتُهُمْ فِيهِ) أَيْ: فِي الْقِيَاسِ (أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى) ثُمَّ شَرَعَ فِي جَوَابِ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ فَقَالَ: (وَيَكُونُ الْكِتَابُ تِبْيَانًا بِمَعْنَاهُ؛ لِأَنَّ التِّبْيَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى، وَالْبَيَانَ بِاللَّفْظِ) وَلَمَّا كَانَ الثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ ثَابِتًا بِمَعْنَى النَّصِّ يَكُونُ النَّصُّ دَالًّا عَلَى حُكْمِ الْمَقِيسِ بِطَرِيقِ التِّبْيَانِ. (وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام: 59] الْآيَةَ. فَكُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِي كِتَابِ اللَّهِ بَعْضُهُ لَفْظًا وَبَعْضُهُ مَعْنًى) فَالْحُكْمُ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْكِتَابِ لَفْظًا، وَالْحُكْمُ فِي الْمَقِيسِ يَكُونُ مَوْجُودًا فِيهِ مَعْنًى. (وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْكِتَابِ، وَالْعَمَلُ لَفْظًا وَمَعْنًى) أَيْ: فِي الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ تَعْظِيمُ شَأْنِ الْكِتَابِ وَاعْتِبَارُ نَظْمِهِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَاعْتِبَارُ مَعْنَاهُ فِي الْمَقِيسِ. وَأَمَّا مُنْكِرُو الْقِيَاسِ فَإِنَّهُمْ عَمِلُوا بِنَظْمِ الْكِتَابِ فَقَطْ وَأَعْرَضُوا عَنْ اعْتِبَارَ فَحْوَاهُ، وَإِخْرَاجِ الدُّرَرِ الْمَكْنُونَةِ مِنْ بِحَارٍ مَعْنَاهُ وَجَهِلُوا أَنَّ لِلْقُرْآنِ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَأَنَّ لِكُلِّ حَدٍّ مَطْلَعًا وَقَدْ وَفَّقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ الْعَارِفِينَ دَقَائِقَ التَّأْوِيلِ لِكَشْفِ قِنَاعِ الْأَسْتَارِ عَنْ جَمَالِ مَعَانِي التَّنْزِيلِ، وَإِنْكَارُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِقِيَاسِ بَنِي إسْرَائِيلَ بِنَاءً عَلَى جَهْلِهِمْ وَتَعَصُّبِهِمْ لَا يَقْدَحُ فِي قِيَاسِنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQخُصُوصِيَّةِ الْأَكْلِ. (قَوْلُهُ: وَكَتَقَوُّمِ الْمَنَافِعِ) جَعَلَهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَعْدُولِ عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عَدَمُ تَقَوُّمِ الْمَعْدُومِ إذْ الْقِيمَةُ تُنْبِئُ عَنْ التَّعَادُلِ، وَلَا تَعَادُلَ بَيْنَ مَا يَبْقَى، وَبَيْنَ مَا لَا يَبْقَى لَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْإِجَارَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 25] وقَوْله تَعَالَى إخْبَارًا {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَعْطُوا الْأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ» وَجَعَلَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَمْثِلَةِ كَوْنِ الْأَصْلِ مَخْصُوصًا بِحُكْمِهِ، وَهُوَ أَيْضًا مُسْتَقِيمٌ بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ يُغْنِي عَنْ الْأَوَّلِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَقْسَامِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ أَنَّ الْمَعْدُولَ بِهِ عَنْ سَنَنِ الْقِيَاسِ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ قَاعِدَةٍ عَامَّةٍ كَقَبُولِ شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ وَحْدَهُ أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ بَلْ يَكُونُ مُبْتَدَأً بِهِ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ وَمَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ. وَثَانِيهِمَا: مَا شُرِعَ ابْتِدَاءً وَلَا نَظِيرَ لَهُ فَلَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ لِعَدَمِ النَّظِيرِ سَوَاءٌ عُقِلَ مَعْنَاهُ كَرُخَصِ السَّفَرِ أَوْ لَا كَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ. (قَوْلُهُ: وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَدَّى) فِيهِ إشْعَارٌ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَنْسُوخًا إذْ لَا تَعْدِيَةَ لِمَا لَيْسَ بِثَابِتٍ قَوْلُهُ. (بِأَحَدِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ إنْ اتَّحَدَتْ الْعِلَّةُ فِي الْقِيَاسَيْنِ، فَذِكْرُ الْوَاسِطَةِ ضَائِعٌ، وَإِنْ لَمْ تَتَّحِدْ بَطَلَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ لِابْتِنَائِهِ عَلَى غَيْرِ الْعِلَّةِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ فِي الْحُكْمِ مَثَلًا إذَا

(وَالْعَمَلُ بِالْأَصْلِ) أَيْ: فِي الِاسْتِصْحَابِ (عَمَلٌ بِلَا دَلِيلٍ) ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ أَيْ: عَدَمَهُ فِي زَمَانٍ لَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ، فَإِنَّ الْمُمْكِنَاتِ تُوجَدُ بَعْدَ الْعَدَمِ وَتُعْدَمُ بَعْدَ الْوُجُودِ. (وَ {قُلْ لا أَجِدُ} [الأنعام: 145] لَيْسَ أَمْرًا بِهِ) أَيْ: بِالْعَمَلِ بِالْأَصْلِ (بَلْ الْعَمَلُ بِالنَّصِّ) أَيْ: بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِالْعَمَلِ بِالنَّصِّ (وَهُوَ {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فَكُلُّ مَا لَمْ يُوجَدْ حُرْمَتُهُ فِيمَا أُوحِيَ إلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكُونُ حَلَالًا بِقَوْلِهِ {خَلَقَ لَكُمْ} [البقرة: 29] الْآيَةَ، وَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نُحَرِّمَ شَيْئًا مِمَّا فِي الْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ. (وَالظَّنُّ كَافٍ لِلْعَمَلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ بِمَا فِيهِ شُبْهَةٌ (وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى بِإِذْنِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ) أَيْ: بِالْقِيَاسِ (فِيمَا لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ) ، وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِي دَرْكِهَا. (فَصْلٌ فِي شَرْطِهِ) أَيْ: شَرْطِ الْقِيَاسِ. اعْلَمْ أَنَّ لِلْقِيَاسِ أَرْبَعَةَ شَرَائِطَ أَوَّلَهَا: (أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ) أَيْ: الْمَقِيسِ عَلَيْهِ (مَخْصُوصًا بِهِ) أَيْ: بِالْأَصْلِ بِنَصٍّ آخَرَ (كَشَهَادَةِ) خُزَيْمَةَ (وَالْأَحْكَامِ الْمَخْصُوصَةِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَتَحْلِيلِ تِسْعِ زَوْجَاتٍ وَأَنْ لَا يَكُونَ) أَيْ: حُكْمُ الْأَصْلِ (مَعْدُولًا عَنْ الْقِيَاسِ) هَذَا هُوَ الشَّرْطُ الثَّانِي (وَهُوَ إمَّا بِأَنْ لَا يُدْرِكَهُ الْعَقْلُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، أَوْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى عَنْ سُنَنِهِ كَأَكْلِ النَّاسِي فَإِنَّهُ يُنَافِي رُكْنَ الصَّوْمِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQقِيسَ الذُّرَةُ عَلَى الْحِنْطَةِ فِي حُرْمَةِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْكَيْلِ وَالْجِنْسِ ثُمَّ أُرِيدَ قِيَاسُ شَيْءٍ آخَرَ عَلَى الذُّرَةِ، فَإِنْ وُجِدَتْ فِيهِ الْعِلَّةُ أَعْنِي: الْكَيْلَ وَالْجِنْسَ كَانَ ذِكْرُ الذُّرَةِ ضَائِعًا وَلَزِمَ قِيَاسُهُ عَلَى الْحِنْطَةِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُهُ عَلَى الذُّرَةِ لِانْتِفَاءِ عِلَّةِ الْحُكْمِ. (قَوْلُهُ: مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ) أَيْ: لَا يُغَيَّرُ فِي الْفَرْعِ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنْ إطْلَاقِهِ أَوْ تَقْيِيدِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّغْيِيرُ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ وَبِاعْتِبَارِ صَيْرُورَتِهِ ظَنِّيًّا فِي الْفَرْعِ. (قَوْلُهُ: إلَّا فَرْعٍ) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ أَيْ: وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَدَّى حُكْمًا مَوْصُوفًا بِمَا ذُكِرَ مُعَدًّى إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ تَعَلُّقُهُ بِالْمُعَدَّى الْمَذْكُورِ. أَمَّا لَفْظًا فَلِلْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ، وَأَمَّا مَعْنًى فَلِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْفَرْعِ نَظِيرَ الْأَصْلِ، وَالِاشْتِرَاطُ كَوْنُ الْأَصْلِ حُكْمًا مَوْصُوفًا بِمَا ذُكِرَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْمُعَدَّى إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ حُكْمًا شَرْعِيًّا ثَابِتًا بِأَحَدِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ. (قَوْلُهُ: فَلَا تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِالْقِيَاسِ) يَعْنِي: إذَا وُضِعَ لَفْظٌ لِمُسَمًّى مَخْصُوصٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ ذَلِكَ اللَّفْظَ عَلَى ذَلِكَ الْغَيْرِ حَقِيقَةً سَوَاءٌ كَانَ الْوَضْعُ لُغَوِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا، وَذَلِكَ كَإِطْلَاقِ الْخَمْرِ عَلَى الْعَقَارِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ. احْتَجَّ الْمُخَالِفُ بِالدَّوَرَانِ، وَالْإِلْحَاقِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الدَّوْرَانِ صُلُوحُ الْعِلِّيَّةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ هَاهُنَا فَإِنَّ عِلَّةَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى حَقِيقَةً هُوَ الْوَضْعُ

أَيْ: الْعُدُولُ عَنْ الْقِيَاسِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إمَّا بِأَنْ لَا يُدْرِكَ الْعَقْلُ حُكْمَ الْأَصْلِ أَيْ: لَا يُدْرِكَ عِلَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ كَأَعْدَادِ الرَّكَعَات أَوْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مُسْتَثْنًى عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ أَيْ: عَلَى طَرِيقَتِهِ الْمَسْلُوكَةِ، وَقَاعِدَتِهِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَأَكْلِ النَّاسِي فَإِنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ تَحَقُّقُ الْفِطْرِ مِنْ كُلِّ مَا دَخَلَ فِي الْجَوْفِ، وَإِذَا كَانَ مُسْتَثْنًى عَنْ سُنَنِهِ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ فَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْأَكْلِ خَطَأً عَلَى الْأَكْلِ نَاسِيًا (وَكَتَقَوُّمِ الْمَنَافِعِ فِي الْإِجَارَةِ) فَإِنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ (لِأَنَّهُ) أَيْ: التَّقَوُّمَ (يَعْتَمِدُ الْإِحْرَازَ، وَالْإِحْرَازُ يَعْتَمِدُ الْبَقَاءَ وَلَا بَقَاءَ لِلْأَعْرَاضِ) . وَإِنْ مُنِعَ اسْتِحَالَةُ بَقَاءِ الْأَعْرَاضِ فَمِثْلُ هَذِهِ الْأَعْرَاضِ أَيْ: الْمَنَافِعِ لَا شَكَّ فِي اسْتِحَالَةِ بَقَائِهَا فَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي عَدَمَ تَقَوُّمِ كُلِّ مَا لَا يَبْقَى فَإِذَا كَانَ تَقَوُّمُهَا مُسْتَثْنًى عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ تَقَوُّمُ الْمَنَافِعِ فِي الْغَصْبِ عَلَى تَقَوُّمِهَا فِي الْإِجَارَةِ. (وَأَنْ يَكُونَ الْمُعَدَّى حُكْمًا شَرْعِيًّا) هَذَا هُوَ الشَّرْطُ الثَّالِثُ، وَهُوَ وَاحِدٌ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ كَثِيرَةٍ، وَهِيَ هَذِهِ (ثَابِتًا بِأَحَدِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ) أَيْ: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ (مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ إلَى فَرْعٍ) مُتَعَلِّقٍ بِالْمُعَدَّى (هُوَ نَظِيرُهُ) أَيْ: الْفَرْعُ يَكُونُ نَظِيرًا لِلْأَصْلِ فِي الْحُكْم (وَلَا نَصَّ فِيهِ) أَيْ: فِي الْفَرْعِ وَالْمُرَادُ نَصٌّ دَالٌّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُعَدَّى أَوْ عَدَمِهِ لَا مُطْلَقُ النَّصِّ (فَلَا تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِالْقِيَاسِ) هَذَا تَفْرِيعُ قَوْلِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا غَيْرُ، وَبِأَنَّ الْعُمْدَةَ فِي حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ هُوَ الْإِجْمَاعُ وَلَا إجْمَاعَ هَاهُنَا وَيَرُدُّ عَلَى الْمُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2] عَلَى مَا حَقَّقَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ. وَجَوَابُهُ إنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ رِعَايَةَ الْمَعْنَى سَبَبٌ لِلْإِطْلَاقِ بَلْ هِيَ سَبَبٌ لِلْوَضْعِ وَتَرْجِيحُ الِاسْمِ عَلَى الْغَيْرِ عَلَى مَا سَبَقَ وَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ مَجَازًا عِنْدَ وُجُودِ الْعَلَاقَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ اسْتِعْمَالِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فِي الْعَتَاقِ وَبِالْعَكْسِ لِاشْتِمَالِهِمَا عَلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى اللَّائِطِ قِيَاسًا عَلَى الزَّانِي فَإِنَّمَا هُوَ بِقِيَاسٍ فِي الشَّرْعِ دُونَ اللُّغَةِ، أَوْ هُوَ قَوْلٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَكَذَا إيجَابُ الْحَدِّ بِغَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ وَقَدْ تَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ قَوْلٌ بِجَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ اشْتِرَاطَ كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ شَرْعِيًّا إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مُطْلَقِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ السَّمَاءِ عَلَى الْبَيْتِ فِي الْحُدُوثِ بِجَامِعِ التَّأْلِيفِ وَقِيَاسَ كَثِيرٍ مِنْ الْأَغْذِيَةِ عَلَى الْعَسَلِ فِي الْحَرَارَةِ بِجَامِعِ الْحَلَاوَةِ. وَأَمْثَالَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَتْ بِأَقْيِسَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ شَرْعِيًّا وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، وَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِتَفْرِيعِ عَدَمِ جَرَيَانِ الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَيْضًا ظَاهِرٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا شَرْطٌ لِلْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُ حُكْمِ الْأَصْلِ حُكْمًا شَرْعِيًّا إذْ لَوْ كَانَ حِسِّيًّا أَوْ لُغَوِيًّا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ

وَإِنَّمَا لَا تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِالْقِيَاسِ لِمَا بَيَّنَّا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَنَّ فِي الْوَضْعِ قَدْ لَا يُرَاعَى الْمَعْنَى كَوَضْعِ الْفَرَسِ وَالْإِبِلِ وَنَحْوِهِمَا، وَقَدْ يُرَاعَى الْمَعْنَى كَمَا فِي الْقَارُورَةِ وَالْخَمْرِ لَكِنَّ رِعَايَةَ الْمَعْنَى إنَّمَا هِيَ لِلْوَضْعِ لَا لِصِحَّةِ الْإِطْلَاقِ حَتَّى لَا تُطْلَقُ الْقَارُورَةَ عَلَى الدَّنِّ لِقَرَارِ الْمَاءِ فِيهِ، فَرِعَايَةُ الْمَعْنَى لِأَوْلَوِيَّةِ وَضْعِ هَذَا اللَّفْظِ لِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَلْفَاظِ. (كَالْخَمْرِ وُضِعَ لِشَرَابٍ مَخْصُوصٍ بِمَعْنًى، وَهُوَ الْمُخَامَرَةُ فَلَا يُطْلَقُ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ لِأَنَّهُ إنْ أُطْلِقَ مَجَازًا فَلَا نِزَاعَ فِيهِ لَكِنْ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مَعَ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ أُطْلِقَ حَقِيقَةً فَلَا بُدَّ مِنْ وَضْعِ الْعَرَبِ، وَكَذَا الزِّنَا عَلَى اللِّوَاطَةِ وَلَا يُقَالُ الذِّمِّيُّ أَهْلٌ لِلطَّلَاقِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلظِّهَارِ كَالْمُسْلِمِ) هَذَا تَفْرِيعُ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ (لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ) وَهُوَ الْمُسْلِمُ (حُرْمَةٌ تَنْتَهِي بِالْكَفَّارَةِ وَفِي الذِّمِّيِّ حُرْمَةٌ لَا تَنْتَهِي بِهَا لِعَدَمِ صِحَّةِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لَهَا. وَكَذَا تَعْلِيلُ الرِّبَا بِالطُّعْمِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ حُرْمَةً مُطْلَقَةً، وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ التَّسَاوِي) حَتَّى لَوْ رُوعِيَ التَّسَاوِي لَا تَبْقَى ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمُسَاوَاةِ فِي عِلَّةٍ، وَلَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِذَلِكَ فَلَوْ قَالَ: النَّبِيذُ شَرَابٌ مُشْتَدٌّ فَيُوجِبُ الْحَدَّ كَمَا يُوجِبُ الْإِسْكَارَ أَوْ كَمَا يُسَمَّى خَمْرًا كَانَ بَاطِلًا مِنْ الْقَوْلِ خَارِجًا عَنْ الِانْتِظَامِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعَقْلِيَّاتِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَالْأَفْعَالِ. وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا قَاسَ النَّفْيَ بِالنَّفْيِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُقْتَضِي ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ كَانَ نَفْيًا أَصْلِيًّا، وَالنَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ النَّفْيُ الطَّارِئُ وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَا النَّفْيُ الْأَصْلِيُّ لِثُبُوتِهِ بِدُونِ الْقِيَاسِ وَبِالْإِجْمَاعِ وَقَدْ يُذْكَرُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُنَاظِرُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْمُقْتَضِي فِي الْأَصْلِ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِيَكُونَ النَّفْيُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَقَدْ سَبَقَ نُبَذٌ مِنْ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ. (قَوْلُهُ: لَكِنْ لَا يُحْمَلُ) أَيْ: لَفْظُ الْخَمْرِ عَلَى سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازًا عِنْدَ إرَادَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُطْلَقَ مَجَازًا عَلَى شَرَابٍ يُخَامِرُ الْعَقْلَ فَيَشْمَلُ الْعَقَارَ وَغَيْرَهُ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ. (قَوْلُهُ: وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ التَّسَاوِي) يَعْنِي: أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ حُرْمَةٌ تَنْتَهِي بِالتَّسَاوِي بِالْكَيْلِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ فِي بَيْعِ الْمَقْلِيِّ بِغَيْرِهِ وَبَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَنْتَهِي بِالْكَيْلِ. قُلْنَا بُطْلَانُ الِانْتِهَاءِ بِالْكَيْلِ إنَّمَا جَاءَ مِنْ صُنْعِ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقَلْيُ، وَالطَّحْنُ لَا بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا أَثْبَتَهَا مُتَنَاهِيَةً بِالْمُسَاوَاةِ كَيْلًا أَعْنِي: قَبْلَ الْقَلْيِ وَالطَّحْنِ. (قَوْلُهُ: وَالتَّسَاوِي بِالْعَدَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا) قِيلَ عَلَيْهِ: أَنَّ التَّسَاوِيَ بِالْوَزْنِ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَهُوَ كَافٍ فِي انْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ. (قَوْلُهُ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ) أَيْ: عُذْرَ الْخَطَأِ دُونَ عُذْرِ النِّسْيَانِ لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْخَطَأِ بِالتَّثَبُّتِ وَالِاحْتِيَاطِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ فَإِنَّهُ سَمَاوِيٌّ مَحْضٌ جُبِلَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ)

الْحُرْمَةُ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ، وَلَا يُمْكِنُ رِعَايَةُ التَّسَاوِي فِي الْعَدَدِيَّاتِ؛ لِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَيْلِ، وَالْعَدَدِيَّاتُ لَيْسَتْ بِمَكِيلَةٍ وَالتَّسَاوِي بِالْعَدَدِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا. (وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الْخَطَأِ عَلَى النِّسْيَانِ فِي عَدَمِ الْإِفْطَارِ) هَذَا تَفْرِيعُ قَوْلِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ. (لِأَنَّهُ لَيْسَ نَظِيرُهُ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ دُونَ عُذْرِ النِّسْيَانِ وَلَا يَصِحُّ إنْ كَانَ فِي الْفَرْعِ نَصٌّ) هَذَا بَيَانُ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ وَلَا نَصَّ فِيهِ. (لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لَهُ يَبْطُلُ) وَالضَّمَائِرُ فِي قَوْلِهِ إنْ كَانَ وَفِي قَوْلِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ، وَفِي قَوْلِهِ يَبْطُلُ تَرْجِعُ إلَى الْقِيَاسِ (وَأَنْ لَا يُغَيِّرَ) أَيْ: الْقِيَاسُ (حُكْمَ النَّصِّ) هَذَا هُوَ الشَّرْطُ الرَّابِعُ (فَلَا يَصِحُّ شَرْطِيَّةُ التَّمْلِيكِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ قِيَاسًا عَلَى الْكِسْوَةِ؛ لِأَنَّهَا تُغَيِّرُ حُكْمَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] وَكَذَا شَرْطُ الْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ قِيَاسًا عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ يُخَالِفُ إطْلَاقَ النَّصِّ، وَكَذَا السَّلَمُ الْحَالُّ قِيَاسًا عَلَى الْمُؤَجَّلِ يُخَالِفُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَأَيْضًا لَمْ) يَعُدَّهُ أَيْ: الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (كَمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ) فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ فِي قِيَاسِ جَوَازِ السَّلَمِ الْحَالِّ عَلَى الْمُؤَجَّلِ فَسَادَيْنِ: أَحَدَهُمَا: أَنَّهُ مُغَيِّرٌ لِلنَّصِّ. وَالثَّانِيَ: أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يُعَدَّ كَمَا هُوَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ بَلْ عُدِّيَ بِنَوْعِ تَغْيِيرٍ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الشَّرْطِ الثَّالِثِ بُطْلَانَ هَذَا (إذْ فِي الْأَصْلِ جُعِلَ الْأَجَلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQاُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْقِيَاسِ لَا يُنَافِي صِحَّتَهُ وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِ قَصْدًا إلَى تَعَاضُدِ الْأَدِلَّةِ كَالْإِجْمَاعِ عَنْ قَاطِعٍ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ، وَكَثُرَ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ الِاسْتِدْلَال فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ بِالنَّصِّ، وَالْإِجْمَاعِ، وَالْقِيَاسِ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا مُخَالِفًا لَهُ يَبْطُلُ) كَقِيَاسِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى الْخَطَأِ، وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ عَلَى الْمُنْعَقِدَةِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ» وَعَدَّ مِنْهَا الْغَمُوسَ وَقَتْلَ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، (قَوْلُهُ: وَأَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ النَّصِّ) فَالْإِطْعَامُ هُوَ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ أَوْ التَّمْلِيكِ فَاشْتِرَاطُ التَّمْلِيكِ قِيَاسًا عَلَى الْكِسْوَةِ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ، وَكَذَا تَقْيِيدُ رَقَبَةِ الْكَفَّارَةِ بِالْمُؤْمِنَةِ تَغْيِيرٌ لِلْإِطْلَاقِ الْمَفْهُومِ مِنْ النَّصِّ، وَهَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ تَغْيِيرُ حُكْمِ نَصٍّ فِي الْجُمْلَةِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا النَّصُّ فِي حُكْمِ الْأَصْلِ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] وقَوْله تَعَالَى {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] ، لَيْسَ لِبَيَانِ حُكْمِ الْأَصْلِ بَلْ حُكْمِ الْفَرْعِ فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الْقَيْدِ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَمِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ مُغْنٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ عَدَمُ نَصٍّ دَالٍّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُعَدَّى أَوْ عَدَمِهِ وَهَاهُنَا النَّصُّ دَالٌّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ الْمُعَدَّى فِي الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يَدُلُّ عَلَى إجْزَاءِ مُجَرَّدِ الْإِطْعَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ، وَعَلَى إجْزَاءِ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ التَّمْلِيكُ وَالْإِيمَانُ، وَقَدْ يُقَالُ يَجُوزُ أَنْ يُغَيِّرَ الْقِيَاسُ حُكْمَ نَصٍّ لَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ

خَلَفًا عَنْ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِيُمْكِنَ تَحْصِيلُهُ فِيهِ، وَهُنَا أُسْقِطَ فَإِنْ قِيلَ: أَنْتُمْ غَيَّرْتُمْ أَيْضًا قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ» فَإِنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَخَصَّصْتُمْ الْقَلِيلَ) مِنْ هَذَا النَّصِّ الْعَامِّ فَجَوَّزْتُمْ بَيْعَ الْقَلِيلِ بِالْقَلِيلِ مَعَ عَدَمِ التَّسَاوِي (بِالتَّعْلِيلِ بِالْقَدْرِ) أَيْ: قُلْتُمْ إنَّ عِلَّةَ الرِّبَا هِيَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ، وَالْقَدْرُ أَيْ: الْكَيْلُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي بَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ فَلَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا فَهَذَا التَّعْلِيلُ مُغَيِّرٌ لِلنَّصِّ. (وَكَذَا فِي دَفْعِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ) أَيْ: غَيَّرْتُمْ النَّصَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» وَغَيْرُهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى دَفْعِ عَيْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ دُونَ الْقِيمَةِ (وَفِي صَرْفِهَا إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ) أَيْ: غَيَّرْتُمْ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى صَرْفِهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الْآيَةَ (بِالتَّعْلِيلِ بِالْحَاجَةِ) أَيْ: قُلْتُمْ: إنَّ الْعِلَّةَ وُجُوبُ دَفْعِ الْحَاجَةِ عَنْ الْفَقِيرِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي دَفْعِ الْقِيَمِ بَلْ أَكْمَلُ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ خُلِقَتَا لِتَحْصِيلِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَمَسُّ بِهَا الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ عَيْنِ الْوَاجِبِ تَنْدَفِعُ الْحَاجَةُ الْوَاحِدَةُ، وَرُبَّمَا لَا يَحْتَاجُ الْفَقِيرُ إلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ وَقَدْ قُلْتُمْ: عَدُّ الْأَصْنَافِ لِبَيَانِ مَوَاقِعِ الْحَاجَةِ وَالْعِلَّةُ هِيَ دَفْعُ الْحَاجَةِ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ تُوجَدُ فِيهِ الْحَاجَةُ، فَالتَّعْلِيلُ بِالْحَاجَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ. (وَفِي جَوَازِ غَيْرِ لَفْظِ تَكْبِيرَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ وَلَا عَلَى عَدَمِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ وَعَبَّرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِأَنْ يَبْقَى الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ النَّصِّ فِي نَفْسِهِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ ثُمَّ مَثَّلَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ وَغَيْرِهَا قَصْدًا إلَى أَنَّ فِيهَا تَغْيِيرَ النَّصِّ بِالرَّأْيِ فَفَهِمَ الشَّارِحُونَ أَنَّهَا أَمْثِلَةٌ لِعَدَمِ بَقَاءِ حُكْمِ النَّصِّ الْمُعَلَّلِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيلِ، فَاعْتَرَضُوا بِأَنَّ الْمُغَيَّرَ فِي هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إنَّمَا هُوَ فِي حُكْمِ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ لَا فِي الْأَصْلِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا السَّلَمُ الْحَالُّ) فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُسْلِمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَجَوَّزَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - السَّلَمَ الْحَالَّ قِيَاسًا عَلَى الْمُؤَجَّلِ بِجَامِعِ دَفْعِ الْحَرَجِ بِإِحْضَارِ الْمَبِيعِ مَكَانَ الْعَقْدِ، وَرَدَّ هَذَا الْقِيَاسَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ السَّلَمِ الْحَالِّ بِحُكْمٍ مَفْهُومِ الْغَايَةِ اتِّفَاقًا أَوْ إلْزَامًا وَلَا عِبْرَةَ بِالْقِيَاسِ الْمُغَيِّرِ لِحُكْمِ النَّصِّ إلَّا أَنَّ مُخَالَفَةَ الْمَفْهُومِ سِيَّمَا فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَوْجُودٍ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِيهِ بِإِقَامَةِ مَا هُوَ سَبَبُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَهُوَ الْأَجَلُ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ، وَجَعْلِهِ خَلَفًا عَنْهَا، فَحُكْمُ الْأَصْلِ أَعْنِي: السَّلَمَ الْمُؤَجَّلَ يَشْتَمِلُ عَلَى جَعْلِ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ خَلَفًا عَنْ وُجُودِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَعَنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَفِي قِيَاسِ السَّلَمِ الْحَالِّ عَلَيْهِ تَغْيِيرٌ لِهَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ جَعْلُ الْأَجَلِ خَلَفًا عَنْ الْوُجُودِ وَقَدْ سَبَقَ

الِافْتِتَاحِ) أَيْ: غَيَّرْتُمْ النَّصَّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] بِالتَّعْلِيلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ نَحْوَ اللَّهُ أَجَلُّ وَنَحْوَهُ (وَفِي إزَالَةِ الْخَبَثِ بِغَيْرِ الْمَاءِ) أَيْ: غَيَّرْتُمْ النَّصَّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْمَاءُ طَهُورٌ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُتِّيهِ وَاقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» . (قُلْنَا الْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ بِالْكَيْلِ، وَهِيَ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْكَثِيرِ) ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ التَّسْوِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالتَّسْوِيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا فِي الْمَطْعُومَاتِ التَّسْوِيَةُ بِالْكَيْلِ، وَهِيَ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْكَثِيرِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَعُمُّ الْقَلِيلَ، وَالْكَثِيرَ كَمَا يُقَالُ لَا تَقْتُلُ حَيَوَانًا إلَّا بِالسِّكِّينِ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ لَا تَقْتُلْ حَيَوَانًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْتَلَ بِالسِّكِّينِ إلَّا بِالسِّكِّينِ فَقَتْلُ حَيَوَانٍ لَا يُقْتَلُ بِالسِّكِّينِ كَالْقَمْلَةِ وَالْبُرْغُوثِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ. (وَإِنَّمَا كَانَ تَغْيِيرًا إذَا كَانَ الْأَصْلُ وَاجِبًا لِعَيْنِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ حَلَّتْ مَعَ وَسَخِهَا ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَاجَةِ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَازِ دَفْعِ الْقِيَمِ) أَيْ: إنَّمَا كَانَ التَّعْلِيلُ فِي دَفْعِ الْقِيَمِ تَغْيِيرًا لِلنَّصِّ إذَا كَانَ الْأَصْلُ وَهُوَ الشَّاةُ مَثَلًا وَاجِبًا لِلْفَقِيرِ لِعَيْنِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ لَا حَقَّ لِلْعِبَادِ فِيهَا، وَإِنَّمَا هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ سَقَطَ حَقُّهُ فِي صُورَةِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ بِإِذْنِهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ أَرْزَاقَ الْفُقَرَاءِ بِقَوْلِهِ {إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ مَعْنَى إقَامَةِ الْخَلَفِ مَقَامَ الْأَصْلِ هُوَ جَعْلُ الْخَلَفِ كَأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فَبِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْأَصْلِ يَكُونُ تَحْقِيقًا لِذَلِكَ لَا تَغْيِيرًا أَوْ يَكُونَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِكَوْنِهِ مَصِيرًا إلَى الْأَصْلِ دُونَ الْخَلَفِ وَعُدُولًا عَمَّا هُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَعْنِي الْأَجَلَ، وَرُبَّمَا يُجَابُ بِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا عِنْدَهُ مُسْتَحَقٌّ لِحَاجَةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ لِلشُّرْبِ فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ. وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ رُبَّمَا يَكُونُ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فِي إحْضَارِ الْمَبِيعِ وَلِغَيْرِهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ فَلَا تَتَعَيَّنُ الْحَاجَةُ الضَّرُورِيَّةُ. (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا كَانَ تَغْيِيرًا) وَجْهُ السُّؤَالِ أَنَّكُمْ جَوَّزْتُمْ دَفْعَ قِيمَةِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ قِيَاسًا عَلَى الْعَيْنِ بِعِلَّةِ دَفْعِ حَاجَةِ الْفَقِيرِ وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ عَيْنِ الشَّاةِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ تَغْيِيرَ هَذَا النَّصِّ لَيْسَ بِالتَّعْلِيلِ بَلْ بِدَلَالَةِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي ضَمَانِ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ، وَإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ، وَصَرْفِهَا إلَى الْفُقَرَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، وَالْعِبَادَةُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَجِبُ لِلْفُقَرَاءِ ابْتِدَاءً. وَإِنَّمَا تُصْرَفُ إلَيْهِمْ إيفَاءً لِحُقُوقِهِمْ، وَإِنْجَازًا لِعِدَةِ أَرْزَاقِهِمْ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ حَوَائِجَهُمْ مُخْتَلِفَةٌ لَا تَنْدَفِعُ بِنَفْسِ الشَّاةِ مَثَلًا، وَإِنَّمَا تَنْدَفِعُ بِمُطْلَقِ الْمَالِيَّةِ فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّرْفِ إلَيْهِمْ مَعَ أَنَّ حَقَّهُمْ فِي مُطْلَقِ الْمَالِيَّةِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ، وَإِلْغَاءِ اسْمِ الشَّاةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِالتَّعْلِيلِ. وَاعْلَمْ أَنَّ

ثُمَّ أَوْجَبَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ مَالًا مُسَمًّى ثُمَّ أَمَرَ بِأَدَاءِ تِلْكَ الْمَوَاعِيدِ وَهِيَ الْأَرْزَاقُ الْمُخْتَلِفَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمُسَمَّى، وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ الْأَدَاءُ إلَّا بِالِاسْتِبْدَالِ فَيَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِبْدَالِ كَالسُّلْطَانِ يَعِدُ مَوَاعِيدَ مُخْتَلِفَةً، ثُمَّ يَأْمُرُ بَعْضَ وُكَلَائِهِ بِأَدَائِهَا مِنْ مَالٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَهُ يَكُونُ إذْنًا بِالِاسْتِبْدَالِ. فَكَذَا هَاهُنَا مُثْبِتٌ هُنَاكَ حُكْمَانِ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ، وَصَلَاحِيَةُ عَيْنِ الشَّاةِ لَأَنْ تَكُونَ مَصْرُوفَةً إلَى الْفَقِيرِ، فَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ» فَقَدْ عَلَّلْنَاهُ بِالْحَاجَةِ فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مَعَ وَسَخِهَا حَلَّتْ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَإِذَا كَانَتْ عَيْنُ الشَّاةِ صَالِحَةً لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ لِلْحَاجَةِ تَكُونُ قِيمَتُهَا صَالِحَةً أَيْضًا بِهَذِهِ الْعِلَّةِ فَالتَّعْلِيلُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَلَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ النَّصِّ بَلْ يَكُونُ التَّغْيِيرُ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ فَيَكُونُ تَغْيِيرُ النَّصِّ بِالنَّصِّ مُجْتَمِعًا مَعَ التَّعْلِيلِ فِي حُكْمٍ آخَرَ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ النَّصِّ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَصَارَ ـــــــــــــــــــــــــــــQذِكْرَ اسْمِ الشَّاةِ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهَا أَيْسَرَ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْإِيتَاءَ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ أَسْهَلُ وَيَدُهُ إلَيْهِ أَوْصَلُ؛ وَلِكَوْنِهَا مِعْيَارًا لِمِقْدَارِ الْوَاجِبِ إذْ بِهَا تُعْرَفُ الْقِيمَةُ فَإِنْ قِيلَ: إذَا ثَبَتَ وُجُوبُ الشَّاةِ بِعِبَارَةِ النَّصِّ، وَجَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بِدَلَالَتِهِ فَمَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ بِالْحَاجَةِ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنَّمَا وَقَعَ بِحُكْمٍ آخَرَ وَهُوَ كَوْنُ الشَّاةِ صَالِحَةً لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ، وَهَذَا لَيْسَ بِحُكْمٍ ثَابِتٍ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ حَتَّى يَمْتَنِعَ تَعْلِيلُهُ بَلْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الشَّاةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ صَلَاحِيَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَمَا كَانَتْ بَاطِلَةً فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْأَوْسَاخِ وَلِهَذَا كَانَ تَقَبُّلُ الْقَرَابِينَ بِالْإِحْرَاقِ، وَأَيْضًا مَحَالُّ التَّصَرُّفَاتِ إنَّمَا تُعْرَفُ شَرْعًا كَصَلَاحِيَةِ الْخَلِّ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ دُونَ الْخَمْرِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا حُكْمًا شَرْعِيًّا عَلَّلْنَاهُ بِالْحَاجَةِ أَيْ: بِحَاجَةِ الْفَقِيرِ إلَى الشَّاةِ أَوْ بِكَوْنِهَا دَافِعَةً لِحَاجَتِهِ لِنُعَدِّيَ الْحُكْمَ إلَى قِيمَةِ الشَّاةِ، وَنَجْعَلَهَا صَالِحَةً لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقِيمَةِ أَشَدُّ وَهِيَ لِلْحَاجَةِ أَدْفَعُ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ هَاهُنَا حُكْمًا هُوَ وُجُوبُ الشَّاةِ، وَآخَرَ هُوَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ. وَثَالِثًا هُوَ صَلَاحِيَةُ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ، وَالتَّعْلِيلُ إنَّمَا وَقَعَ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَيْ: صَلَاحِيَةِ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْ: فِي هَذَا الْحُكْمِ تَغْيِيرٌ بَلْ تَغْيِيرُ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى وُجُوبِ الشَّاةِ إنَّمَا يَكُونُ بِالنَّصِّ أَيْ: بِدَلَالَةِ النَّصِّ الْآمِرِ بِإِيفَاءِ حَقِّ الْفَقِيرِ وَهَذَا التَّغْيِيرُ مُقَارِنٌ لِلتَّعْلِيلِ فِي حُكْمٍ آخَرَ هُوَ صَلَاحِيَةُ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْ: فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْآخَرِ تَغْيِيرُ النَّصِّ أَصْلًا إذْ لَا نَصَّ يَدُلُّ عَلَى

التَّغْيِيرُ مُجَامِعًا لِلتَّعْلِيلِ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ وَقَدْ قَالَ: أَيْضًا فَصَارَ صَلَاحُ الصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ بَعْدَ الْوُقُوعِ لِلَّهِ بِابْتِدَاءِ الْيَدِ لِيَصِيرَ مَصْرُوفًا إلَى الْفَقِيرِ بِدَوَامِ يَدِهِ حُكْمًا شَرْعِيًّا فِي الشَّاةِ فَعَلَّلْنَاهُ بِالتَّقْوِيمِ وَعَدَّيْنَاهُ إلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ مَعْنَاهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ لِلَّهِ تَعَالَى بِابْتِدَاءِ يَدِ الْفَقِيرِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصَّدَقَةُ تَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ الْفَقِيرِ» . فَفِي حَالِ ابْتِدَاءِ يَدِ الْفَقِيرِ تَقَعُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي حَالِ بَقَاءِ يَدِ الْفَقِيرِ تَصِيرُ لِلْفَقِيرِ، فَقَوْلُهُ صَلَاحُ الصَّرْفِ أَيْ: صَلَاحُ الْمَحَلِّ، وَهُوَ عَيْنُ الشَّاةِ مَثَلًا لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ، وَقَوْلُهُ لِيَصِيرَ مَصْرُوفًا عِلَّةٌ غَائِيَّةٌ لِلصَّلَاحِ أَيْ: صَلَاحِيَةُ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ لِيَصِيرَ مَصْرُوفًا إلَيْهِ بِدَوَامِ يَدِهِ فَقَوْلُهُ إلَى الْفَقِيرِ يَتَعَلَّقُ بِالصَّرْفِ، وَبِابْتِدَاءِ الْيَدِ يَتَعَلَّقُ بِالْوُقُوعِ، وَلِيَصِيرَ يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاحِ، وَبِدَوَامِ يَدِهِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ مَصْرُوفًا، وَقَوْلُهُ حُكْمًا شَرْعِيًّا خَبَرُ صَارَ فَهَذَا الْحُكْمُ هُوَ الْحُكْمُ الثَّانِي الْمَذْكُورُ وَفِي قَوْلِهِ إنَّ الصَّدَقَةَ وَاقِعَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ لِلَّهِ، وَفِي الْبَقَاءِ مَصْرُوفٌ إلَى الْفَقِيرِ بَيَانُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَيْسَتْ فِي الِابْتِدَاءِ حَقَّ الْفَقِيرِ حَتَّى يَلْزَمَ تَغْيِيرُ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنْ مُشْكِلَاتِ كُتُبِ أَصْحَابِنَا فِي الْأُصُولِ. (وَذِكْرُ الْأَصْنَافِ لِعَدِّ الْمَصَارِفِ) فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: 60] الْآيَةَ ذَكَرُوا أَنَّ اللَّامَ لِلْعَاقِبَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ تَغْيِيرُ النَّصِّ لَوْ كَانَ اللَّامُ لِلتَّمَلُّكِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ دَفْعُ مِلْكِ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ آخَرَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِلتَّمْلِيكِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَاتِ وَالْفُقَرَاءَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا الْجَمِيعُ لِمَا عَرَفْت ـــــــــــــــــــــــــــــQعَدَمِ صَلَاحِيَةِ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ فَصَارَ التَّغْيِيرُ مَعَ التَّعْلِيلِ لَا بِالتَّعْلِيلِ. وَالْمُمْتَنِعُ هُوَ التَّغْيِيرُ بِالتَّعْلِيلِ لَا مَعَهُ فَقَوْلُهُ بِالنَّصِّ خَبَرُ صَارَ، وَمُجَامِعًا حَالٌ أَوْ هُوَ خَبَرُ صَارَ وَبِالنَّصِّ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَارَ الْأَصْلُ هُوَ الشَّاةُ، وَالْفَرْعُ الْقِيمَةُ، وَالْحُكْمُ الصَّلَاحِيَةُ، وَالْعِلَّةُ الْحَاجَةُ وَلَمَّا كَانَ هَذَا مُخَالِفًا لِظَاهِرِ عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ جَعَلَ الْفَرْعَ هُوَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ، وَالْعِلَّةُ وَالتَّقَوُّمُ أَوْرَدَهَا وَشَرَحَهَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تُعْتَبَرُ مِنْ جَانِبِ الْمَصْرِفِ وَهِيَ الْحَاجَةُ، وَقَدْ تُعْتَبَرُ مِنْ جَانِبِ الْوَاجِبِ، وَهِيَ التَّقَوُّمُ، وَأَنَّ الْمُسْتَبْدَلَ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِنَفْسِ الْقِيمَةِ وَحِينَئِذٍ لَا مَعْنَى لِلتَّعْلِيلِ بِالتَّقَوُّمِ. وَأَنْ يُعْتَبَرَ مَالَهُ الْقِيمَةُ فَتَعَلَّلَ بِالتَّقَوُّمِ وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَهُوَ صَلَاحُ صَرْفِ الشَّاةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنْ قُلْت كَمَا أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى وُجُوبِ الشَّاةِ دَلَّ عَلَى صَلَاحِهَا لِلصَّرْفِ كَذَلِكَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ دَالٌّ عَلَى صَلَاحِ غَيْرِ الشَّاةِ لِلصَّرْفِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْلِيلِ قُلْتُ لَا مَعْنَى لِجَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ إلَّا سُقُوطُ اعْتِبَارِ اسْمِ الشَّاةِ وَجَوَازُ إيفَاءِ حَقِّ الْفَقِيرِ مِنْ كُلِّ مَا يَصْلُحُ لِلصَّرْفِ إلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى صَلَاحِيَةِ الْقِيمَةِ وَكُلِّ مُتَقَوِّمٌ لِلصَّرْفِ بَعْدَمَا كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاحِيَةُ بَاطِلَةً فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ بِخِلَافِ إيجَابِ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ بِصَرْفِهَا إلَى الْفَقِيرِ. وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى الصَّلَاحِيَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِ الْقِيمَةِ أَوْ كُلِّ مُتَقَوِّمٍ صَالِحًا لِلصَّرْفِ وَذَلِكَ بِالتَّعْلِيلِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ

أَنَّ حَرْفَ التَّعْرِيفِ إذَا دَخَلَ عَلَى الْجَمِيعِ تَبْطُلُ الْجَمْعِيَّةُ وَيُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ. وَأَيْضًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ أُرِيدَ الْجَمْعُ لَكَانَ الْمُرَادُ جَمْعًا مُسْتَغْرِقًا فَمَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ لِجَمِيعِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ إجْمَاعًا إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ أَنْ يُوَزِّعَ جَمِيعَ الصَّدَقَاتِ عَلَى جَمِيعِ الْفُقَرَاءِ بِحَيْثُ لَا يُحْرَمُ وَاحِدٌ عَلَى أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ هَذَا يَبْطُلُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْجَمْعُ مُرَادًا كَانَ الْمُرَادُ الْجِنْسَ فَيُرَادُ أَنَّ جِنْسَ الصَّدَقَةِ لِجِنْسِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ الْإِفْرَادُ فَتَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ لَا لِلتَّمْلِيكِ الَّذِي يُوجِبُ التَّوْزِيعَ عَلَى الْأَفْرَادِ فَيَكُونُ لِعَدِّ الْمَصَارِفِ. (وَالتَّكْبِيرَ لِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَدَاءُ الْقِيمَةِ، وَذِكْرُ لَفْظٍ آخَرَ يَكُونَانِ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ) اعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ فَرَّقُوا بَيْنَ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ فَإِنَّهُ جَاءَ عَنْ الْأَحَادِيثِ الْإِلَهِيَّةِ «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي» فَالْكِبْرِيَاءُ صِفَةٌ هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْعَظَمَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِزَارِ فَالْأَوَّلُ أَدَلُّ عَلَى الظُّهُورِ، وَالثَّانِي عَلَى الْبُطُونِ فَلَا يَكُونُ اللَّهُ أَعْظَمَ وَأَجَلَّ بِمَعْنَى أَكْبَرَ لَكِنَّا نَقُولُ قَوْله تَعَالَى {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] لَا يُرَادُ بِهِ قُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ وَرَبَّكَ قُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا يُفِيدُ مَعْنًى فَمَعْنَاهُ وَرَبَّكَ فَعَظِّمْ أَيْ: قُلْ أَوْ افْعَلْ مَا فِيهِ تَعْظِيمُ اللَّهِ، وَالْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرُوا بَيْنَ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ لَا يُفِيدُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَبْدِ إثْبَاتُ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَلْ فِي وَسْعِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْإِشْعَارِ بِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ إنَّمَا يَجُوزُ بِمَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ حَتَّى لَوْ أَسْكَنَ الْفَقِيرَ دَارِهِ مُدَّةً بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ لَمْ يُجْزِهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ لِلَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَلِلْفَقِيرِ بَقَاءً فَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِهَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَوَّلًا وَمِنْ صُلُوحِهَا لِلصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ ثَانِيًا فَفِي الشَّاةِ مَثَلًا ثَبَتَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنَّصِّ، وَفِي الْقِيمَةِ ثَبَتَ الْأَوَّلُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ، وَالثَّانِي بِالتَّعْلِيلِ وَالْقِيَاسِ عَلَى الشَّاةِ، وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى ثُبُوتِ جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي جِنْسِ الْوَاجِبِ مَا يَصْلُحُ لِإِيفَاءِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَخْلُوقَةُ ثَمَنًا لِلْأَشْيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَوَسِيلَةً إلَى الْأَرْزَاقِ. (قَوْلُهُ وَذَكَرَ الْأَصْنَافَ) وَجْهُ السُّؤَالِ إنَّكُمْ جَوَّزْتُمْ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ قِيَاسًا عَلَى صَرْفِهَا إلَى الْكُلِّ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ تَغْيِيرٌ لِلنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى كَوْنِ الزَّكَاةِ حَقًّا لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْكُلِّ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ كَانَ اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً، وَإِنَّمَا تَصِيرُ لِلْفُقَرَاءِ بَقَاءً بِدَوَامِ الْيَدِ فَتَكُونُ اللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ، وَإِنَّمَا أَحَالَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ اللَّامِ لِلْعَاقِبَةِ مَجَازٌ بَعِيدٌ لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ الْقَرَائِنِ، وَقَدْ أَمْكَنَ عَلَى حَمْلِ اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَصَارِفَ إنَّمَا هِيَ هَذِهِ الْأَصْنَافُ لَا غَيْرُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَى غَيْرِهِمْ، وَأَنَّهُمْ هُمْ الصَّالِحُونَ لِلصَّرْفِ إلَيْهِمْ

ذِكْرُ اللَّهِ بِالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَإِثْبَاتُ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ بَيْنِ التَّكْبِيرِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِبَعْضِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى مَزِيَّةٌ عَلَى الْبَعْضِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّعْظِيمَ فَكُلُّ لَفْظٍ فِيهِ التَّعْظِيمُ يَكُونُ فِي مَعْنَى اللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَوْلُهُ فَأَدَاءُ الْقِيمَةِ رَاجِعٌ إلَى مَسْأَلَةِ دَفْعِ الْقِيَمِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ فِيهِ وَفِي مَسْأَلَةِ التَّكْبِيرِ مَعْنًى مُشْتَرَكًا، وَهُوَ كَوْنُهُمَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ فَلِذَلِكَ جَمَعَهُمَا فِي سِلْكٍ وَاحِدٍ. (وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَيَجُوزُ بِكُلِّ مَا يَصْلُحُ لَهَا) اعْلَمْ أَنَّهُ إنْ أُورِدَ الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْله تَعَالَى {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمَاءُ طَهُورٌ» فَغَيْرُ وَارِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَيْسَ بِطَهُورٍ، وَإِنْ أُورِدَ عَلَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُتِّيهِ وَاقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ» فَوَارِدٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ لَيْسَ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَلْقَى الثَّوْبَ النَّجِسَ أَوْ قَطَعَ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ بِالْمِقْرَاضِ سَقَطَ عَنْهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ، وَلَوْ كَانَ اسْتِعْمَالُهُ مَقْصُودًا بِالذَّاتِ لَمْ يَسْقُطْ بِدُونِ الْعُذْرِ لَكِنَّ الْوَاجِبَ إزَالَةُ الْعَيْنِ النَّجِسَةِ. (وَإِنَّمَا لَا يَزُولُ الْحَدَثُ) بِسَائِرِ الْمَائِعَاتِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولٍ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْمَاءُ بِخِلَافِ الْخَبَثِ فَإِنَّ إزَالَتَهُ مَعْقُولَةٌ وَلَا يَضُرُّ أَنْ يَلْزَمَهَا أَمْرٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَتَنَجَّسَ كُلُّ مَا يَصِلُ إلَيْهِ؛ وَلِأَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ طَبْعًا فَيَزُولُ بِهِ كِلَاهُمَا وَغَيْرُهُ كَالْخَلِّ مَثَلًا قَالِعٌ يَزُولُ بِهِ الْخَبَثُ لَا الْحَدَثُ، فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَ إزَالَةُ الْحَدَثِ غَيْرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQسَوَاءٌ صَرَفَ أَوْ لَمْ يَصْرِفْ فَبِالصَّرْفِ إلَى الْبَعْضِ لَا يَتَغَيَّرُ كَوْنُ الْكُلِّ مَصَارِفَ. وَإِنَّمَا يَلْزَمُ التَّغْيِيرُ لَوْ كَانَ اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ فَيُفِيدُ أَنَّ الزَّكَاةَ مِلْكٌ لِجَمِيعِ الْأَصْنَافِ فَيَكُونُ صَرْفُهَا إلَى الْبَعْضِ صَرْفَ مِلْكِ الشَّخْصِ إلَى غَيْرِهِ ثُمَّ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ بُطْلَانَ الْجَمْعِيَّةِ وَثُبُوتَ الْحَمْلِ عَلَى الْجِنْسِيَّةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاسْتِغْرَاقِ فَلَا مَعْنَى لِتَعْلِيلِ عَدَمِ إمْكَانِ أَنْ يُرَادَ بِالْفُقَرَاءِ الْجَمِيعُ بِبُطْلَانِ الْجَمْعِيَّةِ أَوَّلًا وَبِتَعَذُّرِ الِاسْتِغْرَاقِ ثَانِيًا فَفِي الْعِبَارَةِ تَسَامُحٌ، وَأَيْضًا الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا جَوَازُ الصَّرْفِ إلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ وَهَذَا لَا يَتَفَاوَتُ بِكَوْنِ الْفُقَرَاءِ لِلْجَمْعِيَّةِ أَوْ لِلْجِنْسِيَّةِ فَلَا مَدْخَلَ لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْفُقَرَاءَ لِلْجِنْسِ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ اللَّامِ لِلْعَاقِبَةِ دُونَ التَّمْلِيكِ لِجَوَازِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْخَصْمُ بُطْلَانَ الْجَمْعِيَّةِ لِلْجِنْسِ، وَيَدَّعِيَ كَوْنَ الزَّكَاةِ مِلْكًا لِلْأَجْنَاسِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا مَدْفَعَ لَهُ إلَّا مَا ذَكَرْنَا. (قَوْلُهُ عَلَى أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ هَذَا) أَيْ: تَوْزِيعُ جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ عَلَى جَمِيعِ الْفُقَرَاءِ يَلْزَمُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِوُجُوبِ الصَّرْفِ إلَى جَمِيعِ أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ بَلْ إلَى جَمْعٍ مِنْهَا فَإِنْ قُلْت إذَا كَانَ لِلِاسْتِغْرَاقِ كَانَ الْمَعْنَى كُلَّ صَدَقَةٍ لِكُلِّ فَقِيرٍ، وَهَذَا أَظْهَرُ بُطْلَانًا فَلِمَ عَدَلَ إلَى تَوْزِيعِ الْجَمْعِ عَلَى الْجَمْعِ قُلْتُ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَدَّعِي أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِغْرَاقِ الشُّمُولُ وَالْإِحَاطَةُ بِمَعْنَى الْمَجْمُوعِ فَإِنَّ

مَعْقُولَةٍ وَجَبَتْ النِّيَّةُ كَالتَّيَمُّمِ قُلْنَا يَأْتِي الْجَوَابُ فِي فَصْلِ الْمُنَاقَضَةِ. (فَصْلٌ الْعِلَّةُ قِيلَ الْمُعَرِّفُ وَيُشْكِلُ بِالْعَلَامَةِ) اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ الْعِلَّةِ فَقَالَ الْبَعْضُ هِيَ الْمُعَرِّفُ أَيْ: مَا يَكُونُ دَالًّا عَلَى وُجُودِ الْحُكْمِ وَقَالُوا الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مُعَرِّفَاتٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَقِيقَةِ بِمُؤَثِّرَةٍ بَلْ الْمُؤَثِّرُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْنَا تَدْخُلُ الْعَلَامَةُ فِي تَعْرِيفِ الْعِلَّةِ، وَلَا يَبْقَى الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَكِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا مُضَافَةٌ إلَى الْعِلَلِ كَالْمِلْكِ إلَى الشِّرَاءِ وَالْقِصَاصِ إلَى الْقَتْلِ، وَلَيْسَتْ الْأَحْكَامُ مُضَافَةً إلَى الْعَلَامَاتِ كَالرَّجْمِ إلَى الْإِحْصَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْعَلَامَةِ. (وَقِيلَ: الْمُؤَثِّرُ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ بِمُؤَثِّرَةٍ) اعْلَمْ أَنَّ الْبَعْضَ عَرَّفُوا الْعِلَّةَ بِالْمُؤَثِّرِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤَثِّرِ مَا بِهِ وُجُودُ الشَّيْءِ كَالشَّمْسِ لِلضَّوْءِ وَالنَّارِ لِلْإِحْرَاقِ، وَالْبَعْضُ أَبْطَلُوا تَعْرِيفَ الْعِلَّةِ بِالْمُؤَثِّرِ بِأَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَتْ بِمُؤَثِّرَةٍ بَلْ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مُعَرِّفَاتٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَادِثُ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْحُكْمَ الْمُصْطَلَحَ هُوَ أَثَرُ حُكْمِ اللَّهِ الْقَدِيمُ فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ قَدِيمٌ، وَالْوُجُوبَ حَادِثٌ فَالْمُرَادُ مِنْ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ لَيْسَ أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِيجَابِ الْقَدِيمِ بَلْ فِي الْوُجُوبِ الْحَادِثِ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ بِالْإِيجَابِ الْقَدِيمِ الْوُجُوبَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُقَابَلَةَ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ تَقْتَضِي انْقِسَامَ الْآحَادِ إلَى الْآحَادِ فَأَبْطَلَ ذَلِكَ أَيْضًا وَسَكَتَ عَمَّا هُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. (قَوْلُهُ وَاسْتِعْمَالُ الْمَاءِ لِإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ) يَعْنِي: أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ لَا الِاسْتِعْمَالُ بِدَلِيلِ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى قَطْعِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ أَوْ حَرْقِهِ،، وَكَوْنُ الْمَاءِ آلَةً صَالِحَةً لِلْإِزَالَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مُعَلَّلٌ بِكَوْنِهِ مُزِيلًا فَيُعَدَّى إلَى كُلِّ مَائِعٍ يُشَارِكُهُ فِي ذَلِكَ، وَكَوْنُهُ مُزِيلًا يَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ: طَهَارَةَ الْمَحَلِّ، وَعَدَمَ تَنَجُّسِ الْآلَةِ بِالْمُلَاقَاةِ، وَإِلَّا لَمَا وُجِدَتْ وَالْإِزَالَةُ بَلْ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ قِيلَ بَلْ الْحُكْمُ بِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ لِخَاصِّيَّةٍ فِي الْمَاءِ إذْ لَوْ كَانَ لِإِزَالَتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُشَارِكَهُ جَمِيعُ الْمَائِعَاتِ الْمُزِيلَةِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ. قُلْنَا الْحُكْمُ بِالطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ بِمَعْنَى زَوَالِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ لَيْسَ بِمَعْقُولٍ إذْ الْعُضْوُ طَاهِرٌ لَا يَنْجُسُ بِهِ شَيْءٌ، وَمِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ كَوْنُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا قِيلَ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّهُ مَعْقُولٌ فَالْمَاءُ يُوجَدُ مُبَاحًا لَا يُبَالَى بِخَبَثِهِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ حَرَجٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ. وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْفَرْقِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْإِزَالَةُ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِرَفْعِ الْخَبَثِ فَإِنْ قُلْت قَدْ ذَكَرَ فِي بَحْثِ الْمُنَاقَضَةِ أَنَّ التَّطْهِيرَ بِالْمَاءِ مَعْقُولٌ وَفِي الْهِدَايَةِ أَنَّ غَيْرَ الْمَعْقُولِ هُوَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَمَّا إزَالَةُ الْحَدَثِ فَمَعْقُولٌ. قُلْتُ يَأْتِي جَوَابُهُ فِي بَحْثِ الْمُنَاقَضَةِ وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ بِطَبْعِهِ لَمْ يَحْدُثْ فِيهِ مَعْنَى لَا يُعْقَلُ فَلَا يَحْتَاجُ فِي صَيْرُورَتِهِ مُطَهِّرًا إلَى النِّيَّةِ بِخِلَافِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ مُلَوِّثٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ مُطَهِّرًا عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ، فَيَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّ قَلْعَ الْخَبَثِ وَإِزَالَتَهُ بِالْمَاءِ

[فصل في العلة]

عَلَى أَمْرٍ حَادِثٍ كَالدُّلُوكِ مَثَلًا فَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِوُجُوبِ ذَلِكَ الْأَثَرِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ كَالْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ وَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ مُؤَثِّرَةً بِذَوَاتِهَا يَجْعَلُ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ كَذَلِكَ، وَهُمْ الْمُعْتَزِلَةُ فَكَمَا أَنَّ النَّارَ عِلَّةٌ لِلِاحْتِرَاقِ عِنْدَهُمْ بِالذَّاتِ بِلَا خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الِاحْتِرَاقَ؛ فَإِنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ بِغَيْرِ حَقٍّ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ أَيْضًا عَقْلًا. وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْعِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ مُؤَثِّرَةً بِمَعْنَى أَنَّهُ جَرَتْ الْعَادَةُ الْإِلَهِيَّةُ بِخَلْقِ الْأَثَرِ عَقِيبَ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَخْلُقُ الِاحْتِرَاقَ عَقِيبَ مُمَاسَّةِ النَّارِ لَا أَنَّهَا مُؤَثِّرَةٌ بِذَاتِهَا بِجَعْلِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الشَّيْءُ يُوجَدُ عَقِيبَهُ الْوُجُوبُ حَسَبَ وُجُودِ الِاحْتِرَاقِ عَقِيبَ مُمَاسَّةِ النَّار فَإِنَّ الْمُتَوَلِّدَاتِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. (إلَّا أَنْ يُقَالَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَإِنَّ الْأَحْكَامَ تُضَافُ إلَى الْأَسْبَابِ فِي حَقِّنَا) فَإِنَّا مُبْتَلُونَ بِنِسْبَةِ الْأَحْكَامِ إلَى الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ بِالْقَتْلِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ الْمَقْتُولُ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَفِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ الْأَحْكَامُ مُضَافَةٌ إلَى الْأَسْبَابِ فَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً. (وَقِيلَ: الْبَاعِثُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ) بَعْضُ النَّاسِ عَرَّفُوا الْعِلَّةَ بِالْبَاعِثِ يَعْنِي: مَا يَكُونُ بَاعِثًا لِلشَّارِعِ عَلَى شَرْعِ الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِكَ جِئْتُكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْقُولٌ إلَّا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ أَمْرًا غَيْرَ مَعْقُولٍ، وَهُوَ عَدَمُ تَنَجُّسِ الْمَاءِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ قُلْتُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بَعْدَ كَوْنِ الْمَعْنَى مَعْقُولًا لِأَنَّهُ مُلْتَزَمٌ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الْحَرَجِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ أَنْ لَا يَتَنَجَّسَ كُلُّ مَا يَصِلُ إلَيْهِ) لِنَفْيِ الشُّمُولِ لَا لِشُمُولِ النَّفْيِ. (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ طَبْعًا) تَعْلِيلٌ لِمَعْقُولِيَّةِ إزَالَةِ الْمَاءِ لِلْخَبَثِ، وَذَلِكَ لِفَرْطِ لَطَافَتِهِ وَقُوَّةِ إزَالَتِهِ وَسُرْعَةِ نُفُوذِهِ، وَسُهُولَةِ خُرُوجِهِ فَيَزُولُ بِهِ الْحَدَثُ وَالْخَبَثُ جَمِيعًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ فَإِنَّهُ مُطَهِّرٌ بِاعْتِبَارِ الْقَلْعِ وَالْإِزَالَةِ فَيَزُولُ بِهِ الْخَبَثُ لِابْتِنَائِهِ عَلَى الرَّفْعِ، وَالْقَلْعِ دُونَ الْحَدَثِ؛ لِعَدَمِ مَعْقُولِيَّتِهِ ثُبُوتًا وَزَوَالًا [فَصْلٌ فِي الْعِلَّةِ] [تَعْرِيفِ الْعِلَّةِ] (قَوْلُهُ: وَيُشْكِلُ بِالْعَلَامَةِ) وَهِيَ مَا يُعْرَفُ بِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُهُ وَلَا وُجُوبُهُ كَالْأَذَانِ لِلصَّلَاةِ، وَالْإِحْصَانِ لِلرَّجْمِ يَعْنِي: أَنَّ تَعْرِيفَ الْعِلَّةِ بِالْمُعَرِّفِ لِلْحُكْمِ لَيْسَ بِمَانِعٍ لِدُخُولِ الْعَلَاقَةِ فِيهِ قِيلَ وَلَا جَامِعَ لِخُرُوجِ الْمُسْتَنْبَطَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ طَلَبِ عِلِّيَّتِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فَلَوْ عُرِفَ الْحُكْمُ بِهَا لَكَانَ الْعِلْمُ بِهَا سَابِقًا عَلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُعَرِّفَ لِلْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَ عَلَيْهَا هُوَ حُكْمُ الْأَصْلِ، وَالْمُعَرَّفَ بِالْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَ عَنْهَا هُوَ حُكْمُ الْفَرْعِ فَلَا دَوْرَ، فَإِنْ قِيلَ هُمَا مِثْلَانِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْمَاهِيَّةِ وَلَوَازِمِهَا قُلْنَا لَا يُنَافِي كَوْنَ أَحَدِهِمَا أَجْلَى مِنْ الْآخَرِ بِعَارِضٍ. (قَوْلُهُ بَلْ فِي الْوُجُوبِ الْحَادِثِ) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الْوُجُوبُ الْحَادِثُ عَلَى مَا زَعَمْتُمْ أَثَرٌ لِلْخِطَابِ الْقَدِيمِ وَثَابِتٌ بِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ

لِإِكْرَامِك؛ الْإِكْرَامُ بَاعِثٌ عَلَى الْمَجِيءِ وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ بَاعِثٌ لِلشَّارِعِ عَلَى شَرْعِ الْقِصَاصِ صِيَانَةً لِلنُّفُوسِ وَقَوْلُهُ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ احْتِرَازٌ عَنْ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ تُوجِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى شَرْعَ الْحُكْمِ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّ الْأَصْلَحَ لِلْعِبَادِ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَهُمْ (أَيْ: الْمُشْتَمِلُ عَلَى حِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِهِ الْحُكْمَ) هَذَا تَفْسِيرُ الْبَاعِثِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَابِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحِكْمَةِ الْمَصْلَحَةُ، وَالْمُرَادَ مِنْ كَوْنِهِ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحِكْمَةِ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى هَذِهِ الْعِلَّةِ مُحَصِّلٌ لِلْحِكْمَةِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ وَلَا يُتَصَوَّرُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْحِكْمَةِ إلَّا بِهَذَا الْمَعْنَى (مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ) أَيْ: إلَى الْعِبَادِ (أَوْ دَفْعِ ضَرٍّ) أَيْ: عَنْ الْعِبَادِ. وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّلَةٌ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ عِنْدَنَا مَعَ أَنَّ الْأَصْلَحَ لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَمَا أَبْعَدَ عَنْ الْحَقِّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّهَا غَيْرُ مُعَلَّلَةٍ بِهَا فَإِنَّ بَعْثَةَ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِاهْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَإِظْهَارَ الْمُعْجِزَاتِ لِتَصْدِيقِهِمْ فَمَنْ أَنْكَرَ التَّعْلِيلَ فَقَدْ أَنْكَرَ النُّبُوَّةَ وقَوْله تَعَالَى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَدَالَّةٌ عَلَى مَا قُلْنَا، وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَفْعَلْ لِغَرَضٍ أَصْلًا يَلْزَمُ الْعَبَثُ. وَدَلِيلُهُمْ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ لِغَرَضٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُصُولُ ذَلِكَ الْغَرَضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَثَرًا لِشَيْءٍ آخَرَ، وَهُوَ فِعْلٌ حَادِثٌ كَالْقَتْلِ مَثَلًا، وَجَوَابُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّ مَعْنَى تَأْثِيرِ الْخِطَابِ الْقَدِيمِ فِيهِ أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَرَتُّبِهِ عَلَى الْعِلَّةِ وَثُبُوتِهِ عَقِيبَهَا، وَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُكْمِ الْخِطَابُ الْقَدِيمُ، وَيَكُونُ مَعْنَى تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ تَأْثِيرُهَا فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ. (قَوْلُهُ: وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ مُؤَثِّرَةً بِذَوَاتِهَا يَجْعَلُ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ كَذَلِكَ) فَإِنْ قُلْت كَوْنُ الْوَقْتِ مُوجِدًا لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالْقَتْلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَذْهَبُ إلَيْهِ عَاقِلٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَعْرَاضٌ وَأَفْعَالٌ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا إيجَادٌ وَتَأْثِيرٌ. قُلْتُ: مَعْنَى تَأْثِيرِهَا بِذَوَاتِهَا أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ بِمُجَرَّدِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إيجَابٍ مِنْ مُوجِبٍ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَا تَحَقَّقَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ عِلَّةٌ. (قَوْلُهُ: كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الشَّيْءُ يُوجَدُ عَقِيبَهُ الْوُجُوبُ) فَإِنْ قُلْت كَثِيرٌ مِنْ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا كَانَتْ مُتَحَقِّقَةً قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَدَ عَقِيبَهَا الْوُجُوبُ كَالْوَقْتِ مَثَلًا قُلْتُ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ جَعَلَهُ الشَّارِعُ عِلَّةً لِحُكْمٍ فَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ حُكْمٌ بِأَنَّهُ كُلَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِشَرَائِطِهِ يُوجَدُ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَقِيلَ وُرُودُ الشَّرْعِ لَا حُكْمَ بِالْعِلِّيَّةِ فَلَا وُجُوبَ عَقِيبَ وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ. (قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا) يَعْنِي: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْأَحْكَامِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الْإِيجَابَ لَمَّا كَانَ غَيْبًا عَنَّا وَنَحْنُ عَاجِزُونَ عَنْ دَرْكِهَا شَرَعَ الْعِلَلَ مُوجِبَاتٍ لِلْأَحْكَامِ فِي حَقِّ الْعَمَلِ وَنَسَبَ الْوُجُوبَ إلَيْهَا فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ. (قَوْلُهُ فَمَنْ

أَوْلَى بِهِ مِنْ عَدَمِهِ امْتَنَعَ مِنْهُ فِعْلُهُ، وَإِنْ كَانَ أَوْلَى بِهِ كَانَ مُسْتَكْمِلًا بِهِ فَيَكُونُ نَاقِصًا فِي ذَاتِهِ، وَقَدْ قِيلَ عَلَيْهِ: إنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَكْمِلًا بِهِ لَوْ كَانَ الْغَرَضُ رَاجِعًا إلَيْهِ، وَهُنَا رَاجِعٌ إلَى الْعَبْدِ وَأَجَابُوا عَنْ ذَلِكَ أَنَّ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ، وَعَدَمَهُ إنْ اسْتَوَيَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ غَرَضًا وَدَاعِيًا لَهُ إلَى الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ التَّرْجِيحُ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوِيَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ يَكُونُ فِعْلُهُ أَوْلَى فَيَلْزَمُ الِاسْتِكْمَالُ، أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ مَرْضِيٍّ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إنْ اسْتَوَيَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ غَرَضًا وَدَاعِيًا، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّرْجِيحَ مِنْ غَيْرِ مُرَجِّحٍ. لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْلَوِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِبَادِ مُرَجِّحًا. (وَكَوْنُ الْعِلَّةِ هَكَذَا تُسَمَّى مُنَاسِبَةً) أَيْ: كَوْنُهَا بِحَيْثُ تَجْلُبُ النَّفْعَ إلَى الْعِبَادِ وَتَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ يُسَمَّى مُنَاسِبَةً، وَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ مَا يَجْلُبُ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ الْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ مَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُنَاسِبَ إمَّا حَقِيقِيٌّ وَإِمَّا إقْنَاعِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ إمَّا لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ كَرِيَاضَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ فَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ كَالدُّلُوكِ وَشُهُودِ الشَّهْرِ، وَالْحُكْمُ وُجُوبُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. وَالْحِكْمَةُ رِيَاضَةُ النَّفْسِ وَقَهْرُهَا، أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ وَهِيَ إمَّا ضَرُورِيَّةٌ، وَهِيَ خَمْسَةٌ حِفْظُ النَّفْسِ، وَالْمَالِ وَالنَّسَبِ، وَالدِّينِ، وَالْعَقْلِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ هِيَ الْحِكْمَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنْكَرَ التَّعْلِيلَ فَقَدْ أَنْكَرَ النُّبُوَّةَ) ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِاهْتِدَاءِ الْخَلْقِ لَازِمٌ لَهَا، وَكَذَا تَعْلِيلُ إظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِتَصْدِيقِ الْخَلْقِ، وَإِنْكَارُ اللَّازِمِ إنْكَارٌ لِلْمَلْزُومِ لِانْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ. (قَوْلُهُ: وَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ مَا يَجْلِبُ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا) قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ أَنَّهُ الْوَصْفُ الَّذِي يُفْضِي إلَى مَا يَجْلُبُ لِلْإِنْسَانِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا وَفَسَّرَ النَّفْعَ بِاللَّذَّةِ أَوْ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَيْهَا، وَالضَّرَرَ بِالْأَلَمِ أَوْ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَيْهِ. وَقَدْ يُفَسِّرُ الْمُنَاسِبَ بِالْوَصْفِ اللَّائِمِ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فِي الْعَادَاتِ، الْأَوْلَى قَوْلُ مَنْ يَجْعَلُ الْأَحْكَامَ الثَّابِتَةَ بِالنُّصُوصِ مُتَعَلِّقَةً بِالْحُكْمِ وَالْمَصَالِحِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَأْبَى ذَلِكَ وَقَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ: الْمُنَاسِبُ مَا لَوْ عُرِضَ عَلَى الْعُقُولِ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ يَعْنِي: إذَا عَرَضَ عَلَى الْعَقْلِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا شُرِعَ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ يَكُونُ ذَلِكَ الْحُكْمُ مُوَصِّلًا إلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عَقْلًا وَتَكُونُ تِلْكَ الْمَصْلَحَةُ أَمْرًا مَقْصُودًا عَقْلًا وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ الْقَتْلَ الْعَمْدَ الْعُدْوَانَ وَصْفٌ مُنَاسِبٌ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَالْإِسْكَارَ لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي التَّقْسِيمِ الْمَذْكُورِ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى هَذِهِ التَّفَاسِيرِ إذْ لَيْسَ الْقَتْلُ مَثَلًا مِمَّا يَجْلُبُ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ ضَرَرًا وَلَا هُوَ مُلَائِمٌ لِأَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ وَلَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ. فَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُنَاسِبَ

[أبحاث في العلة]

وَالْمَصْلَحَةُ فِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ وَالضَّمَانِ وَحَدِّ الزِّنَا وَالْجِهَادِ وَحُرْمَةِ الْمُسْكِرَاتِ، وَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ مَثَلًا وَالزِّنَا وَحَرْبِيَّةُ الْكَافِرِ وَالْإِسْكَارِ، وَإِمَّا مُحْتَاجٌ إلَيْهَا كَمَا فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ فَالْوَصْفُ الْمُنَاسِبُ هُوَ الصِّغَرُ، وَالْحُكْمُ شَرْعِيَّةُ التَّزْوِيجِ وَالْحِكْمَةُ وَالْمَصْلَحَةُ كَوْنُ الْمُوَلِّيَةِ تَحْتَ الْكُفْءِ، وَهَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً لَكِنَّهَا فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَفُوتَ الْكُفْءُ لَا إلَى بَدَلٍ. وَإِمَّا أَنْ لَا تَكُونَ ضَرُورِيَّةً وَلَا مُحْتَاجًا إلَيْهَا بَلْ لِلتَّحْسِينِ كَحُرْمَةِ الْقَاذُورَاتِ فَإِنَّهَا حُرِّمَتْ لِنَجَاسَتِهَا وَعُلُوِّ مَنْصِبِ الْآدَمِيِّ فَلَا يَحْسُنُ تَنَاوُلُهَا، وَالْإِقْنَاعِيُّ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مُنَاسِبٌ ثُمَّ إذَا تُؤُمِّلَ يَظْهَرُ خِلَافُهُ كَنَجَاسَةِ الْخَمْرِ لِبُطْلَانِ بَيْعِهَا فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا نَجِسَةٌ تُنَاسِبُ الْإِدْلَالَ، وَالْبَيْعُ يَقْتَضِي الْإِعْزَازَ لَكِنَّ مَعْنَى النَّجَاسَةِ كَوْنُهَا مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ. (وَالْحِكْمَةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُعْتَبَرُ فِي كُلِّ فَرْدٍ لِخَفَائِهَا، وَعَدَمِ انْضِبَاطِهَا بَلْ فِي الْجِنْسِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ يَدُورُ مَعَهَا) أَيْ: يَدُورُ الْوَصْفُ مَعَ الْحِكْمَةِ. (أَوْ يَغْلِبُ وُجُودُهَا) أَيْ: وُجُودُ الْحِكْمَةِ (عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ الْوَصْفِ وَالْمُرَادُ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلْحِكْمَةِ دَائِمًا، وَفِي الْأَغْلَبِ (كَالسَّفَرِ مَعَ الْمَشَقَّةِ) أَيْ: لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْمَشَقَّةَ هِيَ الْحِكْمَةُ بَلْ الْحِكْمَةُ هِيَ دَفْعُ الضَّرَرِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ إنَّمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQإمَّا حَقِيقِيٌّ، وَإِمَّا إقْنَاعِيٌّ، وَأَحَالَهُ عَلَى الْغَيْرِ لِمَا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَلْ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْآمِدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ وَهُوَ أَنَّ الْمُنَاسِبَ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ ظَاهِرٍ مُنْضَبِطٍ يَلْزَمُ مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى وَفْقِهِ حُصُولُ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ شَرْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَقْصُودُ جَلْبَ مَنْفَعَةٍ أَوْ دَفْعَ مَفْسَدَةٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَرَتُّبِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَتْلِ، حُصُولُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ، وَهُوَ بَقَاءُ النُّفُوسِ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] . وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسِّرَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ بِهَذَا الْمَعْنَى أَيْ: الْمُنَاسِبُ هُوَ الَّذِي إذَا عُرِضَ عَلَى الْعَقْلِ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ حُصُولُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ يَقْبَلُهُ، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ الْآمِدِيُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلنَّاظِرِ لَا لِلْمُنَاظِرِ إذْ رُبَّمَا يَقُولُ الْخَصْمُ هَذَا مِمَّا لَا يَتَلَقَّاهُ عَقْلِي بِالْقَبُولِ فَلَا يَكُونُ مُنَاسِبًا بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ، وَلَيْسَ الِاحْتِجَاجُ بِقَبُولِ الْغَيْرِ عَلَيَّ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ عَامَّةُ الْعُقُولِ وَلِذَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ [أَبْحَاثٌ فِي الْعِلَّة] [الْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ] (قَوْلُهُ: الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ) اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ فَقِيلَ: الْأَصْلُ عَدَمُ التَّعْلِيلِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ التَّعْلِيلِ وَقِيلَ: الْأَصْلُ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ صَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ حَتَّى يُوجَدَ مَانِعٌ عَنْ الْبَعْضِ وَقِيلَ الْأَصْلُ التَّعْلِيلُ بِوَصْفٍ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُهُ مِنْ بَيْنِ الْأَوْصَافِ، وَنَسَبَ ذَلِكَ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَدْ اشْتَهَرَ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَحْكَامِ

يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ وُجُودِ الضَّرَرِ وَوُجُودُ الضَّرَرِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَشَقَّةُ مَوْجُودَةً ثُمَّ الْمَشَقَّةُ غَالِبَةُ الْوُجُودِ فِي السَّفَرِ فَتَرَتُّبُ الْحُكْمِ وَهُوَ الرُّخْصَةُ عَلَى الْوَصْفِ وَهُوَ السَّفَرُ يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ دَفْعُ الضَّرَرِ فِي الْأَغْلَبِ. (وَهُنَا أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ) عِنْدَ الْبَعْضِ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْهِرَّةُ لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» فَتَعْلِيلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - دَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّصَّ مُعَلَّلٌ، وَأَنَّ عَدَمَ نَجَاسَتِهَا مُعَلَّلٌ بِالطَّوَافِ (لِأَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ بِصِيغَتِهِ لَا بِالْعِلَّةِ؛ وَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِكُلِّ الْأَوْصَافِ مُحَالٌ، وَبِالْبَعْضِ مُحْتَمَلٌ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ هِيَ مُعَلَّلَةٌ بِكُلِّ وَصْفٍ إلَّا لِمَانِعٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ صَالِحٌ لِهَذَا) أَيْ: لِلتَّعْلِيلِ. (وَالنَّصُّ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ وَالْعِلَّةُ دَاعِيَةٌ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ إلَّا بِالْعِلَّةِ أَيْ: نَعَمْ أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُظْهِرٌ لِلْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ لَا أَنَّهُ دَاعٍ بَلْ الدَّاعِي إلَى الْحُكْمِ هُوَ الْعِلَّةُ. (وَالتَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ) جَوَابٌ آخَرُ عَنْ قَوْلِهِ: أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ بِصِيغَتِهِ أَيْ: نَعَمْ أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ فِي الْأَصْلِ لَا فِي الْفَرْعِ بَلْ فِي الْفَرْعِ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِسَبَبِ الْعِلَّةِ، وَنَحْنُ إنَّمَا نُعَلِّلُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ لَا فِي الْأَصْلِ. (وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُعَلَّلَةٌ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ مُمَيِّزٍ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَوْصَافِ مُتَعَدٍّ، وَبَعْضَهَا قَاصِرٌ فَلَوْ عَلَّلَ بِكُلِّ وَصْفٍ يَلْزَمُ التَّعْدِيَةُ وَعَدَمُهَا وَعِنْدَنَا لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ) أَيْ: مَعَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ النَّصَّ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِنْ النُّصُوصِ الْغَيْرِ الْمُعَلَّلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQهُوَ التَّعَبُّدُ دُونَ التَّعْلِيلِ. وَالْمُخْتَارُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ الْوَصْفَ الَّذِي هُوَ عِلَّةٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَا بُدَّ قَبْلَ التَّعْلِيلِ وَالتَّمْيِيزِ مِنْ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى هَذَا النَّصِّ الَّذِي يُرَادُ اسْتِخْرَاجُ عِلَّتِهِ مُعَلَّلٌ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ دُونَ الْإِلْزَامِ وَفِي الْمَذْهَبِ الثَّالِثِ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَلْ يَكْفِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ. وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِصِيغَتِهِ لَا بِعِلَّتِهِ إذْ الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ مَدْلُولَاتِ النَّصِّ، وَبِالتَّعْلِيلِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنْ الصِّيغَةِ إلَى الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ الصِّيغَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَأَيْضًا التَّعْلِيلُ إمَّا بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّعْدِيَةُ، وَيَمْتَنِعُ وُجُودُ جَمِيعِ أَوْصَافِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ ضَرُورَةُ التَّغَايُرِ وَالتَّمَايُزِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِمَّا بِالْبَعْضِ وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ عَيَّنَهُ الْمُجْتَهِدُ مُحْتَمِلٌ لِلْعِلِّيَّةِ وَعَدَمِهَا، وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ يُرَجِّحُ الْبَعْضَ. فَإِنْ قِيلَ هَاهُنَا قِسْمٌ آخَرُ هُوَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ قُلْنَا إمَّا أَنْ يُرَادَ كُلُّ وَصْفٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَسْتَلْزِمُ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ إلَى جَمِيعِ الْمَحَالِّ إذْ مَا مِنْ شَيْئَيْنِ إلَّا وَبَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ مَا فِي وَصْفٍ مَا، أَوْ يُرَادَ كُلُّ وَصْفٍ صَالِحٍ لِلْعِلِّيَّةِ، وَإِضَافَةِ الْحُكْمِ فَيُفْضِي إلَى التَّنَاقُضِ أَيْ: التَّعْدِيَةِ وَعَدَمِهَا؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَوْصَافِ مُتَعَدٍّ وَبَعْضَهَا

نَظِيرُهُ فِي حَدِيثِ الرِّبَا أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَدًا بِيَدٍ» يُوجِبُ التَّعْيِينَ. وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّبَا أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ) فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (شَرَطَ تَعْيِينَ الْآخَرِ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْفَضْلِ) فَإِنَّ لِلنَّقْدِ مَزِيَّةً عَلَى النَّسِيئَةِ. (وَقَدْ وَجَدْنَا هَذَا الْحُكْمَ مُتَعَدِّيًا حَتَّى لَا يَجُوزَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ إجْمَاعًا، وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّقَابُضَ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ فَإِذَا وَجَدْنَاهُ مُعَلَّلًا فِي رِبَا النَّسِيئَةِ نُعَلِّلُهُ فِي رِبَا الْفَضْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّ الرِّبَا هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي مِنْ الْعِوَضِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فِي رِبَا الْفَضْلِ كَبَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ الْحِنْطَةِ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهَا. أَمَّا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ، وَهُوَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ نَسِيئَةً فَشُبْهَةُ الْفَضْلِ قَائِمَةٌ لَا حَقِيقَةُ الْفَضْلِ هَذَا مَا قَالُوا. ـــــــــــــــــــــــــــــQقَاصِرٌ عَلَى مَا سَيَجِيءُ؛ فَلِذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ هَاهُنَا لِهَذَا الْقِسْمِ. وَوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْأَدِلَّةَ قَائِمَةٌ عَلَى حُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ نَصٍّ وَنَصٍّ، فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ هُوَ الْأَصْلُ، وَلَا يُمْكِنُ بِالْكُلِّ وَلَا بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِمَا مَرَّ فَتَعَيَّنَ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَصْفٍ إلَّا أَنْ يَقُومَ مَانِعٌ كَمُخَالَفَةِ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ مُعَارَضَةِ أَوْصَافٍ وَوَجْهُ الثَّالِثِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ لِمَا مَرَّ وَلَا بِكُلِّ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ قَاصِرٌ يُوجِبُ حَجْرَ الْقِيَاسِ وَقَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَعَدٍّ يُوجِبُ التَّعْدِيَةَ إلَى الْفَرْعِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَتَعَيَّنَ الْبَعْضُ، وَأَيْضًا اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْفُرُوعِ لِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْعِلَّةِ يَدُلُّ عَلَى إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ هُوَ الْبَعْضُ دُونَ الْمَجْمُوعِ أَوْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَالْبَعْضُ مُحْتَمَلٌ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُمَيِّزٍ، وَاحْتِيَاجُ التَّعْيِينِ وَالتَّمْيِيزِ إلَى الدَّلِيلِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَصْلِ هُوَ التَّعْلِيلُ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ الدَّلِيلِ الثَّانِي عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَلِهَذَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى جَوَابِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ. وَوَجْهُ الرَّابِعِ ظَاهِرٌ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ يُوجِبُ عَدَمَ التَّعْدِيَةِ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّعْدِيَةَ، وَلَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْمَنْصُوصِ فَعَلَى تَقْدِيرِ التَّعْلِيل بِكُلِّ وَصْفٍ ثَبَتَ التَّعْدِيَةُ بِالْمُتَعَدِّيَةِ، وَتَكُونُ الْقَاصِرَةُ لِتَأْكِيدِ الثُّبُوتِ فِي الْأَصْلِ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ادَّعَيْتُمْ مِنْ أَنَّ نَصَّ الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ مُعَلَّلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالثَّمَنِيَّةِ مَعَ تَعَدِّي وُجُوبِ التَّعْيِينِ إلَى الْمَطْعُومِ. (قَوْلُهُ: نَظِيرُهُ) أَيْ: نَظِيرُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ» أَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَدًا بِيَدٍ» يُوجِبُ التَّعْيِينَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ آلَةُ التَّعْيِينِ كَالْإِشَارَةِ، وَالْإِحْضَارِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّبَا أَيْضًا أَيْ: وُجُوبُ التَّعْيِينِ مِنْ بَابِ مَنْعِ الرِّبَا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا شَرَطَ فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ تَعْيِينَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ احْتِرَازًا عَنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ شَرَطَ فِي بَابِ الصَّرْفِ تَعْيِينَ الْبَدَلَيْنِ جَمِيعًا احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ الْفَضْلِ الَّذِي هُوَ رِبًا. كَمَا شَرَطَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقَدْرِ

وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِرَاطَ هَذَا الشَّرْطِ، وَهُوَ كَوْنُ هَذَا النَّصِّ مُعَلَّلًا فِي الْجُمْلَةِ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ إنْ تَوَقَّفَ عَلَى تَعْلِيلٍ آخَرَ فَالتَّعْلِيلُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ إنْ تَوَقَّفَ عَلَى تَعْلِيلٍ آخَرَ يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ يَثْبُتُ أَنَّ بَعْضَ التَّعْلِيلَاتِ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى هَذَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّا لَمَّا شَرَطْنَا فِي الْعِلَّةِ التَّأْثِيرَ، وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ جِنْسَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ نَوْعَهُ فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ نَوْعِهِ لَا يَثْبُتُ التَّأْثِيرُ إلَّا وَأَنْ يَثْبُتَ كَوْنُ هَذَا النَّصِّ مِنْ النُّصُوصِ الْمُعَلَّلَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ جِنْسَ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ نَوْعَهُ فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ أَوْ نَوْعِهِ ثَبَتَ ـــــــــــــــــــــــــــــQاحْتِرَازًا عَنْ حَقِيقَةِ الْفَضْلِ وَقَدْ وَجَدْنَا وُجُوبَ التَّعْيِينِ مُتَعَدِّيًا عَنْ بَيْعِ النَّقْدَيْنِ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى وَجَبَ التَّعْيِينُ فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ حِنْطَةٍ بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ لَا بِعَيْنِهِ مَعَ الْحُلُولِ وَذِكْرِ الْأَوْصَافِ، وَحَتَّى شَرَطَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ لِيَحْصُلَ التَّعْيِينُ فَثَبَتَ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَعْدِيَةِ وُجُوبِ التَّعْيِينِ إلَى غَيْرِ النَّقْدَيْنِ أَنَّ نَصَّ الرِّبَا مُعَلَّلٌ فِي حَقِّ وُجُوبِ التَّعْيِينِ إذْ لَا تَعْدِيَةَ بِدُونِ التَّعْلِيلِ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ حَتَّى يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ؛ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ مَبْنَى تَعْدِيَةِ وُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ أَشَدُّ ثُبُوتًا وَتَحَقُّقًا مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ مَبْنَى تَعْدِيَةِ وُجُوبِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الْفَضْلِ بِاعْتِبَارِ مَزِيَّةِ النَّقْدِ عَلَى النَّسِيئَةِ، وَحَقِيقَةُ الشَّيْءِ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ مِنْ شُبْهَتِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَعْلِيلَ هَذَا النَّصِّ فِي رِبَا النَّسِيئَةِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ مُعَلَّلًا فِي رِبَا الْفَضْلِ، وَكَوْنُهُ مُعَلَّلًا فِي رِبَا النَّسِيئَةِ مُسْتَنِدٌ إلَى الْإِجْمَاعِ أَوْ النَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الرِّبَا، وَالرِّيبَةِ» ، وَالْمُرَادُ بِالرِّيبَةِ شُبْهَةُ الرِّبَا وَفِي بَيْعِ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ شُبْهَةُ الرِّبَا. فَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ النَّصِّ مُعَلَّلًا فِي الْجُمْلَةِ قَدْ يَكُونُ نَصًّا أَوْ إجْمَاعًا، وَقَدْ يَكُونُ تَعْلِيلًا آخَرَ وَيَنْتَهِي بِالْآخِرَةِ إلَى نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمْ مَا يُوهِمُ أَنَّ كُلَّ تَعْلِيلٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَعْلِيلٍ آخَرَ حَتَّى يُتَوَهَّمَ وُرُودُ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ لُزُومِ التَّسَلْسُلِ أَوْ اسْتِغْنَاءِ بَعْضِ التَّعْلِيلَاتِ عَنْ كَوْنِ النَّصِّ مُعَلَّلًا. وَتَقْرِيرُ جَوَابِهِ أَنَّا نَشْتَرِطُ فِي الْعِلَّةِ التَّأْثِيرَ أَيْ: اعْتِبَارَ الشَّارِعِ جِنْسَهُ أَوْ نَوْعَهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ نَوْعِهِ فَكُلَّمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ ثَبَتَ تَأْثِيرُهُ، وَكُلَّمَا ثَبَتَ تَأْثِيرُهُ ثَبَتَ كَوْنُ النَّصِّ مُعَلَّلًا فِي الْجُمْلَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ عِلَّةً لِنَوْعِ الْحُكْمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ، أَوْ لِجِنْسِهِ وَعِلَّةُ الْجِنْسِ عِلَّةٌ لِلنَّوْعِ، وَرُبَّمَا يُقَالُ إنَّ اسْتِخْرَاجَ الْعِلَّةِ وَاعْتِبَارَ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً أَوْ غَيْرَ مُؤَثِّرَةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ النَّصِّ مُعَلَّلًا فَإِثْبَاتُ ذَلِكَ بِهِ دَوْرٌ. (قَوْلُهُ هَذَا مَا قَالُوا) إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِمَا تَوَهَّمَ مِنْ وُرُودِ الْإِشْكَالِ؛ وَلِأَنَّ إثْبَاتَ التَّعْلِيلِ فِي رِبَا النَّسِيئَةِ كَافٍ وَكَوْنِ النَّصِّ مِنْ

[الثاني كون العلة وصفا لازما]

أَنَّ هَذَا النَّصَّ مِنْ النُّصُوصِ الْمُعَلَّلَةِ. (الثَّانِي يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ وَصْفًا لَازِمًا كَالثَّمَنِيَّةِ لِلزَّكَاةِ فِي الْمَضْرُوبِ عِنْدَنَا) فَإِنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ خُلِقَا ثَمَنًا، وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُمَا أَصْلًا (حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الْحُلِيِّ وَلِلرِّبَا عِنْدَهُ وَعَارِضًا كَالْكَيْلِ لِلرِّبَا) فَإِنَّ الْكَيْلَ لَيْسَ بِلَازِمٍ حِسًّا لِلْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ فَإِنَّهُمَا قَدْ يُبَاعَانِ وَزْنًا (وَجَلِيًّا وَخَفِيًّا عَلَى مَا يَأْتِي وَاسْمًا) أَيْ: اسْمَ جِنْسٍ «كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْمُسْتَحَاضَةِ أَنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» ، وَهَذَا اسْمٌ مَعَ وَصْفٍ عَارِضٍ) الدَّمُ اسْمُ جِنْسٍ وَالِانْفِجَارُ وَصْفٌ عَارِضٌ، (وَحُكْمًا كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ» ) قَاسَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إجْزَاءِ قَضَاءِ الْحَجِّ عَنْ الْأَبِ عَلَى إجْزَاءِ قَضَاءِ دَيْنِ الْعِبَادِ عَنْ الْأَبِ وَالْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا دَيْنًا، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لُزُومُ حَقٍّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنُّصُوصِ الْمُعَلَّلَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى بَاقِي الْمُقَدِّمَاتِ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ التَّعْيِينِ وَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهَا، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْلِيلِ، وَالتَّعْدِيَةِ عَدَمَ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا مُنَاقَشَةَ فِي الْمِثَالِ وَيَكْفِي فِيهِ الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ [الثَّانِي كَوْنُ الْعِلَّة وَصْفًا لَازِمًا] (قَوْلُهُ: الثَّانِي) إشَارَةٌ إلَى نَفْيِ شَرَائِطَ اعْتَبَرَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْعِلَّةِ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ وَصْفًا لَازِمًا جَلِيًّا مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ وَلَا حُكْمٍ شَرْعِيٍّ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّعْلِيلُ بِالْعَارِضِ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَهُ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ صَلَاحِيَةُ الْمَحَلِّ لِلِاتِّصَافِ بِهِ وَلَا بِالْخَفِيِّ كَرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ وَجَوَابُهُ يَأْتِي فِي فَصْلِ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ أَنَّ الْخَفِيَّ قَدْ يَكُونُ أَقْوَى، وَالِاعْتِبَارُ بِالْقُوَّةِ أَوْلَى، وَلَا بِغَيْرِ الْمَنْصُوصِ لِمَا سَيَأْتِي مَعَ جَوَابِهِ وَلَا بِالْمُرَكَّبِ مِنْ وَصْفَيْنِ فَصَاعِدًا، وَإِلَّا لَكَانَتْ الْعِلَّةُ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى الْمَجْمُوعِ ضَرُورَةَ أَنَّا نَعْقِلُ الْمَجْمُوعَ، وَنَجْهَلُ كَوْنَهُ عِلَّةً بِنَاءً عَلَى الذُّهُولِ أَوْ الْحَاجَةِ إلَى النَّظَرِ، وَالْمَجْهُولُ غَيْرُ الْمَعْلُومِ وَاللَّازِمُ وَهُوَ كَوْنُ الْعِلَّةِ صِفَةَ الْمَجْمُوعِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْكُلِّ إنْ لَمْ تَقُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَجْزَاءِ لَمْ تَكُنْ صِفَةً لَهُ، وَإِنْ قَامَتْ فَإِمَّا بِكُلِّ جُزْءٍ فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةً، وَالْمُقَدَّرُ خِلَافُهُ وَإِمَّا بِجُزْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ هُوَ الْعِلَّةُ، وَلَا مَدْخَلَ لِسَائِرِ الْأَجْزَاءِ وَإِمَّا بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ، وَحِينَئِذٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ جِهَةٌ وَاحِدَةٌ فَظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَتْ يُنْقَلُ الْكَلَامُ إلَيْهَا وَإِلَى كَيْفِيَّةِ قِيَامِهَا بِالْمَجْمُوعِ وَيَتَسَلْسَلُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً إلَّا قَضَاءَ الشَّارِعِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَهَا رِعَايَةً لِمَصْلَحَةٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةً لَهُ بَلْ جَعَلَهُ الشَّارِعُ مُتَعَلِّقًا بِهِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْعِلِّيَّةُ وِجْهَةُ، الْوِحْدَةِ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ مَتَى يَنْقَطِعُ التَّسَلْسُلُ فِيهَا بِانْقِطَاعِ الِاعْتِبَارِ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مُتَقَدِّمٌ بِالزَّمَانِ عَلَى مَا فُرِضَ مَعْلُولًا فَيَلْزَمُ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ، أَوْ مُتَأَخِّرٌ فَيَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْمَعْلُولِ أَوْ مُقَارِنٌ فَيَلْزَمُ التَّحَكُّمُ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالْعِلِّيَّةِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ تَأْثِيرَ

[مسألة التعليل بالعلة القاصرة]

فِي الذِّمَّةِ. (وَكَقَوْلِنَا فِي الْمُدَبَّرِ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا يُبَاعُ كَأُمِّ الْوَلَدِ) فِيهِ قِيَاسُ عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْعِلَّةُ كَوْنُهُمَا مَمْلُوكَيْنِ تَعَلَّقَ عِتْقُهُمَا بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى، وَهَذَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَإِنَّمَا قَالَ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى احْتِرَازًا عَنْ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ كَقَوْلِهِ إنْ مِتُّ فِي هَذَا الْمَرَضِ فَأَنْتَ حُرٌّ (وَمُرَكَّبًا كَالْكَيْلِ وَالْجِنْسِ وَغَيْرَ مُرَكَّبٍ، وَهَذَا ظَاهِرٌ وَمَنْصُوصَةٌ وَغَيْرُ مَنْصُوصَةٍ كَمَا يَأْتِي) . (مَسْأَلَةٌ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ عِنْدَنَا) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ فَإِنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةَ فَهِيَ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرَ مُتَعَدِّيَةٍ عَنْهُمَا إذْ غَيْرُ الْحَجَرَيْنِ لَمْ يُخْلَقْ ثَمَنًا. وَالْخِلَافُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لَيْسَ بِمَعْنَى الْإِيجَادِ وَالتَّحْصِيلِ حَتَّى يَمْتَنِعَ التَّقَدُّمُ أَوْ التَّخَلُّفُ، وَلَوْ سُلِّمَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ صَالِحًا لِلْعِلِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ أَوْ يَكُونَ الثَّابِتُ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَلْزَمُ التَّحَكُّمُ فَظَهَرَ بُطْلَانُ الْأَدِلَّةِ عَلَى اشْتِرَاطِ الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ حُجِّيَّةُ الْقِيَاسِ وَصِحَّةُ التَّعْلِيلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ اللَّازِمِ وَالْعَارِضِ أَوْ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَثَبَتَ الْمَطْلُوبُ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْعِلَّةِ اسْمَ جِنْسٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِمَعْنَاهُ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ مِثْلَ كَوْنِ الْخَارِجِ مِنْ الْمُسْتَحَاضَةِ دَمَ عِرْقٍ مُنْفَجِرٍ لَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِنَفْسِ الِاسْمِ الْمُخْتَلَفِ بِاخْتِلَافِ اللُّغَاتِ [مَسْأَلَةٌ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ] (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ، وَهُوَ أَنَّ النَّصَّ إذَا كَانَ مَعْقُولًا فَالْحُكْمُ ثَابِتُ الْعِلَّةِ دُونَ النَّصِّ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْعِلَّةِ إلَّا مَا ثَبَتَ بِهِ الشَّيْءُ وَلَا شَيْءَ هَاهُنَا يَثْبُتُ بِهَا سِوَى الْحُكْمِ، وَلِذَا يُعَدَّى إلَى الْفَرْعِ بِأَنْ يُقَالَ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ بِالْعِلَّةِ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْفَرْعِ فَيَثْبُتُ فِيهِ أَيْضًا وَعَدَمُ التَّعَدِّي لَا يَصْلُحُ مَانِعًا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الْمَنْصُوصَةِ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ سَوَاءٌ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، أَوْ لَمْ يَكُنْ عُلِّلَ أَوْ لَمْ يُعَلَّلْ فَيُعَدُّ التَّعْلِيلُ لَوْ أُضِيفَ إلَى الْعِلَّةِ لَزِمَ بُطْلَانُ النَّصِّ فَالْمُثْبِتُ لِلْحُكْمِ هُوَ النَّصُّ. وَمَعْنَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ كَوْنُهُ بَاعِثًا لِلشَّارِعِ عَلَى شَرْعِ الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ التَّعْدِيَةُ إلَى الْفَرْعِ لِمَا فِي التَّعْلِيلِ مِنْ تَعْمِيمِ النَّصِّ وَشُمُولِهِ لِلْفَرْعِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِ مُثْبِتًا لِحُكْمِ الْفَرْعِ وَقِيلَ: حُكْمُ الْأَصْلِ مُضَافٌ إلَى النَّصِّ فِي نَفْسِهِ، وَإِلَى الْعِلَّةِ فِي حَقِّ الْفَرْعِ وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ كَافٍ فِي الْقِيَاسِ. (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ) احْتِجَاجٌ عَلَى امْتِنَاعِ التَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ أَيْ: وَإِنَّمَا جَازَ التَّعْلِيلُ بِغَيْرِ الْمَنْصُوصَةِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا أَمَرَ بِالِاعْتِبَارِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّعْلِيلِ مَعَ نُدْرَةِ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ كَانَ ذَلِكَ إذْنًا لِبَيَانِ عِلِّيَّةِ الْأَحْكَامِ؛ لِأَجْلِ الْقِيَاسِ فَيَبْقَى بَيَانُ الْعِلِّيَّةِ بِالْقَاصِرَةِ عَلَى الِامْتِنَاعِ حَتَّى يَرِدَ بِهَا نَصُّ الشَّارِعِ. (قَوْلُهُ إذْ الْفَائِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ لَيْسَتْ إلَّا إثْبَاتُ الْحُكْمِ) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنْ أُرِيدَ بِالْفَائِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ مَا يَكُونُ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْفِقْهِ وَنِسْبَةٌ إلَيْهِ فَلَا نُسَلِّمُ انْحِصَارَهَا فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ سُرْعَةُ الْإِذْعَانِ، وَزِيَادَةُ الِاطْمِئْنَانِ بِالْأَحْكَامِ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ

فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مُسْتَنْبَطَةً أَمَّا إذَا كَانَتْ مَنْصُوصَةً فَيَجُوزُ عِلِّيَّتُهَا اتِّفَاقًا (لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ) سَوَاءٌ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى أَوْ لَا (وَإِنَّمَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِلِاعْتِبَارِ إذْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ بَيَانُ عِلِّيَّةِ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا قَالُوا أَنَّ فَائِدَةَ التَّعْلِيلِ لَا تَنْحَصِرُ فِي هَذَا) أَيْ: فِي الِاعْتِبَارِ. (وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَصِيرَ الْحُكْمُ أَقْرَبَ إلَى الْقَبُولِ لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ الْفَائِدَةُ الْفِقْهِيَّةُ لَيْسَتْ إلَّا إثْبَاتُ الْحُكْمِ، فَإِنْ قِيلَ التَّعْدِيَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلَى التَّعْلِيلِ فَتَوَقُّفُهُ عَلَيْهَا دَوْرٌ. قُلْنَا: يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِهِ بِأَنَّ الْوَصْفَ حَاصِلٌ فِي الْغَيْرِ) أَيْ: التَّعْلِيلُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّعْدِيَةِ بَلْ يَتَوَقَّفُ التَّعْلِيلُ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ حَاصِلٌ فِي غَيْرِ مَوْرِدِ النَّصِّ. وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ قَدْ تَحَيَّرُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاسْتَبْعَدُوا مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهَا تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ الْحَقَّ أَنْ يَتَفَكَّرُوا أَوَّلًا فِي اسْتِنْبَاطِ الْعِلَّةِ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ مَا هِيَ فَإِذَا حَصَلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالْعِلَّةِ، فَإِنْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً مِنْ الْأَصْلِ أَيْ: حَاصِلَةً فِي غَيْرِ صُورَةِ الْأَصْلِ يَتَعَدَّى الْحُكْمُ، وَإِلَّا فَلَا بَلْ يَقْتَصِرُ الْحُكْمُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ، أَوْ مَوْرِدِ الْإِجْمَاعِ فَيَقْتَصِرُ الْحُكْمُ. أَمَّا تَوَقُّفُ التَّعْلِيلِ عَلَى التَّعْدِيَةِ أَوْ عَلَى الْعِلْمِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ حَاصِلَةٌ فِي غَيْرِ الْأَصْلِ فَلَا مَعْنَى لَهُ، فَأَقُولُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّأْثِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِخَالَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَمَعْنَى التَّأْثِيرِ اعْتَبَرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي شَرْعِيَّتِهَا. وَإِنْ أُرِيدَ الْمَسْأَلَةُ الْفِقْهِيَّةُ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا لِأَجْلِهَا؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِفَائِدَةٍ أُخْرَى مُتَعَلِّقَةٍ بِالشَّرْعِ فَلَا يَلْزَمُ الْعَبَثُ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ دَلِيلَ الشَّرْعِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ عِلْمًا أَوْ عَمَلًا، وَالتَّعْلِيلُ بِالْقَاصِرَةِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَلَا الْعَمَلُ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى الْحِكْمَةِ مِنْ بَابِ الْعِلْمِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ التَّعَلُّلُ الْمُفِيدُ لِلظَّنِّ. وَجَوَابُهُ: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ لَيْسَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَوْ سُلِّمَ فَيُفِيدُ الظَّنَّ بِالْحِكْمَةِ، وَالْمَصْلَحَةِ وَهُوَ يُوجِبُ سُرْعَةَ الْإِذْعَانِ وَشِدَّةَ الِاطْمِئْنَانِ، وَأَيْضًا مَنْقُوضٌ بِالتَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الْمَنْصُوصَةِ بِنَصٍّ ظَنِّيٍّ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلنِّزَاعِ فِي التَّعْلِيلِ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الْغَيْرِ الْمَنْصُوصَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عَدَمُ الْجَزْمِ بِذَلِكَ فَلَا نِزَاعَ، وَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ الظَّنِّ فَبَعْدَمَا غَلَبَ عَلَى رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْقَاصِرُ، وَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ ذَلِكَ بِأَمَارَةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي اسْتِنْبَاطِ الْعِلَلِ لَمْ يَصِحَّ نَفْيُ الظَّنِّ ذَهَابًا إلَى أَنَّهُ مُجَرَّدُ وَهْمٍ عَلَى مَا زَعَمَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ رُجْحَانِ ذَلِكَ أَوْ عِنْدَ تَعَارُضِ الْقَاصِرِ وَالْمُتَعَدِّي فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّ الْعِلَّةَ هُوَ الْوَصْفُ الْمُتَعَدِّي. (قَوْلُهُ: فَإِنْ قِيلَ) تَقْرِيرُ السُّؤَالِ لَوْ كَانَتْ صِحَّةُ التَّعْلِيلِ مَوْقُوفَةً عَلَى تَعْدِيَةِ الْعِلَّةِ لَمْ تَكُنْ تَعْدِيَتُهَا مَوْقُوفَةً عَلَى صِحَّتِهَا لِامْتِنَاعِ الدَّوْرِ، وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى تَوَقُّفِ التَّعْدِيَةِ عَلَى ثُبُوتِ الْعِلِّيَّةِ الْمَوْقُوفِ عَلَى صِحَّتِهَا وَتَقْرِيرُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَى التَّعْلِيلِ هُوَ التَّعْدِيَةُ بِمَعْنَى إثْبَاتِ حُكْمٍ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ، وَالتَّعْلِيلُ

[مسألة التعليل بعلة اختلف في وجودها في الفرع أو الأصل]

الشَّارِعُ جِنْسَ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعَهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ نَوْعِهِ فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ مُقْتَصِرًا عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ غَيْرَ حَاصِلٍ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لَا يَحْصُلُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالْعِلَّةِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ نَوْعَ الْعِلَّةِ أَوْ جِنْسَهَا لَمَّا لَمْ يُوجَدْ فِي صُورَةٍ أُخْرَى لَا يُدْرَى أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ أَوْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا كَانَ مُجَرَّدُ الْإِخَالَةِ كَافِيًا يَحْصُلُ الْوُقُوفُ عَلَى الْعِلَّةِ مَعَ الِاقْتِصَارِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَحَاصِلُهُ الْخِلَافُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَصْفُ مُقْتَصِرًا عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ يَمْتَنِعُ الْوُقُوفُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ مَبْنَى الْخِلَافِ أَفَادَ عَدَمَ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْوَصْفِ الْقَاصِرِ عِنْدَنَا وَصِحَّتَهُ عِنْدَهُ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ وَصْفَانِ قَاصِرٌ وَمُتَعَدٍّ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَنَّ الْقَاصِرَ عِلَّةٌ هَلْ يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ بِالْمُتَعَدِّي أَمْ لَا؟ فَعِنْدَهُ يَمْنَعُ، وَعِنْدَنَا لَا فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَارَ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ الْقَاصِرِ فَإِنَّهَا مُجَرَّدُ وَهْمٍ لَا غَلَبَةَ ظَنٍّ فَلَا تُعَارَضُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِغَلَبَةِ الْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي الْمُؤَثِّرِ. كَمَا أَنَّ تَوَهُّمَ أَنَّ لِخُصُوصِيَّةِ الْأَصْلِ تَأْثِيرًا فِي الْحُكْمِ فَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَمْنَعُ التَّعْلِيلَ بِالْوَصْفِ الْمُتَعَدِّي الْمُؤَثِّرِ فَكَذَا هَاهُنَا إلَّا إذَا كَانَ الْوَصْفُ الْقَاصِرُ يُثْبِتُ عِلِّيَّتَهُ بِالنَّصِّ كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ عِلِّيَّتُهُ، وَيَكُونُ مَانِعًا مِنْ عِلِّيَّةِ وَصْفٍ آخَرَ فَإِنْ قِيلَ تَعْلِيلُكُمْ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَوْقُوفٌ عَلَى التَّعْدِيَةِ بِمَعْنَى الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْوَصْفِ فِي غَيْرِ مَوْرِدِ النَّصِّ فَلَا دَوْرَ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ دَوْرُ مَعِيَّةٍ لَا دَوْرُ تَقَدُّمٍ إذْ الْعِلَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا مُتَعَدِّيَةً لَا أَنَّ كَوْنَهَا مُتَعَدِّيَةً يَثْبُتُ أَوَّلًا ثَمَّ تَكُونُ عِلَّةً (قَوْلُهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّأْثِيرِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ اقْتِصَارَ الْوَصْفِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَعَدَمَ حُصُولِهِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى مَعَ عَدَمِ النَّصِّ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ لَا يُنَافِي وُجُودَ جِنْسِ الْوَصْفِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَاعْتِبَارُ الشَّارِعِ إيَّاهُ جِنْسَ الْحُكْمِ بِأَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ. (قَوْلُهُ: وَيَكُونُ مَانِعًا مِنْ عِلِّيَّةِ وَصْفٍ آخَرَ) قِيلَ: عِلِّيَّةٌ لَا تَزَاحُمَ فِي الْعِلَلِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِالنَّصِّ أَوْ غَيْرِهِ لِلْحُكْمِ عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ، وَأُخْرَى مُتَعَدِّيَةٌ، وَيَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِاعْتِبَارِ الْمُتَعَدِّيَةِ دُونَ الْقَاصِرَةِ. [مَسْأَلَةٌ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ اُخْتُلِفَ فِي وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ أَوْ الْأَصْلِ] (قَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَادَ إعْتَاقَهُ) يَعْنِي: إنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ ثُمَّ يَقَعُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِإِعْتَاقٍ قَصْدِيٍّ وَاقِعٍ بَعْدَ الْمِلْكِ فَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ أَعْنِي: الْأَخَ بَلْ هُوَ يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ. (قَوْلُهُ أَوْ ثَبَتَ) عَطْفٌ عَلَى اُخْتُلِفَ أَيْ: لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ اُخْتُلِفَ فِي عِلِّيَّتِهَا مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ كَالِاخْتِلَافِ فِي أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْمُكَاتَبِ هُوَ كَوْنُهُ عَبْدًا أَوْ الْجَهْلُ بِأَنَّ مُسْتَحِقَّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ هُوَ السَّيِّدُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ هَلْ يَفِي بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ أَمْ لَا؟ (قَوْلُهُ أَدَاءُ بَعْضِ الْبَدَلِ عِوَضٌ) ، وَالْعِوَضُ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ التَّكْفِيرِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ. فَإِنْ قُلْت

[الثالث تعرف العلة بأمور]

بِالثَّمَنِيَّةِ لِلزَّكَاةِ فِي الْمَضْرُوبِ تَعْلِيلٌ بِالْوَصْفِ الْقَاصِرِ قُلْنَا: لَا بَلْ مُتَعَدٍّ إلَى الْحُلِيِّ فَإِنْ قِيلَ: تَعْدِيَتُهُ إلَى الْحُلِيِّ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ وَصْفًا مُؤَثِّرًا وَقَدْ جَعَلْتُمْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّأْثِيرِ. قُلْنَا مَعْنَى قَوْلِنَا: أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ عِلَّةٌ لِلزَّكَاةِ فِي الْمَضْرُوبِ هُوَ أَنَّ كَوْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ خُلِقَا ثَمَنَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا غَيْرُ مَصْرُوفَيْنِ إلَى الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ بَلْ هُمَا مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ خِلْقَةً فَيَكُونَانِ مِنْ الْمَالِ النَّامِي، وَتَأْثِيرُ الْمَالِ النَّامِي فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عُرِفَ شَرْعًا فَمَعْنَى كَوْنِ الثَّمَنِيَّةِ عِلَّةً لِلزَّكَاةِ أَنَّ الثَّمَنِيَّةَ مِنْ جُزْئِيَّاتِ كَوْنِ الْمَالِ نَامِيًا فَتَكُونُ عِلَّةً مُؤَثِّرَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ جِنْسَهُ فِي حُكْمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَالْعِلَّةُ فِي الْحَقِيقَةِ النَّمَاءُ لَا الثَّمَنِيَّةُ (مَسْأَلَةٌ وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ اُخْتُلِفَ فِي وُجُودِهَا فِي الْفَرْعِ أَوْ فِي الْأَصْلِ كَقَوْلِهِ فِي الْأَخِ أَنَّهُ شَخْصٌ يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقِهِ فَلَا يَعْتِقُ إذَا مَلَكَهُ كَابْنِ الْعَمِّ فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ عِتْقَهُ إذَا مَلَكَهُ لَا يُفِيدُهُ) ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي ابْنِ الْعَمِّ (وَإِنْ أَرَادَ إعْتَاقَهُ بَعْدَمَا مَلَكَهُ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ فِي الْأَخِ وَكَقَوْلِهِ إنْ تَزَوَّجْت زَيْنَبَ فَكَذَا تَعْلِيقٌ فَلَا يَصِحُّ بِلَا نِكَاحٍ. كَمَا لَوْ قَالَ زَيْنَبُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ وُجُودَ التَّعَلُّقِ فِي الْأَصْلِ، أَوْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الْعِلَّةِ كَقَوْلِهِ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ إنَّهُ عَبْدٌ فَلَا يُقْتَلُ بِالْحُرِّ كَالْمُكَاتَبِ) أَيْ: مُكَاتَبٌ قُتِلَ وَلَهُ مَالٌ يَفِي ـــــــــــــــــــــــــــــQهَذَا لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّعْلِيلِ بِوَصْفٍ يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ إذْ أَدَاءُ بَعْضِ الْبَدَلِ لَا يُوجَدُ فِي الْفَرْعِ، وَهُوَ الْمُكَاتَب الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ عِلَّةً؟ قُلْتُ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِعِلَّةٍ مَعَ وَصْفٍ يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ فَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِوَصْفٍ لَيْسَتْ صِلَةً لِلتَّعْلِيلِ بَلْ هِيَ بَاءُ الْمُصَاحَبَةِ وَحِينَئِذٍ لَا إشْكَالَ. [الثَّالِثُ تُعْرَفُ الْعِلَّةُ بِأُمُورٍ] [الْأَوَّلُ وَالثَّانِي النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ] (قَوْلُهُ الثَّالِثُ) لَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ عِلَّةَ حُكْمٍ خَبَرِيٍّ غَيْرُ ضَرُورِيٍّ، فَلَا بُدَّ فِي إثْبَاتِهِ مِنْ دَلِيلٍ وَلَهُ مَسَالِكُ صَحِيحَةٌ، وَمَسَالِكُ يُتَوَهَّمُ صِحَّتُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهُمَا وَلِمَا يَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمَسَالِكُ الصَّحِيحَةُ ثَلَاثَةٌ: النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ وَالْمُنَاسَبَةُ ثُمَّ النَّصُّ إمَّا صَرِيحٌ وَهُوَ مَا دَلَّ بِوَضْعِهِ وَإِمَّا إيمَاءٌ وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ، فَالصَّرِيحُ لَهُ مَرَاتِبُ: مِنْهَا مَا صُرِّحَ فِيهِ بِالْعِلِّيَّةِ مِثْلُ الْعِلَّةِ كَذَا أَوْ لِأَجْلِ كَذَا أَوْ كَيْ يَكُونَ كَذَا، وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِيهِ حَرْفٌ ظَاهِرٌ فِي التَّعْلِيلِ مِثْلُ لِكَذَا أَوْ بِكَذَا وَإِنْ كَانَ كَذَا فَإِنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ قَدْ تَجِيءُ لِغَيْرِ الْعِلِّيَّةِ كَلَامِ الْعَاقِبَةِ وَ " بَاءِ " الْمُصَاحَبَةِ وَ " إنْ " الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي مُجَرَّدِ الشَّرْطِ وَالِاسْتِصْحَابِ، وَمِنْهَا مَا دَخَلَ فِيهِ الْفَاءُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ إمَّا فِي الْوَصْفِ مِثْلُ «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُحْشَرُونَ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخَبُ دَمًا» وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ نَحْوَ {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّرْتِيبِ وَالْبَاعِثُ مُقَدَّمٌ فِي التَّعَقُّلِ مُتَأَخِّرٌ فِي الْخَارِجِ فَيَجُوزُ دُخُولُ الْفَاءِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا مُلَاحَظَةً لِلِاعْتِبَارَيْنِ، وَهَذَا دُونَ مَا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْعِلِّيَّةِ اسْتِدْلَالِيَّةٌ،

بِبَدَلِ الْكِتَابِ وَلَهُ وَارِثٌ غَيْرُ سَيِّدِهِ (فَنَقُولُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ جَهَالَةُ الْمُسْتَحِقِّ لَا كَوْنُهُ عَبْدًا. مَسْأَلَةٌ: وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِوَصْفٍ يَقَعُ بِهِ الْفَرْقُ كَقَوْلِهِ مُكَاتَبٌ فَلَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِإِعْتَاقِهِ كَمَا إذَا أَدَّى بَعْضَ الْبَدَلِ فَنَقُولُ أَدَاءُ بَعْضِ الْبَدَلِ عِوَضٌ مَانِعٌ) . (الثَّالِثُ: تُعْرَفُ الْعِلَّةُ بِأُمُورٍ أَوَّلُهَا النَّصُّ إمَّا صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] يُقَالُ صَارَ الْفَيْءُ دُولَةً بَيْنَهُمْ يَتَدَاوَلُونَهُ بِأَنْ يَكُونَ مَرَّةً لِهَذَا وَمَرَّةً لِذَلِكَ (وقَوْله تَعَالَى {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] وقَوْله تَعَالَى {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] وَغَيْرِهَا مِنْ أَلْفَاظِ التَّعْلِيلِ أَوْ إيمَاءً بِأَنْ يَتَرَتَّبَ الْحُكْمُ عَلَى الْوَصْفِ بِالْفَاءِ فِي أَيِّهِمَا كَانَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا» وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ) لِأَنَّ الْفَاءَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ لِلتَّعْلِيلِ فَصَارَ كَاللَّامِ فَمَعْنَاهُ لِأَنَّهُ يُحْشَرُ (وَكَذَا فِي لَفْظِ الرَّاوِي نَحْوُ «زَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ» أَوْ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى الْمُشْتَقِّ نَحْوُ: أَكْرِمْ الْعَالِمَ أَوْ يَقَعُ جَوَابًا نَحْوُ: «وَاقَعْتُ امْرَأَتِي فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَقَالَ أَعْتِقْ رَقَبَةً» أَوْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لَمْ يُفِدْ نَحْوُ: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ» وَالْحَقُّ أَنَّ هَذَا صَرِيحٌ) إذْ كَلِمَةُ إنَّ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ تَكُونُ لِتَعْلِيلِ الْأُولَى بِالثَّانِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ إنَّ فِي مِثْلِ هَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمِنْهَا مَا دَخَلَ فِيهِ الْفَاءُ فِي لَفْظِ الرَّاوِي مِثْلَ سَهَا فَسَجَدَ وَزَنَى مَاعِزٌ فَرُجِمَ وَهَذَا دُونَ مَا قَبْلَهُ لِاحْتِمَالِ الْغَلَطِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْفِي الظُّهُورَ، وَأَمَّا الْإِيمَاءُ فَهُوَ أَنْ يُقْرَنُ بِالْحُكْمِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَوْ نَظِيرُهُ التَّعْلِيلَ لَكَانَ بَعِيدًا فَيُحْمَلُ عَلَى التَّعْلِيلِ دَفْعًا لِلِاسْتِبْعَادِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ فَإِنَّ غَرَضَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمُوَاقَعَةِ بَيَانُ حُكْمِهَا وَذِكْرُ الْحُكْمِ جَوَابٌ لَهُ لِيَحْصُلَ غَرَضُهُ لِئَلَّا يَلْزَمَ إخْلَاءُ السُّؤَالِ عَنْ الْجَوَابِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ فَيَكُونَ السُّؤَالُ مُقَدَّرًا فِي الْجَوَابِ كَأَنَّهُ قَالَ وَاقَعْتَ فَكَفِّرْ وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْوِقَاعَ عِلَّةٌ لِلْإِعْتَاقِ إلَّا أَنَّ الْفَاءَ لَيْسَتْ مُحَقَّقَةً لِيَكُونَ صَرِيحًا بَلْ مُقَدَّرَةً فَيَكُونُ إيمَاءً مَعَ احْتِمَالِ عَدَمِ قَصْدِ الْجَوَابِ كَمَا يُقَالُ الْعَبْدُ طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَيَقُولُ السَّيِّدُ اسْقِنِي مَاءً وَكَحَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ فَإِنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَذَكَرَ نَظِيرَهُ وَهُوَ دَيْنُ الْآدَمِيِّ فَنَبَّهَ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً لِلنَّفْعِ وَإِلَّا لَزِمَ الْعَبَثُ. وَالْإِيمَاءُ لَهُ أَيْضًا مَرَاتِبُ كَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ مِثْلَ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فَإِنَّهُ يُحْشَرُ مُلَبِّيًا» مِنْ قَبِيلِ التَّصْرِيحِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - دُونَ الْإِيمَاءِ عَلَى مَا وَقَعَ فِي الْمَحْصُولِ، وَأَمَّا كَلِمَةُ إنَّ بِدُونِ الْفَاءِ مِثْلُ «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ» فَالْمَذْكُورُ فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ أَنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الصَّرِيحِ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنَّهَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاقِعِ تَقَعُ مَوْقِعَ الْفَاءِ وَتُغْنِي غِنَاءَهَا وَجَعَلَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ قَبِيلِ الْإِيمَاءِ نَظَرًا إلَى أَنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لِلتَّعْلِيلِ

[الثالث المناسبة]

الْكَلَامِ لِلتَّعْلِيلِ أَوْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ لِأَنَّ وَالْحَذْفُ غَيْرُ الْإِيمَاءِ (وَنَحْوُ: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ» الْحَدِيثَ أَوْ يُفَرَّقُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِحَسَبِ وَصْفٍ مَعَ ذِكْرِهِمَا نَحْوُ: لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ) فَإِنَّهُ فَرَّقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ (بِحَسَبِ وَصْفِ الْفُرُوسِيَّةِ وَضِدِّهَا) فَقَوْلُهُ مَعَ ذِكْرِهِمَا إمَّا أَنْ يُرْجِعَ الضَّمِيرَ إلَى الْحُكْمَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ فِي الْحُكْمِ فَفُهِمَ الْحُكْمَانِ فَيَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهِمَا أَوْ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَى الشَّيْئَيْنِ (أَوْ ذَكَرَ أَحَدَهُمَا) أَيْ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ أَوْ أَحَدَ الشَّيْئَيْنِ (نَحْوُ: «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» ) فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْقَاتِلِ بِالْمَنْعِ مِنْ الْإِرْثِ مَعَ سَابِقَةِ الْإِرْثِ يُشْعِرُ بِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ الْقَتْلُ (أَوْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ نَحْوُ: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] وَالْعَفْوُ يَكُونُ عِلَّةً لِسُقُوطِ الْمَفْرُوضِ (أَوْ بِطَرِيقِ الْغَايَةِ نَحْوُ: حَتَّى يَطْهُرْنَ أَوْ بِطَرِيقِ الشَّرْطِ نَحْوُ: «مِثْلًا بِمِثْلٍ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» ) فَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يَكُونُ عِلَّةً لِجَوَازِ الْبَيْعِ (وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إنْ سُلِّمَ الْعِلِّيَّةُ) إنَّمَا قَالَ إنْ سُلِّمَ الْعِلِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الْعِلِّيَّةَ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ نَحْوُ: وَاقَعْتُ امْرَأَتِي لِأَنَّهُ وَإِنْ نَسَبَ الْحُكْمَ إلَى الْمُوَاقَعَةِ لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ شَيْئًا يَشْمَلُ عِلِّيَّةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنَّمَا وَقَعَتْ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِعِ لِتَقْوِيَةِ الْجُمْلَةِ الَّتِي يَطْلُبُهَا الْمُخَاطَبُ وَيَتَرَدَّدُ فِيهَا وَيَسْأَلُ عَنْهَا، وَدَلَالَةُ الْجَوَابِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ إيمَاءٌ لَا صَرِيحٌ وَبِالْجُمْلَةِ كَلِمَةُ إنَّ مَعَ الْفَاءِ أَوْ بِدُونِهَا قَدْ تُورَدُ فِي أَمْثِلَةِ الصَّرِيحِ، وَقَدْ تُورَدُ فِي أَمْثِلَةِ الْإِيمَاءِ وَيُعْتَذَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَرِيحٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ وَالْفَاءَ وَإِيمَاءٌ بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَعْلِيلِهِ أَنَّ مِنْ احْتِمَالِ كَوْنِهَا عَلَى حَذْفِ اللَّامِ فَبَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ فِي أَنَّ بِالْفَتْحِ. (قَوْلُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ) فِيهِ سُوءُ تَرْتِيبٌ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الْمَنْعَ ثُمَّ يَتَكَلَّمَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ ثُمَّ الْمُتَمَسِّكُونَ بِمَسْلَكِ الْإِيمَاءِ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ قَطْعًا حَتَّى يَكُونَ احْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ شَيْئًا آخَرَ فَادِحًا فِي كَلَامِهِمْ بَلْ يَدَّعُونَ فِيهِ الظَّنَّ وَظُهُورَ الْعِلِّيَّةِ دَفْعًا لِلِاسْتِبْعَادِ، وَالْغَايَةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ وَغَيْرُهُمَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ بِهَا الْقِيَاسُ فَجَائِزٌ اتِّفَاقًا فِي الْمَنْصُوصَةِ أَيْ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا النَّصُّ صَرِيحًا أَوْ إيمَاءً مِثْلُ {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] «وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ» «وَلِلْفَارِسِ سَهْمَانِ» فَمَقْصُودُهُمْ بَيَانُ وُجُوهِ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ سَوَاءٌ أَمْكَنَ بِهَا الْقِيَاسُ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ [الثَّالِثُ الْمُنَاسَبَةُ] (قَوْلُهُ وَثَالِثُهَا الْمُنَاسَبَةُ) وَهِيَ كَوْنُ الْوَصْفِ بِحَيْثُ يَكُونُ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ مُتَضَمِّنًا لَجَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ كَمَا يُقَالُ الصَّوْمُ شُرِعَ لِكَسْرِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ فَإِنَّهُ نَفْعٌ بِحَسَبِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا بِحَسَبِ الطِّبِّ. وَقَدْ اضْطَرَبَ كَلَامُ الْقَوْمِ فِي بَحْثِ الْمُنَاسَبَةِ وَأَقْسَامِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا وَلِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَحْقِيقِ هَذَا الْمَقَامِ تَعْلِيقٌ أَوْرَدَ فِيهِ غَايَةَ مَا أَدَّى إلَيْهِ نَظَرُهُ فَنَحْنُ نُورِدُهُ وَنَزِيدُ عَلَيْهِ نُبَذًا مِنْ كَلَامِ الْقَوْمِ يُطْلِعُك عَلَى اخْتِلَافِ كَلِمَتِهِمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَسَى أَنْ تَفُوزَ فِي أَثْنَائِهِ بِالْمُرَامِ، فَالْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ لَا يَصِيرُ عِلَّةً بِمُجَرَّدِ الِاطِّرَادِ بَلْ لَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ مَعْنًى يُعْقَلُ بِأَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْحُكْمِ ثُمَّ يَكُونَ مُعَدَّلًا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ صَلَاحِهِ لِلشَّهَادَةِ بِالْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ثُمَّ اعْتِبَارِ عَدَالَتِهِ بِالِاجْتِنَابِ عَنْ مَحْظُورَاتِ الدِّينِ فَكَذَا لَا بُدَّ لِجَعْلِ الْوَصْفِ عِلَّةً مِنْ صَلَاحِهِ لِلْحُكْمِ بِوُجُوبِ الْمُلَاءَمَةِ وَمِنْ عَدَالَتِهِ بِوُجُودِ التَّأْثِيرِ فَالتَّعْلِيلُ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْوَصْفِ مُلَائِمًا، وَبَعْدَ الْمُلَاءَمَةِ لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ كَوْنِهِ مُؤَثِّرًا عِنْدَنَا وَمُخَيَّلًا عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَالْمُلَاءَمَةِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَمَلِ بِالْعِلَلِ وَالتَّأْثِيرِ، أَوْ الْإِخَالَةُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ دُونَ الْجَوَازِ حَتَّى لَوْ عَمِلَ بِهَا قَبْلَ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ نَفَذَ وَلَمْ يَنْفَسِخْ، وَمَعْنَى الْمُلَاءَمَةِ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُنَاسَبَةُ لِلْحُكْمِ بِأَنْ يَصِحَّ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ، وَلَا يَكُونَ نَائِبًا عَنْهُ كَإِضَافَةِ ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ فِي إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إلَى إبَاءِ الْآخَرِ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ يُنَاسِبُهُ لَا إلَى وَصْفِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عُرِفَ عَاصِمًا لِلْحُقُوقِ لَا قَاطِعًا لَهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْمُلَاءَمَةُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ مِنْ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُعَلِّلُونَ بِالْأَوْصَافِ الْمُلَائِمَةِ لِلْأَحْكَامِ لَا النَّائِيَةِ عَنْهَا فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى الْمُلَاءَمَةِ هُوَ الْمُنَاسَبَةُ وَأَنَّهَا

الْمُوَاقَعَةِ كَهَتْكِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ مَثَلًا (لَكِنْ بَعْدَ تِلْكَ الْعِلَلِ لَا يُمْكِنُ بِهَا الْقِيَاسُ أَصْلًا نَحْوُ: السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ لِأَنَّ السَّرِقَةَ إنْ كَانَتْ عِلَّةً فَكُلَّمَا وُجِدَتْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ الْقَطْعِيُّ نَصَّا لَا قِيَاسًا، وَكَذَا فِي زَنَى مَاعِزٌ وَنَحْوُهُ فَاسْتَخْرَجَهُ وَأَيْضًا النَّصُّ يَدُلُّ عَلَى تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فِي " وَاقَعْتُ امْرَأَتِي " وَنَحْوِهَا لَا عَلَى كَوْنِهَا مَنَاطًا فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَتَكَ حُرْمَةَ الصَّوْمِ وَأَيْضًا الْغَايَةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ وَثَانِيهَا الْإِجْمَاعُ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الصِّغَرَ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ) . (وَثَالِثُهَا الْمُنَاسَبَةُ وَشَرْطُهَا الْمُلَاءَمَةُ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ جِنْسَ هَذَا الْوَصْفِ فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ وَيَكْفِي الْجِنْسُ الْبَعِيدُ هُنَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْ كَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ فَإِنَّ هَذَا مُرْسَلٌ لَا يُقْبَلُ اتِّفَاقًا) وَكَلِمَةُ هَذَا إشَارَةٌ إلَى كَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ (لَكِنْ كُلَّمَا كَانَ الْجِنْسُ أَقْرَبَ كَانَ الْقِيَاسُ أَقْوَى) الِاسْتِدْرَاكُ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَيَكْفِي الْجِنْسُ الْبَعِيدُ هُنَا (وَالْمُلَائِمُ كَالصِّغَرِ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعَجْزِ وَهَذَا يُوَافِقُ تَعْلِيلَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِطَهَارَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ بِالطَّوَافِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ) فَإِنَّ الْعِلَّةَ فِي أَحَدِ الصُّورَتَيْنِ الْعَجْزُ وَفِي الْأُخْرَى الطَّوَافُ فَالْعِلَّتَانِ وَإِنْ اخْتَلَفَتَا لَكِنَّهُمَا مُنْدَرِجَتَانِ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الضَّرُورَةُ وَالْحُكْمُ فِي إحْدَى الصُّورَتَيْنِ الْوِلَايَةُ وَفِي الْأُخْرَى الطَّهَارَةُ وَهُمَا مُخْتَلِفَانِ لَكِنَّهُمَا مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ أَيْ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ فِي حَقِّ الرُّخَصِ (وَكَمَا يُقَالُ قَلِيلُ النَّبِيذِ يَحْرُمُ كَقَلِيلِ الْخَمْرِ وَالْعِلَّةُ أَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتُقَابِلُ الطَّرْدَ أَعْنِي وُجُودَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْوَصْفِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مُلَاءَمَةٍ أَوْ تَأْثِيرٍ أَوْ وُجُودِهِ عِنْدَ وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ عَلَى اخْتِلَافِ الرَّأْيَيْنِ. وَالْمَذْكُورُ فِي أَصْلِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ هُوَ كَوْنُ الْوَصْفِ بِحَيْثُ يَجْلِبُ لِلْإِنْسَانِ نَفْعًا أَوْ يَدْفَعُ عَنْهُ ضَرَرًا وَهُوَ كَوْنُ الْوَصْفِ عَلَى مِنْهَاجِ الْمَصَالِحِ بِحَيْثُ لَوْ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ انْتَظَمَ كَالْإِسْكَارِ لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ بِخِلَافِ كَوْنِهَا مَائِعًا يَقْذِفُ بِالزَّبَدِ وَيُحْفَظُ فِي الدَّنِّ، وَأَنَّ مِنْ الْمُنَاسِبِ مُلَائِمًا وَغَيْرَ مُلَائِمٍ، فَخَلَطَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَلَامَ الْفَرِيقَيْنِ وَذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ مَا يَكُونُ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ كَحِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَالْمُلَاءَمَةُ شَرْطٌ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُفَسَّرَ بِمَا يُغَايِرُهَا وَيَكُونَ أَخَصَّ مِنْهَا، وَقَدْ فَسَّرَهَا الْقَوْمُ بِكَوْنِ الْوَصْفِ عَلَى وَفْقِ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ، وَظَنَّ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ جِنْسَ هَذَا الْوَصْفِ فِي جِنْسِ هَذَا الْحُكْمِ، فَالْمُرَادُ الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ أَخُصُّ مِنْ كَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ كَمَصْلَحَةِ حِفْظِ النَّفْسِ مَثَلَا فَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْ مَصْلَحَةِ حِفْظِ النَّفْسِ وَكَذَا مِنْ مَصْلَحَةِ حِفْظِ الدِّينِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَكْفِي كَوْنُهُ أَخَصَّ مِنْ الْمُتَضَمِّنِ لِمَصْلَحَةٍ مَا؛ لِأَنَّ الْمُتَضَمِّنَ لِمَصْلَحَةِ حِفْظِ النَّفْسِ أَخَصُّ مِنْ الْمُتَضَمِّنِ لِمَصْلَحَةٍ مَا وَلَيْسَ بِمُلَائِمٍ، حَتَّى لَوْ قِيلَ شُرِعَ هَذَا الْحُكْمُ لِمَصْلَحَةِ حِفْظِ النَّفْسِ لَمْ يَصِحَّ؛؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ بِالْمُنَاسِبِ دُونَ الْمُلَائِمِ وَمُجَرَّدُ حِفْظِ النَّفْسِ قَدْ لَا يَكُونُ مَصْلَحَةً كَمَا فِي الْجِهَادِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ ثُمَّ الْجِنْسُ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ قَدْ يَكُونُ قَرِيبًا لَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَوْعِ الْوَصْفِ، وَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ أَوْ أَكْثَرُ وَهَذَا مُتَصَاعِدٌ إلَى أَنْ يَبْلُغَ الْجِنْسَ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْكُلِّ وَأَخَصُّ مِنْ الْمُتَضَمِّنِ لِحِفْظِ مَصْلَحَةِ النَّفْسِ مَثَلًا، وَكُلَّمَا كَانَ الْجِنْسُ أَقْرَبَ إلَى الْوَصْفِ أَيْ أَقَلَّ وَاسِطَةً وَأَشَدَّ خُصُوصِيَّةً كَانَ الْقِيَاسُ أَقْوَى وَبِالْقَبُولِ أَحْرَى لِكَوْنِهِ بِالتَّأْثِيرِ أَنْسَبَ وَإِلَى اعْتِبَار الشَّرْعِ أَقْرَبَ، قَالَ الْآمِدِيُّ فِي الْأَحْكَامِ: إنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ أَجْنَاسًا عَالِيَةً وَقَرِيبَةً وَمُتَوَسِّطَةً فَالْجِنْسُ الْعَالِي لِلْحُكْمِ الْخَاصِّ

وَالشَّرْعُ اعْتَبَرَ جِنْسَ هَذَا فِي الْخَلْوَةِ مَعَ الْجِمَاعِ وَكَذَا حَمْلُ حَدِّ الشُّرْبِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ) فَإِنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ إقَامَةَ السَّبَبِ الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوّ إلَيْهِ فِي الْخَلْوَةِ مَعَ الْجِمَاعِ فَإِنَّ فِيهِ إقَامَةَ الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوّ إلَيْهِ وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي حَدِّ الشُّرْبِ إذَا شَرِبَ سَكِرَ وَإِذَا سَكِرَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى وَحْدُ الْمُفْتَرِينَ ثَمَانُونَ (وَإِذَا وُجِدَتْ الْمُلَاءَمَةُ يَصِحُّ الْعَمَلُ وَلَا يَجِبُ عِنْدَنَا بَلْ يَجِبُ إذَا كَانَتْ مُؤَثِّرَةً فَالْمُلَاءَمَةُ كَأَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وَالتَّأْثِيرُ كَالْعَدَالَةِ وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْمُلَائِمِ بِشَرْطِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ) وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلْحُكْمِ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ نَوْعِهِ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ (وَعِنْدَ الْبَعْضِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُخَيَّلًا) أَيْ يَقَعُ فِي الْخَاطِرِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ ـــــــــــــــــــــــــــــQهُوَ الْحُكْمُ وَأَخَصُّ مِنْهُ الْوُجُوبُ مَثَلًا ثُمَّ الْعِبَادَةُ ثُمَّ الصَّلَاةُ ثُمَّ الْمَكْتُوبَةُ، وَالْجِنْسُ الْعَالِي لِلْوَصْفِ الْخَاصِّ كَوْنُهُ وَصْفًا تُنَاطُ الْأَحْكَامُ بِهِ وَأَخَصُّ مِنْهُ الْمُنَاسِبُ ثُمَّ الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ ثُمَّ حِفْظُ النَّفْسِ وَهَكَذَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّنَّ الْحَاصِلَ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِ الْوَصْفِ فِي خُصُوصِ الْحُكْمِ لِكَثْرَةِ مَا بِهِ الِاشْتِرَاكُ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنْ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِي الْعُمُومِ، فَمَا كَانَ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ بِالْجِنْسِ السَّافِلِ فَهُوَ أَغْلَبُ عَلَى الظَّنِّ، وَمَا كَانَ بِالْعَالِي فَهُوَ أَبْعَدُ وَمَا كَانَ الْمُتَوَسِّطُ بِالْمُتَوَسِّطِ فَمُتَوَسِّطٌ عَلَى التَّرْتِيبِ فِي الصُّعُودِ وَالنُّزُولِ. ثُمَّ قَالَ: إنَّ مِنْ الْقِيَاسِ مُؤَثِّرًا تَكُونُ عِلَّتُهُ مَنْصُوصَةً أَوْ مُجْمَعًا عَلَيْهَا أَوْ أَثَّرَ عَيْنُ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ فِي جِنْسِهِ أَوْ جِنْسُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ، وَمِنْهُ مُلَائِمًا أَثَّرَ جِنْسُ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْمُرَادِ بِالْمُلَائِمِ كَأَنَّهُ يُنَاسِبُ هَذَا الِاصْطِلَاحَ لَوْلَا إطْلَاقُ الْجِنْسِ هَاهُنَا، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ مَا أَثَّرَ عَيْنُهُ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ مُؤَثِّرًا وَمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مُلَائِمًا وَقَالَ أَيْضًا: الْمُلَائِمُ مَا أَثَّرَ عَيْنُ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ كَمَا أَثَّرَ جِنْسُ الْوَصْفِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ وَالْمَذْكُورُ مِنْ كَلَامِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ شَارِحِي أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ الْمُلَائِمَ هُوَ الْمُنَاسِبُ الَّذِي لَمْ يَثْبُتُ اعْتِبَارُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ بَلْ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ فَقَطْ وَمَعَ ذَلِكَ ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ اعْتِبَارَ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَأَيْضًا الْمُلَائِمُ هُوَ الْمُرْسَلُ الَّذِي لَمْ يُعْلَمُ إلْغَاؤُهُ بَلْ عُلِمَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُرْسَلِ مَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَا بِنَصٍّ، وَلَا بِإِجْمَاعٍ، وَلَا بِتَرَتُّبِ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ. فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يُتَصَوَّرُ اعْتِبَارُ الْعَيْنِ فِي الْجِنْسِ أَوْ الْجِنْسِ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ فِيمَا لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا أَصْلًا؟ وَهَلْ هَذَا إلَّا تَهَافُتٌ؟ قُلْتُ: مَعْنَى الِاعْتِبَارِ شَرْعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هُوَ اعْتِبَارُ عَيْنِ الْوَصْفِ فِي عَيْن الْحُكْمِ وَعَلَى هَذَا لَا إشْكَالَ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْفَرِيقَيْنِ مَا يُوَافِقُ التَّفْسِيرَ الَّذِي ظَنَّهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلَهُ وَالْمُلَائِمُ كَالصِّغَرِ) فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَإِنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ جِنْسَ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَهُوَ الضَّرُورَةُ فِي جِنْسِ وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ

عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ (وَهَذَا يُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ) أَيْ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُعْرَفُ عِلِّيَّتُهَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُخَيَّلًا تُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ (وَتُقْبَلُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) أَيْ الْمَصَالِحَ الْمُرْسَلَةَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُرْسَلَ نَوْعَانِ نَوْعٌ لَا يُقْبَلُ اتِّفَاقًا وَهُوَ الَّذِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ جِنْسَهُ الْأَبْعَدَ وَهُوَ كَوْنُهُ مُتَضَمِّنًا لِمَصْلَحَةٍ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَنَوْعٌ يُقْبَلُ عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ اعْتَبَرَ جِنْسَهُ الْبَعِيدَ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ الْأَبْعَدِ (إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً كَتَتَرُّسِ الْكُفَّارِ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ) فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ الْجِنْسَ الْقَرِيبَ لِهَذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالضَّرُورَةُ وَاعْتَرَضَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُلَائِمِ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْوَصْفِ أَخَصَّ مِنْ مُطْلَقِ الضَّرُورَةِ بَلْ مِنْ ضَرُورَةِ حِفْظِ النَّفْسِ وَنَحْوِهِ أَيْضًا فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ الْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى تَطْهِيرِ الْأَعْضَاءِ عَنْ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ وَإِلَى تَطْهِيرِ الْعِرْضِ عَنْ النِّسْبَةِ إلَى الْفَاحِشَةِ بِالنِّكَاحِ، وَنَجَاسَةُ سُؤْرِ الطَّوَّافِينَ مَانِعٌ يَتَعَذَّرُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِنْ تَطْهِيرِ الْعُضْوِ كَالصِّغَرِ عَنْ تَطْهِيرِ الْعِرْضِ، فَالْوَصْفُ الشَّامِلُ لِلصُّورَتَيْنِ دَفْعُ الْحَرَجِ الْمَانِعِ عَنْ التَّطْهِيرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، وَالْحُكْمُ الَّذِي هُوَ جِنْسٌ الطَّهَارَةِ وَالْوِلَايَةِ هُوَ الْحُكْمُ الَّذِي يَنْدَفِعُ بِهِ الْحَرَجُ الْمَذْكُورُ. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ) يَعْنِي أَنَّ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْمُلَائِمِ فِرْقَتَانِ فِرْقَةٌ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْمُلَائِمِ بِشَرْطِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ بِمَعْنَى أَنْ يُقَابَلَ بِقَوَانِينِ الشَّرْعِ فَيُطَابِقَهَا سَالِمًا عَنْ الْمُنَاقَضَةِ أَعْنِي إبْطَالَ نَفْسِهِ بِأَثَرٍ أَوْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ إيرَادِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ الْوَصْفِ فِي صُورَةٍ أُخْرَى وَعَنْ الْمُعَارَضَةِ أَعْنِي إيرَادَ وَصْفٍ يُوجِبُ خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِنَفْسِ الْوَصْفِ كَمَا يُقَالُ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي نَفْسِ ذُكُورِ الْخَيْلِ فَلَا تَجِبُ فِي إنَاثِهَا بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَأَدْنَى مَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ أَصْلَانِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ، وَالْعَرْضُ عَلَى الْأُصُولِ تَزْكِيَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَرْضِ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَأَمَّا الْعَرْضُ عَلَى جَمِيعِ الْأُصُولِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَسَّرَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ بِأَنْ يَكُونَ لِلْحُكْمِ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ نَوْعِهِ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ، وَفِرْقَةٌ تُوجِبُ الْعَمَلَ بِالْمُلَائِمِ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُخَيَّلًا أَيْ مَوْقِعًا فِي الْقَلْبِ خَيَالَ الْعِلِّيَّةِ وَالصِّحَّةِ وَالْأَوْصَافِ الَّتِي تُعْرَفُ عِلِّيَّتُهَا بِمُجَرَّدِ الْإِخَالَةِ تُسَمَّى بِالْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ. وَالْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ الْمُخَيَّلُ وَمَعْنَاهُ تَعْيِينُ الْعِلَّةِ فِي الْأَصْلِ بِمُجَرَّدِ إبْدَاءِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ مِنْ ذَاتِ الْأَصْلِ لَا بِنَصٍّ، وَلَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ قَالُوا وَالْمُنَاسِبُ يَنْقَسِمُ إلَى مُؤَثِّرٍ وَمُلَائِمٍ وَغَرِيبٍ وَمُرْسَلٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مُعْتَبَرٌ شَرْعًا أَوْ لَا أَمَّا الْمُعْتَبَرُ فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ اعْتِبَارُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ أَوْ لَا بَلْ يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ فَقَطْ فَذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ

الْوَصْفِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ لِهَذَا الْحُكْمِ إذْ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ إبَاحَةُ قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَكِنْ وُجِدَ اعْتِبَارُ الضَّرُورَةِ فِي الرُّخَصِ فِي اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَيَّدَ الْمَصْلَحَةَ بِكَوْنِهَا ضَرُورِيَّةً قَطْعِيَّةً كُلِّيَّةً كَمَا لَوْ تَتَرَّسَ الْكُفَّارُ بِجَمْعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَعْلَمُ أَنَّا لَوْ تَرَكْنَاهُمْ اسْتَوْلَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَتَلُوهُمْ وَلَوْ رَمَيْنَا التُّرْسَ يَخْلُصُ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ فَتَكُونُ الْمَصْلَحَةُ ضَرُورِيَّةً؛ لِأَنَّ صِيَانَةَ الدِّينِ وَصِيَانَةَ نُفُوسِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ دَاعِيَةٌ إلَى جَوَازِ الرَّمْيِ إلَى التُّرْسِ وَتَكُونُ قَطْعِيَّةً؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْمَصْلَحَةِ وَهِيَ صِيَانَةُ الدِّينِ وَنُفُوسِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِرَمْيِ التُّرْسِ تَكُونُ قَطْعِيَّةً لَا ظَنِّيَّةً كَحُصُولِ الْمَصْلَحَةِ فِي رُخَصِ السَّفَرِ فَإِنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ وَتَكُونُ كُلِّيَّةً؛ لِأَنَّ اسْتِخْلَاصَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ كُلِّيَّةٌ فَخَرَجَ بِقَيْدِ الضَّرُورَةِ مَا لَوْ تَتَرَّسَ الْكَافِرُونَ فِي قَلْعَةٍ بِمُسْلِمٍ لَا يَحِلُّ رَمْيُ التُّرْسِ وَبِالْقَطْعِيَّةِ مَا لَمْ نَعْلَمْ تَسَلُّطَهُمْ إنْ تَرَكْنَا رَمْيَ التُّرْسِ وَبِالْكُلِّيَّةِ مَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمَصْلَحَةُ كُلِّيَّةً كَمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQبِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ اعْتِبَارُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَاعْتِبَارُ جِنْسِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ لَا، فَإِنْ ثَبَتَ فَهُوَ الْمُلَائِمُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَهُوَ الْغَرِيبُ وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ لَا بِنَصٍّ، وَلَا بِإِجْمَاعٍ، وَلَا بِتَرَتُّبِ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِهِ فَهُوَ الْمُرْسَلُ، وَيَنْقَسِمُ إلَى مَا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ وَإِلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ إلْغَاؤُهُ، وَالثَّانِي يَنْقَسِمُ إلَى مُلَائِمٍ قَدْ عُلِمَ اعْتِبَارُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ أَوْ فِي جِنْسِهِ وَإِلَى مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ ذَلِكَ وَهُوَ الْغَرِيبُ فَإِنْ كَانَ غَرِيبًا أَوْ عُلِمَ إلْغَاؤُهُ فَمَرْدُودٌ اتِّفَاقًا وَإِنْ كَانَ مُلَائِمًا فَقَدْ صَرَّحَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِقَبُولِهِ وَشَرَطَ الْغَزَالِيُّ فِي قَبُولِهِ شُرُوطًا ثَلَاثَةً أَنْ تَكُونَ ضَرُورِيَّةً لَا حَاجِيَّةً وَقَطْعِيَّةً لَا ظَنِّيَّةً وَكُلِّيَّةً لَا جُزْئِيَّةً أَيْ مُخْتَصَّةً بِشَخْصٍ، فَفَتْحُ الْقَلْعَةِ لَيْسَ فِي مَحَلِّ الضَّرُورَةِ، وَخَوْفُ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ لَا يُجَوِّزُ الرَّمْيَ لِكَوْنِهِ ظَنِّيًّا، وَإِلْقَاءُ بَعْضِ أَهْلِ السَّفِينَةِ لِنَجَاةِ الْبَعْضِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ جُزْئِيَّةٌ فَالْمُلَائِمُ كَعَيْنِ الصِّغَرِ الْمُعْتَبَرِ فِي جِنْسِ الْوِلَايَةِ إجْمَاعًا وَكَجِنْسِ الْحَرَجِ الْمُعْتَبَرِ فِي عَيْنِ رُخْصَةِ الْجَمْعِ وَكَجِنْسِ الْجِنَايَةِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ الْمُعْتَبَرُ فِي جِنْسِ الْقِصَاصِ وَالْغَرِيبُ كَمَا يُعَارَضُ بِنَقِيضِ مَقْصُودِ الْفَارِّ فَيُحْكَمُ بِإِرْثِ زَوْجَتِهِ قِيَاسًا عَلَى الْقَاتِلِ حَيْثُ عُورِضَ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الْإِرْثِ فَحُكِمَ بِعَدَمِ إرْثِهِ، فَهَذَا لَهُ وَجْهُ مُنَاسَبَةٍ. وَفِي تَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةٍ هِيَ نَهْيُهُ عَنْ الْفِعْلِ الْحَرَامِ لَكِنْ لَمْ يُشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ بِالِاعْتِبَارِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ وَمَا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ كَتَعْيِينِ إيجَابِ الصَّوْمِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْإِعْتَاقُ كَالْمَلِكِ فَإِنَّهُ مُنَاسِبٌ لِتَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الزَّجْرِ لَكِنْ عُلِمَ عَدَمُ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ. قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الْمَصَالِحِ مَا شَهِدَ الشَّرْعُ بِاعْتِبَارِهِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي الْقِيَاسِ وَحُجَّةٌ، وَمِنْهَا مَا شُهِدَ بِبُطْلَانِهِ كَتَعْيِينِ الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْمَلِكِ وَهُوَ بَاطِلٌ، وَمِنْهَا مَا لَمْ يُشْهَدْ لَهُ لَا بِالِاعْتِبَارِ، وَلَا بِالْإِبْطَالِ وَهَذَا فِي مَحَلِّ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّظَرِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَصْلَحَةِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْخَمْسَةِ الضَّرُورِيَّةِ فَكُلُّ مَا يَتَضَمَّنُ حِفْظَ هَذِهِ الْخَمْسَةِ الضَّرُورِيَّةِ، وَكُلُّ مَا يُقَوِّيهَا فَهِيَ مَصْلَحَةٌ وَدَفْعُهَا مَفْسَدَةٌ وَإِذَا أَطْلَقْنَا الْمَعْنَى الْمُخَيَّلَ أَوْ الْمُنَاسِبَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ أَرَدْنَا بِهِ هَذَا الْجِنْسَ وَالْمَصَالِحُ الْحَاجِيَّةُ أَوْ التَّحْسِينِيَّةُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِهَا مَا لَمْ تُعَضَّدْ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى وَضْعِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ وَإِذَا اعْتَضَدَ بِأَصْلٍ فَهُوَ قِيَاسٌ، وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ الضَّرُورِيَّةُ فَلَا بُعْدَ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا رَأْيُ مُجْتَهِدٍ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ التَّتَرُّسِ فَإِنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا بِأَدِلَّةٍ خَارِجَةٍ عَنْ الْحَصْرِ أَنَّ تَقْلِيلَ الْقَتْلِ مَقْصُودٌ لِلشَّارِعِ كَمَنْعِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لَكِنَّ قَتْلَ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ غَرِيبٌ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ، وَنَحْنُ إنَّمَا نُجَوِّزُهُ عِنْدَ الْقَطْعِ أَوْ ظَنٍّ قَرِيبٍ مِنْ الْقَطْعِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ نُخَصِّصُ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ الْعُمُومَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِمَا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الشَّرْعَ يُؤْثِرُ الْحُكْمَ الْكُلِّيَّ عَلَى الْجُزْئِيِّ، وَأَنَّ حِفْظَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ دَمِ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ وَهَذَا وَإِنْ سَمَّيْنَاهُ مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً لَكِنَّهَا رَاجِعَةٌ إلَى الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّ مَرْجِعَ الْمَصْلَحَةِ إلَى حِفْظِ مَقَاصِدِ الشَّرْعِ الْمَعْلُومَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ كَوْنَ هَذِهِ الْمَعَانِي عُرِفَتْ لَا بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ لَا حَصْرَ لَهَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ وَتَفَارِيقِ الْأَمَارَاتِ سَمَّيْنَاهُ مَصْلَحَةً مُرْسَلَةً لَا قِيَاسًا؛ إذْ الْقِيَاسُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ وَقَالَ بَعْدَ مَا قَسَّمَ الْمُنَاسِبَ إلَى مُؤَثِّرٍ وَمُلَائِمٍ وَغَرِيبٍ إنَّ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مُلَائِمٌ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَيُقْبَلُ قَطْعًا، وَمُنَاسِبٌ لَا يُلَائِمُ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ فَلَا يُقْبَلُ قَطْعًا كَحِرْمَانِ الْقَاتِلِ لَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ مُعَارِضٌ لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَمُنَاسِبٌ يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ لَكِنْ لَا يُلَائِمُ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَمُلَائِمٌ لَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الْمُرْسَلُ وَهُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. (قَوْلُهُ لَكِنْ وُجِدَ اعْتِبَارُ الضَّرُورَةِ فِي الرُّخَصِ وَفِي اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ) أَوْرَدَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضَ السَّابِقَ وَهُوَ أَنَّ هَذَا اعْتِبَارٌ لِلْجِنْسِ الْأَبْعَدِ وَهُوَ

إذَا كَانَتْ جَمَاعَةٌ فِي سَفِينَةٍ وَثَقُلَتْ السَّفِينَةُ فَإِنْ طَرَحْنَا الْبَعْضَ فِي الْبَحْرِ نَجَا الْبَاقُونَ لَا يَجُوزُ طَرْحُهُمْ؛ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ غَيْرُ كُلِّيَّةٍ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَرْكِ الطَّرْحِ لَا تَهْلِكُ إلَّا جَمَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ وَفِي التَّتَرُّسِ لَوْ تَرَكْنَا الرَّمْيَ لَقَتَلُوا كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ مَعَ الْأُسَارَى (وَالتَّأْثِيرُ عِنْدَنَا أَنْ يَثْبُتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ اعْتِبَارُ نَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ فِي نَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ) أَيْ نَوْعَ الْوَصْفِ أَوْ جِنْسِهِ (فِي نَوْعِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ) (وَالْمُرَادُ بِالْجِنْسِ هُنَا الْجِنْسُ الْقَرِيبُ كَالسُّكْرِ فِي الْحُرْمَةِ) هَذَا نَظِيرُ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ (وَكَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ» الْحَدِيثَ هَذَا نَظِيرُ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ) (فَإِنَّ لِلْجِنْسِ وَهُوَ عَدَمُ دُخُولِ شَيْءٍ اعْتِبَارًا فِي عَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ وَكَقِيَاسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْوِلَايَةِ عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَعَلَى الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ بِالصِّغَرِ) هَذَا نَظِيرُ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ (وَلِنَوْعِهِ اعْتِبَارٌ فِي جِنْسِ الْوِلَايَةِ لِثُبُوتِهَا فِي الْمَالِ عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَكَطَهَارَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ) نَظِيرُ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ (فَإِنَّ لِجِنْسِ الضَّرُورَةِ اعْتِبَارًا فِي جِنْسِ التَّخْفِيفِ وَقَدْ يَتَرَكَّبُ بَعْضُ الْأَرْبَعَةِ مَعَ بَعْضٍ فَاسْتَخْرَجَهُ) كَالصِّغَرِ مَثَلًا فَإِنَّ لِنَوْعِهِ اعْتِبَارًا فِي جِنْسِ الْوِلَايَةِ وَلِجِنْسِهِ اعْتِبَارًا فِي جِنْسِهَا فَإِنَّ جِنْسَهُ الْعَجْزُ وَالْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ عَلَى الْعَاجِزِ كَالْمَجْنُونِ ـــــــــــــــــــــــــــــQغَيْرُ كَافٍ فِي الْمُلَاءَمَةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ حُصُولَ النَّفْعِ الْكَثِيرِ فِي تَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْيَسِيرِ وَجَمِيعُ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى ذَلِكَ. (قَوْلُهُ وَالتَّأْثِيرُ عِنْدَنَا) إنَّمَا قَالَ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ اعْتِبَارُ عَيْنِ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ وَلِذَا قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْمُؤَثِّرُ مَقْبُولٌ بِاتِّفَاقِ الْقَايِسِينَ، وَقَصَرَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ الْقِيَاسَ عَلَيْهِ لَكِنَّهُ أَوْرَدَ لِلْمُؤَثِّرِ أَمْثِلَةً عَرَّفَ بِهَا أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُلَائِمِ لَكِنَّهُ سَمَّاهُ أَيْضًا مُؤَثِّرًا فَالْقِيَاسُ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ عَيْنِ الْعِلَّةِ وَجِنْسِهَا وَعَيْنِ الْحُكْمِ وَجِنْسِهِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يَظْهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِ الْوَصْفِ فِي عَيْنِ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ إنَّهُ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَقْطُوعُ بِهِ الَّذِي رُبَّمَا يُقِرُّ بِهِ مُنْكِرُو الْقِيَاسِ إذْ لَا فَرْقَ إلَّا بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ. الثَّانِي أَنْ يَظْهَرَ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ. الثَّالِثُ أَنْ يَظْهَرَ تَأْثِيرُ جِنْسِهِ فِي عَيْنِهِ وَهُوَ الَّذِي خَصَّصْنَاهُ بِاسْمِ الْمُلَائِمِ وَخَصَّصْنَا اسْمَ الْمُؤَثِّرِ بِمَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُ عَيْنِهِ. الرَّابِعُ أَنْ يَظْهَرَ تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ وَهُوَ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ الْمُنَاسِبَ الْغَرِيبَ ثُمَّ لِلْجِنْسِيَّةِ مَرَاتِبُ عُمُومًا وَخُصُوصًا فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ الظَّنِّ وَالْأَعْلَى مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَسْفَلِ وَالْأَقْرَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَبْعَدِ فِي الْجِنْسِيَّةِ فَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَخَذَ مِنْ كَلَامِهِمْ تَفْسِيرَ الْمُؤَثِّرِ وَقَيَّدَ الْجِنْسَ بِالْقَرِيبِ لِيَتَمَيَّزَ عَنْ الْمُلَائِمِ عَلَى مَا سَبَقَ وَأَوْرَدَ بَدَلَ الْعَيْنِ النَّوْعَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوَصْفُ، وَالْحُكْمُ مَعَ خُصُوصِيَّةِ الْمَحَلِّ كَالسُّكْرِ الْمَخْصُوصِ بِالْخَمْرِ وَالْحُرْمَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِهَا فَيُوهِمُ أَنَّ لِلْخُصُوصِيَّةِ مَدْخَلًا فِي الْعِلِّيَّةِ فَالْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الْوَصْفُ الَّذِي يُجْعَلُ عِلَّةً لَا مُطْلَقُ الْوَصْفِ، وَكَذَا الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ بِالْقِيَاسِ لَا مُطْلَقُ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ حَتَّى الْأَجْنَاسِ أَنْوَاعُ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ عِلِّيَّةِ السُّكْرِ لِلْحُرْمَةِ وَعِلِّيَّةِ الضَّرُورَةِ لِلتَّخْفِيفِ فَإِضَافَةُ النَّوْعِ إلَى الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ بِمَعْنَى مِنْ الْبَيَانِيَّةِ أَيْ النَّوْعَ الَّذِي هُوَ الْوَصْفُ أَوْ الْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ فَهُوَ نَوْعٌ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ، وَقَدْ بَيَّنَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَصْفِ الْمَخْصُوصِ وَالْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ احْتِرَازًا عَنْ الْأَنْوَاعِ الْعَالِيَةِ وَالْمُتَوَسِّطَةِ الَّتِي وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِلَفْظِ الْجِنْسِ، وَأَمَّا إضَافَةُ الْجِنْسِ إلَى الْوَصْفِ وَالْحُكْمِ فَهِيَ بِمَعْنَى اللَّامِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا

مَثَلًا وَقِسْ عَلَيْهِ الْبَوَاقِيَ وَالْمُرَكَّبُ يَنْقَسِمُ بِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ أَحَدَ عَشَرَ قِسْمًا وَاحِدٌ مِنْهَا مُرَكَّبٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَأَرْبَعَةٌ مِنْهَا مُرَكَّبَةٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَسِتَّةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَصْفُ الْمُعَيَّنُ وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ كَمَا فِي حَالَةِ إضَافَةِ النَّوْعِ، وَالْمُرَادِ بِالْجِنْسِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ الْوَصْفِ أَوْ الْحُكْمِ مَثَلًا عَجَزَ الْإِنْسَانُ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَصْفٌ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمٍ فِيهِ تَخْفِيفٌ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ الْحَرَجِ وَالضَّرَرِ فَعَجْزُ الصَّبِيِّ الْغَيْرِ الْعَاقِلِ نَوْعٌ وَعَجْزُ الْمَجْنُونِ نَوْعٌ آخَرُ، وَجِنْسُهُمَا الْعَجْزُ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ، وَفَوْقَهُ الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ الْعَجْزُ بِسَبَبِ ضَعْفِ الْقُوَيّ أَعَمُّ مِنْ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمَرِيضَ، وَفَوْقَهُ الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ الْعَجْزُ النَّاشِئُ مِنْ الْفَاعِلِ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ عَلَى مَا يَشْمَلُ الْمَحْبُوسَ، وَفَوْقَهُ الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ الْعَجْزُ النَّاشِئُ مِنْ الْفَاعِلِ عَلَى مَا يَشْمَلْ الْمُسَافِرَ أَيْضًا، وَفَوْقَهُ مُطْلَقُ الْعَجْزِ الشَّامِلُ لِمَا يَنْشَأُ عَنْ الْفَاعِلِ وَعَنْ مَحَلِّ الْفِعْلِ وَعَنْ الْخَارِجِ وَهَكَذَا فِي جَانِبِ الْحُكْمِ فَلْيُعْتَبَرْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ وَالْأَحْكَامِ وَإِلَّا فَتَحْقِيقُ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ بِأَقْسَامِهَا مِمَّا يَعْسُرُ فِي الْمَاهِيَّاتِ الْحَقِيقِيَّةِ فَضْلًا عَنْ الِاعْتِبَارِيَّات، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الَّذِي ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ عِلِّيَّةُ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْوَصْفِ لِذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْحُكْمِ كَالْعَجْزِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ لِسُقُوطِ مَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَوْ عِلِّيَّةِ جِنْسِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِنَوْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَعَدَمِ دُخُولِ شَيْءٍ فِي الْجَوْفِ لِعَدَمِ فَسَادِ الصَّوْمِ أَوْ عِلِّيَّةِ ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ الْوَصْفِ لِجِنْسِ ذَلِكَ الْحُكْمِ كَمَا فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَمَّنْ لَا عَقْلَ لَهُ فَإِنَّ الْعَجْزَ بِوَاسِطَةِ عَدَمِ الْعَقْلِ مُؤَثِّرٌ فِي سُقُوطِ مَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ وَهُوَ جِنْسٌ لِسُقُوطِ الزَّكَاةِ أَوْ عِلِّيَّةِ جِنْس الْوَصْفِ لِجِنْسِ الْحُكْمِ كَمَا فِي سُقُوطِ الزَّكَاةِ عَنْ الصَّبِيِّ بِتَأْثِيرِ الْعَجْزِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ فِي سُقُوطِ مَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ، وَأَمَّا أَمْثِلَةُ الْمَتْنِ فَفِي بَعْضِهَا نَظَرٌ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ السُّكْرَ وَالصِّغَرَ مِنْ قَبِيلِ الْمُرَكَّبِ، وَلِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا الْجِنْسُ الْقَرِيبُ وَالضَّرُورَةُ لِلطَّوَافِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ قَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَيْسَ بِمُلَائِمٍ فَضْلًا عَنْ الْمُؤَثِّرِ. (قَوْلُهُ وَقَدْ يَتَرَكَّبُ بَعْضُ الْأَرْبَعَةِ) لَا خَفَاءَ فِي أَنَّ أَقْسَامَ الْمُفْرَدِ أَرْبَعَةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ الِاثْنَيْنِ فِي الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَانِبِ الْوَصْفِ هُوَ النَّوْعُ أَوْ الْجِنْسُ، وَكَذَا فِي جَانِبِ الْحُكْمِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ انْحِصَارُ الْمُرَكَّبِ فِي أَحَدَ عَشْرَ؛ لِأَنَّ التَّرْكِيبَ إمَّا ثُنَائِيٌّ أَوْ ثُلَاثِيٌّ أَوْ رُبَاعِيٌّ أَمَّا الرُّبَاعِيُّ فَوَاحِدٌ لَا غَيْرُ، وَأَمَّا الثُّلَاثِيُّ فَأَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثُلَاثِيًّا بِنُقْصَانِ وَاحِدٍ مِنْ الرُّبَاعِيِّ وَذَلِكَ الْوَاحِدُ إمَّا أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارَ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ أَوْ فِي الْجِنْسِ أَوْ اعْتِبَارَ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ أَوْ فِي الْجِنْسِ، وَأَمَّا الثُّنَائِيُّ فَسِتَّةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِلْأَفْرَادِ وَيَتَرَكَّبُ مَعَ كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ وَيَصِيرُ اثْنَا عَشَرَ حَاصِلَةً مِنْ ضَرْبِ الْأَرْبَعَةِ فِي الثَّلَاثَةِ فَيَسْقُطُ سِتَّةٌ بِمُوجِبِ التَّكْرَارِ، أَوْ نَقُولُ

أَرْبَعَةٍ أَقْوَى الْجَمِيعِ ثُمَّ الْمُرَكَّبَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ الْمُرَكَّبُ مِنْ اثْنَيْنِ ثُمَّ مَا لَا يَكُونُ مُرَكَّبًا (قَدْ سَمَّى الْبَعْضُ أَوَّلَ الْأَرْبَعَةِ غَرِيبًا وَالثَّلَاثَةُ مُلَائِمَةٌ ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ نَوْعِهِ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ وَيُسَمَّى شَهَادَةَ الْأَصْلِ وَهِيَ أَعَمُّ مِنْ أُولَى الْأَرْبَعَةِ مُطْلَقًا) أَيْ شَهَادَةُ الْأَصْلِ أَعَمُّ مِنْ اعْتِبَارِ نَوْعِ الْوَصْفِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ وَمِنْ اعْتِبَارِ جِنْسِ الْوَصْفِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ اعْتِبَارُ نَوْعِ الْوَصْفِ أَوْ جِنْسِهِ فِي نَوْعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاعْتِبَارُ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ إمَّا أَنْ يَتَرَكَّبَ مَعَ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ أَوْ مَعَ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ أَوْ مَعَ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ ثُمَّ اعْتِبَارُ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ إمَّا أَنْ يَتَرَكَّبَ مَعَ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ أَوْ مَعَ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ ثُمَّ اعْتِبَارُ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ يَتَرَكَّبُ مَعَ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ فَإِنْ قُلْت اعْتِبَارُ النَّوْعِ يَسْتَلْزِمُ اعْتِبَارَ الْجِنْسِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا وُجُودَ لِلنَّوْعِ بِدُونِ الْجِنْسِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِفْرَادُ إلَّا فِي اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ فَيَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ الرُّبَاعِيَّ أَلْبَتَّةَ، وَاعْتِبَارُ النَّوْعِ فِي الْجِنْسُ أَوْ عَكْسِهِ يَسْتَلْزِمُ التَّرْكِيبَ الثُّنَائِيَّ. قُلْتُ الْمُرَادُ الِاعْتِبَارُ قَصْدًا لَا ضِمْنًا حَتَّى إنَّ الرُّبَاعِيَّ مَا يَكُونُ كُلٌّ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ الْأَرْبَعَةِ مَقْصُودًا عَلَى حِدَةٍ فَالْمُرَكَّبُ مِنْ الْأَرْبَعَةِ كَالسُّكْرِ فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُرْمَةِ، وَكَذَا جِنْسُهُ الَّذِي هُوَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُرْمَةِ ثُمَّ السُّكْرُ يُؤَثِّرُ فِي وُجُوبِ الزَّاجِرِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أُخْرَوِيًّا كَالْحُرْمَةِ أَوْ دُنْيَوِيًّا كَالْحَدِّ ثُمَّ لَمَّا كَانَ السُّكْرُ مَظِنَّةً لِلْقَذْفِ صَارَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مُؤَثِّرًا فِي وُجُوبِ الزَّاجِرِ، وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَالْمُرَكَّبُ مِمَّا سِوَى اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ كَالتَّيَمُّمِ عِنْدَ خَوْفِ فَوْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ فَإِنَّ الْجِنْسَ وَهُوَ الْعَجْزُ الْحُكْمِيُّ بِحَسَبِ الْمَحَلِّ يَحْتَاجُ إلَيْهِ شَرْعًا مُؤَثِّرٌ فِي الْجِنْسِ أَيْ فِي سُقُوطِ الِاحْتِيَاجِ فِي النَّوْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] إقَامَةٌ لِأَحَدِ الْعَنَاصِرِ مَقَامَ الْآخَرِ فَإِنَّ التُّرَابَ مُطَهِّرٌ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ بِحَسَبِ نَشَفِ النَّجَاسَاتِ وَأَيْضًا عَدَمُ وِجْدَانِ الْمَاءِ وَهُوَ النَّوْعُ مُؤَثِّرٌ فِي الْجِنْسِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِهِ لَكِنَّ النَّوْعَ وَهُوَ خَوْفُ الْفَوْتِ لَا يُؤَثِّرُ فِي النَّوْعِ أَيْ فِي التَّيَمُّمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَيَمُّمٌ، وَالْمُرَكَّبُ مِمَّا سِوَى اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ إذَا لَمْ يَجِدْ إلَّا مَاءً يَحْتَاجُ إلَى شُرْبِهِ فَإِنَّ الْعَجْزَ الْحُكْمِيَّ بِحَسَبِ الْمَحَلِّ عَنْ اسْتِعْمَالِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ شَرْعًا مُؤَثِّرٌ فِي سُقُوطِ الِاحْتِيَاجِ فَهَذَا تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ ثُمَّ النَّوْعُ مُؤَثِّرٌ فِي النَّوْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَأَيْضًا عَدَمُ وِجْدَانِ الْمَاءِ وَهُوَ النَّوْعُ مُؤَثِّرٌ فِي الْجِنْسِ أَيْ فِي عَدَمِ اسْتِعْمَالِهِ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ لَكِنَّ الْجِنْسَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي النَّوْعِ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ الْمَذْكُورَ لَا يُؤَثِّرُ فِي التَّيَمُّمِ مِنْ حَيْثُ هُوَ التَّيَمُّمُ وَالْمُرَكَّب مِمَّا سِوَى اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ كَالْحَيْضِ فِي حُرْمَةِ الْقُرْبَانِ فَهَذَا تَأْثِيرُ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ، وَجِنْسُهُ وَهُوَ الْأَذَى عِلَّةٌ أَيْضًا لِحُرْمَةِ الْقُرْبَانِ وَلِجِنْسِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الِاعْتِزَالِ وَالْمُرَكَّبُ مِمَّا سِوَى اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ يُقَالُ الْحَيْضُ عِلَّةٌ لِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَهَذَا تَأْثِيرُ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ، وَأَيْضًا عِلَّةٌ لِلْجِنْسِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجِهَا

الْحُكْمِ فَقَدْ وُجِدَ لِلْحُكْمِ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ نَوْعِهِ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ نَوْعِهِ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ فَقَدْ وُجِدَ اعْتِبَارُ نَوْعِ الْوَصْفِ أَوْ جِنْسِهِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ (وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ أَخِيرَيْ الْأَرْبَعَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ) أَيْ قَدْ يُوجَدُ شَهَادَةُ الْأَصْلِ بِدُونِ وَاحِدٍ مِنْ أَخِيرَيْ الْأَرْبَعَةِ وَقَدْ يُوجَدُ وَاحِدٌ مِنْ أَخِيرَيْ الْأَرْبَعَةِ بِدُونِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ وَقَدْ يُوجَدَانِ مَعًا (فَالتَّعْلِيلُ بِهِمَا بِدُونِ الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ وَيُسَمَّى عِنْدَ الْبَعْضِ تَعْلِيلًا لَا قِيَاسًا وَعِنْدَ الْبَعْضِ هُوَ قِيَاسٌ أَيْضًا وَإِذَا وُجِدَ شَهَادَةُ الْأَصْلِ بِدُونِ التَّأْثِيرِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَنَا وَيُسَمَّى غَرِيبًا أَيْضًا) اعْلَمْ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِأَوْلَى الْأَرْبَعَةِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ لِمَا قُلْنَا إنَّهَا أَعَمُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلِجِنْسِهِ وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ السَّبِيلَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي حُرْمَةِ الصَّلَاةِ لَكِنْ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْجِنْسِ وَهُوَ حُرْمَةُ الْقِرَاءَةِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمُرَكَّبُ مِنْ الِاثْنَيْنِ فَالْمُرَكَّبُ مِنْ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ مَعَ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ كَمَا فِي طَهَارَةِ سُؤْرِ الْهِرَّةِ فَإِنَّ الطَّوَافَ عِلَّةٌ لِلطَّهَارَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ» وَجِنْسُهُ هُوَ مُخَالَطَةُ نَجَاسَةٍ يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا عِلَّةً لِلطَّهَارَةِ كَآبَارِ الْفَلَوَاتِ وَالْمُرَكَّبُ مِنْ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ مَعَ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ كَإِفْطَارِ الْمَرِيضِ فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْجِنْسِ وَهُوَ التَّخْفِيفُ فِي الْعِبَادَةِ، وَكَذَا فِي الْإِفْطَارِ بِسَبَبِ الضَّرَرِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ مَعَ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ كَوِلَايَةِ النِّكَاحِ فِي الْمَجْنُونِ جُنُونًا مُطْبِقًا فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَجْزٌ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ مُؤَثِّرٌ فِي مُطْلَقِ الْوِلَايَةِ، ثُمَّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عَجْزٌ دَائِمِيٌّ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ عِلَّةٌ لِوِلَايَةِ النِّكَاحِ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ الصِّغَرِ فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صِغَرٌ لَا يُوجِبُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ. وَالْمُرَكَّبُ مِنْ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ مَعَ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ كَالْوِلَايَةِ فِي مَالِ الصَّغِيرِ فَإِنَّ الْعَجْزَ لِعَدَمِ الْعَقْلِ مُؤَثِّرٌ فِي مُطْلَقِ الْوِلَايَةِ ثُمَّ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْوِلَايَةِ فِي الْمَالِ لِلْحَاجَةِ إلَى بَقَاءِ النَّفْسِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ مَعَ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ كَخُرُوجِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ ثُمَّ خُرُوجُهَا مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ كَمَا فِي الْيَدِ وَهِيَ آلَةُ التَّطْهِيرِ مُؤَثِّرٌ فِي وُجُوبِ إزَالَتِهَا وَالْمُرَكَّبُ مِنْ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ مَعَ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ كَمَا فِي عَدَمِ الصَّوْمِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَإِنَّ الْعَجْزَ لِعَدَمِ الْعَقْلِ مُؤَثِّرٌ فِي سُقُوطِ الْعِبَادَةِ لِلِاحْتِيَاجِ إلَى النِّيَّةِ ثُمَّ الْجِنْسُ وَهُوَ الْعَجْزُ لِخَلَلٍ فِي الْقُوَى مُؤَثِّرٌ فِي سُقُوطِ الْعِبَادَةِ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَكَّبَ مِنْ أَرْبَعَةٍ أَقْوَى الْجَمِيعِ) يَعْنِي أَنَّ قُوَّةَ الْوَصْفِ إنَّمَا هِيَ بِحَسَبِ التَّأْثِيرِ وَالتَّأْثِيرُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ وَكُلَّمَا كَثُرَ الِاعْتِبَارُ قَوِيَ الْآثَارُ فَيَكُونُ الْمُرَكَّبُ أَقْوَى مِنْ الْبَسِيطِ، وَالْمُرَكَّبُ مِنْ أَجْزَاءٍ أَكْثَرَ أَقْوَى مِنْ الْمُرَكَّبِ مِنْ أَجْزَاءٍ أَقَلَّ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا سِوَى اعْتِبَارِ

فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا قِيَاسًا اتِّفَاقًا وَالتَّعْلِيلُ بِأَخِيرَيْ الْأَرْبَعَةِ إذَا وُجِدَ مَعَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ يَكُونُ قِيَاسًا اتِّفَاقًا وَإِذَا وُجِدَ بِدُونِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ فَعِنْدَ الْبَعْضِ قِيَاسٌ وَعِنْدَ الْبَعْضِ لَا وَيُسَمَّى تَعْلِيلًا لَكِنَّهُ مَقْبُولٌ اتِّفَاقًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا وَشَهَادَةُ الْأَصْلِ قَدْ تُوجَدُ بِدُونِ الْأَوَّلِينَ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مُطْلَقًا وَقَدْ تُوجَدُ بِدُونِ أَخِيرَيْ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ فَإِذَا وُجِدْت بِدُونِ التَّأْثِيرِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَنَا وَيُسَمَّى غَرِيبًا أَيْ يُسَمَّى الْوَصْفُ الَّذِي يُوجَدُ فِي صُورَةٍ يُوجَدُ فِيهَا نَوْعُ الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ غَرِيبًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّوْعِ فِي النَّوْعِ أَنَّهُ أَقْوَى الْكُلِّ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ حَتَّى يَكَادَ يُقِرُّ بِهِ مُنْكِرُو الْقِيَاسِ إذْ لَا فَرْقَ إلَّا بِتَعَدُّدِ الْمَحَلِّ فَالْمُرَكَّبُ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ سَمَّى الْبَعْضُ) ذُكِرَ فِي بَعْضِ أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُنَاسِبَ الْغَرِيبَ مَا يُؤَثِّرُ نَوْعُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ وَلَمْ يُؤَثِّرْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِهِ كَالطَّعْمِ فِي الرِّبَا فَإِنَّ نَوْعَ الطَّعْمِ وَهُوَ الِاقْتِيَاتُ مُؤَثِّرٌ فِي رِبَوِيَّةِ الْبُرِّ وَلَمْ يُؤَثِّرْ جِنْسُ الطَّعْمِ فِي رِبَوِيَّةِ سَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ كَالْخَضْرَاوَاتِ وَالْمُلَائِمُ هُوَ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ. (قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يَخْلُو) أَيْ الْحُكْمُ بَعْدَ التَّعْلِيلِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ أَوْ لَا يَكُونَ فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ وَالْمُرَادُ بِشَهَادَةِ الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ لِلْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ مِنْ نَوْعِهِ يُوجَدُ فِيهِ جِنْسُ الْوَصْفِ أَوْ نَوْعُهُ وَإِنَّمَا قُلْنَا الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ أَوْ لَا يَكُونُ لِمَا ذَكَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ وَاعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ، فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ كُلًّا مِنْ اعْتِبَارِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ وَاعْتِبَارِ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ يَسْتَلْزِمُ شَهَادَةَ الْأَصْلِ وَهُوَ مَعْنَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ الْمُطْلَقِ، وَأَمَّا اعْتِبَارُ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ أَوْ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ فَلَا يَسْتَلْزِمُ شَهَادَةَ الْأَصْلِ بَلْ قَدْ يَجْتَمِعَانِ، وَقَدْ يَفْتَرِقَانِ وَهَذَا مَعْنَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ مِنْ وَجْهٍ فَالتَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الَّذِي اُعْتُبِرَ نَوْعُهُ أَوْ جِنْسُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ يَكُونُ قِيَاسًا لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّلَ مَقِيسٌ، وَالْأَصْلُ الشَّاهِدُ مَقِيسٌ عَلَيْهِ، وَكَذَا التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الَّذِي اُعْتُبِرَ نَوْعُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسُهُ فِي جِنْسِهِ إذَا كَانَ مَعَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِدُونِهَا فَهُوَ تَعْلِيلٌ مَشْرُوعٌ مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ لَكِنْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ يُسَمَّى قِيَاسًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ بِالرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ التَّعْلِيلَ بِالْعِلَّةِ الْمُتَعَدِّيَةِ يَكُونُ قِيَاسًا وَبِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ لَا يَكُونُ قِيَاسًا بَلْ يَكُونُ بَيَانَ عِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ لِلْحُكْمِ، وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْوَصْفِ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ لَا مَحَالَةَ وَلَكِنْ يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ لِوُضُوحِهِ وَرُبَّمَا لَا يَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ فَيُذْكَرُ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْخِلَافُ فِي مُجَرَّدِ تَسْمِيَتِهِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

فَالْغَرِيبُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا مَقْبُولٌ وَهُوَ الْوَصْفُ الَّذِي اُعْتُبِرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ وَالثَّانِي مَرْدُودٌ وَهُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يُوجَدُ جِنْسُهُ أَوْ نَوْعُهُ فِي نَوْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَكِنْ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ هَذَا الْوَصْفَ أَوْ لَا (وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا التَّأْثِيرَ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْقِيَاسَ (أَمْرٌ شَرْعِيٌّ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ) أَيْ فِي الْقِيَاسِ (اعْتِبَارُ الشَّارِعِ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ بِوَصْفٍ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ أَوْ اعْتَبَرَ جِنْسَهُ (وَلِأَنَّ الْعِلَلَ الْمَنْقُولَةَ لَيْسَتْ إلَّا مُؤَثِّرَةً كَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ عَلَيْكُمْ» وَقَوْلُهُ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ «إنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» وَلِانْفِجَارِ الدَّمِ مِنْ الْعِرْقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَلْ عِنْدَ الْبَعْضِ يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِالْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ مُسْتَلْزِمًا لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ لَكِنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ، وَقَدْ لَا يُذْكَرُ وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ مُعَيَّنٌ عَلَى ظَاهِرِهِ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا وَجَدَ شَهَادَةَ الْأَصْلِ بِدُونِ التَّأْثِيرِ) يَعْنِي أَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِ قَدْ تُوجَدُ بِدُونِ كُلٍّ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ لِلتَّأْثِيرِ وَحِينَئِذٍ يُسَمَّى الْوَصْفُ غَرِيبًا لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فَلَا يُقْبَلُ عِنْدَنَا أَيْ لَا يَجِبُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْقَبُولِ هُوَ التَّأْثِيرُ أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مَا لَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا فَإِنْ قُلْت الْمُلَائِمُ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ جِنْسُهُ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ فَهُوَ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ فَالْغَرِيبُ لَا يَكُونُ مُلَائِمًا قُلْتُ أَحَدُ الْأَنْوَاعِ هُوَ اعْتِبَارُ الْجِنْسِ الْقَرِيبِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ عَلَى مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ الْمُؤَثِّرِ. وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُلَائِمِ هُوَ الْجِنْسُ الْبَعِيدُ فَالْغَرِيبُ بِمَعْنَى غَيْرِ الْمُؤَثِّرِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُلَائِمًا فَظَهَرَ أَنَّ اسْمَ الْغَرِيبِ يُطْلَقُ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنْ الْوَصْفِ أَحَدُهُمَا اُعْتُبِرَ نَوْعُهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْبَعْضَ يُسَمِّي أَوَّلَ الْأَرْبَعَةِ غَرِيبًا وَالثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ مُلَائِمَةً وَهُوَ مَقْبُولٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَثَانِيهِمَا مَا يُوجَدُ جِنْسُهُ أَوْ نَوْعُهُ فِي نَوْعِ ذَلِكَ الْحُكْمِ لَكِنْ لَا يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ، وَلَا إلْغَاؤُهُ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ وَهُوَ مَرْدُودٌ إذَا لَمْ يَكُنْ مُلَائِمًا خِلَافًا لِأَصْحَابِ الطَّرْدِ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ إلَى إثْبَاتِ شَهَادَةِ الْأَصْلِ بِدُونِ التَّأْثِيرِ بِأَنَّهَا قَدْ تُوجَدُ بِدُونِ الْأَوَّلِينَ يَعْنِي اعْتِبَارَ النَّوْعِ أَوْ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ لِكَوْنِهَا أَعَمَّ مِنْهَا مُطْلَقًا وَبِدُونِ الْأَخِيرَيْنِ يَعْنِي اعْتِبَارَ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ أَوْ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ لِكَوْنِهَا أَعَمَّ مِنْهُمَا مِنْ وَجْهٍ فَتُوجَدُ بِدُونِ التَّأْثِيرِ فِي الْجُمْلَةِ لِانْحِصَارِهِ فِي الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ وَمَا يَتَرَكَّبُ مِنْهَا وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ التَّحَقُّقَ بِدُونِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ التَّحَقُّقِ بِدُونِ الْمَجْمُوعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَعَمَّ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنْ يُوجَدَ فِي الْأَخِيرَيْنِ وَبِالْعَكْسِ فَبِمُجَرَّدِ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يُوجَدُ بِدُونِ التَّأْثِيرِ. (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا اعْتَبِرْنَا التَّأْثِيرَ) فِي الْعِلَّةِ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْأَقْيِسَةَ الْمَنْقُولَةَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ. وَأُجِيبَ

وَهُوَ النَّجَاسَةُ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَفِي عَدَمِ كَوْنِهِ حَيْضًا وَفِي كَوْنِهِ مَرَضًا لَازِمًا فَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي التَّخْفِيفِ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ» الْحَدِيثَ وَغَيْرُهَا مِنْ أَقْيِسَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَالصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعَلَى هَذَا قُلْنَا مَسْحُ الرَّأْسِ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَسْحًا مُؤَثِّرٌ فِي التَّخْفِيفِ حَتَّى لَمْ يَسْتَوْعِبْ مَحَلَّهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ رُكْنٌ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ فَغَيْرُ مَعْقُولٍ وَكَذَا جَعَلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ أَمْرًا شَرْعِيًّا لَا يَقْتَضِي إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَأَمَّا لُزُومُ أَنْ يَثْبُتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ نَوْعَ الْوَصْفِ أَوْ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ عَلَى مَا فَسَّرْتُمْ بِهِ التَّأْثِيرَ فَمَمْنُوعٌ، وَلِمَ لَا يَكْفِي الْجِنْسُ الْبَعِيدُ وَحُصُولُ الظَّنِّ بِوُجُوهٍ أُخَرَ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ؟ كَيْفَ وَقَدْ جَوَّزْتُمْ الْعَمَلَ بِغَيْرِ الْمُؤَثِّرِ أَيْضًا وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى أَنَّ الْأَقْيِسَةَ الْمَنْقُولَةَ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى عِلَلٍ مَعْقُولَةٍ مُنَاسِبَةٍ، وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِي ذَلِكَ بَلْ فِي التَّأْثِيرِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَقْيِسَةِ الْمَنْقُولَةِ قَدْ اُعْتُبِرَتْ الْأَجْنَاسُ الْبَعِيدَةُ وَلَمْ يَثْبُتْ اعْتِبَارُ الْوَصْفِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ بَلْ بِوُجُوهٍ أُخَرَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالتَّأْثِيرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا يُقَابِلُ الطَّرْدَ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ مُنَاسِبًا مُلَائِمًا لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُؤَثِّرًا بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْ لَا وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال وَهَذَا ظَاهِرٌ مِنْ النَّظَرِ فِي كَلَامِهِمْ فِي هَذَا الْمُقَامِ وَمِنْ تَقْرِيرِهِمْ التَّأْثِيرَ فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ، فَفِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ» لِجِنْسِ الطَّوْفِ وَهُوَ الضَّرُورَةُ لَهُ أَثَرٌ فِي الشَّرْعِ فِي التَّخْفِيفِ وَإِثْبَاتِ الطَّهَارَةِ وَرَفْعِ النَّجَاسَةِ كَمَنْ أَكَلَ الْمَيْتَةَ فِي الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الْيَدِ وَالْفَمِ لِلضَّرُورَةِ وَأَيْضًا لَمَّا كَانَتْ الْهِرَّةُ مِنْ الطَّوَّافِينَ لَمْ يُمْكِنْ الِاحْتِرَازُ عَنْ سُؤْرِهَا إلَّا بِحَرَجٍ عَظِيمٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ النَّجَاسَةِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَمَا فِي حِلِّ الْمَيِّتَةِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» لِانْفِجَارِ الدَّمِ وَوُصُولِهِ إلَى مَوْضِعٍ يَجِبُ تَطْهِيرُهُ عَنْهُ وَهُوَ مَعْنَى النَّجَاسَةِ أَثَّرَ فِي وُجُوبِ طَهَارَةٍ وَفِي عَدَمِ كَوْنِ انْفِجَارِ الدَّمِ حَيْضًا وَفِي كَوْنِهِ مَرَضًا لَازِمًا مُؤَثِّرًا فِي التَّخْفِيفِ، أَمَّا فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ إلَّا طَاهِرًا، وَأَمَّا فِي عَدَمِ كَوْنِهِ حَيْضًا فَلِأَنَّ الْحَيْضَ دَمٌ ثَبَتَ عَادَةً رَاتِبَةً فِي بَنَاتِ آدَمَ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي أَرْحَامِهِنَّ وَانْفِجَارُ دَمِ الْعِرْقِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ حَيْضًا مُوقِعًا فِي الْحَرَجِ الْمُوجِبِ لِإِسْقَاطِ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ، وَأَمَّا فِي كَوْنِهِ مَرَضًا فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهَا إمْسَاكُهُ وَرَدُّهُ فَيَكُونُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي التَّخْفِيفِ بِأَنْ يُحْكَمَ مَعَ وُجُودِهِ بِقِيَامِ الطَّهَارَةِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ وَهُوَ وَقْتُ الصَّلَاةِ لِلضَّرُورَةِ إذْ لَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الطَّهَارَةُ لِكُلِّ حَدَثٍ لَبَقِيَتْ مَشْغُولَةً بِالطَّهَارَةِ

الصِّغَرَ عِلَّةً لِلْوِلَايَةِ بِخِلَافِ الْبَكَارَةِ وَأَيْضًا قُلْنَا صَوْمُ رَمَضَانَ مُتَعَيَّنٌ فَلَا يَجِبُ التَّعْيِينُ وَقَدْ ظَهَرَ تَأْثِيرُهُ) أَيْ تَأْثِيرُ الْمُتَعَيَّنِ فِي عَدَمِ التَّعْيِينِ (فِي الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ) فَإِنَّ رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ وَغَيْرُ هَذَا وَلَمَّا كَانَ هَذَا الرَّدُّ مُتَعَيَّنًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِينُهُ بِأَنْ يَقُولَ هَذَا الرَّدُّ هُوَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّ رَدَّهَا مُطْلَقًا يُصْرَفُ إلَى الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَهُوَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ (وَفِي النَّقْلِ) فَإِنَّهُ إذَا نَوَى فِي غَيْرِ رَمَضَانَ صَوْمًا مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى النَّقْلِ لَتَعَيُّنِهِ فَفِي رَمَضَانَ يَنْصَرِفُ إلَى صَوْمِ رَمَضَانَ لِتَعَيُّنِهِ (فَإِنَّ فَرْضَ رَمَضَانَ فِيهِ كَالنَّقْلِ فِي غَيْرِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَبَدًا وَلَمْ تَفْرُغْ لِلصَّلَاةِ قَطْعًا وَفِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكَانَ يَضُرُّكَ» ، لِعَدَمِ قَضَاءِ الشَّهْوَتَيْنِ أَثَرٌ فِي عَدَمِ انْتِقَاضِ الصَّوْمِ فَكَمَا أَنَّ الْمَضْمَضَةَ مُقَدِّمَةُ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْأَكْلِ كَذَلِكَ الْقُبْلَةُ مُقَدِّمَةُ شَهْوَةِ الْفَرْجِ وَلَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ لَا صُورَةً لِعَدَمِ إيلَاجِ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ، وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ الْإِنْزَالِ فَفِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَ التَّأْثِيرُ بِمَعْنَى اعْتِبَارِ النَّوْعِ أَوْ الْجِنْسِ الْقَرِيبِ. (قَوْلُهُ وَغَيْرُهَا) أَيْ وَكَغَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ أَقْيِسَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَأَقْيِسَةِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ «أَرَأَيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِمَاءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ أَكُنْتَ شَارِبَهُ» كَذَا أَوْرَدَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَايَةُ تَقْرِيرِهِ أَنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ وَهُوَ أَنَّ الصَّدَقَةَ مُطَهِّرَةُ الْأَوْزَارِ وَالْآثَامِ فَكَانَتْ وَسَخًا بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ فَكَمَا أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ أَخْذٌ بِمَعَالِي الْأُمُورِ فَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ تَعْظِيمٌ لَهُمْ وَإِكْرَامٌ وَاخْتِصَاصٌ بِمَعَالِي الْأُمُورِ، وَكَمَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ وَاحْتَجَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِتَمْثِيلٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى مَعْنًى مُؤَثِّرٍ هُوَ الْقَرَابَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ الِاتِّصَالُ بِالْمَيِّتِ بِطَرِيقِ الْجُزْئِيَّةِ فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّمَا مَثَلُ الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ مَثَلُ شَجَرَةٍ أَنْبَتَتْ غُصْنًا ثُمَّ تَفَرَّعَ عَنْ الْغُصْنِ فَرْعَانِ فَالْقُرْبُ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ أَوْلَى مِنْ الْقُرْبِ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ وَالْأَصْلِ لِأَنَّ الْغُصْنَ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ وَالْأَصْلِ وَاسِطَةٌ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ فَهَذَا يَقْتَضِي رُجْحَانَ الْأَخِ عَلَى الْجَدِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ وَالْأَصْلِ جُزْئِيَّةً وَبَعْضِيَّةً لَيْسَتْ بَيْنَ الْفَرْعَيْنِ نَفْسِهِمَا فَكَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا تَرْجِيحٌ فَاسْتَوَيَا وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَثَلُ الْجَدِّ مَعَ الْأَخَوَيْنِ كَمَثَلِ نَهْرٍ يَنْشَعِبُ مِنْ وَادٍ ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ جَدْوَلٌ وَمَثَلُ الْأَخَوَيْنِ كَمَثَلِ نَهْرَيْنِ يَنْشَعِبَانِ مِنْ وَادٍ فَالْقُرْبُ بَيْنَ النَّهْرَيْنِ الْمُتَشَعِّبَيْنِ مِنْ الْوَادِي أَكْثَرُ مِنْ الْقُرْبِ بَيْنَ الْوَادِي وَالْجَدْوَلِ بِوَاسِطَةِ النَّهْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَلَا يَتَّقِي اللَّهَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَجْعَلُ ابْنَ الِابْنِ ابْنًا، وَلَا يَجْعَلُ أَبَ الْأَبِ أَبًا اعْتَبَرَ أَحَدَ طَرَفَيْ الْقَرَابَةِ وَهُوَ طَرَفُ الْأَصَالَةِ بِالطَّرَفِ الْآخَرِ وَهُوَ الْجُزْئِيَّةُ فِي الْقُرْبِ. (قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا) الْأَصْلِ وَهُوَ اعْتِبَارُ التَّأْثِيرِ جُزْئِيًّا فِي أَقْيِسَتِنَا

وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ احْتَجُّوا بِالتَّقْسِيمِ فِيهِ) أَيْ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فِي الْقِيَاسِ (وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعِلَّةُ إمَّا هَذَا أَوْ هَذَا أَوْ هَذَا وَالْأَخِيرَانِ بَاطِلَانِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِرًا لَا يُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ حَاصِرًا بِأَنْ يُثْبِتَ عَدَمَ عِلِّيَّةِ الْغَيْرِ) أَيْ غَيْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي رَدَّدَ فِيهَا (بِالْإِجْمَاعِ مَثَلًا) إنَّمَا قَالَ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُثْبِتَ عَدَمَ عِلِّيَّةِ الْغَيْرِ بِالنَّصِّ (بَعْدَمَا ثَبَتَ تَعْلِيلُ هَذَا النَّصِّ يُقْبَلُ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْوِلَايَةِ، إمَّا الصِّغَرُ أَوْ الْبَكَارَةُ فَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُمَا وَبِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ وَهُوَ أَنْ يُبَيِّنَ عَدَمَ عِلِّيَّةِ الْفَارِقِ لِيُثْبِتَ عِلِّيَّةَ الْمُشْتَرَكِ) الْفَارِقُ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يُوجَدُ فِي الْأَصْلِ دُونَ الْفَرْعِ وَالْمُشْتَرَكُ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يُوجَدُ فِيهِمَا (وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِهَذَيْنِ فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ قَبُولِهِمَا يَكُونُ مَرْجِعُهُمَا إلَى النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَعَلَّلْنَا بِالْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَإِنَّ لِلْمَسْحِ أَثَرًا فِي التَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ أَيْسَرُ مِنْ الْغَسْلِ وَيَتَأَدَّى بِهِ الْفَرْضُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِيعَابُ الْمَحَلِّ كَمَا فِي الْمَغْسُولَاتِ بِخِلَافِ الرُّكْنِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لَهَا فِي التَّكْرَارِ وَإِبْطَالِ التَّخْفِيفِ وَكَوْنِ التَّثْلِيثِ سُنَّةً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ الرُّكْنِيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْقُوَّةِ وَالْحَصَانَةِ وَوُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فَيُنَاسِبُ التَّكْرَارَ لِيَحْصُلَ بِالْيَقِينِ أَوْ بِظَنٍّ قَرِيبٍ مِنْهُ. وَكَذَا الصِّغَرُ مُؤَثِّرٌ فِي إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ لَمْ تُشْرَعُ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ عَجْزِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ فِي الصِّغَرِ دُونَ الْبَكَارَةِ، وَكَذَا تَعْيِينُ الصَّوْمِ الْفَرْضِ فِي رَمَضَانَ مُؤَثِّرٌ فِي إسْقَاطِ وُجُوبِ التَّعْيِينِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ إنَّمَا هُوَ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ، وَتَعْيِينُهَا إنَّمَا هُوَ لِلتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْجِهَاتِ الْمُتَزَاحِمَةِ فَحَيْثُ لَا تَزَاحُمَ لَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ بِخِلَافِ الْفَرْضِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْقَلُ تَأْثِيرُهَا فِي إيجَابِ التَّعْيِينِ. (قَوْلُهُ: وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ) قَدْ اشْتَهَرَ فِيمَا بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ السَّبْرُ وَالتَّقْسِيمُ وَهُوَ حَصْرُ الْأَوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَصْلِ الصَّالِحَةِ لِلْعِلِّيَّةِ فِي عَدَدٍ، ثُمَّ إبْطَالُ عِلِّيَّةِ بَعْضِهَا لِتَثْبُتَ عِلِّيَّةُ الْبَاقِي فَيَكُونَ هُنَاكَ مَقَامَانِ أَحَدُهُمَا بَيَانُ الْحَصْرِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ سِوَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَيُصَدَّقُ؛ لِأَنَّ عَدَالَتَهُ وَتَدَيُّنَهُ مِمَّا يُغَلِّبُ ظَنَّ عَدَمِ غَيْرِهِ إذْ لَوْ وُجِدَ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِ أَوْ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغَيْرِ وَحِينَئِذٍ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يُبَيِّنَ وَصْفًا آخَرَ وَعَلَى الْمُسْتَدِلِّ أَنْ يُبْطِلَ عِلِّيَّتَهُ وَإِلَّا لَمَا ثَبَتَ الْحَصْرُ فِيمَا أَحْصَاهُ فَيَلْزَمُ انْقِطَاعُهُ. وَثَانِيهِمَا إبْطَالُ عِلِّيَّةِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ وَيَكْفِي فِي ذَلِكَ أَيْضًا الظَّنُّ وَذَلِكَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ وُجُودُ الْحُكْمِ بِدُونِهِ فِي صُورَةٍ فَلَوْ اسْتَقَلَّ بِالْعِلِّيَّةِ لَانْتَفَى الْحُكْمُ بِانْتِفَائِهِ. الثَّانِي كَوْنُ الْوَصْفِ مِمَّا عُلِمَ إلْغَاؤُهُ فِي الشَّرْعِ إمَّا مُطْلَقًا كَاخْتِلَافٍ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحُكْمِ الْمَبْحُوثِ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فِي الْعِتْقِ. الثَّالِثُ عَدَمُ ظُهُورِ الْمُنَاسَبَةِ فَيَكْفِي لِلْمُسْتَدِلِّ أَنْ يَقُولَ بَحَثْتُ فَلَمْ أَجِدْ لَهُ مُنَاسَبَةً، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ ظُهُورِ عَدَمِ الْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّ

أَوْ الْمُنَاسَبَةِ وَبِالدَّوَرَانِ وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا فَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ وُجُودُ الْحُكْمِ فِي كُلِّ صُوَرِ وُجُودِ الْوَصْفِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ وَشَرَطَ بَعْضُهُمْ قِيَاسَ النَّصِّ فِي الْحَالَيْنِ) أَيْ فِي حَالِ وُجُودِ الْوَصْفِ وَعَدَمِهِ (وَلَا حُكْمَ لَهُ نَظِيرُهُ أَنَّ الْمَرْءَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ مُتَوَضِّئٌ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَإِذَا قَعَدَ وَهُوَ مُحْدِثٌ يَجِبُ فَعُلِمَ أَنَّ الْوُجُوبَ دَائِرٌ مَعَ الْحَدَثِ) فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا وُجُوبَ الْوُضُوءِ دَائِرًا مَعَ الْحَدَثِ وُجُودًا وَعَدَمًا، وَالنَّصُّ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ أَيْ حَالِ وُجُودِ الْحَدَثِ وَحَالِ عَدَمِهِ وَلَا حُكْمَ لَهُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يُوجِبُ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ وَجَبَ الْوُضُوءُ وَكُلَّمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَجِبْ أَمَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْعَدَمُ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَمُوجِبُ النَّصِّ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالَيْنِ أَمَّا حَالُ عَدَمِ الْحَدَثِ فَإِنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا وُجِدَ الْقِيَامُ مَعَ عَدَمِ الْحَدَثِ يَجِبُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّقْدِيرَ أَنَّهُ عَدْلٌ أَخْبَرَ عَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا خَبَرُهُ وَحِينَئِذٍ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ فِي الْوَصْفِ الَّذِي يَدَّعِي الْمُسْتَدِلُّ أَنَّهُ عِلَّةٌ يَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ وَالْمُتَمَسِّكُونَ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ لَا يَشْتَرِطُونَ إثْبَاتَ التَّعْلِيلِ فِي كُلِّ نَصٍّ بَلْ يَكْفِي عِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ وَأَنَّ الْأَحْكَامَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ إمَّا وُجُوبًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِمَّا تَفْضِيلًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ غَيْرِهِمْ وَلَوْ سُلِّمَ عَدَمُ الْكُلِّيَّةِ فَالتَّعْلِيلُ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْأَحْكَامِ وَإِلْحَاقُ الْفَرْدِ بِالْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَا يَشْتَرِطُونَ فِي بَيَانِ الْحَصْرِ إثْبَاتَ عَدَمِ الْغَيْرِ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِدُونِ ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَسَالِكِ الْقَطْعِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ وَيَكُونُ مَرْجِعُهُ إلَيْهِمَا، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ إنَّ الْإِخَالَةَ هِيَ الْمُنَاسَبَةُ وَهِيَ الْمُسَمَّى بِتَخْرِيجِ الْمَنَاطِ أَيْ تَنْقِيحِ مَا عَلَّقَ الشَّارِعُ الْحُكْمَ بِهِ وَمَآلُهُ إلَى التَّقْسِيمِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ وَهِيَ إمَّا الْوَصْفُ الْفَارِقُ أَوْ الْمُشْتَرَكُ لَكِنَّ الْفَارِقَ مُلْغًى فَيَتَعَيَّنُ الْمُشْتَرَكُ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ لِثُبُوتِ عِلَّتِهِ وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّظَرَ وَالِاجْتِهَادَ فِي مَنَاطِ الْحُكْمِ أَيْ عِلَّتِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي تَحْقِيقِهِ أَوْ تَنْقِيحِهِ أَوْ تَخْرِيجِهِ، أَمَّا تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي آحَادِ الصُّوَرِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهَا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ اسْتِنْبَاطٍ، وَلَا يُعْرَفُ خِلَافٌ فِي صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ مَعْلُومَةً بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ، وَأَمَّا تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ فِي تَعْيِينِ مَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى كَوْنِهِ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِخِلَافِ الْأَوْصَافِ الَّتِي لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الِاعْتِبَارِ كَمَا بَيَّنَ فِي قِصَّةِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِكَوْنِهِ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوْ مِنْ الْأَعْرَابِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى يَتَعَيَّنَ وَطْءُ الْمُكَلَّفِ الصَّائِمِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَامِدًا وَهَذَا النَّوْعُ وَإِنْ

الْوُضُوءُ وَهَذَا غَيْرُ ثَابِتٍ وَأَمَّا حَالُ وُجُودِ الْحَدَثِ فَلِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقُمْ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ وُجُودِ الْحَدَثِ لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ أَمَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَفْهُومِ فَلِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ مَدْلُولُ النَّصِّ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ كَانَ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَكِنْ جَعَلَ هَذَا الْحُكْمَ حُكْمَ النَّصِّ مَجَازًا فَعُلِمَ بِهَذَا عِلِّيَّةُ الْحَدَثِ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ النَّصِّ أَصْلًا (قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَإِنَّهُ يَحِلُّ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ عِنْدَ فَرَاغِ الْقَلْبِ وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ شَغْلِهِ بِغَيْرِ الْغَضَبِ، لَهُمْ أَنَّ عِلَلَ الشَّرْعِ أَمَارَاتٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَقَرَّ بِهِ أَكْثَرُ مُنْكَرِي الْقِيَاسِ فَهُوَ دُونَ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا تَخْرِيجُ الْمَنَاطِ فَهُوَ النَّظَرُ فِي إثْبَاتِ عِلَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ النَّصُّ أَوْ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ دُونَ عِلَّتِهِ كَالنَّظَرِ فِي إثْبَاتِ كَوْنِ السُّكْرِ عِلَّةً لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَهَذَا فِي الرُّتْبَةِ دُونَ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَلِهَذَا أَنْكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ. (قَوْلُهُ بِالدَّوَرَانِ) احْتَجَّ بَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ بِدَوَرَانِ الْحُكْمِ مَعَهُ أَيْ تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ وُجُودًا وَيُسَمَّى الطَّرَدُ وَبَعْضُهُمْ وُجُودًا وَعَدَمًا وَيُسَمَّى الطَّرَدُ وَالْعَكْسُ كَالتَّحْرِيمِ مَعَ السُّكْرِ فَإِنَّ الْخَمْرَ يُحَرَّمُ إذَا كَانَ مُسْكِرًا وَتَزُولُ حُرْمَتُهُ إذَا زَالَ إسْكَارُهُ بِصَيْرُورَتِهِ خَلًّا وَشَرَطَ الْبَعْضُ وُجُودَ النَّصِّ فِي حَالَتَيْ وُجُودِ الْوَاصِفِ وَعَدَمِهِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ أَيْ لِلنَّصِّ وَذَلِكَ لِدَفْعِ احْتِمَالِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الِاسْمِ وَتَعَيُّنِ إضَافَتِهِ إلَى مَعْنَى الْوَصْفِ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ لِلْعَصِيرِ إذَا اشْتَدَّ وَيُسَمَّى خَمْرًا وَتَزُولُ عِنْدَ زَوَالِ الشِّدَّةِ وَالِاسْمِ، فَإِذَا كَانَ الِاسْمُ قَائِمًا فِي الْحَالَيْنِ وَدَارَ الْحُكْمُ مَعَ الْوَصْفِ زَالَ شُبْهَةُ عِلِّيَّةِ الِاسْمِ وَتَعَيَّنَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ وَإِلَّا لَمَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْ النَّصِّ. (قَوْلُهُ لَكِنْ جُعِلَ هَذَا الْحُكْمُ حُكْمَ النَّصِّ مَجَازًا) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ هَذَا الِاشْتِرَاطَ لَا يَصِحُّ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ إذْ لَا يَكُونُ النَّصُّ قَائِمًا عِنْدَ الْوَصْفِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ حِينَئِذٍ مُوجِبٌ لَا نَفْيًا، وَلَا إثْبَاتًا، وَلَا يَتَنَاوَلُ أَصْلًا مَثَلًا إذَا لَمْ يَقُمْ إلَى الصَّلَاةِ بَلْ قَعَدَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ إلَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَيَكُونُ عَدَمُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ مَبْنِيًّا عَلَى عَدَمِ دَلِيلِ الْوُجُودِ فَيُجْعَلُ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ حَيْثُ عَبَّرَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ الْمُسْتَنِدِ إلَى النَّصِّ عَنْ مُطْلَقِ عَدَمِ الْوُجُوبِ. (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ) يَعْنِي أَنَّ النَّصَّ قَائِمٌ فِي حَالِ الْغَضَبِ بِدُونِ شَغْلِ الْقَلْبِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ الَّذِي هُوَ حُرْمَةُ الْقَضَاءِ عِنْدَ الْغَضَبِ وَأَيْضًا النَّصُّ قَائِمٌ فِي حَالِ عَدَمِ الْغَضَبِ وَشَغْلِ الْقَلْبِ بِنَحْوِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ الَّذِي هُوَ إبَاحَةُ الْقَضَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْغَضَبِ إمَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَوْ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ بِالنُّصُوصِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْقَضَاءِ وَيُجْعَلُ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مَجَازًا. (قَوْلُهُ: وَالْوُجُودُ عِنْدَ الْوُجُودِ) كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ

فَلَا حَاجَةَ إلَى مَعْنًى يُعْقَلُ قُلْنَا نَعَمْ فِي حَقِّهِ تَعَالَى أَمَّا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّهُمْ مُبْتَلُونَ بِنِسْبَةِ الْأَحْكَامِ إلَى الْعِلَلِ كَنِسْبَةِ الْمِلْكِ إلَى الْبَيْعِ وَالْقِصَاصِ إلَى الْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ مَعَ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْعِلَلِ وَالشُّرُوطِ، وَالْوُجُودُ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقَعُ اتِّفَاقًا وَقَدْ يَقَعُ فِي الْعَلَامَةِ وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا أَيْضًا) أَيْ لَا يُشْتَرَطُ الْوُجُودُ عِنْدَ الْوُجُودِ لِلْعِلِّيَّةِ (؛ لِأَنَّ التَّخَلُّفَ لِمَانِعٍ لَا يَقْدَحُ فِيهَا ثُمَّ الْعِلَّةُ عَيْنُ ذَلِكَ الْوَصْفِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِهَا، وَذَلِكَ الْوَصْفُ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِهِ) اعْلَمْ أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ لِمَانِعٍ لَا يَقْدَحُ فِي الْعِلِّيَّةِ أَمَّا عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً وَالْحُكْمُ تَخَلَّفَ عَنْهُ لِمَانِعٍ وَهَذَا التَّخَلُّفُ لَا يَقْدَحُ فِي الْعِلِّيَّةِ وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ لَا يَقُولُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ فَالْوَصْفُ يَكُونُ جُزْءًا لِلْعِلَّةِ فَمَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ التَّخَلُّفَ لِمَانِعٍ لَا يَقْدَحُ فِيهَا أَنَّ التَّخَلُّفَ لِمَانِعٍ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْوَصْفِ جُزْءًا لِلْعِلَّةِ (وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَقِيَامُ النَّصِّ فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ أَمْرٌ لَا يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا فِي بَابِ الْقِيَاسِ وَأَيْضًا هُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْحَدَثُ بِالنَّصِّ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ فِي الْخَلَفِ ذِكْرٌ فِي الْأَصْلِ وَلِأَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَقُولَ الْوُجُودُ عِنْدَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعِلِّيَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ اتِّفَاقٍ كُلِّيٍّ أَوْ تَلَازُمِ تَعَاكُسٍ أَوْ يَكُونَ الْمَدَارُ لَازِمُ الْعِلَّةِ أَوْ شَرْطًا مُسَاوِيًا لَهَا فَلَا يُقَيِّدُ ظَنَّ الْعِلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا احْتِمَالٌ وَاحِدٌ وَهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ يُقَالُ إذَا وُجِدَ الدَّوَرَانُ مَعَ غَيْرِ مَانِعٍ مِنْ الْعِلِّيَّةِ مِنْ مَعِيَّةٍ كَمَا فِي الْمُتَضَايِفَيْنِ أَوْ تَأَخُّرٍ كَمَا فِي الْمَعْلُولِ وَالْعِلَّةِ أَوْ غَيْرِهِمَا كَمَا فِي شَرْطِ الْمُسَاوِي فَالْعَادَةُ قَاضِيَةٌ بِحُصُولِ الظَّنِّ بَلْ الْقَطْعُ بِالْعِلِّيَّةِ كَمَا إذَا دُعِيَ إنْسَانٌ بِاسْمٍ مُغْضِبٍ فَغَضِبَ ثُمَّ تُرِكَ فَلَمْ يَغْضَبْ وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُ سَبَبُ الْغَضَبِ حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّظَرُ كَالْأَطْفَالِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيَتَّبِعُونَهُ فِي الطُّرُقِ وَيَدْعُونَهُ بِذَلِكَ الِاسْمِ وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ النِّزَاعَ إنَّمَا هُوَ فِي حُصُولِ الظَّنِّ بِمُجَرَّدِ الدَّوْرَانِ وَهُوَ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمِثَالِ مَمْنُوعٌ إذْ لَوْلَا انْتِفَاءُ ظُهُورِ غَيْرِ ذَلِكَ إمَّا بِأَنَّهُ بَحَثَ عَنْهُ فَلَمْ يُوجَدْ، وَإِمَّا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُهُ لَمَّا حَصَلَ الظَّنُّ غَايَتَهُ أَنَّهُ يُفِيدُ تَقْوِيَةَ الظَّنِّ الْحَاصِلِ مِنْ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا يُقَالُ إنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِلضَّرُورِيِّ وَقَدْحٌ فِي جَمِيعِ التَّجْرِيبِيَّاتِ فَإِنَّ الْأَطْفَالَ يَقْطَعُونَ بِهِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ بِمَا ذَكَرْتُمْ وَأَهْلُ النَّظَرِ كَالْمُجْتَمِعِينَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى كَادَ يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ أَنَّ دَوَرَانَ الشَّيْءِ مَعَ الشَّيْءِ آيَةُ كَوْنِ الْمَدَارِ عِلَّةً لِلدَّائِرِ وَيُجَابُ بِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَقْلِيَّةَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْمَصَالِحِ فَلَا بُدَّ فِي بَيَانِ عِلَلِهَا مِنْ مُنَاسَبَةٍ أَوْ اعْتِبَارٍ مِنْ

الْمَعْنَى إذَا قُمْتُمْ مِنْ مَضَاجِعِكُمْ، وَالنَّوْمُ دَلِيلُ الْحَدَثِ وَلَمَّا كَانَ الْمَاءُ مُطَهِّرًا دَلَّ عَلَى قِيَامِ النَّجَاسَةِ فَاكْتَفَى فِيهِ) أَيْ فِي الْمَاءِ يَعْنِي فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ (بِدَلَالَةِ النَّصِّ) أَيْ عَلَى وُجُودِ الْحَدَثِ (وَاخْتَارَ فِي التَّيَمُّمِ التَّصْرِيحَ) أَيْ بِوُجُودِ الْحَدَثِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] إلَى قَوْلِهِ: {فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] (وَأَيْضًا فِيهِ إيمَاءٌ) أَيْ فِي النَّصِّ إشَارَةٌ (إلَى أَنَّ الْوُضُوءَ عِنْدَ عَدَمِ الْحَدَثِ سُنَّةٌ لِكَوْنِهِ ائْتِمَارًا لِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْحَدَثِ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْغُسْلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِسُنَّةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ) وَهَذَا وَجْهٌ آخَرُ لِتَرْكِ التَّصْرِيحِ بِالْحَدَثِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّصْرِيحِ بِهِ فِي التَّيَمُّمِ (وَالْغَضَبُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ شَغْلِ الْقَلْبِ وَلَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ إلَّا بَعْدَ سُكُونِهِ) هَذَا مَنْعٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّارِعَ إذْ فِي الْقَوْلِ بِالطَّرَدِ فَتْحٌ لَبَابِ الْجَهْلِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الشَّرْعِ (قَوْلَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَهَا أَيْضًا) زِيَادَةُ تَنْبِيهٍ عَلَى بُعْدِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الدَّوْرَانِ وَالْعِلِّيَّةِ يَعْنِي أَنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلْزُومِ لِلْعِلِّيَّةِ فَكَذَلِكَ لَيْسَ بِلَازِمٍ لَهَا لِجَوَازِ أَنْ لَا يُوجَدُ الْحُكْمُ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الظَّاهِرَةِ بِنَاءً عَلَى مَانِعٍ أَوْ عَلَى عَدَمِ تَمَامِهَا حَقِيقَةً وَأَنْ لَا يَنْعَدِمَ عِنْدَ عَدَمِهَا بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى كَالْحَدِيثِ يَثْبُتُ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ وَالنَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْكَلَامِ إنَّ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعِلِّيَّةِ كَمَا أَنَّ الْعَدَمَ عِنْدَ الْوُجُودِ وَالْوُجُودَ عِنْدَ الْعَدَمِ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِهَا اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الْمُوَافَقَةِ بِحَالَةِ الْمُخَالَفَةِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ (قَوْلُهُ: وَقِيَامُ النَّصِّ) إشَارَةٌ إلَى بُطْلَانِ كَلَامِ الْفَرِيقِ الثَّالِثِ وَذَلِكَ أَنَّ مَا اشْتَرَطُوا مِنْ قِيَامِ النَّصِّ فِي الْحَالَيْنِ مِنْ غَيْرِ حُكْمٍ أَمْرٌ لَا يُوجَدُ إلَّا نَادِرًا، وَلَا عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ أَصْلًا فِيمَا هُوَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ بِأَنْ يُبْتَنَى عَلَيْهِ ثُبُوتُ الْعِلِّيَّةِ عَلَى أَنَّ وُجُودَهُ بِطَرِيقِ النُّدْرَةِ أَيْضًا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ فِي الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورِينَ قِيَامَ النَّصِّ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ أَمَّا فِي الْآيَةِ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ قِيَامَ النَّصِّ بِدُونِ الْحُكْمِ حَالَ انْتِفَاءِ الْحَدَثِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ النَّصُّ مُقَيَّدًا بِالْحَدَثِ وَمُقَيَّدًا لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ بِشَرْطِ وُجُودِ الْحَدَثِ وَبَيَانِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْحَدَثِ فِي وُجُوبِ الْبَدَلِ وَهُوَ التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] اشْتِرَاطٌ لَهُ فِي وُجُوبِ الْأَصْلِ وَهُوَ الْوُضُوءُ إذْ الْبَدَلُ لَا يُفَارِقُ الْأَصْلَ بِسَبَبِهِ وَإِنَّمَا يُفَارِقُهُ بِحَالِهِ بِأَنْ يَجِبَ فِي حَالٍ لَا يَجِبُ فِيهَا الْأَصْلُ وَبِالْجُمْلَةِ لَمَّا رَتَّبَ وُجُوبَ التَّيَمُّمِ عَلَى وُجُودِ الْحَدَثِ عِنْد فَقْدِ الْمَاءِ فُهِمَ أَنَّ وُجُوبَ التَّوَضُّؤِ بِالْمَاءِ مُرَتَّبٌ عَلَى الْحَدَثِ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْعَمَلَ بِظَاهِرِ النَّصِّ مُتَعَذِّرٌ لِاقْتِضَائِهِ وُجُوبَ التَّوَضُّؤِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ، أَيْ: إذَا قُمْتُمْ مِنْ مَضَاجِعِكُمْ أَوْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ مُحَدِّثِينَ، وَالْقِيَامُ مِنْ الْمَضْجَعِ كِنَايَةٌ عَنْ التَّنَبُّهِ مِنْ النَّوْمِ، وَالنَّوْمُ دَلِيلُ الْحَدَثِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ ذِكْرُ الْحَدَثِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ

لِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ يَحِلُّ الْقَضَاءُ وَهُوَ غَضْبَانُ عِنْدَ فَرَاغِ الْقَلْبِ فَمَا ذَكَرَ أَنَّ النَّصَّ قَائِمٌ فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ مَمْنُوعٌ أَمَّا حَالَ وُجُودِ الْوَصْفِ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ إلَّا بَعْدَ سُكُونِ النَّفْسِ عَنْ الْغَضَبِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَتْنِ وَأَمَّا حَالَ عَدَمِ الْوَصْفِ وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْمَتْنِ فَعِنْدَنَا لَا دَلَالَةَ لِلنَّصِّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ وَكَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرَائِطِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنْ لَا يَثْبُتُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ وَقَدْ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَحِلُّ عِنْدَ شَغْلِ الْقَلْبِ بِغَيْرِ الْغَضَبِ فَيَثْبُتُ التَّسَاوِي بَيْنَ الْمَنْطُوقِ وَالْمَسْكُوتِ فَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ صِحَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّصِّ، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُضْمَرِ وَإِطْلَاقُ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهِ إمَّا لُغَوِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ النَّصِّ أَوْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ أَوْ التَّغْلِيبِ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ الْمَضْجَعِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى النَّوْمِ دَلَالَةً لَا عِبَارَةً وَهَذَا أَنْسَبُ فَإِنْ قِيلَ لِلْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَانَتْ قَضِيَّةُ التَّرْتِيبِ أَنْ يُصَرِّحَ بِالْحَدَثِ فِي وُجُوبِ الْوُضُوءِ وَيُكْتَفَى بِالدَّلَالَةِ فِي وُجُوبِ التَّيَمُّمِ فَلَمَّا عُكِسَتْ أُجِيبُ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ فَإِيجَابُ اسْتِعْمَالِهِ دَلَّ عَلَى وُجُودِ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى إزَالَتِهَا بِخِلَافِ إيجَابِ اسْتِعْمَالِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ مُلَوَّثٌ لَا يَقْتَضِي سَابِقَةَ حَدَثٍ فَصَرَّحَ مَعَهُ بِالْحَدَثِ الثَّانِي أَنَّ فِي تَرْكِ التَّصْرِيحِ بِالْحَدَثِ فِي نَصِّ الْوُضُوءِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْوُضُوءَ سُنَّةٌ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِ الْأَمْرِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَدَمُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ بِدُونِ الْحَدَثِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِيجَابِ عِنْدَ الْحَدَثِ عَمَلًا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ وَعَلَى النَّدْبِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَدَثِ عَمَلًا بِظَاهِرِ إطْلَاقِهِ وَتَرَكَ هَذَا الْإِيمَاءَ فِي الْغُسْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَنُّ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَلْ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ فَصَرَّحَ مَعَهُ بِذِكْرِ الْحَدَثِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يَعْتَبِرُهُ الْبُلَغَاءُ فِي تَرْكِيبِهِمْ مِنْ الرُّمُوزِ لَا عَلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ الْأَمْرَ لِلْمُحْدِثِ إيجَابًا وَلِغَيْرِهِ نَدْبَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ مِنْ اللَّفْظِ مَعْنَيَاهُ الْمُخْتَلِفَانِ فَإِنْ قُلْت مَبْنَى هَذِهِ الْمَبَاحِثِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْوُضُوءِ هُوَ الْحَدَثُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّ سَبَبَهُ إرَادَةُ الصَّلَاةِ لَا الْحَدَثُ. قُلْتُ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقْدِيرِ أَيْ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْحَدَثُ فَهِيَ لَمْ تَثْبُتْ بِالدَّوَرَانِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ، وَأَمَّا فِي الْحَدِيثِ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ حُكْمِ النَّصِّ وَهُوَ حُرْمَةُ الْقَضَاءِ مَعَ وُجُودِ الْوَصْفِ وَهُوَ الْغَضَبُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْغَضَبُ بِدُونِ شَغْلِ الْقَلْبِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ كَيْفَ وَالْغَضْبَانُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ بِمَعْنَى الْمُمْتَلِئِ غَضَبًا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ الزَّجَّاجِ فَلَا يُتَصَوَّرُ لَهُ فَرَاغُ الْقَلْبِ مَا دَامَ غَضْبَانَ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ مَنْعُ قِيَامِ النَّصِّ فِي الْحَالَيْنِ مَعَ عَدَمِ حُكْمِهِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْبَعْضِ إلَّا أَنَّهُ تَعَرَّضَ فِي الشَّرْحِ لِحَالِ الْعَدَمِ أَيْضًا زِيَادَةً لِتَحْقِيقِ الْمَقْصُودِ يَعْنِي أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِنْ حُكْمِ هَذَا النَّصِّ حِلُّ الْقَضَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْغَضَبِ وَإِنَّمَا يَكُونَ كَذَلِكَ لَوْ تَحَقَّقَ شَرَائِطُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ

[فصل لا يجوز التعليل لإثبات العلة]

مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فَلَا يَكُونُ النَّصُّ حِينَئِذٍ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ فَبَطَلَ قَوْلُهُ: إنَّ النَّصَّ قَائِمٌ فِي الْحَالَيْنِ وَلَا حُكْمَ لَهُ. (فَصْلٌ: لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ كَإِحْدَاثِ تَصَرُّفٍ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ) أَيْ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ إحْدَاثُ تَصَرُّفٍ يَكُونُ عِلَّةً لِثُبُوتِ الْمِلْكِ (وَقَوْلُنَا الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ بِالنَّصِّ وَهُوَ نَهْيٌ عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ) جَوَابُ إشْكَالٍ وَهُوَ أَنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ بِالْقِيَاسِ شَيْئًا هُوَ عِلَّةٌ لِحُرْمَةِ النَّسَاءِ وَهُوَ الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ أَيْ بِدُونِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا النَّصَّ وَهُوَ قَوْلُ الرَّاوِي نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ، وَالرِّيبَةُ: الشَّكُّ وَالْمُرَادُ بِالرِّيبَةِ هُنَا شُبْهَةُ الرِّبَا وَشُبْهَةُ الرَّبَّا ثَابِتَةٌ فِيمَا إذَا كَانَ الْجِنْسُ بِانْفِرَادِهِ مَوْجُودًا أَوْ قَدْ بَاعَ نَسِيئَةً؛ لِأَنَّ لِلنَّقْدِ مَزِيَّةً عَلَى النَّسِيئَةِ (وَكَوْنُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَكَذَا الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ عِنْدَهُمَا) أَيْ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ الْمُسْتَنْبَطِ فَلَا يَرِدُ حِينَئِذٍ إشْكَالٌ (وَصِفَتِهَا) بِالْجَرِّ أَيْ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْعِلَّةِ (كَإِثْبَاتِ السَّوْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَمْنُوعٌ. [فَصْلٌ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّعْدِيَةَ حُكْمٌ لَازِمٌ لِلتَّعْلِيلِ عِنْدَنَا جَائِزٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ إلَّا لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنْ الْمَحَلِّ الْمَنْصُوصِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ وَالْقِيَاسُ وَاحِدًا وَعَنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجُوزُ لِزِيَادَةِ الْقَبُولِ وَسُرْعَةِ الْوُصُولِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى حِكْمَةِ الشَّارِعِ فَيُوجَدُ التَّعْلِيلُ بِدُونِ الْقِيَاسِ، وَالْكَلَامُ فِي التَّعْلِيلِ الْغَيْرِ الْمَنْصُوصِ ثُمَّ جُمْلَةُ مَا يَقَعُ التَّعْلِيلُ لِأَجْلِهٍ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ إثْبَاتُ السَّبَبِ أَوْ وَصْفُهُ. الثَّانِي إثْبَاتُ الشَّرْطِ أَوْ وَصْفِهِ. الثَّالِثُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ أَوْ وَصْفُهُ. الرَّابِعُ تَعْدِيَةُ حُكْمٍ مَشْرُوعٍ مَعْلُومٍ بِصِفَتِهِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ يُمَاثِلُهُ فِي التَّعْلِيلِ فَالتَّعْلِيلُ مُخْتَصٌّ بِالتَّعْدِيَةِ لَا يَجُوزُ لِأَجْلِ إثْبَاتِ سَبَبٍ أَوْ صِفَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إثْبَاتُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ، وَلَا لِإِثْبَاتِ شَرْطٍ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ صِفَتِهِ بِحَيْثُ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِدُونِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْطَالٌ لِلْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ وَنَسْخٌ لَهُ بِالرَّأْيِ، وَلَا لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ أَوْ صِفَتِهِ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ نَصْبُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَّا إذَا وُجِدَ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ صَالِحٌ لِلتَّعْلِيلِ فَيُعَلَّلُ وَيَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ سَوَاءٌ كَانَ الْحُكْمُ إثْبَاتَ سَبَبٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ وَصْفِهِمَا أَوْ إثْبَاتَ حُكْمٍ آخَرَ مِثْلَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَغَيْرِهِمَا فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ التَّعْلِيلَ لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ أَوْ الشَّرْطِ أَوْ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ وَلِإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ مِثْلِ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ مِنْ أَصْلٍ مَوْجُودٍ فِي الشَّرْعِ ثَابِتٍ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ جَائِزٍ بِالِاتِّفَاقِ. وَاخْتَلَفُوا فِي التَّعْلِيلِ لِإِثْبَاتِ السَّبَبِيَّةِ أَوْ الشَّرْطِيَّةِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ مِنْ أَصْلٍ ثَابِتٍ فِي الشَّرْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ كَوْنُ الشَّيْءِ سَبَبًا أَوْ شَرْطًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ آخَرُ عِلَّةً أَوْ شَرْطًا لِذَلِكَ الْحُكْمِ قِيَاسًا عَلَى الشَّيْءِ الْأَوَّلِ عِنْدَ تَحْقِيقِ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ مِثْلُ أَنْ تُجْعَلَ اللِّوَاطَةُ سَبَبًا

فِي الْأَنْعَامِ وَلِإِثْبَاتِ الشَّرْطِ أَوْ صِفَتِهِ كَالشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ) هَذَا نَظِيرُ إثْبَاتِ الشَّرْطِ (وَكَكَوْنِهِمْ رِجَالًا أَوْ مُخْتَلِطَةً) نَظِيرُ إثْبَاتِ صِفَةِ الشَّرْطِ (وَلِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ أَوْ صِفَتِهِ كَصَوْمِ بَعْضِ الْيَوْمِ) نَظِيرُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ (وَكَصِفَةِ الْوِتْرِ) نَظِيرُ إثْبَاتِ صِفَةِ الْحُكْمِ (؛ لِأَنَّ فِيهِ نَصْبَ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ فَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ فَيَصِحُّ كَاشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ) أَيْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (فَإِنَّ لَهُ) أَيْ لِاشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (أَصْلًا وَهُوَ الصَّرْفُ وَلِجَوَازِهِ بِدُونِهِ أَصْلًا) أَيْ لِجَوَازِ الْبَيْعِ بِدُونِ التَّقَابُضِ عِنْدَنَا أَصْلًا (وَهُوَ بَيْعُ سَائِرِ السِّلَعِ) فَالْحَاصِلُ أَنَّ اشْتِرَاطَ التَّقَابُضِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَ إثْبَاتَ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ يُوجَدُ لَهُ أَصْلٌ وَهُوَ بَيْعُ الصَّرْفِ وَعَدَمُ اشْتِرَاطِهِ عِنْدَنَا كَذَلِكَ يُوجَدُ لَهُ أَصْلٌ وَهُوَ بَيْعُ سَائِرِ السِّلَعِ (فَالتَّعْلِيلُ لَا يَصِحُّ إلَّا لِلتَّعْدِيَةِ هَذَا مَا قَالُوا) إنَّمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQلِوُجُوبِ الْحَدِّ قِيَاسًا عَلَى الزِّنَا وَتُجْعَلَ النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ قِيَاسًا عَلَى النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَذْهَبَيْنِ إلَى امْتِنَاعِهِ، وَبَعْضُهُمْ إلَى جَوَازِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَتْبَاعِهِ فَلِهَذَا احْتَاجُوا إلَى التَّفْصِيلِ وَالْإِشَارَةِ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْحُكْمِ وَالسَّبَبِ وَالشَّرْطِ فِي أَنَّهَا تَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ بِالتَّعْلِيلِ إنْ وُجِدَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَتَمْتَنِعُ إنْ لَمْ يُوجَدْ وَقَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ دُونَ إثْبَاتِ السَّبَبِ أَوْ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ عِلَّةِ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَخْتَلِفُ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ أَوْ الشَّرْطِ فَمَمْنُوعٌ بَلْ يُتَصَوَّرُ فِي الْجَمِيعِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ بِمُثْبِتٍ فَمُسَلَّمٌ وَالْجَمِيعُ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ شَيْءٌ بِالْقِيَاسِ بَلْ يُعْرَفُ بِهِ السَّبَبُ وَالشَّرْطُ كَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْحُكْمُ، وَاحْتِجَاجُ الْفَرِيقَيْنِ مَذْكُورٌ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ وَمَقْصُودُ هَذَا الْفَصْلِ مَشْهُورٌ فِيمَا بَيْنَ الْقَوْمِ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِهِمْ. (قَوْلُهُ: وَقَوْلُنَا الْجِنْسُ قَدْ تَوَهَّمَ) وُرُودُ الْإِشْكَالِ بِأَنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ بِالْقِيَاسِ عِلِّيَّةَ مُجَرَّدِ الْجِنْسِ لِحُرْمَةِ الرِّبَا وَعِلِّيَّةَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَعِلِّيَّةَ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَجَابَ بِأَنَّا لَمْ نُثْبِتْ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالنَّصِّ عِبَارَةً فِي الْأَوَّلِ وَدَلَالَةً فِي الْأَخِيرَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَحْثِ دَلَالَةِ النَّصِّ وَلَمْ يُورِدْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْمُقَامِ مَسْأَلَةَ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلَا مَسْأَلَةَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِالْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُمَا مِنْ قَبِيلِ دَلَالَةِ النَّصّ دُونَ الْقِيَاسِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْحُدُودِ وَالْكَفَّارَاتِ لَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَصِحُّ إثْبَاتُ السَّبَبِ وَالشَّرْطِ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ إذَا وُجِدَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَهَاهُنَا الْوِقَاعُ أَصْلٌ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْقَتْلُ بِالسَّيْفِ أَصْلٌ لِلْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ

قُلْتُ هَذَا؛ لِأَنِّي نَقَلْت هَذَا الْفَصْلَ عَنْ أُصُولِ الْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَمْ أَدْرِ مَا مُرَادُهُ فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَصْلًا فَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ الْبَابِ وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذِهِ الْجُمْلَةَ إذَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ أَصْلٌ يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ وَأَمَّا إذَا وُجِدَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعْلِيلُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا أَصْلٌ فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمُورِ بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَا فَائِدَةَ فِي تَفْصِيلِهَا بَلْ يَكْفِيهِ أَنْ يَقُولَ لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ وَهَذَا الْمَعْنَى مَعْلُومٌ مِنْ تَعْرِيفِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ مِنْ الْأَصْلِ إلَى الْفَرْعِ بِعِلَّةٍ مُتَّحِدَةٍ (وَالْحَقُّ إثْبَاتُ الْعِلَّةِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ عَلِيَّتَهَا لِمَعْنًى آخَرَ يَصْلُحُ لِلتَّعْلِيلِ فَكُلُّ شَيْءٍ يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى يُحْكَمُ بِعَلِيَّتِهِ لَكِنْ لَا يَكُونُ هَذَا إثْبَاتَ الْعِلَّةِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْحَقِيقَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ) فَلَا؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ تَعْلِيلًا بِالْمُرْسَلِ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ. (فَصْلٌ الْقِيَاسُ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ فَالْخَفِيُّ يُسَمَّى بِالِاسْتِحْسَانِ لَكِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يُورِدَ هَذَا إشْكَالًا عَلَى إثْبَاتِ السَّبَبِ بِالتَّعْلِيلِ فِيمَا لَا يُوجَدُ لَهُ أَصْلٌ وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ لِلْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَذَلِكَ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إثْبَاتُ السَّبَبِ بِالْقِيَاسِ فَأُورِدَ الْقَتْلُ بِالْمُثْقَلِ إشْكَالًا فَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُبَيِّنُ سَبَبِيَّةَ الْقَتْلِ بِالْمُثْقَلِ قِيَاسًا عَلَى سَبَبِيَّةِ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ بَلْ نُبَيِّنُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَتْلُ الْعَمْدُ الْعُدْوَانُ سَوَاءٌ كَانَ بِالسَّيْفِ أَوْ بِغَيْرِهِ فَالسَّبَبُ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ حُرْمَةِ الرِّبَا بِالْجِنْسِ فَأَوْرَدَهَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثَالًا لَا إشْكَالًا فَقَالَ أَمَّا تَفْسِيرُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَيْ بَيَانُ إثْبَاتِ الْمُوجِبِ فَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ إنَّهُ يَحْرُمُ النَّسِيئَةُ، وَهَذَا خِلَافٌ وَقَعَ فِي الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ فَلَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهُ، وَلَا نَفْيُهُ بِالرَّأْيِ إذْ لَا نَجِدُ أَصْلًا نَقِيسُهُ عَلَيْهِ بَلْ يَجِبُ الْكَلَامُ فِيهِ بِالنَّصِّ عِبَارَةً أَوْ إشَارَةً أَوْ دَلَالَةً أَوْ اقْتِضَاءً وَذَلِكَ أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ حُرْمَةُ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ وَوَجَدْنَا حُرْمَةَ الرِّبَا حُكْمًا يَسْتَوِي فِيهِ شُبْهَتُهُ بِحَقِيقَتِهِ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الرِّبَا وَالرِّيبَةِ» وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ الْبَيْعِ مُجَازَفَةً كَبَيْعِ صُبْرَةِ حِنْطَةٍ بِصُبْرَةٍ بِاعْتِبَارِ تَسَاوِيهِمَا فِي رَأْيِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَوَجَدْنَا فِي النَّسِيئَةِ شُبْهَةَ الْفَضْلِ وَهِيَ الْحُلُولُ إذْ النَّقْدُ خَيْرٌ مِنْ النَّسِيئَةِ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فَضْلًا مِنْ جِهَةِ الْوَصْفِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ بِصُنْعِ الْعَبْدِ فَاعْتُبِرَ كَمَا فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ الْمَقْلِيَّةِ بِغَيْرِ الْمَقْلِيَّةِ لِإِمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِخِلَافِ الْفَضْلِ مِنْ جِهَةِ الْجَوْدَةِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِصُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعَلَ عَفْوَ التَّعَذُّرِ الِاحْتِرَازَ عَنْهُ وَلَمَّا كَانَتْ الْعِلَّةُ هِيَ الْقَدْرَ وَالْجِنْسَ أَخَذَ الْجِنْسَ شُبْهَةَ الْعِلَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ شَطْرُ الْعِلَّةِ فَأَثْبَتْنَا بِهِ شُبْهَةَ الرِّبَا احْتِيَاطًا فَيَثْبُتُ سَبَبِيَّةُ الْجِنْسِ لِحُرْمَةِ النَّسِيئَةِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ الْمُوجِبِ لِسَبَبِيَّةِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ لِحُرْمَةِ حَقِيقَةِ الْقَدْرِ. (قَوْلُهُ وَالْحَقُّ) فِي مَسْأَلَةِ إثْبَاتِ

[فصل القياس جلي وخفي]

الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ) فَإِنَّ كُلَّ قِيَاسٍ خَفِيٍّ اسْتِحْسَانٌ وَلَيْسَ كُلُّ اسْتِحْسَانٍ قِيَاسًا خَفِيًّا؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَيْضًا كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَتْنِ لَكِنَّ الْغَالِبَ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا ذُكِرَ الِاسْتِحْسَانُ أُرِيدَ بِهِ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ (وَهُوَ دَلِيلٌ يُقَابِلُ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ الَّذِي يَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ) هَذَا تَفْسِيرُ الِاسْتِحْسَانِ وَبَعْضُ النَّاسِ تَحَيَّرُوا فِي تَعْرِيفِهِ، وَتَعْرِيفُهُ الصَّحِيحُ هَذَا، وَهُوَ أَنَّهُ دَلِيلٌ يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ. وَقَوْلُهُ الَّذِي يَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ تَفْسِيرٌ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ (وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِالدَّلَائِلِ الَّتِي هِيَ حُجَّةٌ إجْمَاعًا ضَمِيرٌ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الِاسْتِحْسَانِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلَّةِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ عِلِّيَّةُ شَيْءٌ لِحُكْمِ بِنَاءٍ عَلَى مَعْنًى صَالِحٍ لِتَعْلِيلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا أَوْ مُلَائِمًا فَكُلُّ شَيْءٍ يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُؤَثِّرُ أَوْ الْمُلَائِمُ فَهُوَ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِلِّيَّتُهُ بِمَا هُوَ مِنْ مُسَالِكِ الْعِلَّةِ فَتَكُونُ الْعِلَّةُ وَاحِدَةً تَتَعَدَّدُ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ مَثَلًا إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوِقَاعَ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ صَوْمِ رَمَضَانَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ هَتْكُ الْحُرْمَةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْأَكْلِ فَيَحْكُمُ بِأَنَّهُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ عِلِّيَّةَ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِلْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِمَالِهِ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى بَلْ وَجَدَ مُجَرَّدَ مُنَاسَبَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى لِعِلِّيَّةِ الْحُكْمِ لَمْ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِعِلِّيَّةِ شَيْءٍ آخَرَ يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبُ قِيَاسًا عَلَى مَا ثَبَتَ عِلِّيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ بِالْمُرْسَلِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ تَأْثِيرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبِ، وَلَا مُلَائَمَتُهُ وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْعِلَّةِ بِالْقِيَاسِ فَيَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِصِحَّةِ التَّعْلِيلِ بِالْمُرْسَلِ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّأْثِيرَ أَوْ الْمُلَاءَمَةَ. [فَصْلٌ الْقِيَاسُ جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) فِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ فِي اللُّغَةِ عَدُّ الشَّيْءِ حَسَنًا، وَقَدْ كَثُرَ فِيهِ الْمُدَافَعَةُ وَالرَّدُّ عَلَى الْمُدَافِعِينَ وَمَنْشَؤُهُمَا عَدَمُ تَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْفَرِيقَيْنِ وَمَبْنَى الطَّعْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الْجُرْأَةِ وَقِلَّةِ الْمُبَالَاةِ فَإِنَّ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِحْسَانِ يُرِيدُونَ بِهِ مَا هُوَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ مَنْ اسْتَحْسَنَ فَقَدْ شَرَّعَ يُرِيدُونَ أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ حُكْمًا بِأَنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ الشَّارِعِ فَهُوَ الشَّارِعُ لِذَلِكَ الْحُكْمِ حَيْثُ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ الشَّارِعِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الِاسْتِحْسَانِ مَا يَصْلُحُ مَحَلًّا لِلنِّزَاعِ إذْ لَيْسَ النِّزَاعُ فِي التَّسْمِيَةِ؛ لِأَنَّهُ اصْطِلَاحٌ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَنُقِلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ إطْلَاقُ الِاسْتِحْسَانِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ وَشُرْبِ الْمَاءِ مِنْ يَدِ السِّقَاءِ وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ أَسْتَحْسِنُ فِي الْمُتْعَةِ أَنْ تَكُونَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا وَأَسْتَحْسِنُ تَرْكَ شَيْءٍ لِلْمُكَاتَبِ مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ

[للقياس الخفي قسمين]

وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ الْعَمَلَ بِالِاسْتِحْسَانِ جَهْلًا مِنْهُمْ فَإِنْ أَنْكَرُوا هَذِهِ التَّسْمِيَةَ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ وَإِنْ أَنْكَرُوهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَاطِلٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّا نَعْنِي بِهِ دَلِيلًا مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا يَقَعُ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَيُعْمَلُ بِهِ إذَا كَانَ أَقْوَى مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهِ (؛ لِأَنَّهُ إمَّا بِالْأَثَرِ كَالسَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ فِي النِّسْيَانِ وَإِمَّا بِالْإِجْمَاعِ كَالِاسْتِصْنَاعِ وَإِمَّا بِالضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْحِيَاضِ وَالْآبَارِ وَإِمَّا بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ، وَذَكَرُوا لَهُ) أَيْ لِلْقِيَاسِ الْخَفِيِّ (قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ) أَيْ تَأْثِيرُهُ (وَالثَّانِي مَا ظَهَرَ صِحَّتُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ) أَيْ إذَا نَظَرْنَا إلَيْهِ بَادِئَ النَّظَرِ نَرَى صِحَّتَهُ ثُمَّ إذَا تَأَمَّلْنَا حَقَّ التَّأَمُّلِ عَلِمْنَا أَنَّهُ فَاسِدٌ (وَلِلْقِيَاسِ) أَيْ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ (قِسْمَانِ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ وَمَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَخَفِيَ صِحَّتُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَعْنَى فَقَدْ قِيلَ هُوَ دَلِيلٌ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِ الْمُجْتَهِدِ يَعْسُرُ عَلَيْهِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ فَإِنْ أُرِيدَ بِالِانْقِدَاحِ الثُّبُوتُ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِهِ، وَلَا أَثَرَ لَعَجْزِهِ عَنْ التَّعْبِيرِ عَنْهُ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ شَكٌّ فَلَا نِزَاعَ فِي بُطْلَانِ الْعَمَلِ وَقِيلَ هُوَ الْعُدُولُ عَنْ قِيَاسٍ إلَى قِيَاسٍ أَقْوَى وَقِيلَ الْعُدُولُ إلَى خِلَافِ الظَّنِّ لِدَلِيلٍ أَقْوَى، وَلَا نَزَالُ فِي قَبُولِ ذَلِكَ وَقِيلَ تَخْصِيصُ الْقِيَاسِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ فَيَرْجِعُ إلَى تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَقَالَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ الْعُدُولُ فِي مَسْأَلَةٍ عَنْ مِثْلِ مَا حُكِمَ بِهِ فِي نَظَائِرِهَا إلَى خِلَافِهِ بِوَجْهٍ هُوَ أَقْوَى وَيَدْخُلُ فِيهِ التَّخْصِيصُ وَالنَّسْخُ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ هُوَ تَرْكُ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاجْتِهَادِ غَيْرِ شَامِلٍ شُمُولَ الْأَلْفَاظِ بِوَجْهٍ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَلَى الْأَوَّلِ وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ غَيْرِ شَامِلٍ عَنْ تَرْكِ الْعُمُومِ إلَى الْخُصُوصِ وَبِقَوْلِهِ وَهُوَ فِي حُكْمِ الطَّارِئِ عَنْ الْقِيَاسِ فِيمَا إذَا قَالُوا لَوْ تَرَكْنَا الِاسْتِحْسَانَ بِالْقِيَاسِ وَأَوْرَدَ عَلَى هَذِهِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ تَرْكَ الِاسْتِحْسَانِ بِالْقِيَاسِ يَكُونُ عُدُولًا عَنْ الْأَقْوَى إلَى الْأَضْعَفِ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَى الْقِيَاسِ يَصِيرُ بِهِ أَقْوَى وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الْعِبَارَاتُ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى مَا يَهْوَاهُ الْإِنْسَانُ وَيَمِيلُ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَ الْغَيْرِ وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ إنْكَارُ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِمَعْنَاهُ مُسْتَحْسَنًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُرَادُ مِنْهُ إذْ لَا وَجْهَ لِقَبُولِ الْعَمَلِ بِمَا لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ. [لِلْقِيَاسِ الْخَفِيِّ قِسْمَيْنِ] وَبَعْدَمَا اسْتَقَرَّتْ الْآرَاءُ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِدَلِيلٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ نَصًّا كَانَ أَوْ إجْمَاعًا أَوْ قِيَاسًا خَفِيًّا إذَا وَقَعَ فِي مُقَابَلَةِ قِيَاسٍ تَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ حَتَّى لَا يُطْلَقَ عَلَى نَفْسِ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنْ غَيْرِ تَصَوُّرِ خِلَافٍ ثُمَّ إنَّهُ غَلَبَ فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِ عَلَى الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ خَاصَّةً كَمَا غَلَبَ اسْمُ الْقِيَاسِ عَلَى الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ تَمْيِيزًا بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَأَمَّا فِي الْفُرُوعِ فَإِطْلَاقُ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عِنْدَ وُقُوعِهِمَا فِي مُقَابَلَةِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ شَائِعٌ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْقِيَاسِ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يَصِحُّ التَّمَسُّكُ بِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ

فَأَوَّلُ ذَلِكَ رَاجِحٌ عَلَى أَوَّلِ هَذَا) أَيْ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ مَا قَوِيَ أَثَرُهُ رَاجِحٌ عَلَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ وَهُوَ مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ وَاعْلَمْ أَنَّا إذَا ذَكَرْنَا الْقِيَاسَ نُرِيدُ بِهِ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَإِذَا ذَكَرْنَا الِاسْتِحْسَانَ نُرِيدُ بِهِ الْقِيَاسَ الْخَفِيَّ فَلَا تَنْسَ هَذَا الِاصْطِلَاحَ (لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْأَثَرُ لَا الظُّهُورُ وَثَانِي هَذَا عَلَى ثَانِي ذَلِكَ) أَيْ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ وَخَفِيَ صِحَّتُهُ رَاجِحٌ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ صِحَّتُهُ وَخَفِيَ فَسَادُهُ (فَالْأَوَّلُ) وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيَاسِ كَسُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ فَإِنَّهُ نَجِسٌ قِيَاسًا عَلَى سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ، طَاهِرٌ اسْتِحْسَانًا لَأَنَّهَا تَشْرَبُ بِمِنْقَارِهَا وَهُوَ عَظْمٌ طَاهِرٌ. وَالثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ (كَسَجْدَةِ التِّلَاوَةِ تُؤَدَّى بِالرُّكُوعِ قِيَامًا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الرُّكُوعَ مَقَامَ السَّجْدَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ بِالسُّجُودِ فَلَا تُؤَدَّى بِالرُّكُوعِ كَسُجُودِ الصَّلَاةِ فَعَمِلْنَا بِالصِّحَّةِ الْبَاطِنَةِ فِي الْقِيَاسِ وَهِيَ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا يُتَمَسَّكُ بِهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ. (قَوْلُهُ: وَذَكَرُوا لَهُ) قِسْمَيْنِ الصِّحَّةُ تُقَارِبُ الْأَثَرَ وَالضَّعْفُ يُقَارِبُ الْفَسَادَ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ تَقَابُلُ الْقِسْمَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسِ وَالْمُرَادُ بِظُهُورِ الصِّحَّةِ فِي الِاسْتِحْسَانِ ظُهُورُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى فَسَادِ الْخَفِيِّ وَهُوَ لَا يُنَافِي خَفَاءَهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْقِيَاسِ وَالْمُرَادُ بِخَفَاءِ الصِّحَّةِ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ خَفَاؤُهَا بِأَنْ يَنْضَمَّ إلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ مَعْنًى دَقِيقٌ يُورِثُهُ قُوَّةً وَرُجْحَانًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَى الرُّجْحَانِ هَاهُنَا تَعَيُّنُ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِالْمَرْجُوحِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ الْأَوْلَوِيَّةُ حَتَّى يَجُوزَ الْعَمَلُ بِالْمَرْجُوحِ. (قَوْلُهُ: فَالْأَوَّلُ) يَعْنِي أَنَّ سُؤْرَ سِبَاعِ الطَّيْرِ مِنْ الْبَازِي وَالصَّقْرِ وَنَحْوِهِمَا نَجِسٌ قِيَاسًا عَلَى سُؤْرِ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ كَالْفَهْدِ وَالذِّئْبِ لِمُخَالَطَتِهِ بِاللُّعَابِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ لَحْمٍ نَجِسٍ. فَإِنَّ اخْتِيَارَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ لَحْمَ سِبَاعِ الْبَهَائِمِ نَجِسٌ لَا يَطْهُرُ بِالزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْغِذَاءِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِلضَّرُورَةِ أَوْ الِاسْتِخْبَاثِ أَوْ الِاحْتِرَامِ آيَةُ النَّجَاسَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِي السَّبُعِ مَا لَا يُؤْكَلُ وَهُوَ طَاهِرٌ كَالْجِلْدِ وَالْعَظْمِ وَالْعَصَبِ وَالشَّعْرِ وَمَا يُؤْكَلُ وَهُوَ نَجَسٌ كَاللَّحْمِ وَالشَّحْمِ أَشْبَهَ دُهْنًا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَجُعِلَ لَهُ حُكْمٌ بَيْنَ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ الْحَقِيقِيَّتَيْنِ بِأَنْ حُرِّمَ أَكْلُهُ وَتَنَجَّسَ لُعَابُهُ لَكِنْ جَازَ بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ وَلَمْ تُجْعَلْ نَجَاسَةُ سِبَاعِ الطَّيْرِ أَيْضًا بِهَذَا الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ إنَّمَا وَرَدَتْ فِي سِبَاعِ الْبَهَائِمِ دُونَ الطُّيُورِ فَاحْتِيجَ فِيهَا إلَى الْقِيَاسِ وَهَذَا قِيَاسٌ ضَعِيفُ الْأَثَرِ قَلِيلُ الصِّحَّةِ لِقُصُورِ عِلَّةِ التَّنَجُّسِ فِي الْفَرْعِ أَعْنِي الْمُخَالَطَةَ، وَقَدْ قَابَلَهُ اسْتِحْسَانٌ قَوِيُّ الْأَثَرِ

السُّجُودَ غَيْرُ مَقْصُودٍ هُنَا وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مَا يَصْلُحُ تَوَاضُعًا مُخَالَفَةً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) . وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ كَوْنَ السُّجُودِ يُؤَدَّى بِالرُّكُوعِ حُكْمًا ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ وَعَدَمَهُ حُكْمًا ثَابِتًا بِالِاسْتِحْسَانِ وَلَا أَدْرِي خُصُوصِيَّةَ الْأَوَّلِ بِالْقِيَاسِ وَالثَّانِي بِالِاسْتِحْسَانِ فَلِهَذَا أَوْرَدْتُ مِثَالًا آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ (وَكَمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي ذِرَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَفِي الْقِيَاسِ يَتَحَالَفَانِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا؛ لِأَنَّهُمَا مَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْمَبِيعِ بَلْ فِي وَصْفِهِ وَذَا لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ لَكِنْ عَمِلْنَا بِالصِّحَّةِ الْبَاطِنَةِ لِلْقِيَاسِ وَهِيَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْوَصْفِ هُنَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَصْلِ) اعْلَمْ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ فِي ذِرَاعِ الْمُسْلَمِ فِيهِ فَفِي الْقِيَاسِ يَتَحَالَفَانِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ كَمَا فِي الْمَبِيعِ. فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ يَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ ثُمَّ إذَا نَظَرْنَا عَلِمْنَا أَنَّهُمَا مَا اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْمَبِيعِ بَلْ فِي وَصْفِهِ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الذِّرَاعِ، وَالذِّرَاعُ وَصْفٌ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الذِّرَاعِ تُوجِبُ جَوْدَةً فِي الثَّوْبِ بِخِلَافِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَإِذَا كَانَ الذِّرَاعُ وَصْفًا وَالِاخْتِلَافُ فِي الْوَصْفِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَهَذَا الْمَعْنَى أَخْفَى مِنْ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِحْسَانًا وَالْأَوَّلُ قِيَاسًا هَذَا مَا ذَكَرُوهُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَى انْحِصَارِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي هَذَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَقْتَضِي طَهَارَةَ سُؤْرِهَا؛ لِأَنَّهَا تَشْرَبُ بِالْمِنْقَارِ عَلَى سَبِيلِ الْأَخْذِ ثُمَّ الِابْتِلَاعِ وَالْمِنْقَارُ عَظْمٌ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ جَافٌّ لَا رُطُوبَةَ فِيهِ فَلَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهِ فَيَكُونُ سُؤْرُهُ طَاهِرًا كَسُؤْرِ الْآدَمِيِّ وَالْمَأْكُولِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّجَاسَةِ وَهِيَ الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ فِي الْآلَةِ الشَّارِبَةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا أَنَّ سِبَاعَ الطُّيُورِ لَا تَحْتَرِزُ عَنْ الْمَيْتَةِ وَالنَّجَاسَةِ كَالدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ. (قَوْلُهُ وَالثَّانِي) لَمَّا كَانَ عَدَمُ تَأَدِّي الْمَأْمُورِ بِهِ بِالْإِتْيَانِ بِغَيْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ أَمْرًا جَلِيًّا وَعَكْسُهُ أَمْرًا خَفِيًّا اشْتَبَهَ عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جِهَةُ جَعْلِ تَأَدِّي السَّجْدَةِ بِالرُّكُوعِ قِيَاسًا وَعَدَمِ تَأْدِيهَا بِهِ اسْتِحْسَانًا وَنُقِلَ عَنْهُ فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَازَ إقَامَةُ الرُّكُوعِ مَقَامَ السَّجْدَةِ ذِكْرًا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ أَعْنِي اشْتِمَالَهَا عَلَى التَّعْظِيمِ وَالِانْحِنَاءِ فَجَازَ إقَامَتُهُ مَقَامَهُ فِعْلًا لِتِلْكَ الْمُنَاسَبَةِ وَهَذَا أَمْرٌ جَلِيٌّ تَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَفْهَامُ فَيَكُونُ قِيَاسًا إلَّا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ أَنْ لَا يَتَأَدَّى بِهِ كَالسَّجْدَةِ الصَّلَاتِيَّةِ لَا تَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي حُسْنَهُ لِذَاتِهِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا لِعَيْنِهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ وَهَذَا قِيَاسٌ خَفِيٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ فَيَكُونُ اسْتِحْسَانًا، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ تَأَدِّي الْمَأْمُورِ بِهِ بِغَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أَظْهَرُ وَأَجْلَى مِنْ تَأَدِّيهِ بِهِ قِيَاسًا عَلَى جَوَازِ إقَامَةِ اسْمِ الشَّيْءِ مَقَامَ اسْمِ غَيْرِهِ وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالُ لَمَّا اشْتَمَلَ كُلٌّ مِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى التَّعْظِيمِ كَانَ الْقِيَاسُ فِيمَا وَجَبَ بِالتِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ كَمَا يَتَأَدَّى بِالسُّجُودِ

الْقِسْمَيْنِ وَعَلَى انْحِصَارِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلِهَذَا أَوْرَدْت الْأَقْسَامَ الْمُمْكَنَةَ عَقْلًا وَقُلْتُ (وَبِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ يَنْقَسِمُ كُلٌّ إلَى ضَعِيفِ الْأَثَرِ وَقَوِيِّهِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَا يَرْجِعُ الِاسْتِحْسَانُ إلَّا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ) وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ ضَعِيفَ الْأَثَرِ وَالِاسْتِحْسَانُ قَوِيَّ الْأَثَرِ أَمَّا فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْأُخَرَ فَالْقِيَاسُ رَاجِحٌ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ أَمَّا إذَا كَانَ الْقِيَاسُ قَوِيَّ الْأَثَرِ وَالِاسْتِحْسَانُ ضَعِيفَ الْأَثَرِ فَوَاضِحٌ وَأَمَّا إذَا كَانَا قَوِيِّينَ فَالْقِيَاسُ يَرْجُحُ لِظُهُورِهِ وَأَمَّا إذَا كَانَا ضَعِيفَيْنِ فَإِمَّا أَنْ يُسْقَطَ أَوْ يُعْمَلَ بِالْقِيَاسِ لِظُهُورِهِ فَلِهَذَا أَوْرَدْتُ الْحُكْمَ الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يَرْجُحُ عَلَى الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ وَيَرْجُحُ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ (وَإِلَى صَحِيحِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَفَاسِدِهِمَا وَصَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ وَالْعَكْسُ فَالْأَوَّلُ مِنْ الْقِيَاسِ يُرَجَّحُ عَلَى كُلِّ اسْتِحْسَانٍ وَثَانِيهِ مَرْدُودٌ بَقِيَ الْأَخِيرَانِ فَالْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ أَيْ صَحِيحُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يُرَجَّحُ عَلَيْهِمَا أَيْ عَلَى قِيَاسٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ وَعَكْسِهِ، وَثَانِيهِ مَرْدُودٌ أَيْ ثَانِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ فَاسِدُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ بَقِيَ الْأَخِيرَانِ أَيْ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَهُمَا صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ وَعَكْسُهُ فَالتَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَخِيرَيْ الْقِيَاسِ إنْ وَقَعَ مَعَ خِلَافِ النَّوْعِ فَمَا ظَهَرَ فَسَادُهُ بَادِئَ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ وَلِهَذَا صَحَّ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالرُّكُوعِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] أَيْ سَقَطَ سَاجِدًا فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ فِيهِ فَسَادٌ ظَاهِرٌ هُوَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ، وَصِحَّةٌ خَفِيَّةٌ هِيَ أَنَّ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ لَمْ تَجِبْ قُرْبَةً مَقْصُودَةً وَلِهَذَا لَا تَلْزَمُ بِالنَّذْرِ كَالطَّهَارَةِ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ التَّوَاضُعُ وَمُخَالَفَةُ الْمُتَكَبِّرِينَ وَمُوَافَقَةُ الْمُطِيعِينَ عَلَى قَصْدِ الْعِبَادَةِ وَلِهَذَا اشْتَرَطَ الطَّهَارَةَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ وَهَذَا حَاصِلٌ فِي الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُوَ السُّجُودُ وَهُوَ مُغَايِرٌ لِلرُّكُوعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنُوبَ الرُّكُوعُ عَنْهُ كَمَا لَا يَنُوبُ عَنْ السَّجْدَةِ الصَّلَاتِيَّةِ مَعَ قُرْبِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمُوجِبَاتِ التَّحْرِيمَةِ وَكَمَا لَا يَنُوبُ الرُّكُوعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ عَنْ السَّجْدَةِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِجِهَةٍ أُخْرَى بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ وَهَذَا قِيَاسٌ خَفِيٌّ يُسَمَّى اسْتِحْسَانًا وَفِيهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ هُوَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَعَدَمِ تَأْدِيَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ لِغَيْرِهِ وَفَسَادٌ خَفِيٌّ هُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَقْصُودِ مُسَاوِيًا لِلْمَقْصُودِ فَعَمِلْنَا بِالصِّحَّةِ الْبَاطِنَةِ فِي الْقِيَاسِ وَجَعَلْنَا سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ فِي الصَّلَاةِ مُتَأَدِّيَةً بِالرُّكُوعِ سَاقِطَةً بِهِ كَمَا تَسْقُطُ الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ بِالطَّهَارَةِ لِغَيْرِهَا بِخِلَافِ الرُّكُوعِ خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ عِبَادَةً وَبِخِلَافِ السَّجْدَةِ الصَّلَاتِيَّةِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهَا كَالرُّكُوعِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] . (قَوْلُهُ: بِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ يَنْقَسِمُ) الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ تَارَةً

النَّظَرِ لَكِنْ إذَا تُؤُمِّلَ تَبَيَّنَ صِحَّتُهُ أَقْوَى مِمَّا كَانَ عَلَى الْعَكْسِ) اعْلَمْ أَنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ أَيْ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ وَعَكْسِهِ وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَخِيرَيْ الْقِيَاسِ إنْ وَقَعَ مَعَ اخْتِلَافِ النَّوْعِ وَهَذَا فِي صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يُعَارِضَ صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَاسِدَ الظَّاهِرِ صَحِيحَ الْبَاطِنِ مِنْ الْقِيَاسِ وَثَانِيَتُهُمَا أَنْ يُعَارِضَ فَاسِدُ الظَّاهِرِ صَحِيحَ الْبَاطِنِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ صَحِيحَ الظَّاهِرِ فَاسِدَ الْبَاطِنِ مِنْ الْقِيَاسِ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا ظَهَرَ فَسَادُهُ بَادِئَ النَّظَرِ لَكِنْ إذَا تُؤَمِّلَ تَبَيَّنَ صِحَّتُهُ أَقْوَى مِمَّا كَانَ عَلَى الْعَكْسِ سَوَاءٌ كَانَ قِيَاسًا أَوْ اسْتِحْسَانًا (وَمَعَ اتِّحَادِهِ إنْ أَمْكَنَ فَالْقِيَاسُ أَوْلَى) أَيْ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَهُمَا مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ وَهُوَ أَنْ يُعَارِضَ اسْتِحْسَانٌ صَحِيحُ الظَّاهِرِ فَاسِدُ الْبَاطِنِ قِيَاسًا كَذَلِكَ أَوْ يُعَارِضَ اسْتِحْسَانٌ فَاسِدُ الظَّاهِرِ صَحِيحُ الْبَاطِنِ قِيَاسًا كَذَلِكَ يَكُونُ الْقِيَاسُ رَاجِحًا فِي الصُّورَتَيْنِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنْ أَمْكَنَ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ تَعَارُضَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الِاسْتِحْسَانُ عَلَى صِفَةٍ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا وَقَدْ جَعَلَ الشَّرْعُ وَصْفًا مِنْ الْأَوْصَافِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ أَمَّا بِالِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَا قَوِيَّيْ الْأَثَرِ أَوْ ضَعِيفَيْ الْأَثَرِ أَوْ الْقِيَاسُ قَوِيًّا وَالِاسْتِحْسَانُ ضَعِيفًا أَوْ بِالْعَكْسِ فَفِي الرَّابِعِ يَتَرَجَّحُ الِاسْتِحْسَانُ قَطْعًا وَفِي الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ يُتَيَقَّنُ عَدَمُ تَرْجِيحِ الِاسْتِحْسَانِ، وَأَمَّا تَرْجِيحُ الْقِيَاسِ فَفِي الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مُتَيَقَّنٌ لَا فِي الثَّانِي فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ سُقُوطَ الِاسْتِحْسَانِ وَالْقِيَاسِ لِضَعْفِهِمَا وَتَسْمِيَةُ الِاسْتِحْسَانِ فِي جَمِيعِ الْأَقْسَامِ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ خَفَائِهِ إلَّا أَنَّهُ يُشْكِلُ بِمَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنْ سَمَّيْنَا مَا ضَعُفَ أَثَرُهُ قِيَاسًا وَمَا قَوِيَ أَثَرُهُ اسْتِحْسَانًا، وَأَمَّا بِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحَ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَوْ فَاسِدَهُمَا أَوْ صَحِيحَ الظَّاهِرِ فَاسِدَ الْبَاطِنِ أَوْ بِالْعَكْسِ وَفِي الْجَمِيعِ يَكُونُ الْقِيَاسُ جَلِيًّا بِمَعْنَى سَبْقِ الْأَفْهَامِ إلَيْهِ وَالِاسْتِحْسَانِ خَفِيًّا بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَيَقَعُ التَّعَارُضُ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ وَجْهًا حَاصِلَةً مِنْ ضَرْبِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِلْقِيَاسِ فِي الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لِلِاسْتِحْسَانِ فَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يَتَرَجَّحُ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ، وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ يَكُونُ مَرْدُودًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُلِّ فَتَبْقَى ثَمَانِيَةُ أَوْجُهٍ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ أَقْسَامِ الِاسْتِحْسَانِ فِي أَخِيرَيْ الْقِيَاسِ فَالْأَوَّلُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ يَرْجُحُ عَلَيْهَا لِصِحَّتِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَالثَّانِي يُرَدُّ مُطْلَقًا لِفَسَادِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بَقِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ أَخِيرَيْ الِاسْتِحْسَانِ فِي أَخِيرَيْ الْقِيَاسِ: الْأَوَّلُ تَعَارُضُ

الْوَصْفُ مُطْلَقًا أَوْ كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِلَا مَانِعٍ يُوجَدُ ذَلِكَ الْحُكْمُ لَكِنَّهُ وُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْفَرْعِ فَيُوجَدُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يُعَارِضُهُ قِيَاسٌ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانَ جَلِيًّا أَوْ خَفِيًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الشَّرْعُ وَصْفًا آخَرَ عِلَّةً لِنَقِيضِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ ثُمَّ يُوجَدُ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي الْفَرْعِ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ يَلْزَمُ حُكْمُ الشَّرْعِ بِالتَّنَاقُضِ وَهَذَا مُحَالٌ عَلَى الشَّارِعِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ فَعُلِمَ أَنَّ تَعَارُضَ قِيَاسَيْنِ صَحِيحَيْنِ فِي الْوَاقِعِ مُمْتَنِعٌ وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ لِجَهْلِنَا بِالصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ فَالتَّعَارُضُ لَا يَقَعُ بَيْنَ قِيَاسٍ قَوِيِّ الْأَثَرِ وَاسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ وَكَذَا لَا يَقَعُ بَيْنَ قِيَاسٍ صَحِيحِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَبَيْنَ اسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ وَكَذَا لَا يَقَعُ بَيْنَ قِيَاسٍ فَاسِدِ الظَّاهِرِ صَحِيحِ الْبَاطِنِ وَبَيْنَ اسْتِحْسَانٍ كَذَلِكَ (وَمَا ذَكَرُوا مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ وَالضَّعْفُ فَعِنْدَ التَّحْقِيقِ دَاخِلٌ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحَ الظَّاهِرِ أَوْ فَاسِدَ الظَّاهِرِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنَّهُ إذَا تُؤَمِّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ يَتَبَيَّنُ صِحَّتُهُ أَوْ يَتَبَيَّنُ فَسَادُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ مُنْحَصِرَةً فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ فَقَوِيُّ الْأَثَرِ وَضَعِيفُهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِحْسَانِ الصَّحِيحِ الظَّاهِرِ الْفَاسِدِ الْبَاطِنِ وَالْقِيَاسُ الْفَاسِدِ الظَّاهِرِ الصَّحِيحِ الْبَاطِنِ وَالثَّانِي بِالْعَكْسِ وَالثَّالِثُ تَعَارُضُ اسْتِحْسَانِ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَاسِدِ الْبَاطِنِ وَقِيَاسٌ كَذَلِكَ وَالرَّابِعُ تَعَارُضُ اسْتِحْسَانِ صَحِيحِ الْبَاطِنِ فَاسِدِ الظَّاهِرِ وَقِيَاسٌ كَذَلِكَ وَسُمِّيَ اتِّفَاقُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي صِحَّةِ الظَّاهِرِ وَفَسَادِ الْبَاطِنِ بِاتِّحَادِ النَّوْعِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ وَحَكَمَ بِرُجْحَانِ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ وَبِرُجْحَانِ الْقِيَاسِ فِي الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ وَادَّعَى أَنَّ الظَّاهِرَ امْتِنَاعُ التَّعَارُضِ بَيْنَ قِيَاسٍ وَاسْتِحْسَانٍ يَتَّفِقَانِ فِي قُوَّةِ الْأَثَرِ أَوْ صِحَّةِ الْبَاطِنِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي صِحَّةِ الظَّاهِرِ أَوْ بِدُونِهِ وَبَعْدَ إقَامَةِ الدَّلِيلِ جَزَمَ بِهَذَا الْحُكْمِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ وَمِنْ سَوْقِ الْكَلَامِ بِالْآخِرَةِ أَنَّ قَوْلَهُ إذَا كَانَ الِاسْتِحْسَانُ عَلَى صِفَةٍ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ مُقَيَّدًا بِالْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ الْبَاطِنَةِ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي أَنَّ تَعَارُضَ قِيَاسٍ ضَعِيفِ أَوْ صَحِيحِ الظَّاهِرِ فَقَطْ أَوْ فَاسِدِ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ فَقَطْ لِاسْتِحْسَانِ كَذَلِكَ. (قَوْلُهُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ) أَيْ بِمَعْنَى أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُطْلَقًا أَوْ بِلَا مَانِعٍ يُوجَدُ ذَلِكَ الْحُكْمُ. (قَوْلُهُ: وَمَا ذَكَرُوا) هَذَا كَلَامٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى؛ لِأَنَّ تَدَاخُلَ الْأَقْسَامِ ضَرُورِيٌّ فِيمَا إذَا قَسَّمَ الشَّيْءَ تَقْسِيمَاتٍ مُتَعَدِّدَةً بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ يُقَالُ اللَّفْظُ ثُلَاثِيٌّ أَوْ رُبَاعِيٌّ أَوْ خُمَاسِيٌّ وَبِاعْتِبَارٍ آخَرَ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ أَوْ حَرْفٌ وَبِاعْتِبَارٍ آخَرَ مُعْرَبٌ أَوْ مَبْنِيٌّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَعَمْ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالضَّعْفِ وَالْفَسَادِ

لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَطْعًا (وَالْمُسْتَحْسَنُ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ يُعَدَّى لَا الْمُسْتَحْسَنُ بِغَيْرِهِ نَظِيرُهُ أَنَّ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَطْ قِيَاسًا؛ لِأَنَّهُ الْمُنْكِرُ وَعَلَيْهِمَا قِيَاسًا خَفِيًّا؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ يُنْكِرُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ) أَيْ إنَّمَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِقَبْضِ مَا هُوَ ثَمَنٌ فِي زَعْمِ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ زِيَادَةَ الثَّمَنِ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا ظَاهِرًا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمَتْنِ (فَيُعَدَّى إلَى الْوَارِثِينَ) أَيْ إذَا اخْتَلَفَ وَارِثَا الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ تَحَالَفَ الْوَارِثَانِ. (وَإِلَى الْإِجَارَةِ) أَيْ إذَا اخْتَلَفَ الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ تَحَالَفَا. (وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَثُبُوتُهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَلَا يُعَدَّى إلَى الْوَارِثِ وَإِلَى حَالِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ وَالِاسْتِحْسَانُ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا يَأْتِي) بَعْضُ النَّاسِ زَعَمُوا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا يَأْتِي فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَنَّ تَرْكَ الْقِيَاسِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا. (فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ) أَيْ الِاعْتِرَاضَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ مِنْهُ النَّقْضُ وَهُوَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي صُورَةٍ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ وَدَفْعُهُ بِأَرْبَعِ طُرُقٍ أَيْ الْجَوَابُ عَنْهُ يَكُونُ بِأَرْبَعِ طُرُقٍ (الْأَوَّلُ مَنْعُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَاحِدٌ، وَكَذَا بِالْقُوَّةِ وَالصِّحَّةِ لَكَانَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ مُسْتَدْرَكًا (قَوْلُهُ وَالْمُسْتَحْسَنُ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ دَلِيلٌ يُقَابِلُ قِيَاسًا جَلِيًّا سَوَاءٌ كَانَ أَثَرًا أَوْ إجْمَاعًا أَوْ ضَرُورَةً أَوْ قِيَاسًا خَفِيًّا فَهَاهُنَا يُرِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَالْمُسْتَحْسَنِ بِغَيْرِهِ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدَّى إلَى صُورَةٍ أُخْرَى؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقِيَاسِ التَّعْدِيَةَ وَالثَّانِي لَا يَقْبَلُ التَّعْدِيَةَ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ مَثَلًا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ الْمُنْكِرُ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ الْبَائِعُ أَيْضًا مُنْكِرًا. فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ عَلَى سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ بِالِاسْتِحْسَانِ التَّحَالُفُ أَيْ وُجُوبُ الْيَمِينِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي أَمَّا قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَبِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ يُنْكِرُ وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُ وُجُوبَ زِيَادَةِ الثَّمَنِ فَيَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ عَلَى الْمُنْكِرِ، وَأَمَّا بَعْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَبِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَوُجُوبُ التَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَتَعَدَّى إلَى وَارِثَيْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ مَوْتِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُورِثِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْحُكْمُ مَعْقُولٌ، وَكَذَا يَتَعَدَّى إلَى الْإِجَارَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ حَتَّى لَوْ اخْتَلَفَ

وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ نَحْوُ: خُرُوجُ النَّجَاسَةِ عِلَّةُ الِانْتِقَاضِ فَنُوقِضَ بِالْقَلِيلِ فَيُمْنَعُ الْخُرُوجُ فِيهِ وَكَذَا وُجُودُ مِلْكِ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ يُوجِبُ مِلْكَهُ) أَوْ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ مِنْهُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ (فَنُوقِضَ بِالْمُدَبَّرِ) أَيْ إذَا كَانَ مِلْكُ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ عِلَّةً لِمِلْكِ الْمَغْصُوبِ فَفِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ يَكُونُ كَذَلِكَ لَكِنَّ الْحُكْمَ مُتَخَلِّفٌ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ غَيْرُ قَابِلٍ لِلِانْتِقَالِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ عِنْدَكُمْ (فَيَمْنَعُ مِلْكَ بَدَلِهِ) أَيْ مِلْكَ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ بِأَنْ يُمْنَعَ فِي الْمُدَبَّرِ كَوْنُ بَدَلِهِ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَدَلَ الْعَيْنِ بَلْ بَدَلُ الْيَدِ الْفَائِتَةِ (فَإِنَّ ضَمَانَ الْمُدَبَّرِ لَيْسَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ بَلْ بَدَلٌ عَنْ الْيَدِ الْفَائِتَةِ وَالثَّانِي مَنْعُ مَعْنَى الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَتْ الْعِلَّةُ عِلَّةً لِأَجْلِهِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَّةِ كَالثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْصُوصِ (نَحْوُ: مَسْحِ الرَّأْسِ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّثْلِيثُ كَمَسْحِ الْخُفِّ فَنُوقِضَ بِالِاسْتِنْجَاءِ فَيُمْنَعُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْمَسْحِ وَهُوَ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلِأَجْلِهِ) أَيْ لِأَجْلِ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ (لَا يُسَنُّ فِي الْمَسْحِ التَّثْلِيثُ؛ لِأَنَّهُ لِتَوْكِيدِ التَّطْهِيرِ الْمَعْقُودِ فَلَا يُفِيدُ) أَيْ التَّثْلِيثُ (فِي الْمَسْحِ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ وَيُفِيدُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ وَالثَّالِثُ قَالُوا هُوَ الدَّفْعُ بِالْحُكْمِ) وَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ تَلَفَ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ (وَذَكَرُوا لَهُ أَمْثِلَةً خُرُوجُ النَّجَاسَةِ عِلَّةٌ لِلِانْتِقَاضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْقَصَّارُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ أَخْذِ الْقَصَّارِ فِي الْعَمَلِ تَحَالَفَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصْلُحُ مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا وَالْإِجَارَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَهُوَ فِي التَّحَالُفِ ثُمَّ الْفَسْخُ دَفْعٌ لِلضَّرَرِ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَأَمَّا وُجُوبُ التَّحَالُفِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْوَارِثِ وَلَا إلَى حَالِ هَلَاكِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى إذْ الْبَائِعُ لَا يُنْكِرُ شَيْئًا فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَهُوَ تَحَالُفُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَاقِدَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا» فَهُوَ أَيْضًا يُفِيدُ التَّقْيِيدَ بِقِيَامِ السِّلْعَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ رَدُّ الْمَأْخُوذِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ أُرِيدَ رَدُّ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ إذْ الْفَسْخُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ. فَإِنْ قُلْت قَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ التَّعْدِيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْدِيَةُ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ؟ . قُلْتُ الْمُعَدَّى بِالْحَقِيقَةِ هُوَ حُكْمُ أَصْلِ الِاسْتِحْسَانِ كَوُجُوبِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنَّ صُورَةَ التَّحَالُفِ وَجَرَيَانَ الْيَمِينِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لَمَّا كَانَتْ حُكْمَ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ أُضِيفَتْ التَّعْدِيَةُ إلَيْهِ إذْ لَا يُوجَدُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ يَمِينُ الْمُنْكِرِ بِهَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَى الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ (قَوْلَهُ: وَالِاسْتِحْسَانُ لَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ) هُوَ مَا تَوَهَّمَهُ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ ثَابِتٌ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ، وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ

[فصل في دفع العلل المؤثرة]

وَمِلْكُ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الْمَغْصُوبِ وَحِلُّ الْإِتْلَافِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا يُنَافِي عِصْمَةَ الْمَالِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ فَيَضْمَنُ الْجَمَلَ الصَّائِلَ فَنُوقِضَ بِالْمُسْتَحَاضَةِ وَالْمُدَبَّرِ وَمَالِ الْبَاغِي فَأَجَابُوا فِي الْأَوَّلِينَ بِالْمَانِعِ لَكِنَّ هَذَا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ وَفِي الثَّالِثِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ حِلَّ الْإِتْلَافِ يُنَافِي الْعِصْمَةَ فِي مَالِ الْبَاغِي بَلْ إنَّمَا انْتَفَتْ بِالْبَغْيِ) أَوْرَدَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلدَّفْعِ بِالْحُكْمِ ثَلَاثَةَ أَمْثِلَةٍ: أَحَدُهَا خُرُوجُ النَّجَاسَةِ عِلَّةٌ لِلِانْتِقَاضِ فَنُوقِضَ بِالْمُسْتَحَاضَةِ أَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مَوْجُودٌ فِيهَا بِدُونِ الِانْتِقَاضِ، وَثَانِيهَا أَنَّ مِلْكَ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ عِلَّةٌ لِمِلْكِ الْمَغْصُوبِ فَنُوقِضَ بِالْمُدَبَّرِ فَأَجَابَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الصُّورَتَيْنِ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ فِي الصُّورَتَيْنِ بِالْمَانِعِ فَأَقُولُ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ دَفْعًا بِالْحُكْمِ بَلْ هُوَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ وَثَالِثُهَا أَنَّ حِلَّ الْإِتْلَافِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا يُنَافِي الْعِصْمَةَ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ فَإِنَّهُ إنْ أَكَلَ مَالَ الْغَيْرِ فِي الْمَخْمَصَةِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ يَجِبُ الضَّمَانُ فَيُضْمَنُ الْجَمَلُ الصَّائِلُ فَنُوقِضَ بِمَالِ الْبَاغِي أَنَّ الْعَادِلَ إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْبَاغِي حَالَ الْقِتَالِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فَعُلِمَ أَنَّ حِلَّ الْإِتْلَافِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ يُنَافِي الْعِصْمَةَ فَأَجَابَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حِلَّ الْإِتْلَافِ يُنَافِي الْعِصْمَةَ فِي مَالِ الْبَاغِي فَإِنَّ عِصْمَةَ مَالِ الْبَاغِي لَمْ تَنْتَفِ بِحِلِّ الْإِتْلَافِ بَلْ بِالْبَغْيِ فَأَقُولُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ لِمَانِعٍ وَعَمِلَ بِهِ فِي غَيْرِهَا لِعَدَمِ الْمَانِعِ فَيَكُونُ بَاطِلًا لِمَا سَيَأْتِي مِنْ إبْطَالِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ إنَّمَا هُوَ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ مَثَلًا مُوجِبُ نَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ هُوَ الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ فِي الْآلَةِ الشَّارِبَةِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَانْتَفَى الْحُكْمُ لِذَلِكَ وَهَذَا مَعْنَى تَرْكِ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ الضَّعِيفِ الْأَثَرِ بِدَلِيلٍ قَوِيٍّ هُوَ قِيَاسٌ خَفِيٌّ قَوِيُّ الْأَثَرِ فَلَا يَكُونَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِي شَيْءٍ. [فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ] [النَّقْضُ] [وَدَفْعُ النَّقْض بِأَرْبَعِ طُرُقٍ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ) أَيْ الِاعْتِرَاضَاتُ الَّتِي تُورِدُ عَلَيْهَا وَفِي دَفْعِ تِلْكَ الِاعْتِرَاضَاتِ أَيْ الْجَوَابُ عَنْهَا، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا سِتَّةٌ وَهِيَ النَّقْضُ وَفَسَادُ الْوَضْعِ وَعَدَمُ الِانْعِكَاسِ وَالْفَرْقُ وَالْمُمَانَعَةُ وَالْمُعَارَضَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ اعْتِرَاضٌ صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ تَعْلِيلٍ فَلَا بُدَّ مِنْ دَفْعِهِ وَيَذْكُرُ فِيهِ أَرْبَعَةَ طُرُقٍ: الْأَوَّلُ الدَّفْعُ بِالْوَصْفِ وَهُوَ مَنْعُ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَالثَّانِي الدَّفْعُ بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَهُوَ مَنْعُ وُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَتْ الْعِلَّةُ عِلَّةً لِأَجْلِهِ وَالثَّالِثُ الدَّفْعُ بِالْحُكْمِ وَهُوَ مَنْعُ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ وَالرَّابِعُ الدَّفْعُ بِالْغَرَضِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْغَرَضُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ فَكَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ مَوْجُودَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ فَكَذَا الْحُكْمُ وَكَمَا أَنَّ ظُهُورَ الْحُكْمِ قَدْ يَتَأَخَّرُ فِي الْفَرْعِ فَكَذَا فِي الْأَصْلِ فَالتَّسْوِيَةُ حَاصِلَةٌ بِكُلِّ حَالٍ. (قَوْلُهُ فَنُوقِضَ بِالْقَلِيلِ) يَعْنِي لَوْ كَانَ النَّجَسُ

الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُدَّعَى فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ وُجُوبُ الضَّمَانِ وَبَقَاءُ الْعِصْمَةِ فَحِينَئِذٍ لَا تَكُونُ هَذِهِ الصُّورَةُ نَظِيرًا لِلدَّفْعِ بِالْحُكْمِ بَلْ حَاصِلُ هَذَا الْمِثَالِ أَنَّ الْمُعَلِّلَ ادَّعَى حُكْمًا أَصْلِيًّا وَهُوَ الْعِصْمَةُ مَثَلًا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الْعِصْمَةُ وَهِيَ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِعَارِضٍ وَلَيْسَ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَهُوَ الْجَمَلُ الصَّائِلُ إلَّا عَارِضٌ وَاحِدٌ وَهُوَ حِلُّ الْإِتْلَافِ وَقَدْ ثَبَتَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَخْمَصَةِ أَنَّ حِلَّ الْإِتْلَافِ لَا يَصْلُحُ رَافِعًا لِلْعِصْمَةِ فَتَبْقَى الْعِصْمَةُ فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ فَنُوقِضَ بِمَالِ الْبَاغِي أَنَّ حِلَّ الْإِتْلَافِ رَافِعٌ لِلْعِصْمَةِ فِي مَالِ الْبَاغِي فَأَجَابَ بِأَنَّ رَافِعَ الْعِصْمَةِ فِي مَالِ الْبَاغِي لَيْسَ حِلَّ الْإِتْلَافِ بَلْ الرَّافِعُ هُوَ الْبَغْيُ فَهَذَا لَا يَكُونُ دَفْعًا بِالْحُكْمِ بَلْ بَيَانُ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَهُوَ ارْتِفَاعُ الْعِصْمَةِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ شَيْءٌ آخَرُ هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: (وَالضَّابِطُ الْمُنْتَزَعُ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْمُعَلِّلَ إذَا ادَّعَى حُكْمًا أَصْلِيًّا لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِعَارِضٍ كَالْعِصْمَةِ هُنَا وَلَيْسَ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ إلَّا عَارِضٌ وَاحِدٌ وَهُوَ حِلُّ الْإِتْلَافِ وَأُثْبِتَ بِالْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا الْعَارِضَ لَا يَرْفَعُهُ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ فَنُوقِضَ بِصُورَةٍ كَمَالِ الْبَاغِي مَثَلًا فَأَجَابَ بِأَنَّ الرَّافِعَ شَيْءٌ آخَرُ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ شَيْءٌ آخَرُ) وَيُمْكِنُ أَنْ يَتَكَلَّفَ فِي أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرًا لِلدَّفْعِ بِالْحُكْمِ وَوَجْهُهُ أَنْ يُرَادَ بِالْحُكْمِ عِنْدَ مُنَافَاةِ حِلِّ الْإِتْلَافِ الْعِصْمَةُ، وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي الْجَمَلِ الصَّائِلِ قِيَاسًا عَلَى الْمَخْمَصَةِ فَنُوقِضَ بِمَالِ الْبَاغِي أَنَّ حِلَّ الْإِتْلَافِ ثَابِتٌ فِيهِ وَعَدَمُ مُنَافَاتِهِ الْعِصْمَةَ غَيْرُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِيهِ مُنَافَاةُ حِلِّ الْإِتْلَافِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْخَارِجُ مِنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ حَدَثًا لَكَانَ الْقَلِيلُ الَّذِي لَمْ يَسِلْ مِنْ رَأْسِ الْجُرْحِ حَدَثًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَيُجَابُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ خَارِجٌ فَإِنَّ الْخُرُوجَ هُوَ الِانْتِقَالُ مِنْ مَكَان بَاطِنٍ إلَى مَكَان ظَاهِرٍ وَلَمْ يُوجَدُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ السَّيَلَانِ بَلْ ظَهَرَتْ النَّجَاسَةُ لِزَوَالِ الْجِلْدَةِ السَّاتِرَةِ لَهَا بِخِلَافِ السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ظُهُورُ الْقَلِيلِ إلَّا بِالْخُرُوجِ. (قَوْلُهُ هُوَ) أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي صَارَتْ الْعِلَّةُ عِلَّةً لِأَجْلِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعِلَّةِ كَالثَّابِتِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْصُوصِ بِمَعْنَى أَنَّ الْوَصْفَ بِوَاسِطَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ يَدُلُّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ كَوْنَ الْمَسْحِ تَطْهِيرًا حُكْمِيًّا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ثَابِتٌ بِاسْمِ الْمَسْحِ لُغَةً؛ لِأَنَّهُ الْإِصَابَةُ وَهِيَ تُنْبِئُ عَنْ التَّخْفِيفِ دُونَ التَّطْهِيرِ الْحَقِيقِيِّ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّثْلِيثُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ لِتَوْكِيدِ تَطْهِيرٍ مَعْقُولٍ كَالْغُسْلِ فَلَا يُفِيدُ فِي الْمَسْحِ وَيُفِيدُ فِي الِاسْتِنْجَاءِ؛ لِأَنَّ التَّطْهِيرَ فِيهِ مَعْقُولٌ إذْ هُوَ إزَالَةُ عَيْنِ النَّجَاسَةِ وَلِهَذَا كَانَ الْغُسْلُ فِيهِ أَفْضَلَ وَفِي التَّثْلِيثِ تَوْكِيدٌ لِذَلِكَ وَمَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ سُنِّيَّةِ التَّثْلِيثِ كَرَاهِيَتَهُ لِيَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا فَيُعَلَّلُ. (قَوْلُهُ: فَأَجَابَ فِي الْأَوَّلَيْنِ بِالْمَانِعِ) وَهُوَ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ الْعُذْرُ وَدَفْعُ الْحَرَجِ وَفِي الْمُدَبَّرِ النَّظَرُ لَهُ وَعَدَمُ قَابِلِيَّتِهِ لِلْمَمْلُوكِيَّةِ بَقِيَ أَنَّ خُرُوجَ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ حَدَثٌ إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ حُكْمُهُ إلَى مَا بَعْدِ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهَا الطَّهَارَةُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِأَنَّهُ بِذَلِكَ الْحَدَثِ إذَا خَرَجَ الْوَقْتُ لَيْسَ بِحَدَثٍ

الْعِصْمَةَ فَأَجَابَ بِأَنَّ مُنَافَاةَ حِلِّ الْإِتْلَافِ الْعِصْمَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَنْتَفِ فِي مَالِ الْبَاغِي بِحِلِّ الْإِتْلَافِ بَلْ إنَّمَا انْتَفَتْ لِلْبَغْيِ هَذَا غَايَةُ التَّكَلُّفِ وَمَعَ هَذَا لَا يُوجَدُ النَّقْضُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ، وَحِلُّ الْإِتْلَافِ لِإِحْيَاءِ الْمُهْجَةِ لَيْسَ عِلَّةً لِعَدَمِ مُنَافَاتِهِ الْعِصْمَةَ لِثُبُوتِ حِلِّ الْإِتْلَافِ فِي مَالِ الْبَاغِي مَعَ الْمُنَافَاةِ فَلَا يَكُونُ نَقْضًا فَلِأَجْلِ هَذِهِ الْفَسَادَاتِ فِي الْأَمْثِلَةِ الثَّلَاثَةِ أَوْرَدَ مَثَلًا آخَرَ فِي الْمَتْنِ فَقَالَ (وَأَنَا أُورِدُ لِلدَّفْعِ بِالْحُكْمِ مِثَالًا وَهُوَ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الْوُضُوءِ فَيَجِبُ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ فَنُوقِضَ بِالتَّيَمُّمِ) أَيْ فِي صُورَةِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ يُوجَدُ الْقِيَامُ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ (فَيُمْنَعُ عَدَمُ وُجُوبِ الْوُضُوءِ فِيهِ بَلْ الْوُضُوءُ وَاجِبٌ لَكِنَّ التَّيَمُّمَ خَلَفٌ عَنْهُ) مَعْنَاهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ وُجُوبِ الْوُضُوءِ فِي صُوَرِ عَدَمِ الْمَاءِ بَلْ الْوُضُوءُ وَاجِبٌ لَكِنَّ التَّيَمُّمَ خَلَفٌ عَنْهُ الرَّابِعُ: الدَّفْعُ بِالْغَرَضِ نَحْوُ: خَارِجٍ نَجِسٍ فَيَكُونُ نَاقِضًا فَنُوقِضَ بِالِاسْتِحَاضَةِ فَنَقُولُ الْغَرَضُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ السَّبِيلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ حَدَثَ ثَمَّةَ لَكِنْ إذَا اسْتَمَرَّ يَصِيرُ عَفْوًا فَكَذَلِكَ هُنَا. (ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ إنْ تَيَسَّرَ الدَّفْعُ) أَيْ دَفْعُ النَّقْضِ (بِهَذِهِ الطُّرُقِ فِيهَا وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَانِعٌ فَقَدْ بَطَلَتْ الْعِلَّةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQإجْمَاعًا، وَكَذَا مِلْكُ بَدَلِ الْمَغْصُوبِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَغْصُوبِ أَعْنِي الْمُدَبَّرَ كَمَا فِي الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ جَمَعَ فِي الْبَيْعِ بَيْنَ قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ صَحَّ فِي الْقِنِّ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ قِنٍّ وَحُرٍّ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْمُدَبَّرِ لِلْمَانِعِ أَوْرَدَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اقْتِدَاءً بِصَاحِبِ التَّقْوِيمِ وَقَالَ فِي شَرْحِهِ إنَّ هَذَا الْوَجْهَ لَا يَسْلَمُ عَنْ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ. (قَوْلُهُ: وَالضَّابِطُ) حَاصِلُ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُدَعَّى وُجُوبُ الضَّمَانِ وَالْعِلَّةُ حِلُّ الْإِتْلَافِ وَالْأَصْلُ صُورَةُ الْمَخْمَصَةِ وَالْفَرْعُ صُورَةُ الْجَمَلِ الصَّائِلِ وَالنَّقْضُ هُوَ مَالُ الْبَاغِي وَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا جِهَةَ لِمَنْعِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِيهِ إذْ لَا نِزَاعَ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِيهِ فَلَا تَكُونُ هَذِهِ الصُّورَةُ نَظِيرًا لِلدَّفْعِ بِالْحُكْمِ وَأَيْضًا حِلُّ الْإِتْلَافِ لَا يُلَائِمُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فَضْلًا عَنْ التَّأْثِيرِ وَحَاصِلُ التَّقْرِيرِ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ نَظِيرًا لِدَفْعِ الْحُكْمِ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ عَدَمُ مُنَافَاةِ حِلِّ الْإِتْلَافِ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عِصْمَةُ الْجَمَلِ الصَّائِلِ بِإِبَاحَةِ قَتْلِهِ لِإِبْقَاءِ رُوحِ الْمَصُولِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ، وَالْعِلَّةُ حِلُّ الْإِتْلَافِ فَنُوقِضَ بِمَالِ الْبَاغِي حَيْثُ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ وَهِيَ حِلُّ الْإِتْلَافِ مَعَ عَدَمِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْمُنَافَاةِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْمُنَافَاةِ إذْ قَدْ سَقَطَتْ الْعِصْمَةُ وَلَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ فَأَجَابَ بِمَنْعِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ أَيْ لَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَ مُنَافَاةِ حِلِّ الْإِتْلَافِ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ فِي مَالِ الْبَاغِي بَلْ عَدَمُ الْمُنَافَاةِ مُتَحَقِّقٌ

وَإِنْ وُجِدَ الْمَانِعُ فَلَا لَكِنْ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَقُولُونَ الْعِلَّةُ تُوجِبُ هَذَا لَكِنْ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ لِمَانِعٍ فَهَذَا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ بَلْ نَقُولُ إنَّمَا عَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ مَا هُوَ وَالْعِلَّةُ حَقِيقَةٌ فَنَجْعَلُ عَدَمَ الْمَانِعِ جُزْءًا لِلْعِلَّةِ أَوْ شَرْطًا لَهَا لَهُمْ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْقِيَاسِ عَلَى الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ وَالثَّابِتِ بِالِاسْتِحْسَانِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ الْقِيَاسُ عَلَى الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ) فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ عَنْ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ التَّخَلُّفَ قَدْ يَكُونُ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ وَقَدْ يَكُونُ لِمَانِعٍ كَمَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَذَكَرُوا أَنَّ جُمْلَةَ مَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ خَمْسَةٌ الْمَسْطُورُ فِي كُتُبِنَا أَنَّهُ ذَكَرَ الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَنَّ الْمَوَانِعَ خَمْسَةٌ لَكِنِّي عَدَلْتُ عَنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ لِمَا سَيَأْتِي (مَانِعٌ مِنْ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ كَانْقِطَاعِ الْوَتَرِ فِي الرَّمْيِ وَكَبَيْعِ الْحُرِّ أَوْ مِنْ تَمَامِهَا كَمَا إذَا حَالَ شَيْءٌ فَلَمْ يُصِبْ السَّهْمُ وَكَبَيْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ أَوْ مِنْ ابْتِدَاءِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ انْتَفَتْ بِالْبَغْيِ وَعَدَمُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا يُوجِبُ التَّلَازُمَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَمْتَنِعَ مَعَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا انْتِفَاءُ الْآخَرِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ، وَاعْتَرَضَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ حِلَّ الْإِتْلَافِ لَيْسَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ حَتَّى يَكُونَ تَحَقُّقُهُ فِي مَالِ الْبَاغِي مَعَ الْمُنَافَاةِ نَقْضًا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلَائِمُ عَدَمَ الْمُنَافَاةِ وَعَدَمَ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ فَضْلًا عَنْ تَأْثِيرِهِ فِيهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّمْثِيلَ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُجْعَلَ حِلُّ الْإِتْلَافِ عِلَّةً مُؤْثِرَةً وَيَكْفِي فِي التَّمْثِيلِ الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ. (قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ) أَيْ الْخَارِجَ النَّجِسَ حَدَثٌ فِي السَّبِيلَيْنِ لَكِنْ إذَا اسْتَمَرَّ الْخَارِجُ كَمَا فِي الِاسْتِحَاضَةِ وَسَلَسِ الْبَوْلِ صَارَ عَفْوًا وَسَقَطَ حُكْمُ الْحَدَثِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ضَرُورَةَ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَكَذَا هَاهُنَا أَيْ فِي غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ يَكُونُ حَدَثًا وَيَصِيرُ عِنْدَ الِاسْتِمْرَارِ عَفْوًا كَمَا فِي الرُّعَافِ الدَّائِمِ وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَنْعِ انْتِفَاءِ الْحُكْمِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاقِضَ يَدَّعِي أَمْرَيْنِ ثُبُوتَ الْعِلَّةِ وَانْتِفَاءَ الْحُكْمِ فَلَا يَصِحُّ دَفْعُهُ إلَّا بِمَنْعِ أَحَدِهِمَا. (قَوْلُهُ: ثُمَّ اعْلَمْ) ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ النَّقْضَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ؛ لِأَنَّ التَّأْثِيرَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَلَا تُتَصَوَّرُ الْمُنَاقَضَةُ فِيهِ وَجَوَابُهُ أَنَّ ثُبُوتَ التَّأْثِيرِ قَدْ يَكُونُ ظَنِّيًّا فَيَصِحُّ الِاعْتِرَاضُ بِالنَّقْضِ وَحِينَئِذٍ إنْ انْدَفَعَ بِأَحَدِ الطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ فَقَدْ تَمَّ التَّعْلِيلُ وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ يُوجَدَ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ أَوْ لَا فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فَقَدْ بَطَلَ التَّعْلِيلُ لِامْتِنَاعِ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ الدَّلِيلِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ وَإِنْ وُجِدَ مَانِعٌ لَمْ يَبْطُلْ التَّعْلِيلُ إمَّا قَوْلًا بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ وَذَلِكَ بِأَنْ تُوصَفُ الْعِلَّةُ بِالْعُمُومِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْمُحَالِ ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْضُ الْمُحَالِ عَنْ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ فِيهِ وَيَبْقَى التَّأْثِيرُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمُحَالِ الْآخَرِ، وَإِمَّا قَوْلًا بِأَنَّ عَدَمَ الْمَانِعِ جُزْءٌ لِلْعِلَّةِ أَوْ شَرْطٌ لَهَا فَيَكُونُ انْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ مَبْنِيًّا عَلَى انْتِفَاءِ الْعِلَّةِ بِانْتِفَاءِ جُزْئِهَا أَوْ شَرْطِهَا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَبِعَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

الْحُكْمِ كَمَا إذَا أَصَابَ السَّهْمُ فَدَفَعَهُ الدِّرْعُ وَكَخِيَارِ الشَّرْطِ أَوْ مِنْ تَمَامِهِ كَمَا إذَا انْدَمَلَ بَعْدَ إخْرَاجِ السَّهْمِ وَالْمُدَاوَاةِ وَكَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَوْ مِنْ لُزُومِهِ كَمَا إذَا خَرَجَ وَامْتَدَّ حَتَّى صَارَ طَبْعًا لَهُ وَأُمِنَ وَكَخِيَارِ الْعَيْبِ فَالتَّخْصِيصُ لَيْسَ فِي الْأَوَّلَيْنِ بَلْ فِي الثَّلَاثِ الْأُخَرِ) ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ أَنْ تُوجَدَ الْعِلَّةُ وَيَتَخَلَّفَ الْحُكْمُ لِمَانِعٍ فَالْمَانِعُ مَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بَعْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فَفِي الْأَوَّلِيَّيْنِ مِنْ الصُّوَرِ الْخَمْسِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَمْ تُوجَدُ فِيهِمَا وَفِي الثَّلَاثِ الْأُخَرِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ وَالْحُكْمُ مُتَخَلِّفٌ لِمَانِعٍ فَتَخْصِيصُ الْعِلَّةِ مَقْصُورٌ عَلَى الثَّلَاثِ الْأُخَرِ فَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ فِي الْمَتْنِ إنَّ الْمَوَانِعَ خَمْسَةٌ بَلْ قَالَ مَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ خَمْسَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخِيَارَاتِ أَنَّ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ قَدْ وُجِدَ السَّبَبُ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْخِيَارُ دَاخِلٌ عَلَى الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ عَلَى مَا عُرِفَ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَحَاشِيًا عَنْ الْقَوْلِ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَعَدَمُ الْمَانِعِ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ لِعِلِّيَّةِ الْوَصْفِ وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ لِظُهُورِ الْأَثَرِ عَنْ الْعِلَّةِ فَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ النَّقْضِ عِنْدَهُمْ يَكُونُ مُسْتَنِدًا إلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ الْأَكْثَرِينَ إلَى وُجُودِ الْمَانِعِ وَهَذَا نِزَاعٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ الْقِيَاسُ عَلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ اللَّفْظِيَّةَ فَكَمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْعَامِّ حُجَّةً كَذَلِكَ النَّقْضُ لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً وَالْجَامِعُ كَوْنُهُمَا مِنْ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ جَمْعُ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَسِرُّهُ أَنَّ نِسْبَةَ الْعَامِّ إلَى أَفْرَادِهِ كَنِسْبَةِ الْعِلَّةِ إلَى مَوَارِدِهِ وَالنَّقْضُ لِمَانِعٍ مُعَارِضٍ لِلْعِلَّةِ يُشْبِهُ التَّخْصِيصَ بِمُخَصِّصٍ مَانِعٍ عَنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْبَعْضِ. الثَّانِي أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ شَامِلَةٌ لِصُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْحُكْمُ فِيهَا لِمَانِعٍ هُوَ دَلِيلُ الِاسْتِحْسَانِ، وَلَا نَعْنِي بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ إلَّا هَذَا الثَّالِثَ أَنَّ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ عَنْ الْعِلَّةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِفَسَادٍ فِي الْعِلَّةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِمَانِعٍ مِنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَالْمُعَلِّلِ قَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لِمَانِعٍ فَيَجِبُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ أَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ الْحُكْمَ قَدْ يَخْتَلِفُ عَنْهَا لِمَانِعٍ كَالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ عَنْ الْخَشَبِ الْمُلَطَّخِ بِالطَّلْقِ الْمَحْلُولِ. (قَوْلُهُ: ذَكَرَ الْقَائِلُونَ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ) فِي هَذَا الْمَقَامِ أَقْسَامَ الْمَانِعِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ لَكِنَّهُمْ لَمَا أَخَذُوا فِي تَعْدَادِ الْمَوَانِعِ أَوْرَدُوا فِيهَا الْمَانِعَ مِنْ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ وَمِنْ تَمَامِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ قَبِيلِ الْمَانِعِ الْمُعْتَبَرِ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَهُوَ مَا يَمْنَعُ الْحُكْمَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - غَيَّرَ عِبَارَتَهُمْ وَعَبَّرَ عَنْ مَوَانِعِ الْحُكْمِ بِمُوجِبَاتِ عَدَمِ الْحُكْمِ لِيَشْمَلَ الْمَانِعَ عَنْ الْحُكْمِ وَعَنْ الْعِلَّةِ انْعِقَادًا أَوْ تَمَامًا، وَالْعُمْدَةُ فِي أَقْسَامِ الْمَانِعِ هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ وَالْمَذْكُورُ فِي التَّقْوِيمِ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَحْدُثُ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْزَاءِ فَهُوَ الْمَانِعُ مِنْ الِابْتِدَاءِ أَوْ الِانْعِقَادِ وَإِلَّا فَهُوَ الْمَانِعُ مِنْ التَّمَامِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْعِلَّةِ أَوْ الْحُكْمِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ قِسْمًا خَامِسًا نَظَرًا إلَى أَنَّ لِلْحُكْمِ ابْتِدَاءً وَتَمَامًا وَدَوَامًا، وَلَا عِبْرَةَ بِالدَّوَامِ فِي

فِي فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْخِيَارَ يَثْبُتُ بِالضَّرُورَةِ فَدُخُولُهُ عَلَى الْحُكْمِ أَسْهَلُ مِنْ دُخُولِهِ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ عَلَى السَّبَبِ يُوجِبُ الدُّخُولَ عَلَى الْمُسَبِّبِ وَالْحُكْمِ فَإِذَا كَانَ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ ثَابِتًا، وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّ الْبَيْعَ صَدَرَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَأَوْجَبَ الْحُكْمَ وَهُوَ الْمِلْكُ لَكِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَتِمَّ لِعَدَمِ الرِّضَا بِالْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَإِنَّهُ حَصَلَ السَّبَبُ وَالْحُكْمُ بِتَمَامِهِ لِتَمَامِ الرِّضَا بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ الرُّؤْيَةَ لَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَيْبِ يَتَضَرَّرُ الْمُشْتَرِي فَقُلْنَا بِعَدَمِ اللُّزُومِ عَلَى تَقْدِيرِ الْعَيْبِ فَلَا خِيَارَ الْعَيْبِ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ رَدِّ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ وَهُوَ بَعْدَ التَّمَامِ جَائِزٌ وَفِي خِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يَتَمَكَّنُ؛ لِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ قَبْلَ التَّمَامِ وَذَا لَا يَجُوزُ وَلَنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْأَلْفَاظِ مَجَازٌ فَيُخَصُّ بِهَا، وَتَرْكُ الْقِيَاسِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حِينَئِذٍ وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْقِيَاسِ مَا يَلْزَمُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِلَّةِ بَلْ التَّمَامُ كَافٍ كَخُرُوجِ النَّجَاسَةِ لِلْحَدَثِ ثُمَّ الْمَقْصُودُ هُوَ الْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيَّانِ، وَقَدْ أَضَافُوا إلَيْهَا الْحِسِّيَّيْنِ لِزِيَادَةِ التَّوْضِيحِ وَفِي كَوْنِ امْتِدَادِ الْجُرْحِ وَصَيْرُورَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الطَّبْعِ مَانِعًا مِنْ لُزُومِ الْحُكْمِ نَظَرًا؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْحُكْمِ الْقَتْلُ وَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ وَإِنْ أُرِيدَ الْجَرْحُ فَهُوَ لَازِمٌ عَلَى تَقْدِيرِ صَيْرُورَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الطَّبْعِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْجَرْحُ عَلَى وَجْهٍ يُفْضِي إلَى الْقَتْلِ لِعَدَمِ مُقَاوَمَةِ الْمُرْمَى فَالِانْدِمَالُ مَانِعٌ مِنْ تَمَامِ الْحُكْمِ لِحُصُولِ الْمُقَاوَمَةِ، وَأَمَّا بَقَاءُ الْجُرْحِ وَكَوْنُ الْمَجْرُوحِ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَلَا يَمْنَعُهُ لِتَحَقُّقِ عَدَمِ الْمُقَاوَمَةِ إلَّا أَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَزُولَ عَدَمُ الْمُقَاوَمَةِ بِالِانْدِمَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَصِيرَ لَازِمًا بِإِفْضَائِهِ إلَى الْقَتْلِ فَإِذَا صَارَ طَبْعًا فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ إفْضَاءَهُ إلَى الْقَتْلِ وَكَانَ مَانِعًا لُزُومَ الْحُكْمِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّهُ تَمْثِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّسَامُحِ وَإِلَّا فَالرَّمْيُ عِلَّةٌ لِلْمُضِيِّ وَالْمُضِيُّ لِلْإِصَابَةِ وَالْإِصَابَةُ لِلْجِرَاحَةِ وَالْجِرَاحَةُ لِسَيَلَانِ الدَّمِ وَهُوَ لِزُهُوقِ الرُّوح. (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّ التَّخْصِيصَ) أَجَابَ عَنْ الِاحْتِجَاجِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَعْدِيَتُهَا مِنْ الْأَصْلِ أَعْنِيَ الْأَدِلَّةَ اللَّفْظِيَّةَ إلَى الْفَرْعِ أَعْنِي الْعِلَلَ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مَلْزُومٌ لِلْمَجَازِ وَالْمَجَازُ مِنْ خَوَاصِّ اللَّفْظِ وَاخْتِصَاصِ اللَّازِمِ بِالشَّيْءِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ الْمَلْزُومِ بِهِ وَإِلَّا لَزِمَ وُجُودُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ اللَّازِمِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَرُبَّمَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّخْصِيصَ مُطْلَقًا مَلْزُومٌ لِلْمَجَازِ بَلْ التَّخْصِيصُ فِي الْأَلْفَاظِ كَذَلِكَ وَمَعْنَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إثْبَاتُ مِثْلِهِ فِي صُورَةِ الْفَرْعِ فَيَثْبُتُ فِي الْعِلَلِ تَخْصِيصٌ بِبَعْضِ الْمَوَارِدِ كَتَخْصِيصِ الْأَلْفَاظِ بِبَعْضِ الْأَفْرَادِ وَيَتَّصِفُ اللَّفْظُ بِالْمَجَازِ ضَرُورَةَ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَيَمْتَنِعُ اتِّصَافُ الْعِلَّةِ بِهِ إذْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا الِاتِّصَافُ بِالْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ. وَعَنْ الِاحْتِجَاجِ الثَّانِي بِأَنَّ إثْبَاتَ الْحُكْمِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ تَرْكٌ لِلْقِيَاسِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ الْمَانِعِ مِنْ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ

مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى وُجُوبِ التَّعْدِيَةِ إذَا عُلِمَ وُجُودُ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدِهِمْ بِعَدَمِ الْمَانِعِ مَعَ أَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ وَاجِبٌ فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ الْمَانِعِ حَاصِلٌ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ فَهُوَ إمَّا رُكْنُهَا أَوْ شَرْطُهَا أَيْ عَدَمُ الْمَانِعِ إمَّا رُكْنُ الْعِلَّةِ أَوْ شَرْطُهَا (فَإِذَا وُجِدَ الْمَانِعُ فَقَدْ عُدِمَ الْعِلَّةُ ثُمَّ عَدَمُهَا قَدْ يَكُونُ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ الْمُطْلَقَ عِلَّةٌ لِلْمِلْكِ فَإِذَا زِيدَ الْخِيَارُ فَقَدْ عَدِمَتْ أَوْ لِنُقْصَانِهِ كَالْخَارِجِ النَّجِسِ مَعَ عَدَمِ الْحَرَجِ عِلَّةٌ لِلِانْتِقَاضِ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي الْمَعْذُورِ وَمِنْهُ فَسَادُ الْوَضْعِ وَهُوَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْعِلَّةِ نَقِيضُ مَا تَقْتَضِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْقِيَاسَ بَلْ الْوَصْفُ فِيهِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِنْدَ وُجُودِ الْمُعَارِضِ الْأَقْوَى لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُعَارِضَهُ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ فَانْتِفَاءُ الْحُكْمِ فِي صُورَةِ الْقِيَاسِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ الْعِلَّةِ لَا عَلَى تَحَقُّقِ الْمَانِعِ مَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْقِيَاسِ مَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى كُلِّ صُورَةٍ تُوجَدُ فِيهَا الْعِلَّةُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِعَدَمِ الْمَانِعِ فَكُلُّ مَا لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ الْحُكْمِ بَلْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ وَلَوْ لِمَانِعٍ يَكُونُ عِلَّةً، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَجْهُ صَالِحًا؛ لَأَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى بُطْلَانِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ وَاجِبٌ إلَى آخِرِهِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِ التَّعْدِيَةِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ مِنْهُمْ لِلتَّقْيِيدِ بِعَدَمِ الْمَانِعِ مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنْ لَا تَعْدِيَةَ عِنْدَ وُجُودِ الْمَانِعِ فَعُلِمَ مِنْ تَرْكِهِمْ التَّقْيِيدَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ مَا يَسْتَجْمِعُ جَمِيعَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ التَّعْدِيَةُ أَنَّهُ عَدَمُ مَانِعٍ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ شَطْرٌ لِلْعِلَّةِ أَوْ شَرْطٌ لَهَا فَعِنْدَ وُجُودِ الْمَانِعِ تَكُونُ الْعِلَّةُ مَعْدُومَةً لِانْعِدَامِ رُكْنِهَا أَوْ شَرْطِهَا وَهَاهُنَا نَظَرٌ وَهُوَ أَنَّ غَلَبَةَ الظَّنِّ تَكْفِي فِي الْعِلِّيَّةِ سَوَاءٌ اسْتَلْزَمَتْ الْحُكْمَ أَمْ لَا، وَلَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ التَّعْدِيَةِ مُطْلَقًا بَلْ بِشَرَائِطَ وَقُيُودٍ كَثِيرَةٍ، وَمِنْهَا عَدَمُ الْمَانِعِ وَأَيْضًا كَثِيرًا مَا يَقَعُ الْإِطْلَاقُ اعْتِمَادًا عَلَى الْعِلْمِ بِالتَّقْيِيدِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ وَاجِبٌ وَالْمُرَادُ عِنْدَ عَدَمِ الْمُخَصَّصِ. (قَوْلُهُ ثُمَّ عَدَمُهَا) أَيْ عَدَمُ الْعِلَّةِ قَدْ يَكُونُ لِزِيَادَةِ وَصْفٍ عَلَى مَا جُعِلَ عِلَّةً بِأَنْ تَكُونَ عَلِيَّتُهُ مَشْرُوطَةً بِعَدَمِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَنْتَفِي بِوُجُودِهِ كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ أَيْ غَيْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ عِلَّةٍ لِلْمِلْكِ فَإِذَا زِيدَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ لَمْ يَبْقَ مُطْلَقًا فَلَمْ يَكُنْ عِلَّةً وَالْمُرَادُ بِالْمُطْلَقِ هَاهُنَا مَا يُقَابِلُ الْمُقَيَّدَ بِالشَّرْطِ وَنَحْوِهِ لَا الْمَشْرُوطِ بِالْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ لَا وُجُودَ لَهُ أَصْلًا، وَلَا الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الَّذِي لَا يُوجَدُ إلَّا فِي ضِمْنِ الْجُزْئِيَّاتِ فَإِنَّهُ صَادِقٌ عَلَى الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ، وَقَدْ يَكُونُ بِنُقْصَانِ وَصْفٍ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِ الْعِلَّةِ أَوْ شَرَائِطِهَا فَيَنْتَفِي الْكُلُّ بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ أَوْ شَرْطِهِ كَالْخَارِجِ النَّجَسِ فَإِنَّهُ مَعَ عَدَمِ الْحَرَجِ عِلَّةٌ لِانْتِقَاضِ الْوُضُوءِ فَعِنْدَ وُجُودِ الْحَرَجِ لَا يَكُونُ عِلَّةً كَمَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ. (قَوْلُهُ: وَمِنْهُ)

مَا ثَبَتَ تَأْثِيرُهُ شَرْعًا لَا يُمْكِنُ فِيهِ فَسَادُ الْوَضْعِ وَمَا ثَبَتَ فَسَادُ وَضْعِهِ عَلَى عَدَمِ تَأْثِيرِهِ شَرْعًا وَسَيَأْتِي مِثَالُهُ وَمِنْهُ عَدَمُ الْعِلَّةِ مَعَ وُجُودِ الْحُكْمِ وَهَذَا لَا يُقْدَحُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى وَمِنْهُ الْفَرْقُ قَالُوا هُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ غَصَبَ مَنْصِبَ الْمُعَلِّلِ وَهَذَا نِزَاعٌ جَدَلِيٌّ وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ عِلِّيَّةُ الْمُشْتَرَكِ لَا يَضُرُّهُ الْفَارِقُ لَكِنْ إذَا أَثْبُتَ فِي الْفَرْعِ مَانِعًا يَضُرُّهُ وَكُلُّ كَلَامٍ صَحِيحٍ فِي الْأَصْلِ إذَا أُورِدَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْقِ لَا يُقْبَلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُورَدَ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ حَتَّى يُقْبَلَ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إعْتَاقُ الرَّاهِنِ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ) هَذَا تَعْلِيمٌ يَنْفَعُ فِي الْمُنَاظَرَاتِ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ يَكُونُ فِي نَفْسِهِ صَحِيحًا أَيْ يَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مَنَعَا لِلْعِلَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيْ وَمِنْ دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَسَادُ الْوَضْعِ كَمَا يُقَالُ التَّيَمُّمُ مَسْحٌ فَيُسَنُّ فِيهِ التَّثْلِيثُ كَالِاسْتِنْجَاءِ فَيُعْتَرَضُ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْمَسْحِ فِي كَرَاهَةِ التَّكْرَارِ كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ وَهَذَا إنَّمَا يُسْمَعُ قَبْلَ ثُبُوتِ تَأْثِيرِ الْعِلَّةِ وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ مِنْ الشَّارِعِ اعْتِبَارُ الْوَصْفِ فِي الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ (قَوْلُهُ: وَمِنْهُ) أَيْ وَمِنْ دَفْعِ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ عَدَمُ الِانْعِكَاسِ وَهُوَ أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ، وَلَا تُوجَدُ الْعِلَّةُ وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الْعِلِّيَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِعِلَلٍ شَتَّى كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْإِرْثِ كَمَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ فَإِنَّ نَوْعَ الْحَرَارَةِ يَحْصُلُ بِالنَّارِ وَالشَّمْسِ وَالْحَرَكَةِ نَعَمْ يَمْتَنِعُ تَوَارُدُ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ بِالشَّخْصِ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُحْتَاجًا إلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عِلَّةٌ وَمُسْتَغْنًى عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْآخَرَ عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ إذْ لَيْسَ مَعْنَى تَأْثِيرِهَا الْإِيجَادَ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إذَا حَصَلَ مِنْهُ الْبَوْلُ وَالْغَائِطُ وَالرُّعَافُ وَنَحْوُ ذَلِكَ حَصَلَ حَدَثُهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ. (قَوْلُهُ وَمِنْهُ الْفَرْقُ) وَهُوَ أَنْ يَتَبَيَّنَ فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ لَهُ مُدْخَلٌ فِي الْعِلِّيَّةِ لَا يُوجَدُ فِي الْفَرْعِ فَيَكُونَ حَاصِلُهُ مَنْعَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ وَادِّعَاءَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْوَصْفُ مَعَ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ مَقْبُولٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ يُقْبَلُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ غَصَبَ مَنْصِبَ الْمُعَلَّلِ إذْ السَّائِلُ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ فِي مَوْقِفِ الْإِنْكَارِ فَإِذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ وَقَفَ مَوْقِفَ الدَّعْوَى، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الدَّلِيلِ فَالْمُعَارِضُ حِينَئِذٍ لَا يَبْقَى سَائِلًا بَلْ يَصِيرُ مُدَّعِيًا ابْتِدَاءً، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ نِزَاعٌ جَدَلِيٌّ يَقْصِدُونَ بِهِ عَدَمَ وُقُوعِ الْخَبْطِ فِي الْبَحْثِ وَإِلَّا فَهُوَ غَيْرُ نَافِعٍ فِي إظْهَارِ الصَّوَابِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُعَلَّلَ بَعْدَمَا أُثْبِتَ كَوْنُ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ عِلَّةَ لُزُومِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْعِلَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ وُجِدَ الْفَارِقُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ؛ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ يُثْبِتُ فِي الْأَصْلِ عِلِّيَّةَ وَصْفٍ لَا يُوجَدُ فِي الْفَرْعِ وَهَذَا لَا يُنَافِي عِلِّيَّةَ الْوَصْفِ الْمُشْتَرَكِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْدِيَةِ نَعَمْ لَوْ أُثْبِتَ الْفَارِقُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ كَانَ قَادِحًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ

[الممانعة]

الْمُؤَثِّرَةِ فَإِنَّهُ إذَا أُورِدَ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْقِ يَمْنَعُ الْجَدَلِيُّ تَوْجِيهَهُ فَيَجِبُ أَنْ يُورَدَ عَلَى سَبِيلِ الْمَنْعِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْقِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْجَدَلِيُّ مِنْ رَدِّهِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إعْتَاقُ الرَّاهِنِ تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ (فَيُرَدُّ كَالْبَيْعِ فَإِنْ قُلْنَا بَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَإِنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا الْعِتْقَ يَمْنَعُ تَوْجِيهَ هَذَا الْكَلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ نُورِدَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ إنْ كَانَ هُوَ الْبُطْلَانَ فَلَا نُسَلِّمُ) الْأَصْلَ هُنَا بَيْعُ الرَّاهِن فَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُكْمَ فِيهِ الْبُطْلَانُ فَهَذَا مَمْنُوعٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا فِي بَيْعِ الرَّاهِنِ التَّوَقُّفُ (وَإِنْ كَانَ التَّوَقُّفَ) أَيْ إنْ كَانَ حُكْمُ الْأَصْلِ التَّوَقُّفَ (فَفِي الْفَرْعِ إنْ ادَّعَيْتُمْ الْبُطْلَانَ لَا يَكُونُ الْحُكْمَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ وَإِنْ ادَّعَيْتُمْ التَّوَقُّفَ لَا يُمْكِنُ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَكَقَوْلِهِ فِي الْعَمْدِ: قَتْلُ آدَمِيٍّ مَضْمُونٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُجَرَّدَ الْفَرْقِ بَلْ بَيَانَ عَدَمِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةِ هِيَ الْوَصْفُ الْمَفْرُوضُ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ (قَوْلُهُ لَكِنْ لَمْ يَجِبْ) أَيْ الْقَوَدُ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ قُصُورَ الْجِنَايَةِ بِالْخَطَأِ لَا يُوجِبُ الْمِثْلَ الْكَامِلَ فَوَجَبَ الْمَالُ خَلَفًا عَنْهُ فَإِيجَابُ الْمَالِ فِي الْعَمْدِ بِأَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ لَا يَكُونُ مُمَاثِلًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ بِطَرِيقِ الْمُزَاحَمَةِ دُونَ الْخَلْفِيَّةِ إذْ الْخَلَفُ لَا يُزَاحِمُ الْأَصْلَ بَلْ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِهِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ إثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْخَطَأُ إيجَابُ خَلْفِيَّةِ الْمَالِ عَنْ الْقِصَاصِ وَفِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْعَمْدُ إيجَابُ مُزَاحِمَتِهِ لَهُ. [الْمُمَانَعَةُ] (قَوْلُهُ: وَمِنْهُ الْمُمَانَعَةُ) وَهِيَ مَنْعُ مُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ إمَّا مَعَ السَّنَدِ أَوْ بِدُونِهِ وَالسَّنَدُ مَا يَكُونُ الْمَنْعُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ مَبْنِيًّا عَلَى مُقَدِّمَاتٍ هِيَ كَوْنُ الْوَصْفِ عِلَّةً وَوُجُودُهَا فِي الْأَصْلِ وَفِي الْفَرْعِ وَتَحَقُّقُ شَرَائِطِ التَّعْلِيلِ بِأَنْ لَا يُغَيِّرَ حُكْمَ النَّصِّ، وَلَا يَكُونُ الْأَصْلُ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ وَتَحَقُّقُ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ مِنْ التَّأْثِيرِ وَغَيْرِهِ كَانَ لِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَمْنَعَ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرْت مِنْ الْوَصْفِ عِلَّةٌ أَوْ صَالِحٌ لِلْعِلِّيَّةِ، وَهَذَا مُمَانَعَةٌ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا نُسَلِّمُ وُجُودَهَا فِي الْأَصْلِ أَوْ الْفَرْعِ أَوْ لَا نُسَلِّمُ تَحَقُّقَ شَرَائِطِ التَّعْلِيلِ أَوْ تَحَقُّقَ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ الْمُمَانَعَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ فَقِيلَ الْقِيَاسُ إلْحَاقُ فَرْعٍ بِأَصْلٍ بِجَامِعٍ، وَقَدْ حَصَلَ فَلَا نُكَلِّفُ إثْبَاتَ مَا لَمْ يَدَّعِهِ وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْجَامِعِ مِنْ ظَنِّ الْعِلِّيَّةِ وَإِلَّا لَأَدَّى إلَى التَّمَسُّكِ بِكُلِّ طَرْدٍ فَيُؤَدِّي إلَى اللَّعِبِ فَيَصِيرُ الْقِيَاسُ ضَائِعًا وَالْمُنَاظَرَةُ عَبَثًا مِثْلُ أَنْ يُقَالَ الْخَلُّ مَائِعٌ فَيَرْفَعُ الْخَبَثَ كَالْمَاءِ وَلِهَذَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي جَرَيَانِ الْمُمَانَعَةِ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ إلَى بَيَانِهِ بِقَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا كَالطَّرْدِ وَكَالتَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونَ الْعِلَّةُ هِيَ الْوَصْفُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلْعِلِّيَّةِ بَلْ تَكُونُ الْعِلَّةُ غَيْرَهُ كَمَا

[المعارضة]

فَيُوجِبُ الْمَالَ كَالْخَطَأِ فَنَقُولُ لَيْسَ كَالْخَطَأِ إذْ لَا قُدْرَةَ فِيهِ عَلَى الْمِثْلِ) أَيْ فِي الْخَطَأِ عَلَى الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ جَزَاءٌ كَامِلٌ فَلَا يَجِبُ مَعَ قُصُورِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الْخَطَأُ فَإِنْ أُورِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُهُ الْجَدَلِيُّ فَنُورِدُهُ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ (فَتَوْجِيهُ هَذَا) أَيْ تَوْجِيهُ هَذَا الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْمُمَانَعَةِ (أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ) وَهُوَ الْخَطَأُ (شَرْعُ الْمَالِ خَلَفًا عَنْ الْقَوَدِ وَفِي الْفَرْعِ مُزَاحَمَتُهُ إيَّاهُ) يَعْنِي أَنَّ الْمَالَ شُرِعَ خَلَفًا عَنْ الْقَوَدِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وُجُوبُ الْقَوَدِ لَكِنْ لَمْ يَجِبْ لِمَا قُلْنَا فَوَجَبَ خَلَفُهُ وَفِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْعَمْدُ الْحُكْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُزَاحَمَةُ الْمَالِ الْقَوَدَ فَلَا يَكُونُ الْحُكْمَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ. (وَمِنْهُ الْمُمَانَعَةُ فَهِيَ إمَّا فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُتَمَسِّكًا بِمَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا كَالطَّرْدِ وَالتَّعْلِيلِ بِالْعَدَمِ وَلِاحْتِمَالِ أَنْ لَا تَكُونَ الْعِلَّةُ هَذَا بَلْ غَيْرَهُ كَمَا ذَكَرْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQقُتِلَ عَبْدٌ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ الْحُرُّ كَالْمُكَاتَبِ فَقِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ أَعْنِي الْمُكَاتَبِ كَوْنُهُ عَبْدًا بَلْ جَهَالَةُ الْمُسْتَحَقِّ أَنَّهُ السَّيِّدُ أَوْ الْوَارِثُ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْعِلَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُمَانَعَةَ فِي نَفْسِ الْحُجَّةِ هِيَ أَسَاسُ الْمُنَاظَرَةِ لِعُمُومِ وُرُودِهَا عَلَى الْقِيَاسِ إذْ قَلَّمَا تَكُونُ الْعِلَّةُ قَطْعِيَّةً وَعِنْدَ إيرَادِهَا يَرْجِعُ الْمُعَلَّلُ فِي التَّقَصِّي عَنْهَا إلَى مَسَالِكِ الْعِلَّةِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهَا أَبْحَاثٌ فَيُطَوِّلُ الْقِيلَ وَالْقَالَ وَيُكْثِرُ الْجَوَابَ وَالسُّؤَالَ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمَانِعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ وَطَلَبِ الدَّلِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ الدَّعْوَى وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَصِحُّ الْمُمَانَعَةُ بَعْدَ ظُهُورِ تَأْثِيرِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ تَأْثِيرُ الْوَصْفِ بِمَعْنَى اعْتِبَارِ نَوْعِهِ أَوْ جِنْسِهِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ أَوْ جِنْسِهِ وَتَكُونُ عِلَّةُ الْحُكْمِ غَيْرَهُ أَوْ يَكُونُ مُقْتَصِرًا عَلَى الْأَصْلِ بِخِلَافِ فَسَادِ الْوَضْعِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ بَعْدَ ظُهُورِ التَّأْثِيرِ وَلِهَذَا جَعَلَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - دَفْعَ الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بِالْمُمَانَعَةِ وَالْمُعَارَضَةِ صَحِيحًا وَبِالنَّقْضِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ فَاسِدًا نَعَمْ قَدْ يُورِدُ النَّقْضَ وَفَسَادَ الْوَضْعِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ وَبَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. [الْمُعَارَضَةُ] (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ) تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَرْجِعَ جَمِيعِ الِاعْتِرَاضَاتِ إلَى الْمَنْعِ وَالْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُسْتَدِلِّ الْإِلْزَامُ بِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ بِدَلِيلِ الْمُعْتَرِضِ، عَدَمُ الِالْتِزَامِ بِمَنْعِهِ عَنْ إثْبَاتِهِ بِدَلِيلِهِ، وَالْإِثْبَاتُ يَكُونُ بِصِحَّةِ مُقَدِّمَاتِهِ لِيَصْلُحَ لِلشَّهَادَةِ وَبِسَلَامَتِهِ عَنْ الْمُعَارِضِ لِتَنْفُذَ شَهَادَتُهُ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، وَالدَّفْعُ يَكُونُ بِهَدْمِ أَحَدِهِمَا فَهَدْمُ شَهَادَةِ الدَّلِيلِ يَكُونُ بِالْقَدْحِ فِي صِحَّتِهِ بِمَنْعِ مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ وَطَلَبِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا، وَهَدْمُ سَلَامَتِهِ يَكُونُ بِفَسَادِ شَهَادَتِهِ فِي الْمُعَارَضَةِ بِمَا يُقَابِلُهَا وَبِمَنْعِ ثُبُوتِ حُكْمِهَا فَمَا لَا يَكُونُ مِنْ الْقَبِيلَيْنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَقْصُودِ الِاعْتِرَاضِ فَالنَّقْضُ وَفَسَادُ الْوَضْعِ مِنْ قَبِيلِ الْمَنْعِ وَالْقَلْبُ وَالْعَكْسُ وَالْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَارَضَةِ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ تَخْصِيصِ الْمُنَاقَضَةِ بِالْمَنْعِ مَعَ السَّنَدِ يُبْطِلُ حَصْرَ الِاعْتِرَاضِ فِي الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ

فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَأَمَّا فِي وُجُودِهَا فِي الْأَصْلِ أَوْ فِي الْفَرْعِ كَمَا مَرُّوا فِي شُرُوطِ التَّعْلِيلِ وَأَوْصَافِ الْعِلَّةِ كَكَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً) (وَمِنْهُ الْمُعَارَضَةُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ إمَّا أَنْ يُبْطِلَ دَلِيلَ الْمُعَلِّلِ وَيُسَمَّى مُنَاقَضَةً أَوْ يُسَلِّمُهُ لَكِنْ يُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى نَفْيِ مَدْلُولِهِ وَيُسَمَّى مُعَارَضَةً وَتَجْرِي فِي الْحُكْمِ وَفِي عِلَّتِهِ وَالْأُولَى تُسَمَّى مُعَارَضَةً فِي الْحُكْمِ وَالثَّانِيَةُ فِي الْمُقَدِّمَةِ) فَقَوْلُهُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ هَذَا تَقْسِيمُ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُعَارَضَةِ لَا تَقْسِيمُ الْمُعَارَضَةِ فَإِذَا عَلَّلَ الْمُعَلِّلُ فَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ يَمْنَعَ مُقَدَّمَاتِ دَلِيلِهِ وَيُسَمَّى هَذَا مُمَانَعَةً فَإِذَا ذَكَرَ لِمَنْعِهِ سَنَدًا يُسَمَّى مُنَاقَضَةً كَمَا يَقُولُ مَا ذَكَرْت لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ طَرْدٌ مُجَرَّدٌ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ إلَى آخِرِ مَا عَرَفْت فِي الْمُمَانَعَةِ وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ دَلِيلَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِخُرُوجِ الْمَنْعِ الْمُجَرَّدِ عَنْهُمَا وَعِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ: الْمُنَاقَضَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ مُقَدِّمَةِ الدَّلِيلِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَ السَّنَدِ أَوْ بِدُونِهِ وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّقْضِ وَمَرْجِعُهَا إلَى الْمُمَانَعَةِ؛ لِأَنَّهَا امْتِنَاعٌ عَنْ تَسْلِيمِ بَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَتَخَلُّفُ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّنَدِ لَهُ فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَكُونُ الْمُعَارَضَةُ مِنْ أَقْسَامِ الِاعْتِرَاضِ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ الْخَصْمِ قَدْ ثَبَتَ بِتَمَامِ دَلِيلِهِ قُلْنَا هِيَ فِي الْمَعْنَى نَفْيٌ لِتَمَامِ الدَّلِيلِ وَنَفَاذِ شَهَادَتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ حَيْثُ قُوبِلَ بِمَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ مَدْلُولِهِ وَلَمَّا كَانَ الشُّرُوعُ فِيهَا بَعْدَ تَمَامِ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ غَصْبًا؛ لِأَنَّ السَّائِلَ قَدْ قَامَ عَنْ مَوْقِفِ الْإِنْكَارِ إلَى مَوْقِفِ الِاسْتِدْلَالِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَدْحَ الْمُعْتَرِضِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ وَالْقَصْدِ فِي الدَّلِيلِ أَوْ فِي الْمَدْلُولِ وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْعِ شَيْءٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْمُمَانَعَةُ وَالْمَمْنُوعُ إمَّا مُقَدَّمَةٌ مُعَيَّنَةٌ مَعَ ذِكْرِ السَّنَدِ أَوْ بِدُونِهِ وَيُسَمَّى مُنَاقَضَةً، وَإِمَّا مُقَدِّمَةٌ لَا بِعَيْنِهَا وَهُوَ النَّقْدُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الدَّلِيلُ بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَمَا تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَ إقَامَةِ الْمُعَلِّلِ دَلِيلًا عَلَى إثْبَاتِهَا وَهُوَ الْمُعَارَضَةُ فِي الْمُقَدِّمَةِ فَيَدْخُلُ فِي أَقْسَامِ الْمُعَارَضَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَهَا وَهُوَ الْغَصْبُ الْغَيْرُ الْمَسْمُوعِ لِاسْتِلْزَامِهِ الْخَيْطَ فِي الْبَحْثِ بِوَاسِطَةٍ بَعْدَ كُلٍّ مِنْ الْمُعَلِّلِ وَالسَّائِلِ عَمَّا كَانَا فِيهِ وَضَلَالُهُمَا عَمَّا هُوَ طَرِيقُ التَّوْجِيهِ وَالْمَقْصُودِ بِنَاءً عَلَى انْقِلَابِ حَالِهِمَا وَاضْطِرَابِ مَقَالِهِمَا كُلَّ سَاعَةِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْقَدْحُ فِي الْمَدْلُولِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلدَّلِيلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَنْعِ الْمَدْلُولِ وَهُوَ مُكَابَرَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَإِمَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِهِ وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ وَتَجْرِي فِي الْحُكْمِ بِأَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى نَقِيضِ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وَفِي عِلَّتِهِ بِأَنْ يُقِيمَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ شَيْءٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ وَالْأَوَّلُ يُسَمَّى مُعَارَضَةً فِي الْحُكْمِ وَالثَّانِيَةُ الْمُعَارَضَةُ فِي الْمُقَدِّمَةِ وَتَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى تَمَامِ الدَّلِيلِ مُنَاقَضَةً وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْحُكْمِ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِدَلِيلِ الْمُعَلِّلِ وَلَوْ بِزِيَادَةِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَهُوَ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ أَمَّا الْمُعَارَضَةُ فَمِنْ

فَيَقُولُ مَا ذَكَرْت مِنْ الدَّلِيلِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ الْمَدْلُولِ لَكِنْ عِنْدِي مَا يَنْفِي ذَلِكَ الْمَدْلُولَ وَيُقِيمُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ مَدْلُولِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَدْلُولُ هُوَ الْحُكْمَ أَوْ مُقَدِّمَةً مِنْ مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ، الْأَوَّلِ يُسَمَّى مُعَارَضَةً فِي الْحُكْمِ وَالثَّانِي يُسَمَّى مُعَارَضَةً فِي الْمُقَدِّمَةِ كَمَا إذَا أَقَامَ الْمُعَلِّلُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ لِلْحُكْمِ هِيَ الْوَصْفُ الْفُلَانِيُّ فَلِلْمُعْتَرِضِ أَنْ لَا يَنْقُضَ دَلِيلَهُ بَلْ يُثْبِتُ بِدَلِيلٍ آخَرَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ فَهَذَا مُعَارَضَةٌ فِي الْمُقَدِّمَةِ ثُمَّ شَرَعَ فِي تَقْسِيمِ الْمُعَارَضَةِ فِي الْحُكْمِ فَقَالَ (أَمَّا الْأُولَى فَإِمَّا بِدَلِيلِ الْمُعَلِّلِ وَإِنْ كَانَ بِزِيَادَةِ شَيْءٍ عَلَيْهِ وَهِيَ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ فَإِنْ دَلَّ عَلَى نَقِيضِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ فَقَلْبٌ كَقَوْلِهِ: صَوْمُ رَمَضَانَ صَوْمُ فَرْضٍ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ كَالْقَضَاءِ فَنَقُولُ صَوْمُ فَرْضٍ فَيُسْتَغْنَى عَنْ التَّعْيِينِ بَعْدَ تَعْيِينِهِ كَالْقَضَاءِ لَكِنْ هُنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQحَيْثُ إثْبَاتُ نَقِيضِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا الْمُنَاقَضَةُ فَمِنْ حَيْثُ إبْطَالُ دَلِيلِ الْمُعَلِّلِ إذْ الدَّلِيلُ الصَّحِيحُ لَا يَقُومُ عَلَى النَّقِيضَيْنِ فَإِنْ قُلْت فِي الْمُعَارَضَةِ تَسْلِيمُ دَلِيلِ الْخَصْمِ وَفِي الْمُنَاقَضَةِ إنْكَارُهُ فَكَيْفَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ قُلْتُ يَكْفِي فِي الْمُعَارَضَةِ التَّسْلِيمُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ بِأَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلْإِنْكَارِ قَصْدًا فَإِنْ قُلْتَ فَفِي كُلِّ مُعَارَضَةٍ مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحُكْمِ وَإِبْطَالَهُ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ دَلِيلِهِ الْمُسْتَلْزِمِ لَهُ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ. قُلْتُ عِنْدَ تَغَايُرِ الدَّلِيلَيْنِ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الْبَاطِلُ دَلِيلَ الْمُعَارِضِ بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّحَدَ الدَّلِيلُ ثُمَّ دَلِيلُ الْمُعَارِضُ إنْ كَانَ عَلَى نَقِيضِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ فَقَلْبٌ وَإِنْ كَانَ مَا يَسْتَلْزِمُهُ فَعَكْسٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهِيَ الْمُنَاقَضَةُ الْخَالِصَةُ وَإِثْبَاتُهُ لِنَقِيضِ الْحُكْمِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِتَغْيِيرِ مَا وُكِّلَ مِنْهُمَا صَرِيحًا أَوْ الْتِزَامًا وَالْمُعَارَضَةُ فِي الْمُقَدِّمَةِ إنْ كَانَتْ بِجَعْلِ عِلَّةِ الْمُسْتَدِلِّ مَعْلُولًا وَالْمَعْلُولِ عِلَّةً فَمُعَارَضَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ وَإِلَّا فَمُعَارَضَةٌ خَالِصَةٌ وَهِيَ قَدْ تَكُونُ لِنَفْيِ عِلِّيَّةِ مَا أَثْبَتَ الْمُسْتَدِلُّ عِلِّيَّتَهُ، وَقَدْ تَكُونُ لِإِثْبَاتِ عِلِّيَّةِ عِلَّةٍ أُخْرَى إمَّا قَاصِرَةٍ وَإِمَّا مُتَعَدِّيَةٍ إلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ أَوْ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَرْدُودٌ وَأَمْثِلَتُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ فَإِنْ قُلْت بَعْدَ مَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ الْعِلَّةِ كَيْفَ يَصِحُّ مُعَارَضَتُهَا خُصُوصًا بِطَرِيقِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ جَعْلُ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا عِلَّةً لِنَقِيضِ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ قُلْتُ رُبَّمَا يُظَنُّ ظُهُورُ التَّأْثِيرِ، وَلَا تَأْثِيرَ وَرُبَّمَا يُورَدُ عَلَى الْمُؤَثِّرِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ أَوْ قَلْبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالْمُنَافَاةُ إنَّمَا هِيَ بَيْنَ تَأْثِيرٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَتَمَامِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى الْقَطْعِ، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ وَهَكَذَا حُكْمُ فَسَادِ الْوَضْعِ فَتَخْصِيصُهُ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَعْدَ ثُبُوتِ التَّأْثِيرِ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ بِزِيَادَةِ شَيْءٍ عَلَيْهِ) يَعْنِي زِيَادَةً تُفِيدُ تَقْرِيرًا وَتَفْسِيرًا لَا تَبْدِيلًا وَتَغْيِيرًا لِيَكُونَ قَلْبًا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَلْبِ الشَّيْءِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ كَقَلْبِ الْجِرَابِ يُسَمَّى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ جَعَلَ الْعِلَّةَ شَاهِدًا لَهُ بَعْدَ مَا كَانَ شَاهِدًا عَلَيْهِ أَوْ عَكْسًا وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَكَسْتُ الشَّيْءَ رَدَدْته إلَى وَرَائِهِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ

التَّعْيِينُ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَفِي الْقَضَاءِ بِالشُّرُوعِ) أَيْ تَعْيِينُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ تَعْيِينٌ قَبْلَ الشُّرُوعِ بِتَعْيِينِ اللَّهِ وَفِي الْقَضَاءِ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِالشُّرُوعِ بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ (وَكَقَوْلِهِ: مَسْحُ الرَّأْسِ رُكْنٌ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَغَسْلِ الْوَجْهِ فَنَقُولُ رُكْنٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ بَعْدَ إكْمَالِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ كَغَسْلِ الْوَجْهِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ يَلْزَمُ مِنْهُ ذَلِكَ النَّقِيضُ يُسَمَّى عَكْسًا كَقَوْلِهِ: فِي صَلَاةِ النَّفْلِ عِبَادَةٌ لَا تَمْضِي فِي فَاسِدِهَا فَلَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ النَّذْرُ وَالشُّرُوعُ كَالْوُضُوءِ) اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَجِبُ بِالشَّرْعِ لَا بُدَّ أَنْ يَجِبَ الْمُضِيُّ فِيهَا إذَا فَسَدَتْ كَمَا فِي الْحَجِّ فَيَلْزَمُ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ إذَا فَسَدَتْ لَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهَا لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ فَنَقُولُ لَوْ كَانَ عَدَمُ وُجُوبِ الْمُضِيِّ فِي الْفَاسِدِ عِلَّةً لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQرَدُّ أَوَّلِ الشَّيْءِ إلَى آخِرِهِ وَآخِرِهِ إلَى أَوَّلِهِ نَظِيرُ الْعَكْسِ مَا إذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَلَاةُ النَّفْلِ عِبَادَةٌ لَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهَا إذَا فَسَدَتْ فَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الْمَذْكُورُ وَهُوَ صَلَاةُ النَّفْلِ مِثْلَ الْوُضُوءِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ النَّذْرُ وَالشُّرُوعُ كَمَا فِي الْوُضُوءِ وَذَلِكَ إمَّا بِشُمُولِ الْعَدَمِ أَوْ بِشُمُولِ الْوُجُودِ وَالْأَوَّلِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالنَّذْرِ إجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وَهُوَ الْوُجُوبُ بِالنَّذْرِ وَالشُّرُوعِ جَمِيعًا وَهُوَ نَقِيضُ حُكْمِ الْمُعَلِّلِ فَالْمُعْتَرِضُ أَثْبَتَ بِدَلِيلِ الْمُعَلِّلِ وُجُوبَ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي لَزِمَ مِنْهُ وُجُوبُ صَلَاةِ النَّفْلِ بِالشُّرُوعِ وَهُوَ نَقِيضُ مَا أَثْبَتَهُ الْمُعَلِّلُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ. (قَوْلُهُ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ) يَعْنِي ادَّعَى الْمُعَلِّلُ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ تَجِبُ بِالشُّرُوعِ يَجِبُ الْمُضِيُّ فِيهَا عِنْدَ الْفَسَادِ وَيَلْزَمُهَا بِحُكْمِ عَكْسِ النَّقِيضِ أَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ لَا يَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا لَا تَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِأَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الْمُضِيِّ فِي الْفَاسِدِ عِلَّةٌ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ فَاعْتَرَضَ السَّائِلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ لَكَانَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ كَمَا فِي الْوُضُوءِ لِمَا ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الشُّرُوعَ مَعَ النَّذْرِ فِي الْإِيجَابِ بِمَنْزِلَةِ تَوْأَمَيْنِ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ عَهِدَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَزِمَهُ الْوَفَاءُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وَكَذَا الشَّارِعُ عَزَمَ عَلَى الْإِيقَاعِ فَلَزِمَهُ الْإِتْمَامُ صِيَانَةً لِمَا أَدَّى إلَى الْبُطْلَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ اسْتِوَاءُ النَّذْرِ وَالشُّرُوعُ فِي هَذَا الْحُكْمِ أَعْنِي فِي عَدَمِ وُجُوبِ صَلَاةِ النَّفْلِ بِهِمَا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِوُجُوبِهَا بِالنَّذْرِ إجْمَاعًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ كَوْنُ الِاعْتِرَاضِ مِنْ قَبِيلِ الْعَكْسِ إلَّا أَنَّ فِيهِ تَقْرِيبًا إلَى أَنَّ هَذِهِ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ لِتَضَمُّنِهَا إبْطَالَ عِلِّيَّةِ الْوَصْفِ لَكِنْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ عَدَمَ وُجُوبِ الْمُضِيِّ فِي الْفَاسِدِ لَوْ كَانَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ لَكَانَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ. (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ) يَعْنِي أَنَّ الْقَلْبَ أَقْوَى مِنْ

لَكَانَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِالشُّرُوعِ وَالنَّذْرِ كَمَا فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهِ فَلَا يَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَالنَّذْرِ فَيَلْزَمُ اسْتِوَاءُ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ فِي هَذَا الْحُكْمِ (وَالْأَوَّلُ أَقْوَى مِنْ هَذَا) أَيْ الْقَلْبُ أَقْوَى مِنْ الْعَكْسِ (لِأَنَّهُ جَاءَ بِحُكْمٍ آخَرَ وَبِحُكْمٍ مُجْمَلٍ وَهُوَ الِاسْتِوَاءُ) أَيْ الْمُعْتَرِضُ جَاءَ فِي الْعَكْسِ بِحُكْمٍ آخَرَ وَفِي الْقَلْبِ جَاءَ بِنَقِيضِ حُكْمٍ يَدَّعِيهِ الْمُعَلِّلُ فَالْقَلْبِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَكْسِ اشْتَغَلَ بِمَا لَيْسَ هُوَ بِصَدَدِهِ وَهُوَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الْآخَرِ، وَفِي الْقَلْبِ لَمْ يُشْغَلْ بِذَلِكَ، وَأَيْضًا جَاءَ بِحُكْمٍ مُجْمَلٍ وَهُوَ الِاسْتِوَاءُ إذْ الِاسْتِوَاءُ يَكُونُ بِطَرِيقَيْنِ وَالْمُعْتَرِضُ لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَيُّهُمَا وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ الْمُبَيَّنِ أَقْوَى مِنْ إثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُجْمَلِ وَأَيْضًا الِاسْتِوَاءُ الَّذِي فِي الْفَرْعِ غَيْرُ الِاسْتِوَاءِ الَّذِي هُوَ فِي الْأَصْلِ وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِي الصُّورَتَيْنِ فَفِي الْوُضُوءِ بِطَرِيقِ شُمُولِ الْعَدَمِ وَفِي الْفَرْعِ بِطَرِيقِ شُمُولِ الْوُجُودِ وَإِمَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ) ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَكْسِ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُعْتَرِضَ بِالْعَكْسِ جَاءَ بِحُكْمٍ آخَرَ غَيْرِ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُعَلِّلِ وَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِيهِ بِخِلَافِ الْمُعْتَرِضِ بِالْقَلْبِ فَإِنَّهُ لَمْ يَجِئْ إلَّا بِنَقِيضِ حُكْمِ الْمُعَلِّلِ الثَّانِي أَنَّ الْعَاكِسَ جَاءَ بِحُكْمٍ مُجْمَلٍ وَهُوَ الِاسْتِوَاءُ الْمُحْتَمِلُ لِشُمُولِ الْوُجُودِ وَشُمُولِ الْعَدَمِ وَالْقَالِبُ جَاءَ بِحُكْمٍ مُفَسِّرٍ هُوَ نَفْيُ دَعْوَى، الْمُعَلِّلُ الثَّالِثُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ إثْبَاتُ مِثْلِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ وَلَمْ يُرَاعِ هَذَا فِي الْعَكْسِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الصُّورَةِ وَاللَّفْظِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ فِي الْأَصْلِ أَعْنِي الْوُضُوءَ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ شُمُولِ الْعَدَمِ أَعْنِي عَدَمَ الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ، وَلَا بِالشُّرُوعِ، وَفِي الْفَرْعِ أَعْنِي صَلَاةَ النَّفْلِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ شُمُولِ الْوُجُودِ أَعْنِي الْوُجُوبَ بِالنَّذْرِ وَالشُّرُوعِ جَمِيعًا فَلَا مُمَاثَلَةَ هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَفِيهِ بَعْضُ الْمُخَالَفَةِ لِكَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِمَا فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ الْمُعَارَضَةُ نَوْعَانِ مُعَارَضَةٌ فِيهَا مُنَاقَضَةٌ وَمُعَارَضَةٌ خَالِصَةٌ أَمَّا الْأُولَى فَالْقَلْبُ وَيُقَابِلُهُ الْعَكْسُ وَالْقَلْبُ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَ الْمَعْلُولَ عِلَّةً وَالْعِلَّةَ مَعْلُولًا مِنْ قَلَبْتُ الشَّيْءَ جَعَلْته مَنْكُوسًا، وَثَانِيهِمَا أَنْ تَجْعَلَ الْوَصْفَ شَاهِدًا لَك بَعْدَ مَا كَانَ شَاهِدًا عَلَيْك مِنْ قَلَبَ الشَّيْءِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْمُعَارَضَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا اُسْتُعْمِلَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَلْبِ أُلْحِقَ بِهَذَا الْبَابِ وَهُوَ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا بِمَعْنَى رَدِّ الشَّيْءِ عَلَى سَنَنِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا يَصْلُحُ لِتَرْجِيحِ الْعِلَلِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ زِيَادَةُ تَعَلُّقٍ بِالْعِلَّةِ حَيْثُ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا وَذَلِكَ كَقَوْلِنَا مَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ، وَعَكْسُهُ الْوُضُوءُ بِمَعْنَى أَنَّ مَا لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ وَثَانِيهِمَا بِمَعْنَى رَدِّ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ سَنَنِهِ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَا يُمْضَى فِي فَاسِدِهَا فَلَا تَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ فَيُقَالُ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ عَمَلُ النَّذْرِ وَالشُّرُوعُ كَالْوُضُوءِ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْقَلْبِ ضَعِيفٌ

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَمَّا بِدَلِيلِ الْمُعَلِّلِ (وَهُوَ مُعَارَضَةٌ خَالِصَةٌ وَهُوَ إمَّا أَنْ يُثْبِتَ نَقِيضَ حُكْمِ الْمُعَلَّلِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِتَغْيِيرٍ أَوْ حُكْمًا يَلْزَمُ مِنْهُ ذَلِكَ النَّقِيضُ كَقَوْلِهِ: الْمَسْحُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَالْغُسْلِ فَنَقُولُ مَسْحٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَمَسْحِ الْخُفِّ، وَهَذَا) أَيْ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ (أَقْوَى الْوُجُوهِ) فَقَوْلُهُ الْمَسْحُ رُكْنٌ نَظِيرُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ (وَكَقَوْلِنَا فِي الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا: صَغِيرَةٌ فَتُنْكَحُ كَاَلَّتِي لَهَا أَبٌ فَيُقَالُ صَغِيرَةٌ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا بِوِلَايَةِ الْأُخُوَّةِ كَالْمَالِ فَلَمْ يَنْفِ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ بَلْ وِلَايَةً بِعَيْنِهَا لَكِنْ إذَا انْتَفَتْ هِيَ يَنْتَفِي سَائِرُهَا بِالْإِجْمَاعِ) أَيْ لِعَدَمِ الْقَائِلِ بِالْفَصْلِ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْفِي الْإِجْبَارَ بِوِلَايَةِ الْإِخْوَةِ يَنْفِي الْإِجْبَارَ بِوِلَايَةِ الْعُمُومَةِ وَنَحْوِهَا فَهَذَا نَظِيرُ الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ الْمُعَارَضَةِ (وَكَالَتِي) نَظِيرُ الْوَجْهِ الثَّالِثِ (نُعِيَ إلَيْهَا زَوْجُهَا فَنُكِحَتْ وَوَلَدَتْ ثُمَّ جَاءَ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ فِرَاشٍ صَحِيحٍ فَيُقَالُ الثَّانِي صَاحِبُ فِرَاشٍ فَاسِدٍ فَيَسْتَحِقُّ النَّسَبَ كَمَنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِحُكْمٍ آخَرَ ذَهَبَتْ الْمُنَاقَضَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَدِلَّ لَمْ يَنْفِ التَّسْوِيَةَ لِيَكُونَ إثْبَاتُهَا دَفْعًا لِدَعْوَاهُ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْحَقِيقَةِ وَلِأَنَّ الِاسْتِوَاءَ حُكْمٌ مُجْمَلٌ وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَعْنَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ أَعْنِي الْمُعَارَضَةُ الْخَالِصَةُ فَخَمْسَةُ أَنْوَاعٍ اثْنَانِ فِي الْفَرْعِ وَثَلَاثَةٌ فِي الْأَصْلِ وَجَعَلَ أَحَدَ أَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ الْمُعَارَضَةَ بِزِيَادَةٍ هِيَ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ وَتَقْرِيرٌ لَهُ كَمَا يُقَالُ الْمَسْحُ رُكْنٌ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَالْغُسْلِ فَيُقَالُ رُكْنٌ فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ بَعْدَ إكْمَالِهِ بِزِيَادَةٍ عَلَى الْفَرْضِ فِي مَحَلِّهِ وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ كَالْغُسْلِ وَهَذَا أَحَدُ وَجْهَيْ الْقَلْبِ فَأُورِدُهُ تَارَةً فِي الْمُعَارَضَةِ الَّتِي فِيهَا مُنَاقَضَةٌ نَظَرًا إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ تَقْرِيرٌ فَيَكُون مِنْ قَبِيلِ جَعْلِ دَلِيلِ الْمُسْتَدِلِّ دَلِيلًا عَلَى نَقِيضِ مُدَّعَاهُ فَيَلْزَمُ إبْطَالُهُ وَتَارَةً فِي الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ نَظَرًا إلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لَيْسَ دَلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ بِعَيْنِهِ وَأَيْضًا جَعَلَ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ، الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ الْعَكْسِ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا أَقْوَى الْوُجُوهِ) لِدَلَالَتِهِ صَرِيحًا عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُعَارَضَةِ وَهُوَ إثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُعَلِّلِ بِعَيْنِهِ. (قَوْلُهُ وَكَقَوْلِنَا فِي صَغِيرَةٍ) يَعْنِي مِثَالَ الْمُعَارَضَةِ الْخَالِصَةِ الَّتِي تُثْبِتُ نَقِيضَ حُكْمِ الْمُعَلِّلِ بِتَغَيُّرٍ مَا، قَوْلُنَا فِي إثْبَاتِ وِلَايَةِ تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا، وَلَا جَدَّ لِغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَوْلِيَاءِ صَغِيرَةً فَيَثْبُتُ عَلَيْهَا وِلَايَةُ النِّكَاحِ كَاَلَّتِي لَهَا أَبٌ بِعِلَّةِ الصِّغَرِ فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ صَغِيرَةٌ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا بِوِلَايَةِ الْأُخُوَّةِ كَالْمَالِ فَإِنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَخِ عَلَى مَالِ الصَّغِيرَةِ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَالْعِلَّةُ هِيَ قُصُورُ الشَّفَقَةِ لَا الصِّغَرِ عَلَى مَا يُفْهَمْ مِنْ ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مُعَارَضَةً خَالِصَةً بَلْ قَلْبًا فَالْمُعَلِّلُ أَثْبَتَ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ وَالْمُعَارِضُ لَمْ يَنْفِهَا بَلْ نَفَى وِلَايَةَ الْأَخِ فَوَقَعَ فِي نَقِيضِ الْحُكْمِ تَغْيِيرٌ هُوَ التَّقْيِيدُ بِالْأَخِ وَلَزِمَ نَفْيُ حُكْمِ الْمُعَلِّلِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَخَ أَقْرَبُ الْقَرَابَاتِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ

تَزَوَّجَ بِغَيْرِ شُهُودِ فَوَلَدَتْ فَالْمُعَارِضُ وَإِنْ أَثْبَتَ حُكْمًا آخَرَ) وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ الثَّانِي لَكِنْ يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِهِ لِلثَّانِي نَفْيُهُ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِذَا ثَبَتَ الْمُعَارَضَةُ فَالسَّبِيلُ التَّرْجِيحُ بِأَنَّ الْأَوَّلَ صَاحِبُ فِرَاشٍ صَحِيحٍ وَهُوَ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَوْنِ الثَّانِي حَاضِرًا وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَمِنْهَا مَا فِيهِ مَعْنَى الْمُنَاقَضَةِ وَهُوَ أَنْ تُجْعَلَ الْعِلَّةُ مَعْلُولًا وَالْمَعْلُولُ عِلَّةً وَهِيَ قَلْبٌ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَرِدُ هَذَا إذَا (كَانَتْ الْعِلَّةُ حُكْمًا لَا وَصْفًا) ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ وَصْفًا لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مَعْلُولًا وَالْحُكْمَ عِلَّةً (نَحْوُ: الْكُفَّارُ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ) ؛ لِأَنَّ جَلْدَ الْمِائَةِ غَايَةُ حَدِّ الْبِكْرِ وَالرَّجْمُ غَايَةُ حَدِّ الثَّيِّبِ فَإِذَا وَجَبَ فِي الْبِكْرِ غَايَتُهُ وَجَبَ فِي الثَّيِّبِ غَايَتُهُ أَيْضًا فَإِنَّ النِّعْمَةَ كُلَّهَا كَانَتْ أَكْمَلَ فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا تَكُونُ أَفْحَشَ فَجَزَاؤُهَا يَكُونُ أَغْلَظَ فَإِذَا وَجَبَ فِي الْبِكْرِ الْمِائَةُ يَجِبُ فِي الثَّيِّبِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا إلَّا الرَّجْمَ فَإِنَّ الشَّرْعَ مَا أَوْجَبَ فَوْقَ جَلْدِ الْمِائَةِ إلَّا الرَّجْمَ (وَالْقِرَاءَةُ تَكَرَّرَتْ فَرْضًا فِي الْأُولَيَيْنِ فَكَانَتْ فَرْضًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَنَقُولُ الْمُسْلِمُونَ إنَّمَا يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً؛ لِأَنَّهُ يُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ) يَعْنِي لَوْ جَعَلَ الْمُعَلِّلُ جَلْدَ الْبِكْرِ عِلَّةً لِرَجْمِ الثَّيِّبِ، فَنَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ هَذَا بَلْ رَجْمُ الثَّيِّبِ عِلَّةٌ لِجَلْدِ الْبِكْرِ وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَرْضًا فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ فَرْضًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ وَالْمُخْلَصُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَنَفْيُ وِلَايَتِهِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ وِلَايَةِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَصِيرُ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُعَارَضَةِ وَجْهُ صِحَّةٍ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ كَوْنُ الْأَوَّلِ صَاحِبَ فِرَاشٍ صَحِيحٍ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَوْنِ الثَّانِي حَاضِرًا مَعَ فَسَادِ الْفِرَاشِ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْفِرَاشِ تُوجِبُ حَقِيقَةَ النَّسَبِ وَالْفَاسِدُ شُبْهَتُهُ وَحَقِيقَةُ الشَّيْءِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ شُبْهَتِهِ وَرُبَّمَا يُقَالُ بَلْ فِي الْحُضُورِ حَقِيقَةُ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ مَائِهِ (قَوْلُهُ: وَهِيَ قَلْبٌ أَيْضًا) مِنْ إذَا قَلَبْت الْإِنَاءَ وَجَعَلْت أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ أَصْلٌ وَهُوَ أَعْلَى وَالْمَعْلُولُ فَرْعٌ وَهُوَ أَسْفَلُ فَتَبْدِيلُهُمَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ الْكُوزِ مَنْكُوسًا لَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ مُعَارَضَةً إذَا أَقَامَ الْمُعْتَرِضُ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ عِلِّيَّةِ مَا ادَّعَاهُ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً وَإِلَّا فَهُوَ مُمَانَعَةٌ مَعَ السَّنَدِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - نَعَمْ لَوْ أَثْبَتَ كَوْنَ الْعِلَّةِ مَعْلُولًا لَزِمَ نَفْيُ عِلِّيَّتِهِ؛ لِأَنَّ مَعْلُولَ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ لَهُ عِلَّةٌ وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ فِي الْحُكْمِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ السَّائِلَ عَارَضَ تَعْلِيلَ الْمُسْتَدِلِّ بِتَعْلِيلٍ آخَرَ لَزِمَ مِنْهُ بُطْلَانُ تَعْلِيلُهُ فَلَزِمَ بُطْلَانُ حُكْمِهِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ فَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ التَّعْلِيلِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكْمِ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتْ بِعِلَّةٍ أُخْرَى. (قَوْلُهُ وَالْمُخَلِّصُ) لَا يُرِيدُ بِالْمُخْلِصِ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْقَلْبِ وَدَفَعَهُ بَلْ الِاحْتِرَازُ عَنْ وُرُودِهِ وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يُورِدَ الْحُكْمَيْنِ بِطَرِيقِ تَعْلِيلِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بَلْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِثُبُوتِ أَحَدِهِمَا عَلَى ثُبُوتِ الْآخَرِ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي جَعْلِ الْمَعْلُولِ دَلِيلًا عَلَى الْعِلَّةِ بِأَنْ يُفِيدَ التَّصْدِيقَ بِثُبُوتِهِ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ الْخَشَبَةُ

عَنْ هَذَا أَيْ التَّعْلِيلِ بِوَجْهٍ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ هَذَا الْقَلْبُ (أَنْ لَا يُذْكَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيلِ بَلْ يُسْتَدَلُّ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ إذَا ثَبَتَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا نَحْوُ: مَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ إذَا صَحَّ كَالْحَجِّ) فَتَجِبُ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِالشُّرُوعِ تَطَوُّعًا وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالُوا الْحَجُّ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ فَنَقُولُ الْغَرَضُ الِاسْتِدْلَال مِنْ لُزُومِ الْمَنْذُورِ عَلَى لُزُومِ مَا شَرَعَ لِثُبُوتِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا بَلْ الشُّرُوعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ رِعَايَةُ مَا هُوَ سَبَبُ الْقُرْبَةِ وَهُوَ النَّذْرُ (فَلَأَنْ يَجِبَ رِعَايَةُ مَا هُوَ الْقُرْبَةُ أَوْلَى وَنَحْوُ الثَّيِّبُ الصَّغِيرَةُ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَكَذَا فِي نَفْسِهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ) فَيَثْبُتُ إجْبَارُ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (فَقَالُوا إنَّمَا يُوَلَّى عَلَى الْبِكْرِ فِي مَالِهَا؛ لِأَنَّهُ يُوَلَّى فِي نَفْسِهَا فَنَقُولُ الْوِلَايَةُ شُرِعَتْ لِلْحَاجَةِ، وَالنَّفْسُ وَالْمَالُ وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ فِيهَا سَوَاءٌ) أَيْ لَا نَقُولُ إنَّ الْوِلَايَةَ فِي الْمَالِ عِلَّةٌ لِلْوِلَايَةِ فِي النَّفْسِ بَلْ نَقُولُ كِلْتَاهُمَا شُرِعَتَا لِلْحَاجَةِ فَتَكُونَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَتْ إحْدَاهُمَا ثَبَتَتْ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَاحِدٌ (وَهَذِهِ الْمُسَاوَاةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرُوا) وَهُمَا مَسْأَلَتَا رَجْمِ الْكُفَّارِ وَالْقِرَاءَةِ فِي الشَّفْعِ الْأَخِيرِ فَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَدْ مَسَّتْهَا النَّارُ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَرِقَةٌ وَهَذَا الشَّخْصُ مُتَعَفِّنُ الْأَخْلَاطِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُومٌ وَهَذَا الْمُخَلِّصُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ تَسَاوِي الْحُكْمَيْنِ بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُسْتَلْزِمًا لِثُبُوتِ الْآخَرِ لِيَصِحَّ الِاسْتِدْلَال كَمَا فِي النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ وَكَالْوِلَايَةِ فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ وَبِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ وَالْأُخْرَيَيْنِ فَإِنْ قِيلَ إنْ أُرِيدَ بِالْمُسَاوَاةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَغَيْرُ مُتَصَوَّرٍ كَيْفَ وَالْمَالُ مُبْتَذَلٌ وَالنَّفْسُ مُكَرَّمَةٌ وَإِنْ أُرِيدَ الْمُسَاوَاةُ مِنْ وَجْهٍ فَالْفَرْقُ لَا يَضُرُّ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بُنِيَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ كَالْحَاجَةِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْوِلَايَةِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ تَحَقَّقَ الْحَاجَةُ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ كَيْ لَا تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّهَا تَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ أُجِيبُ بِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِالْعَكْسِ فَيُحْتَاجُ فِي النَّفْسِ لِعَدَمِ الْكُفْءِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي الْمَالِ لِكَثْرَتِهِ فَتَسَاوَيَا. (قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَتْ قَاصِرَةً لَا يُقْبَلُ) لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلتَّعْدِيَةِ وَذَلِكَ كَمَا إذَا قُلْنَا الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ مَوْزُونٌ مُقَابَلٌ بِالْجِنْسِ فَلَا يَجُوزُ مُتَفَاضِلًا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيُعَارَضُ بِأَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلَ هِيَ الثَّمَنِيَّةُ دُونَ الْوَزْنِ وَيُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُعْتَرِضِ إبْطَالُ عِلِّيَّةِ وَصْفِ الْمُعَلِّلِ فَإِذَا بَيَّنَ عِلِّيَّةَ وَصْفٍ آخَرَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَقِلًّا بِالْعِلِّيَّةِ فَلَا يُقْبَلُ وَأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا جُزْءَ عِلَّةٍ فَلَا يَصِحُّ الْجَزْمُ بِالِاسْتِقْلَالِ حَتَّى قَالُوا إنَّ الْوَصْفَ الَّذِي ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ عِلِّيَّتَهُ لَوْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُعْتَرِضِ إثْبَاتُهُ

الشُّرُوعِ فِي النَّفْلِ وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ الْمُخَلِّصُ عَنْ الْقَلْبِ وَلَوْ يُمْكِنُ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ وَالْقِرَاءَةِ أَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الرَّجْمِ فَلِأَنَّ الرَّجْمَ وَالْجَلْدَ لَيْسَا بِسَوَاءٍ فِي أَنْفُسِهِمَا؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَتْلٌ وَالْآخَر ضَرْبٌ وَلَا فِي شُرُوطِهِمَا حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِأَحَدِهِمَا مَا لَا يُشْتَرَطُ لَلْآخَرِ فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا عَلَى وُجُودِ الْآخَرِ وَأَمَّا فِي مَسْأَلَةِ الْقِرَاءَةِ فَلِأَنَّ الشَّفْعَ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ لَيْسَا بِسَوَاءٍ فِي الْقِرَاءَةِ؛ لِأَنَّ قِرَاءَةَ السُّورَةِ سَاقِطَةٌ فِي الشَّفْعِ الثَّانِي وَأَيْضًا الْجَهْرُ سَاقِطٌ فِيهِ فَقَوْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا إشَارَةٌ إلَى هَذَا وَمِنْهَا خَالِصَةٌ فَإِنْ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى نَفْيِ عِلِّيَّةِ مَا أَثْبَتَهُ الْمُعَلِّلُ فَمَقْبُولَةٌ وَإِنْ أَقَامَ عَلَى عِلِّيَّةِ شَيْءٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَتْ قَاصِرَةً لَا يُقْبَلُ عِنْدَنَا وَكَذَا إنْ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً إلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ كَمَا يُعَارِضُنَا مَالِكٌ بِأَنَّ الْعِلَّةَ الطَّعْمُ وَالِادِّخَارُ، وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي مَحَلٍّ آخَر وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا ذَكَرَهُ فِي بُطْلَانِ الْمُعَارَضَةِ بِإِثْبَاتِ عِلَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِعِلَلٍ شَتَّى وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْمُعَلِّلِ حِينَئِذٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ جُزْءَ عِلَّةٍ وَهَذَا كَافٍ فِي غَرَضِ الْمُعْتَرِضِ أَعْنِي الْقَدْحَ فِي عِلِّيَّةِ وَصْفِ الْمُعَلِّلِ لَا يُقَالُ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ عِلِّيَّةُ الْوَصْفِ وَظَهَرَ تَأْثِيرُهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ نَعَمْ وَلَكِنْ لَا قَطْعًا بَلْ ظَنًّا وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ عِلِّيَّةِ وَصْفٍ آخَرَ مُوجِبًا لِزَوَالِ الظَّنِّ بِعِلِّيَّةِ وَصْفِ الْمُعَلِّلِ اسْتِقْلَالًا. (قَوْلُهُ: وَإِنْ تَعَدَّى) أَيْ الشَّيْءُ الْآخَرُ الَّذِي ادَّعَى الْمُعْتَرِضُ عِلِّيَّتَهُ إلَى فَرْعٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ كَمَا إذَا قِيلَ الْجَصُّ مَكِيلٌ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ فَيَحْرُمُ مُتَفَاضِلًا كَالْحِنْطَةِ فَيُعَارِضُ بِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ فَيَتَعَدَّى إلَى الْفَوَاكِهِ وَمَا دُونِ الْكَيْلِ كَبَيْعِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ وَجَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِمَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِثْلُ هَذَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلِّلَ وَالْمُعْتَرِضَ قَدْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا هِيَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ فَقَطْ إذْ لَوْ اسْتَقَلَّ كُلٌّ بِالْعِلِّيَّةِ لَمَا وَقَعَ نِزَاعٌ فِي الْفَرْعِ الْمُخْتَلِفِ فِيهِ فَإِثْبَاتُ عِلِّيَّةِ أَحَدِهِمَا تُوجِبُ نَفْيَ عِلِّيَّةِ الْآخَرِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَدَّى إلَى فَرْعٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُعَلِّلُ عَلَيْهِ وَصْفَ الْمُعْتَرِضِ أَيْضًا؛ قَوْلًا بِتَعَدُّدِ الْعِلَّةِ كَمَا إذَا ادَّعَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا هِيَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ ثُمَّ الْتِزَامُ أَنَّ الِاقْتِيَاتَ وَالِادِّخَارَ أَيْضًا عِلَّةٌ لِيَتَعَدَّى إلَى الْأَرُزِّ لَكِنْ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَلْتَزِمَ أَنَّ الطَّعْمَ أَيْضًا عِلَّةٌ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ جَرَيَانَ الرِّبَا فِي التُّفَّاحِ مَثَلًا فَإِنْ قُلْت الْكَلَامُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ عِلِّيَّةُ وَصْفِ الْمُعَلِّلِ وَتَأْثِيرُهُ فَانْتِفَاؤُهُ بِثُبُوتِ عِلِّيَّةِ وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ قُلْتُ: الْمُرَادُ أَنَّ ثُبُوتَ عِلِّيَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ عِلِّيَّةِ الْآخَرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ، وَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِعِلِّيَّةِ أَحَدِهِمَا مَا لَمْ يُرَجَّحْ وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُبْطِلُ عِلِّيَّةَ وَصْفِ الْمُعَلِّلِ وَيُثْبِتُ صِحَّةَ عِلِّيَّةِ وَصْفِ الْمُعْتَرِضِ لِمُجَرَّدِ الْمُعَارَضَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَلَا يُقْبَلُ مِثْلُ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصِحَّةِ عِلِّيَّةِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ تَأْثِيرٌ فِي فَسَادِ عِلِّيَّةِ الْآخَرِ نَظَرًا إلَى ذَاتِهِمَا لِجَوَازِ اسْتِقْلَالِ الْعِلَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا

[فصل في دفع العلل الطردية]

مُتَعَدٍّ إلَى الْأُرْزِ وَغَيْرِهِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ إلَّا نَفْيَ الْحُكْمِ فِي الْجَصِّ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ وَهِيَ لَا تُفِيدُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ ثَبَتَ بِعِلَلٍ شَتَّى وَإِنْ تَعَدَّى إلَى مُخْتَلَفٍ فِيهِ يُقْبَلُ عِنْدَ أَهْلِ النَّظَرِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ فَإِذَا ثَبَتَ أَحَدُهُمَا انْتَفَى الْآخَرُ لَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِصِحَّةِ أَحَدِهِمَا تَأْثِيرٌ فِي فَسَادِ الْآخَرِ. (فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ) لَمَّا عُرِفَ أَنَّ الْعِلَّةَ نَوْعَانِ إمَّا عِلَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَنَا وَإِمَّا عِلَّةٌ تَثْبُتُ عِلِّيَّتُهَا بِالدَّوَرَانِ دُونَ التَّأْثِيرِ وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْبَعْضِ وَلَيْسَتْ بِمُعْتَبَرَةٍ عِنْدَنَا وَتُسَمَّى عِلَّةً طَرْدِيَّةً فَفِي هَذَا الْفَصْلِ تُذْكَرُ الِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْعِلَّةِ الطَّرْدِيَّةِ (وَهُوَ أَرْبَعَةٌ الْأَوَّلُ الْقَوْلُ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ وَهُوَ الْتِزَامُ مَا يَلْزَمُهُ الْمُعَلِّلُ مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ وَهُوَ يُلْجِئُ الْمُعَلِّلَ إلَى الْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ) أَيْ يَجْعَلُ الْمُعَلِّلَ مُضْطَرًّا إلَى الْقَوْلِ بِمَعْنًى مُؤَثِّرٍ يَرْفَعُ الْخِلَافَ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْخَصْمُ مِنْ تَسْلِيمِهِ مَعَ بَقَاءِ الْخِلَافِ (كَقَوْلِهِ: الْمَسْحُ رُكْنٌ فِي الْوُضُوءِ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَغَسْلِ الْوَجْهِ فَنَقُولُ يُسَنُّ عِنْدَنَا أَيْضًا لَكِنَّ الْفَرْضَ الْبَعْضُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَهُوَ إمَّا رُبْعٌ أَوْ أَقَلُّ فَالِاسْتِيعَابُ تَثْلِيثٌ وَزِيَادَةٌ وَإِنْ غَيَّرَ فَقَالَ يُسَنُّ تَكْرَارُهُ يُمْنَعُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ بَلْ الْمَسْنُونُ فِي الرُّكْنِ التَّكْمِيلُ كَمَا فِي أَرْكَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى فَسَادِ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ لِمَعْنًى فِيهِ لَا لِصِحَّةِ الْآخَرِ بَلْ كُلٌّ مِنْ الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ يَفْتَقِرُ إلَى مَعْنًى يُوجِبُهُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَأْثِيرِ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا فِي فَسَادِ الْآخَرِ لَا يُنَافِي فَسَادَ أَحَدِهِمَا عِنْدَ صِحَّةِ الْآخَرَ لَا يُقَالُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ إذْ الْكَلَامُ فِيمَا يُثْبِتُ عِلِّيَّتَهُ ظَنًّا لَا قَطْعًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَا نَعْنِي بِفَسَادِ الْعِلِّيَّةِ إلَى هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الظَّنُّ بِالْعِلِّيَّةِ مَا لَمْ يُرَجَّحْ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ أَحَدُهُمَا، وَلَا أَوْلَوِيَّةَ بِدُونِ التَّرْجِيحِ. [فَصْلٌ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ] [الِاعْتِرَاضَاتُ الْوَارِدَةُ عَلَى الْقِيَاسِ بِالْعِلَّةِ الطَّرْدِيَّةِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) فِي الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي تُورَدُ عَلَى الْقِيَاسَاتِ الَّتِي لَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُ عِلَلِهَا بَلْ يُكْتَفَى فِيهَا بِمُجَرَّدِ دَوْرَانِ الْحُكْمِ مَعَ الْعِلَّةِ إمَّا وُجُودًا فَقَطْ وَإِمَّا وُجُودًا وَعَدَمًا وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِالطَّرْدِيَّةِ هَاهُنَا مَا لَيْسَتْ بِمُؤَثِّرَةٍ لِتَعُمَّ الْمُنَاسِبَ وَالْمُلَائِمَ فَيَصِحُّ الْحَصْرُ فِي الْمُؤَثِّرَةِ وَالطَّرْدِيَّةِ وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ إيرَادِ الْفَصْلَيْنِ اخْتِصَاصَ كُلٍّ مِنْ الْفَصْلَيْنِ بِنَوْعٍ مِنْ الْعِلَلِ فَإِنَّ الْكَلَامَ صَرِيحٌ فِي اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْمُمَانَعَةِ وَالْمُنَاقَضَةِ وَفَسَادِ الْوَضْعِ، وَلَا يَخْفَى جَرَيَانُ الْمُعَارَضَةِ فِي الطَّرْدِيَّةِ بَلْ هِيَ أَظْهَرُ وَأَسْهَلُ نَعَمْ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ بِالْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ حَيْثُ قَالَ وَهُوَ يُلْجِئُ الْمُعَلِّلَ إلَى الْعِلَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ حَاصِلَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ دَعْوَى الْمُعْتَرِضِ أَنَّ الْمُعَلِّلَ نَصَبَ الدَّلِيلَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهَذَا مِمَّا لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِالطَّرْدِيَّةِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الْقَوْلُ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ الْتِزَامُ السَّائِلِ مَا يَلْزَمُهُ الْمُعَلِّلُ بِتَعْلِيلِهِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ فِي الْحُكْمِ الْمَقْصُودِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ هُوَ تَسْلِيمُ مَا اتَّخَذَهُ الْمُسْتَدِلُّ حُكْمًا لِدَلِيلِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الْحُكْمِ

الصَّلَاةِ بِالْإِطَالَةِ لَكِنَّ الْغُسْلَ لَمَّا اسْتَوْعَبَ الْمَحَلَّ لَا يُمْكِنُ التَّكْمِيلُ إلَّا بِالتَّكْرَارِ وَهُنَا الْمَحَلُّ مُتَّسَعٌ) أَيْ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ الْمَحَلُّ وَهُوَ الرَّأْسُ مُتَّسَعٌ يُمْكِنُ الْإِكْمَالُ بِدُونِ التَّكْرَارِ (عَلَى أَنَّ التَّكْرَارَ رُبَّمَا يَصِيرُ غُسْلًا فَيَلْزَمُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ قَوْلٌ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّغْيِيرِ مُمَانَعَةٌ) فَالْحَاصِلُ أَنْ نَقُولَ إنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّثْلِيثِ جَعْلَهُ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْفَرْضِ فَنَحْنُ قَائِلُونَ بِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيعَابَ تَثْلِيثٌ وَزِيَادَةٌ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّثْلِيثِ التَّكْرَارَ ثَلَاثَةَ مَرَّاتٍ نَمْنَعُ هَذَا فِي الْأَصْلِ أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الرُّكْنِيَّةَ تُوجِبُ هَذَا بَلْ الرُّكْنِيَّةُ تُوجِبُ الْإِكْمَالَ كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَالِاعْتِرَاضُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِالتَّثْلِيثِ جَعْلُهُ ثَلَاثَ أَمْثَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُتَنَازَعِ فِيهِ وَيَقَعُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ الْأَوَّلُ أَنْ يَلْزَمَ الْمُعَلِّلُ بِتَعْلِيلِهِ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَحَلُّ النِّزَاعِ أَوْ مُلَازِمُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَلَا مُلَازِمَهُ إمَّا بِصَرِيحِ عِبَارَةِ الْمُعَلِّلِ كَمَا إذَا قَالَ الْقَتْلُ بِالْمُثْقَلِ قَتْلٌ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا فَلَا يُنَافِي الْقِصَاصَ كَالْقَتْلِ بِالْحَرْقِ فَيُجَابُ بِأَنَّ النِّزَاعَ لَيْسَ فِي عَدَمِ الْمُنَافَاةِ بَلْ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ وَإِمَّا بِحَمْلِ الْمُعْتَرِضِ عِبَارَتَهُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمُرَادِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ تَثْلِيثِ الْمَسْحِ وَتَعْيِينِ النِّيَّةِ فَإِنَّ الْمُعَلِّلَ يُرِيدُ بِالتَّثْلِيثِ إصَابَةَ الْمَاءِ مَحَلَّ الْفَرْضِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَبِالتَّعْيِينِ تَعْيِينًا قَصْدِيًّا مِنْ جِهَةِ الصَّائِمِ، وَالسَّائِلُ يَحْمِلُ التَّثْلِيثَ عَلَى جَعْلِهِ ثَلَاثَةَ أَمْثَالِ الْفَرْضِ وَالتَّعْيِينُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِقَصْدِ الصَّائِمِ أَوْ مُعَيَّنًا بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ حَتَّى لَوْ صَرَّحَ الْمُعَلِّلُ بِمُرَادِهِ لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ بَلْ تَتَعَيَّنُ الْمُمَانَعَةُ وَالثَّانِي أَنْ يَلْزَمَ الْمُعَلِّلُ بِتَعْلِيلِهِ إبْطَالَ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ مَأْخَذُ الْخَصْمِ كَمَا إذَا قَالَ فِي السَّرِقَةِ: أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِلَا اعْتِقَادِ إبَاحَةٍ وَتَأْوِيلٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ كَالْغَصْبِ فَيُقَالُ نَعَمْ إلَّا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَسْكُتَ الْمُعَلِّلُ عَنْ بَعْضِ الْمُقَدِّمَاتِ لِشُهْرَتِهِ فَالسَّائِلُ يُسَلِّمُ الْمُقَدِّمَةَ الْمَذْكُورَةَ وَيَبْقَى النِّزَاعُ فِي الْمَطْلُوبِ لِلنِّزَاعِ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْمَطْوِيَّةِ وَرُبَّمَا يَحْمِلُ الْمُقَدِّمَةَ الْمَطْوِيَّةَ عَلَى مَا يُنْتِجُ مَعَ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ نَقِيضَ حُكْمَ الْمُعَلِّلِ فَيَصِيرُ قَلْبًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ غَسْلِ الْمِرْفَقِ فَإِنَّ الْمُعَلِّلَ يُرِيدُ أَنَّ الْغَايَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ غَايَةٌ لِلْغَسْلِ وَالْغَايَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا فَلَا تَدْخُلُ الْمَرْفِقُ فِي الْغُسْلِ وَالسَّائِلُ يُرِيدُ أَنَّهَا غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْإِسْقَاطِ فَتَبْقَى دَاخِلَةً فِي الْغُسْلِ فَلَوْ صَرَّحَ بِالْمُقَدِّمَةِ الْمَطْوِيَّةِ لَتَعَيَّنَ مَنْعُهَا ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمِثَالَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْقِيَاسِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ طَرْدِيَّةً وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَنْ أَنَّ الِاعْتِرَاضَاتِ لَا تَخُصُّ الْقِيَاسَ بَلْ تَعُمُّ الْأَدِلَّةَ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْمِثَالُ مِنْ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ وَالْمُعَلِّلُ إنَّمَا يَلْزَمُ عَدَمُ دُخُولِ الْمِرْفَقِ تَحْتَ الْغَسْلِ وَالسَّائِلُ لَا يَلْتَزِمُ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: الْمُعْتَبَرُ فِي الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ الْتِزَامُ مَا يَلْزَمُهُ الْمُعَلِّلُ بِتَعْلِيلِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُعَلِّلٌ، وَهُوَ هَاهُنَا لَا يَلْزَمُ إلَّا عَدَمُ دُخُولِ الْمِرْفَقِ تَحْتَ مَا هُوَ غَايَةٌ لَهُ، وَقَدْ الْتَزَمَهُ السَّائِلُ فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَوْ أَوْرَدَ مَكَانَ مَسْأَلَةِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ مَسْأَلَةَ ضَمَانِ السَّرِقَةِ أَوْ نَحْوِهَا لِيَكُونَ تَنْبِيهًا عَلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لَكَانَ أَنْسَبَ. (قَوْلُهُ فَالِاسْتِيعَابُ تَثْلِيثٌ وَزِيَادَةٌ)

الْفَرْضِ يَكُونُ قَوْلًا بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ وَعَلَى تَقْدِيرِ التَّغْيِيرِ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالتَّثْلِيثِ التَّكْرَارُ فَالِاعْتِرَاضُ مُمَانَعَةٌ (وَكَقَوْلِهِ: صَوْمُ رَمَضَانَ صَوْمُ فَرْضٍ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ فَنُسَلِّمُ مُوجِبَهُ لَكِنَّ الْإِطْلَاقَ تَعْيِينٌ وَكَقَوْلِهِ: الْمِرْفَقُ لَا يَدْخُلُ فِي الْغَسْلِ؛ لِأَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُغَيَّا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنَّهَا غَايَةٌ لِلْإِسْقَاطِ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَهُ، الثَّانِي الْمُمَانَعَةُ وَهِيَ إمَّا فِي الْوَصْفِ) أَيْ تَمْنَعُ وُجُودَ الْوَصْفِ الَّذِي يَدَّعِي الْمُعَلِّلُ عِلِّيَّتَهُ فِي الْفَرْعِ (كَقَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ: عُقُوبَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ فَلَا تَجِبُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَحَدِّ الزِّنَا فَلَا نُسَلِّمُ تَعَلُّقَهَا بِالْجِمَاعِ بَلْ هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْفِطْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ التَّثْلِيثَ ضَمُّ الْمِثْلَيْنِ وَفِي الِاسْتِيعَابِ ضَمُّ ثَلَاثَةِ الْأَمْثَالِ إنْ قَدَّرَ مَحَلَّ الْفَرْضِ بِالرُّبْعِ أَوْ أَكْثَرَ إنْ قَدَّرَ بِأَقَلَّ مِنْ الرُّبْعِ وَاتِّحَادُ الْمَحَلِّ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّثْلِيثِ بَلْ مِنْ ضَرُورَةِ التَّكْرَارِ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الرُّكْنِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى سُنِّيَّةِ الْإِكْمَالِ دُونَ التَّكْرَارِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالْإِطَالَةِ كَمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِخِلَافِ الْغَسْلِ فَإِنَّ تَكْمِيلَهُ بِالْإِطَالَةِ يَقَعُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْفَرْضِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّكْرَارِ، وَأَمَّا الْمَسْحُ فَمَحَلُّهُ الرَّأْسُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ وَهُوَ مُتَّسَعٌ يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ الْفَرْضِ فَيُمْكِنُ تَكْمِيلُهُ فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ بِالْإِطَالَةِ وَالِاسْتِيعَابِ (قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ التَّكْرَارَ بِمَا يَصِيرُ غُسْلًا) زِيَادَةُ تَوْضِيحٍ وَتَحْقِيقٍ لِكَوْنِ الْمَسْنُونِ هُوَ التَّكْمِيلَ بِالْإِطَالَةِ دُونَ التَّكْرَارِ وَلَيْسَ بِاعْتِرَاضٍ آخَرَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ. (قَوْلُهُ: الثَّانِي الْمُمَانَعَةُ) وَهِيَ مَنْعُ ثُبُوتِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ أَوْ الْفَرْعِ أَوْ مَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ أَوْ الْفَرْعِ أَوْ مَنْعُ صَلَاحِيَّةِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ أَوْ مَنْعُ نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ فَإِنْ قِيلَ التَّعْلِيلُ إنَّمَا هُوَ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَمَنْعُ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ يَكُونُ مَنْعًا لِلْمَدْلُولِ مِنْ غَيْرِ قَدْحٍ فِي الدَّلِيلِ فَلَا يَكُونُ مُوَجَّهًا قُلْنَا الْمُرَادُ مَنْعُ إمْكَانِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ فَيَكُونُ مَنْعًا لِتَحَقُّقِ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ إذْ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ إمْكَانُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي الْفَرْعِ أَمَّا مَنْعُ ثُبُوتِ الْوَصْفِ فِي الْأَصْلِ فَكَمَا يُقَالُ مَسْحُ الرَّأْسِ طَهَارَةُ مَسْحٍ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ كَالِاسْتِنْجَاءِ فَيُعْتَرَضُ بِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَيْسَ طَهَارَةَ مَسْحٍ بَلْ طَهَارَةٌ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَأَمَّا فِي الْفَرْعِ فَكَمَا يُقَالُ كَفَّارَةُ الْإِفْطَارِ عُقُوبَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ فَلَا تَجِبُ بِالْأَكْلِ كَحَدِّ الزِّنَا فَيُقَالُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا عُقُوبَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِمَاعِ بَلْ بِنَفْسِ الْإِفْطَارِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً فَالْأَصْلُ حَدُّ الزِّنَا، وَالْفَرْعُ كَفَّارَةُ الصَّوْمِ، وَالْحُكْمُ عَدَمُ الْوُجُوبِ بِالْأَكْلِ، وَالْوَصْفُ الْعُقُوبَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجِمَاعِ، وَقَدْ مَنَعَ السَّائِلُ صَدَقَةً عَلَى كَفَّارَةِ الصَّوْمِ فَظَهَرَ فَسَادُ مَا يُقَالُ إنَّ هَذَا مَنْعٌ لِنِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ بِمَعْنَى أَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ بَلْ بِالْإِفْطَارِ وَكَمَا يُقَالُ بَيْعُ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ بَيْعُ مَطْعُومٍ بِمَطْعُومٍ مُجَازَفَةً فَيَحْرُمُ كَبَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبَرِ مُجَازَفَةً فَيُقَالُ إنْ أَرَدْتُمْ الْمُجَازَفَةَ مُطْلَقًا أَوْ فِي الصِّفَةِ أَوْ فِي

وَكَقَوْلِهِ فِي بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ: إنَّهُ بَيْعُ مَطْعُومٍ بِمَطْعُومٍ مُجَازَفَةً فَيَحْرُمُ كَالصُّبَرِ بِالصُّبَرِ فَنَقُولُ إنْ أَرَادَ الْمُجَازَفَةَ بِالْوَصْفِ أَوْ بِالذَّاتِ بِحَسَبِ الْأَجْزَاءِ فَهِيَ جَائِزَةٌ لِجَوَازِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُجَازَفَةِ بِالْوَصْفِ (وَلِلْجَوَازِ عِنْدَ تَفَاوُتِ الْأَجْزَاءِ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْمُجَازَفَةِ بِالذَّاتِ بِحَسَبِ الْأَجْزَاءِ (وَإِنْ أَرَادَهَا) أَيْ الْمُجَازَفَةَ (بِحَسَبِ الْمِعْيَارِ فَتَخْتَصُّ بِمَا يَدْخُلُ فِيهِ) أَيْ فِي الْمِعْيَارِ (وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَهِيَ إمَّا فِي الْوَصْفِ (كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ ادَّعَيْت حُرْمَةً تَنْتَهِي بِالْمُسَاوَاةِ لَا نُسَلِّمُ إمْكَانَهَا فِي الْفَرْعِ وَإِنْ ادَّعَيْتَهَا غَيْرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالذَّاتِ بِحَسَبِ الْأَجْزَاءِ فَلَا نُسَلِّمُ تَعَلُّقَ الْحُرْمَةِ بِهَا فَإِنَّ بَيْعَ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ جَائِزٌ، وَكَذَا بَيْعُ الْقَفِيزِ بِالْقَفِيزِ مَعَ كَوْنِ عَدَدِ حَبَّاتِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَإِنْ أَرَدْتُمْ الْمُجَازَفَةَ بِحَسَبِ الْمِعْيَارِ فَلَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَهَا فِي الْفَرْعِ أَعْنِي بَيْعَ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ وَالْمِعْيَارِ فَمَنْعُ الْوَصْفِ فِي الْفَرْعِ فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ مُتَعَيِّنٌ وَفِي الثَّانِي مَبْنِيٌّ عَلَى أَحَدِ التَّقَادِيرِ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ ادَّعَيْتهَا) أَيْ وَإِنْ ادَّعَيْت حُرْمَةً غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ بِالْمُسَاوَاةِ فَلَا نُسَلِّمُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي بَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبَرِ مُجَازَفَةً فَإِنَّهُمَا إذَا كِيلَا وَلَمْ يَفْضُلْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَادَ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ فَإِنْ قِيلَ الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْحُرْمَةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ التَّنَاهِي وَعَدَمِهِ أُجِيبُ بِأَنَّ شَرْطَ الْقِيَاسِ تَمَاثُلُ الْحُكْمَيْنِ وَالثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ هُوَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ أَعْنِي الْمُتَنَاهِيَ بِالْمُسَاوَاةِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْفَرْعِ. (قَوْلُهُ: الثَّالِثُ فَسَادُ الْوَضْعِ) وَهُوَ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى الْعِلَّةِ نَقِيضُ مَا تَقْتَضِيهِ وَهُوَ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ بِالْكُلِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ فَسَادِ الْأَدَاءِ فِي الشَّهَادَةِ إذْ الشَّيْءُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ النَّقِيضَانِ فَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِتَغْيِيرِ الْكَلَامِ بِخِلَافِ الْمُنَاقَضَةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُحْتَرَزُ عَنْ وُرُودِهَا بِأَنْ يُفَسِّرَ الْكَلَامَ نَوْعَ تَفْسِيرٍ وَبِغَيْرِ أَدْنَى تَغْيِيرٍ كَمَا يُقَالُ الْوُضُوءُ طَهَارَةٌ كَالتَّيَمُّمِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ فَيُنْقَضُ بِتَطْهِيرِ الْخَبَثِ فَيُجَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمَا تَطْهِيرَانِ حُكْمِيَّانِ فَلَا يَرِدُ النَّقْضُ بِتَطْهِيرِ الْخَبَثِ وَالْمُرَادُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ وُرُودِ الْمُنَاقَضَةِ أَنْ يُسَاقَ الْكَلَامُ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُورَدَ عَلَيْهِ الْمُنَاقَضَةُ وَإِلَّا فَدَفْعُ الْمُنَاقَضَةِ بَعْدَ إيرَادِهَا يُمْكِنُ بِوُجُوهٍ أُخَرَ سِوَى تَغْيِيرِ الْكَلَامِ عَلَى مَا سَبَقَ. (قَوْلُهُ: وَلَا بَقَاءُ النِّكَاحِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ وَعَدَلَ عَنْ الْبَاءِ إلَى لَفْظٍ مَعَ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ ارْتِدَادَ أَحَدِهِمَا لِظُهُورِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقُولُ بِأَنَّ عِلَّةَ بَقَاءِ النِّكَاحِ هِيَ الِارْتِدَادُ بَلْ يَقُولُ إنَّ الِارْتِدَادَ لَا يَقْطَعُ النِّكَاحَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَعَدَمُ كَوْنِ الشَّيْءِ قَاطِعًا لِلشَّيْءِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عِلَّةً لِبَقَائِهِ وَحِينَ صَرَّحَ فِي الشَّرْحِ بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ الرِّدَّةَ عِلَّةً لِبَقَاءِ النِّكَاحِ فَسَّرَهُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهَا قَاطِعَةً لِلنِّكَاحِ وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا تَعْلِيلَ حِينَئِذٍ فَلَا فَسَادَ وَضْعٍ نَعَمْ لَوْ قِيلَ النِّكَاحُ مَبْنِيٌّ عَلَى

مُتَنَاهِيَةٍ لَا نُسَلِّمُ فِي الصُّبْرَةِ) فَقَوْلُهُ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إشَارَةٌ إلَى مَسْأَلَةِ بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ فَالْمُمَانَعَةُ فِي الْحُكْمِ أَنْ يَمْنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الَّذِي يَكُونُ الْوَصْفُ عِلَّةً لَهُ فِي الْفَرْعِ قَوْلُهُ لَا نُسَلِّمُ إمْكَانَهَا فِي الْفَرْعِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا أَوْ نَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُعَلِّلُ بِالْوَصْفِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ وَقَوْلُهُ لَا نُسَلِّمُ فِي الصُّبْرَةِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا (وَكَقَوْلِهِ: صَوْمُ فَرْضٍ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ كَالْقَضَاءِ فَنَقُولُ أَبْعَدَ التَّعَيُّنِ فَلَا نُسَلِّمُ فِي الْأَصْلِ أَوْ قَبْلِهِ فَلَا نُسَلِّمُ فِي الْفَرْعِ) أَيْ إنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ مُتَعَيِّنًا فَلَا نُسَلِّمُ هَذَا فِي الْقَضَاءِ وَإِنْ ادَّعَيْتُمْ أَنَّ الصَّوْمَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ مُتَعَيَّنًا فَلَا نُسَلِّمُ هَذَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النِّيَّةَ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ مُتَعَيِّنًا مُمْتَنِعٌ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُتَعَيَّنٌ فِي الْمُتَنَازَعُ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ فَلَا تَكُونُ صِحَّةُ الصَّوْمِ فِي الْمُتَنَازَعِ مَوْقُوفَةً عَلَى تَعْيِينِ النِّيَّةِ قَبْلَ صَيْرُورَتِهِ مُتَعَيَّنًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ صِحَّةُ صَوْمِ رَمَضَانَ مُمْتَنِعَةٌ وَهَذَا بَاطِلٌ (وَأَمَّا فِي صَلَاحِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ فَإِنَّ الطَّرْدَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ وَأَمَّا فِي نِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ فِي الْأَخِ: لَا يُعْتِقُ عَلَى أَخِيهِ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ كَابْنِ الْعَمِّ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْأَصْلِ هَذَا) أَيْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ عِتْقِ ابْنِ الْعَمِّ هِيَ عَدَمُ الْبَعْضِيَّةِ فَإِنَّ عَدَمَ الْبَعْضِيَّةِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْعِتْقِ لِجَوَازِ أَنْ تُوجَدَ عِلَّةٌ أُخْرَى لِلْعِتْقِ بَلْ إنَّمَا لَمْ يُعْتَقْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعِصْمَةِ، وَالرِّدَّةُ قَاطِعَةٌ لَهَا فَتَكُونُ مُنَافِيَةً لِلنِّكَاحِ، وَلَا بَقَاءَ لِلشَّيْءِ مَعَ الْمُنَافِي، لَكَانَ اسْتِدْلَالًا بِرَأْسِهِ عَلَى بُطْلَانِ بَقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ الِارْتِدَادِ لَكِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَقْصُودِ الْمُقَامِ إذْ لَيْسَ هَاهُنَا بَيَانُ أَنَّ الْخَصْمَ قَدْ رَتَّبَ عَلَى الْعِلَّةِ نَقِيضَ مَا تَقْتَضِيهِ، وَكَذَا مَسْأَلَةُ الْحَجِّ بِنِيَّةِ النَّقْلِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ كَمَا إذَا حَجَّ بِنِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ النِّيَّةِ الْعِبَادَةُ الَّتِي تَتَنَوَّعُ إلَى الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ تَنْصَرِفُ إلَى النَّفْلِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ وَصَوْمِ غَيْرِ رَمَضَانَ فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمُطْلَقَ لِلْفَرْضِ دَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ نِيَّةِ النَّفْلِ لِلْفَرْضِ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَسَادُ الْوَضْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ رَتَّبَ عَلَى الْعِلَّةِ نَقِيضَ مَا تَقْتَضِيهِ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ فِيهِ حَمْلَ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ وَهَذَا مَا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ نَعَمْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ فَسَادَ الْوَضْعِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا كَوْنُ الْقِيَاسِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَثَانِيهِمَا كَوْنُ الْوَصْفِ مُشْعِرًا بِخِلَافِ الْحُكْمِ الَّذِي رُبِطَ بِهِ كَمَا يُذْكَرُ وَصْفٌ مُشْعِرٌ بِالتَّغْلِيظِ فِي رَوْمِ التَّخْفِيفِ وَبِالْعَكْسِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ النَّوْعِ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ: الْمَطْعُومُ شَيْءٌ ذُو خَطَرٍ) إذْ يَتَعَلَّقُ بِهِ قِوَامُ النَّفْسِ وَبَقَاءُ الشَّخْصِ كَالنِّكَاحِ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَقَاءُ النَّوْعِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ خَطَرَ الْمَطْعُومِ بِمَعْنَى كَثْرَةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّوْسِعَةِ أَنْسَبُ مِنْهُ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّضْيِيقِ، وَلِهَذَا كَانَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ أَيْسَرَ لِكَوْنِ الْحَاجَةِ إلَيْهِمَا أَكْثَرَ فَفِي تَرْتِيبِ اشْتِرَاطِ التَّقَابُضِ فِي تَمْلِيكِ الْمَطْعُومِ عَلَى كَوْنِهِ ذَا خَطَرٍ فَسَادُ الْوَضْعِ؛ لِأَنَّهُ نَقِيضُ مَا يَقْتَضِيهِ

ابْنُ الْعَمِّ لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ (وَكَقَوْلِهِ: لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْحَدِّ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْحَدِّ عَدَمُ الْمَالِيَّةِ وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُسْتَدَلُّ بِالْعَدَمِ عَلَى الْعَدَمِ) فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ عَدَمُ تِلْكَ الْعِلَّةِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ الْحُكْمِ فَإِنَّ الْحُكْمَ يُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِعِلَّةٍ أُخْرَى (الثَّالِثُ فَسَادُ الْوَضْعِ وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ وَهُوَ فَوْقَ الْمُنَاقَضَةِ إذْ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهَا بِتَغْيِيرِ الْكَلَامِ أَمَّا هُوَ فَيُبْطِلُ الْعِلَّةَ أَصْلًا) فَإِنَّ الْمُعَلِّلَ إذَا تَمَسَّكَ بِالْعِلَّةِ الطَّرْدِيَّةِ وَيَرِدُ عَلَيْهَا مُنَاقَضَةٌ فَرُبَّمَا يُغَيِّرُ الْكَلَامَ وَيَجْعَلُ عِلَّتَهُ مُؤْثِرَةً فَحِينَئِذٍ تَنْدَفِعُ الْمُنَاقَضَةُ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُنَاقَضَةِ فِي قَوْلِهِ: الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَتَانِ أَمَّا فَسَادُ الْوَضْعِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ الْعِلَّةَ بِكُلِّيَّتِهَا إذْ لَا يَنْدَفِعُ بِتَغْيِيرِ الْكَلَامِ (كَتَعْلِيلِهِ لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ بِإِسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ) أَيْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الذِّمِّيَّيْنِ إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَانَتْ فِي الْحَالِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ بَانَتْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامَ عِلَّةً لِإِيجَابِ الْفُرْقَةِ وَعِنْدَنَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهِيَ لَهُ وَإِنْ أَبَى يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَوْ قَبْلَهُ (وَلِإِبْقَاءِ النِّكَاحِ مَعَ ارْتِدَادِ أَحَدِهِمَا) أَيْ إذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَانَتْ فِي الْحَالِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ بَانَتْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَيَجْعَلُ الرِّدَّةَ عِلَّةً لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهَا قَاطِعَةً لِلنِّكَاحِ وَعِنْدَنَا تَبِينُ فِي الْحَالِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ التَّوْسِعَةِ وَالتَّيْسِيرِ. (قَوْلُهُ الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَتَانِ) نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ أَنَّ الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ طَهَارَتَا صَلَاةٍ فَكَيْفَ افْتَرَقَتَا وَلَمَّا كَانَ وَاضِحًا بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَهُ بِإِنْكَارِ الِافْتِرَاقِ وُجُوبُ اسْتِوَائِهِمَا فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنُوقِضَ بِتَطْهِيرِ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ فَلَا بُدَّ فِي التَّقَصِّي عَنْ الْمُنَاقَضَةِ بِأَنْ يُقَالَ الْمُرَادُ بِهِمَا تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ أَيْ تَعَبُّدِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّطْهِيرِ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ وَلَيْسَ عَلَى أَعْضَاءِ الْمُتَوَضِّئِ نَجَاسَةٌ تُزَالُ وَلِهَذَا لَا يَتَنَجَّسُ الْمَاءُ بِمُلَاقَاتِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ مَانِعًا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْعُذْرِ وَحَكَمَ بِأَنَّ الْوُضُوءَ يَرْفَعُهُ فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى التَّعَبُّدِ بِخِلَافِ تَطْهِيرِ الْخَبَثِ فَإِنَّهُ حَقِيقِيٌّ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَاءِ سَوَاءٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ فَيَقُولُ الْمُعْتَرِضُ: إنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ نَفْسَ التَّطْهِيرِ أَيْ رَفْعَ الْحَدَثِ وَإِزَالَتَهُ بِالْمَاءِ حُكْمِيٌّ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَمَمْنُوعٌ كَيْفَ وَالْمَاءُ مُطَهِّرٌ بِطَبْعِهِ كَمَا أَنَّهُ مُرْوٍ، وَقَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ آلَةً لِلطَّهَارَةِ فِي أَصْلِهِ فَيَحْصُلُ بِهِ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ حَقِيقِيَّةً كَانَتْ أَوْ حُكْمِيَّةً نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ بِخِلَافِ التُّرَابِ فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُلَوَّثٌ لَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا إلَّا بِالْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ الْوُضُوءَ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ إزَالَةُ نَجَاسَةٍ حُكْمِيَّةٍ حَكَمَ بِهَا الشَّارِعُ فِي حَقِّ جَوَازِ

بَعْدَهُ ثُمَّ فِي الْمَتْنِ يُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَهُ مَقْرُونٌ بِفَسَادِ الْوَضْعِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَصْلُحُ قَاطِعًا لِلنِّعْمَةِ، وَالرِّدَّةُ لَا تَصْلُحُ عَفْوًا وَكَقَوْلِهِ: إذَا حَجَّ بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ فَكَذَا بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ حَمَلُوا الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَأَمَّا هَذَا فَحَمَلَ الْمُقَيَّدَ عَلَى الْمُطْلَقِ وَهُوَ بَاطِلٌ وَكَقَوْلِهِ: الْمَطْعُومُ شَيْءٌ ذُو خَطَرٍ فَيُشْتَرَطُ لِتَمَلُّكِهِ شَرْطٌ زَائِدٌ) وَهُوَ التَّقَابُضُ (كَالنِّكَاحِ) فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لَهُ الشُّهُودُ (فَيُقَالُ مَا كَانَ الْحَاجَةُ إلَيْهِ أَكْثَرُ جَعَلَهُ اللَّهُ أَوْسَعَ. الرَّابِعُ الْمُنَاقَضَةُ وَهِيَ تُلْجِئُ أَهْلَ الطَّرْدِ إلَى الْمُؤَثِّرَةِ كَقَوْلِهِ: الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ طَهَارَتَانِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي النِّيَّةِ فَيُنْتَقَضُ بِتَطْهِيرِ الْخَبَثِ فَيُضْطَرُّ إلَى أَنْ يَقُولَ الْوُضُوءُ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ كَالتَّيَمُّمِ بِخِلَافِ تَطْهِيرِ الْخَبَثِ فَنَقُولُ نَعَمْ) أَيْ الْوُضُوءُ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ (بِمَعْنَى: النَّجَاسَةُ حُكْمِيَّةٌ، أَيْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِالنَّجَاسَةِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَجَعَلَهَا كَالْحَقِيقَةِ فَيُزِيلُهَا الْمَاءُ كَمَا يُزِيلُ الْحَقِيقِيَّةَ فَهِيَ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى النَّجَاسَةِ وَهَذَا الْجَوَابُ هُوَ الَّذِي أَحَالَهُ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ إلَى فَصْلِ الْمُنَاقَضَةِ (لَكِنَّ تَطْهِيرَهَا بِالْمَاءِ مَعْقُولٌ بِخِلَافِ التُّرَابِ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي التَّطْهِيرِ فَيَحْصُلُ الطَّهَارَةُ سَوَاءٌ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ (بَلْ فِي صَيْرُورَتِهِ قُرْبَةً) أَيْ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فِي صَيْرُورَةِ الْوُضُوءِ قُرْبَةً (وَالصَّلَاةُ تَسْتَغْنِي عَنْهَا) أَيْ عَنْ صَيْرُورَةِ الْوُضُوءِ قُرْبَةً كَمَا فِي سَائِرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّلَاةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا مَانِعَةٌ لَهُ كَالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ لَا يُوجِبُ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِي رَفْعِهَا وَإِزَالَتِهَا بِالْمَاءِ الَّذِي خُلِقَ طَهُورًا فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَعْقُولٌ وَلَمَّا كَانَ لَهُمْ فِي اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْوُضُوءَ قُرْبَةٌ أَيْ عِبَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْظِيمِ الرَّبِّ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ وَمِنْ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ» وَكُلُّ قُرْبَةٍ فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى النِّيَّةِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الْإِخْلَاصِ وَقَصْدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَمْيِيزًا لِلْعِبَادَةِ عَلَى الْعَادَةِ أَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ: كُلُّ وُضُوءٍ قُرْبَةٌ، فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ مِنْ الْوُضُوءِ مَا هُوَ مِفْتَاحٌ لِلصَّلَاةِ فَقَطْ بِمَنْزِلَةِ غَسْلِ الْبَدَنِ عَنْ الْخَبَثِ وَإِنْ أُرِيدَ الْبَعْضُ فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النِّيَّةِ فَإِنَّ الْوُضُوءَ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِدُونِ النِّيَّةِ لَكِنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى وُضُوءٍ هُوَ قُرْبَةٌ بَلْ عَلَى تَطْهِيرِ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ عَنْ الْحَدَثِ لِيَصِيرَ الْعَبْدُ بِهِ أَهْلًا لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ فَإِنْ قُلْت هُوَ مَأْمُورٌ بِالْغُسْلِ وَهُوَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ مَسْبُوقٌ بِالْقَصْدِ فَلَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِالِانْغِسَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ وَأَيْضًا قَوْلُنَا إذَا أَرَدْتَ الدُّخُولَ عَلَى الْأَمِيرِ فَتَأَهَّبْ، مَعْنَاهُ تَأَهَّبْ لَهُ فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَتَوَضَّئُوا لِذَلِكَ قُلْتُ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْوُضُوءِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ النِّيَّةِ لَكِنَّ صِحَّةَ

شَرَائِطِ الصَّلَاةِ بَلْ تَحْتَاجُ إلَى كَوْنِ الْوُضُوءِ طَهَارَةً وَأَمَّا الْمَسْحُ فَمُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ تَيْسِيرًا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّكُمْ قُلْتُمْ إنَّ الْغَسْلَ تَطْهِيرٌ مَعْقُولٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ لَكِنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ تَطْهِيرٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَيَجِبُ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ فَأَجَابَ بِأَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْغَسْلِ وَوَظِيفَةُ الرَّأْسِ كَانَتْ هِيَ الْغَسْلُ لَكِنْ لِدَفْعِ الْحَرَجِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَسْحِ فَيَكُونُ خَلَفًا عَنْ الْغَسْلِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ أَحْكَامُ الْأَصْلِ (فَإِنْ قِيلَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ) هَذَا إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَكِنَّ تَطْهِيرَهَا بِالْمَاءِ مَعْقُولٌ (قُلْنَا لَمَّا اتَّصَفَ الْبَدَنُ بِهَا اقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِ الْأَطْرَافِ فِي الْمُعْتَادِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَأَقَرَّ عَلَى الْأَصْلِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَادِ كَالْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ) أَيْ لَمَّا اتَّصَفَ الْبَدَنُ بِالنَّجَاسَةِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا حَكَمَ بِسِرَايَةِ النَّجَاسَةِ وَلَيْسَ بَعْضُ الْأَعْضَاءِ أَوْلَى بِالسِّرَايَةِ مِنْ الْبَعْضِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ لَكِنْ سَقَطَ الْبَعْضُ فِي الْمُعْتَادِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَبَقِيَ غَسْلُ الْأَطْرَافِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي هِيَ أُمَّهَاتُ الْأَعْضَاءِ فَلَا يَكُونُ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرَ مَعْقُولٍ فَلَا تَجِبُ النِّيَّةُ وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّلَاةِ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ حُصُولُ الطَّهَارَةِ وَهِيَ تَحْصُلُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُطَهِّرٌ بِالطَّبْعِ بِخِلَافِ التُّرَابِ فَلَا يَصِيرُ مُطَهِّرًا إلَّا بِالشَّرْطِ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ وَهُوَ كَوْنُهُ لِلصَّلَاةِ كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ فِي الْأَسْرَارِ إنَّ كَثِيرًا مِنْ مَشَايِخِنَا يَظُنُّونَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ الْوُضُوءُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَذَلِكَ غَلَطٌ فَإِنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ عِبَادَةٌ وَالْوُضُوءُ بِغَيْرِ النِّيَّةِ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ لَكِنَّ الْعِبَادَةَ مَتَى لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً سَقَطَتْ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِدُونِ الْعِبَادَةِ كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْجُمُعَةِ بِالْحُصُولِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ النِّيَّةُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّ التَّطْهِيرَ بِمُجَرَّدِ الْإِصَابَةِ غَيْرُ مَعْقُولٌ أُجِيبُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ الطَّهَارَةَ طَهَارَةُ غَسْلٍ فَأُلْحِقَ الْجُزْءُ بِالْكُلِّ وَالْقَلِيلُ بِالْكَثِيرِ وَخُصَّ الرَّأْسُ بِذَلِكَ لِمَا فِي غَسْلِهِ مِنْ الْحَرَجِ. الثَّانِي أَنَّ الْمَسْحَ خَلَفٌ عَنْ الْغَسْلِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حُكْمُ الْأَصْلِ وَهُوَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ النِّيَّةِ. الثَّالِثُ أَنَّ الْإِصَابَةَ جُعِلَتْ بِمَنْزِلَةِ الْإِسَالَةِ فِي إزَالَةِ الْحَدَثِ وَإِفَادَةِ التَّطْهِيرِ لِمَا فِي الْمُزِيلِ مِنْ الْقُوَّةِ لِكَوْنِهِ مُطَهِّرًا طَبْعًا وَفِي النَّجَاسَةِ مِنْ الضَّعْفِ لِكَوْنِهَا حُكْمِيَّةً بِخِلَافِ الْخَبَثِ فَإِنَّهُ نَجَاسَةٌ حَقِيقِيَّةٌ عَيْنِيَّةٌ وَخَصَّ الرَّأْسَ بِذَلِكَ تَيْسِيرًا وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ. فَإِنْ قِيلَ هَبْ أَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ بِالْمَاءِ مَعْقُولٌ لَكِنَّهُ لَا يُفِيدُ اسْتِغْنَاءَ الْوُضُوءِ عَنْ النِّيَّةِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ عِبَارَةٌ عَنْ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ مَعَ مَسْحِ الرَّأْسِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ، وَهَذَا غَيْرُ

فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَكَرَ أَنَّ تَغَيُّرَ وَصْفِ مَحَلِّ الْغَسْلِ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى الْخَبَثِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَقَوْلُهُ فِي التَّنْقِيحِ فَهِيَ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ إشَارَةٌ إلَى هَذَا وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ لَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى السَّبِيلَيْنِ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ مُؤَثِّرِيَّةَ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ فَعَلَى تَقْدِيرِ الْهِدَايَةِ لَا يَرِدُ هَذَا الْإِشْكَالُ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ إشْكَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مَعْقُولًا يَنْبَغِي أَنْ يُقَاسَ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ عَلَى الْمَاءِ فِي تَطْهِيرِ الْحَدَثِ كَمَا قَدْ قِيسَ فِي تَطْهِيرِ الْخَبَثِ. وَجَوَابُهُ أَنَّهُ إنَّمَا قِيسَ فِي الْخَبَثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا قَالِعَةٌ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْقُولٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالنَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ أَعْنِي بِالْحَدَثِ جَمِيعُ الْبَدَنِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَإِزَالَتُهَا وَالتَّطَهُّرُ مِنْهَا بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الَّذِي هُوَ أَقَلُّ الْبَدَنِ خُصُوصًا الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَا تَخْرُجُ عَنْهُ النَّجَاسَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ فِي ثُبُوتِ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ لَيْسَتْ بِمَعْقُولَةٍ فَيَجِبُ أَنْ لَا تَحْصُلَ بِدُونِ النِّيَّةِ كَالتَّيَمُّمِ أُجِيبُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ فَإِنَّ دَفْعَ الْحَرَجِ إسْقَاطُ بَاقِي الْأَعْضَاءِ فِي الْحَدَثِ الَّذِي يُعْتَادُ تَكَرُّرُهُ وَيَكْثُرُ وُقُوعُهُ وَالِاكْتِفَاءُ بِالْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ حُدُودِ الْأَعْضَاءِ وَنِهَايَتِهَا طُولًا وَعَرْضًا أَوْ بِمَنْزِلَةِ أُصُولِهَا وَأُمَّهَاتِهَا لِكَوْنِهَا مَجْمَعَ الْحَوَاسِّ وَمَظْهَرَ الْأَفْعَالِ مَعَ أَنَّهَا مَظِنَّةٌ لِإِصَابَةِ النَّجَسِ وَمَئِنَّةٌ لِسُهُولَةِ الْغُسْلِ أَمْرٌ مَعْقُولُ الشَّأْنِ مَقْبُولُ الْأَذْهَانِ فَيُسْتَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ وَاحْتِرَازٌ بِالْمُعْتَادِ عَمَّا يُوجِبُ الْغُسْلَ كَالْمَنِيِّ وَالْحَيْضِ فَإِنَّهُ قَلِيلُ الْوُقُوعِ فَلَا حَرَجَ فِي غَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يُكْتَفَى بِالْبَعْضِ. (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ) حَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ بَيَانُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ كَلَامَيْ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْمُقَامِ وَإِيرَادُ الْإِشْكَالِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْكَلَامَيْنِ ثُمَّ دَفْعُ الْمُنَافَاةِ وَحَلُّ الْإِشْكَالِ، أَمَّا الْمُنَافَاةُ فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ تَغَيُّرَ وَصْفِ مَحَلِّ الْغُسْلِ وَانْتِقَالَهُ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى الْخَبَثِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّ تَأْثِيرَ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ مَعْقُولٌ، وَأَمَّا وُرُودُ الْإِشْكَالِ عَلَى كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ لَا يَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى السَّبِيلَيْنِ فِي الْحُكْمِ بِكَوْنِ الْخَارِجِ النَّجَسِ مِنْهُ سَبَبًا لِلْحَدَثِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَصْلِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَأَمَّا عَلَى كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فَلَا يُوجِبُ صِحَّةَ قِيَاسِ سَائِرِ الْمَائِعَاتِ عَلَى الْمَاءِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ كَمَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَيْهِ فِي رَفْعِ الْخَبَثِ إذْ لَا مَانِعَ سِوَى عَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ النَّصِّ، وَأَمَّا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَدَفْعُ الْمُنَافَاةِ فَهُوَ أَنَّ مُرَادَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِعَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ زَوَالِ الطَّهَارَةِ عَنْ مَحَلِّ الْغُسْلِ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ وُرُودِ الشَّرْعِ إذَا لَا يُعْقَلُ أَنَّ تَنَجُّسَ الْيَدِ أَوْ الْوَجْهِ بِخُرُوجِ النَّجَاسَةِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ، وَمُرَادُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِمَعْقُولِيَّةِ أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا حَكَمَ

مُطَهِّرَةٌ فَلَا يُقَاسُ فِي الْحَدَثِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَصَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَنَّ مُرَادَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَعْقُولٍ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ، وَمُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِكَوْنِهِ مَعْقُولًا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَدْ وُجِدَ وَأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ حَكَمَ بِهَذَا الْحُكْمِ يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ هَذَا الْوَصْفِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ الْقِيَاسِ كَوْنُ الْحُكْمِ مَعْقُولًا بِهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَانْدَفَعَ عَنْ قَوْلِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِشْكَالِ وَهُوَ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِزَوَالِ الطَّهَارَةِ عَنْ الْبَدَنِ عِنْدَ خُرُوجِ النَّجَسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ أَدْرَكَ الْعَقْلُ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ هَذَا الْوَصْفِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِتَعَبُّدٍ مَحْضٍ لَا يَقِفُ الْعَقْلُ عَنْ سَبَبِهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ عَدَمِ اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِدَرْكِ شَيْءٍ، وَبَيْنَ إدْرَاكِهِ إيَّاهُ بِمَعُونَةِ الشَّرْعِ وَبَعْدَ وُرُودِهِ، وَأَمَّا حَلُّ الْإِشْكَالَيْنِ فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِيَاسِ هُوَ الْمَعْقُولِيَّةُ بِمَعْنَى أَنْ يُدْرِكَ الْعَقْلُ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِذَلِكَ أَوْ يَتَوَقَّفَ عَلَى وُرُودِ الشَّرْعِ وَهَذَا حَاصِلٌ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَيَصِحُّ قِيَاسُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَفِي الثَّانِي أَنَّ قِيَاسَ الْمَائِعَاتِ عَلَى الْمَاءِ فِي رَفْعِ الْخَبَثِ إنَّمَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا قَالِعَةٌ مُزِيلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ لَا يُتَصَوَّرُ قَلْعُهُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مُطَهِّرَةٌ لِلْمَحَلِّ أَيْ مُغَيِّرَةٌ لَهُ مِنْ النَّجَاسَةِ إلَى الطَّهَارَةِ حَتَّى يَصِحَّ قِيَاسُ الْمَائِعَاتِ عَلَى الْمَاءِ فِي تَطْهِيرِ الْمَحَلِّ عَنْ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ النَّصَّ الَّذِي جَعَلَ الْمَاءَ مُطَهِّرًا عَنْ الْحَدَثِ غَيْرُ مَعْقُولٍ إذْ لَيْسَ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَيْنُ النَّجَاسَةِ لِتُزَالَ، وَإِذْ لَا إزَالَةَ حَقِيقَةً وَعَقْلًا فَلَا تَعْدِيَةَ إلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِخِلَافِ الْخَبَثِ فَإِنَّ إزَالَتَهُ بِالْمَاءِ أَمْرٌ مَعْقُولٌ فَيَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ بِجَامِعِ الْقَلْعِ وَالْإِزَالَةِ الْحِسِّيَّةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يُنَاقِضُ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ تَطْهِيرَ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَإِزَالَتَهَا بِالْمَاءِ مَعْقُولٌ وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى النِّيَّةِ لَا يُقَالُ تَطْهِيرُ النَّجَاسَةِ الْحُكْمِيَّةِ مَعْقُولٌ فِي الْخَبَثِ وَالْحَدَثِ إلَّا أَنَّ الْعِلَّةَ فِي الْخَبَثِ هِيَ الْقَلْعُ الْمَوْجُودُ فِي الْمَاءِ وَغَيْرِهِ فَيَصِحُّ الْقِيَاسُ وَفِي الْحَدَثِ هِيَ التَّطْهِيرُ لَا الْقَلْعُ وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ التَّطْهِيرُ وَهُوَ الْحُكْمُ لَا الْعِلَّةُ تَطْهِيرُ الْحَدَثِ إنْ كَانَ مَعْقُولَ الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ كَوْنُ الْمَاءِ مُزِيلًا يَلْزَمُ صِحَّةُ قِيَاسِ الْمَائِعَاتِ الْأُخَرِ كَمَا فِي الْخُبْثِ وَإِنْ كَانَ وَصْفًا غَيْرَهُ يَجِبُ أَنْ يُبَيَّنَ حَتَّى يُنْظَرَ أَنَّهُ هَلْ يُوجَدُ فِي سَائِرِ الْمَائِعَاتِ أَمْ لَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا يَلْزَمُ التَّعْلِيلُ بِالْعِلَّةِ الْقَاصِرَةِ، ثُمَّ هَاهُنَا نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ التَّوْفِيقِ بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا أَوْرَدَ الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ فِي

قِيَاسُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ عَلَى السَّبِيلَيْنِ (وَفِي هَذَا الْفَصْلِ فُرُوعٌ أُخَرُ طَوَيْتهَا مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ) . (فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ) أَيْ الِانْتِقَالُ مِنْ كَلَامٍ إلَى آخَرَ (وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ إثْبَاتُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ عِلَّتِهِ أَوْ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْرِضِ الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الْوُضُوءَ تَطْهِيرٌ حُكْمِيٌّ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ فَيَجِبُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهِ النِّيَّةُ كَالتَّيَمُّمِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّطْهِيرَ بِالْمَاءِ مَعْقُولٌ؛ لِأَنَّهُ مُطَهِّرٌ بِطَبْعِهِ وَإِنَّمَا نَعْنِي بِالنَّصِّ الَّذِي لَا يُعْقَلُ وَصْفَ مَحَلِّ الْغُسْلِ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى الْخَبَثِ يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ الْغَيْرِ الْمَعْقُولِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ هُوَ النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى تَغَيُّرِ الْمَحَلِّ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى النَّجَاسَةِ لَا النَّصُّ الدَّالُّ عَلَى حُصُولِ الطَّهَارَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَإِنَّمَا يُغَيَّرُ بِالنَّصِّ أَيْ أَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ الْغَيْرِ الْمَعْقُولِ هُوَ تَغَيُّرُ الْمَحَلِّ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى النَّجَاسَةِ وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِيَاسِ هُوَ الْمَعْقُولِيَّةُ بِمَعْنَى أَنْ يُدْرِكَ الْعَقْلُ مَعْنَى الْحُكْمِ الْمَنْصُوصِ وَعِلَّتِهِ وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى فِي الْمَقَامِ لِذِكْرِ اسْتِقْلَالِ الْعَقْلِ بِدَرْكِ الْحُكْمِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ عِبَارَةَ الْهِدَايَةِ هِيَ أَنَّ خُرُوجَ النَّجَاسَةِ مُؤَثِّرٌ فِي زَوَالِ الطَّهَارَةِ وَهَذَا الْقَدْرُ فِي الْأَصْلِ أَيْ السَّبِيلَيْنِ مَعْقُولٌ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ لَكِنَّهُ يَتَعَدَّى ضَرُورَةَ تَعَدِّي الْأَوَّلِ وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ اتِّصَافُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِالنَّجَاسَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَهَذَا الْقَدْرُ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمَعْقُولَ هَاهُنَا هُوَ مُجَرَّدُ تَأْثِيرِ خُرُوجِ النَّجَاسَةِ فِي زَوَالِ الطَّهَارَة لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّنَافِي لَا سِرَايَةِ النَّجَاسَةِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ مِنْ أَنَّ اتِّصَافَ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِالنَّجَاسَةِ مَعْقُولٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ إذَا ثَبَتَتْ فِي ذَاتٍ كَانَ الْمُتَّصِفُ بِهَا جَمِيعَ الذَّاتِ كَمَا فِي السَّمِيعِ وَالْبَصِيرِ وَإِنَّمَا لَمْ يَنْجَسْ الْمَاءُ بِمُلَاقَاةِ الْجُنُبِ أَوْ الْمُحْدِثِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ بَلْ السَّرَيَانُ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ مَبْنِيٌّ عَلَى حُكْمِ الشَّارِعِ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْقِلَ مَعْنَاهُ وَلِهَذَا لَمْ يَتَّصِفْ بِالنَّجَاسَةِ الْحَقِيقِيَّةِ جَمِيعُ الْبَدَنِ حَيْثُ لَمْ يَحْكُمْ الشَّارِعُ بِذَلِكَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ اتَّصَفَ الْبَدَنُ بِالنَّجَاسَةِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ هَاهُنَا حُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا زَوَالُ الطَّهَارَةِ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ وَالثَّانِي زَوَالُ الْحَدَثِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَحِينَ ذَهَبَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ إلَى أَنَّ الْأَوَّلَ مَعْقُولٌ دُونَ الثَّانِي حَتَّى جَازَ إلْحَاقُ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ بِالسَّبِيلَيْنِ وَلَمْ يَجُزْ إلْحَاقُ سَائِرِ الْمَانِعَاتِ بِالْمَاءِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْإِشْكَالَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرِدُ عَلَيْهِ الْإِشْكَالُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ الثَّابِتِ بِخُرُوجِ النَّجَسِ

[فصل في الانتقال من كلام إلى آخر]

أَوْ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَوْ يَنْتَقِلُ إلَى حُكْمٍ كَذَلِكَ) أَيْ حُكْمٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَالِانْتِقَالُ مُنْحَصِرٌ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا فِي الْعِلَّةِ فَقَطْ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ لِإِثْبَاتِ عِلَّتِهِ وَهُوَ الْأَوَّلُ أَوْ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ وَهُوَ الثَّانِي حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا كَانَ كَلَامًا حَشْوًا وَأَمَّا فِي الْحُكْمِ فَقَطْ وَهُوَ الرَّابِعُ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ وَإِلَّا لَكَانَ كَلَامًا حَشْوًا وَأَمَّا فِيهِمَا وَهُوَ الثَّالِثُ (فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فَالْأَوَّلُ صَحِيحٌ) كَمَا إذَا قَالَ الصَّبِيُّ الْمُودَعُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ بِطَرِيقِ التَّعْدِيَةِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْقُولٍ إلَّا أَنَّ تَعْدِيَتَهُ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي ضِمْنِ تَعْدِيَةِ حُكْمٍ مَعْقُولٍ هُوَ ثُبُوتُ الْحَدَثِ بِخُرُوجِ النَّجَسِ وَهُوَ جَائِزٌ كَاسْتِوَاءِ الْجَيِّدِ مَعَ الرَّدِيءِ فِي بَابِ الرِّبَا يَتَعَدَّى فِي ضِمْنِ الْحُكْمِ الْمَعْقُولِ الَّذِي هُوَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ عِنْدَ التَّفَاضُلِ وَإِبَاحَتُهَا عِنْدَ التَّسَاوِي. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ تَمَاثُلَ الْحُكْمَيْنِ، وَقَدْ ثَبَتَ بِخُرُوجِ النَّجَسِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ حَدَثٌ يَرْتَفِعْ بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ بِالْخَارِجِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ حُكِمَ كَذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلْمُمَاثَلَةِ وَيَرِدُ كَلَا الْإِشْكَالَيْنِ عَلَى الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ تَغْيِيرَ مَحَلِّ الْغَسْلِ مِنْ الطَّهَارَةِ إلَى النَّجَاسَةِ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَأَنَّ تَطْهِيرَهَا بِغَسْلِ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ مَعْقُولٌ لَا يُقَالُ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الْمَعْقُولِيَّةِ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ وَهَذَا لَا يُنَافِي جَوَازَ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ حِينَئِذٍ لَا يَنْطَبِقُ الْجَوَابُ عَلَى دَلِيلِ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِاحْتِيَاجِ إلَى النِّيَّةِ أَوْ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا هُوَ كَوْنُ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ تَعَبُّدِيًّا أَوْ مَعْقُولًا بِمَعْنَى أَلَّا يُدْرِكَ الْعَقْلُ مَعْنَاهُ أَيْ عِلَّتَهُ أَوْ يُدْرِكَ لَا بِمَعْنَى أَنْ لَا يَسْتَقِلَّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِ الْحُكْمِ أَوْ يَسْتَقِلَّ وَأَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لَكِنَّ تَطْهِيرَهَا بِالْمَاءِ مَعْقُولٌ أَنَّ الْحُكْمَ بِتَطْهِيرِ الْحَدَثِ بِالْمَاءِ مِمَّا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي فَسَادِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ وَفِي هَذَا الْفَصْلِ) أَيْ فِي فَصْلِ دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ فُرُوعٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ أَيْ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمَقْصُودِ لَا لِفَائِدَةٍ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْأُصُولِ لَيْسَ مَعْرِفَةَ فُرُوعِ الْأَحْكَامِ وَيَكْفِي فِي تَوْضِيحِ الْمَطْلُوبِ إيرَادُ مِثَالٍ أَوْ مِثَالَيْنِ. [فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ كَلَامٍ إلَى آخَرَ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ فِي الِانْتِقَالِ) أَيْ فِي انْتِقَالِ الْقَائِسِ فِي قِيَاسِهِ مِنْ كَلَامٍ إلَى كَلَامٍ آخَرَ وَالْكَلَامُ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهِ إنْ كَانَ غَيْرَ عِلَّةٍ أَوْ حُكْمٍ فَهُوَ حَشْوٌ فِي الْقِيَاسِ خَارِجٌ عَنْ الْمَبْحَثِ وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْعِلَّةِ فَقَطْ أَوْ الْحُكْمِ فَقَطْ أَوْ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا، وَالِانْتِقَالُ فِي الْعِلَّةِ فَقَطْ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ عِلَّةِ الْقِيَاسِ أَوْ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ إذْ لَوْ كَانَ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ لَكَانَ انْتِقَالًا فِي الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَالِانْتِقَالُ فِي الْحُكْمِ

عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ. فَلَمَّا أَنْكَرَهُ الْخَصْمُ احْتَاجَ إلَى إثْبَاتِهِ فَهَذَا لَا يُسَمَّى انْتِقَالًا حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ أَنْ يَتْرُكَ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَشْتَغِلَ بِآخَرَ كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِنَّمَا أُطَلِّقَ الِانْتِقَالُ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْكَلَامَ وَاشْتَغَلَ بِكَلَامٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ هُوَ دَلِيلًا عَلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ (وَكَذَا الثَّانِي عِنْدَ الْبَعْضِ كَقِصَّةِ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَيْثُ قَالَ {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258] وَلِأَنَّ الْغَرَضَ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فَلَا يُبَالِي بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ لَا عِنْدَ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى يُعَدُّ انْقِطَاعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَطْ إنْ كَانَ إلَى حُكْمٍ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ حُكْمُ الْقِيَاسِ فَهُوَ حَشْوٌ فِي الْقِيَاسِ خَارِجٌ عَنْ الْمَقْصُودِ، وَإِنْ كَانَ إلَى حُكْمٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حُكْمُ الْقِيَاسِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إثْبَاتُهُ بِعِلَّةِ الْقِيَاسِ وَإِلَّا لَكَانَ انْتِقَالًا فِي الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا وَالِانْتِقَالُ فِي الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حُكْمُ الْقِيَاسِ وَإِلَّا لَكَانَ حَشْوًا فِي الْقِيَاسِ فَصَارَتْ أَقْسَامُ الِانْتِقَالَاتِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُنَاظَرَةِ أَرْبَعَةً: الْأَوَّلُ الِانْتِقَالُ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ عِلَّةِ الْقِيَاسِ الثَّانِي الِانْتِقَالُ إلَى عِلَّةٍ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْقِيَاسِ الثَّالِثُ الِانْتِقَالُ إلَى عِلَّةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ آخَرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حُكْمُ الْقِيَاسِ الرَّابِعُ الِانْتِقَالُ إلَى حُكْمٍ يَحْتَاجُ إلَيْهِ حُكْمُ الْقِيَاسِ بِأَنْ يَثْبُتَ بِعِلَّةِ الْقِيَاسِ. (قَوْلُهُ يُعَدُّ انْقِطَاعًا فِي عُرْفِ النُّظَّارِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ أَهْلِ الْمُنَاظَرَةِ وَآدَابِهِمْ فِي الْبَحْثِ كَيْ لَا يَطُولَ الْكَلَامُ بِالِانْتِقَالِ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ وَإِلَّا فَالِانْتِقَالُ مِنْ عِلَّةٍ إلَى عِلَّةٍ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِمَنْزِلَةِ انْتِقَالٍ مِنْ بَيِّنَةٍ إلَى بَيِّنَةٍ أُخْرَى لِإِثْبَاتِ حُقُوقِ النَّاسِ وَهُوَ مَقْبُولٌ بِالْإِجْمَاعِ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ إظْهَارُ الصَّوَابِ فَلَوْ جَوَّزْنَا الِانْتِقَالَ لَطَالَتْ الْمُنَاظَرَةُ بِانْتِقَالِ الْمُعَلِّلِ مِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ وَلَمْ يَظْهَرْ الصَّوَابُ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَمَّا كَانَ الْغَرَضُ إظْهَارَ الصَّوَابِ لَزِمَ جَوَازُ الِانْتِقَالِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ الْحَقِّ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّلِ الِانْتِقَالُ مِنْ دَلِيلٍ إلَى آخَرَ لَا إلَى نِهَايَةٍ نَعَمْ لَوْ انْتَقَلَ فِي مَعْرِضِ الِاسْتِدْلَالِ إلَى مَا لَا يُنَاسِبُ الْمَطْلُوبَ دَفْعًا لِظُهُورِ إفْحَامِهِ فَهُوَ يَكُونُ انْقِطَاعًا. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا قِصَّةُ الْخَلِيلِ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ كَلَامَنَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا بَانَ بُطْلَانُ دَلِيلِ الْمُعَلِّلِ وَانْتَقَلَ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ أَمَّا إذَا صَحَّ دَلِيلُهُ وَكَانَ قَدْحُ الْمُعْتَرِضِ فَاسِدًا إلَّا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى تَلْبِيسٍ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَى بَعْضِ السَّامِعِينَ فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ كَمَا فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَإِنَّ مُعَارَضَةَ اللَّعِينِ كَانَتْ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْمَسْجُونِ وَتَرْكَ إزَالَةِ حَيَاتِهِ لَيْسَ بِإِحْيَاءٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إعْطَاءُ الْحَيَاةِ وَجَعْلُ الْجَمَادِ حَيًّا إلَّا أَنَّ الْخَلِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - انْتَقَلَ إلَى دَلِيلٍ أَوْضَحَ وَحُجَّةٍ أَبْهَرَ لِيَكُونَ

[فصل في الحجج الفاسدة]

فِي عُرْفِ النُّظَّارِ وَأَمَّا قِصَّةُ الْخَلِيلِ فَإِنَّ الْحُجَّةَ الْأُولَى) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] (كَانَتْ مَلْزُومَةً وَاللَّعِينُ عَارَضَهُ بِأَمْرٍ بَاطِلٍ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] (فَالْخَلِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا خَافَ الِاشْتِبَاهَ وَالتَّلْبِيسَ عَلَى الْقَوْمِ انْتَقَلَ إلَى الْعِلَّةِ الَّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ أَصْلًا وَالثَّالِثُ كَقَوْلِنَا الْكِتَابَةُ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ فَلَا تَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ) أَيْ إنْ أَعْتَقَ الْمُكَاتِبَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ (كَالْبَيْعِ بِالْخِيَارِ وَالْإِجَارَةِ) أَيْ بَاعَ عَبْدًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَجُوزُ إعْتَاقُهُ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ، وَكَذَا إذَا آجَرَ عَبْدًا ثُمَّ أَعْتَقَهُ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ (فَإِنْ قِيلَ عِنْدِي لَا يَمْنَعُ هَذَا الْعَقْدُ بَلْ نُقْصَانُ الرِّقِّ) أَيْ نُقْصَانُ الرِّقِّ يَمْنَعُ الصَّرْفَ إلَى الْكَفَّارَةِ عِنْدِي (فَنَقُولُ الرِّقُّ لَمْ يَنْقُصْ وَنُثْبِتْ هَذَا) أَيْ عَدَمَ نُقْصَانِ الرِّقِّ (بِعِلَّةٍ أُخْرَى) وَهِيَ قَوْلُهُ الْكِتَابَةُ عَقْدٌ يَحْتَمِل الْفَسْخَ فَيَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْكَفَّارَةِ كَمَا نَقُولُ ـــــــــــــــــــــــــــــQنُورًا عَلَى نُورٍ وَإِضَاءَةً غِبَّ إضَاءَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ انْتِقَالُهُ خُلُوًّا عَنْ تَأْكِيدٍ لِلْأَوَّلِ وَتَوْضِيحٍ وَتَبْكِيتٍ لِلْخَصْمِ وَتَفْضِيحٍ كَأَنَّهُ قَالَ الْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءِ إعَادَةُ الرُّوحِ إلَى الْبَدَنِ فَالشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ رُوحِ الْعَالَمِ لِإِضَاءَتِهِ بِهَا وَإِظْلَامِهِ بِغُرُوبِهَا فَإِنْ كُنْت تَقْدِرُ عَلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى فَأَعِدْ رُوحَ الْعَالَمِ إلَيْهِ بِأَنْ تَأْتِيَ الشَّمْسُ مِنْ جَانِبِ الْمَغْرِبِ. [فَصْلٌ فِي الْحُجَجِ الْفَاسِدَةِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) عَقَّبَ مَبَاحِثَ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا الْبَعْضُ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ لِيَتَبَيَّنَ فَسَادُهَا لِيَظْهَرَ انْحِصَارُ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ وَهَذَا غَيْرُ التَّمَسُّكَاتِ الْفَاسِدَةِ؛ لِأَنَّهَا تَمَسُّكٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَكِنْ بِطَرِيقٍ فَاسِدَةٍ غَيْرِ صَالِحَةٍ لِلتَّمَسُّكِ فَمِنْ الْحُجَجِ الْفَاسِدَةِ الِاسْتِصْحَابُ وَهُوَ الْحُكْمُ بِبَقَاءِ أَمْرٍ كَانَ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُظَنَّ عَدَمُهُ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كُلِّ شَيْءٍ أَيْ كُلِّ أَمْرٍ نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا ثَبَتَ وُجُودُهُ أَيْ تَحَقُّقُهُ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ثُمَّ وَقَعَ الشَّكُّ فِي بَقَائِهِ أَيْ لَمْ يَقَعْ ظَنٌّ بِعَدَمِهِ وَعِنْدَنَا حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ دُونَ الْإِثْبَاتِ فَإِنْ قِيلَ إنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً لَزِمَ شُمُولُ الْوُجُودِ أَعْنِي كَوْنَهُ حُجَّةً لِلْإِثْبَاتِ وَالدَّفْعِ وَإِلَّا لَزِمَ شُمُولُ الْعَدَمِ أُجِيبُ بِأَنَّ مَعْنَى الدَّفْعِ أَنْ لَا يَثْبُتَ حُكْمٌ وَعَدَمُ الْحُكْمِ مُسْتَنِدٌ إلَى عَدَمِ دَلِيلِهِ فَالْأَصْلُ فِي الْعَدَمِ الِاسْتِمْرَارُ حَتَّى يَظْهَرَ دَلِيلُ الْوُجُودِ وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا يُحَقِّقُ وُجُودَهُ أَوْ عَدَمَهُ فِي زَمَانٍ وَلَمْ يُظَنَّ مُعَارِضٌ يُزِيلُهُ فَإِنَّ لُزُومَ ظَنِّ بَقَائِهِ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ وَلِهَذَا يُرَاسِلُ الْعُقَلَاءُ أَهَالِيهِمْ وَبِلَادَهُمْ رُبَّمَا كَانُوا يُشَافِقُونَهُمْ وَيُرْسِلُونَ الْوَدَائِعَ وَالْهَدَايَا وَيُعَامِلُونَ بِمَا يَقْتَضِي زَمَانًا مِنْ التِّجَارَاتِ وَالْقُرُوضِ وَالدُّيُونِ وَالْآخَرُونَ اسْتَبْعَدُوا دَعْوَى الضَّرُورَةِ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ فَتَمَسَّكُوا بِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَوْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً لَمَا وَقَعَ الْجَزْمُ بَلْ الظَّنُّ بِبَقَاءِ الشَّرَائِعِ لِاحْتِمَالِ طَرَيَانِ النَّاسِخِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِلْقَطْعِ بِبَقَاءِ شَرْعِ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

الْكِتَابَةُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَلَا تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ (وَإِنْ أَثْبَتْنَاهُ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى فَهُوَ نَظِيرُ الرَّابِعِ كَمَا نَقُولُ احْتِمَالُهُ الْفَسْخَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرِّقَّ لَمْ يَنْقُصْ وَكِلَاهُمَا صَحِيحَانِ وَالرَّابِعُ أَحَقُّ) (؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي أَوْرَدَهَا تَكُونُ تَامَّةً فِي قَطْعِ الشُّبُهَاتِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَإِنْ انْتَقَلَ إلَى حُكْمٍ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ أَوْ إلَى عِلَّةٍ لِإِثْبَاتِ حُكْمٍ كَذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ) . (فَصْلٌ فِي الْحُجَجِ الْفَاسِدَةِ) الِاسْتِصْحَابُ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي كُلِّ شَيْءٍ ثَبَتَ وُجُودُهُ بِدَلِيلٍ ثُمَّ وَقَعَ الشَّكُّ فِي بَقَائِهِ وَعِنْدَنَا حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِثْبَاتِ لَهُ أَنَّ بَقَاءَ الشَّرَائِعِ بِالِاسْتِصْحَابِ وَلِأَنَّهُ إذَا تَيَقَّنَ بِالْوُضُوءِ ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ يَحْكُمُ بِالْوُضُوءِ وَفِي الْعَكْسِ بِالْحَدَثِ. إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي فَإِنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَلَنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فَبَقَاءُ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى زَمَنِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَقَاءِ شَرْعِهِ أَبَدًا. وَثَانِيهِمَا الْإِجْمَاعُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِصْحَابِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْفُرُوعِ مِثْلُ بَقَاءِ الْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ وَالْمِلْكِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ فِيمَا إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي طَرَيَانِ الضِّدِّ وَأُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِصْحَابُ لَمَا حَصَلَ الْجَزْمُ بِبَقَاءِ الشَّرَائِعِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ الْجَزْمُ بِبَقَائِهَا وَالْقَطْعُ بِعَدَمِ نَسْخِهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ فِي شَرِيعَةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَوَاتُرُ نَقْلِهَا وَتَوَاطُؤُ جَمِيعِ قَوْمِهِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا إلَى زَمَنِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَفِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَا نَسْخَ لِشَرِيعَتِهِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ الْحُكْمِ وَعَدَمِ انْتِسَاخِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَهُوَ الِاسْتِصْحَابُ لَا غَيْرُ قُلْنَا قَدْ سَبَقَ فِي بَحْثِ النَّسْخِ أَنَّ النَّصَّ يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّةٍ مُوجِبَةٍ قَطْعًا إلَى زَمَانِ نُزُولِ النَّاسِخِ وَعَدَمُ بَيَانِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلنَّاسِخِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ نُزُولِهِ إذْ لَوْ نَزَلَ لَبَيَّنَهُ قَطْعًا لِوُجُوبِ التَّبْلِيغِ وَالتَّبْيِينِ عَلَيْهِ وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْفُرُوعَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ بَلْ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ وَالْبَيْعَ وَالنِّكَاحَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُوجِبُ أَحْكَامًا مُمْتَدَّةً إلَى زَمَانِ ظُهُورِ الْمُنَاقِضِ كَجَوَازِ الصَّلَاةِ وَحِلِّ الِانْتِفَاعِ وَالْوَطْءِ وَذَلِكَ بِحَسَبِ وَضْعِ الشَّارِعِ فَبَقَاءُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ مُسْتَنِدَةٌ إلَى تَحَقُّقِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ الْمُنَاقِضِ لَا إلَى كَوْنِ الْأَصْلِ فِيهَا هُوَ الْبَقَاءُ مَا لَمْ يَظْهَرْ الْمُزِيلُ وَالْمُنَافِي عَلَى مَا هُوَ قَضِيَّةُ الِاسْتِصْحَابِ وَهَذَا مَا يُقَالُ إنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ، وَلَا لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِثْبَاتِ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ضَرُورَةَ أَنَّ بَقَاءَ الشَّيْءِ غَيْرُ وُجُودِهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِمْرَارِ الْوُجُودِ بَعْدَ الْحُدُوثِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الشَّيْءُ مُوجِبًا لِحُدُوثِ الشَّيْءِ دُونَ اسْتِمْرَارِهِ وَاعْتَرَضَ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ عَدَمُ الدَّلَالَةِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ فَلَا نِزَاعَ

[التعليل بالنفي]

الشَّرَائِعِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْسَ بِالِاسْتِصْحَابِ بَلْ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسْخَ لِشَرِيعَتِهِ وَفِي حَيَاتِهِ فَقَدْ مَرَّ جَوَابُهُ فِي النَّسْخِ وَالْوُضُوءِ وَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ، وَنَحْوُهَا يُوجِبُ حُكْمًا مُمْتَدًّا إلَى زَمَانِ ظُهُورِ مُنَاقِضٍ فَيَكُونُ الْبَقَاءُ لِلدَّلِيلِ وَكَلَامُنَا فِيمَا لَا دَلِيلَ عَلَى الْبَقَاءِ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودِ فَيَرِثُ عِنْدَهُ لَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ مِنْ بَابِ الْإِثْبَاتِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ وَلَا يُوَرَّثُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْإِرْثِ مِنْ بَابِ الدَّفْعِ فَيَثْبُتُ بِهِ وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُ فَجَعَلَ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ وَهِيَ الْأَصْلُ حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعِي فَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ كَمَا بَعْدَ الْيَمِينِ وَعِنْدَنَا يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا إنَّ الِاسْتِصْحَابَ لَا يَصِحُّ حُجَّةً لِلْإِثْبَاتِ فَلَا يَكُونُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ حُجَّةً عَلَى الْمُدَّعِي فَيَصِحُّ الصُّلْحُ وَ (تَجِبُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشَّفِيعِ عِنْدَنَا عَلَى مِلْكِ الْمَشْفُوعِ بِهِ إذَا أَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي) ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الشَّفِيعِ الدَّارَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ أُرِيدَ بِطَرِيقِ الظَّنِّ فَمَمْنُوعٌ وَدَعْوَى الضَّرُورَةِ وَالظُّهُورِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ خُصُوصًا فِيمَا يَدَّعِي الْخَصْمُ بَدَاهَةً نَقِيضَهُ وَأَيْضًا لَا نَدَّعِي أَنَّ مُوجِبَ الْحُكْمِ يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ بَلْ إنَّ سَبْقَ الْوُجُودِ مَعَ عَدَمِ ظَنِّ الْمُنَافِي الْمَدَافِعِ يَدُلُّ عَلَى الْبَقَاءِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُفِيدُ ظَنَّ الْبَقَاءِ وَالظَّنُّ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ وَكَلَامُنَا فِيمَا لَا دَلِيلَ عَلَى الْبَقَاءِ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْخَصْمِ لَيْسَ فِي ذَلِكَ وَكَيْفَ يُحْكَمُ بِالشَّيْءِ بِدُونِ دَلِيلٍ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ سَبْقَ الْوُجُودِ مَعَ عَدَمِ ظَنِّ الْمُنَافِي وَالْمُدَافِعِ هَلْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْبَقَاءِ. (قَوْلُهُ: وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ) أَيْ مَعَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَصْلِ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُدَّعِي بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا حُجَّةٌ لَدَفْعِ حَقِّ الْمُدَّعِي فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَسْمُوعًا بِالِاتِّفَاقِ قُلْنَا بَلْ لِإِلْزَامِ الْمُدَّعِي وَإِثْبَاتِ بَرَاءَةِ ذِمَّةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. [التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ] (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ) كَمَا يُقَالُ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْحَدِّ وَكَمَا يُقَالُ الْأَخُ لَا يُعْتِقُ عَلَى أَخِيهِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي مِلِكِهِ لِعَدَمِ الْبَعْضِيَّةِ كَابْنِ الْعَمِّ فَإِنَّ عَدَمَ الْمَالِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِعَدَمِ الثُّبُوتِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ، وَكَذَا عَدَمُ الْبَعْضِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِعَدَمِ الْعِتْقِ لِجَوَازِ أَنْ يَتَحَقَّقَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِعِلَّةٍ أُخْرَى اللَّهُمَّ إلَّا إذَا ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ فَقَطْ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهَا عَدَمُ الْحُكْمِ كَمَا يُقَالُ وَلَدُ الْمَغْصُوبِ لَا يُضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَغْصُوبٍ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ الضَّمَانُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الضَّمَانِ هَاهُنَا هُوَ الْغَصْبُ لَا غَيْرُ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالنَّفْيِ إحْدَى الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِصْحَابِ حَتَّى يُعَدَّ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَلْ هُوَ تَمَسُّكٌ بِقِيَاسٍ فَاسِدٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَقْيِسَةِ الطَّرْدِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَبِمَنْزِلَةِ التَّمَسُّكَاتِ الْفَاسِدَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا إذَا ثَبَتَ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ مَرْجِعُهُ إلَى النَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ كَمَا إذَا ثَبَتَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ تَلَازُمٌ أَوْ تَنَافٍ فَيُسْتَدَلُّ مِنْ

[باب المعارضة والترجيح]

الْمَشْفُوعَ بِهَا ثَابِتٌ بِالِاسْتِصْحَابِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُشْتَرِي فَتَجِبُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشَّفِيعِ عَلَى مِلْكِ الْمَشْفُوعِ بِهَا لَا عِنْدَهُ (وَإِذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ دَخَلَ أَمْ لَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى عِنْدَنَا) فَإِنَّ الْعَبْدَ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدُّخُولِ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِاسْتِحْقَاقِ الْعِتْقِ عَلَى الْمَوْلَى. (وَمِنْهَا) أَيْ مِنْ الْحُجَجِ الْفَاسِدَةِ (التَّعْلِيلُ بِالنَّفْيِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ) أَيْ فِي الْمُمَانَعَةِ فِي دَفْعِ الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ وَالْأَخُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْوُجُودُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ لَهُ عِلَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي وَلَدِ الْغَصْبِ إنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغْصِبْ الْوَلَدَ وَمِنْهَا الِاحْتِجَاجُ بِتَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ كَقَوْلِ زُفَرَ إنَّ غَسْلَ الْمَرَافِقِ لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّ مِنْ الْغَايَاتِ مَا يَدْخُلُ وَمَا لَا يَدْخُلُ فَلَا يَدْخُلُ بِالشَّكِّ فَإِنَّ هَذَا جَهْلٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ مِنْ أَيِّ الْقِسْمَيْنِ. (بَابُ) الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ إذَا وَرَدَ دَلِيلَانِ يَقْتَضِي أَحَدُهُمْ عَدَمَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَإِنْ تَسَاوَيَا قُوَّةً، أَوْ ـــــــــــــــــــــــــــــQوُجُودِ الْمَلْزُومِ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ أَوْ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ أَوْ مِنْ ثُبُوتِ أَحَدِ الْمُتَنَافِيَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ فَإِنَّهُ تَرْجِيحٌ فَاسِدٌ لِأَحَدِ الْقِيَاسَيْنِ لَا حُجَّةٌ بِرَأْسِهَا. [بَابُ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ] (قَوْلُهُ: بَابُ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ) لَمَّا كَانَتْ الْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ قَدْ تَتَعَارَضُ، فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْأَحْكَامِ بِهَا إلَّا بِالتَّرْجِيحِ ذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ جِهَاتِهِ عَقِبَ مَبَاحِثِ الْأَدِلَّةِ بِمَبَاحِثِ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ تَتْمِيمًا لِلْمَقْصُودِ، وَتَعَارُضُ الدَّلِيلَيْنِ كَوْنُهُمَا بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا ثُبُوتَ أَمْرٍ وَالْآخَرُ انْتِفَاءَهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِشَرْطِ تَسَاوِيهِمَا فِي الْقُوَّةِ، أَوْ زِيَادَةِ أَحَدِهِمَا بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ. وَاحْتَرَزَ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ عَمَّا يَقْتَضِي حِلَّ الْمَنْكُوحَةِ وَحُرْمَةَ أُمِّهَا وَبِاتِّحَادِ الزَّمَانِ عَنْ مِثْلِ حِلِّ وَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ قَبْلَ الْحَيْضِ وَحُرْمَتِهِ عِنْدَ الْحَيْضِ وَبِالْقَيْدِ الْأَخِيرِ عَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى بِالذَّاتِ كَالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ إذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنْ أُرِيدَ اقْتِضَاءُ أَحَدِهِمَا عَدَمَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ بِعَيْنِهِ حَتَّى يَكُونَ الْإِيجَابُ وَارِدًا عَلَى مَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّفْيُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ لِتَغَايُرِ حِلِّ الْمَنْكُوحَةِ وَحِلِّ أُمِّهَا، وَكَذَا الْحِلُّ قَبْلَ الْحَيْضِ، وَعِنْدَهُ وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ أُمُورٍ أُخْرَى مِثْلَ اتِّحَادِ الْمَكَانِ وَالشَّرْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي تَحَقُّقِ التَّنَاقُضِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ اشْتِرَاطَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ زِيَادَةُ تَوْضِيحٍ وَتَنْصِيصٍ عَلَى مَا هُوَ مِلَاكُ الْأَمْرِ فِي بَابِ التَّنَاقُضِ، فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَنْدَفِعُ التَّرْجِيحُ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ، ثُمَّ التَّعَارُضُ لَا يَقَعُ بَيْنَ الْقَطْعِيَّيْنِ لِامْتِنَاعِ وُقُوعِ الْمُتَنَافِيَيْنِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ التَّرْجِيحُ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ التَّفَاوُتِ فِي احْتِمَالِ النَّقِيضِ، فَلَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ الظَّنِّيَّيْنِ. وَفِي قَوْلِهِ: فَإِنْ تَسَاوَيَا قُوَّةً إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ تَحَقُّقِ التَّعَارُضِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ

يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَقْوَى بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ فَبَيْنَهُمَا الْمُعَارَضَةُ وَالْقُوَّةُ الْمَذْكُورَةُ رُجْحَانٌ، وَإِنْ كَانَ أَقْوَى بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ لَا يُسَمَّى رُجْحَانًا، فَلَا يُقَالُ النَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «زِنْ وَأَرْجِحْ» . (وَالْمُرَادُ الْفَضْلُ الْقَلِيلُ لِئَلَّا يَلْزَمَ الرِّبَا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عَفْوًا) ؛ لِأَنَّهُ لِقِلَّتِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقَابِلِ. (وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَتَرْكُ الْآخَرِ وَاجِبٌ فِي الصُّورَتَيْنِ) أَيْ فِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى بِوَصْفٍ هُوَ تَابِعٌ وَفِيمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ (وَإِذَا تَسَاوَيَا قُوَّةً) وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَقْسَامَ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ كَالنَّصِّ مَعَ الْقِيَاسِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى يُوصَفُ بِمَا هُوَ تَابِعٌ كَمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQإذْ لَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ حِينَئِذٍ هُوَ التَّوَقُّفُ وَجَعْلُ الدَّلِيلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ لَا يُلْزِمُ اجْتِمَاعَ النَّقِيضَيْنِ، أَوْ ارْتِفَاعَهُمَا، أَوْ التَّحَكُّمَ كَمَا لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ. وَالتَّرْجِيحُ فِي اللُّغَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ رَاجِحًا أَيْ فَاضِلًا زَائِدًا وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى اعْتِقَادِ الرُّجْحَانِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ بَيَانُ الرُّجْحَانِ أَيْ الْقُوَّةِ الَّتِي لِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: هُوَ اقْتِرَانُ الدَّلِيلِ الظَّنِّيِّ بِأَمْرٍ يَقْوَى بِهِ عَلَى مُعَارِضِهِ وَاشْتُرِطَ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا حَتَّى لَوْ قَوِيَ أَحَدُهُمَا بِمَا هُوَ غَيْرُ تَابِعٍ لَهُ لَا يَكُونُ رُجْحَانًا، فَلَا يُقَالُ: النَّصُّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ لِعَدَمِ التَّعَارُضِ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ إظْهَارُ زِيَادَةِ أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَصْفًا لَا أَصْلًا مِنْ قَوْلِك رَجَّحْت الْوَزْنَ إذَا زِدْت جَانِبَ الْمَوْزُونِ حَتَّى مَالَتْ كِفَّتُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ التَّمَاثُلِ أَوَّلًا، ثُمَّ ثُبُوتِ الزِّيَادَةِ بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ وَالْوَصْفِ بِحَيْثُ لَا تَقُومُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ ابْتِدَاءً، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَزْنِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ قَصْدًا فِي الْعَادَةِ. قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: لَا تُسَمَّى زِيَادَةُ دِرْهَمٍ عَلَى الْعَشَرَةِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ رُجْحَانًا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ تَقُومُ بِهِ لَا أَصْلًا وَتُسَمَّى زِيَادَةُ الْحَبَّةِ وَنَحْوِهَا رُجْحَانًا؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَقُومُ بِهَا عَادَةً، وَهَذَا مِنْ «قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلْوَزَّانِ حِينَ اشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِدِرْهَمَيْنِ: زِنْ وَأَرْجِحْ، فَإِنَّا مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ» فَمَعْنَى أَرْجِحْ زِدْ عَلَيْهِ فَضْلًا قَلِيلًا يَكُونُ تَابِعًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ كَزِيَادَةِ الْجَوْدَةِ لَا قَدْرًا يُقْصَدُ بِالْوَزْنِ عَادَةً لِلُزُومِ الرِّبَا فِي قَضَاءِ الدُّيُونِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هِبَةً لِبُطْلَانِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فَظَهَرَ أَنَّ جَعْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَوْدَةِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى بِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ. (قَوْلُهُ: وَالْعَمَلُ بِالْأَقْوَى) يَعْنِي إذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ شَيْءٍ وَالْآخَرُ عَلَى انْتِفَائِهِ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ، أَوْ لَا وَعَلَى الثَّانِي إمَّا أَنْ تَكُونَ زِيَادَةُ أَحَدِهِمَا بِمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ، أَوْ لَا فَفِي الصُّورَةِ الْأُولَى مُعَارَضَةٌ، وَلَا تَرْجِيحَ. وَفِي الثَّانِيَةِ مُعَارَضَةٌ مَعَ تَرْجِيحٍ. وَفِي الثَّالِثَةِ لَا مُعَارَضَةَ حَقِيقَةً، فَلَا تَرْجِيحَ لِابْتِنَائِهِ عَلَى

فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَدْلٌ فَقِيهٌ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ الَّذِي يَرْوِيهِ عَدْلٌ غَيْرُ فَقِيهٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا مُتَسَاوِيَيْنِ قُوَّةً فَفِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَتَرْكُ الْآخَرِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَيَأْتِي حُكْمُهُ هُنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: فِي الْمَتْنِ، وَإِذَا تَسَاوَيَا قُوَّةً فَالْمُعَارَضَةُ تَخْتَصُّ بِالْقِسْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِمَعْزِلٍ عَنْهَا وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْأَقْوَى وَاجِبًا لَكِنْ لَا يُسَمَّى هَذَا تَرْجِيحًا فَالتَّرْجِيحُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ فَيَخْتَصُّ بِالْقِسْمِ الثَّانِي. (فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) أَيْ فِي مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةِ السُّنَّةَ (يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى فَسْخِ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ إذْ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْجَهْلِ) . وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ حَقِيقَةَ التَّعَارُضِ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّعَارُضِ الْمُنْبِئِ عَنْ التَّمَاثُلِ، وَحُكْمُ الصُّورَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ أَنْ يُعْمَلَ بِالْأَقْوَى وَيُتْرَكَ الْأَضْعَفُ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَقْوَى، وَأَمَّا الصُّورَةُ الْأُولَى أَعْنِي تَعَارُضَ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقُوَّةِ سَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الْعَدَدِ كَالتَّعَارُضِ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَةٍ، أَوْ لَا كَالتَّعَارُضِ بَيْنَ آيَةٍ وَآيَتَيْنِ، أَوْ سُنَّةٍ وَسُنَّتَيْنِ، أَوْ قِيَاسَ وَقِيَاسَيْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ إذْ لَا تَرْجِيحَ، وَلَا قُوَّةَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى لَا يُتْرَكَ الدَّلِيلُ الْوَاحِدُ بِالدَّلِيلَيْنِ فَحُكْمُهَا أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ قِيَاسَيْنِ يُعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ آيَتَيْنِ، أَوْ قِرَاءَتَيْنِ، أَوْ سُنَّتَيْنِ قَوْلِيَّيْنِ، أَوْ فِعْلِيَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، أَوْ آيَةٍ وَسُنَّةٍ فِي قُوَّتِهَا كَالْمَشْهُورِ وَالْمُتَوَاتِرِ، فَإِنْ عَمَّ الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا فَنَاسِخٌ إذْ لَوْ لَمْ يَصْلُحْ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا كَخَبَرِ الْوَاحِدِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ الْكِتَابِ، أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ تَعَارُضِ التَّسَاوِي بَلْ الْمُتَقَدِّمُ رَاجِحٌ وَإِلَّا فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ مُخَلِّصٍ مِنْ الْحُكْمِ، أَوْ الْمَحَلِّ، أَوْ الزَّمَانِ فَذَاكَ وَإِلَّا يُتْرَكْ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ وَحِينَئِذٍ إنْ أَمْكَنَ الْمَصِيرُ مِنْ الْكِتَابِ، إلَى السُّنَّةِ، وَمِنْهَا إلَى الْقِيَاسِ وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ يُصَارُ إلَيْهِ وَإِلَّا تَقَرَّرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ وُرُودِ الدَّلِيلَيْنِ، وَهَذَا مَعْنَى تَقْرِيرِ الْأُصُولِ. وَفِي الْكَلَامِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّسْخَ لَا يَجْرِي بَيْنَ الْقِيَاسَيْنِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ وَبَيْنَ دَلِيلٍ آخَرَ قَطْعِيٍّ مِنْ نَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ إذْ لَا يَنْعَقِدُ إجْمَاعٌ مُخَالِفٌ لِقَطْعِيٍّ، وَأَنَّهُ لَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ بَلْ هُمَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ يُعْمَلُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَرْطِ التَّحَرِّي كَمَا فِي الْقِيَاسَيْنِ، وَعِنْدَ مَنْ أَوْجَبَ تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ، وَلَوْ لَمْ يُدْرَكْ بِالْقِيَاسِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، أَوَّلًا، ثُمَّ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ مِنْ أَنَّهُ إنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ سُنَّتَيْنِ فَالْمَيْلُ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فَالْمَيْلُ إلَى الْقِيَاسِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْقِيَاسِ وَبَيْنَ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ. مِثَالُ الْمَصِيرِ إلَى السُّنَّةِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]

لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ إذَا اتَّحَدَ زَمَانُ وُرُودِهِمَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّارِعَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ مُنَزَّهٌ عَنْ تَنْزِيلِ دَلِيلَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يُنَزِّلُ أَحَدَهُمَا سَابِقًا وَالْآخَرَ مُتَأَخِّرًا نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لَكِنَّا لَمَّا جَهِلْنَا الْمُتَقَدِّمَ وَالْمُتَأَخِّرَ تَوَهَّمْنَا التَّعَارُضَ لَكِنْ فِي الْوَاقِعِ لَا تَعَارُضَ. فَقَوْلُهُ: يُحْمَلُ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ تَرْجِعُ إلَى التَّعَارُضِ وَالْمُرَادُ صُورَةُ التَّعَارُضِ وَهِيَ وُرُودُ دَلِيلَيْنِ يَقْتَضِي أَحَدُهُمَا عَدَمَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ. (فَإِنْ عُلِمَ التَّارِيخُ) جَوَابٌ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يَكُونُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ (وَإِلَّا يُطْلَبْ الْمُخَلِّصُ) أَيْ يَدْفَعُ الْمُعَارَضَةَ (وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ وَيُسَمَّى عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ فَإِنْ تَيَسَّرَ فِيهَا وَإِلَّا يُتْرَكْ وَيُصَارُ مِنْ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ وَمِنْهَا إلَى الْقِيَاسِ وَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَإِلَّا يَجِبُ تَقْرِيرُ الْأَصْلِ عَلَى مَا كَانَ فِي سُؤْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعَارَضَا فَصِرْنَا إلَى قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» . وَمِثَالُ الْمَصِيرِ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ تَعَارُضِ السُّنَّتَيْنِ مَا رَوَى النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ كَمَا تُصَلُّونَ رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ وَمَا رَوَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - صَلَّاهَا رَكْعَتَيْنِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ» تَعَارَضَا فَصِرْنَا إلَى الْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ بَلْ بِقُوَّتِهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ فِي جَانِبٍ آيَةٌ وَفِي جَانِبٍ آيَتَانِ، أَوْ فِي جَانِبٍ حَدِيثٌ وَفِي الْآخَرِ حَدِيثَانِ لَا يُتْرَكُ الْآيَةُ الْوَاحِدَةُ، أَوْ الْحَدِيثُ الْوَاحِدُ بَلْ يُصَارُ مِنْ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ، وَمِنْ السُّنَّةِ إلَى الْقِيَاسِ إذْ لَا تَرْجِيحَ بِالْكَثْرَةِ وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَرْجِيحُ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْآيَتَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ الْحَدِيثُ مُوَافِقًا لِلْآيَةِ الْوَاحِدَةِ، وَكَذَا تَرْجِيحُ السُّنَّةِ وَالْقِيَاسِ عَلَى حَدِيثَيْنِ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ تَقَوِّي الْآيَةِ بِالسُّنَّةِ، أَوْ تَقَوِّي السُّنَّةِ بِالْقِيَاسِ، فَإِذَا جَازَ تَقَوِّي الدَّلِيلِ بِمَا هُوَ دُونَهُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَقَوِّيهِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ تَسَاقُطِ الْمُتَعَارِضَيْنِ وَوُقُوعِ الْعَمَلِ بِالسُّنَّةِ، أَوْ الْقِيَاسِ السَّالِمِ عَنْ الْمُعَارِضِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ تَسَاقُطُ الْآيَتَيْنِ وَوُقُوعُ الْعَمَلِ بِالْآيَةِ السَّالِمَةِ عَنْ الْمُعَارِضِ، وَكَذَا فِي السُّنَّةِ. وَغَايَةُ مَا يُمْكِنُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْأَدْنَى يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ التَّابِعِ لِلْأَقْوَى فَيُرَجِّحُهُ بِخِلَافِ الْمُمَاثِلِ، أَوْ يُقَالَ: إنَّ الْقِيَاسَ يُعْتَبَرُ مُتَأَخِّرًا عَنْ السُّنَّةِ وَالسُّنَّةَ عَنْ الْكِتَابِ فَالْمُتَعَارَضَانِ يَتَسَاقَطَانِ وَيَقَعُ الْعَمَلُ بِالْمُتَأَخِّرِ وَإِلَى هَذَا يُشِيرُ كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ إذَا اتَّحَدَ زَمَانُ وُرُودِهِمَا) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ تَعَارُضَ الدَّلِيلَيْنِ وَتَنَاقُضَ الْقَضِيَّتَيْنِ مَوْقُوفٌ عَلَى اتِّحَادِ زَمَانِ وُرُودِهِمَا وَالتَّكَلُّمِ بِهِمَا عَلَى مَا سَبَقَ إلَى بَعْضِ الْأَوْهَامِ الْعَامِّيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِاتِّحَادِ الزَّمَانِ فِي التَّنَاقُضِ زَمَانُ التَّكَلُّمِ بِالْقَضِيَّتَيْنِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ زَمَانُ نِسْبَةِ الْقَضِيَّتَيْنِ حَتَّى لَوْ قِيلَ فِي زَمَانٍ

الْحِمَارِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْآثَارِ) رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ نَجِسٌ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ طَاهِرٌ، وَأَيْضًا قَدْ تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ فِي حُرْمَةِ لَحْمِهِ وَحِلِّهِ، فَلَمَّا تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَاءَ كَانَ طَاهِرًا فَيَكُونُ طَاهِرًا، وَلَا يُزِيلُ الْحَدَثَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي زَوَالِ الْحَدَثِ، فَلَا يَزُولُ بِالشَّكِّ. (وَهُوَ) أَيْ التَّعَارُضُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ (إمَّا بَيْنَ آيَتَيْنِ، أَوْ قِرَاءَتَيْنِ، أَوْ سُنَّتَيْنِ، أَوْ آيَةٍ، أَوْ سُنَّةٍ مَشْهُورَةٍ وَالْمُخَلِّصُ إمَّا مِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ وَالْمَحَلِّ، أَوْ الزَّمَانِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يُوَزَّعَ الْحُكْمُ كَقِسْمَةِ الْمُدَّعَى بَيْنَ الْمُدَّعِينَ، أَوْ بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغَايُرِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الْآيَةَ اللَّغْوُ فِي الْأُولَى ضِدُّ كَسْبِ الْقَلْبِ) أَيْ السَّهْوُ. (بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِهِ) أَيْ بِكَسْبِ الْقَلْبِ حَيْثُ قَالَ: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ـــــــــــــــــــــــــــــQوَاحِدٍ: زَيْدٌ قَائِمٌ الْآنَ زَيْدٌ لَيْسَ بِقَائِمٍ غَدًا لَمْ يَكُنْ تَنَاقُضًا، وَلَوْ قِيلَ: زَيْدٌ قَائِمٌ وَقْتَ كَذَا، ثُمَّ قِيلَ: بَعْدَ سَنَةٍ: إنَّهُ لَيْسَ بِقَائِمٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ تَنَاقُضًا بَلْ الْمَقْصُودُ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إنَّمَا يَتَعَارَضَانِ بِحَيْثُ يُحْتَاجُ إلَى مُخَلِّصٍ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ إذْ لَوْ عُلِمَ لَكَانَ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ الْمُتَدَافِعَيْنِ لَا يَصْدُرَانِ مِنْ الشَّارِعِ إلَّا كَذَلِكَ. (قَوْلُهُ: كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ) قِيلَ: الشَّكُّ فِي الطَّهَارَةِ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ كَمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ؟ قَالَ نَعَمْ. وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ؟» قَالَ لَا وَرَوَى أَنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ» ، وَهَذَا يُوجِبُ نَجَاسَةَ السُّؤْرِ لِمُخَالَطَةِ اللُّعَابِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ اللَّحْمِ النَّجِسِ، فَإِنْ أُوثِرَتْ الطَّهَارَةُ قِيَاسًا عَلَى الْعَرَقِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أُوثِرَتْ النَّجَاسَةُ قِيَاسًا عَلَى اللَّبَنِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَقِيلَ: الشَّكُّ فِي الطَّهُورِيَّةِ لِاخْتِلَافِ الْأَخْبَارِ فِي حُرْمَةِ لَحْمِ الْحِمَارِ وَإِبَاحَتِهِ وَالِاشْتِبَاهُ فِي اللَّحْمِ يُورِثُ الِاشْتِبَاهَ فِي السُّؤْرِ لِمُخَالَطَتِهِ اللُّعَابَ الْمُتَوَلِّدَ مِنْهُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ أَدِلَّةَ الْإِبَاحَةِ لَا تُسَاوِي أَدِلَّةَ الْحُرْمَةِ فِي الْقُوَّةِ حَتَّى أَنَّ حُرْمَتَهُ مِمَّا يَكَادُ يُجْمَعُ عَلَيْهِ، كَيْفَ وَلَوْ تَعَارَضَتَا لَكَانَ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ رَاجِحًا كَمَا فِي الضَّبُعِ حَيْثُ يُحْكَمُ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي الطَّهُورِيَّةِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ اخْتِلَافِ الْآثَارِ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَالرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ هُوَ أَنْ يُحْكَمَ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَعَدَمِ طَهُورِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا بِيَقِينٍ وَالْمُتَوَضِّئُ مُحْدِثٌ فَلَا تَزُولُ بِالشَّكِّ طَهَارَةُ الْمَاءِ وَلَا حَدَثُ الْمُتَوَضِّئِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُحْكَمْ بِبَقَاءِ الطَّهُورِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الْحُكْمُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ بِالشَّكِّ إذْ لَا مَعْنَى لِلطَّهُورِيَّةِ إلَّا هَذَا فَيَكُونُ إهْدَارًا لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا تَقْرِيرًا لِلْأُصُولِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَدْنَى عُدُولٍ عَنْ الْأَصْلِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ الْحُكْمِ بِبَقَاءِ الطَّهُورِيَّةِ فِي الْمَاءِ وَالْحَدَثِ فِي الْمُتَوَضِّئِ أُخِذَ بِالْأَقَلِّ

(وَفِي الثَّانِيَةِ ضِدُّ الْعَقْدِ) أَيْ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ: قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] بِاللَّغْوِ ضِدِّ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِالْعَقْدِ. (وَالْعَقْدُ قَوْلٌ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فَاللَّغْوُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا يَخْلُو عَنْ الْفَائِدَةِ وَقَدْ جَاءَ اللَّغْوُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَتْنِ فَاللَّغْوُ يَكُونُ شَامِلًا لِلْغَمُوسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتَقْتَضِي هَذِهِ الْآيَةُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْغَمُوسِ وَالْآيَةُ الْأُولَى تَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّ الْغَمُوسَ مِنْ كَسْبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْتُزِمَ الْحُكْمُ بِسَلْبِ الطَّهُورِيَّةِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إهْدَارُ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا حُكِمَ بِبَقَاءِ الطَّهُورِيَّةِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقَارُبِ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ، أَوْ الطَّهُورِيَّةِ وَعَدَمِهَا يُشِيرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ صَرَّحَ أَوَّلًا بِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَأَشَارَ ثَانِيًا إلَى أَنَّ الشَّكَّ فِي الطَّهُورِيَّةِ حَيْثُ قَالَ وَلَا يُزِيلُ الْحَدَثَ لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي زَوَالِ الْحَدَثِ فَظَهَرَ أَنَّ لَيْسَ مَعْنَى الشَّكِّ أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ، وَلَا مَظْنُونٍ بَلْ مَعْنَاهُ تَعَارُضُ الْأَدِلَّةِ وَوُجُوبُ الْوُضُوءِ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ حَيْثُ لَا مَاءَ سِوَاهُ، ثُمَّ ضَمَّ التَّيَمُّمَ إلَيْهِ، وَهَذَا حُكْمٌ مَعْلُولٌ، وَكَذَا الْحُكْمُ بِطَهَارَتِهِ وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ لَا يُورِثُ الِاشْتِبَاهَ كَمَا إنْ أَخْبَرَ عَدْلٌ بِطَهَارَتِهِ وَآخَرُ بِنَجَاسَتِهِ، فَإِنَّهُ طَاهِرٌ، وَلَا إشْكَالَ فِي حُرْمَةِ لَحْمِهِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْحُرْمَةِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَنْجُسْ الْمَاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ وَالْبَلْوَى إذْ الْحِمَارُ يُرْبَطُ فِي الدُّورِ وَالْأَفْنِيَةِ فَيَشْرَبُ مِنْ الْأَوَانِي إلَّا أَنَّ الْهِرَّةَ تَدْخُلُ الْمَضَايِقَ فَتَكُونُ الضَّرُورَةُ فِيهَا أَشَدَّ فَالْحِمَارُ لَمْ يَبْلُغْ فِي الضَّرُورَةِ حَدَّ الْهِرَّةِ حَتَّى يُحْكَمَ بِطَهَارَةِ سُؤْرِهِ، وَلَا فِي عَدَمِ الضَّرُورَةِ حَدَّ الْكَلْبِ حَتَّى يُحْكَمَ بِنَجَاسَةِ سُؤْرِهِ فَبَقِيَ أَمْرُهُ مُشْكِلًا، وَهَذَا أَحْوَطُ مِنْ الْحُكْمِ بِالنَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُضَمُّ إلَى التَّيَمُّمِ فَيَلْزَمُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الطَّهُورِ احْتِمَالًا. (قَوْلُهُ: وَهُوَ إمَّا بَيْنَ آيَتَيْنِ، أَوْ قِرَاءَتَيْنِ) يَعْنِي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ كَقِرَاءَتَيْ الْجَرِّ وَالنَّصْبِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] ، فَإِنَّ الْأُولَى تَقْتَضِي مَسْحَ الرِّجْلِ وَالثَّانِيَةَ غَسْلَهَا عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ. فَإِنْ قِيلَ: الْجَرُّ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَإِنْ كَانَ عَطْفًا عَلَى الْمَغْسُولِ تَوْفِيقًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ وَقَوْلِ زُهَيْرٍ: لَعِبَ الرِّيَاحُ بِهَا وَغَيَّرَهَا ... بَعْدِي سَوَافِي الْمَوْرِ وَالْقَطْرِ ، فَإِنَّ الْقَطْرَ مَعْطُوفٌ عَلَى سَوَافِي وَالْجَرُّ بِالْجِوَارِ وَقَوْلِ الْفَرَزْدَقِ: فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُكَ رَاكِبٌ ... إلَى آلِ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبٍ بِخَفْضِ خَاطِبٍ عَلَى الْجِوَارِ مَعَ عَطْفِهِ عَلَى رَاكِبٍ عُورِضَ بِأَنَّ النَّصْبَ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى

الْقَلْبِ وَالْمُؤَاخَذَةُ ثَابِتَةٌ فِي كَسْبِ الْقَلْبِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فِي الْغَمُوسِ، وَهَذَا مَا قَالَهُ فِي الْمَتْنِ. (فَاللَّغْوُ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ يَشْمَلُ الْغَمُوسَ إذْ هُوَ مَا يَخْلُو عَنْ الْفَائِدَةِ كَقَوْلِهِ: تَعَالَى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [مريم: 62] : وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} [القصص: 55] فَأَوْجَبَ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ فَوَقَعَ التَّعَارُضُ فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْأُولَى فِي الْآخِرَةِ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهِ بِكَسْبِ الْقَلْبِ وَفِي الثَّانِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَيْ بِالْكَفَّارَةِ فَقَالَ فَكَفَّارَتُهُ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَحْمِلُ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الثَّانِيَةِ أَيْ فِي الدُّنْيَا) أَيْ يَحْمِلُ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا حَتَّى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْغَمُوسِ. (وَالْعَقْدَ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْأُولَى) أَيْ يَحْمِلُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعَقْدَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ حَتَّى يَكُونَ اللَّغْوُ هُوَ عَيْنُ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى، وَهُوَ السَّهْوُ، فَلَا يَكُونُ التَّعَارُضُ وَاقِعًا لَكِنْ مَا قُلْنَا أَوْلَى مِنْ هَذَا؛ لِأَنَّ عَلَى مَذْهَبِهِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَكُونَ الْعَقْدُ مُجْرًى عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَحَلِّ جَمْعًا بَيْنَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَمَا قَوْلُهُ: يَذْهَبْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرًا عَلَى مَا هُوَ اخْتِيَارُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ النُّحَاةِ، وَهُوَ إعْرَابٌ شَائِعٌ مُسْتَفِيضٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَطْفِ عَلَى الْأَقْرَبِ وَعَدَمِ وُقُوعِ الْفَصْلِ بِالْأَجْنَبِيِّ. وَالْوَجْهُ أَنَّهُ فِي الْقِرَاءَتَيْنِ مَعْطُوفٌ عَلَى رُءُوسِكُمْ إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْحِ فِي الرِّجْلِ هُوَ الْغَسْلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] إذْ الْمَسْحُ يُضْرَبُ لَهُ غَايَةٌ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْت اُطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصًا وَفَائِدَتُهُ التَّحْذِيرُ عَنْ الْإِسْرَافِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذْ الْأَرْجُلُ مَظِنَّةُ الْإِسْرَافِ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا فَعُطِفَتْ عَلَى الْمَمْسُوحِ لَا لِتُمْسَحَ لَكِنْ لِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ غَسْلًا خَفِيفًا شَبِيهًا بِالْمَسْحِ فَالْمَسْحُ الْمُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْغَسْلِ هُوَ الْمُقَدَّرُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ، فَلَا يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّمَا حُمِلَ عَلَى ذَلِكَ لِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَغْسِلُونَ أَرْجُلَهُمْ فِي الْوُضُوءِ مَعَ أَنَّ فِي الْغَسْلِ مَسْحًا وَزِيَادَةً إذْ لَا إسَالَةَ بِدُونِ الْإِصَابَةِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْوُضُوءِ هُوَ التَّطْهِيرُ وَذَلِكَ فِي الْغَسْلِ، وَمَسْحُ الرَّأْسِ خَلَفٌ عَنْهُ تَخْفِيفًا فَفِي إيثَارِ الْغَسْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَمُوَافَقَةٌ لِلْجَمَاعَةِ وَتَحْصِيلٌ لِلطَّهَارَةِ وَخُرُوجٌ عَنْ الْعُهْدَةِ بِيَقِينٍ. (قَوْلُهُ: وَالْمُخَلِّصُ) يَعْنِي قَدْ اُعْتُبِرَ فِي التَّعَارُضِ اتِّحَادُ الْحُكْمِ وَالْمَحَلِّ وَالزَّمَانِ، فَإِذَا تَسَاوَى الْمُتَعَارِضَانِ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَقْوِيَةُ أَحَدِهِمَا يُطْلَبُ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ، أَوْ الْمَحَلِّ، أَوْ الزَّمَانِ بِأَنْ يُدْفَعَ اتِّحَادُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ أَيْ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الْحُكْمِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّوْزِيعُ بِأَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ أَفْرَادِ الْحُكْمِ ثَابِتًا بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ وَبَعْضَهَا مَنْفِيًّا بِالْآخَرِ كَقِسْمَةِ الْمُدَّعَى بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ بِحُجَّتَيْهِمَا. وَثَانِيهِمَا: التَّغَايُرُ بِأَنْ يُبَيِّنَ مُغَايَرَةَ مَا ثَبَتَ بِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ لِمَا انْتَفَى

وَأَيْضًا الدَّلِيلُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ بِدَلِيلِ اقْتِرَانِهَا بِكَسْبِ الْقَلْبِ، وَهُوَ يَحْمِلُهَا عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِنَا فَإِنَّ اللَّغْوَ جَاءَ لِمَعْنَيَيْنِ فَيُحْمَلُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهِ وَتُحْمَلُ الْمُؤَاخَذَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَلَى مَا هُوَ أَلْيَقُ بِهِ مِنْ الدُّنْيَوِيَّةِ، أَوْ الْأُخْرَوِيَّةِ. (وَأَقُولُ لَا تَعَارُضَ هُنَا وَاللَّغْوُ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْغَمُوسِ وَالْمُؤَاخَذَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ فِي الْآخِرَةِ لَكِنْ فِي الثَّانِيَةِ سَكَتَ عَنْ الْغَمُوسِ وَذَكَرَ الْمُنْعَقِدَةَ وَاللَّغْوَ وَقَالَ الْإِثْمُ الَّذِي فِي الْمُنْعَقِدَةِ يُسْتَرُ بِالْكَفَّارَةِ لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الْكَفَّارَةُ) هَذَا وَجْهٌ وَقَعَ فِي خَاطِرِي لِدَفْعِ التَّعَارُضِ. وَاللَّغْوُ فِي الْآيَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَهُوَ السَّهْوُ أَمَّا فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَبِدَلِيلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْآخَرِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] فَالْأُولَى تُوجِبُ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ الْقَلْبِ أَيْ الْقَصْدِ وَالثَّانِيَةُ تُوجِبُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا مِنْ اللَّغْوِ، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ وَفَائِدَةٌ إذْ فَائِدَةُ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ تَحْقِيقُ الْبِرِّ وَالصِّدْقِ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْغَمُوسِ وَالْمُخَلِّصُ أَنْ يُقَالَ: الْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي تُوجِبُهَا الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْغَمُوسِ هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ وَاَلَّتِي تَنْفِيهَا الثَّانِيَةُ هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الدُّنْيَا أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْكَفَّارَةِ فِي اللَّغْوِ وَيُؤَاخِذُكُمْ بِهَا فِي الْمَعْقُودَةِ، ثُمَّ فَسَّرَ الْكَفَّارَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الْآيَةَ، وَلَمَّا تَغَايَرَتْ الْمُؤَاخَذَتَانِ انْدَفَعَ التَّعَارُضُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُحْمَلُ الْعَقْدُ عَلَى كَسْبِ الْقَلْبِ مِنْ عَقَدْت عَلَى كَذَا عَزَمْت عَلَيْهِ فَيَشْمَلُ الْغَمُوسَ وَيَصِيرُ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ وَاحِدًا، وَهُوَ نَفْيُ الْكَفَّارَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَإِثْبَاتُهَا عَلَى الْمَعْقُودِ وَالْغَمُوسِ وَذَلِكَ لِأَنَّ كَسْبَ الْقَلْبِ مُفَسَّرٌ وَالْعَقْدَ مُجْمَلٌ فَيُحْمَلُ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَيَنْدَفِعُ التَّعَارُضُ وَرُدَّ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ عُدُولًا عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ رَبْطُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ وَذَلِكَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ رَبْطِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ بِالْآخَرِ بِخِلَافِ عَزْمِ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْعَقْدِ فَسُمِّيَ بِهِ مَجَازًا. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بِمَعْنَى الرَّبْطِ إنَّمَا يَكُونُ حَقِيقَةً فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الْمَعَانِي، فَهُوَ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى أَنَّ عَقْدَ الْقَلْبِ وَاعْتِقَادَهُ بِمَعْنَى رَبْطِهِ بِالشَّيْءِ وَجَعْلِهِ ثَابِتًا عَلَيْهِ أَشْهَرُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْعَقْدِ الْمُصْطَلَحِ فِي الْفِقْهِ، فَإِنَّهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْفُقَهَاءِ. الثَّانِي: أَنَّ اقْتِرَانَ الْكَسْبِ بِالْمُؤَاخَذَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ إذْ لَا عِبْرَةَ بِالْقَصْدِ وَعَدَمِهِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَرُدَّ بِمَنْعِ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لَا سِيَّمَا فِي الْحُقُوقِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْآيَةَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ تَكْرَارٌ لِلْآيَةِ السَّابِقَةِ، وَلَا شَكَّ

اقْتِرَانِهِ بِكَسْبِ الْقَلْبِ، وَأَمَّا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ مِنْ الشَّارِعِ أَنْ يَقُولَ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْقَوْلِ الْخَالِي عَنْ الْفَائِدَةِ الَّذِي يَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ أَعْنِي الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ بَلْ اللَّائِقُ أَنْ يَقُولَ: لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالسَّهْوِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وَالْمُرَادُ بِالْمُؤَاخَذَةِ الْمُؤَاخَذَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْجَزَاءِ وَالْمُؤَاخَذَةِ. وَقَوْلُهُ: {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَاخَذَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ السِّتَارَةُ أَيْ الْإِثْمُ الْحَاصِلُ بِالْمُنْعَقِدَةِ يُسْتَرُ بِالْكَفَّارَةِ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ السَّهْوِ وَعَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمُنْعَقِدَةِ وَهِيَ سَاكِتَةٌ عَنْ الْغَمُوسِ فَانْدَفَعَ التَّعَارُضُ وَثَبَتَ الْحُكْمُ عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِنَا، وَهُوَ عَدَمُ الْكَفَّارَةِ فِي الْغَمُوسِ. (وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الْمَحَلِّ (فَبِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَغَايُرِ الْمَحَلِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ فَبِالتَّخْفِيفِ يُوجِبُ الْحِلَّ بَعْدَ الطُّهْرِ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ وَبِالتَّشْدِيدِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ فَحَمَلْنَا الْمُخَفَّفَ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ الْإِفَادَةَ خَيْرٌ مِنْ الْإِعَادَةِ وَرُدَّ بِأَنَّ سَوْقَ الثَّانِيَةِ لِبَيَانِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا تَكْرَارَ. (قَوْلُهُ: وَأَقُولُ لَا تَعَارُضَ هُنَا) وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي دَفْعِ التَّعَارُضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّغْوِ فِي الْآيَتَيْنِ هُوَ الْخَالِي عَنْ الْقَصْدِ وَبِالْمُؤَاخَذَةِ الْمُؤَاخَذَةُ فِي الْآخِرَةِ وَالْغَمُوسُ دَاخِلٌ فِي الْمَكْسُوبَةِ لَا فِي الْمَعْقُودَةِ، وَلَا فِي اللَّغْوِ فَالْآيَةُ الْأُولَى أَوْجَبَتْ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى الْغَمُوسِ وَالثَّانِيَةُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهَا لَا نَفْيًا، وَلَا إثْبَاتًا، فَلَا تَعَارُضَ لَهَا أَصْلًا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ قَالَ نَفَى الْمُؤَاخَذَةَ عَنْ اللَّغْوِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَأَثْبَتَهَا فِي الْغَمُوسِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا الْإِثْمُ وَنَفَى الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَنْ اللَّغْوِ وَأَثْبَتَهَا فِي الْمَعْقُودَةِ وَفَسَّرَ الْمُؤَاخَذَةَ هَاهُنَا بِالْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْمَعْقُودَةِ بِالْكَفَّارَةِ وَفِي الْغَمُوسِ بِالْإِثْمِ، وَفِي اللَّغْوِ لَا مُؤَاخَذَةَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَمَلَ الْمُؤَاخَذَةَ الثَّانِيَةَ أَيْضًا عَلَى الْإِثْمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ دَارَ الْمُؤَاخَذَةِ إنَّمَا هِيَ دَارُ الْآخِرَةِ. فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: {فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] تَفْسِيرٌ لِلْمُؤَاخَذَةِ وَالْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْكَفَّارَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْمُخْتَصُّ بِالْآخِرَةِ إنَّمَا هِيَ الْمُؤَاخَذَةُ الَّتِي هِيَ الْعِقَابُ وَجَزَاءُ الْإِثْمِ أُجِيبَ بِالْمَنْعِ بَلْ هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى طَرِيقِ دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ أَيْ إذَا حَصَلَ الْإِثْمُ بِالْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ فَوَجْهُ دَفْعِهِ وَسَتْرِهِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ إلَى آخِرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّائِقَ بِنَظْمِ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِنَا لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِكَذَا وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِكَذَا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مُقَابِلًا لِلْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى إدْرَاكِ الْغَمُوسِ فِي اللَّغْوِ، أَوْ فِيمَا عَقَّدْتُمْ، وَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الْكَلَامِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ خِلْوًا عَنْ التَّعَرُّضِ لِلْغَمُوسِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عُلِمَ حُكْمُهَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ قُلْنَا، وَكَذَلِكَ اللَّغْوُ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ لَيْسَ بِحَسَبِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ

الْعَشَرَةِ وَالْمُشَدَّدَ عَلَى الْأَقَلِّ) وَإِنَّمَا لَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّهَا إذَا طَهُرَتْ لِعَشَرَةِ أَيَّامٍ حَصَلَتْ الطَّهَارَةُ الْكَامِلَةُ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْعَوْدِ، وَإِذَا طَهُرَتْ لِأَقَلَّ مِنْهَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ، فَلَمْ تَحْصُلْ الطَّهَارَةُ الْكَامِلَةُ فَاحْتِيجَ إلَى الِاغْتِسَالِ لِتَتَأَكَّدَ الطَّهَارَةُ. (وَأَمَّا الثَّالِثُ) أَيْ الْمُخَلِّصُ مِنْ قِبَلِ الزَّمَانِ (فَإِنَّهُ إذَا كَانَ صَرِيحَ اخْتِلَافِ الزَّمَانِ يَكُونُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ فَكَذَا إنْ كَانَ دَلَالَتُهُ كَنَصَّيْنِ أَحَدُهُمَا مُحَرِّمٌ وَالْآخَرُ مُبِيحٌ يُجْعَلُ الْمُحَرِّمُ نَاسِخًا؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانَ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةَ وَالْمُبِيحُ وَرَدَ لِإِبْقَائِهِ ثُمَّ الْمُحَرِّمُ نَسَخَهُ، وَلَوْ جَعَلْنَا عَلَى الْعَكْسِ يَتَكَرَّرُ النَّسْخُ) أَيْ لَوْ قُلْنَا إنَّ الْمُحَرِّمَ كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْمُبِيحِ فَالْمُحَرِّمُ كَانَ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ ثُمَّ الْمُبِيحُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُحَرِّمِ فَيَتَكَرَّرُ النَّسْخُ، فَلَا يَثْبُتُ التَّكْرَارُ بِالشَّكِّ وَفِيهِ نَظَرٌ (لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا، فَلَا تَكُونُ الْحُرْمَةُ بَعْدَهُ نَسْخًا) . وَبَيَانُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُحَرِّمَ لَوْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لَكَانَ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ نَاسِخًا لَهَا إنْ قَدْ وَرَدَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ دَالٌّ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْمُحَرِّمِ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْمُبِيحِ لَكِنْ وَرَدَ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ غَيْرَ مُسَلَّمٍ، فَلَا يَكُونُ الْمُحَرِّمُ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْمُبِيحِ لِمَا عَرَفْت مِنْ تَعْرِيفِ النَّسْخِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإذْ لَا اخْتِلَافَ فِي الْمَفْهُومِ بَلْ فِي الْأَفْرَادِ بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ فَعِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعُمُومِ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ يَكُونُ الْمَعْنَى لَا يُؤَاخِذُكُمْ شَيْئًا مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ عُقُوبَةً كَانَتْ، أَوْ كَفَّارَةً فِي اللَّغْوِ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِهِمَا، أَوْ بِأَحَدِهِمَا فِي الْمَكْسُوبَةِ وَالْمَعْقُودَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ. (قَوْلُهُ: فَبِالتَّخْفِيفِ) أَيْ قِرَاءَةُ: {يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وَالْهَاءِ تُوجِبُ حِلَّ الْقُرْبَانِ بَعْدَ حُصُولِ الطُّهْرِ سَوَاءٌ حَصَلَ الِاغْتِسَالُ، أَوْ لَمْ يَحْصُلْ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحِلَّ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] قَوْلًا بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ، فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الْحِلَّ كَانَ ثَابِتًا وَالنَّهْيَ قَدْ انْقَضَى بِالطُّهْرِ فَبَقِيَ الْحِلُّ الثَّابِتُ لِعَدَمِ تَنَاوُلِ النَّهْيِ إيَّاهُ فَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ رَفْعِ الْآيَةِ الْحِلَّ بِإِيجَابِهَا إيَّاهُ تَجَوُّزًا. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ حَقِيقَةَ الطُّهْرِ لَكَانَ الْمُنَاسِبُ " فَإِذَا طَهُرْنَ فَأْتُوهُنَّ " فَاتِّفَاقُ الْقُرَّاءِ عَلَى: {يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ اغْتَسَلْنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يَطْهُرْنَ يَغْتَسِلْنَ أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ فَحَقِيقَةٌ، وَأَمَّا عَلَى التَّخْفِيفِ فَمَجَازٌ بِإِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ عَلَى اللَّازِمِ ضَرُورَةَ لُزُومِ الْغُسْلِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ فَيَكُونُ حُرْمَةُ الْقُرْبَانِ عِنْدَ الدَّمِ مَعْلُومَةً مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة: 222] . . الْآيَةَ لِبَيَانِ انْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ وَعَوْدِ الْحِلِّ بِهِ أُجِيبَ بِأَنْ تَفَعَّلَ قَدْ يَجِيءُ بِمَعْنَى فَعَّلَ كَتَكَبَّرَ وَتَعَظَّمَ فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فِي قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ إذْ فِي الِانْقِطَاعِ عَلَى الْعَشَرَةِ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ حَقِّ الزَّوْجِ إلَى الِاغْتِسَالِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَوَضَّأْنَ أَيْ صِرْنَ أَهْلًا لِلصَّلَاةِ. وَفِي شَرْحِ التَّأْوِيلَاتِ أَنَّ

وَيُمْكِنُ إتْمَامُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ هَذَا النَّظَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا انْتَفَعَ الْمُكَلَّفُ بِشَيْءٍ قَبْلَ وُرُودِ مَا يُحَرِّمُهُ، أَوْ يُبِيحُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَاقَبُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] فَإِنَّ هَذَا الْإِخْبَارَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إنْ انْتَفَعَ بِمَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ وُرُودِ مُحَرِّمِهِ، أَوْ مُبِيحِهِ لَا يُعَاقَبُ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الْمُحَرِّمُ فَقَدْ غَيَّرَ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاعِ ثُمَّ إذَا وَرَدَ الْمُبِيحُ فَقَدْ نَسَخَ ذَلِكَ الْمُحَرِّمَ فَيَلْزَمُ مِنَّا تَغْيِيرَانِ وَأَمَّا عَلَى الْعَكْسِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا تَغْيِيرٌ وَاحِدٌ فَانْدَفَعَ الْإِيرَادُ الْمَذْكُورُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ فَتَقَرَّرَ الدَّلِيلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ، أَوْ نَقُولُ عَنَيْنَا بِتَكَرُّرِ النَّسْخِ هَذَا الْمَعْنَى لَا النَّسْخَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْتُمْ. وَقَدْ قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا أَيْ تَكَرُّرَ النَّسْخِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الْإِبَاحَةَ أَصْلًا وَلَسْنَا نَقُولُ بِهَذَا فِي الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْبَشَرَ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّمَانِ وَإِنَّمَا هَذَا أَيْ كَوْنُ الْإِبَاحَةِ أَصْلًا بِنَاءً عَلَى زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَبْلَ شَرِيعَتِنَا فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُحَرِّمُ وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَوُقُوعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْآيَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا دُونَ الْعَشَرَةِ صَرْفًا لِلْخِطَابِ إلَى مَا هُوَ الْغَالِبُ وَانْتِهَاءُ الْحُرْمَةِ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إنَّمَا يَكُونُ الِاغْتِسَالُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] بِالتَّخْفِيفِ أَيْضًا مَعْنَاهُ يَغْتَسِلْنَ مَجَازًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي الْكُلِّ عُدُولًا عَنْ الظَّاهِرِ وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ الْأَصْلِيَّةَ لَيْسَتْ حُكْمًا شَرْعِيًّا) . فَإِنْ قِيلَ: هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] قُلْنَا إنَّمَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَوْ ثَبَتَ تَقَدُّمُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى النَّصَّيْنِ الْمَفْرُوضَيْنِ أَعْنِي الْمُحَرِّمَ وَالْمُبِيحَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَإِنَّهُ أَيْ الْمُحَرِّمَ إنَّمَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ إنْ قَدْ وَرَدَ أَيْ إنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي أَيْ الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى زَمَانِ وُرُودِ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ وَالْمُبِيحِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ دَالٌّ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَكِنَّ وُرُودَ هَذَا الدَّلِيلِ مُتَقَدِّمًا عَلَى وُرُودِ النَّصَّيْنِ الْمُبِيحِ وَالْمُحَرِّمِ لَيْسَ بِمُسَلَّمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي جَمِيعِ الصُّوَرِ بَلْ قَدْ، وَقَدْ. وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ تَقْرِيرَ الدَّلِيلِ بِوَجْهٍ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّظَرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ بِتَمَامٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا بَعْدَ وُرُودِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى إبَاحَةِ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ فَتَغْيِيرُهُ بِالنَّصِّ الْمُحَرِّمِ لَا يَكُونُ نَسْخًا بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ إلَّا إذَا تَأَخَّرَ الْمُحَرِّمُ عَنْ دَلِيلِ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ، وَهُوَ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَبِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَبَرُ فِي النَّسْخِ كَوْنُ الْحُكْمِ شَرْعِيًّا عِنْدَ وُرُودِ النَّاسِخِ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ إلَّا إذَا تَقَدَّمَ دَلِيلُ إبَاحَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى دَلِيلِ تَحْرِيمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَخْصُوصِ. (قَوْلُهُ: عَنَيْنَا

التَّحْرِيفَاتِ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَمْ يَبْقَ الِاعْتِمَادُ وَالْوُثُوقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ فَظَهَرَتْ الْإِبَاحَةُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِقَابِ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ لَهُ مُحَرِّمٌ، وَلَا مُبِيحٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يُوجَدُ لَهُ مُحَرِّمٌ، وَلَا مُبِيحٌ فَإِنْ كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ ضَرُورِيًّا كَالتَّنَفُّسِ وَنَحْوِهِ فَغَيْرُ مَمْنُوعٍ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورِيًّا كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ فَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَإِنْ أَرَادُوا بِالْإِبَاحَةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِإِبَاحَتِهِ فِي الْأَزَلِ فَهَذَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِنْ أَرَادُوا عَدَمَ الْعِقَابِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فَحَقٌّ. وَعِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ عَلَى الْحَظْرِ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِحَظْرِهِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ وَإِنْ أَرَادُوا الْعِقَابَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فَبَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وقَوْله تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ عَلَى الْوَقْفِ فَفَسَّرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِتَكَرُّرِ النَّسْخِ هَذَا الْمَعْنَى) أَيْ تَكَرُّرِ التَّغْيِيرِ سَوَاءٌ كَانَ تَغْيِيرَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، أَوْ لَا، فَإِنَّ تَكْرَارَ التَّغْيِيرِ زِيَادَةٌ عَلَى نَفْسِ التَّغْيِيرِ، فَلَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يُوجَدُ لَهُ مُحَرِّمٌ، وَلَا مُبِيحٌ) إشَارَةٌ إلَى مَسْأَلَةِ حُكْمِ الْأَفْعَالِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. فَإِنْ قُلْت: مَا لَا يُوجَدُ لَهُ مُحَرِّمٌ، وَلَا مُبِيحٌ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا، أَوْ مَنْدُوبًا، أَوْ مَكْرُوهًا. قُلْت: الْمُرَادُ بِالْمُبِيحِ مَا يُقَابِلُ الْمُحَرِّمَ، فَإِنَّ الْإِبَاحَةَ قَدْ تُطْلَقُ عَلَى عَدَمِ الْمَنْعِ عَنْ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْكَرَاهَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: الشَّيْءُ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ لَهُ دَلِيلُ الْمَنْعِ، وَلَا دَلِيلُ عَدَمِهِ أَيْ لَمْ يُعْلَمْ تَعَلُّقُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ وُرُودِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إنَّمَا هِيَ لِبَيَانِ حُكْمِ الْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، فَإِنْ كَانَ اضْطِرَارِيًّا كَالتَّنَفُّسِ وَنَحْوِهِ، فَهُوَ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ إلَّا عِنْدَ مَنْ جَوَّزَ تَكْلِيفَ الْمُحَالِ وَإِنْ كَانَ اخْتِيَارِيًّا كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ فَحُكْمُهُ الْإِبَاحَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ وَبَعْضِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَالْحُرْمَةُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَبَعْضِ الشِّيعَةِ وَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ. وَمَحَلُّ الْخِلَافِ هِيَ الْأَفْعَالُ الِاخْتِيَارِيَّةُ الَّتِي لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فِيهَا بِحُسْنٍ، وَلَا قُبْحٍ، وَأَمَّا الَّتِي يَقْضِي فِيهَا الْعَقْلُ فَهِيَ عِنْدَهُمْ تَنْقَسِمُ إلَى الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَمَلَ أَحَدُ طَرَفَيْهِ عَلَى مَفْسَدَةٍ، فَأَمَّا فِعْلُهُ فَحَرَامٌ، أَوْ تَرْكُهُ فَوَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهَا، فَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَصْلَحَةٍ، فَأَمَّا فِعْلُهُ فَمَنْدُوبٌ، أَوْ تَرْكُهُ فَمَكْرُوهٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى الْمَصْلَحَةِ أَيْضًا فَمُبَاحٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُورَدُ فِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْأَشَاعِرَةِ عَلَى التَّنَزُّلِ إلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ لِلْعَقْلِ حُكْمًا بِالْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَإِلَّا فَالْفِعْلُ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَا يُوصَفُ عِنْدَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَيُقَالُ: عَلَى الْمُبِيحِ إنْ أَرَدْت بِالْإِبَاحَةِ أَنْ لَا حَرَجَ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَلَا نِزَاعَ، وَإِنْ أَرَدْت خِطَابَ الشَّارِعِ فِي الْأَزَلِ بِذَلِكَ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ بَلْ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا لَا حُكْمَ فِيهِ لِلْعَقْلِ بِحُسْنٍ، وَلَا قُبْحٍ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ. فَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْعَبْدَ وَمَا يَنْتَفِعُ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي إبَاحَتَهُ لَهُ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ خَلْقِهِمَا وَإِلَّا لَكَانَ عَبَثًا خَالِيًا عَنْ الْحِكْمَةِ، وَهُوَ نَقْضٌ فَجَوَابُهُ الْمُعَارَضَةُ بِأَنَّهُ مِلْكُ

الْوَقْفَ تَارَةً بِعَدَمِ الْحُكْمِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مَمْنُوعٌ مِنْ اللَّهِ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، أَوْ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ وَالْأَوَّلُ حَظْرٌ وَالثَّانِي إبَاحَةٌ، وَلَا خُرُوجَ عَنْ النَّقِيضَيْنِ. وَأَجَابَ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُبَاحَ هُوَ الَّذِي أَعْلَمَ الشَّارِعُ فَاعِلَهُ أَوْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ، وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي شَيْءٍ لَمْ يُعْلِمْ الشَّارِعُ بِالْحَرَجِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَعَدَمِهِ فَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ يُعْلِمْ الشَّارِعُ بِالْحَرَجِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَعَدَمِ الْحَرَجِ لَمْ يُعْلِمْ الشَّارِعُ بِعَدَمِ الْحَرَجِ فِيهِ. وَهَذَا كَلَامٌ حَشْوٌ وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا، وَقَدْ فُسِّرَ الْوَقْفُ تَارَةً بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا أَمْ لَا وَإِنْ كَانَ حُكْمٌ، فَلَا نَعْلَمُ أَنَّهُ حَظْرٌ، أَوْ إبَاحَةٌ أَمَّا عَدَمُ الْعِلْمِ بِأَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا أَمْ لَا فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى حُكْمًا لَازِمًا إمَّا بِالْمَنْعِ، أَوْ بِعَدَمِهِ وَأَمَّا أَنَّهُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ حَظْرٌ، أَوْ إبَاحَةٌ فَحَقٌّ فَالْحَقُّ عِنْدَنَا أَنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الْحَظْرُ، أَوْ الْإِبَاحَةُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا عِقَابَ عَلَى فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: إنَّا لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ اللَّهِ الْحَظْرُ، أَوْ الْإِبَاحَةُ وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ بِالْإِبَاحَةِ إذْ لَا مَعْنَى لِلْإِبَاحَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ عَلَى الْفِعْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْغَيْرِ فَيَحْرُمُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَالْحِلُّ بِأَنَّهُ رُبَّمَا خَلَقَهُمَا لِيَشْتَهِيَهُ فَتَصِيرَ عَنْهُ فَيُثَابَ عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْإِبَاحَةِ عَبَثٌ وَيُقَالُ: عَلَى الْمُحَرِّمِ إنْ أَرَدْت حُكْمَ الشَّارِعِ بِالْحُرْمَةِ فِي الْأَزَلِ فَغَيْرُ مَعْلُومٍ إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا مُحَرِّمَ، وَلَا مُبِيحَ بَلْ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْمَفْرُوضَ أَنَّهُ لَمْ يُدْرَكْ بِالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَلَا قُبْحُهُ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ، وَإِنْ أَرَدْت الْعِقَابَ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَبَاطِلٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ التَّعْذِيبِ عَلَى مَا صَدَرَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ. فَإِنْ قُلْت: الْحُكْمُ بِالْحَظْرِ وَالْعِقَابُ عَلَى الِانْتِفَاعِ مُتَلَازِمَانِ فَكَيْفَ جَزَمَ بِبُطْلَانِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ. قُلْت: الْحُكْمُ بِالْحَظْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِقَابَ لِجَوَازِ الْعَفْوِ، وَقَدْ يُقَالُ: عَلَى الْمُحَرِّمِ إنَّ عَدَمَ الْحُرْمَةِ مَعْلُومٌ قَطْعًا، فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ بَحْرًا لَا يُنْزَفُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْجُودِ وَأَخْذُ مَمْلُوكِهِ قَطْرَةً مِنْ ذَلِكَ الْبَحْرِ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ تَحْرِيمُهَا، فَإِنْ اُسْتُدِلَّ بِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَتَحْرُمُ أُجِيبَ بِأَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ عَقْلًا مَمْنُوعَةٌ، فَإِنَّهَا تُبْتَنَى عَلَى السَّمْعِ، وَلَوْ سَلِمَ فَذَلِكَ فِيمَنْ يَلْحَقُهُ ضَرَرٌ مَا بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ وَالْمَالِكُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُنَزَّهٌ عَنْ الضَّرَرِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْخِلَافُ فِيمَا لَمْ يُدْرَكْ بِالْعَقْلِ حُسْنُهُ، وَلَا قُبْحُهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِحُرْمَتِهِ، أَوْ إبَاحَتِهِ. قُلْت: الْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ جَوَازُ الِانْتِفَاعِ خَالِيًا عَنْ أَمَارَةِ الْمَفْسَدَةِ وَبِالْحُرْمَةِ عَدَمُهُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي عَدَمَ إدْرَاكِ الْعَقْلِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ صِفَةً مُحَسِّنَةً، أَوْ مُقَبِّحَةً، وَأَمَّا التَّوَقُّفُ، فَقَدْ فُسِّرَ تَارَةً بِعَدَمِ الْحُكْمِ وَتَارَةً بِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْحُكْمِ أَمَّا بِمَعْنَى نَفْيِ التَّصْدِيقِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ أَيْ لَا يُدْرَكُ أَنَّ هُنَاكَ حُكْمًا أَمْ لَا، وَأَمَّا بِمَعْنَى نَفْيِ تَصَوُّرِ الْحُكْمِ عَلَى التَّعْيِينِ مَعَ التَّصْدِيقِ

وَالتَّرْكِ، وَهَذَا حَاصِلٌ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ أَنَّ الْحُكْمَ أَيُّهُمَا وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ» الْحَدِيثَ «إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ» . (وَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُثْبِتًا وَالْآخَرُ نَافِيًا فَإِنْ كَانَ النَّفْيُ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ كَانَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ بِهِ بَلْ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَالْمُثْبِتُ، أَوْلَى لِمَا قُلْنَا فِي الْمُحَرِّمِ وَالْمُبِيحِ وَإِنْ احْتَمَلَ الْوَجْهَيْنِ يُنْظَرُ فِيهِ) أَيْ إنْ احْتَمَلَ النَّفْيُ أَنْ يُعْرَفَ بِدَلِيلٍ وَأَنْ يُعْرَفَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ النَّفْيِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ يَكُونُ كَالْإِثْبَاتِ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَالْإِثْبَاتُ أَوْلَى. (فَمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ حَلَالٌ» مُثْبِتٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِثُبُوتِ حُكْمٍ فِي الْجُمْلَةِ أَيْ لَا يُدْرَكُ أَنَّ الْحُكْمَ حَظْرٌ أَوْ إبَاحَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا الْأَوَّلُ، وَهُوَ التَّوَقُّفُ بِمَعْنَى عَدَمِ الْحُكْمِ فَبَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ جَزْمٌ بِعَدَمِ الْحُكْمِ لَا تَوَقُّفٌ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُسَمَّى تَوَقُّفًا بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ الْعَمَلِ بِالْفِعْلِ تَكَلُّفٌ. وَثَانِيهَا أَنَّ الْحُكْمَ قَدِيمٌ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، فَلَا يُتَصَوَّرُ عَدَمُهُ وَالتَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ جَائِزٌ عِنْدَهُ، فَلَا يَتَوَقَّفُ تَعَلُّقُ الْحُكْمِ بِالْفِعْلِ عَلَى الْبَعْثَةِ إذْ لَا مُوجِبَ لِلتَّوَقُّفِ سِوَى التَّحَرُّزِ عَلَى تَكْلِيفِ الْمُحَالِ وَرُدَّ بِأَنَّ تَجْوِيزَ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ يَسْتَلْزِمُ الْقَوْلَ بِوُقُوعِهِ، وَلَوْ سَلِمَ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَتَجْوِيزُ التَّكْلِيفِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلْأَشْعَرِيِّ بَلْ هُوَ يُنَافِي مَذْهَبَهُ فِي الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَلَا يَصْلُحُ إلْزَامًا لَهُ. وَثَالِثُهَا أَنَّ الْفِعْلَ إمَّا مَمْنُوعٌ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَحْرُمُ، أَوْ غَيْرُ مَمْنُوعٍ فَيُبَاحُ وَأَجَابَ الْإِمَامُ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَدَمَ الْمَنْعِ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَلْزِمُ الْإِبَاحَةَ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مَا أَذِنَ الشَّارِعُ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ، وَهَذَا مَعْنَى إعْلَامِ الشَّارِعِ نَصًّا، أَوْ دَلَالَةً بِأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَى فَاعِلِهِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَعَدَمُ الْمَنْعِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ. وَاعْتِرَاضُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَيْهِ ظَاهِرٌ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ التَّنَزُّلِ إلَى أَنَّ لِلْعَقْلِ حُكْمًا فِي الْأَفْعَالِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْإِبَاحَةِ إذْنُ الشَّارِعِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بَلْ مَعْنَاهَا جَوَازُ الِانْتِفَاعِ خَالِيًا عَنْ أَمَارَةِ الْمَفْسَدَةِ، وَأَمَّا عَدَمُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ فَمِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ خِلَافٌ. وَمَنْشَأُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ مَعَ أَنَّهُ كَلَامٌ عَلَى السَّنَدِ عَدَمُ تَحْرِيرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ وَتَحْقِيقِ مُرَادِ الْإِمَامِ، فَإِنَّ مَحَلَّ النِّزَاعِ هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ الشَّارِعِ لِعَدَمِ الْبَعْثَةِ، وَلَمْ يُدْرِكْ فِيهِ الْعَقْلُ جِهَةَ حُسْنٍ، وَلَا قُبْحٍ كَأَكْلِ الْفَوَاكِهِ مَثَلًا فَهَلْ لِلْعَقْلِ أَنَّهُ يَحْكُمُ حُكْمًا عَامًّا بِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ مَأْذُونٌ فِيهِ، أَوْ مَمْنُوعٌ عَنْهُ وَمُرَادُ الْإِمَامِ أَنَّ مَا لَمْ يُمْنَعْ عَنْهُ أَيْ مَا لَمْ يُدْرِكْ الْعَقْلُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْهُ فِي حُكْمِ الشَّارِعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا أَيْ مَأْذُونًا فِيهِ

وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ نَافٍ فَإِنَّهُ اُتُّفِقَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ وَالْإِحْرَامُ حَالَةٌ مَخْصُوصَةٌ تُدْرَكُ عِيَانًا فَكِلَاهُمَا سَوَاءٌ فَرُجِّحَ بِالرَّاوِي وَرُوِيَ أَنَّهُ الْمُحْرِمُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ وَلَا يَعْدِلُهُ يَزِيدُ بْنُ الْأَصَمِّ وَنَحْوُهُ) هَذَا نَظِيرُ النَّفْيِ الَّذِي يُعْرَفُ بِالدَّلِيلِ. اعْلَمْ أَنَّ نِكَاحَ الْمُحْرِمِ جَائِزٌ عِنْدَنَا تَمَسُّكًا بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ» وَتَمَسَّكَ الْخَصْمُ بِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَزَوَّجَ، وَهُوَ حَلَالٌ» وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الشَّارِعِ إعْلَامًا بِأَنْ يَرِدَ دَلِيلٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، أَوْ دَلَالَةً بِأَنْ يُرْشِدَ الشَّارِعُ الْعَبْدَ بِعَقْلِهِ إلَى أَنْ يُدْرِكَ ذَلِكَ، فَلَا يَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَمْ يُعْلِمْ الشَّارِعُ بِالْحَرَجِ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَعَدَمِ الْحَرَجِلَمْ يُعْلِمْ الشَّارِعُ بِعَدَمِ الْحَرَجِ فِيهِ لِيَكُونَ حَشْوًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَلْ يَكُونُ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَدُلَّ الشَّارِعُ فَاعِلَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِأَنْ يُدْرِكَ ذَلِكَ بِعَقْلِهِ، وَهَذَا كَلَامٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّانِي، وَهُوَ التَّوَقُّفُ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ حُكْمًا لِلَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ فِعْلٍ حُكْمًا إمَّا بِالْمَنْعِ عَنْهُ، أَوْ بِعَدَمِ الْمَنْعِ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْحُكْمِ بِالْمَنْعِ وَالْحُكْمِ بِعَدَمِ الْمَنْعِ حَتَّى يَمْتَنِعَ ارْتِفَاعُهُمَا وَإِنَّمَا التَّنَاقُضُ بَيْنَ الْحُكْمِ وَعَدَمِ الْحُكْمِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ التَّوَقُّفُ بِمَعْنَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِأَنَّ حُكْمَهُ الْإِبَاحَةُ أَوْ الْحَظْرُ فَحَقٌّ إذْ التَّقْدِيرُ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ مِنْ الشَّارِعِ، وَلَا مَجَالَ مِنْ الْعَقْلِ، وَهَذَا يُسَاوِي الْقَوْلَ بِالْإِبَاحَةِ مِنْ جِهَةِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى الْفِعْلِ، وَلَا عَلَى التَّرْكِ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ الْمُتَوَقِّفِ هُوَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ بِالْعِقَابِ وَعَدَمِهِ. وَعَدَمُ الْقَوْلِ بِالْعِقَابِ أَعَمُّ مِنْ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْعِقَابِ فَكَيْفَ يَتَسَاوَيَانِ؟ فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا عِقَابَ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْعِقَابِ قَوْلٌ بِالْإِبَاحَةِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنَاهَا عَلَى مَا فَسَّرَهَا، فَلَا تَوَقُّفَ. (قَوْلُهُ: وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى جَعْلِ الْمُحَرِّمِ نَاسِخًا لِلْمُبِيحِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ قَبْلَ الْبَعْثَةِ كَانَ الْأَصْلُ الْإِبَاحَةَ. (قَوْلُهُ: فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى) إذْ لَوْ جَعَلَ الْبَاقِيَ أَوْلَى يَلْزَمُ تَكَرُّرُ النَّسْخِ بِتَغْيِيرِ الْمُثْبِتِ لِلنَّفْيِ الْأَصْلِيِّ، ثُمَّ النَّافِي لِلْإِثْبَاتِ وَأَيْضًا الْمُثْبِتُ يَشْتَمِلُ عَلَى زِيَادَةِ عِلْمٍ كَمَا فِي تَعَارُضِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ بِجَعْلِ الْجَرْحِ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْمُثْبِتَ مُؤَسِّسٌ وَالنَّافِيَ مُؤَكِّدٌ وَالتَّأْسِيسُ خَيْرٌ مِنْ التَّوْكِيدِ وَعَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّ النَّافِيَ كَالْمُثْبِتِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَقَدْ دَلَّ بَعْضُ الْمَسَائِلِ عَلَى تَقْدِيمِ الْمُثْبِتِ وَبَعْضُهَا عَلَى تَقْدِيمِ النَّافِي فَلِذَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى بَيَانِ ضَابِطٍ فِي تَسَاوِيهِمَا وَتَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهُوَ أَنَّ النَّفْيَ إنْ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ فَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ وَإِلَّا فَإِنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ بِالدَّلِيلِ تَسَاوَيَا، وَإِنْ احْتَمَلَ الْأَمْرَيْنِ يُنْظَرُ لِيُتَبَيَّنَ الْأَمْرُ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي بَابِ

[فصل ما يقع به الترجيح]

فَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي الْإِحْرَامِ، أَوْ فِي الْحِلِّ الَّذِي بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَمَعْنَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي الْإِحْرَامِ أَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْإِحْرَامُ بَعْدُ وَمَعْنَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي الْحِلِّ الَّذِي بَعْدَ الْإِحْرَامِ أَنَّ الْإِحْرَامَ تَغَيَّرَ إلَى الْحِلِّ فَالْأَوَّلُ نَافٍ وَالثَّانِي مُثْبِتٌ لَكِنَّ الْإِحْرَامَ حَالَةٌ مَخْصُوصَةٌ مُدْرَكَةٌ عِيَانًا فَتَكُونُ كَالْإِثْبَاتِ فَرَجَّحْنَا بِالرَّاوِي، وَهُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (وَنَحْوُ أُعْتِقَتْ بَرِيرَةُ وَزَوْجُهَا حُرٌّ مُثْبِتٌ وَأُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ نَافٍ، وَهَذَا النَّفْيُ مِمَّا يُعْرَفُ بِظَاهِرِ الْحَالِ فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى) هَذَا نَظِيرُ النَّفْيِ الَّذِي لَا يَكُونُ بِالدَّلِيلِ. اعْلَمْ أَنَّ الْأَمَةَ الَّتِي زَوْجُهَا حُرٌّ إذَا أُعْتِقَتْ يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْعِتْقِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَنَا أَنَّهَا أُعْتِقَتْ بَرِيرَةُ وَزَوْجُهَا حُرٌّ وَيُرْوَى أَنَّهَا أُعْتِقَتْ وَزَوْجُهَا عَبْدٌ فَالْأَوَّلُ مُثْبِتٌ وَالثَّانِي نَافٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ رِقِّيَّتَهُ لَمْ تَتَغَيَّرْ بَعْدُ، وَهَذَا نَفْيٌ لَا يُدْرَكُ عِيَانًا بَلْ بَقَاءً عَلَى مَا كَانَ فَالْمُثْبِتُ أَوْلَى. (وَإِذَا أَخْبَرَ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ وَنَجَاسَتِهِ فَالطَّهَارَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَفْيًا لَكِنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْمَعْرِفَةَ بِالدَّلِيلِ فَيُسْأَلُ فَإِنْ بَيَّنَ وَجْهَ دَلِيلِهِ كَانَ كَالْإِثْبَاتِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فَالنَّجَاسَةُ أَوْلَى) هَذَا نَظِيرُ النَّفْيِ الَّذِي يُحْتَمَلُ مَعْرِفَتُهُ بِالدَّلِيلِ وَتُحْتَمَلُ بِنَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ قَدْ تُدْرَكُ بِظَاهِرِ الْحَالِ وَقَدْ تُدْرَكُ عِيَانًا بِأَنْ غَسَلَ الْإِنَاءَ بِمَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ بِالْمَاءِ الْجَارِي وَمَلَأَهُ بِأَحَدِهِمَا، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهُ أَصْلًا، وَلَمْ يُلَاقِهِ شَيْءٌ نَجِسٌ، فَإِذَا أَخْبَرَ وَاحِدٌ بِنَجَاسَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّوَايَةِ تَتَفَرَّعُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ بِأَنْ يَتَسَاوَى النَّافِي وَالْمُثْبِتُ إنْ عُلِمَ أَنَّ النَّفْيَ بِدَلِيلٍ وَيُقَدَّمُ الْمُثْبِتُ إنْ عُلِمَ أَنَّ النَّفْيَ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَإِلَّا يُنْظَرْ فِيهِ لِيُتَبَيَّنَ. (قَوْلُهُ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْحِلِّ الْأَصْلِيِّ) كَأَنَّهُ يُرِيدُ اتِّفَاقَ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِلَّا فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَزَوَّجَاهُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ» . كَذَا فِي مَعْرِفَةَ الصَّحَابَةِ لِلْمُسْتَغْفِرَيَّ (قَوْلُهُ: وَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ، فَلَا يُحْمَلُ عَلَى النَّسْخِ) إذْ لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي بَيَانِ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْحُكْمِ. (قَوْلُهُ: بَعْدَ شَهَادَةِ قَلْبِهِ) أَيْ قَلْبِ طَالِبِ الْحُكْمِ، وَمَنْ هُوَ بِصَدَدِ مَعْرِفَتِهِ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ فَالْمُتَعَارَضَانِ لَا يَبْغِيَانِ حُجَّةً فِي حَقِّ إصَابَةِ الْحَقِّ وَلِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ نُورٌ يُدْرِكُ بِهِ مَا هُوَ بَاطِنٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ. (قَوْلُهُ: فَكُلُّ وَاحِدٍ) يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْمُجْتَهِدُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاجْتِهَادَيْنِ مُصِيبًا بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْقِيَاسَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ وَضَعَهُ الشَّارِعُ لِلْعَمَلِ بِهِ غَيْرَ مُصِيبٍ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَدْلُولِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ دَلِيلًا فِي حَقِّ الْعَمَلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا فِي حَقِّ الْعِلْمِ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّصَّيْنِ، فَإِنَّ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَاحِدٌ فِي الْعَمَلِ وَالْعِلْمِ جَمِيعًا لِجَوَازِ النَّسْخِ [فَصْلٌ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ كَثِيرٌ يُعْرَفُ بَعْضُهَا مِمَّا سَلَفَ لَا سِيَّمَا وُجُوهُ التَّرْجِيحِ فِي النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا تَرْجِيحُ النُّصُوصِ فَيَقَعُ بِالْمَتْنِ وَالسَّنَدِ

[الأمور التي ذكرت في ترجيح القياس]

الْمَاءِ وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهِ فَإِنْ تَمَسَّكَ بِظَاهِرِ الْحَالِ فَإِخْبَارُ النَّجَاسَةِ أَوْلَى وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالدَّلِيلِ كَانَ مِثْلَ الْإِثْبَاتِ. (وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَتَفَرَّعُ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ) . (وَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَفِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَعْنَاهُ إذَا تَعَارَضَ قِيَاسَانِ (فَلَا يُحْمَلُ عَلَى النَّسْخِ. وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ فِيمَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ كَالْقِيَاسِ فَيَأْخُذُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ) مِنْ الْقِيَاسَيْنِ، وَكَذَا يَأْخُذُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ وَالْقِيَاسِ (بَعْدَ شَهَادَةِ قَلْبِهِ، وَلَا يَسْقُطَانِ بِالتَّعَارُضِ كَمَا يَسْقُطُ النَّصَّانِ حَتَّى يُعْمَلَ بَعْدَهُ بِظَاهِرِ الْحَالِ إذْ فِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ (إنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ لِلْجَهْلِ الْمَحْضِ بِالنَّاسِخِ مِنْهُمَا، فَلَا يَصِحُّ عَمَلُهُ بِأَحَدِهِمَا مَعَ الْجَهْلِ وَهُنَا) أَيْ فِي الْقِيَاسَيْنِ (لَيْسَ) أَيْ التَّعَارُضُ (لِجَهْلٍ مَحْضٍ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُجْتَهِدَ، وَهُوَ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظًا بَلْ دَلَالَةً (فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الِاجْتِهَادَيْنِ مُصِيبٌ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا بِالنَّظَرِ إلَى الْمَدْلُولِ عَلَى مَا يَأْتِي فَكُلُّ وَاحِدٍ دَلِيلٌ لَهُ فِي حَقِّ الْعَمَلِ) . (فَصْلٌ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ فَعَلَيْك اسْتِخْرَاجُهُ مِنْ مَبَاحِثِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَتْنًا وَسَنَدًا) أَمَّا الْمَتْنُ فَكَتَرْجِيحِ النَّصِّ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمُفَسَّرِ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْحُكْمِ وَالْأَمْرِ الْخَارِجِ وَالْمُرَادُ بِالْمَتْنِ مَا يَتَضَمَّنُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَبِالسَّنَدِ الْإِخْبَارُ عَنْ طَرِيقِ الْمَتْنِ مِنْ تَوَاتُرٍ وَمَشْهُورٍ وَآحَادٍ مَقْبُولٍ أَوْ مَرْدُودٍ فَالْأَوَّلُ كَتَرْجِيحِ النَّصِّ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْمُفَسَّرِ عَلَى الْمُجْمَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالثَّانِي يَقَعُ فِي الرَّاوِي كَالتَّرْجِيحِ بِفِقْهِ الرَّاوِي، وَفِي الرِّوَايَةِ كَتَرْجِيحِ الْمَشْهُورِ عَلَى الْآحَادِ، وَفِي الْمَرْوِيِّ كَتَرْجِيحِ الْمَسْمُوعِ مِنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا يَحْتَمِلُ السَّمَاعَ كَمَا إذَا قَالَ أَحَدُهُمَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْآخَرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْهُ كَتَرْجِيحِ مَا لَمْ يَثْبُتْ إنْكَارٌ لِرِوَايَتِهِ عَلَى مَا ثَبَتَ. وَالثَّالِثُ كَتَرْجِيحِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَالرَّابِعُ كَتَرْجِيحِ مَا يُوَافِقُ الْقِيَاسَ عَلَى مَا لَا يُوَافِقُهُ وَلِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ تَفَاصِيلُ مَذْكُورَةٌ فِي مَوْضِعِهَا [الْأُمُور الَّتِي ذُكِرَتْ فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ] وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَيَقَعُ فِيهِ التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ أَصْلِهِ، أَوْ فَرْعِهِ، أَوْ عِلَّتِهِ، أَوْ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ يُطْلَبُ مِنْ أُصُولِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَقَدْ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَاهُنَا إلَى بَعْضِ مَا يَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ بِحَسَبِ الْعِلَّةِ كَتَرْجِيحِ قِيَاسٍ عُرِفَ عِلِّيَّةُ الْوَصْفِ فِيهِ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى مَا عُرِفَ عِلِّيَّتُهُ بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ فِي الْإِيمَاءِ يُرَجَّحُ مَا يُفِيدُ ظَنًّا أَغْلَبَ وَأَقْرَبَ إلَى الْقَطْعِ عَلَى غَيْرِهِ وَمَا عُرِفَ بِالْإِيمَاءِ مُطْلَقًا يُرَجَّحُ عَلَى مَا عُرِفَ بِالْمُنَاسَبَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَافِ وَلِأَنَّ الشَّارِعَ أَوْلَى بِتَعْلِيلِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الرَّاجِحَ تَأْثِيرُ الْعَيْنِ، ثُمَّ النَّوْعِ، ثُمَّ الْجِنْسِ الْقَرِيبِ، ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَأَنَّ اعْتِبَارَ شَأْنِ الْحُكْمِ لِكَوْنِهِ الْمَقْصُودَ أَوْلَى وَأَهَمَّ مِنْ اعْتِبَارِ شَأْنِ الْعِلَّةِ وَيُرَجَّحُ تَأْثِيرُ جِنْسِ الْعِلَّةِ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ عَلَى تَأْثِيرِ نَوْعِ الْعِلَّةِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، وَعِنْدَ التَّرْكِيبِ

النَّصِّ وَالْمُحْكَمِ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَالْحَقِيقَةِ عَلَى الْمَجَازِ وَالصَّرِيحِ عَلَى الْكِنَايَةِ وَالْعِبَارَةِ عَلَى الْإِشَارَةِ وَالْإِشَارَةِ عَلَى الدَّلَالَةِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الِاقْتِضَاءِ، وَأَمَّا السَّنَدُ فَكَتَرْجِيحِ الْمَشْهُورِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالتَّرْجِيحِ بِفِقْهِ الرَّاوِي وَبِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا بِالرِّوَايَةِ (وَالْقِيَاسِ) عَطْفٌ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَمَا عُرِفَ عِلِّيَّتُهُ نَصًّا صَرِيحًا أَوْلَى مِمَّا عُرِفَ إيمَاءً وَمَا عُرِفَ إيمَاءً فَبَعْضُهُ أَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ ثُمَّ مَا عُرِفَ إيمَاءً أَوْلَى مِمَّا عُرِفَ بِالْمُنَاسَبَةِ وَأَيْضًا مَا عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ تَأْثِيرُ نَوْعِهِ فِي نَوْعِهِ أَوْلَى مِمَّا عُرِفَ بِالْإِجْمَاعِ تَأْثِيرُ الْجِنْسِ فِي النَّوْعِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَوْلَى مِنْ الْجِنْسِ فِي الْجِنْسِ ثُمَّ الْجِنْسُ الْقَرِيبُ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِ الْقَرِيبِ ثُمَّ الْمُرَكَّبُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ أَوْلَى مِنْ الْمُفْرَدِ وَأَقْسَامُ الْمُرَكَّبَاتِ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَمَنْ أَتْقَنَ الْمَبَاحِثَ السَّابِقَةَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. (وَاَلَّذِي ذَكَرُوا فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ قُوَّةٌ لَا أَثَرٌ) أَيْ قُوَّةُ التَّأْثِيرِ كَمَا مَرَّ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَكَمَا فِي مَسْأَلَةِ طَوْلِ الْحُرَّةِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: يَرِقُّ مَاؤُهُ مَعَ غُنْيَةٍ عَنْهُ، فَلَا يَجُوزُ كَاَلَّذِي تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَقُلْنَا هَذَا نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَهْرًا يَصْلُحُ لِلْحُرَّةِ وَلِلْأَمَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا يَتَرَكَّبُ مِنْ رَاجِحَيْنِ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُرَكَّبِ مِنْ مَرْجُوحَيْنِ، أَوْ مُسَاوٍ وَمَرْجُوحٍ كَتَقْدِيمِ الْمُرَكَّبِ مِنْ تَأْثِيرِ النَّوْعِ فِي النَّوْعِ وَالْجِنْسِ الْقَرِيبِ فِي النَّوْعِ عَلَى الْمُرَكَّبِ مِنْ تَأْثِيرِ النَّوْعِ فِي الْجِنْسِ الْقَرِيبِ وَالْجِنْسِ الْقَرِيبِ فِي النَّوْعِ. وَفِي الْمُرَكَّبَيْنِ اللَّذَيْنِ يَشْتَمِلُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى رَاجِحٍ وَمَرْجُوحٍ يُقَدَّمُ مَا يَكُونُ الرَّاجِحُ مِنْهُ فِي جَانِبِ الْحُكْمِ عَلَى مَا يَكُونُ فِي جَانِبِ الْعِلَّةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأَقْسَامُ الْمُرَكَّبَاتِ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ فِي الْمَبَاحِثِ السَّابِقَةِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ بِذِكْرِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ مِمَّا يَقَعُ بِهِ فِي تَرْجِيحِ الْقِيَاسِ وَهِيَ قُوَّةُ الْأَثَرِ وَقُوَّةُ الثَّبَاتِ عَلَى الْحُكْمِ وَكَثْرَةُ الْأُصُولِ وَالْعَكْسُ. (قَوْلُهُ: كَمَا مَرَّ فِي الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ) مِنْ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لِقُوَّةِ أَثَرِهِ يُقَدَّمُ عَلَى الْقِيَاسِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ التَّأْثِيرِ إذْ الْعِبْرَةُ لِلتَّأْثِيرِ وَقُوَّتِهِ دُونَ الْوُضُوحِ، أَوْ الْخَفَاءِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً بِالتَّأْثِيرِ فَالتَّفَاوُتُ فِيهِ يُوجِبُ التَّفَاوُتَ فِي الْقِيَاسِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهَا لَمْ تَصِرْ حُجَّةً بِالْعَدَالَةِ لِتَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِهَا بَلْ بِالْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْحُرِّيَّةِ وَهِيَ مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ الْعَدَالَةُ لِظُهُورِ جَانِبِ الصِّدْقِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْعَدَالَةَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ؛ لِأَنَّهُ إنْ انْزَجَرَ عَنْ جَمِيعِ مَا يَعْتَقِدُ فِيهِ الْحُرْمَةَ فَعَدْلٌ وَإِلَّا فَلَا. (قَوْلُهُ: وَكَمَا فِي مَسْأَلَةِ طَوْلِ الْحُرَّةِ) أَيْ الْغِنَى وَالْقُدْرَةِ عَلَى تَزَوُّجِ الْحُرَّةِ وَالْأَصْلُ الطَّوْلُ عَلَى الْحُرَّةِ أَيْ الْفَضْلُ فَاتَّسَعَ فِيهِ بِحَذْفِ حَرْفِ الصِّلَةِ، ثُمَّ أُضِيفَ إضَافَةَ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ فَالْحُرُّ الَّذِي لَهُ طَوْلُ الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قِيَاسًا عَلَى الَّذِي تَحْتَهُ

(وَقَالَ تَزَوَّجْ مَنْ شِئْت فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ، وَهَذَا أَقْوَى أَثَرًا) أَيْ قِيَاسُنَا أَقْوَى تَأْثِيرًا مِنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (إذْ زِيَادَةُ مَحَلِّ حِلِّ الْعَبْدِ عَلَى حِلِّ الْحُرِّ قَلْبُ الْمَشْرُوعِ) وَتَضْيِيعُ الْمَاءِ بِالْعَزْلِ بِإِذْنِ الْحُرَّةِ يَجُوزُ فَالْإِرْقَاقُ دُونَهُ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ تَضْيِيعَ الْأَصْلِ وَفِي الثَّانِي تَضْيِيعَ الْوَصْفِ، وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ وَنِكَاحُ الْأَمَةِ لِمَنْ لَهُ سُرِّيَّةٌ جَائِزٌ مَعَ وُجُودِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعِلَّةِ وَكَمَا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: الرِّقُّ مِنْ الْمَوَانِعِ، وَكَذَا الْكُفْرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا يَصِيرُ كَالْكُفْرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحُرَّةٌ بِجَامِعِ إرْقَاقِ الْمَاءِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ وَالْإِرْقَاقُ بِمَنْزِلَةِ الْإِهْلَاكِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَوْلُ الْحُرَّةِ وَخَشِيَ الْعَنَتَ أَيْ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا، فَإِنَّهُ لَا غُنْيَةَ عَنْ الْإِرْقَاقِ فَيَجُوزُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَدَرَ الْعَبْدُ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ فَتَزَوَّجَ أَمَةً، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِرْقَاقٍ لِلْمَاءِ بَلْ امْتِنَاعٌ عَنْ تَحْصِيلِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَبِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً عَلَى أَمَةٍ فَإِنَّهُ يَبْقَى نِكَاحُ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِرْقَاقٍ ابْتِدَاءً بَلْ بَقَاءٌ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَحْرُمُ كَالرِّقِّ يَبْقَى مَعَ الْإِسْلَامِ إذْ لَيْسَ لِلْبَقَاءِ هَاهُنَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَقُلْنَا نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ فَيَمْلِكُهُ الْحُرُّ كَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الَّتِي يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ، وَهَذَا أَقْوَى تَأْثِيرًا مِنْ الْإِرْقَاقِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَثَرُهَا فِي الْإِطْلَاقِ وَالِاتِّسَاعِ فِي بَابِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ مِنْ النِّعَمِ وَالرِّقُّ مِنْ أَوْصَافِ النُّقْصَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَثَرُهُ فِي الْمَنْعِ وَالتَّضْيِيقِ فَاتِّسَاعُ الْحِلِّ الَّذِي هُوَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ لِلْعَبْدِ وَتَضْيِيقُهُ عَلَى الْحُرِّ بِأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ قَلَبَ الْمَشْرُوعَ وَعَكَسَ الْمَعْقُولَ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الشَّرَفِ وَلِهَذَا جَازَ لِمَنْ كَانَ أَفْضَلَ الْبَشَرِ مَا فَوْقَ الْأَرْبَعِ وَرُبَّمَا يُجَابُ بِأَنَّ هَذَا التَّضْيِيقَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ حَيْثُ مَنَعَ الشَّرِيفَ مِنْ تَزَوُّجِ الْخَسِيسِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ مَظِنَّةِ الْإِرْقَاقِ وَذَلِكَ كَمَا جَازَ نِكَاحُ الْمَجُوسِيَّةِ لِلْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ. (قَوْلُهُ: وَتَضْيِيعُ الْمَاءِ) إشَارَةٌ إلَى وَجْهَيْ ضَعْفٍ فِي قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْأَوَّلُ أَنَّ الْإِرْقَاقَ الَّذِي هُوَ إهْلَاكٌ حُكْمًا دُونَ تَضْيِيعِ الْمَاءِ بِالْعَزْلِ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ حَقِيقَةً إذْ فِي الْإِرْقَاقِ إنَّمَا تَزُولُ صِفَةُ الْحُرِّيَّةِ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ رُبَّمَا يُرْجَى زَوَالُهُ بِالْعِتْقِ، وَفِي الْعَزْلِ يَفُوتُ أَصْلُ الْوَلَدِ، فَإِذَا جَازَ هَذَا فَالْإِرْقَاقُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا امْتِنَاعٌ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوُجُودِ، وَفِي الْإِرْقَاقِ مُبَاشَرَةُ السَّبَبِ عَلَى وَجْهٍ يُفْضِي إلَى الْإِهْلَاكِ قُلْنَا فِي التَّزَوُّجِ أَيْضًا امْتِنَاعٌ عَنْ إيجَابِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ إذْ الْمَاءُ لَا يُوصَفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ بَلْ هُوَ قَابِلٌ لَأَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرَّقِيقُ وَالْحُرُّ فَتَزَوُّجُ الْأَمَةِ امْتِنَاعٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ وُجُودِ الْحُرِّيَّةِ فَحِينَ يُخْلَقُ يُخْلَقُ رَقِيقًا إلَّا أَنَّهُ يَنْتَقِلُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ إلَى الرِّقِّيَّةِ وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْإِهْلَاكِ إنَّمَا هُوَ فِي إرْقَاقِ الْحُرِّ. الثَّانِي: إنَّ وَصْفَ إرْقَاقِ الْمَاءِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ غَيْرُ مُطَّرِدٍ لِوُجُودِهِ فِيمَنْ لَهُ سُرِّيَّةٌ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ مَعَ جَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ لَهُ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ

بِلَا كِتَابٍ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ بِإِحْلَالِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ وَقُلْنَا هُوَ نِكَاحٌ يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ فَكَذَا الْحُرُّ الْمُسْلِمُ عَلَى مَا مَرَّ. وَأَيْضًا هُوَ دِينٌ يَصِحُّ مَعَهُ لِلْحُرِّ الْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ (فَكَذَا يَصِحُّ لِلْحُرِّ نِكَاحُ الْأَمَةِ) أَيْ دِينُ الْكِتَابِيَّةِ دِينٌ يَصِحُّ مَعَهُ لِلْحُرِّ الْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْحُرَّةِ الَّتِي هِيَ عَلَى هَذَا الدِّينِ فَكَذَا يَصِحُّ لِلْحُرِّ الْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْأَمَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى هَذَا الدِّينِ (فَهَذَا أَقْوَى أَثَرًا؛ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لَا مُحَرِّمٌ) كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْقَسَمِ وَالْحُدُودِ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَهُ شَبَهٌ بِالْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ بِوَاسِطَةِ الْكُفْرِ، فَمِنْ هَذَا الشَّبَهِ قُلْنَا إنَّهُ مَالٌ ثُمَّ لَهُ شَبَهٌ بِالْحُرِّ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِ فَأَوْجَبَ هَذَانِ الشَّبَهَانِ التَّنْصِيفَ فِي اسْتِحْقَاقِ النِّعَمِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْإِنْسَانِ. (فَطَرَفُ الرِّجَالِ يَقْبَلُ الْعَدَدَ بِأَنْ يَحِلَّ لِلْحُرِّ أَرْبَعٌ وَلِلْعَبْدِ ثِنْتَانِ لَا طَرَفُ النِّسَاءِ فَيَنْتَصِفُ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فَتَحِلُّ الْأَمَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى الْحُرَّةِ لَا مُؤَخَّرَةً، فَأَمَّا فِي الْمُقَارَنَةِ فَقَدْ غَلَبَتْ الْحُرْمَةُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْقُرْءِ) أَيْ لَمَّا كَانَ الرِّقُّ مُنَصِّفًا وَطَرَفُ الرِّجَالِ يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ بِالْعَدَدِ فِي حِلِّ النِّكَاحِ بِأَنْ يَحِلَّ لِلْعَبْدِ ثِنْتَانِ وَلِلْحُرِّ أَرْبَعٌ أَمَّا طَرَفُ النِّسَاءِ، فَلَا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَكَيْفَ إذَا كَانَ لَهُ سُرِّيَّةٌ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ. (قَوْلُهُ: وَكَمَا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ) ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قِيَاسًا عَلَى نِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ وَعَلَى مَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ لِلرِّقِّ أَثَرًا فِي تَحْرِيمِ النِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ، وَكَذَا لِلْكُفْرِ كَمَا فِي نِكَاحِ الْحَرْبِيَّةِ لِلْمُسْلِمِ، فَإِذَا اجْتَمَعَ الرِّقُّ وَالْكُفْرُ يَقْوَى الْمَنْعُ كَكُفْرِ الْمَجُوسِيَّةِ، فَلَمْ يَحِلَّ لِلْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَا مَرَّ مِنْ إرْقَاقِ الْمَاءِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ إذْ الضَّرُورَةُ قَدْ ارْتَفَعَتْ بِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ الَّتِي هِيَ أَطْهَرُ مِنْ الْكَافِرَةِ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ قِيَاسًا عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَعَلَى الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَهَذَانِ الْقِيَاسَانِ قَوِيَّانِ تَأْثِيرًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا سَبَقَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ إنَّمَا هُوَ فِي التَّنْصِيفِ دُونَ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ قُلْت: هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِي الْمَرْأَةِ، فَإِنَّ حِلَّهَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَمْلُوكِيَّةِ وَالرِّقُّ يَزِيدُ فِيهَا أَلَا يُرَى أَنَّهَا قَبْلَ الِاسْتِرْقَاقِ لَمْ تَحِلَّ إلَّا بِالنِّكَاحِ وَبَعْدَهُ حَلَّتْ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْيَمِينِ جَمِيعًا. قُلْت: حِلُّ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَيَنْتَصِفُ بِرِقِّهَا كَمَا يَنْتَصِفُ بِرِقِّهِ وَحِلُّ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ دُونَ الْكَرَامَةِ وَلِهَذَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْوَطْءِ، وَلَا تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا. (قَوْلُهُ: فَأَمَّا فِي الْمُقَارَنَةِ، فَقَدْ غَلَبَتْ الْحُرْمَةُ) فَإِنْ قِيلَ: لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ لِإِمْكَانِ حَقِيقَةِ التَّنْصِيفِ بِأَنْ يُقَالَ: لِنِكَاحِ الْأَمَةِ حَالَتَانِ: حَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْ الْحُرَّةِ وَذَلِكَ بِالسَّبْقِ وَحَالَةُ الِانْضِمَامِ وَذَلِكَ بِالْمُقَارَنَةِ، أَوْ التَّأَخُّرِ فَحَلَّتْ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ فَقَطْ تَحْقِيقًا لِلتَّنْصِيفِ قُلْنَا الْمُقَارَنَةُ وَالتَّأَخُّرُ حَالَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ مُتَعَدِّدَتَانِ حَقِيقَةً لَا تَصِيرَانِ وَاحِدَةً بِمُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ عَنْهُمَا

يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ بِالْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ لَا يَحِلُّ لَهَا إلَّا زَوْجٌ وَاحِدٌ، فَلَا يُمْكِنُ تَنْصِيفُ الزَّوْجِ الْوَاحِدِ فَاعْتَبَرْنَا التَّنْصِيفَ بِالْأَحْوَالِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً عَلَى الْحُرَّةِ يَصِحُّ نِكَاحُهَا وَإِنْ كَانَتْ مُتَأَخِّرَةً لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَتْ مُقَارِنَةً لَا يَصِحُّ أَيْضًا تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْأَقْرَاءِ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ يَصِحُّ لِلْحُرَّةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِلْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَأَخِّرَةً عَنْ الْحُرَّةِ، أَوْ مُقَارِنَةً لَهَا فَيَصِحُّ لِلْحُرِّ الْمُسْلِمِ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى الْحُرَّةِ. وَقَوْلُهُ: كَمَا فِي الطَّلَاقِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ كَوْنَ طَلَاقِ الْأَمَةِ اثْنَيْنِ لَيْسَ تَغْلِيبَ الْحُرْمَةِ بَلْ تَغْلِيبَ الْحِلِّ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلطَّلْقَتَيْنِ عَلَيْهَا فَإِنَّ الْحِلّ يَكُونُ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ مَالِكًا لِلطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَمَا فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ قَوْلَهُ: (وَكَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إنَّ الْمَسْحَ فِي التَّخْفِيفِ أَقْوَى أَثَرًا مِنْ الرُّكْنِ فِي التَّثْلِيثِ وَالثَّانِي قُوَّةُ ثَبَاتِهِ عَلَى الْحُكْمِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ كَثْرَةُ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ هَذَا الْوَصْفَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ فِي كُلِّ تَطْهِيرٍ غَيْرِ مَعْقُولٍ كَالتَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْخُفِّ وَالْجَبِيرَةِ وَالْجَوْرَبِ بِخِلَافِ الرُّكْنِ فَإِنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تُوجِبُ التَّكْرَارَ كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ بَلْ الْإِكْمَالَ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ) أَيْ بِالْإِكْمَالِ، وَهُوَ الِاسْتِيعَابُ. (وَكَقَوْلِنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّهُ مُتَعَيِّنٌ، فَلَا يَجِبُ التَّعْيِينُ، وَهَذَا الْوَصْفُ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالِانْضِمَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِالتَّثْلِيثِ، ثُمَّ إلْحَاقُ الْمُقَارَنَةِ بِالتَّأَخُّرِ تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا كَمَا جَعَلَ نِصْفَ الطَّلَاقِ وَاحِدًا مُتَكَامِلًا حَيْثُ جَعَلَ طَلَاقَ الْأَمَةِ ثِنْتَيْنِ لَا وَاحِدَةً احْتِيَاطًا؛ لِأَنَّ الْحِلَّ كَانَ ثَابِتًا بِيَقِينٍ، فَلَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ التَّيَقُّنِ بِنِصْفِ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ وَذَلِكَ فِي الثِّنْتَيْنِ دُونَ الْوَاحِدَةِ فَالتَّشْبِيهُ بِالطَّلَاقِ إنَّمَا هُوَ فِي مُجَرَّدِ تَكْمِيلِ النِّصْفِ بِالْوَاحِدَةِ وَجَعَلَ نِصْفَ الثَّلَاثَةِ اثْنَيْنِ لَا فِي جَعْلِ طَلَاقِ الْأَمَةِ ثِنْتَيْنِ تَغْلِيبًا لِلْحُرْمَةِ حَتَّى يَرِدَ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّ هَذَا تَغْلِيبٌ لِلْحِلِّ دُونَ الْحُرْمَةِ وَسَيَجِيءُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ فِي فَصْلِ الْعَوَارِضِ. (قَوْلُهُ: وَكَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ) يَعْنِي عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَأْثِيرِ الرُّكْنِيَّةِ فِي التَّثْلِيثِ فَتَأْثِيرُ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ أَقْوَى مِنْهُ؛ لِأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالْمَسْحِ خُصُوصًا مَسْحَ بَعْضِ الْمَحَلِّ مَعَ إمْكَانِ الْغَسْلِ، أَوْ مَسْحَ الْكُلِّ لَيْسَ إلَّا لِلتَّخْفِيفِ، وَأَمَّا التَّثْلِيثُ، فَقَدْ يُوجَدُ بِدُونِ الرُّكْنِيَّةِ كَمَا فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَبِالْعَكْسِ كَمَا فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ. (قَوْلُهُ: وَالْإِيمَانِ) هُوَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ يَعْنِي لَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يُعَيِّنَ أَنَّهُ يُؤَدِّي الْفَرْضَ مَعَ أَنَّهُ أَقْوَى الْفُرُوضِ بَلْ عَلَى أَيْ وَجْهٍ يَأْتِي بِهِ يَقَعُ عَنْ الْفَرْضِ لِكَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا غَيْرَ مُتَنَوِّعٍ إلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ وَتَصْحِيحُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَعَ عَلَى الْأَيْمَانِ بِالْفَتْحِ جَمْعِ يَمِينٍ. (قَوْلُهُ: وَنَحْوِهَا) كَتَصَدُّقِ النِّصَابِ عَلَى الْفَقِيرِ بِدُونِ نِيَّةِ الزَّكَاةِ وَكَإِطْلَاقِ النِّيَّةِ فِي الْحَجِّ. (قَوْلُهُ: تَحْقِيقًا لِلْجَبْرِ

الْوَدَائِعِ وَالْمَغْصُوبِ وَرَدِّ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا وَالْأَيْمَانِ وَنَحْوِهَا) فَإِنَّ رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ، فَلَا يَجِبُ أَنْ يُعَيَّنَ أَنَّ هَذَا الرَّدَّ رَدُّ الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ، وَكَذَا لَا يَجِبُ التَّعْيِينُ فِي رَدِّ الْمَبِيعِ بَيْعًا فَاسِدًا، وَكَذَا فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ الْبِرَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مُتَعَيِّنًا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ أَنَّهُ فَعَلَهُ لِأَجْلِ الْبِرِّ. (وَكَمَنَافِعِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ تَحْقِيقًا لِلْجَبْرِ بِالْمِثْلِ تَقْرِيبًا وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ، فَهُوَ عَلَى الْمُعْتَدِي) أَيْ إنْ كَانَ الْمِثْلُ التَّقْرِيبِيُّ، وَهُوَ الضَّمَانُ مُمَاثِلًا فِي الْحَقِيقَةِ لِتِلْكَ الْمَنَافِعِ، فَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَاثِلًا فِي الْحَقِيقَةِ يَكُونُ الْمِثْلُ التَّقْرِيبِيُّ أَفْضَلَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ الْبَاقِيَةَ خَيْرٌ مِنْ الْأَعْرَاضِ الْغَيْرِ بَاقِيَةٍ، وَهَذَا الْفَضْلُ عَلَى الْمُتَعَدِّي أَوْلَى مِنْ إهْدَارِ حَقِّ الْمَظْلُومِ اللَّازِمِ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ (وَلِأَنَّ إهْدَارَ الْوَصْفِ أَسْهَلُ مِنْ إهْدَارِ الْأَصْلِ) يَعْنِي إنْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَا يَلْزَمُ إلَّا إهْدَارُ كَوْنِ الْمُمَاثَلَةِ تَامَّةً وَإِنْ لَمْ نُوجِبْ الضَّمَانَ يَلْزَمُ إهْدَارُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْمِثْلِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ فَالْأَوَّلُ أَسْهَلُ مِنْ هَذَا. (قُلْنَا التَّقْيِيدُ بِالْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي كُلِّ بَابٍ كَالْأَمْوَالِ كُلِّهَا وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا وَوَضْعُ الضَّمَانِ عَنْ الْمَعْصُومِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ) أَيْ عَدَمُ إيجَابِ الضَّمَانِ فِي إتْلَافِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ (كَإِتْلَافِ الْعَادِلِ مَالَ الْبَاغِي وَالْحَرْبِيِّ مَالَ الْمُسْلِمِ وَالْفَضْلُ عَلَى الْمُتَعَدِّي غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . ـــــــــــــــــــــــــــــQوَبِالْمِثْلِ تَقْرِيبًا) وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ كَالْعَيْنِ وَالتَّفَاوُتُ الْحَاصِلُ بِالْعَيْنِيَّةِ وَالْعَرَضِيَّةِ مَجْبُورٌ بِكَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ فِي جَانِبِ الْمَنْفَعَةِ لِظُهُورِ أَنَّ مَنْفَعَةَ شَهْرٍ وَاحِدٍ أَكْثَرُ أَجْزَاءً مِنْ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَاسْتَوَيَا قِيمَةً وَبَقِيَ التَّفَاوُتُ فِيمَا وَرَاءَ الْقِيمَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّفَاوُتِ فِي الْحِنْطَةِ مِنْ حَيْثُ الْحَبَّاتُ وَاللَّوْنُ، وَهَذَا مَعْنَى الْمِثْلِ تَقْرِيبًا. (قَوْلُهُ: وَيَلْزَمُ مِنْهُ نِسْبَةُ الْجَوْرِ ابْتِدَاءً إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ) لِأَنَّهُ الَّذِي يُوجِبُ الْأَحْكَامَ حَقِيقَةً، وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ: إنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي، وَهُوَ نَائِبُ الشَّارِعِ. (قَوْلُهُ: وَالثَّالِثُ) التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا جِنْسُ الْوَصْفِ، أَوْ نَوْعُهُ كَتَأْثِيرِ وَصْفِ الْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ يُوجَدُ فِي التَّيَمُّمِ وَمَسْحِ الْخُفِّ وَالْجَبِيرَةِ فَيُرَجَّحُ عَلَى تَأْثِيرِ وَصْفِ الرُّكْنِيَّةِ فِي التَّثْلِيثِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْغُسْلِ فَقَطْ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْأُصُولِ تُوجِبُ زِيَادَةَ تَوْكِيدٍ وَلُزُومَ الْحُكْمِ بِذَلِكَ الْوَصْفِ فَيَحْدُثُ فِيهِ قُوَّةٌ مُرَجِّحَةٌ كَمَا يَحْصُلُ لِلْخَبَرِ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ قُوَّةٌ وَزِيَادَةُ اتِّصَالٍ فَيَصِيرُ مَشْهُورًا مَعَ أَنَّ الْحُجَّةَ هُوَ الْخَبَرُ لَا كَثْرَةُ الرُّوَاةِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الثَّانِي) أَيْ قُوَّةُ ثَبَاتِ الْوَصْفِ عَلَى الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ بِلُزُومِ الْوَصْفِ لِلْحُكْمِ بِأَنْ يُوجَدَ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ رَاجِعَةٌ إلَى قُوَّةِ التَّأْثِيرِ لَكِنَّ شِدَّةَ الْأَثَرِ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَصْفِ وَقُوَّةَ الثَّبَاتِ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ وَكَثْرَةَ الْأُصُولِ بِالنَّظَرِ

(وَيَلْزَمُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ إيجَابِ الْفَضْلِ عَلَى الْمُتَعَدِّي (نِسْبَةُ الْجَوْرِ ابْتِدَاءً إلَى صَاحِبِ الشَّرْعِ) الْمُرَادُ مِنْ الِابْتِدَاءِ أَنْ يَكُونَ بِلَا وَاسِطَةِ فِعْلِ الْعَبْدِ وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ إيجَابِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قِيمَةُ عَدْلٍ، وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّفَاوُتُ إنَّمَا يَقَعُ لِعَجْزِنَا عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ فَإِنْ وَقَعَ فِيهِ جَوْرٌ، فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْعَبْدِ أَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فِي التَّفَاوُتِ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمُتَقَوِّمَ لَا يُمَاثِلُ الْمَنْفَعَةَ، فَلَوْ وَجَبَ يَكُونُ التَّفَاوُتُ مُضَافًا إلَى الشَّارِعِ وَذَا لَا يَجُوزُ. (أَمَّا عَدَمُ الضَّمَانِ فَمُضَافٌ إلَى عَجْزِنَا عَنْ الدَّرْكِ) أَيْ إنْ قُلْنَا بِعَدَمِ الضَّمَانِ فَإِنَّمَا نَقُولُ بِهِ لِعَجْزِنَا عَنْ دَرْكِ الْمِثْلِ فَإِنْ وَقَعَ جَوْرٌ يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَيْنَا لَا إلَى الشَّارِعِ فَهَذَا أَوْلَى ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ: وَلِأَنَّ إهْدَارَ الْوَصْفِ أَسْهَلُ إلَخْ بِقَوْلِهِ: (وَلِأَنَّ الْوَصْفَ وَإِنْ قَلَّ فَائِتٌ أَصْلًا بِلَا بَدَلٍ وَالْأَصْلُ وَإِنْ عَظُمَ فَائِتٌ إلَى ضَمَانٍ فِي دَارِ الْجَزَاءِ فَكَانَ هَذَا تَأْخِيرًا وَالْأَوَّلُ إبْطَالًا) وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَصْفَ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُمَاثَلَةِ تَامَّةً يَفُوتُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُوبِ الضَّمَانِ بِلَا بَدَلٍ، وَالْأَصْلُ وَهُوَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْمِثْلِ يَفُوتُ إلَى بَدَلٍ يَصِلُ إلَيْهِ فِي دَارِ الْجَزَاءِ فَهَذَا الْفَوْتُ تَأْخِيرٌ وَالْأَوَّلُ وَهُوَ فَوْتُ الْوَصْفِ إبْطَالٌ فَالتَّأْخِيرُ أَوْلَى. (وَضَمَانُ الْعَقْدِ قَدْ يَثْبُتُ بِالتَّرَاضِي مَعَ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَى الْأَصْلِ، فَلَا اخْتِلَافَ إلَّا بِحَسَبِ الِاعْتِبَارِ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إذَا قَرَّرْته فِي مَسْأَلَةٍ إلَّا وَتَبَيَّنَ بِهِ إمْكَانُ تَقْرِيرِ النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ فِيهِ وَقَالَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْحَاشِيَةِ إذَا كَانَ التَّأْثِيرُ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ جِنْسَ الْوَصْفِ، أَوْ نَوْعَهُ فِي نَوْعِ الْحُكْمِ، فَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِشَهَادَةِ الْأَصْلِ فَقُوَّةُ الثَّبَاتِ حِينَئِذٍ يَسْتَلْزِمُ كَثْرَةَ شَهَادَةِ الْأَصْلِ، وَإِذَا كَانَ بِحَسَبِ اعْتِبَارِ جِنْسِ الْوَصْفِ، أَوْ نَوْعِهِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ، أَوْ نَوْعِهِ فَأَحَدُهُمَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ فَبَيْنَهَا عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ وَلِذَا قَالَ هُوَ قَرِيبٌ مِنْ الثَّانِي. (قَوْلُهُ: وَالرَّابِعُ الْعَكْسُ) مَعْنَى الِاطِّرَادِ فِي الْعِلَّةِ أَنَّهُ كُلَّمَا وُجِدَتْ الْعِلَّةُ وُجِدَ الْحُكْمُ وَمَعْنَى الِانْعِكَاسِ أَنَّهُ كُلَّمَا انْتَفَتْ الْعِلَّةُ انْتَفَى الْحُكْمُ كَمَا فِي الْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ مُتَعَارَفٌ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيَّنَ الْمُنَاسَبَةَ فِيهِ بِأَنَّهُ لَازِمٌ لِلْعَكْسِ الْمُتَفَاهَمِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ الْعَامِّ حَيْثُ يَقُولُونَ: كُلُّ إنْسَانٍ ضَاحِكٌ وَبِالْعَكْسِ أَيْ كُلُّ ضَاحِكٍ إنْسَانٌ فَقَوْلُنَا كُلَّمَا انْتَفَى الْوَصْفُ انْتَفَى الْحُكْمُ لَازِمٌ لِقَوْلِنَا كُلَّمَا وُجِدَ الْحُكْمُ وُجِدَ الْوَصْفُ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ مُسْتَلْزِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ وَهُوَ عَكْسٌ عُرْفِيٌّ لِقَوْلِنَا كُلَّمَا وُجِدَ الْوَصْفُ وُجِدَ الْحُكْمُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَكْسًا مَنْطِقِيًّا. (قَوْلُهُ: مَبِيعُ عَيْنٍ) أَيْ مُتَعَيِّنٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ. الْوَصْفُ هُوَ تَعَيُّنُ الْمَبِيعِ وَالْحُكْمُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ قَبْضِهِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْوَصْفِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ، وَفِي السَّلَمِ لِئَلَّا يَلْزَمَ بَيْعُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّرْفِ هُوَ النُّقُودُ وَهِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ فَكَانَ

[مسألة إذا تعارض وجوه الترجيح]

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ فَالْأَمْثِلَةُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: كَالْمَسْحِ فِي التَّخْفِيفِ وَكَقَوْلِنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ وَكَمَنَافِعِ الْغَصْبِ، أَوْرَدْنَاهَا لِتَرْجِيحِ الْقِيَاسِ عَلَى الْقِيَاسِ بِكَثْرَةِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْوَصْفَ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقِيَاسُنَا، وَهُوَ قَوْلُنَا مَسْحٌ، فَلَا يُسَنُّ تَثْلِيثُهُ رَاجِحٌ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ قَوْلُهُ: رُكْنٌ فَيُسَنُّ تَثْلِيثُهُ لِكَثْرَةِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْمَسْحَ فِي التَّخْفِيفِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقِيَاسُنَا، وَهُوَ قَوْلُنَا صَوْمُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ، فَلَا يَجِبُ تَعْيِينُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمُتَعَيِّنَاتِ رَاجِحٌ عَلَى قِيَاسِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: صَوْمُ رَمَضَانَ صَوْمُ فَرْضٍ فَيَجِبُ تَعْيِينُهُ كَالْقَضَاءِ لِكَثْرَةِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ التَّعَيُّنَ فِي سُقُوطِ التَّعْيِينِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَقِيَاسُنَا، وَهُوَ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِثْلِ وَاجِبٌ فِي غَصْبِ الْمَنَافِعِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُدْوَانَاتِ لَكِنَّ رِعَايَةَ الْمِثْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي الْمَنَافِعِ، فَلَا يَجِبُ رَاجِحٌ عَلَى قِيَاسِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: مَا يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ إلَخْ لِكَثْرَةِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ الْمُمَاثَلَةَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ قَضَاءِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا وَجَمِيعِ الْعُدْوَانَاتِ. (وَالثَّالِثُ كَثْرَةُ الْأُصُولِ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الثَّانِي. وَالرَّابِعُ وَهُوَ الْعَكْسُ أَيْ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَدَمِ) أَيْ عَدَمُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ عَدَمِ الْوَصْفِ (كَقَوْلِنَا مَسْحٌ) أَيْ مَسْحُ الرَّأْسِ مَسْحٌ (فَلَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ) كَمَسْحِ الْخُفِّ (فَإِنَّهُ يَنْعَكِسُ) فَإِنَّ كُلَّ مَا لَيْسَ ـــــــــــــــــــــــــــــQدَيْنًا بِدَيْنٍ. وَفِي السَّلَمِ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ حَقِيقَةً وَرَأْسُ الْمَالِ مِنْ النُّقُودِ غَالِبًا فَيَكُونُ دَيْنًا. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَتَعَيَّنُ الْمَبِيعُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ كَبَيْعِ إنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ بِإِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ وَكَالسَّلَمِ فِي الْحِنْطَةِ عَلَى ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِطَ الْقَبْضَ قُلْنَا نَعَمْ إلَّا أَنَّ مَعْرِفَةَ مَا يَتَعَيَّنُ وَمَا لَا يَتَعَيَّنُ أَمْرٌ خَفِيٌّ عِنْدَ التُّجَّارِ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ مَعَ مَا أُقِيمَ مَقَامَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ اسْمُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ فَاشْتُرِطَ الْقَبْضُ فِيهِمَا عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَإِنْ قِيلَ: الْمَبِيعُ فِي السَّلَمِ هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَقْبُوضٍ وَالْمَقْبُوضُ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَبِيعٍ أُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ مَبِيعٍ مُتَعَيِّنٍ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ بَدَلِهِ وَيَنْعَكِسُ إلَى قَوْلِنَا كُلُّ مَبِيعٍ لَا يَكُونُ مُتَعَيِّنًا يُشْتَرَطُ قَبْضُ بَدَلِهِ وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ أَصْلًا وَيَنْعَكِسُ إلَى قَوْلِنَا كُلُّ بَيْعٍ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمَبِيعُ، وَلَا ثَمَنُهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْجُمْلَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التَّقَابُضَ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ، أَوْ شَرْطُ بَقَائِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَإِلَى كُلٍّ أَشَارَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَيَتَوَجَّهُ عَلَى الْأَوَّلِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ يَكُونُ مُقَارِنًا كَالشُّهُودِ فِي النِّكَاحِ لَا مُتَأَخِّرًا لِمَا فِيهِ مِنْ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ قَبْلَ الشَّرْطِ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا الْمُقَارَنَةُ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ أُقِيمَ مَجْلِسُ الْعَقْدِ مَقَامَ حَالَةِ الْعَقْدِ وَجُعِلَ الْقَبْضُ الْوَاقِعُ فِيهِ وَاقِعًا فِي حَالَةِ الْعَقْدِ حُكْمًا كَذَا فِي الْمُحِيطِ [مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ وُجُوهُ التَّرْجِيحِ] (قَوْلُهُ: مَسْأَلَةٌ) التَّعَارُضُ كَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْأَقْيِسَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّرْجِيحِ كَذَلِكَ يَقَعُ بَيْنَ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ بِأَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ تَرْجِيحٌ مِنْ وَجْهٍ

بِمَسْحٍ فَإِنَّهُ يُسَنُّ تَكْرَارُهُ. (بِخِلَافِ قَوْلِهِ: رُكْنٌ؛ لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ مُتَكَرِّرَةٌ وَلَيْسَتْ بِرُكْنٍ) أَيْ مَسْحُ الرَّأْسِ رُكْنٌ وَكُلُّ مَا هُوَ رُكْنٌ يُسَنُّ تَكْرَارُهُ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْعَكِسٍ؛ لِأَنَّ عَكْسَهُ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ لَيْسَ بِرُكْنٍ لَا يُسَنُّ تَكْرَارُهُ، وَهَذَا غَيْرُ صَادِقٍ؛ لِأَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لَيْسَ بِرُكْنَيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ يُسَنُّ تَكْرَارُهُمَا. وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنَّمَا جَعَلَ عَدَمَ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ عَدَمِ الْوَصْفِ عَكْسًا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَكْسِ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَهُوَ جَعْلُ الْمَحْكُومِ بِهِ مَحْكُومًا عَلَيْهِ مَعَ رِعَايَةِ الْكُلِّيَّةِ إذَا كَانَ الْأَصْلُ كُلِّيًّا. يُقَالُ: كُلُّ إنْسَانٍ حَيَوَانٌ، وَلَا يَنْعَكِسُ أَيْ لَا يَصْدُقُ كُلُّ حَيَوَانٍ إنْسَانٌ، وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَعَدَمُ الْحُكْمِ فِي جَمِيعِ صُوَرِ عَدَمِ الْوَصْفِ لَازِمٌ لِهَذَا الْعَكْسِ فَسَمَّاهُ عَكْسًا لِهَذَا. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَازِمٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ، وَهُوَ قَوْلُنَا كُلَّمَا وُجِدَ الْوَصْفُ وُجِدَ الْحُكْمُ وَعَكْسُهُ كُلَّمَا وُجِدَ الْحُكْمُ وُجِدَ الْوَصْفُ، وَمِنْ لَوَازِمِ هَذَا كُلَّمَا لَمْ يُوجَدْ الْوَصْفُ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْحُكْمُ فَسُمِّيَ هَذَا عَكْسًا. (وَكَقَوْلِنَا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مَبِيعُ عَيْنٍ، فَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ) أَيْ كُلُّ مَبِيعٍ مُتَعَيِّنٍ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ الْمُعَيَّنَةِ. (وَيَنْعَكِسُ بَدَلُ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ) فَإِنَّ كُلَّ مَبِيعٍ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ يُشْتَرَطُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيُقَدَّمُ التَّرْجِيحُ بِالذَّاتِ عَلَى التَّرْجِيحِ بِالْحَالِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَالَ يَقُومُ بِالْغَيْرِ وَمَا يَقُومُ بِالْغَيْرِ فَلَهُ حُكْمُ الْعَدَمِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الذَّاتَ أَسْبَقُ وُجُودًا مِنْ الْحَالِ فَيَقَعُ بِهِ التَّرْجِيحُ أَوَّلًا، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِمَا يَحْدُثُ بَعْدَهُ كَاجْتِهَادٍ أُمْضِيَ حُكْمُهُ. فَإِنْ قُلْت: هَذَا إنَّمَا يَصِحُّ فِي ذَاتِ الشَّيْءِ وَحَالِهِ لَا فِي مُطْلَقِ الذَّاتِ وَالْحَالِ إذْ يَتَقَدَّمُ حَالُ الشَّيْءِ عَلَى ذَاتِ شَيْءٍ آخَرَ كَحَالِ الْأَبِ وَذَاتِ الِابْنِ. قُلْت: الْكَلَامُ فِيمَا إذَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ بِمَا يَرْجِعُ إلَى وَصْفٍ يَقُومُ بِهِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ، أَوْ أَجْزَائِهِ وَالْآخَرُ بِمَا يَرْجِعُ إلَى وَصْفٍ يَقُومُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ بِحَسَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ كَوَصْفَيْ الْكَثْرَةِ وَالْعِبَادَةِ لِلْإِمْسَاكِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ بِحَسَبِ الْأَجْزَاءِ وَالثَّانِي بِجَعْلِ الشَّارِعِ وَلِهَذَا قَالَ: إنَّ التَّرْجِيحَ بِالْوَصْفِ الذَّاتِيِّ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِيِّ وَإِلَّا فَكَمَا أَنَّ الْعِبَادَةَ حَالٌ لِلْإِمْسَاكِ فَكَذَلِكَ الْكَثْرَةُ. (قَوْلُهُ: وَذَكَرُوا لَهُ) أَيْ لِلتَّرَجُّحِ بِالْوَصْفِ الذَّاتِيِّ أَمْثِلَةً أُخْرَى مِنْهَا مَسْأَلَةُ انْقِطَاعِ حَقِّ الْمَالِكِ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ بِصَنْعَتِهِ فِي الْمَغْصُوبِ مِنْ خِيَاطَةٍ، أَوْ صِبَاغَةٍ، أَوْ طَبْخٍ بِحَيْثُ يَزْدَادُ بِهَا قِيمَةُ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْوَصْفِ الْحَادِثِ وَالْأَصْلِ مُتَقَوِّمٌ، وَلَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ، وَلَا إلَى إثْبَاتِ الشَّرِكَةِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَلُّكِ أَحَدِهِمَا بِالْقِيمَةِ فَرَجَّحْنَا حَقَّ الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ، وَهُوَ مَعْنًى رَاجِعٌ إلَى الذَّاتِ وَحَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الصَّنْعَةِ بِالْمَغْصُوبِ وَالْبَقَاءُ حَالٌ بَعْدَ الْوُجُودِ وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّنْعَةَ قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَمُضَافَةٌ إلَى فِعْلِ الْغَاصِبِ لَمْ يَلْحَقْ حُدُوثَهَا تَغَيُّرٌ

[فصل من التراجيح الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه]

قَبْضُهُ كَمَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ (فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ: كُلٌّ مِنْهُمَا مَالٌ لَوْ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الطَّعَامَيْنِ مَالٌ لَوْ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ فَكُلُّ مَالٍ لَوْ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ حَرُمَ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِيهِ (فَإِنَّهُ لَا يَنْعَكِسُ لِاشْتِرَاطِ قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي غَيْرِ الرِّبَوِيِّ) وَذَلِكَ لِأَنَّ عَكْسَ الْقَضِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ قَوْلُنَا: كُلُّ مَالٍ لَوْ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ لَا يَحْرُمُ رِبَا الْفَضْلِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ وَإِنْ كَانَ مَالًا لَوْ قُوبِلَ بِجِنْسِهِ لَا يَحْرُمُ رِبَا الْفَضْلِ فَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الرِّبَوِيِّ فِي الْمَتْنِ هَذَا الْمَالُ كَالثِّيَابِ مَثَلًا، وَهَذَا الْعَكْسُ هُوَ أَضْعَفُ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ أَمَّا كَوْنُهُ مِنْ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ فَلِأَنَّهُ إذَا وُجِدَ وَصْفَانِ مُؤَثِّرَانِ أَحَدُهُمَا بِحَيْثُ يُعْدَمُ الْحُكْمُ عِنْدَ عَدَمِهِ فَإِنَّ الظَّنَّ بِعِلِّيَّتِهِ أَغْلَبُ مِنْ الظَّنِّ بِعِلِّيَّةِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ أَضْعَفَ فَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْعِلِّيَّةِ التَّأْثِيرُ، وَلَا اعْتِبَارَ لِلْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الْوَصْفِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِعِلَلٍ شَتَّى فَمَا يَرْجِعُ إلَى تَأْثِيرِ الْعِلَلِ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ أَقْوَى مِنْ الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ. (مَسْأَلَةٌ إذَا تَعَارَضَ وُجُوهُ التَّرْجِيحِ فَمَا كَانَ بِالذَّاتِ أَوْلَى مِمَّا كَانَ بِالْحَالِ أَيْ التَّرْجِيحُ بِالْوَصْفِ الذَّاتِيِّ أَوْلَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْوَصْفِ الْعَارِضِ كَمَا إذَا تَعَارَضَ جِهَتَا الْفَسَادِ وَالصِّحَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ لَمْ يُبَيِّتْهُ) أَيْ لَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلَا إضَافَةٌ إلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ هَالِكٍ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ انْعِدَامُ صُورَتِهِ وَبَعْضِ مَعَانِيهِ أَعْنِي الْمَنَافِعَ الْقَائِمَةَ بِهِ وَصَارَ وُجُودُهُ مُضَافًا إلَى الْغَاصِبِ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي بِهِ صَارَ هَالِكًا بِمَعْنَى أَنَّ لِفِعْلِ الْغَاصِبِ مَدْخَلًا فِي وُجُودِ الثَّوْبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَثَلًا، وَمِنْهَا تَرْجِيحُ ابْنِ ابْنِ الْأَخِ عَلَى الْعَمِّ فِي الْعُصُوبَةِ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَهُ فِي ذَاتِ الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا قَرَابَةُ أُخُوَّةٍ وَرُجْحَانُ الْعَمِّ فِي حَالِ الْقَرَابَةِ وَهِيَ زِيَادَةُ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الْأَبُ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي بَابِ الْمِيرَاثِ [فَصْلٌ مِنْ التَّرَاجِيحِ الْفَاسِدَةِ التَّرْجِيحُ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) كَمَا خَتَمَ مَبَاحِثَ الْأَدِلَّةِ الصَّحِيحَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْفَاسِدَةِ تَكْمِيلًا لِلْمَقْصُودِ كَذَلِكَ خَتَمَ بَحْثَ التَّرْجِيحَاتِ الْمَقْبُولَةِ بِالتَّرْجِيحَاتِ الْمَرْدُودَةِ وَالْمَذْكُورَةِ مِنْهَا هَاهُنَا ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: التَّرْجِيحُ بِغَلَبَةِ الْأَشْيَاءِ لِإِفَادَتِهَا زِيَادَةَ الظَّنِّ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ وَالثَّانِي التَّرْجِيحُ بِعُمُومِ الْوَصْفِ لِزِيَادَةِ فَائِدَتِهِ وَالثَّالِثُ التَّرْجِيحُ بِبَسَاطَةِ الْوَصْفِ لِسُهُولَةِ إثْبَاتِهِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّتِهِ وَالْكُلُّ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي بَابِ الْقِيَاسِ بِمَعْنَى الْوَصْفِ، وَهُوَ قُوَّتُهُ وَتَأْثِيرُهُ لَا بِصُورَتِهِ بِأَنْ يَتَكَثَّرَ الْوَصْفُ أَوْ يَتَكَثَّرَ مَحَالُّ الْوَصْفِ، أَوْ تَقِلَّ أَجْزَاؤُهُ وَأَيْضًا الْوَصْفُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْ النَّصِّ فَيَكُونُ فَرْعًا لَهُ وَقِلَّةُ الْأَجْزَاءِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَازِ فِي النَّصِّ، وَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ تَرْجِيحِ النَّصِّ الْمُوجَزِ عَلَى الْمُطْنَبِ، وَلَا الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ بَلْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ تَسَاوِي الْوَصْفَيْنِ فِي التَّأْثِيرِ

لَا يَصِحُّ الصَّوْمُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيَصِحُّ عِنْدَنَا. (هُوَ يُرَجِّحُ الْفَسَادَ بِكَوْنِهِ عِبَادَةً وَنَحْنُ نُرَجِّحُ الصِّحَّةَ بِكَوْنِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ فَالتَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ تَرْجِيحٌ بِالذَّاتِ وَذَلِكَ بِالْعَارِضِيِّ) وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الصَّوْمِ وَقَعَ فَاسِدًا لِعَدَمِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ لَا عِبَادَةَ بِدُونِ النِّيَّةِ وَالْبَعْضُ وَقَعَ صَحِيحًا لِوُجُودِ النِّيَّةِ لَكِنَّ الصَّوْمَ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِمَّا أَنْ يَفْسُدَ الْكُلُّ وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ الْكُلُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يُرَجِّحُ الْفَاسِدَ عَلَى الصَّحِيحِ بِوَصْفِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّ وَصْفَ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ الْفَسَادَ، وَهُوَ وَصْفٌ عَارِضِيٌّ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْعِبَادَةِ لِلْإِمْسَاكِ عَارِضِيٌّ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بَلْ صَارَ عِبَادَةً بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْإِمْسَاكِ وَنَحْنُ نُرَجِّحُ الصَّحِيحَ عَلَى الْفَاسِدِ بِكَوْنِ النِّيَّةِ وَاقِعَةً فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْكَثْرَةِ تَرْجِيحٌ بِالْوَصْفِ الذَّاتِيِّ؛ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ وَصْفٌ يَقُومُ بِالْكَثِيرِ بِحَسَبِ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ وَصْفًا ذَاتِيًّا إذْ الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ الذَّاتِيِّ وَصْفٌ يَقُومُ بِالشَّيْءِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ، أَوْ بِحَسَبِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ وَالْوَصْفُ الْعَارِضِيُّ وَصْفٌ يَقُومُ بِالشَّيْءِ بِحَسَبِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ، (وَذَكَرُوا لَهُ أَمْثِلَةً أُخْرَى وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ) . (فَصْلٌ وَمِنْ التَّرَاجِيحِ الْفَاسِدَةِ التَّرْجِيحُ بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ كَقَوْلِهِ) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَنَّ الْأَخَ الْمُشْتَرَى لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُ: (الْأَخُ يُشْبِهُ الْوَلَدَ بِوَجْهٍ، وَهُوَ الْمَحْرَمِيَّةُ وَابْنَ الْعَمِّ بِوُجُوهٍ كَحِلِّ الزَّكَاةِ وَحِلِّ زَوْجَتِهِ وَقَبُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ الْمُلَاءَمَةِ وَحِينَئِذٍ لِمَ لَا يَجُوزُ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِمَا يُفِيدُ زِيَادَةَ ظَنٍّ، أَوْ يَكُونُ بَعِيدًا عَنْ الْخِلَافِ؟ وَأَمَّا عِنْدَ تَأْثِيرِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، فَلَا نِزَاعَ فِي تَقْدِيمِ الْمُؤَثِّرِ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَكْثَرَ، أَوْ أَعَمَّ، أَوْ أَبْسَطَ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ فِي قَوْلِهِ: عِلَّةً ذَاتَ جُزْءٍ تَسَامُحًا إذْ لَا تَرْكِيبَ مِنْ أَقَلَّ مِنْ جُزْأَيْنِ فَكَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ مَعْنًى وَاحِدًا لَا جُزْءَ لَهُ. (قَوْلُهُ: لَهُمَا أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ) يَعْنِي أَنَّ التَّرْجِيحَ بِقُوَّةِ الْأَثَرِ وَذَلِكَ بِمَا يَصْلُحُ وَصْفًا وَتَبَعًا لِلدَّلِيلِ لَا بِمَا هُوَ مُسْتَقِلٌّ بِالتَّأْثِيرِ إذْ تَقَوِّي الشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ بِصِفَةٍ تُوجَدُ فِي ذَاتِهِ وَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ، وَأَمَّا مَا يَسْتَقِلُّ، فَلَا يَحْصُلُ لِلْغَيْرِ قُوَّةٌ بِانْضِمَامِهِ إلَيْهِ بَلْ يَكُونُ: كُلٌّ مِنْهُمَا مُعَارِضًا لِلدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ عَلَى خِلَافِهِ فَيَتَسَاقَطُ الْكُلُّ بِالتَّعَارُضِ، وَهَذَا مَعْنَى تَسَاوِي وُجُودِ الْغَيْرِ وَعَدَمِهِ وَرُبَّمَا يُقَالُ: سَلَّمْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْقُوَّةِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ لِلدَّلِيلِ بِانْضِمَامِ الْغَيْرِ إلَيْهِ وَصْفٌ يَتَقَوَّى بِهِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لِلدَّلِيلِ الْآخَرِ وَمُوجِبًا لِزِيَادَةِ الظَّنِّ. (قَوْلُهُ: خِلَافًا لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي الْأَخِيرِ، وَهُوَ مَا إذَا تَرَكَ ابْنَيْ عَمٍّ أَحَدَهُمَا أَخٌ لَهُ مِنْ أُمٍّ بِأَنْ تَزَوَّجَ عَمُّهُ أُمَّهُ فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا فَعِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمَالُ كُلُّهُ لِلْأَخِ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي قَرَابَةِ الْأَبِ، وَقَدْ تَرَجَّحَتْ قَرَابَةُ الْأَخِ لِأُمٍّ بِانْضِمَامِ قَرَابَةِ الْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ مِنْ جِنْسِهَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ وَالْأُخُوَّةُ

الشَّهَادَةِ وَوُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ مُؤَثِّرٍ فِي الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ أَقْوَى مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْمُشَابَهَةِ (فِي أَلْفِ وَصْفٍ غَيْرِ مُؤَثِّرٍ. وَمِنْهَا التَّرْجِيحُ بِكَوْنِ الْوَصْفِ أَعَمَّ كَالطَّعْمِ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ، وَلَا اعْتِبَارَ لِهَذَا إذْ التَّرْجِيحُ بِالْقُوَّةِ، وَهُوَ التَّأْثِيرُ لَا بِصُورَتِهِ. وَمِنْهَا التَّرْجِيحُ بِقِلَّةِ الْأَجْزَاءِ فَإِنَّ عِلَّةً ذَاتَ جُزْءٍ أَوْلَى مِنْ ذَاتِ جُزْأَيْنِ، وَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْمَسْأَلَةِ يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الدَّلِيلِ عِنْدَ الْبَعْضِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِهَا) أَيْ لِأَجْلِ حُصُولِ غَلَبَةِ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الدَّلِيلِ. (وَلِأَنَّ تَرْكَ الْأَقَلِّ أَسْهَلُ مِنْ تَرْكِ الْكُلِّ، أَوْ الْأَكْثَرِ) أَيْ إذَا تَعَارَضَ الْأَدِلَّةُ الْكَثِيرَةُ وَالْقَلِيلَةُ، وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِامْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ فَإِمَّا أَنْ يُتْرَكَ الْجَمِيعُ، أَوْ الْأَكْثَرُ، أَوْ الْأَقَلُّ وَتَرْكُ الدَّلِيلِ خِلَافُ الْأَصْلِ فَتَرْكُ الْأَقَلِّ أَسْهَلُ مِنْ تَرْكِ الْكُلِّ، أَوْ الْأَكْثَرِ. (لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَبِي يُوسُفَ لَهُمَا أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِهِ مُؤَثِّرٌ فَوُجُودُ الْغَيْرِ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ وَأَيْضًا الْقِيَاسُ عَلَى الشَّهَادَةِ) فَإِنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الشُّهُودِ إجْمَاعًا فَقَوْلُهُ: وَالْقِيَاسُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ كُلَّ دَلِيلٍ ثُمَّ عَطَفَ عَلَى الْقِيَاسِ قَوْلَهُ: (وَالْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ تَرْجِيحِ ابْنِ عَمٍّ هُوَ زَوْجٌ، أَوْ أَخٌ لِأُمٍّ فِي التَّعْصِيبِ) فَإِنَّهُ لَا يُرَجَّحُ بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَالِ (عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَسْتَحِقُّ بِكُلِّ سَبَبٍ عَلَى انْفِرَادِهِ) ، وَلَوْ كَانَ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ الدَّلِيلِ ثَابِتًا كَانَ التَّرْجِيحُ بِكَثْرَةِ دَلِيلِ الْإِرْثِ ثَابِتًا ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأُمٍّ كَذَلِكَ لِكَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الْعُمُومَةِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا قَرَابَةً مِثْلَهَا لَكِنَّهَا لَا تَسْتَبِدُّ بِالتَّعْصِيبِ فَيَكُونُ مِثْلَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ بِخِلَافِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْقَرَابَةِ، فَلَا تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ، وَعِنْدَ الْجُمْهُورِ سُدُسُ الْمَالِ لِلْأَخِ لِأُمٍّ بِالْفَرْضِيَّةِ وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا بِالْعُصُوبَةِ فَيَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَبْعَةٌ لِابْنِ عَمٍّ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ وَخَمْسَةٌ لِلْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ لِأُمٍّ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِلَّ بِالتَّعْصِيبِ لَكِنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِاسْتِحْقَاقٍ الْإِرْثِ وَلَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْعُمُومَةِ بَلْ أَقْرَبُ، فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لَهَا، فَلَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا بِخِلَافِ الْأُخُوَّةِ، فَإِنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ تَأَكَّدَ بِانْضِمَامِ أُخُوَّةِ الْأُمِّ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اجْتَمَعَ الْأُخُوَّةُ لِأَبٍ وَالْأُخُوَّةُ لِأُمٍّ لَا تَصْلُحُ أُخُوَّةُ الْأُمِّ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ بِالْفَرْضِيَّةِ. (قَوْلُهُ: مَا لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشُّهْرَةِ) تُعْرَضُ الشُّهْرَةُ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُرَجِّحَةً فَالتَّوَاتُرُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ حَدَّ التَّوَاتُرِ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشُّهْرَةِ وَلِتَقَارُبِ أَمْرِهِمَا بَلْ لِكَوْنِ الْمَشْهُورِ أَحَدَ قِسْمَيْ الْمُتَوَاتِرِ عَلَى رَأْيٍ تَعَرَّضَ فِي الشَّرْحِ لِلتَّوَاتُرِ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْكَثْرَةَ إنْ تَأَدَّتْ إلَى حُصُولِ هَيْئَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ هِيَ وَصْفٌ وَاحِدٌ قَوِيُّ الْأَثَرِ كَانَتْ صَالِحَةً لِلتَّرْجِيحِ؛ لِأَنَّ الْمُرَجِّحَ هُوَ الْقُوَّةُ لَا الْكَثْرَةُ غَايَتُهُ أَنَّ الْقُوَّةَ حَصَلَتْ بِالْكَثْرَةِ وَإِلَّا فَلَا، فَكَثْرَةُ أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ تُوجِبُ الْقُوَّةَ كَمَا فِي حَمْلِ الْأَثْقَالِ بِخِلَافِ كَثْرَةِ جُزْئِيَّاتِهِ كَمَا فِي الْمُصَارَعَةِ

وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ. (خِلَافًا لِابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْأَخِيرِ) أَيْ فِي ابْنِ عَمٍّ هُوَ أَخٌ لِأُمٍّ فَإِنَّهُ رَاجِحٌ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى ابْنِ عَمٍّ لَيْسَ كَذَلِكَ أَيْ يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ وَيَحْجُبُ الْآخَرَ. (بِخِلَافِ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنَّهُ يُرَجَّحُ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ بِالْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِهَةَ) أَيْ جِهَةَ الْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ (تَابِعَةٌ لِلْأُولَى) أَيْ لِلْإِخْوَةِ لِأَبٍ (وَالْحَيِّزُ مُتَّحِدٌ) أَيْ حَيِّزُ الْقَرَابَةِ مُتَّحِدٌ؛ لِأَنَّ الْأُخُوَّةَ لِأَبٍ وَالْأُخُوَّةَ لِأُمٍّ كُلٌّ مِنْهُمَا أُخُوَّةٌ (فَيَحْصُلُ بِهِمَا) أَيْ بِأُخُوَّةٍ لِأَبٍ وَالْأُخُوَّةِ لِأُمٍّ (هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ بِخِلَافِ الْأُولَيَيْنِ) فَيَصِيرُ مَجْمُوعُ الْأُخُوَّتَيْنِ قَرَابَةً وَاحِدَةً قَوِيَّةً فَيَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَضْعَفِ (فَلَا يُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ مَا لَمْ تَبْلُغْ حَدَّ الشُّهْرَةِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ حِينَئِذٍ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ) . هَذِهِ تَفْرِيعَاتٌ عَلَى عَدَمِ التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الدَّلِيلِ فَالرُّوَاةُ إذَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ لَمْ تَحْصُلْ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ أَمَّا إذَا بَلَغُوا فَقَدْ حَصَلَ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ تَمْنَعُ التَّوَافُقَ عَلَى الْكَذِبِ وَقَبْلَ بُلُوغِ هَذَا الْحَدِّ يُحْتَمَلُ كَذِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّا نُرَجِّحُ بِالْكَثْرَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَالتَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْأُصُولِ وَكَتَرْجِيحِ الصِّحَّةِ عَلَى الْفَسَادِ بِالْكَثْرَةِ فِي صَوْمٍ غَيْرِ مُبَيَّتٍ، وَلَا نُرَجِّحُ بِالْكَثْرَةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ كَمَا لَمْ نُرَجِّحْ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ وَلَنَا فِي ذَلِكَ فَرْقٌ دَقِيقٌ. وَهُوَ أَنَّ الْكَثْرَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحْصُلُ بِهَا هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَنُوطًا ـــــــــــــــــــــــــــــQإذْ الْمُقَاوِمُ وَاحِدٌ، وَأَمَّا الرُّجُوعُ إلَى السُّنَّةِ، أَوْ الْقِيَاسِ عِنْدَ تَعَارُضِ النَّصَّيْنِ، أَوْ الْحَدِيثَيْنِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّرْجِيحِ. (قَوْلُهُ: وَلَا الْقِيَاسُ بِقِيَاسٍ آخَرَ) يَعْنِي قِيَاسًا يُوَافِقُهُ فِي الْحُكْمِ دُونَ الْعِلَّةِ لِيَكُونَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ إذْ لَوْ وَافَقَهُ فِي الْعِلَّةِ كَانَ مِنْ كَثْرَةِ الْأُصُولِ لَا مِنْ كَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ تَعَدُّدُ الْقِيَاسَيْنِ حَقِيقَةً إلَّا عِنْدَ تَعَدُّدِ الْعِلَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقِيَاسِ وَمَعْنَاهُ الَّذِي بِهِ يَصِيرُ حُجَّةً هِيَ الْعِلَّةُ لَا الْأَصْلُ. (قَوْلُهُ: وَعَلَى هَذَا) يَعْنِي كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى الْأَحْكَامِ لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِأَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ كَذَلِكَ كُلُّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا؛ لِأَنَّهُ لِاسْتِقْلَالِهِ لَا يَنْضَمُّ إلَى الْآخَرِ، وَلَا يَتَّحِدُ بِهِ لِيُفِيدَ الْقُوَّةَ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْعِلَلِ الْحِسِّيَّةِ لِلْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى التَّرْجِيحِ بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ بِمَعْنَى أَنْ يَسْقُطَ الْآخَرُ بِالْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ عَدَدِ جِرَاحَاتِ الْجَانِينَ عَلَى مَجْرُوحٍ وَاحِدٍ مَاتَ مِنْ جَمِيعِهَا، فَإِنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّهُ لَمْ تُعْتَبَرْ الْكَثْرَةُ مُرَجِّحَةً حَتَّى يَلْزَمَ الْإِسْقَاطُ لَكِنْ لِمَ لَمْ تُعْتَبَرْ مُوجِبَةً لِتَوْزِيعِ الدِّيَةِ عَلَى الْجِرَاحَاتِ كَمَا تَعَدَّدَ فِي الْجِنَايَاتِ. قُلْنَا: لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا يَمُوتُ مِنْ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةٍ، فَلَمْ يَتَعَدَّ بِعَدَدِهَا وَجَعَلَ الْجَمِيعَ بِمَنْزِلَةِ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَمَا فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ وَهِيَ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا وَلِلثَّالِثِ سُدُسُهَا فَبَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نِصْفَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ

[باب الاجتهاد]

بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ وَأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَحْصُلُ بِالْكَثْرَةِ هَيْئَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَيَكُونُ الْحُكْمُ مَنُوطًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا بِالْمَجْمُوعِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِالشَّاهِدِ فَإِنَّ كُلَّ أَمْرٍ مَنُوطٍ بِالْكَثْرَةِ كَحَمْلِ الْأَثْقَالِ وَالْحُرُوبِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّ الْأَكْثَرَ فِيهِ رَاجِحٌ عَلَى الْأَقَلِّ وَكُلُّ أَمْرٍ مَنُوطٍ بِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ كَالْمُصَارَعَةِ مَثَلًا فَإِنَّ الْكَثِيرَ لَا يَغْلِبُ الْقَلِيلَ فِيهَا بَلْ رُبَّ وَاحِدٍ قَوِيٍّ يَغْلِبُ الْآلَافَ مِنْ الضِّعَافِ فَكَثْرَةُ الْأُصُولِ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلُ قُوَّةِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فَهِيَ رَاجِعَةٌ إلَى الْقُوَّةِ فَتُعْتَبَرُ وَكَثْرَةُ الْأَدِلَّةِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ دَلِيلٌ هُوَ مُؤَثِّرٌ بِنَفْسِهِ بِلَا مَدْخَلٍ لِوُجُودِ الْآخَرِ أَصْلًا فَإِنَّ الْحُكْمَ مَنُوطٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ لَا بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْمَجْمُوعُ بِخِلَافِ الْكَثْرَةِ الَّتِي هِيَ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّ هَذَا الْحُكْمَ تَعَلَّقَ بِالْأَكْثَرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْأَكْثَرُ لَا بِكُلِّ وَاحِدٍ، مِنْ الْأَجْزَاءِ فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَأَحْكِمْهُ وَفَرِّعْ عَلَيْهِ الْفُرُوعَ. وَقَوْلُهُ: (وَلَا الْقِيَاسُ بِقِيَاسٍ آخَرَ) عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ: فَلَا يُرَجَّحُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي أَحَدِهِمَا مُغَايِرَةً لِلْعِلَّةِ فِي الْآخَرِ لَكِنَّهُمَا أَدَّيَا إلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ كَمَا أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الطُّعْمُ، وَعِنْدَ مَالِكٍ الطُّعْمُ وَالِادِّخَارُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِلَّتَيْنِ يُوجِبُ حُرْمَةَ بَيْعِ الْحَفْنَةِ مِنْ الْحِنْطَةِ بِحَفْنَتَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQصَاحِبِ الثُّلُثِ بِحَيْثُ يَنْفَرِدُ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ وَيَسْقُطُ صَاحِبُ السُّدُسِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ سَهْمَيْهِمَا عِلَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ شُفْعَةِ جَمِيعِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ فِي جَانِبِ صَاحِبِ الثُّلُثِ إلَّا كَثْرَةُ الْعِلَّةِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ فَعِنْدَنَا يَكُونُ نِصْفُ الْمَبِيعِ بَيْنَهُمَا أَنْصَافًا لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْعِلَّةِ الْمُتَحَقِّقَةِ فِي كُلِّ جَانِبٍ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَثْلَاثًا ثُلُثُهُ لِصَاحِبِ السُّدُسِ وَثُلُثٌ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ أَيْ مَنَافِعِهِ وَثَمَرَاتِهِ كَالثَّمَرَةِ لِلشَّجَرَةِ وَالْوَلَدِ لِلْحَيَوَانِ الْمُشْتَرَكِ فَيُقْسَمُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ. وَالْجَوَابُ أَنَّ الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ عِلَّةٌ فَاعِلِيَّةٌ تَثْبُتُ بِهَا الشُّفْعَةُ لَا عِلَّةٌ مَادِّيَّةٌ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْمَعْلُولُ بِمَنْزِلَةِ الشَّجَرِ وَالْحَيَوَانِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ فِي الْمَعْلُولِ لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّوْلِيدِ بَلْ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ عَقِيبَهُ، فَلَا يَكُونُ تَرَتُّبُ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْمِلْكِ كَتَرَتُّبِ الثَّمَرِ عَلَى الشَّجَرِ وَالْوَلَدِ عَلَى الْحَيَوَانِ، ثُمَّ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَ مَمْنُوعَ الْمِلْكِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ فَتَقْسِيمُ الْحُكْمِ عَلَى أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ وَجَعْلُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْعِلَّةِ عِلَّةً لِجُزْءٍ مِنْ الْمَعْلُولِ نَصْبٌ لِلشَّرْعِ بِالرَّأْيِ، وَهُوَ فَاسِدٌ [بَابُ الِاجْتِهَادِ] (قَوْلُهُ: بَابُ الِاجْتِهَادِ) لَمَّا كَانَ بَحْثُ الْأُصُولِ عَنْ الْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُسْتَنْبَطُ مِنْهَا الْأَحْكَامُ وَطَرِيقُ ذَلِكَ هُوَ الِاجْتِهَادُ خَتَمَ مَبَاحِثَ الْأَدِلَّةِ بِبَابِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ تَحَمُّلُ الْجَهْدِ أَيْ الْمَشَقَّةِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: بَذْلُ الْمَجْهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ

مِنْهَا، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِيهِمَا شَيْئًا وَاحِدًا لَكِنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ مُتَعَدِّدٌ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قِيَاسَانِ بَلْ قِيَاسٌ وَاحِدٌ مَعَ كَثْرَةِ الْأُصُولِ، وَهَذَا يَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ. (وَلَا الْحَدِيثُ بِحَدِيثٍ آخَرَ وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا يَصْلُحُ عِلَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا، وَكَذَا إذَا جُرِحَ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ فَالدِّيَةُ نِصْفَانِ، وَكَذَا الشَّفِيعَانِ بِشِقْصَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُرَجِّحُ صَاحِبَ الْكَثِيرِ أَيْضًا) بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ دُونَ الْآخَرِ (وَلَكِنْ يُقْسَمُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ فَنَقُولُ: حُكْمُ الْعِلَّةِ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا، وَلَا يَنْقَسِمُ عَلَيْهَا) الْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هَاهُنَا الْعِلَّةُ الْفَاعِلِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي يَحْصُلُ الْمَعْلُولُ بِهَا فَإِنَّ الْمَعْلُولَ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْهَا وَغَيْرُ مُنْقَسِمٍ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْمَادِّيَّةِ وَهِيَ الَّتِي يَحْصُلُ الْمَعْلُولُ مِنْهَا فَالْمَعْلُولُ يَتَوَلَّدُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمَعْنَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ بَذْلُ تَمَامِ الطَّاقَةِ بِحَيْثُ يَحُسُّ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَخَرَجَ اسْتِفْرَاغُ غَيْرِ الْفَقِيهِ وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَبَذْلُ الْفَقِيهِ وُسْعَهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ قَطْعِيٍّ، أَوْ فِي الظَّنِّ بِحُكْمٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِاجْتِهَادٍ. وَشَرْطُ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَحْوِيَ أَيْ أَنْ يَجْمَعَ الْعِلْمَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: الْكِتَابُ أَيْ الْقُرْآنُ بِأَنْ يَعْرِفَهُ بِمَعَانِيهِ لُغَةً وَشَرِيعَةً أَمَّا لُغَةً فَبِأَنْ يَعْرِفَ مَعَانِيَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ وَخُصُوصَهَا فِي الْإِفَادَةِ فَيَفْتَقِرُ إلَى اللُّغَةِ وَالصَّرْفِ وَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ بِحَسَبِ السَّلِيقَةِ، وَأَمَّا شَرِيعَةً فَبِأَنْ يَعْرِفَ الْمَعَانِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْأَحْكَامِ مَثَلًا يَعْرِفُ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَائِطِ الْحَدَثُ، وَأَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ عَنْ بَدَنِ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ بِأَقْسَامِهِ مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ وَذَاكَ عَامٌّ، وَهَذَا نَاسِخٌ وَذَاكَ مَنْسُوخٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ هَذَا مُغَايِرٌ لِمَعْرِفَةِ الْمَعَانِي وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ قَدْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْعِلْمُ بِمَوَاقِعِهَا بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهَا عِنْدَ طَلَبِ الْحُكْمِ لَا الْحِفْظُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ. الثَّانِي: السُّنَّةُ قَدْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ بِأَنْ يَعْرِفَهَا بِمَتْنِهَا وَهُوَ نَفْسُ الْحَدِيثِ وَسَنَدِهَا، وَهُوَ طَرِيقُ وُصُولِهَا إلَيْنَا مِنْ تَوَاتُرٍ، أَوْ شُهْرَةٍ، أَوْ آحَادٍ. وَفِي ذَلِكَ مَعْرِفَةُ حَالِ الرُّوَاةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إلَّا أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ فِي زَمَانِنَا هَذَا كَالْمُتَعَذِّرِ لِطُولِ الْمُدَّةِ وَكَثْرَةِ الْوَسَائِطِ فَالْأَوْلَى الِاكْتِفَاءُ بِتَعْدِيلِ الْأَئِمَّةِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْبَغَوِيِّ وَالصَّغَانِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مَعْرِفَةُ مَتْنِ السُّنَّةِ بِمَعَانِيهِ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَبِأَقْسَامِهِ مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَغَيْرِهِمَا. الثَّالِثُ: وُجُوهُ الْقِيَاسِ بِشَرَائِطِهَا وَأَحْكَامِهَا وَأَقْسَامِهَا وَالْمَقْبُولِ مِنْهَا وَالْمَرْدُودِ وَكُلُّ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ الصَّحِيحِ وَكَانَ الْأَوْلَى ذِكْرُ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ مَوَاقِعِهِ

مِنْهَا وَيَنْقَسِمُ عَلَيْهَا كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ فَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الدَّارِ الْمَشْفُوعِ بِهَا بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِهَا لَا مِنْهَا، فَلَا تَنْقَسِمُ عَلَيْهَا. (بَابُ الِاجْتِهَادِ شَرْطُهُ أَنْ يَحْوِيَ عِلْمَ الْكِتَابِ بِمَعَانِيهِ لُغَةً وَشَرْعًا وَأَقْسَامَهُ الْمَذْكُورَةَ، وَعِلْمَ السُّنَّةِ مَتْنًا وَسَنَدًا، وَوُجُوهَ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَحُكْمُهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ فَالْمُجْتَهِدُ عِنْدَنَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَنَا فِي كُلِّ حَادِثَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَهُمْ لَا بَلْ الْحُكْمُ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ، فَإِذَا اجْتَهَدُوا فِي حَادِثَةٍ فَالْحُكْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ كُلِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِئَلَّا يُخَالِفَهُ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْكَلَامِ لِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ لِلْجَازِمِ بِالْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا، وَلَا عِلْمُ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الِاجْتِهَادِ وَثَمَرَتُهُ، فَلَا يَتَقَدَّمُهُ إلَّا أَنَّ مَنْصِبَ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُمَارَسَةِ الْفُرُوعِ فَهِيَ طَرِيقٌ إلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْآنَ سُلُوكُ طَرِيقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -. ثُمَّ هَذِهِ الشَّرَائِطُ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ فَعَلَيْهِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ. فَإِنْ قُلْت: لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ لِئَلَّا يَقَعَ اجْتِهَادُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفًا لِنَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ. قُلْت: بَعْدَ مَعْرِفَةِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ لَا يُتَصَوَّرُ الذُّهُولُ عَمَّا يَقْتَضِي خِلَافَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَاقِي. مَثَلًا الِاجْتِهَادُ فِي حُكْمٍ مُتَعَلِّقٍ بِالصَّلَاةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ. (قَوْلُهُ: وَحُكْمُهُ) أَيْ الْأَثَرِ الثَّابِتِ بِالِاجْتِهَادِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ مَعَ احْتِمَالِ الْخَطَأِ، فَلَا يَجْرِي الِاجْتِهَادُ فِي الْقَطْعِيَّاتِ وَفِيمَا يَجِبُ فِيهِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُصِيبَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ الْحَوَادِثِ حُكْمًا مُعَيَّنًا أَمْ الْحُكْمُ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمُصِيبُ وَاحِدًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ الِاجْتِهَادِيَّةَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ قَبْلَ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ، أَوْ لَا يَكُونُ وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، أَوْ يَدُلَّ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ إمَّا قَطْعِيٌّ، أَوْ ظَنِّيٌّ فَذَهَبَ إلَى كُلِّ احْتِمَالٍ جَمَاعَةٌ فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا حُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ بَلْ الْحُكْمُ مَا أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُ الْمُجْتَهِدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى اسْتِوَاءِ الْحُكْمَيْنِ فِي الْحَقِّيَّةِ وَبَعْضُهُمْ إلَى كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَحَقَّ، وَقَدْ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ الْحُكْمُ بِالْمَسْأَلَةِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ قَدِيمٌ عِنْدَهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بَلْ الْعُثُورُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْعُثُورِ عَلَى

وَاحِدٍ مُجْتَهَدُهُ. لَهُمْ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ كُلِّفُوا بِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَلَوْلَا تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِمْ، وَهَذَا كَالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ فَإِنَّ الْقِبْلَةَ جِهَةُ التَّحَرِّي حَتَّى أَنَّ الْمُخْطِئَ يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الصَّلَاةِ. وَاخْتِلَافُ الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْمَيْنِ جَائِزٌ كَمَا كَانَ فِي إرْسَالِ رَسُولَيْنِ عَلَى قَوْمَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِتَسَاوِي الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّعَدُّدِ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاحِدٌ مِنْهَا أَحَقُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ اسْتَوَتْ لَأُصِيبَتْ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ وَلَسَقَطَ الِاجْتِهَادُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ لَا يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الِاجْتِهَادَاتِ تَتَّفِقُ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونَ الْحَقُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQدَفِينٍ فَلِمَنْ أَصَابَ أَجْرَانِ وَلِمَنْ أَخْطَأَ أَجْرُ الْكَدِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَالْمُجْتَهِدُ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُخْطِئَ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ أَمْ لَا؟ وَفِي أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِالْخَطَأِ هَلْ يُنْقَضُ. الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ إنْ وَجَدَهُ أَصَابَ، وَإِنْ فَقَدَهُ أَخْطَأَ وَالْمُجْتَهِدُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِإِصَابَتِهَا لِغُمُوضِهَا وَخَفَائِهَا فَلِذَا كَانَ الْمُخْطِئُ مَعْذُورًا بَلْ مَأْجُورًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي أَنَّ الْمُخْطِئَ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً مَعًا، أَوْ انْتِهَاءً فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (قَوْلُهُ: لَهُمْ) احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَعَدُّدِ الْحَقِّ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَإِصَابَةِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ يَتَعَدَّدُ الْحَقُّ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا مَرَّ بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مُكَلَّفُونَ بِنَيْلِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الصَّوَابِ إذْ لَا فَائِدَةَ لِلِاجْتِهَادِ سِوَى ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا لَكَانَ الْمُجْتَهِدُ مَأْمُورًا بِإِصَابَتِهِ بِعَيْنِهِ، وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ لِغُمُوضِ طَرِيقِهِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِ فِي الْحُكْمِ كَاجْتِهَادِ الْمُصَلِّي فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَالْحَقُّ فِيهِ مُتَعَدِّدٌ اتِّفَاقًا فَكَذَا هَاهُنَا لِعَدَمِ الْفَرْقِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْحَقَّ فِيهِ مُتَعَدِّدٌ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْمُورٌ بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْجِهَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ إلَى جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قِبْلَةً لَمَا تَأَدَّى فَرْضُ مَنْ أَخْطَأَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ. فَإِنْ قِيلَ: تَعَدُّدُ الْحَقِّ يَسْتَلْزِمُ اتِّصَافَ فِعْلٍ وَاحِدٍ بِالْمُتَنَافِيَيْنِ كَالْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ، وَهُوَ مُحَالٌ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَاللُّزُومُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصَيْنِ فَالِاسْتِحَالَةُ مَمْنُوعَةٌ لِجَوَازِ أَنْ يَجِبَ شَيْءٌ عَلَى زَيْدٍ، وَلَا يَجِبُ عَلَى عُمَرَ وَكَمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ بِأَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَيْنِ إلَى قَوْمَيْنِ مَعَ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَحْكَامٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا عَلَى مُجْتَهِدٍ وَعَلَى مَنْ الْتَزَمَ تَقْلِيدَهُ، غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى آخَرَ وَعَلَى مُقَلِّدِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِحَقِّيَّةِ الْجَمِيعِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي الْحَقِّيَّةِ وَبَعْضُهُمْ إلَى كَوْنِ الْبَعْضِ

وَاحِدًا، أَوْ تَخْتَلِفُ فَيَكُونَ حِينَئِذٍ مُتَعَدِّدًا. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وَقَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنْ أَصَبْتَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُصِيبِ أَجْرَيْنِ وَلِلْمُخْطِئِ وَاحِدًا» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنْ أَصَبْت فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ أَخْطَأْت فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ وَإِنْ وَرَدَ نَصَّانِ صِيغَةً فِي حَادِثَةٍ لَا يَتَعَدَّدُ الْحَقُّ اتِّفَاقًا فَكَيْفَ إذَا وَرَدَا مَعْنًى) أَيْ كَيْفَ يَتَعَدَّدُ الْحَقُّ إذَا وَرَدَا مَعْنًى. نَظِيرُهُ حُلِيُّ النِّسَاءِ فَإِنَّا نَقُولُ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْمَضْرُوبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَحَقَّ أَيْ أَكْثَرَ ثَوَابًا بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى وُجُوبِ الشَّيْءِ، فَهُوَ أَكْثَرُ ثَوَابًا مِمَّنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ مَعَ حَقِّيَّةِ الْحُكْمَيْنِ اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَعَدُّدِ الْحَقِّ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَهُوَ لُزُومُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّعَدُّدِ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فِي الْأَحَقِّيَّةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ التَّسَاوِيَ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ التَّفَاوُتُ بِنَاءً عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ. وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْأَحْكَامُ الِاجْتِهَادِيَّةُ فِي الْحَقِّيَّةِ لَجَازَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ فِي بَذْلِ الْمَجْهُودِ وَطَلَبٍ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ، وَهَذَا مَعْنَى سُقُوطِ الِاجْتِهَادِ. وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْ لَا حُكْمَ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يَحْدُثُ عَقِيبَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاجْتِهَادِ لِيَتَحَقَّقَ الْحُكْمُ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهَا، وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي الْحَقِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَا غَيْرُ حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَهُ، وَلَا أَنْ يَتْرُكَ الِاجْتِهَادَ وَيُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا آخَرَ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ اخْتِيَارِ الْمُجْتَهِدِ أَيَّ حَقٍّ شَاءَ لَا بُدَّ مِنْ الِاجْتِهَادِ لِيَعْلَمَ تَعَدُّدَ الْحَقِّ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ اخْتِيَارِ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادِيَّةٍ مِمَّا يَتَعَدَّدُ فِيهِ الْحَقُّ بَلْ قَدْ تَجْتَمِعُ الْآرَاءُ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْحَقُّ وَاحِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّعَدُّدَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ بِدُونِ الِاجْتِهَادِ لَا يُتَصَوَّرُ وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ الْمُسْتَدِلِّ هُوَ أَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْحُقُوقُ لَثَبَتَ الْحَقُّ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ بِأَدْنَى دَلِيلٍ يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ فِي الطَّلَبِ وَالِاجْتِهَادِ لِتَسَاوِي مَا يُنَالُ بِغَايَةِ الطَّلَبِ وَمَا يُنَالُ بِأَدْنَى الطَّلَبِ، وَهَذَا مَعْنَى سُقُوطِ الِاجْتِهَادِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْحُقُوقُ لَبَطَلَتْ مَرَاتِبُ الْفُقَهَاءِ وَتَسَاوَى الْبَاذِلُ كُلَّ جَهْدِهِ فِي الطَّلَبِ الْمُبْلَى عُذْرُهُ بِأَدْنَى طَلَبٍ وَعَلَى هَذَا لَا يَرِدُ الِاعْتِرَاضُ. (قَوْلُهُ: وَلَنَا) احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَثَرِ وَدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وَالضَّمِيرُ لِلْحُكُومَةِ أَوْ الْفَتْوَى وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَكَمَ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ وَبِالْحَرْثِ

وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ قِيَاسًا عَلَى الثِّيَابِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَصْرُوفٌ لِحَاجَتِهِ فَمَعْنَى الْقِيَاسِ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَارِدٌ فِي الْمَقِيسِ مَعْنًى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِدًا صَرِيحًا، فَلَوْ كَانَ النَّصَّانِ وَارِدَيْنِ فِيهِ صَرِيحًا كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا مَنْسُوخًا وَالْآخَرُ نَاسِخًا، فَإِذَا كَانَ النَّصَّانِ وَهُمَا النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْمَضْرُوبِ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الثِّيَابِ وَارِدَيْنِ فِي الْحُلِيِّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا يَدُلَّانِ عَلَى حَقِيقَةِ مَدْلُولَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا إذْ دَلَالَتُهُمَا مَعْنًى لَا تَزِيدُ عَلَى دَلَالَتِهِمَا صَرِيحًا، وَلَوْ وُجِدَتْ دَلَالَتُهُمَا صَرِيحًا لَا يَكُونُ مَدْلُولُ كُلٍّ مِنْهُمَا حَقًّا فَكَذَا إذَا وُجِدَتْ دَلَالَتُهُمَا مَعْنًى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، (وَلِأَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِصَاحِبِ الْغَنَمِ وَسُلَيْمَانَ حَكَمَ بِأَنْ تَكُونَ الْغَنَمُ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ يَنْتَفِعُ بِهَا وَيَقُومُ أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَرْجِعَ كَمَا كَانَ فَيَرُدُّ كُلٌّ إلَى صَاحِبِهِ مِلْكَهُ وَكَانَ حُكْمُ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْوَحْيِ وَإِلَّا لَمَا جَازَ لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خِلَافُهُ، وَلَا لِدَاوُدَ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْ الِاجْتِهَادَيْنِ حَقًّا لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ أَصَابَ الْحُكْمَ وَفَهِمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالذِّكْرِ جِهَةٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ لَكِنَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِخَوَاصِّ التَّرَاكِيبِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَوَازِ خَطَئِهِمْ فِيهِ عَلَى مَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْمَعْنَى فَفَهَّمْنَا سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْفَتْوَى، أَوْ الْحُكُومَةَ الَّتِي هِيَ أَحَقُّ وَأَفْضَلُ وَيَكُونُ اعْتِرَاضُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْأَوْلَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ مِنْ غَيْرِهِمْ يُشْعِرُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ إصَابَتُهُمْ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْعِلْمُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غَيْرُ هَذَا أَوْفَقُ الْفَرِيقَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا حَقٌّ لَكِنَّ غَيْرَهُ أَحَقُّ. وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْأَثَرُ فَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ الدَّالَّةُ عَلَى تَرْدِيدِ الِاجْتِهَادِ بَيْنَ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْآحَادِ إلَّا أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ جِهَةَ الْمَعْنَى وَإِلَّا لَمْ تَصْلُحْ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأُصُولِ. وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ فَالثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِهِ صَرِيحًا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْخَصْمِ مُثْبِتٌ لَا مُظْهِرٌ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الِاجْتِهَادِيَّ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ كَمَفْهُومِ الشَّرْطِ وَالصِّفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْخِلَافُ فِي اتِّحَادِ الْحَقِّ، أَوْ تَعَدُّدِهِ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ، فَلَا إجْمَاعَ عَلَى اتِّحَادِ الْحَقِّ إلَّا فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ مَحْظُورًا وَمُبَاحًا، أَوْ صَحِيحًا وَفَاسِدًا، أَوْ وَاجِبًا وَغَيْرَ وَاجِبٍ

الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ مُمْتَنِعٌ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْمَيْنِ فِي شَرِيعَتِنَا وَالتَّكْلِيفُ بِالِاجْتِهَادِ يُفِيدُ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ كُلِّفُوا (لِأَنَّهُ إنْ أَخْطَأَ، فَهُوَ مُصِيبٌ نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ وَلَهُ الْأَجْرُ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ فَسَادَ صَلَاةِ مَنْ خَالَفَ الْإِمَامَ عَالِمًا يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا، فَأَمَّا عَدَمُ إعَادَةِ الْمُخْطِئِ لِلْكَعْبَةِ فَلِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهَا وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فَأُقِيمَ غَلَبَةُ ظَنِّ إصَابَتِهَا مَقَامَ إصَابَتِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْمُخْطِئِ فَعِنْدَ الْبَعْضِ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ وَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ «وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُمْتَنِعٌ لِاسْتِلْزَامِهِ اتِّصَافَ الشَّيْءِ بِالنَّقِيضَيْنِ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يَكُونُ حُكْمًا شَرْعِيًّا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصَيْنِ، فَإِنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصَيْنِ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ فِي شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً دَاعٍ لَهُمْ إلَى الْحَقِّ بِصَرِيحِ النُّصُوصِ، أَوْ مَعْنَاهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ الْأَشْخَاصِ لِدُخُولِهِمْ فِي الْعُمُومَاتِ عَلَى السَّوَاءِ، وَلَا يَخْفَى ابْتِنَاءُ هَذَا الْجَوَابِ عَلَى أَنَّ الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِي الِاجْتِهَادِيَّات الثَّابِتَةِ بِالنُّصُوصِ وَاحِدٌ إجْمَاعًا وَالْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِيمَا إذَا اسْتَفْتَى عَامِّيٌّ لَمْ يَلْتَزِمْ تَقْلِيدَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ مُجْتَهِدَيْنِ حَنَفِيًّا وَشَافِعِيًّا فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِإِبَاحَةِ النَّبِيذِ وَالْآخَرُ بِحُرْمَتِهِ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ عِلْمُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا وَأَيْضًا إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ حَقًّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِلَّا لَزِمَ النَّسْخُ بِالِاجْتِهَادِ، وَكَذَا الْمُقَلِّدُ إذَا صَارَ مُجْتَهِدًا. (قَوْلُهُ: وَالتَّكْلِيفُ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ اتَّحَدَ الْحَقُّ لَزِمَ التَّكْلِيفُ بِمَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُكَلَّفٌ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ بِالِاجْتِهَادِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْلِيدُ، وَالِاجْتِهَادُ حَقٌّ نَظَرًا إلَى رِعَايَةِ شَرَائِطِهِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ سَوَاءٌ أَدَّى إلَى مَا هُوَ حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ خَطَأٌ وَالتَّكْلِيفُ بِهِ يُفِيدُ الْأَجْرَ وَوُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ، فَلَا يَلْزَمُ الْعَبَثُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُجْتَهِدُ مَأْمُورٌ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ، فَهُوَ حَقٌّ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ وَبِحَسَبِ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا إذَا قَامَ نَصٌّ عَلَى خِلَافِ رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ لَكِنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ الْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ

نَزَلَ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -» ) هَذَا هُوَ الْمَقُولُ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً؛ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَوْ كَانَ مُصِيبًا مِنْ وَجْهٍ لَمَا كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِنُزُولِ الْعَذَابِ وَقَدْ مَرَّ هَذَا الْحَدِيثُ وَقِصَّتُهُ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ. (وَعِنْدَ الْبَعْضِ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً مُخْطِئٌ انْتِهَاءً وَهَذَا مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ) فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدًا لَا يُرَادُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ بَلْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ أَقَامَ الدَّلِيلَ كَمَا هُوَ حَقُّهُ مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ فَيَكُونُ آتِيًا بِمَا كُلِّفَ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَا أَدَّى إلَيْهِ ظَنُّهُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً لِقِيَامِ النَّصِّ عَلَى خِلَافِهِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ: إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ وَيَحْرُمُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ اجْتِهَادُهُ خَطَأً وَاجْتِهَادُ الْغَيْرِ حَقًّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ بِالْخَطَأِ وَاجِبًا وَبِالصَّوَابِ حَرَامًا، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ. (قَوْلُهُ: يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا) ، وَهُوَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَصَحَّ صَلَاةُ مَنْ خَالَفَ الْإِمَامَ عَالِمًا بِحَالِهِ لِإِصَابَتِهِمَا جَمِيعًا فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ الْمَقْصُودُ هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي رَضِيَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِهَا، وَعِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا بَأْسَ بِفَوَاتِ الْوَسِيلَةِ. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَ الْبَعْضِ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً) أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ أَنْ يَتَنَاقَضَ الْمَطَالِبُ وَالْأَحْكَامُ مَعَ رِعَايَةِ الشَّرَائِطِ قَدْرَ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى اجْتِهَادَ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالِامْتِنَانِ مَعَ كَوْنِهِ خَطَأً بِدَلَالَةِ سَوْقِ الْكَلَامِ، وَفِي تَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِإِصَابَةِ الْحَقِّ، فَلَوْ كَانَ خَطَأً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمَا كَانَ حُكْمًا وَعِلْمًا بَلْ جَهْلًا وَخَطَأً. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي إيتَاءِ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ حُكْمٌ وَعِلْمٌ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ اجْتِهَادُهُ فِيهَا حُكْمًا وَعِلْمًا لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَائِدَةٌ إذْ لَا يُشْتَبَهُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا فِي الْجُمْلَةِ. (قَوْلُهُ: وَتَنْصِيفُ الْأَجْرِ) أَيْ تَنْصِيفُ أَجْرِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً لَا ابْتِدَاءً، فَإِنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الصَّوَابِ، فَلَمَّا كَانَ ثَوَابُهُ نِصْفَ ثَوَابِ الْمُصِيبِ كَانَ صَوَابُهُ أَيْضًا كَذَلِكَ تَوْزِيعًا لِلْأَجْرِ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمُخْطِئِ، إنَّمَا هُوَ عَلَى كَدِّهِ فِي الِاجْتِهَادِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً تَمَسَّكُوا بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إطْلَاقُ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -

مِنْ الِاعْتِبَارِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ الْقَطْعِيِّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ حَتَّى يَكُونَ مَدْلُولُهُ قَطْعِيًّا أَلْبَتَّةَ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] الْآيَةَ فَسَمَّى عَمَلَ كِلَيْهِمَا حُكْمًا وَعِلْمًا لَكِنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خُصَّ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ وَتَنْصِيفُ الْأَجْرِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا) أَيْ عَلَى أَنَّهُ مُصِيبٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ آخَرَ. (وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي الْأُسَارَى مِنْ قَبْلُ كَانَ إمَّا الْقَتْلُ، أَوْ الْمَنُّ وَرَخَّصَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْفِدَاءِ أَيْضًا، فَلَوْلَا الْكِتَابُ السَّابِقُ بِإِبَاحَةِ الْفِدَاءِ، وَهُوَ الرُّخْصَةُ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ عَلَى تَرْكِ الْعَزِيمَةِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ، وَمِنْ حُكْمِ الْمُطْلَقِ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكَامِلِ، وَهُوَ الْخَطَأُ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. وَثَانِيهِمَا: قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ أَيْ لَوْلَا مَا كُتِبَ فِي اللَّوْحِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَهْلَ بَدْرٍ، أَوْ أَنْ يُحِلَّ لَهُمْ الْغَنَائِمَ، أَوْ أَنْ لَا يُعَذِّبَ قَوْمًا إلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَقْدِيمِ النَّهْيِ لَمَسَّكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي اتِّبَاعِ الِاجْتِهَادِ الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ الْفِدْيَةِ، فَلَوْ كَانَ صَوَابًا مِنْ وَجْهٍ لَمَا اسْتَحَقُّوا بِاتِّبَاعِهِ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ لِوُجُودِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِي الْجُمْلَةِ وَلَمَا كَانَ ضَعْفُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَيِّنًا إذْ الِاسْتِدْلَال بِالْإِطْلَاقِ عَلَى الْكَمَالِ مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِجَوَابِهِ وَأَجَابَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْعَزِيمَةَ فِي حُكْمِ الْأُسَارَى كَانَ هُوَ الْمَنَّ، أَوْ الْقَتْلَ، وَقَدْ رُخِّصَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْفِدَاءِ أَيْضًا فَالْمَعْنَى لَوْلَا سَبْقُ الْحُكْمِ بِإِبَاحَةِ الْفِدَاءِ وَالرُّخْصَةِ فِيهِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ فِي تَرْكِ الْعَزِيمَةِ فَوُجُوبُ الْعَذَابِ مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ سَبْقِ الْكِتَابِ لَكِنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاقِعٍ لِتَحَقُّقِ سَبْقِ الْكِتَابِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ الْعَذَابِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لَوْلَا لِانْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِوُجُودِ غَيْرِهِ فَيَدْخُلُ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الْعَذَابِ عَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ إنَّمَا كَانَ لِوُجُودِ سَبْقِ الْكِتَابِ بِإِبَاحَةِ الْفِدَاءِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ لَكَانَ الْخَطَأُ مُوجِبًا لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ خَطَأً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَدَمُ وُقُوعِ الْعَذَابِ لَا يُنَافِي؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الْمَانِعِ، وَهُوَ سَبْقُ الْكِتَابِ. (قَوْلُهُ: وَالْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يُعَاقَبُ) ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى الضَّلَالِ بَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا وَمَأْجُورًا إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا بَذْلُ الْوُسْعِ، وَقَدْ فَعَلَ، فَلَمْ يَنَلْ الْحَقَّ لِخَفَاءِ دَلِيلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ إلَى الصَّوَابِ بَيِّنًا فَأَخْطَأَ الْمُجْتَهِدُ لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ وَتَرْكِ مُبَالَغَةٍ فِي الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ وَمَا نُقِلَ مِنْ طَعْنِ السَّلَفِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي مَسَائِلِهِمْ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ طَرِيقَ الصَّوَابِ بَيِّنٌ فِي زَعْمِ الطَّاعِنِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ الْمُخْطِئَ فِي الْأُصُولِ وَالْعَقَائِدِ يُعَاقَبُ بَلْ يُضَلَّلُ أَوْ يُكَفَّرُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ إجْمَاعًا وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْيَقِينُ الْحَاصِلُ بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ إذْ لَا يُعْقَلُ حُدُوثُ الْعَالَمِ وَقِدَمُهُ وَجَوَازُ رُؤْيَةِ الصَّانِعِ وَعَدَمُهُ فَالْمُخْطِئُ فِيهَا مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَمَا نُقِلَ

[القسم الثاني من الكتاب في الحكم وفيه ثلاثة أبواب]

فَنُزُولُ الْعَذَابِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ سَبْقِ الْكِتَابِ لَكِنْ سَبْقُ الْكِتَابِ كَانَ وَاقِعًا، فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ وَاقِعًا بِسَبَبِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ بَعْدَ سَبْقِ الْكِتَابِ. (وَالْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يُعَاقَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ الصَّوَابِ بَيِّنًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) . الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي الْحُكْمِ وَيَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا الْعَقْلُ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْأَمْرِ. وَالْمَحْكُومُ بِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ وَنُورِدُ الْأَبْحَاثَ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ: (بَابٌ فِي الْحُكْمِ) اعْلَمْ أَنِّي ـــــــــــــــــــــــــــــQعَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ إذْ لَمْ يُوجِبْ تَكْفِيرَ الْمُخَالِفِ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَمَسْأَلَةِ الرُّؤْيَةِ وَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْإِثْمِ وَتَحَقُّقُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ لَا حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ [الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي الْحُكْمِ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ] [بَابٌ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ قِسْمَانِ] [الْقَسْم الْأَوَّل أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ] (قَوْلُهُ: الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ) ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ مَبَاحِثِ الْأَدِلَّةِ، وَهَذَا شُرُوعٌ فِي مَبَاحِثِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ الْحُكْمِ وَمَبَاحِثِ الْحَاكِمِ فَرَتَّبَ الْكَلَامَ هَاهُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ: مَبَاحِثِ الْحُكْمِ نَفْسِهِ وَمَبَاحِثِ الْمَحْكُومِ بِهِ وَمَبَاحِثِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَابْتَدَأَ بِالْحُكْمِ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ، ثُمَّ بِالْمَحْكُومِ بِهِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَوَّلًا وَبِوَاسِطَةِ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْمُكَلَّفِ وَعِبَارَةٌ عَنْ فِعْلِهِ يَصِيرُ الْمُكَلَّفُ مَحْكُومًا عَلَيْهِ وَحَاوَلَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ اخْتِرَاعَ تَقْسِيمٍ حَاصِرٍ أَيْ ضَابِطٍ لِمَا تَفَرَّقَ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحُكْمِ، وَأَمَّا التَّقْسِيمُ الْحَاضِرُ بِمَعْنَى كَوْنِهِ دَائِرًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ مُقَيَّدَ التَّكْثِيرِ مَفْهُومٌ وَاحِدٌ إلَى مَا يَحْتَمِلُهُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمُتَقَابِلَةِ، فَلَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ؛ لِأَنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَا هِيَ مُتَدَاخِلَةٌ كَالْفَرْضِ مَثَلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِدَائِرٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَالتَّقْسِيمِ إلَى مَا يَكُونُ صِفَةً لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَإِلَى مَا يَكُونُ أَثَرًا لَهُ، وَأَنَا أُلْقِي إلَيْك مُحَصِّلَ الْبَابِ إجْمَالًا لِتَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ الْأَمْرِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ إمَّا حُكْمٌ بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَالْحُكْمُ إمَّا صِفَةٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، أَوْ أَثَرٌ لَهُ، فَإِنْ كَانَ أَثَرًا لَهُ كَالْمِلْكِ، فَلَا بَحْثَ هَاهُنَا عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا إمَّا الْمَقَاصِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ، أَوْ الْمَقَاصِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَالْأَوَّلُ يَنْقَسِمُ الْفِعْلُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ تَارَةً إلَى صَحِيحٍ وَبَاطِلٍ وَفَاسِدٍ وَتَارَةً إلَى مُنْعَقِدٍ وَغَيْرِ مُنْعَقِدٍ وَتَارَةً إلَى نَافِذٍ وَغَيْرِ نَافِذٍ وَتَارَةً إلَى لَازِمٍ وَغَيْرِ لَازِمٍ. وَالثَّانِي إمَّا أَصْلِيٌّ، أَوْ غَيْرُ أَصْلِيٍّ فَالْأَصْلِيُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ، أَوْ التَّرْكُ أَوْلَى مِنْ الْفِعْلِ، أَوْ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَوْلَى فَالْأَوَّلُ: إنْ كَانَ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ بِقَطْعِيٍّ فَفَرْضٌ، أَوْ بِظَنِّيٍّ فَوَاجِبٌ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ طَرِيقَةً مَسْلُوكَةً فِي الدِّينِ فَسُنَّةٌ وَإِلَّا فَنَفْلٌ وَنَدْبٌ. وَالثَّانِي: إنْ كَانَ مَعَ مَنْعِ الْفِعْلِ فَحَرَامٌ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ. وَالثَّالِثُ: مُبَاحٌ. وَغَيْرُ الْأَصْلِيِّ رُخْصَةٌ وَهِيَ إمَّا حَقِيقَةٌ، أَوْ مَجَازٌ وَالْحَقِيقَةُ إمَّا أَنْ تَكُونَ أَوْلَى وَأَحَقَّ بِمَعْنَى الرُّخْصَةِ، أَوْ لَا وَالْمَجَازُ إمَّا أَنْ

اخْتَرَعْت تَقْسِيمًا حَاصِرًا عَلَى وَفْقِ مَذْهَبِنَا وَعَلَى مَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِنَا مِنْ الْأَقْسَامِ الْمُتَفَرِّقَةِ (وَهُوَ قِسْمَانِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ، أَوْ يَكُونَ كَالْحُكْمِ بِأَنَّ لِهَذَا رُكْنَ ذَلِكَ، أَوْ سَبَبَهُ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ) . اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعَلُّقِ تَعَلُّقٌ زَائِدٌ عَلَى التَّعَلُّقِ بِالْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ كَكَوْنِ الشَّيْءِ رُكْنًا لِشَيْءٍ، أَوْ عِلَّةً، أَوْ شَرْطًا فَإِنَّ هَذَا التَّعَلُّقَ بِالْحُكْمِ وَنَحْوِهِ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ. (أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ) كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَأَمْثَالِهِمَا فَإِنَّهَا صِفَاتٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ، (أَوْ أَثَرًا لَهُ. الثَّانِي كَالْمِلْكِ) فَإِنَّ الْمِلْكَ هُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْحَقِيقَةِ، أَوْ لَا فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فَالْمُتَعَلِّقُ إنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الشَّيْءِ فَرُكْنٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ فَعِلَّةٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُوَصِّلًا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَسَبَبٌ وَإِلَّا فَإِنْ تَوَقَّفَ الشَّيْءُ عَلَيْهِ فَشَرْطٌ وَإِلَّا فَعَلَامَةٌ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الْحَاكِمُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْت: الْحُكْمُ يَتَنَاوَلُ الْقِيَاسَ الْمُحْتَمِلَ لِلْخَطَأِ فَكَيْفَ يُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. قُلْت: الْحَاكِمُ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ إلَّا بِالصَّوَابِ فَالْحُكْمُ الْمَنْسُوبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَحُومُ حَوْلَهُ الْبَاطِلُ وَمَا وَقَعَ مِنْ الْخَطَأِ لِلْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِحُكْمٍ حَقِيقَةً بَلْ ظَاهِرًا، وَهُوَ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: إذَا قَالَ الشَّارِعُ الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ فَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، هُوَ الصَّلَاةُ لَا الْمُكَلَّفُ وَالْمَحْكُومُ بِهِ هُوَ الْوُجُوبُ لَا فِعْلُ الْمُكَلَّفِ. قُلْت: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَالْمَحْكُومِ بِهِ طَرَفَيْ الْحُكْمِ عَلَى مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْمَنْطِقِ بَلْ الْمُرَادُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَنْ وَقَعَ الْخِطَابُ لَهُ وَبِالْمَحْكُومِ بِهِ مَا تَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِهِ كَمَا يُقَالُ: حَكَمَ الْأَمِيرُ عَلَى زَيْدٍ بِكَذَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا هُوَ صِفَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ كَالْوُجُوبِ وَنَحْوِهِ. وَفِيمَا هُوَ حُكْمُ تَعْلِيقٍ كَالسَّبَبِيَّةِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّهُ خَاطَبَ الْمُكَلَّفَ بِأَنَّ فِعْلَهُ سَبَبٌ لِشَيْءٍ، أَوْ شَرْطٌ لَهُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِيمَا هُوَ أَثَرٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ كَمِلْكِ الرَّقَبَةِ، أَوْ الْمُتْعَةِ، أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ فَكَوْنُ الْمَحْكُومِ بِهِ فِعْلَ الْمُكَلَّفِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ بَلْ إذَا جَعَلْنَا الْمِلْكَ نَفْسَ الْحُكْمِ فَلَيْسَ هَاهُنَا مَا يَصْلُحُ مَحْكُومًا بِهِ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ ذَكَرَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْحُكْمَ إمَّا تَكْلِيفِيٌّ كَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا وَإِمَّا وَضْعِيٌّ كَالسَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنْ أَرَادَ بِالتَّكْلِيفِيِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ فَالْوَضْعِيُّ أَيْضًا كَذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ هَاهُنَا، وَإِنْ أَرَادَ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ فَالْإِبَاحَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ. قُلْت: أَرَادَ مَا وَقَعَ التَّكْلِيفُ بِهِ وَعَدَّ الْإِبَاحَةَ مِنْهُ تَغْلِيبًا لِكَوْنِهِ أَحَدَ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَشْهُورَةِ لِلْحُكْمِ عَلَى أَنَّهُ لَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ. فَإِنْ قُلْت: الْمُرَادُ بِالْحُكْمِ إمَّا الْخِطَابُ وَإِمَّا الْأَثَرُ الثَّابِتُ بِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَأَيًّا مَا كَانَ لَيْسَ الْمِلْكُ وَنَحْوُهُ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا الْخِطَابِ. قُلْت: لَمَّا كَانَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ مَثَلًا بِحَسَبِ وَضْعِ الشَّارِعِ جُعِلَ حُكْمُ اللَّهِ

أَثَرٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ (وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ) كَمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَثُبُوتِ الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ. (وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ الْمَقَاصِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا، أَوْ الْأُخْرَوِيَّةُ) فَإِنَّ صِحَّةَ الْعِبَادَةِ كَوْنُهَا بِحَيْثُ تُوجِبُ تَفْرِيغَ الذِّمَّةِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي مَفْهُومِهَا اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا إنَّمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الدُّنْيَوِيُّ، وَهُوَ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهَا الثَّوَابُ مَثَلًا، وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأُخْرَوِيُّ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي مَفْهُومِهِ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا وَالْوُجُوبُ كَوْنُ الْفِعْلِ بِحَيْثُ لَوْ أَتَى بِهِ يُثَابُ، وَلَوْ تَرَكَهُ يُعَاقَبُ فَالْمُعْتَبَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَعَالَى الثَّابِتَ بِخِطَابِهِ. عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْحُكْمُ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ، أَوْ يَكُونَ مُشْعِرًا بِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْحُكْمِ إسْنَادُ أَمْرٍ إلَى آخَرَ مَصْدَرُ قَوْلِك حَكَمْت بِكَذَا لَا الْخِطَابُ، وَلَا أَثَرُ الْخِطَابِ فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَوْرِدُ الْقِسْمَةِ الْحُكْمَ بِمَعْنَى إسْنَادِ الشَّارِعِ أَمْرًا إلَى آخَرَ فِيمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُكَلَّفٌ صَرِيحًا كَالنَّصِّ، أَوْ دَلَالَةً كَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ فَفِي جَعْلِ الْوُجُوبِ وَالْمِلْكِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَقْسَامًا لِلْحُكْمِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَسَامُحٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ إطْلَاقَ الْحُكْمِ عَلَى خِطَابِ الشَّارِعِ وَعَلَى أَثَرِهِ وَعَلَى الْأَثَرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ وَالْمَقْصُودُ هَاهُنَا بَيَانُ أَقْسَامِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحُكْمِ فِي الشَّرْعِ. (قَوْلُهُ: وَالْأَوَّلُ) أَيْ مَا هُوَ صِفَةُ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَيْ فِي مَفْهُومِهِ وَتَعْرِيفِهِ الْمَقَاصِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ أَيْ الْحَاصِلَةُ فِي الدُّنْيَا كَتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي مَفْهُومِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ أَوْ الْأُخْرَوِيَّةُ أَيْ الْحَاصِلَةُ فِي الْآخِرَةِ كَالثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ وَالْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ فِي مَفْهُومِ الْوُجُوبِ وَقَيَّدَ بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَدْ يُعْتَبَرُ فِي نَحْوِ الصِّحَّةِ الثَّوَابُ وَفِي نَحْوِ الْوُجُوبِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ لَكِنْ لَا أَوَّلِيًّا وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ، أَوْ الْأُخْرَوِيِّ ابْتِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى حُكْمٍ وَأَغْرَاضٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالدُّنْيَا، أَوْ الْآخِرَةِ إذْ مِنْ الْبَعِيدِ يُقَالُ: صِحَّةُ الصَّلَاةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حِكْمَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ وَحُرْمَةُ الْخَمْرِ عَلَى حِكْمَةٍ أُخْرَوِيَّةٍ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ التَّقْسِيمَ إلَى مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَقْصُودٌ دُنْيَوِيٌّ، أَوْ أُخْرَوِيٌّ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا لَيْسَ حَاصِرًا دَائِرًا بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ بَلْ بِحَسَبِ الْوُقُوعِ. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ فِي صِحَّةِ النَّوَافِلِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ قُلْنَا لَزِمَتْ بِالشُّرُوعِ فَحَصَلَ بِأَدَائِهَا تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ، وَأَمَّا عِبَادَةُ الصَّبِيِّ فَفِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى لِمَا سَيَجِيءُ ذِكْرُهُ فِي بَحْثِ الْعَوَارِضِ فَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي فِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا غَيْرُ. (قَوْلُهُ: وَفِي الْمُعَامَلَاتِ الِاخْتِصَاصَاتُ) أَيْ الْأَغْرَاضُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ كَمِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي الْبَيْعِ وَمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْبَيْنُونَةِ فِي الطَّلَاقِ، وَكَذَا مَعْنَى صِحَّةِ الْقَضَاءِ تَرَتُّبُ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَلَيْهِ وَمَعْنَى صِحَّةِ الشَّهَادَةِ تَرَتُّبُ لُزُومِ الْقَضَاءِ عَلَيْهَا فَمَرْجِعُ ذَلِكَ أَيْضًا إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَالْفِعْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِمَقْصُودٍ دُنْيَوِيٍّ إنْ وَقَعَ بِحَيْثُ يُوَصِّلُ إلَيْهِ فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ عَدَمُ إيصَالِهِ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ خَلَلٍ فِي أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ فَبَاطِلٌ وَإِلَّا فَفَاسِدٌ فَالْمُتَّصِفُ بِالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ حَقِيقَةً هُوَ الْفِعْلُ لَا نَفْسُ الْحُكْمِ. نَعَمْ يُطْلَقُ

فِي مَفْهُومِهِ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا هُوَ الْمَقْصُودُ الْأُخْرَوِيُّ وَإِنْ كَانَ يَتْبَعُهُ الْمَقْصُودُ الدُّنْيَوِيُّ كَتَفْرِيغِ الذِّمَّةِ وَنَحْوِهِ. (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَقَاصِدُ الدُّنْيَوِيَّةُ. (فَالْمَقْصُودُ الدُّنْيَوِيُّ فِي الْعِبَادَاتِ تَفْرِيغُ الذِّمَّةِ وَفِي الْمُعَامَلَاتِ الِاخْتِصَاصَاتُ الشَّرْعِيَّةُ) فَكَوْنُ الْفِعْلِ مُوَصِّلًا إلَى الْمَقْصُودِ الدُّنْيَوِيِّ يُسَمَّى صِحَّةً وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ لَا يُوَصِّلُ إلَيْهِ أَصْلًا يُسَمَّى بُطْلَانًا وَكَوْنُهُ بِحَيْثُ يَقْتَضِي أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ الْإِيصَالَ إلَيْهِ لَا أَوْصَافُهُ الْخَارِجِيَّةُ يُسَمَّى فَسَادًا، ثُمَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَحْكَامٌ أُخَرُ مِنْهَا الِانْعِقَادُ، وَهُوَ ارْتِبَاطُ أَجْزَاءِ التَّصَرُّفِ شَرْعًا فَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ لَا صَحِيحٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَفْظُ الْحُكْمِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ بِمَعْنَى أَنَّهُمَا ثَبَتَا بِخِطَابِ الشَّارِعِ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ وَاللُّزُومِ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّ أَمْثَالَ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إلَى الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ، فَإِنَّ مَعْنَى صِحَّةِ الْبَيْعِ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ وَمَعْنَى بُطْلَانِهِ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ بِمَعْنَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ تَعَلُّقًا زَائِدًا عَلَى التَّعَلُّقِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ فِي كُلِّ حُكْمٍ، وَهُوَ تَعَلُّقُهُ بِالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَبِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ بِتَعَلُّقِ الصِّحَّةِ بِهَذَا الْفِعْلِ وَتَعَلُّقِ الْبُطْلَانِ أَوْ الْفَسَادِ بِذَلِكَ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّهَا أَحْكَامٌ عَقْلِيَّةٌ لَا شَرْعِيَّةٌ، فَإِنَّ الشَّارِعَ إذَا شَرَّعَ الْبَيْعَ لِحُصُولِ الْمِلْكِ وَبَنَى شَرَائِطَهُ وَأَرْكَانَهُ فَالْعَقْلُ يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ مُوَصِّلًا إلَيْهِ عِنْدَ تَحَقُّقِهَا وَغَيْرَ مُوَصِّلٍ عِنْدَ عَدَمِ تَحَقُّقِهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِكَوْنِ الشَّخْصُ مُصَلِّيًا، أَوْ غَيْرَ مُصَلٍّ. فَعَلَى مَا ذَكَرْنَا الصِّحَّةُ وَالْبُطْلَانُ وَالْفَسَادُ مَعَانٍ مُتَقَابِلَةٌ حَاصِلُهَا أَنَّ: الصَّحِيحَ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ. وَالْبَاطِلَ مَا لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ، وَلَا بِوَصْفِهِ. وَالْفَاسِدَ مَا يَكُونُ مَشْرُوعًا بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الصَّحِيحُ مَا اُسْتُجْمِعَ أَرْكَانُهُ وَشَرَائِطُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ. وَالْفَاسِدُ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي نَفْسِهِ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ وَجْهٍ لِمُلَازَمَةِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ إيَّاهُ بِحُكْمِ الْحَالِ مَعَ تَصَوُّرِ الِانْفِصَالِ فِي الْجُمْلَةِ. وَالْبَاطِلُ مَا كَانَ فَائِتَ الْمَعْنَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ الصُّورَةِ إمَّا لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّصَرُّفِ كَبَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ، أَوْ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الْمُتَصَرِّفِ كَبَيْعِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْفَاسِدُ عَلَى الْبَاطِلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ اسْمَانِ مُتَرَادِفَانِ لِمَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَهَذَا اصْطِلَاحٌ لَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إذَا كَانَتْ الصِّحَّةُ عِبَارَةً عَنْ كَوْنِ الْفِعْلِ مُوَصِّلًا إلَى الْمَقْصُودِ لَمْ تَكُنْ مُقَابِلَةً لِلْفَسَادِ بَلْ أَعَمَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْفَاسِدَةَ تُوجِبُ تَفْرِيغَ الذِّمَّةِ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا بَلْ نَافِذًا لِتَرَتُّبِ الْأَثَرِ عَلَيْهِ، ثُمَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ النَّافِذُ أَعَمُّ مِنْ اللَّازِمِ وَالْمُنْعَقِدُ أَعَمُّ مِنْ النَّافِذِ، وَلَا يَظْهَرُ فَرْقٌ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالنَّافِذِ (قَوْلُهُ: فَالْفِعْلُ فَرْضٌ) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحُرْمَةِ

ثُمَّ النَّفَاذُ، وَهُوَ تَرَتُّبُ الْأَثَرِ عَلَيْهِ كَالْمِلْكِ فَبَيْعُ الْفُضُولِيِّ مُنْعَقِدٌ لَا نَافِذٌ، ثُمَّ اللُّزُومُ كَوْنُهُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ رَفْعُهُ. (وَأَمَّا الثَّانِي) أَيْ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَقَاصِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ (فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا أَصْلِيًّا) أَيْ غَيْرَ مَبْنِيٍّ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ (أَوْ لَا يَكُونَ: أَمَّا الْأَوَّلُ) ، وَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ (فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ مَعَ مَنْعِهِ) أَيْ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ (فَإِنْ كَانَ هَذَا) أَيْ كَوْنُ الْفِعْلِ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ (بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ) فَالْفِعْلُ فَرْضٌ وَبِظَنِّيٍّ وَاجِبٌ، وَبِلَا مَنْعِهِ فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ طَرِيقَةً مَسْلُوكَةً فِي الدِّينِ فَسُنَّةٌ وَإِلَّا فَنَفْلٌ، وَمَنْدُوبٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَكْسِ أَيْ إنْ كَانَ التَّرْكُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْوُجُوبِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَالْحُكْمُ الَّذِي بِمَعْنَى الْخِطَابِ إنَّمَا هُوَ الْإِيجَابُ وَالتَّحْرِيمُ وَنَحْوُهُمَا، وَاَلَّذِي هُوَ بِمَعْنَى أَثَرِ الْخِطَابِ هُوَ الْوُجُوبُ وَالْحُرْمَةُ وَنَحْوُهُمَا، وَهَذَا التَّقْسِيمُ وَقَعَ لِلْفِعْلِ أَوَّلًا بِالذَّاتِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ تَقْسِيمُ الْحُكْمِ، وَكَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَعْرِيفُ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَعْرِيفُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهَا وَمَعْنَى أَوْلَوِيَّةٍ الْفِعْلِ، أَوْ التَّرْكِ أَوْلَوِيَّتُهُ عِنْدَ الشَّارِعِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، أَوْ عَلَى دَلِيلِهِ. وَفِي إطْلَاقِ الْأَوْلَوِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ لَازِمٌ يَمْتَنِعُ نَقِيضُهُ كَالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ نَوْعُ تَسَامُحٍ، وَالْمُرَادُ بِاسْتِوَاءِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ فِي الْمُبَاحِ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي نَظَرِ الشَّارِعِ بِأَنْ يُحْكَمَ بِذَلِكَ صَرِيحًا، أَوْ دَلَالَةً بِقَرِينَةِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي مُتَعَلِّقِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَيَخْرُجُ فِعْلُ الْبَهَائِمِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ قُلْت: جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَقَاصِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ التَّعْرِيفَاتِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ. قُلْت: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ التَّعْرِيفَاتُ الْمَذْكُورَةُ رُسُومًا لَا حُدُودًا، وَلَوْ سَلِمَ فَفِي الْأَوْلَوِيَّةِ وَالِاسْتِوَاءِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ يَكُونُ الْوُجُوبُ وَالْحُرْمَةُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ مَا هُوَ أَثَرٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ لَا صِفَةٌ لَهُ كَإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيْعِ وَحُرْمَةِ الْوَطْءِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ. قُلْت: هِيَ مِنْ صِفَاتِهِ أَيْضًا إذْ الِانْتِفَاعُ وَالْوَطْءُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْحُكْمِ صِفَةً لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ وَأَثَرًا لَهُ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحُكْمَ الْغَيْرَ الْأَصْلِيِّ أَعْنِي الَّذِي يُبْتَنَى عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ أَيْضًا يَتَّصِفُ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ كَالرُّخْصَةِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ الْمَنْدُوبَةِ، أَوْ الْمُبَاحَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْصِيصِ بِالْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ. (قَوْلُهُ: فَالْفَرْضُ لَازِمٌ عِلْمًا) أَيْ يَلْزَمُ اعْتِقَادُ حَقِّيَّتِهِ وَالْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ لِثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ حَتَّى لَوْ أَنْكَرَهُ قَوْلًا، أَوْ اعْتِقَادًا كَانَ كَافِرًا وَالْوَاجِبُ لَا يَلْزَمُ اعْتِقَادُ حَقِّيَّتِهِ لِثُبُوتِهِ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَمَبْنَى الِاعْتِقَادِ عَلَى الْيَقِينِ لَكِنْ يَلْزَمُ الْعَمَلُ بِمُوجَبِهِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ فَجَاحِدُهُ لَا يُكَفَّرُ وَتَارِكُ الْعَمَلِ بِهِ إنْ كَانَ مُؤَوِّلًا لَا يُفَسَّقُ، وَلَا يُضَلَّلُ؛ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ فِي مَظَانِّهِ مِنْ سِيرَةِ السَّلَفِ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُسْتَخِفًّا يُضَلَّلُ؛ لِأَنَّ رَدَّ خَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ بِدْعَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَوِّلًا، وَلَا مُسْتَخِفًّا

أَوْلَى مِنْ الْفِعْلِ (مَعَ مَنْعِ الْفِعْلِ فَحَرَامٌ وَبِلَا مَنْعِهِ فَمَكْرُوهٌ وَإِنْ اسْتَوَيَا فَمُبَاحٌ. فَالْفَرْضُ لَازِمٌ عِلْمًا وَعَمَلًا حَتَّى يُكَفَّرَ جَاحِدُهُ وَالْوَاجِبُ لَازِمٌ عَمَلًا لَا عِلْمًا، فَلَا يُكَفَّرُ جَاحِدُهُ بَلْ يُفَسَّقُ إنْ اسْتَخَفَّ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ الْغَيْرِ الْمُؤَوَّلَةِ، وَأَمَّا مُؤَوِّلًا، فَلَا وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُمَا) أَيْ تَارِكُ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ (إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ) فِي أَنَّ الْكِتَابَ نُقِلَ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَمْ يُنْقَلْ كَذَلِكَ (يُوجِبُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِمَا) فَيَكُونُ الْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُحْكَمُ الْكِتَابِ ثَابِتًا يَقِينًا وَالْحُكْمُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُحْكَمُ خَبَرِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيُفَسَّقُ لِخُرُوجِهِ عَنْ الطَّاعَةِ بِتَرْكِ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَيُعَاقَبُ تَارِكُ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ لِلْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى وَعِيدِ الْعُصَاةِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ، أَوْ بِتَوْبَةِ الْعَاصِي وَنَدَمِهِ لِلنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَلِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجُوزُ لَهُ الْعَفْوُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا عَفْوَ، وَلَا غُفْرَانَ بِدُونِ التَّوْبَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ وُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. (قَوْلُهُ: وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ) لَا نِزَاعَ لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَفَاوُتِ مَفْهُومَيْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي اللُّغَةِ، وَلَا فِي تَفَاوُتِ مَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ كَمُحْكَمِ الْكِتَابِ وَمَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ كَمُحْكَمِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الشَّرْعِ، فَإِنَّ جَاحِدَ الْأَوَّلِ كَافِرٌ دُونَ الثَّانِي وَتَارِكَ الْعَمَلِ بِالْأَوَّلِ مُؤَوِّلًا فَاسِقٌ دُونَ الثَّانِي، وَإِنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ مَنْقُولَانِ مِنْ مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيِّ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ هُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا سَوَاءٌ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، أَوْ ظَنِّيٍّ، وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْكِتَابِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ يُوجِبُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ مَدْلُولَيْهِمَا، أَوْ بِأَنَّ الْفَرْضَ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيرُ، وَالْوُجُوبَ هُوَ السُّقُوطُ. فَالْفَرْضُ مَا عُلِمَ قَطْعًا أَنَّهُ مُقَدَّرٌ عَلَيْنَا وَالْوَاجِبُ مَا سَقَطَ عَلَيْنَا بِطَرِيقِ الظَّنِّ، فَلَا يَكُونُ الْمَظْنُونُ مُقَدَّرًا، وَلَا مَعْلُومُ الْقَطْعِيِّ سَاقِطًا عَلَيْنَا. عَلَى أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: لَوْ سَلِمَ مُلَاحَظَةُ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ، فَلَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ أَنْ يَثْبُتَ كَوْنُ الشَّيْءِ مُقَدَّرًا عَلَيْنَا بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَكَوْنُهُ سَاقِطًا عَلَيْنَا بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِهِمْ: الْفَرْضُ أَيْ الْمَفْرُوضُ الْمُقَدَّرُ فِي الْمَسْحِ هُوَ الرُّبُعُ وَأَيْضًا الْحَقُّ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الثُّبُوتُ، وَأَمَّا مَصْدَرُ الْوَاجِبِ بِمَعْنَى السَّاقِطِ وَالْمُضْطَرِبِ، فَإِنَّمَا هُوَ الْوَجْبَةُ وَالْوَجِيبُ، ثُمَّ اسْتِعْمَالُ الْفَرْضِ فِيمَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ وَالْوَاجِبِ فِيمَا ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ شَائِعٌ مُسْتَفِيضٌ كَقَوْلِهِمْ: الْوِتْرُ فَرْضٌ وَتَعْدِيلُ الْأَرْكَانِ فَرْضٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُسَمَّى فَرْضًا عَمَلِيًّا وَكَقَوْلِهِمْ: الصَّلَاةُ وَاجِبَةٌ وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَاجِبُ عِنْدَنَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَيْضًا فَلَفْظُ الْوَاجِبِ يَقَعُ عَلَى مَا هُوَ فَرْضٌ عِلْمًا وَعَمَلًا كَصَلَاةِ الْفَجْرِ وَعَلَى ظَنِّيٍّ هُوَ فِي قُوَّةِ الْفَرْضِ فِي

الْوَاحِدِ ثَابِتًا بِغَلَبَةِ الظَّنِّ. (وَقَدْ يُطْلَقُ الْوَاجِبُ عِنْدَنَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَعَمِّ أَيْضًا) أَيْ أَعَمَّ مِنْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ بِالتَّفْسِيرِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ أَوْلَى مِنْ التَّرْكِ مَعَ مَنْعِ التَّرْكِ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْمَعْنَى الْقَطْعِيِّ، أَوْ الظَّنِّيِّ (فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَاجِبَةٌ) . (وَالسُّنَّةُ نَوْعَانِ سُنَّةُ الْهُدَى وَتَرْكُهَا يُوجِبُ إسَاءَةً وَكَرَاهِيَةً كَالْجَمَاعَةِ وَالْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَنَحْوِهَا وَسُنَّةُ الزَّوَائِدِ وَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ ذَلِكَ كَسُنَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي لِبَاسِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ تُطْلَقُ عَلَى طَرِيقَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَنَا تَقَعُ عَلَى غَيْرِهِ أَيْضًا فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَقُولُونَ: سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ وَالنَّفَلُ مَا يُثَابُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْعَمَلِ كَالْوِتْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يَمْتَنِعَ تَذَكُّرُهُ صِحَّةَ الْفَجْرِ كَتَذَكُّرِ الْعِشَاءِ، وَعَلَى ظَنِّيٍّ هُوَ دُونَ الْفَرْضِ فِي الْعَمَلِ وَفَوْقَ السُّنَّةِ كَتَعَيُّنِ الْفَاتِحَةِ حَتَّى لَا تَفْسُدَ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا لَكِنْ يَجِبُ سَجْدَةُ السَّهْوِ (قَوْلُهُ: وَالسُّنَّةُ الْمُطْلَقَةُ) كَمَا إذَا قَالَ الرَّاوِي مِنْ السُّنَّةِ كَذَا: يُحْمَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَعِنْدَ جَمْعٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُطْلَقُ عَلَيْهَا وَعَلَى غَيْرِهَا، وَلَا تَنْصَرِفُ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِدُونِ قَرِينَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ: سُنَّةُ الْعُمَرَيْنِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي السُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ، وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» الْحَدِيثَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ سَنَّ سُنَّةً» قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنْ التَّخْصِيصِ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِ السُّنَّةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَدْلُولُ اللُّغَوِيُّ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمُجَرَّدَ عَنْ الْقَرَائِنِ يَنْصَرِفُ فِي الشَّرْعِ إلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلْعُرْفِ الطَّارِئِ كَالطَّاعَةِ تَنْصَرِفُ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رَسُولِهِ، وَقَدْ يُرَادُ بِالسُّنَّةِ مَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ وَعَلَيْهِ يُحْمَلَ قَوْلُهُمْ: عِيدَانِ اجْتَمَعَا أَحَدُهُمَا فَرْضٌ وَالْآخَرُ سُنَّةٌ أَيْ وَاجِبٌ بِالسُّنَّةِ. (قَوْلُهُ: وَالنَّفَلُ يُثَابُ فَاعِلُهُ) أَيْ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ جَعَلَهُ حُكْمَ النَّفْلِ وَبَعْضُهُمْ تَعْرِيفَهُ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ صَوْمَ الْمُسَافِرِ وَالزِّيَادَةَ عَلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ فِي قِرَاءَةِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَقَعُ فَرْضًا، وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ. وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ التَّرْكُ مُطْلَقًا، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الزِّيَادَةَ قَبْلَ تَحَقُّقِهَا كَانَتْ نَفْلًا فَانْقَلَبَتْ فَرْضًا بَعْدَ التَّحَقُّقِ لِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْله تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} [المزمل: 20] كَالنَّافِلَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ تَصِيرُ فَرْضًا حَتَّى لَوْ أَفْسَدَهَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا ذَكَرَهُ أَبُو الْيُسْرِ وَالنَّفَلُ دُونَ سُنَنِ الزَّوَائِدِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ طَرِيقَةً مَسْلُوكَةً فِي الدِّينِ وَسِيرَةً لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -

فَاعِلُهُ، وَلَا يُسِيءُ تَارِكُهُ، وَهُوَ دُونَ سُنَنِ الزَّوَائِدِ، وَهُوَ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى النَّفْلِ (لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيمَا لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدُ فَلَهُ إبْطَالُ مَا أَدَّاهُ تَبَعًا، وَعِنْدَنَا يَلْزَمُ) أَيْ النَّفَلُ بِالشُّرُوعِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَلِأَنَّ مَا أَدَّاهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ صِيَانَتُهُ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهَا) أَيْ إلَى صِيَانَةِ مَا أَدَّاهُ (إلَّا بِلُزُومِ الْبَاقِي فَالتَّرْجِيحُ بِالْمُؤَدَّى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِخِلَافِ النَّفْلِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ أَيْ النَّفَلُ لَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) حَتَّى لَوْ لَمْ يَمْضِ فِيهِ لَا يُؤَاخَذُ بِالْقَضَاءِ، وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّفْلِ التَّخْيِيرُ فِيهِ فَإِذَا شَرَعَ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيمَا لَمْ يَأْتِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّفْلِيَّةِ إذْ النَّفَلُ لَا يَنْقَلِبُ فَرْضًا وَإِتْمَامُهُ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ بَلْ أَدَاءً لِلنَّفْلِ وَلِهَذَا يُبَاحُ الْإِفْطَارُ بِعُذْرِ الضِّيَافَةِ، وَإِذَا كَانَ مُخَيَّرًا فِيمَا لَمْ يَأْتِ فَلَهُ تَرْكُهُ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى التَّخْيِيرِ وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ بُطْلَانُ الْمُؤَدَّى ضِمْنًا وَتَبَعًا لَا قَصْدًا، فَلَا يَكُونُ إبْطَالًا لِخُلُوِّهِ عَنْ الْقَصْدِ كَمَنْ سَقَى زَرْعَهُ فَفَسَدَ زَرْعُ الْغَيْرِ بِالنَّزِّ، فَإِنَّهُ لَا يُجْعَلُ إتْلَافًا وَجَوَابُهُ مَنْعُ التَّخْيِيرِ فِي النَّفْلِ بَعْدَ الشُّرُوعِ، فَإِنَّهُ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَعِنْدَنَا النَّفَلُ يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ حَتَّى يَجِبَ الْمُضِيُّ فِيهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَفِي عَدَمِ الْإِتْمَامِ إبْطَالٌ لِلْمُؤَدَّى، فَإِنْ قِيلَ: لَا إبْطَالَ، وَإِنَّمَا هُوَ بُطْلَانٌ أَدَّى إلَيْهِ أَمْرٌ مُبَاحٌ لَهُ هُوَ تَرْكُ النَّفْلِ قُلْنَا لَا مَعْنَى لِلْإِبْطَالِ هَاهُنَا إلَّا فِعْلٌ يَحْصُلُ بِهِ الْبُطْلَانُ كَشَقِّ زِقٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فِيهِ مَاءٌ لِغَيْرِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بُطْلَانَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ النَّفْلِ إنَّمَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ الْمُنَاقِضِ لِلْعِبَادَةِ إذْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ سِوَاهُ بِخِلَافِ فَسَادِ زَرْعِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ يُضَافُ إلَى رَخَاوَةِ الْأَرْضِ لَا إلَى فِعْلِهِ الَّذِي هُوَ سَقْيُ أَرْضِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي أَدَّاهُ صَارَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى حَقًّا لَهُ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْإِفْسَادِ حَرَامٌ، وَلَا طَرِيقَ إلَى صِيَانَةِ الْمُؤَدَّى سِوَى لُزُومِ الْبَاقِي إذْ لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِ الْبَاقِي؛ لِأَنَّ الْكُلَّ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ بِتَمَامِهَا يَتَحَقَّقُ اسْتِحْقَاقُ الثَّوَابِ. لَا يُقَالُ: صِحَّةُ الْأَجْزَاءِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَكَوْنُهَا عِبَادَةً مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى صِحَّةِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَكَوْنِهَا عِبَادَةً، فَلَوْ تَوَقَّفَتْ هِيَ عَلَيْهَا لَزِمَ الدَّوْرُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ دَوْرُ مَعِيَّةٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَضَايِفَيْنِ كَالْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ يَتَوَقَّفُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَإِنْ كَانَ ذَاتُ الْأَبِ مُتَقَدِّمًا فَكَذَا هَاهُنَا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى صِحَّةِ الْجُزْءِ الْآخَرِ مَعَ تَقَدُّمِ ذَاتِ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَنْعَقِدُ عِبَادَةً لِكَوْنِهِ فِعْلًا قُصِدَ بِهِ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ بَقَاءَ هَذَا الْوَصْفِ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْعِقَادِ الْجُزْءِ الثَّانِي عِبَادَةً وَانْعِقَادُ الْجُزْءِ الثَّانِي عِبَادَةً يَتَوَقَّفُ عَلَى تَحَقُّقِ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ لَا عَلَى وَصْفِ كَوْنِهِ عِبَادَةً فَالْمَوْقُوفُ عَلَى الْأَجْزَاءِ الْبَاقِيَةِ هُوَ بَقَاءُ صِحَّةِ الْمُؤَدَّى وَكَوْنُهُ عِبَادَةً لَا صَيْرُورَتُهُ عِبَادَةً وَالْمَوْقُوفُ عَلَى صِحَّةِ الْمُؤَدَّى هُوَ صَيْرُورَةُ الْأَجْزَاءِ الْبَاقِيَةِ عِبَادَةً

أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِيهَا، وَلَمَّا وَجَبَ صِيَانَةُ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى تَسْمِيَةً، وَهُوَ النَّذْرُ فَمَا صَارَ فِعْلًا أَوْلَى) أَيْ صِيَانَةُ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلًا أَوْلَى بِالْوُجُوبِ. وَقَوْلُهُ: فِعْلًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: تَسْمِيَةً وَيَجُوزُ أَنْ يُنْصَبَ تَسْمِيَةً وَفِعْلًا عَلَى الْحَالِ تَقْدِيرُهُ حَالَ كَوْنِهِ مُسَمًّى وَحَالَ كَوْنِهِ مَفْعُولًا. (وَالْحَرَامُ يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ إمَّا حَرَامٌ لِعَيْنِهِ) أَيْ مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ عَيْنُ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهِمَا. (وَإِمَّا حَرَامٌ لِغَيْرِهِ كَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ وَالْحُرْمَةُ هُنَا مُلَاقِيَةٌ لِنَفْسِ الْفِعْلِ لَكِنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لَهُ. وَفِي الْأَوَّلِ) أَيْ فِي الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ (قَدْ خَرَجَ الْمَحَلُّ عَنْ قَبُولِ الْفِعْلِ فَعَدَمُ الْفِعْلِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّ فَيَكُونُ الْمَحَلُّ هُنَاكَ) أَيْ فِي الْحَرَامِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَلَا دَوْرَ. فَإِنْ قِيلَ: بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي لَمْ يَبْقَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ نَفْسُهُ فَضْلًا عَنْ وَصْفِ الصِّحَّةِ وَالْعِبَادَةِ. قُلْنَا: هَذِهِ اعْتِبَارَاتٌ شَرْعِيَّةٌ حَيْثُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْحُكْمُ بِالْبَقَاءِ وَالْإِحْبَاطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَإِنْ قِيلَ: فَمَنْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُثَابَ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ شَرْطِ بَقَاءِ الْمُؤَدَّى عِبَادَةً قُلْنَا الْمَوْتُ مُنْهٍ لَا مُبْطِلٌ فَجَعْلُ الْعِبَادَةِ كَأَنَّهَا هَذَا الْقَدْرُ بِمَنْزِلَةِ تَمَامِ عِبَادَةِ الْحَيِّ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ عِبَادَةً. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ صِيَانَةَ الْمُؤَدَّى تَقْتَضِي لُزُومَ الْبَاقِي لَكِنَّ كَوْنَ الْبَاقِي نَفْلًا مُخَيَّرًا فِيهِ يَقْتَضِي جَوَازَ إبْطَالِ الْمُؤَدَّى فَتَعَارَضَا فَالْجَوَابُ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْمُؤَدَّى أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ أَيْ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى أَوْلَى مِنْ إبْطَالِهِ احْتِيَاطًا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَصَوْنًا لَهَا عَنْ الْبُطْلَانِ وَأَيْضًا الْمُؤَدَّى قَائِمٌ حُكْمًا بِدَلِيلِ احْتِمَالِ الْبَقَاءِ وَالْبُطْلَانِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَى مَا هُوَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَهُوَ غَيْرُ الْمُؤَدَّى. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُنْذِرَ قَدْ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى تَسْمِيَةً بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ فَيَكُونُ أَدْنَى حَالًا مِمَّا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلًا، وَهُوَ الْمُؤَدَّى، ثُمَّ إبْقَاءُ الشَّيْءِ وَصِيَانَتُهُ عَنْ الْبُطْلَانِ أَسْهَلُ مِنْ ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ، وَإِذَا وَجَبَ أَقْوَى الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ لِصِيَانَةِ أَدْنَى الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى تَسْمِيَةً، فَلَأَنْ يَجِبَ أَسْهَلُ الْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ إبْقَاءُ الْفِعْلِ لِصِيَانَةِ أَقْوَى الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ مَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى فِعْلًا أَوْلَى (قَوْلُهُ: وَالْحَرَامُ) قَدْ يُضَافُ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ إلَى الْأَعْيَانِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْأُمَّهَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ عَلَى أَنَّهَا مَجَازٌ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْحِلِّ عَلَى الْحَالِ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ حُرِّمَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَنِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى الْحَذْفِ. وَالْمَقْصُودُ أَظْهَرُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَالْمَقْصُودُ الْأَظْهَرُ مِنْ اللُّحُومِ أَكْلُهَا، وَمِنْ الْأَشْرِبَةِ شُرْبُهَا، وَمِنْ النِّسَاءِ نِكَاحُهُنَّ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْحُرْمَةِ هُوَ الْمَنْعُ، وَمِنْهُ حَرَمُ مَكَّةَ وَحَرِيمُ الْبِئْرِ فَمَعْنَى حُرْمَةِ الْفِعْلِ كَوْنُهُ مَمْنُوعًا بِمَعْنَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ مُنِعَ عَنْ اكْتِسَابِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَمَعْنَى

لِعَيْنِهِ (أَصْلًا وَالْفِعْلُ تَبَعًا فَتُنْسَبُ الْحُرْمَةُ إلَى الْمَحَلِّ لِتَدُلَّ عَلَى عَدَمِ صَلَاحِيَّتِهِ لِلْفِعْلِ لَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَحَلَّ وَيَقْصِدُ بِهِ الْحَالَ كَمَا فِي الْحَرَامِ لِغَيْرِهِ) فَفِي الْحَرَامِ لِغَيْرِهِ إذَا قِيلَ: هَذَا الْخُبْزُ حَرَامٌ يَكُونُ مَجَازًا بِإِطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ أَيْ أَكْلُهُ حَرَامٌ، وَإِذَا قِيلَ: الْمَيْتَةُ حَرَامٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّهَا مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ لَا أَنَّهَا ذَكَرَ الْمَحَلَّ وَقَصَدَ بِهِ الْحَالَ فَالْمَجَازُ ثَمَّةَ فِي الْمُسْنَدِ إلَيْهِ وَهُنَا فِي الْمُسْنَدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: حَرَامٌ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ. (وَالْمَكْرُوهُ نَوْعَانِ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ إلَى الْحِلِّ أَقْرَبُ وَمَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ، وَهُوَ إلَى الْحُرْمَةِ أَقْرَبُ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بَلْ هَذَا) ـــــــــــــــــــــــــــــQحُرْمَةِ الْعَيْنِ أَنَّهَا مُنِعَتْ مِنْ الْعَبْدِ تَصَرُّفَاتُهُ فِيهَا فَحُرْمَةُ الْفِعْلِ مِنْ قَبِيلِ مَنْعِ الرَّجُلِ عَنْ الشَّيْءِ كَمَا نَقُولُ لِلْغُلَامِ لَا تَشْرَبْ هَذَا الْمَاءَ وَمَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ مَنْعُ الشَّيْءِ عَنْ الرَّجُلِ بِأَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ مَثَلًا، وَهُوَ أَوْكَدُ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ مَعْنَى حُرْمَةِ الْعَيْنِ خُرُوجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ مَعْنَى حُرْمَةِ الْفِعْلِ خُرُوجُهُ عَنْ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا فَالْخُرُوجُ عَنْ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا مُتَحَقِّقٌ فِيهِمَا، فَلَا يَكُونُ مَجَازًا وَخُرُوجُ الْعَيْنِ عَنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ يَسْتَلْزِمُ مَنْعَ الْفِعْلِ بِطَرِيقٍ أَوْكَدَ وَأَلْزَمَ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى احْتِمَالُ الْفِعْلِ أَصْلًا فَنَفْيُ الْفِعْلِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ تَبَعًا أَقْوَى مِنْ نَفْيِهِ إذَا كَانَ مَقْصُودًا، وَلَمَّا لَاحَ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ أَثَرُ الضَّعْفِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الشَّرْعِ قَدْ نُقِلَتْ عَنْ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ إلَى كَوْنِ الْفِعْلِ مَمْنُوعًا عَنْهُ شَرْعًا، أَوْ كَوْنِهِ بِحَيْثُ يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ إضَافَةُ الْحُرْمَةِ إلَى بَعْضِ الْأَعْيَانِ مُسْتَحْسَنَةً جِدًّا كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ دُونَ الْبَعْضِ كَحُرْمَةِ خُبْزِ الْغَيْرِ سَلَكَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي ذَلِكَ طَرِيقَةً مُتَوَسِّطَةً، وَهُوَ أَنَّ الْفِعْلَ الْحَرَامَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَكُونُ مَنْشَأُ حُرْمَتِهِ عَيْنَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَحُرْمَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَيُسَمَّى حَرَامًا لِعَيْنِهِ. وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ مَنْشَأُ الْحُرْمَةِ غَيْرَ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَحُرْمَةِ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لِنَفْسِ ذَلِكَ الْمَالِ بَلْ لِكَوْنِهِ مِلْكَ الْغَيْرِ فَالْأَكْلُ مُحَرَّمٌ مَمْنُوعٌ لَكِنَّ الْمَحَلَّ قَابِلٌ لِلْأَكْلِ فِي الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَأْكُلَهُ مَالِكُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الْمَحَلَّ قَدْ خَرَجَ عَنْ قَابِلِيَّةِ الْفِعْلِ وَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْفِعْلِ ضَرُورَةَ عَدَمِ مَحَلِّهِ فَفِي الْحَرَامِ لِعَيْنِهِ الْمَحَلُّ أَصْلٌ وَالْفِعْلُ تَبَعٌ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَحَلَّ أُخْرِجَ أَوَّلًا مِنْ قَبُولِ الْفِعْلِ وَمُنِعَ، ثُمَّ صَارَ الْفِعْلُ مَمْنُوعًا وَمُخْرَجًا عَنْ الِاعْتِبَارِ فَحُسْنُ نِسْبَةِ الْحُرْمَةِ وَإِضَافَتِهَا إلَى الْمَحَلِّ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْفِعْلِ شَرْعًا حَتَّى كَأَنَّهُ الْحَرَامُ نَفْسُهُ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْفِعْلِ الْحَالِّ فِيهِ بِأَنْ يُرَادَ بِالْمَيْتَةِ أَكْلُهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ فَوَاتِ الدَّلَالَةِ عَلَى خُرُوجِ الْمَحَلِّ عَنْ صَلَاحِيَّةِ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْحَرَامِ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إذَا أُضِيفَ الْحُرْمَةُ فِيهِ إلَى الْمَحَلِّ يَكُونُ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَوْ عَلَى إطْلَاقِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ. فَإِذَا قُلْنَا: الْمَيْتَةُ حَرَامٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمَيْتَةَ

الْإِشَارَةُ تَرْجِعُ إلَى الْمَكْرُوهِ كَرَاهَةَ تَحْرِيمٍ (حَرَامٌ لَكِنْ بِغَيْرِ الْقَطْعِيِّ كَالْوَاجِبِ مَعَ الْفَرْضِ) . (وَأَمَّا الثَّانِي) الْمُرَادُ بِالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ حُكْمًا أَصْلِيًّا أَيْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ (فَيُسَمَّى رُخْصَةً وَمَا وَقَعَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ) أَيْ الَّذِي هُوَ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ (فِي مُقَابَلَتِهَا) أَيْ فِي مُقَابَلَةِ الرُّخْصَةِ (يُسَمَّى عَزِيمَةً وَهِيَ إمَّا فَرْضٌ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى الْعَزِيمَةِ (أَوْ وَاجِبٌ، أَوْ سُنَّةٌ، أَوْ نَفْلٌ لَا غَيْرُ. وَالرُّخْصَةُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعَانِ مِنْ الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا أَحَقُّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً مِنْ الْآخَرِ وَنَوْعَانِ مِنْ الْمَجَازِ أَحَدُهُمَا أَتَمُّ فِي الْمَجَازِيَّةِ مِنْ الْآخَرِ) أَيْ نَوْعَانِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَنْشَأُ الْحُرْمَةِ أَكْلُهَا، وَإِذَا قُلْنَا خُبْزُ الْغَيْرِ حَرَامٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّ أَكْلَهُ حَرَامٌ إمَّا مَجَازًا، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] يُحْمَلُ تَارَةً عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَتَارَةً عَلَى أَنَّ الْقَرْيَةَ مَجَازٌ عَنْ الْأَهْلِ إطْلَاقًا لِلْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِ وَهُمَا مُتَقَارِبَانِ وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ صِفَتَا فِعْلٍ لَا صِفَتَا مَحَلِّ الْفِعْلِ لَكِنْ مَتَى ثَبَتَ الْحِلُّ، أَوْ الْحُرْمَةُ لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ أُضِيفَ إلَيْهَا لِأَنَّهَا سَبَبُهُ كَمَا يُقَالُ: جَرَى النَّهْرُ؛ لِأَنَّهُ سَبِيلُ الْجَرَيَانِ وَطَرِيقٌ يُجْرَى فِيهِ فَيُقَالُ: حُرِّمَتْ الْمَيْتَةُ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ لِمَعْنًى فِيهَا، وَلَا يُقَالُ: حُرِّمَتْ شَاةُ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لِاحْتِرَامِ الْمَالِكِ (قَوْلُهُ: وَهُوَ إلَى الْحِلِّ أَقْرَبُ) بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ فَاعِلُهُ أَصْلًا لَكِنْ يُثَابُ تَارِكُهُ أَدْنَى ثَوَابٍ وَمَعْنَى الْقُرْبِ إلَى الْحُرْمَةِ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَحْذُورٌ دُونَ اسْتِحْقَاقِ الْعُقُوبَةِ بِالنَّارِ كَحُرْمَةِ الشَّفَاعَةِ فَتَرْكُ الْوَاجِبِ حَرَامٌ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالنَّارِ وَتَرْكُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ قَرِيبٌ مِنْ الْحَرَامِ يَسْتَحِقُّ حِرْمَانَ الشَّفَاعَةِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي» وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَيْسَ الْمَكْرُوهُ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ إلَى الْحَرَامِ أَقْرَبُ بَلْ هُوَ حَرَامٌ ثَبَتَتْ حُرْمَتُهُ بِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ فَعِنْدَهُ مَا لَزِمَ تَرْكُهُ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُسَمَّى حَرَامًا وَإِلَّا يُسَمَّى مَكْرُوهًا كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ كَمَا أَنَّ مَا لَزِمَ الْإِتْيَانُ بِهِ إنْ ثَبَتَ ذَلِكَ فِيهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ يُسَمَّى فَرْضًا وَإِلَّا يُسَمَّى وَاجِبًا (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الثَّانِي) مِنْ قِسْمَيْ مَا يُعْتَبَرُ فِيهِ أَوَّلًا الْمَقَاصِدُ الْأُخْرَوِيَّةُ فَيُسَمَّى رُخْصَةً وَيُقَابِلُهَا الْعَزِيمَةُ فَحُرْمَةُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ عَزِيمَةٌ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ أَصْلِيٌّ وَإِبَاحَتُهَا لِلْمُكْرَهِ رُخْصَةٌ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ أَصْلِيٍّ بَلْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ. فَإِنْ قِيلَ: الرُّخْصَةُ قَدْ تَتَّصِفُ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْوُجُوبِ وَهِيَ مِنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فَيَلْزَمُ كَوْنُهَا حُكْمًا أَصْلِيًّا وَغَيْرَ أَصْلِيٍّ، وَلَا مَجَالَ لِتَغَايُرِ الِاعْتِبَارِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ لَيْسَتْ حُكْمًا أَصْلِيًّا بِشَيْءٍ مِنْ الِاعْتِبَارَاتِ. أُجِيبَ بِأَنَّ تَخْصِيصَ الْوُجُوبِ وَالْحُرْمَةِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا يَكُونُ حُكْمًا أَصْلِيًّا إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَهُوَ يُخَالِفُ اصْطِلَاحَ الْقَوْمِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِيهِ اخْتِرَاعُ التَّقْسِيمِ الْحَاصِرِ، وَأَمَّا كَوْنُ الرُّخْصَةِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودٌ أُخْرَوِيٌّ

الرُّخْصَةُ حَقِيقَةً، ثُمَّ أَحَدُهُمَا أَحَقُّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً مِنْ الْآخَرِ وَنَوْعَانِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا اسْمُ الرُّخْصَةِ مَجَازًا لَكِنَّ أَحَدَهُمَا أَتَمُّ فِي الْمَجَازِيَّةِ أَيْ أَبْعَدُ مِنْ حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ مِنْ الْآخَرِ. (أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الَّذِي هُوَ رُخْصَةٌ حَقِيقَةً، وَهُوَ أَحَقُّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً مِنْ الْآخَرِ (فَمَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا) أَيْ بِالْقَتْلِ، أَوْ الْقَطْعِ (فَإِنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ قَائِمَةٌ أَبَدًا) ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْكُفْرِ، وَهُوَ الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانِ قَائِمَةٌ فَتَكُونُ حُرْمَةُ الْكُفْرِ قَائِمَةً أَبَدًا أَيْضًا (لَكِنَّ حَقَّهُ) أَيْ حَقَّ الْعَبْدِ (يَفُوتُ صُورَةً لَهُ وَمَعْنًى وَحَقُّ اللَّهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَعْنَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي مَفْهُومِهِ اعْتِبَارًا أَوَّلِيًّا فَيَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ فِي عِبَارَاتِ الْقَوْمِ فِي تَفْسِيرِهَا فَفِي أُصُولِ الشَّافِعِيَّةِ: إنَّ الرُّخْصَةَ مَا شُرِعَ مِنْ الْأَحْكَامِ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ لَوْلَا الْعُذْرُ لَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ وَالْعَزِيمَةُ بِخِلَافِهِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ دَلِيلَ الْحُرْمَةِ إذَا بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ وَكَانَ التَّخَلُّفُ عَنْهُ لِمَانِعٍ طَارِئٍ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ لَوْلَاهُ لَثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِ، فَهُوَ الرُّخْصَةُ فَخَرَجَ الْحُكْمُ بِحِلِّ الشَّيْءِ ابْتِدَاءً، أَوْ نَسْخًا لِتَحْرِيمٍ، أَوْ تَخْصِيصًا مِنْ نَصٍّ مُحَرِّمٍ. وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعَزِيمَةَ اسْمٌ لِمَا هُوَ أَصْلٌ مِنْ الْأَحْكَامِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِالْعَوَارِضِ. وَالرُّخْصَةُ اسْمٌ لَمَا بُنِيَ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ، وَهُوَ مَا يُسْتَبَاحُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ أَنَّ الرُّخْصَةَ تَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ، وَحُرْمَةُ الْفِعْلِ وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِتَرْكِ الْفِعْلِ مَعَ وُجُودِ الْمُوجِبِ وَالْوُجُوبِ وَفِي الْمِيزَانِ أَنَّ الرُّخْصَةَ اسْمٌ لِمَا تَغَيَّرَ عَنْ الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ تَرَفُّهًا وَتَوْسِعَةً عَلَى أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ وَقَالَ الْعَزِيمَةُ مَا لَزِمَ الْعِبَادَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالرُّخْصَةُ مَا وَسِعَ لِلْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ بِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ. (قَوْلُهُ: وَهِيَ إمَّا فَرْضٌ) حَصَرَ الْعَزِيمَةَ فِي الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّفَلِ يَعْنِي قَبْلَ وُرُودِ الرُّخْصَةِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَقَدْ تَكُونُ الْعَزِيمَةُ حَرَامًا كَصَوْمِ الْمَرِيضِ إذَا خَافَ الْهَلَاكَ، فَإِنَّ تَرْكَهُ وَاجِبٌ فَعَلَى هَذَا لَا تَكُونُ الْعَزِيمَةُ قَبْلَ وُرُودِ الرُّخْصَةِ مُبَاحًا، وَلَا حَرَامًا، وَلَا مَكْرُوهًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُبَاحًا لَكَانَتْ الرُّخْصَةُ أَيْضًا مُبَاحًا وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَصْلِيًّا وَالْآخَرُ مَبْنِيًّا عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ، وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لَوْ كَانَ حُرْمَةً، أَوْ كَرَاهَةً لَكَانَ الطَّرَفُ الْمُقَابِلُ فِي أَصْلِهِ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ لِلِابْتِنَاءِ عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ إذْ الْمُنَاسِبُ لِلْعُذْرِ، هُوَ التَّرْفِيهُ وَالتَّوْسِعَةُ لَا التَّضْيِيقُ، فَلَا يَكُونُ رُخْصَةً، فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ، أَوْ الْكَرَاهَةُ عَزِيمَةً؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ فِي مُقَابَلَةِ الرُّخْصَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الطَّرَفَ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْعَزِيمَةُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ رَاجِحًا عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ الرُّخْصَةُ لَا مُسَاوِيًا لَهُ لِيَكُونَ مُبَاحًا، وَلَا مَرْجُوحًا لِيَكُونَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا وَالرَّاجِحُ إمَّا فَرْضٌ، أَوْ وَاجِبٌ، أَوْ سُنَّةٌ، أَوْ نَفْلٌ كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ

تَعَالَى لَا يَفُوتُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ قَلْبَهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَلَهُ أَنْ يُجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ وَإِنْ أَخَذَ) بِالْعَزِيمَةِ وَبَذَلَ نَفْسَهُ حِسْبَةً فِي دِينِهِ فَأَوْلَى، وَكَذَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَأَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ وَالْإِفْطَارُ وَنَحْوُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ أَيْ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، أَوْ عَلَى الْإِفْطَارِ فِي رَمَضَانَ، أَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالرُّخْصَةِ حَقِيقَةً لَكِنْ إنْ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ وَبَذَلَ نَفْسَهُ فَأَوْلَى. (وَالثَّانِي) أَيْ الَّذِي هُوَ رُخْصَةٌ حَقِيقَةً لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ مِنْهُ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً (مَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ دُونَ الْحُرْمَةِ كَإِفْطَارِ الْمُسَافِرِ) فَإِنَّ الْمُحَرِّمَ لِلْإِفْطَارِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ قَائِمٌ لَكِنَّ حُرْمَةَ الْإِفْطَارِ غَيْرُ قَائِمَةٍ (رُخِّصَ بِنَاءً عَلَى سَبَبِ تَرَاخِي حُكْمِهِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَفِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا: فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ لَوْ كَانَتْ إبَاحَةً لَكَانَتْ الرُّخْصَةُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا إذْ الْعُذْرُ قَدْ يُنَاسِبُهُ الْإِيجَابُ كَأَكْلِ مَالِهِ عِنْدَ خَوْفِ تَلَفِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَزِيمَةَ لَوْ كَانَتْ حُرْمَةً، أَوْ كَرَاهَةً لَكَانَ الطَّرَفُ الْآخَرُ وُجُوبًا، أَوْ نَدْبًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إبَاحَةً كَمَا فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَيُبَاحُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ. وَكَثِيرٌ مِنْ الرُّخَصِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْوُجُوبَ، أَوْ النَّدْبَ لَا يُنَاسِبُ الِابْتِنَاءَ عَلَى الْأَعْذَارِ كَوُجُوبِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ، أَوْ نَدْبِ إفْطَارِ الْمَرِيضِ عِنْدَ بَعْضِ الْأَضْرَارِ لَا يُقَالُ: الْعَزِيمَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ تُرْجِعُ الْوُجُوبَ كَوُجُوبِ تَرْكِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَوُجُوبِ تَرْكِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْفَرْضَ قَدْ يَكُونُ هُوَ الْفِعْلُ كَالصَّوْمِ، وَقَدْ يَكُونُ هُوَ التَّرْكُ كَتَرْكِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا تَأْوِيلٌ لَا ضَرُورَةَ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ، فَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حُكْمِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْحُرْمَةُ لَا الْوُجُوبُ وَاسْتِلْزَامُهُ لِوُجُوبِ التَّرْكِ لَا يَنْفِي كَوْنَهُ الْحُرْمَةَ وَإِلَّا لَارْتَفَعَتْ الْحُرْمَةُ مِنْ بَيْنِ الْأَحْكَامِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْعَزِيمَةَ تَشْتَمِلُ الْأَحْكَامَ كُلَّهَا عَلَى مَا قَالَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ بَعْدَ تَقْسِيمِ الْأَحْكَامِ إلَى الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّفَلِ وَالْمُبَاحِ وَالْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ وَغَيْرِهَا إنَّ الْعَزِيمَةَ اسْمٌ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّفَلِ وَنَحْوِهَا. (قَوْلُهُ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمَا اُسْتُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةِ) كَلَامُهُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ مُشْعِرٌ بِانْحِصَارِ حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ فِي الْإِبَاحَةِ وَيَلْزَمُهُ انْحِصَارُ الْعَزِيمَةِ فِي الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهَا تُقَابِلُهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِبَاحَةِ هَاهُنَا مُجَرَّدُ تَجْوِيزِ الْفِعْلِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّسَاوِي، أَوْ بِدُونِهِ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ وَالْمُبَاحَ وَالْمُرَادُ بِالْحُرْمَةِ وَالتَّحْرِيمِ فِي الرُّخْصَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي جَانِبِ الْفِعْلِ، أَوْ فِي جَانِبِ التَّرْكِ فَيَشْمَلُ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ أَيْضًا كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ فَرْضٌ وَوَاجِبٌ وَسُنَّةٌ

فَالسَّبَبُ شُهُودُ الشَّهْرِ وَالْحُكْمُ وُجُوبُ الصَّوْمِ وَقَدْ تَرَاخَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] (وَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى عِنْدَنَا لِقِيَامِ السَّبَبِ وَلِأَنَّ فِي الْعَزِيمَةِ نَوْعَ يُسْرٍ لِمُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ) . هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّ الْعَزِيمَةَ أَوْلَى وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخْصَةِ وَتَرْكَ الْعَزِيمَةِ إنَّمَا شُرِعَ لِلْيُسْرِ وَالْيُسْرُ حَاصِلٌ فِي الْعَزِيمَةِ أَيْضًا فَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ مُوَصِّلٌ إلَى ثَوَابٍ يَخْتَصُّ بِالْعَزِيمَةِ وَمُتَضَمِّنٌ لَيْسَ يَخْتَصُّ بِالرُّخْصَةِ فَالْأَخْذُ بِهَا أَوْلَى (إلَّا أَنْ يُضْعِفَهُ الصَّوْمُ فَلَيْسَ لَهُ بَذْلُ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاتِلَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَنَفْلٌ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ الْفِعْلِ، أَوْ طَرَفِ التَّرْكِ لِيَشْمَلَ الْحَرَامَ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ مُنَافَاةٌ. نَعَمْ يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ انْحِصَارُ الْعَزِيمَةِ فِي الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ، وَهَذَا يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ سُنَّةً، أَوْ نَفْلًا كَمَا إذَا كَانَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ، أَوْ سُنَّةٍ كَوْنَهَا مَنْدُوبَةً، فَإِذَا عَرَضَتْ حَالَةٌ لَمْ تَبْقَ تِلْكَ الصَّلَاةُ مَعَهَا مَنْدُوبَةً كَحَالَةِ الْخَوْفِ مَثَلًا فَيَكُونُ تَرْكُهَا رُخْصَةً، أَوْ حُكْمًا مَبْنِيًّا عَلَى أَعْذَارِ الْعِبَادِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحُرْمَةِ الْمَنْعُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ، أَوْ الرُّجْحَانِ وَحِينَئِذٍ لَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ. فَإِنْ قِيلَ: الِاسْتِبَاحَةُ مَعَ قِيَامِ الْمُحَرِّمِ وَالْحُرْمَةِ تُوجِبُ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ وَهُمَا الْحُرْمَةُ وَالْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِبَاحَةِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَنْ يُعَامَلَ مُعَامَلَةَ الْمُبَاحِ بِتَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ. وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحُرْمَةِ كَمَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فَعُفِيَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُحَرِّمُ قَائِمٌ فِي الْقِسْمَيْنِ جَمِيعًا فَكَيْفَ اقْتَضَى تَأْيِيدَ الْحُرْمَةِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي قُلْنَا الْعِلَلُ الشَّرْعِيَّةُ أَمَارَاتٌ جَازَ تَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْهَا، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِذَلِكَ فَيَحْتَمِلُهُ بِخِلَافِ أَدِلَّةِ وُجُوبِ الْإِيمَانِ، فَإِنَّهَا عَقْلِيَّةٌ قَطْعِيَّةٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّرَاخِي عَقْلًا، وَلَا شَرْعًا فَتَقُومُ الْحُرْمَةُ بِقِيَامِهَا وَتَدُومُ بِدَوَامِهَا. (قَوْلُهُ: لَكِنَّ حَقَّهُ أَيْ حَقَّ الْعَبْدِ يَفُوتُ صُورَةً) بِخَرَابِ الْبِنْيَةِ وَمَعْنًى بِزُهُوقِ الرُّوحِ أَيْ خُرُوجِهِ مِنْ الْبَدَنِ. (قَوْلُهُ: حِسْبَةً) أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ وَهِيَ اسْمٌ مِنْ الِاحْتِسَابِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ رِعَايَةِ حَقِّ اللَّهِ صُورَةً وَمَعْنًى بِتَفْوِيتِ حَقِّ نَفْسِهِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ أَخَذَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا: مَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَالَ: أَنْتَ أَيْضًا فَخَلَّاهُ. وَقَالَ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَمَا تَقُولُ فِي قَالَ: أَنَا أَصَمُّ فَأَعَادَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَأَعَادَ جَوَابَهُ فَقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ أَمَّا الْأَوَّلُ، فَقَدْ أَخَذَ بِرُخْصَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي، فَقَدْ صَدَعَ بِالْحَقِّ فَهَنِيئًا لَهُ» . (قَوْلُهُ: وَكَذَا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ) نَبَّهَ بِهَذَا الْمِثَالِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقِيَامِ الْمُحَرِّمِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تُرَجَّحَ الْحُرْمَةُ إلَى الْفِعْلِ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ إلَى التَّرْكِ كَمَا فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ فَرْضٌ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ

نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) أَيْ إلَّا أَنْ يُضْعِفَ الصَّوْمُ الصَّائِمَ، وَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى. وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْأَوَّلَ أَحَقُّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً مِنْ الثَّانِي؛ لِأَنَّ فِي الثَّانِي وُجِدَ السَّبَبُ لِلصَّوْمِ لَكِنَّ حُكْمَهُ مُتَرَاخٍ فَصَارَ رَمَضَانُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فَيَكُونُ فِي الْإِفْطَارِ شُبْهَةُ كَوْنِهِ حُكْمًا أَصْلِيًّا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْمُحَرِّمَ وَالْحُرْمَةَ قَائِمَانِ فَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِيهِ الْحُرْمَةُ وَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ كَوْنِ اسْتِبَاحَةِ الْكُفْرِ حُكْمًا أَصْلِيًّا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ أَحَقَّ بِكَوْنِهِ رُخْصَةً (وَالثَّالِثُ) أَيْ الَّذِي هُوَ رُخْصَةٌ مَجَازًا، وَهُوَ أَتَمُّ فِي الْمَجَازِيَّةِ وَأَبْعَدُ عَنْ الْحَقِيقَةِ مِنْ الْآخَرِ. (مَا وُضِعَ عَنَّا مِنْ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ يُسَمَّى رُخْصَةً مَجَازًا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا. وَالرَّابِعُ) أَيْ الَّذِي هُوَ رُخْصَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَرْكُهُ حَرَامًا وَيُسْتَبَاحُ لَهُ التَّرْكُ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا يَفُوتُ صُورَةً لَا مَعْنًى لِبَقَاءِ اعْتِقَادِ الْفَرْضِيَّةِ. وَفِي أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ الْمُحَرِّمُ، وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ قَائِمٌ وَالْحُرْمَةُ بَاقِيَةٌ لَكِنَّ حَقَّ الْغَيْرِ لَا يَفُوتُ إلَّا صُورَةً لِانْجِبَارِهِ بِالضَّمَانِ فَيُسْتَبَاحُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ. وَفِي التَّمْثِيلِ بِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ الْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ، وَإِنْ وَرَدَتْ فِي الْعِبَادَاتِ وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ لَكِنَّ حَقَّ الْعِبَادِ أَيْضًا كَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَيْهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ التَّصَلُّبِ فِي الدِّينِ بِبَذْلِ نَفْسِهِ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلِذَا قَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَا فِي الْإِفْطَارِ، وَالْحُرْمَةُ بَاقِيَةٌ لِقِيَامِ الْمُحَرِّمِ، وَهُوَ شُهُودُ الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ وَمَرَضٍ فَتَوَجَّهَ الْخِطَابُ. أَمَّا لَوْ كَانَ مَرِيضًا، أَوْ مُسَافِرًا فَأُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ فَامْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ عَلَى الْمُبَاحِ كَالْمُضْطَرِّ إذَا تَرَكَ أَكْلَ الْمَيْتَةِ حَتَّى مَاتَ. (قَوْلُهُ: وَالْعَزِيمَةُ أَوْلَى عِنْدَنَا) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْعَمَلَ بِالرُّخْصَةِ أَوْلَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَيَّدَهُ صَاحِبُ الْكَشْفِ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا عِنْدَ عَدَمِ التَّضَرُّرِ حَتَّى أَنَّهُ وَقَعَ فِي مِنْهَاجِ الْأُصُولِ أَنَّ الْإِفْطَارَ مُبَاحٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُسَاوٍ لِلصَّوْمِ فَاعْتَرَضُوا عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَظْفَرَ بِرِوَايَةٍ تَدُلُّ عَلَى تَسَاوِيهِمَا بَلْ الْإِفْطَارُ أَفْضَلُ إنْ تَضَرَّرَ وَإِلَّا فَالصَّوْمُ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَافِ رِوَايَةٍ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) أَيْ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِفْطَارِ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ إذَا لَمْ يُفْطِرْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ قَاتِلَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ صَدَرَ مِنْ الْمُكْرِهِ الظَّالِمِ، وَالْمُكْرَهُ الْمَظْلُومُ فِي صَبْرِهِ مُسْتَدِيمٌ لِلْعِبَادَةِ مُسْتَقِيمٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَيُؤْجَرُ. (قَوْلُهُ: مِنْ الْإِصْرِ) هُوَ الثِّقْلُ الَّذِي يَأْصِرُ صَاحِبَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ مِنْ الْحَرَاكِ إنَّمَا جُعِلَ مَثَلًا لِثِقْلِ تَكْلِيفِهِمْ وَصُعُوبَتِهِ. مِثْلُ اشْتِرَاطِ قَتْلِ النَّفْسِ فِي صِحَّةِ تَوْبَتِهِمْ، وَكَذَا الْأَغْلَالُ مَثَلٌ لِمَا كَانَتْ فِي شَرَائِعِهِمْ مِنْ الْأَشْيَاءِ الشَّاقَّةِ كَجَزْمِ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ عَمْدًا كَانَ الْقَتْلُ أَوْ خَطَأً، وَقَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْخَاطِئَةِ، أَوْ قَرْضِ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَنَحْوِ

مَجَازًا لَكِنَّهُ أَقْرَبُ مِنْ حَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ مِنْ الثَّالِثِ (مَا سَقَطَ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ شَبِيهًا بِحَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ كَقَوْلِ الرَّاوِي رُخِّصَ فِي السَّلَمِ فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا، وَهَذَا حُكْمٌ مَشْرُوعٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي السَّلَمِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ التَّعْيِينُ عَزِيمَةً، وَلَا مَشْرُوعًا، وَكَذَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ ضَرُورَةً فَإِنَّ حُرْمَتَهُمَا سَاقِطَةٌ هُنَا) أَيْ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ (مَعَ كَوْنِهَا ثَابِتَةً فِي الْجُمْلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] فَإِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْحُرْمَةِ) فَالْفَرْقُ بَيْنَ ـــــــــــــــــــــــــــــQذَلِكَ مِمَّا كَانَتْ فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى غَيْرِنَا، وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْنَا تَوْسِعَةً وَتَخْفِيفًا شَابَهَتْ الرُّخْصَةَ فَسُمِّيَتْ بِهَا لَكِنْ لَمَّا كَانَ السَّبَبُ مَعْدُومًا فِي حَقِّنَا وَالْحُكْمُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ أَصْلًا لَمْ تَكُنْ حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا فَقَوْلُهُ: لِأَنَّ الْأَصْلَ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ تَسْمِيَتِهِ رُخْصَةً وَعَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا كَامِلًا لَا حَقِيقَةً، وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ كَانَ مَشْرُوعًا، فَلَمْ يَبْقَ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدٍ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَخِيرِ، فَإِنَّ الْعَزِيمَةَ فِيهَا بَقِيَتْ مَشْرُوعَةً فِي الْجُمْلَةِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا حُرِّمَ الصَّوْمُ عَلَى الْمَرِيضِ الَّذِي يَخَافُ التَّلَفَ، فَإِنَّهُ صَارَ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فِي حَقِّهِ لَا غَيْرُ. (قَوْلُهُ: فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَقَطَ كَانَ مَجَازًا) . فَإِنْ قُلْت: فَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَيْضًا سَقَطَ الْحُكْمُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَجَازًا. قُلْت: لَا تَرَاخِيَ بِعُذْرٍ فَالْمُوجِبُ قَائِمٌ وَالْحُكْمُ مُتَرَاخٍ وَهَاهُنَا الْحُكْمُ سَاقِطٌ بِسُقُوطِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ مَحَلَّ الرُّخْصَةِ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الثَّالِثِ أَيْ النَّوْعِ الثَّالِثِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَبْقَ مَشْرُوعًا أَصْلًا فَكَانَ كَامِلًا فِي الْمَجَازِيَّةِ بَعِيدًا عَنْ الْحَقِيقَةِ. (قَوْلُهُ: كَقَوْلِ الرَّاوِي) «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ» ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنِيَّةَ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ فِي السَّلَمِ حَتَّى يَفْسُدَ السَّلَمُ فِي الْمُعَيَّنِ كَانَتْ الرُّخْصَةُ مَجَازًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَيْنِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْبَيْعِ فِي الْجُمْلَةِ كَانَ لَهُ شَبَهٌ بِحَقِيقَةِ الرُّخْصَةِ. (قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلَاقِيَ عَيْنًا) لِتَتَحَقَّقَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ «وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ» وَعَنْ «بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» فَفِي هَذَا بَيَانٌ لِكَوْنِهِ السَّلَمَ حُكْمًا غَيْرَ أَصْلِيٍّ لِتَحَقُّقِ كَوْنِهِ رُخْصَةً، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْقَ التَّعْيِينُ فِي السَّلَمِ مَشْرُوعًا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّعْيِينِ وَإِلَّا لَبَاعَهُ مُسَاوَمَةً مِنْ غَيْرِ وَكْسٍ فِي الثَّمَنِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ) حَالَ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مُبَاحٌ وَالْحُرْمَةُ سَاقِطَةٌ إلَّا أَنَّهُ حَرَامٌ رُخِّصَ فِيهِ بِمَعْنَى تَرْكِ الْمُؤَاخَذَةِ إبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ أَمَّا فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَلِأَنَّ النَّصَّ الْمُحَرِّمَ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا حَالَ الِاضْطِرَارِ لِكَوْنِهَا مُسْتَثْنَاةً فَبَقِيَتْ مُبَاحَةً

هَذَا وَبَيْنَ الثَّانِي أَنَّ الْمُحَرَّمَ قَائِمٌ وَفِي الثَّانِي، وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُحَرَّمُ غَيْرُ قَائِمٍ حَالَ الضَّرَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] فَالنَّصُّ لَيْسَ بِمُحَرِّمٍ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ (وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِصِيَانَةِ عَقْلٍ، وَلَا صِيَانَةَ عِنْدَ فَوْتِ النَّفْسِ، وَكَذَا صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ» الْحَدِيثَ) رُوِيَ «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِحُكْمِ الْأَصْلِ وَبِمِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] بَلْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ يَكُونُ النَّصُّ دَالًّا عَلَى عَدَمِ حُرْمَتِهَا عِنْدَ الِاضْطِرَارِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ} [الأنعام: 119] اسْتِثْنَاءٌ وَإِخْرَاجٌ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي حَرَّمَ أَيْ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ الْأَشْيَاءَ الَّتِي حَرَّمَ أَكْلَهَا إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفَرَّغًا عَلَى أَنَّ " مَا " فِي " مَا اُضْطُرِرْتُمْ " مَصْدَرِيَّةٌ وَضَمِيرُ إلَيْهِ عَائِدٌ إلَى مَا حَرَّمَ أَيْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالِ اضْطِرَارِكُمْ إلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَا حَرَّمَ لِيَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ إخْرَاجًا عَنْ حُكْمِ التَّفْصِيلِ لَا عَنْ حُكْمِ التَّحْرِيمِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ الْأَحْكَامِ لَا الْإِخْبَارُ عَنْ عَدَمِ الْبَيَانِ. لَا يُقَالُ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُبَاحًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ إلْزَامِ الْغَضَبِ لَا مِنْ التَّحْرِيمِ فَغَايَتُهُ أَنْ يُفِيدَ نَفْيَ الْغَضَبِ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا عَدَمَ الْحُرْمَةِ. فَإِنْ قُلْت: ذِكْرُ الْمَغْفِرَةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ هُوَ الْإِثْمُ وَالْمُؤَاخَذَةُ. قُلْت: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمَغْفِرَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَقَعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْقَدْرِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ إبْقَاءُ الْمُهْجَةِ إذْ يُعْتَبَرُ عَلَى الْمُضْطَرِّ رِعَايَةُ قَدْرِ الْإِبَاحَةِ، وَأَمَّا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ فَلِأَنَّ حُرْمَتَهَا لِصِيَانَةِ الْعَقْلِ أَيْ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الْحَسَنَةِ وَالْقَبِيحَةِ، وَلَا يَبْقَى ذَلِكَ عِنْدَ فَوَاتِ النَّفْسِ أَيْ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِفَوَاتِ الْقُوَى الْقَائِمَةِ بِهَا عِنْدَ فَوَاتِهَا وَانْحِلَالِ تَرْكِيبِهَا، وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ الَّتِي هِيَ الرُّوحُ بَاقِيَةً وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ حُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ عَنْ تَغَذِّي خَبَثِ الْمَيْتَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] ، فَإِذَا خَافَ بِالِامْتِنَاعِ فَوَاتَ النَّفْسِ لَمْ يَسْتَقِمْ صِيَانَةُ الْبَعْضِ بِفَوَاتِ الْكُلِّ إذْ فِي فَوَاتِ الْكُلِّ فَوَاتُ الْبَعْضِ وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالنَّفْسِ أَوَّلًا الْبَدَنَ وَثَانِيًا الْمَجْمُوعَ الْمُرَكَّبَ مِنْ الْبَدَنِ وَالرُّوحِ وَبِفَوَاتِهَا مُفَارَقَةُ الرُّوحِ وَانْحِلَالَ تَرْكِيبِ الْبَدَنِ. (قَوْلُهُ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) الرَّاوِي هُوَ عَلِيُّ بْنُ رَبِيعَةَ الْوَالِبِيُّ قَالَ سَأَلْت عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَا بَالُنَا نَقْصُرُ الصَّلَاةَ، وَلَا نَخَافُ شَيْئًا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] فَقَالَ أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ

أَنَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَنَحْنُ آمِنُونَ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّ هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وَإِنَّمَا سَأَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِأَنَّ الْقَصْرَ مُتَعَلِّقٌ بِالْخَوْفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْعَدَمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَكَذَا سُؤَالُ عُمَرَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دَالًّا عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ لَمَا سَأَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَكَانَ عَالِمًا بِهَذَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ وَأَرْبَابِ الْفَصَاحَةِ وَالْبَيَانِ. (وَالتَّصَدُّقُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَإِنْ كَانَ) أَيْ التَّصَدُّقُ (مِمَّنْ لَا يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ فَهَاهُنَا أَوْلَى) أَيْ فِي صُورَةٍ يَكُونُ التَّصَدُّقُ مِمَّنْ يَلْزَمُ طَاعَتُهُ، وَهُوَ اللَّهُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ إسْقَاطًا لَا يَحْتَمِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQاللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَقَوْلُهُ: هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى الصَّلَاةِ الْمَقْصُورَةِ، أَوْ إلَى قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ صَدَقَةً وَقَوْلُهُ: فَاقْبَلُوا مَعْنَاهُ اعْمَلُوا بِهَا وَاعْتَقِدُوهَا كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ قَبِلَ الشَّرَائِعَ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ إلَى يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِيمَ إقْصَارُ النَّاسِ الصَّلَاةَ الْيَوْمَ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ ، فَقَالَ عَجِبْت مِنْهُ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» ، ثُمَّ إنَّ سُؤَالَ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَتَعَجُّبَهُ وَإِشْكَالَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ مِنْ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَ لِكَوْنِ الْعَمَلِ وَاقِعًا عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ السُّؤَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ اسْتِصْحَابَ وُجُوبِ الْإِتْمَامِ لَا عَلَى أَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنْ التَّقْيِيدِ بِالشَّرْطِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ سِيَاقَ الْقِصَّةِ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى مَفْهُومِ الشَّرْطِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَرْضَ رَأْسًا بِرَأْسٍ حَتَّى جَعَلَ سُؤَالَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - دَلِيلًا عَلَى أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ إذْ لَوْ كَانَ دَالًّا عَلَيْهِ لَفَهِمَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلسُّؤَالِ بِنَاءً عَلَى وُقُوعِ الْعَمَلِ عَلَى خِلَافِ مَا فَهِمَهُ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ سِيَاقُ الْقِصَّةِ، وَكَذَا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ أَيْضًا ضَعِيفٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْقَوْلَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا لَمْ تَظْهَرْ لَهُ فَائِدَةٌ أُخْرَى مِثْلُ الْخُرُوجِ مَخْرَجَ الْغَالِبِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْخَوْفُ. وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُكَاتِبُ الْعَبْدَ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ انْتِفَاءَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ لَازِمٌ أَلْبَتَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْلُولُ اللَّفْظِ وَإِلَّا لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ لَغْوًا، وَأَنَّ فِي آيَةِ الْكِتَابَةِ الْمُعَلَّقِ

[القسم الثاني من الحكم وهو الذي يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر]

الرَّدَّ (وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ إذَا تَضَمَّنَ رِفْقًا كَمَا فِي الْكَفَّارَةِ) هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ رُخْصَةُ إسْقَاطٍ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَالرِّفْقُ هُنَا مُتَعَيِّنٌ فِي الْقَصْرِ، فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ) فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ رُخْصَةَ إسْقَاطٍ. (أَمَّا صَوْمُ الْمُسَافِرِ وَإِفْطَارُهُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَتَضَمَّنُ رِفْقًا وَمَشَقَّةً فَإِنَّ الصَّوْمَ عَلَى سَبِيلِ مُوَافَقَةِ الْمُسْلِمِينَ أَسْهَلُ وَفِي غَيْرِ رَمَضَانَ أَشَقُّ فَالتَّخْيِيرُ يُفِيدُ فَإِنْ قِيلَ: إكْمَالُ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ أَشَقَّ فَثَوَابُهُ أَكْمَلُ فَيُفِيدُ التَّخْيِيرَ قُلْنَا الثَّوَابُ الَّذِي يَكُونُ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ مُسَاوٍ فِيهِمَا) (وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْحُكْمِ) ، وَهُوَ الْحُكْمُ الَّذِي يَكُونُ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ (فَالشَّيْءُ الْمُتَعَلِّقُ إنْ كَانَ دَاخِلًا فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالشَّرْطِ هُوَ اسْتِحْبَابُ الْكِتَابَةِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ عِنْدَ عَدَمِ الْخَيْرِ فِي الْمُكَاتَبِ، وَفِي آيَةٍ لِقَصْرِ الْمُرَادِ قَصْرُ الْأَحْوَالِ كَالْإِيجَازِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالتَّخْفِيفِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاكْتِفَاءِ بِالْإِيمَاءِ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ كَيْفَ وَالْأَئِمَّةُ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ فِي قَصْرِ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ. (قَوْلُهُ: وَالتَّصَدُّقُ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ) احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ عَنْ التَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلتَّمْلِيكِ وَعَنْ التَّصَدُّقِ بِالدَّيْنِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ. (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْخِيَارَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ إذَا تَضَمَّنَ رِفْقًا) لَا يَرِدُ عَلَيْهِ تَخْيِيرُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالظُّهْرِ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا رِفْقًا مِنْ وَجْهٍ أَمَّا فِي الْجُمُعَةِ فَبِاعْتِبَارِ قَصْرِ الرَّكْعَتَيْنِ، وَأَمَّا فِي الظُّهْرِ فَبِاعْتِبَارِ عَدَمِ الْخُطْبَةِ وَالسَّعْيِ وَلَا يَرِدُ تَخْيِيرُ مَنْ قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ فَدَخَلَ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ صَوْمِ السَّنَةِ وَفَاءً بِالنَّذْرِ وَبَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَفَّارَةً؛ لِأَنَّ الصَّوْمَيْنِ مُخْتَلِفَانِ مَعْنًى؛ لِأَنَّ صَوْمَ السَّنَةِ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ وَصَوْمُ الثَّلَاثَةِ كَفَّارَةٌ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ فَيَصِحُّ التَّخْيِيرُ طَلَبًا لِلْأَرْفَقِ، وَلَا يَرِدُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الرَّكْعَتَيْنِ وَالْأَرْبَعِ قَبْلَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ أَخَفُّ عَمَلًا وَالْأَرْبَعَ أَكْثَرُ ثَوَابًا بِخِلَافِ الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ، فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالْقَصْرُ مُتَعَيِّنُ لِلرِّفْقِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الثَّوَابَ بِمَا يَكُونُ بِأَدَاءِ الْفَرْضِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْإِتْمَامُ أَكْثَرَ ثَوَابًا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ كَمَا إذَا طَوَّلَ إحْدَى الْفَجْرَيْنِ وَأَكْثَرَ فِيهَا الْقِرَاءَةَ وَالْأَذْكَارَ وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ [الْقَسْم الثَّانِي مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ] (قَوْلُهُ: عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْقِيَاسِ) إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَأْثِيرِ الشَّيْءِ هَاهُنَا هُوَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ إيَّاهُ بِحَسَبِ نَوْعِهِ، أَوْ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الشَّيْءِ الْآخَرِ لَا الْإِيجَادِ كَمَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ وَالْمَذْكُورُ فِي بَيَانِ وَجْهِ الِانْحِصَارِ إنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ الضَّبْطِ وَإِلَّا فَالْمَنْعُ وَارِدٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَإِلَّا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ لِجَوَازِ التَّعْلِيقِ بِوُجُوهٍ أُخَرَ مِثْلَ الْمَانِعِيَّةِ كَتَعَلُّقِ

الْآخَرِ، فَهُوَ رُكْنٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْقِيَاسِ فَعِلَّةٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُوَصِّلًا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ فَسَبَبٌ وَإِلَّا فَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فَشَرْطٌ وَإِلَّا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَدُلَّ عَلَى وُجُودِهِ فَعَلَامَةٌ. وَأَمَّا الرُّكْنُ فَمَا يَقُومُ بِهِ الشَّيْءُ وَقَدْ شَنَّعَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى أَصْحَابِنَا فِيمَا قَالُوا: الْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ وَالتَّصْدِيقُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ) أَيْ الْإِقْرَارُ (رُكْنًا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ انْتِفَاءُ الْمُرَكَّبِ كَمَا تَنْتَفِي الْعَشَرَةُ بِانْتِفَاءِ الْوَاحِدِ فَنَقُولُ الرُّكْنُ الزَّائِدُ شَيْءٌ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي وُجُودِ الْمُرَكَّبِ لَكِنْ إنْ عُدِمَ بِنَاءً عَلَى ضَرُورَةٍ جَعَلَ الشَّارِعُ عَدَمَهُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنَّجَاسَةِ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ بَعْدَمَا فَسَّرَ رُكْنَ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ لَا مَعْنَى لِتَفْسِيرِهِ بِمَا يَقُومُ بِهِ الشَّيْءُ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْأَخْفَى مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْحَالُ كَالْجَوْهَرِ لِلْعَرَضِ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ شَنَّعَ بَعْضُ النَّاسِ) . وَجْهُ التَّشْنِيعِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا رُكْنٌ زَائِدٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا رُكْنٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّكْنِ مَا يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ وَمَعْنَى الزَّائِدِ مَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ بَلْ يَكُونُ خَارِجًا عَنْهُ وَوَجْهُ التَّقَصِّي أَنَّا لَا نَعْنِي بِالزَّائِدِ مَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِي الشَّيْءُ بِانْتِفَائِهِ بَلْ نَعْنِي بِهِ مَا لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَمَعْنَى الرُّكْنِ الزَّائِدِ الْجُزْءُ الَّذِي إذَا انْتَفَى كَانَ حُكْمُ الْمُرَكَّبِ بَاقِيًا بِحَسَبِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجُزْءَ إذَا كَانَ مِنْ الضَّعْفِ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِي حُكْمُ الْمُرَكَّبِ بِانْتِفَائِهِ كَانَ شَبِيهًا بِالْأَمْرِ الْخَارِجِ عَنْ الْمُرَكَّبِ فَسُمِّيَ زَائِدًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ كَالْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَانِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ كَالْأَقَلِّ فِي الْمُرَكَّبِ مِنْهُ، وَمِنْ الْأَكْثَرِ حَيْثُ يُقَالُ: لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ، وَأَمَّا جَعْلُ الْأَعْمَالِ دَاخِلَةً فِي الْإِيمَانِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْعَلُهَا دَاخِلَةً فِي الْإِيمَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَا فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَتِهِ حَتَّى أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا. فَإِنْ قُلْت: تَمْثِيلُهُ فِي ذَلِكَ بِالْإِنْسَانِ وَأَعْضَائِهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ الْمُشَخَّصَ الَّذِي يَكُونُ الْيَدُ جُزْءًا مِنْهُ لَا شَكَّ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْيَدِ غَايَتُهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ لَا يَمُوتُ، وَلَا يُسْلَبُ عَنْهُ اسْمُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ إذْ التَّحْقِيقُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَعْضَاءِ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ. قُلْت: الْمَقْصُودُ بِالتَّمْثِيلِ أَنَّ الرَّأْسَ مَثَلًا جُزْءٌ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ حُكْمُ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْحَيَاةِ وَتَعَلُّقُ الْخِطَابِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالْيَدُ رُكْنٌ لَيْسَ كَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْحَيَاةِ وَمَا يَتْبَعُهَا عِنْدَ فَوَاتِ الْيَدِ مَعَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُرَكَّبِ الْمُشَخَّصِ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَقَدْ يُقَالُ: فِي تَوْجِيهِ الرُّكْنِ الزَّائِدِ إنَّ بَعْضَ الشَّرَائِطِ وَالْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ قَدْ يَكُونُ لَهُ زِيَادَةُ تَعَلُّقٍ وَاعْتِبَارٍ فِي الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ لَهُ فَيُسَمَّى رُكْنًا مَجَازًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ الزَّائِدِ، أَوْ لَفْظَ الرُّكْنِ مَجَازٌ وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ بِكَلَامِ الْقَوْمِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعِلَّةُ)

عَفْوًا وَاعْتَبَرَ الْمُرَكَّبَ مَوْجُودًا حُكْمًا. وَقَوْلُهُمْ: لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَهَذَا نَظِيرُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ فَالرَّأْسُ رُكْنٌ يَنْتَفِي الْإِنْسَانُ بِانْتِفَائِهِ وَالْيَدُ رُكْنٌ لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ وَلَكِنْ يَنْقُصُ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَإِمَّا عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا أَيْ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا) هَذَا تَفْسِيرُ الْعِلَّةِ اسْمًا، (وَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ فِيهِ) هَذَا تَفْسِيرُ الْعِلَّةِ مَعْنًى، (وَلَا يَتَرَاخَى الْحُكْمُ عَنْهَا) هَذَا تَفْسِيرُ الْعِلَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْخَارِجُ الْمُؤَثِّرُ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ لَمَّا كَانَ يُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ أُخَرَ بِحَسَبِ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ الْمَجَازِ عَلَى مَا اخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَاوَلُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ تَقْسِيمَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعِلَّةِ إلَى أَقْسَامِهِ كَمَا نُقَسِّمُ الْعَيْنَ إلَى الْجَارِيَةِ وَالْبَاصِرَةِ وَغَيْرِهِمَا، أَوْ الْأَسَدَ إلَى السَّبُعِ وَالشُّجَاعِ. وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا فِي حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ وَهِيَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهَا وَتَأْثِيرُهَا فِيهِ وَحُصُولُهُ مَعَهَا فِي الزَّمَانِ، وَسَمَّوْهَا بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ الْعِلَّةَ اسْمًا، وَبِالثَّانِي الْعِلَّةَ مَعْنًى وَبِالثَّالِثِ الْعِلَّةَ حُكْمًا. وَمَعْنَى إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا قَتَلَهُ بِالرَّمْيِ وَعَتَقَ بِالشِّرَاءِ وَهَلَكَ بِالْجُرْحِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَفْسِيرُ الْعِلَّةِ اسْمًا بِمَا تَكُونُ مَوْضُوعَةً فِي الشَّرْعِ لِأَجْلِ الْحُكْمِ وَمَشْرُوعَةً لَهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ لَا فِي مِثْلِ الرَّمْيِ وَالْجُرْحِ. وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَقْيِيدَ الْإِضَافَةِ بِكَوْنِهَا بِلَا وَاسِطَةٍ؛ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْإِضَافَةُ بِلَا وَاسِطَةٍ لَا تُنَافِي ثُبُوتَ الْوَاسِطَةِ فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: هَلَكَ بِالْجُرْحِ وَقَتَلَهُ بِالرَّمْيِ مَعَ تَحَقُّقِ الْوَسَائِطِ فَبِاعْتِبَارِ حُصُولِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْعِلِّيَّةَ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا كُلَّهَا، أَوْ بَعْضَهَا تَصِيرُ الْأَقْسَامُ سَبْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ اجْتَمَعَ الْكُلُّ فَوَاحِدٌ وَإِلَّا فَإِنْ اجْتَمَعَ اثْنَانِ فَثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا إمَّا الِاسْمُ وَالْمَعْنَى وَإِمَّا الِاسْمُ وَالْحُكْمُ وَإِمَّا الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ وَإِلَّا فَثَلَاثَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ إمَّا الِاسْمُ، أَوْ الْمَعْنَى، أَوْ الْحُكْمُ وَبِوَجْهٍ آخَرَ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ بَسِيطًا فَثَلَاثَةٌ وَإِلَّا فَإِنْ تَرَكَّبَ مِنْ اثْنَيْنِ فَثَلَاثَةٌ أَيْضًا، وَإِنْ تَرَكَّبَ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَوَاحِدٌ، وَقَدْ أَهْمَلَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - التَّصْرِيحَ بِالْعِلَّةِ مَعْنًى فَقَطْ وَبِالْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ وَجَعَلَ الْأَقْسَامَ السَّبْعَةَ هِيَ الْعِلَّةُ اسْمًا وَحُكْمًا وَمَعْنًى وَالْعِلَّةُ اسْمًا فَقَطْ وَالْعِلَّةُ اسْمًا وَمَعْنًى فَقَطْ وَالْعِلَّةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ وَالْوَصْفَ الَّذِي يُشْبِهُ الْعِلَلَ وَالْعِلَّةُ مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا وَالْعِلَّةُ اسْمًا وَحُكْمًا لَا مَعْنًى، وَلَمَّا كَانَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي تُشْبِهُ السَّبَبَ دَاخِلَةً فِي الْأَقْسَامِ الْأُخَرِ لَا مُقَابِلَةً لَهَا أَسْقَطَهَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ وَأَوْرَدَ فِي الْأَقْسَامِ الْعِلَّةَ حُكْمًا فَقَطْ وَنَبَّهَ فِي آخَرِ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَصْفِ الَّذِي يُشْبِهُ الْعِلَلَ هُوَ الْعِلَّةُ مَعْنًى فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ الْعِلَّةِ لِتَحَقُّقِ التَّأْثِيرِ مَعَ عَدَمِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ، وَلَا تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ هَاهُنَا لِلْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي بَابِ تَقْسِيمِ الشُّرُوطِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يُشْبِهُ الْعِلَلَ. (قَوْلُهُ: فَعِنْدَنَا هِيَ مُقَارَنَةٌ) لَا نِزَاعَ فِي تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ

حُكْمًا. (كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ لِلْحِلِّ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ فَعِنْدَنَا هِيَ مُقَارِنَةٌ لِلْمَعْلُولِ كَالْعَقْلِيَّةِ وَفَرَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَقَالُوا: الْمَعْلُولُ يُقَارِنُ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ وَيَتَأَخَّرُ عَنْ الشَّرْعِيَّةِ. (وَإِمَّا اسْمًا فَقَطْ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا يَأْتِي. وَإِمَّا اسْمًا وَمَعْنًى كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَالْبَيْعِ بِالْخِيَارِ) ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يُضَافُ إلَيْهِ عِلَّةٌ اسْمًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْمِلْكِ عِلَّةً مَعْنًى لَكِنَّ الْمِلْكَ يَتَرَاخَى عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ عِلَّةً حُكْمًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْمَعْلُولِ بِمَعْنَى احْتِيَاجِهِ إلَيْهَا وَيُسَمَّى التَّقَدُّمُ بِالْعِلِّيَّةِ وَبِالذَّاتِ، وَلَا فِي مُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَعْلُولِهَا بِالزَّمَانِ كَيْ لَا يَلْزَمَ التَّخَلُّفُ، وَأَمَّا فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ تَجِبُ الْمُقَارَنَةُ بِالزَّمَانِ إذْ لَوْ جَازَ التَّخَلُّفُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ الْعِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ غَرَضُ الشَّارِعِ مِنْ وَضْعِ الْعِلَلِ لِلْأَحْكَامِ، وَقَدْ يُتَمَسَّكُ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ اتِّفَاقُ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ. وَفَرَّقَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ وَغَيْرِهِ بَيْنَ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَجَوَّزَ فِي الشَّرْعِيَّةِ تَأَخُّرَ الْحُكْمِ عَنْهَا وَظَاهِرُ عِبَارَةِ الْإِمَامَيْنِ أَيْ أَبِي الْيُسْرِ وَفَخْرِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ الْمُقَارَنَةِ أَنْ يَعْقُبَ الْحُكْمُ الْعِلَّةَ وَيَتَّصِلَ بِهَا، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ أَنَّهُ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حُكْمُ الْعِلَّةِ يَثْبُتُ بَعْدَهَا بِلَا فَصْلٍ وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ فَرَّقَ وَقَالَ مِنْ صِفَةِ الْعِلَّةِ تَقَدُّمُهَا عَلَى الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ يَعْقُبُهَا، وَلَا يُقَارِنُهَا بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَقِيبَهَا فَيَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْعِلَّةِ بِزَمَانٍ، وَإِذَا جَازَ بِزَمَانٍ جَازَ بِزَمَانَيْنِ بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنَّهَا عَرَضٌ لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مَعَهَا لَزِمَ وُجُودُ الْمَعْلُولِ بِلَا عِلَّةٍ، أَوْ خُلُوُّ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ بِدَلِيلِ قَبُولِهَا الْفَسْخَ بَعْدَ أَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ كَفَسْخِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ مَثَلًا. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: الْعِلَّةُ لَا تُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا بَعْدِيَّةً زَمَانِيَّةً، فَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ عَيْنُ النِّزَاعِ، وَإِنْ أَرَادَ بَعْدِيَّةً ذَاتِيَّةً، فَهُوَ لَا يُوجِبُ تَأَخُّرَ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ تَأَخُّرًا زَمَانِيًّا عَلَى مَا هُوَ الْمُدَّعَى، وَلَوْ سَلِمَ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ حَتَّى لَا يَجُوزَ التَّأَخُّرُ بِزَمَانَيْنِ، وَإِنْ جَازَ بِزَمَانٍ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ صِحَّةُ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ فَدَلِيلُهُ مَنْقُوضٌ بِالْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ إذَا كَانَتْ أَعْيَانًا لَا أَعْرَاضًا، وَأَمَّا بَقَاءُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ حَقِيقَةً كَالْعُقُودِ مَثَلًا، فَلَا خَفَاءَ فِي بُطْلَانِهِ، فَإِنَّهَا كَلِمَاتٌ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُ حَرْفٍ مِنْهَا حَالَ قِيَامِ حَرْفٍ آخَرَ وَالنَّسْخُ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ الْعَقْدِ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْحُكْمُ بِبَقَائِهَا ضَرُورِيٌّ ثَبَتَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ إلَى الْفَسْخِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي

أَنَّ الْخِيَارَ (يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ) فِي آخِرِ فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ. (وَدَلَالَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً لَا سَبَبًا أَنَّ الْمَانِعَ إذَا زَالَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ وَكَالْإِجَارَةِ حَتَّى صَحَّ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ) تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إنَّهُ عِلَّةٌ مَعْنًى حَتَّى لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ التَّعْجِيلُ كَالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَنَا. (وَلَيْسَتْ عِلَّةً حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ) فَيَكُونُ الْحُكْمُ، وَهُوَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْعَقْدِ، فَلَا يَكُونُ عِلَّةً حُكْمًا (لَكِنَّهَا) أَيْ الْإِجَارَةَ (تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ) كَمَا إذَا قَالَ فِي رَجَبٍ أَجَّرْت الدَّارَ مِنْ غُرَّةِ رَمَضَانَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقِّ غَيْرِ الْفَسْخِ. (قَوْلُهُ: كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا يَأْتِي) فِي أَقْسَامِ الشَّرْطِ مِنْ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ ثَابِتٌ بِالتَّطْلِيقِ السَّابِقِ وَمُضَافٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ عِلَّةً لَهُ اسْمًا لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُؤَثِّرٍ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ بَلْ الْحُكْمُ مُتَرَاخٍ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا. (قَوْلُهُ: عَلَى مَا ذَكَرْنَا) فِي آخِرِ فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ شَرْطُ الْخِيَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَهُ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِدُخُولِهِ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ خَطَرًا. فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ أَيْ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ عَنْهَا لِمَانِعٍ قُلْنَا الْخِلَافُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَلِ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَالْعُقُودِ وَالْفَسْخِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَعْنِي الْعِلَّةَ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ التَّرَاخِي فِيمَا هُوَ عِلَّةٌ حُكْمًا فَكَيْفَ يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ. (قَوْلُهُ: وَدَلَالَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً) لَمَّا كَانَتْ الْعِلَّةُ اسْمًا وَمَعْنًى يَتَرَاخَى عَنْهَا حُكْمُهَا كَمَا فِي السَّبَبِ اُحْتِيجَ إلَى وَجْهِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ، أَوْ الْبَيْعَ بِالْخِيَارِ عِلَّةٌ لَا سَبَبٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْمَانِعُ بِأَنْ يَأْذَنَ الْمَالِكُ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَبِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ يُجْبَرَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي بَيْعِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ أَيْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ حَتَّى يَمْلِكَهُ الْمُشْتَرِي بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ) . فَإِنْ قُلْت: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً حُكْمًا بِالنِّسْبَةِ إلَى مِلْكِ الْأُجْرَةِ؟ . قُلْت: مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالِ عَدَمُ مِلْكِ بَدَلِهَا، وَهُوَ الْأُجْرَةُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ. (قَوْلُهُ: لَكِنَّهَا أَيْ الْإِجَارَةُ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ) وَهَذَا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ كَوْنِهَا عِلَّةً وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَنَى مُشَابَهَةَ الْعِلَّةِ لِلسَّبَبِ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّلَ بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ زَمَانٌ، وَلَا يُجْعَلُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ مُسْتَنِدًا إلَى حِينِ وُجُودِ الْعِلَّةِ كَمَا إذَا قَالَ فِي رَجَبٍ أَجَّرْتُك الدَّارَ مِنْ غُرَّةِ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْإِجَارَةَ مِنْ حِينِ التَّكَلُّمِ بَلْ فِي غُرَّةِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ

غُرَّةِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ الْمَانِعُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ حَتَّى تَكُونَ الزَّوَائِدُ الْحَاصِلَةُ فِي زَمَانِ التَّوَقُّفِ لِلْمُشْتَرِي، فَهُوَ عِلَّةٌ غَيْرُ مُشَابِهَةٍ بِالْأَسْبَابِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ الْعِلَّةُ. فَالْعِلَّةُ الَّتِي يَتَرَاخَى عَنْهَا الْحُكْمُ لَكِنْ إذَا ثَبَتَ لَا يَثْبُتُ مِنْ حِينِ الْعِلَّةِ تَكُونُ مُشَابِهَةً لِلسَّبَبِ لِوُقُوعِ تَخَلُّلِ الزَّمَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ وَاَلَّتِي إذَا ثَبَتَ حُكْمُهَا يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَلَمْ يَتَخَلَّلْ الزَّمَانُ بَيْنَهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQهُنَاكَ تَخَلُّلُ زَمَانٍ، وَأَمَّا فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَدْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ إذَا وُجِدَ رُكْنُ الْعِلَّةِ وَتَرَاخَى عَنْهُ وَصْفُهُ فَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ إلَى وُجُودِ الْوَصْفِ، فَمِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْأَصْلِ يَكُونُ الْمَوْجُودُ عِلَّةً يُضَافُ إلَيْهَا الْحُكْمُ إذْ الْوَصْفُ تَابِعٌ، فَلَا يَنْعَدِمُ الْأَصْلُ بِعَدَمِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ إيجَابَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنْتَظَرِ كَانَ الْأَصْلُ قَبْلَ الْوَصْفِ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ وَيَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وَاسِطَةٍ هِيَ الْوَصْفُ فَيَكُونُ لِلْعِلَّةِ شَبَهٌ بِالْأَسْبَابِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يُقَالُ: إنَّ مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الرَّمْيِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا تَرَاخَى عَنْهُ أَشْبَهَ الْأَسْبَابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَبْنَى شَبَهِ الْأَسْبَابِ عَلَى تَرَاخِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ فِي جَمِيعِ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا تَرَاخَى إلَى وَصْفِ كَذَا، وَكَذَا كَانَتْ عِلَّةً تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ هَاهُنَا وَمُرَادُهُ بِأَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ لَمَّا تَرَاخَى إلَى الْوَسَائِطِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْهَلَاكِ مِنْ الْمُضِيِّ فِي الْهَوَاءِ وَالْوُصُولِ إلَى الْمَجْرُوحِ وَالنُّفُوذِ فِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ الرَّمْيُ عِلَّةً تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْحُكْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، فَهُوَ عِلَّةٌ مَحْضَةٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَتْ الْوَاسِطَةُ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً مُسْتَقِلَّةً، فَهُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ عِلَّةٌ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْوَاسِطَةُ أَمْرًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ عِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ، أَوْ يَكُونَ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ حَاصِلَةً بِالْأَوَّلِ كَالْمَعْنَى فِي الْهَوَاءِ الْحَاصِلِ بِالرَّمْيِ، ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْإِجَارَةِ مُتَضَمِّنَةً لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كَمَا إذَا قَالَ فِي رَجَبٍ آجَرْتُك الدَّارَ مِنْ غُرَّةِ رَمَضَانَ، وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَثْبُتُ مِنْ غُرَّةِ رَمَضَانَ حَتَّى لَوْ قَالَ آجَرْتُك الدَّارَ مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إضَافَةٌ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُشْبِهَ الْأَسْبَابَ. وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ هُوَ أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَوْ لَا وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ، وَإِنْ صَحَّتْ فِي الْحَالِ بِإِقَامَةِ الْعَيْنِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ إلَّا أَنَّهَا فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ مُضَافَةٌ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّهَا تَنْعَقِدُ حِينَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْتَرِنَ الِانْعِقَادُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْإِجَارَةُ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا

وَبَيْنَ الْحُكْمِ، فَلَا تَكُونُ مُشَابِهَةً لِلسَّبَبِ. (وَكَذَا كُلُّ إيجَابٍ مُضَافٍ نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا) فَإِنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ. (وَكَذَا النِّصَابُ حَتَّى يُوجِبَ صِحَّةَ الْأَدَاءِ فَيَتَبَيَّنَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَنَّهُ كَانَ زَكَاةً) ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ عِلَّةٌ اسْمًا لِلْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَمَعْنًى لِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا؛ لِأَنَّ الْغِنَى يُوجِبُ مُوَاسَاةَ الْفُقَرَاءِ وَلَيْسَ عِلَّةً حُكْمًا لِتَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْهُ لَكِنَّهُ مُشَابِهٌ بِالْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَرَاخٍ إلَى وُجُودِ النَّمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَرَاخِيًا إلَيْهِ وَكَانَ النِّصَابُ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ مُشَابَهَةٍ بِالْأَسْبَابِ، وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى مَا هُوَ عِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَكَانَ النِّصَابُ سَبَبًا ـــــــــــــــــــــــــــــQكُلُّ إيجَابٍ) أَيْ كُلُّ إيجَابٍ يُصَرَّحُ فِيهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ، مِثْلُ: أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، فَإِنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَتَأْثِيرِهِ فِيهِ لَا حُكْمًا لِتَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْهُ إلَى الْغَدِ فَيُشْبِهُ الْأَسْبَابَ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ التَّقْدِيرِيَّةَ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ تُوجِبُ شِبْهَ السَّبَبِيَّةِ فَالْإِضَافَةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَوْلَى فَلِهَذَا يَقْتَصِرُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى مَجِيءِ الْغَدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى زَمَانِ الْإِيجَابِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا النِّصَابُ) أَيْ النِّصَابُ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ اسْمًا وَمَعْنًى لِتَحَقُّقِ الْإِضَافَةِ وَالتَّأْثِيرِ لَا حُكْمًا لِعَدَمِ الْمُقَارَنَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَرَاخَى إلَى وُجُودِ النَّمَاءِ الَّذِي أُقِيمَ حَوَلَانُ الْحَوْلِ مَقَامَهُ مِثْلَ إقَامَةِ السَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ، ثُمَّ النِّصَابُ عِلَّةٌ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يُقَارِنُهَا الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ حَتَّى تَكُونَ عِلَّةً شَبِيهَةً بِالْأَسْبَابِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَيْ الْحُكْمُ مُتَرَاخِيًا إلَيْهِ أَيْ إلَى وُجُودِ النَّمَاءِ كَانَ النِّصَابُ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ مُشَابَهَةٍ بِالْأَسْبَابِ وَلَيْسَ أَيْضًا سَبَبًا حَقِيقِيًّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً مُسْتَقِلَّةً وَلَيْسَ كَذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي لَا مُجَرَّدُ وَصْفِ النَّمَاءِ، فَإِنَّهُ قَائِمٌ بِالْمَالِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ أَصْلًا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى مَا هُوَ عِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَكَانَ سَبَبًا حَقِيقًا وَلَيْسَ أَيْضًا عِلَّةُ الْعِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ النَّمَاءُ حَاصِلًا بِنَفْسِ النِّصَابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ وَالثَّمَنُ فِي الْإِسَامَةِ وَزِيَادَةُ الْمَالِ فِي التِّجَارَةِ وَالْحُكْمِيُّ هُوَ حَوَلَانُ الْحَوْلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ النِّصَابِ بِسَوْمِ السَّائِمَةِ وَعَمَلِ التِّجَارَةِ وَتَغَيُّرِ الْأَسْفَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى شَيْءٍ يَجِبُ حُصُولُهُ بِالنِّصَابِ لَكَانَ النِّصَابُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ النَّمَاءَ الَّذِي يَتَرَاخَى إلَيْهِ الْحُكْمُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَلَا بِعِلَّةٍ حَاصِلَةٍ بِالنِّصَابِ لَكِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْعِلَّةِ مِنْ جِهَةِ تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّ النَّمَاءَ الَّذِي هُوَ بِالْحَقِيقَةِ فَضْلٌ عَلَى الْغَنِيِّ يُوجِبُ مُوَاسَاةَ الْفَقِيرِ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِ الْغِنَى إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَصْفًا قَائِمًا بِالْمَالِ تَابِعًا لَهُ لَمْ يُجْعَلْ جُزْءَ عِلَّةٍ بَلْ جُعِلَ شَبِيهَ عِلَّةٍ تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ عَلَى الْوَصْفِ حَتَّى جَازَ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ إذَا

حَقِيقِيًّا لَكِنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالْمَالِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ تَمَامَ الْمُؤَثِّرِ بَلْ تَمَامُ الْمُؤَثِّرِ الْمَالُ النَّامِي، وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى شَيْءٍ يَجِبُ حُصُولُهُ بِالنِّصَابِ لَكَانَ النِّصَابُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ وَالنَّمَاءُ لَا يَجِبُ حُصُولُهُ بِالْمَالِ لَكِنَّ النَّمَاءَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالْمَالِ لَهُ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ النَّمَاءُ سَبَبًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَهُوَ عِلَّةٌ حَقِيقَةً لَكَانَ النِّصَابُ سَبَبًا حَقِيقِيًّا، فَإِذَا كَانَ لِلنَّمَاءِ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ كَانَ لِلنِّصَابِ شَبَهُ السَّبَبِيَّةِ. (وَكَذَا مَرَضُ الْمَوْتِ وَالْجُرْحُ فَإِنَّهُ يَتَرَاخَى حُكْمُهُ إلَى السِّرَايَةِ، وَكَذَا الرَّمْيُ وَالتَّزْكِيَةُ عِنْدَ ـــــــــــــــــــــــــــــQتَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ لِلنَّمَاءِ حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ لَكَانَ لِلنِّصَابِ حَقِيقَةُ السَّبَبِيَّةِ كَمَا إذَا دَلَّ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى مَالِ الْغَيْرِ فَسَرَقَهُ، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يُشْبِهُ الْعِلَّةَ أَصْلًا، فَإِذَا كَانَ لِلنَّمَاءِ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ كَانَ لِلنِّصَابِ شَبَهُ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَوَسُّطَ حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ يُوجِبُ حَقِيقَةَ السَّبَبِيَّةِ فَتَوَسُّطُ شَبَهِ الْعِلَّةِ يُوجِبُ شَبَهَ السَّبَبِيَّةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ النَّمَاءُ شَيْئًا مُسْتَقِلًّا إلَخْ، وَإِنَّمَا قَالَ شَيْئًا مُسْتَقِلًّا أَيْ غَيْرَ حَاصِلٍ بِالنِّصَابِ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً لَا يَلْزَمُ كَوْنُ النِّصَابِ سَبَبًا حَقِيقِيًّا كَمَا فِي عِلَّةِ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْعِلِّيَّةِ فِي الْمِلْكِ لَا تُوجِبُ كَوْنَ الشِّرَاءِ سَبَبًا حَقِيقِيًّا وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى مَا هُوَ عِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَكَانَ النِّصَابُ سَبَبًا حَقِيقِيًّا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ حَقِيقَةً مَا تَكُونُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ: إنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْ النَّمَاءِ حَقِيقَةُ الْعِلِّيَّةِ انْتَفَى عَنْ النِّصَابِ كَوْنُهُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ كَمَا انْتَفَى عَنْهُ كَوْنُهُ سَبَبًا حَقِيقِيًّا، فَلَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى شَيْءٍ يَجِبُ حُصُولُهُ بِالْمَالِ إلَخْ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ النِّصَابِ عِلَّةَ الْعِلَّةِ لَا يُنَافِي مُشَابَهَتَهُ بِالْأَسْبَابِ بَلْ يُوجِبُهَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ، فَلَا مَعْنَى لِنَفْيِ ذَلِكَ وَالِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِالشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ أَعْنِي قَوْلَهُ: وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى شَيْءٍ يَجِبُ حُصُولُهُ بِالنِّصَابِ لَكَانَ النِّصَابُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ وَالنَّمَاءُ لَا يَجِبُ حُصُولُهُ بِالْمَالِ لَا يُقَالُ: إنَّمَا نَفَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ عِلَّةَ الْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَتَرَاخَى عَنْهُ الْحُكْمُ حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ عَدَمُ التَّرَاخِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَسَائِطِ امْتِدَادٌ كَمَا فِي الرَّمْيِ وَالْهَلَاكِ. وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ لَمَّا تَرَاخَى حُكْمُ النِّصَابِ أَشْبَهَ الْأَسْبَابَ أَلَا يُرَى أَنَّهُ إنَّمَا تَرَاخَى إلَى مَا لَيْسَ بِحَادِثٍ بِهِ وَإِلَى مَا هُوَ شَبِيهٌ بِالْعِلَلِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِشَبَهِ السَّبَبِيَّةِ فِي النِّصَابِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْهُ إلَى مَا لَيْسَ حَاصِلًا بِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ تَأَكُّدَ الِانْفِصَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ وَتَحَقُّقَ الشَّبَهِ بِالسَّبَبِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ لِلنَّمَاءِ شَبَهَ الْعِلِّيَّةِ فَيُوجِبُ فِي النِّصَابِ شَبَهَ السَّبَبِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ. وَغَيَّرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا الْكَلَامَ إلَى مَا تَرَى ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ التَّرَاخِيَ إلَى مَا لَيْسَ

أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى إذَا رَجَعَ) أَيْ الْمُزَكِّي (ضَمِنَ، وَكَذَا كُلُّ مَا هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ) فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ إنَّمَا تُشْبِهُ السَّبَبَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ وَاسِطَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْرَدَ لِلْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ وَالْبَيْعُ بِالْخِيَارِ فَهُمَا عِلَّتَانِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَهُمَا لَا يُشَابِهَانِ الْأَسْبَابَ، وَمِنْهَا الْإِجَارَةُ وَكُلُّ إيجَابٍ مُضَافٍ وَالنِّصَابُ وَمَرَضُ الْمَوْتِ وَالْجُرْحِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّهَا عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لَكِنَّهَا تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ، وَمِنْهَا عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكَ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِحَادِثٍ بِهِ لَا يُوجِبُ شَبَهَ الْأَسْبَابِ كَالْبَيْعِ بِالْخِيَارِ وَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ التَّرَاخِيَ إلَى وَصْفٍ لَا يَحْدُثُ بِهِ. وَفِي الْبَيْعِ التَّرَاخِي إنَّمَا هُوَ إلَى مُجَرَّدِ زَوَالِ الْمَانِعِ لَا إلَى الْوَصْفِ. فَإِنْ قُلْت: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَكِنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ وَالنَّمَاءُ لَا يَجِبُ حُصُولُهُ بِالْمَالِ نَفْيٌ لِلْمَلْزُومِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ اللَّازِمِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ أَعَمَّ. قُلْت: بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فِي الشَّرْطِيَّتَيْنِ تَلَازُمٌ مُسَاوٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى فَنَفْيُ كُلٍّ مِنْهُمَا يُوجِبُ نَفْيَ الْآخَرِ. (قَوْلُهُ: حَتَّى يُوجِبَ صِحَّةَ الْأَدَاءِ) يَعْنِي لِكَوْنِ النِّصَابِ هُوَ الْعِلَّةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لِلنَّمَاءِ دَخْلٌ فِي الْعِلِّيَّةِ صَحَّ الْأَدَاءُ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَلِكَوْنِهِ عِلَّةً شَبِيهَةً بِالْأَسْبَابِ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَوْنُ الْمُؤَدَّى زَكَاةً إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لِعَدَمِ وَصْفِ الْعِلَّةِ فِي الْحَالِ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ، فَقَدْ صَارَ الْمُؤَدَّى زَكَاةً لِإِسْنَادِ الْوَصْفِ إلَى أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَهَذَا مَا يُقَالُ: إنَّ الْأَدَاءَ بَعْدَ الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْوَصْفِ يَقَعُ مَوْقُوفًا وَبَعْدَ تَمَامِ الْوَصْفِ يَسْتَنِدُ الْوُجُوبُ إلَى مَا قَبْلَ الْأَدَاءِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا مَرَضُ الْمَوْتِ) يَعْنِي أَنَّ الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ وَالتَّأْثِيرِ لَا حُكْمًا لِتَحَقُّقِ التَّرَاخِي فَمَرَضُ الْمَوْتِ عِلَّةٌ لِلْحَجْرِ عَنْ التَّبَرُّعِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُحَابَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ إلَى وَصْفِ اتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ وَالْجُرْحُ عِلَّةٌ لِلْهَلَاكِ وَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ إلَى وَصْفِ السِّرَايَةِ وَالرَّمْيُ عِلَّةٌ لِلْمَوْتِ وَيَتَرَاخَى إلَى نُفُوذِ السَّهْمِ فِي الْمَرْمِيِّ وَتَزْكِيَةُ شُهُودِ الزِّنَا عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ لَكِنْ بِتَوَسُّطِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى إذَا رَجَعَ الْمُزَكُّونَ وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ ضَمِنُوا الدِّيَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مِنْ قَبِيلِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا لَا يَخْفَى عَمَّمَ الْحُكْمَ فَقَالَ، وَكَذَا كُلُّ مَا هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ، فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِلْمِلْكِ، وَهُوَ لِلْعِتْقِ فَالْعِلَّةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ مِنْ جِهَةِ تَرَاخِي الْحُكْمِ، وَمِنْ جِهَةِ تَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ حَاصِلَةٌ بِالْأَوَّلِ سِوَى شِرَاءِ الْقَرِيبِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّرَاخِي فَشَبَهُهُ بِالْأَسْبَابِ مِنْ جِهَةِ تَخَلُّلِ

عِلَّةُ الْعِتْقِ وَقَدْ صَرَّحَ فِيهَا أَنَّهَا عِلَّةٌ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ أَنَّهَا عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ لَيْسَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُتَرَاخٍ عَنْهُ وَإِنَّمَا يُشَابِهُ الْأَسْبَابَ لِتَوَسُّطِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْمِلْكُ وَقَدْ جَعَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعِلَّةَ الْمُشَابِهَةَ بِالسَّبَبِ قِسْمًا آخَرَ لَكِنِّي لَمْ أَجْعَلْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْأَقْسَامِ السَّبْعَةِ الَّتِي تَنْحَصِرُ الْعِلَّةُ فِيهَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ، وَلَا التَّأْثِيرُ، وَلَا التَّرْتِيبُ لَا تُوجَدُ الْعِلَّةُ أَصْلًا وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهَا مُنْفَرِدًا يَحْصُلُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ وَإِنْ وُجِدَ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهَا فَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أُخَرَ وَإِنْ وُجِدَ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فَقِسْمٌ آخَرُ فَحُمِلَ سَبْعَةً. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَاسِطَةِ لَا غَيْرُ، فَلِهَذَا لَمْ يُصَرِّحْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ بِأَنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِهِ وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ وَالتَّأْثِيرِ وَالْمُقَارَنَةِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ لِعَدَمِ تَصْرِيحِ السَّلَفِ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَبَيْنَ الْعِلَّةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ لِصِدْقِهِمَا مَعًا فِي الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ وَصِدْقِ الْأَوَّلِ فَقَطْ فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَصِدْقِ الثَّانِي فَقَطْ فِي مِثْلِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ. (قَوْلُهُ: وَإِمَّا مَا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِكَوْنِهِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَإِمَّا اسْمًا وَمَعْنًى، وَهَذَا هُوَ الْعِلَّةُ مَعْنًى لِوُجُودِ التَّأْثِيرِ لِجُزْءِ الْعِلَّةِ لَا اسْمًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَلَا حُكْمًا لِعَدَمِ التَّرْتِيبِ عَلَيْهِ إذْ الْمُرَادُ هُوَ الْجُزْءُ الْغَيْرُ الْأَخِيرِ، أَوْ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ الْغَيْرِ الْمُرَتَّبَيْنِ كَالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ، وَهُوَ عِنْدَ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَبَبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْجُزْأَيْنِ طَرِيقٌ يُفْضِي إلَى الْمَقْصُودِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْجُزْءُ الْآخَرُ. وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِأَجْزَاءِ الْعِلَّةِ فِي أَجْزَاءِ الْمَعْلُولِ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ هُوَ تَمَامُ الْعِلَّةِ فِي تَمَامِ الْمَعْلُولِ فَعَلَى مَا ذَكَرَ هَاهُنَا لَمَّا كَانَ عِلَّةُ الرِّبَا هِيَ الْقَدْرُ مَعَ الْجِنْسِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ فَيَثْبُتُ بِهِ رِبَا النَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ يُوَرِّثُ شُبْهَةَ الْفَضْلِ لِمَا فِي النَّقْدِ مِنْ الْمَزِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ حِنْطَةً فِي شَعِيرٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ رِبَا الْفَضْلِ، فَإِنَّهُ أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ، فَلَا يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْعِلَّةِ بَلْ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى حَقِيقَةِ الْعِلَّةِ أَعْنِي الْقَدْرَ وَالْجِنْسَ كَيْفَ وَالنَّصُّ قَائِمٌ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ» . (قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَعْنًى وَحُكْمًا) يَعْنِي إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ مُتَرَتِّبَيْنِ فِي الْوُجُودِ فَالْمُتَأَخِّرُ وُجُودًا عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا لِوُجُودِ التَّأْثِيرِ وَالِاتِّصَالِ لَا اسْمًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ بَلْ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ كَالْقَرَابَةِ، ثُمَّ الْمِلْكِ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعَ تَأْثِيرٍ فِي الْعِتْقِ

الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ الْعِلَّةَ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا قَدْ تُوجَدُ مَعَ مُشَابَهَتِهَا السَّبَبَ كَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَقَدْ تُوجَدُ بِدُونِهَا كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَقَدْ تُوجَدُ مُشَابَهَةُ السَّبَبِ بِدُونِهَا أَيْ بِدُونِ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى الْقَرِيبَ الْمَحْرَمَ وَأَظُنُّ أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ يَكُونُ حُكْمًا لَكِنَّهُ يُشَابِهُ السَّبَبَ. (وَأَمَّا مَا لَهُ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ كَجُزْءِ الْعِلَّةِ فَيَثْبُتُ بِهِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ كَرِبَا النَّسِيئَةِ يَثْبُتُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ) ، وَهُوَ إمَّا الْقَدْرُ، أَوْ الْجِنْسُ. (وَإِمَّا مَعْنًى وَحُكْمًا كَالْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ الْعِلَّةِ كَالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ لِلْعِتْقِ، فَإِذَا تَأَخَّرَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ) أَيْ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَثَرًا فِي إيجَابِ الصِّلَاتِ وَلِهَذَا يَجِبُ صِلَةُ الْقَرَابَاتِ وَنَفَقَةُ الْعَبِيدِ إلَّا أَنَّ لِلْأَخِيرِ تَرْجِيحًا بِوُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ فَيُجْعَلُ وَصْفًا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ فِي كَوْنِ الْمِلْكِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا وَيَصِيرُ الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ فَيُجْعَلُ وَصْفًا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ. وَفِي كَوْنِ الْمِلْكِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمِلْكِ وَثُبُوتَهُ بِهِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ شَائِعٌ فِي عِبَارَةِ الْقَوْمِ وَلَفْظُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَرِيحٌ فِيهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ عِلَّةً اسْمًا. وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَيَصِيرُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ كَالْمَنِّ الْأَخِيرِ فِي أَثْقَالِ السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ الْأَخِيرِ فِي السُّكْرِ وَذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا يَصِيرُ مُوجَبًا بِالْأَخِيرِ، ثُمَّ الْحُكْمُ يَجِبُ بِالْكُلِّ فَيَصِيرُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ كَعِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْعِلَّةِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ عِلَّةَ الْعِلَّةِ يَكُونُ عِلَّةً اسْمًا لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ يَجِبُ فِيمَا هُوَ عِلَّةٌ اسْمًا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِلْحُكْمِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَغَيْرُهُ وَالْمِلْكُ لَمْ يُوضَعْ فِي الشَّرْعِ لِلْعِتْقِ، وَإِنَّمَا الْمَوْضُوعُ لَهُ مِلْكُ الْقَرَابَةِ وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ. (قَوْلُهُ: حَتَّى تُصْبِحَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ) . فَإِنْ قُلْت: الْجُزْءُ الْأَخِيرُ هُوَ الْمِلْكُ دُونَ الشِّرَاءِ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا التَّفْرِيعُ. قُلْت: عِلَّةُ الشِّرَاءِ عِلَّةٌ لِلْمِلْكِ وَعِلَّةُ الْعِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ غَيْرُ مُتَرَاخٍ هَاهُنَا فَالنِّيَّةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ نِيَّةٌ عِنْدَ إيجَادِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِلْإِعْتَاقِ إذْ لَا إضَافَةَ إلَى الْقَرَابَةِ الَّتِي هِيَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ. (قَوْلُهُ: وَيَضْمَنُ) أَيْ لَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ قَرِيبًا مَحْرَمًا لِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ اشْتَرَى الْأَجْنَبِيُّ شِقْصًا، ثُمَّ الْقَرِيبُ بَعْدَهُ ضَمِنَ الْقَرِيبُ نَصِيبَ الْأَجْنَبِيِّ بِالِاتِّفَاقِ مُوسِرًا كَانَ الْقَرِيبُ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نَصِيبَهُ بِمَا هُوَ عِلَّةٌ، وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَإِنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا يَضْمَنُ لِمَا مَرَّ سَوَاءٌ عَلِمَ الْأَجْنَبِيُّ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ رَضِيَ بِفَسَادِ نَصِيبِهِ حَيْثُ جَعَلَ الْقَرِيبَ شَرِيكًا لَهُ فِي الشِّرَاءِ سَوَاءٌ عَلِمَ الْقَرَابَةَ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ إذْ لَا عِبْرَةَ بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ تَقْصِيرٌ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى الْأَجْنَبِيُّ نَصِيبَهُ، أَوَّلًا، فَإِنَّهُ لَا رِضَا مِنْهُ بِالْفَسَادِ. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ

الْعِتْقُ بِالْمِلْكِ فَإِنَّهُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ لِلْعِلَّةِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ (حَتَّى تُصْبِحَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ) فَإِنَّ نِيَّةَ الْكَفَّارَةِ تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ (وَيَضْمَنُ إذَا كَانَ شَرِيكًا عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا اشْتَرَيَاهُ مَعًا أَمَّا إذَا اشْتَرَى الْأَجْنَبِيُّ نِصْفَهُ، ثُمَّ الْقَرِيبُ يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ فِي الْأَوَّلِ رَضِيَ الْأَجْنَبِيُّ بِفَسَادِ نَصِيبِهِ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ الْقَرِيبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ جَهْلُهُ وَفِي الثَّانِي لَمْ يَرْضَ. (وَأَنَّ تَأَخُّرَ الْقَرَابَةِ يَثْبُتُ بِهَا) أَيْ يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ حَتَّى يَضْمَنَ مُدَّعِي الْقَرَابَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقَرَابَةُ مَعْلُومَةً لَمْ يَضْمَنْ. (كَمَا إذَا وَرِثَا عَبْدًا، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَرِيبُهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ) أَيْ إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ، ثُمَّ وَاحِدٌ لَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّهَادَةِ الْأَخِيرَةِ بَلْ إلَى الْمَجْمُوعِ فَأَيُّهُمَا رَجَعَ يَضْمَنُ النِّصْفَ (فَإِنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِالْمَجْمُوعِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَعْمَلُ بِالْقَضَاءِ، وَهُوَ يَقَعُ بِهِمَا وَإِمَّا اسْمًا وَحُكْمًا لَا مَعْنًى وَهِيَ إمَّا بِإِقَامَةِ السَّبَبِ الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ كَالسَّفَرِ وَالْمَرَضِ) فَإِنَّهُمَا أُقِيمَا مَقَامَ الْمَشَقَّةِ (وَالنَّوْمُ) أُقِيمَ مَقَامَ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ (وَالْمَسُّ وَالنِّكَاحُ مَقَامَ الْوَطْءِ) أَيْ الْمَسُّ وَالنِّكَاحُ يَقُومَانِ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، أَمَّا فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَتْنِ الْمَدْعُوَّ إلَيْهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالرِّضَا فِي صُورَةِ الْجَهْلِ بِالْقَرَابَةِ كَيْفَ، وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّضَا أَمْرٌ بَاطِنٌ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ مَعَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الِاشْتِرَاكُ وَمُبَاشَرَةُ الشِّرَاءِ وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ جَهْلُهُ وَجُعِلَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ صَارَ كَأَنَّ الْعِلْمَ حَاصِلٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يُعْتَبَرُ جَهْلُهُ إشَارَةٌ إلَى هَذَا. (قَوْلُهُ: حَتَّى يَضْمَنَ مُدَّعِي الْقَرَابَةِ) يَعْنِي إذَا اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا مَجْهُولَ النَّسَبِ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنُهُ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ الْعِلَّةِ أَعْنِي الْقَرَابَةَ قَدْ حَصَلَ بِصُنْعِهِ فَيَكُونُ هُوَ الْعِلَّةَ، وَلَوْ كَانَتْ الْقَرَابَةُ مَعْلُومَةً قَبْلَ الشِّرَاءِ لَمْ يَضْمَنْ مُدَّعِي الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ بِصُنْعِهِ، وَقَدْ رَضِيَ الْأَجْنَبِيُّ بِفَسَادِ نَصِيبِهِ فَقَوْلُهُ: لَمْ يَضْمَنْ. قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُخَصُّ بِصُورَةِ الشِّرَاءِ مَعًا حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْأَجْنَبِيُّ، أَوَّلًا ضَمِنَ الْقَرِيبُ حِصَّتَهُ لِعَدَمِ الرِّضَا، وَأَمَّا إذَا وَرِثَا عَبْدًا مَجْهُولَ النَّسَبِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَرِيبُهُ يَضْمَنُ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ بِصُنْعِهِ، فَلَوْ كَانَتْ الْقَرَابَةُ مَعْلُومَةً لَمْ يَضْمَنْ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ. (قَوْلُهُ: أَوْ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ) السَّبَبُ الدَّاعِي هُوَ الَّذِي يُفْضِي إلَى الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ فَلَا بُدَّ مَنْ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ وَالدَّلِيلُ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ فَرُبَّمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ كَالْإِخْبَارِ عَنْ الْمَحَبَّةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِمَا لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إلَّا بِإِخْبَارِهَا بِمَنْزِلَةِ تَخَيُّرِهَا، وَهُوَ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ. (قَوْلُهُ: وَالطُّهْرُ مَقَامُ الْحَاجَةِ) يَعْنِي أَنَّ

لِلظُّهُورِ (أَوْ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ كَالْخَبَرِ عَنْ الْمَحَبَّةِ أُقِيمَ مَقَامَهَا فِي قَوْلِهِ: إنْ أَحْبَبْتنِي فَأَنْتَ كَذَا وَالطُّهْرُ مَقَامَ الْحَاجَةِ فِي إبَاحَةِ الطَّلَاقِ وَاسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ مَقَامَ الشُّغْلِ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَالدَّاعِي إلَى ذَلِكَ) أَيْ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لِإِقَامَةِ الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ وَالدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ أَحَدُ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ. (إمَّا دَفْعُ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي إنْ أَحْبَبْتنِي وَكَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِمَّا الِاحْتِيَاطُ كَمَا فِي تَحْرِيمِ الدَّوَاعِي فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَالْعِبَادَاتِ، وَإِمَّا دَفْعُ الْحَرَجِ كَالسَّفَرِ وَالطُّهْرِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ دَفْعِ الْحَرَجِ وَدَفْعِ الضَّرُورَةِ أَنَّ فِي دَفْعِ الضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ كَالْمَحَبَّةِ فَإِنَّ وُقُوفَ الْغَيْرِ عَلَيْهَا مُحَالٌ فَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى إقَامَةِ الْخَبَرِ عَنْ الْمَحَبَّةِ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ. أَمَّا الْمَشَقَّةُ فِي السَّفَرِ وَالْإِنْزَالُ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَإِنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِمَا مُمْكِنٌ لَكِنْ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِمَا حَرَجٌ لِخَفَائِهِمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالطَّلَاقَ أَمْرٌ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ النِّكَاحِ الْمَسْنُونِ إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ ضَرُورَةَ أَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَالْحَاجَةُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ دَلِيلُهَا، وَهُوَ زَمَانٌ تَتَجَدَّدُ فِيهِ الرَّغْبَةُ أَعْنِي الطُّهْرَ الْخَالِيَ عَنْ الْجِمَاعِ مَقَامَ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ دَلِيلَ الْحَاجَةِ هُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ لَا الطُّهْرُ نَفْسُهُ. (قَوْلُهُ: وَاسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ) يَعْنِي أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَهُوَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ فِي الْأَمَةِ عِنْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى انْقِضَاءِ حَيْضَةٍ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا هُوَ كَوْنُ الرَّحِمِ مَشْغُولًا بِمَاءِ الْغَيْرِ احْتِرَازًا عَنْ خَلْطِ الْمَاءِ بِالْمَاءِ وَسَقْيِ الْمَاءِ زَرْعَ الْغَيْرِ إلَّا أَنَّهُ أَمْرٌ خَفِيٌّ فَأُقِيمَ دَلِيلُهُ، وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ مِلْكِ الْوَاطِئِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَقَامَهُ، فَإِنَّ الِاسْتِحْدَاثَ يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ مَنْ اُسْتُحْدِثَ مِنْهُ وَتُلُقِّيَ مِنْ جِهَتِهِ وَمِلْكُهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ الْوَطْءِ الْمُؤَدِّي إلَى الشُّغْلِ فَالِاسْتِحْدَاثُ يَدُلُّ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ عَلَى الشُّغْلِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ مِنْ إقَامَةِ السَّبَبِ إذْ الشُّغْلُ إنَّمَا هُوَ بِالْوَطْءِ وَالْمِلْكُ مُمَكِّنٌ مِنْهُ مُؤَدٍّ إلَيْهِ وَدَاعٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الشُّغْلَ إنَّمَا هُوَ بِوَطْءِ الْبَائِعِ وَالْمِلْكُ مُمَكِّنٌ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي وَالْأَظْهَرُ مَا فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ صِيَانَةُ الْمَاءِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَاءٍ قَدْ وُجِدَ وَاسْتِحْدَاثُ مِلْكِ الْوَاطِئِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ سَبَبٌ مُؤَدٍّ إلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِحْدَاثَ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ يَلْزَمُ مِنْ الْبَائِعِ، وَمِنْ غَيْرِ ظُهُورِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا عَنْ مَائِهِ، فَلَوْ أَبَحْنَا الْوَطْءَ لِلثَّانِي بِنَفْسِ الْمِلْكِ لَأَدَّى إلَى الْخَلْطِ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ سَبَبًا مُؤَدِّيًا إلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّهُ دَلِيلٌ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ وَلِهَذَا سَمَّاهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - السَّبَبَ الظَّاهِرَ وَالدَّلِيلَ عَلَى الْعِلَّةِ. (قَوْلُهُ: كَمَا فِي تَحْرِيمِ الدَّوَاعِي) أَيْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ مِنْ الْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ وَالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ حَيْثُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الزِّنَا فِي الْحُرْمَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذَا كَانَتْ مَعَ

(وَبِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ بَقِيَ قِسْمَانِ عِلَّةٌ مَعْنًى فَقَطْ وَعِلَّةٌ حُكْمًا فَقَطْ، وَلَمَّا جَعَلُوا الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ الْعِلَّةِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا يَكُونُ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ عِلَّةً مَعْنًى لَا اسْمًا، وَلَا حُكْمًا) فَالْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ مَا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ كَجُزْءِ الْعِلَّةِ يَكُونُ هَذَا الْقِسْمُ بِعَيْنِهِ. (وَالْعِلَّةُ اسْمًا وَحُكْمًا إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِلَّةٌ حُكْمًا فَقَطْ) كَالدَّاعِي مَثَلًا وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِلَّةٌ حُكْمًا لَا اسْمًا وَمَعْنًى أَيْضًا لَمَّا أَرَادُوا بِالْعِلَّةِ حُكْمًا مَا يُقَارِنُهُ الْحُكْمُ فَالشَّرْطُ كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا عِلَّةٌ حُكْمًا. (وَأَمَّا السَّبَبُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ فَإِنْ كَانَتْ مُضَافَةً إلَيْهِ) أَيْ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ مُضَافَةً إلَى السَّبَبِ كَوَطْءِ الدَّابَّةِ شَيْئًا فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِهَلَاكِهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُضَافَةٌ إلَى سَوْقِهَا، وَهُوَ السَّبَبُ (فَالسَّبَبُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ بِسَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدِهَا وَبِالشَّهَادَةِ بِالْقِصَاصِ إذَا رَجَعَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَجْنَبِيَّةِ وَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي الْحُرْمَةِ حَالَتَيْ الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ إذَا كَانَتْ مَعَ الزَّوْجَةِ، أَوْ الْأَمَةِ. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا جَعَلُوا الْجُزْءَ الْأَخِيرَ) يَعْنِي أَنَّ الْقَوْمَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْعِلَّةِ مَعْنًى فَقَطْ وَالْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ إلَّا أَنَّ التَّقْسِيمَ الْعَقْلِيَّ يَقْتَضِيهِمَا وَالْأَحْكَامُ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ الْعِلَّةِ لَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَعَ تَأْثِيرِهِ فِيهِ فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ عِلَّةً مَعْنًى لِوُجُودِ التَّأْثِيرِ لَا اسْمًا، وَلَا حُكْمًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ وَالْمُقَارَنَةِ فَمَا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ، وَهُوَ الْجُزْءُ الْغَيْرُ الْأَخِيرِ مِنْ الْعِلَّةِ يَكُونُ هَذَا الْقِسْمُ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ إلَّا مَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ وَلَا تَأْثِيرٍ فَالْجُزْءُ الْأَخِيرِ مِنْ السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْحُكْمِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَتَّصِلُ بِهِ الْحُكْمُ يَكُونُ عِلَّةً حُكْمًا لِوُجُودِ الْمُقَارَنَةِ لَا اسْمًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَلَا مَعْنًى لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلسَّبَبِ الدَّاعِي فَكَيْفَ لِجُزْئِهِ، وَكَذَا الشَّرْطُ الَّذِي عُلِّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَدُخُولِ الدَّارِ فِيمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَتَّصِلُ بِهِ الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ، وَلَا تَأْثِيرٍ فَيَكُونُ عِلَّةً حُكْمًا فَقَطْ (قَوْلُهُ: وَأَمَّا السَّبَبُ) هُوَ لُغَةً مَا يَتَّصِلُ بِهِ إلَى الشَّيْءِ. وَاصْطِلَاحًا مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ. وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يُذْكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَقْسَامُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا وَيَعْتَبِرُ تَعَدُّدُ الْأَقْسَامِ اخْتِلَافَ الْجِهَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، وَإِنْ اتَّحَدَتْ الْأَقْسَامُ بِحَسَبِ الذَّوَاتِ وَلِذَا ذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ أَقْسَامَ السَّبَبِ أَرْبَعَةٌ سَبَبٌ مَحْضٌ كَدَلَالَةِ السَّارِقِ وَسَبَبٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ كَسَوْقِ الدَّابَّةِ لِمَا يَتْلَفُ بِهَا وَسَبَبٌ مَجَازِيٌّ كَالْيَمِينِ وَسَبَبٌ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ كَالطَّلَاقِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ. وَلَمَّا رَأَى الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الرَّابِعَ هُوَ بِعَيْنِهِ السَّبَبُ الْمَجَازِيُّ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَنَّ عَدَّ الْمَجَازِيِّ مِنْ الْأَقْسَامِ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ قَسَّمَ السَّبَبَ إلَى مَا فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَإِلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَيُسَمَّى الثَّانِي سَبَبًا حَقِيقِيًّا، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ السَّبَبِ مَا هُوَ

لَا الْقِصَاصُ عِنْدَنَا) أَيْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا عَلَى الشَّاهِدِ إذَا شَهِدَ أَنَّ زَيْدًا قَتَلَ عَمْرًا فَاقْتُصَّ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدُ (لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَشَهَادَتُهُ إنَّمَا صَارَتْ قَتْلًا بِحُكْمِ الْقَاضِي وَاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُضَافَةً إلَيْهِ) أَيْ الْعِلَّةُ مُضَافَةً إلَى السَّبَبِ. (نَحْوُ أَنْ تَكُونَ) أَيْ الْعِلَّةُ (فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا فَسَبَبٌ حَقِيقِيٌّ) لَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ (فَلَا يَضْمَنُ، وَلَا يَشْتَرِكُ فِي الْغَنِيمَةِ الدَّالُّ عَلَى مَالِ السَّرِقَةِ وَعَلَى حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ) أَيْ لَا يَضْمَنُ الدَّالُّ عَلَى مَالٍ يَسْرِقُهُ السَّارِقُ، وَلَا يَشْتَرِكُ فِي الْغَنِيمَةِ الدَّالُّ عَلَى حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ تَوَسَّطَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ عِلَّةٌ هِيَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ السَّارِقُ فِي فَصْلِ السَّرِقَةِ وَالْغَازِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحِصْنِ فَتَقْطَعُ هَذِهِ الْعِلَّةُ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إلَى السَّبَبِ (وَلَا أَجْنَبِيٌّ) أَيْ، وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQسَبَبٌ مَجَازِيٌّ أَيْ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسَّبَبِ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةُ الْعِلَلِ. (قَوْلُهُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَمَّا وَجَوَابِهِ، وَتَمْهِيدٌ لِتَقْسِيمِ السَّبَبِ إلَى مَا يُضَافُ إلَيْهِ الْعِلَّةُ وَإِلَى مَا لَا يُضَافُ يَعْنِي أَنَّ السَّبَبَ مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ وَطَرِيقٌ إلَيْهِ لَا مُؤَثِّرٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ مُؤَثِّرَةٍ فِيهِ مَوْضُوعَةٍ لَهُ فَالسَّبَبُ إمَّا أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ الْعِلَّةُ، أَوْ لَا. فَالْأَوَّلُ: السَّبَبُ الَّذِي فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ كَسَوْقِ الدَّابَّةِ، فَإِنْ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّلَفِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ وَالْعِلَّةُ هُوَ وَطْءُ الدَّابَّةِ بِقَوَائِمِهَا ذَلِكَ الشَّخْصَ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى السَّوْقِ وَحَادِثٌ بِهِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْعِلَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْمَحَلِّ لَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى جَزَاءِ الْمُبَاشَرَةِ فَيَجِبُ عَلَى السَّائِقِ الدِّيَةُ لَا الْحِرْمَانُ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَلَا الْكَفَّارَةُ، وَلَا الْقِصَاصُ وَكَالشَّهَادَةِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهَا لَمْ تُوضَعْ لَهُ، وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ طَرِيقٌ إلَيْهِ وَالْعِلَّةُ مَا تَوَسَّطَ مِنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ سَبَبٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْقَاتِلِ مُضَافَةٌ إلَى الشَّهَادَةِ حَادِثَةٌ بِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ فَيَصْلُحُ لِإِيجَابِ ضَمَانِ الْمَحَلِّ دُونَ جَزَاءِ الْمُبَاشَرَةِ فَيَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا مُبَاشَرَةَ مِنْ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ إنَّمَا صَارَتْ قَتْلًا أَيْ مُؤَدِّيَةً بِوَاسِطَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ الْقِصَاصَ عَلَى الْعَفْوِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَى الشُّهُودِ الْقِصَاصُ إذَا قَالُوا: عِنْدَ الرُّجُوعِ تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ وَعُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ الْقَوِيَّ الْمُؤَكَّدَ بِالْقَصْدِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ. وَجَوَابُهُ أَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالسَّبَبِ، وَإِنْ قَوِيَ وَتَأَكَّدَ. وَالثَّانِي السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ بِأَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ هِيَ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى السَّبَبِ كَفِعْلِ السَّارِقِ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَالِ وَبَيْنَ سَرِقَتِهِ، وَلَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ

الْوَلَدِ أَجْنَبِيٌّ (قَالَ لِآخَرَ تَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا حُرَّةٌ فَفَعَلَ وَاسْتَوْلَدَهَا، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ) (بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ، أَوْ الْوَلِيُّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الْمُودَعَ، أَوْ الْمُحْرِمَ إذَا دَلَّا عَلَى الْوَدِيعَةِ وَالصَّيْدِ يَضْمَنَانِ مَعَ أَنَّهُمَا سَبَبَانِ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ الَّذِي الْتَزَمَ وَالْمُحْرِمُ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ إذَا تَقَرَّرَتْ بِإِفْضَائِهَا إلَى الْقَتْلِ) أَيْ إذَا تَقَرَّرَتْ إزَالَةُ الْأَمْنِ وَإِنَّمَا قَالَ هَذِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إنَّ الْمُحْرِمَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ. وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ بِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ إزَالَةُ الْأَمْنِ بِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ إذَا تَقَرَّرَتْ بِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى الْقَتْلِ إذْ قِيلَ: الْإِفْضَاءُ لَمْ يَصِرْ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ، فَلَا يَضْمَنُ، ثُمَّ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ إزَالَةَ الْأَمْنِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ الصَّيْدَ مَحْفُوظٌ بِالْبُعْدِ عَنْ النَّاسِ بِخِلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ) أَيْ إذْ دَلَّ رَجُلٌ سَارِقًا عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ لَا يَضْمَنُ فَإِنَّ كَوْنَهُ مَحْفُوظًا لَيْسَ لِأَجْلِ الْبُعْدِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَدَلَالَتُهُ لَا تَكُونُ إزَالَةَ الْأَمْنِ. (وَصَيْدِ الْحَرَمِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQمُجَرَّدُ كَوْنِ الْعِلَّةِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْقِصَاصِ. وَقَوْلُهُ: فِي بَعْضِ نُسَخِ الشَّرْحِ فَالسَّبَبُ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَهُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا) يَعْنِي لَوْ زَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَكِيلُهَا، أَوْ وَلِيُّهَا عَلَى شَرْطِ أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ، أَوْ الْوَلِيُّ لِلْمُتَزَوِّجِ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِيلَادِ وَطَلَبِ النَّسْلِ فَيَكُونُ الْمُزَوِّجُ صَاحِبَ الْعِلَّةِ وَأَيْضًا الِاسْتِيلَادُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّزْوِيجِ الْمَشْرُوطِ بِالْحُرِّيَّةِ وَصْفًا لَازِمًا لَهُ فَيَصِيرُ وَصْفُ الْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ كَالتَّزْوِيجِ فَيَكُونُ الشَّارِطُ صَاحِبَ عِلَّةٍ. (قَوْلُهُ: إزَالَةُ الْأَمْنِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ) أَيْ إزَالَةُ الْمُحْرِمِ إلَّا مِنْ الْمُلْتَزِمِ بِعَقْدِ الْإِحْرَامِ إذَا تَقَرَّرَتْ حَالَ كَوْنِهِ مُحْرِمًا عِلَّةٌ لِلضَّمَانِ وَمُوجِبَةٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الدَّالُّ مُحْرِمًا حِينَ قَتَلَ الْمَدْلُولُ الصَّيْدَ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ وَحَقِيقَةُ الدَّلَالَةِ الْإِعْلَامُ أَيْ إحْدَاثُ الْعِلْمِ فِي الْغَيْرِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ وَأَنْ لَا يَكْذِبَ الدَّالُّ فِي ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَصَيْدِ الْحَرَمِ) أَيْ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُحْرِمِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ، فَإِنَّ الدَّالَّ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ سَبَبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ صَيْدِ الْحَرَمِ مَحْفُوظًا لَيْسَ بِالْبُعْدِ عَنْ النَّاسِ حَتَّى تَكُونَ الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إزَالَةً لِلْأَمْنِ وَمُوجِبَةً لِلضَّمَانِ بَلْ هُوَ مَحْفُوظٌ بِكَوْنِهِ صَيْدَ الْحَرَمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى آمِنًا لِيَبْقَى مُدَّةَ بَقَاءِ الدُّنْيَا فَتَعَرُّضُ الصَّيْدِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمَوْقُوفَةِ وَلِهَذَا يَكُونُ ضَمَانُهُ ضَمَانَ الْمَحَلِّ حَتَّى لَا يَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْجَانِي بِخِلَافِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِالْإِحْرَامِ، فَلَوْ دَلَّ الْمُحْرِمُ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ كَانَ الضَّمَانُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ لَا بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ. فَإِنْ قُلْت: السِّعَايَةُ إلَى السُّلْطَانِ الظَّالِمِ سَبَبٌ مَحْضٌ، وَقَدْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى السَّاعِي. قُلْت: مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ أَفْتَوْا فِيهَا بِغَيْرِ الْقِيَاسِ اسْتِحْسَانًا لِغَلَبَةِ السِّعَايَةِ. (قَوْلُهُ: فَوَجَأَ بِهِ) هُوَ

أَيْ إذَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُحْرِمِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَحْفُوظًا لَيْسَ لِلْبُعْدِ عَنْ النَّاسِ بَلْ لِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ. (وَمَنْ دَفَعَ إلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيَمْسِكَهُ لِلدَّافِعِ فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ لَا يَضْمَنُ الدَّافِعُ) ؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ السَّبَبِ، وَهُوَ دَفْعُ السِّكِّينِ إلَى الصَّبِيِّ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَهُوَ قَصْدُ الصَّبِيِّ قَتْلَ نَفْسِهِ. (وَإِنْ سَقَطَ عَنْ يَدِهِ السِّكِّينُ فَجَرَحَهُ ضَمِنَ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ هُنَاكَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى السَّبَبِ، وَهُوَ الدَّفْعُ. (وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ السَّبَبِ (مَا هُوَ سَبَبٌ مَجَازًا كَالتَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالنَّذْرِ الْمُعَلَّقَةُ) فَالْمُعَلَّقَةُ صِفَةٌ لِلتَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالنَّذْرِ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ دَخَلْت فَعَبْدُهُ حُرٌّ وَإِنْ دَخَلْت فَلِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا (لِلْجَزَاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مَا هُوَ سَبَبٌ فَالْجَزَاءُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَلُزُومُ الْمَنْذُورِ (لِأَنَّهَا رُبَّمَا لَا تُوَصِّلُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَعْدُومٌ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ) أَيْ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُعَلَّقَةَ رُبَّمَا لَا تُوَصِّلُ إلَى الْجَزَاءِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهَا سَبَبًا مَجَازًا. (وَكَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ لِلْكَفَّارَةِ) أَيْ سَبَبٍ لِلْكَفَّارَةِ مَجَازًا (لِأَنَّهَا) أَيْ الْيَمِينَ (لِلْبِرِّ، فَلَا تُوَصِّلُ إلَى الْكَفَّارَةِ) إذْ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ عِنْدَ الْحِنْثِ، فَلَا يَكُونُ الْيَمِينُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْوَجْءِ، وَهُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ، أَوْ السِّكِّينِ. (قَوْلُهُ: كَالتَّطْلِيقِ) أَيْ كَالصِّيَغِ الدَّالَّةِ عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، أَوْ الْعَتَاقِ، أَوْ النَّذْرِ شَيْءٌ، فَإِنَّهَا قَبْلَ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ أَسْبَابٌ مَجَازِيَّةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ الْجَزَاءِ، وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، أَوْ الْعَتَاقِ، أَوْ لُزُومُ الْمَنْذُورِ بِهِ لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لَا أَسْبَابٌ حَقِيقِيَّةٌ إذْ رُبَّمَا لَا تُفْضِي إلَيْهِ بِأَنْ لَا يَقَعَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: لِلْجَزَاءِ حَالٌ مِنْ التَّطْلِيقِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ أَيْ كَالتَّطْلِيقِ وَنَحْوِهِ حَالَ كَوْنِهَا أَسْبَابًا لِلْجَزَاءِ، وَلَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ مَا هُوَ سَبَبٌ عَلَى مَا زَعَمَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَكَانَ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ مَا هُوَ سَبَبٌ مَجَازًا لِلْجَزَاءِ كَإِطْلَاقِ الْمُعَلَّقِ وَنَحْوِهِ وَالْيَمِينِ لِلْكَفَّارَةِ، وَفَسَادُهُ وَاضِحٌ، ثُمَّ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الصِّيَغِ سَبَبًا مَجَازِيًّا إنَّمَا هِيَ قَبْلَ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَتَصِيرُ تِلْكَ الْإِيقَاعَاتُ عِلَلًا حَقِيقِيَّةً لِتَأْثِيرِهَا فِي وُقُوعِ الْأَجْزِيَةِ مَعَ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا وَالِاتِّصَالِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ كَانَ مَانِعًا لِلْعِلَّةِ عَنْ الِانْعِقَادِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ انْعَقَدَتْ عِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِيقَاعَاتِ الْمُنَجَّزَةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا، فَإِنَّ عِلَّةَ الْكَفَّارَةِ لَا تَصِيرُ هِيَ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِلْبِرِّ وَالْبِرُّ لَا يُفْضِي إلَى الْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا يُفْضِي إلَيْهَا الْحِنْثُ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ وَالْبِرُّ مَانِعٌ عَنْهُ فَكَيْفَ يَصْلُحُ عِلَّةً لِثُبُوتِهِ وَإِنَّمَا عِلَّةُ الْكَفَّارَةِ هِيَ الْحِنْثُ؛ لِأَنَّهُ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي بَحْثِ الشَّرْطِ. فَإِنْ قُلْت: قَدْ اُعْتُبِرَ فِي حَقِيقَةِ السَّبَبِ الْإِفْضَاءُ وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا الْقِسْمَ جُعِلَ مَجَازًا لِعَدَمِ الْإِفْضَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ أَيْضًا مَجَازًا لِوُجُودِ التَّأْثِيرِ. قُلْت: نَعَمْ إلَّا أَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ لَمَّا كَانَ قَيْدًا عَدَمِيًّا وَكَانَ حَقِيقَةُ السَّبَبِ فِي اللُّغَةِ مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ وَمُوَصِّلًا إلَيْهِ خَصُّوا هَذَا الْقِسْمَ الَّذِي

مُوَصِّلَةً إلَى الْكَفَّارَةِ، فَلَا تَكُونُ سَبَبًا لَهَا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا. (ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ) أَيْ فِي صُورَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ بِالشَّرْطِ (يَصِيرُ الْإِيجَابُ السَّابِقُ عِلَّةً حَقِيقَةً بِخِلَافِ الْيَمِينِ لِلْكَفَّارَةِ فَإِنَّ الْحِنْثَ عِلَّتُهَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ أَسْبَابٌ فِي مَعْنَى الْعِلَلِ حَتَّى أَبْطَلَ التَّعْلِيقَ بِالْمِلْكِ) أَيْ إنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ نَكَحْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لِعَبْدٍ إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ يَكُونُ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الْعِلَّةِ. (وَجُوِّزَ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ) لِجَوَازِ التَّعْجِيلِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ كَالزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ إذَا وُجِدَ السَّبَبُ، وَهُوَ النِّصَابُ. (ثُمَّ عِنْدَنَا لِهَذَا الْمَجَازِ شُبْهَةُ الْحَقِيقَةِ) هَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ مَا هُوَ سَبَبٌ مَجَازًا (وَهَذَا يَتَبَيَّنُ فِي أَنَّ التَّنْجِيزَ هَلْ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ وَالْحِلُّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ قَطْعِيَّ الْوُجُودِ لِيَصِحَّ التَّعْلِيقُ شَرَطْنَا وُجُودَهُمَا فِي الْحَالِ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَكَمَا لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْحِلِّ) . صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَنْتَفِي فِيهِ الْإِيصَالُ وَالْإِفْضَاءُ بِاسْمِ الْمَجَازِ وَنَبَّهُوا عَلَى مَجَازِيَّةِ مَا فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ بِأَنْ سَمَّوْا السَّبَبَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ سَبَبًا حَقِيقِيًّا وَأَيْضًا هَذَا الْقِسْمُ مَجَازٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ فَخَصُّوهُ بِاسْمِ الْمَجَازِ وَالْعَلَاقَةُ أَنَّهُ يُؤَوَّلُ إلَى السَّبَبِيَّةِ بِأَنْ يَصِيرَ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَآلِ لَا يَصِيرُ سَبَبًا حَقِيقِيًّا بَلْ عِلَّةً عَلَى مَا سَبَقَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ السَّبَبُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْعَلَاقَةُ هِيَ مُشَابَهَةُ السَّبَبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَهُ نَوْعَ إفْضَاءٍ إلَى الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ عِنْدَنَا لِهَذَا الْمَجَازِ) أَيْ لِلْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ سَبَبًا مَجَازًا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ أَيْ جِهَةَ كَوْنِهِ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مَجَازٌ مَحْضٌ، وَهَذَا الْخِلَافُ يَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةِ إبْطَالِ تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ اسْتِدْلَالَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى عَدَمِ الْإِبْطَالِ أَوَّلًا وَدَلِيلَهُمْ عَلَى الْإِبْطَالِ ثَانِيًا وَجَوَابَهُمْ عَنْ اسْتِدْلَالِ زُفَرَ ثَالِثًا، وَأَمَّا وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ، فَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُجُودُ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ حَالَةَ التَّعْلِيقِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ بِالتَّزَوُّجِ. مِثْلُ: إنْ نَكَحْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ بَلْ إنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِيَظْهَرَ فَائِدَةُ الْيَمِينِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ تَأْكِيدُ الْبِرِّ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ فِي مُقَابَلَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ، أَوْ مُتَحَقِّقَهُ عِنْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ لِيَحْمِلَهُ خَوْفُ نُزُولِهِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِرِّ وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَإِنْ عَلَّقَهُ بِالْمِلْكِ كَمَا فِي إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ كَانَ الْمِلْكُ مُتَحَقِّقَ الْوُجُودِ عِنْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ تَحْقِيقًا، وَإِنْ عَلَّقَهُ

لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَعِنْدَنَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ حَتَّى إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّحْلِيلِ، ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ هُوَ يَقُولُ: شَرْطُ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا عِنْدَ وُجُودِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ زَمَانَ وُجُودِ الشَّرْطِ هُوَ زَمَانُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ، فَلَا افْتِقَارَ لَهُ إلَى الْمِلْكِ حَالَ التَّعْلِيقِ، فَإِذَا عَلَّقَ بِالْمِلْكِ نَحْوَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْمِلْكُ قَطْعِيُّ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ وَإِنْ عَلَّقَ بِغَيْرِ الْمِلْكِ نَحْوَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَشَرْطُ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِغَيْرِهِ كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا فَوُجُودُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ وَفَوَاتُ الْبِرِّ غَيْرُ مَعْلُومِ التَّحَقُّقِ فَاشْتُرِطَ الْمِلْكُ حَالَ التَّعْلِيقِ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ وُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ فَيَظْهَرُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ بِحَسَبِ غَالِبِ الْوُجُودِ فَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ وَيَنْعَقِدُ الْكَلَامُ يَمِينًا وَبَعْدَمَا صَحَّ التَّعْلِيقُ بِنَاءً عَلَى نَصْبِ دَلِيلِ وُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ فَزَوَالُ الْمِلْكِ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَا يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ حُدُوثِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ اتِّفَاقًا فَكَذَا لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْحِلِّ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّلَاثَ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَيْضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي ابْتِدَاءِ التَّعْلِيقِ بَقَاءُ الْحِلِّ كَمَا إذَا قَالَ لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الزَّوْجِ الثَّانِي يَقَعُ الطَّلَاقُ فَلَأَنْ لَا يُشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي بَقَاءِ التَّعْلِيقِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ. وَأَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى أَنَّ التَّنْجِيزَ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْيَمِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ بِاَللَّهِ، أَوْ بِغَيْرِهِ إنَّمَا شُرِعَتْ لِلْبِرِّ أَيْ تَحْقِيقِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ، أَوْ التَّرْكِ وَتَقْوِيَةِ جَانِبِهِ عَلَى جَانِبِ نَقِيضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ أَيْ بِلُزُومِ الْمَحْلُوفِ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ، أَوْ الْعَتَاقِ، أَوْ نَحْوِهِ كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْكَفَّارَةِ تَحْقِيقًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ مِنْ الْحَمْلِ، أَوْ الْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ كَانَ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ أَيْ قَبْلَ فَوَاتِ الْبِرِّ إذْ لِلضَّمَانِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ قَبْلَ فَوَاتِ الْمَضْمُونِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْفَوَاتِ فَيَكُونُ لِلْغَصْبِ شُبْهَةُ إيجَابِ الْقِيمَةِ قَبْلَ الْفَوَاتِ حَتَّى يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْقِيمَةِ وَالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَالْكَفَالَةِ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْأَحْكَامُ قَبْلَ الْغَصْبِ وَلِأَنَّ الْبِرَّ فِي التَّعْلِيقِ إنَّمَا وَجَبَ لِخَوْفِ لُزُومِ الْجَزَاءِ، وَالْوَاجِبُ لِغَيْرِهِ يَكُونُ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَكُونُ لَهُ عَرَضِيَّةُ الْفَوَاتِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْجَزَاءُ حُكْمٌ يَلْزَمُ عِنْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ فَيَلْزَمُ عِنْدَ عَرَضِيَّةِ الْفَوَاتِ لِلْبِرِّ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ لِلْجَزَاءِ يُلْزِمُ عَرَضِيَّةَ الْوُجُودِ لِسَبَبِهِ لِيَكُونَ الْمُسَبَّبُ ثَابِتًا

فَيُسْتَدَلُّ بِالْمِلْكِ حَالَ التَّعْلِيقِ عَلَى الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِالِاسْتِصْحَابِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمِلْكُ حَالَ التَّعَلُّقِ صَحَّ التَّعْلِيقُ، ثُمَّ لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ فَكَمَا لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْحِلِّ أَيْضًا وَالْمُرَادُ بِزَوَالِ الْحِلِّ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] . (قُلْنَا الْيَمِينُ شُرِعَتْ لِلْبِرِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ فَيَكُونُ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْمَحَلِّ) فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْغَرَضُ أَنْ لَا تَدْخُلَ الدَّارَ؛ لِأَنَّهَا إنْ دَخَلَتْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ الْمَخُوفُ أَيْ: الْجَزَاءُ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ، وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ مَانِعًا مِنْ تَفْوِيتِ الْبِرِّ كَالضَّمَانِ يَكُونُ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى قَدْرِ السَّبَبِ، وَهَذَا مَعْنَى شُبْهَةِ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ وَكَمَا لَا بُدَّ لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ مِنْ الْمَحَلِّ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِشُبْهَتِهِ وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ النِّكَاحِ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الشُّبْهَةِ قِيَامُ الدَّلِيلِ مَعَ تَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ لِمَانِعٍ وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ فَيُبْطِلُ التَّعْلِيقُ زَوَالَ الْحِلِّ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْجَزَاءِ كَمَا يُبْطِلُهُ بُطْلَانُ مَحَلِّ الشَّرْطِ بِأَنْ يَجْعَلَ الدَّارَ بُسْتَانًا، وَلَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ لِقِيَامِ الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ بِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ إلَيْهَا. فَإِنْ قُلْت: فَلْيُعْتَبَرْ إمْكَانُ الرُّجُوعِ فِيمَا إذَا فَاتَ الْمَحَلُّ. قُلْت: لَمَّا فَاتَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ تَحَقَّقَ الْبُطْلَانُ وَالْمِلْكُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَحَقَّقَ بِفَوَاتِهِ الْبُطْلَانُ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ مِنْهُ بُدٌّ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ، وَقَدْ أَمْكَنَ عَوْدُهُ حِينَئِذٍ، فَلَا جِهَةَ لِلْبُطْلَانِ. وَفِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْعَرِيَّةِ إنَّمَا لَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاءُ الْمِلْكِ لِبَقَاءِ التَّعْلِيقِ كَمَا شُرِطَ الْمَحَلُّ؛ لِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ الطَّلَاقِ تَثْبُتُ بِمَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ وَهِيَ تَفْتَقِرُ إلَى بَقَاءِ الْمَحَلِّ لَا إلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ فَحَاصِلُ هَذَا الطَّرِيقِ هُوَ أَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ شَرْطٌ لِلْيَمِينِ انْعِقَادًا وَبَقَاءً فَتَبْطُلُ بِفَوَاتِهَا بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ طَلَقَاتِ هَذَا الْمِلْكِ مُتَعَيِّنٌ لِلْجَزَاءِ فَتَبْطُلُ الْيَمِينُ بِفَوَاتِهَا، فَإِنَّمَا هُوَ حَاصِلُ طَرِيقٍ آخَرَ لِلْأَصْحَابِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ إنَّمَا تَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهَا كُلَّهَا بَطَلَ الْجَزَاءُ فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ كَمَا إذَا فَاتَ الشَّرْطُ بِأَنْ جَعَلَ الدَّارَ بُسْتَانًا، أَوْ حَمَّامًا إذْ الْيَمِينُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ بَلْ افْتِقَارُهَا إلَى الْجَزَاءِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهَا بِهِ تُعْرَفُ كَيَمِينِ الطَّلَاقِ وَيَمِينِ الْعَتَاقِ وَنُوقِضَ هَذَا الطَّرِيقُ بِمَا إذَا عَلَّقَ الثَّلَاثَ بِالشَّرْطِ، ثُمَّ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ وَوَقَعَ الشَّرْطُ، فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَوْ تَعَيَّنَ طَلَقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهَا الْبَاقِيَةُ فَقَطْ وَلِذَا صَرَّحَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ بُطْلَانَ التَّعْلِيقِ بِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لَا بِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ تَطْلِيقَاتُ

الْغَصْبِ فَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْبِرِّ مَضْمُونًا (هَذَا فَيُبْطِلُهُ زَوَالُ الْحِلِّ لَا زَوَالُ الْمِلْكِ) أَيْ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ زَوَالُ الْحِلِّ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ لَا زَوَالُ الْمِلْكِ، وَهُوَ أَنْ يَقَعَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ لَهُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى وُجُودِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ مُقْتَصِرًا عَلَى الطَّلَقَاتِ الَّتِي يَمْلِكُهَا بِهَذَا النِّكَاحِ أَمَّا الطَّلْقَاتُ الَّتِي يَمْلِكُهَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَالْمَرْأَةُ أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ الزَّوْجِ فِي تِلْكَ الطَّلَقَاتِ. (فَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِالتَّزَوُّجِ فَإِنَّ الْبِرَّ فِيهِ مَضْمُونٌ بِوُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ) فَإِنَّ الشَّرْطَ فِيهِ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ وَلَيْسَ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ قَبْلَهَا (فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ لِيَكُونَ الْبِرُّ مَضْمُونًا) . الْمُرَادُ ـــــــــــــــــــــــــــــQذَلِكَ الْعَقْدِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَطَ فِي التَّعْلِيقِ بِغَيْرِ الْمِلْكِ شُبْهَةَ الْحَقِيقَةِ فِي السَّبَبِ لِيَلْزَمَ مِنْهُ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ لِلْجَزَاءِ فِي الْحَالِ فَيَلْزَمَ اشْتِرَاطُ الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ فَيَتَحَقَّقُ كَوْنُ الْبِرِّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي التَّعْلِيقِ بِالتَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ مُتَحَقِّقٌ ضَرُورَةَ أَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا هُوَ عَيْنُ تَحَقُّقِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى إثْبَاتِ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُسْتَغْنٍ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ أَيْ فِي هَذَا التَّعْلِيقِ بِمَعْنًى لِعِلَّةٍ وَلَيْسَ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ قَبْلَهَا أَيْ قَبْلَ الْعِلَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ آخَرُ تَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ هَاهُنَا أَعْنِي فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ بِالتَّزَوُّجِ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الطَّلَاقِ إنَّمَا يُسْتَفَادُ بِالنِّكَاحِ وَلَيْسَ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ قَبْلَ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ قَبْلَ عِلَّتِهِ كَالطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ فَكَذَا شُبْهَتُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ بِالْحَقِيقَةِ وَلِأَنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ لَا تَثْبُتُ حَيْثُ لَا تَثْبُتُ حَقِيقَتُهُ كَشُبْهَةِ النِّكَاحِ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا يُبْطِلُ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ تَعْلِيقُ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ الظِّهَارِ هُوَ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ الْوَطْءِ وَذَلِكَ فِي الرَّجُلِ، وَهُوَ قَائِمٌ لَمْ يَتَجَدَّدْ وَلِأَنَّ عَمَلَهُ لَيْسَ إبْطَالَ حِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ حَتَّى يَنْعَدِمَ بِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ بَلْ فِي مَنْعِ الزَّوْجِ عَنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ إلَى وَقْتِ التَّكْفِيرِ وَالْمَنْعُ ثَابِتٌ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَيَثْبُتُ الظِّهَارُ إلَّا أَنَّ ابْتِدَاءَ الظِّهَارِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ. (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْأَحْكَامِ) قَدْ جَرَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ بِأَنْ يُورِدُوا فِي آخِرِ مَبَاحِثِ أَقْسَامِ النَّظْمِ بِالْبَيَانِ أَسْبَابَ الشَّرَائِعِ أَيْ الْأَحْكَامَ الْمَشْرُوعَةَ عَلَى وَجْهِ الْإِجْمَالِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا ضَبَطَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ الْمَبَاحِثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَالشَّرْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْرَدَ هَذَا الْبَحْثَ بَعْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ وَصَدَّرَهُ بِكَلِمَةِ اعْلَمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ بَابٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ فِي فَنِّ الْأُصُولِ يَجِبُ ضَبْطُهُ وَعِلْمُهُ لَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْأَسْبَابِ أَصْلًا وَالْأَحْكَامُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى صَرِيحًا، وَدَلَالَةً بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَالْعِلْمُ لَنَا إنَّمَا حَصَلَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا

بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ لِيَكُونَ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ لِيَكُونَ الْبِرُّ مَضْمُونًا. (وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْأَحْكَامِ سَبَبًا ظَاهِرًا يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْأَمْرِ فَسَبَبُ وُجُودِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى حُدُوثُ الْعَالَمِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّبَبُ فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ مَوْجُودًا دَائِمًا يَصِحُّ إيمَانُ الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ وَلِلصَّلَاةِ الْوَقْتُ عَلَى مَا مَرَّ وَلِلزَّكَاةِ مِلْكُ الْمَالِ) . اعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبَبِيَّةِ النِّصَابِ لِلزَّكَاةِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ تَكَرُّرَ الْوُجُوبِ بِتَكَرُّرِ وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ ذَلِكَ الْوَصْفِ وَهُنَا الْوُجُوبُ يَتَكَرَّرُ بِالْحَوْلِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَوْلُ سَبَبًا لَا النِّصَابُ فَلِدَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ: (إلَّا أَنَّ الْغِنَى لَا يَكْمُلُ إلَّا بِمَالٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQمُضَافَةٌ إلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ شَارِعُ الشَّرَائِعِ إجْمَاعًا، فَلَوْ أُضِيفَتْ إلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ لَزِمَ تَوَارُدُ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْمَذْكُورَاتُ عِلَلًا وَأَسْبَابًا لَمَا انْفَكَّتْ الْأَحْكَامُ عَنْهَا، وَلَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ خَاصَّةً إذْ الْمَقْصُودُ فِيهَا الْفِعْلُ فَقَطْ وَوُجُوبُهُ بِالْخِطَابِ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ، فَإِنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ وُجُوبُ أَدَاءِ الْأَمْوَالِ وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلْعُقُوبَاتِ إلَى الْأَسْبَابِ وَنَفْسُ الْوُجُوبِ إلَى الْخِطَابِ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ شَارِعَ الشَّرَائِعِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّا نُضِيفُ ذَلِكَ إلَى مَا هُوَ سَبَبٌ فِي الظَّاهِرِ بِجَعْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَحْكَامَ مُتَرَتِّبَةً عَلَيْهَا تَيْسِيرًا وَتَسْهِيلًا عَلَى الْعِبَادِ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِمَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ عَلَى أَنَّهَا أَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ لَا مُؤَثِّرَاتٌ وَبَعْضُ ذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ وَالزِّنَا لِلْحَدِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: سَبَبًا ظَاهِرًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْأَمْرِ. (قَوْلُهُ: فَسَبَبُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى) أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ بِوُجُودِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّقْلُ وَشَهِدَ بِهِ الْعَقْلُ هُوَ حُدُوثُ الْعَالَمِ أَيْ كَوْنُ جَمِيعِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَالَمًا؛ لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِهِ يُعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ نُسِبَ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ وَقَطْعًا لِحُجَجِ الْمُعَانِدِينَ وَإِلْزَامًا لَهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُمْ تَشَبُّثٌ بِعَدَمِ ظُهُورِ السَّبَبِ. وَمَعْنَى سَبَبِيَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ أَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْعَبْدِ لَا لِوُجُودِ الصَّانِعِ، أَوْ وَحْدَانِيِّتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَزَلِيٌّ وَذَلِكَ أَنَّ الْحَادِثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مُحْدِثًا صَانِعًا قَدِيمًا غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ وَاجِبًا لِذَاتِهِ قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، ثُمَّ وُجُوبُ الْوُجُودِ يُنْبِئُ عَنْ جَمِيعِ الْكَمَالَاتِ وَيَنْفِي جَمِيعَ النُّقْصَانَاتِ لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْحُدُوثُ الزَّمَانِيُّ عَلَى

نَامٍ وَالنَّمَاءُ بِالزَّمَانِ فَأُقِيمَ الْحَوْلُ مَقَامَ النَّمَاءِ فَيَتَجَدَّدُ الْمَالُ تَقْدِيرًا بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ بِتَكَرُّرِ الْمَالِ تَقْدِيرًا. وَلِلصَّوْمِ أَيَّامُ شَهْرِ رَمَضَانَ كُلُّ يَوْمٍ لِصَوْمِهِ وَلِصَدَقَةِ الْفِطْرِ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْفِطْرُ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» وَعَنْ " إمَّا لِانْتِزَاعِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ، أَوْ لَأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ فَيُؤَدِّيَ عَنْهُ كَمَا فِي الْعَاقِلَةِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْكَافِرِ فَيَثْبُتُ الْأَوَّلُ وَأَيْضًا يَتَضَاعَفُ الْوَاجِبُ بِتَضَاعُفِ الرَّأْسِ وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ تُعَارِضُهَا الْإِضَافَةُ إلَى الرَّأْسِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ أَيْضًا بِخِلَافِ تَضَاعُفِ الْوُجُوبِ) . هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِضَافَةَ آيَةُ السَّبَبِيَّةِ وَالصَّدَقَةُ تُضَافُ إلَى الْفِطْرِ فَيَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْفِطْرِ فَأَجَابَ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُضَافُ إلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQمَا فَسَّرْتُمْ لَمَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ بِالزَّمَانِ وَحُدُوثِهِ بِالذَّاتِ بِمَعْنَى الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ وَالِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ قَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّا نَقُولُ مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ وَأَثَرُ الْمُخْتَارِ لَا يَكُونُ إلَّا حَادِثًا وَهُمْ يَنْفُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ السَّبَبَ بِالنَّظَرِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ هُوَ حُدُوثُ الْعَالَمِ فَقَطْ بَلْ مَرَاتِبُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] الْآيَةَ إلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ هُوَ أَشَدُّ الْمَرَاتِبِ وُضُوحًا وَأَكْثَرُهَا وُقُوعًا وَأَثْبَتُهَا دَوَامًا إذْ كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ نَفْسَهُ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ فَكَانَ مُلَازِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَلِذَا صَحَّ إيمَانُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لِتَحَقُّقِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْآفَاقُ وَالْأَنْفُسُ وَوُجُودُ رُكْنِهِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِفْرَادُ الصَّادِرُ عَنْ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ إذْ الْكَلَامُ فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ، فَلَوْ امْتَنَعَ صِحَّتُهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا بِحُجَجٍ شَرْعِيَّةٍ وَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ عَدَمَ الْمَشْرُوعِيَّةِ أَصْلًا نَعَمْ هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِإِيمَانٍ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْخِطَابِ فَسَقَطَ عَنْهُ الْأَدَاءُ الَّذِي يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَمَا إذَا أَرَادَ الْكَافِرُ أَنْ يُؤْمِنَ فَأُكْرِهَ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ قَالَ أَبُو الْيُسْرِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَقْلِ الْكَامِلِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَعَلَى الْخِطَابِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ فِي شَاهِقِ الْجَبَلِ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَمَاتَ، وَلَمْ يُسْلِمْ كَانَ مَعْذُورًا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ إذْ وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِالْخِطَابِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَدَاءِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْخِطَابُ إذَا كَانَ فِي حُكْمٍ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالرَّفْعَ وَالْإِيمَانُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا يُبْتَنَى صِحَّةُ الْأَدَاءِ عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمُؤَدِّي كَمَا فِي جُمُعَةِ الْمُسَافِرِ. (قَوْلُهُ: لِلصَّلَاةِ) أَيْ سَبَبُ الْوُجُوبِ لِلصَّلَاةِ هُوَ الْوَقْتُ عَلَى مَا مَرَّ تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْمَعْقُودِ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَأْمُورَ

الرَّأْسِ أَيْضًا، فَإِذَا تَعَارَضَا تَسَاقَطَا. وَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ عَلَى سَبَبِيَّةِ الرَّأْسِ بِالتَّضَاعُفِ فَهَذَا الدَّلِيلُ أَقْوَى مِنْ الْإِضَافَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يُضَافُ إلَى غَيْرِ السَّبَبِ مَجَازًا، وَهَذَا الْمَجَازُ لَا يَجْرِي فِي التَّضَاعُفِ (وَأَيْضًا وَصْفُ الْمُؤْنَةِ) أَيْ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» (يُرَجِّحُ سَبَبِيَّةَ الرَّأْسِ. وَلِلْحَجِّ الْبَيْتُ، وَأَمَّا الْوَقْتُ وَالِاسْتِطَاعَةُ فَشَرْطٌ. وَلِلْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِحَقِيقَةِ الْخَارِجِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَبِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ، وَهُوَ تَبَعُ الْأَرْضِ) . قَوْلُهُ: " وَهُوَ تَبَعُ " حَالٌ مِنْ الْخَارِجِ. (عِبَادَةٌ) أَيْ الْعُشْرُ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ فَإِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ. (وَكَذَا الْخَرَاجُ) أَيْ سَبَبِيَّةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ. (إلَّا أَنَّ النَّمَاءَ يُعْتَبَرُ فِيهِ تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ فَصَارَ مُؤْنَةً بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ) ، وَهُوَ الْأَرْضُ (عُقُوبَةً بِاعْتِبَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِهِ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ. (قَوْلُهُ: وَلِلزَّكَاةِ) أَيْ سَبَبُ الْوُجُوبِ لِلزَّكَاةِ مِلْكُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ نِصَابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ لِإِضَافَتِهَا إلَيْهِ. مِثْلُ قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «هَاتُوا رُبُعَ عُشْرِ أَمْوَالِكُمْ» وَلِتَضَاعُفِ الْوُجُوبِ بِتَضَاعُفِ النِّصَابِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَاعْتَبَرَ الْغَنِيَّ؛ لِأَنَّهُ «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِي الْغِنَى مُخْتَلِفَةٌ فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ بِالنِّصَابِ إلَّا أَنَّ تَكَامُلَ الْغِنَى يَكُونُ بِالنَّمَاءِ لِيُصْرَفَ إلَى الْحَاجَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ فَيَبْقَى أَصْلُ الْمَالِ فَيَحْصُلُ الْغِنَى وَيَتَيَسَّرُ الْأَدَاءُ فَصَارَ النَّمَاءُ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ تَحْقِيقًا لِلْغِنَى وَالْيُسْرِ إلَّا أَنَّ النَّمَاءَ أَمْرٌ بَاطِنٌ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ، وَهُوَ الْحَوْلُ الْمُسْتَجْمِعُ لِلْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النَّمَاءِ بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَبِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ بِتَفَاوُتِ الرَّغَبَاتِ فِي كُلِّ فَصْلٍ إلَى مَا يُنَاسِبُهُ فَصَارَ الْحَوْلُ شَرْطًا، وَتَجَدُّدُهُ تَجَدُّدٌ لِلنَّمَاءِ وَتَجَدُّدُ النَّمَاءِ تَجَدُّدٌ لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ بِوَصْفِ النَّمَاءِ وَالْمَالُ بِهَذَا النَّمَاءِ غَيْرُهُ بِذَلِكَ (7) النَّمَاءِ فَيَكُونُ تَكَرُّرُ الْوُجُوبِ بِتَكَرُّرِ الْحَوْلِ وَتَكَرُّرُ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ لَا بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ. (قَوْلُهُ: وَلِلصَّوْمِ) اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَان هُوَ الشَّهْرُ؛ لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ السَّرَخْسِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ذَهَبَ إلَى أَنَّ السَّبَبَ هُوَ مُطْلَقُ شُهُودِ الشَّهْرِ أَعْنِي الْأَيَّامَ بِلَيَالِيِهَا؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ وَسَبَبِيَّتُهُ بِاعْتِبَارِ إظْهَارِ شَرَفِ الْوَقْتِ وَذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي جَمِيعًا وَلِهَذَا لَزِمَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ كَانَ أَهْلًا فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ جُنَّ وَأَفَاقَ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ وَلِهَذَا صَحَّ نِيَّةُ الْأَدَاءِ بَعْدَ تَحَقُّقِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَصِحَّ قَبْلَهُ وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِ السَّبَبِ جَوَازُ الْأَدَاءِ فِيهِ بَلْ فِي وَقْتِ الْوَاجِبِ وَوَقْتُ الصَّوْمِ هُوَ النَّهَارُ لَا غَيْرُ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ بِمَعْنَى أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْيَوْمِ سَبَبٌ لِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ صَوْمَ كُلِّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ مُخْتَصٌّ

الْوَصْفِ) ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ عِمَارَةُ الدُّنْيَا وَإِعْرَاضٌ عَنْ الْجِهَادِ فَصَارَ سَبَبًا لِلْمَذَلَّةِ. (وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعَا عِنْدَنَا) أَيْ لِأَجْلِ ثُبُوتِ وَصْفِ الْعِبَادَةِ فِي الْعُشْرِ وَثُبُوتِ وَصْفِ الْعُقُوبَةِ فِي الْخَرَاجِ، لَمْ يَجْتَمِعْ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَلِلطَّهَارَةِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ وَالْحَدَثُ شَرْطٌ وَلِلْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ مَا نُسِبَتْ إلَيْهِ مِنْ سَرِقَةٍ وَقَتْلٍ وَلِلْكَفَّارَاتِ مَا نُسِبَتْ إلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ دَائِرٍ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ (وَلِشَرْعِيَّةِ الْمُعَامَلَاتِ الْبَقَاءُ الْمُقَدَّرُ) أَيْ لِلْعَالَمِ (وَلِلِاخْتِصَاصَاتِ الشَّرْعِيَّةِ التَّصَرُّفَاتُ الْمَشْرُوعَةُ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا) . (وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إنْ كَانَ شَيْئًا لَا يُدْرِكُ الْعَقْلُ تَأْثِيرَهُ، وَلَا يَكُونُ بِصُنْعِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِشَرَائِطِ وُجُودِهِ مُنْفَرِدٌ بِالِانْتِقَاضِ بِطَرَيَانِ نَوَاقِضِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَمَّا جَوَازُ النِّيَّةِ بِاللَّيْلِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ، فَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْأَمْرِ. (قَوْلُهُ: " وَعَنْ " إمَّا لِانْتِزَاعِ الْحُكْمِ) يَعْنِي أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ تَدُلُّ عَلَى انْتِزَاعِ الشَّيْءِ عَنْ الشَّيْءِ وَانْفِصَالِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا لِلْبُعْدِ وَالْمُجَاوَزَةِ، فَإِذَا وَقَعَتْ صِلَةً لِلْأَدَاءِ فَهِيَ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَارِ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِانْتِزَاعِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ كَمَا يُقَالُ: أَدَّى الزَّكَاةَ عَنْ مَالِهِ وَالْخَرَاجَ عَنْ أَرْضِهِ، أَوْ تَكُونُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى مَحَلٍّ قَدْ أَدَّاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ كَأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ كَمَا يُقَالُ: أَدَّى الْعَاقِلَةُ الدِّيَةَ عَنْ الْقَاتِلِ وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَنْ الْمَعْنَى الثَّانِي بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَالْفَقِيرِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي مُؤْنَةِ الْمُكَلَّفِ ضَرُورَةَ دُخُولِهِمْ فِيمَنْ تَمُونُونَ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، فَلَا يُكَلَّفُ بِوُجُوبٍ مَالِيٍّ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ، وَالْفَقِيرُ مِمَّنْ يَجِبُ لَهُ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَيُصْرَفُ إلَيْهِ، فَلَا يُصْرَفُ عَنْهُ، إذْ لَا خَرَاجَ عَلَى الْخَرَابِ وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ مَا يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْسَانٌ مُخَاطَبٌ، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَلَيْهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَوْلَى يَنُوبُ عَنْهُ وَلَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْبَهِيمَةِ فِيمَا مُلِكَ عَلَيْهِ فَعَلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى اعْتِبَارِ عَارِضِ الْمَمْلُوكِيَّةِ الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى فَوَقَعَتْ كَلِمَةُ " عَنْ " إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الصَّبِيِّ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَخَارِجٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ تَضَاعُفِ الْوُجُوبِ) ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ حَقِّيٌّ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ كَذَا قِيلَ: وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ بِالِاسْتِعَارَةِ أَنَّهُ كَمَا جَازَ الْإِضَافَةُ إلَى غَيْرِ السَّبَبِ مَجَازًا فَلْيَجُزْ تَضَاعُفُ الْوُجُوبِ بِتَضَاعُفِ غَيْرِ السَّبَبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُشْبِهُ السَّبَبَ فِي احْتِيَاجِ الْحُكْمِ إلَيْهِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى غَيْرِ السَّبَبِ وَارِدٌ فِي الشَّرْعِ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَتَضَاعُفُ الْوُجُوبِ بِتَضَاعُفِ غَيْرِ السَّبَبِ لَيْسَ بِوَارِدٍ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَضَاعُفًا لِلسَّبَبِ كَالْحَوْلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَأَمَّا تَكَرُّرُ الْوَاجِبِ

الْمُكَلَّفِ كَالْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ يُخَصُّ بِاسْمِ السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ بِصُنْعِهِ فَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ مِنْ وَضْعِهِ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ، فَهُوَ عِلَّةٌ وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ أَيْضًا مَجَازًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الْغَرَضُ) كَالشِّرَاءِ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ تَأْثِيرَ لَفْظِ اشْتَرَيْت فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَهُوَ بِصُنْعِ الْمُكَلَّفِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ مِنْ الشِّرَاءِ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بَلْ مِلْكَ الرَّقَبَةِ (فَهُوَ سَبَبٌ وَإِنْ أَدْرَكَ الْعَقْلُ تَأْثِيرَهُ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْقِيَاسِ يُخَصُّ بِاسْمِ الْعِلَّةِ) . (وَأَمَّا الشَّرْطُ، فَهُوَ إمَّا شَرْطٌ مَحْضٌ، وَهُوَ حَقِيقِيٌّ) كَالشَّهَادَةِ لِلنِّكَاحِ وَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ أَوْ جَعْلِيٌّ، وَهُوَ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ، أَوْ دَلَالَتِهَا. نَحْوُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَثَرَ التَّعْلِيقِ عِنْدَنَا مَنْعُ الْعِلِّيَّةِ، وَعِنْدَهُ مَنْعُ الْحُكْمِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ فَتَكَرُّرٌ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الرَّأْسُ بِصِفَةِ الْمُؤْنَةِ وَالْمُؤْنَةُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا بِتَكَرُّرِ الْحَاجَةِ، وَالشَّرْعُ جَعَلَ مِثْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَقْتَ الْحَاجَةِ فَتَجَدُّدُهُ مُتَجَدِّدٌ لِلْحَاجَةِ. (قَوْلُهُ: فَهَذَا الدَّلِيلُ أَقْوَى) إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ أَنَّ دَلِيلَ سَبَبِيَّةِ الْفِطْرِ هُوَ الْإِضَافَةُ فَقَطْ وَدَلِيلَ سَبَبِيَّةِ الرَّأْسِ هُوَ الْإِضَافَةُ وَغَيْرُهَا فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ بِالْقُوَّةِ. (قَوْلُهُ: وَأَيْضًا وَصْفُ الْمُؤْنَةِ يُرَجِّحُ سَبَبِيَّةَ الرَّأْسِ) لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِوَصْفِ الْمُؤْنَةِ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ تَجِبُ وُجُوبَ الْمُؤَنِ وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْمُؤَنِ رَأْسٌ يَلِي عَلَيْهِ كَمَا فِي الْعَبِيدِ وَالْبَهَائِمِ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ وَالْوِلَايَةِ. (قَوْلُهُ: وَلِلْحَجِّ) أَيْ سَبَبُ الْوُجُوبِ لِلْحَجِّ هُوَ الْبَيْتُ بِدَلِيلِ الْإِضَافَةِ لَا الْوَقْتُ أَوْ الِاسْتِطَاعَةُ إذْ لَا إضَافَةَ إلَيْهِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ مَعَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ بِدُونِ الِاسْتِطَاعَةِ كَمَا فِي الْفَقِيرِ بَلْ الْوَقْتُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ وَالِاسْتِطَاعَةُ لِوُجُوبِهِ إذْ لَا جَوَازَ بِدُونِ الْوَقْتِ، وَلَا وُجُوبَ بِدُونِ اسْتِطَاعَةٍ. (قَوْلُهُ: وَلِلْعُشْرِ) يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ كُلٍّ مِنْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا أَنَّهَا سَبَبٌ لِلْعُشْرِ بِالنَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ وَلِلْخَرَاجِ بِالنَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالِانْتِفَاعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُشْرَ مُقَدَّرٌ بِجِنْسِ الْخَارِجِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَقِيقَتِهِ وَالْخَرَاجُ مُقَدَّرٌ بِالدَّرَاهِمِ فَيَكْفِي النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ فَقَوْلُهُ: بِحَقِيقَةِ الْخَارِجِ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّامِيَةِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ مُؤْنَةٌ لِلْأَرْضِ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى الْحِينِ الْمَوْعُودِ وَذَلِكَ بِالْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَتَجِبُ عِمَارَتُهَا وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا كَالْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ فَيَلْزَمُ الْخَرَاجُ لِلْمُقَاتِلَةِ الذَّابِّينَ عَنْ الدَّارِ الْحَامِينَ لَهَا عَنْ الْأَعْدَاءِ وَالْعُشْرُ لِلْمُحْتَاجِينَ وَالضُّعَفَاءِ الَّذِينَ بِهِمْ يُسْتَنْزَلُ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَيُسْتَمْطَرُ فِي السَّنَةِ الشَّهْبَاءِ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ نَفَقَةً عَلَى الْأَرْضِ تَقْدِيرًا، ثُمَّ بِاعْتِبَارِ النَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ الْعُشْرُ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ النَّمَاءِ أَعْنِي الْخَارِجَ مِنْ الْأَرْضِ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ

وَإِمَّا شَرْطٌ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ شَرْطٌ لَا يُعَارِضُهُ عِلَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ كَمَا إذَا رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ ضَمِنُوا وَإِنْ رَجَعُوا مَعَ شُهُودِ الْيَمِينِ يَضْمَنُ الثَّانِي فَقَطْ كَمَا إذَا اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ (كَشُهُودِ التَّخْيِيرِ وَالِاخْتِيَارِ) كَمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQبِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ النَّامِي وَبِاعْتِبَارِ النَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ الْخَرَاجُ عُقُوبَةٌ لِمَا فِي الِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَةِ مِنْ الْإِعْرَاضِ عَنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْمَبْغُوضِ الْمَذْمُومِ بِلِسَانِ الشَّرْعِ وَالدُّنُوِّ مِنْ رَأْسِ الْخَطِيئَاتِ، أَوْ هَذَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ وَضَرْبِ مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالنَّمَاءَ وَصْفٌ وَتَبَعٌ فَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ مِنْهُمَا مُؤْنَةً وَبِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ الْعُشْرُ عِبَادَةٌ وَالْخَرَاجُ عُقُوبَةٌ فَيَتَنَافَيَانِ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي سَبَبٍ وَاحِدٍ هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ الْعُشْرُ مِنْ الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْخَرَاجُ مِنْ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الْخَرَاجِ عِنْدَهُ الْأَرْضُ وَسَبَبَ الْعُشْرِ الْخَارِجُ مِنْ الْأَرْضِ. (قَوْلُهُ: وَلِلطَّهَارَةِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ) لِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] أَيْ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَمِثْلُ هَذَا مُشْعِرٌ بِالسَّبَبِيَّةِ، وَأَمَّا إضَافَتُهَا إلَى الصَّلَاةِ وَثُبُوتُهَا بِثُبُوتِهَا وَسُقُوطُهَا بِسُقُوطِهَا، فَإِنَّمَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى سَبَبِيَّةِ الصَّلَاةِ دُونَ إرَادَتِهَا وَالْحَدَثُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الطَّهَارَةِ أَنْ يَكُونَ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ بِصِفَةِ الطَّهَارَةِ، فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إلَّا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِهَا وَذَلِكَ بِالْحَدَثِ فَيَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْحَدَثِ فَيَكُونُ شَرْطًا وَلِهَذَا لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ كَمَا لَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَاسْتَدَامَ إلَى الْوَقْتِ جَازَتْ الصَّلَاةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّرْطِ هُوَ الْوُجُودُ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ وَلَيْسَ الْحَدَثُ بِسَبَبٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الشَّيْءِ مَا يُفْضِي إلَيْهِ وَيُلَائِمُهُ وَالْحَدَثُ يُزِيلُ الطَّهَارَةَ وَيُنَافِيهَا. وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ سَبَبًا لِنَفْسِ الطَّهَارَةِ بَلْ لِوُجُوبِهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ بَلْ يُفْضِي إلَيْهِ، لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْحَدَثُ شَرْطًا لِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَهِيَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ لَكَانَ الْحَدَثُ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّرْطِ شَرْطٌ وَأَيْضًا الصَّلَاةُ مَشْرُوطَةٌ بِالطَّهَارَةِ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا، فَلَوْ كَانَتْ سَبَبًا لِلطَّهَارَةِ لَتَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا، وَهَذَا مُحَالٌ؛ لِأَنَّا نُجِيبُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ شَرْطَ الصَّلَاةِ وُجُودُ الطَّهَارَةِ لَا وُجُوبُهَا وَالْمَشْرُوطُ بِالْحَدَثِ وُجُوبُهَا لَا وُجُودُهَا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هُوَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ وَمَشْرُوعِيَّتهَا وَالشَّرْطُ وُجُودُ الطَّهَارَةِ وَالسَّبَبُ هُوَ إرَادَةُ الصَّلَاةِ لَا نَفْسُهَا وَالْمُسَبَّبُ هُوَ وُجُوبُ الطَّهَارَةِ لَا وُجُودُهَا فَالْمُتَقَدِّمُ غَيْرُ الْمُتَأَخِّرِ. (قَوْلُهُ: وَلِلْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ) يُرِيدُ أَنَّ السَّبَبَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْحُكْمِ فَأَسْبَابُ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ تَكُونُ مَحْظُورَاتٍ مَحْضَةً كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَأَسْبَابُ الْكَفَّارَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ تَكُونُ

أَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ وَآخَرَانِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَضَى الْقَاضِي بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ يَضْمَنُ شُهُودُ الِاخْتِيَارِ فَشُهُودُ التَّخْيِيرِ سَبَبٌ وَشُهُودُ الِاخْتِيَارِ عِلَّةٌ. (فَإِنْ قَالَ إنْ كَانَ قَيْدُ عَبْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ، فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ وَإِنْ حَلَّهُ آخَرُ، فَهُوَ حُرٌّ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ، ثُمَّ حَلَّهُ، فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةٌ يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQأُمُورًا دَائِرَةً بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ. مَثَلًا الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ مُبَاحٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ مَحْظُورٌ، وَكَذَا الظِّهَارُ وَالْقَتْلُ الْخَطَأُ وَصَيْدُ الْحَرَمِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهَا كُلِّهَا جِهَةً مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ مِثْلِ الشُّرْبِ وَالزِّنَا، فَإِنَّهُ يُلَاقِي حَرَامًا مَحْضًا. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ سَبَبَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ هُوَ الْيَمِينُ، وَأَنَّهَا دَائِرَةٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْحِنْثُ وَالْيَمِينُ سَبَبٌ مَجَازًا قُلْنَا: بَنَى الْكَلَامَ هَاهُنَا عَلَى السَّبَبِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ وَأَشْهَرُ حَتَّى ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشْفِ أَنَّ سَبَبَ الْكَفَّارَةِ هِيَ الْيَمِينُ بِلَا خِلَافٍ لِإِضَافَتِهَا إلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا سَبَبٌ بِصِفَةِ كَوْنِهَا مَعْقُودَةً؛ لِأَنَّهَا الدَّائِرَةُ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لَا الْغَمُوسُ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَوَاتُ الْبِرِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ هُوَ الْبِرُّ احْتِرَازًا عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ لِيَصِيرَ كَأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ فَيُشْتَرَطُ فَوَاتُ الْبِرِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالْأَصْلِ، وَالْيَمِينُ وَإِنْ انْعَدَمَتْ بَعْدَ الْحِنْثِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ أَعْنِي الْبِرَّ لَكِنَّهَا قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْخَلَفِ وَالسَّبَبُ فِي الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ وَاحِدٌ. (قَوْلُهُ: وَلِشَرْعِيَّةِ الْمُعَامَلَاتِ) يَعْنِي أَنَّ إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى بَقَاءَ الْعَالَمِ إلَى حِينٍ عَلِمَهُ وَزَمَانٍ قَدَّرَهُ سَبَبٌ لِشَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ لِهَذَا النِّظَامِ الْمَنُوطِ بِنَوْعِ الْإِنْسَانِ بَقَاءً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حِفْظِ الْأَشْخَاصِ إذْ بِهَا بَقَاءُ النَّوْعِ وَالْإِنْسَانُ لِفَرْطِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ يَفْتَقِرُ فِي الْبَقَاءِ إلَى أُمُورٍ صِنَاعِيَّةٍ فِي الْغِذَاءِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى مُعَاوَنَةٍ وَمُشَارَكَةٍ بَيْنَ أَفْرَادِ النَّوْعِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ لِلتَّوَالُدِ وَالتَّنَاسُلِ إلَى ازْدِوَاجٍ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَقِيَامٍ بِالْمَصَالِحِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى أُصُولٍ كُلِّيَّةٍ مُقَدَّرَةٍ مِنْ عِنْدِ الشَّارِعِ بِهَا يُحْفَظُ الْعَدْلُ فِي النِّظَامِ بَيْنَهُمْ فِي بَابِ الْمُنَاكَحَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ النَّوْعِ وَالْمُبَايَعَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِبَقَاءِ الشَّخْصِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ يَشْتَهِي مَا يُلَائِمُهُ وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يُزَاحِمُهُ فَيَقَعُ الْجَوْرُ وَيَخْتَلُّ أَمْرُ النِّظَامِ فَلِهَذَا السَّبَبِ شُرِعَتْ الْمُعَامَلَاتُ. (قَوْلُهُ: وَلِلِاخْتِصَاصَاتِ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا هُوَ أَثَرٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ وَالْحِلِّ فِي النِّكَاحِ وَالْحُرْمَةِ فِي الطَّلَاقِ، وَهَذِهِ تُسَمَّى الِاخْتِصَاصَاتِ الشَّرْعِيَّةَ فَسَبَبُهَا الْأَفْعَالُ الَّتِي هِيَ آثَارُهَا وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ الْمَشْرُوعَةُ كَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَثَلًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِتْقِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُ فَالْعِلَّةُ لَا تَصْلُحُ لِضَمَانِ الْعِتْقِ) ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَإِنَّمَا لَا تَصْلُحُ لِلضَّمَانِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَإِنَّهُ قَضَى بِنَاءً عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ. (بِخِلَافِ رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ) أَيْ شُهُودِ الشَّرْطِ وَشُهُودِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْعِلَّةَ تَصْلُحُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ فَهِيَ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَهِيَ الْعِبَادَاتُ، أَوْ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَهِيَ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِبَقَاءِ الشَّخْصِ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ، أَوْ بِبَقَاءِ النَّوْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَنْزِلِ وَهِيَ الْمُنَاكَحَاتُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَدَنِيَّةِ وَهِيَ الْعُقُوبَاتُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالتَّرْتِيبِ جَعَلَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْفِقْهَ أَرْبَعَةَ أَرْكَانٍ فَأَسْبَابُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُنَاسِبُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ. (قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ) أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُتَعَارَفُ فِي الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ مَا يَكُونُ لَهُ نَوْعُ تَأْثِيرٍ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَا جُعِلَ عِلَّةً وَسَبَبًا لِلْأَحْكَامِ وَكَانَ الْمُصْطَلَحُ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ لِلْعِلَّةِ تَأْثِيرًا دُونَ السَّبَبِ وَكَانَ بَعْضُ مَا سَمَّاهُ هَاهُنَا سَبَبًا قَدْ جَعَلَهُ فِيمَا سَبَقَ عِلَّةً وَنَفَى كَوْنَهُ سَبَبًا أَشَارَ هَاهُنَا إلَى اخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ إزَالَةً لِلِاسْتِبْعَادِ وَنَفْيًا لِوَهْمِ الِاعْتِرَاضِ، وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ إطْلَاقَاتِ الْقَوْمِ، وَلَا مُشَاحَّةَ فِيهَا (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الشَّرْطُ، فَهُوَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرْبَعَةٌ: شَرْطٌ مَحْضٌ وَشَرْطٌ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَشَرْطٌ فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَشَرْطٌ مَجَازًا أَيْ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا. وَوَجْهُ الضَّبْطِ أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَيْهِ، فَهُوَ الرَّابِعُ كَأَوَّلِ الشَّرْطَيْنِ اللَّذَيْنِ عُلِّقَ بِهِمَا الْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ فَإِنْ تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ وَكَانَ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِالْحُكْمِ، فَهُوَ الثَّالِثُ كَحَلِّ قَيْدِ الْعَبْدِ، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ تُعَارِضْهُ عِلَّةٌ تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، فَهُوَ الثَّانِي كَشَقِّ الزِّقِّ، وَإِنْ عَارَضَتْهُ، فَهُوَ الْأَوَّلُ كَدُخُولِ الدَّارِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ. وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قِسْمًا خَامِسًا سَمَّاهُ شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعَلَامَةِ، وَهُوَ الْعَلَامَةُ نَفْسُهَا لِمَا أَنَّ الْعَلَامَةَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرْطِ وَلِذَا سَمَّى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ الْإِحْصَانَ شَرْطًا مَحْضًا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَلَامَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الشَّرْطَ إنْ لَمْ تُعَارِضْهُ عِلَّةٌ فَهِيَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَإِنْ عَارَضَتْهُ، فَإِنْ كَانَ سَابِقًا كَانَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا، أَوْ مُتَرَاخِيًا، فَهُوَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ. وَفِيهِ نَظَرٌ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الشَّرْطُ الْمَحْضُ إمَّا حَقِيقِيٌّ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي الْوَاقِعِ، أَوْ بِحُكْمِ الشَّارِعِ حَتَّى لَا يَصِحَّ الْحُكْمُ بِدُونِهِ أَصْلًا كَالشُّهُودِ لِلنِّكَاحِ، أَوْ يَصِحَّ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِهِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَإِمَّا جَعْلِيٌّ يَعْتَبِرُهُ الْمُكَلَّفُ وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ تَصَرُّفَاتِهِ إمَّا بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ. مِثْلُ: إنْ تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ بِدَلَالَةِ كَلِمَةِ الشَّرْطِ بِأَنْ يَدُلَّ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيقِ دَلَالَةَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ. مِثْلُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَرَتُّبَ الْحُكْمِ

لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْعِتْقَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي. (وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنَانِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ فَيَعْتِقُ بِحَلِّ الْقَيْدِ. وَكَذَا حَافِرُ الْبِئْرِ) عَطْفٌ عَلَى الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُمَا رُجُوعُ شُهُودِ الشَّرْطِ وَمَسْأَلَةُ الْقَيْدِ وَالتَّشْبِيهُ فِي أَنَّ هُنَاكَ شَرْطًا لَا تُعَارِضُهُ عِلَّةٌ تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْوَصْفِ تَعْلِيقٌ لَهُ بِهِ كَالشَّرْطِ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى بَيَانِ الشَّرْطِ الْجَعْلِيِّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ الْحَقِيقِيِّ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِدُونِهِ. (قَوْلُهُ: فَيُضَافُ) أَيْ إذَا لَمْ يُعَارِضْ الشَّرْطَ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يُشَابِهُ الْعِلَّةَ فِي تَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَتْ حَقِيقَةُ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ، فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ حِينَئِذٍ بِالشَّبَهِ وَالْحَلِفِ، فَلَوْ شَهِدَ قَوْمٌ بِأَنَّ رَجُلًا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ الْغَيْرِ الْمَدْخُولَةِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَآخَرُونَ بِأَنَّهَا دَخَلَتْ الدَّارَ وَقَضَى الْقَاضِي بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلُزُومِ نِصْفِ الْمَهْرِ، فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ دُخُولِ الدَّارِ وَحْدَهُمْ ضَمِنُوا لِلزَّوْجِ مَا أَدَّاهُ إلَى الْمَرْأَةِ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ الشَّرْطِ السَّالِمِ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ دُخُولِ الدَّارِ وَشُهُودُ الْيَمِينِ أَيْ التَّعْلِيقِ جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ الْعِلَّةِ إمَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِلَّةَ أَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَمِمَّا فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَعْدَ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَقَضَاءِ الْقَاضِي اتَّصَلَ الْحُكْمُ بِالْعِلَّةِ فَكَمَّلَ الْعِلِّيَّةَ وَمَعَ وُجُودِ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لَا جِهَةَ لِلْإِضَافَةِ إلَى الشَّرْطِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ شَهِدَ قَوْمٌ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ بِأَلْفٍ وَآخَرُونَ بِأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا، ثُمَّ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الدُّخُولِ مَعَ أَنَّهُ شَرْطٌ وَالتَّزَوُّجُ عِلَّةٌ. قُلْنَا: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شُهُودَ الدُّخُولِ أَبْرَءُوا شُهُودَ النِّكَاحِ عَنْ الضَّمَانِ حَيْثُ أَدْخَلُوا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ عِوَضَ مَا غَرِمَ مِنْ الْمَهْرِ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. (قَوْلُهُ: كَشُهُودِ التَّخْيِيرِ) ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ وَالِاخْتِيَارُ عِلَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا لُزُومُ الْمَهْرِ فَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ السَّبَبِ. (قَوْلُهُ: فَإِنْ قَالَ) لَمَّا شَرَطَ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَنْ لَا تُعَارِضَهُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، أَوْرَدَ مِثَالًا لَيْسَ فِيهِ مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ أَصْلًا، وَهُوَ مَا إذَا رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ فَقَطْ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَأَبِي الْيُسْرِ فَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِثَالًا يُوجِبُ فِيهِ مُعَارَضَةَ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، وَهُوَ مَا إذَا رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا ثُمَّ مِثَالًا يُوجَدُ فِيهِ مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ لَكِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا وَهُوَ مَا إذَا قَالَ رَجُلٌ إنْ كَانَ قَيْدُ عَبْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَعَبْدُهُ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ حَلَّ أَحَدٌ قَيْدَ الْعَبْدِ، فَهُوَ حُرٌّ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّ الْقَيْدَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَحَلَّ الْمَوْلَى قَيْدَ الْعَبْدِ، فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

الْحُكْمِ إلَيْهَا وَالشَّرْطُ هُوَ الْحَفْرُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ السُّقُوطِ هُوَ الثِّقَلُ لَكِنَّ الْأَرْضَ مَانِعَةٌ عَنْ السُّقُوطِ فَبِإِزَالَةِ الْمَانِعِ صَارَتْ شَرْطًا لِلسُّقُوطِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الضَّمَانُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ الثِّقَلَ عِلَّةُ السُّقُوطِ، وَهُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ، فَلَا يَصْلُحَانِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي نَافِذٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِابْتِنَائِهِ عَلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَاجِبِ الْعَمَلِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ صِيَانَتِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ بِإِثْبَاتِ التَّصَرُّفِ الْمَشْهُودِ بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَانَ الشُّهُودُ عَبِيدًا، أَوْ كُفَّارًا، فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْقَضَاءِ حِينَئِذٍ لِإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ. وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ سَقَطَ حَقِيقَةُ مَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِحَلِّ الْقَيْدِ، وَإِذَا حَلَّهُ يَعْتِقُ الْعَبْدُ، وَإِذَا نَفَذَ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَحَقَّقَ الْعِتْقُ قَبْلَ الْحِلِّ، فَلَمْ يُمْكِنْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ وَالْعِلَّةُ أَعْنِي التَّعْلِيقَ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ مِنْ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، وَلَا جِنَايَةٍ كَمَا إذَا بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ، أَوْ أَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَتَعَيَّنَ الْإِضَافَةُ إلَى الشَّرْطِ، وَهُوَ كَوْنُ الْقَيْدِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَالشُّهُودُ قَدْ تَعَدَّوْا بِالْكَذِبِ الْمَحْضِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ. وَعِنْدَهُمَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُجَّةِ الْبَاطِلَةِ إلَّا أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ دَلِيلُ الصِّدْقِ ظَاهِرًا فَيُعْتَبَرُ حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَإِذَا لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا كَانَ الْعَبْدُ رَقِيقًا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَيَعْتِقُ بِحَلِّ الْمَوْلَى قَيْدَهُ، فَلَا يَضْمَنُ الشُّهُودُ. وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ يَمِينُ الْمَالِكِ أَعْنِي تَعْلِيقَهُ الْعِتْقَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ عِلَلَ الِاخْتِصَاصَاتِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ التَّصَرُّفَاتُ الْمَشْرُوعَةُ حَتَّى لَوْ ادَّعَى شِرَاءَ الدَّارِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي كَانَتْ عِلَّةُ الْمِلْكِ هِيَ الشِّرَاءُ دُونَ الْقَضَاءِ فَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِوُقُوعِ الْعِتْقِ مَحَلُّ نَظَرٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ أَعْنِي شُهُودَ التَّعْلِيقِ وَشُهُودَ الشَّرْطِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ شُهُودُ التَّعْلِيقِ وَهِيَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْعِتْقَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي حَيْثُ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ بِالرُّجُوعِ فَلِمَ كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ هِيَ قَضَاءُ الْقَاضِي دُونَ تَعْلِيقِ الْمَالِكِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ بَانَ فِي الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَكُنْ مُتَحَقِّقًا فِي الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي الْمَبْنِيِّ عَلَى الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْمَالِ فَفِي صُورَةِ رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ شُهُودِ التَّعْلِيقِ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهَا، فَلَا يُضَافُ إلَى شُهُودِ الشَّرْطِ أَعْنِي وُقُوعَ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ. وَفِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ الْعِلَّةُ غَيْرُ صَالِحَةٍ لِإِضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهَا لِخُلُوِّهَا عَنْ مَعْنَى التَّعَدِّي فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ، وَهُوَ شُهُودُ كَوْنِ الْقَيْدِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ لِتَعَدِّيهِمْ بِالْكَذِبِ الْمَحْضِ إذْ لَا مُسَاغَ لِلْإِضَافَةِ إلَى الْحَلِّ لِتَحَقُّقِ الْعِتْقِ قَبْلَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ

لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ) ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْطِ مُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيمَا إذَا حَفَرَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ. (بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ نَفْسَهُ. وَأَمَّا وَضْعُ الْحَجَرِ وَإِشْرَاعُ الْجَنَاحِ وَالْحَائِطِ الْمَائِلِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ، فَمِنْ قِسْمِ الْأَسْبَابِ. وَأَمَّا شَرْطٌ فِي حُكْمِ السَّبَبِ، وَهُوَ شَرْطٌ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ كَمَا إذَا حَلَّ قَيْدَ عَبْدِ الْغَيْرِ فَأَبَقَ الْعَبْدُ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْحَلَّ لَمَّا سَبَقَ الْإِبَاقَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ صَارَ كَالسَّبَبِ فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الْعِلَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَزْنَ الْقَيْدِ مُتَحَقِّقُ الْوُجُودِ وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ التَّعْلِيقَ لَمَّا كَانَ مُقَدَّرًا يَعْتَرِفُ بِهِ الْمَالِكُ، وَالشُّهُودُ قَدْ شَهِدُوا بِوُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ بِالتَّنْجِيزِ فَكَانُوا شُهُودَ الْعِلَّةِ لِإِثْبَاتِهِمْ الْعِتْقَ فِي الْحَقِيقَةِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُثْبِتُ الضَّمَانَ حَتَّى يُضَافَ إلَى الْعِلَّةِ أَوْ الشَّرْطِ بَلْ نُثْبِتُ الْعِتْقَ بِلَا شَيْءٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْعِتْقَ حُكْمٌ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ الضَّمَانِ، وَالْعِتْقُ بِلَا شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الضَّمَانِ عَلَى السَّيِّدِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِضَافَةِ. (قَوْلُهُ: وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ) يَعْنِي أَنَّ الْمَشْيَ، وَإِنْ كَانَ سَبَبًا، وَهُوَ يُشَارِكُ الْعِلَّةَ فِي الْإِفْضَاءِ إلَى الْحُكْمِ وَالِاتِّصَالِ بِهِ فَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهِ دُونَ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الضَّمَانَ ضَمَانُ عُدْوَانٍ فَلَا بُدَّ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهِ مِنْ صِفَةِ التَّعَدِّي، وَلَا تَعَدِّيَ فِي السَّبَبِ أَعْنِي الْمَشْيَ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ مَحْضٌ، وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَاشِي أَيْضًا مُتَعَدِّيًا كَمَا إذَا كَانَ الْحَفْرُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَسَقَطَ الْمَاشِي بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لَمْ يَكُنْ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ، وَلَا رِوَايَةَ فِي ذَلِكَ بَلْ الرِّوَايَةُ مُطْلَقَةٌ فِي ضَمَانِ الْحَافِرِ الْمُتَعَدِّي. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُ أَنَّ الْمَشْيَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ حَرُمَ بِالْغَيْرِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَفْرُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَقْيِيدَ الْمَشْيِ بِالْإِبَاحَةِ احْتِرَازٌ عَنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ فَفِي بَعْضِ الْوُجُوهِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ عِنْدَ تَعَدِّي الْمَشْيِ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ نَفْسَهُ) فِي بِئْرِ الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْإِضَافَةِ، فَلَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا وَضْعُ الْحَجَرِ) يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ طُرُقٌ مُفْضِيَةٌ إلَى التَّلَفِ فَتَكُونُ أَسْبَابًا لَهَا حُكْمُ الْعِلَلِ بِخِلَافِ الْحَفْرِ، فَإِنَّهُ إزَالَةٌ لِلْمَانِعِ أَعْنِي إمْسَاكَ الْأَرْضِ فَيَكُونُ شَرْطًا وَهَاهُنَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلسَّبَبِيَّةِ إلَّا الْإِفْضَاءُ إلَى الْحُكْمِ وَالتَّأَدِّي إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ، وَهَذَا حَاصِلٌ فِي الْحَفْرِ وَحَلِّ الْقَيْدِ وَفَتْحِ الْبَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الشَّرْطُ الَّذِي فِي حُكْمِ السَّبَبِ شَرْطٌ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَيْ حَصَلَ بَعْدَ حُصُولِهِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ ذَلِكَ الْفِعْلُ إلَى الشَّرْطِ فَخَرَجَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ. مِثْلُ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ

وَالشَّرْطُ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، وَكَذَا إذَا فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ، أَوْ إصْطَبْلٍ. خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنَّ فِعْلَ الطَّيْرِ وَالْبَهِيمَةِ هَدَرٌ، فَإِذَا خَرَجَا عَلَى فَوْرِ الْفَتْحِ يَجِبُ الضَّمَانُ كَمَا فِي سَيْلَانِ مَاءِ الزِّقِّ فَإِنَّ النِّفَارَ طَبِيعِيٌّ لِلطَّيْرِ كَالسَّيَلَانِ لِلْمَاءِ وَلَهُمَا أَنَّهُ هَدَرٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ لَا فِي قَطْعِهِ عَنْ الْغَيْرِ كَالْكَلْبِ يَمِيلُ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ، وَإِذَا قَالَ الْوَلِيُّ سَقَطَ وَقَالَ الْحَافِرُ أَسْقَطَ نَفْسَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ) أَيْ لِلْحَافِرِ (لِأَنَّهُ يَدَّعِي صَلَاحِيَّةَ الْعِلَّةِ لِلْإِضَافَةِ وَقَطَعَ الْإِضَافَةَ عَنْ الشَّرْطِ، فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ بِخِلَافِ الْجَارِحِ إذَا ادَّعَى الْمَوْتَ بِسَبَبٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ. وَأَمَّا شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا ـــــــــــــــــــــــــــــQإذْ التَّعْلِيقُ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُخْتَارِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى الشَّرْطِ بَلْ بِالْعَكْسِ وَخَرَجَ مَا إذَا اعْتَرَضَ عَلَى الشَّرْطِ فِعْلُ فَاعِلٍ غَيْرِ مُخْتَارٍ بَلْ طَبِيعِيٍّ كَمَا إذَا شَقَّ زِقَّ الْغَيْرِ فَسَالَ الْمَائِعُ فَتَلِفَ، وَخَرَجَ مَا إذَا كَانَ فِعْلُ الْمُخْتَارِ مَنْسُوبًا إلَى الشَّرْطِ كَمَا إذَا فَتَحَ الْبَابَ عَلَى وَجْهٍ يَفِرُّ الطَّائِرُ فَخَرَجَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى السَّبَبِ بَلْ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ، وَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صُورَةِ فَتْحِ بَابِ الْقَفَصِ فَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ مَنْسُوبٌ إلَى الْفَتْحِ بَلْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الطَّائِرِ هَدَرٌ فَيَلْحَقُ بِالْأَفْعَالِ الْغَيْرِ الِاخْتِيَارِيَّةِ كَسَيَلَانِ الْمَائِعِ. (قَوْلُهُ: لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا) مُشْعِرٌ بِالْخِلَافِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. (قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْحَلَّ) بَيَانٌ لِكَوْنِ حَلِّ الْقَيْدِ فِي حُكْمِ السَّبَبِ لَا تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الضَّمَانِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَحْضَ يَتَأَخَّرُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبُ يَتَقَدَّمُهَا؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى الْحُكْمِ وَمُفْضٍ إلَيْهِ بِأَنْ تَتَوَسَّطَ الْعِلَّةُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونَ مُتَقَدِّمًا لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ صُورَةُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَحْضَ يَتَقَدَّمُ عَلَى انْعِقَادِهَا عِلَّةً لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ التَّعْلِيقَ يَمْنَعُ الْعِلِّيَّةَ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ الشَّرْطُ حَتَّى تَنْعَقِدَ الْعِلَّةُ فَحَلُّ الْقَيْدِ لَمَّا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِبَاقِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ كَانَ شَرْطًا فِي مَعْنَى السَّبَبِ لَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هَاهُنَا مُسْتَقِلَّةٌ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى السَّبَبِ، وَلَا حَادِثَةٍ بِهِ بِخِلَافِ سَوْقِ الدَّابَّةِ. وَأَمَّا إذَا أَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ بِالْإِبَاقِ فَأَبَقَ، فَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ اسْتِعْمَالٌ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ غَصْبٌ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا اسْتَخْدَمَهُ فَخَدَمَهُ. وَمَا يُقَالُ: فِي بَيَانِ تَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ أَنَّ مَا هُوَ مُفْضٍ إلَى الشَّيْءِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ وَالْمَطْلُوبُ تَقَدُّمُهُ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ وَهَاهُنَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ تَأَخُّرِ الشَّرْطِ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ كَالشَّهَادَةِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْعَقْلِ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ. (قَوْلُهُ: لَهُ) أَيْ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ فِعْلَ الطَّيْرِ وَالْبَهِيمَةِ هَدَرٌ شَرْعًا، فَلَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ التَّلَفِ إلَيْهِ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وَأَيْضًا هُمَا لَا يَصْبِرَانِ عَنْ الْخُرُوجِ عَادَةً فَفِعْلُهُمَا يَلْتَحِقُ بِالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ سَيَلَانِ الْمَائِعِ فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ كَوْنِ فِعْلِهِمَا هَدَرًا وَكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ

إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطَيْنِ فَأَوَّلُهُمَا وُجُودًا شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا حَتَّى إذَا وُجِدَ الْأَوَّلُ فِي الْمِلْكِ لَا الثَّانِي لَا تُطْلَقُ وَبِالْعَكْسِ تُطْلَقُ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) . صُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ، وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبَانَهَا فَدَخَلَتْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى يَقَعُ الطَّلَاقُ، عِنْدَنَا (لِأَنَّ الْمِلْكَ شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ الشَّرْطِ فَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الثَّانِي لَا الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الْعَلَامَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي نَظِيرِهَا الْإِحْصَانَ لِلرَّجْمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ إلَى أَنْ يُوجَدَ هُوَ وَوُجُودُهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا وَهُنَا عِلِّيَّةُ الزِّنَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إحْصَانٍ يَحْدُثُ مُتَأَخِّرًا أَقُولُ مَا ذَكَرُوا) وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ أَمْرٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَيَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ إلَى أَنْ يُوجَدَ هُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ مُسْتَقِلٌّ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الضَّمَانِ فَسَوْقُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ فِعْلَ الطَّيْرِ وَالْبَهِيمَةِ هَدَرٌ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَهُ فِي قَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ الشَّرْطِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ هَدَرٌ مُطْلَقًا حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِي قَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ الْغَيْرِ فَمَمْنُوعٌ كَمَا إذَا أَرْسَلَ شَخْصٌ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَمَال عَنْ سُنَنِ الصَّيْدِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنْ السُّنَنِ هَدَرٌ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ بَهِيمَةً لَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي مَنْعِ إضَافَةِ الْفِعْلِ عَنْ الْمُرْسِلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَطْ مِنْ اسْتِدْلَالِ مُحَمَّدٍ بِنَاءً عَلَى مَا سَاقَ كَلَامَهُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ وَاحِدٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ فَتْحَ الْبَابِ شَرْطٌ لَا عِلَّةٌ لَكِنْ سَبَقَ أَنَّ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلضَّمَانِ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلضَّمَانِ عَلَى الْمَالِكِ. وَقَدْ يُقَالُ: الْحُكْمُ هَاهُنَا هُوَ التَّلَفُ لَا الضَّمَانُ، وَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ إضَافَتِهِ إلَى فِعْلِ الْبَهِيمَةِ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ الطَّبِيعِيِّ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ فِي صُورَةِ شَقِّ الزِّقِّ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا قَالَ الْوَلِيُّ) فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ. أُجِيبَ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالظَّاهِرِ إنَّمَا يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ وَالْوَلِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ مِنْهُ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا) كَمَا إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَوَّلُ الشَّرْطَيْنِ بِحَسَبِ الْوُجُودِ شَرْطٌ اسْمًا لِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لَا حُكْمًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ، فَإِنْ دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ طَلُقَتْ اتِّفَاقًا، وَإِنْ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَيْنِ، أَوْ دَخَلَتْ إحْدَاهُمَا فَأَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ اتِّفَاقًا وَإِنْ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ إحْدَاهُمَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى تَطْلُقُ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ وُجُودِ الشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ، وَلَا لِبَقَاءِ الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ هِيَ الذِّمَّةُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ إلَّا عِنْدَ الشَّرْطِ

(هُوَ تَفْسِيرُ الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ لَا الشَّرْطِ الْحَقِيقِيِّ كَالشَّهَادَةِ لِلنِّكَاحِ وَالْعَقْلِ لِلتَّصَرُّفَاتِ وَنَحْوِهِمَا) كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَطَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ لَهَا فَالشَّرْطُ التَّعْلِيقِيُّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ. أَمَّا الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ، فَلَا يَجِبُ تَأَخُّرُهُ عَنْ وُجُودِ الْعِلَّةِ كَالْعَقْلِ وَالْوُضُوءِ وَغَيْرِهِمَا فَكَوْنُ الْإِحْصَانِ مُتَقَدِّمًا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ. (وَهَذَا الْإِشْكَالُ اخْتَلَجَ فِي خَاطِرِي. وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الشَّرْطَ إمَّا تَعْلِيقِيٌّ وَإِمَّا حَقِيقِيٌّ وَالْحَقِيقِيُّ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعِلَّةِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَقَطْعِ حَبْلِ الْقِنْدِيلِ وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ) وَالْعَقْلِ لِلتَّصَرُّفَاتِ، فَأَمَّا مَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ أَقْوَى مِمَّا هُوَ مُتَقَدِّمٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُقَارِنُ الشَّرْطَ الَّذِي هُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ، فَهُوَ شَرْطٌ فِي مَعْنَى ـــــــــــــــــــــــــــــQالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ حَالَ نُزُولِ الْجَزَاءِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْمِلْكِ وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ الشَّرْطَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي وُجُودِ الْجَزَاءِ، وَفِي أَحَدِهِمَا يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ، وَكَذَا فِي الْآخَرِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعَلَامَةُ) هِيَ عَلَى مُقْتَضَى تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِيهِ، وَلَا تَوَقُّفٍ لَهُ عَلَيْهِ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيُبَايِنُ الشَّرْطَ وَالسَّبَبَ وَالْعِلَّةَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَا يَكُونُ عَلَمًا عَلَى الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ، إلَّا أَنَّهُمْ مَثَّلُوا فِيهِ بِالْإِحْصَانِ مَعَ أَنَّ وُجُوبَ الرَّجْمِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ شَرْطًا فِيهِ مَعْنَى الْعَلَامَةِ وَبَعْضُهُمْ شَرْطًا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِتَوَقُّفِ وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا تَقَدُّمُهُ عَلَى وُجُودِ الزِّنَا، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ، فَإِنَّ تَأَخُّرَ الشَّرْطِ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ بَلْ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَتَقَدَّمُهَا كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ وَشُهُودِ النِّكَاحِ كَذَا فِي الْكَشْفِ، وَهُوَ حَاصِلُ الْإِشْكَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ لُزُومَ التَّأَخُّرِ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ، وَأَمَّا الْحَقِيقِيُّ أَعْنِي مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا، فَقَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ وَشُهُودِ النِّكَاحِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ كَالْحَفْرِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ وُجُودِ ثِقْلِ زَيْدٍ وَقَطْعِ الْحَبْلِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ وُجُودِ ثِقْلِ الْقِنْدِيلِ، وَالْمُتَأَخِّرُ لِكَوْنِهِ أَقْوَى بِوَاسِطَةِ اتِّصَالِهِ بِالْحُكْمِ يُسَمَّى شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَالْمُتَقَدِّمُ لِعَدَمِ مُقَارَنَةِ الْحُكْمِ يُسَمَّى عَلَامَةً. وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ إلَّا أَنَّهُ سُمِّيَ عَلَامَةً لِمُشَابَهَتِهِ الْعَلَامَةَ فِي عَدَمِ الِاتِّصَالِ بِالْحُكْمِ، ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَحَلُّ نَظَرٍ: أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الشَّرْطَ التَّعْلِيقَيَّ قَدْ يَكُونُ مُتَقَدِّمًا، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُ ظُهُورُهُ وَالْعِلْمُ بِهِ كَمَا فِي تَعْلِيقِ عِتْقِ الْعَبْدِ بِكَوْنِ قَيْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ شَرْطٍ مُتَقَدِّمٍ يُسَمَّى عَلَامَةً كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا كُلُّ شَرْطٍ مُتَأَخِّرٍ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ كَشُهُودِ الْيَمِينِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ

الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مُتَقَدِّمٌ فَالْإِحْصَانُ هُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلَّةِ وَيُسَمَّى هَذَا الشَّرْطُ عَلَامَةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَيْهِ لَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْعِلَّةَ وَهِيَ الزِّنَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَمَّا كَانَ لِي نَظَرٌ فِي كَوْنِ الْإِحْصَانِ عَلَامَةً لَا شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ قُلْت: (ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِحْصَانُ عَلَامَةً لَا شَرْطًا) أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ عَلَامَةً لَا شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ (يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ أَيْضًا بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ شَهِدَا عَلَى عَبْدٍ مُسْلِمٍ زَنَى وَمَوْلَاهُ كَافِرٌ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ) أَيْ لَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّ الزِّنَا لَا يُثْبِتُ الْإِحْصَانَ بِشَهَادَةِ الْكَافِرَيْنِ أَيْضًا إذَا شَهِدَا عَلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّرْطَ الَّذِي فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ قَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ كَمَا إذَا كَانَ وِلَادَةُ مَنْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ بَعْدَ حَفْرِ الْبِئْرِ، فَإِنَّ ثِقْلَهُ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ الشَّرْطِ أَعْنِي إزَالَةَ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْأَرْضِ. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ لِي نَظَرٌ فِي كَوْنِ الْإِحْصَانِ عَلَامَةً لَا شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ) لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَوْنُهُ عَلَامَةً، وَإِنْ صَلَحَ مَحَلًّا لِلنَّظَرِ إلَّا أَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ. إذْ الشَّرْطُ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا كَالزِّنَا هَاهُنَا مَعَ أَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ بَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَبَعْضُهَا مَأْمُورٌ بِهِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ الْمَحْضَةِ. (قَوْلُهُ: فَإِنْ قِيلَ:) مَبْنَى هَذَا السُّؤَالِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَسْرَارِ وَهِيَ أَنَّ عِتْقَ هَذَا الْعَبْدِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا حُجَّةً عَلَى هَذَا الْعِتْقِ لَوْلَا الزِّنَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْإِعْتَاقِ قَبْلَ: الزِّنَا يَسْتَلْزِمُ إيجَابَ الرَّجْمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ الْإِحْصَانِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْهِدَايَةِ وَأَكْثَرِ الْكُتُبِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْعِتْقُ تَضَرُّرًا عَلَى الْمَوْلَى الْكَافِرِ، وَلَا يَثْبُتُ سَبْقُ تَارِيخِ الْإِعْتَاقِ عَلَى الزِّنَا فِيهِ مِنْ تَضَرُّرِ الْمُسْلِمِ بِوُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا تَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ الْعِتْقِ وَتَقَدُّمَهُ عَلَى الزِّنَا وَضَرَرُ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ إلَى الْكَافِرِ فَتُقْبَلُ وَالثَّانِي إلَى الْمُسْلِمِ، فَلَا تُقْبَلُ. (قَوْلُهُ: وَهُنَا لَا يُثْبِتُهَا) أَيْ فِي صُورَةِ ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ الْعُقُوبَةُ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ عَلَامَةٌ لَا عِلَّةٌ، أَوْ سَبَبٌ، أَوْ شَرْطٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِيَكُونَ إثْبَاتُهُ إثْبَاتَ الْعُقُوبَةِ. قَوْلُهُ: " وَهُوَ " يَصْلُحُ الضَّمِيرُ لِلشَّهَادَةِ تَذْكِيرُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي مَعْنَى أَنْ مَعَ الْفِعْلِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا ذُكِرَ) أَيْ إضْرَارُ الْمُسْلِمِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَكْذِيبُهُ فِي ادِّعَائِهِ الرِّقَّ وَدَفْعُ إنْكَارِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الرَّجْمَ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ امْتِنَاعَ قَبُولِ شَهَادَةِ

عَبْدٍ مُسْلِمٍ زَنَى بِأَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ وَالْحَالُ أَنَّ مَوْلَاهُ كَافِرٌ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْلَى الْكَافِرِ فَتُقْبَلُ فَيَثْبُتُ عِتْقُهُ وَالْحُرِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ فَيَثْبُتُ إحْصَانُهُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ. (قُلْنَا لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ خُصُوصٌ بِالْمَشْهُودِ بِهِ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) أَيْ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ (فَإِنَّهَا لَا تُثْبِتُ الْعُقُوبَةَ وَهُنَا لَا تُثْبِتُهَا؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ إلَّا عَلَامَةً لَكِنْ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) ، وَهُوَ تَكْذِيبُهُ وَرَفْعُ إنْكَارِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ (وَهِيَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ) أَيْ شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ تَصْلُحُ لِلضَّرَرِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ. (وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ بِالْعَكْسِ) فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِ أَيْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ تَتَضَمَّنُ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِ، وَهُوَ الْعَبْدُ الَّذِي أَثْبَتُوا حُرِّيَّتَهُ لِيَثْبُتَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ (فَلَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ) أَيْ لَا تَصْلُحُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ لِلْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالنِّسَاءِ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهُوَ الْحَدُّ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ عَلَامَةٌ لَا مُوجِبٌ وَامْتِنَاعُ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْلِمًا، فَلَا يُقْبَلُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ لِتَضَرُّرِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ الرِّقَّ مَعَ الْحَيَاةِ خَيْرٌ مِنْ الْعِتْقِ مَعَ الرَّجْمِ. (قَوْلُهُ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُقْبَلُ) شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِي حَقِّنَا لَيْسَتْ بِعَلَامَةٍ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ الْمُثْبِتَةِ لِلنَّسَبِ ضَرُورَةَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ ثُبُوتَ النَّسَبِ إلَّا بِهَا فَيُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِهَا كَمَالُ الْحُجَّةِ رَجُلًا، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ الْفِرَاشُ الْقَائِمُ، أَوْ الْحَبَلُ الظَّاهِرُ، أَوْ إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يُسْتَدَلُّ إلَيْهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ فَتَكُونُ الْوِلَادَةُ عَلَامَةَ مَعْرِفَةٍ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا عَلَّقَ بِالْوِلَادَةِ طَلَاقَ) يَعْنِي فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا، وَلَا الزَّوْجُ مُقِرًّا بِهِ إذْ لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهَا بِالْوِلَادَةِ كَمَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِالْحَيْضِ وَوَجْهُ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَاهُنَا أَنَّ الْوِلَادَةَ عَلَامَةٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنْ جُعِلَتْ شَرْطًا تَعْلِيقًا فَيُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا جَانِبُ كَوْنِهِ عَلَامَةً حَتَّى يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ فَيَثْبُتَ مَا يَتْبَعُهَا مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ جَانِبُ الشَّرْطِيَّةِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ الْوِلَادَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ وُقُوعِ الطَّلَاقِ كَمَا أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ ثِيَابَةِ الْأَمَةِ فِي نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى أَمَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّهَا ثَيِّبٌ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ بِذَلِكَ. وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْوِلَادَةِ أَصْلًا وَوَصْفًا، وَهُوَ كَوْنُهَا شَرْطًا وَالثَّابِتُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدَةِ هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، وَأَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ وَبِالْوِلَادَةِ يَظْهَرُ أَنَّ النَّسَبَ كَانَ ثَابِتًا بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ وَقْتَ الْعُلُوقِ كَذَا فِي شَرْحِ التَّقْوِيمِ. (قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْجَلْدِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ الْجَلْدَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ قَدْ رُتِّبَا عَلَى الرَّمْيِ وَالْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]

مِنْ تَكْذِيبِهِ وَرَفْعِ إنْكَارِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ. (وَعَلَى هَذَا) أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَلَامَةَ لَيْسَتْ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِمَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِلَّةُ. (قَالَا إنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ فِرَاشٍ) أَيْ فِي الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا (وَلَا حَبَلٍ ظَاهِرٍ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ فِرَاشٍ (وَلَا إقْرَارٍ بِهِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا حَبَلٍ أَيْ بِلَا إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ (لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ) هُنَا (أَيْ فِي شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ) إلَّا تَعْيِينُ الْوَلَدِ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ فِيهِ أَيْ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ مَقْبُولَةٌ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ، (فَأَمَّا النَّسَبُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ السَّابِقِ فَيَكُونُ انْفِصَالُهُ عَلَامَةً لِلْعُلُوقِ السَّابِقِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ كَانَ النَّسَبُ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ فَشَرَطَ لِإِثْبَاتِهَا كَمَالَ الْحُجَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ) ، وَهُوَ إمَّا الْفِرَاشُ وَإِمَّا الْحَبَلُ الظَّاهِرُ وَإِمَّا إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ. (وَإِذَا عُلِّقَ بِالْوِلَادَةِ طَلَاقٌ تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ عَلَيْهَا فِي حَقِّهِ) أَيْ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ (عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْوِلَادَةُ بِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْآيَةَ، فَإِذَا كَانَ الْعَجْزُ عَلَامَةً فِي حَقِّ رَدِّ الشَّهَادَةِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْجَلْدِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ الْجَلْدُ عَلَى الْعَجْزِ لَا سِيَّمَا أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا} [النور: 4] عَطْفٌ عَلَى: {يَرْمُونَ} [النور: 4] فَيَكُونُ شَرْطًا مِثْلَهُ كَمَا إذَا قِيلَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، ثُمَّ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ كَانَ تَكَلُّمُ زَيْدٍ شَرْطًا لِلطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ جَمِيعًا مِثْلَ الدُّخُولِ فِي الدَّارِ، فَلَوْ جَعَلَ مُجَرَّدَ الدُّخُولِ شَرْطًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ لَزِمَ إلْغَاءُ الشَّرْطِ الثَّانِي فِي حَقِّهِ قُلْنَا لَوْ سَلِمَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى: وَلَا تَقْبَلُوا عَطْفٌ عَلَى: فَاجْلِدُوهُمْ لَا عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ، فَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْعَجْزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَغْوًا فِي حَقِّ رَدِّ الشَّهَادَةِ لِمَا لَاحَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ فِي حَقِّهِ عَلَامَةٌ لَا شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ، وَفِي حَقِّ الْجَلْدِ شَرْطٌ لَا عَلَامَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرَةٌ فَيَكْفِي فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ. وَتَقَدُّمُ الْجَلْدِ عَلَى الْعَجْزِ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ شَرْطًا. (قَوْلُهُ: قُلْنَا) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَذْفَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرَةٌ مُوجِبَةٌ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ بَلْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً فَيَكُونَ فِسْقًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى مَنْعًا لِلْفَاحِشَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرَةً وَفَاحِشَةً لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَقْبُولَةً أَصْلًا. فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا احْتَمَلَ الْحِسْبَةَ، وَلَمْ يَكُنْ جِنَايَةً مَحْضَةً كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ. قُلْنَا: هُوَ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حِسْبَةً إلَّا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ صَادِقًا إلَّا أَنْ يُوجَدَ الشُّهُودُ فِي الْبَلَدِ، فَإِذَا مَضَى زَمَانٌ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ، وَهُوَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَإِلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ الْمَجْلِسُ الثَّانِي فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَمْ يُحْضِرْهُمْ صَارَ الْقَذْفُ كَبِيرَةً مُقْتَصِرَةً عَلَى الْحَالِ لَا مُسْتَنِدَةً إلَى الْأَصْلِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَذْفٌ وَلَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ إلَّا

[باب المحكوم به]

يَثْبُتُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهَا. لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ شَرْطٌ لِلطَّلَاقِ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا الْوُجُودُ فَيُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِهِ) أَيْ لِإِثْبَاتِ الشَّرْطِ (مَا يُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ) ، وَهُوَ الطَّلَاقُ (كَمَا فِي الْعِلَّةِ) فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ مَا يُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهَا. (عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَرُورِيَّةٌ، فَلَا تَتَعَدَّى) أَيْ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا تُقْبَلُ إلَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ، فَلَا تَتَعَدَّى عَنْهُ إلَى مَا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ. (كَمَا فِي شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى ثِيَابَةِ أَمَةٍ بِيعَتْ عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ) فِي حَقِّ الرَّدِّ فَإِنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الرَّدِّ وَإِنْ كَانَتْ مَقْبُولَةً فِي حَقِّ الْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ فَكَذَا هُنَا (بَلْ يُحَلَّفُ الْبَائِعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْأَصْلُ فِي الْمُسْلِمِ الْعِفَّةُ وَالْقَذْفُ كَبِيرَةٌ، ثُمَّ الْعَجْزُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُعَرِّفُ ذَلِكَ) أَيْ كَوْنَهَا كَبِيرَةً أَيْ يَتَبَيَّنُ بِالْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الْقَذْفَ حِينَ وُجِدَ كَانَ كَبِيرَةً (لَا أَنَّهُ يَصِيرُ كَبِيرَةً عِنْدَ الْعَجْزِ فَيَكُونُ الْعَجْزُ عَلَامَةً لِجِنَايَةٍ فَيَثْبُتُ سُقُوطُ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِمْ لِمَوْتِهِمْ، أَوْ غَيْبَتِهِمْ، أَوْ امْتِنَاعِهِمْ عَنْ الْأَدَاءِ، وَإِذَا كَانَ ثُبُوتُ الْفِسْقِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مُقْتَصِرًا عَلَى حَالِ الْعَجْزِ كَانَ الْعَجْزُ شَرْطًا لَا عَلَامَةً. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْقَذْفُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْجِنَايَةِ فَكَمَا اُعْتُبِرَ جِهَةُ الْجِنَايَةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَقْذُوفِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ جِهَةُ الْحِسْبَةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْقَاذِفِ. قُلْنَا: قَدْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي أَنَّهُ إنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ قَبْلَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَتَى بِهَا بَعْدَهُ بَطَلَ رَدُّ شَهَادَةِ الْقَذْفِ وَصَارَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ لَكِنْ لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ فَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَفَوَّضَهُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى رَأْيِ الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ. [بَابُ الْمَحْكُوم بِهِ] (قَوْلُهُ بَابُ الْمَحْكُومِ بِهِ وَهُوَ) الْفِعْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الشَّارِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِهِ حِسًّا أَيْ مِنْ وُجُودِهِ فِي الْوَاقِعِ بِحَيْثُ يُدْرَكُ بِالْحِسِّ أَوْ بِالْعَقْلِ إذْ الْخِطَابُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا يَكُونُ لَهُ وُجُودٌ أَصْلًا وَالْمُرَادُ بِالْوُجُودِ الْحِسِّيِّ مَا يَعُمُّ مُدْرَكَاتِ الْعَقْلِ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِيَدْخُلَ فِيهِ مِثْلُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَالنِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ ثُمَّ مَعَ وُجُودِهِ الْحِسِّيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ أَوْ لَا وَكُلٌّ مِنْ الْقِسْمَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ لَا وَمَعْنَى الْوُجُودِ الشَّرْعِيِّ أَنْ يَعْتَبِرَ الشَّارِعُ أَرْكَانًا وَشَرَائِطَ يَحْصُلُ مِنْ اجْتِمَاعِهَا مَجْمُوعٌ مُسَمًّى بِاسْمٍ خَاصٍّ يُوجَدُ بِوُجُودِ تِلْكَ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ وَيَنْتَفِي بِانْتِفَائِهَا كَالصَّلَاةِ وَالْبَيْعِ وَمَعْنَى سَبَبِيَّةِ الْفِعْلِ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَنْ يَجْعَلَ الشَّارِعُ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِالتَّعْيِينِ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ هُوَ صِفَةٌ لِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ كَالزِّنَا لِوُجُوبِ الْحَدِّ أَوْ أَثَرٌ لَهُ كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْهُ بِالتَّعْيِينِ سَبَبًا لِبُطْلَانِ الصَّوْمِ مَثَلًا بَلْ جَعَلَ الْإِمْسَاكَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّوْمِ فَيَلْزَمُ بُطْلَانُهُ بِانْتِفَائِهِ ثُمَّ مَا لَهُ

سَابِقٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَمُجَرَّدُ الْقَذْفِ يُسْقِطُ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ لَمْ يُجْلَدْ، وَعِنْدَنَا لَا تَسْقُطُ شَهَادَتُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ بَلْ إنَّمَا تَسْقُطُ إذَا تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْجَلْدُ. (بِخِلَافِ الْجَلْدِ إذْ هُوَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ) أَيْ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْجَلْدِ سَابِقًا عَنْ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لَا مَرَدَّ لَهُ فَإِنْ أُقِيمَ الْجَلْدُ قَبْلَ الْعَجْزِ فَرُبَّمَا يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَمَّا عَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يُمْكِنُ سَبْقُهُ فَإِنْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ يَظْهَرُ أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَانَ ثَابِتًا حِينَ الْقَذْفِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَكَانَ صَادِقًا فِي ذَلِكَ الْقَذْفِ. (قُلْنَا الْقَذْفُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ كَبِيرَةً فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ مَقْبُولَةٌ حِسْبَةً) أَيْ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى، (وَهُوَ) أَيْ الْقَذْفُ (لَا يَحِلُّ إلَى أَنْ يُوجَدَ الشُّهُودُ، فَإِذَا مَضَى زَمَانٌ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِهِمْ، وَلَمْ يُحْضِرْهُمْ صَارَ كَبِيرَةً فَيَكُونُ الْعَجْزُ شَرْطًا) أَيْ لِرَدِّ الْقَاضِي شَهَادَةَ الرَّامِي (وَالْعِفَّةُ أَصْلٌ لَكِنْ لَا تَصْلُحُ لِإِثْبَاتِ رَدِّ الشَّهَادَةِ) ـــــــــــــــــــــــــــــQوُجُودٌ شَرْعِيٌّ إنْ وُجِدَ بِجَمِيعِ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ مَعَ أَوْصَافٍ أُخَرَ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ لَكِنْ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا ذَاتِيَّةٌ لَهَا فَهُوَ صَحِيحٌ بِالْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالصَّحِيحِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ وُجِدَتْ الْأَرْكَانُ وَالشَّرَائِطُ دُونَ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ الْغَيْرِ الذَّاتِيَّةِ كَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ أَوْ الْخِنْزِيرِ يُسَمَّى فَاسِدًا مِنْ قَوْلِهِمْ فَسَدَ الْجَوْهَرُ إذَا ذَهَبَ رَوْنَقُهُ وَطَرَاوَتُهُ وَبَقِيَ أَصْلُهُ وَإِنْ انْتَفَى شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ يُسَمَّى بَاطِلًا كَبَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ لِانْتِفَاءِ الرُّكْنِ وَكَالنِّكَاحِ بِلَا شُهُودٍ لِانْتِفَاءِ الشَّرْطِ وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا قَالُوا: بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَاسِدٌ أَيْ بَاطِلٌ وَأَطْلَقُوا عَلَى الْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ تَارَةً لَفْظَ الْفَاسِدِ وَأُخْرَى لَفْظَ الْبَاطِلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ وَلَا مُشَاحَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ (قَوْلُهُ ثُمَّ الْمَحْكُومُ بِهِ إمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى) الْمُرَادُ بِحَقِّ اللَّهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّفْعُ الْعَامُّ مِنْ غَيْرِ اخْتِصَاصٍ بِأَحَدٍ فَيُنْسَبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِعِظَمِ خَطَرِهِ وَشُمُولِ نَفْعِهِ وَإِلَّا فَبِاعْتِبَارِ التَّخْلِيقِ الْكُلُّ سَوَاءٌ فِي الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 284] وَبِاعْتِبَارِ التَّضَرُّرِ أَوْ الِانْتِفَاعِ هُوَ مُتَعَالٍ عَنْ الْكُلِّ وَمَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ كَحُرْمَةِ مَالِ الْغَيْرِ فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قِسْمٌ آخَرُ اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ عَلَى التَّسَاوِي فِي اعْتِبَارِ الشَّارِعِ (قَوْلُهُ أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَثَمَانِيَةٌ: عِبَادَاتٌ خَالِصَةٌ كَالْإِيمَانِ) وَعُقُوبَاتٌ خَالِصَةٌ كَالْحُدُودِ وَقَاصِرَةٌ كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَحُقُوقٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَالْكَفَّارَاتِ وَعِبَادَاتٌ فِيهَا مَعْنَى الْمُؤْنَةِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ كَالْعُشْرِ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا شُبْهَةُ الْعُقُوبَةِ كَالْخَرَاجِ وَحَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ كَخُمْسِ الْغَنَائِمِ وَذَلِكَ بِحُكْمِ

لِمَا عَرَفْت أَنَّ الْأَصْلَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِثْبَاتِ بَلْ لِلدَّفْعِ فَقَطْ. (ثُمَّ إنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ) عَلَى الزِّنَا مِنْ غَيْرِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ (بَعْدَمَا جُلِدَ يَبْطُلُ رَدُّ شَهَادَتِهِ وَيُحَدُّ الزَّانِي وَإِنْ تَقَادَمَ الْعَهْدُ) أَيْ إنْ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا بَعْدَمَا جُلِدَ الرَّامِي لَكِنْ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ (يُبْطِلُ الرَّدَّ) أَيْ رَدَّ شَهَادَةِ الرَّامِي (وَلَا يُثْبِتُ الْحَدَّ) أَيْ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ؛ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ صَارَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ. (بَابُ الْمَحْكُومُ بِهِ وَهُوَ قِسْمَانِ مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا وُجُودٌ حِسِّيٌّ وَمَا لَهُ وُجُودٌ آخَرُ شَرْعِيٌّ فَالْأَوَّلُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ إمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُكْمٍ آخَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَالزِّنَا فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَهُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ، وَكَالْأَكْلِ، وَنَحْوِهِ، وَكَذَا الثَّانِي كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ، وَهُوَ سَبَبٌ لِحُكْمٍ آخَرَ، وَهُوَ الْمِلْكُ، وَكَالصَّلَاةِ) الْمَحْكُومُ بِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ قِسْمَانِ: مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا وُجُودٌ حِسِّيٌّ كَالزِّنَا، وَالْأَكْلِ، وَنَحْوِهِ، وَمَا لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ مَعَ الْوُجُودِ الْحِسِّيِّ فَالْمَحْكُومُ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَبَعْدَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا وُجُودٌ حِسِّيٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالِاسْتِقْرَاءِ. (قَوْلُهُ وَكُلٌّ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِيمَانِ وَفُرُوعِهِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الْأَصْلِ وَالْمُلْحَقِ بِهِ وَالزَّوَائِدِ بِمَعْنَى أَنَّ فِي جُمْلَةِ الْفُرُوعِ أَصْلًا وَمُلْحَقًا بِهِ وَزَوَائِدَ لَا بِمَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفُرُوعِ مُشْتَمِلٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالْمُرَادُ بِالْفُرُوعِ مَا سِوَى الْإِيمَانِ مِنْ الْعِبَادَاتِ لِابْتِنَائِهَا عَلَى الْإِيمَانِ وَاحْتِيَاجِهَا إلَيْهِ ضَرُورَةً أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِاَللَّهِ لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ التَّقَرُّبُ إلَيْهِ وَكَوْنُ الطَّاعَاتِ مِنْ فُرُوعِ الْإِيمَانِ وَزَوَائِدِهِ لَا يُنَافِي كَوْنَهَا فِي نَفْسِهَا مِمَّا لَهُ أَصْلٌ، وَمُلْحَقٌ بِهِ، وَزَوَائِدُ، فَأَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَعْنَى إذْعَانِ الْقَلْبِ، وَقَبُولِهِ لِوُجُودِ الصَّانِعِ، وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَجَمِيعِ مَا عُلِمَ مَجِيئُهُ بِهِ بِالضَّرُورَةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَى الْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ إلَّا أَنَّهُ قُيِّدَ بِأَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ» الْحَدِيثَ فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِيمَانِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ، وَإِنَّمَا الِاخْتِصَاصُ فِي الْمُؤْمِنِ بِهِ فَمَعْنَى التَّصْدِيقِ هُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفَارِسِيَّةِ بكر يَثْلُغُوا يُفَضِّلُهُ مَطْرَقُ داشتن، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالتَّصْدِيقِ الَّذِي جَعَلَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ أَحَدَ قِسْمَيْ الْعِلْمِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ رَئِيسُهُمْ، وَلِهَذَا فَسَّرَهُ السَّلَفُ بِالِاعْتِقَادِ، وَالْمَعْرِفَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَعْرِفُونَ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، وَيَسْتَيْقِنُونَ أَمْرَهُ لَا أَنَّهُمْ اسْتَكْبَرُوا، وَلَمْ يُذْعِنُوا فَلَمْ يَكُونُوا مُصَدِّقِينَ، وَالْمُلْحَقُ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ لِكَوْنِهِ تَرْجَمَةً عَمَّا فِي الضَّمِيرِ، وَدَلِيلًا عَلَى تَصْدِيقِ الْقَلْبِ، وَلَيْسَ بِأَصْلٍ لِأَنَّ مَعْدِنَ التَّصْدِيقِ هُوَ الْقَلْبُ، وَلِهَذَا قَدْ يَسْقُطُ الْإِقْرَارُ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ كَمَا فِي الْأَخْرَسِ أَوْ تَعَسُّرِهِ كَمَا فِي الْمُكْرَهِ، وَكَوْنُ الْإِقْرَارِ رُكْنًا مِنْ الْإِيمَانِ

وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَسَبَبٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ آخَرَ كَالزِّنَا فَإِنَّهُ حَرَامٌ وَسَبَبٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ، وَالثَّانِي مَا لَيْسَ لَهُ إلَّا وُجُودٌ حِسِّيٌّ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَكِنَّهُ لَيْسَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَالْأَكْلِ أَمَّا كَوْنُهُ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَلِأَنَّ الْأَكْلَ تَارَةً وَاجِبٌ، وَأُخْرَى حَرَامٌ، وَالثَّالِثُ مَا لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَسَبَبٌ لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ، وَسَبَبٌ لِلْمِلْكِ وَالرَّابِعُ مَا لَهُ وُجُودٌ شَرْعِيٌّ، وَمُتَعَلِّقٌ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَلَيْسَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ كَالصَّلَاةِ (وَالْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ بِحَسَبِ أَرْكَانٍ وَشَرَائِطَ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ فَإِنْ وُجِدَتْ فَإِنْ حَصَلَ مَعَهَا الْأَوْصَافُ الْمُعْتَبَرَةُ شَرْعًا الْغَيْرُ الذَّاتِيَّةُ يُسَمَّى صَحِيحًا، وَإِلَّا فَاسِدًا) أَيْ أَنْ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهَا الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ يُسَمَّى فَاسِدًا (وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ) أَيْ الْأَرْكَانُ، وَالشَّرَائِطُ (يُسَمَّى بَاطِلًا وَالْفَاسِدُ صَحِيحٌ بِأَصْلِهِ دُونَ وَصْفِهِ فَأَمَّا الصَّحِيحُ الْمُطْلَقُ فَيُرَادُ بِهِ الْأَوَّلُ) أَيْ مَا وُجِدَتْ الْأَرْكَانُ، وَالشَّرَائِطُ، وَحَصَلَتْ الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ. (ثُمَّ الْمَحْكُومُ بِهِ إمَّا حُقُوقُ اللَّهِ أَوْ حُقُوقُ الْعِبَادِ أَوْ مَا اجْتَمَعَا فِيهِ وَالْأَوَّلُ غَالِبٌ أَوْ مَا اجْتَمَعَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمُلْحَقًا بِأَصْلِهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ كَالْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ وَالْإِمَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى، وَكَثِيرٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَحْدَهُ، وَالْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَوْ صَدَّقَ بِالْقَلْبِ، وَلَمْ يُقِرَّ بِاللِّسَانِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ كَانَ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَوْفَقُ بِاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ إلَّا أَنَّ فِي عَمَلِ الْقَلْبِ خَفَاءً فَنِيطَتْ الْأَحْكَامُ بِدَلِيلِهِ الَّذِي هُوَ الْإِقْرَارُ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّهُ أَصْلٌ فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَا لِابْتِنَائِهَا عَلَى الظَّاهِرِ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ الْحَرْبِيُّ أَوْ الذِّمِّيُّ فَأَقَرَّ صَحَّ إيمَانُهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا مَعَ قِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَى عَدَمِ التَّصْدِيقِ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمُؤْمِنُ عَلَى الرِّدَّةِ أَيْ التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فَتَكَلَّمَ بِهَا لَمْ يَصِرْ مُرْتَدًّا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِأَنَّ التَّكَلُّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ دَلِيلُ الْكُفْرِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ مَعَ قِيَامِ الْمُعَارِضِ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، وَرُكْنُهُ إنَّمَا هُوَ تَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ، وَزَوَائِدُ الْإِيمَانِ هِيَ الْأَعْمَالُ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَا إيمَانَ بِدُونِ الْأَعْمَالِ نَفْيًا لِصِفَةِ الْكَمَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُتَمِّمَاتِ الْإِيمَانِ، وَمُكَمِّلَاتِهِ الزَّائِدَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْفُرُوعُ فَالْأَصْلُ فِيهَا الصَّلَاةُ لِأَنَّهَا عِمَادُ الدِّينِ، وَتَالِيَةُ الْإِيمَانِ شُرِعَتْ شُكْرًا لِلنِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَأَفْعَالِ الْقَلْبِ، وَالْمُلْحَقُ بِهِ الصَّوْمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ خَالِصَةٌ فِيهَا تَطْوِيعُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ لِخِدْمَةِ خَالِقِهَا، لَا مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ وَزَوَائِدُهَا مِثْلُ الِاعْتِكَافِ الْمُؤَدِّي إلَى تَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ، وَتَكْثِيرِ الصَّلَاةِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِالِانْتِظَارِ عَلَى شَرِيطَةِ الِاسْتِعْدَادِ. (قَوْلُهُ وَعِبَادَةٌ فِيهَا مُؤْنَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ) ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ جِهَةَ الْمُؤْنَةِ فِيهَا هِيَ وُجُوبُهَا عَلَى الْإِنْسَانِ بِسَبَبِ رَأْسِ الْغَيْرِ كَالنَّفَقَةِ،

فِيهِ، وَالثَّانِي غَالِبٌ أَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ فَثَمَانِيَةُ عِبَادَاتٍ خَالِصَةٍ كَالْإِيمَانِ، وَفُرُوعِهِ، وَكُلِّ مُشْتَمِلٍ عَلَى الْأَصْلِ، وَالْمُلْحَقِ بِهِ، وَالزَّوَائِدِ فَالْإِيمَانُ أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ، وَالْإِقْرَارُ مُلْحَقٌ بِهِ حَتَّى إنَّ مَنْ تَرَكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ النَّاسِ، وَهَذَا عِنْدَ بَعْضِ عُلَمَائِنَا أَمَّا عِنْدَ الْبَعْضِ فَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي حَقِّهَا) أَيْ الْإِقْرَارُ أَصْلٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ (اتِّفَاقًا حَتَّى صَحَّ إيمَانُ الْمَكْرُوهِ فِي حَقِّ الدُّنْيَا، وَلَا يَصِحُّ رِدَّتُهُ لِأَنَّ الْأَدَاءَ دَلِيلٌ مَحْضٌ لَا رُكْنٌ، وَزَوَائِدُ الْإِيمَانِ الْأَعْمَالُ، وَعِبَادَةٌ فِيهَا مُؤْنَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ، وَمُؤْنَةٌ فِيهَا عُقُوبَةٌ كَالْخَرَاجِ فَلَا يُبْتَدَأُ عَلَى الْمُسْلِمِ لَكِنَّهُ يَبْقَى لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ الْخَرَاجَ (لَمَّا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ) أَيْ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْمُؤْنَةِ (لَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْأَوَّلَ) ، وَهُوَ الْمُؤْنَةُ (غَالِبٌ) عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّهُ مُؤْنَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْأَرْضُ عُقُوبَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQوَجِهَاتُ الْعِبَادَةِ كَثِيرَةٌ مِثْلُ تَسْمِيَتِهَا صَدَقَةً وَكَوْنِهَا طُهْرَةً لِلصَّائِمِ، وَاشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي أَدَائِهَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَمَارَاتِ الْعِبَادَةِ وَلِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ لَمْ يُشْتَرَطْ لَهَا كَمَالُ الْأَهْلِيَّةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعِبَادَاتِ الْخَالِصَةِ فَوَجَبَتْ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ اعْتِبَارًا لِجَانِبِ الْمُؤْنَةِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ جَانِبَ الْعِبَادَةِ لِكَوْنِهَا أَرْجَحَ. (قَوْلُهُ وَمُؤْنَةٌ فِيهَا عُقُوبَةٌ) لَمَّا كَانَتْ الْمُؤْنَةُ فِي الْعُشْرِ، وَالْخَرَاجُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَهُوَ الْأَرْضُ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ فِي بَحْثِ السَّبَبِ، وَالْعِبَادَةُ وَالْعُقُوبَةُ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ، وَهُوَ النَّمَاءُ فِي الْعُشْرِ وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ فِي الْخَرَاجِ سُمِّيَا مُؤْنَةً فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ وَلَمَّا كَانَ فِي الْخَرَاجِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، وَالذُّلِّ، وَالْمُسْلِمُ أَهْلٌ لِلْكَرَامَةِ، وَالْعِزِّ لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءُ الْخَرَاجِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ طَوْعًا أَوْ قُسِمَتْ الْأَرَاضِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِحَّ وَضْعُ الْخَرَاجِ عَلَيْهِمْ لَكِنْ صَحَّ إبْقَاءُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى مُسْلِمٌ مِنْ كَافِرٍ أَرَضَ خَرَاجٍ كَانَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لَا الْعُشْرُ لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَمَّا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ الْغَيْرِ اللَّائِقَةِ بِالْمُسْلِمِ وَالْمُؤْنَةِ اللَّائِقَةِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ إبْطَالُهُ بِالشَّكِّ، وَلِأَنَّ جِهَةَ الْمُؤْنَةِ رَاجِحَةٌ فِيهِ لِكَوْنِهَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ أَعْنِي الْأَرْضَ، وَالْمُؤْمِنُ مِنْ أَهْلِ الْمُؤْنَةِ فَيَصِحُّ بَقَاءً، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءً، وَلَمَّا كَانَ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءً عَلَى الْكَافِرِ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي الْقُرْبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلِأَنَّ فِي الْعُشْرِ ضَرْبَ كَرَامَةٍ، وَالْكُفْرُ مَانِعٌ عَنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْخَرَاجِ كَمَا أَنَّ فِي الْخَرَاجِ ضَرْبَ إهَانَةٍ وَالْإِسْلَامُ مَانِعٌ عَنْهُ مَعَ إمْكَانِ الْعُشْرِ، وَأَمَّا بَقَاءً كَمَا إذَا مَلَكَ ذِمِّيٌّ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَبْقَى عَلَى الْعُشْرِ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ، وَالْكَافِرُ أَهْلٌ لِلْمُؤْنَةِ، وَمَعْنَى الْقُرْبَةِ تَابِعٌ فَيَسْقُطُ فِي حَقِّهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُضَاعَفُ الْعُشْرُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مُنَافٍ لِلْقُرْبَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِ الْعُشْرِ، وَالتَّضْعِيفُ تَغْيِيرٌ لِلْوَصْفِ فَقَطْ فَيَكُونُ أَسْهَلَ مِنْ إبْطَالِ الْعُشْرِ

بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ (وَمُؤْنَةٌ فِيهَا عِبَادَةٌ كَالْعُشْرِ فَلَا يُبْتَدَأُ عَلَى الْكَافِرِ لَكِنْ يَبْقَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَالْخَرَاجِ عَلَى السَّلَمِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُضَاعَفُ؛ لِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي الْعُشْرِ (مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَالْكُفْرُ يُنَافِيهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُضَاعَفُ) أَيْ الْعُشْرُ (إذْ هِيَ) أَيْ الْمُضَاعَفَةُ (أَسْهَلُ مِنْ الْإِبْطَالِ أَصْلًا) اعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَاسَ إبْقَاءَ الْعُشْرِ عَلَى الْكَافِرِ عَلَى إبْقَاءِ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْكُفْرُ يُنَافِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَيَجِبُ تَغْيِيرُ الْعُشْرِ أَمَّا الْخَرَاجُ فَإِنَّ فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ، وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي الْعُقُوبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَبْقَى الْخَرَاجُ عَلَى الْمُسْلِمِ قَوْلُهُ فَيُضَاعَفُ كَلِمَةُ التَّعْقِيبِ، وَهِيَ الْفَاءُ تَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ، وَالْكُفْرُ يُنَافِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَغْيِيرِ الْعُشْرِ، وَالْمُضَاعَفَةُ أَسْهَلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَوُضِعَ الْخَرَاجُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الْأَصْلِ، وَالْوَصْفِ جَمِيعًا، وَالتَّضْعِيفُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ كَصَدَقَاتِ بَنِي تَغْلِبَ، وَمَا يَمُرُّ بِهِ الذِّمِّيُّ عَلَى الْعَاشِرِ لَا يُقَالُ فِيهِ تَضْعِيفٌ لِلْقُرْبَةِ، وَالْكُفْرُ يُنَافِيهَا لِأَنَّا نَقُولُ: بَعْدَ التَّضْعِيفِ صَارَ فِي حُكْمِ الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ مِنْ خَوَاصِّ الْكَفَّارَةِ، وَخَلَا عَنْ وَصْفِ الْقُرْبَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْقَلِبُ الْعُشْرُ خَرَاجًا لِأَنَّ الْعُشْرَ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا بِوَصْفِ الْقُرْبَةِ، وَالْكُفْرُ يُنَافِيهِ فَيَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ، وَالتَّضْعِيفُ أَمْرٌ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فِي قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْجِزْيَةِ أَوْ الْخَرَاجِ عَلَيْهِمْ خَوْفًا مِنْ الْفِتْنَةِ لِكَثْرَتِهِمْ، وَقُرْبِهِمْ مِنْ الرُّومِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ مَا هُوَ أَصْلٌ فِي الْكَافِرِ، وَهُوَ الْخَرَاجُ. (قَوْلُهُ: وَحَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ) أَيْ ثَابِتٌ بِذَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِذِمَّةِ عَبْدٍ يُؤَدِّيهِ بِطَرِيقِ الطَّاعَةِ كَخُمْسِ الْغَنَائِمِ وَالْمَعَادِنِ فَإِنَّ الْجِهَادَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إعْزَازًا لِدِينِهِ، وَإِعْلَاءً لِكَلِمَتِهِ فَالْمُصَابُ بِهِ كُلُّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسٍ لِلْغَانِمِينَ امْتِنَانًا وَاسْتَبْقَى الْخُمْسَ حَقًّا لَهُ لَا حَقًّا لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ طَاعَةً، وَكَذَا الْمَعَادِنُ، وَلِهَذَا جَازَ صَرْفُ خُمْسِ الْمَغْنَمِ إلَى الْغَانِمِينَ، وَإِلَى آبَائِهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ وَخُمْسِ الْمَعْدِنِ إلَى الْوَاجِدِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. (قَوْلُهُ: وَقَاصِرَةٌ كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ) فَإِنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَا نَفْعَ فِيهِ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ إنَّهُ عُقُوبَةٌ لِلْقَاتِلِ لِكَوْنِهِ غُرْمًا لَحِقَهُ بِجِنَايَتِهِ حَيْثُ حُرِّمَ مَعَ عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَهِيَ الْقُرَابَةُ لَكِنَّهَا قَاصِرَةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْقَائِلَ لَمْ يَلْحَقْهُ أَلَمٌ فِي بَدَنِهِ وَلَا نُقْصَانٌ فِي مَالِهِ بَلْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ مِلْكِهِ فِي تَرِكَةِ الْمَقْتُولِ، وَلَمَّا كَانَ الْحِرْمَانُ عُقُوبَةً، وَجَزَاءً لِلْقَتْلِ أَيْ لِمُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ نَفْسِهِ بِأَنْ يَتَّصِلَ فِعْلُهُ بِالْمَقْتُولِ، وَيَحْصُلُ أَثَرُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّارِعَ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَى الْفِعْلِ حَيْثُ قَالَ: لَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ إذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً لِأَنَّ فِعْلَهُ لَا يُوصَفُ بِالْحَظْرِ، وَالتَّقْصِيرِ لِعَدَمِ الْخِطَابِ، وَالْجَزَاءُ يَسْتَدْعِي ارْتِكَابَ مَحْظُورٍ، وَلَا فِي الْقَتْلِ بِالسَّبَبِ بِأَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي غَيْرِ

مِنْ الْإِبْطَالِ فَيُضَاعَفُ إذْ هِيَ فِي حَقِّهِ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَنْقَلِبُ خَرَاجًا إذْ التَّضْعِيفُ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مَعَ إمْكَانِ الْأَصْلِ) ، وَهُوَ الْخَرَاجُ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الطَّائِفَةَ كُفَّارٌ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفَّارِ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَلَا يَكُونُونَ فِي حُكْمِهِمْ (وَحَقٌّ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ) أَيْ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ (كَخُمْسِ الْغَنَائِمِ، وَالْمَعَادِنِ، وَعُقُوبَاتٌ كَامِلَةٌ كَالْحُدُودِ، وَقَاصِرَةٌ كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ وَالْبَالِغُ الْخَاطِئُ مُقَصِّرٌ فَلَزِمَهُ الْجَزَاءُ الْقَاصِرُ وَلَا فِي الْقَتْلِ بِسَبَبٍ) أَيْ لَا يَثْبُتُ حِرْمَانُ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِلْكِهِ فَوَقَعَ فِيهَا مُوَرِّثُهُ، وَهَلَكَ أَوْ شَهِدَ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِالْقَتْلِ فَقُتِلَ ثُمَّ رَجَعَ هُوَ عَنْ شَهَادَتِهِ فَإِنَّ السَّبَبَ لَيْسَ بِقَتْلٍ حَقِيقَةً، وَإِطْلَاقُ السَّبَبِ عَلَى الْحَفْرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي مَعْنَى السَّبَبِ أَيْ الْعِلَّةِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَ الْحِرْمَانُ بِدُونِ التَّقْصِيرِ كَمَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ خَطَأً فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَالِغَ الْخَاطِئَ يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الْخِطَابِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ حُكْمَ الْخَطَأِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تَفَضُّلًا مِنْهُ، وَلَمْ يَرْفَعْهُ فِي الْقَتْلِ لِعِظَمِ خَطَرِ الدَّمِ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّهَا) أَيْ الْكَفَّارَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ضَمَانُ الْمُتْلَفِ، وَلَا فَرْقَ فِي التَّلَفِ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ، وَالتَّسَبُّبِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ لَا يَصِحُّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ خُسْرَانٌ مُحْتَاجٌ إلَى جَبْرِهِ بَلْ الضَّمَانُ فِي حُقُوقِهِ جَزَاءٌ لِلْفِعْلِ قَتْلُ الْمُرَادِ بِالْمُتْلَفِ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ لِصَاحِبِ الشَّرْعِ الْفَائِتِ بِفِعْلٍ يُضَادُّهُ كَالِاسْتِعْبَادِ الْفَائِتِ بِالْقَتْلِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُتْلَفِ هُوَ الْمَحَلُّ أَمَّا فِي الْقَتْلِ فَلِأَنَّ ضَمَانَهُ الدِّيَةُ أَوْ الْقِصَاصُ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَظَاهِرٌ. (قَوْلُهُ: وَهِيَ) أَيْ الْعِبَادَةُ غَالِبَةٌ فِي الْكَفَّارَاتِ لِأَنَّهَا صَوْمٌ أَوْ إعْتَاقٌ أَوْ صَدَقَةٌ يُؤْمَرُ بِهَا بِطَرِيقِ الْفَتْوَى دُونَ الْجَبْرِ، وَاسْتَثْنَى الْقَوْمُ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ فَإِنَّ جِهَةَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ مُتَمَسِّكِينَ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» فَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا التَّشْبِيهَ بِكَفَّارَةِ الظِّهَارِ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ جِهَةِ الْعُقُوبَةِ غَالِبَةً لَزِمَ أَنْ تَكُونَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ أَيْضًا كَذَلِكَ ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ الظِّهَارَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَتَكُونُ جِهَةُ الْجِنَايَةِ غَالِبَةً فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ فِي جَزَائِهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ غَالِبَةً، وَهَذَا فَاسِدٌ نَقْلًا وَحُكْمًا وَاسْتِدْلَالًا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ السَّلَفَ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ جِهَةَ الْعِبَادَةِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ غَالِبَةٌ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مِنْ حُكْمِ مَا تَكُونُ الْعُقُوبَةُ فِيهِ غَالِبَةٌ أَنْ يَسْقُطَ، وَيَتَدَاخَلَ كَكَفَّارَةِ الصَّوْمِ حَتَّى لَوْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مِرَارًا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكَذَا فِي رَمَضَانَيْنِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ، وَلَا تَدْخُلُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ حَتَّى لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ لَزِمَهُ بِكُلِّ إظْهَارٍ كَفَّارَةٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الظِّهَارِ مُنْكَرَ الْقَوْلِ وَزُورًا

الْمِيرَاثِ فِي الْقَتْلِ بِسَبَبٍ كَحَفْرِ الْبِئْرِ، وَنَحْوِهِ. (وَالشَّاهِدُ إذَا رَجَعَ) أَيْ شَهِدَ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِالْقَتْلِ فَقُتِلَ ثُمَّ رَجَعَ هُوَ عَنْ شَهَادَتِهِ لَمْ يُحْرَمْ مِيرَاثَهُ (لِأَنَّهُ) أَيْ حِرْمَانَ الْإِرْثِ (جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ، وَحُقُوقٌ دَائِرَةٌ بَيْنَ الْعِبَادَةِ، وَالْعُقُوبَةُ كَالْكَفَّارَاتِ فَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَبِّبِ) كَحَافِرِ الْبِئْرِ (لِأَنَّهَا) أَيْ الْكَفَّارَاتِ (جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَالصَّبِيِّ) أَيْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَاتُ عَلَى الصَّبِيِّ (لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِمَا) أَيْ فِي السَّبَبِ وَالصَّبِيِّ (لِأَنَّهَا عِنْدَهُ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا الْكَافِرِ) أَيْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَاتُ عَلَى الْكَافِرِ (لِوَصْفِ الْعِبَادَةِ، وَهِيَ) أَيْ الْعِبَادَةُ (فِيهَا غَالِبَةٌ) أَيْ فِي الْكَفَّارَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQإنَّمَا يَصْلُحُ جِهَةً لِكَوْنِهِ جِنَايَةً عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَصْلِ لِلطَّلَاقِ، وَيَحْتَمِلُ التَّشْبِيهَ لِلْكَرَامَةِ، وَلِهَذَا يَدْخُلُ قُصُورٌ فِي الْجِنَايَةِ فَيَصْلُحُ لِإِيجَابِ الْحُقُوقِ الدَّائِرَةِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ جَزَاؤُهُ عُقُوبَةً مَحْضَةً وَأَيْضًا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الظِّهَارُ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ مَحْضَةٌ، وَالْعَوْدُ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَقْضٌ لِلْقَوْلِ الزُّورِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ الْعَوْدَ عَلَى الظِّهَارِ ثُمَّ رَتَّبَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ جُوِّزَ أَدَاؤُهَا قَبْلَ الْعَوْدِ لِأَنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ إنْهَاءً لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالظِّهَارِ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْفِعْلِ لِتَنْتَهِيَ الْحُرْمَةُ بِهَا فَيَقَعَ الْفِعْلُ بِصِفَةِ الْحِلِّ، وَذَكَرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْمَعْنِيَّةِ أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ فِي جَعْلِ الْمَعْصِيَةِ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ الَّتِي حُكْمُهَا تَكْفِيرُ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذْهَابُ السَّيِّئَةِ خُصُوصًا إذَا صَارَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيهَا مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ أَنْ تُجْعَلَ سَبَبًا لِلْعِبَادَةِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْجَنَّةِ لِأَنَّهَا مَعَ حُكْمِهَا الَّذِي هُوَ الثَّوَابُ الْمُوصِلُ إلَى الْجَنَّةِ تَصِيرُ مِنْ أَحْكَامِ الْمَعْصِيَةِ فَتَصِيرُ الْمَعْصِيَةُ بِوَاسِطَةِ حُكْمِهَا سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى الْجَنَّةِ، وَهُوَ مُحَالٌ، وَذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ، وَغَيْرِهَا أَنَّ دَاعِيَةَ الْجِنَايَةِ عَلَى الصَّوْمِ لَمَّا كَانَتْ قَوِيَّةً بِاعْتِبَارِ أَنَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ أَمْرٌ مُعَوَّدٌ لِلنَّفْسِ اُحْتِيجَ فِيهَا إلَى زَاجِرٍ فَوْقَ مَا فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ فَصَارَ الزَّجْرُ فِيهَا أَصْلًا، وَالْعِبَادَةُ تَبَعًا فَإِنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْإِفْطَارِ طَلَبًا لِلرَّاحَةِ فَتَأَمَّلَ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ انْزَجَرَ لَا مَحَالَةَ وَفِي بَاقِي الْكَفَّارَاتِ بِالْعَكْسِ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلزَّجْرِ عَنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، وَأَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ شُرِعَتْ فِيمَا يُنْدَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَا تَعَلَّقَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالْعِلَلِ، وَهُوَ الْعَوْدُ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ شُرِعَتْ فِيمَا يَجِبُ تَحْصِيلُ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْكَفَّارَةُ تَعَلُّقَ الْأَحْكَامِ بِالشُّرُوطِ كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ أَبَاهُ، وَشُرِعَ الزَّاجِرُ فِيمَا يُنْدَبُ أَوْ يَجِبُ تَحْصِيلُهُ لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا كَفَّارَةُ الْفِطْرِ) يَعْنِي أَنَّ الْعُقُوبَةَ غَالِبَةٌ فِيهِ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» فَعَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ كَوْنِ الْعُقُوبَةِ غَالِبَةً فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ فَقِيلَ: وَجْهُهُ أَنَّهُ قَيَّدَ الْإِفْطَارَ بِصِفَةِ التَّعَمُّدِ الَّذِي بِهِ

(إلَّا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ) فَإِنَّ وَصْفَ الْعُقُوبَةِ فِيهَا غَالِبَةٌ (لِأَنَّهُ) أَيْ الظِّهَارَ (مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَكَذَا كَفَّارَةُ الْفِطْرِ) أَيْ وَصْفُ الْعُقُوبَةِ غَالِبَةٌ فِيهَا (لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُظَاهِرِ» ) ، وَلِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْخَاطِئِ، وَلِأَنَّ الْإِفْطَارَ عَمْدًا لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ ثُمَّ وَرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ الْإِفْطَارَ عَمْدًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ عُقُوبَةً مَحْضَةً فَلِدَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ: (لَكِنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ حَقًّا لَيْسَ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ مَا دَامَ فِيهِ) فَلَا يَكُونُ الْإِفْطَارُ إبْطَالَ حَقٍّ ثَابِتٍ بَلْ هُوَ مَنْعٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَأَوْجَبْنَا الزَّاجِرَ بِالْوَصْفَيْنِ أَيْ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ (وَهِيَ) أَيْ الْكَفَّارَةُ (عُقُوبَةٌ وُجُوبًا، وَعِبَادَةٌ أَدَاءً وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الشَّرْعِ مَا هَذَا شَأْنُهُ) أَيْ مَا يَكُونُ عُقُوبَةً وُجُوبًا ـــــــــــــــــــــــــــــQتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهِ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى غَلَبَةِ الْعُقُوبَةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَمَالِ الْجِنَايَةِ. الثَّانِي الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ خَطَأً بِأَنْ سَبَقَ الْمَاءُ حَلْقَهُ فِي الْمَضْمَضَةِ فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي سَبَبِهَا كَمَالُ الْجِنَايَةِ لَمَا سَقَطَتْ بِالْخَطَأِ كَكَفَّارَةِ الْخَطَأِ، وَفِي كَمَالِ الْجِنَايَةِ كَمَالُ الْعُقُوبَةِ. الثَّالِثُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِفْطَارِ عَمْدًا شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِنَايَتَهُ كَامِلَةً حَتَّى كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَفَّارَتُهُ عُقُوبَةً مَحْضَةً إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَنْعًا عَنْ تَسْلِيمِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ لَا إبْطَالًا لِلْحَقِّ الثَّابِتِ إذْ لَا تُتَصَوَّرُ الْجِنَايَةُ بِالْإِفْطَارِ بَعْدَ التَّمَامِ تَحَقَّقَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قُصُورُ مَا فِي الْجِنَايَةِ فَلَمْ يُجْعَلْ الزَّاجِرُ عُقُوبَةً مَحْضَةً، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ مُتَقَارِبَةٌ جِدًّا. (قَوْلُهُ: وَهِيَ: أَيْ الْكَفَّارَاتُ عُقُوبَةٌ وُجُوبًا) بِمَعْنَى أَنَّهَا وَجَبَتْ أَجِزْيَةً لِأَفْعَالٍ يُوجَدُ فِيهَا مَعْنَى الْخَطَرِ كَالْعُقُوبَاتِ، وَعِبَادَةِ أَدَاءً بِمَعْنَى أَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ، وَالْإِعْتَاقِ، وَالصَّدَقَةِ، وَهِيَ قُرَبٌ، وَتُؤَدَّى بِطَرِيقِ الْفَتْوَى كَالْعِبَادَاتِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ كَالْعُقُوبَاتِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مِمَّا أَوْرَدَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ خَاصَّةً يَعْنِي أَنَّهَا وَجَبَتْ قَصْدًا إلَى الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْعُقُوبَةَ فِيهَا تَبَعٌ إذْ لَا مَعْنَى لِلزَّجْرِ عَنْ الْقَتْلِ الْخَطَأِ مَثَلًا، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. (قَوْلُهُ كَإِقَامَةِ الْحُدُودِ) فَإِنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةٌ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ، وَيُؤَدِّيهَا الْإِمَامُ عِبَادَةً لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِقَامَتِهَا، وَأَمَّا عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَجِبَ الشَّيْءُ عِبَادَةً، وَقُرْبَةً، وَيَكُونَ أَدَاؤُهُ عُقُوبَةً لِلْمُكَلَّفِ، وَزَجْرًا فَلَا يُوجَدُ فِي الشَّرْعِ بَلْ لَا يُتَصَوَّرُ. (قَوْلُهُ فَتَسْقُطُ) هَذِهِ تَفْرِيعَاتٌ عَلَى أَنَّ الْعُقُوبَةَ غَالِبَةٌ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ إلَّا أَنَّ تَوَسُّطَ قَوْلِهِ وَهِيَ عُقُوبَةٌ وُجُوبًا عِبَادَةٌ أَدَاءً مُخْرِجٌ لِلنَّظْمِ عَنْ نِظَامِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ، وَهِيَ عُقُوبَةٌ لِلْكَفَّارَاتِ لَكِنَّا نَجْعَلُهُ لِكَفَّارَةِ الْفِطْرِ فَيَحْسُنُ النَّظْمُ وَيَسْتَقِيمُ الْمَعْنَى لِلتَّفْرِيعِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ كَفَّارَةُ الْفِطْرِ تَسْقُطُ بِشُبْهَةٍ تُورِثُ جِهَةَ إبَاحَةٍ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ

وَعِبَادَةً أَدَاءً (كَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَلَمْ نَجِدْ عَلَى الْعَكْسِ أَيْ لَمْ نَجِدْ فِي الشَّرْعِ مَا هُوَ عُقُوبَةٌ أَدَاءً، وَعِبَادَةٌ وُجُوبًا) ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا جَوَابًا لِمَنْ يَقُولُ لِمَ يُعْكَسُ (حَتَّى تَسْقُطَ بِالشُّبْهَةِ كَالْحُدُودِ) تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ كَفَّارَةَ الْفِطْرِ عُقُوبَةٌ (وَبِشُبْهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمُنْفَرِدِ) أَيْ الْمُنْفَرِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ إذَا رَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ وَقَضَى أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ شَعْبَانَ فَأَفْطَرَ بِالْوِقَاعِ عَامِدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (فَتَسْقُطُ إذَا أَفْطَرَتْ ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ مَرِضَتْ، وَكَذَا إذَا أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى وَمَا اجْتَمَعَا فِيهِ، وَالْأَوَّلُ غَالِبُ حَدِّ الْقَذْفِ، وَمَا اجْتَمَعَا فِيهِ، وَالثَّانِي غَالِبُ الْقِصَاصِ، وَأَمَّا قَاطِعُ الطَّرِيقِ فَخَالِصُ حَقِّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْجِنَايَةِ كَمَا إذَا جَامَعَ عَلَى ظَنِّ عَدَمِ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَقَدْ بَانَ خِلَافُهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ بَيْنَ مَحَلٍّ وَمَحَلٍّ، وَأَمَّا جِمَاعُ زَوْجَتِهِ أَوْ أَكْلُ طَعَامِهِ فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي إبَاحَةِ الْإِفْطَارِ كَمَنْ قُتِلَ بِسَيْفِهِ أَوْ شُرِبَ خَمْرُهُ. الثَّانِي أَنَّهَا تَسْقُطُ بِشُبْهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي كَمَا إذَا رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَحْدَهُ فَشَهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي فَرَدَّ شَهَادَتَهُ لِتَفَرُّدِهِ أَوْ لِفِسْقِهِ فَصَامَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ» ثُمَّ أَفْطَرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَلَوْ بِالْجِمَاعِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هَاهُنَا نَافِذٌ ظَاهِرًا فَيُورِثُ شُبْهَةَ حِلِّ الْإِفْطَارِ إذْ لَوْ كَانَ نَافِذًا ظَاهِرًا، وَبَاطِنًا لَأَوْرَثَ حَقِيقَةَ الْحِلِّ، وَزَعْمُهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَرُدُّ شَهَادَتَهُ خَطَأً لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ شُبْهَةً كَمَا إذَا شَهِدُوا بِالْقِصَاصِ عَلَى رَجُلٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ فَقَتَلَهُ الْوَلِيُّ، وَهُوَ عَالِمٌ بِكَذِبِ الشُّهُودِ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ، وَجَهْلُ الْغَيْرِ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ كَمَا إذَا شَرِبَ جَمَاعَةٌ عَلَى مَائِدَةٍ، وَعَلِمَ بِهِ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ. الثَّالِثُ أَنَّ الْمَرْأَةَ أَفْطَرَتْ عَمْدًا حَتَّى لَزِمَهَا الْكَفَّارَةُ ثُمَّ حَاضَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ مَرِضَتْ سَقَطَتْ عَنْهَا الْكَفَّارَةُ، وَكَذَا الرَّجُلُ إذَا أَفْطَرَ ثُمَّ مَرِضَ أَمَّا الْحَيْضُ فَلِأَنَّهُ يُعْدِمُ الصَّوْمَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَأَمَّا الْمَرَضُ فَلِأَنَّهُ يُزِيلُ اسْتِحْقَاقَ الصَّوْمِ فَيَتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ أَوْ اسْتِحْقَاقَهُ فَيَكُونُ شُبْهَةً. الرَّابِعُ أَنَّهُ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْإِفْطَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنَّ السَّفَرَ الْمُبِيحَ فِي نَفْسِهِ يُورِثُ شُبْهَةً، وَأَمَّا إذَا أَنَشَأَ السَّفَرَ بَعْدَ الْإِفْطَارِ فَلَا تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ اخْتِيَارًا بِخِلَافِ الْحَيْضِ أَوْ الْمَرَضِ فَإِنَّهُ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ. قَوْلُهُ (وَمَا اجْتَمَعَا) أَيْ وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى غَالِبٌ حَدَّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ زَاجِرٌ يَعُودُ نَفْعُهُ إلَى عَامَّةِ الْعِبَادِ، وَفِيهِ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ، وَلِغَلَبَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَجْرِي فِيهِ التَّدَاخُلُ حَتَّى لَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، وَلَا يَجْرِي فِيهِ الْإِرْثُ، وَلَا يَسْقُطُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ، وَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ، وَيُفَوَّضُ

اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَنْقَسِمُ إلَى أَصْلٍ، وَخَلَفٍ فَفِي الْإِيمَانِ أَصْلُهُ التَّصْدِيقُ، وَالْإِقْرَارُ ثُمَّ صَارَ خَلَفًا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا) أَيْ صَارَ الْإِقْرَارُ الْمُجَرَّدُ قَائِمًا مَقَامَ الْأَصْلِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا (ثُمَّ صَارَ أَدَاءً أَحَدِ أَبَوِيِّ الصَّغِيرِ خَلَفًا عَنْ أَدَائِهِ حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ التَّبَعِيَّةُ إذَا وُجِدَ أَدَاؤُهُ) أَيْ لَمَّا كَانَ أَدَاؤُهُ أَصْلًا، وَأَدَاءُ الْأَبَوَيْنِ خَلَفًا فَإِذَا وُجِدَ الْأَصْلُ، وَهُوَ أَدَاءُ الصَّغِيرِ الْعَاقِلِ لَا تُعْتَبَرُ التَّبَعِيَّةُ فَيُحْكَمُ بِإِيمَانِهِ أَصَالَةً لَا بِكُفْرِهِ تَبَعِيَّةً (ثُمَّ تَبَعِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ، وَالْغَانِمِينَ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ أَحَدِهِمَا إذَا عَدِمَا) أَيْ إذَا عَدِمَ الْأَبَوَانِ (، وَكَذَا الطَّهَارَةُ وَالتَّيَمُّمُ لَكِنَّهُ) أَيْ التَّيَمُّمَ (خَلَفٌ مُطْلَقٌ عِنْدَنَا بِالنَّصِّ أَيْ إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ) يَكُونُ التَّيَمُّمُ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ مُطْلَقًا فَيَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ كَمَا يَجُوزُ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ (وَعِنْدَهُ خَلَفٌ ضَرُورِيٌّ) أَيْ ـــــــــــــــــــــــــــــQاسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْإِمَامِ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبٌ الْقِصَاصَ فَإِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي نَفْسِ الْعَبْدِ حَقَّ الِاسْتِعْبَادِ، وَلِلْعَبْدِ حَقَّ الِاسْتِمْتَاعِ فَفِي شَرْعِيَّةِ الْقِصَاصِ إبْقَاءٌ لِلْحَقَّيْنِ وَإِخْلَاءٌ لِلْعَالِمِ عَنْ الْفَسَادِ إلَّا أَنَّ وُجُوبَهُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْمُنْبِئَةِ عَنْ مَعْنَى الْجَبْرِ وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمَحَلِّ فَكَانَ حَقُّ الْعَبْدِ رَاجِحًا، وَلِهَذَا فُوِّضَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْوَلِيِّ، وَجَرَى فِيهِ الِاعْتِيَاضُ بِالْمَالِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا حَدُّ قَاطِعِ الطَّرِيقِ فَخَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى) قَطْعًا كَانَ أَوْ قَتْلًا لِأَنَّ سَبَبَهُ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى جَزَاءً، وَالْجَزَاءُ الْمُطْلَقُ بِمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إذَا كَانَ الْحَدُّ قَتْلًا فَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ حَدٌّ يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ دُونَ الْوَلِيِّ، وَلَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقِصَاصِ حَيْثُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْقَتْلِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ تَبَعِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ) أَيْ بَعْدَ مَا صَارَ أَدَاءُ أَحَدِ أَبَوَيْ الصَّغِيرِ خَلَفًا عَلَى أَدَائِهِ صَارَ تَبَعِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ أَحَدِهِمَا أَيْ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ إذَا لَمْ يُوجَدْ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ تَبَعِيَّةُ أَهْلِ الدَّارِ صَارَتْ تَبَعِيَّةُ الْغَانِمِينَ خَلَفًا مَثَلًا إذَا سُبِيَ صَبِيٌّ فَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ بِنَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ عَاقِلًا فَهُوَ الْأَصْلُ وَإِلَّا فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَهُوَ تَبَعٌ لَهُ وَإِلَّا فَإِنْ أُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُسْلِمٌ بِتَبَعِيَّةِ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بَلْ قُسِمَ أَوْ بِيعَ مِنْ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ تَبَعٌ لِمَنْ سَبَاهُ فِي الْإِسْلَامِ فَلَوْ مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ التَّحْقِيقُ أَنَّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبَوَيْنِ لَيْسَتْ التَّبَعِيَّةُ خَلَفًا عَنْ أَدَاءِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ بَلْ عَنْ أَدَاءِ الصَّبِيِّ نَفْسِهِ كَابْنِ الْمَيِّتِ خَلَفٌ عَنْهُ فِي الْمِيرَاثِ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَكُونُ ابْنُ الِابْنِ خَلَفًا عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ ابْنِهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ لِلْخَلَفِ خَلَفٌ فَيَكُونَ الشَّيْءُ خَلَفًا وَأَصْلًا، وَقَدْ يُقَالُ: لَا امْتِنَاعَ فِي كَوْنِ الشَّيْءِ أَصْلًا مِنْ وَجْهٍ وَخَلَفًا مِنْ وَجْهٍ. (قَوْلُهُ: لَكِنَّهُ أَيْ التَّيَمُّمُ خَلَفٌ مُطْلَقٌ) يَرْتَفِعُ بِهِ الْحَدَثُ إلَى غَايَةِ وُجُودِ الْمَاءِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] نَقَلَ الْحُكْمَ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ إلَى التَّيَمُّمِ مُطْلَقًا عِنْدَ

التَّيَمُّمُ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عِنْدَ الْعَجْزِ بِقَدْرِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ (حَتَّى لَمْ يَجُزْ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ وَقَالَ) أَيْ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لَمْ يَجُزْ (فِي إنَاءَيْنِ نَجِسٍ وَطَاهِرٍ يَتَحَرَّى وَلَا يَتَيَمَّمُ) فَيَتَوَضَّأُ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ، وَلَا يَتَيَمَّمُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ خَلَفٌ ضَرُورِيٌّ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا (وَعِنْدَنَا يَتَيَمَّمُ إذَا ثَبَتَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ) أَيْ بَيْنَ النَّجِسِ، وَالطَّاهِرِ، وَلَا احْتِيَاجَ إلَى الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ خَلَفٌ مُطْلَقٌ لَا ضَرُورِيٌّ. (ثُمَّ عِنْدَنَا التُّرَابُ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ) فَبَعْدَ حُصُولِ الطَّهَارَةِ كَانَ شَرْطُ الصَّلَاةِ مَوْجُودًا فِي كُلِّ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ (فَيَجُوزُ إمَامَةُ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِ) كَإِمَامَةِ الْمَاسِحِ لِلْغَاسِلِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQإرَادَةِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَاءِ فِي تَأْدِيَةِ الْفَرَائِضِ بِهِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ جَعَلَ التُّرَابَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فَحُكْمُ الْأَصْلِ إفَادَةُ الطَّهَارَةِ وَإِزَالَةُ الْحَدَثِ فَكَذَا حُكْمُ الْخَلَفِ إذْ لَوْ كَانَ لَهُ حُكْمٌ بِرَأْسِهِ لَمَا كَانَ خَلَفًا بَلْ أَصْلًا، وَإِنْ جَعَلَ التَّيَمُّمَ خَلَفًا عَنْ التَّوَضُّؤِ فَحُكْمُ التَّوَضُّؤِ إبَاحَةُ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ بِوَاسِطَةِ رَفْعِ الْحَدَثِ بِطَهَارَةٍ حَصَلَتْ بِهِ لَا مَعَ الْحَدَثِ فَكَذَا التَّيَمُّمُ إذْ لَوْ كَانَ خَلَفًا فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ مَعَ الْحَدَثِ لَكَانَ لَهُ حُكْمٌ بِرَأْسِهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ فَلَمْ يَكُنْ خَلَفًا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ خَلَفٌ ضَرُورِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ خَلَفِيَّتُهُ ضَرُورَةَ الْحَاجَةِ إلَى إسْقَاطِ الْفَرْضِ عَنْ الذِّمَّةِ مَعَ قِيَامِ الْحَدَثِ كَطَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ حَتَّى لَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْوَقْتِ، وَلَا أَدَاءُ فَرْضَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ أَمَّا قَبْلَ الْوَقْتِ فَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَبِنْ، وَأَمَّا بَعْدَ أَدَاءِ فَرْضٍ وَاحِدٍ فَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ انْعَدَمَتْ، وَحَتَّى قَالَ فِيمَنْ لَهُ إنَاءَانِ مِنْ الْمَاءِ أَحَدُهُمَا طَاهِرٌ وَالْآخَرُ نَجِسٌ، وَقَدْ اشْتَبَهَا عَلَيْهِ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّي، وَالِاجْتِهَادُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ إذْ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِدَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ فِي الشَّرْعِ، وَهُوَ التَّحَرِّي فَلَا ضَرُورَةَ حِينَئِذٍ، وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ التَّحَرِّي لِأَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ مُطْلَقٌ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ بِالتَّعَارُضِ الْمُوجِبِ لِلتَّسَاقُطِ حَتَّى كَانَ الْإِنَاءَانِ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ التَّحَرِّي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا هُوَ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَاءٌ آخَرُ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ، وَأَمَّا إذَا وُجِدَ فَالتَّحَرِّي جَائِزٌ فَلِهَذَا عَدَلَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ قَيَّدَ جَوَازَ التَّحَرِّي فِي مَسْأَلَةِ الْإِنَاءَيْنِ بِحَالَةِ السَّفَرِ أَيْ حَالَةِ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى مَاءٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ قَبْلَ التَّحَرِّي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلتَّيَمُّمِ بِدُونِ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ خَلَفًا ضَرُورِيًّا أَوْ خَلَفًا مُطْلَقًا، وَلَا عَجْزَ مَعَ إمْكَانِ التَّحَرِّي، وَلِذَا جُوِّزَ التَّيَمُّمُ فِيمَا إذَا تَحَيَّرَ فَتَفْرِيعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى كَوْنِ التَّيَمُّمِ خَلَفًا ضَرُورِيًّا بِمَعْنَى أَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بِقَدْرِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ ضَرُورَةَ إسْقَاطِ الْفَرْضِ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي وَإِنْ أُرِيدَ

وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمُ خَلَفٌ عَنْ التَّوَضُّؤ فَلَا يَجُوزُ) ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَضِّئَ صَاحِبُ أَصْلٍ، وَالْمُتَيَمِّمَ صَاحِبُ خَلَفٍ فَلَا يَبْنِي صَاحِبُ الْأَصْلِ الْقَوِيِّ صَلَاتَهُ عَلَى صَاحِبِ الْخَلَفِ الضَّعِيفِ كَمَا لَا يَبْنِي الْمُصَلِّي بِرُكُوعٍ، وَسُجُودٍ عَلَى الْمُومِئِ. (وَشَرْطُ الْخَلَفِيَّةِ إمْكَانُ الْأَصْلِ لِيَصِيرَ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا لَهُ ثُمَّ عَدَمُهُ بِعَارِضٍ) كَمَا فِي مَسْأَلَةِ مَسِّ السَّمَاءِ بِخِلَافِ الْغَمُوسِ . (بَابٌ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلْحُكْمِ، وَهِيَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْعَقْلِ قَالُوا: هُوَ نُورٌ يُضِيءُ بِهِ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ فَيَتَبَدَّى الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ أَيْ نُورٌ يَحْصُلُ بِإِشْرَاقِ الْعَقْلِ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَمَا أَنَّ الْعَيْنَ مُدْرِكَةٌ بِالْقُوَّةِ فَإِذَا وُجِدَ النُّورُ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِكَوْنِهِ ضَرُورِيًّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ ضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَهَذَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ نِزَاعٌ. (قَوْلُهُ ثُمَّ عِنْدَنَا) أَيْ بَعْدَ مَا اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى كَوْنِ الْخَلَفِ خَلَفًا مُطْلَقًا اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ الْخَلَفِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْخَلَفِيَّةُ فِي الْآلَةِ بِمَعْنَى أَنَّ التُّرَابَ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ لِأَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عِنْدَ النَّقْلِ إلَى التَّيَمُّمِ عَلَى عَدَمِ الْمَاءِ، وَكَوْنُ التُّرَابِ مُلَوَّثًا فِي نَفْسِهِ لَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ لِأَنَّ نَجَاسَةَ الْمَحَلِّ حُكْمِيَّةٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَطْهِيرُ الْآلَةِ أَيْضًا كَذَلِكَ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ إلَى عَشْرِ حِجَجٍ مَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ» يُؤَيِّدُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَتْ الْخَلَفِيَّةُ فِي الْآلَةِ لَافْتَقَرَتْ إلَى الْإِصَابَةِ كَالْمَاءِ إذْ مِنْ شَرْطِ الْخَلَفِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِالْحَجَرِ الْمَلْسَاءِ قُلْنَا: لَيْسَ هَذَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ مَعْنَاهَا الزِّيَادَةُ فِي الْحُكْمِ، وَتَرَتُّبِ الْآثَارِ، أَلَا يُرَى أَنَّ اسْتِغْنَاءُ التَّيَمُّمِ عَنْ مَسْحِ الرَّأْسِ وَالرِّجْلِ لَا يُوجِبُ زِيَادَتَهُ عَلَى الْوُضُوءِ فَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ إمَامَةُ الْمُتَيَمِّمِ لِلْمُتَوَضِّئِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُتَوَضِّئُ مَاءً لِأَنَّ شَرْطَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا مَوْجُودٌ بِكَمَالِهِ فَيَجُوزُ بِنَاءُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَالْغُسْلِ عَلَى الْمَاسِحِ مَعَ أَنَّ الْخَلَفَ بَدَلٌ مِنْ الرِّجْلِ فِي قَبُولِ الْحَدَثِ، وَرَفْعِهِ، وَأَمَّا إذَا وَجَدَ الْمُتَوَضِّئُ مَاءً فَإِنْ كَانَ فِي زَعْمِهِ أَنَّ شَرْطَ الصَّلَاةِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ، وَأَنَّ صَلَاتَهُ فَاسِدَةٌ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِهِ كَمَا إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ إمَامَهُ مُخْطِئٌ فِي جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: الْخَلَفِيَّةُ فِي الْفِعْلِ بِمَعْنَى أَنَّ التَّيَمُّمَ خَلَفٌ عَنْ التَّوَضُّؤِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْوُضُوءِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ الْعَجْزِ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ كَاقْتِدَاءِ غَيْرِ الْمُومِئِ بِالْمُومِئِ، وَمَا ذُكِرَ أَنَّ زُفَرَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْمَبْسُوطِ إلَّا أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّهُ يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَإِنْ وَجَدَ الْمُتَوَضِّئُ مَاءً. (قَوْلُهُ وَشَرْطُ الْخَلَفِيَّةِ) أَيْ لَا بُدَّ فِي ثُبُوتِ الْخَلَفِ عَنْ إمْكَانِ الْأَصْلِ لِيَصِيرَ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا لِلْأَصْلِ ثُمَّ مَنْ عَدِمَ الْأَصْلَ فِي الْحَالِ لِعَارِضٍ إذْ لَا مَعْنَى

[باب المحكوم عليه]

الْحِسِّيُّ يَخْرُجُ إدْرَاكُهَا إلَى الْفِعْلِ فَكَذَا الْقَلْبُ) أَيْ النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَعَ هَذَا النُّورِ الْعَقْلِيِّ وَقَوْلُهُ (طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ فَابْتِدَاءُ دَرْكِ الْحَوَاسِّ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسِ فِي الْحَاسَّةِ الظَّاهِرَةِ وَنِهَايَتُهُ ارْتِسَامُهُ فِي الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ، وَحِينَئِذٍ بِدَايَةُ تَصَرُّفِ الْقَلْبِ فِيهِ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ بِأَنْ يُدْرِكَ مِنْ الشَّاهِدِ أَوْ يَنْتَزِعَ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ الْمَحْسُوسَةِ، وَلِهَذَا التَّصَرُّفِ مَرَاتِبُ: اسْتِعْدَادُهُ لِهَذَا الِانْتِزَاعِ ثُمَّ عِلْمُ الْبَدِيهِيَّاتِ عَلَى وَجْهٍ يُوصِلُ إلَى النَّظَرِيَّاتِ ثُمَّ عِلْمُ النَّظَرِيَّاتِ مِنْهَا ثُمَّ اسْتِحْضَارُهَا بِحَيْثُ لَا تَغِيبُ وَهَذَا نِهَايَتُهُ، وَيُسَمَّى الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ وَالْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ) اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَعْرِيفِ الْعَقْلِ أَوْرَدَهُ مَشَايِخُنَا فِي كُتُبِهِمْ، وَمَثَّلُوهُ بِالشَّمْسِ كَمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمَصِيرِ إلَى الْخَلَفِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ مَثَلًا إرَادَةُ الصَّلَاةِ انْعَقَدَتْ سَبَبًا لِلْوُضُوءِ لِإِمْكَانِ حُصُولِ الْمَاءِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ ثُمَّ لِظُهُورِ الْعَجْزِ يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ إلَى التَّيَمُّمِ، وَهَذَا كَمَا إذَا حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ فَإِنَّ الْيَمِينَ قَدْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْبِرِّ لِإِمْكَانِ مَسِّ السَّمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ مَعْدُومٌ عُرْفًا وَعَادَةً فَانْتَقَلَ الْحُكْمُ إلَى الْخَلْفِ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ عَلَى نَفْيِ مَا كَانَ أَوْ ثُبُوتِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْكَفَّارَةَ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْبِرِّ عَلَى مَا سَبَقَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ [بَابُ الْمَحْكُوم عَلَيْهِ] . (قَوْلُهُ بَابُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ) ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ أَيْ الَّذِي تَعَلَّقَ الْخِطَابُ بِفِعْلِهِ، وَأَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَقْلِ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَى الصَّبِيِّ، وَقَدْ أَطْلَقَ الْحُكَمَاءُ وَغَيْرُهُمْ لَفْظَ الْعَقْلِ عَلَى مَعَانٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا الْجَوْهَرُ الْمُجَرَّدُ فِي ذَاتِهِ وَفِعْلِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ جِسْمًا، وَلَا جُسْمَانِيًّا، وَلَا تَتَوَقَّفُ أَفْعَالُهُ عَلَى تَعَلُّقِهِ بِجِسْمٍ، وَهَذَا مَعْنَى الْجَوْهَرِ الْمُجَرَّدِ الْغَيْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ، وَالتَّصَرُّفِ، وَلَوْ قَالَ غَيْرُ الْمُتَعَلِّقِ بِالْجِسْمِ لَكَانَ أَنْسَبَ لِيُخْرِجَ النُّفُوسَ الْفَلَكِيَّةَ إذْ الْبَدَنُ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى بِنْيَةِ الْحَيَوَانِ وَادَّعَى الْحُكَمَاءُ أَنَّ الْعَقْلَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوَّلُ مَا صَدَرَ عَنْ الْوَاجِبِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلُ» ، وَإِنَّمَا قَالَ: ادَّعُوا لِأَنَّهُمْ اسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِدَلَائِلَ وَاهِيَةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ فَاسِدَةٍ مِثْلُ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا الْوَاحِدُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَهَذَا مَعْنَى الْأَثَرِ الْفَائِضِ عَلَيْهَا مِنْ الْعَقْلِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا مَرَاتِبُ قُوَى النَّفْسِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهَا، وَمِنْهَا الْغَرِيزَةُ الَّتِي يَلْزَمُهَا الْعِلْمُ بِالضَّرُورِيَّاتِ أَوْ نَفْسُ الْعِلْمِ بِذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ، وَمِنْهَا مَلَكَةٌ حَاصِلَةٌ بِالتَّجَارِبِ يُسْتَنْبَطُ بِهَا الْمَصَالِحُ وَالْأَغْرَاضُ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْوُقُوفُ عَلَى الْعَوَاقِبِ، وَمِنْهَا قُوَّةٌ مُمَيِّزَةٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ، وَالْقَبِيحَةِ، وَمِنْهَا هَيْئَةٌ مَحْمُودَةٌ لِلْإِنْسَانِ فِي حَرَكَاتِهِ، وَسَكَنَاتِهِ، وَكَلَامِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُتَفَاوِتَةِ، وَالْمُقَارِبَةِ فَاحْتُجَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ إلَى تَفْسِيرِ الْعَقْلِ

ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا قَالَهُ الْحُكَمَاءُ، وَالتَّمْثِيلُ بِعَيْنِهِ مَسْطُورٌ فِي كُتُبِ الْحِكْمَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا الْعَقْلَ عَلَى جَوْهَرٍ مُجَرَّدٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ وَالصَّرْفِ، وَقَدْ ادَّعَوْا أَنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْجَوْهَرُ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَقْلُ» فَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ هَذَا الْجَوْهَرُ الَّذِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالنُّورِ الْمُنَوَّرِ كَمَا فُسِّرَ فِي قَوْله تَعَالَى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور: 35] وَأَيْضًا قَدْ يُطْلَقُ الْعَقْلُ عَلَى الْأَثَرِ الْفَائِضِ مِنْ هَذَا الْجَوْهَرِ فِي الْإِنْسَانِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهَذَا التَّعْرِيفِ هَذَا الْمَعْنَى، وَبَيَانُهُ أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ مُدْرِكَةٌ بِالْقُوَّةِ فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَيْهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQفَقَالُوا: هُوَ نُورٌ يُضِيءُ بِهِ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ دَرْكُ الْحَوَاسِّ فَيَتَبَدَّى الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ، وَبِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهَا قُوَّةٌ لِلنَّفْسِ بِهَا يَنْتَقِلُ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ إلَى النَّظَرِيَّاتِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ ظَاهِرُ هَذَا التَّفْسِيرِ أَخْفَى مِنْ الْعَقْلِ احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى تَوْضِيحِهِ، وَتَبْيِينِ الْمُرَادِ مِنْهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَقْلِ هَاهُنَا ذَلِكَ الْجَوْهَرُ الْمُجَرَّدُ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ النُّورُ بِمَعْنَى الْمُنَوِّرِ، وَلَا يَخْفَى بَعْدَ هَذَا الِاحْتِمَالِ عَنْ الصَّوَابِ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا الْعَقْلَ مِنْ صِفَاتِ الرَّاوِي، وَالْمُكَلَّفِ ثُمَّ فَسَرُّوهُ بِهَذَا التَّفْسِيرِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْأَثَرُ الْفَائِضُ مِنْ هَذَا الْجَوْهَرِ عَلَى نَفْسِ الْإِنْسَانِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ هُوَ الَّذِي يُؤَثِّرُ فِي النَّفْسِ، وَيَعُدُّهَا لِلْإِدْرَاكِ، وَحَالُ نُفُوسِنَا بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ حَالُ أَبْصَارنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّمْسِ فَكَمَا أَنَّ بِإِفَاضَةِ نُورِ الشَّمْسِ تُدْرَكُ الْمَحْسُوسَاتُ كَذَلِكَ بِإِفَاضَةِ نُورِهِ تُدْرَكُ الْمَعْقُولَاتُ فَقَوْلُهُ نُورٌ أَيْ قُوَّةٌ شَبِيهَةٌ بِالنُّورِ فِي أَنَّهُ بِهَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ. يُضِيءُ أَيْ يَصِيرُ ذَا ضَوْءٍ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ النُّورِ. طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ أَيْ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَفْكَارُ، وَتَرْتِيبُ الْمَبَادِئِ الْمُوصِلَةِ إلَى الْمَطَالِبِ، وَمَعْنَى إضَاءَتِهَا صَيْرُورَتُهَا بِحَيْثُ يَهْتَدِي الْقَلْبُ إلَيْهَا، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ تَرْتِيبِهَا وَسُلُوكِهَا تَوْصِيلًا إلَى الْمَطْلُوبِ، وَقَوْلُهُ مِنْ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَيْهِ مُتَعَلِّقُ يُبْتَدَأُ، وَالضَّمِيرُ فِي إلَيْهِ عَائِدٌ إلَى حَيْثُ أَيْ مِنْ مَحَلٍّ يَنْتَهِي إلَيْهِ إدْرَاكُ الْحَوَاسِّ فَيَتَبَدَّى أَيْ يَظْهَرُ الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ أَيْ الرُّوحُ الْمُسَمَّى بِالْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ، وَالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ فَيُدْرِكُهُ الْقَلْبُ بِتَأَمُّلِهِ أَيْ الْتِفَاتِهِ إلَيْهِ، وَالتَّوَجُّهِ نَحْوَهُ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلْهَامِهِ لَا بِتَأْثِيرِ النَّفْسِ أَوْ تَوْلِيدِهَا فَإِنَّ الْأَفْكَارَ مُعِدَّاتٌ لِلنَّفْسِ، وَفَيَضَانُ الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هُوَ بِإِلْهَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ بِإِشْرَاقِهِ، وَإِفَاضَةِ نُورِهِ، وَيَكُونُ نِسْبَتُهُ إلَى النُّفُوسِ نِسْبَةَ الشَّمْسِ إلَى الْأَبْصَارِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ هُوَ الْعَقْلُ الْعَاشِرُ الْمُسَمَّى بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ لَا الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَسَامُحٌ. (قَوْلُهُ: وَقَدْ يُطْلَقُ الْعَقْلُ عَلَى قُوَّةٍ لِلنَّفْسِ بِهَا

الْجَوْهَرُ الْمَذْكُورُ خَرَجَ إدْرَاكُهَا مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ إذَا أَشْرَقَتْ خَرَجَ إدْرَاكُ الْعَيْنِ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ فَالْمُرَادُ بِالْعَقْلِ هَذَا النُّورُ الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي حَصَلَ بِإِشْرَاقِ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْعَقْلُ عَلَى قُوَّةٍ لِلنَّفْسِ بِهَا تَكْسِبُ الْعُلُومَ، وَهِيَ قَابِلِيَّةُ النَّفْسِ لِإِشْرَاقِ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَلَهَا أَرْبَعُ مَرَاتِبَ كَمَا ذَكَرْتُ فِي الْمَتْنِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ، وَالثَّانِي الْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ، وَالثَّالِثُ الْعَقْلَ بِالْفِعْلِ وَالرَّابِعُ الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ، وَأَيْضًا يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ الْعُلُومِ فَقِيلَ: عِلْمٌ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ، وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ، وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ، وَقَوْلُهُ يُبْتَدَأُ بِهِ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ لِدَرْكِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ بِدَايَةٌ، وَنِهَايَةٌ، وَكَذَا لِلْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ بِدَايَةٌ، وَنِهَايَةٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQتُكْسَبُ الْعُلُومُ) إشَارَةٌ إلَى مَعْنًى آخَرَ لِلْعَقْلِ بِاعْتِبَارِهِ يُحَصِّلُ لِلنَّفْسِ مَرَاتِبَهَا الْأَرْبَعَ فَعَلَى مَا سَبَقَ كَانَ حَاصِلُ مَعْنَاهُ حُصُولَ شَرَائِطِ الْوُصُولِ إلَى الْمَطْلُوبِ، وَانْكِشَافَ الْحُجُبِ عَنْهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَطَالِبِ، وَالتَّهَدِّي إلَى طَرِيقِ التَّوَصُّلِ إلَى الْمَقَاصِدِ، وَأَمَّا عَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ قَابِلِيَّةُ النَّفْسِ بِهَذِهِ الْمَعَانِي فَإِنْ قِيلَ: مِنْ شَأْنِ الْقُوَّةِ التَّأْثِيرُ وَالْعَقْلُ، وَمَعْنَى الْقَابِلِيَّةِ التَّأَثُّرُ وَالِانْفِعَالُ فَكَيْفَ يُفَسَّرُ بِهَا قُلْتُ هِيَ قُوَّةٌ بِاعْتِبَارِ تَرْتِيبِ الْمَبَادِئِ وَتَهْيِئَةِ الْمُعَدَّاتِ وَالتَّصَرُّفَاتِ فِيهَا وَقَابِلِيَّةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُصُولَ الْمَطْلُوبِ إنَّمَا هُوَ بِالْإِلْهَامِ وَبِتَوْفِيقِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ فَإِنْ قُلْتَ: الْقُوَّةُ الَّتِي بِهَا تَكْتَسِبُ النَّفْسُ الْعُلُومَ تَشْتَمِلُ مَرَاتِبَهَا الْأَرْبَعَ فَكَيْفَ تُفَسَّرُ بِقَابِلِيَّةِ الْإِشْرَاقِ الَّتِي هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى أَعْنِي الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ قُلْتُ: الْمُرَادُ قَابِلِيَّةُ الْإِشْرَاقِ إلَى أَنْ يَكْمُلَ جَمِيعُ الْآثَارِ، وَيَحْصُلَ غَايَةُ الْمَطْلُوبِ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَعَلَ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ فِي الشَّرْحِ مَرَاتِبَ قُوَّةِ النَّفْسِ وَقَابِلِيَّتَهَا لِلْإِشْرَاقِ، وَفِي الْمَتْنِ مَرَاتِبُ تَصَرُّفِ الْقَلْبِ بِوَاسِطَةِ الْعَقْلِ فِيمَا ارْتَسَمَ فِي الْحَوَاسِّ؟ قُلْتُ: حَاصِلُهُمَا وَاحِدٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ مَرَاتِبُ لِلنَّفْسِ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهَا فِي اكْتِسَابِ الْعُلُومِ، وَتَصَرُّفِهَا فِي الْمَبَادِئِ لِحُصُولِ الْمَطَالِبِ فَيُجْعَلُ تَارَةً مَرَاتِبَ النَّفْسِ، وَتَارَةً مَرَاتِبَ قُوَّتِهَا النَّظَرِيَّةِ أَيْ الَّتِي بِهَا يُتَمَكَّنُ مِنْ اكْتِسَابِ الْعُلُومِ، وَتَارَةً مَرَاتِبَ تَصَرُّفَاتِهَا فِي الْمَبَادِئِ وَمَعْنَى تَصَرُّفِ الْقَلْبِ فِيمَا ارْتَسَمَ فِي الْحَوَاسِّ أَنْ يُدْرِكَ الْغَائِبَ مِنْ الشَّاهِدِ أَيْ يَسْتَدِلُّ مِنْ الْآثَارِ وَاللَّوَازِمِ عَلَى الْمُؤَثِّرَاتِ، وَالْمَلْزُومَاتِ مِثْلَ اسْتِدْلَالِهِ مِنْ الْعَالَمِ، وَتَغَيُّرَاتِهِ عَلَى أَنَّ لَهُ صَانِعًا قَدِيمًا غَنِيًّا عَمَّنْ سِوَاهُ بَرِيئًا عَنْ النَّقَائِصِ وَأَنْ يَنْتَزِعَ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ وَأَنْ يَنْتَزِعَ مِنْ الْإِحْسَاسِ بِحَرَارَةِ هَذِهِ النَّارِ أَنَّ كُلَّ نَارٍ حَارَّةٌ، وَكَذَا فِي جَانِبِ التَّصَوُّرَاتِ مَثَلًا يَنْتَزِعُ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ الْمُكْتَنِفَةِ بِالْعَوَارِضِ الْمُشَخِّصَةِ وَاللَّوَاحِقِ الْخَارِجِيَّةِ حَقَائِقَهَا الْكُلِّيَّةَ وَأَمَّا تَحْقِيقُ الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ فَهُوَ أَنَّ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ قُوَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا مَبْدَأُ الْإِدْرَاكِ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تَأَثُّرِهَا عَمَّا فَوْقَهَا مُسْتَكْمَلَةٌ فِي ذَاتِهَا، وَتُسَمَّى عَقْلًا نَظَرِيًّا، وَالثَّانِيَةُ مَبْدَأُ الْفِعْلِ، وَهِيَ بِاعْتِبَارِ تَأْثِيرِهَا فِي الْبَدَنِ الْمَوْضُوعِ مُكَمِّلَةٌ إيَّاهُ تَأْثِيرًا اخْتِيَارِيًّا، وَتُسَمَّى عَقْلًا عَمَلِيًّا

فَنِهَايَةُ دَرْكِ الْحَوَاسِّ هِيَ بِدَايَةُ الْإِدْرَاكِ الْعَقْلِيِّ فَاعْلَمْ أَنَّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسَاتِ فِي إحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، وَنِهَايَتُهُ ارْتِسَامُهُ فِي الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْحَوَاسَّ الْبَاطِنَةَ خَمْسٌ: الْحِسُّ الْمُشْتَرَكُ فِي مُقَدَّمِ الدِّمَاغِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْتَسِمُ فِيهِ صُوَرُ الْمَحْسُوسَاتِ ثُمَّ الْخَيَّالُ، وَهُوَ خِزَانَةُ الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ ثُمَّ الْوَهْمُ فِي مُؤَخَّرِ الدِّمَاغِ يَرْتَسِمُ فِيهِ الْمَعَانِي الْجُزْئِيَّةُ ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَافِظَةُ، وَهِيَ خِزَانَةُ الْوَهْمِ ثُمَّ الْمُفَكِّرَةُ فِي وَسَطِ الدِّمَاغِ تَأْخُذُ الْمُدْرَكَاتِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ وَتَتَصَرَّفُ فِيهَا، وَتُرَكِّبُ بَيْنَهَا تَرْكِيبًا، وَتُسَمَّى مُخَيِّلَةً أَيْضًا فَهَذَا نِهَايَةُ إدْرَاكِ الْحَوَاسِّ فَإِذَا تَمَّ هَذَا انْتَزَعَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَلِلْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ فِي تَصَرُّفَاتِهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ، وَتَرْتِيبِهَا لِاكْتِسَابِ الْكِمَالَاتِ أَرْبَعُ مَرَاتِبِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ مَبْدَأَ الْفِطْرَةِ خَالِيَةٌ عَنْ الْعُلُومِ مُسْتَعِدَّةٌ لَهَا، وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ عَقْلًا هَيُولَانِيًّا تَشْبِيهًا لَهَا بِالْهُيُولِيِّ الْأُولَى الْخَالِيَةِ فِي نَفْسِهَا عَنْ جَمِيعِ الصُّوَرِ الْقَابِلَةِ لَهَا، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْدَادِ الطِّفْلِ لِلْكِتَابَةِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ الضَّرُورِيَّاتِ، وَاسْتَعَدَّتْ لِحُصُولِ النَّظَرِيَّاتِ سُمِّيَتْ عَقْلًا بِالْمَلَكَةِ لِحُصُولِ مَلَكَةِ الِانْتِقَالِ كَاسْتِعْدَادِ الْأُمِّيِّ لِتَعَلُّمِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ إذَا أَدْرَكَتْ النَّظَرِيَّاتِ، وَحَصَلَ لَهَا الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِحْضَارِهَا مَتَى شَاءَتْ مِنْ غَيْرِ تَجَسُّمِ كَسْبٍ جَدِيدٍ سُمِّيَتْ عَقْلًا بِالْفِعْلِ لِشِدَّةِ قُرْبِهِ مِنْ الْفِعْلِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اسْتِعْدَادِ الْقَادِرِ عَلَى الْكِتَابَةِ الَّذِي لَا يَكْتُبُ، وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَتَى شَاءَ، وَإِذَا كَانَتْ النَّظَرِيَّاتُ حَاضِرَةً عِنْدَهَا مُشَاهِدَةً لَهَا سُمِّيَتْ عَقْلًا مُسْتَفَادًا لِاسْتِفَادَةِ هَذِهِ الْقُوَّةِ وَالْحَالَةِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ حِينَمَا يَكْتُبُ بِالْفِعْلِ، وَعِبَارَةُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّ الْعَقْلَ الْمُسْتَفَادَ هُوَ حُضُورُ الْيَقِينِيَّاتِ، وَحُصُولُ صُوَرِ الْمَعْقُولَاتِ لِلنَّفْسِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ التَّسْمِيَةِ بِالْمُسْتَفَادِ، وَأَنَّ الْعَقْلَ الْهَيُولَانِيَّ يَكُونُ قَبْلَ اسْتِعْمَالِ الْحَوَاسِّ، وَإِدْرَاكِ الضَّرُورِيَّاتِ، وَالْعَقْلَ بِالْمَلَكَةِ بَعْدَهُ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ الْهَيُولَانِيَّ اسْتِعْدَادَ النَّفْسِ لِلِانْتِزَاعِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَحْسُوسَاتِ. وَالْعَقْلُ بِالْمَلَكَةِ عِلْمُ الْبَدِيهَاتِ عَلَى وَجْهٍ يُوصِلُ إلَى النَّظَرِيَّاتِ أَيْ مُتَرَتِّبَةٌ لِلتَّأَدِّي إلَى الْمَجْهُولَاتِ النَّظَرِيَّةِ، وَأَمَّا جَعْلُ الْمُسْتَفَادِ نِهَايَةً، وَمَرْتَبَةً رَابِعَةً فَإِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْغَايَةِ، وَكَوْنِهِ الرَّئِيسَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَخْدُمُهُ سَائِرُ الْقُوَى، وَإِلَّا فَالْمُسْتَفَادُ مُقَدَّمٌ بِحَسَبِ الْوُجُودِ عَلَى الْعَقْلِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّحْصِيلِ، وَالْإِحْضَارِ مَرَّةً أَوْ مَرَّاتٍ ثُمَّ هَذِهِ الْمَرَاتِبُ اسْتِعْدَادَاتٌ لِلنَّفْسِ مُخْتَلِفَةٌ بِالشِّدَّةِ وَالضَّعْفِ كَالثَّلَاثِ الْأُوَلِ أَوْ كَمَالٌ لَهَا كَالرَّابِعَةِ وَتُطْلَقُ عَلَى النَّفْسِ بِحَسَبِ مَا لَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلنَّفْسِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ قُوَّةً لَمْ تَكُنْ قَبْلُ فَيُطْلَقُ عَلَى نَفْسِ الْقُوَى أَيْضًا، وَنَعْنِي بِالْقُوَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَصِيرُ الشَّيْءُ فَاعِلًا أَوْ مُنْفَعِلًا، وَجَعَلُوا الْمَرْتَبَةَ الثَّانِيَةَ، وَهِيَ أَنْ تُدْرِكَ الْبَدِيهَاتِ مُرَتَّبَةً عَلَى وَجْهٍ تُوصِلُ إلَى النَّظَرِيَّاتِ مَنَاطَ التَّكْلِيفِ إذْ بِهَا يَرْتَفِعُ الْإِنْسَانُ عَنْ دَرَجَةِ الْبَهَائِمِ، وَيُشْرِقُ

النَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مِنْ الْمُفَكِّرَةِ عُلُومًا فَهَذَا بِدَايَةُ تَصَرُّفِ النَّفْسِ بِوَاسِطَةِ إشْرَاقِ الْعَقْلِ، وَلَهُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (ثُمَّ مَعْلُومَاتُ النَّفْسِ إمَّا أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا الْعَمَلُ كَمَعْرِفَةِ الصَّانِعِ تَعَالَى، وَتُسَمَّى عُلُومًا نَظَرِيَّةً وَإِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ، وَتُسَمَّى عِلْمِيَّةً فَإِذَا اُكْتُسِبَتْ الْعِلْمِيَّةُ حَرَّكَتْ الْبَدَنَ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ، وَعَمَّا هُوَ شَرٌّ فَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا عَلَى وُجُودِ تِلْكَ الْقُوَّةِ وَعَدَمِهَا) أَيْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا التَّحْرِيكِ عَلَى وُجُودِ تِلْكَ الْقُوَّةِ، وَهِيَ قَابِلِيَّةُ النَّفْسِ لِإِشْرَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهَا نُورُ الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَتَجَاوَزُ إدْرَاكَ الْمَحْسُوسَاتِ. (قَوْلُهُ: فَاعْلَمْ أَنَّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ) يَعْنِي لَمَّا ذَكَرَ فِي تَعْرِيفِ الْعَقْلِ لِدَرْكِ الْحَوَاسِّ نِهَايَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بِدَايَةٌ وَلَمَّا ذَكَرَ لِطَرِيقِ إدْرَاكِ الْعَقْلِ بِدَايَةً لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِهَايَةٌ لِأَنَّ إدْرَاكَاتِنَا أُمُورٌ حَادِثَةٌ مُنْقَطِعَةٌ، وَلَمَّا جَعَلَ قَوْلَهُ مِنْ حَيْثُ مُتَعَلِّقًا بِيُبْتَدَأُ، وَالضَّمِيرُ فِي إلَيْهِ عَائِدٌ إلَى حَيْثُ أَيْ طَرِيقٌ يُبْتَدَأُ بِهِ مِنْ الْمَقَامِ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ إدْرَاكُ الْحَوَاسِّ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ نِهَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْعَقْلِ فَذَكَرَ أَنَّ بِدَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ هُوَ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسِ فِي إحْدَى الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ اللَّمْسُ أَعْنِي قُوَّةً سَارِيَةً فِي الْبَدَنِ كُلِّهِ بِهَا يُدْرَكُ الْحَارُّ، وَالْبَارِدُ وَالرَّطْبُ، وَالْيَابِسُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَالذَّوْقُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُنْبَثَّةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى جُرْمِ اللِّسَانِ يُدْرَكُ بِهَا الطُّعُومُ، وَالشَّمُّ وَهُوَ قُوَّةٌ مَرْتَبَةٌ فِي زَائِدَتَيْ مُقَدَّمِ الدِّمَاغِ الشَّبِيهَتَيْنِ بِحَلَمَتَيْ الثَّدْيِ يُدْرَكُ بِهَا الرَّوَائِحُ، وَالسَّمْعُ وَهُوَ قُوَّةٌ مَرْتَبَةٌ فِي الْعَصَبِ الْمَفْرُوشِ عَلَى سَطْحِ بَاطِنِ الصِّمَاخِ يُدْرَكُ بِهَا الْأَصْوَاتُ، وَالْبَصَرُ هُوَ قُوَّةٌ مَرْتَبَةٌ فِي الْعَصْبَتَيْنِ الْمُجَوَّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَتَلَاقَيَانِ فِي مُقَدَّمِ الدِّمَاغِ فَيَفْتَرِقَانِ إلَى الْعَيْنَيْنِ يُدْرَكُ بِهَا الْأَلْوَانُ، وَالْأَضْوَاءُ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْمُرْتَسِمَ فِيهَا هُوَ صُورَةُ الْمَحْسُوسِ لَا نَفْسُهُ فَإِنَّ الْمَحْسُوسَ هُوَ هَذَا اللَّوْنُ الْمَوْجُودُ فِي الْخَارِجِ مَثَلًا وَهُوَ لَيْسَ بِمُرْتَسِمٍ فِي الْبَاصِرَةِ بَلْ صُورَتُهُ كَمَا أَنَّ الْمَعْلُومَ هُوَ ذَلِكَ الْمَوْجُودُ، وَالْحَاصِلُ فِي النَّفْسِ صُورَتُهُ، وَمَعْنَى مَعْلُومِيَّتِهِ حُصُولُ صُورَتِهِ لَا حُصُولُ نَفْسِهِ، وَنِهَايَةُ دَرْكِ الْحَوَاسِّ ارْتِسَامُ الْمَحْسُوسِ فِي الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا أَيْضًا خَمْسٌ الْحِسُّ الْمُشْتَرَكُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي التَّجْوِيفِ الْأَوَّلِ مِنْ الدِّمَاغِ، وَمَبَادِئِ عَصَبِ الْحِسِّ يَجْتَمِعُ فِيهَا صُوَرُ جَمِيعِ الْمَحْسُوسَاتِ فَيُدْرِكُهَا وَالْخَيَالُ هُوَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي آخِرِ التَّجْوِيفِ الْمُقَدَّمِ يَجْتَمِعُ فِيهَا مِثْلُ الْمَحْسُوسَاتِ، وَتَبْقَى فِيهَا بَعْدَ الْغَيْبَةِ عَنْ الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ فَهِيَ خِزَانَتُهُ، وَالْوَهْمُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي آخِرِ التَّجْوِيفِ الْأَوْسَطِ مِنْ الدِّمَاغِ لَا فِي مُؤَخَّرِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِهَا يُدْرَكُ الْمَعَانِي الْجُزْئِيَّةُ الْغَيْرُ الْمَحْسُوسَةِ أَعْنِي الَّتِي لَمْ يَتَأَدَّ إلَيْهَا مِنْ طُرُقِ الْحَوَاسِّ، وَإِنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْمَحْسُوسَاتِ كَعَدَاوَةِ زَيْدٍ، وَصَدَاقَةِ عَمْرٍو، وَالْحَافِظَةُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي التَّجْوِيفِ الْأَخِيرِ مِنْ الدِّمَاغِ تَحْفَظُ

ذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا مَحَالَةَ آمِرَةٌ لِلْبَدَنِ مُحَرِّكَةٌ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ عِنْدَهَا، وَعَمَّا هُوَ شَرٌّ عِنْدَهَا، وَالْجَوْهَرُ الْمَذْكُورُ دَائِمُ الْإِشْرَاقِ فَإِذَا حَرَّكَتْهُ إلَى الْخَيْرِ، وَعَنْ الشَّرِّ عُلِمَ مَعْرِفَتُهَا بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهِيَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالْقَابِلِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَإِذَا لَمْ تُحَرِّكْهُ إلَى الْخَيْرِ وَعَنْ الشَّرِّ عُلِمَ عَدَمُ مَعْرِفَتِهَا بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ إذْ لَوْ كَانَتْ عَارِفَةً لَحَرَّكَتْهُ ثُمَّ عَدَمُ مَعْرِفَتِهَا لِعَدَمِ قَابِلِيَّتِهَا إذْ لَوْ كَانَتْ قَابِلَةً وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ دَائِمُ الْإِشْرَاقِ لَكَانَتْ عَارِفَةً فَعُلِمَ أَنَّ وُجُودَ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَعَانِيَ الْجُزْئِيَّةَ الَّتِي أَدْرَكَهَا الْوَهْمُ فَهِيَ خِزَانَةٌ لِلْوَهْمِ بِمَنْزِلَةِ الْخَيَالِ لِلْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُفَكِّرَةُ وَهِيَ قُوَّةٌ مُرَتَّبَةٌ فِي الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ التَّجْوِيفِ الْأَوْسَطِ مِنْ الدِّمَاغِ بِهَا يَقَعُ التَّرْكِيبُ وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ الْحِسِّ الْمُشْتَرَكِ، وَالْمَعَانِي الْمُدْرَكَةِ بِالْوَهْمِ كَإِنْسَانٍ لَهُ رَأْسَانِ، وَإِنْسَانٍ عَدِيمِ الرَّأْسِ، وَهَذَا مَعْنَى أَخْذِ الْمُدْرَكَاتِ عَنْ الطَّرَفَيْنِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ تَسْتَعْمِلُهَا النَّفْسُ عَلَى أَيِّ نِظَامٍ تُرِيدُ فَإِنْ اسْتَعْمَلَتْهَا بِوَاسِطَةِ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ وَحْدَهَا سُمِّيَتْ مُتَخَلِّيَةً، وَإِنْ اسْتَعْمَلَتْهَا بِوَاسِطَةِ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ الْوَهْمِيَّةِ سُمِّيَتْ مُفَكِّرَةً، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ مَحَالَّ لِلْقُوَى هُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّشْرِيعِ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ الْآفَةَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ تُوجِبُ الْآفَةَ فِي فِعْلِ تِلْكَ الْقُوَّةِ وَلَفْظُ ثُمَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ لِتَرْتِيبِ هَذِهِ الْقُوَى فِي الْوُجُودِ وَالْمَحَلِّ بَلْ لِتَرْتِيبِ تَصَرُّفَاتِهَا، وَأَفْعَالِهَا فَإِنَّهُ يَرْتَسِمُ أَوَّلًا صُورَةُ الْمَحْسُوسِ ثُمَّ تُخْزَنُ ثُمَّ تَرْتَسِمُ مِنْهُ الْمَعَانِي ثُمَّ تُحْفَظُ ثُمَّ يَقَعُ بَيْنَهُمَا التَّرْكِيبُ وَالتَّفْصِيلُ فَلِذَا قَالَ: ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَافِظَةُ فَأَشَارَ بِلَفْظِ بَعْدَ إلَى أَنَّ مَحَلَّهَا بَعْدَ مَحَلِّ الْوَهْمِ. (قَوْلُهُ فَإِذَا تَمَّ هَذَا) أَيْ ارْتِسَامُ الصُّوَرِ وَالْمَعَانِي وَأَخَذُ الْمُفَكِّرَةِ إيَّاهُمَا مِنْ الطَّرَفَيْنِ تَنْتَزِعُ النَّفْسُ النَّاطِقَةُ مِنْ الْمُفَكِّرَةِ عُلُومًا أَيْ صُوَرًا أَوْ مَعَانِيَ كُلِّيَّةً لِأَنَّهَا بِالتَّصَرُّفِ وَالتَّفَكُّرِ فِي الْأَشْخَاصِ الْجُزْئِيَّةِ تَكْتَسِبُ اسْتِعْدَادًا نَحْوُ قَبُولِ صُورَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ مَثَلًا، وَصُورَةِ الصَّدَاقَةِ الْكُلِّيَّتَيْنِ الْمُجَرَّدَتَيْنِ عَنْ الْعَوَارِضِ الْمَادِّيَّةِ قَبُولًا عَنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ الْمُتَنَفَّسِ بِهِمَا لِمُنَاسَبَةِ مَا بَيْنَ كُلِّ كُلِّيٍّ وَجُزْئِيَّاتِهِ، وَهَذَا هُوَ تَمَامُ التَّقْرِيبِ فِي أَنَّ نِهَايَةَ دَرْكِ الْحَوَاسِّ هُوَ بِدَايَةُ إدْرَاكِ الْعَقْلِ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ التَّعْرِيفُ الْمَذْكُورُ لِلْعَقْلِ، وَأَمَّا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ فَمِمَّا لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا التَّطْوِيلِ، وَأَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلَى حَيْثُ، وَهُوَ لَازِمُ الظَّرْفِيَّةِ مِمَّا لَمْ يُعْهَدْ فِي الْعَرَبِيَّةِ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَقْلَ نُورٌ يُضِيءُ بِهِ الطَّرِيقُ الَّذِي يُبْتَدَأُ بِهِ فِي الْإِدْرَاكَاتِ مِنْ جِهَةِ انْتِهَاءِ إدْرَاكِ الْحَوَاسِّ إلَى ذَلِكَ الطَّرِيقِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا مَجَالَ فِيهِ لِدَرْكِ الْحَوَاسِّ، وَهُوَ طَرِيقُ إدْرَاكِ الْكُلِّيَّاتِ مِنْ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْمُغَيَّبَاتِ مِنْ الْمُشَاهَدَاتِ فَإِنَّ

الْعَقْلِ، وَعَدَمَهُ يُعْرَفَانِ بِالْأَفْعَالِ (ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْعَقْلُ مُتَفَاوِتًا فِي أَفْرَادِ النَّاسِ) ، وَذَلِكَ التَّفَاوُتُ إنَّمَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ قَابِلِيَّةِ بَعْضِ النُّفُوسِ ذَلِكَ الْفَيْضَ وَالْإِشْرَاقَ لِشِدَّةِ صَفَائِهَا وَلَطَافَتِهَا فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ، وَنُقْصَانِ قَابِلِيَّةِ بَعْضِهَا لِكُدُورَتِهَا، وَكَثَافَتِهَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ (مُتَدَرِّجًا مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الْكَمَالِ) بِوَاسِطَةِ كَثْرَةِ الْعُلُومِ، وَرُسُوخِ الْمَلَكَاتِ الْمَحْمُودَةِ فِيهَا فَتَصِيرُ أَشَدَّ تَنَاسُبًا بِذَلِكَ الْجَوْهَرِ، وَيَزْدَادُ اسْتِضَاءَتُهَا بِأَنْوَارِهِ، وَاسْتِفَادَتِهَا مَغَانِمَ آثَارِهِ فَالْقَابِلِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ ـــــــــــــــــــــــــــــQطَرِيقَ إدْرَاكِ الْمَحْسُوسَاتِ مِمَّا يَسْلُكُهُ الْعُقَلَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمَجَانِينُ بَلْ الْبَهَائِمُ فَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ ثُمَّ انْتَهَى ذَلِكَ الطَّرِيقُ، وَأُرِيدَ سُلُوكُ طَرِيقِ إدْرَاكِ الْكُلِّيَّاتِ، وَاكْتِسَابِ النَّظَرِيَّاتِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قُوَّةٍ بِهَا يُتَمَكَّنُ مِنْ سُلُوكِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَهِيَ نُورٌ لِلنَّفْسِ بِهِ تَهْتَدِي أَيْ سُلُوكُهُ بِمَنْزِلَةِ نُورِ الشَّمْسِ فِي إدْرَاكِ الْمُبْصِرَاتِ فَإِذَا ابْتَدَأَ الْإِنْسَانُ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ، وَشَرَعَ فِيهِ، وَرَتَّبَ الْمُقَدَّمَاتِ عَلَى مَا يَنْبَغِي يَتَبَدَّى الْمَطْلُوبُ لِلْقَلْبِ بِفَيْضِ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ مَعْلُومَاتُ النَّفْسِ) يُرِيدُ بِهَذَا الْكَلَامِ الْإِشَارَةَ إلَى طَرِيقِ مَعْرِفَةِ حُصُولِ ذَلِكَ النُّورِ فِي الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْجُودَ إذَا لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِنَا أَثَرٌ فِي وُجُودِهِ يُسَمَّى الْعِلْمُ بِهِ نَظَرِيًّا، وَإِلَّا فَعِلْمِيًّا لَا بِمَعْنَى أَنَّهُ عَمَلٌ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ عِلْمٌ بِأَشْيَاءَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ تَنْقَسِمُ الْحِكْمَةُ إلَى النَّظَرِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ، وَيَحْصُلُ لِلنَّفْسِ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ وَالْقُوَّةُ الْعَمَلِيَّةُ، وَالْأُولَى مُكَمِّلَةٌ لِلنَّفْسِ وَالثَّانِيَةُ مُكَمِّلَةٌ لِلنَّفْسِ وَالْبَدَنِ بِتَحْرِيكِ الْبَدَنِ عَنْ الشُّرُورِ إلَى الْخَيْرَاتِ، وَهَذَا التَّحْرِيكُ يَسْتَلْزِمُ الْمَعْرِفَةَ بِالْخَيْرِ، وَالشَّرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا خَيْرٌ وَشَرٌّ، وَبِالْعَكْسِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الشُّرُورَ مُسْتَلَذَّاتُ الْبَدَنِ، وَمُلَاءَمَاتُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبُ وَالْخَيْرَاتُ مَشَاقٌّ وَتَكَالِيفُ وَمُخَالِفَاتٌ لِلْهَوَى فَلَا يُتَصَوَّرُ الْمَيْلُ عَنْ الْمُلَائِمِ إلَى الْمُنَافِرِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ شَرٌّ وَالثَّانِيَ خَيْرٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْخَيْرَ وَالْكَمَالَ مَحْبُوبٌ بِالذَّاتِ، وَالنَّفْسُ مَائِلَةٌ إلَى الْكَمَالَاتِ مُهَيَّأَةٌ لِتَطْوِيعِ الْقُوَى وَأَمْرِهَا بِالْخَيْرَاتِ فَإِذَا اكْتَسَبَتْ الْعِلْمَ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَعَرَفَتْهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا خَيْرٌ وَشَرٌّ حَرَّكَتْ الْبَدَنَ نَحْوَ الْخَيْرِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ مَعْرِفَةُ الْخَيْرَاتِ وَالشُّرُورِ تَسْتَلْزِمُ قَابِلِيَّةَ النَّفْسِ لِإِشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ عَلَيْهَا بِمَعْنَى حُصُولِ الشَّرَائِطِ، وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ مِنْ جَانِبِهَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ، وَالْقَابِلِيَّةُ تَسْتَلْزِمُ الْمَعْرِفَةَ لِأَنَّ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ الْمُفِيضَ دَائِمُ الْإِشْرَاقِ لَا انْقِطَاعَ لِفَيْضِهِ، وَلَا ضِنَّةَ مِنْ جَانِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ فِي الْإِضَاءَةِ فَيَكُونُ بَيْنَ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكِ الشُّرُورِ وَبَيْنَ الْقَابِلِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْعَقْلِ تَلَازُمٌ فَيُسْتَدَلُّ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ عَلَى وُجُودِ الْعَقْلِ اسْتِدْلَالًا بِوُجُودِ الْمَلْزُومِ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ وَيُسْتَدَلُّ مِنْ تَرْكِ الْخَيْرَاتِ عَلَى عَدَمِ الْعَقْلِ اسْتِدْلَالًا مِنْ عَدَمِ اللَّازِمِ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ. (قَوْلُهُ ثُمَّ لَمَّا كَانَ) يَعْنِي أَنَّ الْعَقْلَ مُتَفَاوِتٌ فِي أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ حُدُوثًا، وَبَقَاءً أَمَّا حُدُوثًا فَلِأَنَّ النُّفُوسَ مُتَفَاوِتَةٌ بِحَسَبِ الْفِطْرَةِ فِي الْكَمَالِ وَالنُّقْصَانِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ اعْتِدَالِ الْبَدَنِ

سَبَبٌ لِحُصُولِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ثُمَّ حُصُولُ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ تِلْكَ الْقَابِلِيَّةِ. (وَالِاطِّلَاعُ عَلَى حُصُولِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ مُتَعَذِّرٌ قَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِالْبُلُوغِ إذْ عِنْدَهُ يَتِمُّ التَّجَارِبُ بِتَكَامُلِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَرَاكِبُ لِلْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ، وَمُسَخَّرَةٌ لَهَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَمْرِ الْخِلَافُ فِي إيجَابِهِ الْحُسْنَ، وَالْقُبْحَ فَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ الْخِطَابُ مُتَوَجِّهٌ بِنَفْسِ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَنُقْصَانِهِ فَكُلَّمَا كَانَ الْبَدَنُ أَعْدَلَ، وَبِالْوَاحِدِ الْحَقِيقِيِّ أَشْبَهَ كَانَتْ النَّفْسُ الْفَائِضَةُ عَلَيْهِ أَكْمَلَ، وَإِلَى الْخَيْرَاتِ أَمْيَلَ، وَلِلْكِمَالَاتِ أَقْبَلَ وَهَذَا مَعْنَى صِفَاتِهَا، وَلِطَاقَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ فِي قَبُولِ النُّورِ، وَإِنْ كَانَتْ بِالْعَكْسِ فَبِالْعَكْسِ، وَهَذَا مَعْنَى كُدُورَتِهَا، وَكَثَافَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ فِي قَبُولِ النُّورِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ النَّفْسَ كُلَّمَا كَانَتْ أَكْمَلَ، وَأَقْبَلَ كَانَ النُّورُ الْفَائِضُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْجَوْهَرِ الْمُسَمَّى بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ أَكْثَرَ. وَأَمَّا بَقَاءً وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ مُتَدَرِّجًا مِنْ النُّقْصَانِ إلَى الْكَمَالِ فَلِأَنَّ النَّفْسَ كُلَّمَا ازْدَادَتْ فِي اكْتِسَابِ الْعُلُومِ بِتَكْمِيلِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَفِي تَحْصِيلِ الْمَلَكَاتِ الْمَحْمُودَةِ بِتَكْمِيلِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ ازْدَادَتْ تَنَاسُبًا بِالْعَقْلِ الْفَعَّالِ الْكَامِلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَازْدَادَتْ إفَاضَةُ نُورِهِ عَلَيْهَا لِازْدِيَادِ الِاسْتِفَاضَةِ بِازْدِيَادِ الْمُنَاسَبَةِ، وَلَمَّا تَفَاوَتَتْ الْعُقُولُ فِي الْأَشْخَاصِ تَعَذَّرَ الْعِلْمُ بِأَنَّ عَقْلَ كُلِّ شَخْصٍ هَلْ بَلَغَ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ؟ فَقَدَّرَ الشَّارِعُ تِلْكَ الْمَرْتَبَةَ بِوَقْتِ الْبُلُوغِ إقَامَةً لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَ حُكْمِهِ كَمَا فِي السَّفَرِ، وَالْمَشَقَّةِ، وَذَلِكَ لِحُصُولِ شَرَائِطِ كَمَالِ الْعَقْلِ وَأَسْبَابِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنَاءً عَلَى تَمَامِ التَّجَارِبِ الْحَاصِلَةِ بِالْإِحْسَاسَاتِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْإِدْرَاكَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، وَتَكَامُلِ الْقُوَى الْجُسْمَانِيَّةِ مِنْ الْمُدْرَكَةِ، وَالْمُحَرَّكَةِ الَّتِي هِيَ مَرَاكِبُ لِلْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِمَعْنَى أَنَّهَا بِوَاسِطَتِهَا تَسْتَفِيدُ الْعُلُومَ ابْتِدَاءً، وَتَصِلُ إلَى الْمَقَاصِدِ، وَبِمَعُونَتِهَا يَظْهَرُ آثَارُ الْإِدْرَاكِ، وَهِيَ مُسَخَّرَةٌ، وَمُطِيعَةٌ لِلْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ تَأْمُرُهَا بِالْأَخْذِ، وَالْإِعْطَاءِ، وَاسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ، وَالتَّحَرُّكِ لِلْإِدْرَاكَاتِ قَدْرَ مَا تَرَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ فَتَحْصُلُ الْكَمَالَاتُ. (قَوْلُهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الْأَمْرِ) اعْلَمْ أَنَّ الْمُهِمَّ فِي هَذَا الْمَقَامِ تَحْرِيرُ الْمَبْحَثِ، وَتَلْخِيصُ مَحَلِّ النِّزَاعِ لِيَتَأَتَّى النَّظَرُ فِي أَدِلَّةِ الْجَانِبَيْنِ، وَيَظْهَرَ صِحَّةُ الْمَطْلُوبِ، وَلَا نِزَاعَ لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِ كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى تَفَاصِيلِهَا مِثْلَ وُجُوبِ الصَّوْمِ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَحُرْمَتِهِ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ، وَلَا نِزَاعَ لِلْأَشَاعِرَةِ فِي أَنَّ الشَّرْعَ مُحْتَاجٌ إلَى الْعَقْلِ وَأَنَّ لِلْعَقْلِ مَدْخَلًا فِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ حَتَّى صَرَّحُوا بِأَنَّ الدَّلِيلَ إمَّا عَقْلِيٌّ صِرْفٌ، وَإِمَّا مُرَكَّبٌ مِنْ عَقْلِيٍّ، وَسَمْعِيٍّ، وَيَمْتَنِعُ كَوْنُهُ سَمْعِيًّا صِرْفًا لِأَنَّ صِدْقَ الشَّارِعِ بَلْ وُجُودُهُ، وَكَلَامُهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ الْعَاقِلَ إذَا لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ، وَخِطَابُ الشَّارِعِ إمَّا لِعَدَمِ وُرُودِهِ وَإِمَّا لِعَدَمِ وُصُولِهِ إلَيْهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَفْعَالِ، وَيَحْرُمُ بَعْضُهَا بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ أَمْ لَا

الْعَقْلِ) هَذَا فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الْمَذْكُورَةِ فِي بَابِ الْأَمْرِ (فَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ، وَشَاهِقُ الْجَبَلِ مُكَلَّفَانِ بِالْإِيمَانِ حَتَّى إنْ لَمْ يَعْتَقِدَا كُفْرًا، وَلَا إيمَانًا يُعَذَّبَانِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ يُعْذَرَانِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ كُفْرُ شَاهِقِ الْجَبَلِ فَيَضْمَنُ قَاتِلُهُ، وَلَا إيمَانُ الصَّبِيِّ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا التَّوَسُّطُ بَيْنَهُمَا إذْ لَا يُمْكِنُ إبْطَالُ الْعَقْلِ بِالْعَقْلِ، وَلَا بِالشَّرْعِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ) أَيْ الشَّرْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْعِلْمِ بِوَحْدَانِيِّتِهِ، وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ دَالَّةٌ عَلَى النُّبُوَّةِ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ لَا تُعْرَفُ شَرْعًا بَلْ عَقْلًا قَطْعًا لِلدُّورِ (لَكِنْ قَدْ يَتَطَرَّقُ الْخَطَأُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ) فَإِنَّ مَبَادِئَ الْإِدْرَاكَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الْحَوَاسُّ فَيَقَعُ الِالْتِبَاسُ بَيْنَ الْقَضَايَا الْوَهْمِيَّةِ، وَالْعَقْلِيَّةِ فَيَتَطَرَّقُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ نَعَمْ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لَا إذْ لَا حُكْمَ لِلْعَقْلِ، وَلَا تَعْذِيبَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ قَطْعًا لِلدَّوْرِ) يَعْنِي أَنَّ ثُبُوتَ الشَّرْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَلَامِهِ، وَبَعْثَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِدَلَالَةِ الْمُعْجِزَاتِ فَلَوْ تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ عَلَى الشَّرْعِ لَزِمَ الدَّوْرُ. (قَوْلُهُ: وَثَانِيهِمَا مُعَارَضَةُ الْوَهْمِ الْعَقْلَ) فَإِنْ قِيلَ: الْوَهْمُ لَا يُدْرِكُ إلَّا الْمَعَانِيَ الْجُزْئِيَّةَ، وَالْعَقْلُ لَا يُدْرِكُ إلَّا الْكُلِّيَّاتِ فَكَيْفَ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مُدْرِكَ الْكُلِّ هُوَ النَّفْسُ لَكِنَّهَا تُدْرِكُ الْكُلِّيَّاتِ بِالْقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ وَالْجُزْئِيَّاتِ بِالْحَوَاسِّ، وَمَعْنَى الْمُعَارَضَةِ انْجِذَابُ النَّفْسِ إلَى آلَةِ الْوَهْمِ دُونَ الْعَقْلِ فِيمَا مَنْ حَقُّهُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ الْعَقْلُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إلْفَهَا بِالْحِسِّ، وَالْوَهْمِ، وَمُدْرَكَاتُهُمَا أَكْثَرُ. (قَوْلُهُ: فَهُوَ) أَيْ الْعَقْلُ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِي جَمِيعِ مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ النَّفْسِ، وَوَرَدَ بِهِ أَمْرُ الشَّارِعِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَطَرُّقِ الْخَطَأِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ فِي إدْرَاكِ شَيْءٍ، وَاكْتِسَابِ حُكْمٍ أَلْبَتَّةَ عَلَى مَا هُوَ رَأْيُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة فِي إثْبَاتِ الْحَاجَةِ إلَى الْمُعَلِّمِ. (قَوْلُهُ فَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ) ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ حَتَّى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا بِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَالْبَالِغُ وَالصَّبِيُّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا عُذِرَ فِي عَمَلِ الْجَوَارِحِ لِضَعْفِ الْبِنْيَةِ بِخِلَافِ عَمَلِ الْقَلْبِ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ كَمَالَ الْعَقْلِ مُعَرِّفٌ لِلْوُجُوبِ، وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُمْ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ مُوجِدٌ لِأَفْعَالِهِ كَذَا فِي الْكِفَايَةِ. (قَوْلُهُ وَإِنْ كَفَرَتْ) أَيْ الْمُرَاهِقَةُ تَبِينُ عَنْ الزَّوْجِ لِأَنَّا إنَّمَا، وَضَعْنَا الْبُلُوغَ مَوْضِعَ كَمَالِ الْعَقْلِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ إذَا لَمْ تَعْرِفْ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَمَّا إذَا تَحَقَّقَ التَّوَجُّهُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ وَالْكُفْرِ فَلَا عُذْرَ فَإِنْ قِيلَ: إذَا نِيطَ الْحُكْمُ بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ دَارَ مَعَهُ وُجُودًا، وَعَدَمًا، وَلَمْ يُعْتَدَّ بِحَقِيقَةِ السَّبَبِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْذَرَ الْمُرَاهِقَةُ الَّتِي كَفَرَتْ كَالْمُسَافِرِ سَفَرًا عَلِمَ أَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ أَصْلًا فَإِنَّهُ تَبْقَى الرُّخْصَةُ بِحَالِهَا قُلْنَا ذَاكَ فِي الْفُرُوعِ، وَأَمَّا فِي الْأُصُولِ لَا سِيَّمَا فِي الْإِيمَانِ فَيَجِبُ إذَا وُجِدَ

[فصل الأهلية ضربان أهلية وجوب وأهلية أداء]

الْغَلَطُ فِي مُقْتَضَيَاتِ الْأَفْكَارِ كَمَا تَرَى مِنْ اخْتِلَافَاتِ الْعُقَلَاءِ بَلْ اخْتِلَافِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ فِي زَمَانَيْنِ فَصَارَ دَلِيلُنَا عَلَى التَّوَسُّطِ بَيْنَ مَذْهَبِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَالْمُعْتَزِلَةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدِهِمَا التَّوَسُّطُ الْمَذْكُورُ فِي مَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، وَثَانِيهِمَا مُعَارَضَةُ الْوَهْمِ الْعَقْلَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْعَقْلِيَّةِ وَتَطَرُّقِ الْخَطَأِ فِيهَا (فَهُوَ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ) أَيْ الْعَقْلُ وَحْدَهُ غَيْرُ كَافٍ فِيمَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ شَيْءٍ آخَرَ إمَّا إرْشَادٌ أَوْ تَنْبِيهٌ لِيَتَوَجَّهَ الْعَقْلُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ أَوْ إدْرَاكِ زَمَانٍ يَحْصُلُ لَهُ التَّجْرِبَةُ فِيهِ فَتُعِينُهُ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ فَلِهَذَا اخْتَرْنَا التَّوَسُّطَ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ، وَهِيَ قَوْلُهُ (فَالصَّبِيُّ الْعَاقِلُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ) لِعَدَمِ اسْتِيفَاءِ مُدَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا لِحُصُولِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ أَوْ دَلِيلُهُ لِعِظَمِ خَطَرِهِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا) أَيْ مِثْلُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الشَّاهِقُ فِي الْجَبَلِ إذَا لَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِالْإِيمَانِ بِمُجَرَّدِ عَقْلِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَصِفْ إيمَانًا، وَلَا كُفْرًا، وَلَمْ يَعْتَقِدْهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَوْ آمَنَ صَحَّ إيمَانُهُ، وَلَوْ وَصَفَ الْكُفْرَ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ وُجِدَ زَمَانَ التَّجْرِبَةِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْتَقِدْ شَيْئًا فَإِنْ، وُجِدَ زَمَانَ التَّجْرِبَةِ، وَالتَّمَكُّنِ فَلَيْسَ بِمَعْذُورٍ، وَإِلَّا فَمَعْذُورٌ، وَلَيْسَ فِي تَقْدِيرِ الزَّمَانِ دَلَالَةٌ عَقْلِيَّةٌ أَوْ سَمْعِيَّةٌ بَلْ ذَلِكَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنْ تَحَقَّقَ يُعْذَرُ بِهِ، وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ قَالَ: لَا عُذْرَ لِأَحَدٍ فِي الْجَهْلِ يُخَالِفُهُ لِمَا يَرَى فِي الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ وَأَمَّا فِي الشَّرَائِعِ فَيُعْذَرُ إلَى قِيَامِ الْحُجَّةِ فَإِنْ قِيلَ: الشَّاهِقُ لَمَّا لَمْ يُكَلَّفْ بِالْإِيمَانِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْدَرَ دَمُهُ بَلْ يَضْمَنُ قَاتِلُهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَقُتِلَ لَمْ يَضْمَنْ قَاتِلُهُ، وَكَذَا الصَّبِيُّ، وَالْمَجْنُونُ إذَا قُتِلَا فِي دَارِ الْحَرْبِ [فَصْلٌ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءً] . (قَوْلُهُ فَصْلٌ ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ) يَعْنِي بَعْدَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِيَّتِهِ لِلْحُكْمِ، وَأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَإِنَّ الْأَهْلِيَّةَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا أَهْلِيَّةُ الْوُجُوبِ أَيْ صَلَاحِيَّتُهُ لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ، وَعَلَيْهِ، وَالثَّانِيَةُ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ أَيْ صَلَاحِيَّتُهُ لِصُدُورِ الْفِعْلِ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا، وَالْأَوْلَى بِالذِّمَّةِ، وَلَمَّا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْبَعْضِ أَنَّ الذِّمَّةَ أَمْرٌ لَا مَعْنَى لَهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ، وَأَنَّهُ مِنْ مُخْتَرَعَاتِ الْفُقَهَاءِ يُعَبِّرُونَ عَنْ وُجُوبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ حَاوَلَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الرَّدَّ عَلَيْهِمْ بِتَحْقِيقِ الذِّمَّةِ لُغَةً، وَشَرْعًا وَإِثْبَاتِهَا بِالنُّصُوصِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الذِّمَّةَ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ مَحَلَّ أَمَانَتِهِ أَكْرَمَهُ بِالْعَقْلِ، وَالذِّمَّةِ حَتَّى صَارَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحُقُوقِ لَهُ، وَعَلَيْهِ، وَثَبَتَ لَهُ حُقُوقُ الْعِصْمَةِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ كَمَا إذَا عَاهَدْنَا الْكُفَّارَ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ تَثْبُتُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا، وَهَذَا

التَّجَارِبِ، وَكَمَالِ الْعَقْلِ (وَلَكِنْ يَصِحُّ مِنْهُ) اعْتِبَارًا لِأَصْلِ الْعَقْلَ، وَرِعَايَةً لِلتَّوَسُّطِ فَجَعَلْنَا مُجَرَّدَ الْعَقْلِ كَافِيًا لِلصِّحَّةِ وَشَرَطْنَا الِانْضِمَامَ الْمَذْكُورَ لِلْوُجُوبِ (وَالْمُرَاهِقَةُ إنْ غَفَلَتْ عَنْ الِاعْتِقَادَيْنِ لَا تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنْ كَفَرَتْ تَبِينُ) فَإِنَّهَا إنْ لَمْ تُدْرِكْ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ لَمْ يُجْعَلْ مُجَرَّدُ عَقْلِهَا كَافِيًا فِي التَّوَجُّهِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ لَكِنْ إنْ تَوَجَّهَتْ عُلِمَ حِينَئِذٍ أَنَّهَا أَدْرَكَتْ مُدَّةَ إفَادَتِهَا التَّوَجُّهَ فَجَعَلْنَا مُجَرَّدَ عَقْلِهَا كَافِيًا إذَا حَصَلَ التَّوَجُّهُ، وَشَرَطْنَا الِانْضِمَامَ إذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّوَجُّهُ. (وَكَذَا الشَّاهِقُ) أَيْ لَا يُكَلَّفُ (قَبْلَ مُضِيِّ زَمَانٍ يَحْصُلُ فِيهِ التَّجْرِبَةُ) ، وَبَعْدَهُ يُكَلَّفُ فَلَا يَضْمَنُ قَاتِلُ الشَّاهِقِ، وَلَوْ قَبْلَ مُدَّةِ التَّجْرِبَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْتَوْجِبْ ـــــــــــــــــــــــــــــQهُوَ الْعَهْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِبَادِهِ يَوْمَ الْمِيثَاقِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جَمْعٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَوَالَدُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي أَدْنَى مُدَّةٍ كَمَوْتِ الْكُلِّ بِالنَّفْخِ فِي الصُّوَرِ، وَحَيَاةِ الْكُلِّ بِالنَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ فَصَوَّرَهُمْ، وَاسْتَنْطَقَهُمْ، وَأَخَذَ مِيثَاقَهُمْ ثُمَّ أَعَادَهُمْ جَمِيعًا فِي صُلْبِ آدَمَ ثُمَّ أَنْسَانَا تِلْكَ الْحَالَةَ ابْتِلَاءً لِنُؤْمِنَ بِالْغَيْبِ، وَحَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَاتِ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ خُصَّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِوُجُوبِ أَشْيَاءَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَتَكَالِيفَ يُؤَاخَذُ بِهَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ بِهَا يَصِيرُ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ فَهِيَ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِمَا لَهُ، وَمَا عَلَيْهِ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ هَذَا صَادِقٌ عَلَى الْعَقْلِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِيمَا سَبَقَ وَأَنَّ الْأَدِلَّةَ لَا تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ وَصْفٍ مُغَايِرٍ لِلْعَقْلِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَقْلَ بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ بَلْ الْعَقْلُ إنَّمَا هُوَ بِمُجَرَّدِ فَهْمِ الْخِطَابِ، وَالْوُجُوبُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُسَمَّى بِالذِّمَّةِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ ثُبُوتُ الْعَقْلِ بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ كَمَا لَوْ رُكِّبَ الْعَقْلُ فِي حَيَوَانٍ غَيْرِ الْآدَمِيِّ لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِمَنْزِلَةِ السَّبَبِ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ، وَعَلَيْهِ، وَالْعَقْلُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَإِنْ قُلْتَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ وَجَبَ أَوْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ كَذَا قُلْتُ مَعْنَاهُ الْوُجُوبُ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَلَمَّا كَانَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِهِ جَعَلُوهُ بِمَنْزِلَةِ ظَرْفٍ يَسْتَقِرُّ فِيهِ الْوُجُوبُ دَلَالَةً عَلَى كَمَالِ التَّعَلُّقِ، وَإِشَارَةً إلَى أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْعَهْدِ، وَالْمِيثَاقِ الْمَاضِي كَمَا يُقَالُ وَجَبَ فِي الْعَهْدِ وَالْمُرُوءَةِ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّمَّةِ فِي الشَّرْعِ نَفْسٌ، وَرَقَبَةٌ لَهَا ذِمَّةٌ وَعَهْدٌ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ، وَجَبَ عَلَى نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَحَلًّا لِذَلِكَ الْعَهْدِ فَالرَّقَبَةُ تَفْسِيرٌ لِلنَّفْسِ، وَالْعَهْدُ تَفْسِيرٌ لِلذِّمَّةِ، وَهَذَا عِنْدَ التَّحْقِيقِ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَحَلِّ بِاسْمِ الْحَالِ، وَالْمَقْصُودُ وَاضِحٌ. (قَوْلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف: 172]

عِصْمَةً بِدُونِ دَارِ الْإِسْلَامِ . (فَصْلٌ) ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ ضَرْبَانِ: أَهْلِيَّةُ وُجُوبٍ وَأَهْلِيَّةُ أَدَاءٍ أَمَّا الْأُولَى فَبِنَاءً عَلَى الذِّمَّةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْعَهْدُ، وَفِي الشَّرْعِ وَصْفٌ يَصِيرُ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِمَا لَهُ، وَعَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] هَذِهِ الْآيَةُ إخْبَارٌ عَنْ عَهْدٍ جَرَى بَيْنَ اللَّهِ، وَبَيْنَ بَنِي آدَمَ، وَعَنْ إقْرَارِهِمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِرُبُوبِيَّتِهِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِمْ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقٍ تَجِبُ لِلرَّبِّ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ وَصْفٍ يَكُونُونَ بِهِ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ فَيَثْبُتُ لَهُمْ الذِّمَّةُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ. (وَقَالَ {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] الْعَرَبُ كَانُوا يَنْسُبُونَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إلَى الطَّائِرِ فَإِنْ مَرَّ سَانِحًا يَتَيَمَّنُونَ بِهِ وَإِنْ مَرَّ بَارِحًا يَتَشَاءَمُونَ بِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّهُ تَمْثِيلٌ وَالْمُرَادُ نَصْبُ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْوَحْدَانِيَّة الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الضَّلَالِ، وَالْهُدَى وَكَذَا قَوْله تَعَالَى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} [الإسراء: 13] الْآيَةُ تَمْثِيلٌ لِلُزُومِ الْعَمَلِ لَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ لِلْعُنُقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ اسْتِعَارَةٍ فِي الْعُنُقِ عَلَى انْفِرَادِهِ كَمَا يُقَالُ جُعِلَ الْقَضَاءُ فِي عُنُقِهِ لَا يُرَادُ وَصْفٌ بِهِ صَارَ أَهْلًا لِذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مُجَرَّدُ الْإِلْزَامِ، وَالِالْتِزَامِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ إلَى عُلَمَاءِ الْبَيَانِ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] فَالْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ الطَّاعَةُ الْوَاجِبَةُ الْأَدَاءِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهَا لِعِظَمِهَا بِحَيْثُ لَوْ عُرِضَتْ عَلَى هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعِظَامِ، وَكَانَتْ ذَاتَ شُعُورٍ وَإِدْرَاكٍ لَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ مَعَ ضَعْفِ بِنْيَتِهِ، وَرَخَاوَةِ قُوَّتِهِ لَا جَرَمَ فَإِذَا الرَّاعِي لَهَا، وَالْقَائِمُ بِحُقُوقِهَا بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ أَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا حَيْثُ لَمْ يَفِ بِهَا، وَلَمْ يُرَاعِ حُقُوقَهَا جَهُولًا بِكُنْهِ عَاقِبَتِهَا، وَهَذَا وَصْفٌ لِلْجِنْسِ بِاعْتِبَارِ الْأَغْلَبِ، وَقِيلَ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأَجْرَامَ خَلَقَ فِيهَا فَهْمًا، وَقَالَ لَهَا إنِّي فَرَضْتُ فَرِيضَةً، وَخَلَقْتُ جَنَّةً لِمَنْ أَطَاعَنِي وَنَارًا لِمَنْ عَصَانِي فَقُلْنَ نَحْنُ مُسَخَّرَاتٌ عَلَى مَا خُلِقْنَا لَا نَحْمِلُ فَرِيضَةً، وَلَا نَبْغِي ثَوَابًا، وَلَا عِقَابًا، وَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ عَرَضَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَحَمَلَهُ، وَكَانَ ظَلُومًا لِنَفْسِهِ بِتَحَمُّلِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهَا جَهُولًا بِوَخَامَةِ عَاقِبَتِهِ، وَقِيلَ: الْأَمَانَةُ الْعَقْلُ وَالتَّكْلِيفُ، وَعَرَضُهَا عَلَيْهِنَّ اعْتِبَارُهَا بِالْإِضَافَةِ إلَى اسْتِعْدَادِهِنَّ، وَإِبَاؤُهُنَّ عَدَمُ اللِّيَاقَةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَحَمَلَ الْإِنْسَانَ قَابِلِيَّتُهُ وَاسْتِعْدَادُهُ، وَكَوْنُهُ ظَلُومًا جَهُولًا لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، وَالشَّهَوِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْحَمْلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مِنْ فَوَائِدِ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ مُهَيْمِنًا عَلَى الْقُوَّتَيْنِ حَافِظًا لَهُمَا عَنْ التَّعَدِّي، وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ، وَالْعِظَمِ. مَقَاصِدُ التَّكْلِيفِ تَعْدِيلُهُمَا، وَكَسْرُ سَوْرَتِهِمَا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ وَصْفًا بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِمَا عَلَيْهِ، وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ دَلَالَةٍ لِلْعِتْقِ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيُّ حَاجَةٍ إلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِعَارَةِ فِي كُلِّ فَرْدٍ مِنْ مُفْرَدَاتِ الْكَلَامِ، وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَبْنَى هَذِهِ الِاسْتِدْلَالَاتِ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَلْزَمُهُ

فَاسْتُعِيرَ الطَّائِرُ لِمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ سَبَبٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَهُوَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدَرُهُ، وَأَعْمَالُ الْعِبَادِ فَإِنَّهَا وَسِيلَةٌ لَهُمْ إلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَالْمَعْنَى أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍ، وَأَلْزَمْنَاهُ عَمَلَهُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوْ الْغُلِّ الْعُنُقَ أَيْ لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَبَدًا فَدَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى لُزُومِ الْعَمَلِ لِلْإِنْسَانِ فَمَحَلُّ ذَلِكَ اللُّزُومُ، وَهُوَ الذِّمَّةُ فَقَوْلُهُ فِي عُنُقِهِ اسْتَعَارَ الْعُنُقَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي بِهِ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ لُزُومَ الْقِلَادَةِ أَوْ الْغُلِّ الْعُنُقَ. (وَقَالَ: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] فَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى خُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِحَمْلِ أَعْبَاءِ التَّكْلِيفِ أَيْ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ وَصْفًا هُوَ بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِمَا عَلَيْهِ وَقَدْ فَسَّرَ الذِّمَّةَ بِوَصْفٍ يَصِيرُ هُوَ بِهِ أَهْلًا لِمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وَصْفٍ يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِمَا لَهُ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا إثْبَاتُ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ هَذَا كَافِيًا فِي إثْبَاتِ الْمَقْصُودِ، وَأَمَّا الدَّلَائِلُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَيَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ وَصْفٍ بِهِ يَصِيرُ أَهْلًا لِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى هَذِهِ التَّكَالِيفِ بَلْ دَلَالَةُ قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَظْهَرُ، وَكَذَا ثُبُوتُ الْحُقُوقِ لَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ وَصْفًا هُوَ الذِّمَّةُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِذَاتِ الْإِنْسَانِ عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّزْقِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْإِنْسَانِ فَيَلْزَمُ ثُبُوتُ الذِّمَّةِ لِكُلِّ دَابَّةٍ. (قَوْلُهُ فَإِنْ مَرَّ سَانِحًا) السَّانِحُ مَا وَلَّاكَ مَيَامِنَهُ أَيْ يَمُرُّ مِنْ مَيَاسِرِكَ إلَى مَيَامِنِكَ وَالْبَارِحُ بِالْعَكْسِ، وَالْعَرَبُ تَتَطَيَّرُ بِالْبَارِحِ، وَتَتَفَاءَلُ بِالسَّانِحِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَرْمِيَهُ حَتَّى يَنْحَرِفَ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ اُسْتُعِيرَ الطَّائِرُ لِمَا هُوَ سَبَبُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدَرِهِ، وَعَمَلِ الْعَبْدِ فَإِنَّ مَا قُدِّرَ لِلْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ طَائِرٍ يَطِيرُ إلَيْهِ مِنْ عُشِّ الْغَيْبِ وَوَكْرِ الْقَدَرِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ التَّسَامُحِ حَيْثُ جَعَلَ الطَّائِرَ اسْتِعَارَةً لِسَبَبِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَيْ قَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، وَأَعْمَالِ الْعِبَادِ، ثُمَّ قَالَ فَالْمَعْنَى أَلْزَمْنَاهُ مَا قُضِيَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَشَرٍّ فَجُعِلَ الطَّائِرُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ الْمَقْضِيِّ بِهِ ثُمَّ الْقَضَاءُ هُوَ الْحُكْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَمْرُ أَوَّلًا، وَالْقَدَرُ هُوَ التَّقْدِيرُ، وَالتَّفْصِيلُ بِالْإِظْهَارِ، وَالْإِيجَادُ ثَانِيًا، وَفِي كَلَامِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ، وَاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مُجْتَمِعَةً مُجْمَلَةً عَلَى سَبِيلِ الْإِبْدَاعِ، وَالْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهَا مُفَصَّلَةً مُنَزَّلَةً فِي الْأَعْيَانِ بَعْدَ حُصُولِ الشَّرَائِطِ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21] وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا يُقَالُ إنَّ الْقَضَاءَ مَا فِي الْعِلْمِ وَالْقَدَرَ مَا فِي الْإِرَادَةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ فَهُنَاكَ شَيْئَانِ: الْإِرَادَةُ وَالْقَوْلُ فَالْإِرَادَةُ قَضَاءٌ، وَالْقَوْلُ قَدَرٌ. (قَوْلُهُ: فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ) يَعْنِي أَنَّ الْجَنِينَ قَبْلَ الِانْفِصَالِ عَنْ الْأُمِّ جُزْءٌ مِنْهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِانْتِقَالِهَا، وَيَقِرُّ بِقَرَارِهَا وَمُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ التَّفَرُّدِ بِالْحَيَاةِ وَالتَّهَيُّؤِ لِلِانْفِصَالِ فَيَكُونُ لَهُ ذِمَّةٌ مِنْ وِجْهَةٍ حَتَّى يَصِلَ وُجُوبُ الْحُقُوقِ لَهُ كَالْإِرْثِ، وَالْوَصِيَّةِ وَالنَّسَبِ لَا لِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْوَلِيُّ لَهُ شَيْئًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ

الدَّالَّةُ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِمَا لَهُ فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وقَوْله تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وَنَحْوِهِمَا. (فَقَبْلَ الْوِلَادَةِ لَهُ ذِمَّةٌ مِنْ وَجْهٍ يَصْلُحُ لِيَجِبَ لَهُ الْحَقُّ لَا لِيَجِبَ عَلَيْهِ فَإِذَا وُلِدَ تَصِيرُ ذِمَّتُهُ مُطْلَقَةً لَكِنَّ الْوُجُوبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ بَلْ الْمَقْصُودُ حُكْمُهُ، وَهُوَ الْأَدَاءُ فَكُلُّ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ يَجِبُ وَمَا لَا يُمْكِنُ فَلَا فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مَا كَانَ مِنْهَا غُرْمًا، وَعَرَضًا يَجِبُ) أَيْ عَلَى الصَّبِيِّ، وَهَذَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ فَإِذَا وُلِدَ (لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَالُ وَأَدَاؤُهُ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ، وَكَذَا مَا كَانَ صِلَةً تُشْبِهُ الْمُؤَنَ أَوْ الْأَعْوَاضَ كَنَفَقَةِ الْقَرِيبِ) نَظِيرُ الصِّلَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُؤَنَ (وَالزَّوْجَةِ) نَظِيرُ الصِّلَةِ الَّتِي تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ (لَا صِلَةً تُشْبِهُ الْأَجْزِيَةَ) أَيْ لَا يَجِبُ (فَلَا يَتَحَمَّلُ الْعَقْلَ) أَيْ لَا يَتَحَمَّلُ الصَّبِيُّ الدِّيَةَ. (وَإِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَأَمَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْ الْأُمِّ فَيَصِيرُ ذِمَّتُهُ مُطْلَقَةً لِصَيْرُورَتِهِ نَفْسًا مُسْتَقِلَّةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَصِيرُ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ وَعَلَيْهِ حَتَّى كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ كُلُّ حَقٍّ يَجِبُ عَلَى الْبَالِغِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْأَدَاءِ لِضَعْفِ بِنْيَتِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْوُجُوبِ هُوَ الْأَدَاءُ اخْتَصَّ وَاجِبَاتِهِ بِمَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ عَنْهُ فَلِهَذَا اُحْتِيجَ إلَى تَفْصِيلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَمَيُّزِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ عَمَّا لَا يَجِبُ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. (قَوْلُهُ كَنَفَقَةِ الْقُرْبِ) فَإِنَّهَا صِلَةٌ تُشْبِهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ كِفَايَةً لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَقَارِبُهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجِ فَإِنَّهَا تُشْبِهُ الْأَعْرَاضَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا وَجَبَتْ جَزَاءً لِلِاحْتِبَاسِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا عِنْدَ الرَّجُلِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ صِلَةً لَا عِوَضًا مَحْضًا لِأَنَّهَا لَمْ تَجِبْ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِطَرِيقِ التَّسْمِيَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْأَعْوَاضِ فَلِكَوْنِهَا صِلَةً تَسْقُطُ بِمَعْنَى الْمُدَّةِ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْتِزَامٌ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، وَلِشَبَهِهَا بِالْأَعْوَاضِ تَصِيرُ دِينًا بِالِالْتِزَامِ. (قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا) أَيْ الصَّبِيُّ لَا يَتَحَمَّلُ الدِّيَةَ وَإِنْ كَانَ ذَا عَقْلٍ، وَتَمْيِيزٍ لِأَنَّ الدِّيَةَ وَإِنْ كَانَتْ صِلَةً إلَّا أَنَّهَا تُشْبِهُ جَزَاءَ التَّقْصِيرِ فِي حِفْظِ الْقَاتِلِ عَنْ فِعْلِهِ، وَالصَّبِيُّ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا إيهَامُ أَنَّ الْمُرَادَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَاقِلَةِ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادٍ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الدِّيَةِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ الْعَاقِلَةِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَاقِلَةِ. (قَوْلُهُ فَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الصَّبِيِّ فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ جُمْلَةِ الْعِبَادَاتِ الْإِيمَانُ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَدَنِيٍّ، وَلَا مَالِيٍّ لِكَوْنِهِ عَمَلُ الْقَلْبِ قُلْتُ: جَعَلَهُ مِنْ الْبَدَنِيَّةِ تَغْلِيبًا أَوْ بِاعْتِبَارِ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْإِقْرَارِ الَّذِي هُوَ عَمَلُ اللِّسَانِ، وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا عَقَلَ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفْسُ الْإِيمَانِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ لِأَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ يَثْبُتُ بِأَسْبَابِهِ عَلَى طَرِيقِ الْجَبْرِ إذَا لَمْ يَخْلُ عَنْ فَائِدَةٍ، وَحُدُوثُ الْعَالَمِ وَهُوَ السَّبَبُ مُتَقَرِّرٌ فِي حَقِّهِ، وَأَمَّا الْخِطَابُ فَإِنَّمَا هُوَ لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ فَلَوْ أَدَّى الْإِيمَانَ بِالْإِقْرَارِ مَعَ التَّصْدِيقِ

كَانَ عَاقِلًا) فِي هَذَا الْكَلَامِ إبْهَامٌ (لِأَنَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ جَزَاءَ أَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْهُ عَمَّا فَعَلَ، وَلَا الْعُقُوبَةَ) أَيْ لَا يَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ الْعُقُوبَةُ (كَالْقِصَاصِ، وَلَا الْأَجْزِيَةَ كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ عَلَى مَا مَرَّ) فِي بَابِ الْمَحْكُومِ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ بِالْقَتْلِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالتَّقْصِيرِ. (وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعِبَادَاتُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ أَمَّا الْبَدَنِيَّةُ فَظَاهِرَةٌ) ؛ لِأَنَّ الصِّبَا سَبَبُ الْعَجْزِ (وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَدَاءُ لَا الْمَالُ فَلَا يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ) فَصَارَتْ كَالْبَدَنِيَّةِ (وَلَا الْعُقُوبَاتُ كَالْحُدُودِ وَلَا عِبَادَةٌ فِيهَا مُؤْنَةٌ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِرُجْحَانِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَيَجِبُ عِنْدَهُمَا اجْتِزَاءً) أَيْ اكْتِفَاءً (بِالْأَهْلِيَّةِ الْقَاصِرَةِ، وَمَا كَانَ مُؤْنَةً مَحْضَةً كَالْعُشْرِ، وَالْخَرَاجِ يَجِبُ، وَعَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ) وَهُوَ أَنَّ مَا يُمْكِنُ أَدَاؤُهُ يَجِبُ، وَمَا لَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَقَعَ فَرْضًا لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْتَمِلُ النَّفَلَ أَصْلًا، وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ الْإِيمَانِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّ الصِّبَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِعُذْرِ النَّوْمِ، وَالْإِغْمَاءِ بِخِلَافِ نَفْسِ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ، وَالصِّبَا لَا يُنَافِيهِ فَيَبْقَى نَفْسُ الْوُجُوبِ وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الصَّبِيِّ، وَهُوَ يَأْبَاهُ بَعْدَ مَا عَرَضَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَذَهَبَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّهُ لَا وُجُوبَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ، وَإِنْ عَقَلَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ حُكْمِهِ، وَهُوَ الْأَدَاءُ لَكِنْ إذَا أَدَّى يَكُونُ الْإِيمَانُ الْمُؤَدَّى فَرْضًا لِأَنَّ عَدَمَ الْوُجُوبِ إنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْحُكْمِ فَقَطْ، وَإِلَّا فَالسَّبَبُ وَالْمَحَلُّ قَائِمٌ فَإِذَا وُجِدَ وُجِدَ كَالْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ تَقَعُ فَرْضًا. (قَوْلُهُ وَأَمَّا الْمَالِيَّةُ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَدَاءُ) يَعْنِي أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ مَثَلًا هُوَ الْأَدَاءُ لِيَظْهَرَ الْمُطِيعُ عَنْ الْعَاصِي لَا الْمَالُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ الْأَدَاءَ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ عَدَمِ أَدَاءِ الْبَعْضِ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُحَالٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِمَعْرِفَتِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْبَعْضِ خِلَافُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى هَذِهِ الْإِجَابَةُ إلَى مَا قِيلَ: إنَّ الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ هُوَ الْأَدَاءُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الِائْتِمَارَ، وَأَمَّا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَالْمَقْصُودُ الِابْتِلَاءُ، وَإِلْزَامُ الْحُجَّةِ فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي الْمَالِيَّةِ كَمَا إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ عَلَى الصَّبِيِّ وَيُؤَدِّيَ عَنْهُ وَلِيُّهُ أُجِيبَ بِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ فِي النِّيَابَةِ الِاخْتِيَارِيَّةِ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ فَيَصْلُحُ عِبَادَةً بِخِلَافِ النِّيَابَةِ الْجَبْرِيَّةِ كَنِيَابَةِ الْوَلِيِّ. (قَوْلُهُ: مُؤْنَةٌ مَحْضَةٌ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ) يَعْنِي بِالْمَحْضِ أَنَّهُ بِحَسَبِ الْأَصْلِ وَالْقَصْدُ لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعُشْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِي الْخَرَاجِ إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْوَصْفِ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ. (قَوْلُهُ وَالْكَامِلَةُ) أَيْ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ تَكُونُ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ أَيْ الْمَقْرُونُ بِقُوَّةِ الْبَدَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ الْأَدَاءِ لَيْسَ مُجَرَّدَ فَهْمِ الْخِطَابِ بَلْ مَعَ قُدْرَةِ الْعَمَلِ

فَلَا. (قُلْنَا لَوْ وَجَبَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى الْحَائِضِ وَالْحَيْضُ يُنَافِيهَا لِظُهُورِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْقَضَاءِ، وَفِي قَضَائِهَا حَرَجٌ فَيَسْقُطُ أَصْلُ الْوُجُوبِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ إذْ لَيْسَ فِي الْقَضَاءِ حَرَجٌ، وَالْأَدَاءُ مُحْتَمَلٌ) أَيْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ الصَّوْمِ مِنْ الْحَائِضِ وَاجِبًا (لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُنَافِي الصَّوْمَ، وَعَدَمُ جَوَازِهِ مِنْهَا) أَيْ عَدَمُ جَوَازِ الصَّوْمِ مِنْ الْحَائِضِ (خِلَافُ الْقِيَاسِ فَيَنْتَقِلُ إلَى الْخَلَفِ) أَيْ يَنْتَقِلُ الْوُجُوبُ إلَى الْخَلَفِ، وَهُوَ الْقَضَاءُ (وَالْجُنُونُ الْمُمْتَدُّ بِوُجُوبِ الْحَرَجِ فِي الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَكَذَا الْإِغْمَاءُ الْمُمْتَدُّ فِي الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْإِغْمَاءُ (يَنْدُرُ مُسْتَوْعِبًا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ) أَيْ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ (فَقَاصِرَةٌ، وَكَامِلَةٌ، وَكُلٌّ تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ كَذَلِكَ) أَيْ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْقَاصِرَةِ تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ قَاصِرَةٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِهِ، وَهُوَ بِالْبَدَنِ فَإِذَا كَانَتْ كِلْتَا الْقُدْرَتَيْنِ مُنْحَطَّةً عَنْ دَرَجَةِ الْكَمَالِ كَمَا فِي الصَّبِيِّ الْغَيْرِ الْعَاقِلِ أَوْ إحْدَاهُمَا كَمَا فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ أَوْ الْمَعْتُوهِ الْبَالِغِ كَانَتْ الْأَهْلِيَّةُ نَاقِصَةً. (قَوْلُهُ فَمَا يَثْبُتُ) بِالْقُدْرَةِ النَّاقِصَةِ أَقْسَامٌ لِأَنَّهَا إمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَالْأَوَّلُ إمَّا حَسَنٌ لَا يَحْتَمِلُ الْقُبْحَ، وَإِمَّا قَبِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ الْحُسْنَ وَإِمَّا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا، وَالثَّانِي إمَّا نَفْعٌ مَحْضٌ أَوْ ضَرَرٌ مَحْضٌ أَوْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهُمَا صَارَتْ سِتَّةً وَأَحْكَامُهَا مَذْكُورَةٌ فِي الْمَتْنِ. (قَوْلُهُ وَهُوَ بَاطِلٌ فِيمَا هُوَ حَسَنٌ، وَفِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ) يَعْنِي أَنَّ الْإِيمَانَ وَفُرُوعَهُ حَسَنٌ، وَفِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ فَلَا يَلِيقُ بِالشَّارِعِ الْحَكِيمِ الْحَجْرُ عَنْهُ فَإِنْ قِيلَ: هُوَ يَحْتَمِلُ الضَّرَرَ بِالِالْتِزَامِ، وَالْعُهْدَةِ حَيْثُ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ لُزُومِ الْأَدَاءِ، وَلُزُومُ الْأَدَاءِ هُوَ مَوْضُوعٌ عَنْ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِعُذْرِ النَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ وَالْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْأَدَاءِ وَصِحَّتُهُ فَنَفْعٌ مَحْضٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ: نَفْسُ الْأَدَاءِ أَيْضًا يَحْتَمِلُ الضَّرَرَ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ عَنْ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ، وَالْفُرْقَةِ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْمُشْرِكَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمَا مُضَافَانِ إلَى إسْلَامِ الصَّبِيِّ بَلْ إلَى كُفْرِ الْمُوَرِّثِ وَالزَّوْجَةِ، وَلَوْ سُلِّمَ فَهُمَا مِنْ ثَمَرَاتِ إسْلَامِهِ وَأَحْكَامُهُ اللَّازِمَةُ مِنْهُ ضِمْنًا لَا مِنْ أَحْكَامِهِ الْأَصْلِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هُوَ لَهَا لِظُهُورِ أَنَّ الْإِيمَانَ إنَّمَا وُضِعَ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، وَصِحَّةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ مِنْ حُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي وُضِعَ هُوَ لَهُ لَا مِمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ وَرِثَ قَرِيبَهُ أَوْ وُهِبَ مِنْهُ قَرِيبُهُ فَقَبِلَهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ ضَرَرٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْإِرْثِ، وَالْهِبَةِ هُوَ الْمِلْكُ بِلَا عِوَضٍ لَا الْعِتْقُ الَّذِي تَرَتَّبَ عَلَيْهِمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. (قَوْلُهُ: أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا) أَيْ حِرْمَانُ الْإِرْثِ عَنْ الْمُوَرَّثِ الْكَافِرِ، وَالْفُرْقَةُ عَنْ الزَّوْجَةِ الْوَثَنِيَّةِ يَثْبُتَانِ فِيمَا إذَا ثَبَتَ إيمَانُ الصَّبِيِّ تَبَعًا بِأَنْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ، وَلَمْ يُعَدَّ إضْرَارًا يَمْنَعُ صِحَّةَ ثُبُوتِ الْإِيمَانِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الثَّمَرَاتِ وَاللَّوَازِمِ

وَأَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ الْكَامِلَةِ تَثْبُتُ بِقُدْرَةٍ كَامِلَةٍ. (وَالْقُدْرَةُ الْقَاصِرَةُ تَثْبُتُ بِالْعَقْلِ الْقَاصِرِ، وَهُوَ عَقْلُ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ وَالْكَامِلَةُ بِالْعَقْلِ الْكَامِلِ، وَهُوَ عَقْلُ الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَعْتُوهِ فَمَا يَثْبُتُ بِالْقَاصِرَةِ أَقْسَامٌ فَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْإِيمَانِ وَفُرُوعِهِ تَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مُرُوا صِبْيَانَكُمْ) بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ إذَا بَلَغُوا عَشْرًا» (وَإِنَّمَا الضَّرْبُ لِلتَّأْدِيبِ) جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: كَيْفَ يُضْرَبُ، وَالضَّرْبُ عُقُوبَةٌ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا؟ فَأَجَابَ بِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ لِلتَّأْدِيبِ، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِلتَّأْدِيبِ (وَلِأَنَّهُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (أَهْلٌ لِلثَّوَابِ، وَلِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا وُجِدَ لَا يَنْعَدِمُ شَرْعًا إلَّا بِحَجْرِهِ) أَيْ بِحَجَرِ الشَّرْعِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فِيمَا هُوَ حَسَنٌ، وَفِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ وَلَا ضَرَرَ إلَّا فِي لُزُومِ أَدَائِهِ، وَهُوَ عَنْهُ مَوْضُوعٌ (وَأَمَّا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ، وَالْفُرْقَةُ فَيُضَافَانِ إلَى كُفْرِ الْآخَرِ) جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْأَحْكَامِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِيمَانِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْكُفْرُ فَيُعْتَبَرُ) مِنْ الصَّبِيِّ أَيْضًا كَمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ الْإِيمَانُ إذْ لَوْ عُفِيَ عَنْهُ الْكُفْرُ، وَجُعِلَ مُؤْمِنًا لَصَارَ الْجَهْلُ بِاَللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا بِهِ لِأَنَّ الْكُفْرَ جَهْلٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَصِفَاتِهِ، وَأَحْكَامِهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَالْجَهْلُ لَا يُجْعَلُ عِلْمًا فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَكَيْفَ فِي حَقِّ رَبِّ الْأَرْبَابِ فَيَصِحُّ ارْتِدَادُ الصَّبِيِّ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْكُفْرِ، وَدُخُولَ الْجَنَّةِ مَعَ الشِّرْكِ مِمَّا لَمْ يَرِدُ بِهِ شَرْعٌ، وَلَا حَكَمَ بِهِ عَقْلٌ كَذَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَبِينَ مِنْهُ امْرَأَتُهُ الْمُسْلِمَةُ، وَيَحْرُمَ الْمِيرَاثُ مِنْ مُوَرِّثِهِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الرِّدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ لِأَنَّ الْكُفْرَ مَحْظُورٌ لَا يَحْتَمِلُ الْمَشْرُوعِيَّةَ بِحَالٍ، وَلَا يَسْقُطُ بِعُذْرٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَلْ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقَتْلِ لَيْسَ بِمُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ بَلْ بِالْمُحَارَبَةِ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا كَالْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا لَمْ يُقْتَلْ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ حَالَ الصِّبَا شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ. (قَوْلُهُ بِلَا عُهْدَةٍ) أَيْ لَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ، وَالْعَبْدَ بِتَصَرُّفَاتِهِمَا بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ عُهْدَةٌ لِأَنَّ مَا فِيهِ احْتِمَالَ الضَّرَرِ لَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ الْوَلِيُّ فَيَنْدَفِعَ قُصُورُ رَأْيِهِ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ فَيَلْزَمُهُ الْعُهْدَةُ. (قَوْلُهُ: وَلَا مُبَاشَرَتُهُ) لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ نَظَرِيَّةٌ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ فِيمَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْحَقُّ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي إثْبَاتِ أَصْلِ الْحُكْمِ حَتَّى يَمْلِكَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَوْ أَسْلَمَتْ الزَّوْجَةُ، وَأَبَى الزَّوْجُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَذَا إذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ وَحْدَهُ (قَوْلُهُ: إلَّا الْقَرْضَ) أَيْ الْإِقْرَاضَ إذْ اسْتِقْرَاضُ مَالِ الصَّبِيِّ يَجُوزُ لِلْأَبِ دُونَ الْقَاضِي، وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ قَطْعُ الْمِلْكِ عَنْ الْعَيْنِ بِبَدَلِهِ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَلِيٍّ فِي الْغَالِبِ فَيُشْبِهُ التَّبَرُّعَ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ، وَأَمَّا الْقَاضِي فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَطْلُبَ مَلِيًّا، وَيُقْرِضَهُ مَالَ الْيَتِيمِ، وَيَكُونَ الْبَدَلُ مَأْمُونَ

لُزُومَ أَدَاءِ الْإِسْلَامِ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا عَنْ الصَّبِيِّ لِكَوْنِهِ ضَرَرًا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَثْبُتَ بِإِسْلَامِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ عَنْ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ، وَلَا الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ الْوَثَنِيَّةِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا ضَرَرٌ فَأَجَابَ بِأَنَّهُمَا يُضَافَانِ إلَى كُفْرِ الْآخَرِ لَا إلَى إسْلَامِهِ (وَأَيْضًا هُمَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْإِيمَانِ) وَإِنَّمَا يُعْرَفُ صِحَّةُ الشَّيْءِ بِحُكْمِهِ الَّذِي وُضِعَ لَهُ وَهُوَ سَعَادَةُ الدَّارَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ تَبَعًا، وَلَمْ يُعَدَّا ضَرَرًا حَتَّى لَوْ كَانَ ضَرَرًا لَا يَلْزَمُ بِتَبَعِيَّةِ الْأَبِ إذْ تَصَرُّفَاتُ الْأَبِ لَا تَلْزَمُ الصَّغِيرَ فِيمَا هُوَ ضَرَرٌ مَحْضٌ (وَأَمَّا الْكُفْرُ فَيُعْتَبَرُ مِنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ لَا يُعَدُّ عِلْمًا فَتَصِحُّ رِدَّتُهُ فَيَلْزَمُ أَحْكَامُ الْآخِرَةِ) لِأَنَّهَا تَتْبَعُ الِاعْتِقَادِيَّات وَالِاعْتِقَادِيَّات أُمُورٌ مَوْجُودَةٌ حَقِيقَةً لَا مَرَدَّ لَهَا بِخِلَافِ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ (وَكَذَا أَحْكَامُ الدُّنْيَا لِأَنَّهَا تَثْبُتُ ضِمْنًا) أَيْ لِأَنَّ أَحْكَامَ الدُّنْيَا تَثْبُتُ بِالْكُفْرِ ضِمْنًا وَالْأَحْكَامُ الْقَصْدِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ هِيَ الْأَحْكَامُ الْأُخْرَوِيَّةُ، وَلَمَّا كَانَتْ ثَابِتَةً ضِمْنًا تَثْبُتُ، وَإِنْ كَانَتْ ضَرَرًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ قَصْدًا مَا هُوَ ضَرَرٌ دُنْيَوِيٌّ (عَلَى أَنَّهَا تَلْزَمُ تَبَعًا ـــــــــــــــــــــــــــــQالتَّلَفِ بِاعْتِبَارِ الْمُلَاءَةِ، وَعِلْمِ الْقَاضِي وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّحْصِيلِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَبَيِّنَةٍ وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِ الْقَاضِي أَقْدَرَ عَلَى اسْتِيفَائِهِ، وَفِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَيْضًا. (قَوْلُهُ وَمَا كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا) أَيْ مُحْتَمِلًا لِلنَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ، وَيَحْتَمِلُ الرِّبْحَ، وَالْخُسْرَانَ، وَكَذَا الشِّرَاءُ وَالْإِجَارَةُ، وَالنِّكَاحُ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَعَلَ احْتِمَالَ الضَّرَرِ بِاعْتِبَارِ خُرُوجِ الْبَدَلِ عَنْ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ بَاعَ الشَّيْءَ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ كَانَ ضَرَرًا وَنَفْعًا، وَيَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَنْدَفِعَ الضَّرَرُ بِحَالٍ قَطُّ وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ احْتِمَالَ الضَّرَرِ يَنْدَفِعُ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ. (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَيْ الصَّبِيَّ أَهْلٌ لِحُكْمِهِ) أَيْ حُكْمِ مَا هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ إذَا بَاشَرَهُ الْوَلِيُّ بِنَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الثَّمَنَ إذَا بَاعَ الْوَلِيُّ مَالَهُ، وَيَمْلِكُ الْعَيْنَ إذَا اشْتَرَاهَا لَهُ، وَيَمْلِكُ الْأُجْرَةَ إذَا أَجَّرَ عَيْنًا لَهُ. (قَوْلُهُ وَتَوْسِيعُ طَرِيقِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ) حَيْثُ يَثْبُتُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ، وَمُبَاشَرَةِ الصَّبِيِّ. (قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا) أَيْ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّفْعَ وَالضَّرَرَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ حَتَّى كَانَ الصَّبِيُّ آلَةً فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ تَصَرُّفُ الْوَلِيِّ، وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رَأْيَ الْوَلِيِّ شَرْطٌ لِلْجَوَازِ، وَعُمُومُ رَأْيِهِ كَخُصُوصِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْوَلِيَّ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ يَعْنِي أَنَّ رَأْيَ الْوَلِيِّ شَرْطٌ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالصَّبِيِّ، وَرَأْيَهُ فِيمَا إذَا تَصَرَّفَ الصَّبِيُّ عَامٌّ حَيْثُ جَاوَزَ تَصَرُّفَهُ إلَى تَصَرُّفِ الْغَيْرِ، وَفِيمَا إذَا بَاشَرَ بِنَفْسِهِ خَاصٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ فَيُجْعَلُ عُمُومُ رَأْيِهِ بِأَنْ عَمِلَ بِيَدِ الْغَيْرِ كَخُصُوصِهِ بِأَنْ يَعْمَلَ بِيَدِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْوَلِيَّ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا وَصِيَّتُهُ فَبَاطِلَةٌ) جَوَابُ سُؤَالٍ يُمْكِنُ تَقْرِيرُهُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفْعٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا الثَّوَابُ فِي الْآخِرَةِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْمَالِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّ

[فصل الأمور المعترضة على الأهلية]

أَيْضًا) أَيْ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ تَلْزَمُ الصَّبِيَّ تَبَعًا لِلْأَبَوَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ تَصَرُّفَاتُهُمَا الضَّارَّةُ قَصْدًا. (، وَأَمَّا حُقُوقُ الْعِبَادِ فَمَا كَانَ نَفْعًا مَحْضًا كَقَبُولِ الْهِبَةِ، وَنَحْوِهِ يَصِحُّ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ، وَلِيُّهُ فَإِنْ آجَرَ الْمَحْجُورُ) أَيْ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ أَوْ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ (نَفْسَهُ وَعَمِلَ يَجِبُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا) ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِبُطْلَانِ الْعَقْدِ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ عَدَمَ الصِّحَّةِ كَانَ لِحَقِّ الْمَحْجُورِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ ضَرَرٌ فَإِذَا عَمِلَ فَوُجُوبُ الْأُجْرَةِ نَفْعٌ مَحْضٌ، وَإِنَّمَا الضَّرَرُ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ لَكِنْ فِي الْعَبْدِ يُشْتَرَطُ السَّلَامَةُ حَتَّى إنْ تَلِفَ فِيهِ يَضْمَنُ أَيْ إنْ تَلِفَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ (بِخِلَافِ الصَّبِيِّ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْحُرِّ، وَإِذَا قَاتَلَا لَا يَسْتَحِقَّانِ الرَّضْخَ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ، وَالرَّضْخُ عَطَاءٌ لَا يَكُونُ كَثِيرًا أَيْ لَا يَبْلُغُ سَهْمَ الْغَنِيمَةِ (وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا وَكِيلَيْنِ بِلَا عُهْدَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ الْوَلِيُّ إذْ فِي الصِّحَّةِ اعْتِبَارُ الْآدَمِيَّةِ وَتَوَسُّلٌ إلَى إدْرَاكِ الْمَضَارِّ وَالْمَنَافِعِ، وَاهْتِدَاءٌ فِي التِّجَارَةِ بِالتَّجْرِبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] ـــــــــــــــــــــــــــــQفِيهِمَا تَضَرُّرُ زَوَالِ الْمِلْكِ فِي الْحَيَاةِ فَعَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ هَذَا عَقِيبَ الْحُكْمِ بِأَنَّ مَا فِيهِ نَفْعٌ مَحْضٌ يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ مِمَّا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ، وَالضَّرَرِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ فِي جِهَةِ الْخَيْرِ لِحُصُولِ الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ تَضَرُّرِ إبْطَالِ الْإِرْثِ الَّذِي هُوَ نَفْعٌ لِلْمُوَرَّثِ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتِمَّ جَوَابُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ غَايَتَهُ بَيَانُ التَّضَرُّرِ فِي الْوَصِيَّةِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ صِحَّتُهَا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ، وَلَا رِوَايَةَ فِي ذَلِكَ بَلْ طَرِيقُ الْجَوَابِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ نَفْعًا يُعْتَدُّ بِهِ بَلْ هِيَ ضَرَرٌ مَحْضٌ، وَالنَّفْعُ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ إنَّمَا وَقَعَ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ، وَهُوَ أَنَّهُ حَالَةُ الْمَوْتِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ مَالَهُ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ، وَكَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْمُعْسِرَةَ الشَّوْهَاءَ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا الْمُوسِرَةَ الْحَسْنَاءَ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ، وَيُمْكِنُ تَطْبِيقُ جَوَابِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى التَّقْرِيرِ الثَّانِي بِأَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ أَنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ لِأَنَّ نَقْلَ الْمِلْكِ إلَى الْأَقَارِبِ أَفْضَلُ عَقْلًا، وَشَرْعًا لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلِأَنَّ تَرْكَ الْوَرَثَةِ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِمْ فُقَرَاءَ بِالنَّصِّ، وَتَرْكُ الْأَفْضَلِ فِي حُكْمِ الضَّرَرِ الْمَحْضِ، وَبِهَذَا يُشْعِرُ قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْبَالِغِ كَالطَّلَاقِ يَعْنِي أَنَّ الضَّرَرَ الْمَحْضَ قَدْ يُشْرَعُ لِلْبَالِغِ لِكَمَالِ أَهْلِيَّتِهِ كَالطَّلَاقِ، وَفِي كَوْنِهِ ضَرَرًا مَحْضًا نَظَرٌ [فَصْلٌ الْأُمُورُ الْمُعْتَرِضَةُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ] [الْعَوَارِضُ السَّمَاوِيَّةُ] [الْجُنُونُ] (قَوْلُهُ: فَصْلٌ) لَمَّا ذَكَرَ الْأَهْلِيَّةَ بِنَوْعَيْهَا شَرَعَ فِيمَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِمَا فَيُزِيلُهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا أَوْ يُوجِبُ تَغْيِيرًا فِي بَعْضِ أَحْكَامِهِمَا، وَيُسَمَّى الْعَوَارِضُ جَمْعُ عَارِضٍ عَلَى أَنَّهُ جُعِلَ اسْمًا بِمَنْزِلَةِ كَاتِبٍ، وَكَاهِلٍ مِنْ عَرَضَ لَهُ كَذَا أَيْ ظَهَرَ، وَتَبَدَّى، وَمَعْنَى كَوْنِهَا عَوَارِضَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ كَمَا يُقَالُ: الْبَيَاضُ مِنْ عَوَارِضِ الثَّلْجِ، وَلَوْ أُرِيدَ بِالْعُرُوضِ الطَّرَيَانُ، وَالْحُدُوثُ بَعْدَ الْعَدَمِ لَمْ يَصِحَّ فِي الصِّغَرِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ ثُمَّ الْعَوَارِضُ نَوْعَانِ: سَمَاوِيَّةٌ إنْ

وَمَا كَانَ ضَرَرًا مَحْضًا) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَمَا كَانَ نَفْعًا (كَالطَّلَاقِ، وَالْهِبَةِ وَالْقَرْضِ، وَنَحْوِهَا لَا يَصِحُّ مِنْهُ، وَإِنْ أَذِنَ وَلِيُّهُ وَلَا مُبَاشَرَتُهُ) أَيْ لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَةُ الْوَلِيِّ الطَّلَاقَ، وَالْهِبَةَ، وَالْقَرْضَ مِنْ قِبَلِ الصَّبِيِّ (إلَّا الْقَرْضَ لِلْقَاضِي) ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إقْرَاضُ مَالِ الصَّبِيِّ لِلْقَاضِي دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ أَقْدَرُ عَلَى اسْتِيفَائِهِ (فَإِنَّ عَلَيْهِ صِيَانَةَ الْحُقُوقِ، وَالْعَيْنُ لَا يُؤْمَنُ هَلَاكُهَا) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ أَيْ لَمَّا كَانَ صِيَانَةُ الْحُقُوقِ عَلَى الْقَاضِي، وَالْحَالُ أَنَّ الْعَيْنَ رُبَّمَا تَهْلَكُ فَيُقْرِضُهَا الْقَاضِي لِتَلْزَمَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ، وَيَأْمَنَ هَلَاكَهَا. (وَمَا كَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ كَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَنَحْوِهِمَا فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَدْخُلُ الْمُشْتَرَى فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي نَفْعٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَخْرُجُ الْبَدَلُ مِنْ مِلْكِهِ ضَرَرٌ (يَصِحُّ شَرْطُ رَأْيِ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ) أَيْ الصَّبِيَّ (أَهْلٌ لِحُكْمِهِ إذَا بَاشَرَ وَلِيُّهُ فَكَذَا إذَا بَاشَرَ بِنَفْسِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ، وَيَحْصُلُ بِهَذَا) أَيْ بِمُبَاشَرَةِ الصَّبِيِّ بِرَأْيِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ فِيهَا اخْتِيَارٌ، وَاكْتِسَابٌ: وَمُكْتَسَبَةٌ إنْ كَانَ لَهُ فِيهَا دَخْلٌ بِاكْتِسَابِهَا أَوْ تَرْكِ إزَالَتِهَا، وَالسَّمَاوِيَّةُ أَكْثَرُ تَغْيِيرًا، وَأَشَدُّ تَأْثِيرًا فَقُدِّمَتْ، وَهِيَ أَحَدَ عَشَرَ: الْجُنُونُ وَالصِّغَرُ وَالْعَتَهُ وَالنِّسْيَانُ وَالنَّوْمُ وَالْإِغْمَاءُ وَالرِّقُّ وَالْمَرَضُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ وَالْمَوْتُ فَالْجُنُونُ اخْتِلَالُ الْقُوَّةِ الْمُمَيِّزَةِ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ، وَالْقَبِيحَةِ الْمُدْرِكَةِ لِلْعَوَاقِبِ بِأَنْ لَا يَظْهَرَ آثَارُهَا، وَبِتَعَطُّلِ أَفْعَالِهَا إمَّا لِنُقْصَانٍ جُبِلَ عَلَيْهِ دِمَاغُهُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ، وَإِمَّا لِخُرُوجِ مِزَاجِ الدِّمَاغِ عَنْ الِاعْتِدَالِ بِسَبَبِ خَلْطٍ أَوْ آفَةٍ، وَإِمَّا لِاسْتِيلَاءِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِ، وَإِلْقَاءِ الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ إلَيْهِ بِحَيْثُ يَفْرَحُ، وَيَفْزَعُ مِنْ غَيْرِ مَا يَصْلُحُ سَبَبًا. (قَوْلُهُ: لِمُنَافَاتِهِ) أَيْ: لِمُنَافَاةِ الْجُنُونِ الْقُدْرَةَ الَّتِي بِهَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْشَاءِ الْعِبَادَاتِ عَلَى النَّهْجِ الَّذِي اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ، وَبِانْتِفَاءِ الْقُدْرَةِ تَنْتَفِي الْأَهْلِيَّةُ، فَيَنْتَفِي وُجُوبُ الْأَدَاءِ فَيَنْتَفِي نَفْسُ الْوُجُوبِ (قَوْلُهُ: لَكِنَّهُمْ) قَالُوا الْجُنُونُ إمَّا مُمْتَدٌّ أَوْ غَيْرُ مُمْتَدٍّ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَصْلِيٌّ بِأَنْ يَبْلُغَ مَجْنُونًا أَوْ طَارِئٌ بَعْدَ الْبُلُوغِ، فَالْمُمْتَدُّ مُطْلَقًا مُسْقِطٌ لِلْعِبَادَاتِ، وَغَيْرُ الْمُمْتَدِّ إنْ كَانَ طَارِئًا فَلَيْسَ بِمُسْقِطٍ اسْتِحْسَانًا لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ الْإِلْحَاقُ بِالنَّوْمِ، وَالْإِغْمَاءِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ عُذْرًا عَارِضًا زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ مَعَ عَدَمِ الْحَرَجِ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ. الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ نَفْسِ الْوُجُوبِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرِثُ، وَيَمْلِكُ، وَالْإِرْثُ، وَالْمِلْكُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ، وَلَا وِلَايَةَ بِدُونِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا انْتَفَى الْأَدَاءُ تَحْقِيقًا، وَتَقْدِيرًا بِلُزُومِ الْحَرَجِ فِي الْقَضَاءِ يَنْعَدِمُ الْوُجُوبُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَجْنُونَ أَهْلُ لِلثَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُسْلِمًا بَعْدَ الْجُنُونِ، وَالْمُسْلِمُ يُثَابُ، وَالثَّوَابُ مِنْ أَحْكَامِ الْوُجُوبِ، فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا حَرَجَ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ، فَيَكُونُ الْأَدَاءُ ثَابِتًا تَقْدِيرًا بِتَوَهُّمِهِ فِي الْوَقْتِ، وَرَجَائِهِ بَعْدَ الْوَقْتِ هَذَا إذَا كَانَ الْجُنُونُ الْغَيْرُ الْمُمْتَدِّ طَارِئًا، وَأَمَّا إذَا كَانَ أَصْلِيًّا فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُسْقِطٌ بِنَاءً لِلْإِسْقَاطِ عَلَى

الْوَلِيِّ (مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ) أَيْ بِمُبَاشَرَةِ الْوَلِيِّ (مَعَ فَضْلِ تَصْحِيحِ عِبَارَتِهِ، وَتَوْسِيعِ طَرِيقِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ثُمَّ هَذَا) أَيْ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ، وَالضَّرَرِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِطَرِيقِ أَنَّ احْتِمَالَ الضَّرَرِ فِي تَصَرُّفِهِ يَزُولُ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ فَيَصِيرُ كَالْبَالِغِ حَتَّى يَصِحَّ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ مِنْ الْأَجَانِبِ، وَلَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ فَأَمَّا مِنْ الْوَلِيِّ) أَيْ بَيْعُ الصَّبِيِّ مِنْ الْوَلِيِّ مَعَ غَبْنٍ فَاحِشٍ (فَفِي رِوَايَةٍ يَصِحُّ لِمَا قُلْنَا) أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْبَالِغِ (وَفِي رِوَايَةٍ لَا لِأَنَّهُ) أَيْ الصَّبِيُّ (فِي الْمِلْكِ أَصِيلٌ، وَفِي الرَّأْيِ أَصِيلٌ مِنْ، وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ لَهُ أَصْلَ الرَّأْيِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْعَقْلِ دُونَ وَصْفِهِ إذْ لَيْسَ لَهُ كَمَالُ الْعَقْلِ فَثَبَتَ شُبْهَةُ النِّيَابَةِ) أَيْ شُبْهَةُ أَنَّهُ نَائِبُ الْوَلِيِّ إذَا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ كَأَنَّ الْوَلِيَّ يَبِيعُ مِنْ نَفْسِهِ مَالَ الصَّبِيِّ بِالْغَبْنِ (فَاعْتُبِرَتْ) أَيْ شُبْهَةُ النِّيَابَةِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَصَالَةِ أَوْ الِامْتِدَادِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ بِمُسْقِطٍ بِنَاءً لِلْإِسْقَاطِ عَلَى الِامْتِدَادِ فَقَطْ، وَالِاخْتِلَافُ فِي أَكْثَرِ الْكُتُبِ مَذْكُورٌ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، وَجْهُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْلِ، وَالطَّارِئِ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجُنُونِ الْحُدُوثُ وَالطَّرَيَانُ إذْ السَّلَامَةُ عَنْ الْآفَاتِ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْجِبِلَّةِ، فَيَكُونُ أَصَالَةُ الْجُنُونِ أَمْرًا عَارِضًا، فَيَلْحَقُ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ الْجُنُونُ الطَّارِئُ، وَثَانِيهِمَا: أَنَّ زَوَالَ الْجُنُونِ بَعْدَ الْبُلُوغِ دَلَّ عَلَى أَنَّ حُصُولَهُ كَانَ لِأَمْرٍ عَارِضٍ عَلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ لَا لِنُقْصَانٍ جُبِلَ عَلَيْهِ دِمَاغُهُ فَكَانَ مِثْلَ الطَّارِئِ، وَجْهُ التَّفْرِقَةِ أَيْضًا أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الطَّرَيَانَ بَعْدَ الْبُلُوغِ رَجَّحَ جَانِبَ الْعُرُوضِ فَجُعِلَ عَفْوًا عِنْدَ عَدَمِ الِامْتِدَادِ إلْحَاقًا بِسَائِرِ الْعَوَارِضِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا فَزَالَ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الصِّغَرِ فَلَا يُوجِبُ قَضَاءَ مَا مَضَى، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْأَصْلِيَّ يَكُونُ لِآفَةٍ فِي الدِّمَاغِ مَانِعَةٍ عَنْ قَبُولِ الْكَمَالِ، فَيَكُونُ أَمْرًا أَصْلِيًّا لَا يَقْبَلُ اللِّحَاقَ بِالْعَدَمِ، وَالطَّارِئُ قَدْ اعْتَرَضَ عَلَى مَحَلٍّ كَامِلٍ لِلُحُوقِ آفَةٍ، فَيَلْحَقُ بِالْعَدَمِ. (قَوْلُهُ: ثُمَّ الِامْتِدَادُ فِي الصَّلَاةِ) يَعْنِي: أَنَّ الِامْتِدَادَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَاقُبِ الْأَزْمِنَةِ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ مُعَيَّنٌ فَقَدَّرُوهُ بِالْأَدْنَى، وَهُوَ أَنْ يَسْتَوْعِبَ الْجُنُونُ وَظِيفَةَ الْوَقْتِ، وَهُوَ الْيَوْمُ، وَاللَّيْلَةُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ جِنْسِ الصَّلَاةِ، وَجَمِيعِ الشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ حَتَّى لَوْ أَفَاقَ بَعْضَ لَيْلَةٍ يَجِبُ الْقَضَاءُ، وَقِيلَ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إذْ اللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ فَالْجُنُونُ، وَالْإِفَاقَةُ فِيهِ سَوَاءٌ، ثُمَّ اشْتَرَطُوا فِي الصَّلَاةِ التَّكْرَارَ لِيَتَأَكَّدَ الْكَثْرَةَ، فَيَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا اعْتَبَرَ نَفْسَ الْوَاجِبِ أَعْنِي: جِنْسَ الصَّلَاةِ فَاشْتَرَطَ تَكْرَارَهَا، وَذَلِكَ بِأَنْ تَصِيرَ الصَّلَوَاتُ سِتًّا وَهُمَا اعْتَبَرَا نَفْسَ الْوَقْتِ إقَامَةً لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ أَعْنِي: الْوَقْتَ مَقَامَ الْحُكْمِ تَيْسِيرًا عَلَى الْعِبَادِ فِي سُقُوطِ الْقَضَاءِ فَلَوْ جُنَّ بَعْدَ الطُّلُوعِ، وَأَفَاقَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ الظُّهْرِ يَجِبُ الْقَضَاءُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِعَدَمِ تَكَرُّرِ جِنْسِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ لَمْ تَصِرْ الصَّلَوَاتُ سِتًّا، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ لِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ بِزِيَادَتِهِ عَلَى الْيَوْمِ

(فِي مَوْضِعِ التُّهْمَةِ) ، وَهُوَ أَنْ يَبِيعَ الصَّبِيُّ مِنْ الْوَلِيِّ (وَسَقَطَتْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا) أَيْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ التُّهْمَةِ، وَهُوَ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجَانِبِ (وَعِنْدَهُمَا) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ثُمَّ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (بِطَرِيقِ أَنَّهُ) أَيْ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ (يَصِيرُ بِرَأْيِهِ) أَيْ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ (كَمُبَاشَرَتِهِ) أَيْ الْوَالِي (فَلَا يَصِحُّ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ أَصْلًا) أَيْ لَا مِنْ الْوَلِيِّ، وَلَا مِنْ الْأَجَانِبِ، (وَأَمَّا، وَصِيَّتُهُ) أَيْ، وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ (فَبَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ شُرِعَ نَفْعًا لِلْمُوَرِّثِ) قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَأَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» أَيْ يَمُدُّونَ أَكُفَّهُمْ سَائِلِينَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْوَصِيَّةَ لِأَنَّهَا تُرَادُ إشْكَالًا، وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ نَفْعٌ لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَزُولُ الْمُوصَى بِهِ مَا دَامَ حَيًّا مِنْ مِلْكِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ وَصِيَّتُهُ فَأَجَابَ بِأَنَّ الْإِرْثَ شُرِعَ نَفْعًا لِلْمُوَرِّثِ وَفِي الْوَصِيَّةِ إبْطَالُ الْإِرْثِ (حَتَّى شُرِعَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ) فَرْعٌ عَلَى أَنَّ الْإِرْثَ شُرِعَ نَفْعًا لِلْمُوَرَّثِ حَتَّى لَوْ كَانَ ضَرَرًا لَمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ (إلَّا أَنَّهَا شُرِعَتْ فِي حَقِّ الْبَالِغِ كَالطَّلَاقِ) جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَمَّا كَانَتْ ضَرَرًا لِكَوْنِهَا إبْطَالًا لِلْإِرْثِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ مِنْ الْبَالِغِ فَأَجَابَ بِأَنَّهَا شُرِعَتْ مِنْ الْبَالِغِ وَإِنْ كَانَ ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ (فَصْلٌ الْأُمُورُ الْمُعْتَرِضَةُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ سَمَاوِيَّةٌ، وَمُكْتَسَبَةٌ أَوْ السَّمَاوِيَّةُ فَمِنْهَا الْجُنُونُ) وَهُوَ اخْتِلَالُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَاللَّيْلَةِ بِحَسَبِ السَّاعَاتِ، وَإِنْ لَمْ يَزِدْ بِحَسَبِ الْوَاجِبَاتِ، وَلَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الصَّوْمِ التَّكْرَارَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمَصِيرِ إلَى التَّكْرَارِ أَنْ لَا يَزِيدَ عَلَى الْأَصْلِ، وَوَظِيفَةُ الصَّوْمِ لَا تَدْخُلُ إلَّا بِمُضِيِّ أَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا، فَيَصِيرَ التَّبَعُ أَضْعَافَ الْأَصْلِ، وَلَا يَلْزَمُنَا زِيَادَةُ الْمَرَّتَيْنِ فِي غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ تَأْكِيدًا لِلْفَرْضِ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ، وَإِنْ كَثُرَتْ لَا تُمَاثِلُ الْفَرِيضَةَ، وَإِنْ قَلَّتْ فَضْلًا عَلَى أَنْ تَزِيدَ عَلَيْهَا، وَالِامْتِدَادُ فِي الزَّكَاةِ بِاسْتِيعَابِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ فِي نَفْسِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْهُ يُقَامُ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكُلِّ تَيْسِيرًا، وَتَخْفِيفًا فِي سُقُوطِ الْوَاجِبِ. (قَوْلُهُ: وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَجْرًا) ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ هُوَ أَنْ يَتِمَّ الْفِعْلُ بِرُكْنِهِ، وَيَقَعَ فِي مَحَلِّهِ، وَيَصْدُرَ عَنْ أَهْلِهِ، ثُمَّ لَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ أَوْ الْوَلِيِّ، وَإِيمَانُ الْمَجْنُونِ اسْتِقْلَالًا إنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لِعَدَمِ رُكْنِهِ، وَهُوَ الِاعْتِقَادُ بِخِلَافِ إيمَانِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَيْسَ رُكْنًا لَهُ، وَلَا شَرْطًا، وَبِهَذَا يَظْهَرُ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ غَايَةَ أَمْرِ التَّبَعِ أَنْ يُجْعَلَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بِفِعْلِ نَفْسِهِ لِعَدَمِ صُلُوحِهِ لِذَلِكَ فَبِفِعْلِ غَيْرِهِ أَوْلَى. (قَوْلُهُ: وَإِذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ) لَوْ ذُكِرَ بِالْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى صِحَّةِ إيمَانِهِ تَبَعًا لَكَانَ أَنْسَبَ يَعْنِي: لَوْ أَسْلَمَتْ كِتَابِيَّةٌ تَحْتَ مَجْنُونٍ كِتَابِيٍّ، لَهُ وَلِيٌّ كِتَابِيٌّ يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْوَلِيِّ فَإِنْ أَسْلَمَ صَارَ الْمَجْنُونُ مُسْلِمًا تَبَعًا لَهُ، وَبَقِيَ النِّكَاحُ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ الْقِيَاسُ التَّأْخِيرَ إلَى الْإِفَاقَةِ كَمَا فِي الصِّغَرِ إلَّا أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ لِلصِّغَرِ حَدًّا مَعْلُومًا بِخِلَافِ الْجُنُونِ فَفِي التَّأْخِيرِ ضَرَرٌ لِلزَّوْجَةِ مَعَ مَا فِيهِ

[الصغر]

الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْأَفْعَالِ، وَالْأَقْوَالِ عَلَى نَهْجِ الْعَقْلِ إلَّا نَادِرًا (وَهُوَ فِي الْقِيَاسِ مُسْقِطٌ لِكُلِّ الْعِبَادَاتِ لِمُنَافَاتِهِ الْقُدْرَةَ؛ وَلِهَذَا عُصِمَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْهُ، وَحَيْثُ لَمْ يُمْكِنْ الْأَدَاءُ يَسْقُطُ الْوُجُوبُ لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَمْتَدَّ لَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ الْحَرَجِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ يَرِثُ، وَيَمْلِكُ لِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِلثَّوَابِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا) إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ إذَا لَمْ يَمْتَدَّ الْجُنُونُ (إذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَمَّا إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا؛ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ مُطْلَقًا، وَمُحَمَّدٌ لَمْ يُفَرِّقْ) مَا بَيْنَ عَرَضَ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَبَيْنَ مَا إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا فَالْمُمْتَدُّ مُسْقِطٌ، وَغَيْرُ الْمُمْتَدِّ مُسْقِطٌ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ الْمُمْتَدُّ مُسْقِطٌ، وَغَيْرُ الْمُمْتَدِّ غَيْرُ مُسْقِطٍ عِنْدَهُ (ثُمَّ الِامْتِدَادُ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِسَاعَةٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِصَلَاةٍ فَتَصِيرُ الصَّلَاةُ سِتًّا، وَفِي الصَّوْمِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ شَهْرَ رَمَضَانَ، وَبِالزَّكَاةِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ الْحَوْلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَكْثَرُهُ كَافٍ) أَيْ الْجُنُونُ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ كَافٍ لِسُقُوطِ الزَّكَاةِ (وَأَمَّا إيمَانُهُ فَلَا يَصِحُّ لِعَدَمِ رُكْنِهِ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ لِعَدَمِ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ حَجْرًا) ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا جَوَابًا لِسُؤَالٍ وَهُوَ: أَنَّ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ الْفَسَادِ لِقُدْرَةِ الْمَجْنُونِ عَلَى الْوَطْءِ (قَوْلُهُ: وَيَصِيرُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ) فِيمَا إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا، وَأَبَوَاهُ مُسْلِمَانِ فَارْتَدَّا، وَلَحِقَا مَعَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَبِيحٌ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ بِوَاسِطَةِ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَرَكَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لِلدَّارِ، وَكَذَا إذَا بَلَغَ مُسْلِمًا، ثُمَّ جُنَّ أَوْ أَسْلَمَ عَاقِلًا فَجُنَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ صَارَ أَهْلًا لِلْإِيمَانِ بِتَقَرُّرِ رُكْنِهِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِالتَّبَعِيَّةِ أَوْ عُرُوضِ الْجُنُونِ. (قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ) أَيْ: الْمَجْنُونُ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ فِي الْأَمْوَالِ كَمَا إذَا أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ لِتَحَقُّقِ الْفِعْلِ حِسًّا مَعَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمَالُ، وَأَدَاؤُهُ يَحْتَمِلُ النِّيَابَةَ بِخِلَافِ أَقْوَالِهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهَا شَرْعًا لِانْتِفَاءِ تَعَقُّلِ الْمَعَانِي فَلَا تَصِحُّ أَقَارِيرُهُ، وَعُقُودُهُ، وَإِنْ أَجَازَهَا الْوَلِيُّ [الصِّغَرُ] . (قَوْلُهُ: وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْحِرْمَانُ بِالْكُفْرِ، وَالرِّقِّ) كَمَا إذَا ارْتَدَّ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ أَوْ اُسْتُرِقَّ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ أَمَّا الْكَافِرُ؛ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ، وَهِيَ السَّبَبُ لِلْإِرْثِ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ حَالِ زَكَرِيَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 5] {يَرِثُنِي} [مريم: 6] ، وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ [الْعَتَهُ] . (قَوْلُهُ: وَحُكْمُهُ) أَيْ: حُكْمُ الْعَتَهِ حُكْمُ الصِّبَا مَعَ الْعَقْلِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي أَوَّلِ حَالِهِ عَدِيمُ الْعَقْلِ فَأُلْحِقَ بِهِ الْمَجْنُونُ، وَفِي الْآخَرِ نَاقِصُ الْعَقْلِ فَأُلْحِقَ بِهِ الْمَعْتُوهُ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَوْلِ، وَالْفِعْلِ حَتَّى يَصِحَّ إسْلَامُهُ، وَتَوْكِيلُهُ فِي بَيْعِ مَالِ الْغَيْرِ، وَالشِّرَاءِ لَهُ، وَفِي طَلَاقِ امْرَأَتِهِ، وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ، وَيَمْنَعُ مَا يُوجِبُ إلْزَامَ شَيْءٍ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فَلَا يَصِحُّ طَلَاقُ امْرَأَتِهِ، وَإِعْتَاقُ عَبْدِهِ، وَلَوْ بِإِذْنِ

[النسيان]

عَدَمَ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَجْنُونِ إذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْحَجْرِ وَالْحَجْرُ إنَّمَا شُرِعَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ، وَلَا نَظَرَ فِي الْحَجْرِ عَنْ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّهُ نَفْعٌ مَحْضٌ فَلَا يَصِحُّ الْحَجْرُ عَنْهُ، فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ عَدَمَ صِحَّتِهِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْحَجْرِ (وَيَصِحُّ تَبَعًا) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَلَا يَصِحُّ (وَإِذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ عُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى وَلِيِّهِ، وَيَصِيرُ مُرْتَدًّا تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْأَفْعَالِ فِي الْأَمْوَالِ لِمَا قُلْنَا فِي الصَّبِيِّ) فِي أَوَّلِ فَصْلِ الْأَهْلِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَحُقُوقُ الْعِبَادِ مَا كَانَ مِنْهَا غُرْمًا وَعِوَضًا يَجِبُ (وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَهْلٌ لَكِنَّ هَذَا الْعَارِضَ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ وَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ الْأَقْوَالِ فَتَفْسُدُ عِبَارَاتُهُ) . وَمِنْهَا الصِّغَرُ إنَّمَا جَعَلَ الصِّغَرَ مِنْ الْعَوَارِضِ مَعَ أَنَّهُ حَالَةٌ أَصْلِيَّةٌ لِلْإِنْسَانِ فِي مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ؛ لِأَنَّ الصِّغَرَ لَيْسَ لَازِمًا لِمَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ إذْ مَاهِيَّةُ الْإِنْسَانِ لَا تَقْتَضِي الصِّغَرَ فَنَعْنِي بِالْعَوَارِضِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَيْ: حَالَةً لَا تَكُونُ لَازِمَةً لِلْإِنْسَانِ، وَتَكُونُ مُنَافِيَةً لِلْأَهْلِيَّةِ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْإِنْسَانَ لِحَمْلِ أَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ، وَلِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَالْأَصْلُ أَنْ يَخْلُقَهُ عَلَى صِفَةٍ تَكُونُ وَسِيلَةً إلَى حُصُولِ مَا قَصَدَهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبْدَأِ الْفِطْرَةِ وَافِرَ الْعَقْلِ تَامَّ الْقُدْرَةِ كَامِلَ الْقُوَى، وَالصِّغَرُ حَالَةٌ مُنَافِيَةٌ لِهَذِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْوَلِيِّ، وَلَا بَيْعُهُ، وَلَا شِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ، وَيُطَالَبُ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالْإِتْلَافِ، لَا بِالْعُقُودِ كَثَمَنِ الْمُشْتَرَى، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَاتُ، وَالْعِبَادَاتُ، وَفِي التَّقْوِيمِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ احْتِيَاطًا. (قَوْلُهُ: إلَّا أَنَّ امْرَأَةَ الْمَعْتُوهِ إذَا أَسْلَمَتْ لَا يُؤَخَّرُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ) عَلَى الْمَعْتُوهِ إلَى كَمَالِ الْعَقْلِ هَذَا الِاسْتِدْرَاكَ لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْتُوهِ، وَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ فِي عَدَمِ تَأْخِيرِ عَرْضِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُمَا صَحِيحٌ فَصَحَّ خِطَابُهُمَا، وَإِلْزَامُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ الْعَبْد، وَهُوَ الزَّوْجَةُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُمَا خِطَابُ الْأَدَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى خَاصَّةً، وَإِنَّمَا التَّأْخِيرُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ خَاصَّةً كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ، وَغَيْرِهِ [النِّسْيَانُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا النِّسْيَانُ) ، وَهُوَ عَدَمُ مَا فِي الصُّورَةِ الْحَاصِلَةِ عِنْدَ الْعَقْلِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ الْمُلَاحَظَةُ فِي الْجُمْلَةِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، وَيُسَمَّى هَذَا ذُهُولًا، وَسَهْوًا أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُلَاحَظَتِهَا إلَّا بَعْدَ تَجَشُّمِ كَسْبٍ جَدِيدٍ، وَهَذَا هُوَ النِّسْيَانُ فِي عُرْفِ الْحُكَمَاءِ، وَالنِّسْيَانُ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ لِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَيَكُونُ عُذْرًا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَرَمَةٌ لِحَاجَتِهِمْ لَا لِلِابْتِلَاءِ، وَبِالنِّسْيَانِ لَا يَفُوتُ هَذَا الِاحْتِرَامُ فَلَوْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ نَاسِيًا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَأَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْمَرْءُ فِي النِّسْيَانِ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ كَالْأَكْلِ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ لَمْ يَتَذَكَّرْ مَعَ وُجُودِ الْمُذَكِّرِ، وَهُوَ هَيْئَةُ الصَّلَاةِ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا، وَإِمَّا لَا بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ، فَيَكُونُ عُذْرًا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ مَا يَكُونُ دَاعِيًا إلَى النِّسْيَانِ، وَمُنَافِيًا لِلتَّذَكُّرِ كَالْأَكْلِ فِي

[النوم]

الْأُمُورِ فَتَكُونُ مِنْ الْعَوَارِضِ (فَقَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ كَالْمَجْنُونِ أَمَّا بَعْدَهُ، فَيَحْدُثُ لَهُ ضَرْبٌ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْأَدَاءِ لَكِنَّ الصِّبَا عُذْرٌ مَعَ ذَلِكَ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ عَنْ الْبَالِغِ فَلَا يَسْقُطُ نَفْسُ الْوُجُوبِ فِي الْإِيمَانِ حَتَّى إذَا أَدَّاهُ كَانَ فَرْضًا لَا نَفْلًا حَتَّى إذَا بَلَغَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لَكِنَّ التَّكْلِيفَ، وَالْعُهْدَةَ عَنْهُ سَاقِطَانِ فَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ بِالْقَتْلِ) تَعْقِيبٌ لِقَوْلِهِ: لَكِنَّ التَّكْلِيفَ وَالْعُهْدَةَ عَنْهُ سَاقِطَانِ بِالْقَتْلِ (وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْحِرْمَانُ بِالْكُفْرِ وَالرِّقِّ؛ لِأَنَّهُمَا يُنَافِيَانِ الْإِرْثَ فَعَدَمُ الْحَقِّ لِعَدَمِ سَبَبِهِ أَوْ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يُعَدُّ جَزَاءً) إنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ تَعَجَّلَ بِأَخْذِ الْمِيرَاثِ فَجُوزِيَ بِحِرْمَانِهِ لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجَزَاءِ بِالشَّرِّ فَلَمْ يُحْرَمْ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى هَذَا الْحِرْمَانُ ـــــــــــــــــــــــــــــQالصَّوْمِ لِمَا فِي الطَّبِيعَةِ مِنْ النُّزُوعِ إلَى الْأَكْلِ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَتَرْكِ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ فَإِنَّهُ لَا دَاعِيَ إلَى تَرْكِهَا لَكِنْ لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَذْكُرُ إخْطَارَهَا بِالْبَالِ، وَإِجْرَاءَهَا عَلَى اللِّسَانِ فَسَلَامُ النَّاسِي فِي الْقَعْدَةِ يَكُونُ عُذْرًا حَتَّى لَا تَبْطُلَ صَلَاتُهُ إذْ لَا تَقْصِيرَ مِنْ جِهَتِهِ، وَالنِّسْيَانُ غَالِبٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِكَثْرَةِ تَسْلِيمِ الْمُصَلِّي فِي الْقَعْدَةِ فَهِيَ دَاعِيَةٌ إلَى السَّلَامِ [النَّوْمُ] . (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ: النَّوْمُ لَمَّا كَانَ عَجْزًا عَنْ الْإِدْرَاكَاتِ أَيْ: الْإِحْسَاسَاتِ الظَّاهِرَةِ إذْ الْحَوَاسُّ الْبَاطِنَةُ لَا تَسْكُنُ فِي النَّوْمِ، وَعَنْ الْحَرَكَاتِ الْإِرَادِيَّةِ أَيْ: الصَّادِرَةِ عَنْ قَصْدٍ، وَاخْتِيَارٍ بِخِلَافِ الْحَرَكَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ كَالتَّنَفُّسِ، وَنَحْوِهَا أَوْجَبَ تَأْخِيرَ الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ إلَى وَقْتِ الِانْتِبَاهِ لِامْتِنَاعِ الْفَهْمِ، وَإِيجَادِ الْفِعْلِ حَالَةَ النَّوْمِ، وَلَمْ يُوجِبْ تَأْخِيرَ نَفْسِ الْوُجُوبِ، وَأَسْقَطَهَا حَالَ النَّوْمِ لِعَدَمِ إخْلَالِ النَّوْمِ بِالذِّمَّةِ، وَالْإِسْلَامِ، وَلِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ حَقِيقَةً بِالِانْتِبَاهِ أَوْ خَلَفًا بِالْقَضَاءِ، وَالْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ، إنَّمَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ حَيْثُ يَتَحَقَّقُ الْحَرَجُ بِتَكْثِيرِ الْوَاجِبَاتِ، وَامْتِدَادِ الزَّمَانِ، وَالنَّوْمُ لَيْسَ كَذَلِكَ عَادَةً، وَاسْتَدَلَّ عَلَى بَقَاءِ نَفْسِ الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ الصَّلَاةُ وَاجِبَةً لَمَا أَمَرَ بِقَضَائِهَا قِيلَ: وَفِي لَفْظِ " عَنْ " إشَارَةُ إلَى وُجُوبِهَا حَالَ النَّوْمِ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ نَائِمًا عَنْ الصَّلَاةِ. (قَوْلُهُ وَأَبْطَلَ) أَيْ: النَّوْمَ عِبَارَاتُ النَّائِمِ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الِاخْتِيَارُ كَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالْإِسْلَامِ، وَالرِّدَّةِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ لِانْتِفَاءِ الْإِرَادَةِ وَالِاخْتِيَارِ فِي النَّوْمِ حَتَّى أَنَّ كَلَامَهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْحَانِ الطُّيُورِ، وَلِهَذَا ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِخَبَرٍ، وَلَا إنْشَاءٍ، وَلَا يَتَّصِفُ بِصِدْقٍ، وَلَا كَذِبٍ. (قَوْلُهُ: فَإِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ نَائِمًا لَا تَصِحُّ) هَذَا هُوَ مُخْتَارُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّائِمِ تَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ، وَفِي النَّوَازِلِ إنْ تَكَلَّمَ النَّائِمُ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ النَّائِمَ كَالْمُسْتَيْقِظِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ، وَذُكِرَ فِي الْمُغْنِي أَنَّ عَامَّةَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَنَّ قَهْقَهَةَ النَّائِمِ فِي الصَّلَاةِ تُبْطِلُ الْوُضُوءَ

[الإغماء]

بِالْكُفْرِ، وَالرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْحِرْمَانَ بِهِمَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ بَلْ لِعَدَمِ سَبَبِهِ فِي الْكُفْرِ، وَعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فِي الرِّقِّ. (وَمِنْهَا الْعَتَهُ) وَهُوَ اخْتِلَالٌ فِي الْعَقْلِ بِحَيْثُ يَخْتَلِطُ كَلَامُهُ فَيُشْبِهُ مَرَّةً كَلَامَ الْعُقَلَاءِ، وَمَرَّةً كَلَامَ الْمَجَانِينِ (وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ مَعَ الْعَقْلِ فِيمَا ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ امْرَأَةَ الْمَعْتُوهِ إذَا أَسْلَمَتْ لَا يُؤَخَّرُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ كَمَا لَا يُؤَخَّرُ عَرْضُهُ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْفَرْقُ أَنَّهُمَا) أَيْ: الْجُنُونَ وَالْعَتَهَ (غَيْرُ مُقَدَّرَيْنِ وَالصِّبَا مُقَدَّرٌ) . (وَمِنْهَا النِّسْيَانُ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْوُجُوبَ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَكُونُ عُذْرًا فِي حَقِّهِ) أَيْ: فِي حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ (فِيمَا يَقَعُ فِيهِ غَالِبًا لَا فِي حَقِّ الْعِبَادِ وَهُوَ إمَّا أَنْ يَقَعَ فِيهِ الْمَرْءُ بِتَقْصِيرِهِ كَالْأَكْلِ فِي الصَّلَاةِ مَثَلًا فَإِنَّ حَالَهَا مُذَكِّرَةٌ، وَإِمَّا لَا بِتَقْصِيرِهِ إمَّا بِأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ الطَّبْعُ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ أَوْ بِمُجَرَّدِ أَنَّهُ مَرْكُوز فِي الْإِنْسَانِ كَمَا هُوَ فِي تَسْمِيَةِ الذَّبِيحَةِ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ بِعُذْرٍ بِخِلَافِ الْأَخِيرَيْنِ فَسَلَامُ النَّاسِي يَكُونُ عُذْرًا؛ لِأَنَّهُ غَالِبُ الْوُجُودِ) . (وَمِنْهَا النَّوْمُ، وَهُوَ لَمَّا كَانَ عَجْزًا عَنْ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الْإِرَادِيَّةِ أَوْجَبَ تَأْخِيرَ الْخِطَابِ لَا الْوُجُوبِ) أَيْ: نَفْسَ الْوُجُوبِ (لِاحْتِمَالِ الْأَدَاءِ بَعْدَهُ بِلَا حَرَجٍ لِعَدَمِ امْتِدَادِهِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ» الْحَدِيثَ، وَأَبْطَلَ عِبَارَاتِهِ) أَيْ: أَبْطَلَ النَّوْمُ عِبَارَاتِ النَّائِمِ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَوْجَبَ تَأْخِيرَ الْخِطَابِ (لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَإِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ نَائِمًا لَا تَصِحُّ الْقِرَاءَةُ، وَإِذَا تَكَلَّمَ لَا تَفْسُدُ، وَإِذَا قَهْقَهَ لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ وَلَا الصَّلَاةُ) . (وَمِنْهَا الْإِغْمَاءُ) وَهُوَ تَعَطُّلُ الْقُوَى الْمُدْرِكَةِ، وَالْمُحَرِّكَةِ حَرَكَةً إرَادِيَّةً بِسَبَبِ مَرَضٍ يَعْرِضُ لِلدِّمَاغِ أَوْ الْقَلْبِ (وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الْمَرَضِ) حَتَّى لَمْ يُعْصَمْ مِنْهُ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ فَوْقَ النَّوْمِ فِيمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ النَّوْمَ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ يَتَعَطَّلُ مَعَهَا الْقُوَى الْمُدْرِكَةُ بِسَبَبِ تَرَقِّي الْبُخَارَاتِ إلَى الدِّمَاغِ، وَلَمَّا كَانَ النَّوْمُ حَالَةً طَبِيعِيَّةً كَثِيرَةَ الْوُقُوعِ، وَسَبَبُهُ شَيْءٌ لَطِيفٌ سَرِيعُ الزَّوَالِ وَالْإِغْمَاءُ عَلَى خِلَافِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأُمُورِ كَانَ الْإِغْمَاءُ فَوْقَ النَّوْمِ أَلَا تَرَى ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالصَّلَاةَ جَمِيعًا أَمَّا الْوُضُوءُ فَبِالنَّصِّ الْغَيْرِ الْفَارِقِ بَيْنَ النَّوْمِ، وَالْيَقِظَةِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلِأَنَّ النَّائِمَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَيْقِظِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تُفْسِدُ الْوُضُوءَ دُونَ الصَّلَاةِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَيَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِالْقَهْقَهَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ فِيهَا مَعْنَى الْكَلَامِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِزَوَالِ الِاخْتِيَارِ فِي النَّوْمِ بِخِلَافِ الْحَدَثِ فَإِنَّهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الِاخْتِيَارِ، وَقِيلَ: عَلَى الْعَكْسِ، وَلَمَّا كَانَ فِي الْقَهْقَهَةِ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ الْعِبَارَاتِ صَحَّ تَفْرِيعُ مَسْأَلَةِ الْقَهْقَهَةِ عَلَى إبْطَالِ النَّوْمِ عِبَارَاتُ النَّائِمِ [الْإِغْمَاءُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْإِغْمَاءُ) اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَعِثُ عَنْ الْقَلْبِ بُخَارٌ لَطِيفٌ يَتَكَوَّنُ مِنْ أَلْطَفِ أَجْزَاءِ الْأَغْذِيَةِ يُسَمَّى رُوحًا حَيَوَانِيًّا، وَقَدْ أُفِيضَتْ

[الرق]

أَنَّ التَّنْبِيهَ وَالِانْتِبَاهَ مِنْ النَّوْمِ فِي غَايَةِ السُّرْعَةِ أَمَّا التَّنْبِيهُ مِنْ الْإِغْمَاءِ فَغَيْرُ مُمْكِنٍ (، فَيُبْطِلُ الْعِبَادَاتِ وَيُوجِبُ الْحَدَثَ فِي كُلِّ حَالٍ) أَيْ: سَوَاءٌ كَانَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا أَوْ مُتَّكِئًا أَوْ مُسْتَنِدًا بِخِلَافِ النَّوْمِ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قُوَّةِ سَبَبِ الْإِغْمَاءِ وَكَثَافَتِهِ، وَلَطَافَةِ سَبَبِ النَّوْمِ فَمُنَافَاةُ الْإِغْمَاءِ تَمَاسُكُ الْيَقَظَةِ أَشَدُّ مِنْ مُنَافَاةِ النَّوْمِ إيَّاهُ فَجُعِلَ الْإِغْمَاءُ حَدَثًا فِي كُلِّ حَالٍ لَا النَّوْمُ، وَأَيْضًا كَثْرَةُ وُقُوعِ النَّوْمِ وَقِلَّةُ الْإِغْمَاءِ تُوجِبُ ذَلِكَ دَفْعًا لِلْحَرَجِ (وَلَمَّا كَانَ نَادِرًا فِي الصَّلَاةِ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ وَهُوَ فِي الْقِيَاسِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَيْهِ قُوَّةٌ تَسْرِي بِسَرَيَانِهِ فِي الْأَعْصَابِ السَّارِيَةِ فِي أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ، فَيَنْتَشِرُ فِي كُلِّ عُضْوٍ قُوَّةٌ تَلِيقُ بِهِ، وَيَتِمُّ بِهَا مَنَافِعُهُ، وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى مُدْرِكَةٍ، وَمُحَرِّكَةٍ، أَمَّا الْمُدْرِكَةُ فَهِيَ: الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ، وَالْبَاطِنَةُ عَلَى مَا مَرَّ، وَأَمَّا الْمُحَرِّكَةُ فَهِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ الْأَعْضَاءَ بِتَمْدِيدِ الْأَعْصَابِ أَوْ إرْخَائِهَا لِيَنْبَسِطَ إلَى الْمَطْلُوبِ أَوْ يَنْقَبِضَ عَنْ الْمُنَافِي فَمِنْهَا مَا هِيَ مَبْدَأُ الْحَرَكَةِ إلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ، وَيُسَمَّى قُوَّةً شَهْوَانِيَّةً، وَمِنْهَا مَا هِيَ مَبْدَأُ الْحَرَكَةِ إلَى دَفْعِ الْمَضَارِّ، وَيُسَمَّى قُوَّةً غَضَبِيَّةً، وَأَكْثَرُ تَعَلُّقِ الْمُدْرِكَةِ بِالدِّمَاغِ، وَالْمُحَرِّكَةِ بِالْقَلْبِ فَإِذَا وَقَعَتْ فِي الْقَلْبِ أَوْ الدِّمَاغِ آفَةٌ بِحَيْثُ تَتَعَطَّلُ تِلْكَ الْقُوَى عَنْ أَفْعَالِهَا أَوْ إظْهَارِ آثَارِهَا كَانَ ذَلِكَ إغْمَاءً فَهُوَ مَرَضٌ، وَلَيْسَ زَوَالًا لِلْعَقْلِ كَالْجُنُونِ، وَإِلَّا لَعُصِمَ مِنْهُ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، ثُمَّ الْإِغْمَاءُ فَوْقَ النَّوْمِ فِي إيجَابِ تَأْثِيرِ الْخِطَابِ، وَإِبْطَالِ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ حَالَةٌ طَبِيعِيَّةٌ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ حَتَّى عَدَّهُ الْأَطِبَّاءُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْحَيَوَانِ اسْتِرَاحَةً لِقُوَاهُ، وَالْإِغْمَاءُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ أَشَدَّ فِي الْعَارِضِيَّةِ، وَلِأَنَّ تَعَطُّلَ الْقُوَى، وَسَلْبَ الِاخْتِيَارِ فِي الْإِغْمَاءِ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ مَوَادَّهُ غَلِيظَةٌ بَطِيئَةُ التَّحَلُّلِ، وَلِهَذَا يَمْتَنِعُ فِيهِ التَّنْبِيهُ، وَيَبْطُؤُ الِانْتِبَاهُ بِخِلَافِ النَّوْمِ فَإِنَّ سَبَبَهُ تَصَاعُدُ أَبْخِرَةٍ لَطِيفَةٍ سَرِيعَةِ التَّحَلُّلِ إلَى الدِّمَاغِ فَلِذَا يَنْتَبِهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِأَدْنَى تَنْبِيهٍ، وَلِقِلَّةِ وُقُوعِ الْإِغْمَاءِ، وَنُدْرَتِهِ لَا سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ كَانَ مَانِعًا لِلْبِنَاءِ حَتَّى لَوْ انْتَقَضَ الْوُضُوءُ بِالْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَجُزْ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَقَضَ الْوُضُوءُ بِالنَّوْمِ مُضْطَجِعًا مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ بِجَوَازِ الْبِنَاءِ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْحَدَثِ الْغَالِبِ الْوُقُوعِ [الرِّقُّ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الرِّقُّ) هُوَ فِي اللُّغَةِ الضَّعْفُ، وَمِنْهُ رِقَّةُ الْقَلْبِ، وَثَوْبٌ رَقِيقٌ ضَعِيفُ النَّسْجِ، وَفِي الشَّرْعِ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْهُ أَهْلًا لِكَثِيرٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْحُرُّ مِثْلَ الشَّهَادَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَالْوِلَايَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً بِمَعْنَى أَنَّهُ ثَبَتَ جَزَاءً لِلْكُفْرِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا اسْتَنْكَفُوا عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَلْحَقُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْبَهَائِمِ فِي عَدَمِ النَّظَرِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي آيَاتِ التَّوْحِيدِ جَازَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِجَعْلِهِمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ مُتَمَلَّكِينَ مُبْتَذَلِينَ بِمَنْزِلَةِ الْبَهَائِمِ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الرِّقُّ عَلَى الْمُسْلِمِ

كَالنَّوْمِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَسْقُطُ مَا فِيهِ حَرَجٌ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ يَمْتَدَّ حَتَّى يَزِيدَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَفِي الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ لَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّهُ يَنْدُرُ وُجُودُهُ شَهْرًا أَوْ سَنَةً) . (وَمِنْهَا الرِّقُّ وَهُوَ عَجْزٌ حُكْمِيٌّ شُرِعَ فِي الْأَصْلِ جَزَاءً عَنْ الْكُفْرِ، فَيَكُونُ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُ فِي الْبَقَاءِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ بِهِ يَصِيرُ الْمَرْءُ عُرْضَةً لِلتَّمَلُّكِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حَقَّ الْعَبْدِ وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ حَتَّى إنْ أَقَرَّ مَجْهُولُ النَّسَبِ أَنَّ نِصْفَهُ مِلْكُ فُلَانٍ يُجْعَلُ عَبْدًا فِي شَهَادَتِهِ، وَجَمِيعِ أَحْكَامِهِ وَكَذَا الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ) أَيْ: لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّي (لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَجَزِّيهِ تَجَزِّي الرِّقِّ، وَكَذَا الْإِعْتَاقُ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تَجَزِّي لَازِمِهِ اتِّفَاقًا فَمُعْتَقُ الْبَعْضِ مُعْتَقُ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُتَجَزِّئٌ إذْ الْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ ثُمَّ يَلْزَمُ مِنْ إزَالَةِ كُلِّهِ زَوَالُ الرِّقِّ، وَهُوَ الْعِتْقُ فَإِعْتَاقُ الْبَعْضِ إيجَادُ شَطْرِ الْعِلَّةِ، فَفِي الِابْتِدَاءِ ثُبُوتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَتْبَعُ ثُبُوتَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْبَقَاءِ عَلَى الْعَكْسِ حَتَّى أَنَّ زَوَالَهُ يَتْبَعُ زَوَالَ حَقِّ الْعَبْدِ) أَيْ: زَوَالَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَتْبَعُ زَوَالَ حَقِّ الْعَبْدِ (فَمُعْتَقُ الْبَعْضِ مُكَاتَبٌ عِنْدَهُ إلَّا فِي الرَّدِّ إلَى الرِّقِّ وَالرِّقُّ يُبْطِلُ مَالِكِيَّةَ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَالًا فَلَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ التَّسَرِّيَ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الْحَجُّ) أَيْ: مِنْ الرَّقِيقِ وَالْمُكَاتَبِ حَتَّى إذَا أُعْتِقَا وَوَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِمَا لَا يَقَعُ الْمُؤَدَّى قَبْلَ الْعِتْقِ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQابْتِدَاءً، ثُمَّ صَارَ حَقًّا لِلْعَبْدِ بَقَاءً بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ الرَّقِيقَ مِلْكًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَعْنَى الْجَزَاءِ، وَجِهَةِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى إنَّهُ يَبْقَى رَقِيقًا، وَإِنْ أَسْلَمَ، وَاتَّقَى. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ: الرِّقُّ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّيَ بِأَنْ يَصِيرَ الْمَرْءُ بَعْضُهُ رَقِيقًا، وَيَبْقَى الْبَعْضُ حُرًّا؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْكُفْرِ، وَنَتِيجَةُ الْقَهْرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا التَّجَزِّي وَكَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إيجَابُ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْبَعْضِ مَشَاعًا وَكَذَا الْعِتْقُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الرِّقِّ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزِّي بِأَنْ يُعْتَقَ بَعْضُ الْعَبْدِ، وَيَبْقَى بَعْضُهُ رَقِيقًا؛ لِأَنَّ فِيهِ تَجَزِّي الرِّقِّ ضَرُورَةً، وَقَدْ يُقَالُ: سَلَّمْنَا امْتِنَاعَ تَجَزِّي الرِّقِّ ابْتِدَاءً لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَهُ بَقَاءً؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْمِلْكِ يَقْبَلُ التَّجَزِّيَ، فَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ الشَّرْعُ لِلْمَوْلَى حَقَّ الْخِدْمَةِ فِي الْبَعْضِ، وَيَعْمَلُ الْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ مُشَاعًا، وَلَا يُثْبِتُ الشَّهَادَةَ، وَالْوِلَايَةَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ التَّجَزِّيَ، وَلِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى كَمَالِ الْأَهْلِيَّةِ فَتَنْعَدِمُ بِرِقِّ الْبَعْضِ فَإِنْ قِيلَ الرِّقُّ، وَالْحُرِّيَّةُ مُتَضَادَّانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُوفُ بِالْحُرِّيَّةِ بِعَيْنِهِ مَوْصُوفًا بِالرِّقِّ، وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ بَلْ الْمَحَلُّ مُتَّصِفٌ بِهِمَا مُشَاعًا كَمَا إذَا مَلَكَ زَيْدٌ نِصْفَ الْعَبْدِ مُشَاعًا فَإِنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ مِلْكِيَّةُ زَيْدٍ، وَعَدَمُ مِلْكِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ النِّصْفَيْنِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا الْإِعْتَاقُ) اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ تَجَزِّي الْعِتْقِ فِي تَجَزِّي الْإِعْتَاقِ فَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَى عَدَمِ تَجَزِّيهِ بِمَعْنَى أَنَّ إعْتَاقَ الْبَعْضِ إعْتَاقٌ لِلْكُلِّ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَازِمُ الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ مُطَاوَعَةٌ يُقَالُ أَعْتَقْتُهُ فَعَتَقَ مِثْلُ كَسَرْتُهُ فَانْكَسَرَ، وَالْمُطَاوَعَةُ هِيَ حُصُولُ الْأَثَرِ مِنْ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِمَفْعُولِهِ، وَأَثَرُ

الْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ (لِأَنَّ مَنَافِعَ بَدَنِهِمَا مِلْكُ الْمَوْلَى إلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَيَصِحُّ مِنْ الْفَقِيرِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْقُدْرَةِ ثَابِتٌ لَهُ، وَإِنَّمَا الزَّادُ، وَالرَّاحِلَةُ لِنَفْيِ الْحَرَجِ وَلَا يُبْطِلُ مَالِكِيَّةَ غَيْرِ الْمَالِ كَالنِّكَاحِ وَالدَّمِ وَالْحَيَاةِ، فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَبِالسَّرِقَةِ الْمُسْتَهْلِكَةِ) سَوَاءٌ كَانَ أَقَرَّ بِهَا الْمَأْذُونُ أَوْ الْمَحْجُورُ إذْ لَيْسَ فِيهَا إلَّا الْقَطْعُ (وَبِالْقَائِمَةِ الْمَأْذُونُ، وَأَمَّا مِنْ الْمَحْجُورِ، فَيَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُطْلَقًا) أَيْ: فِي الْقَطْعِ وَرَدِّ الْمَالِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِحُّ مُطْلَقًا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ـــــــــــــــــــــــــــــQالشَّيْءِ لَازِمٌ لَهُ، وَالْعِتْقُ لَيْسَ بِمُنْجَزٍ اتِّفَاقًا بَيْنَ عُلَمَائِنَا فَكَذَا الْإِعْتَاقُ إذْ لَوْ تَجَزَّأَ الْإِعْتَاقُ بِأَنْ يَقَعَ مِنْ الْمَحَلِّ عَلَى جُزْءٍ دُونَ جُزْءٍ لَزِمَ تَجَزِّي الْعِتْقِ ضَرُورَةً، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَحَلَّ الْإِعْتَاقِ، وَالْعِتْقِ هُوَ الْعَبْدُ، وَتَجَزِّيهُمَا إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الْمَحَلِّ فَتَجَزِّي أَحَدِهِمَا تَجَزِّي الْآخَرِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ مُتَجَزِّي، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِتْقَ حَتَّى لَوْ أُعْتِقَ الْبَعْضُ لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ الْحُرِّيَّةُ فِي الْبَعْضِ، وَلَا فِي الْكُلِّ بَلْ يَكُونُ رَقِيقًا فِي الشَّهَادَةِ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ إذْ لَوْ ثَبَتَ الْعِتْقُ لَثَبَتَ فِي الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجَزِّي، وَلَا سَبَبَ لِذَلِكَ مَعَ تَضَرُّرِ الْمَالِكِ بِهِ، فَيَتَوَقَّفُ فِي الْحُكْمِ بِالْعِتْقِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ، وَيَسْقُطُ الْمِلْكُ بِالْكُلِّيَّةِ فَيُعْتَقُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إذْ لَا تَصَرُّفَ لِلْمَوْلَى فِي حَقِّهِ، وَحَقُّهُ فِي الرَّقِيقِ هُوَ الْمَالِيَّةُ، وَالْمِلْكُ، وَهُوَ مُتَجَزِّئٌ فَكَذَا إزَالَتُهُ كَمَا إذَا بَاعَ نِصْفَ الْعَبْدِ ثُمَّ زَوَالُ الْمِلْكِ بِالْكُلِّيَّةِ يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ الرِّقِّ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَازِمٌ لَهُ إذْ الرِّقُّ إنَّمَا يَثْبُتُ جَزَاءً لِلْكُفْرِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى، وَانْتِفَاءُ اللَّازِمِ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ، وَزَوَالُ بَعْضِ الْمِلْكِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْعِتْقَ لِبَقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ بَلْ زَوَالُ بَعْضِ الْمِلْكِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِهِ إلَى مَالِكٍ آخَرَ يَكُونُ إيجَادًا لِلْبَعْضِ مِنْ عِلَّةِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ كَالْقِنْدِيلِ لَا يَسْقُطُ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَسْكَةِ فَإِنْ قِيلَ فَفِي إزَالَةِ كُلِّ الْمِلْكِ عَنْ الرَّقِيقِ إزَالَةُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ ذَلِكَ: أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ لِلْعَبْدِ إزَالَةُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى قَصْدًا، وَأَصْلًا لَا ضِمْنًا، وَتَبَعًا، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ أَصْلًا فِي ابْتِدَاءِ الرِّقِّ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ لَكِنَّهُ تَبَعٌ بَقَاءً، فَإِنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمِلْكِيَّةُ، وَالْمَالِيَّةُ، وَلِهَذَا لَا يَزُولُ الرِّقُّ بِالْإِسْلَامِ فَفِي الْإِعْتَاقِ إزَالَةُ حَقِّ الْعَبْدِ قَصْدًا، وَأَصْلًا، وَلَزِمَ مِنْهُ زَوَالُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ضِمْنًا، وَتَبَعًا، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا، وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: فَفِي الِابْتِدَاءِ ثُبُوتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَتْبَعُ ثُبُوتَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي الْبَقَاءِ بِالْعَكْسِ فَإِنْ قِيلَ، فَأَيُّ أَثَرٍ لِلْإِعْتَاقِ عِنْدَ إزَالَةِ بَعْضِ الْمِلْكِ أُجِيبَ بِأَنَّ أَثَرَهُ فَسَادُ الْمِلْكِ فِي الْبَاقِي حَتَّى لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى بَيْعَ مُعْتَقِ الْبَعْضِ، وَلَا إبْقَاءَ فِي مِلْكِهِ، وَيَصِيرُ هُوَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ، وَيَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ يَصِيرُ

يَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ، وَيُنَافِي كَمَالَ أَهْلِيَّةِ الْكَرَامَاتِ الْبَشَرِيَّةِ كَالذِّمَّةِ وَالْحِلِّ وَالْوِلَايَةِ فَيُضْعِفُ الذِّمَّةَ حَتَّى لَا يَحْتَمِلُ الدَّيْنَ إلَّا إذَا ضَمِنْت إلَيْهَا مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ وَالْكَسْبِ فَيُبَاعُ فِي دَيْنٍ لَا تُهْمَةَ فِي ثُبُوتِهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ) أَيْ: اسْتِهْلَاكِ مَالِ الْإِنْسَانِ (وَالتِّجَارَةِ لَا فِيمَا كَانَ فِي ثُبُوتِهِ تُهْمَةٌ كَمَا إذَا أَقَرَّ الْمَحْجُورُ أَوْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، وَدَخَلَ بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى عِتْقِهِ، وَيُنَصَّفُ الْحِلُّ بِتَنْصِيفِ الْمَحَلِّ فِي حَقِّ الرِّجَالِ) أَيْ: يَحِلُّ لِلْحُرِّ أَرْبَعٌ، وَلِلرَّقِيقِ ثِنْتَانِ (وَبِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ كَمَا سَبَقَ) أَيْ: فِي فَصْلِ التَّرْجِيحِ أَيْ: تَحِلُّ الْأَمَةُ إذَا كَانَتْ مُقَدَّمَةً عَلَى الْحُرَّةِ، وَلَا تَحِلُّ إذَا كَانَتْ مُؤَخَّرَةً عَنْهَا أَوْ مُقَارِنَةً (وَيُنَصَّفُ الْحَدُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ بِالْعَجْزِ عَنْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِيهِ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَهَذَا لَا يُرَدُّ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى أَحَدٍ، وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ فَمُعْتَقُ الْبَعْضِ مُكَاتَبٌ عِنْدَهُ أَيْ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَّا فِي الرَّدِّ إلَى الرِّقِّ. (قَوْلُهُ:، وَالرِّقُّ يُبْطِلُ مَالِكِيَّةَ الْمَالِ) ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ مَمْلُوكٌ مَالًا فَلَا يَكُونُ مَالِكًا؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ، وَالْمَالِيَّةَ تُنْبِئُ عَنْ الْعَجْزِ، وَالِابْتِذَالِ، وَالْمَالِكِيَّةِ عَنْ الْقُدْرَةِ، وَالْكَرَامَةِ، فَيَتَنَافَيَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ فَلَا يَصِيرُ مَالِكًا لِمَالٍ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ، وَمَالِكًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَرَّمٌ، وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةَ، وَالْمَمْلُوكِيَّة بِالْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْمَمْلُوكِيَّةِ مُتْعَةً، وَبَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ مَالًا، وَبِالْعَكْسِ فَالرَّقِيقُ، وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ مِلْكِ الْمَالِ، وَلَوْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَلَا يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ التَّسَرِّيَ لِابْتِنَائِهِ عَلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ دُونَ الْمُتْعَةِ، وَخُصَّ الْمُكَاتَبُ، وَالتَّسَرِّي بِالذِّكْرِ لِيُعْلَمَ الْحُكْمُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ الرِّقَّ نَاقِصٌ حَتَّى إنَّهُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ، وَفِي التَّسَرِّي مَظِنَّةُ مِلْكِ الْمُتْعَةِ كَالنِّكَاحِ، وَلِهَذَا صَحَّ عِنْدَ مَالِكٍ. (قَوْلُهُ:، وَلَا يُبْطِلُ) أَيْ: الرِّقُّ مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ، وَالْحَيَاةِ، وَالدَّمِ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْمُبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي النِّكَاحِ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ الْمُتَعَلِّقِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَالسَّرِقَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ، وَالدَّمَ حَقُّهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِمَا فِي الْبَقَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إتْلَافَهُمَا، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالسَّرِقَةِ الْقَائِمَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ، فَيَصِحُّ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا فَيُقْطَعَ؛ لِأَنَّ الدَّمَ مِلْكُهُ، وَيُرَدُّ الْمَالُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَطْعِ، وَرَدِّ الْمَالِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَصِحُّ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -

وَالْعِدَّةُ وَالْقَسَمُ وَالطَّلَاقُ لَكِنَّ الْوَحْدَةَ لَا تَقْبَلُهُ) أَيْ: التَّنْصِيفَ (فَيَتَكَامَلُ، وَعَدَدُ الطَّلَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فَاعْتُبِرَ بِالنِّسَاءِ فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ مِنْ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ اتِّسَاعُ الْمَالِكِيَّةِ أَيْضًا فَكَمَا يُعْتَبَرُ بِالنِّسَاءِ يَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالرِّجَالِ أَيْضًا قُلْنَا قَدْ اُعْتُبِرَ مَالِكِيَّةُ الزَّوْجِ مَرَّةً حَتَّى انْتَقَصَ عَدَدُ الزَّوْجَاتُ فَإِنْ انْتَقَصَ مَالِكِيَّتُهُ فِي هَذَا الْعَدَدِ النَّاقِصِ يَلْزَمُ النُّقْصَانُ مِنْ الْمُنَصَّفِ، وَلَمَّا كَانَ أَحَدُ الْمِلْكَيْنِ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ ثَابِتًا لَهُ عَلَى الْكَمَالِ، وَالْمِلْكُ الْآخَرُ وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ نَاقِصًا غَيْرَ مُنْتَفٍ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْيَدَ لَا الرَّقَبَةَ أَوْجَبَ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِي قِيمَتِهِ فَانْتَقَصَتْ دِيَتُهُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ بِشَيْءٍ هُوَ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِي الْمَهْرِ، وَالسَّرِقَةِ وَهُوَ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَهِيَ مَالِكَةٌ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمَالُ دُونَ الْآخَرِ فَتُنَصَّفُ دِيَتُهَا) اعْلَمْ أَنَّ الْمِلْكَ نَوْعَانِ: مِلْكُ الْمَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَصِحُّ فِي حَقِّ الْقَطْعِ دُونَ الْمَالِ لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ أَقَرَّ بِشَيْئَيْنِ الْقَطْعِ، وَهُوَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ دَمَهُ، فَيَثْبُتُ، وَالْمَالِ، وَهُوَ عَلَى الْمَوْلَى فَلَا يَصِحُّ وَلِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ بَاطِلٌ لِكَوْنِهِ عَلَى الْمَوْلَى، فَيَبْقَى الْمَالُ لِلْمَوْلَى، وَلَا قَطْعَ عَلَى الْعَبْدِ فِي سَرِقَةِ مَالِ مَوْلَاهُ، وَأَيْضًا الْمَالُ أَصْلٌ، وَالْقَطْعُ تَبَعٌ فَإِذَا بَطَلَ الْأَصْلُ لَمْ يَثْبُتْ التَّبَعُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَطْعِ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ دَمَهُ، فَيَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَالِ بِنَاءً عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَطْعِ قَدْ لَاقَى حَالَةَ الْبَقَاءِ، وَالْمَالُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ تَابِعٌ لِلْقَطْعِ حَتَّى يَسْقُطَ عِصْمَةُ الْمَالِ بِاعْتِبَارِهِ، وَيُسْتَوْفَى الْقَطْعُ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى، وَقَالَ: الْمَالُ مَالِي، وَإِنْ صَدَّقَهُ يُقْطَعُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا. (قَوْلُهُ: وَيُنَافِي) يَعْنِي: أَنَّ الرِّقَّ يُنْبِئُ عَنْ الْعَجْزِ، وَالْمَذَلَّةِ فَيُنَافِي كَمَالَ أَهْلِيَّةِ الْكَرَامَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ الذِّمَّةِ، وَالْحِلِّ، وَالْوِلَايَةِ أَمَّا الذِّمَّةُ؛ فَلِأَنَّهَا صِفَةٌ بِهَا صَارَ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِلْإِيجَابِ، وَالِاسْتِيجَابِ دُونَ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَأَمَّا الْحِلُّ؛ فَلِأَنَّ اسْتِفْرَاشَ الْحَرَائِرِ، وَالسَّكَنَ، وَالِازْدِوَاجَ، وَالْمَحَبَّةَ، وَتَحْصِينَ النَّفْسِ، وَالتَّوْسِعَةَ فِي تَكْثِيرِ النَّسْلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُ إثْمٌ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ، وَلِهَذَا زَادَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى التِّسْعِ، وَجَازَ لَهُ مَا فَوْقَهَا، وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَلِأَنَّ تَنْفِيذَ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ غَايَةُ الْكَرَامَةِ، وَنِهَايَةُ السَّلْطَنَةِ، وَإِذَا انْتَفَى كَمَالُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ ضَعُفَتْ ذِمَّةُ الرَّقِيقِ عَنْ احْتِمَالِ الدَّيْنِ حَتَّى لَا يُطَالَبَ بِهِ إلَّا إذَا انْضَمَّ إلَى الذِّمَّةِ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ، وَالْكَسْبِ جَمِيعًا فَحِينَئِذٍ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِهَا فَيُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ، وَالْكَسْبِ بِأَنْ يُصْرَفَ أَوَّلًا إلَى الدَّيْنِ الْكَسْبُ الْمَوْجُودُ فِي يَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ لَمْ يَفِ يُصْرَفُ إلَيْهِ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ بِأَنْ يُبَاعَ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا، فَيَسْتَسْعِي كَالْمُدَبَّرِ، وَالْمُكَاتَبِ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ثُبُوتِ الدَّيْنِ تُهْمَةٌ، وَأَمَّا إذَا كَانَ كَالدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمَحْجُورُ، وَالْعُقْرُ الَّذِي لَزِمَهُ بِالدُّخُولِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَلَا يُبَاعُ فِيهِ الرَّقِيقُ، وَلَا يُصْرَفُ

وَمِلْكُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَهُوَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ كَالنِّكَاحِ، وَالثَّانِي ثَابِتٌ لِلْعَبْدِ، وَالْأَوَّلُ نَاقِصٌ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِلْكَ الْيَدِ لَا مِلْكَ الرَّقَبَةِ فَتَكُونُ قِيمَتُهُ نَاقِصَةً عَنْ قِيمَةِ الْحُرِّ أَيْ: عَنْ دِيَتِهِ لَا نِصْفُهَا أَيْ: إذَا بَلَغَ قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ خَطَأً عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَإِنَّهُ يَنْقُصُ عَنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَالِ ثَابِتٌ لَهَا دُونَ مِلْكِ النِّكَاحِ فَدِيَتُهَا نِصْفُ دِيَةِ الرَّجُلِ هَذَا مَا ذَكَرُوا، وَقَدْ وَقَعَ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ فِي خَاطِرِي اعْتِرَاضٌ فَقُلْت (لَكِنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ لَا تَخْتَصُّ بِالدِّيَةِ، وَأَيْضًا تُوجِبُ الْإِكْمَالَ فِيمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِازْدِوَاجِ) أَيْ: لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ لِنُقْصَانِ دِيَةِ الْعَبْدِ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ هَذَا الْأَمْرُ وَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَصَّ هَذَا الْحُكْمُ بِالدِّيَةِ بَلْ يَكُونُ مُطَّرِدًا فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQإلَيْهِ كَسْبُهُ بَلْ يُؤَخَّرُ أَدَاؤُهُ إلَى أَنْ يُعْتَقَ، وَيَحْصُلَ لَهُ مَالٌ أَمَّا الدَّيْنُ فَلِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الْعُقْرُ فَلِأَنَّهُ قِيمَةُ الْبُضْعِ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ، وَلَا شُبْهَةَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِعَدَمِ رِضَاهُ فَلَا يَظْهَرُ ثُبُوتُ الْعُقْرِ فِي حَقِّهِ فَلَا يُسْتَوْفَى مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ، وَلَا مِنْ الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُمَا حَقُّ الْمَوْلَى. (قَوْلُهُ: وَيُنَصَّفُ الْحَدُّ) ؛ لِأَنَّ تَغْلِيظَ الْعُقُوبَةِ بِتَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ عَلَى حَقِّ الْمُنْعِمِ، وَذَلِكَ بِتَوَافُرِ النِّعَمِ، وَكَمَالِ الْكَرَامَةِ، وَهِيَ نَاقِصَةٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحُرِّ فَيُنَصَّفُ حَدُّهُ الْقَابِلُ لِلتَّنْصِيفِ كَالْجَلْدِ بِخِلَافِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، وَكَذَا الْعِدَّةُ تَعْظِيمٌ لِمِلْكِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، فَتُنَصَّفُ، وَتَكُونُ عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا تَنْتَصِفُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّكَامُلِ احْتِيَاطِيًّا، وَكَذَا فِي الْقَسَمِ يَكُونُ لِلْأَمَةِ نِصْفُ الْحُرَّةِ، وَفِي الطَّلَاقِ يَكُونُ طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ تَنْصِيفُ الثَّلَاثَةِ عَلَى السَّوَاءِ فَجُعِلَ نِصْفُ الثَّلَاثَةِ ثِنْتَيْنِ اعْتِبَارًا لِجَانِبِ الْوُجُودِ، وَذَهَابًا إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ بَقَاءِ الْحِلِّ، وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَنْصِيفِ الطَّلَاقِ رِقُّ الزَّوْجِ حَتَّى كَأَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ ثِنْتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً أَوْ حُرَّةً لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ، وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ» ، وَلِأَنَّهُ الْمَالِكُ لِلطَّلَاقِ كَالنِّكَاحِ فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ. وَاحْتَجَّ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى كَوْنِ الْمُعْتَبَرِ رِقَّ الزَّوْجَةِ بِأَنَّ عَدَدَ الطَّلَاقِ عِبَارَةٌ عَنْ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ يَعْنِي: أَنَّ الطَّلَاقَ مَشْرُوعٌ لِتَفْوِيتِ الْحِلِّ الَّذِي صَارَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ مَحَلًّا لِلنِّكَاحِ فَمَحَلُّ التَّصَرُّفِ حِلُّ الْمَحَلِّيَّةِ فَمَتَى كَانَ حِلُّ الْمَرْأَةِ أَزْيَدَ كَانَ مَحَلِّيَّةُ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهَا أَوْسَعَ، وَظَاهِرٌ أَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ كَمَا أَنَّ حِلَّ الْعَبْدِ أَنْقَصُ مِنْ حِلِّ الْحُرِّ عَلَى التَّنَاصُفِ فَيَفُوتُ حِلُّ مَحَلِّيَّةُ الْأَمَةِ بِنِصْفِ مَا يَفُوتُ بِهِ حِلُّ مَحَلِّيَّةِ الْحُرَّةِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنْ لَيْسَ عَدَدُ الطَّلَاقِ عِبَارَةً عَنْ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ تَعَدُّدَ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْمَمْلُوكِيَّةِ حَتَّى يَنْقُصَ بِطَلَاقٍ وَاحِدٍ شَيْءٌ مِنْ الْمَمْلُوكِيَّةِ الْمُتَّسِعَةِ، وَبِالثِّنْتَيْنِ أَكْثَرُ، وَبِالثَّلَاثِ الْكُلُّ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي عَدَدِهِ رِعَايَةُ جَانِبِ الْمَمْلُوكِيَّةِ لَا الْمَالِكِيَّةِ، وَمَعْنَى الْمَمْلُوكِيَّةِ هَاهُنَا حِلُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي هُوَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَةِ، وَالْأَمَةُ نَاقِصَةٌ فِيهِ لَا الْمَمْلُوكِيَّةُ الْمَالِيَّةُ الَّتِي هِيَ فِي الْأَمَةِ أَقْوَى فَإِنْ قِيلَ: الْمَمْلُوكِيَّةُ

جَمِيعِ الصُّوَرِ وَلَا يَكُونُ الرِّقُّ مُنَصِّفًا لِشَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ بَلْ يُوجِبُ نُقْصَانًا، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ هَذَا، وَأَيْضًا لَمَّا ذَكَرُوا أَنَّ أَحَدَ الْمِلْكَيْنِ ثَابِتٌ لِلرَّقِيقِ، وَهُوَ الِازْدِوَاجُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الِازْدِوَاجِ كَامِلًا فِي الْأَرِقَّاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ لِنُقْصَانِ دِيَتِهِ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ لَيْسَتْ مَا ذَكَرُوا أَرَدْت أَنْ أُبَيِّنَ مَا هُوَ الْعِلَّةُ لِثُبُوتِ هَذَا الْحُكْمِ فَقُلْت (وَإِنَّمَا انْتَقَصَ دِيَتُهُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ) أَيْ: فِي الْعَبْدِ (الْمَالِيَّةُ فَلَا تُنَصَّفُ لَكِنْ فِي الْإِكْمَالِ شُبْهَةُ الْمُسَاوَاةِ بِالْحُرِّ فَيُنْتَقَصُ وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ حَتَّى أَنَّ الْمَأْذُونَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا بَلْ هُوَ كَالْوَكِيلِ) وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أُذِنَ الْعَبْدُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَالِكِيَّةِ فَكُلَّمَا زَادَتْ الْمَمْلُوكِيَّةُ زَادَتْ الْمَالِكِيَّةُ، فَيَكُونُ اتِّسَاعُ الْمَمْلُوكِيَّةِ مُسْتَلْزِمًا لِاتِّسَاعِ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ مَالِكِيَّةَ ثَلَاثَةِ عَبِيدٍ أَوْسَعُ مِنْ مَالِكِيَّةِ عَبْدَيْنِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِالرِّجَالِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَالِكِيَّةَ الْحُرِّ أَوْسَعُ مِنْ مَالِكِيَّةِ الرَّقِيقِ، فَيَلْزَمُ تَنْصِيفُ الطَّلَاقِ بِرِقِّ الرَّجُلِ أَيْضًا لِنُقْصَانِ مَالِكِيَّتِهِ، فَيَكُونُ طَلَاقُ الْحُرَّةِ تَحْتَ الْعَبْدِ ثِنْتَيْنِ كَطَلَاقِ الْأَمَةِ تَحْتَ الْحُرِّ فَالْجَوَابُ أَنَّ حَالَ الزَّوْجِ فِي الِاتِّسَاعِ، وَالتَّضْيِيقِ قَدْ اُعْتُبِرَتْ مَرَّةً حَيْثُ تُنَصَّفُ عَدَدُ زَوْجَاتِ الرَّقِيقِ مِنْ الْأَرْبَعِ إلَى الثِّنْتَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَوْ اُعْتُبِرَتْ فِي حَقِّ الطَّلَقَاتِ أَيْضًا لَزِمَ النُّقْصَانُ مِنْ النِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ يَمْلِكُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ طَلْقَةً بِحَسَبِ أَرْبَعِ زَوْجَاتٍ، فَيَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ سِتَّ طَلَقَاتٍ يُوقِعُهَا عَلَى زَوْجَتَيْنِ تَحْقِيقًا لِلتَّنْصِيفِ، وَلَوْ تَنَصَّفَ الطَّلَاقُ فِي حَقِّهِ أَيْضًا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَمْلِكَ إلَّا أَرْبَعَ تَطْلِيقَاتٍ، وَهَذَا أَقَلُّ مِنْ السِّتِّ الَّتِي هِيَ نِصْفُ اثْنَيْ عَشَرَ. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ أَحَدُ الْمِلْكَيْنِ) يُرِيدُ أَنَّهُ يَتَفَرَّغَ عَلَى مُنَافَاةِ الرِّقِّ لِكَمَالِ الْكَرَامَاتِ نُقْصَانُ دِيَةِ الرَّقِيقِ حَتَّى، لَوْ قُتِلَ خَطَأً يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي قِيمَتُهُ لِلْمَوْلَى بِشَرْطِ أَنْ تَنْقُصَ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَضْعَافَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِي الرَّقِيقِ جِهَةَ الْمَالِيَّةِ، وَجِهَةَ النَّفْسِيَّةِ؛ فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جِهَةَ الْمَالِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى، وَمِلْكُهُ فِي الْعَبْدِ مِلْكُ مَالٍ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ النُّقُودُ دُونَ الْإِبِلِ، وَلِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَاتِ مِنْ الْحُسْنِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَغَيْرِهِمَا، وَالصِّفَاتُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ دُونَ النُّفُوسِ، وَاعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جِهَةَ النَّفْسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَصْلٌ، وَالْمَالِيَّةُ تَبَعٌ يَزُولُ بِزَوَالِ النَّفْسِيَّةِ كَمَا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ دُونَ الْعَكْسِ كَمَا إذَا أُعْتِقَ، وَضَمَانُ النَّفْسِيَّةِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ خَطَرِهَا، وَذَلِكَ بِالْمَالِكِيَّةِ، فَإِنَّهَا كَمَالُ حَالِ الْإِنْسَانِ، وَالْمَالِكِيَّةُ نَوْعَانِ مَالِكِيَّةُ الْمَالِ، وَكَمَالُهَا بِالْحُرِّيَّةِ، وَمَالِكِيَّةُ النِّكَاحِ، وَثُبُوتُهَا بِالذُّكُورَةِ فَالْمَرْأَةُ قَدْ انْتَفَتْ فِيهَا إحْدَى الْمَالِكِيَّتَيْنِ، وَثَبَتَتْ الْأُخْرَى بِكَمَالِهَا فَانْتَقَصَتْ دِيَتُهَا بِالتَّنْصِيفِ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ مَالِكِيَّةُ النِّكَاحِ بِكَمَالِهَا، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَتْ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى دَفْعًا

فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ فَعِنْدَنَا يَعُمُّ إذْنُهُ لِسَائِرِ الْأَنْوَاعِ، وَعِنْدَهُ لَا بَلْ يَخْتَصُّ الْإِذْنُ بِمَا أُذِنَ فِيهِ كَمَا فِي الْوَكَالَةِ (لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِسَبَبِهِ، وَقُلْنَا هُوَ أَهْلٌ لِلتَّكَلُّمِ وَالذِّمَّةِ، فَيَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ مَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ وَأَدْنَى طُرُقِهِ الْيَدُ عَلَى أَنَّهَا) أَيْ: الْيَدَ (لَيْسَتْ بِمَالٍ) فَلَا يَكُونُ الرِّقُّ مُنَافِيًا لِمِلْكِ الْيَدِ لَكِنَّهُ مُنَافٍ لِمِلْكِ الْمَالِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا حَالَ كَوْنِهِ مَالًا (وَهِيَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي التَّصَرُّفَاتِ) أَيْ: الْيَدُ هِيَ الْغَرَضُ الْأَصْلِيُّ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجٌ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمَا يَكُونُ سَبَبًا لِبَقَائِهِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلضَّرَرِ فِي مَالِهِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي مَالِكِيَّةِ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَنْتَفِ فِيهِ مَالِكِيَّةُ الْمَالِ بِالْكُلِّيَّةِ حَتَّى يُنَاسِبَ تَنْصِيفَ دِيَتِهِ بَلْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ فِيهَا نُقْصَانٌ؛ لِأَنَّهَا بِشَيْئَيْنِ: مِلْكِ الرَّقَبَةِ، وَهُوَ مُنْتَفٍ لِلْعَبْدِ، وَمِلْكُ الْيَدِ أَعْنِي: التَّصَرُّفَ، وَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ فَلَزِمَ بِوَاسِطَةِ نُقْصَانِ مِلْكِ الْيَدِ نُقْصَانُ شَيْءٍ مِنْ قِيمَتِهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ فِي أَقَلَّ مَا يُسْتَوْلَى بِهِ عَلَى الْحُرَّةِ اسْتِمْتَاعًا، وَهُوَ الْمَهْرُ، وَفِي أَقَلَّ مَا يُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ الَّتِي هِيَ بِمَنْزِلَةِ نِصْفِ الْبَدَنِ. وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يُبْلَغُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ دِيَةُ الْحُرِّ، وَيُنْقَصُ مِنْهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَإِنْ قِيلَ: الْمُنْتَفَى فِي الْعَبْدِ هُوَ أَحَدُ شِقَّيْ مَالِكِيَّةِ الْمَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُنْقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ الرُّبُعُ تَوْزِيعًا عَلَى مَا بِهِ خَطَرُ الْمَحَلِّ أَعْنِي: مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ، وَمَالِكِيَّةَ الْمَالِ رَقَبَةً، وَيَدًا قُلْنَا: مَالِكِيَّةُ الْيَدِ أَقْوَى مِنْ مَالِكِيَّةِ الرَّقَبَةِ إذْ الِانْتِفَاعُ وَالتَّصَرُّفُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَسِيلَةٌ إلَيْهِ بِخِلَافِ مِلْكِ الْمَالِ، وَمِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَمْرٌ مُسْتَقِلٌّ، فَكَانَا عَلَى التَّنَاصُفِ هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِمْ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَزِمَ أَنْ لَا يَجْرِيَ التَّنْصِيفُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الْعَبْدِ إذْ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي كَمَالِهِ إلَّا نُقْصَانُ مَا أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ بَلْ مِنْ الرُّبْعِ عَلَى مَا مَرَّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ نُقْصَانُهُ فِي النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ بِأَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ إجْمَاعًا: وَثَانِيهِمَا أَنَّ مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً لِلرَّقِيقِ بِكَمَالِهَا لَزِمَ، أَنْ لَا يَجْرِيَ النُّقْصَانُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّكَاحِ، وَالِازْدِوَاجِ كَعَدَدِ الزَّوْجَاتِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْقَسَمِ، وَالطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ، وَهِيَ كَامِلَةٌ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ: أَنَّ تَنْصِيفَ عَدَدِ الزَّوْجَاتِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ خَطَرِ النَّفْسِ أَعْنِي: الْمَالِكِيَّةَ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ النُّقْصَانُ بِأَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ كَمَا فِي الدِّيَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْحِلِّ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْكَرَامَةِ، وَالرَّقِيقُ نَاقِصٌ فِيهِ نُقْصَانًا لَا يَتَعَيَّنُ قَدْرُهُ فَقَدَّرَهُ الشَّرْعُ بِالنِّصْفِ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الدِّيَةِ فَإِنَّهَا بِاعْتِبَارِ خَطَرِ النَّفْسِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمِلْكِيَّةِ، وَنُقْصَانُ الرَّقِيقِ فِي ذَلِكَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّقْصَانَ فِي الشَّيْءِ يُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ لَا فِي حُكْمٍ لَا يُلَائِمُهُ فَالنُّقْصَانُ فِي الْمَالِكِيَّةِ يُوجِبُ النُّقْصَانَ فِي الدِّيَةِ لَا فِي

فَشَرَعَ التَّصَرُّفَاتِ كَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِ لِحُصُولِ مِلْكِ الْيَدِ ثُمَّ مِلْكُ الرَّقَبَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِيَكُونَ وَسِيلَةً إلَى مِلْكِ الْيَدِ فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ هُوَ اخْتِصَاصُ الْمَالِكِ بِالشَّيْءِ، فَيَقْطَعُ طَمَعَ الطَّامِعِينَ وَالْإِفْضَاءَ إلَى التَّنَازُعِ وَالتَّقَاتُلِ، وَنَحْوِهِمَا فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي التَّصَرُّفَاتِ مِلْكُ الْيَدِ، فَأَمَّا مِلْكُ الرَّقَبَةِ فَإِنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ إكْمَالِ مِلْكِ الْيَدِ، فَيَبْطُلُ مَا قَالَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِسَبَبِهِ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ حَاصِلٌ لِلْعَبْدِ (فَأَمَّا الْمِلْكُ) أَيْ: مِلْكُ الرَّقَبَةِ (فَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ ضَرُورِيٌّ) أَيْ: لَيْسَ مَقْصُودًا أَصْلِيًّا أَيْ: مَقْصُودًا لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضَرُورَةَ أَنْ يَثْبُتَ شَيْءٌ آخَرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَعَدَمُ أَهْلِيَّتِهِ لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ يُوجِبُ عَدَمَ أَهْلِيَّتِهِ لِمَا شُرِعَ لِأَجْلِهِ أَمَّا عَدَمُ أَهْلِيَّتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَدَدِ الْمَنْكُوحَاتِ، وَالنُّقْصَانُ فِي الْحِلِّ بِالْعَكْسِ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ تَنْصِيفَ عَدَدِ الزَّوْجَاتِ لَيْسَ لِنُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ بَلْ لِنُقْصَانِ الْحِلِّ، وَكَمَالُ مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ، وَإِنْ لَمْ يُوجِبْ نُقْصَانَ عَدَدِ الزَّوْجَاتِ لَكِنَّهُ لَا يُنَافِي أَنْ يُوجِبَهُ أَمْرٌ آخَرُ هُوَ نُقْصَانُ الْحِلِّ، ثُمَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ ثُبُوتَ كَمَالِ مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ فِي الرَّقِيقِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الِازْدِوَاجِ كَامِلًا فِي الْأَرِقَّاءِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ كَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ، وَالْقَسَمِ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الزَّوْجَةِ، وَالْأَمَةُ لَا تَمْلِكُ النِّكَاحَ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ كَمَالِ الْمَالِكِيَّةِ. (قَوْلُهُ: وَإِنَّمَا انْتَقَصَ) يُرِيدُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي نُقْصَانِ دِيَةِ الْعَبْدِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ جَانِبُ الْمَالِيَّةِ فَلَا يَلْزَمُ التَّنْصِيفُ بَلْ الْقِيمَةُ لَكِنَّهَا إذَا بَلَغَتْ دِيَةَ الْحُرِّ أَوْ زَادَتْ عَلَيْهَا يُنْتَقَصُ مِنْهَا شَيْءٌ اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ فِي صُورَةٍ أُخْرَى كَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ احْتِرَازًا عَنْ شُبْهَةِ مُسَاوَاةِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ أَوْ زِيَادَتِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ مُعْتَبَرَةٌ بِحَقِيقَتِهِ، وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُسَاوَاةِ مُنْتَفِيَةٌ فَكَذَلِكَ شُبْهَتُهَا، وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ شُبْهَةَ الْمُسَاوَاةِ لَا حَقِيقَتَهَا؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ إنَّمَا تَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، وَالِابْتِذَالِ، وَدِيَةُ الْحُرِّ بِاعْتِبَارِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْكَرَامَةِ، وَالْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي حَقِيقَةً، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ صُورَةً فَلَا مُسَاوَاةَ حَقِيقَةً، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْفَضْلِ الْكَرْمَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفْسِهِ ضَمَانُ النَّفْسِ، وَلَكِنْ فِي جَانِبِ الْمُسْتَحِقِّ هُوَ ضَمَانُ مَالٍ، فَيَظْهَرُ حُكْمُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ السَّيِّدِ وَإِلَّا فَنَفْسُ الْعَبْدِ مَعْصُومَةٌ مَصُونَةٌ عَنْ الْهَدَرِ مُعْتَبَرَةٌ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ بِالْقِصَاصِ، وَالْكَفَّارَةُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَالِيَّةُ قَائِمَةٌ بِهَا تَابِعَةٌ لَهَا تَزُولُ بِزَوَالِهَا كَمَا فِي الْمَوْتِ دُونَ الْعَكْسِ كَمَا فِي الْعِتْقِ، وَأَيْضًا الْمَقْصُودُ فِي الْإِتْلَافِ فِي الْقَتْلِ هُوَ النَّفْسِيَّةُ عَادَةً لَا الْمَالِيَّةُ، وَالضَّمَانُ لِلْمُتْلَفِ، وَأَيْضًا الضَّمَانُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ دُونَ الْجَانِي، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ النَّفْسِيَّةُ، وَكَوْنُ الدِّيَةِ لِلْمَوْلَى لَا يُنَافِي ذَلِكَ كَالْقِصَاصِ يَسْتَوْفِيهِ الْمَوْلَى، وَالْمَالُ يَجِبُ لِلْعَبْدِ، وَلِهَذَا تُقْضَى دُيُونُهُ

لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْغَيْرِ فَلَا يُوجِبُ عَدَمَ أَهْلِيَّتِهِ لِمَا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَيْهِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ الْغَيْرِ الْمَقْصُودِ لِذَاتِهِ كَمِلْكِ الْيَدِ فِي مَسْأَلَتِنَا (فَالْيَدُ تَثْبُتُ لَهُ وَالْمِلْكُ لِلْمَوْلَى خِلَافَةٌ عَنْهُ) أَيْ: يَكُونُ الْمَوْلَى قَائِمًا مَقَامَ الْعَبْدِ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُبَاشِرِ (وَهُوَ كَالْوَكِيلِ فِي الْمِلْكِ) أَيْ: الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ أَيْ: إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى كَمَا يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ فِي شِرَاءِ الْوَكِيلِ (وَفِي بَقَاءِ الْإِذْنِ فِي مَسَائِلِ مَرَضِ الْمَوْلَى وَعَامَّةِ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ) أَيْ: الْمَأْذُونِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ وَهُمَا مَرَضُ الْمَوْلَى، وَعَامَّةُ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ أَمَّا مَرَضُ الْمَوْلَى فَصُورَتُهُ أَنَّ الْمَأْذُونَ إنْ تَصَرَّفَ فِي حَالَ مَرَضِ الْمَوْلَى وَحَابَى مُحَابَاةً فَاحِشَةً وَعَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ أَصْلًا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْهُ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ فَهُوَ يَسْتَوْفِيهِ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ) يَعْنِي: أَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِيهِ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ، وَالتَّصَرُّفُ حَتَّى إنَّ الْمَأْذُونَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ عَلَى اكْتِسَابِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ، وَرَفْعُ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفِ حُكْمًا، وَإِثْبَاتُ الْيَدِ لِلْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ حَتَّى إنَّ الْإِذْنَ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ يَكُونُ إذْنًا فِي الْكُلِّ، وَلَا يَصِحُّ الْحَجْرُ فِي الْبَعْضِ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ أَوْ الْخَاصِّ، وَلَا يَقْبَلُ الْإِذْنُ التَّأْقِيتَ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ بَلْ بِطَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ عَنْ الْمَوْلَى كَالْوَكِيلِ، وَيَدُهُ فِي الِاكْتِسَابِ يَدُ نِيَابَةٍ كَالْمُودَعِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ لَكَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ، وَسِيلَةٌ إلَى الْمِلْكِ، وَسَبَبٌ لَهُ، وَالسَّبَبُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِحُكْمِهِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ إجْمَاعًا فَكَذَا الْمَلْزُومُ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ إذْ الْيَدُ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ التَّصَرُّفِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ تَمْلِيكٌ، وَتَمَلُّكٌ، وَمَعْنَى التَّمَلُّكِ الصَّيْرُورَةُ مَالِكًا، وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ الْإِخْرَاجُ عَنْ مِلْكِهِ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ، وَلَا مِلْكَ إلَّا لِلْمَوْلَى، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مِلْكُ الْيَدِ، وَهُوَ حَاصِلٌ لِلْعَبْدِ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ، وَسِيلَةٌ إلَيْهِ، وَعَدَمُ أَهْلِيَّتِهِ لِلْوَسِيلَةِ لَا يُوجِبُ عَدَمَ أَهْلِيَّتِهِ لِلْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ إلَى الْمَقْصُودِ طَرِيقٌ إلَّا بِتِلْكَ الْوَسِيلَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرَّقِيقَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَمِلْكِ الْيَدِ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّكَلُّمِ، وَالذِّمَّةِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ عَاقِلٌ تُقْبَلُ رِوَايَاتُهُ فِي الْأَخْبَارِ، وَالدِّيَانَاتِ، وَشَهَادَتُهُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ، وَيَجُوزُ تَوْكِيلُهُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِيجَابِ، وَالِاسْتِيجَابِ، وَلِذَا يُخَاطَبُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ، وَالْقِصَاصِ، وَالدَّيْنِ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى ذِمَّتَهُ حَتَّى لَا يَجُوزَ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَمَّا إقْرَارُهُ عَلَى الْعَبْدِ بِدَيْنٍ فَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لَهُ كَالْوَارِثِ يُقِرُّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِالدَّيْنِ

يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ لَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَهُوَ فِي حَالِ مَرَضِ الْمَوْلَى كَالْوَكِيلِ وَلَوْ كَانَ هَذَا التَّصَرُّفُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يَصِحُّ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَفِي حَالِ صِحَّةِ الْمَوْلَى لَيْسَ كَالْوَكِيلِ وَأَمَّا عَامَّةُ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ فَكَمَا إذَا أَذِنَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ عَبْدًا اشْتَرَاهُ مِنْ كَسْبِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ حَجَرَ الْمَوْلَى الْمَأْذُونَ الْأَوَّلَ لَا يَنْحَجِرُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ، وَعَزَلَ الْمُوَكِّلُ الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ لَمْ يَنْعَزِلْ الثَّانِي، وَكَذَا إذَا مَاتَ الْمَأْذُونُ الْأَوَّلُ لَا يَنْحَجِرُ الثَّانِي كَالْوَكِيلِ إذَا مَاتَ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي بَقَاءِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ لَيْسَ كَالْوَكِيلِ عِنْدَنَا، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يَثْبُتُ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا فِيمَا وُكِّلَ بِهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَكِنْ فِي بَقَاءِ الْإِذْنِ هُوَ (كَالْوَكِيلِ وَهُوَ مَعْصُومُ الدَّمِ كَالْحُرِّ؛ لِأَنَّهَا) أَيْ: الْعِصْمَةَ وَقَدْ فُهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ مَعْصُومُ الدَّمِ (بِنَاءً عَلَى الْإِسْلَامِ وَدَارِهِ فَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ، وَالرِّقُّ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْجِهَادِ عَلَى مَا قُلْنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَإِذَا كَانَ أَهْلًا لِلتَّكَلُّمِ، وَالذِّمَّةِ صَحَّ أَنْ يَلْتَزِمَ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ، فَيَجِبَ أَنْ يَكُونَ لَهُ طَرِيقٌ إلَى قَضَائِهِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْإِيجَابِ فِي الذِّمَّةِ بِدُونِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَأَدْنَى طُرُقِ الْقَضَاءِ مِلْكُ الْيَدِ، فَيَلْزَمُ ثُبُوتُهُ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فَإِنْ قِيلَ: الرَّقِيقُ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ مَالِكًا لَا يَدًا، وَلَا رَقَبَةً أُجِيبَ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ مَالًا فَلَا يَكُونُ مَالِكًا مَالًا، وَالْيَدُ لَيْسَتْ بِمَالٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْيَدِ كَمَا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، وَمِثْلُهُ فِي النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ فَلَا يَثْبُتُ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنْ قِيلَ: مِلْكُ الرَّقَبَةِ حُكْمٌ لِلتَّصَرُّفِ، وَمُسَبَّبٌ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُ الْعَبْدِ يَقَعُ لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ يَقَعُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى؟ أُجِيبَ بِأَنَّ التَّصَرُّفَ يَنْعَقِدُ لِلْعَبْدِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ تَصَرُّفِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ بَعْدَمَا أُوقِعَ الْمِلْكُ لَهُ اسْتَحَقَّهُ الْمَوْلَى بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مَالِكَ رَقَبَتِهِ فَالْمَوْلَى إنَّمَا يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ كَالْوَارِثِ مَعَ الْمُوَرِّثِ فَلِذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ أَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ، وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ مِنْ جِهَتِهِ، وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ، وَهُوَ الْمِلْكُ وَاقِعٌ لِلْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَالنَّفَقَةِ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ يَخْلُفُهُ الْمَالِكُ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الْمَأْذُونَ كَالْوَكِيلِ فِي أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى كَمَا يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ يَعْنِي: أَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمَوْلَى مَالًا كَمَا يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فِي بَقَاءِ الْإِذْنِ فَمَعْنَاهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَأْذُونَ كَالْوَكِيلِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْإِذْنِ فِي مَسَائِلِ مَرَضِ الْمَوْلَى، وَعَامَّةِ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ حَتَّى يَكُونَ تَصَرُّفُهُ كَتَصَرُّفِهِ يَصِحُّ فِيمَا يَصِحُّ، وَيَبْطُلُ فِيمَا يَبْطُلُ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي حَالِ بَقَاءِ الْإِذْنِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ لَيْسَ

فِي الْحَجِّ) إنَّ مَنَافِعَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ، فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ الْكَامِلَ (وَيُنَافِي الْوِلَايَاتِ كُلَّهَا فَلَا يَصْلُحُ أَمَانُ الْمَحْجُورِ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ عَلَى النَّاسِ ابْتِدَاءً وَأَمَّا أَمَانُ الْمَأْذُونِ فَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَوَّلًا فِي حَقِّهِ إذْ هُوَ شَرِيكٌ فِي الْغَنِيمَةِ ثُمَّ يَتَعَدَّى كَمَا فِي شَهَادَتِهِ بِهِلَالِ رَمَضَانَ) فَإِنَّ صَوْمَ رَمَضَانِ يَثْبُتُ أَوَّلًا فِي حَقِّهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى كَافَّةِ النَّاسِ، وَلَا تُشْتَرَطُ الْوِلَايَةُ لِمِثْلِ هَذَا (وَيُنَافِي ضَمَانَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ بَلْ يَجِبُ دَفْعُهُ جَزَاءً) أَيْ: لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ ضَمَانُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ صِلَةٌ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمَحَارِمِ فَلَا يَجِبُ الدِّيَةُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ خَطَأً؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ صِلَةٌ فِي حَقِّ الْجَانِي كَأَنَّهُ يَهَبُ ابْتِدَاءً وَعُوِّضَ فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَكَوْنُ الْمُتْلَفِ غَيْرَ مَالٍ يُنَافِي الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ، وَكَوْنُ الدَّمِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْدَرَ يُوجِبُ الْحَقَّ لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ فَصَارَتْ رَقَبَتُهُ جَزَاءً (إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ، فَيَصِيرَ الْوُجُوبُ عَائِدًا إلَى الْأَصْلِ فَإِنَّ الْأَرْشَ أَصْلٌ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالْوَكِيلِ إذْ الْوَكَالَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا فِيمَا وُكِّلَ بِهِ، وَالْإِذْنُ يَعُمُّ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي حَالِ مَرَضِ الْمَوْلَى؛ لِأَنَّهُ فِي حَالِ صِحَّةِ الْمَوْلَى لَيْسَ كَالْوَكِيلِ إذْ يَصِحُّ مِنْهُ الْمُحَابَاةُ الْفَاحِشَةُ، وَلَا تَصِحُّ مِنْ الْوَكِيلِ، وَإِنَّمَا قَالَ عَامَّةُ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْوَكِيلِ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالِاشْتِرَاءِ إذَا اشْتَرَى بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْمَأْذُونِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْوَكِيلِ، وَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِذَلِكَ أَيْ: وَلِأَنَّ الْمَوْلَى خَلَفٌ عَنْ الْعَبْدِ فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ جَعَلْنَا الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ، وَفِي حُكْمِ بَقَاءِ الْإِذْنِ كَالْوَكِيلِ فِي مَسَائِلِ مَرَضِ الْمَوْلَى، وَعَامَّةِ مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ يَعْنِي: يَكُونُ لِلْمَوْلَى حَجْرُ الْمَأْذُونِ بِدُونِ رِضَاهُ كَمَا أَنَّ لَهُ عَزْلَ الْوَكِيلِ بِدُونِ رِضَاهُ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ كَالْوَكِيلِ فِي حُكْمِ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ إذْ لَيْسَ لِلْمَوْلَى عَزْلُهُ بِدُونِ تَعْجِيزِهِ نَفْسَهُ. (قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ: الرَّقِيقُ مَعْصُومُ الدَّمِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ التَّعَرُّضُ لَهُ بِالْإِتْلَافِ حَقًّا لَهُ، وَلِصَاحِبِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ: نَوْعَانِ مُؤَثِّمَةٌ تُوجِبُ الْإِثْمَ فَقَطْ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعَرُّضِ لِلدَّمِ، وَهِيَ بِالْإِسْلَامِ، وَمُقَوِّمَةٌ تُوجِبُ مَعَ الْإِثْمِ الضَّمَانَ أَيْ: الْقِصَاصَ أَوْ الدِّيَةَ، وَهِيَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ، وَالْعَبْدُ يُسَاوِي الْحُرَّ فِي الْأَمْرَيْنِ فَيُسَاوِيهِ فِي الْعِصْمَتَيْنِ فَيُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ قِصَاصًا؛ لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْعِصْمَتَيْنِ، وَالْمَالِيَّةُ لَا تُخِلُّ بِهِمَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقِصَاصُ مُنْبِئٌ عَنْ الْمُمَاثَلَةِ، وَالْمُسَاوَاةِ، وَمَبْنِيٌّ عَلَى الْكَرَامَاتِ الْبَشَرِيَّةِ، وَالْمَالِيَّةُ تُخِلُّ بِذَلِكَ عَلَى مَا مَرَّ. (قَوْلُهُ:، وَالرِّقُّ يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي الْجِهَادِ) ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ مَنَافِعِ الْبَدَنِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ الصَّوْمِ، وَالصَّلَاةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْقِتَالُ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى، وَإِذَا قَاتَلَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ السَّهْمَ الْكَامِلَ

الْبَابِ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْإِفْلَاسِ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ كَالْحَوَالَةِ) أَيْ: الْأَرْشُ أَصْلٌ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ خَطَأً لَكِنْ الْعَبْدُ لَيْسَ أَهْلًا لَأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ صِلَةٌ وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَرْشُ لَا يُمْكِنُ تَحَمُّلُ الْعَاقِلَةِ عَنْهُ فَصَارَتْ رَقَبَتُهُ جَزَاءً لَكِنْ لَمَّا اخْتَارَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ فِدَاءً عَنْ الْعَبْدِ لِئَلَّا يُفَوِّتَهُ الْعَبْدُ صَارَ وُجُوبُ الْفِدَاءِ عَائِدًا إلَى الْأَصْلِ لَا كَالْحَوَالَةِ حَتَّى إذَا أَفْلَسَ الْمَوْلَى بَعْدَ اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ لَا يَجِبُ الدَّفْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ كَالْحَوَالَةِ حَتَّى يَعُودَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي الدَّفْعِ. . (وَمِنْهَا الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ وَهُمَا لَا يُعْدِمَانِ الْأَهْلِيَّةَ إلَّا أَنَّ الطَّهَارَةَ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى مَا مَرَّ) . (وَمِنْهَا الْمَرَضُ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لَكِنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعَجْزِ شُرِعَتْ الْعِبَادَاتُ فِيهِ لِلْقُدْرَةِ الْمُمَكِّنَةِ وَلَمَّا كَانَ سَبَبَ الْمَوْتِ وَهُوَ عِلَّةٌ لِلْخِلَافَةِ كَانَ سَبَبَ تَعَلُّقِ الْوَارِثِ وَالْغَرِيمِ فَيُوجِبُ الْحَجْرَ إذَا اتَّصَلَ بِالْمَوْتِ) الضَّمِيرُ فِي، وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى الْمَوْتِ وَالضَّمِيرُ فِي كَانَ، وَفِي يُوجِبُ وَفِي اتَّصَلَ يَعُودُ إلَى الْمَرَضِ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَوْتَ عِلَّةٌ لَأَنْ يَقُومَ الْغَيْرُ مَقَامَهُ (مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِهِ) أَيْ: أَوَّلُ الْمَرَضِ وَهُوَ حَالٌ عَنْ قَوْلِهِ فَيُوجِبُ الْحَجْرَ فَإِنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبَلْ يُرْضَخُ لَهُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْغَنِيمَةِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَرَامَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَرْضَخُ لِلْمَمَالِيكِ، وَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ» ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ السَّلَبِ إنَّمَا هُوَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالْإِيجَابِ مِنْ الْإِمَامِ، وَالْعَبْدُ يُسَاوِي الْحُرَّ فِي ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَيُنَافِي الْوِلَايَاتِ كُلَّهَا) بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّهُ يُنَافِي كَمَالَ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ مِنْهُ أَنَّ لَهُ وِلَايَةً ضَعِيفَةً كَالذِّمَّةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ؛ لِأَنَّ أَمَانَهُ تَصَرُّفٌ عَلَى النَّاسِ ابْتِدَاءً بِإِسْقَاطِ حُقُوقِهِمْ فِي أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، وَأَنْفُسِهِمْ اغْتِنَامًا، وَاسْتِرْقَاقًا، وَالتَّصَرُّفُ عَلَى الْغَيْرِ وِلَايَةٌ بِخِلَافِ أَمَانِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بِوَاسِطَةِ الْإِذْنِ صَارَ شَرِيكًا لِلْغُزَاةِ فِي الْغَنِيمَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْسَانٌ مُخَاطَبٌ يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَحَقِّ كَمَا فِي سَائِرِ أَكْسَابِهِ فَإِذَا أَمِنَ الْكَافِرُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فِي الْغَنِيمَةِ أَعْنِي: الرَّضْخَ فَصَحَّ فِي حَقِّهِ أَوَّلَا ثُمَّ تَعَدَّى إلَى الْغَيْرِ، وَلَزِمَ سُقُوطُ حُقُوقِهِمْ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ لَا تَتَجَزَّأُ فِي حَقِّ الثُّبُوتِ، وَالسُّقُوطِ، وَهَذَا كَمَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ابْتِدَاءً ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى الْغَيْرِ ضَرُورَةً، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ضَرُورَةِ الْوِلَايَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَحْجُورُ أَيْضًا يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ أَمَانُهُ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَحْجُورَ يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الِاكْتِسَابِ، وَعَمَّا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ فَإِذَا فَرَغَ عَنْ الْقِتَالِ سَالِمًا، وَزَالَ ضَرَرُ الْمَوْلَى، وَأُصِيبَتْ الْغَنِيمَةُ ثَبَتَ الْإِذْنُ مِنْ

[الحيض والنفاس]

يُوجِبُ الْحَجْرَ وَلَا يَظْهَرُ أَنَّهُ مَرَضُ الْمَوْتِ إلَّا بِاتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ يَثْبُتُ الْحَجْرُ مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ (فِي قَدْرِ مَا يُصَانُ بِهِ حَقُّهُمَا فَقَطْ) أَيْ: حَقُّ الْغَرِيمِ وَالْوَارِثِ، وَقَوْلُهُ فِي قَدْرِ مُتَعَلِّقٍ بِالْحَجْرِ (فَيَجُوزُ النِّكَاحُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ) فَفِي مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَارِثِ، وَالْغَرِيمِ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ مُحْتَاجٌ إلَى النِّكَاحِ لِبَقَاءِ نَسْلِهِ، وَفِي كُلِّ مَا يَحْتَاجُ هُوَ إلَيْهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَجْرِ عَنْ النِّكَاحِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ صِيَانَةُ حَقِّهِمَا إذْ لَا حَقَّ لَهُمَا فِيهِ (وَكُلُّ تَصَرُّفٍ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ يَصِحُّ فِي الْحَالِ ثُمَّ يُنْقَضُ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ: الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ (يَصِيرُ كَالْمُعَلَّقِ بِالْمَوْتِ) إذْ لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ يَنْفُذُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الدَّائِنِ، فَيَجِبُ السِّعَايَةُ فِي الْكُلِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ يَنْفُذُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْوَارِثِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَوْلَى دَلَالَةً فَصَارَ شَرِيكًا بَعْدَ الْفَرَاغِ عَنْ الْقِتَالِ لَا حَالَ الْقِتَالِ أَوْ قَبْلَهُ حَتَّى يَكُونَ الْأَمَانُ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ حَالَ الْأَمَانِ لِعَدَمِ الْإِذْنِ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بَعْدَهُ. (قَوْلُهُ: فَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ) يَعْنِي: إذَا كَانَتْ خَطَأً، وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ، وَيَكُونُ هَذَا ضَمَانًا عَلَى الْمَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ: عَلَيْك تَسْلِيمُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ إلَى وَلِيِّهَا صِلَةً فِي جَانِبِ الْمَوْلَى، وَعِوَضًا فِي جَانِبِ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ أَعْنِي: الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ غَيْرَ الْقَتْلِ، وَالْوَرَثَةِ إذَا كَانَتْ الْقَتْلَ فَتَكُونُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْشِ فَإِنْ قِيلَ الْمَهْرُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ أَوْ مَنَافِعُ الْبُضْعِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِضَمَانٍ إذْ لَا تَلَفَ، وَلَا صِلَةَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْمِلْكِ أَوْ الْمَنَافِعِ. (قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ) فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الْعَبْدِ، وَإِنْ أَفْلَسَ، وَعَجَزَ عَنْ الْفِدَاءِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ أَصْلٌ فِي الْجِنَايَةِ الْخَطَأِ؛ لِأَنَّهُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ، وَإِنَّمَا صِيرَ إلَى الدَّفْعِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلصِّلَةِ، وَقَدْ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَعَادَ الْأَمْرُ إلَى الْأَصْلِ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِالْإِفْلَاسِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَصِيرُ اخْتِيَارُ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْحَوَالَةِ كَأَنَّ الْعَبْدَ أَحَالَ بِالْوَاجِبِ عَلَى الْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ أَنْ يُصْرَفَ الْجَانِي إلَيْهَا كَمَا فِي الْعَمْدِ، وَقَدْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ مِنْ الْحُرِّ لِتَعَذُّرِ الصَّرْفِ فَصَارَ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ إلَى الْعَارِضِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ الْحَقُّ لِصَاحِبِهِ عَادَ إلَى الْأَصْلِ [الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْحَيْضُ، وَالنِّفَاسُ) جَعْلُهُمَا مَعًا أَحَدُ الْعَوَارِضِ لِاتِّحَادِهِمَا صُورَةً، وَحُكْمًا، وَهُمَا لَا يُسْقِطَانِ أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ، وَلَا أَهْلِيَّةَ الْأَدَاءِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ، وَالْعَقْلِ، وَقُدْرَةِ الْبَدَنِ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الطَّهَارَةَ عَنْهُمَا شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ الْأَحْدَاثِ

[المرض]

فِي الثُّلُثَيْنِ (وَالْقِيَاسُ فِي الْوَصِيَّةِ الْبُطْلَانُ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَهَا نَظَرًا لَهُ) أَيْ: لِلْمَرِيضِ (لِيَتَدَارَكَ بِتَقْصِيرَاتِ أَيَّامِ حَيَاتِهِ فِي الْقَلِيلِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْحَجْرَ، وَتَرْكَ إيثَارِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْوَارِثِ أَصْلٌ وَلَمَّا أَبْطَلَ الشَّرْعُ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ إذْ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ) اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ أَوَّلًا الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180] ثُمَّ تَوَلَّى بِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11] فَنَسَخَ الْأَوَّلَ (بَطَلَتْ) أَيْ: الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ (صُورَةً) بِأَنْ يَبِيعَ الْمَرِيضُ عَيْنًا مِنْ التَّرِكَةِ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِصُورَةِ الْعَيْنِ لَا بِمَعْنَاهُ (وَمَعْنًى) بِأَنْ يُقِرَّ لِأَحَدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ وَصِيَّةٌ مَعْنًى (وَحَقِيقَةً) بِأَنْ أَوْصَى لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ (وَشُبْهَةً) بِأَنْ بَاعَ الْجَيِّدَ مِنْ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِرَدِيءٍ مِنْهَا ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْأَنْجَاسِ، وَلِلصَّوْمِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَأَدِّيهِ مَعَ الْحَدَثِ، وَالنَّجَاسَةِ، ثُمَّ فِي قَضَاءِ الصَّلَاةِ حَرَجٌ لِدُخُولِهَا فِي حَدِّ الْكَثْرَةِ فَسَقَطَ وُجُوبُهَا حَتَّى لَمْ يَجِبْ قَضَاؤُهَا، وَلَا حَرَجَ فِي قَضَاءِ الصَّوْمِ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَسْتَوْعِبُ الشَّهْرَ، وَالنِّفَاسُ يَنْدُرُ فِيهِ فَلَمْ يَسْقُطْ إلَّا وُجُوبُ أَدَائِهِ، وَلُزُومُ الْقَضَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي بَحْثِ الْوَقْتِ [الْمَرَضُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْمَرَضُ) يَعْنِي: غَيْرَ مَا سَبَقَ مِنْ الْجُنُونِ، وَالْإِغْمَاءِ. (قَوْلُهُ: مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِهِ) أَيْ: حَالَ كَوْنِ الْحَجْرِ مُسْتَنِدًا إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْحَجْرِ مَرَضٌ مُمِيتٌ، وَسَبَبَ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ عَنْ أَصْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ بِضَعْفِ الْقُوَى، وَتَرَادُفِ الْآلَامِ. (قَوْلُهُ: وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ) أَيْ: الْفَسْخُ كَالْإِعْتَاقِ الْوَاقِعِ عَلَى حَقِّ الْغَرِيمِ بِأَنْ يُعْتِقَ الْمَرِيضُ عَبْدًا مِنْ مَالِهِ الْمُسْتَغْرَقِ بِالدَّيْنِ أَوْ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ بِأَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى ثُلُثِ مَالِهِ. (قَوْلُهُ: نَظَرًا لَهُ، وَلِيُعْلَمَ كِلَاهُمَا) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ، جَوَّزَهَا إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ تَعْلِيلٌ لِتَجْوِيزِ الْوَصِيَّةِ، وَالثَّانِي لِتَقْيِيدِهِ بِالْقَلِيلِ، وَهَذَا مَا قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ ذَلِكَ نَظَرًا لَهُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ اسْتِخْلَاصًا عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْقَلِيلِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحَجْرَ وَالتُّهْمَةَ فِيهِ أَصْلٌ فَقَوْلُهُ نَظَرًا لَهُ عِلَّةً لِلتَّجْوِيزِ، وَقَوْلُهُ اسْتِخْلَاصًا أَيْ: اسْتِيثَارًا مِنْ الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ عَلَى الْوَرَثَةِ بِالْقَلِيلِ عِلَّةً لِتَقْيِيدِ التَّجْوِيزِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ، وَقَوْلُهُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْحَجْرَ، وَالتُّهْمَةَ أَيْ: تُهْمَةَ إيثَارِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَقَارِبِ بِاعْتِبَارِ ضَغِينَتِهِ لَهُ أَصْلٌ فِي بَابِ الْإِيصَاءِ عِلَّةً لِتَقْيِيدِ الِاسْتِخْلَاصِ بِالْقَلِيلِ. (قَوْلُهُ: بِأَنْ يَبِيعَ) يَعْنِي: لَوْ بَاعَ مِنْ أَحَدِ الْوَرَثَةِ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ التَّرِكَةِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ كَانَ وَصِيَّةً صُورَةً حَيْثُ آثَرَ الْوَارِثَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ بِمُقَابِلِهِ لَا مَعْنَى الِاسْتِرْدَادِ الْعِوَضِ مِنْهُ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِيَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِثُلُثَيْ الْمَالِ، وَأَمَّا بَيْعُهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ، فَيَجُوزُ اتِّفَاقًا إذْ لَا حَجْرَ لِلْمَرِيضِ مِنْ التَّصَرُّفِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ فِيمَا لَا يُخِلُّ بِالثُّلُثَيْنِ. (قَوْلُهُ: وَلَا يَجُوزُ

[الموت]

(وَتَقَوَّمَتْ الْجَوْدَةُ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ بَطَلَتْ (فِي حَقِّهِ) أَيْ: فِي حَقِّ الْوَارِثِ (كَمَا فِي الصِّغَارِ) أَيْ: إنْ بَاعَ الْوَلِيُّ مَالَ الصَّبِيِّ مِنْ نَفْسِهِ تَقَوَّمَتْ الْجَوْدَةُ حَتَّى لَا يَجُوزَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ (وَلَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ، وَالْغُرَمَاءِ بِمَا لَهُ صُورَةً، وَمَعْنًى فِي حَقِّهِمْ) أَيْ: فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذَ التَّرِكَةَ وَيُعْطِيَ بَاقِي الْوَرَثَةِ الْقِيمَةَ وَلَوْ قَضَى الْمَرِيضُ حَقَّ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ شَارَكَهُمْ الْبَقِيَّةَ وَلَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ الْبَيْعُ مِنْ أَحَدِ الْوَرَثَةِ أَوْ الْغُرَمَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ (وَمَعْنَى فَقَطْ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ) حَتَّى يَصِحَّ بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ الْأَجَانِبِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ (لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْمَرِيضِ) هَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى فَقَطْ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَإِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ، وَالْوَرَثَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالتَّرِكَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَقَطْ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ وَالْعَبْدُ غَيْرُهُمْ فَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَبْدِ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِمَالِيَّتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِلْمَرِيضِ الْبَيْعُ مِنْ أَحَدِ الْوَرَثَةِ أَوْ الْغُرَمَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ) هَذَا مِمَّا لَا يُوجَدُ لَهُ رِوَايَةٌ بَلْ الرِّوَايَاتُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَبِيعَ الْعَيْنَ مِنْ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ مُخْتَصٌّ بِالْوَرَثَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ لَا بِالصُّورَةِ حَتَّى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَارِثِ أَنْ يَسْتَخْلِصَ الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ، وَيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ مَالٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ حَقَّهُمْ يَتَعَلَّقُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْمَالِيَّةِ، وَالْعَيْنِيَّةِ جَمِيعًا حَتَّى لَا يَجُوزَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَجْعَلَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَ التَّرِكَةَ، وَيُعْطِيَ الْبَاقِينَ الْقِيمَةَ، وَأَمَّا إذَا قَضَى الْمَرِيضُ حَقَّ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّمَا يُشَارِكُهُ الْبَاقُونَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَرِيضَ مَمْنُوعٌ عَنْ إيثَارِ الْبَعْضِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمْ [الْمَوْتُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْمَوْتُ) هُوَ آخِرُ الْعَوَارِضِ السَّمَاوِيَّةِ فَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ خُلِقَتْ ضِدًّا لِلْحَيَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] ، وَقِيلَ: هُوَ عَدِيمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ الْحَيَاةُ أَوْ زَوَالُ الْحَيَاةِ، وَمَعْنَى الْخَلْقِ فِي الْآيَةِ التَّقْدِيرُ.، وَالْأَحْكَامُ فِي حَقِّ الْمَوْتِ إمَّا دُنْيَوِيَّةٌ أَوْ أُخْرَوِيَّةٌ، وَالدُّنْيَوِيَّةُ إمَّا تَكْلِيفَاتٌ، وَحُكْمُهَا السُّقُوطُ إلَّا فِي حَقِّ الْإِثْمِ أَوْ غَيْرِهَا، وَهُوَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا لِحَاجَةِ غَيْرِهِ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْعَيْنِ، وَحُكْمُهُ أَنْ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْعَيْنِ أَوْ بِالذِّمَّةِ، وَوُجُوبُهُ إمَّا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، وَحُكْمُهُ السُّقُوطُ إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِهِ، أَوَّلًا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ، وَحُكْمُهُ الْبَقَاءُ بِشَرْطِ انْضِمَامِ الْمَالِ أَوْ الْكَفِيلِ إلَى الذِّمَّةِ، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يَصْلُحَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ، وَحُكْمُهُ أَنْ يَبْقَى مَا تَنْقَضِي بِهِ الْحَاجَةُ أَوْ لَا، وَحُكْمُهُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْوَرَثَةِ، وَالْأُخْرَوِيَّةُ حُكْمُهَا الْبَقَاءُ سَوَاءٌ يَجِبُ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ أَوْ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، وَالْمَظَالِمِ أَوْ يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بِوَاسِطَةِ الطَّاعَاتِ أَوْ عِقَابٍ وَاسِطَة الْمَعَاصِي، وَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا فَصَّلَهُ فِي الْكِتَابِ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَا يَبْقَى بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ) ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ قَدْ ضَعُفَتْ

لَا بِصُورَتِهِ، فَيَصِحُّ إعْتَاقُ الْمَرِيضِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ، فَيَصِيرُ الْعَبْدُ مُسْتَحِقًّا لِلْحُرِّيَّةِ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ لَا يَنْفُذُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَهِيَ الْمَالِيَّةُ حَتَّى يَجِبَ السِّعَايَةُ فِي الْكُلِّ إذَا اسْتَغْرَقَ الدَّيْنَ، وَفِيمَا وَرَاءَ ثُلُثِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى الرِّقِّ (بِخِلَافِ إعْتَاقِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنَ فِي مِلْكِ الْيَدِ فَقَطْ) فَإِنَّ إعْتَاقَ الرَّاهِنِ يَنْفُذُ فَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ غَنِيًّا فَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا يُسَمَّى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ لَكِنْ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بَعْدَ غِنَاءٍ، فَعِتْقُ الرَّاهِنِ حُرٌّ مَدْيُونٌ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ السِّعَايَةِ، وَمُعْتَقُ الْمَرِيضِ قَبْلَ السِّعَايَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. (وَمِنْهَا الْمَوْتُ وَهُوَ عَجْزٌ ظَاهِرٌ كُلُّهُ وَالْأَحْكَامُ هُنَا دُنْيَوِيَّةٌ وَأُخْرَوِيَّةٌ أَمَّا الْأُولَى فَكُلُّ مَا هُوَ مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQبِالْمَوْتِ فَوْقَ مَا تَضْعُفُ بِالرِّقِّ إذْ الرِّقُّ يُرْجَى زَوَالُهُ بِخِلَافِ الْمَوْتِ، وَلِأَنَّ أَثَرَ الدَّيْنِ فِي تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ، وَيَسْتَحِيلُ مُطَالَبَةُ الْمَيِّتِ فَإِذَا انْضَمَّ إلَى الذِّمَّةِ مَالٌ أَوْ كَفِيلٌ تَقْوَى الذِّمَّةُ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلٌّ لِلِاسْتِيفَاءِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوُجُوبِ، وَذِمَّةُ الْكَفِيلِ مُقَوِّيَةٌ لِذِمَّةِ الْأَصِيلِ، وَمُتَهَيِّئَةٌ لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالٌ، وَلَا كَفِيلٌ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ، وَلَا مُطَالَبَةَ فَلَا الْتِزَامَ، وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُبْرِئُ الذِّمَّةَ عَنْ الْحُقُوقِ، وَلِهَذَا يُطَالَبُ بِهَا فِي الْآخِرَةِ إجْمَاعًا، وَفِي الدُّنْيَا أَيْضًا إذَا ظَهَرَ لَهُ الْمَالُ، وَيَثْبُتُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ لَوْ تَبَرَّعَ أَحَدٌ عَنْ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا الْعَجْزُ عَنْ الْمُطَالَبَةِ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْمَيِّتِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ كَمَا إذَا كَانَ الْمَدْيُونُ حَيًّا مُفْلِسًا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقَالُوا: نَعَمْ دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ فَامْتَنَعَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَالَ عَلِيٌّ أَوْ أَبُو قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عَلَيْهِ» ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ الدُّنْيَوِيَّةَ سَاقِطَةٌ هَاهُنَا لِضَعْفِ الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْمُفْلِسِ، وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ الْعِدَةَ احْتِمَالًا ظَاهِرًا إذْ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ لِلْغَائِبِ الْمَجْهُولِ عَلَى أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ مَالٌ، وَمَعْنَى الْمُطَالَبَةِ فِي الْآخِرَةِ رَاجِعٌ إلَى الْإِثْمِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى بَقَاءِ الذِّمَّةِ فَضْلًا عَنْ قُوَّتِهَا، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ مَالٌ، فَالذِّمَّةُ تَتَقَوَّى بِهِ لِكَوْنِهِ مَحَلَّ الِاسْتِيفَاءِ، وَالتَّبَرُّعُ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الدَّيْنَ بَاقٍ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ، وَإِنْ كَانَ سَاقِطًا فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ السُّقُوطَ بِالْمَوْتِ إنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ مَنْ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَهُ. (قَوْلُهُ: حَتَّى يَتَرَتَّبَ مِنْهَا) أَيْ: مِنْ التَّرِكَةِ حُقُوقُ الْمَيِّتِ كَمُؤَنِ تَجْهِيزِهِ، ثُمَّ قَضَاءِ دُيُونِهِ، ثُمَّ تَنْفِيذِ، وَصَايَاهُ مِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُ التَّجْهِيزُ عَلَى الدَّيْنِ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ كَالْمَرْهُونِ، وَالْمُسْتَأْجَرِ، وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْعَبْدِ الْجَانِي، وَنَحْوِ ذَلِكَ فَفِي هَذِهِ الصُّوَرِ

يَسْقُطُ بِهِ إلَّا فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَمَا شُرِعَ عَلَيْهِ لِحَاجَةِ غَيْرِهِ إنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ يَبْقَى بِبَقَائِهَا كَالْوَدِيعَةِ؛ لِأَنَّهَا) أَيْ: الْعَيْنَ (هِيَ الْمَقْصُودَةُ وَإِنْ كَانَ دَيْنًا لَا يَبْقَى بِمُجَرَّدِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنْ يُضَمَّ إلَيْهَا) أَيْ: إلَى الذِّمَّةِ (مَالٌ أَوْ كَفِيلٌ فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عَنْ مَيِّتٍ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا) أَيْ: الْكَفَالَةُ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَبْقَى عَنْهُ مَالٌ أَوْ كَفِيلٌ (وَيَلْزَمُهُ الدَّيْنُ مُضَافًا إلَى سَبَبٍ صَحَّ فِي حَيَاتِهِ كَمَا إذَا حَفَرَ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا حَيَوَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَأَمَّا مَا شُرِعَ صِلَةً كَنَفَقَةِ الْمَحَارِمِ إلَّا أَنْ يُوصِيَ، فَيَصِحَّ مِنْ الثُّلُثِ، وَأَمَّا مَا شُرِعَ لَهُ لِحَاجَتِهِ فَتَبْقَى مَا تَنْقَضِي بِهِ الْحَاجَةُ فَتَبْقَى التَّرِكَةُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ حَتَّى يَتَرَتَّبَ مِنْهَا حُقُوقُهُ، وَلِهَذَا تَبْقَى الْكِتَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لِحَاجَتِهِ إلَى الثَّوَابِ، وَكَذَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ عَنْ وَفَاءٍ لِحَاجَتِهِ إلَى انْقِطَاعِ أَثَرِ الْكُفْرِ، وَإِلَى ـــــــــــــــــــــــــــــQصَاحِبُ الْحَقِّ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ. (قَوْلُهُ: لِحَاجَتِهِ) أَيْ: لِحَاجَةِ الْمَوْلَى إلَى الثَّوَابِ الْحَاصِلِ بِالْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي هِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ حَاصِلَةٌ فِي عَوْدِ الْمُكَاتَبِ إلَى الرِّقِّ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاجَةَ الْمُكَاتَبِ فَوْقَ حَاجَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى صَيْرُورَتِهِ مُعْتَقًا مُنْقَطِعًا عَنْهُ أَثَرُ الْكُفْرِ بَاقِيًا عَلَيْهِ أَثَرُ الْحَيَاةِ لِحُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ إذْ الرِّقُّ أَثَرُ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ فَتَبْقَى الْكِتَابَةُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ كَمَا تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى بَلْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْمَمْلُوكِيَّةُ فَتَابِعَةٌ) يَعْنِي: أَنَّ مَمْلُوكِيَّةَ الْمَيِّتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهَا إلَّا أَنَّهُ حُكِمَ بِبَقَائِهَا فِي الْمُكَاتَبِ ضِمْنًا، وَتَبَعًا لِبَقَاءِ الْمَالِكِيَّةِ يَدًا ضَرُورَةَ أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ بِدُونِ بَقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ رَقَبَةً إذْ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْمُكَاتَبِ الْمَيِّتِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى زَمَانٍ فَإِنْ حُكِمَ بِبَقَاءِ الْكِتَابَةِ، وَالْمَمْلُوكِيَّة بَعْدَ الْمَوْتِ لَزِمَ اسْتِنَادُ الْعِتْقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ، وَإِنْ جَعَلَ الْحُرِّيَّةَ مُسْتَنِدَةً إلَى آخِرِ أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا قِيلَ أَنَّ بِالْمَوْتِ يَتَحَوَّلُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ مِنْ الذِّمَّةِ إلَى التَّرِكَةِ، فَيَحْصُلُ فَرَاغُ ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ، وَهُوَ يُوجِبُ الْحُرِّيَّةَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِهَا مَا لَمْ يَصِلْ الْمَالُ إلَى الْمَوْلَى، فَإِذَا وَصَلَ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ فَقَدْ اسْتَنَدَتْ الْمَالِكِيَّةُ، وَالْمَمْلُوكِيَّة، وَتَقَرَّرَ الْعِتْقُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فَلَا تَكُونُ الْمَمْلُوكِيَّةُ بَاقِيَةً بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَكُونُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ بَاقِيًا، وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى بَقَاءِ الْكِتَابَةِ حُرِّيَّةُ الْأَوْلَادِ، وَسَلَامَةُ الِاكْتِسَابِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْوَرَثَةِ الْمَالَ إلَى الْمَوْلَى، وَنُفُوذُ الْعِتْقِ فِي الْمُكَاتَبِ شَرْطٌ لِذَلِكَ، فَيَثْبُتُ ضِمْنًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا كَالْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ لَمَّا ثَبَتَ شَرْطًا لِمِلْكِ الْبَدَلِ ثَبَتَ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْغَصْبِ، وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ حَالَ أَدَاءِ الْبَدَلِ هَالِكًا. (قَوْلُهُ: وَيَثْبُتُ الْإِرْثُ) أَيْ: وَلِأَنَّهُ بِبَقَاءِ مَا تَنْقَضِي بِهِ حَاجَةُ الْمَيِّتِ يَثْبُتُ الْإِرْثُ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ نَظَرًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ فِي أَمْوَالِهِ فَفَوَّضَ الشَّرْعُ ذَلِكَ إلَى أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ نَظَرًا لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ انْتِفَاعَ أَقَارِبِهِ بِأَمْوَالِهِ بِمَنْزِلَةِ

حُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكِيَّةُ فَتَابِعَةٌ هُنَا فَإِنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا الْعَقْدِ ثُبُوتُ الْيَدِ) أَيْ: تَابِعَةٌ فِي بَابِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ ضَرُورَةَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَكُلُّ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَا يَبْقَى لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ بَقَائِهِ، وَالضَّرُورَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْبَقَاءِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ إنَّمَا يُمْكِنُ بَقَاؤُهُ إذَا بَقِيَ مَمْلُوكِيَّةُ الْمَيِّتِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى بَقَاءِ الْمَمْلُوكِيَّةِ، فَلَا يَبْقَى فَبَعْدَ الْكِتَابَةِ لَا يَبْقَى، فَأَجَابَ بِأَنَّ الْمَمْلُوكِيَّةَ تَابِعَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ بَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ يَدًا، وَالْمَمْلُوكِيَّة رَقَبَةً تَبْقَى ضِمْنًا لَا قَصْدًا (وَيَثْبُتُ الْإِرْثُ نَظَرًا لَهُ خِلَافَةٌ، وَالْخِلَافَةُ إذَا ثَبَتَ سَبَبُهَا، وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ يَحْجُرُ الْمَيِّتُ عَنْ إبْطَالِهَا فَكَذَا إذَا ثَبَتَتْ) أَيْ: الْخِلَافَةُ (نَصًّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِهِ) أَيْ: ـــــــــــــــــــــــــــــQانْتِفَاعِهِ نَفْسِهِ بِهَا. (قَوْلُهُ: وَالْخِلَافَةُ إذَا ثَبَتَ سَبَبُهَا، وَهُوَ مَرَضُ الْمَوْتِ) فَإِنَّهُ مُفْضٍ إلَى الْمَوْتِ الَّذِي هُوَ السَّبَبُ حَقِيقَةً يَصِيرُ الْمَيِّتُ أَيْ: الْمَرِيضُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تُبْطِلُهَا تِلْكَ الْخِلَافَةُ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَتْ الْخِلَافَةُ بِتَنْصِيصِ الْأَصْلِ بِأَنْ قَالَ: أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِكَذَا أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أَوْ إذَا مِتُّ، فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْإِيصَاءِ، وَتَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ اسْتِخْلَافٌ: أَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَلِأَنَّ الْإِيصَاءَ إثْبَاتُ عَقْدِ الْخِلَافَةِ فِي مِلْكِهِ لِلْمُوصَى لَهُ مُقَدَّمًا عَلَى الْوَارِثِ فَاعْتَبَرَ لِلْحَالِ سَبَبًا لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ، وَأَمَّا الثَّانِي؛ فَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ السَّبَبَ عَنْ الِانْعِقَادِ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِحَالِ زَوَالِ الْمِلْكِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْعَقِدَ السَّبَبُ حَالَ بَقَاءِ الْمِلْكِ، وَيَثْبُتَ الْحَقُّ عَلَى سَبِيلِ التَّأْجِيلِ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّعْلِيقَ بِغَيْرِ الْمَوْتِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ كَدُخُولِ الدَّارِ أَوْ مِنْ الْأُمُورِ الْكَائِنَةِ بِيَقِينٍ كَمَجِيءِ الْغَدِ مَثَلًا لَيْسَ اسْتِخْلَافًا إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ انْعِقَادُ السَّبَبِ فِي الْحَالِ فَفِي الصُّورَتَيْنِ أَعْنِي: الْوَصِيَّةَ، وَالتَّعْلِيقَ بِالْمَوْتِ تَثْبُتُ الْخِلَافَةُ إلَّا أَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْعِتْقِ بِحَجْرِ الْأَصْلِ عَنْ إبْطَالِ الْخِلَافَةِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُهُ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ كَانَ لَهُ إبْطَالُ الْخِلَافَةِ بِالْبَيْعِ، وَالْهِبَةِ، وَالرُّجُوعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَمْ يَلْزَمْ سَبَبُهُ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا، وَإِنْ كَانَتْ اسْتِخْلَافًا إلَّا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَوَصِيَّةٌ بِالْمَالِ، وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ، وَالْإِبْطَالَ. (قَوْلُهُ: دُونَ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ) أَيْ: الْمُدَبَّرُ لَا يَصِيرُ كَأُمِّ الْوَلَدِ فِي سُقُوطِ التَّقَوُّمِ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ لِلْمَالِيَّةِ أَصْلٌ فِي الْأَمَةِ، وَالتَّمَتُّعُ تَبَعٌ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمُدَبَّرِ مَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هَذَا الْأَصْلِ بِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا لَمَّا اسْتُفْرِشَتْ، وَاسْتُوْلِدَتْ صَارَتْ مُحْرَزَةً لِلْمُتْعَةِ، وَصَارَتْ الْمَالِيَّةُ تَبَعًا فَسَقَطَ تَقَوُّمُهَا حَتَّى لَا تُضْمَنَ بِالْغَصْبِ، وَبِإِعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْهَا. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَا لَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ) أَيْ: حَاجَةِ الْمَيِّتِ كَالْقِصَاصِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ وَقَعَتْ عَلَى حَقِّ أَوْلِيَاءِ

[العوارض المكتسبة]

بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ الْخِلَافَةُ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْمُوصَى لَهُ خَلِيفَةٌ لِلْمَيِّتِ فِي الْمُوصَى بِهِ (، فَيَكُونُ سَبَبًا) أَيْ: التَّعْلِيقُ بِالْمَوْتِ سَبَبًا (فِي الْحَالِ لِلْعِتْقِ بِخِلَافِ سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ: الْمَوْتَ (كَائِنٌ بِيَقِينٍ) فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ عَبْدٍ عُلِّقَ عِتْقُهُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ يَقِينًا قُلْنَا بَيْعُ الْعَبْدِ الْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِالْمَوْتِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الِاسْتِخْلَافِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالثَّانِي التَّعْلِيقُ بِأَمْرٍ كَائِنٍ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عِلَّةً لِعَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ جُزْءُ الْعِلَّةِ (فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ وَيَصِيرُ كَأُمِّ الْوَلَدِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ دُونَ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَهَا إنَّمَا يَسْقُطُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَفْرَشَهَا صَارَ التَّمَتُّعُ فِيهَا أَصْلًا وَالْمَالُ تَبَعًا عَلَى عَكْسِ مَا كَانَ قَبْلُ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ) وَهُوَ أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَيِّتُ يَبْقَى دُونَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ (قُلْنَا الْمَرْأَةُ تُغَسِّلُ الزَّوْجَ فِي عِدَّتِهَا بِخِلَافِ الْعَكْسِ؛ لِأَنَّ مَالِكِيَّتَهُ حَقٌّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمَيِّتِ لِانْتِفَاعِهِمْ بِحَيَاتِهِ، فَيَثْبُتُ لَهُمْ الْقِصَاصُ ابْتِدَاءً تَشَفِّيًا لِلصُّدُورِ، وَدَرْكًا لِلثَّأْرِ لَا انْتِقَالًا مِنْ الْمَيِّتِ فَإِنْ قِيلَ: الْمُتْلَفُ نَفْسُ الْمَيِّتِ، وَقَدْ كَانَ انْتِفَاعُهُ بِحَيَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ انْتِفَاعِ غَيْرِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الْقِصَاصُ حَقًّا لَهُ قُلْنَا نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ خَرَجَ عِنْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ عَنْ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ، فَيَثْبُتُ ابْتِدَاءً لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مَقَامَهُ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ كَمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً عِنْدَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ فَالسَّبَبُ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْمُوَرِّثِ، وَالْحَقُّ وَجَبَ لِلْوَارِثِ فَصَحَّ عَفْوُ الْمُوَرِّثِ رِعَايَةً لِجَانِبِ السَّبَبِ، وَصَحَّ عَفْوُ الْوَارِثِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْوَاجِبِ مَعَ أَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ، فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْلَ ثُبُوتِهِ سِيَّمَا إسْقَاطُ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ قَبْلَ أَنْ يَجِبَ. (قَوْلُهُ: حَتَّى لَا يَنْتَصِبَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَقِيَّةِ) يَعْنِي: لَوْ أَقَامَ الْوَارِثُ الْحَاضِرُ بَيِّنَةً عَلَى الْقِصَاصِ فَحُبِسَ الْقَاتِلُ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ كُلِّفَ أَنْ يُعِيدَ الْبَيِّنَةَ، وَلَا يُقْضَى لَهُمَا بِالْقِصَاصِ قَبْلَ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُمَا ابْتِدَاءً فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْقِصَاصِ كَأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ، وَلَيْسَ الثُّبُوتُ فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ثُبُوتًا فِي حَقِّ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا يَكُونُ مَوْرُوثًا كَالْمَالِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَاصُ مَوْرُوثٌ؛ لِأَنَّ خَلَفَهُ، وَهُوَ الْمَالُ مَوْرُوثٌ إجْمَاعًا، وَالْخَلَفُ لَا يُخَالِفُ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ثُبُوتَ الْقِصَاصِ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً إنَّمَا هُوَ لِضَرُورَةِ عَدَمِ صُلُوحِهِ لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا بِالصُّلْحِ أَوْ بِالْعَفْوِ، وَالْمَالُ يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ الْمَيِّتِ مِنْ التَّجْهِيزِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ، وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ، وَصَارَ الْوَاجِبُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالُ إذْ الْخَلَفُ إنَّمَا يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ، فَيَثْبُتُ الْفَاضِلُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ لِوَرَثَتِهِ خِلَافَةً لَا أَصَالَةً [الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ] [الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ نَفْسِهِ] [الْجَهْلُ] . (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ) أَيْ: الَّتِي يَكُونُ لِكَسْبِ الْعِبَادِ مَدْخَلٌ فِيهَا بِمُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ

لَهُ فَتَبْقَى بِخِلَافِ مَمْلُوكِيَّتِهَا؛ لِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَا لَا يَصْلُحُ لِحَاجَتِهِ كَالْقِصَاصِ) ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ وَجَبَتْ لِدَرْكِ الثَّأْرِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْحَيَاةِ، وَالْمَيِّتُ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا بَلْ الْوَرَثَةُ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ (فَإِنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً حَتَّى يَصِحَّ عَفْوُهُمْ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ لَكِنَّ السَّبَبَ انْعَقَدَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ حَتَّى يَصِحَّ عَفْوُهُ أَيْضًا؛ وَلِهَذَا) أَيْ: وَلِأَجْلِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ ابْتِدَاءً لِلْوَرَثَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْقِصَاصُ غَيْرُ مُوَرَّثٍ حَتَّى لَا يَنْتَصِبَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ خَصْمًا عَنْ الْبَقِيَّةِ لَكِنْ (إذَا انْقَلَبَ) أَيْ: الْقِصَاصُ (مَالًا وَهُوَ يَصْلُحُ لِحَوَائِجِ الْمَيِّتِ يُصْرَفُ إلَى حَوَائِجِهِ وَيُورَثُ مِنْهُ، وَأَمَّا أَحْكَامُ الْآخِرَةِ فَكُلُّهَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِ) . ، (وَأَمَّا الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ فَهِيَ إمَّا مِنْ نَفْسِهِ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِهِ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَمِنْهَا الْجَهْلُ، وَهُوَ إمَّا جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا كَجَهْلِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّهُ مُكَابَرَةٌ بَعْدَمَا وَضَحَ الدَّلِيلُ فَدِيَانَةُ الْكَافِرِ) أَيْ: اعْتِقَادُهُ (فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQكَالسُّكْرِ أَوْ بِالتَّقَاعُدِ عَنْ الْمُزِيلِ كَالْجَهْلِ، وَهِيَ إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَلِكَ الْمُكَلَّفِ الَّذِي يَبْحَثُ عَنْ تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهِ كَالسُّكْرِ، وَالْجَهْلِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهِ كَالْإِكْرَاهِ فَمِنْ الْأَوْلَى أَيْ: الَّتِي تَكُونُ مِنْ الْمُكَلَّفِ الْجَهْلُ، وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ عَمَّا مِنْ شَأْنِهِ فَإِنْ قَارَنَ اعْتِقَادُ النَّقِيضِ فَمُرَكَّبٌ هُوَ الْمُرَادُ بِالشُّعُورِ بِالشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ، وَإِلَّا فَبَسِيطٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الشُّعُورِ، وَأَقْسَامُهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةٌ: جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا، وَلَا شُبْهَةً، وَهُوَ فِي الْغَايَةِ، وَجَهْلٌ هُوَ دُونَهُ، وَجَهْلٌ لَا يَصِحُّ شُبْهَةً، وَجَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا فَالْأَوَّلُ جَهْلُ الْكَافِرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَصِفَاتِ كَمَالِهٍ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ مُكَابَرَةٌ أَيْ: تَرَفُّعٌ عَنْ انْقِيَادِ الْحَقِّ، وَاتِّبَاعِ الْحُجَّةِ إنْكَارًا بِاللِّسَانِ، وَإِبَاءً بِالْقَلْبِ بَعْدَ وُضُوحِ الْحُجَّةِ، وَقِيَامِ الدَّلِيلِ فَإِنْ قُلْت: الْكَافِرُ الْمُكَابِرُ قَدْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ جُحُودًا، وَاسْتِكْبَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14] ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكُونُ جَهْلًا قُلْت: مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَمُكَابَرَتُهُ تَرْكُ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ، وَالتَّأَمُّلِ فِي الْآيَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْرِفُ الْحَقَّ، وَيُنْكِرُهُ مُكَابَرَةً، وَعِنَادًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] الْآيَةَ، وَمَعْنَى الْجَهْلِ فِيهِمْ عَدَمُ التَّصْدِيقِ الْمُفَسَّرِ بِالْإِذْعَانِ، وَالْقَبُولِ. (قَوْلُهُ: وَنَحْوَهَا) أَيْ: مِثْلُ الْمَذْكُورَاتِ كَهِبَةِ الْخَمْرِ، وَالْوَصِيَّةِ بِهَا، وَالتَّصَدُّقِ بِهَا، وَأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ قِيمَتِهَا، وَكَذَا الْخِنْزِيرُ. (قَوْلُهُ: فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ) أَيْ: قَاذِفُ الْمُسْلِمِ الَّذِي وَطِئَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ حَالَ الْكُفْرِ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ وَقَوْلُهُ، وَتَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ تَفْرِيعٌ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ لَا عَلَى ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ، فَلَا يَكُونُ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ بَلْ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَكَذَا قَوْلُهُ: وَلَا يُفْسَخُ أَيْ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ بِرَفْعِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي، وَطَلَبِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ

حُكْمٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَدُّلَ) كَعِبَادَةِ الصَّنَمِ مَثَلًا (بَاطِلَةٌ فَلَا يَكُونُ لِلْكُفْرِ حُكْمُ الصِّحَّةِ أَصْلًا بِخِلَافِ الْأَحْكَامِ الْقَابِلَةِ لِلتَّبَدُّلِ كَبَيْعِ الْخَمْرِ مَثَلًا فَإِنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ، وَأَمَّا فِي حُكْمٍ يَحْتَمِلُهُ فَدَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ لَهُمْ فَقَطْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) أَيْ: دِيَانَتُهُ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ لَهُمْ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» (فَلَا يُحَدُّ الذِّمِّيُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ دَافِعَةٌ لَهُ) أَيْ: لِلتَّعَرُّضِ (وَلِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا اسْتِدْرَاجًا وَمَكْرًا وَزِيَادَةً لِإِثْمِهِمْ وَعَذَابِهِمْ كَأَنَّ الْخِطَابَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ فِيهَا) أَيْ: فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا: اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْرَاجَ تَقْرِيبُ اللَّهِ تَعَالَى الْعَبْدَ إلَى الْعُقُوبَةِ بِالتَّدْرِيجِ فَتَكُونُ دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَيُوهِمُ تَخْفِيفًا لَكِنَّهُ تَغْلِيظٌ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَا بَيَّنَّا فِي فَصْلِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالشَّرَائِعِ أَنَّ الطَّبِيبَ يُعْرِضُ عَنْ مُدَاوَاةِ الْعَلِيلِ عِنْدَ الْيَأْسِ، وَصُورَةُ التَّخْفِيفِ، وَالْإِمْهَالِ تُوقِعُهُمْ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQيَجْتَمِعَ الزَّوْجَانِ عَلَى التَّرَافُعِ فَحِينَئِذٍ يُفْسَخُ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْفُرُوعُ الثَّلَاثَةُ مُتَعَلِّقَةً بِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ كَانَ فِي تَأْخِيرِهَا عَنْهُ ثُمَّ إيرَادِ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ الْإِحْصَانِ مُنْضَمًّا إلَى الدَّلِيلِ عَلَى تَقَوُّمِ الْخَمْرِ نَوْعُ تَعْقِيدٍ، وَسُوءُ تَرْتِيبٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ لِتَغْيِيرِهِ أُسْلُوبَ كَلَامِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَيْثُ أَوْرَدَ هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَمَّا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ دِيَانَتَهُمْ تُعْتَبَرُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ لَا لِلْخِطَابِ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْجَهْلِ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا فَكَيْفَ الْمُكَابَرَةُ، وَالْعِنَادُ.؟ ، لَكِنْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ، مَا يَدِينُونَ، وَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِهَذَا بِسَبَبِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُمْ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى مُتْلِفِ الْخَمْرِ، وَلَا صِحَّةُ بَيْعِهَا، وَلَا إيجَابُ النَّفَقَةِ عَلَى نَاكِحِي الْمَحَارِمِ، وَلَا الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَأَجَابَ بِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَالِ، وَإِحْصَانَ النَّفْسِ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ الْحِفْظُ عَلَى التَّعَرُّضِ فَكَانَتْ الْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَأَكْلِهِمْ الرِّبَا، وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) مِنْ سَهْوِ الْقَلَمِ، وَالصَّوَابِ {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا} [النساء: 161] . (قَوْلُهُ: فَإِنَّ دِيَانَةَ الْكَافِرِ) يَعْنِي: مَا يَكُونُ مُخْتَصًّا بِهِ مُخَالِفًا لِلْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً بِخِلَافِ مَا يُوَافِقُ الْإِسْلَامَ كَحُرْمَةِ الزِّنَا، وَحُرْمَةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ. (قَوْلُهُ: بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ) أَيْ: مَا كَانَ شَائِعًا مِنْ دِينِهِمْ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ سَوَاءٌ وَرَدَتْ بِهِ شَرِيعَتُهُمْ أَوْ لَمْ تَرِدْ، وَسَوَاءٌ كَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا دَافِعٌ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي دِينِ الْمَجُوسِيِّ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي كِتَابِهِمْ إلَّا أَنَّهُ شَائِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَمْ تَثْبُتْ حُرْمَتُهُ عِنْدَهُمْ، فَيَكُونُ دِيَانَةً لَهُمْ بِخِلَافِ الرِّبَا عِنْدَ الْيَهُودِ فَإِنَّ حُرْمَتَهُ ثَابِتَةٌ فِي التَّوْرَاةِ فَارْتِكَابُهُ فِسْقٌ مِنْهُمْ لَا دِيَانَةٌ اعْتَقَدُوا حِلَّهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمُعْتَقَدِهِمْ مَا يَعْتَقِدُهُ بَعْضٌ مِنْهُمْ كَمَا إذَا اعْتَقَدُوا حَدَّ جَوَازِ السَّرِقَةِ أَوْ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَافِعًا أَصْلًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالدِّيَانَةِ الدَّافِعَةِ هُوَ الْمُعْتَقَدُ الشَّائِعُ الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى شَرْعٍ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ

زِيَادَةِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَفِي تَوَهُّمِ الْإِهْمَالِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَهُوَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَمْهَلْنَاهُمْ فَظَنُّوا أَنَّنَا أَهْمَلْنَاهُمْ» وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183] وَقَالَ {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] وَقَالَ {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] الْآيَةَ (فَيَثْبُتُ عِنْدَهُ) أَيْ: عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (تَقَوُّمُ الْخَمْرِ وَالضَّمَانُ بِإِتْلَافِهَا، وَجَوَازُ الْبَيْعِ) وَنَحْوِهَا (وَصِحَّةُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ حَتَّى إنْ وَطِئَ فِيهِ) أَيْ: فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ (ثُمَّ أَسْلَمَ يَكُونُ مُحْصَنًا فَإِنَّ الْعِفَّةَ عَنْ الزِّنَا شَرْطٌ لِإِحْصَانِ الْقَذْفِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ وَطْأَهُ فِي هَذَا النِّكَاحِ لَا يَكُونُ زِنًا فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ وَتَجِبُ بِهِ النَّفَقَةُ) أَيْ: بِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ (وَلَا يُفْسَخُ) أَيْ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ مَا دَامَ الزَّوْجَانِ كَافِرَيْنِ (إلَّا أَنْ يَتَرَافَعَا) ثُمَّ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ثُبُوتِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ فِي حَقِّهِمْ وَثُبُوتِ الْإِحْصَانِ بِنِكَاحِ الْمَحَارِمِ بِقَوْلِهِ؛ (لِأَنَّ تَقَوُّمَ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْمَبْسُوطِ إنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ، وَإِنْ حُكِمَ بِصِحَّتِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِرْثُ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ جَوَازُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ فِي دِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ سَبَبًا لِلْمِيرَاثِ بِاعْتِقَادِهِمْ، وَدِيَانَتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِدِيَانَةِ الذِّمِّيِّ فِي حُكْمٍ إذَا لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَى شَرْعٍ. (قَوْلُهُ: وَلَا كَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهَا) إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَجُوسِيٍّ خَلَّفَ بِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا زَوْجَتُهُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ يَعْنِي: الْبِنْتَ الَّتِي لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوَارِثِ الْآخَرِ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ زَوْجِ الْمَحْرَمِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِدِيَانَتِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَلْحَقُهُ مِنْ غَيْرِ الْتِزَامٍ مِنْهُ، فَيَكُونُ تَعْدِيَةً بِخِلَافِ تَضَرُّرِ الزَّوْجِ بِالنَّفَقَةِ فَإِنَّهُ بِالْتِزَامِهِ فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ تُؤَاخَذَ الْبِنْتُ الْغَيْرُ الْمَنْكُوحَةِ بِدِيَانَتِهَا، وَاعْتِقَادِهَا؛ لِأَنَّهَا مَجُوسِيَّةٌ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى نِزَاعِهَا فِي زِيَادَةِ الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نِزَاعِ الزَّوْجِ فِي النَّفَقَةِ أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ نِزَاعُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ هَذِهِ الدِّيَانَةَ حَيْثُ نَكَحَ الْمَحْرَمُ بِخِلَافِ الْبِنْتِ الْغَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ. (قَوْلُهُ: وَغِنَاهَا) يَعْنِي: أَنَّ الْمَالَ فِي نَفْسِهِ إنْ قَلَّ، وَإِنْ كَثُرَ، وَالْحَاجَةُ دَائِمَةٌ لِإِمْكَانِ الْحَيَاةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. (قَوْلُهُ كَجَهْلِ صَاحِبِ الْهَوَى) مِثْلُ جَهْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِزِيَادَةِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّاتِ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى مَرْئِيًّا فِي الْجَنَّةِ بِالْأَبْصَارِ، وَكَوْنِهِ خَالِقًا لِلشُّرُورِ، وَالْقَبَائِحِ، وَبِجَوَازِ الشَّفَاعَةِ لِحَطِّ الْكَبَائِرِ، وَجَوَازِ الْعَفْوِ عَمَّا دُونَ الْكُفْرِ، وَعَدَمِ خُلُودِ الْفُسَّاقِ فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْجَهْلُ عُذْرًا لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ مِنْ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَالْمَعْقُولِ، وَإِنَّمَا كَانَ دُونَ جَهْلِ الْكَافِرِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهَوَى مُؤَوِّلٌ لِلْقُرْآنِ أَيْ: يَصْرِفُهُ عَنْ ظَوَاهِرِهِ الدَّالَّةِ عَلَى نَقِيضِ مُعْتَقَدِهِ، وَيَحْمِلُهُ عَلَى وَفْقِ مُعْتَقَدِهِ لَا أَنْ يَنْبِذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ مِثْلَ الْكَافِرِ، وَفِي عِبَارَةِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ بِالْقُرْآنِ أَيْ: مُتَمَسِّكٌ بِهِ صَارِفٌ

الْمَالِ وَإِحْصَانَ النَّفْسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ الْحِفْظُ، فَيَكُونُ فِي ثُبُوتِهِمَا الْحِفْظُ عَنْ التَّعَرُّضِ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ تَصْلُحُ دَافِعَةً لِلتَّعَرُّضِ اتِّفَاقًا وَدَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْ: فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَصْلُحُ دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةً لَهَا لَا يَتَنَاوَلُهُمْ دَلِيلُ الشَّرْعِ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ عِنْدَنَا فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَتَقَوُّمُ الْخَمْرِ وَإِحْصَانُ النَّفْسِ مِنْ بَابِ دَفْعِ التَّعَرُّضِ لَا مِنْ بَابِ التَّعَدِّي إلَى الْغَيْرِ، فَيَثْبُتَانِ (وَلَا يَلْزَمُ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْهُ) هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ عَلَى أَنَّ دِيَانَتَهُمْ مُعْتَبَرَةٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُتْرَكُوا عَلَى دِيَانَتِهِمْ فِي بَابِ الرِّبَا أَيْضًا، فَأَجَابَ بِأَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ فِي الرِّبَا لَيْسَ هُوَ الْحِلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِي عَلَى هَذَا الْجَوَابِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ اتِّفَاقًا، وَدَلِيلُ الشَّرْعِ لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ الصَّحِيحَةَ دَافِعَةٌ لَهُمَا فَإِنَّ دِيَانَةَ الْكَافِرِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ مُعْتَقَدَهُمْ وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا دَافِعٌ كَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ فِي شَرِيعَةٍ مِنْ الشَّرَائِعِ؛ لِأَنَّ حِلَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِلضَّرُورَةِ ثُمَّ نُسِخَ فِي شَرِيعَةِ نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَارْتِكَابُ الْمَجُوسِ ذَلِكَ، وَارْتِكَابُ أَهْلِ الْكِتَابِ الرِّبَا سِيَّانِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا صَعْبٌ جِدًّا وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ ـــــــــــــــــــــــــــــQإيَّاهُ إلَى مَا يُوَافِقُ اعْتِقَادَهُ، وَإِنَّمَا لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ، وَإِلْزَامُهُ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مُلْتَزِمٌ لِأَحْكَامِ الشَّرْعِ مُعْتَرِفٌ بِحَقِّيَّةِ الْقُرْآنِ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (قَوْلُهُ: وَكَجَهْلِ الْبَاغِي) هُوَ الْخَارِجُ عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْحَقِّ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ، وَشُبْهَةٍ طَارِئَةٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَنَعَةٌ، فَقَدْ سَقَطَتْ؛ وَلِأَنَّهُ الْإِلْزَامُ لِتَعَذُّرِهِ حِسًّا، وَحَقِيقَةً، فَيَعْمَلُ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ مَا أُتْلِفَ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ لَكِنْ يُسْتَرَدُّ مِنْهُ مَا كَانَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُفْتَى بِوُجُوبِ أَدَاءِ الضَّمَانِ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَكِنَّهُمْ لَا يُلْزَمُونَ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ تَبْلِيغَ الْحُجَّةِ الشَّرْعِيَّةِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَنَعَةٍ قَائِمَةٍ حِسًّا فِيمَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِخِلَافِ الْإِثْمِ، فَإِنَّ الْمَنَعَةَ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّارِعِ، وَلَا تَسْقُطُ حُقُوقُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنَعَةٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْ تَبْلِيغِ الْحُجَّةِ، وَإِلْزَامِ الْحُكْمِ فَيُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا مُحَارَبَةُ الْبَاغِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وَلِأَنَّ الْبَغْيَ مَعْصِيَةٌ، وَمُنْكَرٌ، وَنَهْيُ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ، وَذَلِكَ بِالْقِتَالِ، وَقِيلَ: إنَّمَا تَجِبُ مُحَارَبَتُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا، وَعَزَمُوا عَلَى الْقِتَالِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ بِطَرِيقِ الدَّفْعِ. (قَوْلُهُ: وَلَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ بِقَتْلِهِ) أَيْ: قَتْلِ الْبَاغِي لِوُجُودِ السَّبَبِ مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ إذْ الْقَتْلُ إنَّمَا يَكُونُ مَانِعًا إذَا كَانَ مَحْظُورًا لِيَكُونَ الْحِرْمَانُ جَزَاءً، وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ لَا إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ كَقَتْلِ الْبَاغِي، وَالْقَتْلِ رَجْمًا أَوْ قِصَاصًا، وَكَذَا لَا يُحْرَمُ الْبَاغِي الْمِيرَاثَ بِقَتْلِ مُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ حَقٌّ فِي زَعْمِ الْبَاغِي بِنَاءً عَلَى تَأْوِيلِهِ، وَتَمَسُّكِهِ بِمَا عُرِضَتْ لَهُ مِنْ الشُّبْهَةِ، وَوِلَايَتُنَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُ لِمَكَانِ الْمَنَعَةِ فَكَانَ قَتْلُهُمْ أَهْلَ الْحَقِّ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ لَا فِي

حُرْمَةُ الرِّبَا مَذْكُورَةٌ فِي التَّوْرَاةِ فَارْتِكَابُهُمْ ذَلِكَ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْفِسْقِ وَحُرْمَةُ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ الْمَجُوسِ وَلَا يُمْكِنُ لَنَا إلْزَامُهُمْ بِمَا فِي كُتُبِنَا فَافْتَرَقَا (فَإِنْ قِيلَ دِيَانَتُهُمْ لَيْسَتْ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً إجْمَاعًا فَلَا تُوجِبُ ضَمَانَ الْخَمْرِ وَحَدَّ الْقَذْفِ، وَالنَّفَقَةَ كَمَا فِي مَجُوسِيٍّ غَلَبَ بِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا لَا تَرِثُ بِالزَّوْجِيَّةِ) اعْلَمْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَقِيسِ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ وَعَدَمُ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ وَعَدَمُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْحُكْمَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ عَدَمُ الْإِرْثِ فَالْحُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ لَكِنَّهُمَا مُنْدَرِجَانِ تَحْتَ حُكْمٍ وَاحِدٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ لَهُمَا، وَهُوَ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ (قُلْنَا يَثْبُتُ بِدِيَانَتِهِمْ بَقَاءُ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا كَانَ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا دَفْعُ دَلِيلِ الشَّرْعِ ثُمَّ هُوَ) أَيْ: التَّقَوُّمُ (شَرْطٌ لِلضَّمَانِ لَا عِلَّتُهُ، وَكَذَا الْإِحْصَانُ) أَيْ: إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ (فَلَا يَكُونُ فِي إثْبَاتِهِمَا) أَيْ: فِي إثْبَاتِ التَّقَوُّمِ، وَالْإِحْصَانِ (إثْبَاتُ الضَّمَانِ وَالْحَدِّ) بَلْ الضَّمَانُ وَالْحَدُّ إنَّمَا يَثْبُتَانِ بِإِتْلَافِ الْخَمْرِ، وَبِالْقَذْفِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْقَوْلُ بِتَعَدِّي دِيَّاتِهِمْ لَوْ أَثْبَتْنَا الضَّمَانَ وَالْحَدَّ بِاعْتِقَادِهِمْ التَّقَوُّمَ، وَالْإِحْصَانَ وَلَمْ نَفْعَلْ كَذَلِكَ (وَأَمَّا النَّفَقَةُ فَإِنَّمَا تَجِبُ دَفْعُهَا لِلْهَلَاكِ فَتَكُونُ دَافِعَةً لَا مُتَعَدِّيَةً، وَلِأَنَّهُمَا لَمَّا تَنَاكَحَا دَانَا بِصِحَّتِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQحَقِّ الْأَثَامِ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ؛ لِأَنَّ انْضِمَامَ الْمَنَعَةِ، وَانْقِطَاعَ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ إلَى التَّأْوِيلِ الْفَاسِدِ يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْجِهَادِ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ كَمَا فِي حَقِّ الضَّمَانِ، وَهَذَا إذَا قَالَ الْوَارِثُ كُنْت عَلَى الْحَقِّ، وَأَنَا الْآنَ عَلَى الْحَقِّ، وَإِلَّا فَيُحْرَمُ اتِّفَاقًا. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ الدَّارُ وَاحِدَةً) يَعْنِي: أَنَّ تَمَلُّكَ الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَمَالِ اخْتِلَافِ الدَّارِ، وَوُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ يُنْبِئُ عَنْ كَمَالِ الْعِصْمَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الدَّارِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَنَحْنُ لَا نَمْلِكُ مَالَ الْبَاغِي حَتَّى إذَا انْكَسَرَتْ شَوْكَةُ الْبُغَاةِ نَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ لِاتِّحَادِ الدَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَكِنْ لَا تَضْمَنُ أَمْوَالَهُمْ بِالْإِتْلَافِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الدِّيَانَةِ مَعَ وُجُودِ الْمَنَعَةِ يُوجِبُ شُبْهَةَ اخْتِلَافِ الدَّارِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ الْعِصْمَةِ مِنْ وَجْهٍ فَلَوْ قُلْنَا بِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَبِوُجُوبِ الضَّمَانِ جَعَلْنَا الْعِصْمَةَ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْعِصْمَةِ الْكَامِلَةِ، وَلَوْ قُلْنَا بِالْمِلْكِ، وَعَدَمِ الضَّمَانِ جَعَلْنَا اتِّحَادَ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهَا، وَلَوْ قُلْنَا بِالْمِلْكِ، وَالضَّمَانِ كَانَ مُتَنَاقِضًا؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْمِلْكِ مَعْنَاهُ عَدَمُ الضَّمَانِ فَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِعَدَمِ الْمِلْكِ مَعَ عَدَمِ الضَّمَانِ كَمَا فِي غَصْبِ غَيْرِ الْمُتَقَوِّمِ فَإِنْ قِيلَ لَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْمِلْكِ، وَضَمَانِ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ قُلْنَا لَوْ مَلَكَهُ لَمْ يَجِبْ رَدُّهُ الْعَيِّنَةَ، وَالْمِلْكُ بِالضَّمَانِ إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِنَادًا لَا ابْتِدَاءً. (قَوْلُهُ:، وَكَجَهْلِ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ) يُرِيدُ أَنَّ الْجَهْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الدِّينِ، وَأُصُولِهِ، وَهُوَ الْغَايَةُ أَوْ لَا، وَهُوَ دُونَهُ، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي أُصُولِ الْمَذْهَبِ كَمَا مَرَّ أَوْ فِي فُرُوعِهِ، وَذَلِكَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ، وَخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَيَصْلُحُ عُذْرًا أَوْ لِلْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ

فَيُؤْخَذُ الزَّوْجُ بِدِيَانَتِهِ وَلَا كَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِمَا كَالْوَارِثِ الْآخَرِ) لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَالِ وَإِحْصَانَ النَّفْسِ مِنْ بَابِ الْعِصْمَةِ وَهِيَ الْحِفْظُ فَيَكُونُ فِي ثُبُوتِهِمَا الْحِفْظُ عَنْ التَّعَرُّضِ وَلَا يَلْزَمُ الرِّبَا لِأَنَّ هُمْ قَدْ نُهُوا عَنْهُ جَوَابٌ عَنْ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ: كَمَا فِي مَجُوسِيٍّ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ فِي إرْثِ الْبِنْتِ الَّتِي هِيَ زَوْجَتُهُ ضَرَرًا بِالْوَارِثِ الْآخَرِ أَيْ: الْبِنْتِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ زَوْجَتَهُ، فَتَكُونُ مُتَعَدِّيَةً هُنَا (وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ) اعْلَمْ أَمَّا مَا ذُكِرَ هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَكَذَلِكَ (أَيْضًا) أَيْ: دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةٌ لِلتَّعَرُّضِ وَلِدَلِيلِ الشَّرْعِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا (إلَّا أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ لَيْسَ حُكْمًا أَصْلِيًّا بِخِلَافِ تَقَوُّمِ الْخَمْرِ بَلْ كَانَ ضَرُورِيًّا إذْ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَحِلَّ نِكَاحُ الْأُخْتِ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ) أَيْ: نِكَاحُ الْمَحَارِمِ كَانَ فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حُكْمًا ضَرُورِيًّا إذْ لَوْلَا جَوَازُهُ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ لَا يَحْصُلُ النَّسْلُ أَصْلًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ نِكَاحَ الْأُخْتِ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ جَائِزًا فِي شَرِيعَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَانَتْ السُّنَّةُ الْإِلَهِيَّةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وِلَادَةَ ذَكَرٍ مَعَ أُنْثَى مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ وَالْمَشْرُوعُ أَنْ يَتَزَوَّجَ كُلَّ أُنْثَى ذَكَرٌ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ، فَكَانَ النِّكَاحُ بَيْنَ التَّوْأَمَيْنِ حَرَامٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّوْأَمَيْنِ مَخْلُوقَانِ مِنْ مَاءٍ انْدَفَقَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَالْوَلَدَانِ مِنْ بَطْنَيْنِ مَخْلُوقَانِ مِنْ مَاءَيْنِ انْدَفَقَا دَفْعَتَيْنِ فَالْأُخْتُ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ أَقْرَبُ مِنْ أُخْتٍ لَا تَكُونُ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْإِجْمَاعِ، فَيَكُونُ مِثْلَ جَهْلِ صَاحِبِ الْهَوَى، وَقَيَّدَ السُّنَّةَ بِالْمَشْهُورَةِ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْمُتَوَاتِرِ تَكُونُ كُفْرًا لِكَوْنِهِ قَطْعِيًّا، وَفِيهِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ أَيْضًا كَذَلِكَ فَمُخَالَفَتُهُ إنَّمَا لَا تَكُونُ كُفْرًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَتْنُ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ قَطْعِيَّةِ الْمَتْنِ، وَالدَّلَالَةِ فَالْمُخَالِفُ كَافِرٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا بُدَّ هَاهُنَا مِنْ تَقْيِيدِ الْكِتَابِ بِأَنْ لَا يَكُونَ قَطْعِيَّ الدَّلَالَةِ، وَتَقْيِيدُ السُّنَّةِ بِأَنْ تَكُونَ مَشْهُورَةً أَوْ تَكُونَ مُتَوَاتِرَةً غَيْرَ قَطْعِيَّةِ الدَّلَالَةِ فَمِنْ مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ الْقَوْلُ بِحِلِّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عِنْدَ ذَبْحِهِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ذَبِيحَةُ الْمُسْلِمِ حَلَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» ، وَبِأَنَّ الْمُؤْمِنَ ذَاكِرٌ بِقَلْبِهِ التَّسْمِيَةَ، وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «تَسْمِيَةُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ» ، وَمِنْهَا الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ، وَيَمِينٍ تَمَسُّكًا بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَى بِشَاهِدٍ، وَيَمِينٍ» ، وَالْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ قِيَامِ نَصِّ الْكِتَابِ خَطَأٌ فِي الِاجْتِهَادِ إلَّا أَنَّ نَصَّ الْكِتَابِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، فَيَكُونَ قَيْدًا لِلنَّهْيِ عَنْ أَكْلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرَادَ بِمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ أَوْ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] فَإِنَّ الْفِسْقَ هُوَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِحَصْرِ الْبَيِّنَةِ الَّتِي هِيَ الشَّهَادَةُ الْمَحْضَةُ فِي رَجُلَيْنِ، وَرَجُلٍ، وَامْرَأَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي ثُبُوتَ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ الْبَيِّنَةِ هِيَ

كَذَلِكَ وَلَمَّا كَانَتْ الضَّرُورَةُ تَنْقَضِي بِالْبُعْدِ لَمْ تَحِلَّ الْقُرْبَى فَعُلِمَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ الْحُرْمَةُ، وَقَدْ ثَبَتَ الْحِلُّ بِالضَّرُورَةِ فَلَمَّا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِكَثْرَةِ النَّسْلِ نُسِخَ حِلُّ الْأَخَوَاتِ فَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ دِيَانَتِهِمْ دَافِعَةً لِدَلِيلِ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ لَهُمْ حِلُّ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ إذْ بَعْدَ قَصْرِ دَلِيلِ الشَّرْعِ عَنْهُمْ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ وَهُوَ الْحُرْمَةُ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ إذْ بَعْدَ قَصْرِ دَلِيلِنَا عَنْهُمْ يَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ، وَهُوَ الْحِلُّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ لَا يَكُونُ مُثْبِتًا لِلْإِحْصَانِ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ مَنْ نَكَحَ الْمَحَارِمَ وَوَطِئَ ثُمَّ أَسْلَمَ (وَأَيْضًا حَدُّ الْقَذْفِ يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ) أَيْ: سَلَّمْنَا أَنَّ هَذَا النِّكَاحَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِمْ لَكِنَّ شُبْهَةَ عَدَمِ الصِّحَّةِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ، فَيَنْدَرِئُ حَدُّ الْقَذْفِ بِهَا، فَقَوْلُهُ وَأَيْضًا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّ نِكَاحَ الْمَحَارِمِ إلَخْ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْطُوفِ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ مَنْ نَكَحَ الْمَحَارِمَ وَوَطِئَ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ وَأَيْضًا (وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ أَيْضًا) عَطْفٌ عَلَى الْحُكْمِ الْمَفْهُومِ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَنَعْنِي بِالْحُكْمِ الْمَفْهُومِ عَدَمَ وُجُوبِ حَدِّ الْقَذْفِ (أَمَّا عَلَى الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ) وَهُوَ أَنَّ حِلَّ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ لَيْسَ حُكْمًا أَصْلِيًّا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْأَوَّلَ يُوجِبُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ فَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ (وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي) ـــــــــــــــــــــــــــــQشَهَادَةُ الْوَاحِدِ مَعَ الْيَمِينِ، وَمِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَعْنِي: قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَسَامَةِ، وَهِيَ أَنْ يُوجَدَ قَتِيلٌ لَا يُدْرَى قَاتِلُهُ، وَادَّعَى الْوَلِيُّ قَتْلَهُ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنَّهُ إنْ ظَهَرَ لَوْثٌ أَيْ: عَلَامَةٌ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ دَعْوَاهُ يُسْتَحْلَفُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ يَمِينًا، ثُمَّ يُقْضَى لَهُ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ فِي صُورَةِ الْخَطَأِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الْعَمْدِ فَفِي الْقَوْلِ الْجَدِيدِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ، وَفِي الْقَدِيمِ بِالْقِصَاصِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَحْمَدَ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِأَوْلِيَاءِ مَقْتُولٍ وُجِدَ فِي خَيْبَرَ «أَتَحْلِفُونَ، وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ أَيْ: دَمَ قَاتِلِ صَاحِبِكُمْ» إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ فَظَهَرَ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي تَقْرِيرِ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَأَنَّهُ لَا جِهَةَ لِتَخْصِيصِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَهُوَ مَشْهُورٌ، وَمِنْ مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ الْقَوْلُ بِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ تَمَسُّكًا بِمَا رُوِيَ عَنْ «جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَبِيعُ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ» ، وَبِأَنَّ الْمَالِيَّةَ ثَبَتَتْ بِيَقِينٍ، وَارْتِفَاعُهَا بِالْوِلَادَةِ مَشْكُوكٌ، فَإِنَّ الْآثَارَ الدَّالَّةَ عَلَى مَنْعِ بَيْعِهَا قَدْ اشْتَهَرَتْ، وَتَلَقَّاهَا الْقَرْنُ الثَّانِي بِالْقَبُولِ فَصَارَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ. (قَوْلُهُ: كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ) أَوْرَدَ مَسْأَلَتَيْنِ: أُولَاهُمَا مِثَالٌ لِلْجَهْلِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ، وَالثَّانِيَةُ تَتْمِيمٌ، وَتَكْمِيلٌ لِلْأُولَى لَا مِثَالٌ آخَرُ؛ لِأَنَّ فِيهَا مُخَالَفَةَ الْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ الِاجْتِهَادُ صَحِيحًا. (قَوْلُهُ: وَلَمْ يَقْضِ الظُّهْرَ بِنَاءً) أَيْ: بَنَى عَدَمَ

وَهُوَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ (فَالنِّكَاحُ، وَإِنْ صَحَّ لَكِنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ فَلَا تَجِبُ كَالْمِيرَاثِ إذْ لَوْ وَجَبَتْ تَصِيرُ الدِّيَانَةُ مُتَعَدِّيَةً) ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالشُّبْهَةِ لِدَرْءِ حَدِّ الْقَذْفِ شُبْهَةُ عَدَمِ صِحَّةِ النِّكَاحِ، فَهَذَا الدَّلِيلُ مُشْعِرٌ بِتَسْلِيمِ صِحَّةِ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَكَوْنِهَا حُكْمًا أَصْلِيًّا فِي حَقِّهِمْ (وَالْجَوَابُ) أَيْ: جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي النَّفَقَةِ (أَنَّهَا لِدَفْعِ الْهَلَاكِ) فَإِيجَابُ النَّفَقَةِ بِنَاءً عَلَى دِيَانَتِهِمْ لَا يَكُونُ قَوْلًا بِأَنَّ دِيَانَتَهُمْ مُتَعَدِّيَةٌ بَلْ دِيَانَتُهُمْ دَافِعَةٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ حَابِسٌ لِلزَّوْجَةِ فَإِنْ حَبَسَهَا بِلَا نَفَقَةٍ يَكُونُ مُتَعَرِّضًا لَهَا بِالْإِهْلَاكِ فَإِيجَابُ النَّفَقَةِ دَفْعٌ لِهَذَا التَّعَرُّضِ ثُمَّ وَرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ إيجَابَ النَّفَقَةِ لَيْسَ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ بِدَلِيلِ وُجُوبِهَا مَعَ غِنَى الْمَرْأَةِ، فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَغِنَاهَا لَا يَدْفَعُ الْحَاجَةَ الدَّائِمَةَ بِدَوَامِ الْحَبْسِ، وَأَمَّا جَهْلٌ كَمَا ذَكَرْنَا) أَيْ: لَا يَصْلُحُ عُذْرًا، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَأَمَّا جَهْلٌ لَا يَصْلُحُ عُذْرًا (لَكِنَّهُ دُونَهُ) أَيْ: دُونَ الْجَهْلِ الْأَوَّلِ (كَجَهْلِ صَاحِبِ الْهَوَى فِي صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَحْكَامِ الْآخِرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلدَّلِيلِ الْوَاضِحِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُؤَوِّلًا لِلْقُرْآنِ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ وَلَمَّا كَانَ مُسْلِمًا لَزِمَنَا مُنَاظَرَتُهُ وَإِلْزَامُهُ، فَلَا يُتْرَكُ عَلَى دِيَانَتِهِ فَلَزِمَهُ جَمِيعُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَكَجَهْلِ الْبَاغِي، فَيَضْمَنُ بِإِتْلَافِ مَالِ الْعَادِلِ أَوْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنَعَةٌ، فَتَسْقُطُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ وَتَجِبُ عَلَيْنَا مُحَارَبَتُهُ وَلَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثَ بِقَتْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQقَضَاءِ الظُّهْرِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِعَدَمِ الْوُضُوءِ حِينَ صَلَّى، وَأَنَّ الصَّلَاةَ الْمُؤَدَّاةَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِذَلِكَ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ، وَاقْتَصَّ الْآخَرُ) بِجَهْلِهِ بِالْعَفْوِ أَوْ بِأَنَّ عَفْوَ أَحَدِ الْأَوْلِيَاءِ يُسْقِطُ الْقَوَدَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّ هَذَا جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ؛ وَلِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا ثَبَتَ لِوَلِيَّيْنِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ التَّفَرُّدُ بِالْقَتْلِ حَتَّى لَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ الْقَتْلُ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَلَا يَكُونُ اجْتِهَادًا صَحِيحًا بَلْ هُوَ جَهْلٌ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ لِأَنَّهُ عُلِمَ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ وَمَا ثَبَتَ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ وَأَيْضًا الظَّاهِرُ عَدَمُ نَفَاذِ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَيَكُونُ مَحَلَّ الِاشْتِبَاهِ، وَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ. (قَوْلُهُ: إذْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ) يَعْنِي: كَفَّارَةَ الصَّوْمِ تَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْعُقُوبَةِ فِيهَا، وَهَذَا إذَا اسْتَفْتَى فَقِيهًا، فَأَفْتَاهُ بِفَسَادِ الصَّوْمِ فَحَصَلَ لَهُ الظَّنُّ بِذَلِكَ أَوْ بَلَغَهُ الْحَدِيثُ أَعْنِي: قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ، وَالْمَحْجُومُ» ، وَلَمْ يَعْرِفْ نَسْخَهُ، وَلَا تَأْوِيلَهُ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ اتِّفَاقًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ كَانَ ظَنُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِّيِّ الْأَخْذُ بِظَوَاهِرِ الْأَخْبَارِ، وَإِنَّمَا التَّمَسُّكُ بِهَا لِلْفُقَهَاءِ، وَالْقَوْلُ بِفَسَادِ الصَّوْمِ بِالْحِجَامَةِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَوْزَاعِيُّ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ اجْتِهَادًا صَحِيحًا لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ. (وَقَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ وَالِدِهِ يَظُنُّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَالَ الزَّوْجَةِ مَالُ الزَّوْجِ مِنْ وَجْهٍ لِفَرْطِ الِاخْتِلَاطِ أَوْ حِلِّ الزَّوْجَةِ يُوجِبُ حِلَّ مَمْلُوكَتِهَا، وَأَنَّ مِلْكَ الْأَصْلِ

لِأَنَّ الْإِسْلَامَ جَامِعٌ) أَيْ: بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَاغِي، فَيَكُونُ سَبَبُ الْإِرْثِ مَوْجُودًا (وَالْقَتْلُ حَقٌّ) فَلَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ الْإِرْثِ (وَكَذَا إنْ قَتَلَ عَادِلًا) أَيْ: لَا يُحْرَمُ الْبَاغِي الْإِرْثَ إنْ قَتَلَ عَادِلًا (لِأَنَّهُ حَقٌّ فِي زَعْمِهِ وَوِلَايَتُنَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْهُ وَلَمَّا كَانَ الدَّارُ وَاحِدَةً وَالدِّيَانَةُ مُخْتَلِفَةً تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ مِنْ وَجْهٍ فَلَا نَمْلِكُ مَالَهُ لَكِنْ لَا نَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ) كَمَا فِي غَصْبِ مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ فَإِنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُهُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ، وَأَمَّا إذَا أَتْلَفَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْكَسْ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَالَهُ مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ يَمْلِكُ مَالَهُ مَعَ التَّنَاقُضِ (وَكَجَهْلِ مَنْ خَالَفَ فِي اجْتِهَادِهِ الْكِتَابَ كَمَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا) فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] (وَالْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ) أَيْ: يَمِينِ الْمُدَّعِي فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] (أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ كَالتَّحْلِيلِ بِدُونِ الْوَطْءِ) عَلَى مَذْهَبِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَإِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ حَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ (وَالْقِصَاصِ فِي مَسْأَلَةِ الْقَسَامَةِ) فَإِنَّهُ إنْ وُجِدَ لَوْثٌ أَيْ: عَلَامَةُ الْقَتْلِ اُسْتُحْلِفَ الْأَوْلِيَاءُ خَمْسِينَ يَمِينًا عَمْدًا كَانَتْ الدَّعْوَى أَوْ خَطَأً، وَهَذَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا عِنْدَ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقْضَى بِالْقَوَدِ إنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَفِيهِ خِلَافُ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، وَهَذَا وَحَدِيثُ الْعُسَيْلَةِ مِنْ الْمَشَاهِيرِ (أَوْ الْإِجْمَاعِ كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ) فَإِنَّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ انْعَقَدَ عَلَى بُطْلَانِهِ (حَتَّى لَا يَنْفُذَ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ) مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْبَحْثِ، وَهُوَ أَنَّ الْجَهْلَ لَيْسَ بِعُذْرٍ حَتَّى إنْ قَضَى الْقَاضِي فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ (، وَأَمَّا جَهْلٌ يَصْلُحُ شُبْهَةً) عَطْفٌ عَلَى النَّوْعَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQمِلْكُ الْجُزْءِ أَوْ حَلَالٌ لَهُ فَهَذَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ أَعْنِي: الشُّبْهَةَ فِي الْفِعْلِ، وَهِيَ أَنْ يَظُنَّ مَا لَيْسَ بِدَلِيلِ الْحِلِّ دَلِيلًا، فَيَظُنُّ الْحِلَّ، فَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ لَكِنْ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ، وَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ تَمَحَّضَ زِنًا بِخِلَافِ شُبْهَةِ الْحِلِّ، وَتُسَمَّى شُبْهَةَ الدَّلِيلِ، وَهِيَ أَنْ يُوجَدَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ لَكِنْ تَخَلَّفَ الْحُكْمُ عَنْهُ لِمَانِعٍ كَمَا إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ الِابْنِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْحَدُّ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ، وَالْعِدَّةُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَتَمَحَّضْ زِنًا نَظَرًا إلَى الدَّلِيلِ أَعْنِي: قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» ، وَأَمَّا شُبْهَةُ جَارِيَةِ الْأَخِ أَوْ الْأُخْتِ فَلَيْسَتْ مَحَلًّا لِلِاشْتِبَاهِ لَا شُبْهَةَ فِعْلٍ، وَلَا شُبْهَةَ مَحَلٍّ فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا جَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا) كَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَجَهْلُهُ بِالْأَحْكَامِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي التَّرْكِ حَتَّى لَا يَجِبَ بَعْدَ الْمُهَاجَرَةِ قَضَاءُ مُدَّةِ اللُّبْثِ فِي دَارِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ سَمَاعِ الْخِطَابِ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا بِشُهْرَتِهِ فِي مَحَلِّهِ. (قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] الْمَذْكُورُ

الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْجَهْلِ (كَالْجَهْلِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ الصَّحِيحِ) أَيْ: غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ أَوْ الْإِجْمَاعِ (أَوْ فِي مَوْضِعِ الشُّبْهَةِ كَمَنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ ثُمَّ الْعَصْرَ بِهِ) أَيْ: بِالْوُضُوءِ زَاعِمًا صِحَّةَ ظُهْرِهِ (ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ) ثُمَّ قَضَى الظُّهْرَ (بِنَاءً عَلَى هَذَا التَّذَكُّرِ) ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْعَصْرَ جَائِزٌ بِنَاءً عَلَى جَهْلِهِ بِفَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ (يَصِحُّ الْمَغْرِبُ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ) فَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَغْرِبِ كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ الْعَصْرِ عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ زَاعِمًا صِحَّةَ ظُهْرِهِ وَهَذَا زَعْمٌ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجِبُ قَضَاءُ الْعَصْرِ لِعَدَمِ فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ عِنْدَهُ هَذَا إذَا كَانَ يَزْعُمُ وَقْتَ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ أَنَّ عَصْرَهُ جَائِزٌ أَمَّا لَوْ عَلِمَ وَقْتَ أَدَاءِ الْمَغْرِبِ أَنَّ عَصْرَهُ لَمْ يَجُزْ كَانَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَغْرِبِ كَمَا يَجِبُ قَضَاءُ الْعَصْرِ (وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الظُّهْرَ وَصَلَّى الْعَصْرَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّ أَنَّ الظُّهْرَ جَائِزٌ) أَيْ: صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ ثُمَّ الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ زَاعِمًا صِحَّةَ الظُّهْرِ، وَلَمْ يَقْضِ الظُّهْرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِعَدَمِ الْوُضُوءِ فَإِنَّ مَنْ صَلَّى صَلَاةً بِغَيْرِ وُضُوءٍ جَاهِلًا أَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ، وَصَلَّى فَرْضًا آخَرَ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَالْفَرْضُ الثَّانِي غَيْرُ صَحِيحٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ خِلَافًا لِحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ فَإِنَّ عِنْدَهُ إنَّمَا يَجِبُ رِعَايَةُ التَّرْتِيبِ عَلَى مَنْ يَعْلَمُهُ، وَأَيْضًا فِيهِ خِلَافُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الْفَرْضَ الْأَوَّلَ يُجْزِيهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى النَّاسِي لِلْفَائِتَةِ فَيُجْزِيهِ الْفَرْضُ الثَّانِي (لَمْ يَصِحَّ الْعَصْرُ) أَيْ: صَلَّى الظُّهْرَ بِلَا وُضُوءٍ ثُمَّ الْعَصْرَ بِوُضُوءٍ زَاعِمًا صِحَّةَ الظُّهْرِ وَلَمْ يَقْضِ الظُّهْرَ لَمْ يَصِحَّ الْعَصْرُ؛ لِأَنَّ زَعْمَهُ مُخَالِفٌ (لِلْإِجْمَاعِ، وَالْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَشْهَدُ بِهَا هِيَ الْأُولَى لَا الثَّانِيَةُ وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ ثُمَّ اقْتَصَّ الْآخَرُ ـــــــــــــــــــــــــــــQفِي عَامَّةِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ نُزُولِ آيَةِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَقَالُوا: كَيْفَ مَنْ مَاتَ قَبْلَ التَّحْوِيلِ مِنْ إخْوَانِنَا؟ . (قَوْلُهُ: وَقِصَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ) هِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا فِي سَفَرٍ فَشَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِحُرْمَتِهَا فَنَزَلَ {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] ، وَعَنْ ابْنِ كَيْسَانَ «أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا، وَقَدْ شَرِبُوا الْخَمْرَ، وَأَكَلُوا الْمَيْسِرَ، وَكَيْفَ بِالْغَائِبِينَ عَنَّا فِي الْبُلْدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بِتَحْرِيمِهَا، وَهُمْ يَطْعَمُونَهَا فَنَزَلَتْ» . (قَوْلُهُ: وَالْبِكْرُ) أَيْ:، وَكَجَهْلِ الْبِكْرِ بِالنِّكَاحِ فِيمَا إذَا زَوَّجَهَا، وَلِيٌّ غَيْرِ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ مِنْ الْكُفْءِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ زَوَّجَهَا الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ عُذْرًا حَتَّى يَكُونَ لَهَا الْفَسْخُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالنِّكَاحِ، وَأَمَّا إذَا زَوَّجَهَا الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ مِنْ الْكُفْءِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَكُنْ لَهَا الْفَسْخُ لِكَمَالِ النَّظَرِ، وَوُفُورِ الشَّفَقَةِ، وَلَوْ زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ، وَالْجَدِّ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَوْ بِغَبْنٍ

[السكر]

عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْقِصَاصَ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْكَمَالِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِاجْتِهَادِ) فَإِنَّ عِنْدَ الْبَعْضِ لَا يَسْقُطُ الْقِصَاصُ فَصَارَ هَذَا شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْقِصَاصِ عَنْ قَاتِلِ الْقَاتِلِ (وَكَذَا الْمُحْتَجِمُ إذَا ظَنَّ أَنَّهُ أَفْطَرَ، فَأَكَلَ عَمْدًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ» صَارَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْكَفَّارَةِ إذْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ وَكَذَا الْقِصَاصُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ (وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ وَالِدِهِ بِظَنِّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ فَتَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ) حَتَّى يَنْدَرِئَ الْحَدُّ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ (إلَّا فِي النَّسَبِ، وَالْعِدَّةِ) أَيْ: لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِدَّةُ بِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَإِنْ كَانَا يَثْبُتَانِ بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ. (وَكَذَا حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ فَدَخَلَ دَارَنَا فَشَرِبَ خَمْرًا جَاهِلًا بِالْحُرْمَةِ) أَيْ: لَا يُحَدُّ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ يَكُونُ شُبْهَةً (لَا إنْ زَنَى هُوَ) أَيْ: زَنَى حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ حَيْثُ يُحَدُّ؛ لِأَنَّ جَهْلَهُ فِي حُرْمَةِ الزِّنَا لَا يَكُونُ شُبْهَةً؛ لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ (أَوْ شَرِبَ ذِمِّيٌّ أَسْلَمَ) أَيْ: يَجِبُ الْحَدُّ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْخَمْرِ شَائِعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَالذِّمِّيُّ سَاكِنٌ فِيهَا فَلَا يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ بِحُرْمَةِ الْخَمْرِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ (، وَأَمَّا جَهْلٌ يَصْلُحُ عُذْرًا) هَذَا هُوَ النَّوْعُ الرَّابِعُ مِنْ الْجَهْلِ (كَجَهْلِ مُسْلِمٍ لَمْ يُهَاجِرْ بِالشَّرَائِعِ وَكَذَا إذَا نَزَلَ خِطَابٌ، وَلَمْ يَنْتَشِرْ بَعْدَ فِي دَارِنَا كَمَا فِي قِصَّةِ أَهْلِ قُبَاءَ) فَإِنَّهُمْ إذْ بَلَغَهُمْ تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ وَكَانُوا فِي الصَّلَاةِ اسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ فَاسْتَحْسَنَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ـــــــــــــــــــــــــــــQفَاحِشٍ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ أَصْلًا، وَإِنَّمَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اُشْتُهِرَ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ نَقْلًا عَنْ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَكِنْ يَكُونُ لَهَا الْفَسْخُ، وَهَكَذَا أَوْرَدَهُ فِي شَرْحِهِ لِلْوِقَايَةِ، وَلَا يُوجَدُ لَهُ رِوَايَةٌ أَصْلًا. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ وَاجِبٌ عَلَيْهَا) أَيْ: عَلَى الْبِكْرِ، وَتَقْرِيرُ الْقَوْمِ أَنَّ جَهْلَ الْبِكْرِ بِالْخِيَارِ لَيْسَ بِعُذْرٍ لِاشْتِهَارِ الْعِلْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَعَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ التَّعَلُّمِ فِي جَانِبِهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّ اشْتِغَالَهَا بِخِدْمَةِ السَّيِّدِ مَانِعٌ، وَعَلَى هَذَا الْإِيرَادِ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّ الْبِكْرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ تُكَلَّفْ بِالشَّرَائِعِ لَا سِيَّمَا بِالْمَسَائِلِ الْخَفِيَّةِ. (قَوْلُهُ: حَتَّى يُشْتَرَطَ لِلْقَضَاءِ ثَمَّةَ) أَيْ: فِي فَسْخِ الْبِكْرِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا هُنَا أَيْ: لَا فِي فَسْخِ الْمُعْتَقَةِ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْبِكْرِ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ، وَتَوَهُّمِ تَرْكِ النَّظَرِ مِنْ الْوَلِيِّ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَرِثُهُ الْآخَرُ، وَفَسْخُ الْمُعْتَقَةِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ، وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا بِدَفْعِ أَصْلِ الْمِلْكِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُبْطِلُ حَقًّا مُشْتَرَكًا لِدَفْعِ زِيَادَةِ حَقٍّ عَلَيْهَا، وَالزَّوْجُ يُثْبِتُ زِيَادَةَ حَقٍّ عَلَيْهَا لِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الدَّفْعَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ قَصْدًا، وَإِبْطَالَ الْمِلْكِ ضِمْنًا، وَفِي حَقِّ الزَّوْجِ زِيَادَةُ الْمِلْكِ أَصْلًا، وَاسْتِيفَاءً ضِمْنًا [السُّكْرُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا) أَيْ:، وَمِنْ الْعَوَارِضِ

وَكَانُوا يَقُولُونَ كَيْفَ صَلَاتُنَا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ عِلْمِنَا بِالتَّحْوِيلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أَيْ: صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ (وَقِصَّةُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ) «لَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ قَالَ الصَّحَابَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَأْكُلُونَ مَالَ الْمَيْسِرِ أَيْ: بَعْدَ التَّحْرِيمِ قَبْلَ بُلُوغِ الْخِطَابِ إلَيْهِمْ؟ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] » (فَأَمَّا إذَا انْتَشَرَ التَّبْلِيغُ فِي دِيَارِنَا فَقَدْ تَمَّ التَّبْلِيغُ فَمَنْ جَهِلَ هُنَا يَكُونُ لِتَقْصِيرِهِ كَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْمَاءَ فِي الْعُمْرَانَاتِ فَتَيَمَّمَ وَكَانَ الْمَاءُ مَوْجُودًا لَا يَصِحُّ، وَكَذَا الْجَهْلُ بِأَنَّهُ وَكِيلٌ أَوْ مَأْذُونٌ) أَيْ: يَكُونُ عُذْرًا (حَتَّى إنْ تَصَرَّفَ لَا يَصِحُّ) أَيْ: مِنْ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ يَقَعُ عَنْ الْوَكِيلِ وَلَوْ بَاعَ مَالَ الْمُوَكِّلِ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْوَكَالَةِ يَتَوَقَّفُ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ (وَكَذَا جَهْلُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ، وَالْمَأْذُونِ بِالْحَجْرِ وَالْمَوْلَى بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي، وَالشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ وَالْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالْخِيَارِ وَالْبَكْرِ بِالنِّكَاحِ لَا بِالْخِيَارِ) أَيْ: جَهْلُ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ وَجَهْلُ الْمَأْذُونِ بِالْحَجْرِ عُذْرٌ حَتَّى إنْ تَصَرَّفَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ وَالْحَجْرِ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQالْمُكْتَسَبَةِ السُّكْرُ، وَهِيَ حَالَةٌ تَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ امْتِلَاءِ دِمَاغِهِ مِنْ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ إلَيْهِ، فَيَتَعَطَّلُ مَعَهُ عَقْلُهُ الْمُمَيِّزُ بَيْنَ الْأُمُورِ الْحَسَنَةِ، وَالْقَبِيحَةِ، وَالسُّكْرُ حَرَامٌ إجْمَاعًا إلَّا أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُفْضِيَ إلَيْهِ قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا كَسُكْرِ الْمُضْطَرِّ إلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَالسُّكْرُ الْحَاصِلُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ غَيْرِ الْعِنَبِ، وَالْغِذَاءُ مَا يَنْفَعِلُ عَنْ الطَّبِيعَةِ فَتَنْصَرِفُ فِيهِ، وَتُحِيلُهُ إلَى مُشَابَهَةِ الْمُتَغَذِّي، فَيَصِيرُ جُزْءًا مِنْهُ، وَبَدَلًا عَمَّا يَتَحَلَّلُ، وَالدَّوَاءُ مَا يَكُونُ فِيهِ كَيْفِيَّةٌ خَارِجَةٌ عَنْ الِاعْتِدَالِ بِهَا تَنْفَعِلُ الطَّبِيعَةُ عَنْهُ، وَتَعْجِزُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَحْظُورًا كَالسُّكْرِ الْحَاصِلِ مِنْ الْخَمْرِ الَّتِي يَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا أَوْ مِنْ الْمُثَلَّثِ، وَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثَاهُ ثُمَّ رُقِّقَ بِالْمَاءِ، وَتُرِكَ حَتَّى اشْتَدَّ يَحِلُّ شُرْبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ، وَالتَّقَوِّي عَلَى قِيَامِ اللَّيَالِي، وَصِيَامِ الْأَيَّامِ، وَأَمَّا عَلَى قَصْدِ السُّكْرِ فَلَا حَتَّى لَوْ سَكِرَ مِنْهُ يُحَدُّ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا نَقِيعُ الزَّبِيبِ، وَهُوَ الْمَاءُ الَّذِي أُلْقِيَ فِيهِ الزَّبِيبُ لِيُخْرِجَ مِنْهُ حَلَاوَتَهُ فَإِنْ لَمْ يُطْبَخْ حَتَّى اشْتَدَّ، وَغَلَا، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ يَحِلُّ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. (قَوْلُهُ: حَتَّى الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ) صَرَّحَ بِذَلِكَ نَفْيًا لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِفِعْلِ الْبَنْجِ، فَأَكَلَهُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ، وَعَتَاقُهُ. (قَوْلُهُ: فَهَذَا خِطَابٌ مُتَعَلِّقٌ بِحَالَةِ السُّكْرِ) لَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] قَيْدٌ لِلْخِطَابِ أَعْنِي: لَا تَقْرَبُوا حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي حَالَةِ سُكْرِهِمْ بَلْ هُوَ قَيْدٌ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ خِطَابُ الْمَنْعِ

وَكَذَا جَهْلُ الْمَوْلَى بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ الْجَانِي عُذْرٌ حَتَّى لَوْ بَاعَ الْعَبْدَ الْجَانِيَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَكَذَا جَهْلُ الشَّفِيعِ بِالْبَيْعِ حَتَّى لَوْ بَاعَ الشَّفِيعُ الدَّارَ الْمَشْفُوعَ بِهَا بَعْدَ مَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا لَكِنْ قَبْلَ عِلْمِهِ بِبَيْعِهَا لَا يَكُونُ مُسَلِّمًا لِلشُّفْعَةِ، وَالْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ إذَا جَهِلَتْ أَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَهَا فَسَكَتَتْ عَنْ فَسْخِ النِّكَاحِ فَجَهْلُهَا عُذْرٌ حَتَّى لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا، وَكَذَا إذَا عَلِمَتْ بِالْإِعْتَاقِ، وَلَكِنْ جَهِلَتْ أَنَّ لَهَا خِيَارَ الْعِتْقِ فَجَهْلُهَا عُذْرٌ حَتَّى لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا وَإِذَا بَلَغَتْ الْبِكْرُ الَّتِي زَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبِ، وَالْجَدِّ جَاهِلَةً بِالنِّكَاحِ فَسَكَتَتْ فَجَهْلُهَا عُذْرٌ فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًى أَمَّا إذَا عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ وَجَهِلَتْ بِأَنَّ لَهَا الْخِيَارَ لَا يَكُونُ جَهْلُهَا عُذْرًا حَتَّى يَبْطُلَ خِيَارُهَا إذْ جَهْلُهَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَيْسَ بِعُذْرٍ (لِأَنَّ الدَّلِيلَ مَشْهُورٌ فِي حَقِّهَا) ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ وَاجِبٌ عَلَيْهَا فَدَلَائِلُ الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَشْهُورَةً فِي حَقِّهَا فَبِالْجَهْلِ لَا تُعْذَرُ (وَفِي حَقِّ الْأَمَةِ مَخْفِيٌّ) ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى تُشْغِلُهَا عَنْ التَّعَلُّمِ فَالدَّلِيلُ مَخْفِيٌّ فِي حَقِّهَا فَتُعْذَرُ بِالْجَهْلِ (وَلِأَنَّ الْبِكْرَ تُرِيدُ إلْزَامَ الْفَسْخِ وَالْأَمَةَ تُرِيدُ دَفْعَ زِيَادَةِ الْمِلْكِ) ، هَذَا فَرْقٌ آخَرُ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْأَمَةِ فِي أَنَّ الْأَمَةَ تُعْذَرُ بِالْجَهْلِ لَا الْبِكْرَ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْبِكْرَ تُرِيدُ إلْزَامَ الْفَسْخِ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمُعْتَقَةَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ الْحَالَ فِي مِثْلِ، صَلِّ، وَأَنْتَ صَالِحٌ أَوْ لَا تُصَلِّ، وَأَنْتَ سَكْرَانُ لَيْسَ قَيْدًا لِلْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ بَلْ لِلْمَأْمُورِ بِهِ، وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمَعْنَى أَطْلُبُ مِنْكَ صَلَاةً مَقْرُونَةً بِالصَّحْوِ، وَكُفَّ النَّفْسَ عَنْ الصَّلَاةِ الْمَقْرُونَةِ بِالسُّكْرِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِي الْحَالِ هُوَ فِعْلُ الْمَذْكُورِ لَا فِعْلُ الطَّلَبِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} [المائدة: 1] فِيمَنْ جَعَلَهُ حَالًا مِنْ قَوْلِهِ {أَوْفُوا} [المائدة: 1] يَكُونُ قَيْدًا لِلْإِيفَاءِ لَا لِطَلَبِهِ حَتَّى يَلْزَمَ عَدَمُ وُجُوبِ الْإِيفَاءِ عِنْدَ كَوْنِهِمْ مُحِلِّينَ لِلصَّيْدِ أَيْ: مُعْتَرِضِينَ لَهُ فِي الْإِحْرَامِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خُوطِبُوا فِي حَالَةِ الصَّحْوِ بِأَنْ لَا يَقْرَبُوا الصَّلَاةَ حَالَةَ السُّكْرِ، فَيَلْزَمُ كَوْنُهُمْ مُخَاطَبِينَ أَيْ: مُكَلَّفِينَ بِذَلِكَ حَالَ السُّكْرِ فَلَا يَكُونُ السُّكْرُ مُنَافِيًا لِتَعَلُّقِ الْخِطَابِ، وَوُجُوبِ الِانْتِهَاءِ فَالسُّكْرُ مِنْ الشَّرَابِ الْمُحَرَّمِ أَوْ الْمُثَلَّثِ لَا يُبْطِلُ أَهْلِيَّةَ الْخِطَابِ أَصْلًا لِتَحَقُّقِ الْعَقْلِ، وَالْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الْعَقْلِ بِوَاسِطَةِ غَلَبَةِ السُّرُورِ، فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ التَّكَالِيفِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ، وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْأَدَاءُ، وَتَصِحُّ عِبَارَاتُهُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَالْبَيْعِ، وَالْإِقْرَارِ وَتَزْوِيجِ الصِّغَارِ، وَالتَّزَوُّجِ، وَالْإِقْرَاضِ، وَالِاسْتِقْرَاضِ، وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ سَوَاءٌ شَرِبَ مُكْرَهًا أَوْ طَائِعًا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْخِطَابِ عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ، وَقَدْ أُقِيمَ الْبُلُوغُ عَنْ الْعَقْلِ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا، وَبِالسُّكْرِ لَا يَفُوتُ إلَّا قُدْرَةُ فَهْمِ الْخِطَابِ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ فَيُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ زَجْرًا لَهُ، وَيَبْقَى التَّكْلِيفُ مُتَوَجِّهًا فِي حَقِّ الْإِثْمِ، وَوُجُوبِ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَالنَّوْمِ فَإِنَّهُ يَصْلُحُ عُذْرًا دَفْعًا لِلْحَرَجِ. (قَوْلُهُ: وَإِذَا أَسْلَمَ) أَيْ:

تُرِيدُ بِالْفَسْخِ دَفْعَ زِيَادَةِ الْمِلْكِ فَإِنَّ طَلَاقَ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ، وَطَلَاقَ الْحُرَّةِ ثَلَاثَةٌ، وَالْجَهْلُ عَدَمٌ أَصْلِيٌّ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِلْزَامِ، وَهَذَا الْفَرْقُ أَحْسَنُ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْبِكْرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لَمْ تُكَلَّفْ بِالشَّرَائِعِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يَعْرِفُهَا إلَّا أَحْذَقُ الْفُقَهَاءِ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْقَضَاءُ ثَمَّةَ لَا هُنَا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ فَسْخَ النِّكَاحِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ إلْزَامٌ ضَرُورَةً وَبِخِيَارِ الْعِتْقِ دَفْعُ ضَرَرٍ. (وَمِنْهَا السُّكْرُ هُوَ وَإِمَّا بِطَرِيقٍ مُبَاحٍ كَسُكْرِ الْمُضْطَرِّ، وَالسُّكْرُ بِدَوَاءٍ، كَالْبَنْجِ، وَالْأَفْيُونِ) وَبِمَا يُتَّخَذُ مِنْ الْحِنْطَةِ أَوْ الشَّعِيرِ أَوْ الْعَسَلِ وَهُوَ كَالْإِغْمَاءِ (يَمْنَعُ صِحَّةَ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ حَتَّى الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ وَأَمَّا بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ كَالسُّكْرِ مِنْ شَرَابٍ مُحَرَّمٍ أَوْ مُثَلَّثٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحِلُّ) أَيْ: الْمُثَلَّثُ (بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسْكِرَ فَالسُّكْرُ بِهِ يَصِيرُ كَالسُّكْرِ بِالْمُحَرَّمِ فَيُحَدُّ بِهِ) أَيْ: بِالسُّكْرِ مِنْ الْمُثَلَّثِ (وَهُوَ) أَيْ: الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ السُّكْرِ، وَهُوَ السُّكْرُ بِشَرَابٍ مُحَرَّمٍ أَوْ بِالْمُثَلَّثِ (لَا يُنَافِي الْخِطَابَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] فَهَذَا خِطَابٌ مُتَعَلِّقٌ بِحَالِ السُّكْرِ فَهُوَ لَا يُبْطِلُ الْأَهْلِيَّةَ أَصْلًا، فَيَلْزَمُهُ كُلُّ الْأَحْكَامِ، وَتَصِحُّ عِبَارَاتُهُ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِهِ الْقَصْدُ حَتَّى إنْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا يَرْتَدُّ اسْتِحْسَانًا لِعَدَمِ رُكْنِهِ وَهُوَ الْقَصْدُ كَمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُك فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ عَكْسُهُ لَا يَرْتَدُّ وَإِذَا أَسْلَمَ يَصِحُّ كَالْمُكْرَهِ وَإِذَا أَقَرَّ بِمَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كَالزِّنَا، وَشُرْبِ الْخَمْرِ لَا يُحَدُّ حَتَّى يَصْحُوَ فَيُقِرَّ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ دَلِيلُ الرُّجُوعِ، وَإِذَا أَقَرَّ بِمَا لَا يَحْتَمِلُهُ كَالْقِصَاصِ وَالْقَذْفِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالسَّكْرَانُ إنْ أَسْلَمَ يَصِحُّ تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِيمَانِ، وَكَوْنِ الْأَصْلِ هُوَ الِاعْتِقَادُ فَلَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا يَرْتَدُّ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَى تَبَدُّلِهِ أَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَهُوَ التَّكَلُّمُ فِي حَالَةٍ يُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَصْدُ، وَهِيَ حَالَةُ الصَّحْوِ، وَهَذَا كَالْمُكْرَهِ يَصِحُّ إسْلَامُهُ، وَلَا يَصِحُّ ارْتِدَادُهُ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ السُّكْرَ دَلِيلُهُ الرُّجُوعُ) إذْ السَّكْرَانُ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى أَمْرٍ فَيُقَامُ مَقَامَ الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ كَالْقِصَاصِ، وَالْقَذْفِ أَوْ بَاشَرَ سَبَبَ الْحَدِّ بِأَنْ زَنَى أَوْ قَذَفَ فِي حَالَةِ السُّكْرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ أَمَّا فِي الْإِقْرَارِ بِمَا لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ فَلِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الرُّجُوعِ فَكَيْفَ بِدَلِيلِهِ، وَأَمَّا فِي الْمُبَاشَرَةِ فَلِأَنَّهُ مُعَايِنٌ، فَلَا أَثَرَ لِدَلِيلِ الرُّجُوعِ لَكِنْ يُتَوَقَّفُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ إلَى الصَّحْوِ لِيَحْصُلَ الِانْزِجَارُ فَإِنْ قُلْت: السُّكْرُ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ فَإِذَا تَحَقَّقَ أَنَّهُ سَكْرَانُ فَمَا مَعْنَى إقْرَارِهِ بِالشُّرْبِ، ثُمَّ تَوَقُّفِ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى إقْرَارِهِ فِي الصَّحْوِ قُلْت: السُّكْرُ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الشَّرَابِ الْمُحَرَّمِ أَوْ الْمُثَلَّثِ وَالسُّكْرُ مِنْهُمَا قَدْ يَكُونُ بِالشُّرْبِ كُرْهًا أَوْ اضْطِرَارًا، فَيَتَوَقَّفُ الْحَدُّ عَلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ شَرِبَ الشَّرَابَ الْمُحَرَّمَ أَوْ الْمُثَلَّثَ طَوْعًا فَيُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ حَالَ الصَّحْوِ. (قَوْلُهُ: وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) يَعْنِي: اعْتَبَرَ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَدِّ السُّكْرَ بِمَعْنَى زَوَالِ الْعَقْلِ بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ، وَلَا يَعْرِفُ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ إذْ لَوْ مَيَّزَ فَفِي السُّكْرِ نُقْصَانٌ، وَفِي النُّقْصَانِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ

[الهزل]

وَغَيْرِهِمَا أَوْ بَاشَرَ سَبَبَ الْحَدِّ يَلْزَمُهُ لَكِنْ إنَّمَا يُحَدُّ إذَا صَحَا وَحَدُّهُ اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ أَيْ: حَدُّ السُّكْرِ وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَالَةُ الْمُمَيِّزَةُ بَيْنَ السُّكْرِ، وَالصَّحْوِ (وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنْ لَا يَعْرِفَ الْأَرْضَ مِنْ السَّمَاءِ لِوُجُوبِ الْحَدِّ فَقَطْ) . (وَمِنْهَا الْهَزْلُ وَهُوَ أَنْ لَا يُرَادَ بِاللَّفْظِ مَعْنَاهُ لَا الْحَقِيقِيُّ وَلَا الْمَجَازِيُّ، وَهُوَ ضِدُّ الْجِدِّ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَشَرْطُهُ أَنْ يُشْتَرَطَ بِاللِّسَانِ لَا يُعْتَبَرُ دَلَالَتُهُ) أَيْ: دَلَالَةُ الْهَزْلِ أَيْ: شَرْطُ الْهَزْلِ أَنْ تَجْرِيَ الْمُوَاضَعَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ بِأَنْ يُقَالَ: نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ الْعَقْدِ هَازِلًا (وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ) أَيْ: كَوْنُ الشَّرْطِ وَهُوَ الْمُوَاضَعَةُ (فِي نَفْسِ الْعَقْدِ) بَلْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ الْمُوَاضَعَةُ سَابِقَةً عَلَى الْعَقْدِ (وَهُوَ) أَيْ: الْهَزْلُ (لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ أَصْلًا وَلَا اخْتِيَارَ الْمُبَاشَرَةِ وَالرِّضَى بِهَا بَلْ اخْتِيَارَ الْحُكْمِ، وَالرِّضَى بِهِ فَوَجَبَ النَّظَرُ بِالتَّصَرُّفَاتِ كَيْفَ تَنْقَسِمُ فِيهِمَا) أَيْ: فِي الِاخْتِيَارِ، وَالرِّضَى (وَهِيَ إمَّا مِنْ الْإِنْشَاءَاتِ أَوْ الْإِخْبَارَاتِ أَوْ الِاعْتِقَادَاتِ: أَمَّا الْإِنْشَاءَاتُ فَإِمَّا أَنْ تَحْتَمِلَ النَّقْضَ أَوْ لَا، فَمَا يَحْتَمِلُهُ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِمَّا أَنْ يَتَوَاضَعَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ) أَيْ: تَجْرِيَ الْمُوَاضَعَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ بِأَنَّا نَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا نُرِيدُ الْبَيْعَ (فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ) أَيْ: فَالْأَبْعَدُ الْبَيْعُ إنَّا قَدْ أَعْرَضْنَا وَقْتَ الْبَيْعِ عَنْ الْهَزْلِ وَبِعْنَا بِطَرِيقِ الْجِدِّ (صَحَّ الْبَيْعُ وَبَطَلَ الْهَزْلُ لِإِعْرَاضِهِمَا وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ صَارَ كَخِيَارِ الشَّرْطِ لَهُمَا مُؤَبَّدًا) أَيْ: لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَيَنْدَرِئُ بِهِ الْحَدُّ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ وُجُوبِ الْحَدِّ مِنْ الْأَحْكَامِ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ أَيْضًا اخْتِلَاطُ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَرْتَدَّ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِالْإِقْرَارِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ [الْهَزْلُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْهَزْلُ) فَسَّرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِاللَّعِبِ، وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِالشَّيْءِ مَا لَمْ يُوضَعْ لَهُ لَفْظٌ فَتَوَهَّمَ بَعْضُهُمْ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ يَشْمَلُ الْمَجَازَ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ بِالْوَضْعِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ وَضْعِ اللَّفْظِ لِلْمَعْنَى، وَمِنْ وَضْعِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ لِأَحْكَامِهَا، وَأَرَادَ بِوَضْعِ اللَّفْظِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْوَضْعِ الشَّخْصِيِّ كَوَضْعِ الْأَلْفَاظِ لِمَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّةِ أَوْ النَّوْعِيِّ كَوَضْعِهَا لِمَعَانِيهَا الْمَجَازِيَّةِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ: إنَّ الْوَضْعَ أَعَمُّ مِنْ الْعَقْلِيِّ، وَالشَّرْعِيِّ فَإِنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ لِمَعَانِيهَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا وَأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لِأَحْكَامِهَا وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَوْضَحَ الْمَقْصُودَ فَفَسَّرَ الْهَزْلَ بِعَدَمِ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَالْمَجَازِيِّ بِاللَّفْظِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ؛ لِأَنَّهَا صِيَغٌ، وَأَلْفَاظٌ مَوْضُوعَةٌ لِأَحْكَامٍ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا، وَيَلْزَمُ مَعَانِيهَا بِحَسَبِ الشَّرْعِ. (قَوْلُهُ: وَلَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ) يَعْنِي: لَا يَجِبُ أَنْ تَجْرِيَ الْمُوَاضَعَةُ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُوَاضَعَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ النَّاسُ لُزُومَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لِدَفْعِ الْغَبْنِ، وَمَنْعِ الْحُكْمِ عَنْ الثُّبُوتِ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ فَلَا بُدَّ مِنْ اتِّصَالِهِ بِالْعَقْدِ. (قَوْلُهُ: وَلَا اخْتِيَارَ الْمُبَاشَرَةِ

(لِوُجُودِ الرِّضَى بِالْمُبَاشَرَةِ لَا بِالْحُكْمِ) هَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ إذَا بِيعَ بِالْخِيَارِ فَالرِّضَى بِالْمُبَاشَرَةِ حَاصِلٌ لَا بِالْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ (فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ) كَمَا فِي الْخِيَارِ الْمُؤَبَّدِ (لَكِنْ لَا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ فِيهِ لِعَدَمِ الرِّضَى بِالْحُكْمِ) هَذَا اسْتِدْرَاكٌ عَنْ قَوْلِهِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فَإِنَّ الْمِلْكَ بِالْقَبْضِ يَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ (فَإِنْ نَقَضَهُ أَحَدُهُمَا انْتَقَضَ، وَإِنْ أَجَازَاهُ فِي الثَّلَاثِ جَازَ) أَيْ: إنْ أَجَازَاهُ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَيْ: يَنْقَلِبُ جَائِزَ الِارْتِفَاعِ الْمُفْسَدُ، كَمَا فِي الْخِيَارِ الْمُؤَبَّدِ (إلَّا إنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا) ؛ لِأَنَّهُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَتِهِمَا (وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي الثَّلَاثِ) أَيْ: عِنْدَهُمَا لَا تَنْتَهِي الْإِجَازَةُ بِالثَّلَاثَةِ فَكُلَّمَا أَجَازَاهُ جَازَ الْبَيْعُ كَمَا فِي الْخِيَارِ الْمُؤَبَّدِ (وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ لَا يَحْضُرَهُمَا شَيْءٌ) أَيْ: لَمْ يَقَعْ فِي خَاطِرَيْهِمَا وَقْتَ الْعَقْدِ أَنَّهُمَا بَنَيَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ أَوْ أَعْرَضَا (أَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ يَصِحُّ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَلًا بِالْعَقْدِ وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالرِّضَى بِهَا) يَعْنِي: أَنَّ الْهَازِلَ يَتَكَلَّمُ بِصِيغَةِ الْعَقْدِ مَثَلًا بِاخْتِيَارِهِ، وَرِضَاهُ لَكِنَّهُ لَا يَخْتَارُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ، وَلَا يَرْضَاهُ الِاخْتِيَارُ هُوَ الْقَصْدُ إلَى الشَّيْءِ، وَإِرَادَتُهُ، وَالرِّضَى هُوَ إيثَارُهُ، وَاسْتِحْسَانُهُ فَالْمُكْرَهُ عَلَى الشَّيْءِ مَثَلًا يَخْتَارُ ذَلِكَ، وَلَا يَرْضَاهُ، وَمِنْ هَاهُنَا قَالُوا: إنَّ الْمَعَاصِيَ، وَالْقَبَائِحَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَرْضَاهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] . (قَوْلُهُ: وَهِيَ) أَيْ: التَّصَرُّفَاتُ إمَّا إنْشَاءَاتٌ أَوْ إخْبَارَاتٌ أَوْ اعْتِقَادَاتٌ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إنْ كَانَ إحْدَاثَ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَإِنْشَاءٌ، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْهَا إلَى بَيَانِ الْوَاقِعِ فَإِخْبَارَاتٌ، وَإِلَّا فَاعْتِقَادَاتٌ، وَالْإِنْشَاءُ إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْفَسْخَ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَتَوَاضَعَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ أَوْ الثَّمَنِ بِحَسَبِ قَدْرِهِ أَوْ جِنْسِهِ، وَعَلَى التَّقَادِيرِ الثَّلَاثَةِ إمَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الْهَزْلِ، وَالْمُوَاضَعَةِ أَوْ عَلَى بِنَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى أَنْ لَا يَحْضُرَهُمَا شَيْءٌ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَتَّفِقَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا الْإِعْرَاضَ، وَالْآخَرُ الْبِنَاءَ أَوْ عَدَمَ حُضُورِ شَيْءٍ أَوْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا الْبِنَاءَ، وَالْآخَرُ عَدَمَ حُضُورِ شَيْءٍ، وَأَحْكَامُ الْأَقْسَامِ بَعْضُهَا مَشْرُوحٌ فِي الْكِتَابِ، وَبَعْضُهَا مَتْرُوكٌ لِانْسِيَاقِ الذِّهْنِ إلَيْهِ. (قَوْلُهُ: لِعَدَمِ الرِّضَى بِالْحُكْمِ) لَوْ قَالَ لِعَدَمِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ الْمَانِعُ عَنْ الْمِلْكِ لَا عَدَمُ الرِّضَا كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الرِّضَا. (قَوْلُهُ: فَإِنْ نَقَضَهُ) أَيْ: الْعَقْدَ الَّذِي اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ أَحَدُهُمَا أَيْ: أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ انْتَقَضَ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ وِلَايَةَ النَّقْضِ لَكِنَّ الصِّحَّةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهِمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِجَازَةُ أَحَدِهِمَا لَا تُبْطِلُ خِيَارَ الْآخَرِ، وَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مُدَّةَ الْخِيَارِ بِثَلَاثَةِ

أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْمُوَاضَعَةِ الَّتِي لَمْ تَتَّصِلْ بِهِ) أَيْ: بِالْعَقْدِ (لَا عِنْدَهُمَا) أَيْ: لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ عِنْدَهُمَا (فَاعْتَبَرَ الْعَادَةَ) تَحْقِيقُ الْمُوَاضَعَةِ مَا أَمْكَنَ (عَلَى أَنَّ الْمُوَاضَعَةَ أَسْبَقُ، قُلْنَا: الْأَخِيرُ نَاسِخٌ) أَيْ: الْأَخِيرُ وَهُوَ الْعَقْدُ نَاسِخٌ لِلْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَمْضِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ بَقِيَ بِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ قِسْمَانِ لَمْ يُذْكَرَا وَهُمَا: إذَا أَعْرَضَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَحْضُرْنِي شَيْءٌ، أَوْ بَنَى أَحَدُهُمَا وَقَالَ الْآخَرُ: لَمْ يَحْضُرْنِي شَيْءٌ فَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْحُضُورِ كَالْإِعْرَاضِ وَعَلَى أَصْلِهِمَا كَالْبِنَاءِ (وَإِمَّا أَنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ فَهُمَا يَعْمَلَانِ بِالْمُوَاضَعَةِ إلَّا فِي صُورَةِ إعْرَاضِهِمَا وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَعْمَلُ بِظَاهِرِ الْعَقْدِ فِي الْكُلِّ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبِنَاءِ هُنَا، وَثَمَّةَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُوَاضَعَةِ هُنَا ـــــــــــــــــــــــــــــQأَيَّامٍ اعْتِبَارًا بِالْخِيَارِ الْمُؤَبَّدِ حَتَّى يَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ الِاخْتِيَارُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ النَّقْضُ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي الثَّلَاثِ دُونَ الثَّلَاثَةِ اعْتِبَارًا بِاللَّيَالِيِ. (قَوْلُهُ: عَمَلًا بِالْعَقْدِ) يَعْنِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ اللُّزُومُ، وَالصِّحَّةُ حَتَّى يَقُومَ الْمُعَارِضُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ لِلْمِلْكِ، وَالْجِدُّ هُوَ الظَّاهِرُ فِيهِ فَاعْتِبَارُ الْعَقْدِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمُوَاضَعَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الصُّورَتَيْنِ أَعْنِي: صُورَةَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنْ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنْ يَبْنِيَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ كَيْ لَا يَكُونَ الِاشْتِغَالُ بِهَا عَيْنًا فَإِنَّهُمَا إنَّمَا تَوَاضَعَا لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ صَوْنًا لِلْمَالِ عَنْ يَدِ الْمُتَغَلِّبِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ الصِّحَّةُ، وَاللُّزُومُ، وَالْمُعَارِضُ بِأَنَّ الْمُوَاضَعَةَ سَابِقَةٌ، وَالسَّبْقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَقْدَ مُتَأَخِّرٌ، وَالْمُتَأَخِّرُ يَصْلُحُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَا يُغَيِّرُهُ كَمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ، وَهَاهُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمُغَيِّرُ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَدَّعِي عَدَمَ الْمُضِيِّ فَالْعَقْدُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَهُ الْجِدُّ، وَاللُّزُومُ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ مُعَارِضٍ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ. (قَوْلُهُ: فَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْحُضُورِ كَالْإِعْرَاضِ) عَمَلًا بِالْعَقْدِ، فَيَصِحُّ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَعَلَى أَصْلِهِمَا عَدَمُ الْحُضُورِ كَالْبِنَاءِ تَرْجِيحًا لِلْمُوَاضَعَةِ بِالْعَادَةِ، وَالسَّبْقِ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ، وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ صُورَةِ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنْ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ فَإِنَّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الْإِعْرَاضِ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ، وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ انْحِصَارَ الْأَقْسَامِ فِي السِّتَّةِ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِ الِاتِّفَاقِ، وَالِاخْتِلَافِ فِي نَفْسِ الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ، وَالذُّهُولِ أَيْ: عَدَمِ الْحُضُورِ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِهِمَا فِي ادِّعَاءِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى مَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَالْأَقْسَامُ ثَمَانِيَةٌ، وَسَبْعُونَ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إمَّا أَنْ يَتَّفِقَا أَوْ يَخْتَلِفَا فَإِنْ اتَّفَقَا فَالِاتِّفَاقُ إمَّا عَلَى إعْرَاضِهِمَا، وَإِمَّا عَلَى بِنَائِهِمَا، وَإِمَّا عَلَى ذُهُولِهِمَا، وَإِمَّا عَلَى بِنَاءِ أَحَدِهِمَا، وَإِعْرَاضِ الْآخَرِ

يَجْعَلُ قَبُولَ أَحَدِهِمَا الْأَلْفَيْنِ شَرْطًا لِوُقُوعِ الْبَيْعِ بِالْآخَرِ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَقَدْ جَدَّا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ مِنْ الْوَصْفِ) . أَيْ: أَصْلُ الْعَقْدِ أَوْلَى بِالتَّرْجِيحِ مِنْ الْوَصْفِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ أَصْلِ الْعَقْدِ يُوجِبُ الصِّحَّةَ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ جَدَّا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَإِنَّمَا الْهَزْلُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوَصْفِ فَإِنْ اُعْتُبِرَ الْمُوَاضَعَةُ وَالْهَزْلُ فِي الْوَصْفِ حَتَّى يَصِحَّ الْعَقْدُ بِالْأَلْفِ يَلْزَمُ فَسَادُ الْعَقْدِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمَتْنِ (وَأَمَّا أَنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ جِنْسٌ آخَرُ فَالْعَمَلُ بِالْعَقْدِ اتِّفَاقًا وَالْفَرْقُ لَهُمَا بَيْنَ هَذَا وَالْمُوَاضَعَةِ فِي الْقَدْرِ أَنَّ الْعَمَلَ بِهَا مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ مُمْكِنٌ ثَمَّةَ لَا هُنَا، وَالْهَزْلُ بِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ ثَمَّةَ شَرْطٌ لَا طَالِبَ لَهُ فَلَا يَفْسُدُ) وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا جَوَابًا عَمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ يَجْعَلُ قَبُولَ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ شَرْطًا لِوُقُوعِ الْبَيْعِ بِالْآخَرِ، وَإِنَّمَا قَالَ إنَّهُ لَا طَالِبَ لَهُ لِاتِّفَاقِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَوْ ذُهُولِهِ، وَإِمَّا عَلَى إعْرَاضِ أَحَدِهِمَا، وَذُهُولِ الْآخَرِ فَصُوَرُ الِاتِّفَاقِ سِتٌّ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَدَعْوَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَكُونُ إمَّا إعْرَاضُهُمَا، وَإِمَّا بِنَاؤُهُمَا، وَإِمَّا ذُهُولُهُمَا، وَإِمَّا بِنَاؤُهُ مَعَ إعْرَاضِ الْآخَرِ أَوْ ذُهُولُهُ، وَإِمَّا إعْرَاضُهُ مَعَ بِنَاءِ الْآخَرِ أَوْ ذُهُولِهِ، وَإِمَّا ذُهُولُهُ مَعَ بِنَاءِ الْآخَرِ أَوْ إعْرَاضُهُ يَصِيرُ تِسْعَةً، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ مِنْ التَّقَادِيرِ التِّسْعَةِ يَكُونُ اخْتِلَافُ الْخَصْمِ بِأَنْ يَدَّعِيَ إحْدَى الصُّوَرِ الثَّمَانِيَةِ الْبَاقِيَةِ فَتَصِيرَ أَقْسَامُ الِاخْتِلَافِ اثْنَيْنِ، وَسَبْعِينَ حَاصِلَةً مِنْ ضَرْبِ التِّسْعَةِ فِي الثَّمَانِيَةِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ تَمَسُّكَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَقْدِ الصِّحَّةُ، وَتَمَسُّكَهُمَا بِأَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِتَحْقِيقِ الْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي دَعْوَى الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ مَثَلًا، وَأَمَّا إذَا اتَّفَقَا عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ بِأَنْ يُقِرَّ كِلَاهُمَا بِإِعْرَاضِ أَحَدِهِمَا، وَبِنَاءِ الْآخَرِ فَلَا قَائِلَ بِالصِّحَّةِ، وَاللُّزُومِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ. (قَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبِنَاءِ هُنَا، وَثَمَّةَ) يَعْنِي: إذَا وَقَعَتْ الْمُوَاضَعَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَبَنَيَا عَلَيْهَا، فَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَعْتَبِرُ الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ، وَيَحْكُمُ بِلُزُومِ الْأَلْفَيْنِ لَا الْأَلْفِ الْمُتَوَاضَعِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ يَعْتَبِرُ الْبِنَاءَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَيَحْكُمُ بِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَثُبُوتِ الْخِيَارِ، فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْبِنَاءِ هُنَا أَيْ: فِي صُورَةِ الْمُوَاضَعَةِ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ، وَالْبِنَاءُ ثَمَّةَ أَيْ: فِي صُورَةِ الْمُوَاضَعَةِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُوجَدْ مَا يُعَارِضُهَا، وَيُدَافِعُهَا، وَهَاهُنَا قَدْ وُجِدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَوْ اُعْتُبِرَتْ يَلْزَمُ فَسَادُ الْعَقْدِ لِتَوَقُّفِ انْعِقَادِهِ عَلَى شَرْطٍ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ، وَفِيهِ نَفْعٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ قَبُولُ الْعَقْدِ فِيمَا لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ كَأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ بِأَلْفَيْنِ، وَالْمُوَاضَعَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفًا، وَلَوْ قُلْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ يَلْزَمُ تَرْجِيحُ الْوَصْفِ عَلَى الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَدْ جَدَّا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَيَلْزَمُ صِحَّتُهُ، وَإِنَّمَا هَزَلَا فِي الثَّمَنِ الَّذِي هُوَ، وَصْفٌ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً لَا مَقْصُودًا فَلَوْ

الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفٌ لَا أَلْفَانِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلشَّرْطِ طَالِبٌ لَا يَفْسُدُ كَمَا إذَا اشْتَرَى حِمَارًا عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُ حَمْلًا خَفِيفًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ الطَّالِبِ لَكِنَّ الْجَوَابَ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الشَّرْطَ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقَعَ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَهُوَ الطَّالِبُ لَكِنْ لَا يُطَالَبُ هُنَا لِلْمُوَاضَعَةِ وَعَدَمُ الطَّلَبِ بِوَاسِطَةِ الرِّضَا لَا يُفِيدُ الصِّحَّةَ كَالرِّضَى بِالرِّبَا ثُمَّ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ وَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ النَّقْضَ قَوْلُهُ: (وَإِمَّا أَنْ لَا يَحْتَمِلَ النَّقْضَ فَمِنْهُ مَا لَا مَالَ فِيهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينِ، وَالنَّذْرِ وَكُلُّهُ صَحِيحٌ، وَالْهَزْلُ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ ـــــــــــــــــــــــــــــQاعْتَبَرْنَاهُ، وَحَكَمْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ لَزِمَ إهْدَارُ الْأَصْلِ لِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ، وَلُزُومِ الْأَلْفَيْنِ اعْتِبَارًا لِلتَّسْمِيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمُوَاضَعَةِ فِي الثَّمَنِ، وَتَصْحِيحَ أَصْلِ الْعَقْدِ مُتَنَافِيَانِ، وَقَدْ ثَبَتَ الثَّانِي تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ، فَيَنْتَفِي الْأَوَّلُ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمَّا يُقَالُ: إنَّهُمَا قَصَدَا بِذِكْرِ الْأَلْفِ الْآخَرِ السُّمْعَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْتَاجَ إلَى اعْتِبَارِهِ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ فَكَانَ ذِكْرُهُ، وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءً كَمَا فِي النِّكَاحِ. (قَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ لَهُمَا) يَعْنِي: إذَا وَقَعَتْ الْمُوَاضَعَةُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ بِأَنْ بَاعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَدْ تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ، وَاللَّازِمُ مِائَةُ دِينَارٍ، وَسَوَاءٌ بَنَيَا عَلَى الْمُوَاضَعَةِ أَوْ عَرَضَا أَوْ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَدْ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمُوَاضَعَةِ تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ، وَتَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ بِمَا سَمَّيَا مِنْ الْبَدَلِ ضَرُورَةَ افْتِقَارِهِ إلَى تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ احْتَجَّا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُوَاضَعَةِ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ، وَالْمُوَاضَعَةِ فِي قَدْرِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُوَاضَعَةِ مَعَ صِحَّةِ الْبَيْعِ مُمْكِنٌ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُمْكِنٌ فِي صُورَةِ الْبِنَاءِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ الْمُوَاضَعَةُ كَانَ الْبَدَلُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَهُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْعَقْدِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْعَقْدِ يَكُونُ مِائَةَ دِينَارٍ، وَهِيَ غَيْرُ الْبَدَلِ بِخِلَافِ الْمُوَاضَعَةِ فِي الْقَدْرِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ مَعَ اعْتِبَارِهَا بِأَنْ يَنْعَقِدَ بِالْأَلْفِ الْمَوْجُودِ فِي الْأَلْفَيْنِ. (قَوْلُهُ: وَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ النَّقْضَ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ النَّقْضَ، وَفِي الْكَلَامِ خَلَلٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَمَّا الْإِنْشَاءَاتُ فَإِمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ النَّقْضَ أَوْ لَا فَذَكَرَ الْمَعْطُوفَ، وَالْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ جَمِيعًا، ثُمَّ قَالَ فَمَا يَحْتَمِلُهُ كَالْبَيْعِ فَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ هَا هُنَا، وَمَا لَا يَحْتَمِلُهُ أَيْ: النَّقْضُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْفَسْخُ، وَالْإِقَالَةُ فَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَالٌ بِأَنْ يَثْبُتَ بِدُونِ شَرْطٍ، وَذِكْرٍ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ تَبَعًا أَوْ مَقْصُودًا. (قَوْلُهُ: وَكُلُّهُ صَحِيحٌ) اسْتَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ الْكُلِّ، وَبُطْلَانِ الْهَزْلِ بِالْحَدِيثِ، وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْحَدِيثُ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ صِحَّةِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَقَطْ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِإِثْبَاتِ صِحَّتِهَا

- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ وَالْيَمِينُ» وَلِأَنَّ الْهَازِلَ رَاضٍ بِالسَّبَبِ لَا الْحُكْمِ وَحُكْمُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَحْتَمِلُ التَّرَاخِي وَالرَّدَّ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ خِيَارَ الشَّرْطِ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ الْمَالُ فِيهِ تَبَعًا كَالنِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ الْهَزْلُ فِي الْأَصْلِ فَالْعَقْدُ لَازِمٌ أَوْ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ فَالْمَهْرُ أَلْفَانِ أَوْ عَلَى الْبِنَاءِ، فَأَلْفٌ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَيْنَ هَذَا، وَبَيْنَ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ) لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ (وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا فَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْمَهْرُ أَلْفٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَقْصُودٌ بِالْإِيجَابِ فَتَرَجَّحَ بِهِ) أَيْ: بِالثَّمَنِ، فَيَتَرَجَّحُ الثَّمَنُ بِالْإِيجَابِ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَلْفَانِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ وَفِي جِنْسِ الْبَدَلِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِعْرَاضِ فَالْمُسَمَّى، وَعَلَى الْبِنَاءِ فَمَهْرُ الْمِثْلِ إجْمَاعًا وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا ـــــــــــــــــــــــــــــQعِبَارَةً، وَصِحَّةُ غَيْرِهَا دَلَالَةً، وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَيُفِيدُ صِحَّةَ الْكُلِّ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْهَزْلَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ، وَعِنْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ يُوجِدُ حُكْمُهُ ضَرُورَةَ عَدَمِ التَّرَاخِي، وَالرَّدُّ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَاعْتُرِضَ بِالطَّلَاقِ الْمُضَافِ مِثْلُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَسْبَابِ الْعِلَلُ، وَالطَّلَاقُ الْمُضَافُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ بَلْ سَبَبٌ مُفْضٍ، وَإِلَّا لَاسْتَنَدَ إلَى وَقْتِ الْإِيجَابِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ. (قَوْلُهُ: وَفِي قَدْرِ الْبَدَلِ) يَعْنِي: إذَا وَقَعَتْ الْمُوَاضَعَةُ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ بِأَنْ يُذْكَرَ فِي الْعَقْدِ أَلْفَانٍ، وَيَكُونُ الْمَهْرُ أَلْفًا فَإِنْ اتَّفَقَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُوَاضَعَةِ فَاللَّازِمُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ أَعْنِي: الْأَلْفَيْنِ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى بِنَاءِ النِّكَاحِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ فَاللَّازِمُ أَلْفٌ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ، وَالْبَيْعِ حَيْثُ يَعْتَبِرُ فِي النِّكَاحِ الْمُوَاضَعَةَ دُونَ التَّسْمِيَةِ، وَفِي الْبَيْعِ بِالْعَكْسِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ وَصْفًا، وَتَبَعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِإِيجَابٍ لِكَوْنِهِ أَحَدَ رُكْنَيْ الْبَيْعِ، وَلِهَذَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِفَسَادِهِ أَوْ جَهَالَتِهِ، وَبِدُونِ ذِكْرِهِ، فَيَتَرَجَّحُ الْبَيْعُ بِالثَّمَنِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ تَصْحِيحُ الْبَيْعِ لِتَصْحِيحِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ الْبَدَلِ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ لَا مَقْصُودًا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ ثُبُوتُ الْحِلِّ فِي الْجَانِبَيْنِ لِلتَّوَالُدِ، وَالتَّنَاسُلِ. (قَوْلُهُ: وَعَلَى الْبِنَاءِ) يَعْنِي: أَنَّ وَقْتَ الْمُوَاضَعَةِ فِي جِنْسِ الْبَدَلِ بِأَنْ يَذْكُرَا فِي الْعَقْدِ مِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ فَاللَّازِمُ مَهْرُ الْمِثْلِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّزَوُّجِ بِدُونِ الْمَهْرِ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى ثُبُوتِ الْمُسَمَّى؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَثْبُتُ بِالْهَزْلِ، وَلَا إلَى ثُبُوتِ الْمُتَوَاضَعِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْمُوَاضَعَةِ فِي الْقَدْرِ فَإِنَّ الْمُتَوَاضَعَ عَلَيْهِ قَدْ يُسَمَّى فِي الْعَقْدِ مَعَ الزِّيَادَةِ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ فِيهِ ضَرُورَةً إلَى اعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ

أَوْ اخْتَلَفَا فَفِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَهْرُ الْمِثْلِ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بُطْلَانُ الْمُسَمَّى عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَعَدَمِ الْحُضُورِ فِي الْمُوَاضَعَةِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ عَلَى مَا ذَكَرَ، وَكَذَا فِي الْمُوَاضَعَةِ فِي جِنْسٍ فِي الْمَهْرِ لَكِنَّ الْمُوَاضَعَةَ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ الْعَمَلُ بِالْمُوَاضَعَةِ مُمْكِنٌ؛ لِأَنَّ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَلْفُ دَاخِلٌ فِي الْمُسَمَّى وَهُوَ الْأَلْفَانِ أَمَّا فِي الْمُوَاضَعَةِ فِي الْجِنْسِ فَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَمَّا بَطَلَ الْمُسَمَّى وَجَبَ مَهْرُ الْمِثْلِ (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمُسَمَّى وَعِنْدَهُمَا مَهْرُ الْمِثْلِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا كَالْخُلْعِ وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ عَمْدٍ سَوَاءٌ هَزَلَا فِي الْأَصْلِ أَوْ الْقَدْرِ أَوْ الْجِنْسِ فَفِي الْإِعْرَاضِ يَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَالْمَالُ ـــــــــــــــــــــــــــــQلِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ، وَالنِّكَاحُ يَصِحُّ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى أَنْ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ أَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ فَاللَّازِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بُطْلَانُ الْمُسَمَّى عَمَلًا بِالْهَزْلِ لِئَلَّا يَصِيرَ الْمَهْرُ مَقْصُودًا بِالصِّحَّةِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ، وَلَمَّا بَطَلَ الْمُسَمَّى لَزِمَ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ الْمُسَمَّى قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ وَعِنْدَهُمَا اللَّازِمُ مَهْرُ الْمِثْلِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا مِنْ تَرْجِيحِ الْمُوَاضَعَةِ بِالسَّبْقِ وَالْعَادَةِ فَلَا يَثْبُتُ الْمُسَمَّى لِرُجْحَانِ الْمُوَاضَعَةِ، وَعَدَمِ ثُبُوتِ الْمَالِ بِالْهَزْلِ، وَلَا الْمُتَوَاضَعِ عَلَيْهِ لِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ، فَيَلْزَمُ مَهْرُ الْمِثْلِ. (قَوْلُهُ: وَمِنْهُ) أَيْ: مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ مَا يَكُونُ الْمَالُ فِيهِ مَقْصُودًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِدُونِ الذِّكْرِ كَمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى أَلْفَيْنِ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ أَلْفٌ أَوْ طَلَّقَهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ مَعَ الْمُوَاضَعَةِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَكَذَا فِي الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ، وَالصُّلْحِ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ فَفِي صُورَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ عَلَى أَنَّ لَمْ يَحْضُرْهُمَا شَيْءٌ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الْإِعْرَاضِ، وَالْبِنَاءِ يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَجِبُ الْمَالُ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِتَرْجِيحِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْهَزْلَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْمَرْأَةِ شَرْطٌ لِلْيَمِينِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْخِيَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ، وَذَلِكَ كَمَا إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّكِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَالَتْ: قَبِلْت فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْزَمُ الْمَالُ، وَعِنْدَهُ إنْ رَدَّتْ الطَّلَاقَ فِي الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ بَطَلَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ أَجَازَتْ أَوْ لَمْ تَرُدَّ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْأَلْفُ لَازِمٌ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ حَتَّى تَشَاءَ الْمَرْأَةُ فَمَسْأَلَةُ الْهَزْلِ فِي الْخُلْعِ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ، وَأَمَّا فِي صُورَةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْبِنَاءِ فَعِنْدَهُمَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْزَمُ الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرُ لِلْهَزْلِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قُلْت

وَكَذَا فِي الِاخْتِلَافِ وَعَدَمِ الْحُضُورِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِتَرْجِيحِ الْإِيجَابِ) أَيْ: تَرْجِيحِ الْعَقْدِ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ (وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِعَدَمِ تَأْثِيرِ الْخِيَارِ) فَإِنَّهُ إذَا شُرِطَ فِي الْخُلْعِ الْخِيَارُ لَهَا فَعِنْدَهُمَا الطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ وَاجِبٌ وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ حَتَّى تَشَاءَ الْمَرْأَةُ فَكَذَا فِي مَسْأَلَتِنَا عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ (وَكَذَا فِي الْبِنَاءِ عِنْدَهُمَا عَلَى أَنَّ الْمَالَ يَلْزَمُ تَبَعًا) اعْلَمْ أَنَّ الْمَالَ فِي الْخُلْعِ، وَالْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ عَمْدٍ يَجِبُ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الطَّلَاقُ، وَالْعِتْقُ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ وَالْهَزْلُ لَا يُؤَثِّرُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ، فَيَثْبُتُ ثُمَّ يَجِبُ الْمَالُ ضِمْنًا لَا قَصْدًا فَلَا يُؤَثِّرُ الْهَزْلُ فِي وُجُوبِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْهَزْلُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي التَّصَرُّفِ كَالطَّلَاقِ، وَنَحْوِهِ إلَّا أَنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْمَالِ حَتَّى لَمْ يَثْبُتْ بِالْهَزْلِ أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا يَجِبُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فِي ضِمْنِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فِيهِ، وَالشُّرُوطُ اتِّبَاعٌ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا، وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا، وَالتَّبَعِيَّةُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَا تُنَافِي كَوْنَهُ مَقْصُودًا بِالنَّظَرِ إلَى الْعَاقِدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالذِّكْرِ، فَإِنْ قُلْت الْمَالُ فِي النِّكَاحِ أَيْضًا تَبَعٌ، وَقَدْ أَثَّرَ الْهَزْلُ فِيهِ. قُلْت تَبَعِيَّتُهُ فِي النِّكَاحِ لَيْسَتْ فِي حَقِّ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ بَلْ بِمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحِلُّ، وَالتَّنَاسُلُ لَا الْمَالُ، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْأَصَالَةَ بِمَعْنَى الثُّبُوتِ بِدُونِ الذِّكْرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَى مَشِيئَةِ الْمَرْأَةِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَالْعَمَلِ بِالْمُوَاضَعَةِ أَنْ يَتَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِجَمِيعِ الْبَدَلِ، وَلَا يَقَعُ فِي الْحَالِ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى اخْتِيَارِهَا. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ) أَيْ: طَلَبُ الشُّفْعَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبَ مُوَاثَبَةٍ، بِأَنْ يَطْلُبَهَا كَمَا عَلِمَهَا حَتَّى تَبْطُلَ بِالتَّأْخِيرِ أَوْ طَلَبَ تَقْرِيرٍ بِأَنْ يَنْتَهِضَ بَعْدَ الطَّلَبِ، وَيُشْهِدَ، وَيَقُولَ: إنِّي طَلَبْت الشُّفْعَةَ، وَأَطْلُبُهَا الْآنَ أَوْ طَلَبَ خُصُومَةٍ بِأَنْ يَقُومَ بِالْأَخْذِ، وَالتَّمَلُّكِ فَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ قَبْلَ الْمُوَاثَبَةِ يُبْطِلُ الشُّفْعَةَ بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ، وَبَعْدَهُ يُبْطِلُ التَّسْلِيمَ فَتَكُونُ الشُّفْعَةُ بَاقِيَةً؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ جِنْسِ مَا يَبْطُلُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ لِكَوْنِهِ اسْتِبْقَاءَ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْمِلْكِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا بِالْحُكْمِ وَكُلٌّ مِنْ الْخِيَارِ وَالْهَزْلِ يَمْنَعُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ، فَيَبْطُلُ بِهِ التَّسْلِيمُ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا الْإِبْرَاءُ) أَيْ: إبْرَاءُ الْغَرِيمِ أَوْ الْكَفِيلِ يَبْطُلُ بِالْهَزْلِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّمَلُّكِ، وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْإِخْبَارَاتُ فَيُبْطِلُهَا الْهَزْلُ) سَوَاءٌ كَانَتْ إخْبَارًا عَمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ، وَالنِّكَاحِ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهُ كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ إخْبَارًا شَرْعًا وَلُغَةً كَمَا إذَا تَوَاضَعَا عَلَى أَنْ يُقِرَّا بِأَنَّ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا أَوْ بِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا فِي هَذَا الشَّيْءِ بِكَذَا أَوْ لُغَةً فَقَطْ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِأَنَّ لِزَيْدٍ عَلَيْهِ كَذَا، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ أَيْ: تَحَقَّقَ الْحُكْمُ الَّذِي صَارَ الْخَبَرُ عِبَارَةً عَنْهُ، وَإِعْلَامًا بِثُبُوتِهِ أَوْ نَفْيِهِ، وَالْهَزْلُ يُنَافِي ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ فَكَمَا أَنَّهُ

[السفه]

الْمَالِ (وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ عَلَى مَشِيئَتِهَا وَأَمَّا تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ فَقَبْلَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ يَكُونُ كَالسُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْهَزْلِ عَنْ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فَقَدْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ فَتُطْلَبُ الشُّفْعَةُ، وَبَعْدَهُ التَّسْلِيمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَبْطُلُ بِالْخِيَارِ) حَتَّى لَوْ قَالَ: سَلَّمْت الشُّفْعَةَ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يَبْطُلُ التَّسْلِيمُ وَيَكُونُ طَلَبُ الشُّفْعَةِ بَاقِيًا (وَكَذَا الْإِبْرَاءُ) أَيْ: يَبْطُلُ إبْرَاءُ الْغَرِيمِ هَازِلًا كَمَا يَبْطُلُ الْإِبْرَاءُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ (وَأَمَّا الْإِخْبَارَاتُ فَالْهَزْلُ يُبْطِلُهَا سَوَاءٌ كَانَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ صِحَّةَ الْمُخْبَرِ بِهِ، أَلَا يُرَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُكْرَهًا بَاطِلٌ فَكَذَا هَازِلًا، وَأَمَّا الِاعْتِقَادَاتُ فَالْهَزْلُ بِالرِّدَّةِ كُفْرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْفَافٌ، فَيَكُونُ مُرْتَدًّا بِعَيْنِ الْهَزْلِ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ) أَيْ: لَيْسَ كُفْرُهُ بِسَبَبِ مَا هَزَلَ بِهِ وَهُوَ اعْتِقَادُ مَعْنَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا هَازِلًا، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ مَعْنَاهَا بَلْ كُفْرُهُ بِعَيْنِ الْهَزْلِ فَإِنَّهُ اسْتِخْفَافٌ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ مُكْرَهًا كَذَلِكَ يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِهِمَا هَازِلًا؛ لِأَنَّ الْهَزْلَ دَلِيلُ الْكَذِبِ كَالْإِكْرَاهِ حَتَّى لَوْ أَجَازَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ شَيْئًا مُنْعَقِدًا يَحْتَمِلُ الصِّحَّةَ، وَالْبُطْلَانُ بِالْإِجَازَةِ لَا يُصَيِّرُ الْكَذِبَ صِدْقًا، وَهَذَا بِخِلَافِ إنْشَاءِ الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ فِيهِ لِلْهَزْلِ عَلَى مَا سَبَقَ. (قَوْلُهُ: فَيَكُونُ) أَيْ: الْهَازِلُ بِالرِّدَّةِ مُرْتَدًّا بِنَفْسِ الْهَزْلِ لَا بِمَا هَزَلَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ، وَهُوَ مِنْ أَمَارَاتِ تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى حِكَايَةِ {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65] الْآيَةَ، وَفِي هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ إنَّ الِارْتِدَادَ إنَّمَا يَكُونُ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ، وَالْهَزْلُ يُنَافِيهِ لِعَدَمِ الرِّضَا بِالْحُكْمِ. (قَوْلُهُ: تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِيمَانِ) يَعْنِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالِاعْتِقَادُ [السَّفَهُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا) أَيْ: مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ السَّفَهُ فَإِنَّ السَّفِيهَ بِاخْتِيَارِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ مَعَ بَقَاءِ الْعَقْلِ فَلَا يَكُونُ سَمَاوِيًّا، وَعَلَى ظَاهِرِ تَفْسِيرِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَكُونُ كُلُّ فَاسِقٍ سَفِيهًا؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْلِ أَنْ لَا يُخَالِفَ الشَّرْعَ لِلْأَدِلَّةِ الْقَائِمَةِ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِهِ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالْخِفَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ تَنْبِيهًا عَلَى الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَاللُّغَوِيِّ فَإِنَّ السَّفَهَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْخِفَّةُ، وَالْحَرَكَةُ، وَمِنْهُ زِمَامٌ سَفِيهٌ، وَتَخْصِيصًا لَهُ بِمَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّفَهِ الَّذِي يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَنْعُ الْمَالِ، وَوُجُوبُ الْحَجْرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ التَّبْذِيرَ أَصْلُهُ مَشْرُوعٌ) التَّبْذِيرُ هُوَ تَفْرِيقُ الْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْإِسْرَافِ أَيْ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَالْمُرَادُ بِأَصْلِ التَّبْذِيرِ نَفْسُ تَفْرِيقِ الْمَالِ. (قَوْلُهُ: وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَالِهِ) يَعْنِي: إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ سَفِيهًا يُمْنَعُ عَنْهُ مَالُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] أَيْ: لَا تُؤْتُوا الْمُبَذِّرِينَ أَمْوَالَهُمْ الَّذِينَ يُنْفِقُونَهَا فِيمَا لَا يَنْبَغِي، وَإِضَافَةُ الْأَمْوَالِ إلَى الْأَوْلِيَاءِ عَلَى

بِالدِّينِ، وَهُوَ كُفْرٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65] {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 66] (وَأَمَّا الْإِسْلَامُ هَازِلًا، فَيَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ لَا يَحْتَمِلُ حُكْمُهُ الرَّدَّ، وَالتَّرَاخِيَ) تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْإِيمَانِ كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ. (وَمِنْهَا السَّفَهُ) وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَبْعَثُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْلِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ مِنْ وَجْهٍ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، وَخِلَافُ دَلَالَةِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ أَصْلُهُ مَشْرُوعٌ وَهُوَ الْبِرُّ، وَالْإِحْسَانُ إلَّا أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ السَّفَهِ وَالْعَتَهِ فَإِنَّ الْمَعْتُوهَ يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ، وَأَقْوَالِهِ بِخِلَافِ السَّفِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُشَابِهُ الْمَجْنُونَ لَكِنْ تَعْتَرِيهِ خِفَّةٌ إمَّا فَرَحًا، وَإِمَّا غَضَبًا فَيُتَابِعُ مُقْتَضَاهَا فِي الْأُمُورِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَرَوِيَّةٍ فِي عَوَاقِبِهَا لِيَقِفَ عَلَى أَنَّ عَوَاقِبَهَا مَحْمُودَةٌ أَوْ وَخِيمَةٌ أَيْ: مَذْمُومَةٌ (وَهُوَ لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ، وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَحْكَامِ وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ مَالِهِ عَنْهُ فِي أَوَّلِ الْبُلُوغِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ثُمَّ عَلَّقَ الْإِيتَاءَ بِإِينَاسِ رُشْدٍ مُنْكَرٍ لَا يَنْفَكُّ سِنُّ الْجِدِّيَّةِ عَنْ مِثْلِهِ إلَّا نَادِرًا، فَيَسْقُطُ حِينَئِذٍ الْمَنْعُ) وَهِيَ خَمْسٌ، وَعِشْرُونَ سَنَةً؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْبُلُوغِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ نِصْفُ سَنَةٍ، فَيَكُونُ أَقَلُّ سِنٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَصِيرَ الْمَرْءُ فِيهِ جَدًّا ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعْنَى أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَا يُقِيمُ بِهِ النَّاسُ مَعَايِشَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ؛ وَلِأَنَّهُمْ الْمُتَصَرِّفُونَ فِيهَا الْقَوَّامُونَ عَلَيْهَا، ثُمَّ عَلَّقَ إيتَاءَ الْأَمْوَالِ إيَّاهُمْ بِإِينَاسِ رُشْدٍ، وَصَلَاحٍ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّنْكِيرِ الْمُفِيدِ لِلتَّقْلِيلِ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] أَيْ: إنْ عَرَفْتُمْ، وَرَأَيْتُمْ فِيهِمْ صَلَاحًا فِي الْعَقْلِ، وَحِفْظًا لِلْمَالِ {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، فَأَقَامَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - السَّبَبَ الظَّاهِرَ لِلرُّشْدِ، وَهُوَ أَنْ يَبْلُغَ سِنَّ الْجُدُودَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الرُّشْدِ إلَّا نَادِرًا مَقَامَ الرُّشْدِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي الشَّرْعِ مِنْ تَعَلُّقِ الْأَحْكَامِ بِالْغَالِبِ فَقَالَ يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ بَعْدَ خَمْسٍ، وَعِشْرِينَ سَنَةً أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ أَوْ لَمْ يُؤْنَسْ، وَهُمَا تَمَسَّكَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَقَالَا لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ الْمَالُ مَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِ مَالِ مَنْ بَلَغَ سَفِيهًا اخْتَلَفُوا فِي حَجْرِ مَنْ صَارَ سَفِيهًا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَجَوَّزَهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَمَسُّكًا بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ، هَذَا الْحَجْرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ دُونَ الْعُقُوبَةِ وَالزَّجْرِ وَالسَّفِيهُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّظَرَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فَاسِقٌ لَكِنْ يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ مِنْ جِهَةِ دِينِهِ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، وَلِهَذَا جَازَ عَفْوُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ، وَحَسُنَ عَفْوُ الْوَلِيِّ، وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْقِصَاصِ، وَالْجِنَايَاتِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُسْلِمَ حَالَ السَّفَهِ يَفْتَقِرُ إلَى النَّظَرِ لَهُ فَيُحْجَرُ. الثَّانِي، الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا مُنِعَ عَنْهُ لِيَبْقَى مِلْكُهُ، وَلَا يَزُولُ بِالْإِتْلَافِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَنْعِ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ، وَإِلَّا لَأُبْطِلَ مِلْكُهُ بِإِتْلَافِهِ بِالتَّصَرُّفَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى فِي الْحِفْظِ إلَّا

خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً (وَاخْتَلَفُوا فِي السَّفِيهِ فَعِنْدَهُمَا يُحْجَرُ) : الْحَجْرُ هُوَ مَنْعُ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ الْقَوْلِيَّةِ (لِأَنَّ النَّظَرَ وَاجِبٌ حَقًّا لَهُ لِدِينِهِ فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ، وَإِنْ أَصَرَّ عَلَيْهَا) كَالْقَتْلِ عَمْدًا فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ فِيهِ حَسَنٌ فَغَايَةُ فِعْلِ السَّفِيهِ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ وَمُرْتَكِبُ الْكَبِيرَةِ إذَا كَانَ مُؤْمِنًا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ إلَيْهِ (وَقِيَاسًا) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ حَقًّا لَهُ (عَلَى مَنْعِ الْمَالِ وَأَيْضًا صِحَّةُ الْعِبَارَةِ لِأَجْلِ النَّفْعِ فَإِذَا صَارَتْ ضَرَرًا يَجِبُ دَفْعُهَا، وَأَيْضًا حَقًّا لِلْمُسْلِمِينَ) فَإِنَّ السُّفَهَاءَ إذَا لَمْ يُحْجَرُوا أَسْرَفُوا فَتُرَكَّبُ عَلَيْهِمْ الدُّيُونُ فَتَضِيعُ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ فِي ذِمَّتِهِمْ: مِثْلُ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ وَلَا فَلْسَ لَهُ فَيُعْتِقُهَا فِي الْحَالِ كَمَا فَعَلَهُ وَاحِدٌ مِنْ ظُرَفَاءِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي بُخَارَى، وَقِصَّتُهُ أَنَّهُ دَخَلَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي سُوقِ النَّخَّاسِينَ فَعَشِقَ جَارِيَةً بَلَغَتْ فِي الْحُسْنِ غَايَتَهُ، فَعَجَزَ عَنْ مُكَابَدَةِ شَدَائِدِ هَجْرِهَا، وَكَانَ فِي الْفَقْرِ وَالْمَتْرَبَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَمْلِكْ قُوتَ يَوْمِهِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ مَالًا يَجْعَلُهُ ذَرِيعَةً إلَى مُوَاصَلَتِهَا فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْكُلْفَةُ، وَالْمُؤْنَةُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إنَّمَا صَحَّحَ عِبَارَاتِ الْعَاقِلِ، وَجَوَّزَ تَصَرُّفَاتِهِ لِيَكُونَ نَفْعًا لَهُ بِتَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيْهِ كَانَ نَفْعُهُ فِي الْحَجْرِ، فَيَجِبُ. الرَّابِعُ أَنَّ فِي الْحَجْرِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ السَّفِيهَ بِإِتْلَافِهِ، وَإِسْرَافِهِ يَصِيرُ مَطِيَّةً لِدُيُونِ النَّاسِ، وَمَظِنَّةً لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَيَصِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَالًا، وَعَلَى بَيْتِ مَالِهِمْ عِيَالًا كَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ، وَإِنْ كَانَ حَذَاقَةً، وَاحْتِيَالًا فِي الْوُصُولِ إلَى الْمَقْصُودِ لَكِنَّهُ سَفَهٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ فَلْسًا قَدْ أَعْتَقَ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِينَارٍ. (قَوْلُهُ: دَخَلَ فِي سُوقِ النَّخَّاسِينَ) لَفْظَةُ فِي زَائِدَةٌ، وَالْمُكَابَدَةُ الْمُقَاسَاةُ، وَالتَّلْبِيسُ التَّخْلِيطُ، وَإِخْفَاءُ الْأَمْرِ عَلَى الْغَيْرِ، وَالتَّطْرِيقُ أَنْ يَمْشِيَ أَمَامَ الرَّجُلِ، وَيُقَالُ: طَرَقُوا، وَذَلِكَ عَادَةُ الْكِبَارِ، وَالنُّمْرُقَةُ وِسَادَةٌ صَغِيرَةٌ، وَالْعُثْنُونُ شُعَيْرَاتٌ طِوَالٌ تَحْتَ حَنَكِ الْبَعِيرِ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ اللِّحْيَةِ، وَفِي قَوْلِهِ عَرَفَ فُنُونَهُ إيهَامٌ أَيْ: فُنُونَ الْحِيَلِ، وَالتَّزْوِيرِ أَوْ الْعُلُومِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْفِقْهُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ هَذَا الْحُكْمُ، وَكَذَا فِي قَوْلِهِ: يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ يَحْتَمِلُ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلَى الْبَائِعِ، وَالْمُشْتَرِي، وَلَمَّا كَانَ هَاهُنَا مَظِنَّةُ الِاعْتِرَاضِ بِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَجْرِ الْإِنْسَانِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِنَاءً عَلَى ضَرَرِ غَيْرِهِ أَجَابَ بِأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كَمَا فِي اسْتِحْدَاثِ الطَّاحُونِ لِلْأُجْرَةِ، وَنَصْبِ الْمِنْوَالِ لِاسْتِخْرَاجِ الْإِبْرَيْسَمِ مِنْ الْفَلِيقِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ لِلْجِيرَانِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ فَلَهُمْ الْمَنْعُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْحَجْرِ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْعَامَّةِ فَإِنَّهُ مَشْرُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ كَحَجْرِ الْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ حَجْرُ السَّفِيهِ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ إذْ الْخِطَابُ بِالْأَهْلِيَّةِ، وَهِيَ بِالتَّمْيِيزِ، وَالسَّفَهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِيهِ بَلْ

خِلَّانِهِ ثِيَابًا نَفِيسَةً، وَبَغْلَةً لَا يَرْكَبُهَا إلَّا أَعَاظِمُ الْمُلُوكِ فَلَبِسَ لِبَاسَ التَّلْبِيسِ وَرَكِبَ الْبَغْلَةَ، وَشُرَكَاءُ دَرْسِهِ يَمْشُونَ فِي رِكَابِهِ مُطْرِقِينَ حَتَّى دَخَلَ السُّوقَ فَظَنَّ التُّجَّارُ أَنَّهُ حَاكِمُ بُخَارَى الْمُلَقَّبُ بِصَدْرِ جهان فَجَلَسَ عَلَى نُمْرُقَةٍ، وَدَعَا صَاحِبَ الْجَارِيَةِ، وَسَاوَمَهَا فَاشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فِي الْمَجْلِسِ بِحَضْرَةِ الْعُدُولِ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ مُمْتَلِئًا بَهْجَةً وَسُرُورًا وَرَدَّ الْعَوَارِيَّ إلَى أَهْلِهَا فَلَمَّا جَاءَ الْبَائِعُ لِتَقَاضِي الثَّمَنِ لَقِيَ الْمُشْتَرِيَ وَعَرَفَ فُنُونَهُ، فَأَخَذَ يَنْتِفُ عُثْنُونَهُ (وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْنَعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِمَا يَضُرُّ جَارَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُحْجَرُ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ لَمَّا كَانَ مُكَابَرَةً وَتَرْكًا لِلْوَاجِبِ عَنْ عِلْمٍ) أَيْ: صَادِرًا عَنْ عِلْمٍ، وَمَعْرِفَةٍ (لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِلنَّظَرِ وَمَا ذُكِرَ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَدَمُ عَمَلٍ بِهِ مُكَابَرَةً، وَتَرْكًا لِلْوَاجِبِ، وَلِهَذَا يُخَاطَبُ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ، وَيُحْبَسُ فِي دُيُونِ الْعِبَادِ، وَتَصِحُّ عِبَارَاتُهُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مَعَ أَنَّ ضَرَرَ النَّفْسِ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْمَالِ فَتَصَرُّفُهُ يَكُونُ صَادِرًا عَنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ فَلَا يُمْنَعُ، وَأَمَّا مَا تَمَسَّكَا بِهِ فَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ عَدَمَ فِعْلِهِ بِمُوجِبِ الْعَقْلِ لَمَّا كَانَ مُكَابَرَةً لَمْ يَسْتَحِقَّ النَّظَرَ لَهُ كَمَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مَجَانَةً أَوْ سَفَهًا لَا يَسْتَحِقُّ وَضْعَ الْخِطَابِ عَنْهُ نَظَرًا لَهُ وَلَوْ سَلِمَ فَالنَّظَرُ لَهُ لِدَيْنِهِ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْحَجْرِ فَإِنْ قِيلَ: فِي تَرْكِ الْحَجْرِ ضَرَرٌ بِالْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ لِأَحَدٍ، فَيَجِبُ الْحَجْرُ بِخِلَافِ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فَإِنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً أُجِيبَ بِأَنَّ فِي حَجْرِ السَّفِيهِ أَيْضًا ضَرَرًا هُوَ إبْطَالُ أَهْلِيَّتِهِ، وَإِلْحَاقُهُ بِالْبَهَائِمِ بِخِلَافِ مَنْعِ الْمَالِ بِالنَّصِّ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ كَوْنَ الْحُكْمِ فِي مَنْعِ الْمَالِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، وَلَوْ سُلِّمَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ عَنْ الْمَالِ عُقُوبَةً، وَزَجْرًا عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فَإِنَّ سَبَبَهُ، وَهُوَ مُكَابَرَةُ الْعَقْلِ، وَمُخَالَفَةُ الشَّرْعِ جِنَايَةٌ، وَالْحُكْمُ، وَهُوَ مَنْعُ الْمَالِ صَالِحٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَجَازَ تَفْوِيضُهُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ دُونَ الْأَئِمَّةِ لِكَوْنِهِ عُقُوبَةَ تَعْزِيرٍ، وَتَأْدِيبٍ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْعُقُوبَاتِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْحُكْمَ مَعْقُولٌ، وَأَنَّ الْحَجْرَ نَظَرٌ لَا عُقُوبَةٌ فَلَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْقِيَاسِ فَإِنَّ مَنْعَ الْيَدِ عَنْ الْمَالِ إبْطَالُ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ، وَإِلْحَاقٌ لِلسَّفِيهِ بِالْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْحَجْرِ فَإِنَّهُ إبْطَالُ نِعْمَةٍ أَصْلِيَّةٍ هِيَ الْعِبَارَةُ، وَالْأَهْلِيَّةُ إذْ بِهَا يَمْتَازُ الْإِنْسَانُ عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ فَفِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ، وَتَفْوِيتٌ لِنِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَإِلْحَاقٌ لَهُ بِالْبَهَائِمِ، وَفِي تَرْكِ الْجَوَابِ عَنْ الْوَجْهَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مَيْلٌ مَا إلَى اخْتِيَارِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. (قَوْلُهُ: ثُمَّ إذَا كَانَ الْحَجْرُ) يَعْنِي: حَجْرَ السَّفِيهِ عِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْأَحْكَامِ لَزِمَ أَنْ يَلْحَقَ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِمَنْ يَكُونُ الْإِلْحَاقُ بِهِ أَنْظَرَ لَهُ، وَأَلْيَقَ بِحَالِهِ

مِنْ النَّظَرِ حَقًّا لَهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَا وَاجِبٌ كَمَا فِي صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ) أَيْ: حَجْرُ السَّفِيهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ (إذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ ضَرَرًا فَوْقَهُ وَهُوَ إهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ وَالْعِبَارَةِ، وَالْأَهْلِيَّةُ نِعْمَةٌ أَهْلِيَّةٌ، وَالْيَدُ زَائِدَةٌ، فَيَبْطُلُ قِيَاسُ الْحَجْرِ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ ثُمَّ إذَا كَانَ الْحَجْرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ) أَيْ: عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى (يَلْحَقُ فِي كُلِّ حُكْمٍ إلَى مَنْ كَانَ فِي إلْحَاقِهِ إلَيْهِ نَظَرٌ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَرِيضِ، وَالْمُكْرَهِ) أَيْ: الْمَحْجُورِ بِسَبَبِ السَّفَهِ عِنْدَهُمَا إنْ وَلَدَتْ جَارِيَتُهُ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ، وَإِنْ مَاتَ كَانَتْ حُرَّةً؛ لِأَنَّ تَوْفِيرَ النَّظَرِ كَانَ فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُصْلَحِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ وَصِيَانَةِ مَائِهِ وَيَلْحَقُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمَرِيضِ فَإِنَّ الْمَرِيضَ الْمَدْيُونَ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ يَكُونُ فِي ذَلِكَ كَالصَّحِيحِ حَتَّى يُعْتَقَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِمَوْتِهِ، وَلَا تَسْعَى هِيَ، وَلَا وَلَدُهَا؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ وَلَوْ اشْتَرَى هَذَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ابْنَهُ وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَفِي الِاسْتِيلَادِ يُجْعَلُ كَالْمَرِيضِ حَتَّى يَثْبُتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ، وَفِي مِلْكِ ابْنِهِ بِالشِّرَاءِ، وَالْقَبْضِ يُجْعَلُ كَالْمُكْرَهِ حَتَّى يُعْتَقَ الِابْنُ، وَفِي لُزُومِ الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ فِي مَالِ الْمَحْجُورِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُجْعَلُ كَالصَّبِيِّ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ: فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ سِعَايَةُ الْعَبْدِ لِلْمَحْجُورِ نَظَرًا لَهُ أُجِيبَ بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ كَمَا أَنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ فَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَحْجُورِ شَيْءٌ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ شَيْءٌ، وَكَانَتْ سِعَايَةُ الْغُلَامِ فِي قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ. (قَوْلُهُ: وَهَذَا الْحَجْرُ) يَعْنِي: الْحَجْرَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ الَّذِي يَكُونُ لِلْمُكَلَّفِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي مَالِهِ نَظَرًا لَهُ قَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ فِي ذَاتِهِ كَالسَّفَهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِسَبَبٍ خَارِجٍ كَالدَّيْنِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخَافَ زَوَالَ قَابِلِيَّةِ الْمَالِ لِلصَّرْفِ إلَى الدُّيُونِ أَوْ يُمْنَعُ الْمَدْيُونُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَالْأَوَّلُ أَيْ: الْحَجْرُ بِسَبَبِ السَّفَهِ يَحْصُلُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَفْسِ السَّفَهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا، وَالْجُنُونِ، وَالْعَتَهِ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهِ نَظَرًا لِلسَّفِيهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَحْجُرَهُ الْقَاضِي؛ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ بِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ، وَالضَّرَرِ بِإِهْدَارِ عِبَارَتِهِ فَلَا بُدَّ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مِنْ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِي أَنَّ حَجْرَ الْمَدْيُونِ خَوْفًا مِنْ تَلْجِئَةٍ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي اتِّفَاقًا بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْغُرَمَاءِ، فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمْ، وَيَتِمُّ بِالْقَضَاءِ، وَالثَّالِثُ، وَهُوَ حَجْرُ الْمَدْيُونِ لِامْتِنَاعِهِ عَنْ صَرْفِ الْمَالِ إلَى الدَّيْنِ يَكُونُ بِأَنْ يَبِيعَ الْقَاضِي أَمْوَالَهُ عُرُوضًا كَانَتْ أَوْ عَقَارًا لِمَا رُوِيَ «أَنَّ مُعَاذًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَهُ، وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ» ، وَلِأَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ، فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا إذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الذِّمِّيِّ، وَأَبَى الذِّمِّيُّ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَبِيعُهُ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْحَجْرُ فِي أَمْرٍ خَاصٍّ قَالَ

[السفر]

مَعْرُوفٌ وَقَبَضَهُ كَانَ شِرَاؤُهُ فَاسِدًا، وَيُعْتَقُ الْغُلَامُ حِينَ قَبَضَهُ وَيُجْعَلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُكْرَهِ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ فَإِذَا مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَالْتِزَامُ الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ بِالْعَقْدِ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى هَذَا الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَا يَسْلَمُ لَهُ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ سِعَايَتِهِ فَتَكُونُ السِّعَايَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ (وَهَذَا الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا) أَيْ: الْحَجْرُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الَّذِي هُوَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ (أَنْوَاعٌ إمَّا بِسَبَبِ السَّفَهِ، فَيَنْحَجِرُ بِنَفْسِهِ) أَيْ: بِنَفْسِ السَّفَهِ بِلَا احْتِيَاجٍ إلَى أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي لَهُ (عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَإِمَّا بِسَبَبِ الدَّيْنِ بِأَنْ يَخَافَ أَنْ يُلْجِئَ أَمْوَالَهُ) : التَّلْجِئَةُ هِيَ الْمُوَاضَعَةُ الْمَذْكُورَةُ مُفَصَّلَةٌ بِبَيْعٍ أَوْ إقْرَارٍ (فَيُحْجَرُ) عَلَى أَنْ لَا يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ (إلَّا مَعَ الْغُرَمَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَفِيهًا) مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيُحْجَرُ (وَإِمَّا بِأَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ بَيْعِ مَالِهِ لِقَضَاءِ الدُّيُونِ، فَيَبِيعُ الْقَاضِي فَهَذَا ضَرْبُ حَجْرٍ،) . (وَمِنْهَا السَّفَرُ وَهُوَ خُرُوجٌ مَدِيدٌ لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْأَحْكَامِ لَكِنَّهُ مِنْ ـــــــــــــــــــــــــــــQفَهَذَا ضَرْبُ حَجْرٍ. (قَوْلُهُ: التَّلْجِئَةُ هِيَ الْمُوَاضَعَةُ الْمَذْكُورَةُ) أَيْ: فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ أَوْ فِي قَدْرِ الْبَدَلِ أَوْ جِنْسِهِ عَلَى مَا سَبَقَ فِي بَابِ الْهَزْلِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا سَابِقَةً، وَالْهَزْلُ قَدْ يَكُونُ مُقَارِنًا فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ هُوَ أَخَصُّ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ التَّلْجِئَةُ هِيَ أَنْ يُلْجِئَكَ إلَى أَنْ تَأْتِيَ أَمْرًا بَاطِنًا خِلَافُ ظَاهِرِهِ، وَفِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ مَعْنَى أُلْجِئُ إلَيْك دَارِي أَجْعَلُكَ ظَهْرًا لِأَتَمَكَّنَ بِجَاهِكَ مِنْ صِيَانَةِ مِلْكِي يُقَالُ: الْتَجَأَ فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ، وَأَلْجَأَ ظَهْرَهُ إلَى كَذَا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَنَا مَلْجَأٌ مُضْطَرٌّ إلَى مَا أُبَاشِرُهُ مِنْ الْبَيْعِ مِنْكَ، وَلَسْت بِقَاصِدٍ حَقِيقَةَ. (قَوْلُهُ: عَلَى أَنْ لَا يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ إلَّا مَعَ الْغُرَمَاءِ) يَعْنِي: فِي الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ، وَأَمَّا فِيمَا يُكْتَسَبُ بَعْدَهُ، فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ مَعَ كُلِّ أَحَدٍ [السَّفَرُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا السَّفَرُ، وَهُوَ خُرُوجٌ مَدِيدٌ) فَإِنْ قُلْت: الْخُرُوجُ مِمَّا لَا يَمْتَدُّ قُلْت الْمُرَادُ أَنَّهُ خُرُوجٌ عَنْ عُمْرَانَاتِ الْوَطَنِ عَلَى قَصْدِ مَسِيرٍ يَمْتَدُّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَيَالِيهَا فَمَا فَوْقَهَا بِسَيْرِ الْإِبِلِ، وَمَشْيِ الْأَقْدَامِ. (قَوْلُهُ: وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ) يَعْنِي فِي التَّخْفِيفِ الْحَاصِلِ بِالسَّفَرِ فِي الصَّلَاةِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ رُخْصَةٌ حَتَّى يَكُونَ الْإِكْمَالُ مَشْرُوعًا، وَعِنْدَنَا أَثَرُهُ فِي إسْقَاطِ الشَّطْرِ حَتَّى يَكُونَ ظُهْرُ الْمُسَافِرِ، وَفَجْرُهُ سَوَاءٌ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ الْأَثَرُ كَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -، وَقَالَ مُقَاتِلٌ «كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُصَلِّي بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ، وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعِشَاءِ فَلَمَّا عُرِجَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ أُمِرَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَصَارَتْ الرَّكْعَتَيْنِ لِلْمُسَافِرِ، وَلِلْمُقِيمِ أَرْبَعٌ» إلَّا أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الثَّانِي أَنَّ حَدَّ النَّافِلَةِ هُوَ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ، وَلَا يُذَمُّ تَارِكُهُ شَرْعًا أَوْ مَا هُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى يُصَادِقُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ

أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُ يَضُرُّهُ الصَّوْمُ، وَبَعْضَهُ لَا بَلْ يَنْفَعُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقَصْرُ رُخْصَةٌ وَعِنْدَنَا إسْقَاطٌ لِقَوْلِ عَائِشَةَ فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ فِي السَّفَرِ، وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ وَلِأَنَّ حَدَّ النَّافِلَةَ يَصْدُقُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ السَّاقِطَتَيْنِ، وَلِتَسْمِيَتِهِ بِالصَّدَقَةِ، وَلِعَدَمِ إفَادَةِ التَّخْيِيرِ عَلَى مَا مَرَّ) أَيْ: فِي فَصْلِ الْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ (وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ) أَيْ: الْقَصْرُ (بِالسَّفَرِ إذَا اتَّصَلَ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ) أَيْ: اتَّصَلَ السَّفَرُ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْوَقْتُ، فَيَثْبُتُ الْقَصْرُ فِي الْأَدَاءِ أَمَّا إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِسَبَبِ الْوُجُوبِ بَلْ اتَّصَلَ بِحَالِ الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ (وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ بِالِاخْتِيَارِ قِيلَ: إذَا شَرَعَ الْمُسَافِرُ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْأَخِيرَتَيْنِ مِنْ ظُهْرِ الْمُسَافِرِ مَثَلًا، وَلِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إنَّ الرَّكْعَتَيْنِ إنَّمَا يَكُونَانِ فَرْضًا إذَا نَوَى الْإِتْمَامَ، وَحِينَئِذٍ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يُذَمُّ تَارِكُهُمَا، الثَّالِثُ «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَمَّاهَا صَدَقَةً حَيْثُ قَالَ: إنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَةَ اللَّهِ» ، وَالصَّدَقَةُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ إسْقَاطٌ لَا غَيْرُ، الرَّابِعُ أَنَّ التَّخْيِيرَ إنَّمَا شُرِعَ فِيمَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ يُسْرٌ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهَاهُنَا لَا يُسْرَ فِي الْإِكْمَالِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي بَحْثِ الرُّخْصَةِ. (قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ بِالِاخْتِيَارِ) يَعْنِي: فَرَّقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ، وَالْمَرِيضِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ إنْ نَوَى صَوْمَ رَمَضَانَ شَرَعَ فِيهِ أَيْ: لَمْ يَفْسَخْهُ قَبْلَ انْفِجَارِ الصُّبْحِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِفْطَارُ بِخِلَافِ الْمَرِيضِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي الْمَرِيضِ مِمَّا لَا مَدْفَعَ لَهُ فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ قَبْلَ الشُّرُوعِ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ، وَبَعْدَ الشُّرُوعِ عُلِمَ لُحُوقُ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ لَا مَدْفَعَ لَهُ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ الدَّاعِي إلَى الْإِفْطَارِ بِأَنْ لَا يُسَافِرَ، وَلَفْظُ قِيلَ يُوهِمُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الْبَعْضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ حُكْمٌ بِذَلِكَ، وَكَذَا لَفْظُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قِيلَ لَهُ مَعْنَاهُ حُكْمٌ لِلْمُسَافِرِ، وَأَفْتَى فِي حَقِّهِ، وَضَبْطُ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: أَنَّ الْعُذْرَ، إمَّا أَنْ يَكُونَ قَائِمًا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ قَائِمًا فَإِنْ تَرَكَ الصَّوْمَ، فَلَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ صَامَ فَإِنْ كَانَ الْعُذْرُ هُوَ الْمَرَضُ يَجُوزُ الْإِفْطَارُ، وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لَمْ يَجُزْ لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ لَمْ تَجِبْ الْكَفَّارَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بَلْ إنَّمَا طَرَأَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ الصَّوْمِ، وَالشُّرُوعِ فِيهِ فَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَإِمَّا أَنْ يَطْرَأَ الْعُذْرُ ثُمَّ الْإِفْطَارُ أَوْ بِالْعَكْسِ فَعَلَى الْأَوَّلِ، إنْ كَانَ الْعُذْرُ هُوَ الْمَرَضُ جَازَ الْإِفْطَارُ، وَإِنْ كَانَ السَّفَرُ لَمْ يَجُزْ لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَعَلَى الثَّانِي لَمْ يَجُزْ الْإِفْطَارُ أَصْلًا لَكِنْ لَوْ أَفْطَرَ فَفِي الْمَرَضِ تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ، وَفِي السَّفَرِ لَا تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ سَمَاوِيٌّ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَالسَّفَرُ اخْتِيَارِيٌّ يَجِبُ الصَّوْمُ مَعَ طَرَيَانِهِ

لَكِنْ إذَا أَفْطَرَ يَصِيرُ السَّفَرُ شُبْهَةً فِي الْكَفَّارَةِ فَإِذَا سَافَرَ الصَّائِمُ لَا يُفْطِرُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ لَكِنْ إنْ أَفْطَرَ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) أَيْ: الصَّائِمِ الْمُقِيمِ إذَا سَافَرَ، وَأَفْطَرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ (وَإِذَا أَفْطَرَ ثُمَّ سَافَرَ لَمْ تَسْقُطْ) أَيْ: الْكَفَّارَةُ (بِخِلَافِ مَا إذَا مَرِضَ) ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا أَفْطَرَ حَكَمْنَا عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لَكِنْ إذَا مَرِضَ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَسْقُطُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِعُرُوضِ الْمَرَضِ أَنَّ الصَّوْمَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِخِلَافِ عُرُوضِ السَّفَرِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ اخْتِيَارِيٌّ، وَالْمَرَضُ ضَرُورِيٌّ (وَأَحْكَامُ السَّفَرِ تَثْبُتُ بِالْخُرُوجِ بِالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ السَّفَرُ عِلَّةً) وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ مَا رُوِيَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ تَرَخَّصُوا بِرُخَصِ الْمُسَافِرِ بِمُجَاوَزَتِهِمْ الْعُمْرَانَ» ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْقَصْرُ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ السَّفَرِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَهَا لَكِنْ تُرِكَ الْقِيَاسُ بِمَا رَوَيْنَا (ثُمَّ إذَا ـــــــــــــــــــــــــــــQلَكِنَّهُ بِسَبَبِ الْمُبِيحِ فِي الْجُمْلَةِ فَإِنْ قَارَنَ الْإِفْطَارَ كَانَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا لَمْ يُؤَثِّرْ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ قَدْ وَجَبَتْ بِالْإِفْطَارِ عَنْ صَوْمٍ وَاجِبٍ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ شُبْهَةٍ. (قَوْلُهُ: عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُنْفَصِلَةٌ) لَمَّا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى عَدَمِ كَوْنِ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَسْبَابِ الرُّخَصِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الرُّخْصَةَ نِعْمَةٌ، فَلَا تُنَالُ بِالْمَعْصِيَةِ، وَيُجْعَلُ السَّفَرُ مَعْدُومًا فِي حَقِّهَا كَالسُّكْرِ يُجْعَلُ مَعْدُومًا فِي حَقِّ الرُّخَصِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِزَوَالِ الْعَقْلِ لِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً، وَثَانِيهِمَا قَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] فَإِنَّهُ جَعَلَ رُخْصَةَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ مَنُوطَةً بِالِاضْطِرَارِ حَالَ كَوْنِ الْمُضْطَرِّ غَيْرَ بَاغٍ أَيْ: خَارِجٍ عَلَى الْإِمَامِ، وَلَا عَادٍ أَيْ: ظَالِمٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ، فَيَبْقَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ الرُّخَصِ بِالْقِيَاسِ أَوْ بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الْفَصْلِ أُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ هِيَ الْبَغْيُ، وَالتَّمَرُّدُ، وَالْإِبَاقُ مَثَلًا لَا نَفْسُ السَّفَرِ بَلْ الْمَعْصِيَةُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ السَّفَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذْ قَدْ يُوجَدُ بِدُونِهِ كَالْبَاغِي أَوْ الْآبِقِ الْمُقِيمِ، وَقَدْ يَكُونُ السَّفَرُ مَنْدُوبًا فَتُقْطَعُ الْمَعْصِيَةُ كَمَا إذَا خَرَجَ غَازِيًا فَاسْتَقْبَلَهُ الْغَيْرُ فَقَطَعَ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقَ، وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُنْفَصِلٍ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُنَافِي مَشْرُوعِيَّتَهُ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَصْلٌ، فَلَأَنْ لَا يُنَافِيَ سَبَبِيَّتَهُ لِحُكْمٍ مَعَ أَنَّ السَّبَبَ، وَسِيلَةٌ أَوْلَى، وَأَيْضًا صِفَةُ الْقُرْبَةِ فِي الْمَشْرُوعِ مَقْصُودَةٌ بِخِلَافِ صِفَةِ الْحِلِّ فِي السَّبَبِ؛ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ، وَمُنَافَاةُ النَّهْيِ لِصِفَةِ الْقُرْبَةِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الطَّلَبِ وَالْأَمْرِ أَشَدُّ مِنْ مُنَافَاتِهِ لِصِفَةِ الْحِلِّ الثَّابِتِ بِمُجَرَّدِ الْإِبَاحَةِ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُنْفَصِلٍ إذَا لَمْ يَمْنَعْ صِفَةَ الْقُرْبَةِ عَنْ الْمَشْرُوعِ، فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ صِفَةَ الْحِلِّ عَنْ السَّبَبِ أَوْلَى، وَهَذَا بِخِلَافِ السُّكْرِ فَإِنَّهُ حَدَثَ مِنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَهُوَ حَرَامٌ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْإِثْمَ، وَعَدَمَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْإِضْرَارِ بَلْ بِالْأَكْلِ فَلَا بُدَّ فِي

[الخطأ]

نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ الثَّلَاثَةِ تَصِحُّ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِقَامَةِ قَبْلَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُنِعَ الثَّلَاثَةَ وَيُشْتَرَطُ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مَنْعٌ) أَيْ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ، وَإِنْ نَوَاهَا بَعْدُ لِلسَّفَرِ (وَهَذَا رَفْعٌ) أَيْ: نِيَّةُ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَفْعٌ لِلسَّفَرِ، وَالْمَنْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ (وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ يُوجِبُ الرُّخْصَةَ وَقَدْ مَرَّ) أَيْ: فِي فَصْلِ النَّهْيِ (عَلَى أَنَّ الْمَعْصِيَةَ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ فَإِنَّ الْبَغْيَ وَقَطْعَ الطَّرِيقِ، وَالتَّمَرُّدَ مَعْصِيَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمِصْرِ وَالرَّجُلُ قَدْ يَخْرُجُ غَازِيًا ثُمَّ يَسْتَقْبِلُهُ غَيْرُهُ، فَيَقْطَعُ عَلَيْهِمْ فَصَارَ النَّهْيُ عَنْ هَذَا السَّفَرِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ السُّكْرِ؛ لِأَنَّهُ عِصْيَانٌ بِعَيْنِهِ) فَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكْرِ الْحَرَامِ الرُّخَصُ الْمَنُوطَةُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ (قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} [البقرة: 173] أَيْ: فَأَكَلَ غَيْرَ طَالِبٍ وَلَا مُتَجَاوِزٍ حَدَّ سَدِّ الرَّمَقِ) قَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيُّ ـــــــــــــــــــــــــــــQالْآيَةِ مِنْ تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ: فَمَنْ اُضْطُرَّ، فَأَكَلَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْحَالِ أَيْ: فَأَكَلَ حَالَ كَوْنِهِ غَيْرَ بَاغٍ، وَلَا عَادٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ الْبَغْيُ، وَالْعَدَاءُ فِي الْأَكْلِ الَّذِي سِيقَتْ الْآيَةُ لِبَيَانِ حُرْمَتِهِ، وَحِلِّهِ أَيْ: غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ فِي الْأَكْلِ قَدْرَ الْحَاجَةِ عَلَى أَنَّ عَادٍ مُكَرَّرٌ لِلتَّأْكِيدِ أَيْ: غَيْرَ طَالِبٍ لِلْمُحَرَّمِ، وَهُوَ يَجِدُ غَيْرَهُ، وَلَا مُتَجَاوِزٌ قَدْرَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ، وَيَدْفَعُ الْهَلَاكَ أَوْ غَيْرَ مُتَلَذِّذٍ، وَلَا مُتَزَوِّدٍ أَوْ غَيْرَ بَاغٍ عَلَى مُضْطَرٍّ آخَرَ، وَلَا مُتَجَاوِزٍ سَدَّ الْجَوْعَةِ [الْخَطَأُ] . (قَوْلُهُ: وَمِنْهَا الْخَطَأُ، وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَهُ قَصْدًا تَامًّا) ، وَذَلِكَ أَنَّ تَمَامَ قَصْدِ الْفِعْلِ بِقَصْدِ مَحَلِّهِ، وَفِي الْخَطَأِ يُوجَدُ قَصْدُ الْفِعْلِ دُونَ قَصْدِ الْمَحَلِّ، وَهَذَا مُرَادُ مَنْ قَالَ: إنَّهُ فِعْلٌ يَصْدُرُ بِلَا قَصْدٍ إلَيْهِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَقْصُودٍ سَوَاءٌ، وَيَجُوزُ الْمُؤَاخَذَةُ بِالْخَطَأِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَجُزْ لَمْ يَكُنْ لِلدُّعَاءِ فَائِدَةٌ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ إنَّمَا هِيَ عَلَى الْجِنَايَةِ، وَهِيَ بِالْقَصْدِ، وَالْجَوَابِ أَنَّ تَرْكَ التَّثَبُّتِ مِنْهُ جِنَايَةٌ، وَقَصَدَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ جَعْلَ الْخَطَأِ مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ. (قَوْلُهُ: وَيَصْلُحُ) مُخَفَّفًا أَيْ: سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِالْفِعْلِ دُونَ الْمَحَلِّ كَالدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ فَإِنَّهَا صِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَابَلْ بِمَالٍ كَالضَّمَانِ، وَوَجَبَتْ عَلَى الْفِعْلِ دُونَ الْمَحَلِّ فَوَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِبَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ تَخْفِيفًا عَلَى الْخَاطِئِ، وَقَدْ صَرَّحَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَحْثِ الْإِكْرَاهِ: بِأَنَّ الدِّيَةَ ضَمَانُ الْمُتْلَفِ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ الْفِعْلِ، وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ بِأَنَّ الدِّيَةَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ دُونَ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَّحِدُ بِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ، وَقَدْ مَرَّ تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي بَحْثِ الصَّبِيِّ، وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَاهُنَا أَنَّ الْخَطَأَ لَمَّا كَانَ عُذْرًا صَلُحَ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ بِالْفِعْلِ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ لَا تُقَابِلُ مَالًا. (قَوْلُهُ: إذْ لَا يَنْفَكُّ) أَيْ: الْخَطَأُ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ، وَهُوَ تَرْكُ التَّثَبُّتِ، وَالِاحْتِيَاطِ فَهُوَ بِأَصْلِ الْفِعْلِ مُبَاحٌ، وَبِتَرْكِ التَّثَبُّتِ مَحْظُورٌ، فَيَكُونُ جِنَايَةً قَاصِرَةً يَصْلُحُ سَبَبًا لِجَزَاءٍ قَاصِرٍ. (قَوْلُهُ: وَيَقَعُ

- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى عَدَمِ الرُّخْصَةِ لِمَنْ يُسَافِرُ سَفَرَ الْمَعْصِيَةِ فَجَعَلَ قَوْله تَعَالَى {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] حَالًا مِنْ قَوْلِهِ {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] ، وَنَحْنُ نَقُولُ: لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ قَوْلِهِ، فَأَكَلَ ثُمَّ نَجْعَلُ قَوْلَهُ {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] حَالًا مِنْ أَكَلَ فَمَعْنَاهُ غَيْرَ طَالِبٍ لِلْمَيْتَةِ قَصْدًا إلَيْهَا وَلَا آكِلٍ الْمَيْتَةَ تَلَذُّذًا وَاقْتِضَاءً لِلشَّهْوَةِ بَلْ يَأْكُلُهَا دَافِعًا لِلضَّرُورَةِ، وَلَا عَادٍ حَدَّ مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ أَوْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَجَاوَزَ حَدَّ سَدِّ الرَّمَقِ وَلَا يَعْدُو أَيْ: لَا يَرْفَعُهَا لِجَوْعَةٍ أُخْرَى. (وَمِنْهَا الْخَطَأُ) وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَهُ قَصْدًا تَامًّا كَمَا إذَا رَمَى صَيْدًا، فَأَصَابَ إنْسَانًا فَإِنَّهُ قَصَدَ الرَّمْيَ لَكِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْإِنْسَانَ فَوُجِدَ قَصْدٌ غَيْرُ تَامٍّ (وَهُوَ يَصْلُحُ عُذْرًا فِي سُقُوطِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا حَصَلَ عَنْ اجْتِهَادٍ، وَيَصْلُحُ شُبْهَةً فِي الْعُقُوبَةِ حَتَّى لَا يَأْثَمَ إثْمَ الْقَتْلِ وَلَا يُؤَاخَذَ بِحَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءٌ كَامِلٌ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَعْذُورِ وَلَيْسَ بِعُذْرٍ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِبَ ضَمَانُ الْعُدْوَانِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ لَا جَزَاءُ فِعْلٍ ـــــــــــــــــــــــــــــQطَلَاقُهُ) إنَّ طَلَاقَ الْمُخْطِئِ كَمَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَقُولَ: أَنْتِ جَالِسٌ فَقَالَ أَنْتِ طَالِقٌ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَقَعُ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِالْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ بِالْقَصْدِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي الْمُخْطِئِ كَالنَّائِمِ، وَجَوَابُهُ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ، وَفِي قَوْلِهِ لَا مَقَامَ الْيَقَظَةِ، وَالرِّضَى جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْبُلُوغُ مِنْ عَقْلٍ قَائِمًا مَقَامَ الْقَصْدِ فِي الطَّلَاقِ لَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ طَلَاقُ النَّائِمِ إقَامَةً لِلْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ، وَأَنْ يَقُومَ الْبُلُوغُ مَقَامَ الرِّضَى فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمُفْتَقِرَةِ إلَى الرِّضَى كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِأَنَّ الرِّضَى أَمْرٌ بَاطِنٌ كَالْقَصْدِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ الشَّيْءِ إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ خَفِيًّا يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَعَدَمُ الْقَصْدِ، وَأَهْلِيَّةُ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ فِي النَّائِمِ مَعْلُومٌ بِلَا حَرَجٍ، وَكَذَا وُجُودُ الرِّضَى، وَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّ الرِّضَا نِهَايَةُ الِاخْتِيَارِ بِحَيْثُ يُفْضِي أَثَرُهُ إلَى الظَّاهِرِ مِنْ ظُهُورِ الْبَشَاشَةِ فِي الْوَجْهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي النَّائِمِ، وَوُجُودُ الرِّضَى فِي غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَعْسُرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إقَامَةِ الشَّيْءِ مَقَامَهُمَا بَلْ جُعِلَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِحَقِيقَتِهِمَا، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَكِنْ فِي قَوْلِهِ لَا مَقَامَ الْيَقَظَةِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ يَقُولُ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ لَا مَقَامَ الْيَقَظَةِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ يَقِظَةِ النَّائِمِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ فِي أَهْلِيَّةِ الْأَحْكَامِ، وَاعْتِبَارُ الْكَلَامِ هُوَ الْعَمَلُ عَنْ قَصْدٍ، وَهُوَ الْأَمْرُ الْبَاطِنُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ شَيْءٍ مَقَامَهُ لَا حَقِيقَةَ الْيَقَظَةِ، وَكَأَنَّهُ عَبَّرَ بِالْيَقَظَةِ عَنْ الْقَصْدِ، وَاسْتِعْمَالُ الْعَقْلِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُلَابَسَةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الشَّيْءِ عِنْدَ خَفَاءِ وُجُودِهِ، وَعَدَمِهِ، وَعَدَمُ الْقَصْدِ فِي النَّائِمِ مُدْرَكٌ بِلَا حَرَجٍ، وَكَذَا عَدَمُ الرِّضَى فِي الْمُكْرَهِ. (قَوْلُهُ: كَالْبَيْعِ) فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ الْقَصْدَ تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ، وَيَعْتَمِدُ الرِّضَى لِكَوْنِهِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَبْتَنِي عَلَى الْقَصْدِ دُونَ الرِّضَى فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ بِعْت هَذَا الشَّيْءَ مِنْكَ بِكَذَا، وَقَبِلَهُ الْمُخَاطَبُ، وَصَدَّقَهُ فِي

[العوارض المكتسبة من غيره]

وَيَصْلُحُ) أَيْ: الْخَطَأُ (مُخَفَّفًا لِمَا هُوَ صِلَةٌ لَمْ تُقَابِلْ مَالًا وَوَجَبَتْ بِالْفِعْلِ كَالدِّيَةِ) إنَّمَا قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِسَبَبِ الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْخَطَأُ مُخَفَّفًا فِيهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَتْنِ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ مَالٍ لَا جَزَاءُ فِعْلٍ (وَيُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إذْ لَا يَنْفَكُّ عَنْ ضَرْبِ تَقْصِيرٍ، فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِمَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَالْعُقُوبَةِ إذْ هُوَ جَزَاءٌ قَاصِرٌ) الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلَى مَا هُوَ دَائِرٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَفَّارَةُ (وَيَقَعُ طَلَاقُهُ عِنْدَنَا لَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِعَدَمِ الِاخْتِيَارِ فَصَارَ كَالنَّائِمِ وَلَنَا أَنَّ دَوَامَ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ، وَغَفْلَةٍ أَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِحَرَجٍ فَأُقِيمَ الْبُلُوغُ مَقَامَهُ لَا مَقَامَ الْيَقَظَةِ، وَالرِّضَى فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِمَا كَالْبَيْعِ إذْ لَا حَرَجَ فِي دَرْكِهِمَا) تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْأَعْمَالُ إلَّا، وَأَنْ تَكُونَ صَادِرَةً عَنْ الْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ، وَغَفْلَةٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَادِرَةً عَنْ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ يَجِبُ أَنْ لَا تُعْتَبَرَ، وَلَا يُؤَاخَذُ الْإِنْسَانُ بِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ؛ وَلِأَنَّ السَّهْوَ، وَالْغَفْلَةَ مَرْكُوزَانِ فِي الْإِنْسَانِ، فَيَكُونَانِ عُذْرًا لَكِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْحَرَجِ، فَأَقَمْنَا الْبُلُوغَ مَقَامَ دَوَامِ الْعَقْلِ مِنْ غَيْرِ سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ إقَامَةً لِلدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ فَإِنَّ السَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ إنَّمَا يَعْرِضَانِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ فَإِذَا كَمُلَ الْعَقْلُ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ عِنْدَ الْبُلُوغِ لَا يَقَعُ السَّهْوُ، وَالْغَفْلَةُ إلَّا نَادِرًا وَكُلُّ عَمَلٍ صَدَرَ عَنْ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ اُعْتُبِرَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا جَرَى عَلَى لِسَانِهِ خَطَأً فَهُوَ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ يَنْعَقِدُ نَظَرًا إلَى أَصْلِ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صَدَرَ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ بِإِقَامَةِ الْبُلُوغِ مَقَامَ الْقَصْدِ لَكِنْ يَكُونُ فَاسِدًا غَيْرَ نَافِذٍ لِعَدَمِ الرِّضَى حَقِيقَةً [الْعَوَارِضُ الْمُكْتَسَبَةُ مِنْ غَيْرِهِ] [الْإِكْرَاهُ وَهُوَ إمَّا مُلْجِئٌ أَوْ غَيْرُ مُلْجِئٍ] . (قَوْلُهُ: وَأَمَّا الَّذِي مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ: الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ هُوَ الْإِكْرَاهُ، وَهُوَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَرْضَاهُ، وَلَا يَخْتَارُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْ خُلِّيَ وَنَفْسَهُ، فَيَكُونُ مُعْدِمًا لِلرِّضَى لَا لِلِاخْتِيَارِ إذْ الْفِعْلُ يَصْدُرُ عَنْهُ بِاخْتِيَارِهِ لَكِنَّهُ قَدْ يَفْسُدُ الِاخْتِيَارُ بِأَنْ يَجْعَلَهُ مُسْتَنِدًا إلَى اخْتِيَارٍ آخَرَ، وَقَدْ لَا يَفْسُدُ بِأَنْ يَبْقَى الْفَاعِلُ مُسْتَقِلًّا فِي قَصْدِهِ، وَحَقِيقَةُ الِاخْتِيَارِ هُوَ الْقَصْدُ إلَى مَقْدُورٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ بِتَرْجِيحِ أَحَدِ جَانِبَيْهِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنْ اسْتَقَلَّ الْفَاعِلُ فِي قَصْدِهِ فَصَحِيحٌ، وَإِلَّا فَفَاسِدٌ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ الْإِكْرَاهُ إمَّا مُلْجِئًا بِأَنْ يَضْطَرَّ الْفَاعِلُ إلَى مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا كَالْعُضْوِ، وَإِمَّا غَيْرُ مُلْجِئٍ بِأَنْ يَتَمَكَّنَ الْفَاعِلُ مِنْ الصَّبْرِ مِنْ غَيْرِ فَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ، وَهُوَ سَوَاءٌ كَانَ مُلْجِئًا أَوْ غَيْرَ مُلْجِئٍ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْوُجُوبِ، وَلَا الْخِطَابِ بِالْأَدَاءِ لِبَقَاءِ الذِّمَّةِ، وَالْعَقْلِ، وَالْبُلُوغِ، وَلِأَنَّ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ إمَّا فَرْضٌ أَوْ مُبَاحٌ أَوْ رُخْصَةٌ أَوْ حَرَامٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الْخِطَابِ حَتَّى أَنَّهُ يُؤَخَّرُ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ مَرَّةً كَمَا إذَا كَانَ فَرْضًا كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَيَأْثَمُ مَرَّةً أُخْرَى كَمَا إذَا

صَادِرًا عَنْ الْعَقْلِ بِلَا سَهْوٍ وَغَفْلَةٍ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ أَنَّهُ رُبَّمَا يَسْهُو فِي وَقْتٍ مَا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: أَنَّ دَوَامَ الْعَمَلِ بِالْعَقْلِ إلَخْ. وَإِنَّمَا لَمْ نُقِمْ الْبُلُوغَ مَقَامَ الْيَقَظَةِ حَتَّى أَبْطَلْنَا عِبَارَاتِ النَّائِمِ وَكَذَا لَمْ نُقِمْ الْبُلُوغَ مَقَامَ الرِّضَى فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الرِّضَى كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ إذْ لَا حَرَجَ فِي دَرْكِ الْيَقَظَةِ، وَالرِّضَا وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ مَقَامَهُمَا فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْأُمُورَ الْخَفِيَّةَ الَّتِي يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا تُقِيمُ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهَا مَقَامَهَا كَالسَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ أَمَّا الْأُمُورُ الظَّاهِرَةُ فَلَا، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْيَقَظَةَ، وَالرِّضَى دَفْعًا لِشُبْهَةِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ قَالَ لَوْ: قَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ ـــــــــــــــــــــــــــــQكَانَ حَرَامًا كَالْإِكْرَاهِ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ يُؤْجَرُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْحَرَامِ، وَالرُّخْصَةِ، وَيَأْثَمُ فِي الْفَرْضِ، وَالْمُبَاحِ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَجْرِ، وَالْإِثْمِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِعْلُ، وَلَوْ تَرَكَهُ وَصَبَرَ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يُؤْجَرْ، وَبِالرُّخْصَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِعْلُ لَكِنْ لَوْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ يُؤْجَرُ عَمَلًا بِالْعَزِيمَةِ، وَبِهَذَا يَسْقُطُ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالْإِبَاحَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْفِعْلُ، وَلَوْ تَرَكَهُ، وَصَبَرَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ فَهُوَ مَعْنَى الرُّخْصَةِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ يَأْثَمُ، وَهُوَ مَعْنَى الْفَرْضِ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْبُرْغَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: إنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ مُبَاحٌ كَالْقَتْلِ، وَالزِّنَا، وَفَرْضٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَمُرَخَّصٌ لَهُ كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَالْإِفْطَارِ، وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ، وَلَعَلَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَالْإِفْطَارِ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الْإِكْرَاهِ حَيْثُ تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْإِفْطَارِ بِالْعُذْرِ كَالسَّفَرِ، وَالْمَرَضِ بِخِلَافِ حُرْمَةِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَإِنَّهَا لَا تَسْقُطُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ بِحَالٍ. (قَوْلُهُ: وَلَا الِاخْتِيَارُ) أَيْ: الْإِكْرَاهُ، وَلَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ؛ لِأَنَّهُ حَمْلٌ لِلْفَاعِلِ عَلَى أَنْ يَخْتَارَ مَا هُوَ أَهْوَنُ عِنْدَ الْحَامِلِ، وَأَرْفَقُ لَهُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَى الْفَاعِلِ مِنْ الْقَتْلِ، وَالضَّرْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أُكْرِهَ بِهِ. (قَوْلُهُ: وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ) أَيْ: الْقَاعِدَةُ الَّتِي قَرَّرَهَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ إمَّا أَنْ يَحْرُمَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَوْ لَا، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ بِحَقٍّ، وَالثَّانِي لَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ كَإِكْرَاهِ الْحَرْبِيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَيَصِحُّ إسْلَامُهُ بِخِلَافِ إكْرَاهِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «اُتْرُكُوهُمْ وَمَا يَدِينُونَ» ، وَالْأَوَّلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرًا شَرْعِيًّا أَوْ لَا فَإِنْ كَانَ عُذْرًا شَرْعِيًّا بِأَنْ يَحِلَّ لِلْفَاعِلِ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْفِعْلِ، فَهُوَ يَقْطَعُ الْحُكْمَ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ سَوَاءٌ أُكْرِهَ عَلَى قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْقَوْلِ بِقَصْدِ الْمَعْنَى، وَصِحَّةَ الْحُكْمِ بِاخْتِيَارِهِ، وَالْإِكْرَاهُ يُفْسِدُ الْقَصْدَ، وَالِاخْتِيَارَ، وَأَيْضًا نِسْبَةُ الْحُكْمِ لِلْفَاعِلِ بِلَا رِضَاهُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمُ الْحُقُوقِ، وَالْعِصْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ يُدْفَعَ عَنْهُ الضَّرَرُ بِدُونِ رِضَاهُ لِئَلَّا يَفُوتَ حُقُوقُهُ بِدُونِ اخْتِيَارِهِ، ثُمَّ إذَا قُطِعَ الْحُكْمُ عَنْ الْفَاعِلِ فَإِنْ

اعْتِدَالِ الْعَقْلِ لَوَقَعَ طَلَاقُ النَّائِمِ وَلَقَامَ الْبُلُوغُ مَقَامَ الرِّضَا فِيمَا يَعْتَمِدُ عَلَى الرِّضَا ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ، وَيَقَعُ طَلَاقُهُ، قَوْلَهُ (وَإِذَا جَرَى الْبَيْعُ عَلَى لِسَانِهِ) أَيْ: لِسَانِ الْخَاطِئِ (خَطَأً وَصَدَّقَهُ خَصْمُهُ يَكُونُ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ) . (وَأَمَّا الَّذِي مِنْ غَيْرِهِ فَالْإِكْرَاهُ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْعَوَارِضِ الْمُكْتَسَبَةِ (وَهُوَ إمَّا مُلْجِئٌ بِأَنْ يَكُونَ بِفَوْتِ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ وَهَذَا مُعْدِمٌ لِلرِّضَا وَمُفْسِدٌ لِلِاخْتِيَارِ وَإِمَّا غَيْرُ مُلْجِئٍ بِأَنْ يَكُونَ بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ ضَرْبٍ وَهَذَا مُعْدِمٌ لِلرِّضَا غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلِاخْتِيَارِ، وَالْإِكْرَاهُ بِهِمَا لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَلَا الْخِطَابَ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَيْهِ إمَّا فَرْضٌ) كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ بِالْقَتْلِ (أَوْ مُبَاحٌ) كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِفْطَارِ ـــــــــــــــــــــــــــــQأَمْكَنَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْحَامِلِ أَيْ: الْمُكْرِهُ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ نُسِبَ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بَطَلَ الْفِعْلُ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَسَائِرِ الْأَقْوَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا شَرْعِيًّا بِأَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ إقْدَامٌ عَلَى الْفِعْلِ كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا لَا يُقْطَعُ الْحُكْمُ عَنْ الْفَاعِلِ حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصُ، وَالْحَدُّ عَلَى الْقَاتِلِ، وَالزَّانِي مُكْرَهَيْنِ. (قَوْلُهُ: وَطَلَاقُ الْمُولِي) بِالضَّمِّ اسْمُ الْفَاعِلِ مِنْ الْإِيلَاءِ يَعْنِي: لَوْ أُكْرِهَ الْمُولِي عَلَى التَّطْلِيقِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَطَلَّقَ، وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّفْرِيقَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَامْرَأَةِ الْعِنِّينِ بَعْدَ الْحَوْلِ فَإِذَا امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ الْإِكْرَاهُ حَقًّا، وَأَمَّا قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْإِكْرَاهُ بَاطِلٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ. (قَوْلُهُ: وَالْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ، وَالْحَبْسِ عِنْدَهُ) أَيْ: الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - سَوَاءٌ؛ لِأَنَّ فِي الْحَبْسِ ضَرَرًا كَالْقَتْلِ، وَالْعِصْمَةُ تَقْتَضِي دَفْعَ الضَّرَرِ قَالَ الْإِمَامُ مُحْيِي السُّنَّةِ: الْإِكْرَاهُ أَنْ يُخَوِّفَهُ بِعُقُوبَةٍ تَنَالُ مِنْ بَدَنِهِ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَا، وَكَانَ الْمَخُوفُ مِمَّنْ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَا يُخَوِّفُ بِهَا، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْقَتْلُ وَالضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ وَقَطْعُ الْعُضْوِ وَتَخْلِيدُ السِّجْنِ لَا إذْهَابُ الْجَاهِ، وَإِتْلَافُ الْمَالِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَأَصْلُنَا) يَعْنِي: أَنَّ الْأَصْلَ الْمُقَرَّرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَصْحَابِهِ: أَنَّ الْإِكْرَاهَ إنْ كَانَ مُلْجِئًا، وَعَارَضَ اخْتِيَارَ الْفَاعِلِ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ مِنْ الْحَامِلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَقْوَالِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْفَسِخُ كَالطَّلَاقِ، كَانَ نَافِذًا، وَإِلَّا كَانَ فَاسِدًا كَالْبَيْعِ، وَالْأَقَارِيرِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَبِيلِ الْأَفْعَالِ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ كَالزِّنَا كَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْفَاعِلِ، وَإِنْ احْتَمَلَ فَإِنْ لَزِمَ مِنْ جَعْلِهِ آلَةَ تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ كَانَ مُقْتَصِرًا عَلَى الْفَاعِلِ كَإِكْرَاهِ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ نُسِبَ إلَى الْحَامِلِ ابْتِدَاءً كَالْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ أَوْ النَّفْسِ، وَالْمُرَادُ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ مَا يَكُونُ التَّخْوِيفُ بِالْقَتْلِ دُونَ الْحَبْسِ أَوْ الضَّرْبِ، وَمَعْنَى إفْسَادِهِ الِاخْتِيَارَ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ حَيَاتِهِ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَيَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ

فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (أَوْ مُرَخَّصٌ) كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ (أَوْ حَرَامٌ) كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ الْحَقِّ حَتَّى (يُؤْجَرَ مَرَّةً، وَيَأْثَمَ أُخْرَى، وَلَا الِاخْتِيَارَ) أَيْ: لَا يُنَافِي الِاخْتِيَارَ (لِأَنَّهُ حَلٌّ عَلَى اخْتِيَارِ الْأَهْوَنِ وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ بِغَيْرِ حَقٍّ إنْ كَانَ عُذْرًا شَرْعًا يَقْطَعُ الْحُكْمَ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ لِعَدَمِ اخْتِيَارِهِ) الْإِكْرَاهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحَقٍّ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ هَذَا إمَّا أَنْ يَكُونَ عُذْرًا، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ: وَاعْلَمْ أَنِّي أَقَمْت لَفْظَ الْفَاعِلِ مَقَامَ الْمُكْرَهِ بِالْفَتْحِ وَلَفْظُ الْحَامِلِ مَقَامَ الْمُكْرِهِ بِالْكَسْرِ لِئَلَّا يَشْتَبِهَ الْفَتْحُ بِالْكَسْرِ (وَالْعِصْمَةُ تَقْتَضِي دَفْعَ الضَّرَرِ بِدُونِ رِضَاهُ) أَيْ: رِضَا الْفَاعِلِ (ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَى الْحَامِلِ يُنْسَبُ وَإِلَّا يَبْطُلُ فَتَبْطُلُ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا) ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْأَقْوَالِ إلَى غَيْرِ الْمُتَكَلِّمِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَكَلَّمُ بِلِسَانِ غَيْرِهِ (وَيَضْمَنُ الْحَامِلُ الْأَمْوَالَ) أَيْ: إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ الْإِتْلَافِ إلَى الْحَامِلِ مُمْكِنٌ، فَيُجْعَلُ الْفَاعِلُ آلَةً لِلْحَامِلِ (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرًا لَا يُقْطَعُ) أَيْ: الْحُكْمُ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ (فَيُحَدُّ الزَّانِي وَيُقْتَصُّ الْقَاتِلُ مُكْرَهَيْنِ وَإِنَّمَا يُقْتَصُّ الْحَامِلُ بِالتَّسْبِيبِ) جَوَابُ إشْكَالٍ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ تُقْطَعْ نِسْبَةُ الْحُكْمِ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ يَكُونُ الْفَاعِلُ هُوَ الْقَاتِلُ فَيَجِبُ أَنْ يَقْتَصَّ هُوَ وَلَا يَقْتَصُّ الْحَامِلُ لَكِنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَأَجَابَ بِأَنَّ الْحَامِلَ إنَّمَا يَقْتَصُّ بِالتَّسْبِيبِ (وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ حَقًّا لَا يُقْطَعُ أَيْضًا) أَيْ: ـــــــــــــــــــــــــــــQمِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَمَعْنَى كَوْنِ الْفَاعِلِ آلَةً أَنَّ الْحَامِلَ يُمْكِنُهُ إيجَادُ الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ بِنَفْسِهِ فَإِذَا حَمَلَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ بِوَعِيدِ التَّلَفِ صَارَ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ مُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ يَبْقَى مَقْصُورًا عَلَى الْفَاعِلِ. (قَوْلُهُ: فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ) يَعْنِي: أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَقْوَالِ لَا يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ عَلَيْهِ لِامْتِنَاعِ التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ، وَأَمَّا مَا يُقَالُ: مِنْ أَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ كَلَامُ الْمُرْسِلِ فَهُوَ مَجَازٌ إذْ الْعِبْرَةُ بِالتَّبْلِيغِ، وَهُوَ قَدْ يَكُونُ مُشَافَهَةً، وَقَدْ يَكُونُ بِوَاسِطَةٍ، وَذُكِرَ فِي الطَّرِيقَةِ الْبَرْغَرِيَّةِ أَنَّهُ لَا نَظَرَ إلَى التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ، وَإِنَّمَا النَّظَرُ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْكَلَامِ، وَإِلَى الْحُكْمِ فَمَتَى كَانَ فِي وُسْعِهِ تَحْصِيلُ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ يُجْعَلُ ذَلِكَ الْغَيْرُ آلَةً لَهُ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ ذَلِكَ لَمْ يُجْعَلْ غَيْرُهُ آلَةً فَالرَّجُلُ قَادِرٌ عَلَى تَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ، وَإِعْتَاقِ عَبْدِهِ فَإِذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ يُجْعَلُ فَاعِلًا تَقْدِيرًا، وَاعْتِبَارًا بِخِلَافِ الْحَامِلِ فَإِنَّهُ لَا يَقْدِرُ بِنَفْسِهِ عَلَى تَطْلِيقِ امْرَأَةِ الْغَيْرِ، وَإِعْتَاقِ عَبْدِ الْغَيْرِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ الْفَاعِلُ آلَةً. (قَوْلُهُ: فَلِأَنَّهُ تَنْفِيذٌ بِالْإِكْرَاهِ، وَهُوَ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ أَوْلَى) يَعْنِي: أَنَّ الْإِكْرَاهَ دُونَ الْهَزْلِ، وَخِيَارِ الشَّرْطِ فِي مَنْعِ نَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ؛ لِأَنَّ كَمَالَ النَّفَاذِ بِصِحَّةِ اخْتِيَارِ السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ، وَالرِّضَى بِهِمَا جَمِيعًا فَفِي كُلٍّ مِنْ الْهَزْلِ، وَخِيَارِ الشَّرْطِ قَدْ انْتَفَى الِاخْتِيَارُ، وَالرِّضَى فِي جَانِبِ الْحُكْمِ، وَإِنْ وُجِدَا فِي جَانِبِ السَّبَبِ، وَفِي الْإِكْرَاهِ لَمْ يَنْتَفِ الِاخْتِيَارُ فِي السَّبَبِ، وَلَا فِي الْحُكْمِ لَكِنَّهُ فَسَدَ، وَالْفَاسِدُ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ بِخِلَافِ الْمَعْدُومِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَانْتِفَاءُ

الْحُكْمُ عَنْ فِعْلِ الْفَاعِلِ (فَيَصِحُّ إسْلَامُ الْحَرْبِيِّ وَبَيْعُ الْمَدْيُونِ مَالَهُ لِقَضَاءِ الدُّيُونِ وَطَلَاقُ الْمُولِي بَعْدَ الْمُدَّةِ بِالْإِكْرَاهِ) مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذُكِرَ وَهُوَ إسْلَامُ الْحَرْبِيِّ وَطَلَاقُ الْمُولِي، وَبَيْعُ الْمَدْيُونِ مَالَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ عَلَى الطَّلَاقِ بَعْدَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ (لَا إسْلَامُ الذِّمِّيِّ بِهِ أَيْ:) بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَ الذِّمِّيِّ عَلَى الْإِسْلَامِ لَيْسَ بِحَقٍّ، فَيَبْطُلُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُبْطِلُ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا (وَالْإِكْرَاهُ بِالْقَتْلِ وَالْحَبْسِ عِنْدَهُ سَوَاءٌ وَأَصْلُنَا: أَنَّ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ لَمَّا أَفْسَدَ الِاخْتِيَارَ فَإِنْ عَارَضَ هَذَا الِاخْتِيَارَ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَامِلِ يَصِيرُ اخْتِيَارُ الْفَاعِلِ كَالْمَعْدُومِ، وَهَذَا) أَيْ: صَيْرُورَةُ اخْتِيَارِ الْفَاعِلِ كَالْمَعْدُومِ ـــــــــــــــــــــــــــــQشَرَائِطِ كَمَالِ النَّفَاذِ فِي الْإِكْرَاهِ أَقَلُّ فَهُوَ بِالْقَبُولِ أَجْدَرُ، وَالنَّفَاذُ فِيهِ أَظْهَرُ، وَاعْتَرَضَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ هَاهُنَا أُمُورًا أَرْبَعَةً هِيَ اخْتِيَارُ السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ، وَالرِّضَى بِهِمَا فَفِي الْهَزْلِ يُوجَدُ اخْتِيَارُ السَّبَبِ، وَالرِّضَى بِهِ مَعَ الصِّحَّةِ، وَيَنْتَفِي اخْتِيَارُ الْحُكْمِ، وَالرِّضَى بِهِ، وَفِي الْإِكْرَاهِ يُوجَدُ اخْتِيَارُ السَّبَبِ، وَالْحُكْمِ مَعَ الْفَسَادِ، وَيَنْتَفِي الرِّضَى بِهِمَا فَفِي كُلٍّ مِنْ الْهَزْلِ، وَالْإِكْرَاهِ يُوجَدُ الِاثْنَانِ مِنْ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ لَكِنْ مَعَ الصِّحَّةِ فِي الْهَزْلِ، وَمَعَ الْفَسَادِ فِي الْإِكْرَاهِ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ، وَالنَّفَاذِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمْ يَتَعَرَّضْ لِوُجُودِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ فِي الْإِكْرَاهِ لِيُتَوَهَّمَ غَايَةُ رُجُوحِيَّتِهِ، فَيَظْهَرُ قُوَّةُ الِاعْتِرَاضِ، وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ الْإِكْرَاهِ، وَالْهَزْلِ أَمْرَيْنِ مِنْ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا أَنَّ الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي الْإِكْرَاهِ أَقْوَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْحُكْمَ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَالسَّبَبُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ، وَأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي عَامَّةِ الْأَحْكَامِ، وَنَفَاذِ التَّصَرُّفَاتِ، وَالرِّضَى قَدْ يَكُونُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَفَسَادُ الِاخْتِيَارِ لَا يُوجِبُ الْمَرْجُوحِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ؛ لِأَنَّهُ إذَا انْعَقَدَ يَنْفُذُ، وَلَا يَحْتَمِلُ تَخَلُّفَ الْحُكْمِ. (قَوْلُهُ:، وَإِذَا اتَّصَلَ) أَيْ: الْإِكْرَاهُ بِقَبُولِ الْمَالِ بِأَنْ أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ بِوَعِيدِ تَلَفٍ أَوْ حَبْسٍ عَلَى أَنْ تَقْبَلَ مِنْ زَوْجِهَا الْخُلْعَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهِيَ مَدْخُولٌ بِهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ إلَّا عَلَى الْقَبُولِ، وَقَدْ وُجِدَ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهُ تَوَقَّفَ عَلَى الرِّضَا، وَلَمْ يُوجَدْ كَمَا إذَا طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ فَقَبِلَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الْقَبُولِ، وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ لِبُطْلَانِ الْتِزَامِهَا، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ اتِّصَالُ الْإِكْرَاهِ بِقَبُولِ الْمَالِ أَيْ: أَنْ يَتَّحِدَ مَحَلُّهُمَا بِأَنْ تُكْرَهَ الْمَرْأَةُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى تَطْلِيقِ امْرَأَتِهِ عَلَى مَالٍ يَقَعُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ الطَّلَاقَ، وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ طَائِعَةً بِإِزَاءِ مَا سُلِّمَ لَهَا مِنْ الْبَيْنُونَةِ أَمَّا إذَا اتَّصَلَ الْهَزْلُ بِقَبُولِ الْمَالِ، فَيَصِحُّ التَّطْلِيقُ لَكِنْ يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَى الْتِزَامِ الْمَرْأَةِ الْمَالَ، وَعَلَى الرِّضَا بِهِ فَإِنْ الْتَزَمَتْهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَ الْمَالُ، وَإِلَّا فَلَا طَلَاقَ، وَلَا مَالَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ

لَا يَكُونُ إلَّا بِأَنْ يَصِيرَ الْفَاعِلُ آلَةً لِلْحَامِلِ (فَإِنْ احْتَمَلَ ذَلِكَ) أَيْ: كَوْنَهُ آلَةً لَهُ (يُنْسَبُ إلَى الْحَامِلِ، وَإِلَّا) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ (يَبْقَى مَنْسُوبًا إلَى الْفَاعِلِ فَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ) أَيْ: كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّكَلُّمَ بِلِسَانِ الْغَيْرِ مُمْتَنِعٌ (فَإِنْ كَانَتْ) أَيْ: الْأَقْوَالُ (مِمَّا لَا يَنْفَسِخُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاخْتِيَارِ) كَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ تَنْفُذُ؛ (لِأَنَّهَا) أَيْ: الْأَقْوَالَ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ (تَنْفُذُ مَعَ الْهَزْلِ، وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا وَالرِّضَى بِالْحُكْمِ وَمَعَ خِيَارِ الشَّرْطِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مَعَ الْهَزْلِ (وَهُوَ يُنَافِي الِاخْتِيَارَ أَصْلًا) أَيْ: يُنَافِي ـــــــــــــــــــــــــــــQوَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الرِّضَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي الْهَزْلِ الرِّضَا بِالسَّبَبِ دُونَ الْحُكْمِ، فَيَصِحُّ الْتِزَامُ الْمَالِ مَوْقُوفًا عَلَى تَمَامِ الرِّضَا بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ فِي جَانِبِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ عَلَى الْحُكْمِ فَقَطْ لَمْ يَمْنَعْ وُجُودَ الرِّضَا بِالسَّبَبِ بَلْ بِالْحُكْمِ، فَيَتَوَقَّفُ وُجُودُ الْحُكْمِ أَعْنِي: وُقُوعَ الطَّلَاقِ، وَلُزُومَ الْمَالِ عَلَى الرِّضَا بِالْحُكْمِ فَإِنْ وُجِدَ ثَبَتَ، وَإِلَّا فَلَا، وَإِنَّمَا قَالَ فِي جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ يَمِينٌ فَلَا يَقْبَلُ خِيَارَ الشَّرْطِ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْهَزْلَ يَعْدَمُ الرِّضَا، وَالِاخْتِيَارِ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ، فَيَصِحُّ إيجَابُ الْمَالِ بِوُجُودِ الرِّضَا فِي السَّبَبِ، وَتَحْقِيقُهُ: أَنَّ مَا يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ فَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْخُلْعِ بِالْمَنْعِ كَشَرْطِ الْخِيَارِ؛ لِأَنَّ أَثَرَهُ فِي الْمَنْعِ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ بِالْمَنْعِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْآخَرِ، وَهُوَ لُزُومُ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ، فَيَتْبَعُ الطَّلَاقَ، وَيَلْزَمُ لُزُومَهُ، وَمَا يَدْخُلُ عَلَى السَّبَبِ كَالْإِكْرَاهِ يُؤَثِّرُ بِالْمَنْعِ فِي الْمَالِ دُونَ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الْخُلْعِ لَا يَجِبُ إلَّا بِالذِّكْرِ فِيهِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ صِحَّةِ الْإِيجَابِ لِثُبُوتِ الثَّمَنِ، وَالدَّاخِلُ عَلَى السَّبَبِ كَالْإِكْرَاهِ يَمْنَعُ الْإِيجَابَ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا فِي الْخُلْعِ، وَالدَّاخِلُ عَلَى الْحُكْمِ لَا يَمْنَعُهُ فِي الْبَيْعِ لَكِنْ يَمْنَعُ اللُّزُومَ، وَهُنَا لَا يَمْنَعُ اللُّزُومَ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مَقْصُودٌ، وَالْمَالُ تَبَعٌ، فَحَيْثُ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ الْمَتْبُوعِ لَمْ يَمْنَعْ لُزُومَ التَّابِعِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّابِعِ يُؤْخَذُ مِنْ الْمَتْبُوعِ أَبَدًا. (قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَتْ) أَيْ: الْأَقْوَالُ مِمَّا يَنْفَسِخُ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا تَنْعَقِدُ فَاسِدَةً أَمَّا الِانْعِقَادُ فَلِصُدُورِهَا عَنْ أَهْلِهَا فِي مَحَلِّهَا، وَأَمَّا الْفَسَادُ فَلِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ النَّفَاذِ فَلَوْ أَجَازَ التَّصَرُّفَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً صَحَّ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُفْسِدِ ثُمَّ الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ كَالْإِكْرَاهِ بِالْقَتْلِ، وَغَيْرُ الْمُلْجِئِ كَالْإِكْرَاهِ بِالضَّرْبِ سَوَاءٌ فِيمَا يَنْفَسِخُ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا لِأَنَّ الرِّضَا مُنْتَفٍ فِي النَّوْعَيْنِ، فَيَنْتَفِي النَّفَاذُ، وَالنَّظَرُ فِي حَدِّ الْإِكْرَاهِ مِنْ الضَّرْبِ أَوْ الْحَبْسِ مَفْرُوضٌ إلَى رَأْيِ الْحَاكِمِ. (قَوْلُهُ: وَكَذَا) أَيْ: مِثْلُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ: الْأَقَارِيرُ كُلُّهَا مِنْ الْمَالِيَّاتِ، وَغَيْرِهَا فِي أَنَّهَا تَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ، وَغَيْرِ الْمُلْجِئِ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ يَتَمَثَّلُ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْحُقُوقَ

اخْتِيَارَ الْحُكْمِ أَصْلًا أَمَّا اخْتِيَارُ السَّبَبِ فَحَاصِلٌ فِي الْخِيَارِ (فَلَأَنْ تَنْفُذَ) أَيْ: الْأَقْوَالُ الَّتِي لَا تَنْفَسِخُ (بِالْإِكْرَاهِ وَهُوَ يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ أَوْلَى) . وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ فِي الْهَزْلِ اخْتِيَارَ الْمُبَاشَرَةِ وَالرِّضَا بِهَا ثَابِتَانِ لَكِنَّ اخْتِيَارَ الْحُكْمِ وَالرِّضَا بِهِ مُنْتَفِيَانِ أَمَّا الْإِكْرَاهُ فَالرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ مُنْتَفٍ فِيهِ أَمَّا اخْتِيَارُ السَّبَبِ فَحَاصِلٌ فِي الْإِكْرَاهِ مَعَ الْفَسَادِ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَاقِعَيْنِ فِي الْهَزْلِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ وَالرِّضَا بِهِ فَوُقُوعُهُمَا فِي الْإِكْرَاهِ مَعَ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى هَذَا مَا قَالُوا وَلَكِنْ، يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ اخْتِيَارَ السَّبَبِ وَالرِّضَا بِهِ حَاصِلٌ فِي ـــــــــــــــــــــــــــــQبِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ أَيْ: وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ فَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ، وَعَدَمُ الرِّضَى، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْكَذِبِ أَيْ: عَدَمُ وُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ لَمْ تَثْبُتْ الْحُقُوقُ فَإِنْ قِيلَ: الْإِكْرَاهُ يُعَارِضُهُ أَنَّ الصِّدْقَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُؤْمِنِ، وَوُجُودُ الْمُخْبَرِ بِهِ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْكَلَامِ فَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ قُلْنَا الْمُعَارَضَةُ إنَّمَا تَنْفِي الْمَدْلُولَ لَا الدَّلِيلَ فَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَا يَبْقَى رُجْحَانٌ لِجَانِبِ الصِّدْقِ أَوْ الْكَذِبِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُقُوقُ بِالشَّكِّ. (قَوْلُهُ: وَالْأَفْعَالُ مِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ أَيْ: كَوْنُ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ) ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ فَالْأَوَّلُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ إلَى الْحَامِلِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِمَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا أَكْلٌ أَوْ شُرْبٌ كَمَا إذَا أَكْرَهَ صَائِمٌ صَائِمًا عَلَى الْإِفْطَارِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ صَوْمُ الْفَاعِلِ لَا الْحَامِلِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ كَمَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْفَاعِلِ أَوْ عَلَى الْحَامِلِ، وَكَذَا فِي الزِّنَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ كَانَ الْعُقْرُ عَلَى الزَّانِي لَكِنْ لَوْ أُتْلِفَتْ الْجَارِيَةُ بِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَامِلِ أَيْ: الْمُكْرِهُ، وَالثَّانِي، وَهُوَ مَا يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ قِسْمَانِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَلْزَمَ مِنْ جَعْلِهِ آلَةَ تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ أَوْ لَا، أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَامِلِ إذْ لَوْ نُسِبَ إلَى الْحَامِلِ، وَجُعِلَ الْفَاعِلُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ عَادَ عَلَى مَوْضِعِهِ بِالنَّقْضِ؛ لِأَنَّ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ يَسْتَلْزِمُ مُخَالَفَةَ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَمُخَالَفَةُ الْحَامِلِ تَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ الْغَيْرِ عَلَى مَا يُرِيدُهُ الْحَامِلُ، وَيَرْضَاهُ عَلَى خِلَافِ رِضَا الْفَاعِلِ، وَهُوَ فِعْلٌ مُعَيَّنٌ فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ فَإِذَا فَعَلَ غَيْرُهُ كَانَ طَائِعًا بِالضَّرُورَةِ لَا مُكْرَهًا، وَأَوْرَدَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِذَلِكَ مِثَالَيْنِ؛ لِأَنَّ تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ قَدْ لَا يَسْتَلْزِمُ تَبْدِيلَ ذَاتِ الْفِعْلِ، وَقَدْ يَسْتَلْزِمُهُ فَالْأَوَّلُ كَمَا إذَا أَكْرَهَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا عَلَى قَتْلِ صَيْدٍ فَقَتَلَهُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ إنَّمَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ فَلَوْ جُعِلَ الْفَاعِلُ آلَةً لِلْحَامِلِ لَزِمَ الْجِنَايَةُ عَلَى إحْرَامِ الْحَامِلِ لَا إحْرَامِ الْفَاعِلِ فَلَمْ يَكُنْ آتِيًا بِمَا أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ فَإِنْ قِيلَ: الِاقْتِصَارُ

الْهَزْلِ بِدُونِ الْفَسَادِ، وَأَمَّا فِي الْإِكْرَاهِ فَلَا رِضَا بِالسَّبَبِ أَصْلًا، وَاخْتِيَارُ السَّبَبِ مَوْجُودٌ مَعَ الْفَسَادِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْهَزْلِ الْوُقُوعُ فِي الْإِكْرَاهِ (وَإِذَا اتَّصَلَ بِقَبُولِ الْمَالِ) أَيْ: إذَا اتَّصَلَ الْإِكْرَاهُ بِقَبُولِ الْمَالِ فِي الطَّلَاقِ (يَقَعُ الطَّلَاقُ بِلَا مَالٍ؛ لِأَنَّهُ) أَيْ: الْإِكْرَاهَ (بِعَدَمِ الرِّضَا بِالسَّبَبِ وَالْحُكْمِ فَكَأَنَّ الْمَالَ لَمْ يُوجَدْ فَلَمْ يَتَوَقَّفْ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْمَالِ (كَمَا فِي خُلْعِ الصَّغِيرَةِ) فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِ بِلَا مَالٍ (بِخِلَافِ الْهَزْلِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلِأَنَّ الرِّضَا بِالسَّبَبِ ثَابِتٌ) أَيْ: فِي الْهَزْلِ (دُونَ الْحُكْمِ، فَيَصِحُّ إيجَابُ الْمَالِ ـــــــــــــــــــــــــــــQعَلَى الْفَاعِلِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّ الْإِثْمِ فَقَطْ دُونَ الْجَزَاءِ إذْ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْفَاعِلِ، وَالْحَامِلِ قُلْنَا الْفِعْلُ هَاهُنَا هُوَ قَتْلُ الصَّيْدِ بِالْيَدِ، وَالْكَفَّارَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى ذَلِكَ مُقْتَصِرَةٌ عَلَى الْفَاعِلِ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْحَامِلِ فَإِنَّمَا هِيَ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ بِإِكْرَاهِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ مُوجِبَ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَكُلٌّ مِنْ الْفَاعِلِ، وَالْحَامِلِ جَانٍ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ أَمَّا الْفَاعِلُ فَبِقَتْلِ الصَّيْدِ بِيَدِهِ، وَأَمَّا الْحَامِلُ فَبِإِكْرَاهِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ فَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ الْقَتْلُ بِالْيَدِ لَمْ يَتَجَاوَزْ الْفَاعِلَ فِي حَقِّ مَا وَجَبَ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ، وَالثَّانِي، وَهُوَ مَا يَكُونُ تَبْدِيلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ مُسْتَلْزِمًا لِتَبْدِيلِ ذَاتِ الْفِعْلِ كَمَا إذَا أَكْرَهَ الْغَيْرَ عَلَى بَيْعِ الشَّيْءِ، وَتَسْلِيمِهِ، فَيَقْتَصِرُ التَّسْلِيمُ عَلَى الْفَاعِلِ إذْ لَوْ نُسِبَ إلَى الْحَامِلِ، وَجُعِلَ الْفَاعِلُ آلَةً لَزِمَ التَّبْدِيلُ فِي مَحَلِّ التَّسْلِيمِ بِأَنْ يَصِيرَ مَغْصُوبًا؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْ جِهَةِ الْحَامِلِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيلَاءِ، فَيَصِيرُ الْبَيْعُ، وَالتَّسْلِيمُ غَصْبًا أَمَّا إذَا نُسِبَ التَّسْلِيمُ إلَى الْفَاعِلِ، وَجُعِلَ مُتَمِّمًا لِلْعَقْدِ حَتَّى إنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ مِلْكًا فَاسِدًا لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ، وَعَدَمِ نَفَاذِهِ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْفِعْلَ فِي الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لَيْسَ مِمَّا يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ الشَّخْصُ آلَةً لِلْغَيْرِ فِي الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جِنَايَةٌ، وَلَا فِي التَّسْلِيمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْمَامٌ لِلْعَقْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ الْغَيْرِ، وَلَا عَلَى تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ، وَإِتْمَامِ تَصَرُّفِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مِنْ أَنَّهُ لَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْ ذَلِكَ لَكِنْ لَوْ فُرِضَ لَبَطَلَ الْإِكْرَاهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِاحْتِمَالِ الْفِعْلِ كَوْنُ الْفَاعِلِ آلَةً أَنَّهُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَبِالنَّظَرِ إلَى صُورَتِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْفَاعِلَ فِي الْقَتْلِ، وَالتَّسْلِيمِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ، وَالطَّرَفِ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ اعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ، وَإِتْمَامُ التَّصَرُّفِ، وَهُوَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ. (قَوْلُهُ: وَالْإِعْتَاقُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ) يَعْنِي: أَنَّ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ مَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ يُمْكِنُ نِسْبَةُ أَحَدِهِمَا إلَى الْغَيْرِ، وَكَوْنُ الْفَاعِلِ آلَةً، وَلَا يُمْكِنُ

فَيَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ) أَيْ: عَلَى الْمَالِ فِي الْخُلْعِ بِطَرِيقِ الْهَزْلِ (كَمَا فِي خِيَارِ الشَّرْطِ فِي جَانِبِهَا) أَيْ: إذَا خَالَعَهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا، فَيَتَوَقَّفُ الطَّلَاقُ عَلَى قَبُولِهَا الْمَالَ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي جَانِبِهَا؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ لَا يَصِحُّ فِي الْخُلْعِ؛ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْخُلْعَ يَمِينٌ فِي حَقِّهِ مُعَاوَضَةٌ فِي حَقِّهَا. (وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْهَزْلُ لَا يُؤَثِّرُ فِي بَدَلِ الْخُلْعِ، فَيَجِبُ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَنْفَسِخُ، وَيَتَوَقَّفُ عَلَى الرِّضَا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ تَفْسُدُ، وَالْمُلْجِئُ وَغَيْرُهُ هُنَا سَوَاءٌ؛ لِعَدَمِ الرِّضَا وَكَذَا الْأَقَارِيرُ كُلُّهَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى عَدَمِ الْمُخْبَرِ بِهِ وَالْأَفْعَالُ مِنْهَا مَا لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ) أَيْ: كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ (كَالْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ وَالزِّنَا، فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ مِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ فَإِنْ لَزِمَ مِنْ جَعْلِهِ آلَةً ـــــــــــــــــــــــــــــQذَلِكَ فِي الْآخَرِ كَمَا إذَا أَكْرَهَ الْغَيْرَ عَلَى إعْتَاقِ عَبْدِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَوْلٌ، وَتَكَلَّمَ بِالصِّيغَةِ يُنْسَبُ إلَى الْفَاعِلِ إذْ لَا يَحْتَمِلُ كَوْنُ الْفَاعِلِ آلَةً فَيُصْبِحُ الْعِتْقُ لِكَوْنِهِ صَادِرًا عَنْ الْمَالِكِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ لِلْمَالِ يُنْسَبُ إلَى الْحَامِلِ، وَيُجْعَلُ الْفَاعِلُ آلَةً؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ، فَيَجِبُ لِلْفَاعِلِ عَلَى الْحَامِلِ قِيمَةُ الْعَبْدِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ، وَهُوَ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْفَاعِلِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْوَلَاءِ لِغَيْرِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ كَمَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْعِتْقِ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ إيرَادَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْسَبُ. (قَوْلُهُ: وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ) هَذَا هُوَ الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهُوَ الَّذِي لَا يَلْزَمُ مِنْ جَعْلِ الْفَاعِلِ آلَةَ تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ كَإِتْلَافِ الْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَحُكْمُهُ أَنْ يُضَافَ الْحُكْمُ إلَى الْحَامِلِ ابْتِدَاءً لَا نَقْلًا مِنْ الْفَاعِلِ إلَيْهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فَمُوجِبُ الْجِنَايَةِ مِنْ ضَمَانِ الْمَالِ، وَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَةِ، وَالْكَفَّارَةِ يَجِبُ عَلَى الْحَامِلِ ابْتِدَاءً فَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى رَمْيِ صَيْدٍ، فَأَصَابَ إنْسَانًا فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَامِلِ، وَالْكَفَّارَةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِ الْغَيْرِ عَمْدًا فَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْقِصَاصُ عَلَى الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ عَمْدًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا قِصَاصَ عَلَى أَحَدٍ بَلْ الْوَاجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْحَامِلِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ إنَّمَا هُوَ بِمُبَاشَرَةِ جِنَايَةٍ تَامَّةٍ، وَقَدْ عُدِمَتْ فِي كُلٍّ مِنْ الْحَامِلِ، وَالْفَاعِلِ لِبَقَاءِ الْإِثْمِ فِي حَقِّ الْآخَرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْقِصَاصُ عَلَى الْحَامِلِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ الْحَيَاةِ، فَيَقْدُمُ عَلَى مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى بَقَاءِ الْحَيَاةِ بِقَضِيَّةِ الطَّبْعِ بِمَنْزِلَةِ آلَةٍ اخْتِيَارًا لَهَا كَالسَّيْفِ فِي يَدِ الْقَاتِلِ فَيُضَافُ الْفِعْلُ إلَى الْحَامِلِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْإِثْمِ فَالْفَاعِلُ لَا يَصْلُحُ آلَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْنِيَ عَلَى دِينِ غَيْرِهِ، وَيَكْتَسِبَ الْإِثْمَ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ قَصْدُ الْقَلْبِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْقَصْدُ بِقَلْبِ الْغَيْرِ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ التَّكَلُّمُ بِلِسَانِ الْغَيْرِ، وَلَوْ فَرَضْنَاهُ آلَةً

تَبْدِيلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ، فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ فِي تَبْدِيلِ الْمَحَلِّ مُخَالَفَةَ الْحَامِلِ وَفِيهَا بُطْلَانُ الْإِكْرَاهِ كَإِكْرَاهِ الْمُحْرِمِ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِهِ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً يَصِيرُ الْمَحَلُّ إحْرَامَ الْحَامِلِ، وَكَمَا أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ، وَالتَّسْلِيمِ فَالتَّسْلِيمُ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَكْرَهَهُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً يَصِيرُ تَسْلِيمَ الْمَغْصُوبِ وَيَتَبَدَّلُ ذَاتُ الْفِعْلِ أَيْضًا) فَإِنَّ الْبَيْعَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ غَصْبًا (وَالْإِعْتَاقُ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ) لَا يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً لِلْحَامِلِ (لِأَنَّهُ مِنْ الْأَقْوَالِ لَكِنَّ الْإِتْلَافَ فِعْلٌ يَحْتَمِلُهُ) فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ لَكِنَّهُ إتْلَافُ نَفْيِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَمْ يُجْعَلْ آلَةً فَيُعْتَقُ عَلَى الْفَاعِلِ وَفِي الْمَعْنَى الثَّانِي، وَهُوَ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَلْزَمُ تَبَدُّلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ حِينَئِذٍ تَكُونُ عَلَى دِينِ الْحَامِلِ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ الْفَاعِلَ بِذَلِكَ، فَيَنْتَفِي الْإِكْرَاهُ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ آلَةً لَزِمَ نِسْبَةُ الْإِثْمِ إلَى كُلٍّ مِنْ الْحَامِلِ، وَالْفَاعِلِ أَمَّا الْحَامِلُ فَلِقَصْدِهِ قَتْلَ نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ، وَأَمَّا الْفَاعِلُ فَلِإِطَاعَتِهِ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَإِيثَارِهِ نَفْسَهُ عَلَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ، وَتَحْقِيقُهُ مَوْتَ الْمَقْتُولِ بِمَا فِي وُسْعِهِ، وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ لُزُومَ تَبَدُّلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ الْفَاعِلِ آلَةً مَفْرُوضٌ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْفَاعِلِ آلَةً، وَلَوْ ذَهَبْنَا إلَى أَنَّ نَفْسَ الْقَتْلِ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ لَكِنْ فِي الْإِثْمِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ آلَةً مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْمُعَبَّرَ فِي الِاحْتِمَالِ، وَعَدَمِهِ هُوَ نَفْسُ الْفِعْلِ. (قَوْلُهُ: وَالْحُرُمَاتُ أَنْوَاعٌ) مَا مَرَّ كَانَ حُكْمَ الْأَفْعَالِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهَا فِي أَنَّهَا بِمَنْ تَتَعَلَّقُ، وَإِلَى مَنْ تُنْسَبُ، وَهَذَا بَيَانُ الْإِقْدَامِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَفْعَالِ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فِي أَنَّهُ يَكُونُ حَرَامًا أَوْ مُبَاحًا أَوْ مُرَخَّصًا فِيهِ فَالْحُرُمَاتُ إمَّا أَنْ تَحْتَمِلَ السُّقُوطَ أَوْ لَا، وَالثَّانِي إمَّا أَنْ تَحْتَمِلَ الرُّخْصَةَ أَوْ لَا فَهِيَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَلَا الرُّخْصَةَ، وَنَوْعٌ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَنَوْعٌ يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ فَقَطْ، وَالثَّالِثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى إمَّا أَنْ تَحْتَمِلَ السُّقُوطَ أَوْ لَا، وَلِكُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ حُكْمٌ مُبَيَّنٌ فِي الْكِتَابِ. (قَوْلُهُ: وَالزِّنَا) يَعْنِي: زِنَا الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهُ الزَّانِي حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا الْمَرْأَةُ مُمَكِّنَةٌ مِنْ الزِّنَا فَزِنَاهَا مِنْ قَبِيلِ مَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ. (قَوْلُهُ: لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَوْقَ حُرْمَةِ يَدِهِ) إذْ فِي فَوَاتِ النَّفْسِ فَوَاتُ الْيَدِ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ هَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى صَاحِبِهَا، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ فَلَيْسَ حُرْمَةُ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْيَدِ لَكِنْ لَيْسَ حُرْمَةُ يَدِ غَيْرِهِ فَوْقَ حُرْمَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ حَتَّى لَوْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ عَلَى قَطْعِ يَدِ الْغَيْرِ لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ لِلْفَاعِلِ، وَلَوْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ طَرَفَ الْمُؤْمِنِ فِي الْحُرْمَةِ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ حَتَّى لَا يَحِلَّ لِلْمُضْطَرِّ قَطْعُ طَرَفِ الْغَيْرِ لِيَأْكُلَهُ، وَأَمَّا إلْحَاقُ الْأَطْرَافِ بِالْأَمْوَالِ فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا لَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنَّ النَّاسَ

الْإِتْلَافُ يُجْعَلُ آلَةً، فَيَضْمَنُ الْحَامِلُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ (لَكِنْ لِإِتْلَافِ فِعْلٍ يَحْتَمِلُ، فَيَنْتَقِلُ إلَى الْحَامِلِ، فَيَضْمَنُ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْفَاعِلِ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إعْتَاقٌ يَقْتَصِرُ عَلَى الْفَاعِلِ (وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ التَّبْدِيلُ) أَيْ: وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ جَعْلِهِ آلَةً تَبْدِيلُ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ (يُجْعَلُ آلَةً كَإِتْلَافِ الْمَالِ، وَالنَّفْسِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ ضَرَبَهُ عَلَيْهِ وَأَتْلَفَهُ، فَيَخْرُجُ الْفَاعِلُ مِنْ الْبَيْنِ فَيُضَافُ إلَى الْحَامِلِ ابْتِدَاءً فَمُوجِبُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَقَطْ) أَيْ: عَلَى الْحَامِلِ فَإِنْ كَانَ عَمْدًا يَقْتَصُّ هُوَ فَقَطْ (لَكِنْ فِي الْإِثْمِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ آيَةً؛ لِأَنَّهُ أَكْرَهَهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى دِينِهِ وَلَوْ جُعِلَ آلَةً لَتَبَدَّلَ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ فَيَأْثَمُ كُلٍّ مِنْهُمَا وَالْحُرُمَاتُ أَنْوَاعٌ: حُرْمَةٌ لَا تَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ، وَلَا تَدْخُلُهَا الرُّخْصَةُ كَالْقَتْلِ ـــــــــــــــــــــــــــــQيَبْذُلُونَ أَمْوَالَهُمْ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْغَيْرِ، وَلَا يَبْذُلُونَ أَطْرَافَهُمْ لِذَلِكَ. (قَوْلُهُ: وَالزِّنَا قَتْلٌ) أَمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّانِي لِعَدَمِ النَّسَبِ، وَلَا عَلَى الْمَرْأَةِ لِعَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ، فَيَهْلِكُ الْوَلَدُ، وَالْوَلَدُ فِي صُورَةِ كَوْنِ الْمَرْأَةِ مُتَزَوِّجَةً، وَإِنْ كَانَ يُنْسَبُ إلَى الْفِرَاشِ، وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ الزَّوْجَ رُبَّمَا يَنْفِي مِثْلَ هَذَا النَّسَبِ، فَيَهْلِكُ الْوَلَدُ. (قَوْلُهُ: وَالْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ يُبِيحُهَا) أَيْ: يُبِيحُ الْمُحَرَّمَاتِ حُرْمَةً تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اُسْتُثْنِيَ عَنْ تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَنَحْوِهَا حَالَةَ الِاضْطِرَارِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِيهَا فَتَبْقَى الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ ضَرُورَةً، وَالْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ بِخَوْفِ تَلَفِ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ نَوْعٌ مِنْ الِاضْطِرَارِ، وَإِنْ اخْتَصَّ الْإِضْرَارَ بِالْمَخْمَصَةِ تَثْبُتُ بِالْإِكْرَاهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ فَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ فَلَوْ امْتَنَعَ الْمُكْرَهُ عَنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَنَحْوِهَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا إنْ كَانَ عَالِمًا بِسُقُوطِ الْحُرْمَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَيُرْجَى أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ، وَأَمَّا الْإِكْرَاهُ الْغَيْرُ الْمُلْجِئِ فَلَا يُبِيحُ الْمُحَرَّمَاتِ لِعَدَمِ الِاضْطِرَارِ لَكِنَّهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ حَتَّى لَوْ شَرِبَ الْخَمْرَ بِالْإِكْرَاهِ الْغَيْرِ الْمُلْجِئِ لَا يُحَدُّ. (قَوْلُهُ: وَحُرْمَةَ لَا تَسْقُطُ) هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُرْمَةِ، وَهِيَ حُرْمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مُتَعَلِّقُهَا قَطُّ لَكِنْ قَدْ يُرَخَّصُ لِلْعَبْدِ فِي فِعْلِهِ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ، وَهِيَ إمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِمَعْنَى أَنَّ الْحَرَامَ قَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرِ مُحْتَمِلٍ لِلسُّقُوطِ كَالْإِيمَانِ أَوْ يَحْتَمِلُ لَهُ كَالصَّلَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ بِتَرْكِ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ كَعَدَمِ التَّعَرُّضِ لِمَالِ الْمُسْلِمِ فَالْإِكْرَاهُ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ إكْرَاهٌ عَلَى حَرَامٍ لَا تَسْقُطُ حُرْمَتُهُ، وَهُوَ تَرْكُ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلسُّقُوطِ بِحَالٍ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ حَرَامٌ صُورَةً، وَمَعْنًى حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً، وَإِجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ كُفْرٌ صُورَةً إذْ الْأَحْكَامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالظَّاهِرِ فَتَكُونُ حَرَامًا أَبَدًا إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ رَخَّصَ فِيهِ بِشَرْطِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] ،

وَالْجُرْحِ، وَالزِّنَا؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَهُمَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) أَيْ: الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ وَإِذَا كَانَ سَوَاءً لَا يَحِلُّ لِلْفَاعِلِ قَتْلُ غَيْرِهِ لِيُخَلِّصَ نَفْسَهُ (وَكَذَا جُرْحُ الْغَيْرِ) أَيْ: إذَا أُكْرِهَ عَلَى جُرْحِ الْغَيْرِ بِالْقَتْلِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْجُرْحُ (لَا جُرْحُ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ بِالْقَتْلِ حَلَّ لَهُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَوْقَ حُرْمَةِ يَدِهِ، وَلَا كَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْغَيْرِ، وَالزِّنَا قَتْلٌ مَعْنًى) فَإِنَّ وَلَدَ الزِّنَا بِمَنْزِلَةِ الْهَالِكِ فَإِنَّ انْقِطَاعَ نَسَبِهِ مِنْ الْغَيْرِ هَلَاكٌ فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَحِلُّ لَهُ الزِّنَا (وَحُرْمَةٌ تَسْقُطُ كَالْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ فَالْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ يُبِيحُهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ الْحُرْمَةِ حِلٌّ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] (حَتَّى إنْ امْتَنَعَ ـــــــــــــــــــــــــــــQوَالْإِكْرَاهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ إكْرَاهٌ عَلَى حَرَامٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ تَرْكِ الصَّلَاةِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْوُجُوبِ مُؤَبَّدَةٌ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ لَكِنَّ الصَّلَاةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مُحْتَمِلٌ لِلسُّقُوطِ فِي الْجُمْلَةِ بِالْأَعْذَارِ، وَكَذَا الصَّوْمُ، وَالْحَجُّ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ. (قَوْلُهُ: وَزِنَا الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ) يَعْنِي: إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا فَتَمْكِينُهَا مِنْ الزِّنَا حَرَامٌ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُحْتَمِلَةِ لِلسُّقُوطِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا حَقُّ اللَّهِ فَرَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُرْمَةِ فِي الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ، وَلَا يُرَخَّصُ فِي غَيْرِ الْمُلْجِئِ لَكِنْ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ، وَفِي كَوْنِ حُرْمَةِ الزِّنَا مِمَّا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ نَظَرٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ، وَزِنَا الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ حُرْمَتَهُ مِنْ قَبِيلِ الْحُرْمَةِ الَّتِي لَا تَسْقُطُ لَكِنْ تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ، وَهِيَ أَيْ: تِلْكَ الْحُرْمَةُ إمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ مُشْعِرٌ بِأَنَّ تِلْكَ الْحُقُوقَ تُغَايِرُ تِلْكَ الْحُرْمَةَ، وَمُتَعَلِّقَاتهَا فَإِنَّ الْحَرَامَ هُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْإِيمَانُ، وَفِي الْعِبَادَاتِ الْحَرَامُ هُوَ تَرْكُ الصَّلَاةِ مَثَلًا، وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الصَّلَاةُ، فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا عَلَيْهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تَسَامُحٌ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْعِصْمَةَ مِنْ الزِّنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكُهَا حَرَامٌ حُرْمَةً لَا تَسْقُطُ أَبَدًا لَكِنْ تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ. (قَوْلُهُ: وَيُحَدُّ هُوَ) أَيْ: يُحَدُّ الرَّجُلُ الْمُكْرَهُ عَلَى الزِّنَا إكْرَاهًا غَيْرَ مُلْجِئٍ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ الْمُلْجِئَ لَا يَكُونُ رُخْصَةً فِي حَقِّهِ كَمَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ حَتَّى يَكُونَ غَيْرَ الْمُلْجِئِ شُبْهَةُ رُخْصَةٍ نَعَمْ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ فِي الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُنْزَجِرًا إلَى حِينِ خَوْفِ فَوَاتِ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ رَفْعٌ لِذَلِكَ لَا قَضَاءٌ لِلشَّهْوَةِ، وَانْتِشَارُ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى الطَّوَاعِيَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا بِالْفُحُولَةِ الْمُرَكَّبَةِ فِي الرِّجَالِ. (قَوْلُهُ: وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ أَمَّا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ حُرْمَةً هِيَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ، وَوُجُوبَ عَدَمِ إتْلَافِهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ، وَالْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِتَرْكِ الْعِصْمَةِ

أَثِمَ لَا غَيْرُ الْمُلْجِئِ) أَيْ: لَا يُبِيحُهَا غَيْرُ الْمُلْجِئِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ (وَحُرْمَةٌ لَا تَسْقُطُ لَكِنْ تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ وَهِيَ إمَّا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَبَدًا كَإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ أَبَدًا، وَإِمَّا فِي حُقُوقِهِ تَعَالَى الَّتِي تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي الْجُمْلَةِ كَالْعِبَادَاتِ فَيُرَخَّصُ بِالْمُلْجِئِ، وَإِنْ صَبَرَ صَارَ شَهِيدًا وَقَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ الرُّخْصَةِ وَزِنَا الْمَرْأَةِ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ إذْ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى قَطْعِ النَّسَبِ بِخِلَافِ زِنَاهُ) أَيْ: إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا بِالْمُلْجِئِ رُخِّصَ لَهَا فَإِنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا عَلَيْهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِكْرَاهِ عَلَى قَتْلِ النَّفْسِ إذْ فِي زِنَا الْمَرْأَةِ لَيْسَ قَطْعُ النَّسَبِ إذْ لَا نَسَبَ مِنْ الْمَرْأَةِ فَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ النَّفْسِ. ـــــــــــــــــــــــــــــQكَمَا ذُكِرَ فِي حُرْمَةِ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَنَّ الْإِيمَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى كَوْنِ الْحُرْمَةِ فِيهِ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِتَرْكِهِ، وَتِلْكَ الْحُرْمَةُ أَعْنِي: حُرْمَةَ إتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ لَا تَسْقُطُ بِحَالٍ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ، وَحُرْمَةُ الظُّلْمِ مُؤَبَّدَةٌ لَكِنَّهَا تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ حَتَّى لَوْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ إكْرَاهًا مُلْجِئًا رُخِّصَ فِيهِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مُهَانٌ مُبْتَذَلٌ رُبَّمَا يَجْعَلُهُ صَاحِبُهُ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْغَيْرِ أَوْ طَرَفِهِ لَكِنَّ إتْلَافَ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي نَفْسِهِ ظُلْمٌ، وَبِالْإِكْرَاهِ لَا تَزُولُ عِصْمَةُ الْمَالِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ لِبَقَاءِ حَاجَتِهِ إلَيْهِ، فَيَكُونُ إتْلَافُهُ، وَإِنْ رُخِّصَ فِيهِ بَاقِيًا عَلَى الْحُرْمَةِ فَإِنْ صَبَرَ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ شَهِيدًا؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ لِدَفْعِ الظُّلْمِ كَمَا إذَا امْتَنَعَ عَنْ تَرْكِ الْفَرَائِضِ مِنْ الْعِبَادَاتِ حَتَّى قُتِلَ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْعِبَادَاتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ التَّرْكِ فِيهَا مِنْ بَابِ إعْزَازِ الدِّينِ قَيَّدُوا الْحُكْمَ بِالِاسْتِثْنَاءِ فَقَالُوا: كَانَ شَهِيدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَتْ الْحُرْمَةُ الَّتِي لَا تَسْقُطُ لَكِنْ تَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ مِثْلَهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُحْتَمِلَةِ لِلسُّقُوطِ، وَحُقُوقِ الْغَيْرِ الْمُحْتَمِلَةِ لَهُ قَالَ: وَحُكْمُهُ حُكْمُ أَخَوَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْقِسْمِ حُكْمُ الْقِسْمَيْنِ السَّابِقَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا قِسْمَانِ لِهَذَا الْقِسْمِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ الْمُرَادُ بِأَخَوَيْهِ حُرْمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُهُ لَكِنْ لَمْ تَسْقُطْ، وَهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تَسَامُحًا؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ السُّقُوطِ، وَعَدَمَهُ فِي الْقِسْمَيْنِ السَّابِقِينَ إنَّمَا هُوَ صِفَةُ الْحُقُوقِ لَا صِفَةُ الْحُرْمَةِ نَفْسِهَا، وَذَلِكَ كَالْإِيمَانِ، وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ حُرْمَةَ تَرْكِهِمَا لَا تَسْقُطُ أَصْلًا لَكِنَّ نَفْسَ الصَّلَاةِ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي الْجُمْلَةِ بِالْأَعْذَارِ بِخِلَافِ الْإِيمَانِ. (قَوْلُهُ: وَيَجِبُ الضَّمَانُ) أَيْ: يَجِبُ عَلَى مَنْ أَكْرَهَ غَيْرُهُ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ ضَمَانُ مَا أُتْلِفَ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَعْصُومٌ حَقًّا لِصَاحِبِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَعْلُومٌ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ فِي صُورَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ نَفْسِهِ يُنْسَبُ الْفِعْلُ إلَى نَفْسِ الْحَامِلِ، وَيُجْعَلُ الْفَاعِلُ آلَةً إلَّا أَنَّ فِي ذِكْرِهِ هَاهُنَا تَصْرِيحًا بِالْمَقْصُودِ، وَخَتْمًا لِلْكِتَابِ عَلَى لَفْظِ وُجُودِ الْعِصْمَةِ عَصَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِعَوْنِهِ الْكَرِيمِ عَنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَوَفَّقَنَا

بِخِلَافِ زِنَا الرَّجُلِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ قَطْعُ النَّسَبِ (وَلَمَّا رُخِّصَ زِنَاهَا بِالْمُلْجِئِ لَا تُحَدُّ بِغَيْرِ الْمُلْجِئِ لِلشُّبْهَةِ، وَيُحَدُّ هُوَ) أَيْ: إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى الزِّنَا بِالْمُلْجِئِ يَكُونُ زِنَاهَا مُرَخِّصًا فَيَنْبَغِي أَنَّهَا إنْ زَنَتْ بِالْإِكْرَاهِ بِغَيْرِ الْمُلْجِئِ يَكُونُ فِي زِنَاهَا شُبْهَةَ الرُّخْصَةِ فَلَا تُحَدُّ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَزِنَاهُ لَا يُرَخَّصُ بِالْمُلْجِئِ فَإِنْ زَنَى بِغَيْرِ الْمُلْجِئِ يُحَدُّ لِعَدَمِ شُبْهَةِ الرُّخْصَةِ (وَأَمَّا فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ كَإِتْلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ أَخَوَيْهِ) أَيْ: فِي أَنَّهُ يُرَخَّصُ بِالْمُلْجِئِ، وَإِنْ صَبَرَ صَارَ شَهِيدًا، وَالْمُرَادُ بِأَخَوَيْهِ حُرْمَةٌ لَا تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ، وَحُرْمَةٌ تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ لَكِنَّهَا لَمْ تَسْقُطْ، وَهُمَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى (وَيَجِبُ الضَّمَانُ لِوُجُودِ الْعِصْمَةِ) وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْعِصْمَةِ وَالتَّوْفِيقِ وَبِيَدِهِ أَزِمَّةُ التَّحْقِيقِ (تَمَّ) . . ـــــــــــــــــــــــــــــQاللَّهُ تَعَالَى بِلُطْفِهِ الْعَمِيمِ لِسُلُوكِ طَرِيقِ الْهُدَى إنَّهُ، وَلِيُّ الْعِصْمَةِ، وَالتَّوْفِيقِ، وَمِنْهُ الْهِدَايَةُ إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ اتَّفَقَ صَبِيحَةَ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ التَّاسِعِ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ ثَمَانٍ، وَخَمْسِينَ، وَسَبْعِمِائَةٍ أَحْسَنَ اللَّهُ تَعَالَى الْعُقْبَى فِي اخْتِتَامِهَا، وَأَجْرَى الْخَيْرَاتِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ شُهُورِهَا، وَأَيَّامِهَا فَرَاغُ بَنَانِ الْبَيَانِ، وَأَسْنَانِ الْأَقْلَامِ عَنْ نَظْمِ مَا جَمَعْت مِنْ الْفَوَائِدِ، وَرَقْمِ مَا سَمِعْت مِنْ الْفَوَائِدِ، وَضَبْطِ مَا رَكِبْتُ لَهُ مَطَايَا الْفِكْرِ فِي ظَمَأِ الْهَوَاجِرِ، وَاقْتَحَمْت لَهُ مَوَارِدَ السَّهَرِ فِي ظُلَمِ الدَّيَاجِرِ، وَوَدَّعْت فِي بُغْيَتِهِ حَبِيبَ الدَّعَةِ، وَلَذِيذَ الْكَرَى، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ الْعِظَامِ، وَمِنَحِهِ الْجِسَامِ، وَالصَّلَاةُ، وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ، وَآلِهِ، وَأَصْحَابِهِ الْبَرَرَةِ الْكِرَامِ.

§1/1