شرح التلقين

المازري

شرح التلقين للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري (536 - 453) (1061 - 1141) الجزءُ الأوّل الصَّلاَة وَمُقَدِّمَاتها المجلد الأول تحقيق سماحة الشيخ محمَّد المختار السّلامي مُفْتي الجمهُوريَّة التونسِّيَة دار الغرب الإِسلامي

1997 (c) دار الغرب الإِسلامي الطبعة الأولى دار الغرب الإِسلامي ص. ب. 5787 - 113 بيروت جميع الحقوق محفوظة. لا يسمع بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق إستعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطى من الناشر.

شرح التلقين للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري المجلد الأول

مقدمات

استفتاح {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الحمد لله الذي أنزل وحيه هدى وذكرى لأولي الألباب. وفتح بصائر أولي النهي على أسرار ما أودعه في صحيح السنة ومحكم الكتاب. ويسّر لمن أراد بهم خيراً التفقه في الدين فارتقوا في الأسباب. أحمده حق حمده وهو ولي الحمد في الأولى ويوم المآب. فبحمده تنزاح الحجب وتلمع بوارق الصواب. والله ولي المؤمنين في هذه الدار ويوم الحساب. وأشكره أبان بقويم شرعه للسالكين مأمون المحجة، ووفق علماء الأمة في متشابك الدروب لصادق الفلجة (¬1). فانزاحت الشبه وظهر الحق لئلا يكون للناس على الله بعد ذلك حجة. ثم أصلي وأسلم على سيدنا محمَّد نبي الأمة وإمامها. ورافع لواء الحقيقة وناشر أعلامها، ومنقذ البشرية بهدى ربه ومحقق أمنها وسلامها. من طاهر سنته امتلأت العقول بالحكمة. وبحرصه على البيان وإبلاغ وحي الله كملت الرحمة. وبإكرام رب العزة لأمته تمت النعمة. ثبتني الله وإياك على الالتزام بسنته. وضاعف في قلبي وقلبك زكي محبته. وفوَّزني وإياك بالورد من حوضه وخاص شفاعته. أما بعد، فإن كتاب شرح التلقين كتاب مفرد في طريقته. نوه به أهل ¬

_ (¬1) الظفر والفوز.

عصره وعرّف بمنزلته في الفقه المالكي حذاق المذهب وأئمته. إذ هو نتاج الإمامين الجليلين = القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب صاحب المتن الذي ختم مدرسة العراق في الفقه المالكي. والإمام أبي عبد الله المازري الذي شرحه. وهو إن ظهر فقهه بالمهدية إلا أنه يعتبر وارث المدرسة القيروانية. فاجتمع في هذا الكتاب المنهج العراقي بالمنهج القيرواني في كتاب واحد. كما اجتمع المنهجان من قبل في شرح القاضي عبد الوهاب على رسالة الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد القيرواني. وهذا الكتاب يعلّم الناظر فيه طريقة التفقه، ويأخذ بيده لربط الحكم الفرعي بأصله. فهو يفتح لك منافذ لمجاوزة التقليد. ويربي الناظر فيه على الإنصاف والبعد عن التعصب للمذاهب. وأن دين الله يجب أن يكون أعظم في النفوس من أن يكون تابعاً لرأي عالم واحد مهما سما مقامه، ودق فهمه واتسع علمه. لذا توسع الإِمام المازري في إملاء مسائله ودلائله. وذلك بعد أن بلغ في مقامات التحقيق وكلفهم السديد ما قدر له، إذ اهتم به في آخر حياته. والمظنون أنه لم يكمله. وقد ابتدأت بتحقيق كتاب الصلاة ومقدماتها. وأدعو الله أن يسعفني بعونه لإخراج ما بقي من الأجزاء. التي بمقابلتها بمتن التلقين تبين لي أن بعض ما أملاه الإِمام المازري لم تصله يدي بعد. ففي آخر الجزء الأول من المخطوطة -و- يقول الناسخ انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني. وأوله باب الزكاة. ولحد الآن لا أعرف مكان وجود شرح هذا الباب. فالله يتولى بفضله جزاء من يدلني على ما هو باق من نسخ هذا الكنز الفقهي إنه لا يضيع عنده أجر من أحسن عملاً. وإنِّي في خاتمة فاتحة قولي هذا أتقدم بوافر الشكر، والثناء العطر، لكل من ساعدني على إنجازه وإخراجه للطالبين. وأخص بالاعتراف بفضل أياديه صديقنا العلامة صاحب السماحة الشيخ محمَّد الحبيب ابن الحوَجة الأمين العام لمجمع الفقه الإِسلامي. فقد حرص أجزل الله مثوبته، فمكنني من صورة

للأجزَاء الأربعة المحفوظة بمكتبة الحرم المدني، وكذلك صديقنا الفاضل الشيخ محمَّد الحاج الناصر. الذي بذل جهده شكر الله له. فصور لي المخطوطات الموجودة بمكتبات المملكة المغربية. وستجدون في وصف المخطوطات التي اعتمدتها أني لم أجد نسخة وافية ولا تامة ولا مقابلة ولا مصححة. فاجتهدت في إخراج النص حسبما فتح الله علي ويسّره لي من الفهم. والكمال لله وحده. ورحم الله من إذا وجد خطأ بادر إلى الاعتذار، وسلك سبيل الكُمَّل من فقهاء الأمصار، كما ستتبينه من أدب المازري فيما بين يديك من أسفار. ومواطن القصور في البشر تربو عن التعداد. وأدب الإِسلام أن لا يتولى المؤمنون بعضهم بعضاً بألسنة حداد. نسأله سبحانه أن يغفر ما زل فيه اللسان والأقدام وأن يختم لنا بالحسنى ويُفَوِّزَنَا بِدار السلام. كتبه في حاضرة تونس يوم الثلاثاء 4 صفر 1418 - 10جوان 1997. محمَّد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية

المقدمة الأولى القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر

المقدمة الأولى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر أما بعد فإن الله تعالت حكمته، ما خلق البشر إلا ليعبدوه، باعتبار ذلك حق الخالقية التي تفرد بها سبحانه: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (¬1). وعبادة الله التي ألزم بها عباده تقتضي تطويع المكلف قواه الفكرية والعضلية لتنفيذ شرعه، والوقوف عند حدود أمره ونهيه، وذلك بإخضاع داعية الهوى، وانقيادها إلى ما بيّنه لسان الوحي نصًا ومفهوماً، حتى تتحقق الطاعة المطلقة لله ولرسوله. {وما أرسلنا من رسول الله ليطاع بإذن الله} (¬2). وأول مراتب الطاعة المعرفة. إذ تتوقف الاستجابة على إدراك الحكم الذي قرره الشارع. فكان كل مكلف ملزماً أن لا يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه. وهذه المعرفة قد يصل إليها: إما بنفسه إن كانت له المؤهلات التي تمكنه من ذلك، وإما بسؤال من هو مؤهل =العالم= إن هو عوقه عن بلوغ مرتبة الاستقلال في الأخذ معوق {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (¬3). ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، آية: 56. (¬2) سورة النساء، آية: 64. (¬3) سورة التوبة، آية: 122.

فدور الفقيه أنه معرف لأحكام الله، وأنه لا تتحقق التقوى ولا العمل الصالح إلا إذا كان المكلفل ينجز ما ينجزه في حدود الضوابط المستندة إلى الوحي. والأخذ من نصوص الوحي قرآنًا وسنة لا يتم إلا بتعاضد النقل والعقل. فالنص هو الخزانة والعقل هو المفتاح الذي يفتح أبوابها، ويكشف ذخائرها ويبرز لبابها. فليس الفقه محصوراً في دائرة الرواية والنقل، ولا هو منفلت مع مجاري النزعات المختلفة لأهل العقل. ولكنه ثمرة تعاضد الأصلين. ولذلك نوه بقيمته سيد المرسلين. لما قال "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (¬1). يقول الإِمام الغزالي "وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع". واصطحب فيه الرأي والشرع. وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول. ولا هو مبني على محض التقليد، الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد. ولأجل شرف علم الفقه وسببه، وفر الله دواعي الخلق على طلبه. وكان العلماء به أرفع العلماء مكاناً. وأجلهم شأناً، وأكثرهم أتباعاً وأعواناً (¬2). ولما تعلقت إرادته العليا سبحانه بأن يكون سيدنا محمَّد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. خاتم الأنبياء والمرسلين، لا يطمع أي إنسان أن يسعف بوحي مستأنف جديد بعده، وأراد أيضاً أن يكون الإِسلام الدين الخاتم الذي يرتضيه إلى أبد الآبدين، ألهم من لا يحصى عدداً من النابهين من أعضاء الأمة الإِسلامية، أن يمحضوا نشاطهم ومواهبهم للتعرف على الأحكام الشرعية. وشرفهم فضمن، لكل مجتهد بذل جهده إخلاصاً لدين الله، ضمن له الأجر على اجتهاده وإن كان اجتهاده لم ينكشف له به الصواب، وضاعف له المثوبة إذا هو أصاب. كما أن كل من قلد مجتهداً منهم هو آمن على أنه قد سار على هدى من الله. ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 1ص 173. الإكمال ج 5 ص 266. (¬2) المستصفى ج 1 ص 3.

قام الفقهاء بهذه المهمة النبيلة، فأعملوا عقولهم في الكتاب بعد ضبط قراءة النص القرآني متتبعين للآيات الواردة في الموضوع المبحوث فيه، ثم في السنة النبوية المطهرة القولية والفعلية والتقريرية، بعد أن نخلوا المرويات ولم يقبلوا منها إلا ما اطمأنوا إلى أنه عن لسان الوحي صدر. وقرنوا بين الكتاب والسنة، وعمقوا النظر، فنفذوا بما فتح الله عليهم إلى أبعادها. حسب قواعد الاستنباط وضوابطه، واستلهموا مكنوناتها بالمقابلة بين كل نص وما يماثله أو يشابهه لإبراز وجوه الشبه وما تقتضيه، أو ما يختلف عنه لإبداء الفوارق وآثارها في الاختلاف بين الصور ثم الأحكام. ثم إنهم شعورًا منهم بثقل الأمانة التي حُمّلوها دونوا ما وصلوا إليه بعد أن اقتصروا في المرحلة الأولى على الإفتاء وتخريج المتلقين عنهم على طرائق الاستنباط. فكان من ذلكم التدوين، الثروةُ الفقهية الكبرى في العالم الإِسلامي. ثروة تجمع في شمول وتقص أحكام أفعال المكلفين ضابطة لكل ما يتعلق بهم فرديًا واجتماعيًا، روحيًا وماديًا، حتى يتحقق في الحياة العملية، العبودية لله. وقد تطور الفقه لارتباطه بتطور المجتمعات من فقه الصحابة والتابعين إلى المذاهب. هذه المذاهب التي انقسمت إلى ثلاث وحدات كبرى: الخوارج، والشيعة، وأهل السنة. وثبت على الزمن من المدارس الفقهية السنية الأربعة. مدرسة أبي حنيفة النعمان ومدرسة مالك بن أنس. ومدرسة محمَّد بن إدريس الشافعي. ومدرسة أحمد بن حنبل رضي الله عنهم. وتوقفت مذاهب أخرى لانقطاع الأتباع الذين لهم القدرات على مواصلة نشر المذهب والتفريع والتخريج على أصوله في القضايا المستجدة، كمذهب الثوري والأوزاعي والحسن البصري والليث بن سعد وعثمان البتي وأبي ثور وابن أبي ليلى وأضرابهم، ممن كان لهم اتجاه واضح المعالم في الفقه ثم انطفأ. وهذه المذاهب الأربعة المستمرة إلى اليوم قد انتشرت في فضاءات العالم الإِسلامي. قد ينفرد مذهب في قطر من الأقطار وقد يجتمع أكثر من مذهب. وقد يكون لأحدها الظهور زمنًا ثم تمحي آثاره أو تكاد. وذلك تبعًا لعوامل

عديدة. منها نبوغ بعض حملة مذهب نبوغًا يغطي من حوله من فقهاء المذاهب الأخرى فيستقطب طلبة العلم ويرويهم من علمه المتأثر بمذهبه الفقهي. ومنها عوامل سياسية واجتماعية. كما أثرت الدولة العثمانية في الأقطار التي كانت متابعة لها فانتشر المذهب الحنفي الذي هو مذهب الخليفة العثماني. وعلى هذه السنة كان تاريخ المذهب المالكي. التي ابتدأ أمر انتشاره في العراق على يدي عبد الله بن مسلمة بن قعنب التميمي أحد رواة الموطأ (¬1). ويحيى بن يحيى بن بكير (¬2): ثم قام به خير قيام أحمد بن المعذل (¬3). ثم حمل لواء المذهب بيت آل حماد لا سيما واسطة عقدهم القاضي إسماعيل. وبالقاضي عبد الوهاب ومعاصريه انتهت المدرسة المالكية في العراق. القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر ولادته. أسرته. ولد القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر بن أحمد بن الحسين بن هارون بن أبي كلثوم مالك بن طوق بن عتاب التغلبي البغدادي ببغداد. سئل القاضي عن مولده فقال يوم الخميس السابع من شوال سنة اثنتين وستين وثلاثمائة ببغداد. يرتفع نسبة إلى قبيلة تغلب التي كانت منازلها بشمال بلاد العرب مما يلي العراق. ومن أبرز رجال هذه الأسرة مالك بن طوق الذي ولي إمارة دمشق للمتوكل العباسي. وعلى يديه تم تخطيط وعمارة بلدة الرحبة على الفرات. وعرفت باسمه "رحبة مالك". كان فارسًا جوادًا فصيح اللسان قصده أبو تمام ¬

_ (¬1) انظر ترجمته في ترتيب المدارك ج 3 ص 198. وتذكرة الحفاظ للذهبي ج 1ص 383. (¬2) المدارك ج 3 ص 216. (¬3) المدارك ج 4 ص 5.

ومدحه مستشفعًا بقصيدته التي مطلعها: لو أن دهرًا رد رجع جواب ... أو كف عن شاويه طول عتاب إلى أن يقول: لا جود في الأقوام يعلم ما خلا ... جودًا حليفًا في بني عتاب متدفقًا صقلوا به أحسابهم ... إن السماحة صيقل الأحساب يا مالكًا ابن المالكين ولم تزل ... تدعى ليومي نائل وعقاب كما مدح ابنه عمر بقصيدته التي مطلعها: أحسن بأيام العقيق وأطيب ... والعيش في أظلالهن المعجب إلى أن يقول: فستخرب الدنيا وأبنية العلى ... وقبابها جدد بها لم تخرب رفعت بأيام الطعان وغشيت ... رقراق لون للسماحة مذهب وطئ الخطوبَ وكفّ من غُلوائها ... عُمَر بنُ طوق نجم أهل المغرب أما والده علي فقد كان من أعيان الشهود المعدلين ببغداد توفي ثاني شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة (¬1). وأخوه أبو الحسن محمَّد كان أديبًا فاضلًا صنف كتاب المفاوضة للملك العزيز جلال الدولة أبي منصور البويهي جمع فيه ما شاهده. وهو من الكتب الممتعة. في ثلاثين كراسة. وله رسائل. وولد سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة يصغر أخاه القاضي بنحو عشر سنوات توفي عن سن تقارب خمسًا وستين سنة (¬2). هذا ما أمكنني جمعه عن أسرة القاضي. وهي نتف تدل على أنه ينتسب لعائلة حظيت بمكانة علمية واجتماعية ونباهة. وفي ضبط مولد والده وأخيه ما يدل على ذلك. ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان ج 3 ص 222. (¬2) وفيات الاعيان ج 3 ص 222.

البيئة التي نشأ فيها بجانب ما لقيه في أسرته من عناية وما أخذ عنها من مكارم فإن بغداد في عصره تموج بالمقدمين في كل فن. وتزخر بالعلماء المحققين في جميع فروع العلم. إذ هي العاصمة العلمية والأدبية الأولى في العالم. ونظرة للقائمة التي أثبتها السيوطي في بعض أسماء أساطين العلماء والأدباء الذين توفوا في خلافة القادر بالله العباسي تريك المستوى الرفيع والمنتشر في أنحاء العالم الإِسلامي: "وفي سنة اثنتين وعشرين توفي القادر بالله ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة عن سبع وثمانين سنة ومدة خلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر. وممن توفي في أيامه من العلماء وعظماء الرجال: أبو أحمد العسكري الأديب، والرمّاني النحوي، وأبو الحسن الماسرجسي شيخ الشافعية، وأبو عبيد الله المَرزباني، والصاحب بن عبّاد -وهو وزير مؤيد الدولة، وهو أول من سمي بالصاحب من الوزراء- والدارقطني الحافظ المشهور، وابن شاهين، وأبو بكر الأودني إمام الشافعية، ويوسف بن السيرافي، وابن زولاق المصري، وابن أبي زيد المالكي شيخ المالكية، وأبو طالب المكي صاحب "قوت القلوب"، وابن بطة الحنبلي، وابن سمعون الواعظ، والخطّابي، والحاتمي اللغوي، والأدفويّ أبو بكر، وزاهر السرخسي شيخ الشافعية، وابن غلبون المقرئ، والكُشْمَيْهِني راوي الصحيح، والمعافى بن زكريا النهراوي، وابن خويز منداد، وابن جني، والجوهري صاحب "الصحاح"، وابن فارس صاحب "المجمل"، وابن مندة الحافظ، والإسماعيلي شيخ الشافعية، وأصبغ بن الفرج شيخ المالكية (¬1)، وبديع الزمان أول من عمل المقامات، وابن لال. وابن أبي زمنين، ¬

_ (¬1) أصبغ بن الفرج المتوفى في عهد القادر بالله العباسي ليس هو أصبغ بن الفرج المصري. وإنما هو سميّه أصبغ بن الفرج بن فارس الطائي الأندلسي. وأصبغ بن الفرج المصري المتوفى في خلال العشرية الثالثة من القرن الثالث هو الذي يصح أن يطلق عليه شيخ المالكية. أما الأندلسي فإنه وإن كان من أكابر علماء قرطبة إلا أنه لم يبلغ الدرجة الذي يتميز بها على معاصريه حتى يطلق عليه شيخ المالكية. والله أعلم.

وأبو حيان التوحيدي، والوأواء الشاعر، والهَرويّ صاحب "الغريبين" وأبو الفتح البُستي الشاعر، والحليمي شيخ الشافعية، وابن الفارض، وأبو الحسن القابسى، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو الطيب الصعلوكي، وابن الأكفاني، وابن نُباتة صاحب الخطب، والصيمري شيخ الشافعية، والحاكم صاحب المسندرك، وابن كَجّ، والشيخ أبو حامد الإسفرايني، وابن فورك، والشريف الرضي، وأبو بكر الرازي صاحب الألقاب والحافظ عبد الغني بن سعيد، وابن مردويه، وهبة الله بن سلامة الضرير المعسر، وأبو عبد الرحمن السلمي شيخ الصوفية، وابن البواب صاحب الخط، وعبد الجبار المعتزلي، والمحاملي إمام الشافعية، وأبو بكر القفّال شيخ الشافعية، والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، واللالكائي، وابن الفخار عالم الأندلس، وعلي بن عيسى الربعي، وخلائق آخرون. وقال الذهبي: كان في هذا العصر رأس الأشعرية أبو إسحاق الإسفرايني، ورأس المعتزلة القاضي عبد الجبار، ورأس الرافضة الشيخ المقتدر، ورأس الكرامية محمَّد بن الهيصم، ورأس القراء أبو الحسن الحمامي، ورأس المحدثين الحافظ عبد الغني بن سعيد، ورأس المجودين ابن البواب، ورأس الملوك السلطان محمود بن سبكتكين. (قلت): ويضم إلى هذا رأس الزنادقة الحاكم بأمر الله، ورأس اللغويين الجوهري، ورأس النحاة ابن جني، ورأس البلغاء البديع، ورأس الخطباء ابن نُباتة، ورأس المفسرين أبو القاسم بن حبيب النيسابوري، ورأس الخلفاء القادر بالله، فإنه من أعلامهم تفقه وصنّف، وناهيك بأن الشيخ تقي الدين بن الصلاح عدّه من الفقهاء الشافعية، وأورده في طبقاتهم، ومدّته في الخلافة من أطول المدد (¬1). ¬

_ (¬1) تاريخ الخلفاء ص 479 - 480.

الوضع السياسي تغطي حياة القاضي ولاية الخليفتين العباسيين في العراق. الطائع لله أبي بكر عبد الكريم بن المطيع (363 - 381) والقادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر (381 - 422). وكان الخليفة العباسي مغلوبًا على أمره مفوضًا أمر تسيير دواليب الدولة والنفوذ والسلطة إلى الملوك البويهيين. كما غطت حياته تولي ثمانية سلاطين من البيت البويهي. هم: 1) بختيار فخر الدولة (362 - 363). 2) عز الدولة (363 - 367). 3) عضد الدولة (367 - 379). 4) صمصام الدولة (372 - 376). 5) شرف الدولة (376 - 379). 6) بهاء الدولة (379 - 402). 7) سلطان الدولة أبو شجاع (402 - 415). 8) عماد الدولة أبو كاليجار (415). وفي السنة التي ولد فيها القاضي دخل المعز لدين الله الفاطمي أرض مصر. كان السلاطين البويهيون متشيعين بعضهم غالى في التشيع كعضد الدولة بن بويه. فهو الذي بني مشهد سيدنا علي كرم الله وجهه وزعم أن قبره هناك (¬1). وبعضهم كان أقل غلوًا مصانعًا أهل السنة. إلا أن أحياء بغداد كانت منقسمة إلى أحياء شيعية كالكرخ وأحياء سنية. وكثيرًا ما كانت تثور الفتن بين الطائفتين فتحرق الدور. وتنتهب الأرزاق وتنتهك الحرمات. وكان الخليفة العباسي القادر بالله شافعيًا. بل يعد من كبار علماء الشافعية. وهو يجمع إلى علو كعبه في العلم التقوى والصلاح. يقول ابن كثير: "وكان الخليفة القادر بالله من خيار الخلفاء وسادات العلماء في ذلك الزمان. وكان كثير الصدقة حسن الاعتقاد (¬2). وقال فيه الخطيب البغدادي: وكان القادر من الستر وحسن الطريق على ¬

_ (¬1) العبر ج 2 ص 362. (¬2) البداية والنهاية ج 11 ص 309.

صفة اشتهرت عنه. تفقه على العلامة ابن بشر الهروي الشافعي. وقد صنف كتابًا في الأصول ... وترجمه ابن الصلاح في طبقات الشافعية (¬1). لقد وهن السلاطين من بني بويه الخلفاء العباسيين واستبدوا بالحكم دونهم. وكان الخليفة يفوض إلى السلطان البويهي ما وراء بابه. وابتدأ أمرهم مع شباب دولتهم قويًا. ثم أخذ ينهار شيئًا فشيئًا إلى أن بلغ في نهاية حياة القاضي من الانحلال والضعف ما وصفه الذهبي بقوله: والخليفة سنة 422 القادر. وأما دست الوزارة فكان لجلال الدولة بغداد وواسط والبطائح وبعض السواد. وليس له من ذلك إلا الخطبة. فأما الأموال والأعمال فمنقسمة بين الأعراب والأكراد والأتراك مع ضعف ارتفاع الخراج. والوزارة خالية من كبس "الرأس الكبير" والوقت هرج ومرج والناس بلا رأس. وكانت دولة العبيديين يعلو شأنها وتتسع أرضها والشعوب التي تدين لها بالطاعة. وقد تولى أمرها رجال ذوو حزم ودهاء ومكر وحيلة انتقصوا أرض الخلافة العباسية من أطرافها. فكانت لهم شعوب إفريقية وما وراءها وجنوب مصر إلى السودان وامتدت شمالًا إلى الشام والجزيرة العربية ولقبوا أنفسهم بالخلفاء. وتعاقب على عرش الخلافة في حياة القاضي المعز ثم العزيز ثم الحاكم ثم الظاهر ثم المستنصر الذي امتد سلطانه إلى سنة 487. لست أقصد من هذا الإلماع التاريخي أن أدون لحقبة من حياة الأمة الإِسلامية من أسرعها تقلبًا وأكثرها فتنًا وأشدها اضطرابًا. حقبة تناولها المؤرخون. واختصر بعضهم الحديث عنها، وتبسط بعضهم. والذي أعتقده هو أنها ما تزال في حاجة إلى مزيد من التعمق في أوضاعها وأسبابها ومسبباتها. وذلك لما كان لها من الأثر البعيد في صياغة القرون التالية. وحتى عصرنا هذا. ولكني أردت أن ألقط من هذا الفضاء المكاني، والزماني، بعض المؤثرات في حياة القاضي أبي محمَّد حتى يتيسر على القارئ العود إلى العامل الذي تأثرت به حياته لتكون الصورة أجلى وأبين. ¬

_ (¬1) تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 475.

شخصية القاضي عبد الوهاب رزق الشيخ أبو محمَّد عبد الوهاب الفطنة والذكاء، وقوة العارضة وسرعة البديهة، والذاكرة الحافظة لما يمر عليها، ورهافة الحس، وذلك ما تنطق به آثاره القائمة شواهد على ذلك معلنة به. وكان إلى جانب هذه المنح الإلهية التي خص بها، طيب المعشر وفيًا. ظنينًا بروابط صداقاته أن تتراخى. فمن شعره: لاتتعجل قطيعتي فكفى ... يوم أبي د الدهر بيننا تقطع عما قليل تحين فرقتنا ... ثمت لا ملتقى ولا مجمع ويروي ابن بسام (¬1) أنه لما كان على قضاء أسعرد بلغه عن أحد أدبائها أنه نوه به فذكر أنه مجيد في كل ما يريد إلا أنه ربما فتر قوله إذا شعر. فأنشأ القاضي يقول: أبغي رضاكم جاهدًا حتى إذا ... أملت حسنى عادلي منكم أذى إني لأصبح من تجن خائفًا ... وبسلمكم من حربكم متعوذا فإلى م صبري للتعتب منكم ... وإلى م إغضائي الجفون على القذى لو شئت أمّنني القريض من الذي ... أنا خائف ولكان لي مستنقذا فيظل بي متململا متنغصا ... من كان قبل الشرّ بي متلذذا لكنني أدعي الوداد وإن غدا ... غيري به متشدقا متطرمذا وأظل يملكني الحنو عليكم ... وأكف عائر أسهمي أن ينفذا وأجل قدري في المودة أن أرى ... بعد الحفاقالعهدهم أن ينبذا ومنها: إن تعتذر منها تجدني قابلًا ... أو رمت تجديد الوداد فحبذا طبعي التجاوز عن صديق إن هفا ... وبغفر زلات الأخلاء اغتذى وما كان تجاوزه إلا تعبيرًا عن علو نفسه وشهامته. واستمع إليه إذ يقول: ¬

_ (¬1) الذخيرة ج 4 ص 517.

لاتترك الحزم في شيء تحاذره ... فإن سلمت فما في الحزم من بأس العجز ذل وما بالحزم من ضرر ... وأحزم الحزم سوء الظن بالناس ويزيده مهابة وجلالًا ورع الصالحين. ذكر القاضي عياض قال: حدثت عن بعض الأندلسيين أنه قال: دخلت بمصر حمامًا. فاجتمعت فيه بالقاضي أبي محمَّد. وعندي آنية بطفل مطيب، فقصدت إليه وسألته، واستعملته فتناوله واشتمه. وسألني من أين هو لك؟ قلت: اشتريت خادمًا. وكان هذا في أسبابها. فقال لي: اشترطت مالها؟ قلت: لا. قال: خذه إليك فلا حاجة لي به (¬1). شيوخه إن من يخالط آثار القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب يجد فقيهًا أديبًا شاعرًا أصوليًا جدليًا. وهو في جدله يستمد من كتاب الله حجته، ومن بحر السنة النبوية المطهرة أدلته، بما يسند به مذهب ويقمع به مخالفه. وفي القياس تظهر براعته وعمق نظره وتقريبه بين النظائر من مختلف أبواب الفقه الذي غدا له ملكة راسخة يتصرف فيها ويقرن بين النظير ونظيره على ما بينهما من بعد. فقضايا النكاح تساعده في أحكام البيوع والتبرعات مثلًا وهكذا. ولكن عندما ننظر في قائمة شيوخه لا نجد ذكرًا لمن أخذ عنهم اللغة والأدب مثلًا. والذين تخرج على أيديهم لم يعين منهم إلا القليل. سئل القاضي بمن تفقهت قال صحبت الأبهري. وتفقهت مع أبي الحسن القصار وأبي القاسم بن الجلاب والذي فتح أفواهنا وجعلنا نتكلم أبو بكر بن الطيب (¬2). إن هذا الكلام سواء أثبت عن القاضي أبي محمَّد أنه قاله أم قيل على لسانه، هي تعبير دقيق يصور من تأثر به من شيوخه وعمل على صياغة جوهر تلكم المو اهب الرفيعة. ¬

_ (¬1) المدارك ج 7 ص 225. (¬2) الد يباج 159.

1 - الشبخ أبو بكر الأبهري: لقد أحسن التعبير لما قال صحبت الأبهري؛ لأن اتصاله بالشيخ أبي بكر الأبهري كان في بواكير شبابه. إذ أن القاضي ولد سنة 362 والأبهري توفي سنة 375. وذلك ما جعل أبا إسحاق الشيرازي يثبت رؤيته له وينفي أن يكون قد سمع منه. خصوصًا والأبهري كان في ذلك الوقت شيخ الشيوخ المقدم على الجميع. قال أبو بكر الخطيب: لم يعط أحد من العلم والرتاسة فيه ما أعطى الأبهري في عصره من المؤالفين والمخالفين. لقد رأيت أصحاب الشافعي وأبي حنيفة إذا اختلفوا في أقوال أئمتهم يسألونه فيرجعون إلى قوله. ونقل القاضي عياض عن أبي القاسم الوهراني أن الشيخ أبا بكر الأبهري قال: ولم يكن لي شغل إلا العلم في هذا الجامع "يعني جامع المنصور ببغداد" ستون سنة أدرس الناس وأفتيهم وأعلمهم سنن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - (¬1). لقد ظن الشيرازي بناء على أن شيخه عبد الوهاب كان ابن ثلاث عشرة سنة لما توفي الأبهري، وأن مهابته وتقدير علماء بغداد وأهل الشأن والسلطة لعلمه وتقواه، ظن لذلك أنه راه ولم يأخذ عنه. ولكن عياضًا يرد هذا الظن مثبتًا أنه روى عنه وأجازه (¬2). والمثبت مقدم على النافي. والذي يترجح عندي أن توقد ذهن القاضي عبد الوهاب ومكانة والده وعائلته الاجتماعية والعلمية، سوغ ذلك أن تتم إجازته من قبل شيخ الشيوخ رغبة في علو الإسناد. ولينتظم في مسلك شرف الاتصال المباشر بشيخ المالكية في المشرق. ولكن التكون الفقهي والنظري كان بملازمته لتلاميذ الأبهري الذين تخرجوا على طريقته وواصلوا السير على منهجه. 2 - أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد ابن القصار: هو أحد العلماء الفقهاء النظار الذين تخرجوا بالشيخ أبي بكر الأبهري ¬

_ (¬1) المدارك ج 6 ص 186. (¬2) المدارك ج 7 ص 24.

وجروا على طريقته في التحصيل وسعة النظر والرجوع بالأحكام الفقهية إلى مداركها. مع معرفة دقيقة بالمذاهب الأخرى. ومناقشتها. ألف كتاب عيون الأدلة، الذي أبرز فيه عمق نظره وقوة تحصيله، وحسن إدراكه. وانتظام الفقه في مدارك جامعة لا تختل. نقل القاضي عياض عن أبي إسحاق الشيرازي قوله: له كتاب في مسائل الخلاف. لا أعرف للمالكيين كتابًا في الخلاف أحسن منه. كما نقل عن القاضي عبد الوهاب قال: تذاكرت مع أبي حامد الإسفرائيني الشافعي في أهل العلم. وجرى ذكر أبي الحسن ابن القصار وكتابه في الحجة لمذهب مالك. فقال لي: ما ترك صاحبكم لقائل ما يقول (¬1). وفي مكتبتي نسخة مصورة عن مخطوطة القرويين بفاس. من كتاب الزكاة والجهاد والنكاح عليها اعتمدت فيما ذكرته. ولي قضاء بغداد توفي سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة (¬2). وعند الذهبي سنة 397 (¬3). 3 - أبو القاسم ابن الجلاب: هو أبو القاسم عبيد الله بن الحسن. ويقال بن الحسين بن الحسن - ابن الجلاب. قال أبو القاسم الهمداني كان من أحفظ أصحاب الأبهري وأمثلهم. ألف كتاب التفريع الذي سلك فيه مسلكًا جديدًا. (¬4) فإذا كان ابن القصار ¬

_ (¬1) المدارك ج 7 ص 70 - 71. (¬2) المدارك ج 7 ص 71. (¬3) العبر ج 3 ص 64. (¬4) (حقق الدكتور حسين بن سالم الدهماني كتاب التفريع وقدمه بالتعريف بابن الجلاب وأجاد. دار الغرب الإِسلامي).

جاريًا على طريقة شيخه الأبهري من ربط الفقه بأدلته والانتصار لمذهب مالك والتوسع في القياس. فإن التفريع يقوم في المقابل على ضبط المذهب وترتيبه. فهو منَ أوائل الكتب التي سلكت سبيل الاختصار والاقتصار في المذهب المالكي. وقد تأثر القاضي بهذا المنهج كما تأثر بمنهج أبي الحسن القصار. ومع كتاب التفريع ألف كتابًا في الخلاف. لم يذكر القاضي عياض منهجه فيه ولم تصلني منه نسخة اعتمدها في المقارنة بين إنتاجه وما وصلنا من معاصريه وسابقيهم في العراق. وقد يبدو أنه سلك فيه طريقة شيخهم الأبهري. 4 - أبو بكر محمَّد بن الطيب الماقلاني (¬1): هو القاضي أبو بكر محمَّد بن الطيب بن محمَّد المعروف بالباقلاني الملقب بشيخ السنة ولسان الأمة. جمع الله فيه ما تفرق في غيره. فكان نادرة الزمان. حاز من الذكاء أعلى مستوياته ومن حضور البديهة أسرعها وأتمها. ومن علو الهمة مراتب الرئاسة والتقدم، ومن التحصيل وقوة الحافظة ما يمد تلك المواهب بفيض غزير. ومن القدرة على الغوص على المعاني وإدراك خفايا الحقائق ما يدفع الشبه ويستبين به وجه الحق. أثنى عليه معاصروه ثناء جمًا في حدود ما تمكنهم منه العبارة وهو فوق ذلك. ناظر العلماء وفاز عليهم. وناظر النصارى فأفحمهم. وصدق القاضي عبد الوهاب لما قال: والذي فتح أفواهنا وجعلنا نتكلم أبو بكر بن الطيب. فهو فصيح العبارة سهل الله عليه الكلام مع الإتقان. قال الميورقي حسبت تواليف القاضي وإملاآته فقسمت على أيام عمره من مولده إلى موته فوجد أنه يقع لكل يوم منها عشر ورقات أو نحوها (¬2). كما ذكر أنه كان حصنًا من حصون المسلمين ما سُرَّ أهل البدع بشيء مثل ¬

_ (¬1) البداية والنهاية ج 11 ص 350. وفيات الأعيان ج 4 ص و 26. العبرج 3 ص 86. وترتيب المدارك ج 7 ص 44 - 70. (¬2) المدارك ج 7 ص و 49.

سرورهم بموته. وأثنى عليه تلميذه الشيخ أبو عمران الفاسي مبرزًا هذه الناحية لما قال كان سيد أهل السنة في زمانه وإمام متكلمي أهل الحق في زماننا (¬1). وقال فيه أبو عمران أيضًا: رحلت إلى بغداد وكنت قد تفقهت بالمغرب والأندلس عند أبي الحسن القابسي. وأبي محمَّد الأصيلي. وكانا عالمين بالأصول. فلما حضرت مجلس القاضي أبي بكر، ورأيت كلامه في الأصول والفقه مع المؤالف والمخالف حقرت نفسي وقلت لا أعلم من العلم شيئًا. ورجعت عنده كالمبتدىء (¬2). وعده الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أكمل المجتهدين الذين لقيهم: لم أر فيمن رأيت أكمل اجتهادًا منه (¬3). لقد تأثر القاضي عبد الوهاب بشيخه أبي بكر بن الطيب تأثرًا بالغًا. يقول القاضي عياض: وتفقه عنده القاضي أبو محمَّد بن نصر، وعلق عنه، وحكى في كتبه ما شاهد من مناظراته في الفقه بين يدي ولي العهد ببغداد، للمخالفين (¬4). وأخذ القاضي عبد الوهاب عن جلة علماء عصره كالقاضي أبي القاسم عمر بن محمَّد بن سبنك البجلي البغدادي والشيخ عمر بن أحمد بن عثمان ابن شاهين البغدادي وأبي عبد الله الحسين بن محمَّد العسكري وغيرهم. والذي ترجح عندي أنه لقي هؤلاء الشيوخ وروى عنهم الحديث. وبذلك شاركوا في زاده المعرفي. إلا أن الذين أثروا فيه تأثيرًا بالغًا ونحتوا شخصيته هم ابن القصار وابن الجلاب والباقلاني. أما بالنسبة لشيخه ابن القصار فإن تأثيره فيه يظهر جليًا في طريقته التي جمعت بين تقرير أحكام القضايا الجزئية في مذهب مالك ومقارنتها بمذهبي الحنفية والشافعية وبمذاهب غيرهما ثم الاستدلال لمذهب مالك ومحاجة ¬

_ (¬1) المدارك ج 7 ص 48. (¬2) المدارك ج 7 ص و 49. (¬3) طبقات الفقهاء 127. (¬4) نفس المصدر.

مخالفيه كما يظهر ذلك في الإشراف على مسائل الخلاف. وفي شرحه لرسالة الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد وبصفة أقل في كتاب المعونة. وهو منهج كتاب عيون الأدلة لابن القصار. وبذلك عد مِم شيخه هذا أحد ركائز المذهب المالكي في العبارة الجامعة للمقدمين فيه "لولا الشيخان أبو محمَّد بن أبي زيد وأبو بكر الأبهري والمحمدان محمَّد بن سحنون ومحمد بن المواز. والقاضيان أبو الحسنَ ابن القصار وأبو محمَّد عبد الوهاب لذهب الفقه المالكي" (¬1). آثار القاضي عبد الوهاب العلمية والأدبية هو فقيه أديب. أو أديب فقيه. إذا نظرت في فقهه وجدت عالمًا متبحرًا ومؤلفًا مجيدًا. يرتب الأبواب والمسائل ترتيبًا يدلك على عقل منهجي. وعلم واسع. وملكة راسخة. وإن تاملت صياغته وجدته واضح العبارة مشرق الأسلوب. يزن الكلام بدقة ويضبط كلامه ضبط من يقدر مفهوم كل كلمة وما تشير إليه مما سنزيده بيانًا في بسط تنويه المازري بدقة القاضي. والذي بلغ به إلى هذه المرتبة الرفيعة في التأليف هو ما انضاف إلى ثقافته الفقهية الأصولية الواسعة، من ملكة شعرية نوه بها ابن بسام في الذخيرة. تآليفه الفقهية: 1 - التلقين: وهو المتن الذي بين يديك. وهو على اختصاره من أجود ما ألف القاضي حتى اقتصر عليه ابن كثير. وقال: له كتاب التلقين يحفظه الطلبة وله غيره في الفروع والأصول (¬2). منهجه في هذا الكتاب: إنه بالمقارنة بين كتاب التلقين وبين ما وصلته يدي من كتب القاضي تبين لي: أنه تأثر في كتاب التلقين بمنهج ابن الجلاب في التفريع. وخرج كشيخه عن المنهج الذي كان يسير عليه علماء بغداد. ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك ج 1ص 53. (¬2) البداية والنهاية ج 12 ص 32.

ذلك أنه قد تجاورت المذاهب في البيئة العلمية العراقية وعمرت حلقات الدروس بكبار العلماء من المدارس المختلفة. واحتكت الآراء تبعًا لذلك. فكَان المؤلف أو المدرس لا يقتصر في بيان المسألة التي يبسطها ويقلب فيها أوجه النظر رابطًا ذلك بالأدلة الشرعية، لا يقتصر على تقرير حكمها حسب وجهة نظر المدرسة الفقهية التي رضيها والتزم بأصولها ومداركها، بل كان بحكم البيئة العلمية هذه التي تضطرب بوجهات النظر المختلفة في الأصول والفروع، كان مضطرًا إلى تقرير آراء المدارس الأخرى وبيان حججها والمدرك الذي اعتمدته فانتهى بها إلى القول بالحكم المنطبق على تلك المسألة. ثم يعود على الاستدلال المخالف بالنقد لبيان الخطأ الذي وقع فيه المستدل وإظهار أن مدرك مذهبه في القضية المبحوث فيها أقوى في النظر وأحق بالاعتماد عليه. وأولى أن يؤخذ بما أفضى إليه. أما كتاب التلقين فقد اقتصر فيه القاضي عبد الوهاب على المذهب المالكي. وعلى ما ترجح لديه من الدليل الخاص -دون ذكره- من أقوال أئمة هذا المذهب. ثم اعتنى فيه عناية تامة بالتدقيق في عبارته وبضبطها الضبط المحكم، مما يجعل الناظر في كتاب التلقين يجد في كلام القاضي من الإشارات إلى المذاهب الأخرى دون تصريح بذلك ما يحرك خاطره من ناحية، وما يجعل كتابه يستفيد منه طلبة العلم ككتاب يضبط لهم مذهب مالك في أخصر وأدق عبارة. ويجد المتبحر في الفقه متعة الدقة والتحصن في التعبير ليخلص القول من وجهات النظر المخالفة، من ناحية أخرى. وهو ما جعل القرافي يعتبر كتاب التلقين أحد الكتب الخمسة التي عليها المعول في الفقه المالكي إذ يقول في مقدمة كتاب الذخيرة. وقد آئرت أن أجمع بين الكتب الخمسة التي عكف عليها المالكيون شرقًا وغربًا، حتى لا يفوت أحد من الناس مطلب. وهي المدونة والجواهر. والتلقين. والجلاب والرسالة جمعًا مرتبًا بحيث يستقر كل فرع في مركزه (¬1). ¬

_ (¬1) الذخيرة ج 1ص 36.

2 - وكتاب التلقين شرحه مؤلفه ولم يتمه. ويذكر الدكتور حميش عبد الحق أنه توجد منه نسخة في خزانة القرويين تحت رقم 355 (¬1). وشرحه الإِمام أبو عبد الله المازري الشرح الذي هو بين يديك. 3 - شرح رسالة الشيخ محمَّد بن أبي زيد. وعندي نسخة مصورة عن مخطوط بالمكتبة العامة للأوقاف بطرابلس به جزء من باب الضحايا فباب الجهاد فباب النكاح والطلاق والرجعة والظهار والإيلاء والخلع والرضاع والعدة والنفقة والاستبراء. وطريقته في الشرح أنه يذكر أولًا الدليل الذي أستند إليه حكم الفرع. ويذكر أقوال المخالفين من أئمة المذاهب الأخرى. ويوجه أقوالهم بالمدرك الذي استندوا إليه ثم يبرز ضعف مستندهم وقوة دليل المالكية. فيكون القاضي بشرحه هذا قد طعم المنهج المغربي الذي يتجه إلى تحقيق المسائل داخل المذهب بالمنهج البغدادي الذي يعني بالاستدلال والحجاج. وتوجهه إلى شرح رسالة الشيخ أبي محمَّد يعطينا صورة عن الاتصال العلمي وقوته بين أطراف العالم الإِسلامي. حتى إن قيام الدولة العبيدية وفصلها الجناح الغربي سياسيًا عن الجناح الشرقي للعالم الإِسلامي في القرن الرابع لم يؤثر في الوحدة العلمية للعالم الإِسلامي. وهي ميزة نلحظها في مختلف الاعصار. فقد صورتُ نسخة من شرح الشيخ محمَّد ابن عبد السلام على مختصر ابن الحاجب (¬2) عن المخطوطة المحفوظة بالمكتبة السليمانية بأصطمبول. فوجدُ في توثيق التملك أنه اشتراها الشيخ المنوفي المعاصر للشيخ ابن عبد السلام. ثم اشتراها من تركته تلميذه الشيخ خليل بن إسحاق. 4 - الممهد في شرح مختصر الشيخ أبي محمَّد. شرح منه حوالي ¬

_ (¬1) تحقيق كتاب المعونة ج 1ص 41. (¬2) جامع الأمهات.

النصف (¬1). وهو مختصر المدونة الذي ألفه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد. يقول فيه القاضي عياض له كتاب النوادر والزيادات على المدونة مشهور أزيد من مائة جزء. وكتاب مختصر المدونة مشهور وعلى كتابيه هذين المعول بالمغرب في التفقه (¬2). واعتناء القاضي عبد الوهاب بشرح كتابي الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد يصور لنا المكانة العلمية لعالم القيروان وإتقانه للتأليف من ناحية. كما يبرز نقد القاضي الفقهاء واجتهاده ليرتبط بأعلامهم. فهو إذا كان قد صحب الأبهري في بغداد فهو قد صحب قرينه في العلم والفضل ومعاصرة ابن أبي زيد بشرح كتابيه فتمرس بأسلوبه وطريقته في التحرير. ولا يبعد عندي أن يكون كتاب التلقين مما استوحاه من طريقة الشيخ أبي محمَّد في كتاب الرسالة كما يبدو ذلك بصفة خاصة في الجزء الأخير منه. وإن كانت طريقة القاضي أضبط في حصر المسائل. 5 - كتاب المعونة على مذهب عالم المدينة. حققه الدكتور حميش عبد الحق. ألفه القاضي. كما ق الذي مقدمته ليكون مدخلًا لشرحيه على الرسالة ومختصر المدونة لابن أبي زيد. وكذلك بين الشيخ أبي محمَّد ابن أبي زيد وبين القاضي صلة أخرى جامعة تقرب بينهما. إذ كلاهما كان أديبًا شاعرًا. 6 - كتاب شرح المدونة. وهو كتاب ابتدأ شرحه ولم يتمه. 7 - كتاب النصرة لمذهب إمام دار الهجرة. وفي شجرة النور الزكية كتاب النصر في مائة جزء وقع الكتاب بخطه في يد بعض الشافعية فألقاه في النيل (¬3). 8 - عيون المسائل. ¬

_ (¬1) المدارك ج 7 ص222. (¬2) المدارك ج 6 ص 217. (¬3) المدارك ج 1 ص 104.

وألف في الخلاف وما ذُكِر له من ذلك. 1 - الإشراف على مسائل الخلاف. أظهر فيه من البراءة في تخريج الأقيسة وتأييد المذهب المالكي. كما يقول ابن فرحون كان ناصرًا للمذهب (¬1). وينقل الشيخ محمَّد مخلوف عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه كان يقول: لو اجتمع في مدرستي أبو عمران الفاسي والقاضي عبد الوهاب لاجتمع علم مالك. أبو عمران يحفظه وعبد الوهاب ينصره (¬2). 2 - كتاب أوائل الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الملة. 3 - اختصار عيون الأدلة لشيخه القاضي ابن القصار. وكما تأثر القاضي بمنهج شيخه ابن الجلاب. وخاصة في كتاب التلقين فإنه تأثر بشيخه ابن القصار في تآليفه في الخلاف. 4 - كتاب الرد على المزني. وهو كما يدل عليه عنوانه في نصرة مذهب مالك ومناقشة المزني الشافعي في تعقيبه على مذهب مالك. كما ألف في أصول الفقه. 1 - كتاب الإفادة في أصول الفقه. 2 - كتاب تلخيص الإفادة. 3 - كتاب المروزي. 4 - كتاب المفاخر (¬3). 5 - كتاب الملخص: اعتمده السيوطي في كتابه الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض فنقل عنه الفقرة 38 - والفقرة 105 والفقرة 106 - والفقرة 107 - والفقرة 108 - والفقرة 109 - والفقرة 110 مِن ص 81 إلى ص 89. وختم ذلك بقوله انتهى كلام القاضي عبد الوهاب في ¬

_ (¬1) الديباج ج 1ص 159. (¬2) شجرة النور الزكية ج1ص 104. (¬3) المدارك ج 7 ص 222.

الملخص. ثم نقل عنه الفقرة 143 ص 110. وهو دائمًا يعبر بالملخص. وكذلك الفقرة 198 ص 173 أو 204 ص 179 - 194. 6 - كتاب المقدمات. أيضًا نقل عنه السيوطي الفقرة 37 ص 45 والفقرة 141 ص 107. هذه بعض آثاره في الفقه والأصول والملاحظ أن القاضي يتبسط في بعض كتبه ويطلق لقلمه العنان يسجل ما يحمله من فيض علم وعمق فهم وغوص على بعيد المعالمي. وجمع بين أطراف المسائل. ثم يعود على ذلك فيختصره مقربا. وشمعف به طلبة العلم في بواكير تكونهم. وهو في كل ذلك يقرب ذلك منتظمًا في سلك منطقي يسهل للتذكر مع الاحتياط في التعبير، ووزن الكلام بميزان العالم الخبير. مرتبته العلمية يفتتح القاضي عبد الوهاب كتاب الأقضية والشهادات في كتاب الإشراف بقوله: مسألة: لا يجوز أن يكون القاضي من غير أهل الاجتهاد خلافًا لأبي حنيفة لقوله تعالى: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} (¬1). وذلك يتضمن الاجتهاد وقوله تعالى: {فاحكم بين الناس بالحق} (¬2). والمقلد لا يعرف بتقليده الحق من الباطل (¬3). وهو قد ولي القضاء أربع مرات في بلدان مختلفة ومات قاضيًا على مصر. وكذلك جاء في المعونة في فصل الخصال التي يجب توفرها في القاضي: فأول ما يجب فيه أن يكون فقيهًا غير عامي ومن أهل الاجتهاد، عارفًا بالكتاب ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 105. (¬2) سورة ص، الآية: 26. (¬3) المدارك ج 2 ص 278.

والسنة وطرق الاجتهاد وترتيب الأدلة. وكيفية النظر فيها، وتخريج الفروع على الأصول. وينقل عنه السيوطي ما افتتح به كتابة المقدمات في الأصول. قال القاضي عبد الوهاب أحد أئمة المالكية في أول كتابه "المقدمات في أصول الفقه": "الحمد لله الذي شرع وكلف، وبين ووقف، وفرض وألزم، وأوجب وحتم، وحلل وحرم، وندب وأرشد، ووعد وأوعد ونهى وأمر، وأباح وحظر، وأعذر وأنذر، ونصب لنا الأدلة والأعلام على ما شرع لنا من أحكام، وفصل الحلال من الحرام، والقُرب من الآثام، وحض على النظر فيها والتفكر والاعتبار والتدبر. فقال جل ثناؤه: فاعتبروا يا أولي الأبصار. وقال: أفلا يتدبرون القرآن. وقال: وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون. وقال: كتاب أنزلناه إليك مباركًا ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب. وقال: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم. وقال: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم. والتفقه من التفهم والتبين، ولا يكون ذلك إلا بالنظر في الأدلة واستيفاء الحجة دون التقليد فإنه لا يثمر علمًا ولا يفضي إلى معرفة. وقد جاء النص بذم من أخلد إلى تقليد الآباء والرؤساء، وأتباع السادة والكبراء، تاركًا بذلك ما ألزمه من النظر والاستدلال، وفرض عليه من الاعتبار والاجتهاد. فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}. وقال: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}. في نظائر من الآيات، تنبيه بها على خطر التقليد بأن فيه نزع إتباع الأدلة والعدول عن الانقياد إلى قول من لا يعلم أنه فيما تقلد فيه مصيب أو مخطئ. فلا يأمن من التقليد لغيره كون ما يقلده فيه خطأ وجهلًا لأن صحة المذهب لا يتبين من فساده باعتقاد المعتقد له وشدة تمسكه به، وإنما يتميز صحيح المذاهب من فاسدها، وحقها من باطلها بالأدلة الكاشفة عن أحوالها والمميزة بين أحكامها، وذلك مَعدوم في المقلد لأنه متبع لقول لا يعرف صحته من فساده. وإنما اعتقده لقول مقلده به. فإن زعم صاحب التقليد أنه يعرف أن

صحة القول الذي قلد فيه، ويعلم أنه حق، وأن اعتقاده واجب فذلك باطل منه. لأن العلم بذلك لا يكون إلا بالنظر في الأدلة التي هي طريق العلم، وإذا عدل عنها علمنا بطلان دعواه العلم بصحة ما قلد فيه. فإن قال: علمت صحة القول الذي قلدت فيه بدليل وحجة، قلنا: فأنت غير مقلد لأنك عارف بصحة القول الذي تعتقده. والتقليد هو اتباع القول لأن قائلًا قال به من غير علم بصحته من فساده. ثم قال: فإن قيل: فإذا كنتم تمنعون التقليد وتدعون إلى النظر فيجب أن تبينوا صحته. وتثبتوه طريقًا للعلم بالمنظور فيه. والجواب: إن القرآن قد حض على النظر والاعتبار في الآيات السابقة. ولا يجوز أن يحض على النظر فيما لا يثمر علمًا، ومن اعتقاد ما يؤدي إليه. وإن لم يكن حقًا مع قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}. وقوله: {وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ}. ومع ما ورد به القرآن من الاستدلال على مدلولات والتنبيه على تصحيح وإفساد مقالات، وذلك في القرآن كثير، يطول استيفاؤه، ومن الظاهر في ذلك المشهور ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم من الاحتجاج والاستدل الذي مسائل الأحكام، ومناظرة بعضهم لبعض وذلك أشهر وأظهر من تكلف الإطالة بتقصيه. فبان بما أوردناه صحة النظر والاستدلال وثبوته طريقًا للعلم بالمنظور فيه. فإن قيل أخبرونا عن مريد التفقه ما الذي يلزمه؟ قلنا: لا يسوغ لمن فيه فضل للنظر والاجتهاد، وقوة على الاستدلال والاعتبار أن يعتقد التفقه إلا من طريق الاستدلال الصحيح العاري من آفات النظر المانعة له من استعماله على واجبه وترتيبه في حقه. فإن قيل فهذا خلاف ما أنتم عليه من دعائكم إلى درس مذهب مالك بن أنس، واعتقاده والتدين بصحته وفساد ما خالفه. قلنا: هذا ظن منك بعيد، وإغفال شديد؛ لأنا لا ندعو من ندعوه إلى ذلك إلا إلى أمر قد عرفنا صحته، وعلم صوابه بالطريق التي قد بيناها فلم نخالف

بدعائنا إليه ما قررناه وعقدنا الباب عليه. وهذه النصوص من كلام القاضي عبد الوهاب تبرز ما أحس به في نفسه أنه سما عن التقليد، وأنه أخذ الأحكام من الأصول التي أخذ منها السابقون، وأنه رتب المدارك الترتيب الذي اطمأن إلى صحته، وأن التزامه لمذهب مالك لم يكنءتقليدًا حمل عليه الإتباع. وإنما كان توافقًا نتيجة الاستبصار والاختيار. وبهذا فإنه يعد فقيهًا مجتهدًا في مذهب مالك. رضي أصوله في النظر. ورتب المدارك حسب منهج مالك ثم فرع على ذلك. وقد صرح القاضي بأنه يعتبر نفسه مجتهدًا كما نقله عنه السيوطي: وادعى القاضي عبد الوهاب أحد أئمة المالكية الاجتهاد في كتابه "المقدمات" (¬1). ونحن إذا تتبعنا شروط الاجتهاد من علم بالكتاب والسنة وجدنا القاضي في تقريره لأحكام القضايا مستندًا إلى هذين الأصلين. وهما يجريان مع أنفاسه العلمية ويسعفانه في النظر. وهو أصولي رتب المدارك ونقدها وبين طرق الاستدلال. ولعل أهم ما أعانه على الورود من منابع الشريعة مباشرة زيادة على سلامة فطرته وجودة قريحته، وصحبته لكتاب الله وأخذه عن شيوخ السنة المطهرة، هو حذقه للعربية وحسن إدراكه لإسرارها وتصرفه فيها تصرف المقدمين من الأدباء. آثاره الأدبية أقرر أمرين: أولهما: أن القاضي عبد الوهاب كان شاعرًا مجيدًا. وكان مترسلًا قديرًا. ولكن شهرته الفقهية طغت على هذا الجانب الأدبي فلم يلق العناية التي تليق به. ثانيهما: أن كل من تكلم على تميزه الأدبي هو عالة على ابن بسام في الذخيرة. ¬

_ (¬1) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 194.

ولذا فإنه قد تعذر على التبسط في هذا الجانب فقنعت بالوقوف في حدود ما حفظه لنا ابن بسام. ثم بما جاء في القصيدة التي أنشدها أبو العلاء المعري بالمعرة عندما مر عليه في طريقه إلى مصر. لقد أجاد ابن بسام وأحسن التعبير، وهو الأديب الرقيق، الذي يأسره النظم الرفيع والمعاني البعيدة المأخذ. والتصوير الدقيق. لقد وفق حين تحدث عن الجانب الأدبي عند القاضي عبد الوهاب. فقال: وقد وجدت له شعرًا معانيه أجلى من الصبح، وألفاظه أحلى من الظفر بالنجح (¬1) ... واستقر الفقيه أبو محمَّد بمصر فحمل لواءها وملأ أرضها وسماءها. واستتبع سادتها وكبراءها، وتناهت إليه الغرائب وانثالت في يديه الرغائب ... وقد أخرجت من شعره ما يروق العيون، ويفوق المنثور والموزون (¬2). أنشد في بغداد روائع من المقطعات وهو يتشوق إليها: أتبكي على بغداد وهي قريبة ... فكيف إذا ما ازددت عنها غدًا بعدا لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى ... لها أن وجدنا للفراق بها بدا إذا ذكرت بغداد نفسي تقطعت ... من الشوق أو كادت تموت بها وجدا كفى حزنًا إن رمت لم أستطع لها ... وداعًا ولم أحدث لشاطئها عهدا وقال: أنا في الغربة أبكي ... ما بكت عين غريب لم أكن يوم خروجي ... من بلادي بالمصيب عجبًا لي ولتركي ... وطنًا فيه حبيبي وقال: خليلي في بغداد هل أنتما ليا ... على العهد مثلي أم غدا العهد باليا وهل أنا مذكور بخير لديكِم ... إذا ما جرى ذكرٌ بمن كان نائيا ¬

_ (¬1) الذخيرة ص 515. (¬2) نفس المصدر ص 516.

وهل ذَرَفَتْ عند النوى مقلتاكما ... عليّ كما أُمسي وأُصبح باكيا وهل فيكما من إن تنزّل منزلا ... "أنيقًا وبستانًا من النَّوْر حاليًا" "أجدَّ لنا طيب المكان وحسنُهُ ... مُنى فتمنينا فكنت الأمانيا" (¬1) كما بيَ عن شوق شديد إليكما ... كأنّ على الأحشاء منه مكاويا على أدمع منهَلةٍ فتأمّلا ... كتابي تبنْ آثارها في كتابيا ولا تيأسا أن يجمع الله بيننا ... كأحسن ما كنا عليه تصافيا "فقد يجمع الله الشتيتين بعد ما ... يظنان كلَّ الظنّ أن لا تلاقيا" (¬2) فدى لك يا بغداد وأهلا ومنزلا ... ولم أر فيها مثلَ دجلةَ واديًا ولا مثلَ أهليها أرقَّ شمائلًا ... وأعذبَ ألفاظًا وأحلى معانيا وكم من قائل لو كان ودُّكَ صادقا ... لبغداد لم ترحل، فكان جوابيا "يقيم الرجال الأغنياء بأرضهم ... وترمي النوى بالمعسرين المراميا" (¬3) "وما هجروا أوطانهم عن ملالة ... ولكن حذارًا من شمات الأعاديا" "إذا زرتُ أرضًا بعد طول اجتنابها ... فقدت حبيبي والديارُ كما هيا" (¬4) وقال: قطعت الأرض في شهري ربيع ... إلى مصر وعدت إلى العراق فقال لي الحبيب وقد رآني ... سبوقا للمضمرة العتاق ركبتَ على البراق؟ فقلت كلا ... ولكن ركبت على اشتياقي شعر يجسم حنينه للعراق بصور شتى ويحييها بلون من الحوار وبخيال يبلغ مبلغ الحقيقة. فهو لم يدخل بغداد بعد أن فارقها ويتصور أنه يمشي في ¬

_ (¬1) يضمن ويجري بعض التحوير في قول الشاعر: ولما نزلنا منزلا طله الندى ... أنيقأوبستانًا من النور حاليا أجدَّ لنا طيب المكان وحسنه .................... (البيت) (¬2) مضمن أيضًا من شعر المجنون. (¬3) الأبيات الثلاثة الأخيرة مضمنة من شعر إياس ابن القائف (الحماسية رقم: 406 في شرح المرزوقي) وإن لم يرد البيت الأوسط في الحماسية المذكورة. (¬4) الذخيرة 527 - 528.

طرقها ويحدث أهلها. وهذا الحنين لمراتع صباه ولمجالس أنسه بها، ولمحاضر دراساته العلمية طالبًا وأستاذًا. ولمذاكراته مع أقرانه، ولمطارحاته مع أحبائه وخلانه، ينبىء عن روح مرهفة وعن أحاسيس صادقة، يفصح عن ذلك هذه السلاسة التي نجدها في شعره ببعده عن التكلف والتقعر والإغراب، التي كثيرًا ما يلجأ إليها الشعراء لشغل السامع عن الغلو الذي يغلو به التعبير فينأى عن الحقيقة التي تجري في المشاعر. ولهذا نجد له فلسفة في الحب: بأن لذته في مكابدة حر الاشتياق، لا في الوصال والعناق، وحظه السعيد أن كان له محبوب يستقر في خاطره ويلهب جوانحه. يقول: لست وان كنت معنى به ... مشتكيا منه أذى حبه بل راضيًا ما كان فيه وإن ... حملت في الحب على صعبه مر الهوى أطيب من عذبه ... وجدبه أنعم من خصبه ما صدق الحب امرؤ لم تبت ... نيرانه تضرم في قلبه يستعذب التعذيب فيه وإن ... آل به ذاك إلى نحبه لا باغيا منه نوالا ولا ... يشكو الذي يلقاه من كربه ومن تمثيله البديع هذه الصورة المتخيلة في تشبيه الأحاسيس الباطنية النفسية بالصورة الحسية المادية المنتزعة من متعدد القريبة بصنعة الشاعر، البعيدة المرمى في إدراكها الأول. إذ يقول: الله يعلم أني يوم بينهم ... ندمت إذ ودعتني غاية الندم تزاحمت في فؤداي للنوى حرق ... تزاحم الدمع في أجفان منسجم ثم انثنيت وفي قلبي لفرقتهم ... وقع الأسنة في أعقاب منهزم ولون آخر من ألوان الشعر هو المزِج بين الفقه والشعر حتى غدا الحكم الفقهي شعرًا يُطِرْب وغدا الشعر حقًا يُستعذب. إذ يقول:

ونائمة قبلتها فتنبهت ... فقالت تعالوا فاطلبوا اللص بالحد فقلت لها إني -فديتك- غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد خذيها وحطي عن أثيم ظلامة ... وإن أنت لم ترضى فألف على العد فقالت قصاص يشهد العقل أنه ... على المذنب الجاني ألذ من الشهد وقالت ألم أخبر بأنك زاهد ... فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد فباتت يميني وهي هيمان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد ويعبر القاضي عن علو همته بشعر يذكرنا أبا الطبيب المتنبي إذ يقول: ومحجوبة في الخدر عن كل ناظر ... ولو برزت في الليل ما ضل من يسري أقول لها والعيس تحدج للنوى ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر سأنفق ريعان الشبيبة آنفًا ... على طلب العلياء أو طلب الأجر أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري وإنا لفي الدنيا كراكب لجة ... نظن قعودًا والزمان بنا يجري كما يجرد من نفسه من يخاطبه بالحزم والحذر فيقول: لا تترك الحزم في شيء تحاذره ... فإن سلمت فما في الحزم من بأس العجز ذل وما بالحزم من ضرر ... وأحزم الحزم سوء الظن بالناس هذا بعض ما وثقه ابن بسام من شعر القاضي عبد الوهاب كما حفظ لنا رسالته التي ذكر أنه بعث بها إلى المستنصر بالله صاحب مصر. هكذا المستنصر بالله صاحب مصر. والمستنصر ولي أمر مصر بعد أبيه أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله. سنة سبع وعشرين وأربعمائة. أي بعد وفاة القاضي بخمس سنين فيكون ذكر اسم المستنصر خطأ قطعًا. وتكون الرسالة قد كتبت إما لأبي الحسن علي بن الحاكم الذي ولي الأمر بعد مقتل أبيه سنة إحدى عشرة وأربعمائة. وإما للحاكم. والراجح أنها =إذا صح أن القاضي عبد الوهاب بعث بها= أنه أرسلها لأبي الحسن علي الملقب بالظاهر لإعزاز دين الله. وذلك أولًا لأن الحاكم كان جبارًا عنيفًا ظالمًا. فلا يتصور منه أن يجيب القاضي بالطريقة التي جاءت في الرد. وثانيًا لأن خروجه إلى مصر كان في آخر حياته، وكانت

الرسالة وجوابها قد فتحا قناة الاتصال. وانكشف للقاضي تقدير الظاهر له. وهذه هي الرسالة وجوابها كما أثبته ابن بسام (¬1). وكتب يخاطب المستنصر بالله صاحب مصر: حصّن الله المؤمنين من الشيطان [بجُنَن] الطاعة. ودثّرهم من قرّ وسواسه بسرابيل القناعة. ووهبهم من نِعَمِه مددا ومن توفيقه رشَدا. وصيّرهم إلى منهج الإِسلام وسبيله الأقوم. وجعلهم من الآمنين فيما هم عليه موقوفون. وزيّنهم بالتثبت فيما هم عنه مسؤولون {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (¬2). كتابي إليك من الجُب (¬3) بإزاء مصرك. وفناء برك. بعد أن كانت بغداد لي الوطن، والألفة والسكن. ولما كنت على مذهب صحيح. ومتجر ربيح. كثرت عليّ الخوارج. وشقّ [على] الماء ارتقاء المناهج. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬4). فأتيت مكة. حرسها الله. لكي أقضي فرض الحج. من عجّ وثجّ. أسأل الله تعالى القبول. وكيف وإنما يتقبل الله من المتقين: وقد كنت عندي ذا سنّة ودين. محبا في الله تعالى وفي النبيين. وفي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - والمهديين. فورد الناطقون. وأتى المخبرون. بخبر ما أنت عليه. فذكروا أنك مُدحض لمذهب مالك. موعد لصاحبه بأليم المهالك. هيهات هيهات. {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (¬5). فأبيت القبول على أمر لم يصحّ بيانه لكثرة الكذب في الدنيا. وإذ لا يحل لمسلم أن يموت (¬6) طوعًا. فأردت الكشف عن ذلك بكتاب منك. والسلام على من أَتبع الهدى. جواب المستنصر بالله: حرس الله مهجتك. وطوّل مدّتك. وقدّم أمير المؤمنين إلى المنية قبلك. وخصّه بها دونك. ورد كتابك المكرم. وأتى ¬

_ (¬1) الذخيرة ص 520 - 521. (¬2) سحورة فصلت، الآية: 46. (¬3) موضع بين القاهرة وبلبيس يقال له جب عميرة. تاج العروس ج 2 ص 121. (¬4) سورة الحج، الآية: 40. (¬5) سورة الزمر، الآية: 30 - 31. (¬6) هكذا.

خطابك المعظم. يُفصح البكم. وُينْزل العُصْم. هبّت عليه رياح البلاغة فنمقته، ووكَفَت عليه سحائب البراعة فرققته. فيا له من خط بهيّ. ولفظ شهيّ. تذكر فيه حسن ظنونك بنا. وتثبت مآثرنا. فلما أن عرّست بإزائها ورد من فسخ عليك. فخذْ بظاهر ما كان عندك وَرِد، ودع لربك علم ذات الصدور. والسلام (¬1). ما جاء في قصيد أبي العلاء المعري: وفي طريقه إلى مصر يمر على معرة النعمان. ويلتقي فيها بأبي العلاء المعري الذي صحبه ببغداد. فيأنس به في محبسه ويسجل أبو العلاء هذا اللقاء في القصيد الذي بلغ خمسة عشر بيتا وبعث به إلى القاضي التنوخي يذكره فيه بالأيام التي جمعتهما ببغداد ويذكر له فيها حاله في معرة النعمان. ويتعرض إلى أن صديقهما القاضي عبد الوهاب زاره. ويثني عليه. يفتتح قصيده باعتزازه باتحاده مع القاضي التنوخي في الانتساب إلى قبيلة تنوخ فيقول: لو مساعيك لم نعدد مساعينا ... ولم نُسام بأحكام العلى مضرا ثم يتعرض لزيارة القاضي عبد الوهاب فيقول (¬2): والمالكي بن نصر زار في سفر ... بلادنا فحمدنا الظعن والسفرا إذا تفقه أحيا مالكا جدلا ... وينشر الملك الضليل إن شعرا فظل يثني عليك الخير مجتهدا ... ولم تغلب عن ذرى مسجد إذا حضرا فأبو العلاء يثني على القاضي ثناء يعبر عن إعجاب. أولًا: ينوه بقيمته الفقهية. والصورة التي ارتسمت في ذهنه هي قوة عارضة القاضي عبد الوهاب ونصاعة حجته وقوة جدله. فعبر عن هذا بأنه يحيي إن هو تكلم في الفقه الإِمام مالكًا. وهذه الصورة صادقة في ناحية غير صحيحة في ناحية أخرى. فهي صادقة في أن قدرة القاضي عبد الوهاب في الجدل بلغت قمة عالية. وهي غير صحيحة لأن مالكًا ما عرف بالجدل. وعذر المعري أنه ما ¬

_ (¬1) الذخيرة، ص520 - 521. (¬2) سقط الزندج 2 ص 194.

كان دارسًا للمذاهب الفقهية مميزًا بينها في أصولها ومناهج أئمتها. ثانيًا: ينوه بادبه فيجمع بينه وبين امرئ القيس "الملك الضليل" وهي صورة لا يستطيع أحد أن يناقش فيها أبا العلاء. لأنه حجة في إدراكه لجيد الشعر وأساليبه. ومناهج نبغائه. ويتجلى ذلك في قدرته على جمع كل ما يحيى به في كلمة يختصرها فتمثل الشخصية الشعرية بكل أبعادها. فهو لما كتب على شعر أبي تمام عنونه بذكرى حبيب. ولما تولى شعر أبي الطيب عنونه بقوله معجز أحمد. فمقارنته للقاضي عبد الوهاب بالملك الضليل امرئ القيس في شاعريته إنما كان ذلك لوجوه الشبه التي ترسمت في نفسه من شعره. كما يبدو ذلك في بعض الصور الغريبة، ومواصلة الصورة وسلاسة التعبير وعلو الهمة في قواسم جامعة بين الشاعرين ملك الشعراء. وشاعر الفقهاء. خروج القاضي إلى مصر الذي ذهب إليه معظم من كتب عن القاضي عبد الوهاب أنه خرج من بغداد لضيق ذات يده وشح أهل بغداد. وأنه قال لهم يوم خرج لتوديعه الفقهاء والأشراف من أهلها والله لو وجدت في بلدكم كسرتين من ذرة ما خرجت منها. ولقد ترك أبي جملة من دنانير ودارا أنفقتها كلها على صعاليك ممن كان ينهض بالطلب عندي فنكس كل واحد منهم رأسه ثم أمرهم بالانصراف فانصرفوا. وأنشد: لا تطلبن من المجبوب أولادا ... ولا السراب لتسقي منه ورادا ومن يروم من الأرذال مكرمة ... كمن يؤتد في الأتبان أوتادا (¬1) وهذا الخبر تلقفه كثير من الدارسين لتاريخ الحضارة كحجة من حجج إثبات اختلال الموازين في هذا العهد حتى وصل الأمر إلى أن عالمًا فقيهًا أديبًا كالقاضي عبد الوهاب تضيق عليه الأرزاق. ولا يجد لقمة العيش ولا أقل ما ¬

_ (¬1) ترتيب المدارك ج 7 ص 223. وفيات الأعيان ج 3 ص 220، الذخيرة ص 516.

يكفي الإنسان لدفع غائلة الجوع. وأن كثيرًا من الأغمار الأغبياء غارقون للأذقان في الترف واللهو والفساد. وثقوا بهذه الروايات بدون تمحيص ووجدوا في تكررها على ألسنة الرواة ما يعطيها قوة القبول. مع أن الخطأ إذا تكرر لا يعطيه التكرار آية قوة. كما أن ما شاع من طريقة البحث على المثالب. التي نأسف لانتشازها بين المتعصبين من المنتسبين إلى المذاهب المختلفة، أو البلدان أو الأقاليم، قد تأيدت بسرعة التصديق لها أولًا. ثم التعميم في الحكم. فقد تجدُّ حادثة من غبي أو لئيم في مجتمع من المجتمعات، فتعمم على الجماعة التي ينتسب إليها وتلصق بنابههم وخاملهم. وكريمهم ولئيمهم. وهي من أمراض المجتمعات وسقطات الكاتبين والناقلين المروجين. والمتلقفين ممن يعتبرون النكتة حقيقة. والخاص عامًا. فكانت المدن الأخرى تبحث وتروج ما تستنقص به بغداد. فنشرف هذه الحكاية. والذي يترجح عندي أن القاضي عبد الوهاب ما بلغت حدود خصاصته أنه يقنع برغيفين ليقيم ببغداد. لأنه ربي في بيت أبعد ما يكون عن الخصاصة، ونشأ على الكرم والسماحة. وتولى قضاء بادرايا. وباكسايا. وأسعرد. والدينور. وحج قبيل انتقاله إلى مصر بما يبعد أن يكون قد ألجأه إلى الخروج الفقر المدقع، وأنه وصل إلى درجة الخيار بين هلاك الجوع وبين الخروج إلى مصر. فإن من ربي هذه التربية وتولى مناصب القضاء في أربعة مراكز، من شأنه أن لا ينتظر حتى يبلغ هذا الحد من الفقر والخصاصة. وما كان للعالم الإِسلامي حدود عازلة تحول بين العالم وبين انتقاله من مركز إلى مركز آخر. نعم لم تكن الأرزاق مساعفة في أواخر مدة إقامته. ولكنا نستبعد وصولها إلى الحد المذكرر في الرواية. فينبغي أن يبحث عن أمر آخر كان سبب خروجه من العراق. يقول القاضي عياض بعد ذكره للرواية السابقة: والله أعلم أن سبب خروجه من بغداد قصة جرت له لكلام قاله في الشافعي فخاف على نفسه، وطُلبَ، فخرج فارًا عنها (¬1) ¬

_ (¬1) المدارك ج 7 ص 224.

ويتأيد هذا بما ذكره أحمد أمين: كان الشافعية مشهورين بالشغب والتألب على خصومهم (¬1). فالقاضي عبد الوهاب كان قوي الحجة. ظاهر البيان. لا يجبن من تخطئة صاحب أي قول لم يتبين له صحة نظره. فجرى على لسانه ما لا يرضى عنه بعض المتعصبين من الشافعية، في الوقت الذي كانت فيه السلطة السياسية تساندهم مساندة قوية، لما كان الخليفة القادر من كبار علمائهم. وقد كان من آثار هذا التعصب أن قضي على المذهب المالكي في العراق، بعد أن أسند القضاء في مدنه وفي بغداد ذاتها إلى قضاة متفقهين بمذهب مالك. وبعد ما كان جهابذة من علمائه مواصلين للسند العلمي في جميع الاختصاصات ببغداد والبصرة والكوفة وغيرها من الأمصار العراقية، تتخرج على طريقتهم الأجيال المتعاقبة وينفذون به الأحكام القضائية، ويحلون به مشاكل المسلمين السائلين بالفتوى. فخرج منها خائفُ ايترقب متسترًا غير مشيع لا من أصحاب المحابر ولا من الطلبة. ولعله توجه لأداء فريضة الحج. وجه اختياره لمصر: الرسالة التي وجهها القاضي إلى صاحب مصر الفاطمي بعد أن أتم حجه تصرح بأنه كتبها إليه من أرض مصر = كتابي إليك من الجب بإزاء مصرك = فهو لم يعد إلى العراق لما كنا رجحناه من خوفه على حياته من المتعصبين. وفيها أيضًا اختبار لصاحب مصر ليطمئن هل إن الدولة ما زالت في سياستها التي أخذت بها بعد دخولها إلى مصر من مصانعة المالكية واعتمادهم في القضاء فكان الجواب باعث اطمئنان. ومن ناحية أخرى فإن المغاربة الذين كانوا بمصر يودون لو تعززوا بالقاضي. ولذلك لما قدم عليهم وصلوه بمال كثير -وتزوج- وولي القضاء. وما إن صفت له الأيام ووالت بالسعد والإقبال، واجتمعت حوله القلوب ¬

_ (¬1) ظهر الإِسلام ج 2 ص 4.

وظفر بالتقدير العلمي الذي هو به حقيق وبالسلطة بتوليه قضاء مصر. وبخفض العيش، حتى انتهى ما قدر له من أيام في هذه الحياة الدنيا. فتوفي رحمة الله عليه في شعبان سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. ودفن في القرافة الصغرى بين قبة الإِمام الشافعي وباب القرافة بالقرب من ابن القاسم وأشهب رحمهم الله (¬1). ¬

_ (¬1) وفيات الأعيان ج 3 ص 222.

المقدمة الثانية الإمام أبو عبد الله محمد بن علي ابن عمر بن محمد التميمي المازري

المقدمة الثانية الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن علي ابن عمر بن محمَّد التميمي المازري اسمه ونسبه: هو الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن علي بن عمر بن محمَّد التميمي المازري. ينتهي نسبه إلى قبيلة بني تميم المضرية التي كانت منازلها في الشمال الشرقي لجزيرة العرب. جنوب البصرة. ولم أعثر على ما يحقق نسبه العربي هذا. هل كان تميميًا صليبا من أحفاد الجند العربي الفاتح لصقلية في ربيع الأول سنة 212 هـ جويلية 827. أو هو تميمي ولاء؟ وسواء أكان هذا أو ذاك فإن وصل شجرة نسبه بقبيلة بني تميم يدل على إرادته إبراز هذا الانتساب العربي وتمسكه به. والقاعدة المرعية في الإِسلام أن الناس مصدقون في أنسابهم. وكما ينتهي نسبه إلى هذه القبيلة العربية فإنه أيضًا يرتبط من ناحية أخرى بموطن أسرته لمدة طويلة، إلى مدينة مازرة. وهي مدينة تقع في الجنوب الغربي لجزيرة صقلية. على ساحل البحر أرست بها سفن الجيش الإِسلامي عند فتحها بقيادة القاضي أسد بن الفرات. وانتصر جيش الفاتحين على الجيوش البيزنطية عند رأس قرنيتولا ول GRANITOLA المحاذي لمازارا في 15 جويلية 827. التعريف باسم هذه المدينة وضبطها: يقول المؤرخ الإيطالي ميشال آماري MICHLE AMARI أن الشعوب الإِسلامية كغيرها كانوا يطلقون على ما يحتلونه من البلدان أسماء الوطن الأم

وهو يفترض أن اسم مازرا قد أطلقه عليها الوافدون عليها من الشرق الذين عمروا جزيرة صقلية قبل الفتح الإِسلامي. ويرجح ما يذهب إليه بأن مدينة كمدينة سيقاستان هي شبيهة في تركيبها من اسم داغستان ببلاد فارس. وكذلك مازرا، فإنه صنو قرية مازرة بلرستان من بلاد فارس (¬1). وجاء في تاج العروس. ومازر بلدة بلرستان بين أصبهان وخزستان وضبطها بفتح الزاي (¬2). واسمها كما ينطق به أهل صقلية مازرا MAZARA. والنسبة إليه المازري بفتح الزاي. وهذا هو القياس. وفي القاموس مازركهاجر بلد بالمغرب بصقلية. قال شيخنا وقد تكسر زايه كما في شرح الشفاء وغيره منها الإِمام أبو عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري أحد الأئمة شارح صحيح مسلم (¬3). وقد ذكر ابن خلكان في ضبط اسمه بزاي مفتوحة. وقد تكسر أيضًا (¬4). وقد يترجح عندي أن كسر الزاي سببه أن معظم الإنساب هي إلى فاعل بكسر العين وفاعل بفتحها قليل كخاتم وطابق وهاجر. فلذلك يسبق اللسان إلى الكسر. وأن الصواب هو بفتح الزاي اعتمادًا على شقيقتها الفارسية، وعلى طريقة نطقها باللسان الإيطالي ولو كان أصلها بكسر الزاي لنطق بها الإيطاليون مكسورة. ويردف عماري في تعريفه مازرا. أن كتب التاريخ التي اعتنت بالفترة السابقة على الفتح الإِسلامي لم يرد فيها ذكر لمازرا. وإنما ابتدأ الحديث عنها في الأعمال التاريخية والجغرافية للكتاب العرب كالمقدسي وابن فضل الله وغيرهم (¬5). ويذهب فيليبو ناتولي إلى أن الإِمام المازري ولد بمازرة يقول: "وكثيرًا ما ¬

_ (¬1) تاريخ مدينة مزرا. فيليبو ناتولي ص 33/ 35. STORIA DELLA CITA DI MAZARA (¬2) تاج العروس ج 14 ص 120. (¬3) نفس المصدر. (¬4) وفيات الأعيان، ج 4 ص 285. (¬5) تاريخ مدينة مزرا ص 35.

نجد عندما نقرأ الأدب العربي اسم المازري يسبق أسماء المسلمين الحيلة الذين ولدوا بمدينة مازرة للتفرقة بينهم وبين الذين يحملون نفس الاسم. ولكن ولدوا ببلاد أخرى (¬1). وهذه إلدعوى لم يؤيدها بدليل يثبت أنه ولد بمازرة. وارتباط النسب بالبلد الذي هو مقر الأسرة لا يزول بالتحول عنها ولو بعد أجيال. بل لعل الالتصاق ببلد الأسرة يكون أشد عندما تتحول عنها إلى غيرها من الأماكن للتعريف المميز بالارتباط بالبلد المنتقل عنه. حياة الإِمام المازري نما وتعلم ودرس وبلغ درجة الإمامة في الساحل الشرقي التونسي. لم يصلنا ما يوثق به عن المدينة التي ولد فيها. والقاضي عياض الذي بلغ درجة عالية من الثقة والضبط، لما لم يجد ما يثبت أنه ولد في المهدية أو في غيرها، حمله ورعه ودقته في التعبير أن يقول = مستوطن المهدية (¬2). فاتخاذ هذا التورع في التعبير كدليل على أنه ولد في غير المهدية فيه نظر. إذ هو كمفهوم اللقب عند جمهور الأصوليين. لا يدل نص عياض ولا نص ابن فرحون لا على أنه ولد في المهدية ولا على أنه ولد في غيرها وانتقل إليها. على أن مكان الولادة لا أثر له في المستوى العلمي الذي بلغه الإِمام المازري وهو الذي يهم من يرغب في التعرف على شخصيته. وكما كان مكان ولادته غير معلوم على وجه الدقة فكذلك سنة ولادته. أما تاريخ وفاته فيجمع من كتب عنه أنه توفي سنة ست وثلاثين وخمسمائة في شهر ربيع الأول في الثالث منه عند عياض. وفي الثاني منه أو الثامن عشر كما هو عند ابن خلكان وبمثل هذا الترديد عند المقري (¬3). وعياض كشأنه في التورع لا ¬

_ (¬1) تاريخ مدينة مزرا. ص 35. (¬2) الغنية ص 132. (¬3) الغنية 133 - وفيات الأعيان ج 4 ص 285. أزهار الرياض ج 3 ص 166. العبر ج 4 ص 151.

يضبط عمر المازري. ويقول وقد نيف على الثمانين تبعًا لعدم علمه بتاريخ ولادته. وكذلك فعل ابن فرحون. ويضبط ابن خلكان والحافظ الذهبي والمقري أنه عُمّر ثلاثًا وثمانين سنة. وعلى هذا تكون ولادته سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة. فهو قد عاش في النصف الثاني من القرن الخامس. والأول من السادس (¬1). الوضع السياسي: يعد عصر المازري من أظلم الفترات التاريخية لتونس- الجسم التونسي ينزف دماءه من الجراح العميقة للهجمة الوحشية لأعراب الصعيد على القيروان. فاختل الأمن وضعفت سلطة الدولة واستبد الأعراب خارج أسوار المدن، وانقسمت الوحدة فقامت إمارات في المدن التونسية ليس لها من رسوم الإمارات إلا التسلط والقهر، وثارت الحروب بينها فكانت بين مد وجزر. فالمعز بن باديس لما أراد أن ينتقل من صبرة إلى المهدية لم يستطع أن يقوم بهذه الرحلة سنة تسع وأربعين وأربعمائة إلا في خفارة رجلين من العرب كان صاهرهما ببنتيه الفضل بن أبي علي المرداسي. وفارس بن أبي الغيث. وخرجا به سرًا وفطن به الأعراب وكادوا يأسرونه (¬2). وتوفي المعز سنة 454 أي بعد ولادة المازري بسنة وولي الأمر بعد المعز ابنه تميم الذي تسلسلت فيه الدولة الصنهاجية إلى أن توفي بالمهدية سنة 501 ثم تولى الملك من بعده ابنه يحيي الذي توفي يوم عيد النحر فجأة سنة تسع وخمسمائة فتولى الملك من بعده ابنه علي الذي توفي سنة خمس عشرة وخمسمائة. وتولى الأمر من بعده الحسن بن علي الذي فر من المهدية يحمل ما خف عليه حمله من النفائس. وترك عاصمة ملكه نهبا لروجار. وبذلك سقطت ¬

_ (¬1) ما جاء في كتاب حسن حسني عبد الوهاب أنه ولد سنة 443 هو خطًا مطبعي قطعًا. ذلك أن المؤلف يحدد عمره بثلاث وثمانين سنة. وحدد تاريخ وفاته بالثامن من شهر ربيع الأول سنة 536. انظر ص 41 - 50 - 95. (¬2) رحلة التيجاني ص229.

الدولة الصنهاجية سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة (¬1). أما تميم فيقول فيه التيجاني: استبد تميم بالملك وغلبه الأعراب على أمره فلم يكن له إلا ما ضمت أسوار بلده. خلا أنه كان في بعض الأحايين يحالف فريقًا من الأعراب فيجد السبيل بذلك إلى الخروج لقتال من يقصده وحصار من يثور عليه ببلد من بلاده (¬2). واستقل حمو بن مليل بصفاقس التي تبعد عن المهدية بمائة كلم. يقول التيجاني: طمع حمو بعد وفاة المعز في الاستبداد والتغلب على غير صفاقس من البلاد فحالف جماعة من العرب عديا والأثبج ومن ضامهم وزحف بهم وبمن معه من رجاله إلى بعض القرى فملكها. واستحوذ عليها ثم نهض إلى المهدية يريد حصرها. فنهض تميم للقائه فولت فئة حمو أدبارها. وأسرعت فرارها. ورجعوا إلى صفاقس. وبعث بعد ذلك تميم ابنه يحيى لمحاصرة صفاقس فحاصرها أيامًا ثم رجع عنها وبقي أمرها بيد حمو إلى سنة ثلاث وتسعين فتوجه إليها تميم بنفسه فافتتحها وفر حمو مستجيرًا بمكي بن كامل الرياحي بقابس التي كانت هي أيضًا خارجة عن سلطته (¬3). وسوسة التي تبعد عن المهدية بستين كلم مات المعز وهي خارجة ثم عادوا للطاعة في عهد تميم سنة ست وخمسين. ثم توالت عليها بعد ذلك أمراء من العرب ملكوها حين استولوا على البلاد وانتزعوها من أيدي صنهاجة واستقرت آخرًا تحت ملك جبارة بن كامل بن سرحان. ومن يده أخذها النصارى حين أخذوا المهدية من يد الحسن بن علي (¬4). وأما تونس فكانت متابعة لبني حماد يدير أمرها والٍ من قبل الناصر بن علناس. هو عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان. ثم ولي الأمر بعده ولده عبد ¬

_ (¬1) انظر في هذا الحلل السندسية ج 2 من ص 69 إلى ص 86. (¬2) الرحلة ص 330. (¬3) الرحلة ص 70/ 71. (¬4) الرحلة ص 29/ 30.

العزيز بن عبد الحق ثم ولده أحمد. واضطربت أمور تونس مما أوجب تدخل بني حماد (¬1). إنه مع هذه النماذج المحزنة تزداد الصورة قتامة إذا ما أضفنا إليها استيلاء النصارى على المهدية وزويلة. قال أبو الصلت: ولجأ تميم إلى قصره المعروف بقصر المهدي وهو قصر حصين فأقام إلى أن وقع الصلح بينهم وبينه على مائة ألف دينار تدفع لهم ويقنعون بما حصل في أيديهم من المسلمين. فدفعت لهم. وأقلعوا بأموال المسلمين ونسائهم وأبنائهم. قال وقد استوفى وصف ذلك كله أبو الحسن علي بن محمَّد الحداد في قصيدة طويلة أولها منسرح: أنى يلم الخيال أو يقف ... وبين أجفانه نوى قذفُ (¬2) ففي خضم هذه الفتن عاش الإِمام المازري. وكانت للأوضاع السياسية أثرها فيه مما سنبينه إن شاء الله. شيوخ الإِمام المازري: الإِمام المازري من العلماء الذين جمعوا بين شعب متعددة من العلوم. فهو محدث. وفقيه. وأصولي. ومتكلم. وطبيب وعلى حظ من علوم الحكمة. ومتقن للحساب. وعلم الميقات. وأديب. وهذه نماذج من تعريف الذين ترجموا له. يقول معاصره القاضي عياض. آخر المستقلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه. ودرس أصول الفقه والدين وتقدم في ذلك فجاء سابقًا وسمع الحديث وطالع معانيه. واطلع على علوم كثيرة، من الطب والحساب والآداب وغير ذلك. وإليه كان يفزع في الفتوى في الطب في بلده كما يفزع إليه في الفقه (¬3). ¬

_ (¬1) البيان المغرب ج 1 ص 315. نزهة الأنظار ج 1 ص 379. (¬2) رحلة التيجاني ص 331/ 332. نزهة الأنظار ج 1 ص 381. (¬3) الغنية ص 132/ 133.

وبمثله لفظًا ومعنى ترجم له ابن فرحون (¬1). ويقول ابن خلكان أحد الأعلام المشار إليهم في حفظ الحديث والكلام عليه. وله في الأدب كتب متعددة (¬2). أولًا: هو محدث. جمع إلى الرواية الدراية. والرواية بطرقها المتعددة أعلاها التلقي المباشر وعليها تخرج كل المحدثين. ثم بعد ذلك طرق أخرى مكملة لاتصال السند كالإجازة والوجادة. وعياض يؤكد أنه سمع الحديث. واعتماده في ربط الفروع بالسنة خير شاهد على تمكنه من رواية الحديث عن محدثي عصره. ولكن لم نجد ذكرًا لشيوخه الذين أخذ عنهم هذا الفن. وأما الدراية، فيكفي شاهدًا على تقدمه، المعلم لفوائد مسلم. ثانيًا: هو من المتكلمين الذين دافعوا عن السنة حسب الطريقة الأشعرية. فهو الأشعري المتقدم في هذا المضمار. ألف كتابه "النكت القطعية في الرد على الحشوية". وذكر الشيخ الحافظ النحوي أبو العباس أحمد بن يوسف الفهري اللبلي في مشيخة شيخه التجيبي أن من شيوخه أبا عبد الله المازري. وأن من تآليفه عقيدته التي سماها "نظم الفرائد في علم العقائد" (¬3). ثالثًا: هو أصولي يظهر ولوعه بهذا الفن وتمكنه منه في مناقشاته المتعددة للأقوال الفقهية. وفي شرحه لكتاب البرهان "إيضاح المحصول من برهان الأصول". كما أنه في شرحه للتلقين أبان عن عزمه على إملاء كتاب في مسائل الأصول. ولكنه لم يبلغنا أسماء من أخذ عنهم علم الأصول حتى برع فيه وناقش إمام الحرمين. رابعًا: هو طبيب. يقول عياض، وإليه كان يفزع في الطب في بلده كما ¬

_ (¬1) الديباج المذهب ص 280. (¬2) وفيات الأعيان ج 4 ص 285. (¬3) الديباج ص 280.

يفزع إليه في الفتوى في الفقه (¬1). وينقل ابن فرحون كلام القاضي لفظًا ومعنى ويضيف إليه. يحكى أن سبب قراءته الطب ونظره فيه أنه مرض فكان يطبه يهودي فقال له اليهودي يومًا يا سيدي مثلي يطب مثلكم وأي قربة أجدها أتقرب بها في ديني مثل أن أفقدكم للمسلمين. فمن حينئذ نظر في الطب (¬2). والطب علم يتلازم فيه الجانب النظري والجانب التطبيقي. ولا يصل الإنسان فيه إلى المرتبة العليا التي تحدث عنها القاضي إلا إذا أخذ هذا الفن عن شيوخه ولكن لم يحفظ لنا اسم أي طبيب أخذ عنه. وأما الحكاية المسندة إلى المجهول من السبب الحامل له على تعلم الطب. فهي حكايته متخيلة وغير محبوكة. فلعلها ركبت رمزًا لموقف كثير من اليهود والنصارى الذي كان الإِسلام بتسامحه يعطيهم مكانتهم في المجتمع وهم يكيدون له كما وقع من جرجير الأنطاكي الذي قرّبه تميم وحكمه في دخله وخرجه وصارت أموال المسلمين في يده ويد أقاربه. فخان الأمانة وانحاز إلى لجار في صقلية وأصبح ركنًا من أركان دولته (¬3). خامسًا: إتقانه للعلوم الحكمية. كما يظهر ذلك في مناقشته لحد الجنس والفصل عند المناطقة وبيانه اختلال التعريفات التي ارتضاها المناطقة من قبل. أما الجنس فقد حده أهل علم المنطق، بأنه اللفظ المقول على كثيرين مختلفين بالنوع. وهذا الحد قد أطبق عليه جميع الفلاسفة المتقدمين منهم والمتأخرين. وهو حد فاسد. لأن الجنس شيء غير اللفظ الدال عليه. وهذا الذي ذكروه إنما هو حد اللفظ الدال عليه فقولهم إنه حد للجنس بعينه خطأ. ألا تراهم يقولون قولنا حيوان جنس، وقولنا إنسان نوع؛ لأنه بعض الحيوان، ومعلوم أن الحيوان ليس هو اللفظة، التي هي قولنا حيوان، وِوجه آخر يفسد به هذا الحد وهو أنهم ذكروا أنه اللفظ المقول على المختلف بالنوع. والنوع لا يعلم عندهم حقيقته إلا بعد أن يعلم حقيقة الجنس. فقد بينوا الشيء بما هو مأخوذ منه، ومتفرع عنه، وكيف يصح أن يعلم الأصل من الفرع؟ هذا عكس الحقائق. والصواب في هذا ¬

_ (¬1) الغنية ص 133. (¬2) الديباج ص 280. (¬3) رحلة التيجاني ص 333.

أن يقال: أما الجنس فهو الشبه والمثل هذا أصله في اللغة. وأما العبارة الدالة عليه، فيمكن أن ترسم بأنها القول الشامل لمسميات تتباين بالصفات اللازمة لها ألا ترى أن قولنا حيوان ينطلق على أشياء متباينة: كالإنسان، والفرس، والطائر. وصفات الإنسان وشكله الذي فارق به الفرس والطائر، لازمة له. فلو فارقته لفارق كونه إنسانًا، فهذا هو الرسم الصحيح الذي يجب أن يُرسم به المعنى، الذي قصدوا هم إليه. أما النوع فقد حده من ذكرناه من الفلاسفة أيضًا، بأنه اللفظ المقول على كثيرين مختلفين بالشخص. وهذا أيضًا يفسد بنحو ما أفسدنا به الأول أيضًا. لأن هذا إنما هو حد اللفظ الدال على النوع. واللفظ غير النوع. ويفسد أيضًا بقولهم على كثيرين مختلفين بالشخص. لأن الأعراض ليست أشخاصًا. وقولنا - سواد- هو نوع وليس بشخص. والصواب في هذا أن ترسم العبارة الدالة على النوع الذي قصدوه: بأنها القول الشامل لمسميات تتباين بالتغاير خاصة. ألا ترى أن قولنا إنسان يطلق على زيد وعمرو وبكر، ولا تتباين بينهم في المعنى الذي كان به كل واحد منهم إنسانًا وإنما تباينوا بالتغاير؛ لأن زيدًا إنسان وعمروا إنسان (¬1). كما أنه ناقش إخوان الصفاء. يقول المقري وله أيضًا إملاء على شيء من رسائل إخوان الصفاء، سأله السلطان تميم عنه (¬2) ولم ينقل عمن أخذ العلوم الحكمية. سادسًا: معرفته بعلم الحساب والهيئة. نص على أخذه علم الحساب القاضي عياض. وأحسب أنه القدر الزائد على التصرف في الكسور الذي تقوم عليه قسمة التركات وخاصة في باب المناسخات إذا توالى على السهم ورثة من أجيال قبل القسم. الذي برع فيه الفقهاء والموثقون حتى يصل الحظ من التركة الأصلية لأحد الورثة في الطبقة الدنيا إلى جزء من ثمن تسع عشر ربع نصف ¬

_ (¬1) شرح التلقين ج 1ص 121 - 122. (¬2) أزهار الرياض ج 3 ص 166.

سدس سدس المناب الأصلي وأقل من ذلك. واطلعت على تركات بقيت أجيالًا لم تقسم. وكانت قيمتها يوم أراد المستحقون قسمتها تصل إلى مئات آلاف الدنانير. فكان حظ بعض المستحقين لا يبلغ الدينار. وكل ذلك يتم على أساس الكسور التي تقوم منها التركة الأصلية ثم أخذ كل كسر والمضي به في الفرع الخاص. ثم كسر كسره وهكذا. ولذا فلما كان إتقان ذلك لا يعد في ترجمة الرجال من الإختصاص في الحسابيات. فيكون قصد القاضي أنه أخذ حظًا من علوم الحساب على المستوى الذي كان عليه العلم في عصره الأمر الذي مكنه من مناقشة بعض القضايا الهندسية. يقول في فرض الغائب عن مكة في استقبال القبلة: اختلف المالكية على قولين والشافعية على قولين: ما فرض الغائب عن مكة، ومطلوبه إذا اجتهد في استقبال القبلة؟ هل استقبال عينها وسمتها أو استقبال جهتها؟ فذهب الأبهري من أصحابنا إلى أن المطلوب الجهة وهو مذهب أبي حنيفة. وذهب ابن القصار إلى أن المطلوب السمت والعين. وأشار إلى أنه لا يمتنع كثرة المسامتين مع البعد كما لم يمتنع ذلك في مسامتة النجوم. وهذا الذي قاله يفتقر إلى تحقيق. وذلك أن المتكلمين اختلفوا في الدائرة هل يحاذي مركزها جميع أجزاء المحيط أو إنما يحاذي من أجزاء المحيط مقدار ما ينطبق عليه ويماسه؟ فذهب النظام من المعتزلة إلى أن المركز يحاذي جميع أجزاء المحيط، واحتج في ذلك بأنك لو قصدت إلى جزء من أجزاء المحيط وأخرجت منه خطًا لاتصل ذلك الخط بالمركز. ورد عليه مقالته هذه أئمتنا المتكلمون وقالوا بأن الخطوط من المركز إلى المحيط فإنها تضيق عند ابتدائها وتنفرج عند انقطاعها. وما ذلك إلا أن مآل مساحة المركز يفتقر فيه إلى تفريج الخط وتعويجه ليمكن الاتصال. وقالوا ولا يحاذي نقطة المركز من أجزاء المحيط إلا ما لو قدر منطبقًا عليها لماسها. فهذه المسألة التي ذكرها المتكلمون يجب أن يعتبر بها ما قاله ابن القصار، فيقال له إن أردت بتصحيح مسامتة الكثرة مع البعد، أنهم وإن كثروا فكلهم يحاذي بناء الكعبة. فليس كما توهمت. وقد أخبرناك إنكار أئمتنا على النظام هذا. وإن أردت أن الكعبة تقدر كأنها بمرأى منهم لو كانت بحيث ترى وأن الرائي يتوهم المقابلة والمحاذاة وإن لم تكن

كذلك في الحقيقة. فهذا نسلمه لك ويسلم تمثيلك فيه برؤية الكواكب فإن الأمر فيها على ذلك جرى. ولكن مع هذا لا يكون كل فصل محاذيًا مقابلًا، ولكنه مسامتًا ببصره، ولا يكون كل فصل مسامتًا بجسمه. فهذا الذي يظهر لي في تحقيق ما قاله ابن القصار وكشف الغطاء عنه وقد قال الشيخ أبو الطيب عبد المنعم وهو أحد أشياخ شيخنا، وكان ممن لم تمنعه الإمامة في الفقه عن الإمامة في الهندسة: (من قال إن الفرض استقبال الجهة لا العين فقد غلط لأن الله تعالى قال: {فولوا وجوهكم شطره}، والشطر إن كان هو النحو أو القبالة أو القصد أو النصف فذلك غير الجهة. والوجه والجهة والمواجهة والوجاهة ما استقبل. والوجاه والتجاه استقبال الشيء. ولو كان المطلوب الجهة لكان من كان من الكعبة في الشمال مستحقًا لكان مخيرًا بين أن يصلي إلى المشرق أو إلى المغرب أو إلى الجنوب. لأنه يكون حينئذ مستقبلًا للكعبة إما بوجهه أو أحد خديه، وهذا الذي نصر به الشيخ أبو الطيب أبا الحسن ابن القصار لا يدفع ما قلناه في تحقيق القول في المسامتة. والنظر فيه أيضًا يطول ويقطع عن غرض الكتاب (¬1). أما علمه بالهيئة فقد ذكر في باب صلاة الخسوف أن مذهب الشيخ أبي محمَّد عبد الحق أنه إذا اجتمع العيد والخسوف وصلاة الاستسقاء فإن صلاة الاستسقاء تؤخر إلى يوم آخر. لأن يوم العيد يوم تجمل ومباهاة والاستسقاء ليس يوم تجمل وإنما هو رهبة وسكون فيؤخره. ويبدأ بالخسوف لئلا تتجلى الشمس ثم بالعيد ثم بالجمعة ويعقب على الشيخ أبي محمَّد بقوله. ولم أزل أعجب من إغفاله فيه. إذ لا يكون كسوف يوم عيد ولا يتفق. وإنما يكون كسوف الشمس في آخر الشهر. وعند إنسلاخه. وبعد أن يقرر أن هذه هي العادة التي أجرى الله عليها الكون ولله أن يفعل ما يشاء. يستطرد فيقول ولقد وقع الشافعي على عظيم شأنه في هذا التصوير، ورأيته قد صور اجتماع العيد والكسوف. وتكلم على ذلك ... وهذا لا معنى له إلا أن يراد به معرفة فقه ¬

_ (¬1) شرح التلقين ص 487/ 488.

المسألة لو خرقت العادة فوقعت المسألة (¬1). وهو اعتذار يدل على الخلق الرفيع للمازري. إذ يلتمس مخرجًا يناسب مقام الإِمام الشافعي ولا يعجل بأنه خطأ محض أو جهل كما يخف إليه خفاف الدين والأدب في نقدهم للعلماء. ومما يجري في هذا الاتجاه أعني معرفته بالعلوم الحكمية التي كانت تشمل في عهده علوم المنطق والطب والحساب والطبيعة وما وراء الطبيعة. ما ذكره المقري قال: حكي أن بعض طلبة الأندلس ورد على المهدية، وكان يحضر مجلس المازري، ودخل الشعاع من كوة. فوقع على رجل الشيخ المازري فقال الشيخ: "هذا شعاع منعكس" فذيله الطالب لما رآه متزنًا. فقال: هذا شعاع منعكس ... لعلة لا تلتبس لما رآك عنصرًا ... من كل علم ينبجس أتى يمد ساعدًا ... من نور علم يقتبس (¬2) تعلق كل من ذكر هذه الحادثة بالناحية الأدبية وهي جميلة خاصة مع حضور البديهة وبراعة الارتجال. ولكن الناحية التي أريد لفت النظر إليها -هي الناحية الحكمية- في انعكاس الشعاع. والنظريات المترتبة على ذلك. وهي التي ترجح عندي أن المازري قصدها. إذ لو كان قصده إلى ضوء الشعاع لعدل عن الانعكاس إلى تصوير الشعاع بآثاره التي يلحظها الأدباء لا بأثره الذي يلحظه العلماء حسب قوانين الحكمة الواسعة المدلول في عصره. سابعًا: علمه باللغة وتضلعه بالأدب. ينبىء عنه: ما ذكره ابن خلكان قال: وله في الأدب كتب متعددة (¬3). وما ذكره القاضي عياض واطلع على علوم كثيرة ... والآداب. وكان مليح المجلس ¬

_ (¬1) شرح التلقين ج 3 ص 1098. (¬2) أزهار الرياض ج 3 ص 116. (¬3) وفيات الأعيان ج 4 ص 285.

أنيسه، كثير الحكاية وإنشاد الشعر (¬1). وبمثل هذا لفظًا ومعنى عرف به ابن فرحون (¬2). فهؤلاء الثلاثة وكفى بهم حجة مجمعون على أنه أديب تأثر منطقه بما استوعبه قلبه. فكان مليح المجلس، أنيسه، تسعفه حافظته بما أبدعه الشعراء من فصيح القول. وينفرد ابن خلكان بإثبات أنه ألف في الأدب كتبًا متعددة. ولكن عوادي الزمن أضاعت مؤلفاته الأدبية. كما طوت أسماء الشيوخ الذين تخرج على أيديهم في الأدب وعلوم العربية. ثامنًا: المازري الفقيه. تمكن المازري بعقله الكبير من هضم علوم كثيرة وسعت مداركه، ففتحت له آفاقُ المعرفة المتنوعة نوافذ زادت سلطانه العقلي مضاء وحدة. ويسرت له الغوص على المعاني البعيدة، وانتظمت في نفسه. فتكون منه أحد أساطين الثقافة الإِسلامية. وغلب عليه الفقه فعَلا نجمه فيه وبلغ الرتبة الرفيعة. والقاضي عياض في دقته وتوفيقه يفتتح الحديث عن المازري بقوله: "إمام بلاد إفريقية. وما وراءها من المغرب. وآخر المستقلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر، لم يكن في عصره للمالكية في أقطار الأرض في وقته أفقه منه. ولا أقوى لمذهبهم. أخذ عن اللخمي وأبي محمَّد عبد الحميد السوسي وغيرهما. ونقل ابن فرحون عبارة عياض (¬3). وجعله الشيخ خليل أحد العلماء الأربعة الذين يرجع إليهم في تحقيق الفقه بعد المدونة. فقال وبالاختيار للخمي إن كان بصيغة الفعل فذلك لاختياره. وهو في نفسه وبالاسم فذلك لاختياره من الخلاف وبالترجيح ¬

_ (¬1) الغنية ص 133. (¬2) الديباج ص 280. (¬3) الديباج ص 280.

لابن يونس كذلك وبالظهور لابن رشد كذلك. وبالقول للمازري كذلك (¬1) ومعلوم أن الفقه بعد خليل انكمش فأصبح محوره مختصره والفقهاء بين شارح ومحش ومقرر. وارتبط اسمه بالإمام. لقب الشرف الذي بايعه به الفقهاء وجماهير المسلمين لعلو كعبه وحسن قصده وإخلاصه لله وعدم اغتراره بمباهج الحياة وبريق السلطة. ويروون في ذلك رواية أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام فقال أحق ما يدعونني برأيهم يدعونني بالإمام. فقال وسع الله صدرك للفتيا (¬2). ولما كانت القصة غير محبوكة تفطن لها العدوي في حاشيته على الخرشي. فقال لم يجبه المصطفى عليه السلام بل دعا له بما هو أنفع ومستلزم لجوابه عرفًا. أي ملأ الله صدرك علمًا حتى لا يشق عليك ما يرد في أسئلة السائلين، أو زاد الله في حسن خلقك حتى لا تسأم مما ذكر (¬3). والشيوخ الذين تخرج عليهم في الفقه واتصل له منهم السند العلمي كثر. ولكن المازري لم يسم من شيوخه إلا الشيخ أبا الحسن اللخمي. والشيخ عبد الحميد الصائغ. أما بقية شيوخه فأكثر ما يعبر عنهم "بعض أشياخي" كقوله عندما استشكل الاتفاق على تأثيم من صلى بالنجاسة عامدًا مع اختلافهم في فرضيتها وسنيتها. قال وقد سألت بعض أشياخي عن هذا فقلت له ما معنى الاختلاف في كونها فرضًا مع الاتفاق على التأثيم؟ فوقف في الجواب عن هذا. وسألت غيره من الأشياخ ... (¬4) وفي المواطن التي يعجب فيها بدقة النظر يقول شيوخنا الحذاق. وعلى هذا النحو. قد تدل هذه الصياغة من كلام المازري أن صلته بشيوخه بقيت مستمرة ¬

_ (¬1) مختصر خليل ابن إسحاق ص 3. (¬2) الديباج ص 280. (¬3) حاشية العدوي على الخرشي ج 1 ص 41. (¬4) شرح التلقين ج 1 ص 455.

يعود إليهم ويتطلع إلى معرفة رأيهم في المشكلات. وتدل من ناحية أخرى على أنه ما كان يذكر أسماءهم. وقد يكون ذلك. والله أعلم. مراعاة للظروف السياسية كما سيأتينا في محنة شيخه عبد الحميد. الشيخ أبو الحسن اللخمي: وهو الشيخ أبو الحسن علي بن محمَّد الربعي المعروف باللخمي، وهو ابن بنت اللخمي أصله من القيروان نزل بصفاقس. وكان فقيهًا فاضلًا دينًا، ذا حظ من الأدب والحديث جيد النظر، حسن الفقه. جيد الفهم، كان فقيه وقته، وأبعد الناس صيتًا في بلده، وبقي بعد أصحابه فحاز رئاسة بلاد إفريقية جملة. وكان حسن الخلق مشهور الفضل توفي سنة 478. بهذا ترجم له القاضي عياض في المدارك (¬1). فهذا النص يدل على: 1 - أن اللخمي تفقه ببلده القيروان وخرج منها بسبب فتنة الأعراب وتخريبهم لحضارة هذه العاصمة الإِسلامية وقضائهم على الأمن والأرزاق والأرواح. 2 - أنه عُمّر وبقي، بعد أصحابه فانفرد بالرئاسة العلمية وطار صيته في البلاد الإفريقية. وأنه توفي يوم كان عمر المازري خمسًا وعشرين سنة. ولكن لم تذكر المصادر تاريخ ولادته. 3 - أنه جمع إلى العلم زينة العلماء الخلق العالي والنباهة وجودة الفكر. ولا يؤثر عن اللخمي أنه انتقل من صفاقس بعد أن حل بها بما يرجح أن المازري قصده في بلده. وأخذ عنه في المسجد الذي كان يدرس به. ويقول في معالم الإيمان ومسجده بصفاقس مشهور إذا دخله الداخل يرى فيه نورًا زائدًا عن غيره من المساجد (¬2). وهذا المسجد هو المسجد المواجه ¬

_ (¬1) المدارك ج 8 ص 109 ومن جاء بعده اعتمد مع تساو أو اختصار أو زيادة غير موثقة. انظر الديباج ص 203. ومعالم الإيمان ج 3 ص 199/ 200. (¬2) معالم الإيمان ج 3 ص 199.

لدار الآثار ولإدارة الآثار ولإدارة والي صفاقس في القرن الماضي المعروفة "بالدريبة" ثم تم توسيعه وأصبح جامعًا تقام فيه صلاة الجمعة. ويعرف بجامع الشيخ اللخمي وبجامع الدريبة. وأما قبره فقد دفن رحمه الله وسط المقبرة العامة الكائنة في الجهة الشمالية من سور المدينة. ثم بني على ضريحه مسجد صغير. ثم قام مراد بأي ملك تونس ببناء قبة عليه وعلى باب القبة في العتبة العليا نقشت هذه الأبيات مثبتة ذلك لأحد الشعراء: هلال يندى من على الأفق ساطع ... وأشرق عنه الكون كالبرق لامع أمين كريم علي زكي الفواضل ... مراد مراد الباي في العز طالع فأحيى شريح الحبر علمه ظاهر ... أبي الحسن اللخمي يكن له شافع (¬1) وفي 9 شعبان 1401 - 12 جوان 1981 تم إنجاز أوسع جامع في مدينة صفاقس. ملاصق للحائط القبلي للمسجد المبني على قبره. وسمي بجامع الإِمام اللخمي. ولم يذكر له من التآليف إلا التبصرة. قال عنها القاضي عياض. وله تعليق كبير على المدونة سماه التبصرة مفيد حسن. وهو مغرى بتخريج الخلاف في المذهب. واستقراء الأقوال وربما تبع نظره فخالف المذهب فيما ترجح عنده. فخرجته اختياراته في الكثير عن قواعد المذهب (¬2) وبعد نظري في جزء مصور بمكتبتي عن نسخة بالقروييي، يبدأ بكتاب القضاء وينتهي بكتاب الجراحات تبين لي أن التبصرة ليست تعليقًا على المدونة. ذلك أن التعليق يرتبط فيه المعلق بترتيب المسائل ويقتصر على ما يستحق التعليق ويكتفى بالمعلق عليه إذا كان وافيًا. وعمله عمل تابع مرتبي بالأصل في منهجه وطريقة عرضه. وهذا ما لم تجر عليه التبصرة وذلك: أولًا: صاحب التبصرة يفتتح طوالع الكتب بسرد النصوص من الكتاب ¬

_ (¬1) نزهة الأنظارج 2 ص 277. (¬2) المدارك ج 8 ص 109.

والسنة والقياس أو المقصد الشرعي مما كان عليه مدار فقه الكتاب. فمثلًا في كتاب هبة الثواب يستدل على جوازها: بأن القصد من أخذها مكارمة الواهب فجاز قبولها على ذلك. وقياسًا على نكاح التفويض في قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (¬1). فأجاز النكاح على ما يفرضه الزوج بعد العقد لما كان القصد فيه المكارمة. ولقول عمر رضي الله عنه: من وهب هبة يُرى أنها على الثواب فهو على هبته ما لم يرض منها. وأباح النبي - صلى الله عليه وسلم - العرية بخرصها إلى الجذاذ وهو الطعام بالطعام متأخرًا والرطب باليابس. فأجاز ذلك لأن القصد المكارمة من المعري إلخ. ويفتتح كتاب اللقطة بحديث خالد بن رشيد الجهني. ويفتتح كتاب الشفعة بحديث جابر المخرج في الصحيحين ويتبعه بحديث جابر بصيغة انفرد بها مسلم. ويفتح كتاب القسم بأدلة منها قوله تعالى: {وإذا حضر القسمة} (¬2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الشفعة فيما لم يقسم ... " (¬3) وفي القسم بالقرعة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل القائم في حدود الله ومثل الواقع فيها كمثل قوم استهموا سفينة ... " (¬4). وحديث عمران بن حصين في إقراعه - صلى الله عليه وسلم - بين ستة أعبد أعتقهم سيدهم عند موته فقسمهم أثلاثًا وأقرع بينهم فنفذ العتق في الثلث. وقوله سبحانه: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (¬5). وقوله: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} (¬6). ثانيًا: أنه يتبع ذلك بالأبواب التي يجمع فيها المكونات الأساسية للكتاب. ثم يتبع الباب بفصول هي المسائل الأساسية التي يتتبعها في صورها المتعددة. ثالثًا: هو يتبع الاستدلال بإثارة أسئلة تكون هي التي يبنى عليها تفصيل القول في ذلك الكتاب. فيعقب مثلًا كتاب هبة الثواب بقوله: ويعتبر في ذلك خمسة أوجه. أحدهما هل للواهب أن يحبس هبته حتى يثاب. والثاني في ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية: 236. (¬2) سورة النساء، آية: 8. (¬3) رواه بخ - تـ - نس- داود ومالك وأحمد. (¬4) رواه بخ - تـ - أحمد. (¬5) سورة ال عمران، آية: 44. (¬6) سورة الصافات، آية: 141.

الصنف الذي يثاب. والثالث القدر الذي يلزم قبوله. والرابع ما يفيتها. والخامس الوقت الذي يعتبر قيمتها فيه. وبعد هذا أخذ في الإجابة عن السؤال الأول فنقل عن ابن القاسم في كتاب الصدقة من المدونة له أن يمنع من هبته حتى يثاب. وقال محمَّد ليس له أن يمنع من قبضها. ثم يختار قول محمَّد ويعلل اختياره. فيقول: وهو أحسن. والشأن أن يسلم ثم يطلب الثواب. ثم يخرج على هذا الخلاف ما إذا كان الواهب مريضًا فإنه يجوز أن يسلمها قبل القبض وعلى القول الثاني يجبر إلا أن يكون الموهوب له فقيرًا فللورثة منعه منها. فإن قبضها "أي الموهوب له " منعوه من بيعها حتى يثيب وإن كان موسرًا لم يكن لهم إلخ. وهذه الطريقة تأثر بها المازري في شرحه للتلقين. فهو يفتتح شرح القاضي بإيراد أسئلة ثم يأخذ في الإجابة عنها. انتقاد المازري لشيخه أبي الحسن: الإِمام المازري متمكن من علم الأصول يجري مع أنفاسه وهو ينظر في الفروع الفقهية ويحقق القول فيها حتى تنتظم عنده الشريعة تحت الضوابط الإجمالية التي هي مدارك علم الأصول. ولكن الشيخ أبا الحسن لم يكن على هذا القدر من التمكن. لذا كان المازري يتعقب كلامه مصرحًا بأن حظه من الأصول ضعيف. فمن ذلك ما رد به المازري تعقيب اللخمي على ابن عبد الحكم عندما استدل على وجوب صلاة الجنازة بقوله تعالى. {ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا} (¬1) الآية. فتعقب الاستدلال أبو الحسن اللخمي وقال: هذا النهي عن الشيء أمر بضده إن كان له أضداد. فضد المنع من الصلاة على المنافقين إباحة الصلاة على المؤمنين والندبُ والوجوب، فليس لنا أن نحمل الآية على الوجوب دون الإباحة والندب، إلا أنه لم تختلف الأمة أن الناس مأخوذون بالصلاة على موتاهم وأنهم لا يسعهم ترك ذلك. وهذا الذي قاله رحمه الله هفوة لا يقع فيها حاذق بعلم الأصول. وإن كان رحمه الله ليس بخائض في علم الأصول. ولكن تعلق بحفظه منها ألفاظ ربما صرفها في غير ¬

_ (¬1) سورة التربة، آية: 84.

مواضعها. ولقد كنت خاطبته على مواضع منها رأيته انحرف فيها عن أغراض أهلها فربما أظهر قبولًا لذلك، وربما استثقله. ولقد جمع في هذا الكلام بين حقائق مختلفة ساقها مساق الحقيقة الواحدة. فقال النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان ضدًا واحدًا وليس كذلك إذا كان ذا أضداد. وقد صدق فيما قال لأنه إذا كان ضد واحد، وكان الخطاب أمرًا، كان ذلك نهيًا تعين الأمر في الضد الواحد وإن كان ذا أضداد كان الأمر بواحد منها لا بعينه. ولكنه مثل الضد الواحد بالفطر والصوم. فلما كان الفطر والصوم ضدين كان الأمر بأحدهما نهيًا عن الآخر والنهي عن أحدهما هو الأمر بالآخر. ومثل ذي الأضداد يكون النهي عن الشيء ضده الإباحة، لذلك الشيء أو الندب إليه أو الوجوب له، فأنت تراه كيف مثّل الأضداد مرة بالأفعال المأمور بها، ومرة بنفس الأوامر والنواهي. وليس هو سياقة الحاذق بالأصول ولكن مقصده مفهوم. وتحقيق العبارة عنه أن تقول إن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان ذا ضد واحد وعن سائر أضداده إذا كان ذا أضداد. والنهي عن الشيء أمر بضده إذا كان ذا ضد واحد. وبأحد أضداده إذا كان ذا أضداد. فالنهي عن الصلاة على الكفار أمر بأحد التروك المضادة للصلاة عليهم لأن الصلاة عليهم ترك لأمور كثيرة تكون كلها أضدادًا للصلاة عليهم. واحد هذه الأضداد الصلاة على المؤمنين لأنا إنما نجعل النهي عن الشيء أمرًا بأحد أضداده لا بعينه. فلا يمكن هذا تعيين الأمر بالصلاة على المؤمنين لأجل هذا النهي. فأنت ترى كون الأمر بالشيء نهي عن نحمده لا مدخل له في الاستدلال على هذه المسألة، ولكن إنما سلك فيها إجراءها على باب دليل الخطاب (¬1). وكما يناقش شيخه اللخمي في كثير من القضايا الأصولية. فكذلك هو يناقشه في بعض التخريجات التي يرى أن شيخه قد أغفل فيها بعض المعطيات. ومن ذلك تخريج اللخمي أنه يمكن أن يترتب على قول عيسى بن دينار أن من ترك السورة عامدًا أو جاهلًا يجب عليه إعادة الصلاة. خرج عليه القول بأن قراءة السورة واجب. ذلك أن إيجاب إعادة الصلاة لمن ترك السنن عامدًا هي طريقة في المذهب في السورة وفي غيرها. ¬

_ (¬1) شرح التلقين ج3 ص 1145/ 1146.

أما إيجاب الإعادة على الجاهل فيتخرج منه أن قراءة السورة واجب هكذا قرر الشيخ أبو الحسن. فعقب عليه الإِمام المازري بأن المذهب اختلف هل إن الجاهل يعامل معاملة العامد أو لا؟ فإذا قلنا إن الجاهل والعامد سواء لم يبق وجه للتخريج الذي كشف عنه أبو الحسن. وقد حاول الشيخ أبو الحسن اللخمي أن يخرج من المذهب قولًا بالإيجاب بقراءة السورة. واعتمد علي قول عيسى: من ترك السورة عامدًا أو جاهلًا أعاد. وأظنه إنما اعتمد على هذه الرواية لما ذكر فيها ترك القراءة جهلًا. لأن القول بالإعادة مع العمد قد يحمل على طريقة القائلين بالإعادة لترك السنن عمدًا. وفي هذا التخريج نظر لأن المذهب اختلف في الجاهل هل هو كالعامد أو لا؟ فإذا قيل إنه كالعامد وكان تعمد ترك السنن يوجب الإعادة لم يسلم له هذا التخريج (¬1). الشيخ عبد الحميد الصائغ: هو الشيخ أبو محمَّد عبد الحميد بن محمَّد القروي المعروف بابن الصائغ. كان فقيهًا نبيلًا فهمًا فاضلًا أصوليًا زاهدًا نظارًا جيد الفقه قوي العارضة. محققًا. بهذا ترجم له القاضي عياض. تخرج على أيدي جلة مشائخ القيروان إذ أدرك أبا بكر بن عبد الرحمن وأبا عمران. وتفقه بالعطار وابن محرز والمولي والتونسي والسيوري. وسمع أبا ذر الهروي (¬2). ثم انتقل من القيروان إلى سوسة إثر الزحف المخرب من أعراب صعيد مصر لعاصمة الحضارة بالمغرب. وبجمعه بين الفقه والتضلع في علم الأصول كان أقرب إلى تلميذه المازري الذي كان ينوه به ويعتمده ويستطلع رأيه. ومع ذلك فإن هذا التقدير والاعتراف بالفضل لم يمنعه ذلك من مناقشة شيخه. ولكن بصفة أقل من تعقبه لآراء اللخمي وذلك في نظري لسببين مرتبطين: السبب الأول: أن اللخمي لم يكن متمكنًا من علم الأصول فانفلتت عليه بذلك كثير من المسائل ولم تنتظم في السلك الأصولي الجامع. بينما كان الشيخ عبد الحميد أصوليًا. كما أثنى عليه بذلك القاضي عياض. ولبراعة الإِمام ¬

_ (¬1) شرح التلقين ج 2 ص 538. (¬2) المدارك ج 8 ص 105.

المازري في الأصول كان لا يخفى عليه ما استتر على اللخمي. السبب الثاني: أن اللخمي كان مغرى بتخريج الأقوال. والترجيح بين الآراء ثم الإعلان عما يتحصل عنده لنباهة واضحة عند التأمل في الاتجاهات والأقوال ولشجاعة بينة في إعلانه بذلك. ومن أمثلة تعقيبه على شيخه ما رآه شيخه عبد الحميد أن أثر الاختلاف في اعتبار تكبيرة الإحرام في الصلاة ركنًا أو شرطًا، فساد الصلاة أو صحتها إذا نظر المأموم لعورة إمامه عند تكبيرة الإحرام. يقول: وكان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يرى أن فائدة الخلاف في ذلك ما ذكره سحنون من أن الناظر إلى عورة إمامه في صلاته تعمدًا، أن صلاته تبطل. فإذا قيل إن تكبيرة الإحرام من نفس الصلاة، بطلت صلاة الناظر إلى عورة إمامه في حين إحرامه. وإن قيل. ليست من نفس الصلاة لم تبطل صلاته. والذي عندي أن فائدة الخلاف في ذلك صحة تقديم الإحرام على وقت العبادة. فمن رأى الإحرام من نفس العبادة اشترط في صحة إيقاعه الوقت كما يشترطه في سائر أجزاء العبادة (¬1). فتنة الشيخ عبد الحميد الصائغ: ذكر عياض أن المعز بن باديس لما أراد تولية ابن شعلان قضاء المهدية اشترط عليه ابن شعلان أن لا يتقلد ذلك إلا إذا شد عضده بالشيخ عبد الحميد ليقوم بالفتوى. إذ لا يرى استفتاء أحد من فقهائها لأمور نقمها عليهم. فأسندت له الفتوى وانتقل إلى المهدية. فلما شغبت سوسة على ابنه تميم قبض على جماعة فيهم ولد عبد الحميد فضربه، وأغرمه ستمائة دينار باع فيها عبد الحميد كتبه. وكان سبب انقباض عبد الحميد عن الفتيا، فلقيه بعد ذلك تميم واعتذر إليه، فلم ينفعه، ولزم الانقباض ولزم داره، وأظهر التجاؤر، ولم ينتفع به في شيء. وجعل لا يجالس أحدًا، وتحيل في الخروج إلى سوسة لعلة المعاناة، لحسن هوائها. فبقي على حالته تلك ستة أعوام إلى أن دخل الإفرنج المهدية، واستباحوا أهلها. ودخلوا قصر صاحبها. وذلك سنة ثمانين، فانكسر بعد ذلك تميم، وفل غربه، وهان على الناس وداراهم، فظهر عبد الحميد، وراجع حالته ¬

_ (¬1) شرح التلقين ج 2 ص 499.

الأولى، وأفتى ودرس. وانتفع به إلى أن مات (¬1) سنة ست وثمانين وأربعمائة رحمه الله. أما ولادته فلم يتعرض لها أحد من مترجميه. إلا أنهم أشاروا إلى أنه أدرك أبا بكر بن عبد الرحمن المتوفى سنة 431. وأبا عمران الفاسي المتوفى سنة 430 فيكون سنه حوالي خمس عشرة سنة عند وفاة أبي عمران. إذ هو أقل سن التلقي غالبًا أي حوالي سنة 415 - ويكون قد عمر حوالي سبعين سنة. هذه الرواية التي ذكرها عياض نقلها عنه الحجوي وعلق عليها. وإني لأعجب من انبساطه لا من انقباضه. ولقد فسدت أحوال وأخلاق ذلك الزمان. ولذا كانت دولة إفريقية في اضمحلال حيث صارت أفكار أكابر علمائها وأعمال أمرائها إلى ما سمعت (¬2). إن هذه القضية تدلنا على أمور: أولًا: عن انخرام الأمن وفساده فسادًا كليًا. بانتشار الظلم، إذ أصبح الإنسان مؤاخذًا بما لم يفعله ولم يشارك فيه، ولم يدبر. وتنزل العقوبة التي لا ترحم ولا مثنوية فيها بالمجرم وغير المجرم. وأن هذا البلاء قد عم. فلا فرق في نزول صواعقه بين أن يكون المسلط عليه عالمًا أو جاهلًا مكرمًا في نظر الجماعة أو غفلًا لا يؤبه به. ثانيًا: أن أعز شيء على العالم كتبه بعد دينه وعرضه. فإذا بلغ به الأمر إلى بيع كتبه. فلا بد لنا من أن نتصور القسوة في المعاملة التي كانت تنتظر ولده لو لم يبع الوالد كتبه. ثالثًا: أن النص يدل على أنه كان مضغوطًا عليه محصورًا في المهدية لا يبرحها مع أنه الركن الذي يفزع إليه القاضي لتبين حكم ما استبهم، وأهل المهدية لمعرفة ما أشكل من أحكام دينهم. إذ لو لم يكن محكومًا عليه بالإقامة في المهدية ما عمل الحيلة للخروج إلى سوسة. رابعًا: أنه يفهم من ثنايا النص تبعًا لما ذكرناه أن تميمًا غضب عليه وأنه ¬

_ (¬1) المدارك ج 8 ص 106. (¬2) الربع الرابع من الفكر السامي ص 51.

اقتنع بان استبداد هذا الحاكم مع غضبه عليه مما يقيد حريته في الفتوى وُيعرضه للامتحان. فلما انكسر عاد إلى الفتوى لا شماتة ولا انشراحًا. ولكنه أمن على نشر دين الله حسب علمه وما يصل إليه نظره. إذ لا صلة بين الشماتة والعود إلى التدريس. فالامتناع من التدريس كان لسبب: هو السطوة والظلم تبعًا للحكم المطلق. فلما انكسر تميم ورأى بعينيه عاقبة ما جنت يداه خفت حدته، وأخزي، وعرف نفسه أنه: أسد علي وفي الحروب نعامة فالحجوي قد تعجل في التسوية بين العالم المضطهد المغلوب على أمره غير الآمن من دسائس العيون المرصودة حوله. وبين الحاكم الطاغي الظالم. ألا وإن النبلاء يحل بالشعوب إذا ذهب العدل وأبغض الناس حكامهم. وأبغضهم الحكام. فتنتهي الدولة كلها إلى الزوال. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلًا في هذا الكون. أثر هذه القصة سقت هذه القصة لأنها أعطتني ضوءًا كشف لي عن الأمر الذي قد يكون هو السبب في أن المازري على علو كعبه في العلم، وتفرده بالإمامة بعد شيوخه، لم يتول الخطط والمناصب والعمل مع الحكام. فما شاهده من فتنة شيخه عبد الحميد الذي كان يعرف قدره ومكانته في العلم وطهارة خلقه، وما كانت تجري عليه الأمور من أن أشد الناس خوفًا من السلطان الجائر هم أقرب الناس إليه، ولذلك في نظري نجا الإِمام المازري بعلمه وبكرامته. وأمكنه أن يواصل مهمته التي نذر نفسه لها، وهي بث العلم. وتحقيق المسائل. وتكوين الطلاب. هذه المهام التي كثيرًا ما أشار إليها في كتابه هذا. هل يمكن تعيين شيوخ المازري؟ ما سبق في هذا البحث يكشف بجلاء أن المازري في كتابه هذا ما كان معنيًا بذكر الحوادث التي اضطرب بها عصره. كما أنه لا يعير كبير اهتمام لضبط أسماء شيوخه الذين أخذ عنهم. كما أن عدد هؤلاء الذين وصله عن طريقهم

السند العلمي وأثروا في تكوينه، عددهم كثار. ولذا فإني أرى أن عرق جبين بعض من كتب عن المازري في فرض الفروض، والترجيح بينها، واستبعاد أن لا يكون المازري أخذ عن فلان أو عن فلان لأنه كان من أعلام العصر عند تلقيه للعلم، كل ذلك في نظري تعسف ورجم بالغيب وتحميل للظواهر ما لا تتحمل وكد للذهن فيما لا يفيد. لأن المهم ليس هو التلقي والأخذ ولكن المهم هو التأثر الحاصل من امتداد شخصية الملقى في المتلقي. وهذا ما نجده واضحًا في تأثره باللخمي في طريقته التأليفية في التبصرة من حصر الموضوع بالأسئلة ثم الإجابة عما أثاره واحدًا واحدًا، وهي طريقة مبتكرة في المنهج القيرواني تختلف عن طريقة السؤال والجواب التي جرت عليها المدونة، تأثر بها المازري لما وجد فيها من شحذ للذهن الذي هو المنهج العلمي الصحيح، الذي يقوم على أن كل حل هو مفض إلى إشكالات جديدة وراءه، تدعو الناظر إلى التأمل ومواصلة البحث. كما أن إثارة الصعوبة على شكل سؤال يبعث في الذهن نشاطًا، يكون به أقدر على التغلب على الصعوبة، ثم على ترسخ الإجابة في الحافظة، وانفلاتها من الغفلة التي تلقي بظلالها فتحجب الذهن عن التفاعل معها. كما أن شيخه عبد الحميد قد أثر فيه. في دقة النظر، وربط الفروع بالأصول. وإذا كنا لا نستطيع أن نجلي هذا التأثر بصفة تفصيلية. لأن آثار شيخه قد ذهبت فيما ذهبت من ثروة نتاج الفكر الإِسلامي، إلا أن الإشارات التي وردت في أثناء هذا الكتاب تدلنا إجمالًا على ذلك. تلاميذ المازري. انتصب المازري للتدريس صغيرًا: يقول في القراءة في الوتر: وقد كنت في سن الحداثة وعمري عشرون عامًا وقع في نفسي أن القراءة في الشفع لا يستحب تعيينها. إذا كانت عقب تهجد بالليل. وإنما الاستحباب يتوجه في حق من اقتصر على شفع الوتر. فأمرت من يصلي التراويح في رمضان أن يوتر عقيب فراغه من عدد الإشفاع ويأتي بجميع مقروءاته بالحزب الذي يقوم به فيه ويوتر

عقيبه. فتمالأ المشائخ المفتون حينئذ بالبلد على إنكار ذلك واجتمعوا بالقاضي وكان ممن يقرأ على، ويصرف الفتوى فيما يحكم به إليّ فسألوه أن يمنع من ذلك فأبى عليهم إلا أن يجتمعوا لمناظرتي على المسألة فأبوا فأبى (¬1) ... يفيد هذا النص أنه تصدر للتدريس صغيرًا. وأنه قد ظهر نبوغه مع بواكير شبابه، إذ كان قاضي المهدية "عاصمة الصنهاجيين" أحد تلاميذه، ويعتمده في الفتوى للقضايا التي تعرض عليه. وبناء على هذا يكون عمره يوم ابتدأ التدريس دون العشرين سنة. وإذا كان قد عمّر ثلاثًا وثمانين سنة. كان مقتضى ذلك أنه جلس الطلبة حوله للأخذ عنه ما يقارب خمسًا وستين سنة. وفي هذه المدة الطويلة التي محض فيها نفسه للتدريس ونشر العلم يكون طلبته كثيرين قطعًا منهم النابغ النابه، ومنهم المتوسط والخامل. وقد أجود الشيخ محمَّد الشاذلي النيفر نفسه لشبع من ذكر من تلاميذه في كتب التراجم ممن أخذ عنه وممن كاتبه فأجازه وممن يحتمل أن يكون قد أخذ عنه وحتى من لم يلقه وإنما أجيز من تلاميذه فبلغ بهم أربعة وثلاثين. على أن الإجازة صلة اعتبارية أكثر منها حقيقية. وأن تلاميذه المذكورين الذين لم يبلغوا العشرين في هذه المدة الطويلة لم يذكر عن واحد منهم أنه انطبعت ملكته بالطريقة المازرية. على معنى أن السند العلمي الذي اتصل بالمازري من مشيخة القيروان عن طريق شيخيه اللخمي والصائغ قد وقف عنده. وأنه لم يخلف من يقوم على ذلك المنهج ومن يواصل امتداده فتوقف دفقه. وسنزيد ذلك بيانًا عند تعقيبنا على كلام المقري. وسبب ذلك يعود إلى ما حلل به ابن خلدون في مقدمته في الفصل الثاني من أن التعليم للعلم من جملة الصنائع. يقول: فاعلم أن سند التعليم لهذا العهد كاد ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدول وما يحدث عن ذلك من نقص الصنائع وفقدانها. كما مر وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس. واستبحر عمرانهما. وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة. ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما. وما كان فيهما من الحضارة، فلما خربتا انقطع التعليم من المغرب إلا قليلًا كان في دولة الموحدين ¬

_ (¬1) شرح التلقين ج 2 ص 785.

بمراكش مستفادًا منها، ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراض بمبدئها. فلم تتصل فيها أحوال الحضارة إلا في الأقل. وبعوإنقراض الدولة الموحدية ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لهذا أوساط المائة السابعة، فأدرك تلاميذ الإِمام ابن الخطيب، فأخذ عنهم، ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن (¬1). فنص ابن خلدون واضح في انقطاع السند العلمي من تونس في عهد الدولة الموحدية. وإذا كان المازري توفي سنة 536. وأن الدولة الموحدية طهرت المهدية سنة 555 من احتلال النرمان لها سية 543. وما سبق الزحف النصراني من تفكك الدولة وذهاب رسوم الوحدة، وتغلب قوة البداوة على الحضارة. وما صحب الاحتلال من خوف وما عقبه من تغلب البداوة على الدولة الموحدية أيضًا، فإنه يظهر لنا أن انقطاع السند قد جرى على سنة ارتباط الأسباب بالمسببات في الاجتماع كما هي في غيره. تلاميذه المذكورون في مقدمة المعلم حسب الترتيب الوارد فيها (¬2): أبو حفص عمر بن عبد المجيد الميانشي المتوفى سنة (583). أبو محمَّد عبد السلام البرجيني (هل هو المتوفى سنة 622 فيكون منتسبًا للمازري بالواسطة أو هو غيره)؟. أبو يحيى زكرياء بن الحداد المهدوي. يقول الشيخ مخلوف لم أقف على وفاته. أبو يحيى أبو بكر بن الجواد المهدوي. أبو الطاهر بن الدمنة التونسي. أبو الحسن السوسي. أبو القاسم بن مجكان. ¬

_ (¬1) مقدمة ابن خلدون ص 430/ 431. (¬2) مقدمة المعلم بفوائد مسلم من ص 26 إلى ص 51.

أبو الحسن بن الأوجقي. أبو عبد الله محمَّد بن تومرت الهرغي. أبو الحسن صالح بن أبي صالح بن خلف بن عامر الأنصاري الأوسي تـ (586). أبو عبد الرحمان مساعد بن أحمد بن مساعد المعروف بابن زُعُوقة. أبو عبد الله محمَّد بن يوسف بن سعادة تـ (566). أبو عبد الله محمَّد بن عيسى الشلبي تـ (551). أبو الحسن محمَّد بن خلف بن صاعد الغساني تـ (547). أبو الحسن علي بن محمَّد بن إبراهيم بن عبد الرحمان بن الضحاك الفزاري. أبو العباس أحمد بن طاهر الأنصاري تـ (532). أبو الحسن محمَّد بن أبي عمرو عبد الرحمان العبدي ابن عظيمة (543)، عبيد لله بن عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود ابن عيشون المعافري (573: 574). أبو إسحاق إبرّاهيم بن أحمد بن عبد الرحمان الأنصاري الغرناطي. أبو بكر محمَّد بن أحمد بن عبد الملك بن موسى بن أبي حمزة تـ (599). أبو القاسم محمَّد بن محمَّد بن أحمد بن لب يعرف بابن الحاج تـ (575). أبو جعفر أحمد بن محمَّد بن إبراهيم ... بن خلصة الحميري الوزعي. أبو بكر محمَّد بن خير بن عمر بن خليفة اللمتوني الأموي تـ (575). محمَّد بن أحمد بن محمَّد بن رشد الحفيد تـ (595). أبو عبد الله محمَّد بن صاف بن خلف بن سعيد بن مسعود الأنصاري تـ (552). أبو الحسن صالح بن عبد الملك الأوسي تـ (586). أبو عبد الله محمَّد بن عبد الله الأنصاري الأوسي البرنامج تـ (639) أجازه تلاميذه.

أبو محمد عبيد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن ذي النون يعرف بابن عبيد الله تـ (595). أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمران اليحصبي السبتي تـ (544). أبو بكر عبد الرحمان بن محمد بن أبي العيش تـ (570). أبو محمد عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم ابن الفرس ت (599). أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأنصاري الخزرجي ابن الفرس (576). أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن أدهم الوهراني الحمزي ابن قرقول تـ (569). أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد بن المخزومي الشاهد ابن كوزان لقيه في المهدية. مؤلفات المازري. تنقسم مؤلفات المازري إلى قسمين: أولاً: المؤلفات المستقلة. ونعني بها التآليف التي كان هو المصمم فيها لمنهج التأليف. تصوراً وترتيباً. ثم إخراجاً وطريقة. ثانياً: المؤلفات المرتبطة بمن سبقه. التي يكون دور المازري الشرح والإضافة والتكميل. والتقييد. والاستدلال والتنظير. ما ذكر من تآليفه: أولاً في السنة النبوية المطهرة: كان عصر المازري قد تم فيه جمع السنة النبوية الشريفة. ودونت فلم يصرف عنايته إلى التأليف في الجمع أو الترتيب. ولم ينقل أنه ألف كتاباً في ذلك رغم أن بعضاً ممن جاء بعده أضافوا إضافات لطريقة تدوين السنة النبوية. ولكنه صرف جهده لشرح السنة وتحقيق المعاني واستنباط الأحكام،

واختلاف الفقهاء، وسبب الخلاف، ودفع الشبه والتوجيه إلى ما ينبغي أن تحمل عليه الظواهر. مبرزًا انتظام صحيح السنة في سلك لا نشاز فيه ولا اختلاف ولا تضارب ولا تناقض مع الأصول القطعية في الإِسلام. كما اعتنى ببعض الأسانيد ذاكرًا الطرق المروية في سند الحديث وخواص الإسناد. ومن تآليفه: أولًا: المعلم بفوائد صحيح مسلم (¬1). الذي أملاه على طلبته في شهر رمضان سنة 499 (¬2). وإن النظر في المعلم يرجح صحة ما ذكر الشيخ مخلوف في ترجمة أبي مروان عبد الملك بن عيشون المعافري البلنسي أنه لقي في طريقه إلى الحج بالمهدية أبا عبد الله المازري. وحكى عنه أنه سمعه يقول وقد جرى ذكر كتابه المعلم بفوائد صحيح مسلم: أني لم أقصد تأليفه وإنما السبب فيه أنه قرئ علي صحيح مسلم في شهر رمضان فتكلمت على نقط منه. فلما وقع الفراغ من القراءة عرض علي الأصحاب ما أمليته عليهم. وإذ ذاك نظرت فيه وهذبته فهذا سبب جمعه (¬3). وذلك أن المعلم يعبر عن عمق نظر المازري وولوعه بأمرين بصفة خاصة. تحرير العقيدة بتأويل النصوص تأويلًا يبعد كل اختلاف بينها وبين القواطع الثابتة، وتحرير بعض الأحكام الفقهية. وفي كليهما هو لا يطنب ولا يجري على نفسه كما نجده في شرح التلقين بما يرجح أن القصد كان ختم صحيح مسلم قراءة عليه في شهر رمضان. ثانيًا: تعليق على أحاديث الحافظ أبي بكر محمَّد بن عبد الله بن محمَّد بن زكريا الشيباني الجوزقي النيسابوري تـ 388 (¬4). وهو كتاب غير معروف الآن. وللحافظ الجوزقي في خدمة السنة المطهرة كتب. منها: الأربعون. الجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم. الصحيح المخرج على مسند مسلم. ولم ينص ¬

_ (¬1) حققه الشيخ محمَّد الشاذلي النيفر وكتب مقدمته. (¬2) نفس المصدر ج 1 ص 1281. (¬3) شجرة النور الزكية ج 1 ص 152. (¬4) الرسالة المستطرفة ص 27.

المقري على أي الكتب الثلاثة كان تعليقه. واستبعد الشيخ محمَّد الشاذلي النيفر أن يكون الصحيح المخرج على مسند مسلم. لأنه لو كان هو لكان تكرارًا لخدمته لمسلم (¬1). والذي يغلب على الظن أن الكتاب الذي علق عليه هو الجمع بين الصحيحين لأنه بذلك يكون المازري قد أملى على صحيح مسلم وأملى على صحيح البخاري وأملى على الجمع بين الصحيحين للجوزقي. وعلى كل فإنه عندما يظهر ما يغلب هذا الفرض أو غيره يبدو وجه الحق. ثالثًا: إملاؤه على البخاري. وهذا الكتاب لم يذكره أحد من الذين عنوا بالترجمة للمازري. مع أنه قد أحال عليه عندما فصل القول في تقدير طول القراءة. واختلاف الفقهاء في ذلك واختلاف الآثار وأنهى تفصيله بقوله: وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث أخر تقتضي التخفيف. وقد أوعبنا الكلام على جميعها وذكرنا صفة البناء فيها. وما تؤولت عليه فيما أمليناه على البخاري. فمن أحب الوقوف عليه فليلتمسه هناك (¬2). وإذا كانت طريقته في إملائه على البخاري ما ذكره هنا فإن هذا الإملاء يكون قد توسع فيه أكثر مما علق به على صحيح مسلم. لقوله وقد أوعبنا الكلام على جميعها وذكرنا صفة البناء فيها. وما تؤولت عليه. وهذه غير طريقته في المعلم. وقد تظهر نسخة من هذا الإملاء الذي لم أجد له ذكرًا فيما اطلعت عليه من شروح صحيح الإِمام البخاري. ثانيًا: في علم العقيدة. 1 - نظم الفرائد في علم العقائد: وهذا الكتاب الذي أورد ابن فرحون في تعريف الإِمام ما يلي: ذكر الشيخ الحافظ النحوي أبو العباس أحمد بن يوسف الفهري اللبلي في مشيخة شيخه التجيبي أن من شيوخه أبا عبد الله المازري. وأن من تآليفه عقيدته التي سماها "نظم الفرائد في علم العقائد". لم يظهر لحد الآن أثر لهذا التأليف. ويترجح أن الإِمام ألف كتابًا في العقيدة. وذلك لأن توجهه ¬

_ (¬1) المعلم بفوائد مسلم ج 1ص 61. (¬2) شرح التلقين ج 2 ص 577/ 578.

إلى قضايا العقيدة في المعلم وتخصيصها بالعناية يدل على اهتمامه بهذا الميدان وحرصه على بيان الحق فيه. ولأن آثار التشيع والاعتزال لم تقتلع كل جذورها بعد من إفريقية، فالظن أن الإِمام يسهم في تعقيم تلك الآثار والقضاء عليها ببيان الحق. ولأن اتصاله بعبد الملك الجويني وبالمدرسة المالكية في المشرق من القاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب، تجعله تلك الصلة متمكنًا من الطرائق الكلامية الأشعرية. وكلما امتلأ العالم من فن من الفنون فاض على لسانه وقلمه. 2 - كتاب النكت القطعية في الرد على الحشوية والذين يقولون بقدم الأصوات والحروف. وحسبما يفهم من عنوانه. أن المازري نصر فيه مذهب الإِمام الأشجري ورد على كل الفرق من المجسمة من الشيعة وغيرهم الذين ذهبوا إلى أن القرآن المسموع وكذلك المكتوب قديم (¬1). 3 - كتاب قطع لسان النابح في المترجم بالواضح. أشار إلى هذا الكتاب في المعلم. عند بيان تواتر القرآن. وأن الذين حفظوه لا يحصون عدًا. وأن الذين وصلوا إليه بأسمائهم خمسة عشر صاحبًا. ذكرهم في كتابه هذا. وعلق عليه بأنه كتاب نقضنا فيه كلام رجل وصف نفسه بأنه كان من علماء المسلمين ثم ارتد. وأخذ يلفق قوادح في الإِسلام. فنقضنا أقواله في هذا الكتاب وأشبعنا القول في هذه المسألة وبسطناه في أوراق (¬2). كما أشار إليه أيضًا في شرحه هذا. عند بيانه لحكم قراءة القرآن في الصلاة بقراءة ابن مسعود. ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - أنزل القرآن على سبعة أحرف. فقال وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة. وتأويل قوله عليه السلام: أنزل القرآن على سبعة أحرف. وذكرنا تأويل ما حكي عن ابن مسعود وابن شهاب. في كتابنا ¬

_ (¬1) الملل والنحل ج 1ص 145/ 158. (¬2) المعلم ج 3 ص 151.

المترجم =بقطع لسان النابح في المترجم بالواضح= وهو كتاب نقضنا فيه كتابًا ألفه بعض حذاق نصارى المشرق. قصد فيه إلى جمع المطاعن التي تشبث بها الملحدون، وقذفها الطاعنون على ديننا، وأضافوها إلى العقل والنقل فاكتفينا بذكرها هناك عن ذكرها ها هنا، لاشتغال أهل الأصول بالخوض فيها دون أهل الفروع (¬1). فكتبه في العقائد الثلاثة اثنان منها قد استقل فيهما بالتأليف. والثالث ارتبط بالرد على النصراني القادح. فحسبما جاء في كلامه يُتابع شبهاته ويزيل ما يدلس به على الناظرين في كلامه. ويكشف الحق في القضية المنارة. ويشير المازري. إلى أن هذا الطاعن قد جمع متتبعًا ما طعن به الطاعنون ولفقده. ثالثًا: كتبه في علم أصول الفقه. يتبين لك بعد قراءة شرح التلقين أنك تدرك الفقه إدراكًا جديدًا وأنك مع عالم لا يلقي إليك بالأحكام الجزئية مكررة بدقة ومسندة إلى أصحابها ومرتبطة بأدلتها فقط. ولكنه يأخذ بيدك إلى رتبة أسمى وذلك بربط الفروع بالأصول. وتكون القواعد الأصولية هادية لك في انتظام الفقه الإِسلامي. وأن ما حدث من اختلاف بين الفقهاء لا يعود إلى نظرة جزئية للمسألة المعروضة. وإنما هو خلاف مبني على تأصيل القاعدة في الاعتبار للأدلة الإجمالية وطرق دلالتها. فمن تآليفه في الأصول: 1 - إيضاح المحصول من برهان الأصول: ذكر عياض أنه شرح البرهان ولم يذكر اسم الكتاب. وذكر ابن فرحون أنه شرح البرهان لأبي المعالي وسماه إيضاح المحصول من برهان الأصول (¬2). وعبد الملك بين عبد الله بن يوسف بن محمَّد الجويني أبو المعالي إمام الحرمين أحد الكواكب اللامعة في مجرة علماء الإِسلام، عمق نظر وسعة مدارك وذكاءًا متوقدًا، وتقوى قام بالتدريس فتحلق حوله العلماء. وقام بالوعظ فأحيا القلوب وربطها بالخير والصلاح. وألف في الكلام والأصول والفقه، فكانت كتبه مرجع العلماء على مدى الأعصار. ¬

_ (¬1) شرح التلقين ج 2 ص 680. (¬2) الغنية ص 133 والديباج ص 280.

ومما يعرف من كتبه في أصول الفقه الورقات والبرهان: البرهان من المراجع التي يعتمدها الأصوليون في تحرير قضايا هذا العلم. ومع هذا فالكتاب قد اودعه صاحبه من الآراء والمناقشات والاختيارات ما يجاوز حجمه فاستغلق فهمه، وكان الأخذ منه والاستفادة منه على مقدار حظ الناظر من العلم والفطنة. يصفه ابن السبكي بقوله: وأنا أسميه لغز هذه الأمة لما فيه من مصاعب الأمور. وإنه لا يخلي مسألة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار يخترعه لنفسه وتحقيقات يستبد بها (¬1). فأبو المعالي في هذا العلم يعتبر مجتهدًا لا مقلدًا. أراد الإِمام المازري أن يقرب هذا الكتاب للناظرين فيه وأن يكشف مغالقه ويوضح إشكالاته. ويصحح ما ينبغي تصحيحه من اختياراته. فسمى تاليفه بإيضاح المحصول. وهذا الشرح الذي نجزم بان الإِمام المازري قد حقق فيه تحقيقات نفيسة وأضاف إليه إضافات هامة إكمالاً أو تصحيحاً، قد طواه الزمن فيما طوى من كنوز المؤلفات الإِسلامية. ندعو الله أن ييسر اكتشافه وإخراجه للناس. ويتفق المقري وابن السبكي على أن المازري لم يكمله. وفي اهتمام الإِمام المازري بشرح هذا الكتاب ما يؤكد تعلقه وتضلعه من هذا العلم. ثم هو قطعًا لما كان شارحًا فقد ارتبط بتأليف أبي المعالي. والمازري كما تبين لنا، مقامه في علم الأصول مقام التحقيق ومكانته فيه تدعوه إلى إبرازه حسبما انتظم في عقله وما انطبعت به مداركه. ولذلك ذكر أكثر من مرة في شرحه للتلقين أنه سيُملي في أصول الفقه ما يجلي المسألة التي تعرض لها. ولكن لم نجد في كتب التراجم ما يفيد أنه ألف هذا التأليف المستقل فلعله قد اخترمته المنية قبل أن يتمكن من ذلك لاشتغاله بما كان بصدد إتمامه من التآليف. ¬

_ (¬1) الطبقات ج 3 ص 264.

رابعًا: كتبه في الحكمة. ذكر المقري أن له تعليقًا على شيء من رسائل إخوان الصفا، سأله السلطان تميم عنه (¬1). لقد كان لهذه الرسائل تأثير في الدولة الإِسلامية في العصر الذي ألفت فيه القرن الرابع الهجري وفي القرون التالية. إذ أن مؤلفيها قد أخفوا أسماءهم وخلطوا في كلامهم بين الدين والفلسفة والطبيعيات. والحسابيات. وقام مذهبهم على التأويل والرمز. وعلى الافتراض. وهم يهدفون فيما يهدفون إليه إلى تكوين جماعات سرية يعملون، بواسطة تربيتهم على طاعة كل طبقة لمن هي فوقها طاعة كاملة، على تقويض السلطة العباسية في المشرق والوصول إلى الحكم. وهم بما سطروه وما يدعون إليه قد سلكوا منهجًا يناقض منهج علماء السنة. إذ يؤولون النصوص تأويلات بعيدة. ويدعون أن العلم الكامل تصل إليه الطبقة العليا بعد سن الخمسين. فتشهد حقائق الأشياء على ما هي عليه. فإذا وصل السالك إلى هذا المقِام يكون فوق الطبيعة والشريعة والناموس. ولذا فهم لنزعتهم السياسية يكونون خطرًا على أنظمة الحكم. ولانحرافهم في تأويل النصوص ولَيّ عنقها بلى ما اقتبسوه من فلسفة القدماء كانوا هدف حملة علماء المسلمين المستبصرين. ويبدو أن الرسائل وصلت بالطرق السرية التي كان يسير عليها أتباعهم. وصلت إلى المهدية. وكان الطود الشامخ الذي يدفع المكائد عن الإِسلام هو الإِمام المازري لإمامته في علوم الشريعة وتضلعه بالعلوم الحكمية. ولذا انتدبه تميم بن المعز ليكشف زيف هذه الرسائل وليبصر الناس بانحرافاتهم ويكشف عن خطر ضلالاتهم. فقام بهذا العمل ولكن لم يصلنا رده الذي نصر به الدين وقمع به دسائسهم السياسية. ومخارقهم. ¬

_ (¬1) أزهار الرياض ج 3 ص 166.

آثاره الفقهية: رزق الإِمام المازري من سعة المدارك والنباهة والذكاء والجد في تحصيل العلم ونشره ما استحق به أن يتفق عارفو فضله على تلقيبه بالإمام. وكما سبق هو علَم يمثل الثقافة الإِسلامية بجمعه بيق علوم متنوعة، ساعدته مواهبه وجده أن يكون مرجعًا فيها. ولكن إمامته تظهر بصفة أتم وأجلى في ميدان الفقه. ففي هذا العلم تعددت تآليفه ومحض معظم نشاطه. فمما ذكر له من الآثار الفقهية. 1 - كشف الغطاء عن لمس الخطأ. ذكره المقري. وكذلك ابن ناجي مع بيان سبب تاليفه وذلك في ترجمة أبي محمَّد عبد الله التبان أنه وقعت يده على ساق ابنته وهو يظنها زوجته ففارق الزوجة أم البنت ورأى أنها حرمت عليه بهذا القدر. ثم أخذ يناقش القول بالتحريم مبينًا من يقول بعدم التحريم من شيوخ القيروان وعد منهم أبا القاسم بن محرز الذي ألف فيه تأليفًا. ثم قال واختاره المازري أيضًا وألف فيه تأليفًا واعتمد على تأليف بن محرز وسماه كشف الغطاء عن لمس الخطأ (¬1). 2 - فتاوى المازري: وهذه الفتاوى لم يجمعها الإِمام في كتاب. ولكن وردت موزعة في دواوين الفقه للذين جاؤوا من بعده وخاصة البرزلي والونشريسي قد اعتنى بها د. الطاهر المعموري وجمع ما وصلته يده منها. والإمام الذي انتصب للتدريس والإفتاء كما بيناه خمسًا وستين سنة تقريبًا نرجح أن فتاواه كانت متنوعة حفظ بعضها وذهب الكثير منها. وتتميز هذه الفتاوى بالتزام مذهب مالك. والتوجيه بأسرار الشريعة. والشجاعة في الاستقلال بما حصل عنده بعد النظر. وهي تعبر عن المشاكل الاجتماعية والأوضاع السياسية في عصره. وهذان الأثران هما من الآثار المستقلة. ¬

_ (¬1) معالم الإيمان ج 3 ص 95. والمثبت في النص قال ابن المواز في كتاب الخيار. وفي أسفل الصفحة وفي "ق" قال المازري وهو الصواب لأن ابن المواز توفي قبل السيوري بقرنين.

3 - كتاب التعليقة على المدونة: هكذا ورد الاسم في أزهار الرياض التعليقة على المدونة. وفي معالم الإيمان ورد بلفظ "تعليقه على المدونة" بدون تاء لقول المازري في تعليقه على المدونة .. وفي نهاية الصفحة قال المازري في كتاب الخيار من تعليقته وحلف السيوري بالمشي إلى مكة لا يفتي بقول مالك في المسائل الثلاث (¬1). وقد عني الفقهاء بالمدونة عناية كبرى وخاصة في القيروان فلذلك كتب كثير منهم تعليقات على المدونة تساعد الناظر فيها على حسن الجمع بين مسائل أبوابها وتحرير المقصد من الكلام، وهل يؤخذ النصر الخاص على ظاهره أو يؤول. ولا نعلم مكان وجود ما علق به الإِمام المازري على المدونة. 4 - كتاب الرد على الأحياء. المسمى بكتاب الكشف والإنباء عن المترجم بالأحياء (¬2). وهذا الكتاب غير معروف مكان وجوده. وحسب الاسم الذي اختاره الإِمام. وحسب المفهوم الذي عبر به عنه المقري. فإن الكتاب يعتبر نقدًا للأحياء ورفضا أن يكون حسب الصورة التي برز عليها إحياء لعلوم الدين. ويرى فيه اسمًا فارغًا من مسماه. كما فعل في المترجم بالواضح. الجوانب التي حملته على نقد الكتاب. ونستشف من كلام السيد محمَّد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى، يقول في فصل ذكر طعن أبي عبد الله المازري على كتاب الأحياء. أما المازري فقال مجيبًا لمن سأله عن حاله وحال كتاب الأحياء ما نصه: هذا الرجل يعني الغزالي، وإن لم أكن قرأت كتابه، فقد رأيت تلامذته وأصحابه، فكل منهم يحكي لي نوعًا من حاله وطريقته، فأتلوح منها من سيرته ومذهبه. فأقام لي مقام العيان. فأنا أقتصر على ذكر حال الرجل. وحال كتابه ¬

_ (¬1) معالم الإيمان ج 3 ص 183 (¬2) أزهار الرياض ج 3 ص 166.

وذكر جمل من مذاهب الموحدين والفلاسفة والمتصوفين، وأصحاب الإشارات. فإن كتابه متردد بين هذه الطوائف لا يعدوها. ثم أتبع ذلك بذكر حمل أهل مذهب على أهل مذهب آخر. ثم أكشف عن طرق الغرور، فأكشف عماد فن من خيال الباطل ليحذر من الوقوع في حبائل صائده. وقال هو بالفقه أعرف منه بأصوله. وأما علم الكلام الذي هو أصل الدين فإنه صنف فيه أيضًا وليس بالمستبحر فيها (¬1). ولقد فطنت لعدم استبحاره فيها (1) وذلك أنه قرأ علم الفلسفة قبل استبحاره في فن الأصول فكسبته قراءته الفلسفة جراءة على المعاني وتسهيلًا للهجوم على الحقائق ... ثم ذكر تأثره بإخوان الصفا ثم بابن سينا ... ثم ذكر تسرعه في نسبة الأقوال إلى أئمة المذاهب دون تثبت ... ثم ذكر توهين الأحاديث التي اعتمدها ... ثم استحسانه أشياء لا دليل عليها كترتيب قص الأظافر. ثم شنع عليه في ادعائه الإجماع على أن من مات بعد بلوغه ولم يعلم أن الله قديم، مات مسلمًا إجماعًا (¬2). هذا النص الذي أثبته الزبيدي يبدو لي أنه نص ناقص. إذ لا يعقل أن يكون المازري يقدم على نقد كتاب لم يقرأه. وإنما سمع شيئًا عن مؤلفه ممن خالطه. وقد يكون النقص أنه بعد أن تقصى أخباره وعرف طريقته ومنهجه ممن صحبه، اطلع على الكتاب فرأى فيه ما دفعه إلى الرد عليه. وتفيدنا هذه المقدمة أن النواحي التي قصد إليها في الكشف عن الأحياء خمسة. أ- مرجعية التأليف: رأى فيها خليطًا من مذاهب الموحدين "يعني من المتصوفة والفلاسفة القائلين بالوحدة" ومن الفلاسفة. ومن المتصوفة. وأصحاب الإشارات الذين ينطلقون من الظواهر إلى ما وراءها فما لا يقوم عليه دليل موضوعي. وإنما هي تصورات ذاتية. ب- مرجعية الثقافة: رأى أن تمكن الغزالي من الفقه أقوى من تمكنه من ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) إتحاف السادة المتقين ج 1ص 28.

أصوله وأنه سبق له الاختلاط بالفلسفة فأثرت في تكونه الذهني ويسرت له الهجوم على الحقائق وشجعته على اقتحام الحمى. جـ- مرجعيته الأثرية: رأى أن الغزالي لا يتثبت في الأحاديث التي يستند إليها ويسوي في الاستدلال بين الأحاديث الواهية والأحاديث الصحيحة. د- مرجعيته في وسائل المعرفة: رأى أن الغزالي يعتمد الحاصل الإلهامي وما يشرق في النفس من معاني عندما يحصل للروح من الصفاء بالمجاهدة والعبادة فيكون ما يحصل في النفس متصفًا باليقين والثبوت. هذه النواحي الأصلية التي حركت المازري لنقد كتاب الأحياء ولتنبيه من يرغب في مطعالته إلى هذه الجوانب. ثم إن الزبيدي نقل عن ابن السبكي ما رد به على الإِمام المازري وهي ردود واهية لبعدها عن الموضوعية. اتهم المازري بأنه إنما حمل على الغزالي لأنه انتقد مالكًا وخالف الأشعري في بعض آرائه. وهذا ما لا يقبله المازري (¬1). وستجد في كلامي عن منهجه في التلقين ما يدفع هذا الظن الخاطىء. وأن الإِمام المازري في كتابه ناقش أئمة المذاهب ورجح غير مذهب مالك إذا ما عاضده الدليل. وأنه انتقد حامل لواء الأشعرية القاضي أبا بكر الباقلاني. وهذه إشارة عارضة لموضوع خاض فيه فطاحل العلماء وشغل الباحثين وهم بين طاعن علي الكتاب ومنوه به. وناقد يزن ويوازن. ويرد ويقبل. ثم انتهى الأمر إلى القبول بعد تقصي مروياته وبيان قيمة سندها. 5 - شرح التلقين: هذا الكتاب الذي يقول فيه عياض وابن فرحون وشرح كتاب التلقين وليس للمالكية كتاب مثله. وسماه الأبي =الكتاب الكبير= قلت قال المازري في كتابه الكبير رأى بعض المتأخرين (¬2) الخ. ووقعت في يدي نسخة كتب الناسخ في الورقة الأولى: ¬

_ (¬1) أطال الزبيدي في الدفاع عن الأحياء. إتحاف السادة المتقين ص 29/ 40. (¬2) إكمال الإكمال ج 2 ص 146.

المعين على التلقين. وقد يكون حسن حسني عبد الوهاب (¬1) قد اعتمد هذه النسخة. ولكني لم أجد فيمن كتب عنه تسمية الكتاب. إلا بشرح التلقين. منهجه في الشرح: أولًا: يقسم نص التلقين إلى وحدات. تطول أو تقصر. ثم يتبع كل وحدة بمجموعة من الأسئلة من سؤالين إلى عشرين سؤالًا. تتناول في حالات قليلة إبراز الصناعة التأليفية عند القاضي عبد الوهاب. ويهتم في معظم الأحوال بالتوسع فيما يفرعه عن نص المتن من مسائل تدور كلها حول ذلك النص. فمثلًا يعلق على قول القاضي "وأما أركان الصلاة التي هي منها فتسعة. وهي التحريم". فيقول يتعلق بهذا سبعة عشر سؤالًا. ثانيًا: قد يكون السؤال الذي يثيره كلام القاضي قد سبق له أن أثاره وفصل جوابه. فلا يمنعه ذلك من إعادة إثارته كسؤال يقتضيه التعمق في إدراك أبعاد النص ثم يذكر بالإجابة السابقة ويحيل عليها. ثالثًا: بعد ضبط الأسئلة يتتبعها حسبما رتبها بالإجابة عنها. واحدًا واحدًا. وهو في ذلك قد يتوسع في الإجابة قاصدًا تمرين الناظر في كتابه على التفقه كما صرح به لما فصل الكلام على من ذكر صلاة منسية ولا يدري ما هي؟ فأخذ في ضبط الفروض التقديرية متبسطًا في حكم كل حالة على انفراد. من ص 753 إلى ص 756، ثم أنهى ذلك بقوله: "وإنما ذكرنا هذه المسائل ليكد الطالب فيها فهمه، فيكتسب من كده بفهمه فيها انتباهأوتيقظًا فيما سواها من المعاني الفقهية وغيرها مما يطالعه". وقد يتوسع في الشرح لضبط الأحكام التي يشير إليها النص إشارة. فمثلًا عند قول القاضي: "يقدم في الإمامة كل من كان أفضل. والفقيه أولى من القارئ. ولا تجوز إمامة الفاسق ولا المرأة ولا الصبي إلا في نافلة فتجوز دون المرأة. ولا العبد في الجمعة". ¬

_ (¬1) ح ح عبد الوهاب ص 62.

يشرح هذا النص في 40 صفحة من ص 654 إلى ص 693. رابعًا: هو في تبيينه لفقه المسألة لا يقتصر على المذهب المالكي بل يحرر أولًا وجهة نظر المالكية مما روي عن مالك وعن أئمة المذهب. ويتبع ذلك بتحرير فقهها عند المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية غالبًا. وتارة عند الحنابلة والحسن البصري وأبي ثور. والثوري. وغيرهم. وفي بعض المواطن يذكر اختلاف قول أبي حنيفة عن أبي يوسف أو عن محمَّد بن الحسن. كما يعني تارة بالمذهب الظاهري وهو في ذكر آراء المذاهب الأخرى. يتحرى ولا يقلد فيما ينقله ما يوجد في كتب مذهب عن المذاهب الأخرى. فمن أمثلة ذلك أنه نقل عن البغداديين من المالكية أن أبا حنيفة يقول بسقوط مواصلة الطلب عن فاقد الماء إذا لم يجد الماء في الصلاة الأولى وصلى بتيمم. فيعقب بقوله: والذي وقفت عليه في كتب أصحابه أنه إنما يسقط الطلب في الأسفار خاصة لكونها مختصة بعدم المياه غالبًا بخلاف الحواضر الموجود الماء فيها غاليًا (¬1). خامسًا: هو لا يكتفي بتفصيل الأقوال ونسبتها إلى أصحابها بل يجتهد في ربط القول بدليله. ويبسط منزع كل صاحب مذهب من الدليل ثم يتولى ترجيح الرأي الذي يطمئن إليه. ولو كان مخالفًا للمذهب المالكي. فمن أمثلة ذلك أنه ذكر رأي مالك والشافعي ومحمد بن الحسن الشيباني في أن إزالة النجاسة لا تكون إلا بالماء الطاهر الطهور. ثم ذكر مذهب أبي حنيفة أنها تكون بغيره من المائعات المزيلة للعين والأثر. ثم أخذ يوجه رأي كل مذهب موردًا أدلته. وانتهى إلى تنظير ذلك بإخراج القيم بدل العين في الزكاة، ذلك أن القضد من الزكاة هو إزالة خلة الفقراء، وقد عيّن الشارع لمن وجبت عليه الزكاة ما يخرجه من شاة أو حقة أو ابن لبون أو تبيع الخ. ثم قال فمن راعى المعنى قال بجواز إخراج القيمة لأنها تحقق قصد الشارع. ومن راعى لفظ النص قصر المخرج على ما جاء به النص. وكذلك إزالة النجاسة. فمن راعى لفظ النص قصر ¬

_ (¬1) "شرح التلقين 275.

التطهير على الماء. ومن راعى قصد الشارع من إزالة القذارة وهي تتحقق بالخل وماء الورد اعتبر ذلك مطهرًا. ومما احتج به المالكية والشافعية أن الله سبحانه قصر التطهير على الماء. فقال تعالى: {مَاءً طَهُورًا} {مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}. وقال - صلى الله عليه وسلم - في الدم: ثم اغسليه بالماء. فخص الماء بالذكر فوجب القصر عليه. قال الإِمام وهذا فيه نظر. لأنه لا يمتنع أن يكون القصد أن الماء له فضيلة التطهير، وكون غيره له هذه الفضيلة لا يسلب فضيلته. وقد يمدح بعض الأشخاص بما يوجد في غيره. فيقال فلان عالم وصالح. وإن كان غيره يشركه في ذلك وخص الماء لأنه أعم في الطهارة ليس وجوده (¬1). وبهذا تكون طريقة المازري تختلف عن طريقة المدرسة القيروانية التي أشار إليها المقري. في صناعة التأليف في المغرب. قال: ولقد وقفت على بعض التعاليق لأحد المتأخرين على كلام في صناعة التأليف "قد كان للقدماء رضي الله عنهم في تدريس المدونة اصطلاحان: اصطلاح عراقي واصطلاح قروي. فاهل العراق جعلوا في مصطلحهم مسائل المدونة كالأساس. وبنوا عليها فصول المذهب بالأدلة والقياس. ولم يعرجوا على الكتاب بتصحيح الروايات ومناقشة الألفاظ. ودأبهم القصد إلى إفراد المسائل وتحرير الدلائل على رسم الجدليين وأهل النظر من الأصوليين. وأما الاصطلاح القروي، فهو البحث عن ألفاظ الكتاب، وتحقيق ما احتوت عليه بواطن الأبواب، وتصحيح الروايات، ولجيان وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما كان في الكلام من اضطراب الجواب، واختلاث المقالات، مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار" وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على ما وقع في السماع (¬2). إن عناية المدرسة القيروانية بتتبع أقوال المذاهب الأخرى، والنظر في أدلتها والموازنة بين الأدلة، ضعيفة جدًا إذا ما قيست بالمدرسة العراقية. وذلك لاختلاف البيئة العلمية اختلاف أبي نًا. فالعراق قد ¬

_ (¬1) شرح التلقين ص 462. (¬2) أزهار الرياض ج 3 ص22.

ترعرعت فيه المذاهب الفكرية والعقدية والفقهية المختلفة. فللمعتزلة سلطانهما الأدبي والسياسي ولأهل الحديث سلطانهم الأثري والشعبي وللخوارج والشيعة والسنة أشياعهم ونضالهم في دعوة الناس إلى مذاهبهم ونشرها على أوسع نطاق، ويلتقي في المناظرات في المساجد أو في بلاط الخلفاء أعلام كل مذهب مجادلين عما يعتقدون أنه الحق. كما أن للفقهاء مجالس المناظرة وحلقات الدروس التي لا يبرز فيها إلا من كان قادرًا على جعل الاحتكام إلى النظر يؤيد مقالته وينصر مذهبه. ولا يقبل فيها قول لا سند له. ولا رأي لا يقوم على دليل. فتمرنت العقول على المحاجة وعلى نقد ما عند الآخرين. والاستعداد للمطاعن التي يوردها الخصم. وحفلت تبعًا لذلك كتب الفقه وطريقة التدريس بهذا النوع من الربط بين الفقه وأدلته ومن الطعن في أدلة المخالفين وتوهين مذاهبهم. وأما القيروان التي كانت منارة العلم في العدوة الغربية من العالم الإِسلامي. فلم تكن محتكة بالحضارات السابقة المتباينة، ولم يستطع أن يثبت فيها على النطاق الشعبي العام إلا المذهب المالكي بقيام أساطين المذهب على غرسه وتعهده ونموه. من علي ابن زياد والبهلول بن راشد وسحنون إلى الشيخ ابن أبي زيد وتلاميذه. وإن حفظت أسماء لبعض علماء الحنفية إلا أنه لم تحفظ مناظرات بينهم وبين المالكية. وأما الشيعة فقد ارتبطت بالسلطة الحاكمة فعفا أثرها بانتهاء القوة الحاكمة. ولذا كان المعول عندهم على المدونة دراسة وتحقيقأومقابلة بين أبوابها والإجابات الواردة في الموضوع الواحد أو المتقارب. وكثرت شروحها والتعاليق عليها. ومختصراتها. فالمازري يظهر في العدوة الغربية كمتفرد عن طريقة المدرسة القيروانية وخاصة في شرحه على التلقين فهو معجب بالطريقة العراقية ترسم خطاها دون أن يهجر الطريقة القيروانية. وهو بجمعه هذا يكون مدرسة خاصة في كتابة الفقه في المذهب المالكي. وهو ما يشير إليه في نظري قول القاضي عياض: وليس للمالكية كتاب مثله (¬1). فهو من ناحية يتتبع المدونة. وعندما وجد القاضي ¬

_ (¬1) الغنية ص 133.

أهمل بيوع الآج الذي التلقين تهمم لذلك وبسط القول فيه ونبه على ذلك. وهو ينقل عن أمهات الكتب في المذهب ويقارن بينها كمدونة أشهب والواضحة. ومختصر المدونة. والعتبية وغيرها. فكان بهذه الناحية فقيهًا قيروانيًا. وهو من ناحية أخرى. يورد الأدلة من الكتاب والسنة. ومن القياس ويقوم بالتنظير بين المسائل المتشابهة في مقصد الشارع وإن اختلفت أبوابها. كما يعني أشد العناية بالقواعد الأصولية وإيصالها باستنباط الفرع الخاص كما بيناه في تضلعه بعلم الأصول. وهو بهذه الناحية سألك مسلك أهل العراق. وطريقة الجمع هذه مع العناية بأقوال المذاهب الأخرى قد تأثر بها في نظرنا ابن رشد الحفيد في كتابه بداية المجتهد ونهاية المقتصد. كما تأثر بها شهاب الدين القرافي في كتابه الذخيرة. ويتبنى المقري تعليقًا لبعض المتأخرين على صناعة التأليف. مضمونه أن علماء تونس أقدر على التأليف وعمق النظر من علماء تلمسان وأن العلة في ذلك كون صناعة التعليم، وملكة التلقي لم تبلغ فاسًا كما هي بمدينة تونس، اتصلت إليهم من الإِمام المازري، كما تلقاها عن الشيخ اللخمي، وتلقاها اللخمي عن حذاق القرويين. وانتقلت ملكة هذا التعليم إلى الشيخ ابن عبد السلام مفتي البلاد الإفريقية وأصقاعها، المشهود له برتب التبريز والإمامة، واستقرت تلك الملكة في تلميذه ابن عرفة رحمه الله (¬1). إن هذه السلسلة التي نظمها صاحبها جاعلًا الإِمام المازري واسطة عقدها. ارتوى من المدرسة القيروانية، وأثر فيمن جاء بعده من الفقهاء إلى ابن عبد السلام وابن عرفة. إن هذا التسلسل لا يقوم عليه دليل ولا يؤكده النظر في فقه علماء تونس. فابن عبد السلام على جلالة قدره لم يتبع منهج المازري في شرحه على مختصر ابن الحاجب (¬2). ¬

_ (¬1) أزهار الرياض ج 3 ص 23/ 24. (¬2) بمكتبتي نسخة مصورة عن النسخة الكاملة المحفوظة بالمكتبة السليمانية بإسطمبول.

إذ الشيخ لا يهتم في شرحه هذا إلا بتحقيق مذهب مالك. ولا يتعرض للمدارس الفقهية الأخرى. كما أن لا يعني بالربط بين الفرع الفقهي ودليله. وبطريقة الاستنباط منه. ولذا فإن السند العلمي والتعليمي قد انقطع بعد الإِمام المازري. وهذا ما أخذ به العلامة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون. يقول: "وذلك أن القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس. واستبحر عمرانهما، وكان فيهما للعلوم والصنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة، ورسخ فيهما التعليم لامتداد عصورهما، وما كان فيهما من الحضارة. فلما خربتا انقطع التعليم عن المغرب إلا قليلًا كان في دولة الموحدين بمراكش مستفادًا منها، ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدولة الموحدية في أولها وقرب عهد انقراضها بمبدئها، فلم تتصل فيها أحوال الحضارة إلا في الأقل. وبعد انقراض الدولة بمراكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السابعة فأدرك تلاميذ الإِمام ابن الخطيب، فأخذ عنهم ولقن تعليمهم وحذق في العقليات والنقليات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن، وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدكالي كان ارتحل إليه من المغرب، فأخذ عن مشيخة مصر. ورجع إلى تونس واستقر بها وكان تعليمه مفيدًا. فأخذ عنهما أهل تونس واتصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلًا بعد جيل حتى انتهى إلى القاضي محمَّد بن عبد السلام شارح ابن الحاجب وتلميذه (¬1). فالواقع التاريخي ونص ابن خلدون يثبتان أن المازري كان يمثل نهاية عصر. اضطربت بعده الأمور واختل الأمن وتغلب النصارى على الدولة. وتحكموا في البلاد. ثم جاءت الدولة الموحدية بقوة شابة مندفعة فخلصت البلاد من الاحتلال النصراني. إلا أنها لتوغلها في البداوة عند انطلاقها ولقصر عمرهالأولمقاومتها للمذهب المالكي اجتمعت هذه العوامل لتعمق القطيعة بين طريقة التعليم كما بلغت أوجها على يدي الإِمام المازري وبين الوضع الذي كان عليه التعليم عند قيام الدولة الحفصية. ¬

_ (¬1) المقدمة ص 431 الفصل الثاني في أن التعليم من جملة الصنائع.

سادسًا: تنويهه بالمنهج العراقي الذي يكشف عن أسرار التشريع وتعمق موارد الأحكام ليبدي الفروق الكامنة مما يوضح المنحى الذي من أجله اختلفت فيرفع الاشتباه الحاصل من النظر الأولي. فمن ذلك أنه لما تحدث عن غسل النجاسة وذكر أنها لا تفتقر إلى نية، علل ذلك بانها طهارة معقولة المعنى فكان نفس الفعل محققًا للغرض عند القيام به. بخلاف طهارة الحدث فلما كانت لا يقصد بها أمر محسوس ولا تحصيل غرض وإنما يحصل بها أجر في العقبى افتقرت إلى نية لتحصيل الغرض المطلوبا "يعني الأجر". وبنى على هذا أن ما مال إليه بعض متأخري فقهاء القيروان إلى أن النضح للنجاسة يفتقر إلى نية بخلاف غسلها. وأن هذا التفريق تعقبه بعض القرويين بأنه إذا قدرنا المشكوك فيه موجودًا فالنجاسة الموجودة لا تفتقر إزالتها إلى نية. وإن قدرنا عدم النجاسة فالغسل ساقط. ثم قال: "ومن عجيب ما ينبغي أن يتفطن إليه أن هؤلاء المتأخرين من المغاربة، تحوم خواطرهم على هذه المعاني التي أبرزها حذاق أهل العراق للوجود ... وكأن من حكينا عنه من القرويين. أن النضح يفتقر إلى نية استشعره ورأى أن الناضح لا يزيل عينًا فأشبه المتطهر للحديث في افتقاره إلى النية فلا وجه لاستبعاد قوله" (¬1). سابعًا: هو في مناقشته لأدلة المذاهب ولوجهات نظرهم حريص أتم الحرص على الأدب وحسن الظن بهم ويوصي بذلك. وأورد شاهدًا على طريقته هذه النموذج الآتي الذي يجمع بين أمور. تقديره وأدبه مع من يناقشه. شجاعته في بيان ما يراه حقأوإن خالف فيه أقطاب العلم الذين هم أئمة فيه. عمق نظره وحدة ذكائه. يقول القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب "ودم الحيض يمنع وجوب الصلاة وصحة فعلها وفعل الصوم دون وجوبه". ¬

_ (¬1) شرح التلقين ص 465.

يثير أولًا الإشكال التالي؛ هو أن الصيام زمن الحيض معصية. فكيف يوسف ما هو معصية بأنه واجب. وإذا لم يكن واجبًا فكيف يقضي؟ ففي هذا تناقض. وفصل اضطراب الأصوليين من منكر لتوجه الخطاب كالكرخي. واختلاف قول المالكية: من يرى أن المسافر والمريض مخاطبان دون الحائض. ومن يرى أن المخاطب المسافر دون المريض والحائض. ثم ذكر أن القاضي أبا بكر بن الطيب على عظم شأنه في علم الأصول قد اختلف قوله في كتبه ثم بسط ما يمكن أن يوجه به كل رأي. وما ينتقد به التوجيه. وأنهى بحثه الرائق بحل الأشكال. رابطًا بين القضاء وبين النية التي لا بد من استحضارها عند الفعل حتى يتميز عن غيره. وهذه النية المميزة المتضمنة أن هذا الوجوب على الحائض إنما هو كالقضاء عن وجوب فات. فاستحضارها للوجوب الفائت عليها هو السر الذي من أجله أطلق أن الوجوب متوجه دون الفعل أيام الحيض. ونبه الناظر في شرحه لعزة هذا التحقيق. قائلًا: وهذا فصل قد كشفنا لك فيه اختلافًا كثيرًا. وقع بين أهل الأصول ومعنى أطلقه أهل الفروع. وبحنا لك بالسر فيه فاحتفظ به. فما تعرض لهذا أحد من الفقهاء المنصفين. وإذا أحطت به علمًا علمت حقيقة ما قاله القاضي أبو محمَّد في هذا الكتاب. وحقيقة ما تعقب عليه. وأنه إن ترك كلامه على ظاهره فقد بان ما تعقب به عليه. ثم قال وإن أحببت الاعتذار عنه وإلحاقه بالجمهور في هذه المسألة، وهو الظن الجميل به لعلو قدره في علم الأصول والفروع. قلت قد أريناك معنى قول الفقهاء. إلخ (¬1). فأنت ترى كيف احتاط قبل أن يذكر اختلاف قول القاضي أبي بكر لمقام الأدب فقال: "على عظم شأنه في علم الأصول". وكيف أرشدك إلى الاعتذار عن القاضي أبي محمَّد بما يقتضيه أدب العلماء "وهو الظن الجميل به لعلو قدره في علم الأصول والفروع". وفي هذا النموذج مع ما تجده منبثًا في كلامه من سمو خلقي، ورفيع أدب ¬

_ (¬1) شرح التلقين 3/ 329. وقد لخصت كلامه تلخيصًا. فارجع إليه هناك فإنه فصل ممتع.

وتقدير للعلم وأهله، ما يدفع ظن ابن السبكي أن الإِمام تحامل على الغزالي وعلى إمام الحرمين لأنهما انتقدا الإِمام أبا الحسن الأشعري. فعقلية الإِمام المازري نوع آخر غير الذي تأثر به ابن السبكي في عصره من تقاذف بين العلماء. وما وجدت له في شرح التلقين خروجًا عن هذا المسلك أو طعنًا على العلماء من الموافقين في المذهب والمخالفين. ثامنًا: مزج الإِمام في شرحه بين تحقيق الفقه في المسألة المعروضة في المذهب المالكي وفي بعض المذاهب الأخرى. وبين الربط بالدليل الخاص. ثم أضاف إضافة لها وزنها في طريقة دراسة الفقه هي الربط بين المفاسد الشرعية والحكم. فكان بذلك من العلماء الذين اعتمدهم أبو إسحاق الشاطبي في عميق نظره في الشريعة الإِسلامية وضبط مسائلها بقواعد عمل على أن تكون قطعية. تعطي للناظر فيها الخيوط الجامعة بين المسائل حسب قانون يقضي به العقل المستنير بالوحي. ومن أمثلة اقتباس الشاطبي من الإِمام المازري ما ذكره في المسألة الثانية: "وهي ورود الأمر والنهي على متلازمين. فكان أحدهما مأمورًا به والآخر منهيًا عنه. فإن القاعدة التي يجب أن يحمل عليها التشريع هي أن يعتبر المتبوع ويلغي التابع. ثم تابع تفصيل هذه القاعدة. وما يكشف عنه التتبع من إشكالات فكان أحد الإشكالات أنه إذا كان كل واحد من الأمر والنهي يمكن أن يكون مقصودًا قصدًا أوليًا. كالأواني من الذهب والفضة: فهل المقصود العمل الفني من الصياغة فيجوز شراؤها، أو المقصود تملك عين الذهب آنية فيحرم؟ قال فهذا محل اجتهاد في ترجيح أحدهمالك ونه تابعأوالآخر متبوعًا. وهو محل إشكال ثم أتبعه بقوله. قال المازري في نحو هذا القسم من البيوع ينبغي أن يلحق بالممنوع؛ لأن كون المنفعة المحرمة مقصودة يقتضي أن لها حصة من الثمن، والعقد واحد على شيء واحد لا سبيل إلى تبعيضه، والمعاوضة على المحرم منه ممنوعة، فمنع الكل لاستحالة التمييز، وأن سائر المنافع المباحة يصير ثمنها مجهولًا لو قدر انفراده بالعقد. هذا ما قال وهو متوجه (¬1). ¬

_ (¬1) الموافقات ج 3 من ص 163 إلى ص 195. وانظر تعقيبه على كلام المازري بعد أن وجهه ص 198.

تاسعًا: طريقته في الاستدلال والتعليل. يفرق الإِمام المازري بين الدليل الملزم وبين التنظير الذي يقرب ولا يلزم. من ذلك أنه ذكر المذاهب في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة. وأن أبا حنيفة يرى أنه يجزئ كل لفظ فيه تعظيم وردّ مذهبه بأن الصلاة عبادة غير معقول معناها فيجب التسليم والاتباع. ولو حاول محاول إبدال الركوع بالسجود لكونه أبلغ في الخضوع لما قبل قوله وخرج عن مذاهب المسلمين. فكذلك القول بإبدال التكبير بالثناء والتمجيد. ثم استشعر أنه ابتدأ بترك القياس في العبادة ثم وقع فيه. فقال ولا تظنن أنما نهينا عن شيء وأتينا مثله لأننا لم نورد هذا قياسًا وإنما ضربنا به مثلًا ليتضح منع القياس في هذا الباب (¬1). ومن ذلك أيضًا. أنه نقل عن بعض الذين يقولون بوجوب القراءة في الركعة أن الله حرم الكلام في الصلاة لأنه أوجب عملًا من الأعمال فحرم ما يشغله بغير القراءة. أما العين مثلًا فلما لم يوجب عليها عملًا لم يحرم عليها الاشتغال بالنظر. وعلق عليه بأنه لا يستقل دليلًا ولكن يصلح ترجيحًا (¬2). ومن ذلك أنه ناقش الحنفية في دليلهم على عدم الترجيح في الأذان. فإن أبا محذورة كان شديد البغض للنبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما أسلم أخفى صوته عند الإعلان بالشهادة حياء من قومه. ورد هذا الاستدلال بأن الشيء قد يشرع لسبب ثم يزول السبب ويبقى التشريع، وذلك كالرمل في الطواف مباهاة للمشركين. ثم قال وإنما ذكرنا هذا مثالًا لا دليلًا لأنا نخالف فيه أيضًا (¬3). كما أنه يؤيد مرجحًا رأيًا على رأي بضروب من التوجيه مستمدة من مقاصد الشريعة بعضها منصوص عليه لغيره. وبعضها لم أعلم أن غيره اعتمده في مثل هذا المقام من ذلك أنه لما ذكر صفة رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام. وأن رأي العراقيين من أصحابنا كون اليدين قائمتين يحاذي بكفيه منكبيه ¬

_ (¬1) شرح اللقين ص 501. (¬2) شرح التلقين ص 512. (¬3) شرح التلقين ص 435.

وبأصابعه أذنيه. يرجح هذا بقوله ولو لم يكن في اختياره إلا البعد عن التكلف لكان معنى يقتضي إيثاره ويحسّن اختياره (¬1). وهو معنى دقيق مأخوذ من أن الإِسلام دين الفطرة. كما يقرر من ناحية أخرى أن البحث عن المعاني المعقولة في كل حكم من أحكام العبادة غير لازم. ولكن ذلك لا يمنع من قدح الفقيه فكره لإبداء المعاني المعقولة المناسبة. ومن ذلك أنه نقل عن شيوخه تعليلًا لقرن رفع اليدين بتكبيرة الإحرام. ثم نقل تعليلًا آخر عن بعض الخراسانيين وآخر عن بعض المتصوفة. ثم عقب على التعليلات الثلاثة بقوله. وهذه الثلاثة أجوبة دائرة كلها على أن القصد إشعار النفس بأمر ما. وهي معان تروق الذهن، وإن صحت وثبت أن قصد الشرع ذلك، فذكرها ها هنا غرضُنَا به التنبيه على محاسن الشرع وعنايته بأن يمهد للنفس تسهيل سبل الخير وليعلم المصلي أفعاله وما يقصد به (¬2). عاشرًا: طريقته في الجمع بين الأحاديث. إن الإِمام المازري وإن عني بالربط بين الحكم ودليله وتوجيه الاختلاف إلى الأصل المبني عليه أو طريقة النظر والفهم للدليل، إلا أنه عند ذكره للأدلة من السنة قلما ينبه على من أخرج الحديث. كما أنه كان كثيرًا ما يروي الحديث بالمعنى أو يقتصر على مقطع من النص. وبذلك كان تخريج الأحاديث التي استدل بها يتطلب مجهودًا كبيرًا. ولذلك بقيت بعض الأحاديث لم أعثر على من خرجها من العلماء. وهو في تتبعه للمذاهب والأدلة كثيرًا ما يروي الحديث الدال على الحكم وحديثًا آخر يعارضه. فتراه يعمل على الأخذ بهما. ويطلق عبارة ما تخلف عنها أبدًا وهي "البناء" فهو لا يطلق كلمة الجمع. ولا كلمة التأويل. ولا كلمة التوفيق ونحو ذلك مما جرى على أقلام وألسنة الفقهاء. وإنما هو حسبما يبدو لي ¬

_ (¬1) شرح التلقين ص 552. (¬2) شرح التلقين ص 552/ 553.

يتصور أن السنة تزداد قوة وصلابة بهذه الظاهرة. معتبرًا ذلك كالبناء الذي لا يكون صحيحًا قادرًا على الصمود. إلا إذا كان وضع أحجاره بعضها فوق بعض لا يتم بفواصل ونهايات متحدة ولكن بفواصل مختلفة نهاية كل حجارة هي وسط الحجارة التي فوقها والتي تحتها بما يقوي الالتحام. ويشد البناء. حادي عشر: يختلف منهجه في كتابه هذا عن منهجه في المعلم. إذ صدور المعلم كتأليف لم يكن مقصودًا أصليًا. وإنما حصل بعد عرض تعليقاته عليه عند قراءة كتاب مسلم عليه. أما كتاب التلقين فقد كان يقصد من أول الأمر إلى إخراجه كتابًا. فتخير أن يكون منهجه ليس على طريقة الاختصار ولا على طريقة التوسع والاستطراد واستيفاء كل مسألة. بل هو يحيل تارة على تآليفه الأخرى وتارة ينبه على أنه طوى الكلام لئلا ينتشر. فهو مثلًا عندما يتحدث عن دليل وجوب استقبال القبلة {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}. قابل هذه الآية. بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} وبقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}. أخذ يقابل بين هذه النصوص القطعية. ويتابع آراء الأئمة في ذلك. وختم ذلك بقوله: "وإنما لم نتمم لك النظر في ترجيح هذه الطرق لأن ذلك يخرج الكتاب عن غرضه" (¬1). مكانته في الفقه: يثبت له القاضي عياض أنه بلغ رتبةِ الاجتهاد. يقول فيه "إمام بلاد إفريقية وما وراءها من المغرب وآخر المستقلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقة النظر" (¬2). ونقل العبارة ابن فرحون في الديباج. ونقل عن ابن دقيق العيد أنه عجيب من عدم إعلانه بأنه مجتهد. وابن عرفة يتحفظ في إثبات بلوغه درجة الاجتهاد. ¬

_ (¬1) شرح التلقين ص 485. (¬2) الغنيه ص 123.

وتوسط الشاذلي النيفر. فجعله مجتهدًا. إلا أنه عدل عن إعلان ذلك والتزم مذهب مالك لأمرين. أن الناس يكفيهم ما هم فيه من الاختلاف فلا يضيف سببًا آخر للاختلاف. ولأنه لو أعلن اجتهاده فإن أهل إفريقية لا يرضون بمذهب مالك بديلًا. فلذلك لم يخرج عن مذهب مالك. وهذا لا يتيسر قبوله لأن المجتهد هو الذي اطمأن إلى أن ما بلغ إليه اجتهاده صواب يحتمل الخطأ وما ذهب إليه المخالف له خطأ يحتمل الصواب. ولذا فإن دينه وأمانته تمنعه أن يفتي بما هو يعتقد خطأه. فالمجتهد ملزم شرعًا بأن يعلن عن حكم الله الذي اطمأن إليه. والمازري في ورعه وعلمه أبعد من أن يظن به هذا. ولذا فلما كان المازري رحمه الله قد اودع فقهه في كتبه. وخاصة كتاب التلقين. فإننا سننظر في أثره هذا. فهل يضيء لنا هذا الكتاب القيم الإجابة عن هذا السؤال؟ إنه لا بد قبل تتبع فقهه في كتاب التلقين تدقيق أمر. أولًا ما المقصود بالاجتهاد. الذي نفاه من نفاه وأثبته من أثبته؟. الاجتهاد على مراتب. أعلى المراتب: الاجتهاد المطلق = وهي المرتبة التي تثبت للفقيه الذي نظر في المنهج الذي يتبع في استنباط الأحكام. فهو الذي سن الأدلة ما يعتبر دليلأوما لا يعتبر دليلًا. وما يمكن أن يستند إليه الفقيه وما لا يستند إليه في بيان حكم الله. ثم بعد الاطمئنان إلى ما ينتج وما لا ينتج. ينظر في ترتيب تلك الأدلة ما يقدم منها وما يؤخر وما هو موقف الفقيه منها عند التعارض. فالكتاب حجة مثلًا. والسنة حجة والإجماع حجة والقياس حجة. فإذا تعارض نص السنة ونص الكتاب فكيف يتم الترجيح. وكذلك القياس. وعمل أهل المدينة حجة عند مالك. والسنة حجة فإذا عارض حديث الآحاد عمل أهل المدينة فبماذا يأخذ الفقيه. وكذلك قول الصحابي هل هو حجة أولًا؟. ثم إذا أثبته الفقيه فما

هو موقفه إذا عارض قول الصحابي القياس؛ ثم بعد هذا. الإجماع حجة. فهل الإجماع حجة في كل عصر من الأعصار أو الحجة في اتباع إجماع الصحابة خاصة؟ والقياس حجة فهل القياس المعني هو القياس الجلي أو كل الأقيسة. والعرف حجة ولكن متى يعتبر المحرف؟ فالفقيه الذي وضع منهجًا كاملًا في ترتيب الأدلة وما يؤخذ منه وما يترك هو المجتهد المطلق. وهذا القسم آخر من بلغه داود الظاهري. بخلافه في اعتبار القياس واقتصاره على القياس الجلي. وانحصرت المذاهب السنية في الأربعة الباقية الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي. وما نسب الاجتهاد المطلق بعد داود الظاهري لأحد من العلماء. ولا أبرز أي عالم من العلماء منهجًا في الاجتهاد جديدًا. فقد آل الأمر إلى أن كل فقيه بلغ رتبة الاجتهاد. فمعنى ذلك أنه أخذ بالطريقة الخاصة التي قام عليها مذهب من المذاهب الأربعة. الطبقة التالية لأهل الاجتهاد المطلق التي انقرضت. أهل الاجتهاد المقيد. كأبي يوسف ومحمد في المذهب الحنفي وابن القاسم وأشهب وأصبغ في المذهب المالكي. والبويطي والمزني في المذهب الشافعي. وهؤلاء ينظرون في أدلة الأحكام المعتمدة عند إمامهم ويرتبونها حسب ترتيب إمامهم. وقد يصلون بعد ذلك إلى حكم الجزئية المنظور فيها إلى ما يوافق إمامهم. وقد يصلون إلى خلاف ذلك فيعلنون أنهم أتباع الإِمام وأنهم يخالفونه في استنباطه. وترد عليهم الحوادث التي لا نص لإمامهم فيها فيعتبر قولهم هو المذهب في تلك الحادثة العارضة. وهؤلاء هم الذين وسّعوا المذاهب. وطبقة أقل من هذه وهم الذينِ يلتزمون كل ما قاله أئمة المذهب. ولكن عندما تعرض الحوادث المستجدة يُخرّجون على قول إمامهم حكم النازلة تطبيقًا لقواعد المذهب وهم أهل التطبيق. وطبقة رابعة تتبع الأقوال وتجمعها وتوازن بينها ثم ترجح الأقوال. ولكن تبين النواحي التي تقوي الأخذ بأحد الأقوال أو توهن الأخذ به. وبعد هؤلاء طبقة خامسة هم المدونون للثروة الفقهية المرتبون لها

الميسرون لمعرفة حكم النازلة المطلوبة مما سبق لأئمة المذهب على اختلاف طبقاتهم قول فيها. مع تتبع الأقوال تتبعًا مستقصيًا أو تتبعًا على الجملة. أو اقتصارًا على القول المعتمد. ففي آية مرتبة من هذه المراتب يعتبر الإِمام المازري؟ فالمرتبة الأولى لم يدعها أحد ولم يبرز أي فقيه منهجًا جديدًا في النظر. فلا معنى لقول من يقول إنه عدل عن إبراز مذهبه لئلا يزيد الاختلاف حدة، ولأن أهل إفريقية لا يقبلون بمذهب الإِمام مالك بديلًا. كما أني لم أجده رافضًا لقول مالك مخالفًا له في الفروع. بل هو يدقق في رواية المدونة. ويوازن بين نصوصها. فهو إذن ليس من أهل الاجتهاد المقيد. ولكن نصوصه في هذا الكتاب تعلن أنه من أهل التطبيق وأهل الترجيح. فمن النوع الأول. إنه حقق أنه إذا خاف متى استعمل الماء أن يعطش عطشًا يهلكه أنه يتيمم. ثم بعد ذلك فرض سؤالًا قائلًا: فما قولكم فيمن معه من الماء ما يذهب نجاسة بدنه وإن لم يغسل به النجاسة كفاه لوضوئه؟ قيل أما هذا فلا أحفظ الآن في عين هذه المسألة نصًا لأحد من أصحابنا سوى ما حكاه ابن حبيب عن بعض أصحاب مالك فيمن مسح على خفيه، ثم لحقتها نجاسة وهو في السفر، ولا ماء معه، أن ينزع خفيه ويتيمم. فهذه الرواية تشير إلى أن الصلاة بطهارة التيمم مع عدم النجاسة أولى منها بطهارة الماء مع حصول النجاسة. فعلى هذا يغسل نجاسته بالماء وإن نقله ذلك إلى التيمم (¬1). فهو في هذا النص يخرج حكم من كان معه من الماء ما يكفي لإحدى الطهارتين في أنه يغسل النجاسة ويتيمم على حكم من تنجس خفه ولا ماء معه أنه ينزعه ويتيمم. ومن ذلك أيضًا أنه في باب المياه أورد على كلام القاضي عشرة أسئلة كان السؤال السادس ما حكم الماء المشكوك فيه؟ وفصل القول. فيه إما أن يكون ¬

_ (¬1) شرح التلقين ص 280.

الشك في المغير هل يؤثر أو لا؟ وإما أن يشك في محل النجاسة لا في حصولها. وبعد أن بين اختلاف الفقهاء في ذلك ووجهة نظر كل عقبه بقوله بافتراض حالة أخرى. وهو أنه إذا انقلب أحد الإناءين قبل أن ينظر فيهما للتحري. قال لا أعلم فيها نصًا. لأصحابنا. ويجب عندي أن يكون حكم التيمم عند من قال به في وجودهما على ما تقدم بيانه. لأنه إنما وجب التيمم عنده بحصول الشك في عين النجس منهما. والشك في الباقي منهما حاصل كحصوله مع وجودهما. فوجب أن يكون الحكم واحدًا (¬1). وانظر كذلك تخريجه للمسح على الخفين إذا لبسهما المحرم على القولين في جواز المسح لمن سفره سفر معصية (¬2). وأما في باب الترجيح فإنه قد انتشر في تتبعه لأقوال الفقهاء. إذ هو يوازن بينها ثم ينظر في الملاءمة بين القول والدليل. ويرجح أو يضعف القول تبعًا لذلك. ومن أمثلة ذلك: أنه لما ذكر حكم العدل إذا بين النجاسة التي وقعت في الماء أنه يقبل خبره. وأتبعه بحكم ما إذا لم يبين مفصلًا إما أن يتساوى السائل والمسؤول في المذهب فيجب الأخذ بقول المخبر. وإن اختلف مذهباهما لم يحرم استعمال الماء" بمجرد إجماله. حتى يكشف عن النجس وحاله. ويستحسن عندي العدول عنه إلى غيره (¬3). ومن ذلك أنه لما ذكر اختلاف الأقوال في الإبراد بالظهر. أنهى كلامه بقوله والأصح عندي مراعاة حال يومه، فإذا فتر الحر القاطع عن استيفاء الصلاة، أمر بإيقاع الصلاة حينئذ إذا حان الوقت المختار. فإن لم يفتر حتى خيف ذوات الوقت لم تؤخر عن الوقت (¬4). ¬

_ (¬1) شرح التلقين ص 222. (¬2) شرح التلقين ص 317. (¬3) نفس المصدرص 225. (¬4) نفس المصدر ص 390/ 391.

ومما يدلك أيضًا على أنه لم ير نفسه مؤهلًا للاجتهاد المقيد ما ذكره في قراءة صلاة الشفع. قال: وقد كنت في سن الحداثة، وعمري عشرون عامًا وقع في نفسي أن القراءة في الشفع لا يستحب تعيينها إذا كانت عقب تهجد بالليل. وأن الاستحباب إنما يتوجه في حق من اقتصر على شفع الوتر. فأمرت من يصلي التراويح في رمضان أن يوتر عقيب فراغه من عدد الأشفاع، ويأتي بجميع مقروءاته بالحزب الذي يقوم به فيه ويوتر عقيبه. فتمالأ المشائخ المفتون حينئذ على إنكار ذلك واجتمعوا بالقاضي. وكان ممن يقرأ علي. ويصرف الفتوى فيما يحكم به إلى. فسألوه أن يمنع من ذلك. فأبى عليهم إلا أن يجتمعوا لمناظرتي على المسألة فأبوا، فأبى. واتسع الأمر وصارت المساجد تفعل كما فعلت. وخفت اندراس ركعتي الشفع عند العوام إن لم تخص في رمضان بقراءة فرجعت إلى المألوف. ثم بعد زمن طويل رأيت أبا الوليد الباجي أشار في كتابه إلى الطريقة التي كنت سلكت. فذكر في بعض كتبه قول مالك في الشفع: ما عندي فيه شيء يستحب القراءة فيه. فقال: هذا يدل على أن الشفع من جنس سائر النوافل. قال وهذا عندي لمن كان وتره واحدة عقيب صلاته بالليل. فأما من لم يوتر إلا عقيب الشفع فإنه يستحب له أن يقرأ في الشفع: بسبح، وقيل يا أيها الكافرون. فأنت ترى أن أبا الوليد كيف فصل التفصيل الذي كنت اخترته (¬1). إن هذا النص يعلن فيه الإِمام المازري عن ابتهاجه بأن فتواه في سن الحداثة قد وافقت تحقيق الشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي. والباجي ما كانت رتبته إلا رتبة أهل التطبيق أو الترجيح. فلو كان المازري يشعر أنه أعلى منه درجة في الفقه لما ابتهج هذا الابتهاج. رغم أنه في نهاية الفصل ضعف رأيه ورأى أب الوليد معًا. ¬

_ (¬1) انظر تمامه ص 784/ 785.

مكانته في عصره إن النص؟ السابق يدل على أن الإِمام المازري برزت مكانته العلمية. منذ عهد حداثته وازدادت تلك المكانة رسوخًا مع نضجه وتقدم سنه. فإذا كان وهو ابن عشرين سنة مرجعًا للقاضي يعود إليه ولا يخرج عن رأيه. وأنه منذ حداثته يهاب الشيوخ البالغون درجة الإفتاء مناظرته. فإن ذلك يدلك على أنه كان أرفع مقامًا وأعلى شأنًا بعد ذهاب شيوخه وتفرده بالإمامة. وهذه المنزلة التي استقرت في نفوس أهل العلم كان ينظر بها إليه أهل السلطان. فقد ذكر أثناء بيانه شرائط الجمعة وأن منها إيقاع الجمعة في المسجد. وأنها لا تقام على ظهر المسجد. قال: وقد كتب إلى سلطان يسألني عن الصلاة بمقصورة في قصره، الحائط مشترك بينها وبين الجامع. وأحب أن يصلي على أعلى الحائط المشترك مرتفعًا عن الناس محجوبًا عنهم. فأجبته بأن سر اشتراط الجامع والجماعة في الجمعة بخلاف غيرها من الصلوات أنها صلاة قصد بها المباهاة والإشادة والإعلان. ولهذا جهر بالقراءة فيها، وإن كانت صلاة نهار وجعل فيها الخطبة. فكل معنى تكمل المباهاة فيه ويزيد في بهاء الإِسلام كان أولى أن يسلك. والإخفاء والاستتار نقيض الغرض الذي أشار إليه الشرع. فلما كتبت إليه بهذا امتنع من إحداثه. وبعثه الإيثار على الاعتزال عن الناس على أن حاول أن يخرج من قصره هذه المقصورة إلى الهواء الذي يحيط به حيطان الجامع ليكون مصليًا في داخله فيرتفع ما رأيته فيما كتب به إلي. فسألني أيضًا عن هذا أيضًا فأشكل علي أمره. لمعان عرضت فمِه. فقربت له من إباحته على أنه أولى بالأجزاء من عرض الحائط لكون المصلي فيه مصليًا في داخل الجامع. وباطنه ... فهو الآن يصلي في المقصورة (¬1). فهذه المحاورة تدلك على مكانته عند ذوي السلطان. وعلى صدقه مع الله فهو لم يحاب السلطان. ولم يعتمد التعلات التي يبرر بها بعضهم بأن الأولى أن نؤلف قلوب أمثال هؤلاء وأن نيسر عليهم أداء الصلاة. وذلك خير من أن ¬

_ (¬1) شرح التلقين ص 972/ 973.

ننفرهم فلا يصلون. كأن الله أوكل لهم أن يجمعوا على الصلاة أكثر عدد ممكن. وما كلفهم الله ذلك إذ هو الذي ضبط الطريقة التي يرتضيها في عبادته، فمن اهتدى إليها فأقامها كما أمر سبحانه وحدد. فاز بالطاعة. ومن أعرض واستكبر فلم يقم الله أحدًا وكيلًا على عباده ليعبدوه. وقد رأينا أن صدق المازري مع الله انتهى إلى أن السلطان أدخل جزءًا من قصره في حدود الجامع. وخضع. ويغلب على الظن أن الأمير الذي استفتاه هو الحسن بن علي الصنهاجي الذي تولى الملك سنة 515. ذلك أن إملاءه لهذا الشرح كان مما محض له نشاطه العلمي في آخر حياته. فقوله فهو يصلي الآن في المقصورة أي وقت إملائه للشرح. وبين تولي الحسن بن علي السلطة وبين وفاة المازري إحدى وعشرون سنة. ولعله يثور سؤال مما سبق لك وهو أن المازري قد بلغ من العلم والفطنة والورع ما بوأه مكانة الإمامة في عصره فلماذا لم يقدمه السلطان لولاية القضاء مع أنه كان يستشيره ويأخذ برأيه ولا يجرأ على تجاوزه؟ قد يكون مرد ذلك أن المازري نظر في الأوضاع الاجتماعية وفي أخلاق أهل عصره. فتبين له أن لا يستطيع أن ينهض بمهمة القضاء. إذ يقول في الطعن بالعداوة بين المحكوم عليه والشهود والمفتي أو القاضي: إذ الغالب اليوم عدم الثقة من العدول والقضاة والمفتين. وفي جو مثل هذا رأى أنه أمام سيل طام من الفساد لا يستطيع مواجهته ولا إبراز الحق في هذه الظلمات التي بعضها فوق بعض والله غالب على أمره وهو الحكيم الخبير. فقد كان انصرافه عن القضاء مساعدًا له على التأمل والتفقه. وبث العلم في صدور الرجال (¬1). رحمه الله وأجزل مثوبته. ¬

_ (¬1) انظر ما تقدم في فتنة شيخه عبد الحميد.

المقدمة الثالثة النسخ المعتمدة في التحقيق

المقدمة الثالثة النسخ المعتمدة في التحقيق لما كان الكتاب مؤلفًا من متن للقاضي عبد الوهاب. الذي هو التلقين. ومن شرحه للإمام عبد الله المازري، فقد وجهت عنايتي لضبط نص المتن بوسائل تزيد على الشرح. التلقين اعتمدت في تحقيق المتن على النسخ الآتية: أولًا: النسخة المطبوعة سنة 1413 - 1993 بإشراف وزارة الأوقاف والشؤون الإِسلامية بالمملكة المغربية. وأشرف إليها بحرف -غ-. ثانيًا: النسخة التي قدمها الدكتور محمَّد ثالث سعيد الغاني لنيل شهادة الدكتوراة في الفقه لجامعة أم القرى بمكة المكرمة 1405 - 1406 - 1985 - 1986. وأشير إليها برمز غاني. ثالثًا: نصوص المتن في نسخ الشرح. والطريقة التي سرت عليها في ذلك أني كلما وجدت اختلافًا في نص التلقين أثبت بالأصل الوجه الذي أظن أنه هو الصحيح بناء على التأمل في فقه المسألة وعلى ما جاء في الشرح. وأثبت في الحاشية الوجه أو الوجوه الأخرى ناسبًا لها لأصولها.

شرح التلقين أولًا: نسخة مصورة من مكتبة الزاوية الحمزاوية. وهي النسخة الوحيدة التي حفظت الصفحات الأولى من شرح التلقين. كتبت بخط أندلسي واضح. عدد الأسطر بالصفحة 23. وبكل سطر معدل 15 كلمات. عدد الصفحات 385. مفتتح النسخة: "بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه أحمد الله حمدًا يقيد النعم عن الزوال، ويمنعنا من التغير والانتقال، ويهتدي به المؤيد من الأفضال، وصلى الله على محمَّد وعلى آله خير آل. قال الشيخ الفقيه". وتنتهي بدعاء القنوت: وعند الشافعية وعافنا فيمن عافيت وقنا. وكتبت الصفحة الأخيرة على هذا الشكل. مكتبة الزاوية الحمزاوية. يمنع طبع هذا الكتاب بدون. إذن أهل زاوية سيدي حمزة. رقم الكتاب 107. النهاية. وقد رمزت إلى هذه النسخة بحرف -ح-. وهي أقرب النسخ إلى الصحة. يظن أنه أعيد تسفيرها. ذلك أن الصفحات قد تداخلت في أثناء الكتاب وقد نبهت على مكان الاختلاط وطريقة تصويب ترتيب أوراقها. ثانيًا: نسخة المكتبة الوطنية بتونس رقم 12206. هذه النسحة أصلها محبسة على العلماء والطلبة بجامع الزيتونة من المشير

أحمد بأي ملك تونس في أوائل شهر صفر 1291. كما هو مثبت بالصفحة الأولى. وهي النسخة الوحيدة التي بلغ بها ناسخها كتاب الجنائز. بالصفحة ما بين 32 و 35 سطرًا. وبالسطر معدل 20 كلمة عدد الصفحات 328. كتبت بخط تونسي غير جيد انتشرت أخطاء الرسم. وكثير من الكلمات صورها الناسخ تصويرًا مما يدل على أن مستواه المعرفي هو النسخ حسبما يبدو له. كما أن هذه النسخة أثر فيها عاملان من الآفات التي تصيب الكتب. العامل الأول: هو تسرب الرطوبة إلى الأطراف العليا في كثير من صفحاتها مما تسبب عنه ذهاب الحروف أو اختلاطها اختلاطًا يصعب معه تبين الكلمة المرادة. وقد اجتهدت بما بقي من حروف الكلمة لإثبات ما أظنه تمامًا لها بالاعتماد على السياق والسباق. ولكن في قسم كبير من الصفحات الأخيرة انتشر المحو وشمل أسطرًا. فأعجزني تقويم النص وتكميله. إذ هي النسخة التي بلغت آخر ما يتعلق بالصلاة. العامل الثاني: هو عبث الأرضة وجولاتها المخربة. وحاولت التغلب على الصعوبة في حدود المستطاع حسبما قمت به لتدارك آثار الافة السابقة. وبجانب هذا أو ذاك فقد تبين لي أن النسخة قد أعيد تسفيرها وضمت أوراقها بعضها إلى بعض بعد أن اختلطت فأعدت تنسيقها ليتتابع النص حسبما يقتضيه الموضوع واعتمادًا على السياق والتسلسل الفقهي في تقرير المسائل. ونبهت في أسفل الصفحة على الاختلال وطريقة تداركه. الصفحة الأولى من النص: فاغسلوا: مفهومه للصلاة والغسل للصلاة. هو معنى النية التي بيّناها.

مما يلاحظ أنه بين أول الشرح وأول ما هو موجود من النسخة نقص يبلغ 28 صفحة من التحقيق. وآخرها: نجز كتاب الجنائز وبتمامه ختم السفر الأول من شرح التلقين للإمام المازري رضي الله عنه ونفع به. يتلوه بحول الله وقوته "في" السفر الثاني كتاب الزكاة والحمد لله حمدًا يدوم بدوامه. والصلاة الدائمة كذلك على سيدنا محمَّد خاتم أنبيائه، ومبلغ أنبائه، وعلى آله وصحبه ذوي الشرف وأنصاره وسلم تسليمًا كثيرا. إلى يوم الدين. وغفر لكاتبه وجعل خير عمره آخره وخير عمله خواتمه وخير أيامه يوم لقائه وغفر لوالديه ولكاسبيه ولوالديهم ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وقد أغفل الناسخ ذكر اسمه وذكر تاريخ انتهائه من النسخ. وهذه النسخة رغم ما وصفته من الحالة التي هي عليها. كان عليها المعول في التحقيق. وقد رمزت إليها بحرف -و- أي الوطنية. ثالثًا: نسخة ثانية بالمكتبة الوطنية رقمها 6547. كانت هذه النسخة من مستودعات المكتبة الصادقية بجامع الزيتونة مضمنة تحت عدد 14565. وقد أغفل تاريخ التحبيس. عدد الأسطر بالصفحة 33 سطرًا. ومعدل عدد الكلمات 14 بالسطر. وعدد الصفحات 377 صفحة. كتبت بخط تونسي نسخي جميل واضح. أمضيت مع هذه النسخة زمنًا أقابل بين النص كما هو مثبت بها وبين بقية النسخ. وأنصّ على الخلاف في الأسفل. ثم تبين لي أني اغتررت بجمال الخط وبوضوحه. وأن النسخة منقولة عن النسخة السابقة -و- ذلك أنه كلما كان هناك بياض بالأصل. أو كلمة ممحوة كلا أو بعضًا أو رسم مشتبه أو رطوبة خلطت

الأحرف فاشتبهت الكلمات، فإن هذه النسخة جاءت مطابقة للنسخة -و- السابقة. ولذلك عمدت إلى كل التعليقات المبنية عليها فحذفتها. رابعًا: النسخة الموجودة بمكتبة الحرم النبوي من أوقاف الشيخ محمَّد العزيز بن محمَّد الوزير. وهذه النسخة منقولة عن سابقتها. رقم 6547. البداية واحدة فيهما والنهاية واحدة فيهما. وينهي الناسخ بما يلي: هذا ما وجدنا وتوقف لوجود نقص بالأصل. والله الموفق للصواب. وإليه المرجع والمآب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وسلام عدى المرسلين ولا حول ولا قوة إلا بالله العدي العظيم. وكان الفراغ من هذا الجزء في أوسط جمادى الأولى. من عام أربعة وخمسين ومائتين وألف. وكتبه العبد المذنب الفقير أحمد بن ضيف الله القصوري الكافي أصلح الله حال الجميع. آمين آمين. وقد اعتمدتها -زمنًا- ثم عدلت عن ذلك لما تبين لي أنها لا تضيف آية إضافة لتقويم النص. أما البداية. إن الغسل الواجب عن هذين الحديثين (هكذا) واحد وممنوعاتهما تتماثل. وانفرد الحيض بأنه يمنع من الوطىء (هكذا) وانفراد الجنابة بأنها تمنع من قراءة القرآن. وأما ختام النسخة "ووجه قول من قال فيها بقراءة القرآن بهذا التقدير، كان من فاته الركوع الأول فأدرك الثاني وركع في الثالث وأدرك الرابع لا يقضي شيئًا لأنه بمثابة من لم يعتد بقيام الركعة. خامسًا: نسخة مكتبة كلية القرويين بفاس. رقمها 348. هذه النسخة هي أقدم نسخة عثرت عليها. مكتوبة بخط مغربي مقروء بالصفحة 31 سطرًا وبالسطر معدل 15 كلمة وعدد صفحاتها 320 صفحة خرمت الأرضة أوراقها من الأطراف والوسط.

تعذر قراءة أول صفحة منها. وما بقي يدل على أنها نسخة تامة من البداية غير منقوصة. وانتهت بـ"وقد ذكرنا تفرقته في الخروج من المسجد إذا أقيمت الصلاة بين الوتر وركعتي الفجر. فأخرجه في الوتر لتأكدها. ولم يخرجه لركعتي الفجر لانخفاض حرمتها عن حرمة الإقامة". ثم بعد ذلك. كمل الجزء الأول من كتاب شرح التلقين لأبي عبد الله المازري بحمد الله وعونه. وكان الفراغ منه يوم الجمعة العاشر لجمادى الأولى من عام ثمانية وتسعين وستمائة نفع الله به كاتبه بمنه وكرمه وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وسلم تسليما. وبعد ذلك بخط مغاير ابتهال لمن تملكها بعد ذلك. وهذه النسخة لم تحظ بعناية المقابلة أو التصحيح. ولذلك كثرت الأخطاء بها. واستعنت بها رغم الخرم الذي يمنع في كثير من المواطن تواصل النص ورمزت إليها بحرف -ق-. سادسًا: نسخة مكتبة القرويين بفاس رقمها 348. هذه النسخة تشمل الكتب التالية قصر الصلاة - صلاة الجمعة. صلاة الخوف صلاة العيدين. صلاة الكسوف. صلاة الاستسقاء. على الصفحة الأولى شهادة تحبيسها عام خمسة وستين وسبعمائة. ونص التحبيس تعذر علي قراءته لمحو قطّع كلماته. كتبت بخط مغربي واضح وجميل. أثر فيه الزمن بخرم الأرضة وإمحاء بعض الكلمات لم تصحح ولم تقابل. بالصفحة 22 سطرًا. وبالسطر معدل 12 كلمة عدد صفحاتها 202.

الصفحة الأولى: بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم. باب في قصر الصلاة في السفر قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله القصر في الصلاة الرباعية. وآخر ما جاء في النسخة: ويمنعوا من إظهار ذلك في أسواق المسلمين وجماعتهم في الاستسقاء وغيره. كما يمنعون من إظهار الربا وشرب الخمر. كمل كتاب الصلاة وبكماله تم السفر الثالث من شرح التلقين للإمام أبي عبد الله المازري رضي الله عنه والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. وقد رمزت لهذه النسخة بحرفي -قث-. سابعًا: نسخة مكتبة القرويين بفاس رقم 348. وهذه النسخة المصورة. قد اختلطت أوراقها اختلاطًا كبيرًا. فهي حسب الصورة التي عندي، بعض أوراقها يتعلق بالصلاة. وبعض الأوراق بالمعاملات. ورغم صعوبة الاستفادة منها فإني لم أهملها وصبرت عليها وخاصة إذا اشتبه النص المثبت في غيرها. ورمزت إليها بحرفي -قل-.

صورة من نسخة المكتبة الحمزاوية رمزها -ج-

صورة من نسخة المكتبة الوطنية بتونس رمزها -و-

صورة من نسخة المكتبة الوطنية بتونس رمزها -و-

صورة من نسخة مكتبة القرويين بالرباط رمزها -ق-

صورة من نسخة مكتبة القرويين بالرباط رمزها -قث-

شرح التلقين للإمَام أبي عَبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازِريّ 453 - 536 1061 - 1141 الجزءُ الأوّل الصَّلاَة وَمُقَدِّمَاتها تحقيق سماحة الشيخ محمَّد المختار السلامي مُفْتي الجمهُوريَّة التونسِّيَة

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة

بسم الله الرحمن الرحيم وصل على سيدنا محمَّد وآله أحمد الله حمدًا يقيد النعم عن الزوال، ويمنعها من التغير والانتقال، ويهتدي به المؤيد من الأفضال. وصلّى الله على محمَّد، وآله خير آل. قال الشيخ الفقيه الإِمام الأوحد، أبو عبد الله بن علي المازري رضي الله عنه: سالت، أبان الله لك معالم التحقيق، وسلك بك أوضح طريق، وأيدك بالسعادة والتوفيق، أن أملي عليك جملًا على كتاب التلقين، للقاضي أبي محمَّد عبد الوهاب رحمه الله، أظهر لك (مضمونه) (¬1) وأبيح مصونه، وأستخرج مكنونه، فأجبتك إلى ذلك، راجيًا من الله سبحانه جزيل المثوبة فيه بمنه وطوله (¬2). كتاب الطهارة (¬3) قال القاضي، أبو محمَّد، عبد الوهاب رضي الله عنه: الطهارة من الحدث فريضة واجبة على كل من لزمته الصلاة. قال الشيخ وفقه الله: أعلم أن هذا الفصل يتعلق به عشرة أسئلة. منها أن يقال: ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل. (¬2) لم يتعرض الإِمام المازري لشرح مقدمة القاضي عبد الوهاب. ونصها كما وردت في النسخة المصورة التي حققها الطالب محمَّد ثالث سعيد الغاني. وفي التسخة المغربية وزارة الأوقاف. قال القاضي الجليل أبو محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي البغدادي رحمه الله. نحمد الله "الحمد الله في نسخة الغاني" ونشكره" نستعينه ونستغفره ونعبده ونذكره ونؤمن به ولا نكفره. ونساله الصلاة على خيرته من خلقه محمَّد نبيه وعلى آله وأصحابه وأزواجه "وذريته في نسخة الغاني" صلاة نامية "تامة في نسخة الغاني" زاكية "ساقطة" نحظى بفضيلتها ونسعد بمزيتها. "آمين". (¬3) كتاب الطهارة مثبت في نسخ المتن ساقط من جميع نسخ الشرح.

1 - ما الطهارة؟. 2 - وما أقسامها؟. 3 - وما أحكامها؟. 4 - وما الفرض؟ 5 - وما الواجب؟ 6 - ولم كررهما إن كانا بمعنى واحد؟. 7 - ومن الذي تلزمه الصلاة؟. 8 - ولم عدل إلى هذا اللفظ دون غيره؟ 9 - ولم قيد من الحدث؟. 10 - وما وجه البداية بهذا الذي بدأ به؟. فالجواب عن السؤال الأول، أن يقال: الطهارة لها تفسيران: لغوي وشرعي. فاما اللغوي فهو الخلوص من الأدناس، قال الله سبحانه: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬1) والمراد مخلصك من أدناسهم. وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} " (¬2) (.......) (¬3) أراد أن يخلصكم من الدنس أيضًا. فإن قيل هذا مجاز، وتشبيهه بالتطهير بالماء. قيل هذا خطأ. لأنه سبحانه ذكر الفعل وأكده بالمصدر وقال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. والفعل إذا أكد بالمصدر (......) (¬4) قول من قال من المبتدعين/ إنه سبحانه غير متكلم على الحقيقة، وأن قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬5) مجاز، لأن الله سبحانه ذكر الفعل، وأكده بالمصدر (¬6) فامتنع حمله على المجاز. وأما الشرعي، فهي إزالة الدنس أو ما في معناه بالماءِ، أو بما في معناه. والشرع ها هنا لم ينقل اللغة، وإنما خصص هذه التسمية في عرف التخاطب ببعض ما وضعت له. والمغتسل من الجنابة في معنى مزيل الدنس وإن لم يكن ثم ما يزال حقيقة، لأن ما منعه من التقرب إلى الله سبحانه في معنى الدنس. والجواب عن السؤال الثاني، أن يقال: الطهارة على قسمين عينية وحكمية. ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 55. (¬2) سورة الاحزاب، الآية: 33. (¬3) مقدار كلمة ممحو .. (¬4) محو قد يكون الكلام الذاهب: "يمتنع حمله على المجاز، وهذا يرد". (¬5) سورة النساء، الآية: 164. (¬6) في النسخة فالمصدر.

فاما العينية فإنها طهارة النجس، لأنها يزال بها عين النجاسة. وأما الحكمية، فهي طهارة الحدث. لأن الغرض بها رفع حكم الحدث وليس هناك عين تزال. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أحكامها تتنوع (¬1) ثلاثة أنواع: فروض، وسنن، وفضائل، وسيرد تفصيل هذه الأحكام. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الفرض أصله في اللغة التقدير، ومظ فرض القاض النفقة، بمعنى قدرها. وهو (¬2) في الشرع ما استحق الذم بتركله على وجه ما، على حسب ما قلناه في الفرض، لأنهما عندنا بمعنى واحد. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: الوجوب في اللغة السقوط ومنه قوله: "فإذا وجبت جنوبها" (¬3). والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما كررهما لاختلاف الناس فيهما هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟. فذهبت طائفة من أهل الأصول إلى أن الواجب دون الفرض. وفسر بعضهم ذلك: بأن الواجب لا يكفر المخالف فيه. والفرض يكفر المخالف فيه. وهذه طريقة أصحاب أبي حنيفة في تسميتهم صلاة الوتر واجبة، ومنعهم من أن تسمى فريضة؛ لأنا نحن والشافعي نخالف في وجوبها. ولا نكفر عندهم بذلك. (.....) (¬4) الخمس فريضة لأن من خالف فيها كفر. فلأجل هذا الاختلاف بين / هذين اللفظتين كررهما رضي الله هـ عنه، ليجمع بين المذهبين وهذا من حذقه. فإن قيل فهلا اقتصر على قوله فريضة؟ لأنه الفرض لا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في الواجب. قيل قد قدمنا أن أصل الفرض في اللغة التقدير، واستعماله في هذا المعنى ليس بغريب، وقد حمل من ذهب من أصحابنا إلى أن زكاة الفطر ¬

_ (¬1) هكذا بالأصل -ولعله قد سقط حرف الجر- إلى: حتى يستقيم البدل فروض. (¬2) في الأصل = وهي (¬3) سورة الحج، الآية: 36. (¬4) محو ولعل الممحو والصلوات.

ليست بواجبة قوله: فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه زكاة الفطر (¬1) على معنى قدر. فقصد (¬2) رحمه الله، إزالة هذا الاحتمال، بما أورده من التأكيد بالوجوب. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: الذي تلزمه الصلاة هو كل مسلم بالغ صحيح العقل متمكن من أدائها وفعل ما هو شرط فيها؟ وقولنا: متمكن من أدائها، احتراز ممن تحت الهدم، وقولنا وفعل ما هو شرط فيها، احتراز ممن لا يجد ماءً ولا ترابًا. فبين أصحابنا اختلاف: هل تلزمه الصلاة أم لا؟ (¬3). والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما عدل لهذا اللفظ لأن الطهارة إنما تجب لأجل الصلاة، ولا يخاطب بها إلا من لزمته والذي تلزمه الصلاة له شروط يكثر تعدادها ويختلف في بعضها. فعدل رحمه الله عن تعديد ذلك لطوله وأتى بما هو أخصر، وليشعر بان الطهارة تبع لوجوب الصلاة، وأنها عبادة تراد لغيرها لا لنفسها. ولو قال على كل مسلم وأتى بما بعده من الشروط، لتوزع في هذا الشرط الأول ابتداءًا على رأي من رأى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، بشرط تقدمة الإيمان. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: قيد بقوله من الحدث، لما قدمناه من أن الطهارة على قسمين: عينية وهي طهارة النجس، وقد اختلف فيها هل إزالتها فرض أم لا؟ وحكمية وهي طهارة الحدث (ولا خلاف أنها) (¬4) مرض وهي التي غرضه الكلام عليها. والجواب/ عن السؤال العاشر: أن يقال: أما وجه هذه البداية التي بدأ بها، فهو أن الكلام في ذات الشيء قبل الكلام في أوصافه، فأراد رحمه الله أن يبين هذه الطهارة ما هي؟ ثم يتكلم على تفاصيل أحكامها. فذكر جنسها أولًا ثم نوعها، بان قال: وهي ثلاثة أنواع ومن المصنفين من يختار البداية بالكلام عدى ¬

_ (¬1) أخرجه الجماعة نيل الأوطار ج 4 ص 201. (¬2) في الأصل فقصده. (¬3) هكذا في الأصل والصواب أو لا. (¬4) بياض بالأصل. وبهذا القدير يستقيم المعنى.

أحكام المياه؛ لأنه قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (¬1) وهذا يتضمن أن ها هنا مغسولًا به فيجب بيان حكمه قبل بيان حكم الأعضاء المذكررة بعده. وقد يختار بعضهم البداية بالكلام على النية، لأن كل ما يتصرف فيه المكلف في هذه العبادة عمل، ولا عمل إلا بنية، على حسب ما ورد به الخبر، فوجب أن يقدم ما من حقه أن يتقدم على كل عمل مفتقر إليه. قال القاضي أبو محمَّد وهي ثلاثة أنواع: وضوء، وغسل، وبدل منهما عند تعذرهما، وهو التيمم. قال الشيخ وفقه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الجنس؟. 2 - وما النوع؟. 3 - وما الوضوء؟. 4 - وما أقسامه؟. 5 - ولم بدأ بذكره وبيانه قبل الغسل؟. 6 - وما وجه تسمية التيمم بدلًا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الجنس فقد حده أهل علم المنطق، بأنه اللفظ المقول على كثيرين مختلفين بالنوع. وهذا الحد قد أطبق عليه جميع الفلاسفة المتقدمين منهم والمتأخرين. وهو حد فاسد. لأن الجنس شيء غير اللفظ الدال عليه. وهذا الذي ذكروه إنما هو حد اللفظ الدال عليه. فقولهم أنه حد للجنس بعينه خطأ. ألا تراهم يقولون قولنا حيوان جنس، وقولنا إنسان نوع، لأنه بعض الحيوان. ومعلوم أن الحيوان ليس هو اللفظة، التي هي قولنا حيوان. ووجه آخر يفسد به هذا الحد، وهو أنهم ذكروا أنه اللفظ المقول على المختلف بالنوع. والنوع لا يعلم عندهم حقيقته إلا بعد أن يعلم حقيقة الجنس. فقد بينوا الشيء بما هو مأخوذ منه، ومتفرع عنه، وكيف يصح أن يعلم الأصل من الفرع؟ هذا عكس الحقائق. والصواب في هذا أن يقال: أما الجنس فهو الشبه والمثل هذا أصله في اللغة. وأما العبارة الدالة عليه، فيمكن أن ترسم: بأنها القول الشامل لمسميات تتباين بالصفات اللازمة لها ألا ترى أن ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 6.

قولنا حيوان ينطلق على أشياء متباينة: كالإنسان، والفرس، والطائر. وصفات الإنسان وشكله الذي فارق به الفرس والطائر، لازمة له. فلو فارقته لفارق كونه إنسانًا، فهذا هو الرسم الصحيح الذي يجب أن نرسم به المعنى، الذي قصدوا هم إليه. وأما على قولنا: أن الجنس هو الشبه والمثل، فليس هذا بحد للفظ الدال على هذا المعنى. والكلام في حد المثل مبسوط في كتب الأصول، لا حاجة بنا إلى ذكره ها هنا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما النوع فقد حده من ذكرناه من الفلاسفة أيضًا، بأنه اللفظ المقول على كثيرين مختلفين بالشخص. وهذا أيضًا يفسد بنحو ما أفسدنا به الأول أيضًا. لأن هذا إنما هو حد اللفظ الدال على النوع. واللفظ غير النوع. ويفسد أيضًا بقولهم على كثيرين مختلفين بالشخص. لأن الأعراض ليست أشخاصًا. وقولنا -سواد- هو نوع وليس بشخص. والصواب في هذا أن ترسم العبارة الدالة على النوع الذي قصدوه: بأنها القول الشامل لمسميات تتباين بالتغاير خاصة. ألا ترى أن قولنا إنسان يطلق على زيد وعمرو وبكر، ولا تباين بينهم في المعنى الذي كان به كل واحد منهم إنسانًا وإنما تباينوا بالتغاير؛ لأن زيدًا إنسان وعمرو إنسان. قال القاضي رحمه الله: لما ذكر جنس الطهارة أولًا، ذكر نوعها، وهكذا يقتضي الترتيب أن من بيّن الجنس بيّن النوع. وهذا الذي دعانا نحن إلى بيانهما لتكمل فائدة الكتاب. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال:/ أما الوضوء فله تفسيران لغوي وشرعي. فأما اللغوي: فهو النظافة. ومنه قيل وجه وضيء بمعنى سلامة محاسنه مما يشين. وأما الشرعي فهو تطهير أعضاء مخصوصة بالماء؛ لأن ذلك مما ينطفها ويرفع أيضًا حكم الحدث المانع من التقرب إلى الله سبحانه. *ما منع من التقرب إلى الله تعالى سبحانه * (¬1) .. فإن "الوضوء" (¬2) في معنى النظافة والشرع لم ينقل اللغة ها هنا وإنما قصرها في العرف على بعض ما وضعت له. ¬

_ (¬1) الظاهر أن ما بين النجمتين مكرر. (¬2) لفظ غير واضح في الأصل.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما أقسامه فقسمان: فرض وفضل. فالفرض ما لزم رفع الحدث به، والفضل ما فعل تجديدًا، وما كرر من مغسول الفرض. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما بدأ بذكره لوجهين: أحدهما أن الله تعالى بدأ بذكره قبل ذكر الغسل، فاختار أن يبدأ بما بدأ الله سبحانه به. والثاني أنه يتكرر أكثر من تكرر الغسل. والبداية بما تمس الحاجة إليه أكثر، أولى. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما تسمية التيمم بدلًا فقد تعقبها عليه بعض الأشياخ المتأخرين. ورأتيت أن حقيقة البدل: ما ناب مناب ما هو بدل عنه مع حضوره ووجوده. كالعتق في كفارة اليمين، والإطعام. فإن أحدهما بدل عن الآخر، لأنه يجزئ مع وجوده وحضوره. والتيمم لا يجزئ إلا مع عدِم الماء، فلا يسمى بدلًا. وهذا عندي تعسف في التعقب على مثل هذا الحبر المتبحر في الأصول التي يعلم منها حقيقة هذا اللفظ. وقصارى ما قاله من تعقب عليه: أنه خرج عن الحقيقة في تسميته بدلًا. وهب أن الأمر كذلك، أيمنع من تسميته بدلًا على جهة المجاز؟ هذا ما لا يمكن أن يمنع منه. وإذا ثبت الجواز (¬1) التجوز في العبارات، والاستعارة في التسميات فكيف يمنع أن يورد هذا الخبر في كتابه، وفي كتاب الله سبحانه من المجاز ما لا يحصى كثرة؟ هذا لو سلمنا أن حقيقة البدل ما قاله هذا المتعقب. وكيف واللفظة على نحو ما استعملها القاضي أبو محمَّد. ألا ترى أن القراء يقولون أبدل نافع/ من هذه الهمزة ألفًا، وأبدل فلان من كذا حرف كذا، ويشيرون إلى حرف معدوم قد لا يجوز إظهاره. وترجمة كتاب القلب والإبدال لابن السكيت يغنيك عن هذا. وقد أورد في الكتاب المترجم لهذا من الإبد الذي الحروف ما لا يحصى. ولا وجه لمناقشة مثله لمثل هذا. ولم يذكر ما يتعلق به هذا الفصل من السؤالات المتعلقة بالغسل والتيمم لأنها ترد في أبوابها. قال القاضي أبو محمَّد: فأما الوضوء ففي ثمانية مواضع: وهي الوجه ¬

_ (¬1) الجواز هكذا في الأصل: ولعل الصواب جواز.

وداخل الفم، وداخل الأنف، وما بين الصدع والأذن، واليدان إلى آخر المرفقين، والرأس، والأذنان ظاهرهما وباطنهما، والرجلان إلى آخر الكعبين. قال الشيخ وفقه الله: يتعلق بهذا الفصل سؤالات كثيرة. ولكن رأينا تأخيرها إلى مواضعها ولكن الذي يختص به سؤال واحد، وهو أن يقال لم استوفى جميع أعضاء الوضوء المسنون منها والمفروض دون غسل اليدين فلم يعدهما مع جملة هذه الأعضاء؟. فعن هذا ثلاثة اْجوبة. أحدها أن يقال: إنما عد المسنون والمفروض. وغسل اليدين ليس بسنة عند بعض أصحابنا، وإنما هو فضيلة. ولم يتعرض لذكر الفضائل فيما بعد. والثاني أن يقال إنما اختار أن يبدأ بما بدأ الله تعالى به وهو الوجه. فلما حصل له هذا الذي اختاره وعرض فيه ما يعد من السنن، عده فأضافه إليه على جهة التبع. لا سيما والذي عده من ذلك مع الوجه من الناس من يذهب إلى أنه فرض وأنه من جملة أجزاء الوجه. وكذلك الأذنان قد قيل فيهما أنهما من أجزاء الرأس المفروض، فحسن عند (¬1) ذلك مع جملة الفروض. والثالث أن يقال قد خرج في الصحيح (¬2) أن ابن عباس وصف وضوء النبي عليه السلام فابتدأ بذكر الوجه، فاتبع القاضي أبو محمَّد في وصفه وصف ابن عباس رضي الله عنه في هذا الحديث. قال القاضي أبو محمَّد وطهارته نوعان غسل ومسح، فالمسح في الرأس، والأذنين. والغسل فيما عداهما. وأحكامه ثلاثة أنواع: فرض، وسنة، وفضيلة. قال الشيخ وفقه الله يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يتهال: 1 - ما الفرق بين الغسل والمسح؟. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب عدُّ. (¬2) رواه البخاري بسنده إلى عطاء بن يسار وعن ابن عباس أنه توضأ فغسل وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق. الحديث كتاب الوضوء.

2 - ولم اقتصر في الممسوح على الرأس والأذنين، وقد تمسح بعض الأعضاء المغسولة للضرورة؟. 3 - وما الفرض؟. 4 - وما السنة؟. 5 - وما الفضيلة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الفرق بين الغسل والمسح: أن الغسل صب الماء على الشيء مع إمرار اليد عليه على اختلاف في هذا الوصف الأخير. وهو إمرار اليد. وأما المسح فإنه مسح الشيء بالشيء. ففي عرف الشرع مسح العضو باليد مع إضافة بلل الماء، وقد حكى ابن قتيبة أن الغسل قد يسمى مسحًا. واحتج بقولهم تمسحت للصلاة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما اقتصر في الممسوح على ذكر الرأس والأذنين دون ما يمسح من المغسول للضرورة، لأن المغسول إذا مسح للضرورة فالمسح بدل عن الغسل ليس بأصل فيه، ومسح الرأس والأذنين أصل، ومراده ذكر الأصلي لا الفرعي فلهذا اقتصر عليه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الفرض فقد تقدم بيانه وذكر حده فلا وجه لإعادته، وإنما عددناه ها هنا في الأسئلة لنذكرك ما مضى فيه. فإنه يفتقر إليه في معرفة الفرق بين السنة والفريضة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما السنة فهي الطريقة، هذا أصلها في اللغة. وسنة النبي عليه السلام طريقته. وقوله عليه السلام: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ" (¬1) أي عليكم بطريقتي وطريقة الخلفاء من بعدي. فإذا ثبت أن أصل السنة الطريقة، ففعل الواجبات طريقته عليه ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة والترمذي في باب العلم وأحمد عن العرباض بن سارية. ولفظ الترمذي. عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك دلك منكم فعليه بسنّتي وسنة الخلفاه الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ -حسن صحيح-.

السلام، فيجب أن تسمى سنة على أصل اللغة، ويخرج من مضمون ذلك أن كل واجب سنة، وليس كل سنة واجبًا. لأن من طريقته عليه السلام فعل المندوب. والمندوب ليس بواجب. هذا الأصل في اللغة. لكن عرف الشرع ألا يسمى كل واجب سنة. ألا ترى أنهم لا يقولون صلاة الظهر سنة. ولا يقولون الوضوء سنة. ولا صوم رمضان سنة، ولا الحج سنة. ولكنهم تعارفوا في الشرع على أن كل ما ثبت حكمه بفعل النبي عليه السلام أو قوله، وأكد وحض عليه، ولا أصل له في الكتاب، فإنه سنة. ولهذا يقولون صلاة الوتر سنة، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وصلاة العيدين لأنها مما شرعها - صلى الله عليه وسلم - وأكد أمرهالأولم يوجبها ويؤثم تاركها. وقد يطلق بعضهم تسمية السنة على ما علم حكمه من جهة النبي عليه السلام وإن شرعه على جهة الوجوب. وقد سالت بعض أشياخي عن قول بعض أصحابنا: قد اختلف في إزالة النجاسة هل هي فرض أو سنة، مع حكايته الاتفاق على تأثيم من صلّى بها عامدًا؟ كيف يصح وصف الشيء بأنه سنة مع وصفه بأنه يؤثم بتركه؟ فلم يظهر له عن هذا جواب. فسألت غيره من شيوخنا عن هذا، فقال: مجمل القول بأنها سنة، على أن حكمها من جهة النبي عليه السلام، واجب من غير أن يكون له أصل في الكتاب. وقد شرع عليه السلام إزالتها على جهة الوجوب. فقيل ذلك من سنته وإن كان واجبًا. ثم رأيت بعد ذلك هذا الذي قاله، لبعض أصحابنا البغداديين. وهذه نكتة حسنة يجب أن تتدبرها. فقد وقع في مسائل أصحابنا ما لا ينكشف لك حقيقته إلا بها. منها هذا الذي ذكرناه في إزالة النجاسة والتسمية على الذبيحة، وستر العورة في الصلاة، إلى غير ذلك مما تقف عليه في مواضعه. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: الفضيلة كل فعل له فضل وفيه / أجر، من غير أن يستحق الذم بتركه، ولا التأثيم، وهذا الفرق بينه وبين الواجب، وأما الفرق بينه وبين السنة، فإن قلنا بأحد المذهبين أن من السنن ما يكون واجبًا، فالفرق بينهما بين، لأن الفضائل ليس منها واجب أصلًا. هذا أصلها في عرف الشرع. وإن قلنا بالمذهب الآخر أن السنن لا يكون منها

واجب. فالفرق بين السنة والفضيلة: زيادة الأجر ونقصانه وكثرة تحضيض صاحب الشرع. فكل ما حض عليه وأكد أمره، وعظم قدره، سميناه سنة كالوتر، وما في معناها. وكل ما تسهل في تركه وخفف أمره سميناه فضيلة ليشعر المكلف بمقدار الأجور في الأفعال، فتقدم الأولى فالأولى، وتعلم قدر ما يتقرب به. وهذه نكتة يجب أن تتدبرها. فقد وقع اختلاف بين أصحابنا في سنن الوضوء وفضائله. ولا تنكشف حقيقته إلا لمن انكشف له هذا الذي قلناه. قال القاضي أبو محمَّد وفروضه ستة: وهي (¬1) النية، وغسل الوجه كله، وغسل اليدين إلى آخر المرفقين، والمسح بالرأس كله *وغسل الرجلين إلى الكعبين* (¬2) وما به يفعل ذلك وهو الماء المطلق. وسننه سبع: وهي غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء (¬3)، والمضمضة، والاستنشاق، وغسل البياض الذي بين الصدغ والأذن، ومسح داخل الأذنين، وفي ظاهرهما خلاف، وتجديد الماء لهما، والترتيب. وفضائله ثلاث وهي السواك قبله، والتسمية عند بعض أصحابنا، وتكرار مغسوله مرتين وثلاثًا. هذا ذكر جمله ونحن نبين تفصيله *إن شاء الله* (¬4). قال الشيخ وفقه الله: إعلم أنه يتعلق بكل واحد مما عدده من هذه الأنواع مسائل كثيرة. ولكن أخرنا ذكرها عند ذكره رحمه الله تفاصيلها لئلا يحتاج إلى تكرير الكلام/ عليها. وقد خولف في بعض ما عدده من السنن والفضائل. ونحن نذكر إذا مررنا عليه إن شاء الله. قال القاضي أبو محمَّد: فاما النية فقد بينا أنها من فروضه. وهي قصده بها ما يلزمه (¬5). والذي يلزمه أن ينوي بوضوئه: رفع الحدث أو استباحة فعل معين ¬

_ (¬1) وهي ساقطة من الأصل. مثبتة في نسخة الغاني. (¬2) ساقطة بالأصل. مثبت في نسخة الغاني. وفي إلى آخر الكعبين. (¬3) اليد- إدخالها في الإناء- والتصحيح من نسخة الغاني -وفي- غ. (¬4) ساقطة من الغاني. (¬5) به ما لزمه في نسخة الغاني وفي غ.

يتضمن رفع الحدث. ومعنى رفع الحدث استباحة كل فعل كان الحدث مانعًا منه. ومعنى تعيين ما يتضمن ذلك، هو أن ينوي به استباحة فعل بعينه لا يستباح إلا بعد التطهر من الحدث. وذلك كالصلوات كلها على اختلاف أنواعها. من الصلوات المعهودة، وصلاة الكسوف، والجنازة، وسجود القرآن، على اختلاف أحكامها من فرض على الأعيان، وعلى الكفاية (¬1)، وسنة، ونفل، وكالطواف بالبيت. كل هذا لا يجوز (¬2) إلا مع التطهر من الحدث. فقصده استباحة واحدة كقصده استباحة جميعه. قال الشيخ وفقه الله: يتعلق بهذا الفصل خمسة عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - ما النية؟. 2 - وما أقسامها؟. 3 - وما أحكامها؟. 4 - وما الغرض بها (¬3)؟. 5 - ولم كان القصد لاستباحة فعل معين يتضمن رفع الحدث يكتفى به؟. 6 - وهل يؤثر أن يضيف إلى ذلك القصد إلى أن لا يستبيح غيره؟. 7 - وهل يجزى أن يكون هذا الفعل يستحب الطهارة فيه من غير إيجاب؟. 8 - وهل يكتفى بقصد الطهارة خاصة؟. 9 - وهل يكتفى بقصده رفع حدث واحد؟. 10 - وهل يؤثر أن يضيف إلى ذلك القصد (¬4) إلى/ أن لا يرفع غيره؟. 11 - وهل تفيد نية وقع فيها اشتراك بين القربة وغيرها؟. 12 - وما محل النية الخلقي؟. ¬

_ (¬1) كفاية في نسخة الغاني. (¬2) لا يجزي إلا بعد في نسخة الغاني (¬3) منها. الغاني. (¬4) إلى هنا توقف تتابع النص. وانتقل الناسخ إلى قوله أن الغسل الواجب الوارد في الجواب عن السؤال العاشر. ثم وجدت في صفحة 16 سطر 12 بقية الأسئلة بما يلتئم به الكلام ويستمر إلى نهاية ص 18. ثم يتصل النص ابتداء من ص 39.

13 - وما محلها الشرعي؟. 14 - وهل يلزم استصحابها في العبادة ذكرًا أو حكمًا؟. 15 - وفي أي الطهارات تجب؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما النية فهي القصد إلى الشيء والعزيمة عليه، ومنه قول الجاهلية: "نواك الله بحفظه" أي قصدك به. قال الشاعر: إلى الله أشكو نية شقت العصا ... هيِ اليوم شتى وهي أمس جميع وذكر القاضي النية مطلقًا. وفسرها: بأنها القصد لما يلزم من رفع الحدث. وإنما أراد النية التي تجب على المتطهر. ولم يقصد تحرير العبارة عنها كما يجب. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما أقسامها فإنها على قسمين: مفردة ومركبة. فالمفردة أن ينوي القربة خاصة/، أو الطهارة خاصة، أو رفع الحدث خاصة، أو استباحة ما منعه الحدث خاصة. والمركبة أن يقصد إلى رفع الحدث والتقرب معًا. أو ما أشبه ذلك. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما أحكامها فكثيرة. وأنت تمر عليها في جواب هذه المسائل. فإنها كلها من أحكام النية. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الغرض بها فتخصيص الفعل ببعض أحكامه وأوصافه. ألا ترى أن الساجد لله، والساجد للصنم في الصورة سواء. وإنما كانت إحدى السجدتين طاعة والأخرى معصية بالقصد والنية. فلهذا قال عليه السلام: الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرىء ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه (¬1). فنبّه - صلى الله عليه وسلم -: على أن الفرق بين الهجرتين مع تساوي الصورتين، النية والقصد. وهذا واضح. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما قصده باستباحة فعل معين لا ¬

_ (¬1) متفق عليه.

يستباح إلا بطهارة. فإنه إنما (¬1) اكتفى بهذه النية واستباح سائر ممنوعات الحدث. لأنا لو لم نقل بذلك لأدى إلى التناقض، لأن من يتوضأ ليستبيح الصلوات المفروضة فمعلوم أنه لا يستبيحها إلا بعد ارتفاع حكم الحدث. فلو قلنا: إنه لا يستبيح غير الصلوات لم نقل ذلك إلا لأن حدثه باق. وقد قدمنا أنه ارتفع. وهذا يؤدي إلى جمع النقيضين وهو محال. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما إن أضاف المقاصد لاستباحة فعل معين، القصد إلى أن لا يستبيح غيره، كمن توضأ ليصلي الظهر خاصة لا يصلي غيرها، فقد اختلف فيه. فقال: بعض أصحاب الشافعي لا يستبيح به شيئًا أصلًا، لا الصلاة التي قصدها ولا غيرها مما لم يقصده. وقال ابن القصار تتخرج المسألة على القولين في رفض الوضوء فإن قلنا أنه يؤثر استباحة الصلاة التي قصدها دون ما سواها. وإن قلنا إنه لا يؤثر استباحة تلك الصلاة وما سواها. فوجه القول الأول أن قصده إلى أن لا يستبيح ما سوى هذه الصلاة، قصد (¬2) لبقاء حدثه، وكأنه قصد إلى أن هذا الوضوء إنما يوقعه لا لرفع الحدث فلم يعتد به أصلًا، وكان وجوده كعدمه. ووجه القول بأن يستبيح تلك الصلاة وغيرها أنه قصد استباحة صلاة، وذلك يتضمن رفع الحدث، إذ لا تستباح صلاة إلا بارتفاعه. فإضافته إلى هذا أنه لا يستبيح غيرها لغو. لكونه من الاعتقادات المخالفة لقاعدة الشرع في هذا. ووجه القول بأنه يستبيح تلك الصلاة دون غيرها، قوله عليه السلام: "وإنما لامرئ ما نوى" (¬3) وهذا نوى استباحة صلاة بعينها دون غيرها فوجب أن يكون له ما نوى. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما قصده بوضوء ما لا تجب الطهارة فيه، ولكنها تستحب كقراءة القرآن من غير مس المصحف. فإن فيه قولين: أحدهما وهو المشهور أن حدثه لا يرتفع. لأن ذلك الفعل الذي قصد إليه يصح فعله مع بقاء الحدث، فلم يتضمن القصد إليه القصد برفع الحدث، ¬

_ (¬1) فإنما في -ق-. (¬2) خبر أن قصده. (¬3) متفق عليه.

كما يتضمنه القصد إلى ما تجب الطهارة فيه. والثاني أن حدثه يرتفع لأنه مستحب له في الشرع أن يرفعه إذا أراد الشروع في هذا الفعل. فكأنه قصد إلى ما استحبه الشرع من رفع الحدث. والقصد إلى رفع الحدث هو المطلوب. والقول الأول أصح في النظر. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما قصده للطهارة المطلقة، فإن ذلك لا يرفع حدثه لأن الطهارة على قسمين: طهارة نجس، وطهارة حدث. فإذا قصد قصدًا مطلقًا وأمكن انصرافه لطهارة النجس، لم يرتفع به الحدث. وإن قصد الطهارة من الحدث، وهو معنى القصد برفع الحدث فوجب أن يعتد به في رفع الحدث. والجواب عن السؤال التاسع والعاشر، مأخوذ من الجواب عن السؤال (¬1) الخامس والسادس المتقدمين. وذلك أن من بال وتغوط، فقصد بوضوئه رفع حكم البول. فإن الغائط يرتفع* (¬2) لأنا لو لم نقل ذلك لأدى إلى التناقض، وإلى الجمع بين القول بأن حدثه [ارتفع ولم يرتفع] (¬3) وأما ارتفاعه فمن حيث (.....) * (¬4) وبقاؤه من حيث لم يرفع حكم الغائط وهذا نحو ما قلناه فيمن قصد استباحة الصلوات. وكذلك إذا قصد لرفع حكم البول، وقصد أن لا يرفع حكم الغائط، فإنه تجري فيه الثلاثة الأقوال التي قدمناها، فيمن قصد بوضوئه (¬5) استباحة صلاة بعينها دون غيرها. وما ذكرناه من التوجيه للأقوال هناك يجري ها هنا. وهذا مع تساوي موجبات الأحداث، أو دخول موجب أحدها في الآخر، كالبول والغائط والحدث الأصغر والأكبر. فإن البول والغائط ممنوعاتهما متساوية. والطهارة ¬

_ (¬1) يتصل أول ص 39 - بنهاية ص 18 - وما بينهما اختلطت فيه الأوراق على الناسخ فنقلها كما صادف له أن جمعها. (¬2) ما بين النجمتين ساقط من -ح-. (¬3) مقدار ثلاث كلمات هو من نسخة -ب-. (¬4) هو. ولعله رفع حكم الغائط. (¬5) بالوضوء في -ق-.

الواجبة عنهما متساوية. فكان القصد برفع أحد المحدثين يغني عن القصد لرفع الآخر. وكذلك الحدث الأصغر الذي هو البول وشبهه مع الحدث الأكبر الذي هو الجنابة وشبهها، فإن القصد لرفع الحدث الأكبر وهو الجنابة يغني عن القصد لرفع الحدث الأصغر الذي هو البول. لأن الواجب عن البول غسل أعضاء، هي بعض الجملة التي يجب غسلها في الجنابة. وجميع ممنوعاته هي بعض ممنوعات الجنابة أيضًا. وهل يغني القصد لرفع الحدث الأصغر عن الأكبر كمن تيمم للحديث الأصغر ثم ذكر أنه جنب؟ فيه قولان: أحدهما أنه يرفع أحكام الجنابة. والثاني أنه لا يرفعها. فوجه القول بأنه يرفعها: أنه بقصده (¬1) رفع حكم الحدث الأصغر، قصد رفع بعض ممنوعات الجنابة. ومن قصد رفع بعض ممنوعات الحدث ارتفع له جميعها كمن توضأ ليصلي فإنه يستبيح به سائر الممنوعات كما تقدم. ووجه القول بأنه لا يرفعها انفرادها بممنوعات تختص بها دون الحدث الأصغر. فكانت في معنى العبادات المختلفة التي لا ينوب بعضها عن بعض وأيضًا فإن الحدث الأصغر يسقط حكمه مع الحدث الأكبر إذا اجتمعا فإذا نواه خاصة فقد نوى أمرًا ساقطًا وقصد إلى ما لا يجب عليه، فلم يغنه فيما وجب عليه. وعلى هذا يتخرج القول فيمن غسل أعضاء الوضوء المفروضة بنية الحدث الأصغر، ثم ذكر أنه جنب بفور ذلك. فهل يبنى غسل الجنابة على ما غسل من هذه الأعضاء أم يستأنف؟ يتخرج على القولين المتقدمين في التيمم. ولأجل هذا المعنى أيضًا وقع الخلاف في الحائض الجنب إذا تطهرت للجنابة ناسية للحيضة. ويتخرج فيها اختلاف إذا تطهرت للحيضة ناسية للجنابة على قولين أحدهما أن حكم المحدثين يرتفع والآخر أنه لا يرتفع. فوجه القول بارتفاعه في المسألتين أن الغسل الواجب عن هذين المحدثين واحد. وممنوعاتهما تتماثل. وانفراد الحيض بأنه يمنع من الوطء، وانفراد الجنابة بأنها تمنع من قراءة القرآن، على أحد القولين، في إباحة القراءة ¬

_ (¬1) يقصد في الأصل. والصواب ما أثبتناه.

للحائض، إذا حمل قول أصحابنا على إطلاقه في الإباحة، وإن ارتفع الدم. فإن هذا الانفراد الذي انفرد به كل واحد من هذين المحدثين، لا يمنع من ارتفاعه بالقصد (¬1) إلى رفع صاحبه، لأن ممنوعات صاحبه هي أكثر من ممنوعاته. وقد قدمنا أن القصد لرفع بعض ممنوعات الحدث يرفع جميعها. فوجب أن يكفي القصد ها هنا لرفع أحد هذين المحدثين، لكون ممنوعات أحدهما مثل ممنوعات الآخر. ووجه القول بأنه لا يرتفع. أن كل واحد من هذين المحدثين لما اختص بنوع ينفرد به، صار في معنى المخالف للآخر، فلم يجزئ القصد لأحدهما عن القصد للآخر، لمخالفة أحدهما للآخر. ومن هذا النمط اختلاف أصحابنا فيمن تطهير للجمعة ناسيًا للجنابة، أو للجنابة ناسيًا للجمعة. فهل ينوب القصد لأحدهما عن الآخر أم لا؟ في ذلك قولان. فوجه القول: بأن ذلك لا ينوب، أن سبب طهارة الجنابة رفع الحدث، وسبب غسل الجمعة تطييب الرائحة والنظافة. فلما اختلف سبب العبادتين صارا في معنى المختلفتين (¬2) في أنفسهما لا سيما مع كون غسل الجنابة فرضًا، وغسل الجمعة نفلًا. وهذا غاية الاختلاف. ووجه القول بأنه ينوب: أن غسل الجمعة شرع للنظافة، ثم يخاطب به من كان نظيفًا. فدل أن هذا السبب لا يراعى ولا يوجب اختلاف أبي ن العبادتين. فإذا تطهير للجنابة فقد حصلت النظافة التي هي السبب في غسل الجمعة إن راعينا هذا السبب. فوجب أن نكتفي به بحصول الغرض (¬3) من الطهارة الأخرى. وإن اغتسل للجمعة ناسيًا للجنابة فإن نيته كالمتضمنة لرفع الحدث. لأن المكلف لا يقصد إلى النفل إلا وهو يعتقد أن الفرض حينئذ حاصل. فصارت نية الفرض كالمذكورة حينئذ. فاكتفى بهذا القدر (¬4) فيها. ¬

_ (¬1) إلى هنا من ص 40 سطر 12 من النسخة الحمزاوية انقطع وصل الكلام. وتمامه في ص 12 سطر 17. (¬2) المختلفتين في -ق-: والمختلف في -ح-. (¬3) نكتفي له بحصول الفرض. في -ح-. (¬4) العذر. في الأصل والصواب ما أثبتناه.

ومن هذا النمط الذي نحن فيه أيضًا (¬1)، وقع الاختلاف فيمن جمعهما في نية واحدة (¬2). فاغتسل للجمعة والجنابة معًا. فقيل تجزئه لأن المطلوب من غسل الجمعة النظافة، وهي حاصلة بغسل الجنابة، وان لم يقصد إليها. فإضافته القصد إليها إلى قصد غسل الجنابة لا يضر، لما كان أمرًا حاصلًا وإن لم يقصد، وقيل لا يجزيه لاختلاف أحكامهما بالفرض والنفل، وأسبابهما بالحدث والنظافة، فلم يصح الجمع بين ما اختلف هذا الاختلاف. ومن هذا النمط أيضًا اختلاف الناس فيمن نوى بوضوئه التبرد ورفع الحدث معًا. فقيل يجزيه ويرتفع حدثه لأن التبرد حاصل بمباشرته الماء البارد أراد ذلك أو لم يرده. فإضافته القصد إلى ذلك، إلى قصد رفع الحدث لا يضر، لما كان أمرًا حاصلًا على كل حال أراده أو لم يرده. وقيل لا يجزيه لأنه مطلوب بأن يكون السبب الباعث له على إيقاع العبادة (¬3) هو الوجه المشروع. وتحصيل الفرض الذي ألزم تحصيله. فإذا بعثه على ذلك سبب آخر غير مشروع، وجب أن يكون له كله على حسب ما قال عليه السلام: لقول الله سبحانه: {من عمل عملًا أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا أغني الشركاء عن الشرك} (¬4). وقد اشتمل هذا الفصل على مسائل خارجة عما أثبتناه من العدد في أول الفصل. وإنما أثبتناها ها هنا لأجل دورانها كلها على معنى واحد. فرأينا أن ربط بعضها ببعض ها هنا أربط لها بالحفظ. والجواب عن السؤال الحادي عشر: وهو هل تفيد نية وقع فيها اشتراك؟ ¬

_ (¬1) أيضًا ساقطة من -ح-. (¬2) في نيته في -ح-. (¬3) ساقطة من -ح-. (¬4) أخرجه ابن ماجة. وأحمد عن أبي هريرة. أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عَزَّ وَجَلَّ. أنه قال: أنا أغني الشركاء فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك. ورواه مسلم بسنده إلى أبي هريرة أنا أغني الشركاء عن الشرك. من عمل عملًا أشرك فيه غيري تركته وشركه.

قد تقدم ها هنا وهو القول فيمن قصد بوضوئه رفع الحدث والتبرد معًا فأغنى ذلك عن إعادته. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما محلها الخلقي فاختلف الناس فيه، فمذهب أكثر أهل الشرع وأقل أهل الفلسفة أنه القلب. ومذهب أكثر أهل الفلسفة وأقل أهل الشرع أنه الدماغ، وهذا أمر لا مدخل للعقل فيه، وإنما طريقه السمع وظواهر السمع تدل على صحة القول الأول. وذلك مذكور في علوم أُخر. والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: أما محلها الشرعي، فإنه افتتاح العمل الذي شرعت فيه. وإنما كان ذلك كذلك لأن الغرض بها تخصيص (¬1) العمل ببعض أحكامه على ما قدمنا. وهذا لا يحصل إلا بمقارنتها له. وهل يراعى ابتداء العمل المفروض أو ابتداؤه المشروع وإن لم يكن مفروضًا.؟ اختلف فيه. فقيل: يراعى ابتداؤه المشروع وإن لم يكن مفروضًا. وهو مذهب القاضي أبي محمَّد في هذا الكتاب. لأنه قال: ويبدأ المتوضئ بعد النية بغسل يديه. فأخبر أن محلها عند غسل اليدين، وغسل اليدين ليس بفرض. وقيل بل يراعى ابتداؤه المفروض. وهو قول الشافعي، وظاهر قول بعض أصحابنا. فيكون محلها عند غسل الوجه. فوجه القول الأول أن العبادة ذات الأجزاء تجري أجزاؤها مجرى جزء واحد. ألا ترى أن النية عند أولها تغني عن استصحابها ذكرًا في سائرها. لأنها قدرت كالجزء الواحد، فكذلك غسل اليدين لما شرع في الوضوء، وصار جزءًا من أجزائه، اكتفي بإيقاع النية عندهما. ووجه القول الثاني أن المعتبر في العبادة (¬2) هو المفروض منها الواجب. والإخلال به يفسد العبادة. والإخلال بالنافلة لا يفسدها فكان الواجب إيقاع النية عند غسل الوجه، الذي هو ابتداء المفروض. لأن المقصود في العبادة هو وما ¬

_ (¬1) تحصيل في -ح-. (¬2) العبادات في -ق-.

سواه من الفروض. فوجب أن يوقع القصد عند المقصود. فإن قدمها على ابتداء العمل الذي أمر بأن يوقعها فيه، فهل يعتد بها أم لا؟ لا يخلو ذلك من قسمين: أحدهما أن يقدمها بالزمن البعيد. والآخر أن يقدمها بالزمن القريب. فإن قدمها بالزمن البعيد فإنها لا تؤثر، ولا يعتد بها من غير اختلاف. ووجه ذلك: أن الغرض بها تخصيص الفعل، وإيقاعه على جهة التقرب. فإذا قدمت عليه بالزمن البعيد، فقد وقع عاريًا منها. فوجودها كعدمها. وإن قدمها بالزمن القريب في الطهارة ففيه قولان: أحدهما: أن ذلك لا يجزيه، وهو الأصح في النظر؛ لأن النية عرض، والعرض لا يبقى عند أهل الأصول. فقد حصل من ذلك وقوع الفعل عاريًا عنها. فلا فرق بين تقدمها بزمن بعيد أو قريب (¬1)، لأن الفعل وقع عاريًا عنها في الحالين. وقيل أنه يجزيه لأن ما قارب الشيء حكمُه حُكمُه. فإذا أوقع النية قبل الشروع في العبادة بالزمن القريب، ثم ذهل عنها، ثم أوقع العمل بفور ذلك، قدر أن النية مصاحبة له بكونها قريبة منه. والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: أما استصحابها فلا يلزم ذكرًا، وإنما يستصحب حكمًا. لما قدمناه من أن العبادة ذات الأجزاء، أنزلت منزلة العبادة التي هي جزء واحد. فقدر أن النية الواقعة في ابتداء الأجزاء مصاحبة لسائر الأجزاء، وإذا ثبت أنه لا يلزم استصحابها ذكرًا، وإنما يلزم حكمًا، فاستصحابها حكمًا إنما يصح أيضًا ما دام العمل متصلًا بعضه ببعض. فلو طال انفصال ما بين أجزائه لافتقر الجزء المستأنف إلى نية تجدد له. كمن ذكر عضوًا من أعضاء الطهارة بعد انفصاله عن الطهارة بالزمن الطويل، فإنه يجدد نية عند غسله. وكذلك من خلع خفيه وشرع في غسل رجليه. وإنما كان الأمر هكذا في الاكتفاء باستصحابه حكمًا؛ لأنه يشق على المكلف أن يبقى سائر نهار صومه ذاكرًا للنية، لا يذهل عنها طرفة عين. هذا لا يتأتى منه في غالب العادة، فعفي له عنه. وكذلك الأمر في الطهارة، والصلاة، والحج، وسائر العبادات، ¬

_ (¬1) ولا قريب في -ق-.

أجريت مجرى واحدًا (¬1) (¬2) وإن كان مشقة ذلك في بعضها أشد من مشقته في بعض. وهل يذهب حكم الاستصحاب عما فعل من بعض أجزائها ولم يكمل؟. اختلف الشيخان رضي الله عنهما أبو محمَّد وأبو الحسن في تأويل مسألة المدونة فيمن مس ذكره في غسله من جنابته بعد أن غسل أعضاء وضوئه. هل عليه إذا أعاد غسل أعضاء وضوئه تجديد نية أم لا؟ قال أبو محمَّد يجدد النية، وقال الشيخ أبو الحسن ليس ذلك عليه. وسبب اختلاف الرجلين: اختلاف المذهب في ارتفاع حكم الحدث عن الأعضاء المغسولة قبل إكمال الطهارة. فقد قيل فيمن غسل بعض أعضاء وضوئه أن حكم الحدث قد ارتفع عنها قبل إكمال وضوئه، وقيل لا يرتفع عنها حتى يكمل وضوءه. ومن هذا، الاختلاف المشهور فيمن توضأ، وغسل رجله اليمنى، وأدخلها في الخف، ثم غسل اليسرى، وأدخلها في الخف. هل يمسح على خفيه إذا أحدث أم لا؟ في ذلك قولان: فمن اعتقد أن حكم الحدث قد ارتفع عن الرجل اليمنى قبل إكمال الطهارة مسح عليهما، لأنه أدخلها في الخف بعد أن حكم بارتفاع الحدث عنها ومن لم يحكم بارتفاع الحدث عنها لم يمسح عليهما لأن من شرط المسح لبسه على طهارة. فإذا قلنا أن حكم الحدث ارتفع عن الأعضاء المغسولة قبل إكمال الطهارة، وجب صحة ما قاله الشيخ أبو محمَّد، لأن حدث الجنابة قد ارتفع عنه، فمسه لذكره بعد ارتفاع حكم حدث الجنابة عنها، يحوجه إلى تجديد نية الطهارة الصغرى. وإن قلنا إن حكم حدث الجنابة باق على الأعضاء المغسولة، لم يحتج إلى تجديد نية الطهارة الصغرى، لأن الجنب ليس عليه أن ينوي الطهارة الصغرى. فعلى هذا يتخرج اختلافهما، ولكن يتفقد في ذلك أصل آخر، وهو كون المتوضئ والمغتسل يقصد بتكرير الغسل الفرض. فإذا صح هذا القصد صح ما قلناه من التخريج على هذا الأصل. وقد رأيت في كلام ¬

_ (¬1) الإقحام المنبه عليه سابقًا في ص 21 - ومكانها في نسخة ح ص 40 سطر 13. (¬2) اتصال النص من ص 40 س 13.

الأشياخ المتأخرين على هذه المسألة تنازعًا فيه (¬1)، لو مس ذكره بعد إكمال غسله. وحكم المجلس باق عليه. فقال بعضهم: إنه لا يفتقر إلى نية على طريقة الشيخ أبي الحسن؛ لأن حكم النية كما يستصحبه على آخر العبادة، يستصحب حكمه ما دام بحكم الفور. وأشار بعضهم إلى أنه لا يختلف فيه إذا كان قد أكمل غسله، أنه يفتقر إلى نية مجددة لسقوط فرض الطهارة الكبرى عنها، فلا يستصحب حكم ما سقط. ومن العجيب ها هنا أنه قد يسبق إلى اللهم أن مذهب الشيخ أبي محمَّد أحوط في التزام النية، وليس الأمر كذلك، فإن الشيخ أبا الحسن إذا كان مذهبه الاستغناء عن تجديد النية، فإن تجديده ابن ية الحدث الأصغر يمنع من الأجزاء، على طريقة من قال: إن النية للحديث الأصغر لا تنوب عن النية للحديث الأكبر. وقد كنا قدمنا الاختلاف في ذلك وتوجيهه. فقد صار على هذه الطريقة إثبات النية مانعًا من الأجزاء وإسقاطها به يصح الأجزاء عند من التزم هذه الطريقة ولم يعرج على الاختلاف فيها. والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: الطهارة على قسمين. طهارة عينية وهي طهارة النجس، وطهارة حكمية، وهي طهارة الحدث وما في معناها. فأما طهارة النجس فأنها لا تفتقر إلى نية لأنها من باب التروك، فأشبهت ترك الزنى، واللواط، والسرقة. فإن ذلك لا يفتقر إلى نية. وأما طهارة الحدث فأنها تفتقر إلى نية، إن كانت طهارة بالتراب. وإن كانت طهارة بالماء، فالمشهور أنها تفتقر إلى نية أيضًا. وحكي عن مالك أن الوضوء لا يفتقر إلى نية. ويتخرج على هذه الرواية الغسل. فوجه إثبات النية في طهارة الحدث على الجملة. قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ/ (¬2) فَاغْسِلُوا} (¬3) مفهومه للصلاة. والغسل للصلاة هو معنى النية التي بيناها. وقوله عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات" وقياسًا على الصلاة. ووجه الرواية الثانية أنه عليه السلام توضأ وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (¬4) ولم يذكر النية ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب فيما. (¬2) من هنا تبدأ نسخة المكتبة الوطنية. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) عن ابن عمر قال: توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله =

فيه. وأما غسل الجمعة، فهل يفتقر إلى نية أم لا؟. يتخرج على قولين (¬1)، أحدهما وهو الظاهر من المذهب أنه يفتقر إلى نية. لأنها طهارة حكمية، وليس المطلوب بها في حق كل مكلف إزالة عين. لأنها وإن كان سبب الخطاب بها النظافة، وإزالة الأرياح الكريهة، فقد يخاطب بها من لا رائحة عنده يزيلها، فألحقت بحكم طهارة الحدث التي لا يزال بها عين. ولهذا منع في أحد القولين من أن يغتسل لها بماء الورد، أو الماء المضاف الذي لا تجزئ الطهارة به. والثاني أنها لا تفتقر إلى نية؛ لأن سببها في أصل الشرع، إزالة الأرياح الكريهة فألحقت بطهارة النجاسة التي الغرض بها أيضًا إزالة عين. فلم يفتقر إلى نية. ولهذا (¬2) جاز في أحد القولين الاغتسال لها بالماء المضاف. وأما غسل الذكر من المذي فهل يفتقر إلى نية أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أنه يفتقر إلى نية لأنه غسل، تعدى محل مقتضيه الذي هو المذي المختص برأس الذكر. فوجب أن يفتقر إلى نية قياسًا على طهارة الحدث، التي تعدت محل مقتضيها أيضًا. ألا ترى أن البول محله الذكر، وتجب عنه طهارة أعضاء كثيرة. وكذلك المذي محله رأس الذكر، والواجب عنه في المشهور غسل جميع الذكر. والثاني أنه لا يفتقر إلى نية، لأن سبب الخطاب به إزالة عين* المذي. والطهارة التي يزال بها عين لا تفتقر إلى نية. وكذلك غسل اليدين في افتتاح الوضوء يتخرج أيضًا على قولين أحدهما أنه يفتقر إلى نية لأن غسلهما ليس الغرض به إزالة عين * (¬3) وإنما هي طهارة حكمية على مذهب ابن القاسم فتفتقر إلى نية قياسًا على طهارة الحدث، والثاني أنه لا يفتقر إلى نية لأن سبب الخطاب به إزالة ما أمكن علوقه باليدين ¬

_ = صلاة إلا به - أخرجه ابن ماجة - 411 - وانظر إرواء العليل ج 1 ص 125. (¬1) القولين -و-. (¬2) من هنا يتتابع النص بالنسخة ح - فيكون ما بين ص 40 وص 42 قد اختلط في النسخة المنسوخ منها. (¬3) من قوله المذي إلى قوله إزالة عين ساقط من ح.

حال النوم أو غيره على أصل أشهب. والطهارة التي (¬1) تزال بها عين لا تفتقر إلى نية. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وأما الوجه فالفرض إيعاب جميعه، وحَدُّه ما انحدر من منابت شعر الرأس إلى آخر الذقن للأمرد (¬2)، واللحية للملتحي طولًا. وما دار (¬3) عليها من العذارين عرضًا فإن كان عليه شعر لزم إمرار الماء عليه، ثم ينظر: فإن كان كثيفُ اقد ستر البشرة سترًا لا تتبين معه، انتقل الفرض إليه، وسقط فرض إيصال الماء إلى البشرة. وإن كان خفيفًا تتبين (¬4) منه البشرة، لزم إمرار الماء عليه وعلى البشرة. وسواء في ذلك أن يكون على خد، أو شفة، أو حاجب، أو عذار، أو عنفقة. ويلزم فيما انسدل من (¬5) البشرة كلزومه فيما تحته بشرة. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل حده للوجه صواب أم لا؟. 2 - وهل اللحية من الوجه أم لا؟. 3 - وهل يجب تخليلها؟. 4 - وهل البياض الذي بين الصدغ والأذن (¬6) من الوجه أم لا؟. 5 - ولم نبه عن (¬7) العنفقة والحاجب؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما حده للوجه بأنه ما انحدر من منابت شعر الرأس ففيه تعقب. لأن الأغم والأصلع لا يلزمهما البداية في غسل الوجه من منقطع شعر الرأس. لأنا لو كلفناهما ذلك لأمرنا الأغم أن ¬

_ (¬1) في نسخة -ح- لا تزال. (¬2) وآخر اللحية. الغاني. (¬3) وما زاد في -و-. (¬4) تبين -الغاني-. (¬5) عن -الغاني-. (¬6) الأذن والصدغ في -و-. (¬7) على في -ح-.

يقتصر على غسل (¬1) بعض جبهته، والأصلع (¬2) أن يغسل بعض رأسه، وذلك لا يصح. فالواجب أن يقال: ما انحدر من منابت شعر الرأس المعتاد، ليسلم الحد من هذا التعقب. وهو الذي أراد رحمه الله. ولكنه حذفه ظنًّا أنه يفهم عنه. وكذلك حده بما انحدر: لفظة فيها إيهام. ولكن مقصده منها مفهوم. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في اللحية، فذهب الجمهور من أصحابنا إلى أنها من الوجه؛ لأنها مما يواجه بها. وذهب الأبهري إلى أنها ليست منه. لأن الوجه قبل ظهورها يسمى وجهًا. وقد كانت له هذه التسمية قبل ظهورها. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما تخليلها ففيه ثلاثة أقوال: 1 - الكراهة لأن ذلك من التعمق في الدين ولئلا يظن أن ذلك مشروع. 2 - والوجوب لأن البشرة كان يجب إيصال الماء إليها قبل ظهور الشعر فكذلك بعد ظهوره. وقد روي عنه عليه السلام: أنه كان يخلل لحيته (¬3). 3 - والاستحباب ليسلم (¬4) من الخلاف. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف في البياض الذي بين الصدغ والأذن على ثلاثة أقوال فقيل هو من الوجه، يجب غسله معه. لأن المواجهة تقع به. وقيل ليس من الوجه. لأن المواجهة لا تقع به. وقيل هو من الوجه فيمن لا شعر بخده؛ لأنه يواجه به (¬5)، ومن بخده الشعر ليس هو من وجهه لأنه لا يواجه به. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: نبه على العنفقة وما ذكر معها. لأن ¬

_ (¬1) ساقطة من -و-. (¬2) الأقرع في -ح-. (¬3) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلل لحيته. الترمذي وصححه وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم. والدارقطني وابن حبان. (¬4) أن يسلم في -ح-. (¬5) منه في -و-.

بعض أصحاب الشافعي ذهب إلى افتراق حكم هذه المواضع فنبه على مخالفته له. قال القاضي رحمه الله: وأما اليدان ففرض غسلهما إلى استيفاء المرفقين مع (¬1) تخليل أصابعهما. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة منها أن يقال: 1 - هل يجب غسل المرفقين؟. 2 - وهل يجب تخليل أصابع اليدين؟. 3 - وهل يجب تحريك الخاتم؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: في إيجاب غسل المرفقين خلاف، فوجه إثباته أن أبا هريرة توضأ وأدار الماء عليهما، ثم قال: *عند كمال وضوئه* (¬2) هكذا توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه عليه السلام قال: "تأتونني يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء. فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل" (¬3). وهذا من مليح استعارته - صلى الله عليه وسلم - وبليغ اختصاراته؛ لأن الغرة في الوجه والرأس، والتحجيل في اليدين والرجلين. وهو (¬4) لون يخالف لون الفرس. فاستوفى - صلى الله عليه وسلم - الأربعة الأعضاء المذكررة في القرآن، التي هي جملة الوضوء المفروض بذكره الغرة والتحجيل. وأشار إلى النور المخلوق في هذه الأعضاء المخصوصة بالتطهير، وأنها تتميز عن بقية البدن بذلك تشريفًا لها. وفي وأمره بإطالة الغرة ما يقتضي الأمر بدخول المرفقين في الغسل. ووجه نفيه أنه سبحانه ¬

_ (¬1) على في نسخة الغاني-. (¬2) ما بين النجمتين ساقط من -و-. (¬3) عن بريدة قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضوء فتوضأ واحدة واحدة. فقال هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به. ثم توضأ ثنتين ثنتين فقال هذا وضوء الأمم قبلكم ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا فقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي. رواه الطبراني في الأوسط وفيه ابن لهيعة. مجمع الزوائد ج 1 ص 231. أخرجه مسلم وأحمد عن نعيم بن عبد الله المجمر - ولفظ مسلم إن أمتي يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من أثر الوضوء. فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل. (¬4) وهي في -ح-.

قال: وأيديكم إلى المرافق (¬1). وأصل إلى في اللغة الغاية. وإذا كانت المرفقان (¬2) غاية (¬3) الذراعين لم يكونا منه، لأنهما لو كانا منه لكانت الغاية غيرهما. وهذا خلاف الظاهر (¬4). وقد قال بعض من نفى الوجوب أن إدخال المرفقين في الغسل مستحب. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في تخليل أصابع اليدين فقيل يجب؛ لأن الغسل عبارة عن مرور الماء *واليد* (¬5). وذلك لا يحصل إلا بالتخليل. ولأنه عليه السلام قال: "إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك" (¬6). والأمر عند أكثر الفقهاء على الوجوب. وقيل يستحب، لأن حركة كل أصبع على ما يليه، تغني عن حركة أصبع آخر من اليد *الأخرى* (¬7) فلم يكن للوجوب معنى. ولكن يستحب ذلك لأجل الحديث وليسلم من الخلاف. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في تحريك الخاتم على ثلاثة أقوال. فقيل: بإثباته سواء كان الخاتم ضيقًا أو واسعًا. لأن بذلك يحصل حقيقة الغسل، الذي هو مرور الماء والدلك. وقيل بنفيه لأن الماء جوهر (¬8) لطيف يمر من تحت الخاتم، وإن كان ضيقًا. وقد قال بعض أصحابنا: يتخرج على هذه الرواية سقوط التدلك في الغسل، والاكتفاء بمرور الماء خاصة. وقال بعضهم ليس الأمر كذلك. وإنما استغني بمرور الماء ها هنا؛ لأنه ملبوس يستدام لبسه، فلم يلزم غسل ما تحته كالخفين. وقيل بإثباته إن كان ضيقًا وبنفيه إن (¬9) كان واسعًا؛ لأن الواسع ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) المرفقين في -ح- على الحكاية. (¬3) نهاية في -و-. (¬4) الظواهر في -و-. (¬5) واليد ساقطة من -و-. (¬6) أخرجه الترمذي وابن ماجة وأحمد والحاكم عن ابن عباس. (¬7) ساقط من -و-. (¬8) جوهره -ح-. (¬9) إذا -و-.

يتحرك، وإن لم يقصد إلى تحريكه بخلاف الضيق. قال القاضي رحمه الله: وأما الرأس فهو ما صعد عن الجبهة إلى آخر القفا طولًا. وإلى الأذنين عرضًا. واختلف في الأذنين، هل هما منه حقيقة أو حكمًا؟. فمن أوجب مسحهما عدهما منه. ومن لم يوجب (¬1) عدهما زائدتين عليه. والاختيار في صفة مسح الرأس أن يبدأ بيديه من مقدمه، ثم يمر بهما إلى مؤخره. ثم يردهما إلى حيث بدأ. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة منها أن يقال: 1 - هل الواجب مسح الرأس كله أو بعضه؟. 2 - وهل يلزم مسح ما انسدل منه؟. 3 - وهل يجزئ غسله عن مسحه؟. 4 - *وهل يكتفي في مسحه بما في اليدين من بلل، أو لا بد من استئناف بلل آخر* (¬2)؟. 5 - وهل يكتفي ببلل الرأس أو لا بد من بلل اليدين؟. 6 - وما وجه الخلاف في الأذنين؟. 7 - وما وجه اختياره في صفة المسح، الصفة التي ذكر؟. 8 - وهل حكم المسح يسقط بحلق (¬3) الشعر أم لا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما المشهور مذهب من مالك فإن الواجب مسح الرأس كله. وقال ابن مسلمة: إن اقتصر على الثلثين *منه* (¬4) أجزأه. وقال أبو الفرج: إن اقتصر على الثلث أجزأه. وقال الشافعي: إن اقتصر على أقل ما يسمى مسحًا أجزأه. وقدره بعض أصحابه بثلاث (¬5) ¬

_ (¬1) ومن لم يوجب مسحهما -ح-. (¬2) ساقط من -ح-. (¬3) حلق ح. (¬4) ساقط من -ح-. (¬5) ثلاث -ح-.

شعرات. وقال أبو حنيفة في أحد (¬1) قوليه: إن اقتصر على الناصية، وهي ما بين النزعتين أجزأه. وقريب منه روي عن مالك أيضًا. هذا قدر الواجب، وإلا فقد اتفق الجميع على أن الكمال في الإكمال. وأما ما ذكرناه من الأجزاء فإنما يتعلق عندهم بها (¬2) الإجزاء. واعلم أن النظر أحد هاتين. أما حمل الظاهر فهو قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬3): على استيفاء الجملة، ونهاية هذه التسمية. وهو مذهب مالك. والقياس على بقية أعضاء الوضوء. وأما حمل الباء على التبعيض، وقصر الظاهر على أقل ما ينطلق عليه (¬4) وهو مذهب الشافعي. وقد دوفع عن حمله الباء ها هنا على التبعيض، بأنه (¬5) لم يحملها، ولا أحد من العلماء على التبعيض في قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (¬6). وبأنها لو كانت للتبعيض لامتنع تأكيد الجملة بما ينافي التبعيض. فلما حسن أن يقال: امسح برأسك كله، دل أنها دالة على التبعيض. وأما ما قاله ابن مسلمة وأبو الفرج فلا معنى له. لأنا أوضحنا أن النظر إنما يتردد بين مذهبين لا أكثر. ولكن أمثل ما يعتذر به عنهما، أن أحدهما رأى أن أصل المسح التخفيف، وإيجاب الإيعاب ينافي التخفيف. فالقليل يجب أن يعفى عنه، والثلث قليل في مواضع من الشرع. وقد عفي (¬7) عنه ها هنا لقلته. ورأى الآخر أن الثلث في حيز الكثير، لقوله عليه السلام: "والثلث كثير" (¬8). والكثير يصح الاقتصار عليه. مع الرواية أنه عليه السلام مسح بناصيته (¬9) وهي لا تبلغ ¬

_ (¬1) آخر -و-. (¬2) بها عندهم -ح-. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب فهو جواب أما. (¬5) لأنه -و-. (¬6) سورة النساء الآية: 43. (¬7) فعفي -و-. (¬8) متفق عليه من حديث سعد بن أبي وقاص. (¬9) أخرجه مسلم وأحمد من حديث المغيرة بن شعبة.

الثلث. فكان من بلغه أحرى أن يجتزأ به. وهذا الحديث هو حجة أبي حنيفة في اقتصاره على الناصية. وقد دوفع عنه بأنه لما (¬1) مسح على الناصية استكمل بقية الرأس بالمسح على العمامة. فلو كان الاقتصار جازيًا ما تكلف المسح على حائل. وقد روي عن مالك أنه إذا (¬2) اقتصر على مقدم رأسه أجزأه. وفي لفظ هذه الرواية" ما يدل على أنه لا يكتفى بالبعض، إلا أن يكون مقدم الرأس. لأنه قيل له: فلو مسح بعض رأسه هل يجزيه؟ قال (¬3) لا. أرأيت لو غسل بعض وجهه؟ وهذا يشير إلى ما قلناه. وما أظنه ذهب إلى ذلك إلا لحديث الناصية أو ما في معناه من الأحاديث. وقد قال بعض أصحابنا الذاهبون إلى أن الواجب استكمال الرأس بالمسح، إن ترك ما لا يمكنه التحفظ من تركه في (¬4) مسح رأسه ووجهه في التيمم فإنه يكتفى به. ولا معنى عندي لذكر الوجه مع الرأس ها هنا. لأن الرأس كثر الاختلاف فيه كما (¬5) تقدم، وغسل الوجه في الوضوء يجب إيعابه جميعًا (¬6) فكذلك في بدله التيمم. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما مسح ما انسدل عن محل الفرض فإنه على قولين. وهو (¬7) مثل ما انسدل من اللحية. فوجه إثباته، أنه متصل بمحل الفرض فكان حكمه (¬8) حكمه. ووجه نفيه أنه لا يحاذي محل الفرض (¬9) فلم يكن منه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: غسل الرأس يجزئ عن مسحه عند بعض أصحابنا. ووجهه أن المسح تخفيف عن المكلف، فإذا أحب التكلف ¬

_ (¬1) لو -و-. (¬2) أن -و-. (¬3) فقال -و-. (¬4) من -و-. (¬5) لما -ح-. (¬6) إجماعًا -و-. (¬7) وهذا -و-. (¬8) فكان له -ح- (¬9) محلا في -ح- والفرض ساقطة.

بما هو أثقل وأتى به أجزأه، مع أن الغسل فيه معنى المسح وزيادة عليه. فإن لم تنفع الزيادة لم تضر. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: لم يختلف المذهب في أنه لا بد من استئناف بلل لمسح الرأس، ولكنه إن لم يفعل ومسحه ببلل الماء الذي غسل به ذراعيه فإنه يتخرج على قولين في الوضوء بالماء الذي قد توضأ به، وقد احتج للإجزاء ها هنا، بما روي أنه عليه السلام لم يستأنف الماء لمسح رأسه (¬1). والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما مسحه بما حصل على رأسه، فإن بعض أصحابنا منع الاكتفاء به لأنه لا يحصل منه من (¬2) استيفاء المسح ما يحصل بما بقي في اليدين من بلل. وهذا عندي لا يعد فيه الإجزاء عند من رأى من أصحابنا ألَّا معتبر ببقاء البلل في اليدين في جملة مسح الرأس. ومن اعتبره منهم منع مما ذكرناه إذ كان لا يحصل استيفاء المسح بالبلل. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما الأذنان فقد اختلف فيهما، فقيل هما من الرأس يمسحان معه. ووجه هذا ما روي "الأذنان من الرأس" (¬3) وقوله: خرجت الخطايا من رأسه حتى من أذنيه (¬4). وقيل ليستا من الرأس. ومسحهما سنة. ووجهه أن الرأس تسمية (¬5) لجارحة مخصوصة على شكل معلوم. والأذنان ليستا من ذلك الشكل. ولا مما ينطلق عليه التسمية. على أن جماعة من الصحابة الواصفين لوضوء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصفوه ولم يصفوها فيه. وقد اتفقت الأمة على أن من اقتصر على مسحهما دون مسح الرأس فإن ذلك لا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود عن ابن عقيل عن الربيع بنت معوذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه بفضل ماء كان في يده. ورواه أحمد قال: مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه مرتين. (¬2) من ساقطة -و-. (¬3) الأذنان من الرأس رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي أمامة ورواه أحمد عن عثمان. (¬4) رواه مالك في الموطأ. في جامع الوضوء حديث رقم 30. وكذلك أحمد والنسائي. (¬5) تسميته -و-.

يجزيه. مع كون أكثر العلماء على (¬1) القول بالاكتفاء بمسح بعض الرأس. وما (¬2) ذلك إلا لكونهما ليستا من الرأس فتغني (¬3) عنه. وقد ذهب ابن شهاب إلى أنهما من الوجه يغسلان معه، لقوله عليه السلام سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره (¬4) فأضاف السمع إلى الوجه فدل أنه منه. ومن الناس من ذهب إلى أن ما يلي الوجه منهما منه، لأنه (¬5) يواجه به. وما يلي الرأس منه. ولم يختلف المذهب عندنا (¬6) أن الصماخين مسحُهما سنة. وإنما الخلاف فيما برز من الأذنين. وإن ترك مسحهما على القول بأنه فرض فالجمهور على أنه لا يمنعه الأجزاء. وذلك ليسارتهما وكثرة الخلاف فيهما. ومن أصحابنا من أمر معتمد تركهما بإعادة الصلاة، لإخلاله بجزء من الفرض. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما وجه اختياره البداية بما اختاره فلأنه قياس سائر الأعضاء وقد جرى العمل بالبداية بأوائلها. وأول الفعل يجب أن يكون في أول العضو. وقد وسع في البداية بوسطه، لقوله في حديث زيد بدأ بمقدم رأسه فأقبل بيديه وأدبر (¬7) اتباعًا لظاهر هذا الحديث. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما حلق الرأس بعد مسحه فإنه لا يسقط حكم المسح، ولا يوجب إعادته. لأنه حكم قد ثبت، واستقر حكم ¬

_ (¬1) بالقول -و-. (¬2) ما = ساقطة -و-. (¬3) هكذا ولعله فتغنيان عنه. وفي -و- وينفي عنه. (¬4) رواه مسلم من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. قال: وإذا سجد قال اللهم لك سجدت وبك آمنت. ولك أسلمت. سجد وجهي للذي خلقه وصوره. وشق سمعه وبصره. تبارك الله أحسن الخالقين = إكمال الإكمال ج 2 ص 398 وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. (¬5) لكونه -و-. (¬6) ساقطة -ح-. (¬7) حديث زيد أخرجه مالك والبخاري ومسلم وغيرهم - أنه بدأ بمقدم رأسه فأقبل بيديه وأدبر.

طهارة الرأس به، ولم يثبت هذا الحكم لوجود الشعر فيزول بعدمه. وقد خالف في هذا عبد العزيز ابن مسلمة في أحد التأويلين عليه. وراءه كمسح (¬1) الخف الذي يزول حكمه بزواله. والفرق بينهما عندنا أن مسح الرأس أصل لم يثبت بدلًا عن شيء. فيسقط عند حضور مبدله. ومسح الخفين إنما ثبت بدلًا عن غسل الرجلين، فطهور المبدل يسقط حكم بدله (¬2). قال القاضي رحمه الله والفرض في تطهير القدمين غسلهما إلى الكعبين. والكعبان هما العظمان اللذان عند معقد الشراك، وقيل الناتئان في طرف الساق. وهما داخلان في الوجوب. وعلى أقطعهما غسل ما بقي له منهما. بخلاف المرفقين. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها، أن يقال: 1 - ما الدليل على أن الفرض في الرجلين غسلهما لا مسحهما، مع ورود القراءتين بهما؟. 2 - وما وجه قوله أن الكعبين هما العظمان اللذان وصف؟. 3 - وما الدليل على وجوب دخولهما (¬3) في الغسل؟. 4 - ولم اختلف حكم قطعهما مع قطع المرفقين؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في حكم الرجلين، فذهب فقهاء الأمصار إلى أن فرضهما الغسل دون ما سواه. وذهب ابن جرير الطبري وداود إلى أن الفرض تخيير (¬4) المكلف بين غسلهما أو مسحهما. وصار من لا يعتد بخلافه إلى أن المسح هو الفرض دون ما سواه. واعلم أن النكتة في هذا الباب تنحصر إلى رد إحدى القراءتين إلى الأخرى، فيتعين مقتضاها، أو يعجز عن ذلك. فيتعين التخيير. فقراءة النصب ظاهرها العطف على المنصوب المتقدم، وهو الوجه واليدان. فيكون حكمهما كحكم ما ¬

_ (¬1) كحكم -و-. (¬2) مبدله -و-. (¬3) دخول وجودهما -و-. (¬4) تخير -و-.

عطفا عليه. وقراءة الخفض ظاهرها المسح عطفًا على الممسوح المتقدم وهي (¬1) الرأس. فلما تعين (¬2) عند فقهاء الأمصار الغسل لزمهم رد قراءة الخفض إليه، فتلطفوا في ذلك، بأن قالوا: فإن الخفض ليس بعطف ولكنه ورد على الاتباع للمخفوض. و (¬3) على حكم الجواز. وكثير في اللسان الخروج عن (¬4) حكم الإعراب في بعض الألفاظ اتباعًا لها بما تقدم ليتسق الكلام، وأنشدوا في الخفض على الجوار والاتباع أشعارًا يطول إيرادها. واستشهدوا من المنثور بقول العرب: هذا جحر ضب خرب. ورأيت أبا الفتح ابن جني أنكر في كتابه المترجم بالخصائص: أن يكون في هذا الذي استشهدوا به ها هنا خفض على الجوار (¬5) أو الإتباع. وخرج له وجهًا آخر (¬6) سائغًا في صناعة النحو ليس هذا موضع ذكره. ودوفع الفقهاء أيضًا بأن هذا الذي تمثلوا به لا حرف عطف فيه. ولا يخفى على السامع استحالة رجوع الخراب إلى الضب. فلهذا تسامحت العرب فيه. وذكر الرجلين ورد بحرف عطف، فلا وجه لإبطال حكم العطف الظاهر لإعراب يستعمل على جهة النادر. مع أن المسح فيهما ليس بمستحيل. فيعلم السامع باستحالته (¬7) صرف الإعراب عن ظاهر دلالته. فأورد الفقهاء أمثلة خفض فيها، على الجواز مع حرف العطف وهذا نهاية ما لهؤلاء القوم. وأما من تعلق بقراءة الخفض ورأى تعين المسح، فيلزمه أيضًا رد قراءة النصب إليها، فتلطف في ذلك بأن قال: فإن النصب ليس بعطف على الوجه ولكنه عطف على موضع الرؤوس قبل دخول الباء عليها. وموضعها النصب لأنه مفعول تعدى إليه الفعل بحرف جر، فكان التقدير فامسحوا رؤوسكم وأرجلكم. فيتعين فرض المسح. والعطف على الموضع قد استعمل كثيرًا في اللسان وأنشدوا في ذلك ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. والصواب وهو. (¬2) تبين -و-. (¬3) الواو ساقطة -و-. (¬4) على -و-. (¬5) على الجواز أو اتباع في جميع النسخ - ولعل الصواب ما أثبت. (¬6) ساقطة في -ح-. (¬7) استحالة -و-.

أشعارًا يطول ذكرها. فدوفعوا أيضًا عن ذلك (¬1) بأن قيل لهم: العطف على الموضع إنما يجوز أيضًا فيما لا يشكل. ولهذا لا يحسن أن يقال: مررت يزيد وضربت عمروًا وخالدًا، وأنت تريد عطف خالد على موضع زيد، لأن ذلك مما لا يفهم من الخطاب، -بل السابق إلى اللهم من الخطاب خلافه- (¬2) وكون خالد معطوفًا على عمرو. وكذلك الظاهر من الخطاب عطف الرجلين على الوجه. فحملها على العطف على الموضع لا يحسن من غير دليل. هذا الذي يتعلق به الفريقان من جهة اللسان. ويجب أن يعلم أيضًا أن النظر إنما يتحصل بين القول بتعيين (¬3) الغسل والقول بالتخيير بينه وبين المسح. وأما القول بتعيين (3) المسح فليس بشيء ينظر فيه. وإن كان قد تلطف له من اللسان بما ذكرناه لأنه مذهب، إنما يؤثر عن الشيعة ومن لا يعتد به. والذي يؤثر عن ابن عباس أنه قال: غسلتان ومسحتان (¬4)، محمله إن ثبت، على المسح على الخف (¬5). ومما يؤثر أيضًا عن أنس لما قيل له قال الحجاج أمر الله بغسل الرجلين، فقال: صدق الله وكذب الحجاج، إنما أمر بالمسح. فمراده بهذا أن القراءتين لما اختلفتا ووقع فيهما ما قدمناه من التنازع في وجوه الإعراب، رأى أن القرآن لم يرد بنص صريح بالغسل. وإنما ثبت ببيان الرسول. فقصد بما أورد المناقضة. فلا يجعل المسح مذهبًا لهما. وإذا اتفق العلماء على غسل الرجلين قولًا وفعلًا، وعمل به الخاص والعام، وثبت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فعله بأحاديث كثيرة، بطل مذهب من أنكره واقتصر على المسح. وهذا واضح، لا يستريب فيه محصل. ولما علم ابن جرير وداود بطلان قول من عين المسح بهذا الذي ذكرناه، وتساوت القراءتان عندهمالأولم تترجح إحداهما على الأخرى، ولا ¬

_ (¬1) فدوفعوا في ذلك أيضًا -و-. (¬2) على السابق على اللهم من الخطاب خلافه. هكذا في -ح-. (¬3) تعين -و-. (¬4) من حديث الربيع بنت معوذ جاء في خاتمته: قد جاءني ابن عم لك فسألني وهو ابن عباس فأخبرته، فقال لي ما أجد في كتاب الله إلا مسحتين وغسلتين. أحمد ج 6 ص 358. (¬5) المسح على الخف -و-.

أمكن رد إحداهما إلى الأخرى، كان الواجب في مقتضى الأصول، إيجاب الغسل والمسح معًا. لأن هذا حكم الآيتين الواردتين بحكمين لا يتنافيان. والقراءتان كالآيتين. ولكن يصدهما عن ذلك أنه مذهب (¬1) لم يثبت عن أحد من الصحابة، بل الثابت العمل بخلافه. وإن كان قد نقل عن بعض من لا يعتد بخلافه. وإن الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم باقتصاره على الغسل يمنع من المصير إليه. فإذن وجب العمل بمقتضى الآيتين وألَّا يسقط حكم إحداهما لأجل الأخرى. ومنعهما ما ذكرناه من إيجاب مضمونيهما جميعًا (¬2) لم يبق من الأقسام إلا التخير بينهما ويصيران في حكم ما يتنافى. وما يتنافى إذا ورد الشرع به ولم يمكن البناء (¬3) فيه كان الواجب التخيير (¬4). هذا الذي قادهما إلى القول بالتخيير (4)، ولكن الفقهاء يدفعونهما عنه بأوجه أحدهما أن التخيير (4) قول لم يسبقا إليه. وإحداث قول خارج عن جملة أقاويل المختلفين ممنوع عند أكثر أهل الأصول. ويلحق بخرق الإجماع. ومنها أن الآيتين اللتين في حكم ما يتنافيان، إنما يصار فيهما إلى ما ذكرناه عند تعذر رد إحداهما إلى الأخرى. وهاتان القراءتان قد أريناك فيما قدمنا وجه رد إحداهما إلى الأخرى من جهة الإعراب فيجب أن تسلك تلك الطريقة وتنظر فيما قدمناه. ويعتضد بالدليل الذي منع من القول بتعين المسح ومن القول بالتخير (¬5)، أو تترك إحداهما إلى الأخرى من طريقة أخرى. وهي أن يقال: قدمنا عن أهل اللغة في فصل قبل هذا أنهم يسمون الغسل مسحًا، ومنه قولهم تمسحت للصلاة. وقال الفارسي: المسح خفيف الغسل. فإذا ثبت أن الغسل يسمى مسحًا. فقصارى الأمران يسلم أن (¬6) قراءة الخفض مقتضية المسح من غير احتمال من جهة الإعراب. وإذا سلمنا ذلك وكان الغسل يسمى مسحًا حملت على أن المراد بها الغسل لانطلاق تسمية ¬

_ (¬1) ولكن بقصدهما عن ذلك أنه مذهب: -و- ومذهب ساقطة ح. (¬2) من قوله وسعهما إلى قوله جميعًا: هكذا في جميع النسخ. (¬3) هكذا في 2 - و 3 وفي 1 البنا. وكلها غير واضحة الدلالة. (¬4) التخير في -و-. (¬5) التخير -و-. (¬6) ساقطة -و-.

المسح عليه كما قدمنا. وهذه طريقة واضحة. وإذا أمكن هذا البناء وتأتى رد قراءة الخفض لقراءة النصب بهذا الوجه، أو بالذي قبله وعضدنا ذلك بالأحاديث الثابتة التي روتها الصحابة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكروا فيها غسل الرجلين (¬1)، امتنع القول بالتخيير (¬2) وهذا واضح وفيه غنية لمن تأمله. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في الكعبين ما هما؟ فقيل العظمان البارزان في طرف الساق. وهذا الظاهر من المذهب. وقيل هما اللذان عند معقد الشراك. واعلم أن أصل الكتب الارتفاع والظهور. ومنه الكعبة. ومنه امرأة كاعب إذا برز نهدها. فاللذان عند معقد الشراك عظمال برزا وهما أقرب إلى الرجل من العظمين (¬3) الآخرين فكانا أولى بالإسم. وإن لم يبرزا ذلك البروز. واللذان في طرف الساق هما أشد بروزًا وارتفاعًا. فكانا أحق بالتسمية على رأي الآخرين. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما دخولهما في الغسل فإن فيه اختلافًا. وهو كالاختلاف في دخول المرفقين والكلام فيهما واحد. وقد مضى ذكره فلا وجه لإعادته. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما خالف بين حكم القطع في الكعبين والقطع في المرفقين، لأن المرفقين يذهبان بذهاب الذراع، والكعبان قد يبقيان مع قطع الرجل، فيجب غسلهما لأنها جزء من المفروض. قال القاضي رحمه الله: ومن شيوخنا من يعد الموالاة فرضًا على الذكر، والذي يجب أن يقال: أن التفريق يفسده مع التعمد أو التفريط، ومع الطول المتفاحش الخارج عن الموالاة. ولا يفسده (¬4) قليله ولا على وجه السهو، وهذا الكلام في تفصيل فروضه. وبيان الماء المطلق يأتي في موضعه إن شاء الله. ¬

_ (¬1) جواب وإذا أمكن هذا البناء. (¬2) التخير -و-. (¬3) الكعبين -و-. (¬4) يفسد -الغاني-.

قال الإمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الموالاة؟. 2 - وهل هي فرض أو سنة؟. 4 - وما وجه حكايته عن شيوخه وجوبها وإضرابه عن ذلك بأن قال: والذي يجب أن يقال: أن التفريق يفسده مع التعمد أو التفريط. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الموالاة هي (¬1) كون الشيء يلي الشيء. ولكن قد يطلق هذا على ما يليه بالزمن البعيد، ولكن المراد ها هنا ما يليه بالزمن القريب. ويفعل عقيبه بالفور. والغوض من هذا أن يكون المتوضئ يغسل أعضاءه في فور واحد. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب في الموالاة هل هي فرض أو سنة؟ واعلم أن نقطة الخلاف في ذلك هي (¬2): أن الله تعالى أمر بغسل أعضاء معدودة، وعطف بعضها على بعض فهل يقتضي ذلك فعلها على الفور؟ أو يكون له التراخي في امتثال هذا الأمر؟ هي مسألة خلاف بين أهل الأصول. والحجة للصحيح من القولين في هذا الأصل تذكر في كتب الأصول. ونقطة ثانية وهي (¬3) أنه - صلى الله عليه وسلم - نقل: أنه غسل أعضاء وضوئه في فور واحد وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (¬4). فقدله هذا وضوء. هل هو إشارة إلى مجرد الفعل؟ أو إلى الفعل وزمنه؛ فإن قلنا: أنه إشارة إلى مجرد الفعل لم يكن فيه ما يقتضي الفور، وإن قلنا وقع إشارة إلى الفعل وزمنه، فزمنه كان متصلًا فيجب أن يكون الفعل متصلًا. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما ترك الموالاة فاختلف فيه على أربعة أقوال: ¬

_ (¬1) ساقطة -و-. (¬2) ساقطة -و-. (¬3) وهو -و- ق. (¬4) حديث ابن عمر رواه البرزان والطبراني في الأوسط. مجمع الزوائد ج 1 ص 232.

1 - فقيل يفسد الطهارة تركها عمدًا أو نسيانًا. 2 - وقيل لا يفسد لا عمدًا ولا نسيانًا. 3 - وقيل يفسدها عمدًا ولا يفسدها نسيانًا. 4 - وقيل يفسدها إلا في المسموح فإنه لا يفسد بالنسيان. وقيّد بعض هؤلاء المسموح بأن يكون أصلًا. احترازًا من المسح على الخفين. فهذه (¬1) الأقوال دائرة على ما تقدم من الاختلاف في الموالاة هل هي فرض أو سنة؛ فإن قيل بأنها فرض صح القول بأن تركها يفسد الطهارة. ومن قيد من هؤلاء بالذكر صح التفرقة بين العمد والنسيان. وإن قيل بأنها سنة صح القول بأن تركها لا يفسد العبادة لا محمدًا ولا نسيانًا. وقد يصح على هذه الطريقة أيضًا أن يقال: إن تركها محمدًا يفسد الطهارة على القول بأن ترك السنن تعمدًا يفسد العبادة. وأما التفرقة بين المسموح والمغسول فلا معنى له، لكن لعلهم رأوا أن المسح تخفيف فسلكوا هم هذه الطريقة أيضًا في تخفيف حكمه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما أضرب عن ذكر الوجوب الذي حكاه عن شيوخه إلى الذي فضله؛ لأن المحفوظ عن مالك والجمهور من متقدمي أصحابه، حكم تركها لا النص على وجوبها أو الندب إليها، وإنما اقتضب نقلة المقالات (¬2) عنهم مذهبهم في الوجوب والندب مما أوردناه عنهم من مذاهبهم في الترك. وهو اقتضاب فيه نظر. لأنا أريناك أن الفساد يتعلق بالترك عمدًا على القول بالوجوب وعلى القول بالندب أيضًا، على رأي من يرى أن ترك السنن تعمدًا (¬3) يفسد العبادة. وإن ترددت أجوبتهم في الترك بين هذين الأصلين. والتحقيق أن تحكى أجوبتهم على ما هي عليه. ولا يستقرأ منها ما استقرأه من تقدم. وهذا من تحقيق القاضي أبي محمَّد رحمه الله وتحصيله. على أن في تفصيله فوائد منها. أن إطلاق القول: بأن ترك الموالاة تفسد الطهارة يقتضي إفسادها وإن كان ¬

_ (¬1) وهذه -و- ق. (¬2) الموالاة -ح-. (¬3) عمدا -و-.

التفريق قليلًا. فأبان بما أورد أن القليل معفو عنه. وأشار إلى طريقة سلكها أيضًا بعض المتأخرين، وذلك أنهم (¬1) قالوا إن الذي قصر ماؤه عن إتمام طهارته فإنه إن اعتد (¬2) منه في أول أمره قدر الكفاية بإهراق بغير تفريط منه فإنه يلحق بحكم الناسي لأنه مغلوب كالناسي. وإن اعتد من أول أمره (¬3) دون كفايته من الماء لحق بأحكام المتعمد لتفريطه. فأشار إلى هذا بقوله أن التفريق يفسده مع التعمد أو التفريط. فلأجل هذه الفوائد أضرب عن الإجمال وعدل إلى التفصيل. قال القاضي رحمه الله فأما بيان سننه: فمنها غسل اليد (¬4) قبل إدخالها في الإناء، وذلك من سنة الوضوء لكل طاهر اليد مريد للوضوء بأي نوع كان انتقاض وضوئه من الأحداث وأسبابها، من بول أو غائط أو ريح، أو نوم من ليل أو نهار، أو لمس، أو مس فرج أو كان مجددًا (¬5). قال الإِمام رضي الله عنه يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال: 1 - لم قيد قوله بأن غسل اليد سنة لكل طاهر اليد؟. 2 - وما وجه تفصيله للأحداث؟ (¬6) وأسبابها؟ 3 - وما معنى التنبيه على نوم النهار؟. 4 - وما وجه غسل اليد؟. 5 - وكيف صفة غسلها؟. 6 - وكم مقدار عدد غسلها؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إفما قيد بقوله طاهر (¬7) اليد، لأن ¬

_ (¬1) بأنهم -و-. (¬2) هكذا في جميع النسخ. والأولى أعد. (¬3) المرة في -ح-. (¬4) اليدين - الغاني-. (¬5) مجددًا للوضوء -الغاني-. (¬6) الأحداث -ح-. (¬7) بلفظ ظاهر اليد -و-.

من كان نجس اليد فغسل يديه واجب، إذا كان الماء الذي أعده لوضوئه قليلًا. هذا على طريقة من قال من أصحابنا أن الماء القليل تنجسه النجاسة القليلة. ويمنع من الاعتداد بالوضوء به. فعلى هذه الطريقة يكون غسل اليد واجبًا، لأن بغسل يده يتوصل إلى صحة (¬1) وضوئه. فقيد رحمه الله قوله، بذكر طاهر اليد احترازًا من هذا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما ذكر الأحداث وأسبابها؛ لأن من الناس من قصر الحديث على ما ورد عليه. ورأى أن غسل اليد واجب عند القيام من النوم دون غيره من الأحداث وأسبابها. فأخبر (¬2) رحمه الله أن مذهبه المساواة بين الأحداث وأسبابها. وأن النوم إنما خص بالذكر في الحديث لينبه به على بقية أسباب الحدث، والحدث نفسه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما ذكر نوم النهار لأن من الناس من ذهب إلى أن غسل اليد، إنما يجب من نوم الليل خاصة لقوله عليه السلام: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" (¬3). والمبيت إنما يكون ليلًا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما وجه غسل اليد ففيه قولان: أحدهما أن ذلك على وجه النظافة وتحرزًا من نجاسة يمكن أن تكون علقت بها. ولهذا قال بعض أصحابنا لو انتقض وضؤوه وهو قريب عهد بغسل يده فإنه لا يؤمر بإعادة غسلها إذا تحقق طهارتها لزوال العلة المتعلق بها الحكم. وقد علل عليه السلام غسلها بما قلناه وذلك أنه قال: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده". والثاني أن ذلك على وجه العبادة الغير المعللة. ولهذا قال بعض أصحابنا عليه أن يعيد غسل يديه في السؤال الذي فرضناه؛ لأن غسلهما تعبد غير متعلق بعلة تزول بزوالها. لأنه عليه السلام قيد غسلهما بعدد. وغسل النجاسة غير مقيد (¬4) بعدد. ¬

_ (¬1) يصح له التوصل إلى وضوئه -و-. (¬2) وأخبر -و-. (¬3) أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة. (¬4) متعدد -ح-.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما صفة غسلهما فإنه يتخرج على القولين المذكورين (¬1). وذلك أنا إذا قلنا أن غسلهما على جهة التعبد الغير معلل، فإن صفة غسلهما: أن تغسل كل يد على حيالها (¬2). لأن صفة التعبد في غسل الأعضاء هكذا. ألا ترى أنه لا يشرع في غسل عضو حتى يستكمل غسل ما قبله (¬3). وإلى هذا أشار بعض أصحابنا في صفة غسلهما. وهو ظاهر حديث ابن زيد ذكر (¬4) في صفة وضوئه عليه السلام: أنه غسل يديه مرتين مرتين (¬5). وإفراد كل واحدة بالذكر يدل على إفرادها (¬6) بالغسل. وإن قلنا أن غسلهما معلل بما قدمناه حسن أن يغسلا معًا لأنه أبلغ في المراد من تنظيفهما. هكذا ذكر بعض شيوخنا. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما مقدار عدد غسلهما فقد أشار بعض أصحابنا، إلى غسلهما مرتين أخذًا بحديث زيد المتقدم. وأما على الحديث الآخر فالمختار ثلاثًا لقوله: "فليغسلهما ثلاثًا" (¬7) ولأنه القدر الذي تتعلق به الفضيلة في سائر أعضاء الوضوء المغسولة. قال القاضي رحمه الله: وأما تطهير داخل الفم فإنه سنة، وهو المضمضة، وصفتها أن يوصل الماء إلى فيه ثم يخضخضه ويمجه. ¬

_ (¬1) المذكورين الآن -ح-. (¬2) حالها -و-. (¬3) حتى يستكمل ما قبله -و-. (¬4) لأنه كان ذكر -ح-. (¬5) روى مالك عن زيد بن عاصم أن يبيح بن عمارة قال لعبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال: نعم. فدعا بوضوء فأفرغ على يده فغسل يديه مرتين مرتين. ثم تمضمض واستنثر ثلاثًا. ثم غسل وجهه ثلاثًا. ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر. بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم غسل رجليه. الموطأ الحديث الأول من كتاب الطهارة. (¬6) انفرادها -و-. (¬7) رواه الجماعة إلا البخاري نيل الأوطار ج 1 ص 169.

وأما تطهير داخل الأنف فإنه سنة. وصفته: أن يجذب الماء بخياشيمه (¬1) وهو الاستنشاق. ويستحب له المبالغة فيه إلا في الصوم. وأما غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن فسنة. ويستوفي جميعه بالغسل. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما وجه القول بأن المضمضة والاستنشاق سنتان؟. 2 - وما المختار في صفة غسلهما؟. 3 - ولم جعل غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن سنة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في المضمضة والاستنشاق في الوضوء. فمن الناس من أوجبهما، لأنه رآهما من الوجه. وقد أمر الله تعالى بغسل الوجه. وهما جزءان منه، فوجب أن يغسلا معه. ومن الناس من لم يوجبهما، لأن المواجهة لا تقع بهما. وإذ لم تقع بهما لم يكونا من الوجه، وإذا لم يكونا منه لم يجب غسلهما لقوله عليه السلام: "توضأ كما أمرك الله". وليس هما مذكوران فيما أمر الله به في القرآن. ومن الناس من أوجب الاستنشاق دون المضمضة لأن باطن الأنف يواجه دائمًا بخلاف باطن الفم. ومن أسقط وجوبهما وهو مذهب أصحابنا، فإن غسلهما عنده سنة. وهو المشهور من مذهبنا لأنه عليه السلام واظب على غسلهما ومضى العمل بذلك من المسلمين. وهذا يدل على تأكدها (¬2) فألحقا بالسنن. وذهب بعض أصحابنا إلى أن غسلهما فضيلة وهذا راجع إلى اختلاف في عبارة. لأنا قدمنا حقيقة السنة والفضيلة. وأخبرنا أن اختلاف هاتين التسميتين راجع إلى اختلاف الأجور. لا سيما والذي ذهب من أصحابنا إلى أن غسلهما فضيلة، أخبر أن السنن عنده، هي التي يمنع تركها من أن يعتد (¬3) ¬

_ (¬1) إلى خياشيمه -الغاني. (¬2) أي السنية. (¬3) يتعبد في -ح-.

بالعبادة. فلما كان المضمضة والاستنشاق لا يفسد تركهما العبادة لم يعدا عنده سنة. ونحن لا نخالفه في أن تركهما لا يفسد العبادة، ولكنا لا نقصر هذه التسمية على ما قصرها عليه. لأن ذلك مما لم توجبه لغة ولا اصطلاح. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما صفة غسلهما فاختلف الناس فيه. فمنهم من قال: المختار أن يغسل الفم ثلاثًا بثلاث غرفات (¬1) ثم من بعده يغسل الأنف كذلك. لأنهما عضوان متميزان. فيميز كل واحد منهما بالغسل عن صاحبه. ويكرر فيه من العدد ما يكرر في كل عضو. ومن الناس من ذهب إلى أن يغسلا معًا ثلاث مرات من غرفة واحدة. لأنهما عنده كعضو واحد فجمعا في الغسل معًا. واقتصر على غرفة واحدة فيهما، لورود الخبر بها (¬2). ومن الناس من ذهب إلى أن يجمعا معًا (¬3) ولكن بثلاث غرفات؛ لأنهما عنده كعضو واحد كما قدمنا. ولكن من حكم العضو الواحد أن يتكرر فيه أخذ الماء. ولورود الخبر بأنه تمضمض واستنشق بثلاث غرفات (¬4). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن (¬5). فقد قدمنا أن فيه اختلافًا هل هو من الوجه فيجب غسله، أو ليس منه فلا يجب غسله؟ وذكرنا وجه القولين. وأما إثبات غسله سنة. فقد تعقبه بعض (¬6) شيوخنا على القاضي أبي محمَّد. وأنكروا قوله فيه ها هنا، وقالوا إن كان عنده من الوجه فغسله واجب لا سنة. وإن كان ليس من الوجه (¬7) فغسله غير واجب. ولا معنى لعده سنة كالقفا. وهذا الذي قالوه صحيح. وأمثل ما اعتذر به عنه رحمه الله أن يقال: لعله عثر في بعض الأخبار على ما يقتضي ¬

_ (¬1) من ثلاث -و-. (¬2) بهما -و-ق-. (¬3) ساقطة -ح-. (¬4) من حديث عبد الله بن زيد: فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث غرفات - البخاري فتح الباري ج 1 ص 306 وفي رواية مسلم من ثلاث غرفات إكمال الإكمال ج 2 ص 19. (¬5) الأذن والصدغ -و-. (¬6) ساقطة -ح -ق-. (¬7) وإن كان من غير الوجه -ح-.

غسله، وثبت عنده أنه ليس من الوجه فحمل ما عثر عليه (¬1) أنه سنة أو يكون شك في كونه من الوجه فلم يوجب غسله بالشك استصحابًا لبراءة (¬2) الذمة. ولكنه لما جاز أن يكون مرادًا بالخطاب وداخلًا (¬3) في الظاهر أمر بغسله ليخرج من الشك وليسلم من الاختلاف. وعبر عن ذلك بأنه سنة. لأن السنة عبارة عنده على (¬4) ما لا يجب فعله، ولكنه يعظم الأجر فيه، ويشتد التحريض عليه. وهذا المعنى موجود في غسل البياض فأعار (¬5) هذه التسمية. قال القاضي رحمه الله: وأما الأذنان فيستحب استيفاؤهما بالمسح، ظاهرهما وباطنهما. وإدخال الأصابع (¬6) إلى الصماخين. وقد بينا القول في الرجلين. وأما بيان الترتيب المسنون فهو أن يبدأ بعد النية فيسمي (¬7) ويغسل يديه قبل إدخالهما الإناء. ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم ليستنثر (¬8)، ثم يغسل وجهه. يبدأ من أعلاه، ثم يمنى يديه، ثم يسراهما من أطراف الأصابع إلى المرفقين، ثم يمسح بالرأس على الصفة المتقدمة (¬9)، ثم الأذنين (¬10) ثم يغسل (¬11) يمنى رجليه ثم يسراهما. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل يستأنف الماء في مسح أذنيه أم لا؟. ¬

_ (¬1) عليه على أنه سنة -ح-. (¬2) ببراءة -ح-. (¬3) مراد الخطاب وذا على خلاف الظاهر -و-. (¬4) عن -و-ق-. (¬5) فأعاره -و-. (¬6) في -و-. (¬7) فيسمي الله -الغاني. (¬8) ساقطة -ح-و-ق-. (¬9) الرأس على الصفة التي ذكرنا -الغاني. (¬10) المسح بالأذنين -الغاني. (¬11) ساقطة -و-.

2 - وهل الترتيب واجب أم لا؟. 3 - وما الحكم فيه إن تركه؟. 4 - وهل حكم غسل الأعضاء معًا بمنزلة عدم الترتيب؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف أصحابنا في ذلك، فالجمهور على أن (¬1) استئناف الماء لمسح الأذنين مشروع. وقال ابن مسلمة: إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله (¬2). فأما القول باستئناف الماء فمبني على أن مسحهما سنة. وإنهما عضوان منفردان عن الرأس شرع مسحهما، فوجب أن يختصا بماء يؤخذ لهما قياسًا على سائر الأعضاء. وأما القول بإسقاط ذلك فمبني على أنهما جزء من الرأس فلا يشرع تخصيصهما بماء قياسًا على سائر أجزاء الرأس. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الترتيب في الوضوء فاختلف فيه: فقيل واجب، وقيل سنة، وقيل مستحب، فوجه القول بوجوبه أن الله سبحانه أمر بغسل أعضاء مخصوصة عطف بعضها على بعض بالواو. والواو توجب الترتيب على ما ذكره الفراء وغيره من أهل اللغة. فوجب الترتيب لذلك. وأيضًا فإن من شأن العرب إذا ذكرت جملًا متجانسة فإنها لا تفرق بينها لمخالف لها إلا لغرض (¬3). ولهذا لا يقولون ضربت زيدًا وأكرمت عمروًا وضربت بكرًا وإنما يقولون ضربت زيدًا وبكرًا وأكرمت عمروًا. فلما ذكر الباري سبحانه غسل اليدين والرجلين وفرق بينهما بمسح الرأس وهو مخالف لهما، دل على أنه لم يفرق بينهما بمسح الرأس إلا لأن ذلك موضعه الذي لا يجزئ فعله إلا فيه. وأيضًا فإن عادة العرب إذا ذكرت الشيء إنما تعطف عليه الأقرب (¬4) إليه. ومعلوم أن الرأس أقرب إلى الوجه من اليدين إليه. فلما ذكر الله سبحانه اليدين بعد ¬

_ (¬1) ساقطة -و-. (¬2) وإن لم يشأ -و-. (¬3) فإنها لا يفرق بينهما لمخالف لها إلا لغرض. (¬4) للأقرب -و-ق-.

الوجه مع بعدهما منه، دل ذلك على أن ذلك موضعهما الذي لا يجزئ إيقاع الفعل إلا عليه. وأيضًا فإنه عليه السلام توضأ ورتب على حسب ما ورد به القرآن، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (¬1). وهذه إشارة إلى الفعل وترتيبه (¬2). فاقتضى ذلك وجوب الترتيب. وأيضًا فإنها عبادة يبطلها الحدث، فوجب أن تبطلها التفرقة كالصلاة. ووجه القول بأنه سنة. أن الواو لا توجب الترتيب. وإنما أصل موضوعها الجمع والاشتراك. وهذا هو (¬3) المشهور والمنصوص في كتب النحاة. وإذا لم تقتض الترتيب، لم يكن في الآية دليل على الوجوب. وأما تفرقته سبحانه بين المغسولين بذكر الممسوح فإنما ذلك لأن المسح في معنى الغسل وكالمجانس له. وقد قدمنا أن بعض أهل اللغة سمى (¬4) الغسل مسحًا. وذكرنا عن بعضهم أن المسح خفيف الغسل. وهذا يحسن معه الفصل بين المغسولين بذكر الممسوح. وأما ذكره الرأس بعد اليدين وهو أقرب إلى الوجه، فإنما ذلك لمجانسة حكم الوجه واليدين في أنهما مغسولان. ولأن الرأس يشارك الرجلين في بعض الأحكام وهو سقوطه مع الرجلين في التيمم، فحسن تأخير ذكره لذلك. وأما قوله عليه السلام: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". فإن ذلك إشارة إلى الفعل لا إلى ترتيبه (¬5)، ومن زعم أنه إشارة إليهما فعليه الدليل. وأما قياس الوضوء على الصلاة فإنه غير مسلم لأن الوضوء وإن شارك الصلاة في أنهما يبطلان بالحدث، فقد فارق الصلاة في أحكام كثيرة. فليس ¬

_ (¬1) عن ابن عمر قال توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة واحدة فقال هذا وضوء من لا يقبل الله صلاة إلا به. ابن ماجة 419. (¬2) ورتبته في -ح-. (¬3) هو ساقطة -ح -ق-. (¬4) يسمي -ح -ق-. (¬5) رتبته -ج-.

لأحد أن يجعل الوضوء كالصلاة لاجتماعهما في حكم، إلا وللآخر أن يجعله بخلافها لافتراقهما في أحكام. وأيضًا فإن رد الطهارة إلى طهارة أولى من رد طهارة إلى صلاة (¬1). فلو ابتدأ المغتسل من الجنابة بأسفل بدنه على خلاف ما ورد به الخبر في صفة الغسل لأجزأه. وإن كان بعض أصحابنا حكى في ذلك اختلافًا. لكن الجمهور من الموجبين للترتيب في الوضوء على سقوط الترتيب في الغسل. وقد قال ابن الجهم من أصحابنا قد أجمع على أنه لو بدأ في غسل ذراعيه بالمرافق لأجزأه، وإن كان قد خالف ظاهر القرآن، لأن الله سبحانه جعلهما نهاية، وهذا جعلهما بداية. فإذا أجزأه ذلك مع مخالفته الظاهر أجزأه مخالفة الترتيب أيضًا. وإذا ثبت سقوط الوجوب بهذا الذي ذكرناه، وكان المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه توضأ على حسب ما ورد به القرآن. وتكرر فعل ذلك منه اقتضى ذلك أنه سنة. ووجه القول بأنه مستحب ما كنا أشرنا إليه. وذلك (¬2) أن ابن خويز منداد قال: كل ما لا تفسد الطهارة بتركه فليس سنة، وإنما هو مستحب. والترتيب عنده لا تفسد الطهارة بتركه، فكان مستحبًا. وقد قدمنا الكلام على هذه الطريقة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إن ترك الترتيب وصلى بوضوء غير مرتب فإنه لا يجب عليه إعادة الصلاة إلا أن يتعمد ترك الترتيب، فيختلف في ذلك على الاختلاف (¬3) في ترك السنن تعمدًا. والإعادة وإن كانت غير واجبة فإنا نأمره بها على وجه (¬4) الندب كما نأمره بذلك في ترك السنن. وأما على القول بأنه مستحب فإنا لا نأمره بإعادة الصلاة، ولكنا نستحب له إعادة الوضوء مرتبًا (¬5)، ونأمره به ويكون الأمر به، أخفض من الأمر في الرتبة إذا قلنا أنه سنة. وإذا ¬

_ (¬1) وقع خلط في ترتيب أوراق النسخة (1) فأتى تمام الكلام في ص 43 والموجود في ص 39 - 40 - 41 - 42. لا يتصل بهذا البحث. (¬2) وذكر -ح-. (¬3) اختلاف -و-. (¬4) جهة -ح-ق-. (¬5) مرتبًا ساقطة -و-.

أوجبنا إعادة الوضوء مرتبًا فكيف وجه ترتيبه؟ لا يخلو ذلك من قسمين أحدهما أن يذكر ذلك بالقرب والثاني أن يذكره بالبعد. فإن ذكره بالقرب بني على الوضوء الذي يحصل (¬1) الترتيب دون إعادته. مثل أن يبدأ بغسل رجليه ويختم بغسل وجهه، فإنه لا يعيد غسل وجهه بل يبني عليه ويعيد ما سواه مرتبًا. لأنه متى فعل ذلك بالقرب حصل الوضوء متواليًا مرتبًا فلم يبق عليه أمر يتطلبه. فإن ذكره بالبعد وقد تعمد ترك الترتيب ابتدأ الوضوء من أوله. لأنه إن بني على العضو الذي يصح الترتيب دونه أحل بالموالاة بين ذلك العضو وما بعده، وقد كان أصل إخلاله بذلك تعمدًا. والإخلال بالموالاة على جهة العمد يمنع من صحة الوضوء على الطريقة المشهورة عند الجمهور من أصحابنا. وإن لم يتعمد ترك الترتيب ولكنه أحل بالترتيب ناسيًا فليس عليه إعادة (¬2) الوضوء بل يبني على العضو الذي يصح الترتيب دونه. فإن أفسد الترتيب بتقدمة الذراعين على الوجه خاصة، فهل يؤخر ما قدم خاصة؟ أو يؤخر ما قدم ويعيد ما يليه؟ اختلف في ذلك. فقال ابن القاسم: يؤخر ما قدم خاصة إذا ذكر بالبعد لأن منه دخل الخلل فإذا أصلحه زال الخلل وصح الترتيب. وقال ابن حبيب بل يؤخر ما قدم ويعيد ما يليه لأنه إذا أخر ما قدم صار ما يليه مغسولًا قبل هذا الإصلاح. فلم يصح الترتيب إلا مع إعادة ما يليه. وقد اعترض أبو إسحاق مذهب ابن القاسم بما وجهنا به مذهب ابن حبيب، من أنه إذا غسل ذراعيه آخرًا، واقتصر على ذلك صارت طهارة الذراعين والرجلين المتقدمة سابقة لغسل الذراعين المعاد (¬3)، فإن أعاد غسل الذراعين بالترتيب بينهما وبين الوجه أفسد ذلك الترتيب بينهما وبين الرأس وما بعده. فلا وجه للاقتصار على فعل ما يصلح من جهة ويفسد من أخرى. وانفصل عن هذا الاعتراض بعض حذاق الأندلسيين بأن طهارة الرأس والرجلين قد حصل لهما ¬

_ (¬1) يصح -ح-. (¬2) ابتداء -ح-. (¬3) أي الغسل -والمعاد ساقط، -ح-.

الإجزاء والكمال لأنهما لم يطهرا إلا بعد الوجه والذراعين، فلا معنى لإعادتهما، وإنما يعاد غسل الذراعين خاصة ليحصل بإعادته وترتيبه بعد الوجه رتبة الكمال وقد حصل بغسل الذراعين مرتين (¬1) رتبة الإجزاء والكم الذي جميع الطهارة. فلا معنى لأمر المكلف بزيادة على ذلك. وهذا الذي انفصل به، مما يروق. ولكنه يعترض عليه عندي. لأن ابن القاسم وافق مذهب ابن حبيب في تأخير ما قدم وإعادة ما يليه إذا ذكر ذلك بالقرب. ورتبة الكمال والإجزاء التي أشار إليها هذا الرجل لا يختلف فيها الحال في القرب والبعد. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما إذا أمر المتوضئ أربعة رجال: طهروا أعضاءه الأربعة معًا. فقد قال بعض من أوجب الترتيب أن ذلك بمنزلة عدم الترتيب لأن كل عضو لما طهر مع العضو الذي من حقه أن يتقدمه فقد أسقط الترتيب فيه فوجب أن يلحق بحكم من لم يرتب. قال القاضي رحمه الله: وأما (¬2) فضائله فالسواك بعود يابس أو رطب إلا أن يكون صائمًا فيكره له الأخضر خيفة أن يصل طعمه إلى الحلق فيفطره. فإن لم يجد شيئًا فإن إصبعه يجزئه. وأما التكرار ففضيلة في المغسول دون الممسوح. فيكرره مرتين أو ثلاثًا. والثلاث أفضل من الإثنين. وما زاد على الثلاث سرف ممنوع منه. والمرة هي الفرض. ولا فضيلة في تكرار مسح الرأس ولا الأذنين. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال: 1 - لم استحب السواك؟. 2 - وما وجه نفي الفضيلة في تكرار الممسوح؟. 3 - وما معنى المسحة الثانية في الرأس إذا كان لا فضيلة في التكرار؟. 4 - ولم قيل: أن الواجب غسل العضو مرة؟. ¬

_ (¬1) ساقطة من -و-ق-. (¬2) فأما -ح-.

5 - ولم قيل أن الزائد على الثلاث ممنوع؟. 6 - وهل ينوي فيما زاد على الوجوب مجرد الفضيلة أم لا؟. 7 - وإن (¬1) نوى مجرد الفضيلة وكان أحل في الأولى ببعض العضو هل تجزئه الفضيلة عنه أم لا؟. 8 - وهل ينهى من (¬2) شك في إيقاع الثالثة عن إيقاعها مخافة أن تكون رابعة أم لا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقلل: إنما استحب السواك على الجملة لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله وأمر به. واستحب فعله في الطهارة لما كان أصل وضعها للتنظيف وأريد إكمال التنظيف بفعل السواك فيها. واستحب عند الصلاة (¬3) إذا بعد ما بين الوضوء والصلاة. لأن الإنسان يناجي ربه فاستحب أن يناجيه طيب الفم. وقد روي: صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك (¬4). والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما لم يكن في تكرار الممسوح فضيلة؛ لأن أصل المسح التخفيف. والتكرير تثقيل. فلما (¬5) تنافى موضوعهما تنافيا. على أن أكثر الأحاديث المنقول فيها صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل فيها التكرار (¬6) إلا في المغسول فوجب قصر الفضيلة عليه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما المسحة الثانية فأنها وإن كانت ثانية في ظاهر المشاهدة، فإنها ليست كذلك على رأي بعض أصحابنا. وذلك أن المختار عندهم في صفة مسح الرأس أن يمضي بأصابع يديه على وسط رأسه ويرفع كفيه عن جانبي رأسه فإذا بلغ إلى مؤخره أعاد كفيه على ¬

_ (¬1) فان -ح-. (¬2) عن من -و-. (¬3) الطهارة -ح-. (¬4) أحمد بسنده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله هـ عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فضل الصلاة بالسواك على الصلاة بغير سواك سبعين ضعفًا - ج 6 ص 272. (¬5) فكما -و-. (¬6) التكرير -و-.

جانبي رأسه رافعًا أصابعه عن وسط رأسه. وهذا لا يحصل معه المسح إلا مرة واحدة. ومن أصحابنا من اعتذر عن المرة الثانية بأنها لما لم (¬1) يستأنف لها أخذ ماء كانت مع الأولى في حكم المرة الواحدة. ولهذا جعلها من ذهب إلى إثبات الفضيلة في تكرار الممسوح مرة واحدة، واستحب أن يأتي بعدها باثنتين على صفتها. ومن الناس من اعتذر عن ذلك بأن المسحة الأولى يمر بيديه على باطن شعر مقدم رأسه وظاهر مؤخره. فإذا ردهما رجع بالعكس من ذلك، فإنه (¬2) أتى بالثانية ليستوعب مسح ظاهر الشعر وباطنه. وإن عورض هؤلاء بمن لا شعر على رأسه، قالوا: نلحقه بمن على رأسه الشعر ليستوي حكم الناس في صفة الطهارة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما اقتصر في الوجوب على مرة واحدة لأن الله سبحانه وتعالى قال: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} (¬3). فأمر بالغسل مطلقًا غير مقرون بعدد. والأمر المطلق يحمل على مرة واحدة إذا تجرد من القرائن عند جماعة من أهل الأصول. وقد أضاف هذه المقالة في هذا الأصل بعض أصحابنا لمالك رضي الله عنه (¬4) لما احتج في الاقتصار على مرة واحدة بهذه الآية. وأيضًا فأنه عليه السلام توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (¬5). وقد كره مالك (¬6) مع هذا، الاقتصار على مرة (¬7) واحدة. وذلك لأنه قال الوضوء مرتان مرتان. قيل له فواحدة واحدة! قال لا. وهذا وإن كان ظاهره إيجاب المرتين، فإن محمله (¬8) على المبالغة منه في التشديد في أن لا يقتصر على الواجب، والتحضيض على (¬9) أن يؤتى بالفضيلة. ولأن العامة لا ¬

_ (¬1) إنما لم -و-. (¬2) فأتى -ح-. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) رحمه الله -ح-ق-. (¬5) تقدم تخريجه. عن ابن ماجة. (¬6) ساقطة -و-. (¬7) ساقطة -ح-. (¬8) حمله. (¬9) على ساقطة -ق -و-.

تكاد تستوعب العضو في مرة واحدة. وقد صرح بهذا المعنى في رواية أخرى فقال: لا أحب الواحدة إلا من عالم وهذا تنبيه منه (¬1) على أن العامة لا تكاد تستوعب بمرة واحدة فاحتاط لهم بأن أمرهم بالزيادة عليها. وأخرج العالم من ذلك، لمعرفته بما يأتي ويذر من ذلك. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما منع الزيادة على الثلاث فلقوله عليه السلام: فمن زاد عليها فقد تعدى وأساء وظلم (¬2). ولأنه عليه السلام توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به (¬3). وتوضأ مرتين مرتين وقال من توضأ مرتين مرتين أتاه الله أجره مرتين وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي وضوء إبراهيم عليه السلام (¬4) وهذا منه - صلى الله عليه وسلم - تنبيه على نهاية الفضيلة في هذا. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الظاهر من مذهب الجمهور أنه ينوي مجرد الفضيلة فيما زاد على قدر الوجوب وهذا هو الأصل. لأنا إذا كنا أخبرنا بأن (¬5) الواجب قد امتثل، وأتي به. لم يبق إلا أن تكون الزيادة عليه فضيلة. وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: ينبغي أن لا ينوي به مجرد الفضيلة، لكن ينوي (¬6) أنه إن كان أخل من الأولى بشيء كان غسله في المرة الثانية هو الواجب عليه. وإن لم يكن أخل كانت فضيلة مجردة. وهذا (¬7) على وجه الاستظهار والاحتياط. ¬

_ (¬1) تثبيت على -ح-. (¬2) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الوضوء. فأراه الوضوء ثلاثًا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من توضأ واحدة فتلك وظيفة الوضوء التي لا بد منها. ومن توضأ اثنتين فله كفلان ومن توضأ ثلاثًا فذلك وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي. رواه أحمد وعنه أيضًا توضأ ثلاثًا وقال هي أسبغ الوضوء وهو وضوئي ووضوء خليل الله إبراهيم - ابن ماجة 47 من كتاب الطهارة ص 420. (¬5) ان -و-. (¬6) لكن ينبغي أن ينوي -ح-. (¬7) فهذا -ح-.

والتحقيق ما ذكرناه أولًا. وذلك إنا إنما نثبت (¬1) الفضيلة بعد تيقن حصول الواجب والعلم بأنه قد (¬2) أتى به. وإذا كان متيقنًا بحصول الواجب وعالمًا بأنه قد أتى به فيستحيل أن يتشكك في ذلك في حال علمه به (¬3) لأن الشك والعلم ضدان لا يجتمعان باتفاق العقلاء. وإن كان لم يتيقن أنه أتى بالواجب فإنه مطلوب به ولا يمكن أن نأمره (¬4) بفعل الفضيلة والواجب باق عليه. وهذا واضح على أنه لو صحت هذه الطريقة وأتى بالثانية على وجه التشكك الذي ذكروه فإنه إن تيقن بعد ذلك أنه أبقى في الأولى شيئًا فإن في اعتداده في ذلك بهذه الغسلة التي أوقعها على هذه الصفة اختلافًا في المذهب متى أوقعها، ولم يخلص فيها نية الوجوب، ويجردها من نية الاستظهار. وقد ذهب بعض المتأخرين من أصحابنا أيضًا إلى أنه يوقع الثانية بنية إكمال الفرض لا بنية الفضل المجرد. وشبّه ذلك بما قاله من تقدم من أئمتنا فيمن صلى وحده فإنه إذا أعاد في الجماعة، فإنه لا يعيد بنية الفضل (¬5) المجرد. وهذا التشبيه عندي غير صحيح. لأن الله سبحانه فرض الصلاة على المكلف. وخيره بين أن يوقعها وحده وبين أن يوقعها في جماعة. وأخبر مع هذا التخيير أن إيقاعها في جماعة أفضل عنده وأقرب إليه. فإذا أوقعها المكلف وحده وأعادها في الجماعة، صح أن يقصد إلى تحصيل صفة، إيقاع الفرض عليها أكمل وأفضل، وهي الجماعة. ولكن هذه الصفة لا يمكنه تجديدها وإيقاعها متميزة عن نفس الصلاة، فأعاد نفس الصلاة لتحصيل هذه الفضيلة التي لا تتميز من الصلاة. ولو أوقع الصلاة في أول مرة على هذه الصفة لم يبق له فضل يطلبه ويقصد إليه. والمرة الأولى مستقلة بنفسها، ومتجردة عن الثانية، والفرض قد كمل بإيقاعها. وليست المرة الثانية بصفة لها غير متميزة عنها ومتجردة منها، فيقال أن القصد بالثانية ¬

_ (¬1) أثبتنا -و-. (¬2) ساقطة -و-. (¬3) ساقطة -ح-. (¬4) يأمره -ح -ق-. (¬5) الفرض -ح-.

إعادة الأولى، فيحصل لها صفة لم تكن قبل. بل الأولى (¬1) على حال واحدة لا يختلف وضعها أوقع بعدها غسلة أخرى أم لا؟ كما يختلف وصف الصلاة بأن يوقعها في جماعة فتكون أكمل منها إذا أوقعها وحده وهذا واضح. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إن نوى بالثانية مجرد الفضيلة ثم تبين له أنه أحل من الأولى ببعض الوضوء، فإن إجزاء هذه الفضيلة عنه على قولين: أحدهما أنه يجزيه (¬2) لأن نية الفضل يقدر أنها انطوت على نية الفرض واشتملت عليها لما كان لم يمكن أن يقصد (¬3) أحد إلى تحصيل الفضل، إلا وعنده أن الفرض حصل له. والثاني: أن ذلك لا يجزئه لأن الطهارة تفتقر إلى نية تقتضي رفع الحدث والقصد إلى إيقاع الواجب خلاف القصد إلى إيقاع الندب فلم يجب أن يسد أحدهما مسد الآخر (¬4) ولا يجزئ عنه. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: تنازع الأشياخ فيمن شك في إيقاع الثالثة هل يكره له إيقاعها مخافة أن تكون رابعة. فيقع في المحظور، أو لا يكره له ذلك لأن الأصل في الطهارة والصلاة أن يبني على اليقين إذا شك في العدد. كمن شك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا (¬5)؛ فإنه يبني على اليقين ويأتي بركعة، وإن جاز أن تكون خامسة، مع كون الخامسة محظورة. وقد كتب إلى بعض أهل العلم يسأل عن صوم يوم التاسع من ذي الحجة، يوم عرفة، إذا شك أن يكون يوم النحر، هل يكره مخافة أن يقع (¬6) في صوم يوم النحر وهو محظور. فيكون طلب فضلًا بأن رعى حول محرم؟ فأجبته بأنها مثل هذه المسألة التي تنازع الشيوخ فيها. وطريق الكلام عليهما (¬7) واحد. وبسطت له في الجواب بما أن لو ذكرناه ها هنا خرجنا به عن غرضنا. ¬

_ (¬1) للأولى -و-. (¬2) إنها تجزئه -و-. (¬3) لا يقصد -و-. (¬4) أن يسند أحدهما إلى الآخر -ح-. (¬5) شك صلى ثلاثًا أم أربعًا -و-. (¬6) ساقطة -و-. (¬7) عليها -و-.

باب ما يوجب الوضوء وما ينقضه بعد صحته

باب ما يوجب الوضوء وما ينقضه بعد صحته قال القاضي أبو محمد الله: يوجب الوضوء شيئان: أحداث وأسباب للأحداث. والأحداث (¬1) الموجبة للوضوء هي ما خرج من (¬2) السبيلين من المعتاد دون النادر الخارج على وجه المرض والسلس، من غائط وريح وبول ومذي وودي (¬3) إذا كان ذلك على غير السلس والاستنكاح. وإن كان البول والمذي خارجين على وجه السلس والاستنكاح فلا وضوء فيهما واجب. وكذلك ما خرج من السبيلين من غير المعتاد كالحصى والدم والدود فلا وضوء فيه (¬4). ويفسد الوضوء الردة. ولا يوجب الوضوء ما خرج من البدن من غير (¬5) السبيلين من قيء ولا قلس ولا بلغم ولا رعاف ولا حجامة ولا فصادة ولا غير ذلك. قال الإِمام رضي الله عنه يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة هذه القسمة؟. 2 - وما الفرق بين الحدث وسبب الحدث؟. 3 - ولم سقط حكم الحدث إذا تكرر؟. ¬

_ (¬1) فأما الأحداث -الغاني. (¬2) أحد السبيلين -ق-. (¬3) العطف بأو في جميعها -الغاني. (¬4) فيه ساقطة -ح-. (¬5) من غير المعتاد -و-.

4 - وما فائدة تقييده بقوله: فلا وضوء فيه واجب؟. 5 - ولم أسقط الوضوء من غير المعتاد؟. 6 - ولم تعرض لذكر ما خرج من غير السبيلين؟. 7 - ولم نقضت الردة الوضوء؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما حصره نواقض الوضوء في الحدث وسببه، فالدليل على صحته أن الحدث تسمية تطلق (¬1) في اصطلاح أهل الشرع على كل ما ينقض الطهارة بنفسه كالبول والغائط وشبههما. وما أدى إلى ذلك فهو سبب الحدث (¬2) *فيوجب أن يكون ما عدا ذلك لا مدخل له ها هنا لأنه إن كان مما ينقض الوضوء فهو حدث أو ما هو طريق لذلك فهو سبب الحدث* (¬3) وأما تفصيله لذلك بذكر الغائط والريح والبول، وما ذكر معها، فإنما ذكر (¬4) ذلك لورود الخبر به في الكتاب والسنة. وقد ذكر سبحانه فيما يوجب الطهارة والغائط، وهو اسم للمكان المنخفض من الأرض. وكانت العرب تأتيه لتستتر فيه إذا أرادت الحاجة. فسمت الخارج منها باسم مكانه، تنزيهًا لأسماعها عما تنزه عنه أبصارها. واختلف أصحاب مالك رضي الله عنه في دخول البول في هذه الكناية. فذهب بعضهم إلى دخوله في ذلك. لأن العرب كانت تأتي هذا الموضع للبول. كما كانت تأتيه للحاجة الأخرى. وذهب بعضهم إلى منع دخوله في ذلك؛ لأن العرب لم تكن تستتر من البول كما كانت تستتر (¬5) في الحاجة الأخرى. ولا تكني عنه كما تكني عن غيره، فلم تنطلق التسمية عليه. ولأنه قال عليه السلام في بعض الأحاديث: "إلا من غائط وبول ونوم" (¬6) ففصل بين الغائط والبول، فدل على اختصاص كل واحد منهما باسمه. ¬

_ (¬1) تنطلق -ح-. (¬2) سبب له -و-ق-. (¬3) ما بين النجمتين ساقط من -ح-. (¬4) ساقطة -و-. (¬5) تتستر -ح-. (¬6) رواه ابن ماجة عن صفوان بن عسال قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم. وخير من هذا الاستدلال،:

وهذا الاختلاف سهل المدرك لأن الاتفاق قد حصل على أن البول ينقض الوضوء. وإنما حقق أصحابنا هذا الموضع لأنه ربما طلبوا (¬1) بالدليل على كون البول ناقضًا للوضوء فيستدلون بهذا الظاهر. وربما استدلوا به أيضًا في بعض فروع هذا الباب. فاحتيج إلى تحقيق القول فيه. وقد ورد الخبر بوجوب الوضوء من المذي وغير ذلك مما يغني الاتفاق عن إيراده. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الفرق بين الحدث وسببه فإن الحدث ينقض الوضوء بنفسه، لا لمعنى آخر يؤدي إليه، كالبول والغائط وشبههما. وأما سبب الحدث فلا ينقض الوضوء بنفسه، ولكن بما يؤدي إليه. ألا ترى أن النوم إنما ينقض الوضوء لأن الغالب منه خروج الحدث. ولهذا لم ينقض الوضوء قليله. لأن الغالب منه عدم خروج الحدث. وقد نبّه النبي عليه السلام على ذلك بقوله: "العينان وكاء السه (¬2). فإذا نامت العينان انطلق الوكاء". وكذلك لمس النساء ومس الذكر، إنما نقضا الوضوء لكونهما مثيرين للذة الجالبة المذي. ولهذا روعي فيهما أن يقعا على صفات ما. على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما سقط حكم الحدث إذا تكرر، الخروج (¬3) والمشقة اللاحقة فيه متى أوجبنا الوضوء لكل صلاة. والحرج مرفوع لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬4) ولأن الوضوء إنما يتعلق بما خرج من السبيلين على جهة العادة. والمتكرر من البول والمذي خارج ¬

_ = الاستدلال بالحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح واللفظ للبخاري لا تستقبل القبلة بغائط وبول. (¬1) هكذا في جميع النسخ ولعل الأولى طولبوا والكل صحيح. (¬2) رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود عن عليّ ولفظة العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ -وهو حديث منقطع- وروى البيهقي عن معاوية فإذا نامت العينان استطلق الوكاء. وهو حديث ضعيف - فتح القدير ج 4 ص 398. (¬3) الحرج -ح-ق- الخروج = وكلاهما لا يتلائم مع النص ولعل الصواب للحرج. (¬4) سورة الحج، الآية: 78.

عن العادة فألحق بما لا وضوء فيه كالحصى وغيره. ومتى كان هذا التكرر (¬1) لسبب يقدر على رفعه فإنه لا يعذر فيه بالتكرر. كمن كثر مذيه، وتكرر لطول عزبته، ولكنه يقدر على رفع عزبته بالتزويج (¬2) أو التسري أو صوم لا يشق عليه فعله. فإن هذا لا يعذر بتكرر المذي لقدرته على زوال سببه. وقد روي عن مالك رضي الله عنه ما ظاهره ترك العذر بالتكرر، وأجرى ما تكرر من ذلك على الأصل، ولم يعذر فيه بالحرج والمشقة. ويؤكد هذه الرواية ما صححه الترمذي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة (¬3). فلم ير - صلى الله عليه وسلم - تكرر الوضوء في حق المستحاضة من المشقة والحرج الذي يوجب إسقاط ذلك عنها. فكذلك (¬4) من سلس بوله ومذيه لا يكون تكرر الوضوء في حقه مشقة تسقط ذلك عنه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما تقييده بقوله: فلا وضوء فيه واجب. فإنما قيد بالوجوب لأنا وإن أسقطنا عمن (¬5) سلس بوله ومذيه الوضوء لمشقة ذلك، فإنا نستحب له أن يأخذ لنفسه بالأفضل ويؤدي الصلاة على وجه متفق عليه. فالاستحباب (¬6) ثابت، والوجوب ساقط. فلو قال: فلا وضوء فيه لبقي (¬7) الوجوب والاستحباب، عند من أخذ اللفظ على عمومه. فقيد بذكر الوجوب ليشير إلى الاستحباب. وقد قال بعض أصحابنا: إنما يتصور الاستحباب إذا كان للبول والمذي فترات ينقطع عندها (¬8). فيؤمر بالوضوء حينئذ والصلاة ليأتي بالعبادة في وقت السلامة من الحدث. وأما إن كان ¬

_ (¬1) التكرار. (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب التزوج. (¬3) رواه الترمذي بسنده إلى عدي بن ثابت عن أبيه عن جده أنه قال: المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها، التي كانت تحيض فيها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم ونصلي. وعقب عليه ببيان علله. عارضة الأحوذي ج 1 ص 199/ 200. (¬4) وكذلك -و-. (¬5) عن -ح-. (¬6) والاستحباب -و-. (¬7) هكذا في جميع النسخ. والصواب لنفى الوجوب والاستحباب ... (¬8) عندهما -و-.

البول قاطرًا لا يفتر فلا فائدة في استحباب الوضوء. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما خروج ما لم يعتد خروجه، كالحصى من الذكر، والدود من الدبر، ففي نقضه للوضوء اختلاف. فالجمهور على أنه لا ينقض الوضوء (¬1). لأن الأصل براءة الذمة من العبادة ولا تجب إلا بشرع. ولم يرد شرع بإثبات الوضوء من الحصى، وشبهه. فلم يثبته (¬2) في نواقض الوضوء التي ورد الشرع بها كما لم يثبت (¬3) ما خرج من فضلات البدن من سائر نوافذه، مثل الدمع والبصاق، حديثًا ناقضًا الوضوء. وقيل ينتفض به الوضوء لأنه خرج من السبيلين اللذين ينقض الوضوء ما خرج منهما مثل البول والغائط. فألحق هذا النوع بذلك. وأيضًا فإنه عليه السلام أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة مع قوله أن ذلك عرق وليس بالحيضة (¬4) ودم العرق ليس من المعتاد. وقد أمر بالوضوء منه لما خرج من السبيل المعتاد خروج ما ينقض الوضوء منه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما تعرض لذكر القيء والرعاف والحجامة والفصاد، لأن من الناس من ذهب إلى نقض الوضوء (¬5) بذلك على الجملة فنبه على مخالفتهم في ذلك. والدليل على فساد ما ذهبوا إليه: ما روي (¬6) أن رجلًا صلى وجرحه يسيل فلم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم - وقياسًا على الدمع والبصاق. وقد اتفقنا على أنه لا تأثير له. فإن قالوا بأن العلة في تأثير البول والغائط في نقض الوضوء، كونهما نجسين ¬

_ (¬1) الوضوء ساقط من -و-ق-. (¬2) نثبته -و-. (¬3) يثبت على -و-. (¬4) عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا! إنما ذلك عرق وليس بحيض فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة. وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي. متفق عليه - مشكاة المصابيح - 557. (¬5) إلى أن نقض الوضوء -و-. (¬6) ما روي = ساقطة -و-.

فيجب أن تكون كل نجاسة ظهرت من الجسد تنقض الوضوء قياسًا على البول والغائط. قيل ليس العلة في البول والغائط ما قلتموه. ولكن العلة كونهما خارجين من مخرج مخصوص، على رأي من قال من أصحابنا: أن كل خارج من الذكر ينقض الوضوء، أو كونهما خارجين مخصوصين من مخرج مخصوص على رأي من قال من أصحابنا: أن الحصى لا ينقض الوضوء. وإذا أمكن أن يكون الحكم متعلقًا بإحدى هاتين العلتين فلا وجه لاقتصارهم على العلة التي ذكروها بمجرد الدعوى. على أن إثبات هذه العلة وتحقيق القول فيما ذكرناه من العلل يفتقر (¬1) إلى ما يتعلق ذكره بأصول الفقه. وإنما ذكرنا ما ذكرناه على جهة المقابلة لهم. على أنهم يشترطون في النجاسات التي أثبتوها ناقضة للوضوء شرطًا لا يثبتونه في البول والغائط. ويشترطون (¬2) في القيء أن يكون ملء الفم على ما ذكره بعضهم. وهذا يضعف (¬3) قياسهم. وإن قالوا فإنه عليه السلام أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة (¬4) مع إخباره بأن ذلك دم عرق. فقال إنما ذلك عرق وليس بالحيضة. وهذا تعليل منه عليه السلام لإيجاب الطهارة بخروج النجاسة التي هي دم العرق. قيل لم يجعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - علة لإيجاب الوضوء. وإنما جعله علة لسقوط الغسل. لأن الدم الخارج من الرحم على جهة العادة يوجب الغسل. فأخبر عليه السلام أن هذا وإن كان دمًا خارجًا من مخرج الدم الآخر، فليس حكمه كحكمه. ألا ترى إلى قوله وليس (¬5) الحيضة. وهذا تنبيه على أنه إنما أراد إثبات المخالفة بينهما. على أن هذا الحديث وقع فيه من الاضطراب بين الرواة ما لا يكاد يحصى. وقد ذهب بعض الفقهاء إلى إثبات الغسل عليها لكل صلاة. وتعلقوا ببعض طرق هذا الخبر. وذهب بعضهم إلى إثبات ثلاث غسلات إحداها تجمع (¬6) به بين الظهر والعصر لاشتراك وقتهما. والغسلة ¬

_ (¬1) تفتقر -و-. (¬2) ويرون -ح-. (¬3) يضعفه -و-. (¬4) تقدم تخريجه قريبًا. (¬5) وليس ذلك -ح-. (¬6) يجمع بها. و.

الثانية (¬1) يجمع بها بين المغرب والعشاء لاشتراك وقتهما. والغسلة الأخرى أيضًا يصلي بها (¬2) الصبح وحدها لانفرادها بوقتها. وذهب آخرون إلى أنها تغتسل لصلاة الظهر كل يوم وتتوضأ لكل صلاة فيما بين ذلك. وذهب آخرون إلى إثبات الوضوء عليها لكل صلاة خاصة. وروي عن مالك إسقاط الوضوء عنها. وروي عنه إثباته عليها. وهذا الاضطراب الذي وقع بين الفقهاء يشير إلى ما قلناه من اضطراب الرواة (¬3). على أن أمره بالوضوء لها يمكن أن يحمل على الندب. وقد قيل إذا جمعت بوضوء صلاتين تشتركان في الوقت لم تعد. وقيل تعيد الأخيرة منهما في الوقت. وهذا يشير إلى أن أمرها بالوضوء لكل صلاة محمول على الندب على هذا. وإذا كان في الحديث من الاحتمال ما ذكرناه لم يكن لهم فيه حجة. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما الردة فقد اختلف المذهب في نقضها الوضوء (¬4). والاختلاف في ذلك مبني على الخلاف في الردة. هل يحبط العمل بمجردها *أو يشترط الموافاة عليها؟ فقيل يحبط العمل بمجردها* (¬5) لقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (¬6) وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (¬7). فأخبر بأن الشرك يحبط العمل ولم يشترط الموافاة عليه. وقيل لا يحبط العمل إلا بشرط الموافاة عليه لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (¬8). فقيد تعالى إحباط العمل بالردة بشرط الموت عليها. فدليل الخطاب يقتضي أن من لم يمت عليها فليس بحابط عمله. ¬

_ (¬1) الأخرى -ح -و-. (¬2) ساقطة -و-. (¬3) الرواة ساقطة -و-. (¬4) للوضوء -و-. (¬5) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬6) سورة المائدة، الآية: 5. (¬7) سورة الزمر، الآية: 65. (¬8) سورة البقرة، الآية: 217.

وإذا كانت إحدى الآيتين مقيدة والأخرى مطلقة وهما واردتان في معنى واحد رد المطلق منهما إلى المقيد. وهذا لا اختلاف (¬1) فيه بين أهل الأصول لا سيما إن قيل: إن الخطاب ها هنا للنبي -صلى الله عليه وسلم- لقوله: لئن أشركت - مراد به أمته (¬2). فإن قلنا نمنع الإحباط إذا لم يواف عليها (¬3) لم تنقض الردة الطهارة ولم (¬4) يلزمه إعادتها إذا عاد إلى الإِسلام. وإن قلنا بالإحباط بمجرد الردة انتقض الوضوء بالردة، ولزمته إعادته إذا عاد للإسلام. لأن الردة إذا أبطلت الوضوء، وأسقطت حكمه لم تصح الصلاة بوضوء قد بطل. وإن قيل (¬5): إنما معنى الإحباط ذهاب الأجر في الآخرة. وهذا لا يتعلق بالتكاليف المطالب بها العبد في الدنيا. قيل الحبوط السقوط. وإذا حبط الوضوء فقد سقط وبطل، حتى لحق بما لم يكن. وصار بمنزلة من لم يتوضأ. ومن لم يتوضأ لم يصل. ولا سيما مع تأكيده سبحانه بهذا المعنى بقوله فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة. وإذا سقط الشيء في الدنيا والآخرة لم يبق معنى يطلب (¬6) فيه. وقد قال بعض أصحابنا فيمن رفض الوضوء بعد كماله أنه لا يصلى به. لأن معنى رفضه اعتقاد سقوط الأجر فيه، وبطلان أحكامه. وهذا يمنع الاعتداد به. وقد قال بعضهم لا يبطل الوضوء بالرفض ولا يحبط الأجر باعتقاد ذلك فيه. لأن اعتقاد المكلف لذلك فيه خطأ منه، واعتقاد لغير ما ورد الشرع به. وما ورد الشرع به أولى من اعتقاده (¬7) الباطل. ومن حكم في الشيء بغير حكم الله فحكم الله أولى من حكمه. ويفارق هذا إحباط الردة (¬8)؛ لأن من يرجى منه الثواب على العمل أخبر أنه لا يثيب عليه إذا وقعت الردة بعده، ولم يخبر بذلك في الرفض. ¬

_ (¬1) خلاف -و-ق-. (¬2) مراده أمته -و- ومراده به أمته -ق-. (¬3) عليه -ح-ق-. (¬4) ولا يلزمه -ق-. (¬5) فإن قيل -و-ق-. (¬6) يتطلب -ح-. (¬7) اعتقاد الباطل -ق -و-. (¬8) إحباط الردة له -و-.

وقد روي عن مالك فيمن تناوم فلم ينم، أنه يعيد الوضوء بناء على الطريقة الأولى في الرفض. لأن هذا لما تناوم مع علمه أن النوم ينقض الوضوء صار كالرافض لوضوئه. وهذا بعيد لأن النوم الذي يعتقد أنه يبطل وضوءه لم يحصل. ويلزم عليه (¬1) أن من قصد الجماع ثم لم يفعل أن يعيد غسله وهذا كالمستنكر عند أهل الشرع. قال القاضي رحمه الله: وأما أسباب الأحداث فهي ما أن إلى خروج الأحداث غالبًا وذلك نوعان: (¬2) زوال العقل بالنوم والسكر والجنون والإغماء. فأما النوم المستثقل فيجب منه الوضوء على أي حال كان النائم من اضطجاع، أو سجود، أو جلوس، أو غير ذلك. وما دون الاستثقال، يجب منه الوضوء في الاضطجاع والسجود ولا يجب في الجلوس. وأما السكر والجنون والإغماء فيجب الوضوء بقليله وكثيره. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال: 1 - هل النوم حدث ينقض الوضوء على الإطلاق؟. أو هو سبب حدث (¬3) لا ينقضه حتى يكون على صفة؟ 2 - وما هذه الصفة؟. 3 - ولِمَ لم تراع هذه الصفة في الإغماء كما روعيت في النوم؟. 4 - ولِمَ فرّق بين نوم الجالس والساجد؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في النوم فذهبت طائفة إلى أنه لا ينقض الوضوء أصلًا إلا أن يتيقن خروج الحدث، فيكون التأثير للحدث لا للنوم. ذهب إلى ذلك أبو موسى رضي الله عنه وغيره. وذهبت طائفة إلى أنه حدث ينقض الوضوء على الإطلاق. وذكر ذلك عن ابن القاسم. وذهب الجمهور من أصحابنا وغيرهم إلى أنه ليس بحدث. ولكنه سبب الحدث ¬

_ (¬1) على هذا -ح-. (¬2) أحدهما -الغاني-. (¬3) للحديث -و-.

ينقض الوضوء إذا وقع على صفة الغالب منها خروج الحدث دون علمه. وسبب اختلاف هذه المذاهب اختلاف الآثار" الواردة في هذا. فخرج مسلم عن أنس أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون (¬1). وقد نقل بعضهم هذا الحديث وزاد فيه فيضعون جنوبهم. ونقله بعضهم وزاد فيه تخفق رؤوسهم (1). وهذا يدل على جلوسهم. وروى أنس حديثًا قريبًا من هذا. وفي حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم: أخر العشاء حتى نام القوم واستيقظوا (¬2). قال أحد رواته ولم يذكر أنهم توضؤوا. وقد روي عنه عليه السلام: أنه نام حتى غط ولم يتوضأ (¬3) فأخذ نفاة الوضوء من النوم (¬4) بظواهر هذه الأحاديث، وأخذ من ذهب إلى أنه حدث ينقض الوضوء قليله وكثيره بظواهر أُخر تخالفها. فمنها قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} (¬5). وهذه الآية نزلت (¬6) عند قيامهم من النوم فصار القيام من النوم سببًا لنزولها. واللفظ العام إذا خرج على سبب خاص فلا خلاف في تناوله للسبب. وإنما اختلف أهل الأصول في تناوله ما عدا السبب. وإذا تناولت الآية النوم مطلقًا اقتضت ايجاب الوضوء بقليله وكثيره. ومنها قوله في حديث صفوان (¬7) لكن من غائط وبول ونوم (¬8). فعم كل نوم. وقد قال بعض أهل الحديث أن هذا الحديث متصل، ¬

_ (¬1) مسلم بسنده إلى أنس رضي الله عنه يقول: كان أصحاب رسول الله ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون. حيض 126. وروى أبو داود والترمذي حتى تخفق رؤوسهم - مشكاة المصابيح 317. (¬2) البخاري ومسلم وغيرهما - فتح الباري ج 2 ص 190. (¬3) الترمذي عن ابن عباس أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم نام وهو ساجد حتى غط أو نفخ ثم قام فصلى. علق عليه ابن العربي. حديث ابن عباس ضعيف مركب على نوم ابن عباس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد رواته خالد يزيد الدالائبي ضعيف - العارضة ج 1 ص 103. (¬4) من النوم ساقطة -ح-. (¬5) المائدة، الآية: 6. (¬6) أنزلت -ح-. (¬7) تقدم قريبًا. (¬8) ساقطة من -و-.

مشهور راويه بالصدق والعدل. ولما رأى مالك رضي الله عنه والجمهور من العلماء اختلاف هذه الظواهر، صاروا إلى تأويلها. ورد بعضها إلى بعض لئلا تتناقض أدلة الشرع. فنوعوا النوم نوعين: أحدهما خفيف لا يغمر العقل ويذهب بإحساس أدنى حركة. وهذا لا ينقض الوضوء وعليه تحمل الظواهر الأول. والآخر ثقيل يغمر العقل ولا يحس معه الأصوات الشديدة المريعة. وعلى هذا تحمل الظواهر الأخرى. وقد أشار سبحانه إلى هذا التقسيم بقوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (¬1). وقد قال بعض أهل المعاني السنة: النعاس. والنعاس ما لم يغمر العقل، والنوم ما غمره قال الشاعر: (¬2) وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم وقال المفصل: السنة في الرأس، والنوم في القلب. يشير بهذا إلى أن أوائل النوم التي هي النعاس إنما تغمر الحس الذي بالرأس. فإذا ثقل النوم غمر الحس الذي بالقلب الذي هو أصل هذه (¬3) الإحساس عند بعضهم. وقد أشار عليه السلام إلى هذه الجملة بقوله: إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي (¬4). فأشار إلى اختلاف محل النوم في حال خفته من حال ثقله. وأكدوا هذه الطريقة بأحاديث أُخر أيضًا. منها قوله عليه السلام: العينان وكاء السه (¬5). فشبه عليه السلام العينين حال اليقظة في حفظهما للإنسان من خروج ما يستره، بالرباط الذي يحفظ الوعاء عن خروج ما استتر فيه. ونبه بهذا التشبيه على أن النوم إنما ينقض الطهارة إذا حصل على صفة تمنع النائم من (¬6) علم ما خرج منه. ومنها تعليله عليه السلام لوضوء من نام مضطجعًا، بأنه إذا اضطجع استرخت مفاصله. وهذا تنبيه على الهيئة التي يسهل معها خروج الحدث. وهذا دلالة على أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 255. (¬2) هو عدي بن الرقاع. (¬3) هكذا في جميع النسخ. (¬4) أخرجه البخاري تهجد ج 3 ص 275 - مسلم مسافرين ورواه مالك والترمذي وأبو داود. (¬5) تقدم قريبًا. (¬6) عن -و-.

المعتبر خروج الحدث لا مجرد النوم. وإذا صحت هذه الطريقة التي صار إليها الجمهور، وجب أن يعتبر في كون النوم ناقضًا للوضوء وقوعه على صفةٍ، الغالب منها خروج الحدث. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الصفة فإن أبا حنيفة صار إلى أنها الاضطجاع خاصة دون سائر الهيئات. واحتج بالخبر الوارد في نوم المضطجع (¬1). وأما مالك فلم يخص (¬2) هذه الصفة، بل أحال (¬3) على اجتهاد النائم لأن معرفته بنفسه أبلغ من معرفة غيره به. وقرب له هذا الاجتهاد بأن النوم إذا كان طويلًا مستثقلًا (¬4) كان الغالب منه (¬5) خروج الحدث دون علم النائم. فوجب أن ينقض الوضوء. وقال بعض شيوخنا لو وقع النوم على حالة يشك فيه. هل هو بهذه المنزلة التي الغالب منها خروج الحدث، أو خلافها؟ ويجري على القولين فيمن *تيقن بالوضوء* (¬6) وشك في الحدث. وقد اختلف قول (¬7) أصحاب مالك في نوم القائم والراكع. فقال بعضهم لا مدخل له في نقضه الوضوء. وهذا لأحد أمرين: أما أن يكونوا ألحقوه بالقسم الأول الذي هو النوم الخفيف. أو ألحقوه بهذا القسم الأخير المشكوك فيه. فلم يوجبوا الطهارة بالشك بناء على أحد القولين في هذا الأصل. وقال بعضهم ينقض الوضوء. وسلكوا في ذلك خلاف المسلكين الأولين. "إما أن يكونوا ألحقوه بالنوم الثقيل، أو بالمشكوك فيه وأوجبوا (¬8) فيه الوضوء بناء على أحد ¬

_ (¬1) الخبر الوارد في نوم المضطجع هو حديث ابن عباس المتقدم وفي آخره فقلت يا رسول الله أنك قد نمت قال أن الوضوء لا يجب إلا على من نام مضطجعًا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله. العارضة ج 1 ص 103. (¬2) يحصر -ق-و-. (¬3) أباح -ح-. (¬4) مستثسقلًا -ساقطة -و-. (¬5) عليه -و-. (¬6) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬7) قول ساقطة -و-. (¬8) أو المشكوك فيه. أوجبوا -ح-.

القولين في إيجاب الطهارة بالشك في الحدث. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الإغماء أو الجنون فقد ذهب بعض شيوخنا إلى (¬1) أنه يعتبر فيهما أن يقعا على صفة الغالب منها خروج الحدث كما اعتبر (¬2) ذلك في النوم. فإن (¬3) كان الإغماء خفيفًا أو بحضرة أحد لا يخفى عنه ما خرج من المغمى عليه، فإن ذلك لا ينقض الوضوء. والجمهور على أن الإغماء بمجرده ينقض الوضوء. وأنه لا يتنوع كما يتنوع النوم. إذ لا يكون أبدًا إلا ثقيلًا. ألا ترى أن النائم إذا نبه انتبه والمغمى عليه لا يمكن أن يقدر على إزالة إغمائه بالتحريك أو غيره دون إزالة السبب الذي كان عنه الإغماء. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما فرق بين الجالس والساجد (¬4) لأن الجالس على هيئة، يبعد معها خروج الحدث، ولا يكون النوم معها ثقيلًا. والساجد بخلاف هذا. وقد روي أنه عليه السلام قال: من نام جالسًا فلا وضوء عليه ومن وضع جنبه فعليه الوضوء (¬5). وهذا لما قدمناه من اعتبار الخفة والثقل. فما كان الجالس هيئته (¬6) يبعد معها خروج الحدث لانضمام المخرج، ويمنع النوم أن يثقل، أسقط عليه السلام الوضوء فيها. وقد قال بعض أصحابنا هذا إنما يكون في جالس غير مستند. *فأما المستند* (¬7) فإنه يمكن أن يثقل نومه لاستناده. قال القاضي رحمه الله: والنوع الآخر. اللمس (¬8) وهو ضربان: لمس ¬

_ (¬1) على -ح-. (¬2) يعتبر -ح-. (¬3) وان -ح-. (¬4) الساجد والجالس -ح-ق-. (¬5) من نام وهو جالس فلا وضوء عليه فإذا وضع جنبه فعليه الوضوء. رواه أحمد عن ابن عمرو - الجامع الأزهر 4114. (¬6) على هيئة -ح-. (¬7) ما بين النجمين = ساقط من -ح-. (¬8) اللمس ساقطة -الغاني.

النساء ومس الذكر. فأما لمس النساء فيجب الوضوء منه إذا كان (¬1) للذة قليلًا كان أو كثيرًا، مباشرًا أو من وراء حائل رقيق لا يمنع اللذة. وإن كان صفيقًا لم يوجب الوضوء لمنعه اللذة. ولا فرق بين اللمس باليد، أو الفم أو بغيرهما من الأعضاء إذا وجدت اللذة (¬2). ولا بين لمس الأعضاء أو الشعر إذا كان هناك لذة، ولا بين الزوجة والأجنبية وذات المحرم. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة: منها أن يقال: 1 - لم وجب الوضوء من اللمس على الجملة؟. 2 - وما دليل وجوبه؟. 3 - ولم اعتبرت فيه اللذة؟. 4 - ولم أكد بقوله قليلًا كان أو كثيرًا؟. 5 - ولم خص اليد والفم بالذكر دون سائر الأعضاء؟. 6 - ولم خص الشعر بالذكر مع (¬3) سائر الأعضاء؟. 7 - ولم ذكر الزوجة وذات المحرم؟. 8 - وهل يؤثر اللمس مع القصد للذة دون وجود اللذة؟. 9 - وهل وجود اللذة دون اللمس كوجود اللذة مع اللمس؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا أن ما كان سببًا للحديث فإنه كالحدث في إيجاب الوضوء. ولما كان اللمس سببًا للذة، واللذة سبب لخروج المذي، والمذي حدث ينقض الوضوء، وجب أن يكون اللمس للذة ينقض الوضوء أيضًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الدليل على أن اللمس ينقض الوضوء فقدله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬4). فإن قيل قد ذهبت جماعة من ¬

_ (¬1) إذا كان ساقط من -و-. (¬2) أو بغيرهما إذا وجد اللذة. الغاني. غ. (¬3) هكذا في جميع النسخ. (¬4) سورة النساء، الآية: 43.

الناس إلى أن اللمس المذكور ها هنا المراد به الجماع، وأن اللمس باليد لا يوجب الوضوء. قيل: أما اللمس فيطلق على الجماع كما قلتموه. وقد ذكر أن (¬1) اللمس يراد به الجماع في مواضع من القرآن. منها قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} (¬2). وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} (¬3). وقال ابن عباس: المباشرة واللمس والرفث والإفضاء والتغشي في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، هو الجماع. ولكن الله يكني. ويطلق على اللمس باليد. قال الله سبحانه: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} (¬4). {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ} (¬5). وإذا انطلق على الأمرين حملناه عليهما إن كان حقيقة فيهما على القول بالعموم. وإن منع من حمله عليهما مانع، أما لانكار العموم، أو لغير ذلك وجب طلب الترجيح. فأما من حمله على الجماع فرجح ذلك بأن الله سبحانه ذكر في صدر (¬6) الآية طهارة الماء التي تجب عن الحدث الأصغر وعن الحدث أكبر، وهو الجنابة. ثم لما ذكر الواجب عند عدم الماء، وهو التيمم، ذكر الحدث الأصغر وهو المجيء من الغائط، وذكر اللمس، فيجب أن يحمل على الجماع لينتظم ذكر المحدثين آخر الآية، كما انتظمه صدرها. وأما من حمله على مس اليد فإنه رجح بأنه عطف على المجيء من الغائط. وهو مما يختص بالطهارة الصغرى. فوجب أن يحمل اللمس على ما يختص بالطهارة الصغرى ليكون حكم (¬7) العطف والمعطوف عليه واحد (¬8). وإذا تقابل هذان الترجيحان عضدنا ترجيحنا بقياس. فقلنا لما كان النوم سببًا للحديث الحق به. وكذلك مس الذكر لما كان سببًا للحديث ألحق به. فيجب أن يكون اللمس كذلك. ¬

_ (¬1) ان ساقطة -ح-. (¬2) سورة البقرة، الآية: 237. (¬3) سورة البقرة، الآية: 236. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 7. (¬5) سورة الجن، الآية: 8. (¬6) هذه الآية -ح-. (¬7) ذكر -ح-. (¬8) هكذا بالرفع في جميع النسخ.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما اللمس بمجرده فلا ينقض الوضوء عندنا، وأما الشافعي فإنه ينقضه عنده مجرد اللمس دون حائل وإن لم يلتذ، تمسكًا منه بعموم قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (¬1). ولم يشترط اللذة. وأما نحن فإنا (¬2) اعتبرنا اللذة لقول عائشة رضي الله عنها: افتقدت النبي - صلى الله عليه وسلم - في الفراش فقمت أطلبه فوقعت يدي على أخمص قدمه فلما فرغ من صلاته قال: أتاك شيطانك (¬3). ولم تذكر أن صلاته انتقضت بمجرد لمسها. فوجب تخصيص الآية بذلك وحملها على اللمس للذة. فإن قيل: فإن الشافعي ذهب في أحد (¬4) قوليه إلى أن الملموس لا تنتقض طهارته وإنما تنتقض طهارة اللامس، خاصة. والشعبي - صلى الله عليه وسلم - ها هنا ملموس فلا حجة به عليه. قيل قد روت أيضًا: أنها كانت تنام بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي. فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي (¬5). ولم يذكر أن صلاته انتقضت وهو عليه السلام ها هنا لامس. فإن قيل هذا مخصوص للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنكم قلتم أن اللمس إنما ينقض الوضوء على الجملة لكونه سببًا في اللذة. والنبي - صلى الله عليه وسلم - أملك لإربه منا. كما قيل في قُبلته (¬6) وهو صائم (¬7). قيل ظاهر أفعاله التعدي عند جمهور أهل الأصول. فمن قصرها فعليه ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 43. (¬2) فقد -و-ق-. (¬3) عن عائشة رضي الله عنها قالت: فقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فالتمسته بيدي. فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان -وهو ساجد- الحديث. البيهقي ج 1 ص 127 وقيل الأوطار ج 1 ص 246. قال صاحب المنتقى رواه مسلم والترمذي وصححه. (¬4) آخر -ح-ق-. (¬5) عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلاي -فإذا قام بسطتهما والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح. الفتح ج 2 ص 38، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي ومالك وأحمد. (¬6) القبلة -و-. (¬7) عن عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه. الفتح ج 5 ص 52/ 53.

الدليل. فإن قيل لعله غمزها من فوق الثوب الكثيف. وهذا لا ينقض الوضوء (¬1) عندكم. قيل الظاهر خلاف هذا، لأنه لو كان لذكرته. ولو سلمنا احتمال هذا القصد (¬2) لعضدنا ما قلناه بالقياس. فقلنا قد قدمنا أن اللمس إنما ينقض الوضوء لكونه سببًا للحديث الذي هو المذي. ومعلوم أنه لا يكون سببًا لذلك إلا إذا حصل مع اللذة. فإذا حصل دونها لم يكن سببًا في ذلك، فوجب أن يتنوع نوعين كما تنوع النوم نوعين. فكان الثقيل منه ينقض الوضوء لكونه سببًا في الحدث، بخلاف الخفيف كما قدمنا. وإذا ثبت أن اللمس لا ينقض الوضوء (¬3) بمجرده دون اعتبار صفة. فما هذه الصفة؟ أما مالك فإنه ذهب إلى أنها اللذة. وأما أبو حنيفة فإنه ذهب إلى أنها الانتشار. ومذهبنا أصح لأنه إنما حرم بذكر الانتشار للذة فكان التصريح باعتبارها أولى (¬4). والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما أكد في ذكر اللمس بقوله قليلًا كان أو كثيرًا، لأنه ذكره متصلًا بذكر النوم. وقد اشتركا جميعًا في أنهما سببان للحديث، وليسا يحدث. والنوم يفترق قليله من كثيره فنبه على أن هذا المشارك له بخلافه. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما خص اليد بالذكر لأنها هي التي يلمس بها عادة. ولهذا خصها المتكلمون عند ذكرهم حاسة اللمس. وبعض الفلاسفة يرى أيضًا أنها أحس من غيرها. وأما تخصيصه الفم بالذكر فلأن بعض أصحابنا رأى أن القبلة على الفم بخلافها على الخد. وأن القبلة على الفم يجب بها الوضوء على الإطلاق من غير اعتبار لذة. وليس هذا بهدم لما بنيناه من اعتبار اللذة، لأنهم اعتلوا بأن القبلة على الفم لا تكاد تخلو من اللذة وإن خفيت أحيانًا. فلهذا الاختلاف في هذا العضو خصه بالذكر. ¬

_ (¬1) الوضوء ساقطة -ح-. (¬2) القصد ساقطة -ح- احتمال هذا لقصدنا ما قلناه -و-ق-. (¬3) ساقط -ح-. (¬4) هكذا في جميع النسخ.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما خص الشعر بالذكر (¬1) لأن الذاهبين إلى اعتبار اللذة اختلفوا فيه. فقال بعضهم لا مدخل للمسه في نقض الوضوء. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما ذكر الزوجة؛ لأن عطاء ذهب إلى أن اللمس إنما ينقض الوضوء إذا كان محرمًا كلمس الأجنبية. فإن كان محللًا لم ينقضه. كمس الزوجة. فنص على ذكر الزوجة تنبيهًا على هذا الخلاف. وإنما خص ذات المحرم بالذكر أيضًا، لأن أصحاب الشافعي مختلفون في نقض الوضوء بمس ذوات المحارم. مع أنهم لا يعتبرون اللذة. فقال بعضهم ينقض الوضوء، لأن قصارى ما فيه عدم اللذة، ونحن لا نعتبرها. وقال بعضهم لا ينقض الوضوء لأن ذات المحرم ليست بمحل للشهوة على حال. فأشبه لمس الرجل الرجل، والمرأة المرأة. ومن هذا الأسلوب أيضًا تنازعهم في مس الصغيرة التي لا تشتهى، والعجوز الهرمة. هل ينقض الوضوء لعموم الآية أو لا ينقضه، لأنهما ليستا (¬2) بمحل الشهوة على حال. فنبه القاضي أبو محمَّد على ذات المحرم لآجل هذا الاختلاف. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما من قصد اللذة بلمسه فلم يجدها، ففي انتقاض طهارته قولان. وهما مبنيان على رفض الوضوء. وقد قدمنا فيه، ما فيه كفاية فلا وجه لإعادته ها هنا (¬3). والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما من نظر فالتذ بقلبه دون لمس، فالجمهور من أصحابنا على أن وضوءه لا ينتقض. لأن إثبات الأحداث طريقه (¬4) الشرع. وقصارى ما ورد في الشرع في هذا، ذكر اللمس. وقد قدمنا أن جماعة من العلماء حملوا على الجماع، وأنكروا أن يكون اللمس مع اللذة ¬

_ (¬1) ساقطة من -و-. (¬2) لانه ليس -و-. (¬3) ها هنا ساقطة -و-ق-. (¬4) طريقة في -ح-ق-.

ينقض الوضوء. ونحن حملناه على اللمس مع اللذة ترجيحًا لمذهبنا بما قدمناه. فأما مجرد اللذة دون لمس فلا يوجد ظاهر لا في الكتاب ولا في السنة يتمسك به فيه فلا (¬1) يصح إثباته بالدعوى. وذهب بعض أصحابنا إلى أن ذلك ينقض الوضوء، لأن اللمس ليس بحدث وإنما نقض الوضوء لكونه سببًا في المذي. والسبب في المذي على الحقيقة هو اللذة لا مجرد اللمس. فوجب اعتبارها في نقض الوضوء وإن لم يصحبها لمس. قال القاضي رحمه الله: وأما مس الذكر فالمراعاة (¬2) فيه اللذة عند بعض (¬3) أصحابنا البغداديين، كلمس النساء، وعند المغاربة وبعض البغداديين بطن (¬4) الكف والأصابع فقط. ومس المرأة فرجها مختلف فيه. قال الإِمام رضي في الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة: منها أن يقال: 1 - لم وجب الوضوء من مس الذكر؟. 2 - وما دليل وجوبه؟. 3 - وهل باطن الأصابع كباطن الكف؟. 4 - وهل مسه من فوق حائل يؤثر أم لا؟. 5 - وهل مسه على جهة النسيان يؤثر أم لا؟. 6 - وهل مس ذكر غيره كمس ذكره؟. 7 - وهل مس الذكر المقطوع كمس الذكر المتصل؟. 8 - وهل مس الخنثى ذكره كمس من ليس بخثنى؟. 9 - وما وجه الاختلاف في مس المرأة فرجها؟. 10 - وما حكم من صلى وقد مس ذكره؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما من راعى من أصحابنا اللذة في مس الذكر، فإنه إنما نقض الوضوء لمس الذكر، لكون مسه للذة سببًا في خروج ¬

_ (¬1) فلم -ح-. (¬2) فالمراعى -و-. (¬3) ساقطة من -ح -و-ق-. ومثبتة عند الغاني وحده. (¬4) ببطن -و-الغاني-.

المذي. والمذي حدث، فوجب أن يكون ما هو سبب للحديث كالحدث. كما قدمناه في لمس النساء. وأما من لم يراع اللذة من أصحابنا، ورأى أن مجرد لمسه بباطن الكف سهوًا أو محمدًا ينقض الوضوء، فإنه يرى أن نقض الوضوء بمسه حكم غير معلل. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الأحاديث في مس الذكر. فورد منها، ما ظاهره أنه لا يؤثر في نقض الوضوء. وبه قال مالك في إحدى الروايتين عنه، وأبو حنيفة وداود. وورد منها ما ظاهره انتقاض الوضوء بمسه. وبه قال مالك (¬1) في إحدى الروايتين عنه والشافعي. فمما ورد دالًا على نفي الوضوء منه قوله في حديث طلق لما سئل عن مسه؟ هل هو إلا بضعة منك؟ (¬2) وظاهر هذا نفي الوضوء منه (¬3) لأن كل بضعة سواه لا يلزم الوضوء بمسها. فحقيقة التشبيه توجب نفي الوضوء. ومِمَّا وَرَدَ دالًّا على إثبات الوضوء منه حديث بسرة: " إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" (¬4). وحديث أبي هريرة: "إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ وضوءه للصلاة (¬5) ". ولما اختلفت هذه الأحاديث صار ¬

_ (¬1) ساقطة -و-. (¬2) عن طلق بن علي قال: قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل كأنه بدوي فقال: يا رسول الله. ما ترى في مس الرجل ذكره بعد أن يتوضأ؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟ أخرجه أبو داود والترمذي وصححه. وأخرجه الطيالسي وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن حيان وغيرهم. الهداية ج 1 ص 381/ 382. (¬3) ساقطة -و-. (¬4) عن بسرة إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ. رواه مالك. وصححه ابن معين وأحمد وأخرجه الترمذي وصححه. وأخرجه أبو داود والشافعي والطيالسي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة وغيرهم. الهداية في تخريج أحاديث البداية 359/ 361. (¬5) عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حائل فليتوضأ وضوءه للصلاة. أخرجه الشافعي وأحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم. الهداية ج 1 ص 364/ 365. =

الجمهور من أصحابنا إلى بنائها ورد بعضها إلى بعض، لئلا تتناقض أدلة الشرع. فقال البغداديون من أصحابنا: أحاديث الإثبات محمولة على مسه للذة. وحديث النفي محمول على مسه لغير لذة. وجعلوا اعتبار اللذة مذهبًا لهم. وعضدوا هذا التأويل بالقياس على لمس النساء. وقد اعتبر مالك وأصحابه اللذة فيه. وقال المغاربة حديث الإثبات محمول على مسه بباطن الكف أو الأصابع. وحديث النفي محمول على مسه بغير ذلك. وعضدوا هذا التأويل بقوله إذا أفضى أحدكم. والإفضاء لا يكون إلا بباطن الكف. وقد سلك العراقيون هؤلاء (¬1) طريقة البناء أيضًا (¬2) فيما روي عن مالك من إثبات الوضوء ومن نفيه، وقوله الوضوء منه حسن وليس بسنة على أنه إنما نفاه مع عدم اللذة وأثبته مع وجودها. ورأى سحنون أن ذلك اختلاف قول منه. وأما من لم يسلك طريقة البناء فلا بد له (2) من طلب الترجيح ليستعمل أحد الحديثين ويترك الثاني. وأما الآخذون بحديث النفي، فرجحوا بأن مس الذكر مما تعم البلوى به، ويكثر نزوله، فلا يقبل فيه خبر الواحد. وأجيبوا (¬3) على هذا بأنه قد (¬4) رواه أربعة عشر من الصحابة بين رجل وامرأة. وهذا يوجب انتشاره. ورجحوا أيضًا بأن الأخبار الواردة معلولة وقد اجتمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فتذاكرا الوضوء من مس الذكر، وتكلما في الأخبار الواردة (¬5)، واتفقا على إسقاط الحجاج بالخبرين معًا. خبر بسرة وخبر طلق. ثم صارا إلى الآثار (¬6) المروية عن الصحابة. فاحتج أحمد في إثبات الوضوء بما روي عن ابن ¬

_ = وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ. رواه ابن ماجة والشافعي والطحاوي والبيهقي. الهداية ج 1 ص 367. (¬1) ساقطة -و-. (¬2) ساقطة -و-. (¬3) أجيب عن -و-. (¬4) قد ساقطة -و-. (¬5) ساقطة -و-. (¬6) الأخبار -و-.

عمر فلم يمكن يحيى دفعه. وأما الآخذون بإثبات الوضوء فرجحوا بأن أخبار الإثبات أكثر رواة، وأصح سندًا. وبأن رواية النفي متقدمة ورواية أبي هريرة بالإثبات متأخرة يجب أن تنسخ ما قبلها *فإن قيل أحاديث الإثبات وردت بصيغة أمر مجرد فمحملها (¬1) * على الاستحباب. وقد قال مالك الوضوء منه حسن وليس سنة. قيل جمهور الفقهاء على أن الأمر على الوجوب. وهذا يقتضي حمل الأمر ها هنا على الوجوب حتى يقوم دليل على حمله على الندب، ولم يقم ها هنا دليل. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف (¬2) في باطن الأصابع هل هو كباطن الكف أم لا؟ فالمشهور أنها كذلك. وهو الأولى على مذهب المغاربة لأنهم إنما تعلقوا بقوله إذا أفضى أحدكم بيده، والإفضاء يكون بباطن اليد، أصابعها وكلها (¬3). والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما مسه من فوق حائل ففيه روايتان. روى عنه ابن القاسم أنه إذا مسه من فوق الثوب فعليه الوضوء مطلقًا. وقيد ابن زياد عنه هذه الرواية بأن يكون الثوب خفيفًا. وروى عنه ابن وهب نفي الوضوء ولو كان خفيفًا. فوجه الأول قوله إذا مس أحدكم ذكره. ولم يفرق بين وجود الحائل وعدمه. ووجه النفي قوله أيضًا (¬4): إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره، لي بينهما شيء فقيد بعدم الحائل. والحديث المطلق يجب أن يرد إلى المقيد. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال (¬5): اختلف في مسه على جهة النسيان. فقيل لا وضوء فيه لقوله: رفع عن أمتي خطؤها ونسيانها (¬6). وقيل بل ينقض الوضوء لقوله: إذا مس أحدكم ذكره. ولم يفرق بين العمد والنسيان. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط -و-. (¬2) ساقطة -ح-. (¬3) بباطن أصابع اليد وكلها -و-. (¬4) ساقطة من -ح-. (¬5) ساقطة -ح-. (¬6) عن ثوبان الجامع الصغير للسيوطي وصححه -وتعقبه المناوي وبين ضعفه- فيض القدير ج 4 ص 35.

والقول الأول يستمر على قول من اعتبر اللذة من البغداديين. والقول الثاني يستمر على قول من اعتبر مجرد اللمس (¬1) بباطن الكف من المغاربة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما جمهور من أثبت الوضوء بمس (¬2) ذكر نفسه فإنه يثبته بمس ذكر غيره إلا داود، فلم يوجب (¬3) الوضوء من مس ذكر غيره تعلقًا منه بقوله إذا مس أحدكم ذكره. وإذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره. وهذا يدل على أن ذكر غيره بخلاف ذكره. وقد قابل بعض أصحابنا هذا بقوله من مس الذكر الوضوء (¬4). فعم. وعندي أنه يجب أن يؤثر في نقض الوضوء إذا لمسه للذة على مذهب البغداديين من أصحابنا. ويكون حكمه حكم (¬5) ملامسة النساء للذة. إن أمكن أن توجد اللذة بمس (¬6) ذكر غيره غالبًا (¬7). وأما على مذهب المغاربة فالأحاديث الصحيحة إنما وردت بمس ذكر نفسه. ولو ثبت قوله من مس الذكر الوضوء لأمكن أن يخص هذا العموم بالعادات على رأي بعض أهل (¬8) الأصول. لأن العادة لم تجر إلا بمس الإنسان ذكر نفسه لا ذكر غيره. وقد اختلف العلماء في مسه ذلك من بهيمة. والقول فيه عندي كالقول في مسه ذكر إنسان غيره. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: تنازع العلماء في مس الذكر المقطوع. هل هو كمس الذكر المتصل؟ وتحقيق القول فيه كالقول في مس ذكر غيره على ما فصلته من مذهب البغداديين والمغاربة. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما الخنثى الذي له فرجان فإنه ¬

_ (¬1) من اعتبر اللذة -و-. (¬2) لمس -ح-. (¬3) فإنه لم يجب -و-. (¬4) من مس الذكر فليتوضأ. أخرجه أحمد والنسائي. نيل الأوطار ج 1 ص 233. (¬5) كحكم -و-. (¬6) بلمس -و-. (¬7) هكذا في جميع النسخ. والتعبير قلق لتصدره بأن وختمه بغالبًا. (¬8) على رأي بعض أصحاب أهل الأصول -و-.

يعتبر فيهما مخرج البول. فمن حيث خرج (¬1) تعلقت به الأحكام. إن خرج من الذكر انتقض وضؤوه بمسه ولم ينتقض بمسه (¬2) فرجه الآخر. وإن خرج من فرجه انتقض بمسه (¬3) على القول بنقض وضوء المرأة من مس (¬4) فرجها ولم ينتقض من مس ذكره. وإن تساوى خروجه منهما فتنازع العلماء في نقضه الوضوء من مسه لفرجه. وعندي أنه يتخرج على القولين: فيمن أيقن بالوضوء وشك في الحدث. هل ينتقض وضوؤه احتياطًا للعبادة حتى لا يبرأ من الصلاة إلا بيقين، أو لا ينتقض وضوؤه استصحابًا لبراءة الذمة. وقد قدمنا مثل هذا في النوم المشكوك فيه أنه يتخرج على القولين وهذا على مذهب المغاربة. وأما على مذهب البغداديين فلا يحتاج إلى هذا التفصيل لأنهم يعتبرون اللذة. ففي أي الفرجين اعتاد وجودها تعلق الحكم به. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما مس المرأة فرجها فمن أصحابنا من حمل الاختلاف فيه على حالين. فإثبات الوضوء منه محمول على أنها إن (¬5) مست باطنه أو قبضت عليه. ونفيه على أنها إن (5) مست على خلاف ذلك. وهذا يستمر على طريقة أصحابنا البغداديين الذين يعتبرون اللذة في (¬6) مس الذكر. فإذا مسته على الصفة التي ذكرنا (¬7) بأنها توجب الوضوء فالغالب أنها تجد اللذة فلهذا يجب الوضوء. وإذا مسته على خلاف ذلك لم تجد لذة. فلهذا لم يجب الوضوء. ومن أصحابنا من صار في هذا الاختلاف إلى ظاهره. ورأى أن إثبات الوضوء من مسه على الإطلاق هو مقتضى عموم قوله من مس الفرج الوضوء (¬8). وقد قال بعض أصحابنا يتخرج على هذه الرواية إثبات الوضوء ¬

_ (¬1) ساقطة -ح-. (¬2) بمس -ح-. (¬3) ساقطة -و-. (¬4) من مس المرأة -ح-. (¬5) إن ساقطة -ح-ق-. (¬6) مع -ح-. (¬7) ذكرناها أنها -و-ق-. (¬8) هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. انظر التعليق التالي.

من مس الرجل دبره. كما قاله الشافعي لأن العموم يقتضيه كما اقتضى مس المرأة فرجها. وأنكر هذا التخريج بعض أصحابنا ورأى أن فرج المرأة تجد اللذة بمسه كما يجد الرجل بمس ذكره. فأجريا في الحكم مجرى واحدًا في تأثيرهما في نقض الوضوء. والدبر لا يمكن أن توجد لذة بمسه على حال. فأشبه الفخذ والساق. وقد روت عائشة أنه عليه السلام قال: "إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ" (¬1). والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما من انتقض وضؤوه بمس الذكر فصلى ولم يعد وضوءه، فقيل: لا إعادة عليه. وقيل يعيد في الوقت. وهذان القولان مبنيان على أن الوضوء منه غير واجب. *وقيل يعيد أبدًا وهذا مبني على أن الوضوء منه واجب* (¬2) وقيل إن فعل ذلك ساهيًا أعاد في الوقت، وإن فعله عامدًا أعاد أبدًا. وهذا مبني على أن الوضوء غير واجب، ولكنه غلظ الحكم مع العمد في الإعادة دون السهو، لأن الساهي معذور، والعامد غير معذور. وهذا الذي ذكرناه (¬3) من بناء هذه الأقوال هو الظاهر. وإلا فيمكن أن يخالف كل مجيب أصله مراعاة للخلاف. فيمكن أن يقول من رأى الوضوء واجبًا أنه يعيد في الوقت مراعاة للخلاف. وقال سحنون يعيد -إلا أن يمضي لتلك الصلاة- اليومان فصاعدًا، فلا يعيد. وهذا القول لا معنى له. لأنه راعى طول الزمن (¬4) وقدره باليومين والثلاثة وهذا لا أصل له. ¬

_ (¬1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيما رجل مس فرجه فليتوضأ. وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ. رواه إسحاق بن راهويه ... وابن الجارود والطحاوي والبيهقي وغيرهم. قال الحازمي هذا إسناد صحيح = الهداية ج 1 ص 366/ 367. وروى الدارقطني من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص العمري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ويل للذين يمسون فروجهم، ثم يصلون ولا يتوضؤون. قالت عائشة: بأبي وأمي هذا للرجال. أفرأيت النساء؟ قال: إذا مست إحداكن فرجها فلتتوضأ للصلاة- اهـ. وهذا السند مطعون فيه لأن عبد الرحمن بن عبد الله كذاب. الهداية ج 1 ص 377. (¬2) ما بين النجمين ساقط -ح-. (¬3) ذكرنا -ح-. (¬4) الزمان -ح-.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا وضوء من مس الإنثيين، ولا الدبر، ولا شيء من أرفاغ البدن. وهي مغابنه الباطنة، كتحت الإبطين وما بين (¬1) الفخذين وما أشبه ذلك. ولا من أكل شيئًا أو شربه كان مما مسته النار. أو مما (¬2) لم تمسه. ولا من قهقهة في صلاة أو غيرها. ولا من ذبح بهيمة أو غيرها. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها: أن يقال: 1 - لم نص على الأنثيين؟. 2 - ولم نص على الدبر؟. 3 - ولم نص على ما مسته النار؟. 4 - ولم نص على القهقهة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما نص على الأنثيين تنبيهًا على الخلاف. لأن عروة بن الزبير يرى الوضوء من مسهما، لانطلاق اسم الفرج عليهما عنده، فيدخلان في عموم الحديث المتقدم. ولنا عليه قوله من مس ذكره وهذا يدل على أن ما سوى الذكر بخلافه. ولأن الذكر إنما خص بهذا الحكم دون سائر الأعضاء، لوجود اللذة بمسه. وسائر الأعضاء سواه لا توجد اللذة بمسها، والأنثيان منها فكانتا في الحكم بمنزلتها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما نص على الدبر تنبيهًا على الخلاف. لأن الشافعي يرى الوضوء بمسه لانطلاق اسم الفرج عليه، ودخوله في الحديث المتقدم. وقد قدمنا الكلام عليه وذكرنا أن بعض أصحابنا خرج ذلك من المذهب. وقد مضى ذكره فلا وجه لإعادته (¬3). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما نص على ما مسته النار تنبيهًا ¬

_ (¬1) وما تحت -ح- وبين -و-. (¬2) أو لم -و-. (¬3) ساقطة -و-.

على الخلاف. وقد اختلفت الأحاديث الواردة فيه. فورد منها: وتوضؤوا مما مست النار (¬1). فأخذ بظاهر هذا بعض من تقدم وورد أيضًا: أنه أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ" (¬2). وأخذ بهذا -الجمهور، فرجح من أخذ بالحديث الأول بأوجه. منها: أنه أحوط، وفيه زيادة حكم، وإثبات عبادة (¬3). فكان أولى مما ليس ذلك فيه. وأيضًا فإنه أمر. والحديث الذي يعارضه فعل. والأمر آكد وأولى من الفعل عند بعض أهل الأصول. وذكروا أيضًا أنه روي ما يدل على أنه ناسخ للفعل فكان أحق أن يؤخذ به. ورجح الجمهور الحديث الآخر بأنه ناسخ لما تقدم. لقول جابر رضي الله عنه: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ترك الوضوء مما مست النار (¬4). وأيضًا فقد قال بعض أصحابنا لم يظهر الخلاف فيه إلا في عصر الصحابة والتابعين. ثم انعقد الإجماع بعدهم على ترك الوضوء منه. وهذا يمنع من الخلاف فيه. وهذا إنما يصح على أحد القولين في أن إجماع العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول حجة يرفع حكم الخلاف المتقدم. وهذه مسألة مبسوطة في كتب الأصول. وأيضًا فإنا نبني الحديثين. فيحمل حديثهم على الوضوء اللغوي الذي هو النظافة. فيكون المراد بالحديث تنظيف اليد والفهم. ونحمل ¬

_ (¬1) مسلم بسنده إلى أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: توضؤوا مما مست النار. وعن عروة سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تقول: قال رسول الله توضؤوا مما مست النار = النووي ج 1 ص 43/ 44. وأخرجه أحمد وابن ماجة. الهداية ج 1 ص 385 وما بعدهما. (¬2) مسلم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ = وروي بمعناه عن عمرو بن أمية الضمري وعن ميمونة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أبي رافع النووي -ج 3 ص 44/ 45 وقال الحافظ أبو الفيض أحمد الغماري أن أحاديث ترك الوضوء مما مست النار تتبعتها من طريق خمسين صحابيًا- الهداية. (¬3) عبارة -ح-و-. (¬4) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما مست النار. أخرجه أبو داود والنسائي وابن الجارود والطحاوي والبيهقي. الهداية ج 1 ص 392 و 408/ 410.

حديثنا على الوضوء الشرعي. أو يحمل حديثهم على الاستحباب. ونحن نعضد (¬1) ترجيحنا بأن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا رضي الله عنهم أجمعين، اتفقدا على ترك الوضوء مما مست النار (¬2). ولا يمكن أن يكون الوضوء منه مشروعًا، ويذهب علم ذلك عنهم مع تكرره عليهم. وكذلك نجيب عما تعلق به أحمد وداود في الوضوء من أكل لحوم الإبل خاصة بالحديث المروي عنه عليه السلام في ذلك، بأن نحمله (¬3) على الوضوء اللغوي فيكون المراد (¬4) تنظيف اليد والفم. وخص بذلك لحم الجزور لاختصاصه من السهوكة (¬5) بما لا يوجد في غيره من اللحوم. أو يحمله على الاستحباب للوضوء الشرعي. ويعضد ذلك بأن من مس الدم وغيره من النجاسات لم يلزمه أن يتوضأ *فبأن لا يلزمه ذلك إذا مس شيئًا طاهرًا، أولى* (¬6). والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما خص القهقهة بالذكر تنبيهًا على الخلاف، لأن أبا حنيفة يرى الوضوء من الضحك في الصلاة. تعلقًا بأخبار رويت في ذلك. ونحن نقابلها بما روى جابر أنه عليه السلام قال: الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء (¬7). ويمكن أن تحمل أحاديثهم إن صحت على الاستحباب. ويعضد ذلك (¬8) بأن نقول أجمعت الأمة على أن ¬

_ (¬1) نفضل -و-. (¬2) منه -ح-. (¬3) يحمله -و-ح-. (¬4) المراد به -ق-. (¬5) السهوكة = الرائحة الكريهة. (¬6) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬7) الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء. البيهقي بسنده إلى أبي سفيان. قال سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يضحك في الصلاة؟ فقال: يعيد الصلاة ولا يعيد الوضوء. السنن ج 1 ص 144. (¬8) ساقطة -ح-.

الضحك في غير الصلاة لا ينقض الوضوء. وهذا يدل على أن الضحك في الصلاة لا ينقض الوضوء (¬1). لأن كل حدث ينقض الطهارة في الصلاة ينقضها في غير الصلاة. وكذلك كل ما لا (¬2) ينقض الطهارة في غير الصلاة لا ينقضها في الصلاة. فقد تساوت الحالتان طردًا وعكسًا. فإن قيل هذا ينتقض بالمتيمم يجد ماء فإنه ينقض تيممه وجود الماء قبل الصلاة، ولا ينقضه وجوده في الصلاة في المشهور عندكم. قيل ليس وجود الماء حديثًا يوجب الطهارة فينقض ما قلنا في الأحداث وإنما وجود الماء يوجب استعماله لرفع الحدث الذي هو باق مع التيمم. إذ التيمم لم يرفعه وإنما فعل لتستباح به الصلاة بشرط عدم الماء. فإذا لم يحصل المقصود منه، وهو استباحة الصلاة بطل حكمه عند (¬3) وجود الماء. وإذا وجد المقصود، وهو استباحة الصلاة، لم يؤثر وجود الماء مع حصوله. وأيضًا فإن القذف وذكر الفواحش في الصلاة لا يبطل الوضوء. مع أنه آكد في المنع من الضحك، فبأن (¬4) لا يبطل ذلك الضحك مع كونه أخفض رتبة، أولى وأخرى. ¬

_ (¬1) أنه لا ينقض الوضوء وإن وقع في الصلاة. (¬2) لم -ح-ق-. (¬3) مع -و-. (¬4) فأن -و-.

باب ما يوجب الغسل

باب ما يوجب الغسل قال القاضي رحمه الله: "و (¬1) يجب الغسل على الرجل بشيئين. إنزال (¬2) الماء الدافق عن لذة (¬3) في نوم أو يقظة. فإن عري عن اللذة فلا غسل عليه. والإيلاج (¬4) في قبل أو دبر (¬5). وعلى المرأة بهذين وبشيئين آخرين (¬6) وهما الحيض والنفاس وخروج (¬7) الولد، وعليهما بإسلام الكافر منهما. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما دليل (¬8) وجوب الغسل من الماء الدافق؟. 2 - ولِمَ سقط الغسل فيه إذا عري من اللذة؟. 3 - ولم وجب بالإيلاج؟. 4 - ولم وجب بالحيض والنفاس؟. 5 - وما معنى ذكره خروج الولد مع ذكره النفاس؟. 6 - ولم وجب على الكافر؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما وجب الغسل بإنزال الماء ¬

_ (¬1) الواو ساقطة -الغاني. (¬2) أثر -و-. (¬3) اللذة - الغاني. (¬4) بالحشفة - الغاني. (¬5) أو في دبر -ح-. (¬6) ساقطة -و-. (¬7) وهو خروج - الغاني. (¬8) ما الدليل على -و-.

الدافق بلذة. لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). ولقوله عليه السلام: الماء من الماء (¬2). ولا خلاف في ذلك، وسواء أكان في نوم أو في يقظة لعموم هذه الظواهر. وسواء أكان من رجل أو امرأة لعموم الظواهر أيضًا. ولقول أم سلمة: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا احتلمت قال نعم إذا رأت الماء (¬3). وقد قال بعض أهل العلم: إن ذلك إجماع. وقال ابن المنذر لا نعلم فيه اختلافًا إلا ما روي عن النخعي: أنه سئل عن المرأة ترى في المنام ما يرى الرجل فقال: إنما الحيض للنساء (¬4) والحلم للرجال. ومثل هذه المقالة الشاذة التي هي عرضة الاحتمال لا تقدح فيما قدمناه من الأدلة. فإن استيقظ النائم فذكر احتلامًا ولم ير له أثرًا فلا حكم له. لأن حال النوم لا يكون أصح من حال اليقظة. وقد دلت اليقظة على بطلان ما تخيل، ولأنه عليه السلام: سئل عن الرجل يرى أنه احتلم ولا يجد البلل. فقال: لا غسل عليه (¬5). وإن استيقظ من نومه فرأى الأثر ولم يذكر الاحتلام: فاختلف الناس في ذلك هل يوجب الغسل أم لا؟ فمنهم من أوجبه لأنه عليه السلام: ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) هو طرف من حديث رواه مسلم بسنده إلى أبي سعيد الخدري. النووي ج 4 ص 36/ 37. ورواه البيهقي ج 1 ص 167. (¬3) عن أنس رضي الله عنه قال: جاءت أم سليم وهي جدة إسحاق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له وعائشة عنده: يا رسول الله المرأة ترى ما يرى الرجل في المنام. فترى من نفسها ما يرى الرجل من نفسه. فقالت عائشة: فضحت النساء. تربت يمينك. فقال لعائشة: بل أنت تربت يمينك، نعم فلتغتسلي يا أم سليم إذا رأيت ذاك. النووي ج 3 ص 230 وعن زينب بنت أبي سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم إذا رأت الماء. رواه مسلم. النووي ج 3 ص 223/ 224 وأخرجه البخاري كتاب الغسل. (¬4) على النساء -ح-ق-. (¬5) البيهقي عن القاسم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يرى في المنام البلل ولا يذكر احتلامًا. قال: يغتسل. وإن رأى أنه احتلم ولم ير بللًا فلا غسل عليه. السنن ج 1 ص 167.

سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام فقال يغتسل (¬1). ولأن الغالب أن الماء لا يخرج من النائم إلا بشهوة، وإن خفيت عنه عند يقظته، لغمرة النوم له. وقيل لا غسل عليه لأنه ماء يخرج بغير لذة، وما كان كذلك لا يوجب غسلًا على ما نبينه فيما بعد. ولو شك في هذا الماء هل هو مني أو مذي، فإن المذهب على قولين: أحدهما أنه يغتسل احتياطًا (¬2) ولأن الشك في الحدث يجري مجرى التيقن (¬3) على هذه الطريقة. والثاني لا يجب عليه أن يغتسل لأن الأصل براءة الذمة، والشك في الحدث لا يؤثر على هذه الطريقة. فإن قلنا بالطريقة (¬4) الأولى وهي إثبات الغسل فهل عليه أن يضيف لذلك الوضوء؟ المشهور عنهم أنه يستغني بالغسل عن الوضوء لأن من أجنب تيقنًا (¬5) يسقط عنه فرض الوضوء ويستغني بالغسل. فمن شك هل أجنب أم لا، فأمرناه بالغسل، فإنه يكتفي به أيضًا. وقد رأيت بعض المخالفين ذهب إلى أنه لا بد أن يضيف إلى غسله وضوءًا. وعندي أنه قد يتخرج ذلك على قول من ذهب من أصحابنا إلى وجوب الترتيب في الوضوء. لأن غسل الجنابة لا ترتيب فيه. والوضوء يجب ترتيبه عند هذه الطائفة على ما أشرنا إليه فيما تقدم. فإذا أمكن أن يكون ما وجده (¬6) مذيًا، فالواجب منه الوضوء لأجل الشك فيه، كما أمروه بالغسل لأجل الشك به أيضًا. فإذا اغتسل غسلًا لم يحصل معه ترتيب أعضاء الوضوء بقي مطالبًا بالوضوء الواجب لأجل الشك. فوجب عليه لأجل ذلك الأمران. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أمَّا المني إذا خرج بغير لذة، ¬

_ (¬1) البيهقي عن القاسم عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يرى في المنام البلل ولا يذكر احتلامًا. قال: يغتسل. وإن رأى أنه احتلم ولم ير بللًا فلا غسل عليه. السنن ج 1 ص 167. (¬2) لان -و-ق-. (¬3) اليقين -و-ح-ق-. (¬4) الطريقة -ح-. (¬5) يقينًا -و-ق-. (¬6) أن يكون وجد -و-.

كمن ضرب بسيف فأمنى أو لدغته عقرب فأمنى، فإن فيه قولان: - أحدها أنه يغتسل. - والثاني لا غسل عليه. فوجه القول بأنه يغتسل عموم الظواهر، لأنه يسمى جنبًا على الحقيقة. فدخل في عموم قوله سبحانه: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1). وفي عموم قوله الماء من الماء (¬2). ووجه القول ألا غسل عليه. أنه ماء خرج على غير الصفة المعتادة فلم يلزم فيه الغسل كدم الاستحاضة لما خرج على غير الصفة المعتادة لم يلزم فيه غسل. وتحمل الظواهر على خروج المني بلذة. لأنه المعتاد فيه. ويخص العموم بالعادة على قول بعض أهل الأصول. ومن هذا النمط اختلاف المذهب فيمن جامع ولم ينزل فاغتسل ثم أنزل، هل عليه الغسل أيضًا أم لا؟ وفيمن لاعب ثم أنزل بعد حين بغير لذة، هل عليه الغسل أيضًا أم لا؟ فقيل بإثبات الغسل. وقيل بنفيه. وتوجيه ذلك قد تقدم. ومن أصحابنا من فرق بين السؤالين فأثبت (¬3) الغسل فيمن لم يتقدم له غسل. ونفاه فيمن تقدم له غسل. واعتل بأنه لا يغتسل من سبب واحد مرتين. وكأن (¬4) الجماع والإنزال سبب واحد، اغتسل في خلاله فلم يلزمه إعادة الغسل. ولا معنى لهذه التفرقة. لأن المني الخارج بغير لذة لم يغتسل له، فيعتبر فيه ما قلناه من القولين. ويطرد في السؤالين. فإن قلنا بإثبات الغسل فهل يعيد ما تقدم من الصلاة؟ فيه قولان: أحدهما أنه لا يعيد وهو النظر عندي لأن الغسل إنما وجب لحدث حدث بعد الصلاة فلم يؤثر فيما كان قبله كسائر الأحداث المعتادة. وإن قلنا بنفي الغسل فهل يؤمر بأن يتوضأ؟ المذهب أنه يؤمر بذلك. وهل يؤمر به على جهة الوجوب أو الاستحباب؟. اختلف البغداديون من أصحابنا فقال بعضهم يؤمر به على جهة الوجوب. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) وأثبت -و-. (¬4) فكأن.

وقال بعضهم بل على جهة الاستحباب. والكلام على هذا كالكلام على وضوء المستحاضة. لأنه خرج على غير جهة الصحة، فلم يوجب الغسل. ولكنه يؤمر فيه بالوضوء، لما قدمناه من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المستحاضة بذلك. وقد مضى الكلام على ذلك. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في الغسل بمجرد الإيلاج. فذهب الأنصار رضي الله عنهم إلى أنه لا يجب الغسل بذلك. وذهب المهاجرون إلى أنه يجب. وأرسلوا أبا موسى لعائشة رضي الله عنها. فأخبرتهم بما يقتضي وجوب الغسل. فنقل عن جماعة منهم الرجوع إلى ما قالت، وبه قال فقهاء الأمصار. وأخذ داود وشيعته بالقول الأول. وقد اختلفت الأحاديث في ذلك فروي ما يدل على القول الأول كقوله: الماء من الماء (¬1). وروي ما يدل على القول الثاني كقوله: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل أنزل أم لم ينزل (¬2). وكذا (¬3) ظاهر القرآن تجاذبه الفئتان. فقال من نفى الغسل: الجنب هو من أنزل الماء. والظاهر ورد بالأمر بغسله فوجب قصر الحكم عليه. وقال من أثبت الغسل: الجنب مأخوذ ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) روى مالك في الموطأ بسنده إلى أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب الغسل؟ فقالت: هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها. إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل -علق عليه الزرقاني رواه أحمد والترمذي من وجه آخر عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا اللفظ. وأخرجه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة وعن رافع بن خديج والشيرازي في الألقاب عن معاذ بن جبل كلهم مرفوعًا ج 1 ص 85. ولفظ مسلم إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وفي رواية إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل. وفي رواية فقد وجب الغسل وأن لم ينزل- النووي ج 4 ص 38. وهذه الروايات كلها لا تتحد مع النص الذي احتج به المازري والرواية الموافقة هي التي رواها الدارقطني في الإفراد عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل. الجامع الكبير ج 1 ص 420. (¬3) كذلك -و-.

من المجانبة. والمجانبة المفارقة. فيسمى من فارق ماءه جنبًا. ويسمى من فارق فرج حليلته جنبًا. فيحمل الظاهر على العموم. فيقتضي الغسل بمجرد الإيلاج. وقد رجح أيضًا من أثبت الغسل على (¬1) ما تعلق به من الأحاديث، بأنها أثبتت حكمًا. فكانت أولى مما نفاه. وسلكوا طريقًا أخرى في بناء الأحاديث فقالوا نحمل قوله: الماء من الماء. على أنه في المنام. وتحمل أحاديثنا على اليقظة لئلا تتعارض أدلة الشرع. وقد حمله ابن عباس رضي الله عنه على ذلك. وقصر الحديث على الاحتلام. وأيضًا فإن الرازي ذكر أن الغسل بمجرد التقاء الختانين قد أجمع عليه السلف بعد الاختلاف الذي كان بينهم فيه (¬2). فسقط حكم الاختلاف ولحقت المسألة بمسائل الإجماع. وهذا الذي قاله الرازي: قد أنكر حذاق أهل الأصول اتفاق وقوعه أصلًا. لأن اختلاف الأمة على قولين يتضمن جواز الأخذ بكل واحد من القولين، واتخاذه مذهبًا عند من رآه صوابًا، وإجماعها بعد ذلك على أحد القولين يتضمن منع الذهاب إلى الآخر بعد أن كان الاختلاف يتضمن جواز الذهاب إليه. وهذا يوجب تخطئة الأمة فيما تجمع عليه وذلك ممنوع. ورجحوا أيضًا بأن نفي الغسل مستفاد من دليل (¬3) قوله: الماء من الماء. وإثبات الغسل مستفاد من النطق ونفس النطق أولى من دليل النطق. وإن تعلقوا بخبر آخر يستفاد ما قالوه من نطقه اقتصرنا على ما قدمنا من الترجيح. وقد رجح أيضًا من نفي الغسل ما تعلق به بأن ما قد (¬4) ورد في الظواهر من ذكر الغسل والطهر محمول على غسل بعض الجسم لا كله. وما ورد من نفيه فمحمول (¬5) على كل البدن لا بعضه. لئلا تتعارض أدلة الشرج. وأجيبوا عن ¬

_ (¬1) على ساقطة -ح-. (¬2) روى سعد بن سعد الساعدي عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل ذلك رخصة للناس "أي إنما الماء من الماء" في أول الإِسلام نقله الثياب ثم أمر بالغسل. ونهى عن ذلك. أخرجه أبو داود وصححه الترمذي والبيهقي. الهداية ج 2 ص 26/ 27. (¬3) أي من مفهوم المخالفة. وهو دليل الخطاب عند الأصوليين. (¬4) قد ساقطة -و-ق-. (¬5) محمول -و-.

هذا بأن الغسل ورد ها هنا معرفًا بالألف واللام والمراد به الغسل المعهود المعروف. و (¬1) هذا ظاهر الإطلاق ولا يعدل عنه إلى غيره إلا بدليل. وإذا ثبت وجوب الغسل بمجرد الإيلاج، فسواء فيه القبل والدبر، لأنهما يشتركان في كثير من الأحكام. ولو كان الإيلاج في فرج خنثى مشكل فقد قال بعض الناس لا يجب بذلك الغسل، لجواز أن يكون عضوًا زائدًا والعضو الزائد لا حكم له ها هنا. وهذا عندي يتخرج على القولين في نقض الطهارة بالشك. وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما وجب الغسل (¬2) بالحيض والنفاس لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (¬3). ولقوله عليه السلام في الحيضة: وإذا أدبرت فاغتسلي (¬4). وكان حكم النفاس كذلك لأنه دم حيض مجتمع فكان حكمه حكم الحيض. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما ذكر خروج الولد مع النفاس لأن خروج الولد بمجرده فيه اختلاف. هل يؤمر فيه بالغسل أم لا؟ فنبه عليه لموضع الخلاف فيه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما غسل الكافر فاختلف فيه أصحابنا هل هو للجنابة أو للإسلام؟ فمن رآه للجنابة جعله واجبًا، إذ غسل الجنابة واجب. ومن رآه للإسلام جعل الغسل مستحبًا وهو مذهب إسماعيل القاضي. واعتل بأن جنابته في الشرك يمحو حكمها الإِسلام. لأن الإِسلام يجب ما قبله. وقد ألزم على هذا ألا تجب عليه الطهارة الصغرى من الحدث الأصغر لأن الإِسلام يجب أيضًا أن يمحو الحدث الأصغر كما محا الأكبر. وقد نص ¬

_ (¬1) الواو ساقطة -و-ق-. (¬2) ساقطة -و-. (¬3) سورة البقرة، الآية: 222. (¬4) اللفظ لمسلم في باب المستحاضة وغسلها وصلاتها في حديث فاطمة بنت أبي حبيش جاء في خاتمته: فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي. النووي ج 4 ص 17. ورواه البخاري في أكثر من موضع الفتح ح 1 ص 425. =

إسماعيل على أن الطهارة الصغرى عنده بخلاف ذلك، فقال: جنابته يمحوها الإِسلام وإنما يجب عليه أن يستأنف ما على المسلم استئنافه. فإذا أراد الصلاة توضأ. لأن الصلاة لا تكون إلا به. قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1) فعلق وجوب الغسل بالجنابة. وقد تكون أو لا تكون. والوضوء لا بد منه لمن لم يكن توضأ. وهذا الذي تمسك به من ظاهر الآية إنما يستقيم مع القول بأن ظاهرها يوجب الوضوء على كل قائم للصلاة وإن لم يكن محدثًا. وأما من أضمر الحدث ورآه شرطًا في وجوب الطهارة الصغرى فلا فرق بين الطهارتين لأنهما علقا بشرطين. وقد استدل من أوجب الغسل بغسل ثمامة (¬2). وبأنه عليه السلام لما أسلم قيس بن عاصم أمره أن يغتسل (¬3). واستدل من نفى الوجوب بأنه أسلم الجم الغفير، والعدد الكثير فلم ينقل أنه أمرهم بالغسل. ولو أمرهم بذلك مع كثرتهم لاشتهر وانتشر. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) عن أبي هريرة أن ثمامة بن أثال أسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينطلق إلى حائط أبي طلحة فيغتسل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حسن إسلام صاحبكم. رواه الشيخان والبيهقي واللفظ لأحمد. الفتح الرباني ج 2 ص 148. (¬3) عن عاصم أن جده قيس بن عاصم أسلم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يغتسل بماء وسدر. اللفظ لأحمد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. الفتح الرباني ج 2 ص 148.

باب صفة الاغتسال

باب صفة الاغتسال قال القاضي رحمه الله: قد بينا أن الغسل من الجنابة وسائر ما ذكرناه معها فريضة. وهو مشتمل على مفروض ومسنون وفضيلة. فمفروضاته ثلاثة: وهي النية، وتعميم ظاهر البدن، وإمرار اليد على البدن مع الماء. وهذا عندنا من شروط كونه غسلًا فيستوي فيه الغسل والوضوء. إلا أن العادة قد جرت بذكره مع الغسل. ويفعل الغسل بما يفعل به الوضوء من الماء المطلق. وأما مسنوناته فهي المضمضة، والاستنشاق وفي تخليل اللحية روايتان: إحداهما الوجوب. والأخرى أنه سنة. وأما الفضيلة فهي أن يبدأ بغسل يديه ثم يتنظف من أذى إن كان عليه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة. ثم يخلل أصول شعره (¬1) بالماء، ثم يغرف عليه ثلاثًا، ثم يفيض الماء على بدنه (¬2). ومن له شعر معقوص من رجل أو امرأة لم ينقضه. وأجرى الماء عليه ثم ضغثه بيديه (¬3). قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما دليل إمرار اليد على البدن؟. 2 - وما دليل كون المضمضة والاستنشاق سنتين؟. 3 - وما وجه الاختلاف في تخليل اللحية؟. 4 - وما وجه البداية بالتنظيف من الأذى؟. 5 - وما معنى هذا التقييد بقوله وضوءه للصلاة؟ ¬

_ (¬1) شعر رأسه - الغاني. (¬2) بدنه كله - الغاني. (¬3) بيده - الغاني.

6 - وهل يختلف في تخليل شعر الرأس كما اختلف في تخليل شعر اللحية؟. 7 - ولِمَ اختار أن يغرف عليه ثلاثًا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس (¬1) في إمرار اليد في الغسل. هل هو شرط في صحة الغسل أم لا؟ فذهب مالك والجمهور من أصحابه إلى أن ذلك شرط في صحة الغسل. وذهب أبو الفرج ومحمد بن عبد الحكم من أصحابنا إلى أن ذلك ليس من شرط في صحة الغسل. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والنكتة التي يدور عليها الخلاف (¬2)، اعتبار حقيقة هذا الاسم في اللغة. فزعم أصحابنا أن حقيقة الغسل في اللغة: صب الماء مع إمرار اليد. قالوا ولهذا تفرق العرب بين قولها (¬3) اغتسلت وانغمست. ولا وجه في الفرق بينهما، إلا أن الغسل يعتبر فيه مرور اليد، ولا يعتبر ذلك في الانغماس. ورجحوا مذهبهم أن الغسل باستدلال شرعي فقالوا الطهارة في ذمة المكلف حاصلة فلا يبرأ منها إلاَّ بوجه متفق عليه أو بدليل يدل على براءته. ولم يوجد ها هنا دليل، فاعتبر حصول الاتفاق. وزعم المخالفون أن صب الماء بمجرده يسمى غسلًا في اللغة وإن لم يصحبه مرور اليد. ولهذا يقولون غسلت الأمطار البقاع وغسل السيل موضع كذا، إذا أتى عليه، وأذهب ما فيه. وإن لم يكن مع ذلك مرور اليد (¬4). وهذا غير مستنكر في عرف التخاطب. ورجحوا مذهبهم أيضًا باستدلال شرعي، وهو قوله عليه السلام: فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك (¬5). فلم يوجب أكثر من الإمساس وذلك يحصل دون مرور اليد. وقوله عليه السلام: ¬

_ (¬1) الناس ساقطة -ق-. (¬2) الاختلاف -ق-. (¬3) قولها ساقطة -ح-. (¬4) الواو ساقطة -ح-. (¬5) روى أحمد بسنده إلى أبي قلابة عن رجل من بني عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: فإذا وجدت الماء فأمس بشرفك. ج 5 ص 147. كما أخرجه أبو داود وسمى الرجل وهو عمرو بن بجدان. قال ابن القيم صححه الدارقطني وأخرجه البزار في مسنده عن أبي هريرة. وذكره ابن القطان في أحاديث ذكر أن أسانيدها صحاح. مختصر سنن أبي داود وتهذيب ابن القيم ج 1 ص 206/ 207.

إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيض عليك الماء فإذا أنت قد طهرت (¬1). فأخبرها بما يكفي وهو إفاضة الماء وذلك يحصل دون إمرار اليد. ثم أكد ذلك بقوله فإذا أنت قد طهرت. فإن قيل فإن لم تبلغ يداه لموضع من جسده ما حكم ذلك الموضع؟ قيل إذا لم يمكنه أن يتلطف في ذلك باستعمال ثوب وشبهه، أو استنابة يد غيره فإن ذلك ساقط عنه ولا يخاطب في ذلك بما لا يقدر عليه. لأن ذلك من تكليف ما لا يطاق. وذلك مرفوع ها هنا. فإن قيل إذا كان من شرط صحة الغسل عند الجمهور منكم مرور اليد. ومتى لم يمر لم بسم غاسلًا، فيجب أن لا يكتفي بهذا الغسل المبعض بل ينتقل للتيمم. قيل ذا غلط لأنا قدمنا أن الغسل عند أكثر فقهاء الأمصار لا يشترط فيه مرور اليد مع الاختيار والقدرة. فكيف بهذا *مع الضرورة والعجز؟ مع أن الشرع ورد بالمسح على الجبيرة لمشقة وصول الماء إليها. وإن كان ممكنًا وصوله (¬2) * فكيف بهذا الذي هو فوق المسح، ومرور اليد فيه خارج عما يمكن؟ ولو قطع بعض الجسد لم يتغير الحكم في غسل بقية الجسد. فكذلك ما تعذر ها هنا لا يتغير به الحكم في بقية الجسد. وإن كان يمكنه التلطف في ذلك بتطلب من ينوب عنه فهل عليه تطلبه؟ ظاهر المذهب أنه على ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك عليه لأنه شرط في صحة الطهارة فلا يسامح بإهماله، والاقتصار على ما دونه مع القدرة على تحصيل الشرط، كما على المكلف أن يتطلب الماء ولا ينتقل إلى التراب حتى ييأس. والثاني ليس عليه تطلب ذلك لأن تطلب ذلك يشق، وتكليفه (¬3) من الحرج. والحرج مرفوع. ولا يصح قياسه على تطلب الماء لأن التطهر بالتراب مع القدرة على الماء لا يصح. وترك التدليك مع القدرة عليه تصح معه الطهارة عند جمهور فقهاء الأمصار. فسهل الأمر فيه. والثالث: ¬

_ (¬1) إنما يكفيك أن تحثي على رأسك الماء ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت. طرف من حديث. رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. الهداية ج 2 ص 11. (¬2) ما بين القوسين ساقط من -ح-. (¬3) تكليف -ح-.

التفرقة بين القليل والكثير فإن كان الذي لا تناله يده (¬1) أكثر الجسد فعليه تطلب ذلك وإن كان أقل الجسد ومما لا بال له فيه عفي له (¬2) عن التطلب كما عفي عن العمل اليسير في الصلاة. ذهب إلى هذا أبو الحسن بن القصار. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما المضمضة والاستنشاق فاختلف الناس فيهما. فذهب مالك إلى أنهما سنتان في الغسل. وذهب أبو حنيفة إلى أنهما فريضتان فيه. والنكتة التي يدور عليها الخلاف، اعتبار كونهما من ظاهر الجسم فيجب غسلهما كالساق أو العضد. أو هما من باطن الجسم فلا يجب غسلهما كداخل الصماخ. فرجح من نفى الوجوب مذهبه بقوله عليه السلام: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك (¬3). ولم يأمر بالمضمضة والاستنشاق مع قصده بهذا الحديث التعليم. والتعليم يستقصى فيه البيان. ورجح من أثبت الوجوب مذهبه بقوله عليه السلام: فإذا وجدت الماء فامسسه (¬4) جلدك، وقد قال ثعلب: داخل الفم جلد -قيل: قد خولف ثعلب في هذا، فلا يسلم ما قال. وقد تعلقوا بأحاديث لم يسلم لهم صحتها أيضًا، فلا وجه للاشتغال بتأويلها. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: النكتة التي يدور عليها الخلاف في تخليل اللحية قريب مما ذكرناه في المضمضة. وذلك أن شعر اللحية يستر الذقن. فهل ينتقل حكم الذقن إليه، ويلحق الذقن بباطن الجسم فيكون التخليل غير واجب. أو يبقى حكم الذقن على ما كان قبل من إيصال الماء إليه على حسب الإمكان؟ وقد رجح من أثبت الوجوب مذهبه بما روي أنه عليه السلام: كان يخلل أصول شعره في غسل الجنابة (¬5). ولم يخص شعرًا دون شعر. فأن ¬

_ (¬1) يداه -ق-. (¬2) له ساقطة -ق-. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) روى البخاري بسنده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في وصفها لغسل رسول الله=

قيل فيلزم على هذا تخليل شعر اللحية في الطهارة الصغرى. قيل قدمنا أن ذلك اختلف فيه أيضًا. على أن من الناس من فرق بينهما، بأن الطهارة الصغرى خفف الأمر فيها حتى جاز استعمال البدل فيها اختيارًا، بمسح الخفين النائب عن غسل الرجلين. ولم يرد مثل ذلك في الطهارة "الكبرى" فلهذا صح أن يقال أن الشعر ينوب غسله عن غسل البشرة في الطهارة الصغرى. ولا ينوب عن ذلك في الطهارة الكبرى. وقد رجح من نفى الوجوب مذهبه، بأنه قد اتفق على أنه ليس على المتيمم إيصال التراب إلى البشرة، ولو كان الفرض لم ينتقل عنها إلى الشعر لوجب تخليل الشعر في التيمم ومباشرة البشرة على حسب الإمكان. فلما لم يجب ذلك في طهارة التراب لم يجب مثل ذلك في طهارة الماء. وقد رأى بعض شيوخنا أن فائدة التخليل استيعاب غسل الشعر. فإنه ربما منع الأعلى منه وصول الماء لما تحته. ولم ير أن فائدته إيصال الماء إلى البشرة. وهذا الذي قاله إنما يستمر على رواية ابن وهب عن مالك أن تخليل اللحية من الجنابة واجب. وليس إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر بواجب. والطريقة الأولى التي قدمنا هي التي عليها الحذاق. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما اختار البداية بغسل مواضع الأذى، لأنه يفتقر إلى تطهيرها من الجنابة. وتطهير العضو من الجنابة، إنما يكون بعد إزالة النجاسة عنه. فإذا غسل عنه النجاسة، فقد قال بعض شيوخنا يغسله بنية الجنابة ليأمن من مس ذكره في أثناء طهارته. فيسلم بذلك من نقض الطهارة الصغرى. ويأمن من انتقاضها إذا قدم ذلك. ولو غسل ذلك بنية الجنابة وإزالة النجاسة معًا، لأجزأه ذلك عنده. وهذا فيه مطعن متى اعتقد المغتسل أن إزالة النجاسة ليست بفرض، على ظاهر أحد القولين. لأن جمعها (¬1) على هذا القول مع غسل الجنابة، جمع بين فرض ونفل، وقصد إليهما معًا. وذلك لا ¬

_ = - صلى الله عليه وسلم -: ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر. فتح الباري ج 1 ص 376. وأخرجه أحمد بسنده إليها إلى أن قالت: ثم يخلل أصول شعره حتى إذا ظن أنه قد استبرأ البشرة اغترف ثلاث غرفات. الفتح الرباني ج 2 ص 628. (¬1) جمعهما -ق-.

يصح. وقد أشرنا في الكلام على من اغتسل للجنابة، والجمعة معًا إلى هذا. والجواب على السؤال الخامس: أن يقال: أما افتتاح غسل الجنابة بالطهارة الصغرى فقد ورد به الخبر، أنه فعله عليه السلام (¬1). وقد اختلف النقل عنه هل أكمل وضوءه أو أخر غسل رجليه إلى فراغه؟ فروت عائشة أنه توضأ كما يتوضأ للصلاة (¬2). وأشارت بهذا التقييد إلى خلاف الرواية الأخرى. ولهذا أشار القاضي أبو محمَّد بالتقييد الذي قيد (¬3)؛ لأنه التقييد الذي قيدت به عائشة رضي الله عنها ليشعر بذلك أن المختار رواية عائشة. وقد روى ابن زياد عن مالك ليس العمل على تأخير غسل الرجلين. وإن كان قد روي عنه في المبسوط: واسع أن يؤخر ذلك حتى يفرغ من غسله. أخذا منه بحديث ميمونة (¬4) أنه أخر غسل رجليه. ولأنه لما افتتح الطهارة الكبرى بغسل وجهه، وهو أول عضو من الطهارة الصغرى، ختمها بغسل رجليه وهو آخر عضو من الطهارة الصغرى، لتحصل الكبرى متابعة لأعضاء الوضوء، وحاصلة بين أثنائها. ومقتضى الرواية الأولى أنه يأتي بالوضوء على ما هو عليه، ثم بعد ذلك يستأنف تخليل اللحية وشعر الرأس. لأن التخليل ليس من خصائص الوضوء. وقد قال ابن زياد عنه: لو أخر غسل رجليه لأعاد الوضوء عند فراغه من غسله. وهذا مراعاة لما قلناه من الإتيان به على وجهه، والتحفظ على الموالاة فيه. ومقتضى الرواية الثانية التي سامح فيها بتأخير غسل الرجلين، أنه إذا غسل وجهه خلل أصول شعر لحيته ثم يغسل لحيته. ثم يغسل يديه. ثم يخلل شعر رأسه. هكذا ذكر بعض شيوخنا. لأنه لما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما - نيل الأوطار ج 1 ص 286/ 289. (¬2) أخرجه البخاري - الفتح ج 1 ص 376. (¬3) قصد -ح-. (¬4) رواه أحمد عن ميمونة رضي الله عنها وفي ختام وصفها لغسله أنه أفاض الماء على سائر جسده ثم تنحى فغسل رجليه. الفتح الرباني ج 2 ص 129. ورواه البخاري قالت: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه وغسل فرجه وما أصابه من الأذى ثم أفاض عليه الماء ثم نحى رجليه فغسلهما. الفتح ج 1 ص 376.

سامح بتأخير غسل الرجلين لم يراع أن يؤتى بالوضوء على صفته. وإذا لم يراع ذلك أدخل فيه ما ليس من خصائصه وهو التخليل. وهذه الطريقة التي تستمر على القول بأن المتوضئ في ابتداء غسله ينوي بغسل أعضاء وضوئه غسل الجنابة. وإنما قُدّمت على بقية الجسد لما لها من الحرمة عليه. بكونها محلًّا لطهارة أخرى. وإلى هذا كان يذهب من شافهته من شيوخنا المحققين. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما تخليل شعر الرأس فإنه يختلف فيه كما اختلف في تخليل شعر اللحية. هكذا ذكر القاضي أبو محمَّد في غير هذا الكتاب. وأنت إذا اعتبرت ما قدمناه من وجه الاختلاف في شعر اللحية وصح له (¬1) حكم شعر الرأس فلا معنى لإعادته. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما اختار أن يغرف الماء ثلاثًا لأنه القدر المختار في الطهارة الصغرى *فأجراه على هذه الطريقة* (¬2) لتجري العبادات مجرى واحدًا. ¬

_ (¬1) لك -ح-. (¬2) ما بين النجمين ساقط -ح-.

باب المياه وأحكامها

باب المياه وأحكامها قال القاضي رحمه الله: الأصل في المياه كلها، الطهارة والتطهير على اختلاف صفاتها ومواضعها. من سماء أو أرض أو بحر أو نهر أو عين أو بئر ملح أو عذب جار (¬1) أو راكد. كان باقيًا على أصل مياعته، أو ذائبًا بعد جموده، إلا ما تغيرت أوصافه، التي هي اللون، والطعم، والريح، أو أحدها من مخالطة ما ينفك عنه غالبًا. وبما ليس بقرار له. ولا متولد عنه. فما تغير بذلك، فإنه خارج عن أصله. ثم المخالطة على ضربين: طاهر ونجس. فالطاهر يسلبه التطهير فقط، فيصير طاهرًا غير مطهر كسائر المائعات. والنجس يسلبه في الصفتين جميعًا، الطهارة والتطهير. ويصير به نجسًا من غير حد في ذلك مضروب، ولا مقدار موقوف، سوى أنه يكره استعمال القليل منه الذي لا مادة له، ولا أصل، إذا خالطته نجاسة ولم تغيره، كماء الجب والجرة وسائر الأواني، وآبار الدور الصغار. ولا يكره في الكثير كالحياض والغدر الكبار. ويجمع أوصافه أن يقال الماء على ضربين: مطلق ومضاف. فالتطهير هو بالمطلق دون المضاف. فالمطلق ما لم يتغير أحد أوصافه بما ينفك (¬2) عنه غالبًا بما ليس بقرار له، ولا متولد عنه فيدخل في ذلك الماء القراح. وما تغير بالطين لأنه قراره، وكذلك ما يجري على الكبريت، وما تغير بطول المكث، لأنه متولد عن مكثه. وما تغير بالطحلب؛ لأنه من باب مكثه، وما انقلب (¬3) عن العذوبة إلى الملح؛ لأنه من أرضه، وطول إقامته. ويدخل فيه الماء المستعمل ¬

_ (¬1) ساقطة -الغاني. (¬2) ينقل -ق-. (¬3) انتقل -ق-.

على كراهة منا له (¬1). وكذلك القليل الذي لم تغيره النجاسة. والمضاف (¬2) نقيض المطلق. وهو ما تغيرت أوصافه أو أحدها من مخالحالة ينفك عنه غالبًا. وهو على ضربين مضاف نجس، ومضاف طاهر. وذلك بحسب المخالط له. وما تغير بزعفران، أو عصفر، أو كافور أو بغير (¬3) ذلك من الطيب أو بلبن، أو خل، أو بشيء من المائعات أو الجامدات (¬4) فهو طاهر غير مطهر. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما حكم الماء؟. 2 - وما الدليل على أن أصله الطهارة أو التطهير؟. 3 - وهل (¬5) تغير الرائحة كتغير اللون؟. 4 - وما حكم القليل الذي لم تغيره النجاسة الحالة به؟. 5 - وما حكم القليل الذي لم يغيره الطاهر الحال به؟. 6 - وما حكم الماء المشكوك فيه؟. 7 - وهل يقبل خبر الواحد عن نجاسة الماء؟. 8 - وما حكم الماء المستعمل؟. 9 - وما حكم الماء إذا ألقى فيه شيء (¬6) من جنس ما لا ينفك عنه؟. 10 - وما حكم تغيره بالمجاور (¬7) له؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: حكم الماء الطهارة في نفسه. وهذا ليشركه فيه غيره من سائر الطهارات. وله حكم آخر يختص به وهو تطهيره لسائر النجاسات ورفعه للأحداث، إن قلنا أن التراب لا يرفع الحدث. ¬

_ (¬1) استعماله -الغاني. (¬2) والماء المضاف -ق-. (¬3) أو غير -الغاني. (¬4) أضاف الغاني قوسين (لأنه مما خالطه ما ينفك عنه غالبًا فأشبه بماء الباقلاء) اعتمادًا على نسخة -ز- عنده- وهذه الزيارة غير موجودة بجميع نسخ الشرح. (¬5) ولم -ح-. (¬6) شيء ساقطة -ح-. (¬7) المجاورة -ح-.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الدليل على أن أصل المياه التطهير قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (¬1). وقوله عليه السلام لما سئل عن بئر بضاعة: الماء طهور لا ينجسه شيء (¬2). فعم سائر المياه. وقوله عليه السلام: في ماء البحر لما قيل له أفنتوضأ من ماء البحر؟ هو الطهور ماؤه الحل ميتته (¬3). والمراد بالطهور ها هنا المطهر، لأنه إنما سئل عن التطهر به، فأجاب بأنه طهور. فلا بد أن يكون معنى ذلك أنه مطهر، حتى يكون الجواب مطابقًا للسؤال. وهذا الحديث وإن كان يختص بماء البحر فسائر المياه مثله في الحكم. وإذا ثبت ذلك ثبت أن أصل المياه ما ذكرناه ما لم يعرض لها ما يسلبها حكميها أو أحدهما على ما ذكر تفصيله القاضي أبو محمَّد. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما إن لم يغير المخالط سوى الرائحة فإن في ذلك قولين: أحدهما وهو المشهور من الحديث أنها تحل محل تغير اللون أو الطعم. لقوله عليه السلام: "خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" (¬4). والثاني أن ذلك لا يؤثر، لأنه لم يذكرها في بعض طرق الحديث. ولو كانت تؤثر لذكرها، كما ذكر اللون والطعم. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الماء القليل كالجرة، وشبهها تحله النجاسة التي لا تغيره فإن فيه اختلافًا. قال بعض أصحابنا: إنه نجس. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 11. (¬2) متفق عليه. (¬3) حديث بئر بضاعة. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم من طرق متعددة. النهاية ج 1 ص 259/ 267. (¬4) روى البخاري في أول الباب تعليقًا: قال الزهري لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح أو لون. ووصله ابن وهب في جامعه عن يونس عن الزهري - ورواه البيهقي بالمعنى عن الأوزاعي عن الزهري فتح الباري ج 1 ص 355. كما أخرج ابن ماجة في باب الطهارة. أن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه رقم الحديث 521.

وظاهر هذا أنه قد سلب حكماه: (¬1) الطهارة والتطهير. ووجه ذلك قوله عليه السلام: إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسًا (¬2). دليله أنه إذا كان دون القلتين حمل النجس. وقوله عليه السلام: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه (¬3). فإنما نهى عن ذلك لأنه ينجس بالبول. وروي عن مالك ما ظاهره أن هذا الماء باق عنده على أصله (¬4) لم يسلب حكماه ولا أحدهما. ووجه ذلك قوله عليه السلام: الماء طهور لا ينجسه شيء (¬5). وهذا على عمومه إلا ما خصه الدليل. وأيضًا فإنه عليه السلام أمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي (¬6). والذنوب الدلو الكبير ومعلوم أن هذا الماء الذي أمر بصبه يخالط النجاسة، والبقعة مع هذا تطهير به. ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة أو ورودها عليه. لأن المخالطة حصلت في الحالين. فلا اعتبار بتقدم أحد الشيئين. وأيضًا فإن الأنهار العظيمة طاهرة إجماعًا، كالنيل وشبهه. مع كون النجاسة تنبعث إليها، والمواضع المتغيرة بالنجاسة منها نجسة. فدل على أن التغير علة التأثير. فإذا حصل أثر، وإذا لم يحصل بقي الماء على أصله. وهذا يجب طرده في قليل المياه ¬

_ (¬1) حكم -ق-. (¬2) حديث القلتين أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم والدارقطني والبيهقي وغيرهم - الهداية ج 1 ص 269/ 271. (¬3) لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه. أخرجه الستة وأحمد وغيرهم عن أبي هريرة - الهداية ج 1 ص 255. (¬4) باق على أصل خلقته -ق-. (¬5) أخرجه أحمد عن ابن عباس: الماء لا ينجسه شيء ج 1 ص 235. وروي بلفظ الماء طهور لا ينجسه شيء - أخرجه الترمذي وعلق عليه. أخرجه أحمد وأبو داود. العارضة ج 1 ص 83. وهو عند أحمد بهذا اللفظ عن أبي سعيد الخدري من طريقين. ج 3 ص 86. (¬6) أخرجه الشيخان البخاري وضوء 58 ومسلم طهارة ج 9 ص 236. ولفظ مسلم - عن يبيح ابن سعيد أنه سمع أنس بن مالك يذكر أن أعرابيًا قام إلى ناحية في المسجد فبال فيها فصاح به الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوه. فلما فرغ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذنوب فصب على بوله.

وكثيرها. وقد سلك بعض من ذهب إلى هذا المذهب مسلكًا آخر. فذهب إلى أن هذا الماء مكروه. ووجهه (¬1) الأخذ بالأحوط ليتطهر بماء متفق عليه. وقد ذهب بعض أصحاب مالك إلى طريقة أخرى أيضًا. وهي التشكك في حكم هذا الماء، وإيجاب الجمع بينه وبين التيمم. ووجه ذلك تعذر الترجيح بين القولين الأولين فوجب الجمع بين مضمونيهما (¬2). فيؤمر المكلف بالوضوء، لجواز أن يكون الماء طاهرًا، وبالتيمم لجواز أن يكون نجسًا. فإذا جمع بينهما تيقن براءة ذمته. واختلف هؤلاء فيما يُقدَّم منهما على صاحبه. قال بعضهم يتوضأ ويتيمم، ويصلي. لأن هذا الماء طاهر على أصل المذهب. فوجب أن يتلف (¬3) باستعماله حتى يحصل متيممًا مع عدم الماء. وقال بعضهم يتيمم ويصلي ثم يتوضأ ويصلي لأن هذا الماء مشكوك في نجاسته. ولهذا افتقر معه إلى التيمم. فإذا بدأ به قبل التيمم خيف أن تكون أعضاؤه قد نجست به وإذا قدم التيمم أمن ذلك. لأنه إن كان الماء نجسًا ففرضه التيمم وقد فعله. فنجاسة الأعضاء بعد أداء العبادة على وجه يبريه، لا تأثير له. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما القليل إذا حله طاهر لم يغيره فإنه باق على أصله. وخرج بعض العلماء (¬4) المتأخرين أنه مكروه كما كره الماء القليل إذا حلته النجاسة القليلة. وهذا التخريج غير صحيح لأن النجاسة القليلة قد قدمنا أن الماء ينتقل بها عن أصله عند بعضهم ويصير نجسًا، فكره عند آخرين مراعاة لهذا القول وتحرزًا منه، فافترق الأمران. هذا وقد ذهب بعض أصحابنا على ظاهر ما نقل عنه: أن الطاهر المخالط إذا لم تغلب أجزاؤه على أجزاء الماء فإنه لا يسلب الماء حكمه. وإن غلب على أوصافه. ولكنه مكروه عنده تحرزًا من الاختلاف. فهذه طائفة لم ترل المغير الطاهر إذا غلب بأعراضه ¬

_ (¬1) ووجه -ح-. (¬2) مضمونها -ح-. (¬3) هكذا في جميع النسخ. وفي -ق- مخروم غير واضح. والظاهر أنه إذا كان الماء الذي معه قليلًا. (¬4) ساقطة من -و-.

دون أن يغلب بجوهره. فكيف بما لم (¬5) يغلب لا بجوهره ولا بأعراضه. على أن هذا القول الذي صار إليه هو ضعيف عندي على أصولنا: لأن المغير النجس يؤثر في الماء ويسلبه حكمه وإن لم تغلب أجزاؤه على أجزاء الماء فكذلك يجب أن يكون المغير الطاهر لا سيما إذا قيل أن تسمية الماء المطلقة تسلب عنه. فلا يعبر عنه إلا بالإضافة. فيقال ماء الزعفران، وماء الباقلاء. فإذا كان لا يعبر عنه إلا بالإضافة وجب تركه للتيمم لأنه تعالى شرط في التيمم فقد الماء المطلق. ومن لم يجد إلا هذا الماء المضاف فقدْ فقدَ الماء المطلق فوجب أن يتيمم. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الشك في الماء على قسمين: أما أن يشك في المغير هل هو من جنس ما يؤثر أم لا؟ وإما أن يشك في محل النجاسة لا في حصولها. فأما القسم الأول فإنه لا تأثير له ولا ينقل الماء عن أصله استصحابًا لحال الأصل. حتى يتحقق وجود ما من شأنه أن يؤثر فيه. وقد وقع في المذهب النهي عن استعماله إذا كانت هناك حالة قريب، كالآبار القريبة من المراحيض، فإن مالكًا رضي الله عنه قال: بنزف اليومين والثلاثة. فإن طابت وإلا لم يتوضأ منها. ووجه ذلك أن قرب المراحيض منها يسبق معه إلى النفس كون التغير مضافًا إليها. وهو الظاهر من الحال، لفقد ما سوى ذلك من الأسباب المغيرة. فأمر باجتنابه لأجل هذا الظاهر من الحال. وأما القسم الثاني فإنه إذا شك في محل النجاسة كمن معه مَاآنِ - تيقن بنجاسة أحدهما لا بعينه وطهارة الآخر، فإن فيه اختلافًا. فذهب بعض أصحابنا إلى أنه يتحرى الطاهر منهما فيتطهر به ويجزيه ذلك. ووجهه أنه لما جاز الاقتصار على الطاهر في الظاهر من الحال، كما قدمناه في استصحاب حكم الأصل، جاز الاقتصار على التحري. لأن الظاهر من التحري إصابة الصواب. وقياسًا على التحري للقبلة عند الاشتباه. وذهب بعض من قال بالتحري إلى إجازته فيما كثر من الأواني لمشقة استعمال الكل. ومنعه فيما قل منها لخفة أن يتوضأ من كل إناء، ويصلي بطهارته به. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يتوضأ بأحدهما ويصلي. ثم بالآخر ويصلي. لأنه إن اقتصر على أحدهما جُوز أن ¬

_ (¬5) لم = ساقطة -ح-.

يكون هو النجس، وإن تحراه. وإن اجتنبهما حصل متيممًا مع وجود ماء طاهر فإذا امتنع الوجهان لم يبق إلا أن يتوضأ بكل واحد منهما ويصلي به. فتبرأ ذمته باليقين. وقياسًا على من نسي صلاة واحدة لا يعلم أي صلاة هي؟ فإنه يصلي الخمس طلبًا لليقين لبراءة ذمته. وقد سلك بعض هؤلاء (¬1) طريقة* التحري في هذا الباقي. وذهب بعض القائلين بالتحري إلى منع التحري ها هنا واعتل بأن التحري إنما يكون بين أمرين فأكثر كالقبلة وغيرها وهذا ضعيف لأن كثرة العدد وقلته لا تأثير له إذا أتى الاجتهاد* (¬2). واشترط أن يغسل من الآخر موضع الطهارة ليحمل له اليقين بطهارة المحل من النجس. ثم يتطهر منه للحديث. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجتنب الجميع ويتيمم. ووجه ذلك أنه لا يصح الاقتصار على أحدهما لما قدمناه، ولا الجمع بينهما على الصفة التي قدمنا. لأن في ذلك تكريرًا للصلاة الواحدة. والصلاة الواحدة لم يوجب الشرع منها في اليوم الواحد إلا واحدة لا أكثر. فلما بطل الاقتصار على أحدهما، والجمع بينهما صارت المياه في حكم العدم. فوجب التيمم. فإن انقلب أحد الإناءين فأهراق قبل النظر فيهما. فلا أعلم فيهما (¬3) نصًا لأصحابنا. ويجب عندي أن يكون حكمه حكم (¬4) التيمم عند من قال به في وجوبهما (¬5) على ما تقدم بيانه. لأنه إنما وجب التيمم عنده بحصول الشك في عين النجس منهما. والشك في الباقي منهما حاصل كحصوله مع وجودهما. فوجب أن يكون الحكم واحدًا. ويجب أن يكون حكمه عند من قال من أصحابنا أنه يتوضأ بهما على ما سبق بيانه أن يتوضأ بالباقي منهما ويتيمم. لأنه إنما وجب الجمع بينهما طلبًا لحصول اليقين ببراءة الذمة كما تقدم بيانه. ولا ¬

_ (¬1) هؤلاء هذه الطريقة في -ح-ق-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من -ح-و-ق- مثبت في صلب الوطنية الفرع وبهامش إحداهما - وفي نهايته. والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (¬3) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب فيها. (¬4) هكذا في جميع النسخ. والأولى إسقاط حكم. (¬5) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب وجودهما.

يحصل اليقين ها هنا إلا بما قلناه من الجمع بين استعمال هذا الماء لجواز أن يكون هو الطاهر، وبين التيمم لجواز أن يكون هو النجس. فإذا ثبت أن الحكم على هذه الطريقة =الجمع بينهما= فما الذي يقدم على صاحبه؟ يتخرج على قولين قدمنا ذكرهما في حكم الماء المشكوك فيه. فأحد القولين تقدمة الماء إذ لا يصح التيمم مع وجوده. وهذا الماء يجوز أن يكون هو الطاهر فيؤمر بإتلافه حتى يحصل التيمم بعد عدم الماء. والقول الثاني أن يقدم التيمم لجواز أن يكون الباقي (¬1) هو النجس. فإذا قدمه في الاستعمال نجس أعضاءه ونجاسة الأعضاء لا يرفعها التيمم. فوجب أن يقدم التيمم ليأمن من هذا الوجه الممنوع ويجب أن يكون حكمه عند من قال من أصحابنا بالتحري فيهما، الاجتهاد في الباقي والتحري فيه أيضًا. لأنه إنما وجب التحري لتأتي حصول الظن بالطاهر منهما عند تأمل حاله، وتميز أوصافه. وهذا المعنى يتأتى في الباقي منهما، كما كان يتأتى فيه مع وجود صاحبه. فوجب ألا يرتفع ما ثبت من جواز الاجتهاد والتحري في هذا الباقي. وذهب بعض القائلين بالتحري إلى منع التحري ها هنا. واعتل بأن التحري إنما يكون بين أمرين فأكثر كالقبلة وغيرها. وهذا ضعيف. لأن كثرة العدد وقلته لا تأثير له إذا تأتى الاجتهاد. وتأتي حصول الظن بطهارة الواحد منفردًا كتأتي ذلك فيه مع إضافته إلى غيره، فلم يكن لمراعاة العدد معنى. ولو أمكن في القبلة أن تتقرر جهة واحدة بالشك في كونها قبلة دون ما سواها، لكان الحكم التحري فيها كما قلناه ها هنا. ولكن ذلك لا يمكن؛ لأنه متى اعتقد في ثلاث جهات أن القبلة ليست فيها، فقد تحقق أن القبلة في الجهة الواحدة الباقية. واستحال الشك فيها. فلهذا لم يكن التحري في القبلة إلا بين أمرين فأكثر. فإن تحرى فيه فعتذر عليه حصول الظن بطهارته فيجب أن ينتقل إلى التيمم أو يجمع بينه وبين التيمم على الطريقة التي قدمنا. فإن كان الإناءان باقيين فتحرى فيهما، فغلب على ظنه أن أحدهما هو الطاهر، فتطهر به وصلى. ثم تغير اجتهاده واختلف اعتقاده، فإن كان تغير اجتهاده إلى اليقين بخطئه في اجتهاده الأول فإنه يغسل ما أصابه منه. ويعيد الصلاة؛ لأنه تيقن الخطأ فأشبه ¬

_ (¬1) الثاني -ح-.

الحاكم إذا أخطأ النص فإنه ينقض حكمه. وإن تغير إلى الظن أنه أخطأ في الأول فيتخرج على القول (¬1) في نقض الظن بالظن، كنقض الحاكم حكمه إذا غلب على ظنه أنه أخطأ فيه. وكالمصلي إلى القبلة باجتهاد ثم غلب على ظنه أنه أخطأ. وإن اشتبه عليه ماءان ومعه ماء تيقن طهارته فيقتصر عليه ولا يعدل عنه إلى التحري، فيكون ترك اليقين للشك. وهذا عكس الأصول. وإنما لم يقسه على عدول الحاكم على النص إلى الاجتهاد، وإن كان ممنوعًا أيضًا. لأن الحاكم يقطع بخطإ ما خالف النص وهذا لا يقطع بنجاسة ما تحراه. فإن قيل فإن التطهر بالمياه اليسيرة جائز، وإن كانت بقرب البحار والأنهار وهي مجوز عليها أن تكون نجسة. والبحار والأنهار مقطوع بطهارتها فقد صح العدول عن اليقين إلى الظن. قيل لا حكم لهذا التجويز لعدم تيقن النجاسة. والإناءان مقطوع بنجاسة أحدهما فافترق الأمران. فإن اشتبه الماءان على رجلين فتحرى كل واحد الماء الذي لم يتحره صاحبه، فإنه لا يصلي أحدهما مؤتمًا بصاحبه في الصلاة التي تطهير لها بالماء الذي خالفه فيه لاعتقاده أنه مخطئ فيه. وكذلك لو كثرت الأواني وكثر المجتهدون واختلفوا. فكل من ائتم منهم بمن يعتقد أنه تطهير بالماء النجس فصلاته لا تصح لما قدمناه. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما خبر الواحد العدل عن نجاسة الماء فمقبول يجب الأخذ به إذا بين وجه نجاسته. لأن هذا من باب الإخبار، لا من باب الشهادة. وما طريقه الإخبار يقبل فيه خبر الواحد. هذا الظاهر من مذاهب المحققين. وإن كان قد تنازع أهل العلم في بعض فروع هذا الأصل كخبر الواحد عن الهلال. والمشهور عندنا أنه لا يقتدى به. ومما يؤكد ما قلناه قول عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع. والظاهر أنه سأله ليقبل خبره. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تخبرنا يا صاحب الحوض (¬2). فلولا أن للخبر الواحد تأثيرًا في هذا المعنى لم ينهه عمر رضي الله ¬

_ (¬1) على القولين -ق-. (¬2) مالك عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في =

عنه عن الإخبار عن ورود السباع الحوض ويقبل في ذلك قول الرجل الواحد والمرأة والعبد. لأن ما طريقه الإخبار تقبل (¬1) فيه هذه الأجناس. فإن لم يبين المخبر وجه النجاسة واقتصر على الإجمال، فإن كان مذهبه كمذهب من أخبره فيما ينجس من المياه وما لا ينجس فإنه يجب الرجوع إلى الخبر (¬2) ويقوم العلم بمساواته في المذهب مقام الأخبار عن صفة النجاسة. وإن كان مذهبه مخالفًا لمذهب من أخبره على الجملة، (¬3) لم يحرم استعمال الماء بمجرد إجماله حتى يكشف عن النجس وحاله، لجواز أن يكون قد رأى سبعًا ولغ في الماء فاعتقد أنه قد صار نجسًا. وأخبر بنجاسته على أصل مذهبه، ولا يلزم اتباعه في مذهبه. ويستحسن عندي العدول عنه إلى غيره من المياه، لجواز أن يكون رأى نجاسة متفقًا عليها فصار الماء بخبره مشتبهًا. وقد قال عليه السلام: من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه (¬4). والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: استعمال الماء في التطهر من الحدث لا يسلبه الطهارة. لأن استعماله لا يسلبه اسمه. فلم يسلبه حكمه. وإضافته إلى الاستعمال لا اعتبار به ولا تأثير له كما لا تأثير لإضافته إلى قراره كدجلة والفرات. أو إلى بعض ما يصنع به كالتسخين والتشميس. وإذا (¬5) لم يخرج عن اسمه كان من جملة المياه الباقية على أصلها التي لا يجوز التيمم مع وجودها. وأيضًا فإنه عليه السلام توضأ وصب وضوءه على جابر (¬6). ولو كان نجسًا لم يصبه عليه. وقد توضأ عليه السلام والمسلمون بعده. ولا تكاد تسلم ¬

_ = ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضًا. فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب -رض- يا صاحب الحوض. لا تخبرنا -فإنا نرد على السباع وترد علينا. شرح الزرقاني على الموطإ ج 1 ص 52. (¬1) يقبل -ح-. (¬2) لخبره -ح-. (¬3) على الجملة ساقطة -ق-. (¬4) رواه عن النعمان بن بشير البخاري كتاب الإيمان ص 21 أو مسلم كتاب المساقاة ص 107. وأخرجه أبو داود والترمذي وأحمد. (¬5) فإذا -ح-. (¬6) من حديث أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي - السنن ج 1 ص 235.

ثيابهم وأبدانهم من أن يمسها ما يفضل عن أعضائهم. ولم ينقل عن أحد غسل ما أصابه منها. فصار هذا كالإجماع على طهارته. فلا يعتبر بقول من ذهب إلى نجاسته. واختلف هل يسلبه استعماله التطهير أم لا؟ فقيل لا يسلبه التطهير ولكنه يكره استعماله مع وجود غيره. وقيل بل يسلبه التطهير. والواجب التيمم مع وجوده. وقيل هو في معنى المشكوك في حكمه. والواجب الجمع بين فوجه الأول قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (¬1). وطهور من أبنية المبالغة. والمبالغة تتضمن التكرير فإذا تضمنته ها هنا ثبت كون الماء مطهرًا (¬2) مرة بعد أخرى. فإن قيل لا فرق في العربية بين فاعل وفعول في الفعل الجامد كقولك صابر وصبور في أنهما لا يتعديان، ولا في الفعل المتعدي كقاتل وقتول في كونهما متعديين. فلما كان طاهر لا يتعدى وطهور مثله قيل قد فرقت العرب بين فاعل وفعول، جامدًا كان أو معتديًا. لأنهم قالوا صابر وقاتل لمن فعله مرة، وصبور وقتول لمن تكرر ذلك منه. فيحمل طهور على إفادة التكرار طردًا للأصل. فإن قيل هذا يصح على أحد قوليه في صحة التطهير بالماء مرة بعد أخرى. فإن منعتموه امتنع التكرار. وإذا امتنع التكرار امتنع الفرق. قيل أما على هذا القول فترجع التفرقة إلى الجهة الأخرى وهي حمل طهور على التعدي لا أكثر، فيفارق طاهرًا من هذه الجهة. لأن طاهرًا لا يتعدى. ولا بد من اعتبار الفرق من هذه الجهة لما بطل اعتباره من الجهة الأخرى على هذا القول. فإذا لم نثبت بينهما فرقًا خالفنا ما أصَّله أهل اللسان. فإن قيل لا يوسف الفعل بالتعدي حتى تحصل منه التعدية، ولهذا لا يقال قاتل قبل وجود القتل. وأنتم تصفون الماء بكونه طهورًا قبل حصول التطهر به وتمنعون هذا الوصف على قولكم هذا بعد وجود التطهر به. وقيل إنما يصح ما قلتموه فيما يتوهم فيه وجود الفعل وعدمه كالقتل والضرب. لأن الإنسان قد يقتل وقد لا يقتل فأما ما يكون معنى ¬

_ (¬1) سورة الفرقان، الآية: 48. (¬2) طهورا -ق-.

الفعل منه حاصلًا على كل حال فإنه يوسف به ذلك الفعل قبل وقوعه منه، كقولهم سيف قطوع وإن لم يقطع به، لما كان معنى القطع حاصلًا فيه لا محالة. ومما يؤكد هذا المذهب أيضًا أنا نعلم أن الماء يمر على أول العضو *ثم بعد ذلك يمر على آخره وقد حصل مستعملًا في أوله ولم يمنع استعماله في أول العضو تطهير* (¬1) آخره وذلك يوضح أن استعماله لم يخرجه عن أصله. وإنما كره في هذا القول، لأنه مختلف في طهارته ومختلف أيضًا عند من قال بطهارته في صحة التطهر به. فأمر بالعدول عنه إلى غيره لتبرأ الذمة من العبادة على وجه متفق عليه. ووجه القول الثاني أن استعمال الماء يخرجه عن إطلاق التسمية إلى التقييد، فيقال فيه ماء مستعمل. وذلك يخرجه من ظاهر الآية، وإذا خرج منها وجب التيمم مع وجوده. ولأنه ملك أتلف في تأدية فرض فلم يصح تأديته به مرة أخرى كرقبة أعتقت في الكفارة فإنها لا تصح أن تعتق في كفارة أخرى هذا أمثل ما وجه به هذا القول. وقد قدمنا الانفصال عن قولهم لا يسمى ماء مطلقًا. وأما قياسه على الرقة فإنه لا يصح لأن الرقبة إنما لا يصح تكرير العتق فيها لاستحالة عتق المعتق. والماء لا يستحيل فيه التطهر به مرة ثانية، فافترقا. ووجه القول الثالث: أن المذهبين المتقدمين لما كان لكل واحد منهما وجه، وجب الاحتياط، بأن يؤخذ بهما فيتوضأ، ويتيمم ليسلم من الخلاف (¬2). والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إن جلب إلى الماء شيء من الأجناس التي لا تؤثر فيه، إذا كانت قرار له كالكبريت، والزرنيخ، فألقيت فيه فغيرته. فهل يؤثر ذلك في حكم الماء أم لا؟ اختلف أصحابنا في هذا الأصل. فقال بعضهم: لا يؤثر؛ لأنه لما يؤثر في حال كونه قرارًا أصليًا (¬3) لم يؤثر في حال كونه طارئًا. وقال بعضهم بل يؤثر لأن الأصلي مما لا ينفك الماء منه، ولا يمكن حفظه عنه، وهذا مما يمكن حفظ الماء عنه فأثر فيه إذا كان طارئًا. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط -ح-. (¬2) الاختلاف -ق-. (¬3) أصليًّا ساقط -ح-.

وخالف في ذلك كونه أصليًّا. ومن هذا النمط اختلاف أصحابنا أيضًا في الملح إذا ألقي في الماء فغيره. هل يؤثر في حكمه أو (¬1) لا؟ وقد أشار آخرون منهم إلى التفرقة بين الملح المعدني وبين ما جمد بالصنعة؛ لأن المعدني حكمه حكم التراب في جواز التيمم به، فلم يكن له تأثير. والمصنوع قد أخرجته الصنعة عن أن يكون من أنواع الأرض ومنعت من صحة التيمم به فوجب أن يؤثر في الماء كالطعام. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما التغير بالمجاورة دون الممازجة فلا تأثير له. لأن تغير رائحة الماء بانعكاس أبخرة فاسدة إليه لا ينقل الماء عن اسمه ولا عن حكمه. لأن الماء لم يحمل الخبث فيؤثر فيه. وقد ذهب بعض الناس إلى أن حلول العود وشبهه من أنواع الطيب التي لا تنماع في الماء لا تأثير له وإن غلب على رائحة الماء؛ لأن ذلك من باب المجاورة. وقد قدمنا أنه لا تأثير لها. ووقفت لبعض أصحابنا على أن ذلك يؤثر لحصول المخالطة. وعلى هذا الأسلوب جرى الأمر في الماء المبخر بالمصطكى. وقد تنازع المتأخرون فيه وإنما تنازعوا في حصول السبب المؤثر لا في تأثيره إن حصل. ¬

_ (¬1) أم -ح-.

فصل في الأعيان الطاهرة

فصل في الأعيان الطاهرة قال القاضي رحمه الله: والحيوان كله طاهر العين، طاهر السؤر إلا ما لا يتوقى النجاسات غالبًا، كالكلب والخنزير والمشركين فأسآرهم مكروهة، وفي الحكم طاهرة إلا ما تغير منها عند إصابتهم النجاسة كأكل (¬1) النصراني الخنزير، وشربه الخمر فإنه نجس. ويغسل الإناء من ولوغ الكلب في الماء سبعًا. ويراق الماء استحبابًا، ولا يراق ما ولغ فيه (¬2) من سائر المائعات. وفي غسل الإناء منه روايتان: وأسآر البغال والحمير وسائر الدواب والسباع والطير طاهرة إلا أن يكون شيء منها يأكل النجاسة على ما بيناه. وفي غسل الإناء من ولوغ الخنزير روايتان. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها أن يقال: 1 - لم كان الحيوان كله طاهر العين، طاهر السؤر؟. 2 - ولم كان سؤر ما لا يتوقى النجاسة مكروهًا؟. 3 - وهل غسل الإناء من ولوغ الكلب واجب أو مستحب؟. 4 - ولِمَ كانت إراقة سؤره استحبابًا؟. 5 - ولِم فرق بين الماء والمائعات؟ 6 - ولِم اختلف قوله في غسله إذا ولغ في المائعات؟. ¬

_ (¬1) كأكل الكلب الميتة وأكل النصراني - الغاني. و. غ. (¬2) ما ولغ فيه الكلب -الغاني-.

7 - وهل يتكرر الحكم في الإناء الواحد بتكرر ولوغ الكلاب فيه؟. 8 - ولِم خص البغال والحمير والسباع والطير بالذكر وقد أجمل ذلك في أول الفصل؟. 9 - ولِم اختلف قوله في غسل الإناء *من ولوغ الخنزير؟. 10 - وهل يجب غسل الإناء* (¬1)، من الولوغ على الفور، أو عند إرادة الاستعمال؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أن الحياة علة في الطهارة للاتفاق على طهارة الشاة والبعير إذا كانا حيين. فإذا ماتا نجسا. فدل ذلك على أن الحياة علة الطهارة. والعلة يجب طردها. وطردها يقتضي أن الحيوان كله طاهر. وإذا كان طاهرًا كان سؤره طاهرًا. فإن قيل لو كانت الحياة علة الطهارة كما قلتموه لوجب نجاسة الشاة الذكية لفقد الحياة. والعلة إذا فقدت فقد حكمها. قيل هذا صحيح في العلل العقلية، وأما العلل الشرعية فقد تفقد ويخلفها علة أخرى فيتعلق الحكم بها. ألا ترى أن من ارتد قتل، فالردة علة في القتل. ولو ذهبت بأن رجع إلى الإِسلام وزنى محصنًا لقتل؛ لأنها علة ثانية خلفت الأولى. فكذلك التذكية خلفت الحياة فاقتضت الطهارة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما ما لا يتوقى النجاسة غالبًا فإن سؤره منهي عن استعماله. وهل هذا (¬2) النهي على الوجوب أو الاستحباب؟ المذهب على قولين: أحدهما أنه على الاستحباب؛ لأن الغالب حصوله لا يجري مجرى ما تحقق حصوله؛ لأن الغالب إنما يعطي الظن بحصول الشيء. والمشاهدة للشيء تعطي العلم به. وشتان ما بين العلم والظن. فوجب أن يكون النهي ها هنا على الكراهة لعدم العلم بحصول النجاسة. والثاني أنه على الوجوب ولهذا قال: يتيمم من لم يجد إلا سؤر الحيوان المخلى الذي لا يتوقى النجاسة. ووجهه أن الغالب أجري مجرى الحاصل في الشريعة في مواضع، ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬2) هو -ق-.

كالنوم. لما كان الغالب منه حصول الحدث جعل الحدث فيه كانه قد حصل فنقض الوضوء. وأقل مراتب هذا الغالب أن يفيد الشك. والشك ينقل عن أصل الطهارة في أحد القولين. ويجري مجرى اليقين. وقد روي عن مالك جواز الوضوء بفضل سؤر شرب النصراني والنهي عن التوضئ بفضل وضوئه. وهذه الرواية إن تركتها على ظاهرها أفادتك قولًا ثالثًا وهو نفي الكراهة والتحريم فيما ذكرناه. ووجهها أن النصراني إذا شرب من ماء فإن أول ما يلقى فمه من الماء يذهب بنجاسته ويبقى ما بعده ويرد على فمه وهو طاهر. فلم يكن لكراهته معنى. ولهذا فرق بين سؤر شربه وسؤر وضوئه لفقد هذه العلة في سؤر وضوئه. وعلى هذا إذا كان الحيوان الذي لا يتوقى النجاسة تكون حاله في ذهاب النجاسة من فمه حال النصراني في شربه، فإنه لا يكره سؤره ولا يحرم. وقد روي أن النبي عليه السلام: توضأ من مزادة مشرك (¬1) وتوضأ عمر رضي الله عنه من جرة نصراني (¬2). وظاهر هذا الجواز، ونفي الكراهة. وإن قلنا بالمشهور من المذهب فإنا نعارض هذا الحديث بما روى أبو ثعلبة قال قلت يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب ونأكل في آنيتهم فقال: لا تأكل في آنيتهم إلا أن لا تجد عنها بدًا واغسلوها بالماء ثم كلوا منها (¬3). فعم أواني الشرب وغيره. ونهى عن استعمال الجميع. ويجب أن يجري سؤر المسلم ¬

_ (¬1) يقول في إرواء الغليل لم أجده، وقد جاء في المنتقى قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء من مزادة مشركة. ومر عليه الشوكاني ولم يخرجه. والحديث المروي هو حديث المزادتين ولم يذكر فيه أنه توضأ من مزادتيها ج 1 ص 72. وحديث المزادتين أخرجه البخاري ومسلم. كما أشار إلى ذلك الشوكاني بقوله: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة ج 1 ص 26. (¬2) عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه توضأ من ماء نصرانية من جرة نصرانية. البيهقي ج 1 ص 32. (¬3) أخرج أحمد وأبو داود عن أبي ثعلبة الخشني. قلت يا رسول الله أن أرضنا أرض أهل كتاب وأنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر. فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ قال: إن لم تجدوا غيرها فارحضوها. واطبخوا فيها واشربوا. بلوغ الأماني ج 1 ص 238.

الخمّير (¬1) مجرى سؤر النصراني لاشتراكهما في علة النهي التي هي شرب الخمر. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف قول مالك في الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب فحمله مرة على الوجوب لأن الأمر يقتضي مطلقه الوجوب عند جمهور الفقهاء. وحمله مرة على الندب لأنه إنما أمر بغسل الإناء من ولوغه لأنه مما يستقذر. وتوقي ما يستقذر، وتعافه النفس غير واجب. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في رواية مسلم أنه قال: فليرقه ثم يغسله سبع مرات (¬2). والأظهر في المذهب أن ذلك تعبد، لا لنجاسة الكلب. وقال أبو حنيفة والشافعي إنما ذلك؛ لأن الكلب نجس. وهو ظاهر مذهب ابن الماجشون. لأنه قال: إن ولغ في اللبن، أكل إن كان بدويًّا، وطرح إن كان حضريًّا. وإن ولغ في الماء طرح حضريًا كان أو بدويًّا. فإن عجن به طعام طرح. قال لأنه نجس وهذا تصريح منه بنجاسة الكلب. وهكذا في السليمانية أنه إذا ولغ في ماء فطبخت به قدر لم يؤكل. وسوى مطرف في اللبن بين البدوي والحضري. واعتبر القلة والكثرة فطرح القليل وأكل الكثير. وطرد مذهب ابن الماجشون يوجب (¬3) أن يستوي حكم البدوي والحضري كما قال مطرف. لأن النجاسة يستوي حكمها في البدو والحضر. ولكنه خرج عن أصله لأصل آخر، وذلك أنه ثبت أنه عليه السلام أباح سؤر الهرة. وعلل بتطوافها (¬4) علينا. وهذا تنبيه منه - صلى الله عليه وسلم - على أن ما يشق التحرز منه ولا يمكن إبعاده فإنه معفو عنه. والكلب في البدو بهذه المنزلة. وقد قال سحنون الهر أيسر من الكلب. ¬

_ (¬1) الخمّير: المكثر من شرب الخمر. (¬2) رواه مسلم والنسائي وابن الجارود. (¬3) ساقط من -ح-. (¬4) قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنها أي الهرة ليست بنجسة أنها من الطوافين عليكم والطوافات. أخرجه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن وغيرهم. الهداية ج 1 ص 287 - 288.

والكلب أيسر من السباع. وإنما ذلك بقدر الحاجة إليه ومشقة التحرز عن مخالطته. وقال أيضًا كل كلب لم يؤذن في اتخاذه، نجس. وهذا لأنه لا تمس الحاجة إليه فلم يعف عنه. وساوى في الماء بين البدوي والحضري لعدم المضرة بطرحه. وأما مطرف ففرق بين القليل والكثير على ما ذكرناه لمشقة طرح الكثير، وخفة طرح اليسير، أو لأن الكثير يحمل النجاسة بخلاف اليسير. فاحتج من ذهب إلى طهارته بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}. (¬1) ولم يأمره بغسل ما باشره بفمه. وبأنه عليه السلام علل طهارة الهر بالتطواف علينا وهذه علة يشاركها الكلب فيها فكان حكمه حكمها. واحتج من ذهب إلى نجاسته بأنه عليه السلام أمر بإراقة سؤره. وظاهر هذا أنه لنجاسته. وقد أجيبوا عن هذا بأنه لاستقذاره أمر بذلك. واحتجوا بأنه قال في بعض طرق الحديث: طهور إناء أحدكم (¬2). ولفظة طهور تدل على نجاسة تطهير. وأجيبوا عن هذا بما قدمنا في أول الكتاب من أصل الطهارة الخلوص من الأدناس. ومنه قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3). فالمراد بالحديث خلوص الإناء من أن يستقذر وتعافه النفس. واحتجوا أيضًا بأنه عليه السلام نهى عن ثمنه. وتحريم الثمن إنما يكون لأحد ثلاثة أقسام: أما لعدم المنفعة كالخشاش، والكلب بخلاف ذلك. لأنه ينتفع به. وأما لحرمته كالحرة وأم الولد. والكلب لا حرمة له. وأما للنجاسة فكالميتة والدم. والكلب كذلك. وأجيبوا عن ذلك بأن النهي على جهة التنزيه، والأخذ بالأرفع في الهمة ككسب الحجام وشبهه. وقد تقابلتا (¬4) هذه الأدلة عند بعض أصحابنا فألحق الكلب بالمشكوك في حكمه. فقال من لم يجد سؤر الكلب جمع بينه وبين التيمم. ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 4. (¬2) روى مسلم بسنده إلى أبي هريرة -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب- وفي رواية محمَّد بن رافع عدم ذكر الترتيب. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 55. (¬4) تعارضت -ق-.

فإن قيل لو أدخل الكلب ما سوى فمه من أعضائه في الإناء فهل ينجسه عند من قال بنجاسة الكلب؟ قيل ينجسه إذا كان الإناء رطبًا. وقد نص على ذلك بعض من ذهب إلى نجاسة الكلب. وهو صحيح على هذا الأصل. ويحل ذلك محل جلد الميتة عند من لم ير أنه لا يطهر بالدباغ إذا استعمل في المائعات. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما فرق بين الماء والمائعات لخفة طرح الماء وقلة الضرر اللاحق بإراقته. والطعام بخلافه. لأنه مما يلحق الضرر بإتلافه، والضرر مز الذي الشرع. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما اختلف قوله في غسله إذا كان فيه مائع سوى الماء؛ لأنه ورد الحديث عامًا في سائر الأواني والأوعية. فأخذ مرة بعموم هذا الحديث وأجراه على إطلاقه. وخصه مرة بالعادة. فرأى أن الكلاب لم تكن تصل في زمن النهي إلى الطعام لقلته عندهم. وإنما كانت تلغ في المياه فحمل الحديث على المألوف عندهم. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إذا ولغت كلاب في إناء واحد فهل يغسل لكل كلب سبعًا أو يكتفي بسبع في سائر الكلاب؟ هذا مما لم ينص عليه أهل المذهب. وقد تنازع فيه من سواهم من أهل العلم. فوجه القول بأنه يكتفى بسبع في سائر الكلاب وهو الأظهر عندي في النظر، أن الأسباب إذا تساوت موجباتها اكتفي فيها بحكم أحدها. ألا ترى أن من بال وجب عليه أن يتوضأ. ومن تغوط وجب عليه أن يتوضأ أيضًا. فإذا اجتمعا معًا أجزأ فيهما وضوء واحد. فكذلك كل كلب على حياله يجب أن يغسل الإناء من ولوغه سبعًا. فإذا اجتمعت الكلاب اكتفي في جميعها بسبع قياسًا على ما قلناه في أحداث الوضوء أنه يكتفى فيها إذا اجتمعت (¬1) بوضوء واحد. وهكذا يجب على هذه الطريقة إذا قلن ابن جاسة الكلب وولغ في الإناء، ووقع في الإناء *نجاسة ¬

_ (¬1) إذا اجتمعت ساقطة -ح-.

أخرى* (¬1)، دم أو غيره، فإنه يكتفي في تطهيره من النجاستين بسبع غسلات. وكذلك لو قيل بطهارة الكلب، وأن الغسل تعبد، لاكتفي أيضًا بالسبع لأن النجاسة لا يفتقر غسلها لنية (¬2)، وإنما المراد ذهابها، وقد ذهبت ها هنا بهذه (¬3) الغسلات، فلا معنى لاعتبارها. ووجه القول بأنه يجب أن يختص كل كلب بسبع غسلات، أن كل كلب ثبت له هذا التحكم إذا انفرد، فكذلك إذا اجتمع مع غيره. لأنه في حال انفراده كهو في حال اجتماعه. وقد فهمنا أيضًا من الشرع أن تكرر (¬4) الغسل في الإناء تغليظ وتشديد. وإلا فالبول والعذرة، وما هو آكد من نجاسة الكلب، لا يشترط في غسله سبع مرات. وإن كان أحمد بن حنبل طرد الأصل في الجميع وأمر (¬5) أن تغسل كل نجاسة سبعًا وثامنة بالتراب. فإذا كان المفهوم من الشرع أن تكرير غسله تغليظ، كان طرد هذا الأصل أن تكرر (¬6) الغسلات لكل كلب تغليظ أيضًا وتشديد حتى يجري الحكم في هذا الباب مجرى واحدًا. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما خص أسآر البغال والحمير والسباع والطير بالذكر بعد أن أجملها أول الفصل تنبيهًا على الخلاف. لأن الشافعي وافقنا في سائر الحيوان وخالفنا في الكلب والخنزير. وزاد أبو حنيفة سباع البهائم. قال: وأما سباع الطير والحشرات كالفأرة ونحوها فنجس] إلا أنه عفي عنه لامتناع التحرز منه. والوضوء به وإن كان جائزًا، فإني أكرهه وكذا الهر. وأما البغال والحمير فمشكوك في حكمها عنده. فإن لم يجد إلا سؤرها جمع بينه وبين التيمم على حسب ما قاله بعض أصحابنا في سؤر الكلب. فلأجل هذا التفصيل الذي وقع بين هذين الإمامين نص على ما ذكره من أعيان الحيوان لينبه على الخلاف. ولهذا قد قيل في المذهب بكراهة سؤر السباع لأجل هذا الاختلاف، أو لأجل أنها لما كانت تفترس غالبًا حكم لأسآرها بحكم النجس. وقد قيل أيضًا بكراهة سؤر البغال والحمير وهذا أيضًا مراعاة للخلاف الذي ذكرناه. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط -ق-. (¬2) إلى نبة -ق-. (¬3) بذهب -ح- ساقطة -ق-. (¬4) تكثير -ق-. (¬5) وأمر ساقطة من -ح-. (¬6) تكرير -ق-.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما الخنزير، فقد اختلف قوله في غسل الإناء من ولوغه سبعًا. فأثبته قياسًا على الكلب لأنه أغلظ في التحريم منه وأشد استقذارًا فكان أحق بتكرير الغسل من الكلب. ونفاه مرة أخرى لأن سائر النجاسات "المجمع عليها لم يرد الشرع باشتراط عدد فيها. ولهذا أمر عليه السلام يصب ذنوب على بول الأعرابي ولم يشترط عددًا (¬1). وقال في الدم حتيه ثم اغسليه (¬2) ولم يشترط عددًا. فإذا لم يشترط العدد في النجاسة "المجمع عليها، فالخنزير أحرى ألا يشترط. وقياسه على الكلب لا يصح إلا بعد اجتماعهما في علة واحدة. ولم يقم الدليل على اجتماعهما في ذلك فأبقي (¬3) كل واحد منهما على ما اقتضاه الشرع فيه. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما غسل الإناء فلا يجب إلا عند إرادة الاستعمال هذا مذهب الجمهور. وذهب بعض المتأخرين إلى غسله وإن لم يرد استعماله. لأنهم رأوا أن الغسل إنما كرر تغليظًا. وطرد هذا أن يغلظ عليه بغسله وإن لم يرد استعماله. وهذا غير صحيح؛ لأنا وإن سلمنا أن الشرع إنما كرر غسله تغليظًا فليس لنا أن نغلظ على المسلمين بكل ما اتفق. هذا وأصول الشرع مبنية على أن لا تجب الطهارة حتى يحضر الذي من أجله وجبت سواء كانت طهارة حدث، أو نجس أو عبادة. وكذلك يجب أن يكون الحكم في مسألتنا لا تجب طهارة الإناء إلا عند إرادة استعماله لأنه إنما يطهر للاستعمال. قال القاضي رحمه الله: ثم الحيوان بعد ذلك على ضربين بري وبحري. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) قال - صلى الله عليه وسلم - جوابًا للسائلة: إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصلي. وفي رواية حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه. أخرجه مسلم والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم. مختصر سنن أبي داود ج 1 ص 220. وفي رواية للترمذي: حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم رشيه وصلي. البيهقي ج 1 ص 244، العارضة ج 1 ص 219. (¬3) فابقي عمل -ح-.

فالبحري طاهر العين حيًّا وميتًا، كان سمكًا، أو غيره، كان مما له شبه في البر أو مما لا شبه له، لا ينجس في نفسه إذا مات (¬1) ولا ينجس ما مات فيه من ماء (¬2) أو مانع. ويجوز (¬3) التطهر مما (¬4) مات فيه على الإطلاق، إلا أن يغيره فيصير مضافُ الا نجسًا. والبري ضربان منه ما له نفس سائلة كسائر ما ذكرناه من الدواب وغيرها من الطير والفأر (¬5) والسنانير. فما مات من ذلك نجس. ونجس (¬6) ما مات فيه من مائع غيره أو لم يغيره، ولا ينجس الماء إلا إن غيره. إلا أنه يستحب نزح البئر التي تموت فيها بحسب كبر الدابة وصغرها، وكثرة ماء البئر وقلته. وذلك توق واستحباب. وما تغير وجب نزح جميعه إلى أن يزول التغير. والضرب الآخر ما لا نفس له سائلة كالزنبور والعقرب والخنفساء والصرار، وبنات وردان وشبه ذلك. فحكم هذا حكم دواب البحر لا ينجس في نفسه، إذا مات (¬7) ولا ينجس ما مات فيه من مائع أو ماء، وكذلك ذباب العسل والباقلاء ودود النحل. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما معنى تقييده بقوله حيًّا وميتًا؟. 2 - وما معنى تقييده بقوله كان مِمَّا له شبه في البحر أو مما لا شبه له؟. 3 - وما معنى قوله لا ينجس في نفسه إذا مات ولا ينجس ما مات فيه؟. 4 - وما معنى تقييده بقوله من ماء أو مائع؟. 5 - وما دليل هذه الجملة؟. 6 - وما مرادهم بالنفس السائلة؟. 7 - ولم كان المائع ينجس وإن لم يتغير والماء لا ينجس إلا بالتغير؟. 8 - ولم كان النزح توقيًا واستحبابًا فيما لم يتغير؟. 9 - ولم كان ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت؟. ¬

_ (¬1) إذا مات ساقطة -الغاني-. (¬2) من ماء ساقطة -الغاني-. (¬3) مما يجوز -ح-. (¬4) بما -الغاني. (¬5) والفأرة- الغاني-. (¬6) ونجس ساقطة -ح- نجس في نفسه وينجس -الغاني. (¬7) إذا مات ساقطة -ح-ق-. والتصويب من الغاني.

10 - وهل البرغوث والبعوض ملحق بالقسم الأول أو الثاني؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما قيد ذلك بذكر الحياة والموت لأن أبا حنيفة ذهب إلى أن ميتة البحر لا تحل كميتة البر. ولنا عليه قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (¬1). قال عمر رضي الله عنه: الصيد ما صيد منه. وطعامه ما رمى به. وله علينا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. (¬2) ولم يفرق بين ميتة البر والبحر. وهذان عمومان تعارضا. فيجب رد أحدهما للآخر. فله أن يقول المراد بقوله صيد البحر وطعامه ما كان حيًا بدليل قوله تعالى حرمت عليكم الميتة. ولنا أن نقول المراد بقوله حرمت عليكم الميتة إذا كانت برية بدليل قوله أحل لكم صيد البحر وطعامه. وإذا تعارض العمومان وتقابل البناءان وجب طلب الترجيح. فلنا ترجيحان أحدهما: من نفس الظاهر، والآخر من غيره. فأما الذي من نفسه فهو قوله وطعامه بعد ذكره لصيده فيجب أن يحمل قوله وطعامه على فائدة ثانية غير فائدة قوله صيد البحر، ولا فائدة لها إلا ما رمى به. والغالب فيما رماه أنه لا يكون إلا ميتًا. وقد ذكرنا قول عمر رضي الله عنه في تأويل الآية وهو صاحب وإمام يرجح بقوله. وأما الترجيح من غير الآية فقوله عليه السلام في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته (¬3). وهذا يستعمل ترجيحًا ودليلًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما قيد بقوله كان مما له شبه في البر أو مما لا شبه له؛ لأن من العلماء من ذهب إلى أن ما كان له شبه في البر فحكمه حكم شبهه كإنسان الماء والكلب والخنزير، لا يحل (¬4) أكلهم وإن كانوا من دواب الماء. لأن أشباههم من حيوان البر لا تؤكل. وقد سئل مالك في المدونة عن خنزير الماء فتوقف فيه. فلأجل هذا الاختلاف قيد بقوله كان مما له شبه في البر أم لا؟ ليشير بهذا التقييد إلى هذا الاختلاف. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما أتى بهاتين الجملتين لأن ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 96 (¬2) سورة المائدة، الآية: 3 (¬3) تقدم تخريجه ص 108. (¬4) لا يجوز -ح-.

الشافعي ذهب إلى أن ما تولد من الحيوان في شيء كدود النحل والباقلاء فإنه في نفسه نجس. وإن كان لا ينجس ما مات فيه لأنه مما لا يمكن التحرز منه. لكن لو ألقي هذا الدود في شيء آخر لنجسه لإمكان التحرز منه (¬1). فقد صار الشيء في نفسه نجسًا. ولم ينجس ما مات فيه. فأتى بالجملتين لئلا يظن ظان به إذا اقتصر على أحد الحكمين أنه نفى الآخر. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما ذكر الماء والمائع لئلا يظن ظان به متى اقتصر على الماء خاصة أن المائع بخلافه. ويتوهم أن الماء لما كان مما لا ينفك من دوابه المخصوصة به غالبًا عفي عنه ولم يحكم بنجاسته لموت دوابه فيه، كما لم يحكم بإضافته بتغيره بالطحلب، وشبهه لعدم التحرز منه. والمائع بخلافه *في هذا. ولأن الماء أيضًا يدفع عن نفسه والمائع بخلافه* (¬2) فلأجل هذه الشبهة نبه على أن المائع مساو للماء ها هنا. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما الدليل على صحة ما قاله من طهارة الحيوان البحري وإن كان ميتًا، وإن كان مما له شبه في البر فقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} (¬3). فعم. وقوله عليه السلام في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته (¬4). والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الظاهر من مرادهم عند بعض شيوخنا بالنفس السائلة الدم. والنفس من الأسماء المشتركة، فتكون النفس بمعنى العين والذات ومنه قولهم نفس الجوهر ونفس العرض. وهذا لا يصح أن يريدوه ها هنا. وتكون النفس بمعنى الروح *على رأي بعضهم. ثم يختلف هؤلاء في حقيقة هذا المعنى اختلافًا يطول شرحه. ولا مدخل له ها هنا. ويكون النفس بمعنى الدم* (¬5) ومنه قولهم نفست المرأة وهذا المراد عند بعض شيوخنا بقولهم النفس السائلة يعني الدم. ¬

_ (¬1) فيه -ح-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من -ق-. (¬3) سورة المائدة، الآية: 96. (¬4) تقدم تخريجه ص 108. (¬5) ما بين النجمين ساقط من -ق-.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما كان المائع ينجس وإن لم يتغير في المشهور من المذهب *والماء لا ينجس إلا بالتغير في المشهور من المذهب* (¬1) أيضًا لأن الماء تطهير به النجاسات وتزال به وهو مختص بهذا الحكم *دون غيره مما سواه من المائعات. فإذا أثبت اختصاصه بهذا الحكم* (¬2) وأنه يطهر النجاسات لم تؤثر فيه إذا طرأت عليه إلا أن تغيره وتغلب عليه. إذ لو أثرت فيه إذا طرأت عليه لم يؤثر فيها إذا طرأ عليها. والمائعات سواه لا تطهير النجاسات إذا طرأت عليها فوجب لذلك أن تؤثر فيها النجاسات إذا طرأت عليها وإن لم تغيرها. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما كان النزح توقيًا واستحبابًا لأن الماء لا تؤثر فيه النجاسة إلا إذا غيرته على ما قدمنا وعلى ما اقتضاه قوله عليه السلام: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه (¬3) الحديث. فنفى كونه نجسًا مع عدم التغير. وهذا ينفي وجوب النزح إذ الطاهر لا ينزح ولكنه يستحب ذلك فيه لأجل الاختلاف، ولأجل قول بعضهم أن الحي إذا مات خرجت منه بلة تطفو على وجه الماء، فينزح من الماء قدر ما يقع في النفس أنها تذهب بذهابه. ويستعمل بعض هذا الماء لإذهاب النجس كما قال بعضهم في الماء المتغير يصح أن يضاف إليه ماء آخر ليذهب التغير بالمكاثرة. فالمكاثرة ها هنا في معنى النقض هناك (¬4). والجواب عن السؤال التاسع: أن قال: إنما كان ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت لما قدمناه عن بعضهم من أن الحيوان علة النجاسة فيه ذات وصفين: الموت، والنفس السائلة. للاتفاق على نجاسة ما هذا (¬5) حاله. فإذا لم يوجد أحد الوصفين لم يثبت الحكم. ويؤكد هذا قوله عليه السلام: إذا وقع ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من -ق-و -وهو أولى. (¬2) ما بين النجمين ساقط -ق-. (¬3) تقدم تخريجه في ص 108. (¬4) هناك ساقطة -و-. (¬5) هذه -و-ق-.

الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه (¬1). فلو كان ينجس بالموت لفسد الطعام بغمسه فيه لأن الغالب موته بالغمس وإذا مات في الطعام نجس الطعام وفسد. وما كان عليه السلام يأمر بإفساد الطعام وتنجيسه. وقد صار الشافعي إلى نجاسته بالموت ورأى أن العلة ذات وصف واحد وهو الموت خاصة. فطردها في جميع الحيوان وطرد أصله. فقال بنجاسة دود النحل إذا مات فيه لوجود الموت الذي هو علة الحكم. ولكنه لم يقل بنجاسة النحل لعدم حفظه وصيانته عن موت الدود فيه. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف ظاهر المذهب في البرغوث. فألحقه ابن القصار بما له نفس سائلة لوجود الدم فيه. وقد قدمنا أن النفس السائلة عبارة عن وجود البلة والدم وهذا موجود في البرغوث. وحكي عن سحنون ما ظاهره إلحاقه بما لا نفس له سائلة. وحكى ابن حبيب أن البعوض كالجراد فألحق البعوض بما لا نفس له سائلة مع أن فيه دمًا. ونقطة الاختلاف في ذلك أن هذا الدم في هذا الصنف من الحيوان ألحقه بما له نفس سائلة عند من رأى ذلك. ومن اعتبر كون الدم أصليًا لا طارئًا، ألحق هذا بما لا نفس له سائلة. لا سيما وما لا دم له أصلًا، لا أصليًّا ولا طارئًا قد صار الشافعي إلى نجاسته بالموت، فالأصل ما قيس عليه هذا غير متفق على صحته. قال القاضي رحمه الله: ولا يجوز التطهر من حدث ولا نجس ولا لشيء من المسنونات والقرب بمائع سوى الماء المطلق. والنبيذ التمري المسكر (¬2) نجس كالخمر لا يجوز شربه ولا التطهر به لا لحدث ولا لنجس. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة ما قال؟. ¬

_ (¬1) البخاري بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه. فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء. الفتح ج 12 ص 362. (¬2) ونبيذ التمر المسكر -الغاني-.

2 - ولم ذكر طهارة الحدث والنجس؟. 3 - ولم كان النبيذ المسكر نجسًا؟. 4 - ولم لا يجوز التطهر به؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الدليل على أنه لا يجوز التطهر بما سوى الماء المطلق. فقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (¬1). فجعل الحكم عند عدم الماء التيمم، ومن وجد مائعًا سوى الماء ولم يجد سواه فإنه غير واجد للماء (¬2). ومن كان غير واجد للماء فحكمه التيمم على ظاهر القرآن. وقد قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (¬3). وهذا وإن كان على وجه (¬4) الامتنان علينا، فإن فيه تنبيهًا على فضل الماء واختصاصه بهذا الحكم. إذ لو لم يختص به، وكان كل ما سواه يطهر مثله (¬5) لكان وجه الكلام أن يقول خلقنا كل مائع طهورًا لكم (¬6) فدل ذلك على أنه يختص بالتطهير عمومًا في طهارة الحدث والنجس. ولأن هذه (¬7) شرائع وعبادات غير معقولة المعنى فليس لنا إن نضع منها ولا أن نشرع فيها إلا ما شرع الله سبحانه (¬8). كما ليس لنا أن نشرع جواز التوضؤ بالأدهان وغيرها. وإن كانت مائعة مثل الماء. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما ذكر طهارة الحدث والنجس. لأنه لو اقتصر على طهارة الحدث لأمكن أن يظن به ظان أنه يجيز طهارة النجس بغير الماء كما (¬9) صار إليهم بعضهم. ولأن ما سوي الماء قد أثر في النجاسة على أحد القولين عندنا في طهارة جلد الميتة بالدباغ. والدباغ ليس من الماء بسبيل. فلما أثر ما سوى الماء في بعض المواضع على هذا القول نص على أن طهارة النجس كطهارة الحدث في الحكم الذي ذكره. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 43. (¬2) الماء -ح-. (¬3) سورة الأنفال، الآية: 11. (¬4) جهة -ح-. (¬5) وكان ما سواه يطهر به -و-. (¬6) لكم ساقطة -و-ق-. (¬7) ولأن هؤلاء -ح-. (¬8) فليس لنا أن نضع منها ونشرع فيها سوى ما يشرع الله سبحانه -ح-ق-. (¬9) على ما -ح-.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما كان النبيذ المسكر نجسًا لمشاركته للخمر المتفق عليه في علة النجاسة. لأن الخمر المتفق عليه إنما كأن نجسًا عندنا لوجود الشدة المطربة. ألا تري أنه إذا كان حلوا كان حلالًا. وإذا اشتد حرم. فإن تخلل من قبل الله سبحانه بعد ذلك حل. فلما رأينا الحكم متعلقًا حصوله بحصول الشدة المطربة وعدمه بعدمها، علمنا أنها علة الحكم. وإذا كان ذلك كذلك وكان التمري فيه من الشدة المطربة ما في العنبي، وجب أن يكون حكمهما واحدًا في التحريم والنجاسة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما لم يجز التطهر به لما قدمناه من كونه نجسًا، والنجس لا يتطهر به. وقد أجاز الأوزاعي الوضوء بسائر الأنبذة. وروي مثله عن عليّ رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة: إنما يجوز بمطبوخ التمر فقط إذا أسكر دون النقيع والنيئ بشريطة عدم الماء. ولنا عليهم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). فلم يجعل بين عدم الماء والتيمم واسطة. فمن جعل بينهما واسطة فقد خالف الظاهر. ولأنه إن كان أصلًا جاز الوضوء به مع وجود الماء. وإن كان بدلًا فيجب كونه أعم وجودًا من المبدل وأسهل تناولًا. وهذا مقتضى الحكمة لأنه إنما يبدل الشيء عند عدمه بعوض هو أكثر منه وجودًا وأسهل تناولًا. وإذا بطل كونه أصلأوبدلًا بطل أن يكون له في الطهارة مدخل. فإن تعلقوا برواية ابن مسعود بأنه قال عليه السلام ليلة الجن: ما في إدواتك؟ قال: نبيذ. فقال: تمرة طيبة وماء طهور (¬2). زاد بعضهم فتوضأ منه. فقيل عنه أجوبة. فقيل إنه منسوخ لأنه كان بمكة ونزلت آية الوضوء التي دلت على منع الوضوء به بالمدينة. والآخر ينسخ الأول. وأيضًا فإنه يمكن أن يكون لم يتغير وإنما سمي نبيذًا لأنه قد نبذ. وهذه التسمية تحصل له وإن لم يتغير. وقد قال الترمذي: أن أبا زيد راويه رجل مجهول (¬3) وهذا كله يمنع التعلق به. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 43. (¬2) الحديث أخرجه أحمد والدارقطني وأبو داود والترمذي. انظر الهداية ج 1 ص 304 وما بعدها. (¬3) عارضة الأحوذي ج 1 ص 128.

باب في الاستنجاء - وآداب الإحداث قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: ويختار لمريد الغائط والبول أن يبعد بموضع لا يقرب منه أحد، ولا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، إلا أن يكون في منزله أو بين البنيان فيجوز له ذلك. ولا ينبغي له قضاء الحاجة على قارعة الطريق, ولا شاطئ نهر ولا في ماء دائم ,إلا أن يكون كثيرا جدًا كالمستبحر. ولا يكلم أحدًا في حال جلوسه للحديث. وإذا (¬1) أراوإلاستنجاء فبشماله، إلا أن يكون له عذر. ويفرغ الماء على يده (¬2) قبل أن يلاقى بها الأذى. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة: منها أن يقال: 1 - لم استحب الإبعاد؟. 2 - ولم نهي عن استقبال القبلة واستدبارها؟. 3 - ولم أجاز ذلك في البنيان؟. 4 - ولم نهي عن قضاء الحاجة على قارعة الطريق، وما ذكر معها؟. 5 - ولم كره الكلام في حال الحدث؟. 6 - ولم خص الاستنجاء بالشمال؟. 7 - ولم استحب إفراغ الماء عليها قبل أن يلقى بها الأذى. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما استحب الابعاد لئلا يخرج منه صوت فيسمعه من كان قريبًا منه. وهي من العورة التي كشفها قبيح. فأمران ¬

_ (¬1) فإذا -ح-. (¬2) يديه -و- الغاني-.

يبعد من الناس ليأمن من ذلك. وقد نبه على ذلك عليه السلام بقوله: تنح عني فإن كل بائلة تفيخ (¬1). وكان عليه السلام إذا أتى حاجته أبعد في المذهب. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما نهى عن استقبال القبلة واستدبارها إعظامًا للقبلة وتشريفُ الها أن تستقبل أو تستدبر بالعورة. وتواجه بما يستره (¬2) الناس بعضهم عن بعض. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: من جلس يبول قبالة القبلة فتذكر فانحرف عنها إجلالًا لها لم يقم من مجلسمعتى يغفر له (¬3). وهذا تنبيه على العلة التي ذكرناها. وذهب بعضهم إلى أن علة ذلك ستر العورة عمن يصلي إلى القبلة من الملائكة وغيرهم. وقد اختلف الناس في هذه المسألة فذهب عروة وربيعة وداود إلى جواز استقبال القبلة واستدبارها في المدائن والفلوات. وذهب أبو حنيفة إلى منع ذلك فيهما. وفصل مالك رحمه الله كما تقدم. فأجاز في المدائن ومنع في الفلوات *واحتج من أجاز ذلك* (¬4) على الإطلاق بقول ابن عمر ارتقيت على بيت فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين لحاجته مستدبر القبلة، مستقبل بيت المقدس (¬5). واحتج من يمنع على الإطلاق بقوله عليه السلام: لا تستقبلوا القبلة لبول ولا لغائط ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا (¬6). ولما رأى مالك رضي الله عنه اختلاف هذين الحديثين ولم يمكن ¬

_ (¬1) أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج يريد حاجته فأتبعه بعض أصحابه فقال: تنح فإن كل بائلة تفيخ. النهاية لابن الأثير. ج 1 ص 163. فاخ يفوخ. وأفاخ يفيخ الرجل فوخانًا: إذا خرجت منه ريح. القاموس ج 1 ص 267 وشرحه ج 7 ص 324. (¬2) يستر -و-. (¬3) من جلس يبول قبلة القبلة فذكر فتحرف عنها إجلالًا لها, لم يقم من مجلسمعتى يغفر له. أخرجه صاحب منتخب كنز العمال ج 3 ص 448. وعلق عليه بقوله: رواه الطبري في تهذيبه عن الحسن مرسلًا وفيه كذاب. (¬4) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬5) متفق عليه. أخرجه الستة وأحمد - ولفظ مسلم ج 62 كتاب الطهارة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا لحاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة. (¬6) متفق عليه - روي بألفاظ متقاربة.

إسقاط أحدهما للآخر مع إمكان رد بعضها إلى بعض قال بجواز ذلك في المدائن على حسب رواية ابن عمر. ومنع ذلك في الصحاري على مقتضى الحديث الآخر. وخص عموم النهي بحديث ابن عمر. وأكد هذا بضرب من الترجيح وذلك أن م ابن ي من المراحيض في المدائن، يتعذر أن تبنى كلها على قصد واحد مع اختلاف جهاتها. وإذا تعذر ذلك ودعت الضرورة لبناء بعضها مستقبل القبلة أو مستدبرها دعت الضرورة لمسامحة الجالس عليها للحديث أن يقعد على مقتضى وضعها. وهذا المعنى مفقود في الصحاري فأجرى الأمر فيها على مقتضى الحديث. فإن قيل فَمَا لَا يتعذر فيه الانحراف في المدائن كالشوارع والسوق، إذا اجتنب قارعة الطريق فهل يمنع لعدم الضرورة ويلحق بالفلوات، أو يجوز طردًا للباب؟ قيل ظاهر المذهب على قولين: أحدهما الإباحة وهو ظاهر قول القاضي أبي محمَّد في هذا الكتاب بظاهر حديث ابن عمر. ولأن العلة عند بعضهم استقبال المصلين في الفيافي من الملائكة وغيرهم وهذا المعنى مفقدد في المدائن لإحاطة الجدر به. والثاني المنع لأن علة الجواز في المدائن عدم القدرة على الانحراف. فمتى قدر على إجلال القبلة للانحراف أمر به. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد تقدم ذكره وعلة جواز ذلك في المدائن في السؤال الذي قبل (¬1) هذا فأغنى عن إعادته. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما نهي عن قضاء الحاجة على قارعة الطريق وشاطئ النهر, والماء الكثير تعليق بذلك من حقوق الناس, ولم ينالهم من الأذي بفعل ذلك علي قارعة الطريق في تصرفاتهم, وشاطئ النهر في شربهم وطهارتهم. والماء الكثير بإفساده ومنع استعماله له ولغيره. وقد قال عليه السلام: اتقوا الملاعن الثلاث (¬2). ومعناه أن الناس إذا خلوا بهذه المواضع فمنعهم من الانتفاع بها ما فيها من الأذى، نعنوا من قطع حظهم منها. ¬

_ (¬1) الذي قبله -ح-. (¬2) أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديث معاذ بن جبل -والملاعن الثلاثة- البراز في الموارد. وقارعة الطريق والظل. الهداية ج 2 ص 37.

وقال عليه السلام: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم (¬1). وعلته ما قلناه من إفساده. وقد يتغير من ذلك فيظن من ورد عليه أنه تغير مما لا ينجسه فيستعمله. وهو مما لا يجوز استعماله. ومن هذا المعنى، كره التغوط في ظلال الجدر والشجر لقطع منفعة الناس. ويكره البول في الأجحار لأنه عليه السلام نهى أن يب الذي الجحر (¬2). فقيل معناه أنه قد يخرج من الجحر ما يلسعه ويرد عليه البول. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما نهي عن المخاطبة في حال الحدث لقوله عليه السلام: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك (¬3). وقد مر به عليه السلام رجل وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه (¬4) مع تأكد الأمر في رد السلام. ولأنه معنى يقبح إبداؤه وكشفه، وجرت رالعادة بستره والانقباض فيه من الناس. والمحادثة مباسطة واسترسال. وذلك نقيض م ابن ي هذا الأمر عليه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما خص الشمال بالاستنجاء؛ لأنه عليه السلام نهى أن يمس رجل ذكره بيمينه (¬5). وهذا على جهة التشريف ¬

_ (¬1) لا يبولن أحدكم في الماء الراكد. أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد من حديث جابر. الهداية ج 2 ص 235 (¬2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث قتادة صححه ابن خزيمة وابن السكن. الهداية ج 1 ص 234. (¬3) رواه أحمد، الفتح الرباني ج 1 ص 263. وأبو داود وابن ماجة. الهداية ج 2 ص 229. (¬4) عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب أن رجلًا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد بال فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال بيده إلى الحائط. الفتح الرباني ج 1 ص 267. وفي مسند الشافعي أنه عليه السلام قال لمن سلم عليه وهو يبول بعد أن قضى حاجته: إذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلم علي. فإنك إن تفعل لا أرد عليك -مختصر- بلوغ الأماني ج 1 ص 267. (¬5) رواه البخاري في باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال. عن أبي قتادة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه -ورواه في باب النهي عن الاستنجاء باليمين- والحديث أخرجه بقية الستة. فتح الباري ج 1 ص 264 - 265.

لها. وقد ورد الشرع بتشريف هذا الجانب. قال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} (¬1). فجعله تعالى علمًا على (¬2) عنوان السعادة في الآخرة فإن كان استنجاؤه بالماء صبه بيمينه وغسل بيساره. وإن كان بالحجر أخذ ذكره بيساره ومسح به على الحجر. فإن استنجى بيمينه أجزأه لأن الغرض تطهير المحل وقد طهر. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما استحب أن يفرغ الماء على يده قبل أن يمس بها الأذى لأنه إذا فعل ذلك كان أبعد من أن تتعلق رائحة النجاسة بيده لمدافعة الماء لها عن اليد قبل إلمامها به. قال القاضي رحمه الله: والأفضل الجمع بين الماء والأحجار، ويبدأ بالأحجار. فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل. (¬3) وإن اقتصر على الأحجار جاز ما لم يَعْدُ المخرج أو ما يقاربه. فإن انتشر عن ذلك الموضع لم يجزه إلا الماء. ويستحب له أن يأتي بالثلاثه الأحجار (¬4) فإن (¬5) أنقي بدونها أجزأه. وكل جامد يحصل به الإنقاء فهو كالأحجار (¬6) في الإجزاء. وقد ولخالفه في إباحة الابتداء إذا كان مما له حرمة. ويكره له العظم والبعر. وإن وقع بهما الإنقاء جاز. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الاستنجاء؟. 2 - وما أقسامه؟. 3 - وما أحكامه؟. 4 - وما الغرض به؟. ¬

_ (¬1) سورة الواقعة، الآية: 27. (¬2) علمًا على ساقطة -ح-. (¬3) فان اقتصر على أحدهما أجزأه. والماء أفضل -الغاني-. (¬4) الأحجار ساقطة -الغاني-. (¬5) وان -الغاني-. (¬6) كالحجر -و- الغاني-.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الاستنجاء هو (¬1) إزالة النجو، والنجو هو الحدث نفسه، وتسميته بذلك مجاز واتساع. وحقيقته أنهم كانوا يرتادون لقضاء حاجتهم الموضع الذي يسترهم عن الناس. إما النجوة وهي المرتفع من الأرض وإما الغائط وهو المنخفض من الأرض. فيقولون ذهب ينجو أو ذهب يتغوط. فلما كثر استعمالهم لهذا اللفظ نقلوه إلى الحدث نفسه. وأجروا اسم موضعه عليه وجروا في ذلك على عادتهم في إجراء اسم الشيء على ما ناسبه وتعلق به ضربًا من التعلق. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الاستنجاء على قسمين: استنجاء بالماء، واستنجاء بالحجر وما سد مسدهما. فأما الاستنجاء بالماء فجائز عند الجمهور. وحكي عن بعض السلف كراهته. ورأى أن الماء مطعوم فله بذلك حرمة تمنع من جواز استعماله في سائر النجاسات كسائر المطعومات. وترك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (¬2). فعم (¬3). وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستنجي به (¬4) .. وأما الاستنجاء بالأحجار (¬5) فالدليل على صحته قوله عليه السلام: ولا يكفي أحدكم أن يستنجي بدون ثلاثة أحجار (¬6) وقوله من استجمر فليوتر فمن فعل فقد أحسن وإلا فلا حرج (¬7). ¬

_ (¬1) هو ساقطة -و-ق-. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 11. (¬3) ساقطة من -و-. (¬4) روى البخاري في باب الاستنجاء بالماء. عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته، أجيء وأنا غلام معنا إداوة من ماء يعني يستنجي به. فتح الباري ج 1 ص 261. وعن أبي هريرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء دعا بماء فاستنجى. رواه أحمد. الفتح الرباني ج 1 ص 283. (¬5) بالحجر -و-ق-. (¬6) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وغيرهم أن سليمان قال: نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي باليمين وأن يستنجي أحد بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم. النهاية، ج 2 ص 224. (¬7) من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد - الفتح الرباني ج 1 ص277.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما أحكامه فكثيرة منها ما ذكره في الكتاب من أن الجمع بين الحجر والماء أولى (¬1). وهذا ليذهب الحجر عين النجاسة. ويذهب الماء أثرها. فإن اقتصر على الماء أجزأه. لأنه يذهبهما. وإن اقتصر على الحجر فقدلان: الجواز لقوله (¬2) عليه السلام: ولا يكفي أحدكم أن يستنجي بدون ثلاثة أحجار فعم (4). والمنع قياسًا على طهارة الحدث التي لا يجوز العدول فيها عن الماء إلا عند عدمه ومنها ما ذكره من أنه إنما يجزئ الأحجار ما لم يعد المخرج وما قاربه. وإنما كان هذا هكذا لأن الأصل عندنا ألا تزال النجاسة إلا بالماء. وسمح باستعمال الحجر لأنه قد يعرض للإنسان قضاء الحاجة في الطرقات ومواضع لا يتفق فيها الماء ولا يمكنه التأخر إلى وجوده. فرخص له في استعمال الحجر الموجود بكل مكان. وهذا يجب قصره على المخرجين اللذين يضطر لفعل ذلك فيهما، وما سواهما من البدن يبقى على أصله في اختصاصه بالماء. وما انتشر عن (¬3) المخرجين انتشارًا متفاحشًا ألحق بحكم ما على البدن لمشاركته له في معناه. لأنه لا يوجد غالبًا في سائر الناس عند خروج الحدث. ومنها ما ذكره من استحباب البلوغ إلى ثلاثة أحجار. وهذا لقوله عليه السلام: لا يستجمر أحدكم بدون ثلاثة أحجار (¬4). أخرجه مسلم. ومنها قوله: إن أنقى بدون الثلاث أجزأه. وهذا فيه قولان: أحدهما ما ذكره وهو الظاهر من المذهب وبه قال أبو حنيفة. ووجهه قوله عليه السلام: من استجمر فليوتر (¬5). والواحد وتر *ولأنه عليه السلام أتى بحجرين وروثة. فاستنجى بالحجرين وألقى الروثة (¬6). ولأن الماء لم يراع فيه عدد مخصوص. ¬

_ (¬1) أفضل -و-. (¬2) بقوله -و-. (¬3) على -ق-. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) من حديث أبي هريرة رواه أحمد. الفتح الرباني ج 1 ص 277 وأخرجه مسلم من حديث جابر. (¬6) رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود. فتح الباري ج 1 ص 267.

وكذلك ما هو بدل منه وهو الحجر* (¬1) وقيل لا يكتفي بذلك. قاله أبو الفرج وابن شعبان وبه قال الشافعي. ووجهه قوله نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (¬2). واختلف على هذه الطريقة هل يشترط نقاء الثلاثة الأحجار. أو إنما يشترط نقاء بعضها. فوجه اشتراط نقاء جميعها، قوله وقد سئل عن الاستطابة بثلاثة أحجار ليس فيهن رجيع (¬3) هذا وجه القول. ووجه القول بالاكتفاء بنقاء بعضها قوله: نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ولم يشترط نقاء جميعها. ولأن الماء لم يراع فيه عدد مخصوص فكذلك ما هو بدل منه وهو الحجر. ولأنه عليه السلام أتي بحجرين وروثة فاستنجى بالحجرين وألقى الروثة (¬4). ومنها قوله أن كل جامد منق فهو كالحجر في الأجزاء. وقد يخالفه في إباحة الابتداء إذا كان مما له حرمة *ويكره العظم والبعر* (¬5) فإن أنقيا جاز. وإنما كان هذا هكذا ولم يقتصر في الاستنجاء على الأحجار خلافًا لداود، وأهل الظاهر في قصرهم الاستجمار على الأحجار لتخصيصها بالذكر في الحديث. لأن الغرض إذهاب النجاسة وهو السابق إلى النفس عند ذكر الحجر. فما فعل فعلها حل محلها. وأيضًا فإنه عليه السلام لما أوتي بالروثة يستنجي بها ألقاها وقال: إنها رجس ولم يقل إنها ليست بحجر. وأيضًا فإنه لما ذكر الراوي خبر الاستنجاء ذكر أنه نهى عن الروث والرمة. وتخصيص هذين بالذكر يدل على بطلان القول بالاقتصار على الأحجار، إذ لو كان غيرهما ممنوعًا لما أفاد تخصيصهما بالذكر ولكنه خصصهما بالذكر لكون الروث نجسًا، والرمة عظم بال لا ينقي. وإنما اشترط أن يكون جامدًا لأن المائع سوى الماء لا يزيل النجاسة على ما قدمنا فيما سلف. وإنما اشترط كونه منقيًا لأن ما يزيل العين ¬

_ (¬1) ما بين النجمين هو من -و- وساقط من -ح-ق-. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرجه أحمد عن خزيمة بن ثابت الأنصاري. الفتح الرباني ج 1 ص 278ـ وأخرجه أبو داود وابن ماجة. (¬4) رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود. فتح الباري ج 1 ص 267. (¬5) ما بين النجمين ساقط من -و-.

كالإصبع وغيره لا يذهب النجاسة. والغرض ذهابها. وإنما شرط في الإباحة أن لا يكون له حرمة لأن الطعام تمنع حرمته من امتهانه. فمباشرة النجاسة به أحرى أن تمنع. فإن فعل ففيه قولان: أحدهما الأجزاء على ما أشار إليه في الكتاب، والثاني نفي (¬1) الأجزاء. فوجه القول بالأجزاء: أن الغرض إزالة العين وهي قد زالت بهذا النوع. ووجه نفي الأجزاء أن الاستنجاء بغير الماء رخصة، والرخص لا تتعلق بالمعاصي وأيضًا فإذا كان هذا منهيًا عنه، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، عند بعضهم، منع ذلك من أجزاء الاستنجاء به. وينخرط في هذا السلك الاستنجاء بالأحجار الشريفة كالذهب والجوهر، فإن ذلك يمنع؛ لأن الشرب فيه نهي عنه لأجل السرف. فامتهانه في أن يمسح به المخرج أولى أن يكون سرفُ ا. فإن فعل فيختلف في الأجزاء على حسب ما تقدم. وأما كراهية العظم والبعر. فلتعلق (¬2) حق الغير بهما، وقد نهى عليه السلام عن الاستنجاء بهما. وقال: إنه زاد إخوانكم من الجن (¬3). وإنما قال بالأجزاء إذا أنقى بهما لأن الغرض ذهاب النجاسة وقد ذهبت. ولأن المنع، لتعلق حق الغير، وذلك لا يمنع من إجزاء الاستنجاء (¬4) كما لو غصب حجارة فاستنجى بها. وقد قيل يعيد الصلاة هذا المصلي بهذا الاستنجاء ما دام وقت الصلاة المفروضة باقيًا. ووجهه أن إزالة النجاسة شرط في أجزاء الصلاة أو كمالها على ما سيأتي بيانه. فإذا أتى بذلك على وجه منهي عنه أمر بالإعادة ليأتي بالعبادة على الوجه المأمور به. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الغرض بالاستنجاء ذهاب النجس وتطهير البدن ليناجي المكلف ربه وهو (¬5) على أشرف الأوصاف، وأجمل ¬

_ (¬1) عدم -و-ق-. (¬2) فيتعلق -و-ح-. (¬3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود. جامع الأصول، ج 7 ص 145 - 146. (¬4) ساقطة -و-ق-. (¬5) ساقطة -و-.

الأحوال، على ما فيه من حصول النظافة التي يؤمر بها المكلف في كل أحواله عند الصلاة وغيرها. قال القاضي رحمه الله: ومن ترك الاستنجاء والاستجمار وصلى بالنجاسة فإن كان لعذر من سهو أو عدم ما يزيلها به أجزأه. وأعاد إن وجد في الوقت. وإن كان عامدًا قادرًا على الإزالة لم يجزه، وأعاد أبدًا. وليس على من بال أن يقوم ويقعد أو يزيد في التنحنح، ولكن ينتر ويستفرغ جهده على ما يرى أن حالته تقتضيه (¬1) من إطالة أو إقصار. ويكره له البول قائمًا في موضع صلب لا يأمن تطايره عليه. *أو مقابلة الريح* (¬2) ويجوز في الرمل، والمواضع التي يأمن ذلك فيها. قال الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منها أن يقال: 1 - لم فرق بين الناسي والعامد في ترك الاستنجاء؟. 2 - ولم كره البول قائمًا في الموضع الصلب وأجازه في الرمل وشبهه؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما تفرقته بين الناسي والعامد فإن ذلك مبني على إزالة النجاسة هل هو فرض أو سنة؟ وقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الاستنجاء مستحب وليس بواجب، وجعله أصلًا في العفو عن قليلًا النجاسة. وسيرد تحقيق القول فيه عند بلوغنا إلى موضعه من هذا الكتاب فلا معنى لذكره ها هنا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما كره البول قائمًا لقول عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه (¬3). وإنما خص بذلك المواضع الصلبة؛ لأنه إذا بال قائمًا تطاير عليه، فينجس بدنه وثوبه. وتوقي النجاسات مأمور به. وإنما أجاز ذلك في الرمل. بحيث لا يتطاير لذهاب العلة التي من سببها (¬4) نهينا عنه. وقد روي أنه عليه السلام أتى سباطة قوم فبال قائمًا ومسح على خفيه (¬5). والسباطة يأمن فيها من تطاير البول. وقد ¬

_ (¬1) حاله يقتضيه -و-الغاني-. (¬2) ما بين النجمين مثبت في الغاني فقط. (¬3) رواه الترمذي والنسائي. جامع الأصول، ج 7 ص 129. (¬4) بسببها -ح-. (¬5) رواه الستة وأحمد. ولفظ البخاري عن حذيفة: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائمًا. ثم دعما بماء فجئته بماء فتوضأ. فتح الباري، ج 1 ص 341.

قال بعضهم إنما فعل ذلك لعلة كانت به. وقال بعضهم إنما فعل ذلك لقرب الناس منه. والبول قائمًا يؤمن معه من خروج الصوت. وقال بعضهم إنما فعل ذلك لعذر، (¬1) لأنه خاف متى جلس أن يكون في السباطة نجاسة تمس ثوبه فاتقى ذلك وتوقاه: بأن بال قائمًا. وعلى الجملة فالبول قائمًا إنما يفعل عند عذر يقتضيه. وأما المختار، فالبول من قعود لقول عائشة: من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائمًا فلا تصدقوه (¬2). وهذا الإنكار منها يقتضي أن المعلوم من عادته - صلى الله عليه وسلم - البول من قعود (¬3). وما تكرر من فعله وعلم من عادته فيه تتعلق الفضيلة. وما روي من بوله قائمًا ففعله لإحدى العلل التي ذكرناها أو ليشرع الجواز والإباحة. ¬

_ (¬1) ساقطة -ح-. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) من قعوده -ح-.

باب آخر قال القاضي رضي الله عنه: كل مائع خرج من أحد السبيلين نجس] وذلك هو البول، (¬1) والمذي والودي (1)، والمني ودم الحيض والنفاس والاستحاضة وغير ذلك من أنواع البلل والدماء كلها نجسة (¬2) تجوز الصلاة بقليلها ولا تجوز بكثيرها، إلا دم الحيض ففيه روايتان. والأبوال على ثلاثة أضرب: 1 - بول حيوان محرم الأكل فهو نجس. 2 - وبول حيوان مكروه الأكل فهو مكروه. 3 - بول حيوان مباح الأكل فهو طاهر مباح. إلا أن يعرض ما يمنعه مثل أن يكون غذاء ذلك الحيوان النجاسة أو غالبه. وأجزاء الميتة كلها نجسة *إلا ما لا حياة فيه* (¬3) كالشعر والصوف والوبر. وكل الحيوان في ذلك واحد. وجلود الميتة كلها نجسة لا تطهير (¬4) بالدباغ. غير أنه يجوز استعماله في اليابسات. وعظم الميتة وقرنها نجس. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرون سؤالًا: منها أن يقال: 1 - ما النجاسة؟. 2 - وما أقسامها؟. 3 - وما الدليل على صحة ما قال؟. 4 - وما معنى تقييده بقوله كل مائع؟. ¬

_ (¬1) البول والغائط -الغاني-. (¬2) من إنسان أو حيوان له نفس سائلة -الغاني-. (¬3) ما بين النجمين ساقط -ح-. (¬4) لا يطهرها -الغاني-.

5 - وما معنى قوله وغير ذلك من أنواع البلل؟. 6 - وما معنى تأكيده بقوله الدماء كلها؟. 7 - ولم اختص دم الحيض باستواء قليله وكثيره على إحدى الروايتين؟. 8 - ولم قال إن بول ما يحرم أكله نجس مع أن بول من لم يأكل الطعام طاهر في المشهور من المذهب؟. 9 - ولم قال إن بول المباح طاهر؟ (¬1). 15 - ولم استثنى منه ما يتغذى بالنجاسة؟. 11 - ولم أكد بقوله أجزاء الميتة كلها؟. 12 - ولم كان الشعر منها لا ينجس؟. 13 - وما معنى تنبيهه بقوله وكل الحيوان في ذلك واحد؟. 14 - وما معنى تأكيده في قوله وجلود الميتة كلها؟. 15 - ولم كان الجلد لا يطهر بالدباغ؟. 16 - ولم جاز استعماله في اليابسات؟. 17 - وما معنى تنبيهه على عظم الميتة وقرنها؟ 19 - وهل حكم لبن ما لا يؤكل لحمه كبوله؟ (¬2). 20 - وهل تطهير النجاسة بالاستحالة كما يطهر (¬3) الجلد بالدباغ؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أصل النجاسة الدنس. وهي تسمية موضوعة لكل ما يستخبث (¬4) أو يستقذر. فمنها ما يثبت (¬5) له هذا المعنى بحكم الطباع والشرع. ألا ترى أن الغائط والبول والدم مما تعافه النفوس وتستقذره الطباع. والشرع ورد فيه بمثل ذلك. ومنه (¬6) ما لا تستقذره النفوس كالخمر. ¬

_ (¬1) مباح -و-ق-. (¬2) مثل بوله -و-. (¬3) طهر -ح-. (¬4) يستجنب -ح-. (¬5) ثبت -و-. (¬6) منها -و-.

ولكن الشرع ورد (¬1) بأنه خبيث مجتنب. ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (¬2). فإنهم *وإن كانوا بما شوهدوا بعضهم نظيفةٌ* (¬3) أبدانهم وثيابهم، فإن معهم صفة لازمة هي أخبث وأحق بالاجتناب من غيرها من النجاسات. وهي الكفر بالله تعالى. وقد نبّه سبحانه لهذا على منع الصلاة بسائر النجاسات. لأنه إذا نهى عن أن تقرب النجاسة من موضع الصلاة فنفس الصلاة التي شرف موضعها بها أولى. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما أقسامها فهي على قسمين: نجاسة لازمة العين كنجاسة الميتة، وبول ما لا يؤكل لحمه، والدم. ونجاسة معلقة بسبب يطرأ على العين كعصير العنب إذا صار خمرًا. وبول ما يتغذى بالنجاسة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الدليل على نجاسة البول فقوله عليه السلام: تنزهوا من البول. فإن عامة عذاب القبر منه (¬4). والدليل على نجاسة الغائط قوله عليه السلام لعمار: (¬5) إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء (¬6). ومحمل ما قاله في القيء عندنا على أنه تغير حتى لحق بالغائط. وأما المذي فدليله قوله عليه السلام: إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك ¬

_ (¬1) ورد فيه -و-ق-. (¬2) سورة التربة، الآية: 28. (¬3) ما بين النجمين بياض -ح-. (¬4) رواه الدارقطني وذكر أنه مرسل. وقال الذهبي سنده وسط. وحسنه السيوطي فيض القدير ج 3 ص 270. (¬5) ساقطة -ح-. (¬6) هو حديث عمار بن ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك. إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء. أخرجه البيهقي ج 1 ص 14. وعلق عليه هذا باطل لا أصل له لأن في سلسلة رواته علي بن زيد وهو ممن لا يحتج به وثابت بن حماد وهو متهم بالوضع. كما أخرجه في العلل المتناهية ج 1 ص 332 وضعفه وقال ابن تيمية: هذا حديث كذب عند أهل المعرفة.

وتوضأ وضوءك للصلاة (¬1). وأما الودي فمقيس عليه أيضًا، فإنه يخرج مع البول فكان حكمه حكمه. وأما المني فقد اختلف الناس فيه. فذهب مالك إلى أنه نجس. ووافقه أبو حنيفة على ذلك. إلا أنه أجاز إزالة يابسه بالفرك. وذهب الشافعي إلى أنه طاهر. وسبب اختلاف المذهبين اختلاف الروايتين. يروى عن عائشة أنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه (¬2). قال الأصيلي حديث الفرك مضطرب الإسناد. وليس يختلف في صحة حديث الغسل. ومع هذا الترجيح الذي ذكره الأصيلي، فإنه مائع خرج من مخرج البول، فوجب أن يكون نجسًا لسلوكه مسلك النجاسة. وقد رجح أصحاب الشافعي حديثهم بأنه مائع يتكون منه حيوان فوجب أن يكون طاهرًا كمح البيضة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما قيد بقوله كل مائع لأنه قد يخرج من السبيلين من الجامدات ما هو طاهر في نفسه كالدود والحصى. والدود والحصى طاهران في أنفسهما، وإنما يكتسبان النجاسة بما تعلق بهما من بول أو غائط. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما أشار بقوله وغير أنواع البلل إلى رطوبة فرج المرأة. فإن من أصحابنا من ذهب إلى أن بلة فرج المرأة نجسة. لأنها تسلك مسلك النجاسة. ومن الناس من ذهب إلى طهارتها، قياسًا على العرق. وكذلك العلقة قد قال بعض أصحابنا مفسدًا لقول الشافعية بطهارة المني لتكوُّن الخلق منه، إن العلقة نجسة مع تكون الخلق منها. قال: (¬3) فإن قالوا بطهارتها خرجوا عما عليه المسلمون. وهذا الذي قالوا من الإجماع لم يسلموه، فإن أبا بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي ذهب إلى طهارة العلقة لأنه ¬

_ (¬1) رواه مالك: فلينضح فرجه بالماء وليتوضأ وضوءه للصلاة. شرح الزرقاني، ج 1 ص 77 - 78. (¬2) أورده البخاري في الترجمة ولم يرو فيه حديثًا. وأخرجه مسلم - فتح الباري ج 1 ص 345 - ومسلم شرح النووي ج 3 ص 196. (¬3) قال: ساقطة من -و-ق-.

دم غير مسفوح كالكبد والطحال. فأراد القاضي رحمه الله أن يشير بقوله وغير ذلك من أنواع البلل (¬1) إلى هذه الفصول المختلف فيها. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما وجه تأكيده بقوله الدماء كلها فيشير إلى ما اختلف فيه من الدماء، كدم السمك. فقد قيل بطهارته. لأنه ليس بأكثر من الميتة. وميتة السمك طاهرة بخلاف سائر الميتة، فكذلك دمه يجب أن يكون بخلاف سائر الدماء. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما اختص دم الحيض في أحد الروايتين باستواء قليله وكثيره لأن الأصل في سائر الدماء أن يستوي قليلها وكثيرها في الحكم، كالبول والغائط. لكن لما كان قليل الدم لا يمكن التحرز منه، رخص فيه لرفع الحرج. وقد قال الشافعي لا يرخص فيه. ودليلنا عليه: أنه رخص في دم البراغيث لما لم يمكن التحرز منه فكذلك ما نحن فيه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه. ودم الحيض مما لا تعم البلوى به في حق الرجال أصلأولا في حق النساء مؤبدًا. لأنه إنما يطرأ عليهن من وقت إلى وقت. فلم تدرك المشقة فيه كما تدرك في غيره من الدماء ولهذا لم يرخص في قليل النجاسات سوى الدم. خلافًا لأبي حنيفة في قوله يعفى في سائر النجاسات عن قدر الدرهم البغلي فأقل. وما أشرنا إليه من أن الأصل وجوب استواء قليل النجاسة وكثيرها يبطل ما قاله. وقد أمرنا بالاستنجاء. ومحل النجاسة فيه أقل من المبلغ الذي قدره. ولا حجة له بقوله عليه السلام في الدم: اغسليه. ولا يضرك أثره (¬2). فسامح بأثره (¬3) لما كان قليلًا لأنه قد أمر في أول الحديث بغسله ولم يفرق بين قليل وكثير (¬4). ¬

_ (¬1) من أنواع البلل ساقط -ح-ق-. (¬2) أخرجه أحمد بسنده إلى أبي هريرة أن خولة بنت يسار رضي الله عنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فقالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض. قال: إذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه. قالت: يا رسول الله إن لم يخرح أثره؟ فقال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره. كما رواه البيهقي وأبو داود والترمذي وضعفه الحافظ في بلوغ المرام. بلوغ الأماني ج 1 ص 225. (¬3) فسامح بأثره. ساقط -ح-. (¬4) بين قليل ولا كثير -و-.

وأما وجه إحدى الروايتين في العفو عن قليل دم الحيض فلأنه (¬1) رآه مما يشق التحرز منه، فألحقه بغيره من الدماء ليجري الحكم في المتجانس مجرى واحدًا. وقد اختلف في العفو عن قليل القيح وقليل الصديد. وتوجيه القول فيهما كتوجيه القول في قليل دم الحيض. وقد قال بعض شيوخنا يجب أن يكون ما طرأ على الإنسان من دم غيره من الحيوان الذي يمكنه التحرز منه كدم الشاة وشبهها غير معفو عنه لأنه ليس مما يشق التحرز منه فيجب العفو عنه. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما قال بنجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ولم يستثن من لم يأكل الطعام لأنه روي عن مالك نجاسة بول من لم يأكل الطعام قياسًا على غائطه. وقد اتفق على نجاسته. وإذا ثبت للغائط حكم ثبت للبول. ألا ترى أن غائط من أكل الطعام نجس وكذلك بوله؟ وغائط ما يحل أكله كالشاة والبعير طاهر، فكذلك بوله. ووجه الانفصال على هذه الرواية عما روي عنه عليه السلام: أنه أتي بطفل لم يأكل الطعام فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله (¬2). أن يقال قد يسمى الغسل نضحًا. ومنه قيل للإبل نواضح فيمكن أن يكون صب عليه السلام من الماء ما أذهب عنه النجاسة. وذلك يسمى نضحًا. وقد فرق بعض أصحابنا بين بول الجارية والغلام. فذهب إلى نجاسة بول الجارية دون الغلام. وقصر الحديث الوارد في الطفل على ما ورد عليه. وهذا ضعيف في القياس. فيمكن أن يكون القاضي أبو محمَّد إنما لم يستثن بول الطفل آخذًا بالرواية التي قدمنا في نجاسته. وإنما (¬3) يكون أراد بقوله: كل حيوان محرم الأكل يريد محرمًا لا لحرمته. وتحريم كل بني آدم لحرمتهم، بخلاف غيرهم من الحيوان. ¬

_ (¬1) فإنه -و-. (¬2) أخرجه الستة ومالك عن أم قيس بنت محصن. جامع الأصول، ج 7 ص 86. (¬3) أو أن -و-ق-.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إنما قال (¬1) أن بول المباح مباح خلافًا لأبي حنيفة والشافعي لقوله عليه السلام: ما كل لحمه فلا بأس ببوله (¬2). ولأنه عليه السلام أباح للعرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل تداويًا بها. ولو كان نجسًا لم يأمرهم بذلك ولو كان على جهة التداوي. لأنه عليه السلام قال: لا شفاء فيما حرم الله (¬3). فإن احتجوا بقوله عليه السلام: كان لا يستتر من البول (¬4). فعم. قيل: قد روي كان لا يستتر من بوله (¬5) فيرد المطلق إلى المقيد. وقد تعلقوا أيضًا بأن الإجماع قد تقرر على نجاسة بول الإنسان الذي أكل الطعام. وليس لذلك علة سوى تسميته بولًا. فحيث ما وجدنا هذه العلة التي هي مجرد التسمية، جعلناها علة للحكم. وهذا الذي قالوه له تعلق بأحكام العلل. وليس هذا موضع استقصائه. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب كون (¬6) الاسم العلم علة للحكم. فمثله أبو القاسم عبد الجليل الصابوني: يكون تسميته عرفة علة في وجوب الوقوف بها. وهذا الذي قاله لا تظهر فيه فائدة. لأنه لا يوجد فروع يختلف فيها فترد لهذا الذي ذكره. وأعظم ما فيه إن سلم (¬7) له أن يكون من العلل القاصرة. وقد مثل بعضهم كون الإسم العلم علة للحكم بهذه المسألة التي نحن فيها. وهي كون مجرد تسمية البول علة في الحكم بنجاسته. وهذا إن سلم تجري فائدته بخلاف ما ذكره أبو القاسم عبد الجليل. ¬

_ (¬1) إنما قال ساقط من -و-ق-. (¬2) أخرجه النسائي عن البراء بن عازب والدارقطني والبيهقي عن جابر وهو حديث ضعيف. (¬3) أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم. أثر موقوف عن ابن مسعود. وله شاهد موصول. أخرجه أبو يعلي وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة قال: اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يغلي فقال: ما هذا؟ فأخبرته. فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. فتح الباري ج 12 ص 181. (¬4) كان لا يستتر عن البول وفي رواية من البول. إكمال الإكمال شرح مسلم ج 2 ص 73. (¬5) متفق عليه. فتح الباري ج 1 ص 330. (¬6) كون ساقطة -ح-. (¬7) أن يسلم -و-ق-.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما الحيوان الذي يتغذى بالنجاسة. فاختلف فيه هل ينتقل حكم بوله ولبنه وعرقه عن أصله أم لا؟ فقيل: هو باق على أصله لأن النجاسات التي يتغذى (¬1) بها قد استحالت. واستحالتها تسلبها حكم النجاسة كاستحالة الخمر خلًا. وقد قال تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}. (¬2) فأخبر في ظاهر الآية عن مخالطته للنجاسة في باطن الجسم. فإن ذلك (¬3) لا يضر إذا انفصل عن الجسم، فكذلك العرق والبول. وقيل بل ينتقل جميع ذلك عن أصله ويصير نجسًا. لما رواه الترمذي والنسائي على النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن أكل لحوم الجلالة وألبانها (¬4). ومن هذا الأصل اختلف في عرق السكران. ويختلف في لبن المرأة تشرب الخمر. واختلف في البقول تسقى النجاسة وسنزيد ذلك بيانًا في الكلام على النجاسة هل تطهير بالاستحالة إن شاء الله تعالى؟. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: إنما أكد بقوله كلها. يشير إلى ما ذهب إليه المخالف في هذا على ما سيرد بيانه إن شاء الله. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما شعر الميتة فإنه طاهر عندنا. وذهب الليث وغيره إلى نجاسة الشعور كلها. وأنها تطهير بالغسل. وذهب الشافعي في أحد أقواله إلى طهارة شعر ابن آدم خاصة، ونجاسة ما سواه من الشعور. واعلم أن نكتة الخلاف في هذه المسألة - وفي مسألة العظم والقرن تدور على تحقيق القول في حياة هذه الأشياء. وأنها تعدم منها الحياة بعد وجودها فتسمى ميتة. وتلحق بسائر أجزاء الميتة في الحكم. أو تكون مواتًا لا حياة فيها أصلًا (¬5). فلا تسمى ميتة. لأن الميتة ما كان حيًّا فمات حتف أنفه. وهذه إذا لم تكن فيها حياة لم تستحق هذه التسمية حتى تلحق بأحزاء الميتة في ¬

_ (¬1) التي يغذى بها -ح- النجاسة التي تغذى بها -ق-. (¬2) سورة النحل، الآية: 66. (¬3) وإن ذلك لا يضر -و-ق-. (¬4) ورواه أيضًا الحاكم وأبو داود والبيهقي. انظر بلوغ الأماني. (¬5) أصلًا ساقطة -و-ق-.

الحكم. وقد استدل أصحابنا على فقد الحياة من الشعر بكونه لا يبيح ولا يألم. ودليل حياة الحي حسه وألمه. ألا ترى أن سائر أعضاء الإنسان يتألم بقطعها والشعر لا يتألم بقطعه، كما لا يتألم (¬1) الجماد. واحتج من قال بحياة الشعر بأنه متصل بالحي وينمو ويزيد، وذلك عنوان الحياة. وهذا ضعيف؛ لأن القوة المغذية (¬2) يشترك فيها الحيوان والنبات (¬3) وهي سبب النماء والزيادة. فلا دلالة لها على الحياة. والقوة التي بها الحس تختص بالحيوان فكان دلالتها على الحياة أولى. فإذا لم توجد دلت على عدم الحياة على ما يستقرأ من أحوال الموجودات. فإن احتج الليث على نجاسة الشعر وطهارته بالغسل بقوله عليه السلام: لا بأس بمسك جلد الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها ووبرها إذا غسل (¬4). فهنا يحمل الحديث إن صح على أن الغسل مستحب لما قدمناه من الاستدلال على أن الشعر ليس بحي فيحس بالموت إن صح (¬5) وأما الشافعي فأنه إن قال: إنما فرق بين شعر الإنسان وغيره من الحيوان؛ لأن للإنسان حرمة تقتضي تشريفه على غيره من الحيوان. وفي الحكم بنجاسته إلحاق له بصنف الخسيس من الحيوان. ولهذا كان لبن ما لا يؤكل لحمه نجسًالأولبن بنات آدم طاهرًا لحرمتهن. ولهذا كان الإنسان لا ينجس بالموت في أحد القولين عندكم. وقد قال عليه السلام: لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس بنجس حيًّا ولا ميتًا (¬6). قيل له إذا ثبت كون الشعر حيًا فإنه يلحق بأجزاء الميتة ويدخل في الظاهر الوارد بتحريم الميتة. ولا يخص (¬7) بقياسه على لبن الآدمية بغير علة ¬

_ (¬1) يألم -ح-. (¬2) المفيدة. (¬3) الموات -ح-. (¬4) أخرجه البيهقي ونص على ضعفه لأن في سنده يوسف بن السفر وهو متروك. ولم يأت به غيره. السنن ج 1 ص 243. (¬5) ساقطة من -و-ق-. (¬6) عن عطاء وسعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا: لا تنجسوا موتاكم. فإن المسلم ليس ينجس حيًّا ولا ميتًا. البيهقي ج 3 ص 398. (¬7) ولا يختص -و-.

جامعة. وإن ركبنا له أحد القولين في نجاسة الإنسان إذا مات لم يبق له متعلق. والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: وأما قوله وكل الحيوان واحد. إن أعدناه على الشعر والصوف، فإن ذلك تنبيه على ما فصله الشافعي في شعر الإنسان وغيره من الحيوان. واللبن (¬1) لعلة الحكم في ذلك. وإن أعدناه على جميع الجملة كان فيه تنبيهًا أيضًا على أخذه بأحد القولين: في أن الإنسان ينجس بالموت. وكونه عائدًا على الجملة الأخيرة أولى لأنه ليس كل الحيوان ينجس بالموت عندنا. ألا ترى أن السمك والجراد وكل ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت. فلهذا اخترنا إعادة هذا الكلام إلى الجملة التي تليه. والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: إنما أكد بقوله الميتة كلها لأن الأوزاعي ذهب إلى أنه يطهر بالدباغ جلد ما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل. لأن المذهب اختلف عندنا في طهارة جلد الميتة بالدباغ إلا أن تكون الميتة خنزيرًا فلم تختلف الروايات في أنها لا تطهير بالدباغ. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وألحق الشافعي الكلب بالخنزير. وذهب أبو يوسف وداود إلى أن جميع الجلود تطهير بالدباغ حتى جلد الخنزير. فلأجل هذا الاختلاف وهذا التفصيل الذي وقع في هذه المقالات أكد بقوله جلود الميتة كلها. لئلا يظن به أنه أراد بعضها على حسب ما قاله المخالف. والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: أما طهارة الجلد بالدباغ فقد اختلف المذهب فيها. فقيل: يطهر بالدباغ لقوله عليه السلام: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (¬2) وقيل لا يطهر بالدباغ لقوله عليه السلام: "لا تنتفعوا (¬3) من ¬

_ (¬1) اللبن ساقطة -ق-. (¬2) رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عباس. جامع الأصول ج 7 ص 106. (¬3) بالميتة -و-.

الميتة لا بإهاب ولا عصب" (¬1). والمذهب الأول أولى. وإن (¬2) قلنا ببناء العمومين إذا تعارضا. لأن قوله لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب يمكن أن يكون أراد به إذا لم تدبغ الأهب (¬3). وإذا أمكن هذا تطلبنا دليلًا له. فوجدنا قوله عليه السلام: إذا دبغ الإهاب فقد طهر. نصًا في طهارته بالدباغ فيقضي على الحديث الآخر. ويحمله (¬4) على أنه أراد به لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب إذا لم تدبغ الأهب، لا سيما وقد قال في الحديث الآخر إنما حرم أكلها. فخص تحريم الميتة في الأكل خاصة. وهذا يقتضي أن جلدها لا تحرم الصلاة عليه ولا بيعه إذا دبغ. وإذا لم يحرم ذلك منه وجبت طهارته. والجواب عن السؤال السادس عشر: أن يقال: إن قلنا (¬5) أنه يطهر بالدباغ، جاز بيعه والصلاة عليه والانتفاع به في المائع والجامد كسائر الأواني الطاهرة. وإن قلنا أنه لا يطهر فإن الصلاة عليه لا تجوز لأنه لا يصلي على النجس] وكذلك بيعه لا يجوز. لأن النجاسة لا يجوز بيعها. ولكن يجوز أن ينتفع بها في الجامدات خلافًا لأحمد. لأن الجامد لا يعلق أثر الجلد به. وإذا لم يعلق ذلك به أمن من نجاسته. فلا معنى لمنعه. ولأنه عليه السلام قال: "ألا انتفعتم بجلدها" (¬6). ولو تركنا وإطلاق هذا، لانتفعنا بجلدها في الجامد والمائع. فلما علم أن استعمالها في المائع لا يؤمن معه نجاسة المائع، منعناه وحملنا الحديث على ما سواه من الجامدات. فإن قيل هب أنكم خصصتم قوله: ألا انتفعتم بجلدها بهذا الضرب من الاستدلال فلم شرطتم في (¬7) جواز ¬

_ (¬1) هو حديث عبد الله بن عكيم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى جهينة قبل موته بشهر: ألا تنتفعوا بإهاب ولا عصب رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة. جامع الأصول، ج 8 ص 69. (¬2) إذا قلنا -و-ق-. (¬3) الإهب ساقطة من -و-ق-. (¬4) ويحله -ح-. (¬5) إن قلنا ساقطة -و-. (¬6) الحديث أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي بلفظ هلا انتفعتم بإهابها؟ جامع الأصول، ج 7 ص 107. (¬7) على -ق-.

الانتفاع كون الجلد مدبوغًا؟ وهلا أجزتم بها قبل الدباغ كما أجازه الزهري آخذًا بإطلاق هذا الخبر؟ قيل قد روي مقيدًا بالدباغ. وقالت عائشة أمران يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت. والمطلق يرد إلى المقيد فلهذا شرطنا الدباغ في جواز الانتفاع. والجواب عن السؤال السابع عشر: أن يقال: إنما نبه على عظم الميتة وقرونها. لأن أبا حنيفة ذهب إلى طهارتها. ونقطة الخلاف بيننا وبينه وقد تقدم الكلام عليها وهي اعتبار وجود الحياة بالعظم فيكون ميتة عند الموت. أو عدم الحياة منه أصلًا. فلا يكون ميتة. وقد ذكرنا المعنى الذي به يعرف (¬1) الحيوان من الجماد. فلا معنى لإعادته. وقد احتج أصحابنا على حياة العظم بقوله تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (¬2). وهذا تنبيه على وجود الحياة بها. فإن قيل: فلم قلتم بنجاسة الريش والظفر وهما لا حياة بهما؟ قيل قال بعض أصحابنا أن دم البدن ينبعث إليهما وبه تتغذكرًاصولهما فلهذا حكمن ابن جاستهما. ولولا هذا لكانا طاهرين كالشعر. وقال بعض أصحابنا أيضًا يجوز أن يكون القرن والسن لا حياة بهما وإنما قلن ابن جاستهما لأنهما يتغذيان بالدم فحكم بنجاستهما. والجواب عن السؤال الثامن عشر: أن يقال: أما عرق من يتغذى بالنجاسة، كعرق السكران وما في معناه، فقد اختلف في ذلك، هل هو نجس أو طاهر؟ وقد تقدم القول فيه. والأصح عندي طهارة عرق السكران إذا كان ظاهر بدنه طاهرًا. لأن الأمة أجمعت على أن الخمر إذا صارت خلًا من قبل الله سبحانه عَزَّ وَجَلَّ فإنها طاهرة لانقلابها واستحالة صفاتها. وانقلاب الخمر (¬3) عرقًا أبعد من انقلابها خلًّا. فوجب القول بطهارته. وكذلك يختلف القول في لبن المرأة إذا شربت الخمر. والأصح طهارته لما قلنا. وأما لبن الميتة فليس نجاسته من قبل أنه في الأصل نجس ولكن من قبل نجاسة وعائه لأن الميتة ¬

_ (¬1) يعرف به -و-. (¬2) سورة يس، الآية: 78. (¬3) الخمرة -ح-.

ينجس سائر أجزائها بموتها كما قدمنا. وأما بيض الدجاجة الميتة فقد قال بعض أهل العلم إن خرجت رطبة فإنها نجسة بنجاسة وعائها، وتكون كاللبن. وإن خرجت وقد تصلب قشرها حتى صار يحجب النجاسة عن باطنها كانت طاهرة إلا أن قشرها لا يطهر إذا علقت به نجاسة حتى تزال. والجواب عن السؤال التاسع عشر: أن يقال: أما لبن ما يحرم أكل لحمه فإنه على قسمين: إما أن يكون (¬1) يحرم أكل لحمه لحرمته وذلك بنات آدم فإنهن إنما حرمن لحومتهن. فإن لبنهن حلال طاهر. وإما أن يحرم أكل لحمه لغير حرمته وذلك على قسمين: إما أن يكون تحريم أكله مجمعًا عليه قد علم ضرورة من دين الأمة كالخنزيرة فإن لبنها حرام كلحمها. وإما أن يكون تحريم أكله غير معلوم ضرورة ولا منصوص عليه نصًا لا سبيل لمخالفته، كالحُمر والسباع والكلاب عند من قال بالتحريم. فاختلف فيه. فقيل: لبنه تابع للحمه كما كان بوله تابعًا للحمه. وقيل ألبانها تخالف (¬2) لحومها وهي حلال (¬3) طاهرة لأنه لم يأت نص بتحريم الألبان فتدخل هذه في عمومه. فبقيت على أصل الإباحة. والجواب عن السؤال العشرين: أن يقال: أما طهارة النجاسة بالاستحالة، فقد مضى من فروعه كثير في أثناء هذا الفصل. فمنه نجاسة البقول التي تسقى بالنجاسة أو تسمد بها وعرق السكران، وبول ما يتغذى بالنجاسة فلا معنى لإعادته. ولكن يختص هذا الموضع بالكلام على الخمر إذا خللت أو تخللت فإن خللها الله تعالى فمتفق على طهارتها. وقد خطب عمر فقال: لا يحل خل من (¬4) خمر أفسدت حتى يبدأ الله إفسادها. فعند ذلك يطيب النحل. وإن خللها آدمي، فاختلف فيها، فقيل تطهير قياسًا على ما خللها الله تعالى والجامع بينهما زوال الشدة المطربة التي هي علة التحريم. وقيل لا تطهير فإن أبا طلبة سأل ¬

_ (¬1) يكون ساقطة -ح-ق-. (¬2) بخلاف -و-. (¬3) حلال ساقطة من -ح-. (¬4) من ساقطة -ق-.

النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرًا فقال أهرقها. فقال ألا أخللها؟ فقال لا (¬1). فلو كانت تطهير بالتخليل لصان - صلى الله عليه وسلم - أموالهم به. وأما الميتة إذا حرقت فصارت رمادًا أو العذرة وما في معنى ذلك فإنها لا تطهير عند الجمهور من الأئمة. لأن النجاسة معلقة بعينها وأجزاؤها باقية. وبهذا فارقت الخمر لأن نجاسة الخمر بمعنى وهو الشدة المطربة فإذا ذهبت ذهب التحريم. وقد تنازع الناس في دخان النجاسة إذا أحرقت هل هو نجس كرمادها أو طاهر لأنه بخار فهو (¬2) بخلاف رمادها. ¬

_ (¬1) رواه أحمد عن أنس بن مالك أن أبا طلبة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرًا، فقال: اهرقوها. قال أفلا نجعلها خلًّا؟ قال: لا. مسند الإِمام أحمد ج 2 ص 119. في ص: 180 فكره ذلك. وعند أبي داود ابتاع لهم خمرًا فلما حرمت الخمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث. رواه في باب الخمر تخلل. (¬2) فهو ساقطة -و-.

باب التيمم قال القاضي رحمه الله: التيمم فصوله خمسة: 1 - من يجوز له التيمم من المحدثين؟. 2 - وشروط جوازه. 3 - وصفة التيمم. 4 - وما يتيمم به؟. 5 - والصلوات التي يتيمم لها وتؤدى به؟ (¬1). قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤلان منها أن يقال: 1 - هل هذا الحصر والتقسيم متعين لا بد منه أو يقسم الكلام (¬2) على فصول أخرى سواه؟. 2 - وما معنى قوله من يجوز له التيمم؟ هل أراد به الجواز بمعنى الإباحة أو غير ذلك؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: يصح تقسيمه على نوع آخر وقد قسمه بعض المؤلفين على غير هذا التقسيم. والذي ذكره صاحب الكتاب يحيط بالمقصود فلهذا اقتصر عليه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المراد بذلك من يخاطب به ويؤمر بفعله؟ وكان التيمم لما علم وجوبه واشتهر فرضه ولكن له مواقع لا يجزي إيقاع ¬

_ (¬1) وتؤدى به: ساقطة من جميع النسخ - مثبتة في الغاني. (¬2) الكلام في التيمم -ح-.

الفرض عليها، عبر عن ذلك بالجواز. وقد اختلف أهل الأصول في الوجوب إذا نسخ هل يبقى الفعل جائزًا أم لا؟ فمنهم من قال: إن الوجوب يتضمن الجواز. فإذا رفع الوجوب بالنسخ بقي الحكم الآخر وهو الجواز. فأنت ترى هؤلاء كيف أثبتوا حقيقة الجواز مع حقيقة الوجوب، فلا تستنكر هذه العبارة التي وقعت ها هنا. وتعبيره بقوله من المحدثين يشير به إلى حقيقة ما قلناه، إذ إباحة الفعل لا يختص بها المحدثون. قال القاضي رضي الله عنه: فأما من يجوز له التيمم فكل محدث حديثًا أعلى أو أدنى ممن يلزمه الوضوء والغسل (¬1). قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤلان. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة التيمم في الحدث الأعلى؟. 2 - وما فائدة تقييده بقوله من يلزمه الوضوء والغسل؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في جواز التيمم للجنب، بعد اتفاقهم على جوازه لمن حدثه الحدث الأصغر. فجمهور العلماء على جوازه. وحكي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما منعه (¬2). والدليل لما عليه الجمهور قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬3). والملامسة الجماع. وإن قلنا أن الملامسة اللمس باليد. ومنعنا من حمل الآية على العموم الجامع بين المذهبين (¬4) جميعًا، مس اليد والجماع، اعتمدنا على قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي أجنب: إنما يكفيك ضربة لوجهك وكفيك (¬5) الحديث. ¬

_ (¬1) أو الغسل -ق- الغاني-. (¬2) منعه ساقطة -ح-. (¬3) سورة النساء، الآية: 43. (¬4) الجامع للمذهبين -ح-. (¬5) هذا هو حديث عمار أخرجه البخاري ولفظه. قال له إنما يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه. فتح الباري ج 1 ص 460. وفي رواية لمسلم إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك. إكمال الإكمال ج 2 ص 123.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما فائدة تقييده، فتحرزًا ممن أحدث حدثًا أعلى أو أدنى، وهو ممن لا تلزمه الصلاة كالصبي والمجنون، فإنهما إذا لم تلزمهما الصلاة لم يلزمهما الغسل والوضوء (¬1). لأن الغسل والوضوء إنما يرادان لغيرهما وهو الصلاة. فإذا سقط المراد سقط ما أريد له (¬2). وإذا سقط الوضوء والغسل سقط التيمم. لأنه كالبدل من ذلك والفرع عنه. فإذا سقط الأصل سقط الفرع وهذا فائدة التقييد. قال القاضي رضي الله عنه: وأما شروط جوازه فشرطان: عدم الماء الذي يتطهر به، أو عدم بعضه. فإن وجد دون الكفاية لم يلزمه استعماله. والشرط الآخر تعذر استعمال الماء مع وجوده. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما فائدة تقييده بقوله الذي يتطهر به؟. 2 - وما الدليل على أنه إن وجد دون الكفاية لم يلزمه استعماله؟. 3 - وما الفرق عند من أوجب عليه استعماله بينه وبين واجد بعض الرقبة التي وجد؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما فائدة تقييده فلأنه قد يجد ماء مضافُ افيجوز له التيمم مع وجود هذا الماء. فلو أطلق قوله وقال عدم الماء لأمكن أن يفهم قارئ كتابه عنه أن واجد الماء المضاف لا يتيمم. وأيضًا فإن واجد الماء القليل الذي حلت فيه النجاسة اليسيرة يتيمم في أحد القولين (¬3) عندنا. وهو واجد لما يسمى ماء على الإطلاق. ولكن من قال من أصحابنا إنه يتيمم فإنه يرى أن هذا الماء (¬4) لا يتطهر به. وكذلك من وجد إناءين فيهما ماءان معلوم نجاسة أحدهما ولا يعلم عين النجس منهما فإنه واجد لماء وهو مع هذا ¬

_ (¬1) ولا الوضوء -و-. (¬2) به -ح-. (¬3) الأقوال -و-ق-. (¬4) هذا ماء -ح-ق-.

فرضه التيمم في أحد الأقوال عندنا إلى غير ذلك من المسائل. فتعرض صاحب الكتاب لهذا التقييد لهذه المسائل كلها ليدل بالإجمال على التفصيل. وهذا من الحذق والتحصيل. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه لوضوئه. فمذهب مالك وأبي حنيفة أن استعمال ذلك القدر لا يجب عليه. ومذهب الشافعي أنه يجب عليه استعماله. ويتيمم مع ذلك. وذهب بعض المتقدمين إلى أنه يبني التيمم على الوضوء ويكمل إحدى الطهارتين بالأخرى. فإذا وجد ما يغسل به وجهه غسل وجهه ومسح بالتراب كفيه. وسر الخلاف بين العلماء في هذه المسألة هو أن الله سبحانه أمر القائم إلى الصلاة بغسل الأعضاء المذكورة. ومعلوم أنها لا تغسل إلا بماء. ولكن الماء غير مذكرر ولا منصوص عليه في صدر الآية. فلما قال عقب ذلك: فلم تجدوا ماء وقع الإشكال. هل المراد ماء وإن لم يكف. فيجب استعمال ما لا يكفي في الطهارة منه؛ لأنه يسمى ماء أو المراد الماء المتقدم التنبيه عليه وإن لم يذكر. فلا يجب استعمال ما لا يكفي منه؟ هذه نقطة الخلاف بين فقهاء الأمصار. ومن البديع المحقق لديك ما قلناه اتفاق مالك والشافعي رضي الله عنهما على أن واجد بعض الرقبة لا يعتق ما وجد ويصوم. لأن الله تعالى قال في صدر آية الكفارة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (¬1). ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ}. فلما تقدم ذكر الرقبة بالنص عليها اتفقا على أن قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} محمول على من لم يجد ما تقدم النص عليه، وهو الرقبة الكاملة. ولما لم يتقدم ذكر الماء في صدر الآية وقع الإشك الذي المراد بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فاختلف فيه على حسب ما بيناه. ومما ينخرط في سلك هذه المسألة المضطر للميتة. وعنده اليسير من الطعام الذي لا يمسك رمقه، فإنه يجب عليه أكله، ثم بعد أكله ينتقل إلى الميتة. ولا يكون هذا حجة لمن قال أن الواجد من الماء ما لا يكفيه يجب عليه استعمال ما وجد. كما وجب على المضطر أكل الطعام الذي وجد؛ لأن القدر ¬

_ (¬1) سورة المجادلة، الآية: 3.

اليسير من الطعام له حصة في إمساك الرمق. والغرض في الشرع إمساك الرمق. لما كان للطعام المباح حصة فيه وجب استعماله. والغرض من الطهارة رفع الحدث وهو لا يرتفع إلا بغسل جمع الأعضاء. فلهذا افتراق الأصلان، لا سيما على طريقة من قال لا يرتفع حكم الحدث عن العضو المغسول تحقيقًا إلا بعد إكمال الطهارة. وأما من قال يرتفع الحدث عنه، ففي انفصاله عن مذهب الشافعي كلام يغمض. ومما ينخرط في هذا السلك أيضًا من وجد ما يستر بعض عورته فإنه يجب عليه ستر ذلك. فيقال ما الفرق بين هذا وبين الواجد من الماء ما لا يكفيه وقد قلتم لا يجب عليه استعماله؟ قيل نحن إنما تركنا استعمال ما لا يكفي من طهارة الماء إلى بدل عنها، وهي طهارة التراب، فتركنا بعضًا واستبدلنا به كلًا (¬1). وهذا إذا لم نأمره بستر بعض العورة بالذي وجد، فإنا منعناه من ستر ما قدر عليه ولم نعوضه منه بدلًا. فجمعنا بين ترك البدل والمبدل منه. وفي الطهارة لم نفعل ذلك بل أتينا بطهارة كاملة واستغنينا بها عن طهارة ناقصة. ومما ينخرط في هذا السلك من بثوبه نجاسة، ومعه من الماء ما لا يزيل أصلها ويزيل بعضها، فإن بعض العلماء أمره أن يزيل منها القدر الذي أمكنه. وهذا وجهه أيضًا ما قلناه في ستر بعض العورة. ومما ينخرط في هذا السلك أيضًا مسألة (¬2) من غمرت الجراح أكثر جسده فإنه يتيمم عندنا. وعند الشافعي يجمع بين التيمم وغسل ما صح من بدنه. ولا فرق بين عدم إمكان استعمال الماء في بعض الأعضاء لعدم الماء، أو لاستيلاء الجراح على أكثر الجسد. والكلام على هذه المسألة كالكلام على نظيرها وقد تقدم. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد أشرنا في كلامنا على السؤال الثاني حيث قلنا: إن الله سبحانه نص على الرقبة في صدر الآية، ثم قال: فمن لم يجد. فحمل ذلك على من لم يجد رقبة وهي التي تقدم ذكرها. ¬

_ (¬1) فتركنا بعضًا واستبدلنا بعضًا -ح-. (¬2) مسألة ساقطة -ح-.

ولم يذكر الماء في صدر آية الطهارة، فوقع الإشك الذي قوله: فلم تجدوا ماء. هل المراد به ما سمي ماء أو ماء كافيًا لغسل ما تقدم ذكره في الآية؟. قال القاضي رحمه الله: وكل واحد من هذين الشرطين متعلق بشروط. منها ما يعم، ومنها ما يخص. فأما ما يعم: فهو أن يكون محتاجًا إلى التيمم وذلك بأن يدخل الوقت، ويتوجه عليه فرض الصلاة. فإن قدمه على ذلك فلا يجزيه. وأما ما يخص، فهو أن (¬1) عادم الماء لا يجوز له التيمم إلا بعد طلب الماء وإعوازه. وإن وجده بثمن مثله أو غاليًا غير متفاحش لزمه شراؤه، إلا أن يجحف به. وهذه الشروط منتفية في القسم الآخر وهو تعذر استعماله. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما معنى تقييده بقوله ويتوجه عليه فرض الصلاة؟. 2 - وما الدليل على مراعاة دخول الوقت؟. 3 - وما الدليل على وجوب الطلب؟. 4 - وهل الطلب محدود أم لا؟. 5 - وهل تلزمه إعادة الصلاة إن لم يطلب؟. 6 - ولم سقط استعمال الماء إذا غلا ثمنه؟. 7 - وهل زيادة الثمن محدودة أم لا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما التقييد فتحرز ممن يدخل الوقت عليه وهو غير مخاطب بالصلاة كالصبي والمجنون والحائض. وهذه إشارة منه رضي الله عنه إلى مذهبنا في أن العبادة المؤقتة بوقت يتعلق الوجوب بجميع أجزاء الوقت، خلافًا لمن قال: إن الوجوب يتعلق بآخر الوقت. فعلى مذهبنا يصح قوله ويتوجه عليه فرض الصلاة. وأما من قال إن الوجوب يتعلق بآخر الوقت فلا تصح هذه العبارة على أصله. ولكنه قد يقول يصح التيمم أول الوقت، وإن لم يتوجه فرض الصلاة، كما يصح عنده إيقاع الصلاة في أول الوقت وتجزئ عن الفرض. وإن كان لا يتوجه الفرض إلا في آخر الوقت عنده. ¬

_ (¬1) فإن عادم الماء -و- فهو عادم -الغاني-.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما مراعاة الوقت فإن المشهور من المذهب أن التيمم لا يصح قبل دخول الوقت. وقال ابن شعبان من أصحابنا يصح التيمم ولم يعتبر دخول الوقت. فأما ابن شعبان فإنه يقيس التيمم على الوضوء. فلما صح الوضوء قبل دخول الوقت كان التيمم الذي هو بدل عنه يصح قبل دخول الوقت. وأما الحجة للمشهور فإن الله تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} (¬1). فأمر بهاتين الطهارتين عند القيام إلى الصلاة. ولا يقام إليها إلا إذا دخل الوقت، فخصت السنة الوضوء بجواز تقدمته قبل الوقت. وبقي التيمم محكومًا فيه بما اقتضته الآية، لما لم يرد ما ينقل عنها. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الطلب فالمشهور من المذهب إثباته. وخرج بعض أصحابنا من القول بإجازة (¬2) الجمع بين صلاتين فائتتين بتيمم واحد سقوط الطلب. إذ لو كان واجبًالأمر بالطلب للصلاة الثانية. وجعل المذهب على قولين إيجاب الطلب وإسقاطه. وفي هذا التخريج نظر لأنه قد يكتفى بالطلب الكائن عن الصلاة الأولى عن استئناف طلب للصلاة الثانية. ويجعل حكم الطلب الأول منسحبًا (¬3) على الصلاة الثانية. كما يكتفي بالنية عند افتتاح الصلاة وينسحب حكمها على بقية الركعات. فكذلك يجعل الصلاتين ها هنا كالصلاة الواحدة في حكم الطلب. وحكى أصحابنا البغداديون عن أبي حنفية سقوط الطلب جملة من غير تفصيل. والذي وقفت عليه في كتب أصحابه أنه إنما يسقط الطلب في الأسفار خاصة لكونها مختصة بعدم المياه غالبًا بخلاف الحواضر الموجود الماء فيها (¬4) غالبًا. ودليلنا على وجوب الطلب قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}. وهذه العبارة إنما تستعمل فيمن بحث عن (¬5) ¬

_ (¬1) سورة المائدة، الآية: 6. (¬2) بإنكار -ق-. (¬3) مستحبًّا -ق-. (¬4) الموجود فيها الماء غالبًا -ق-. (¬5) على -ح-.

الشيء فلم يجده. ولا يقال لمن كان الماء بقربه وهو قادر على طلبه وتحصيله أنه غير واجد للماء. فإذا دلت العبارة على البحث عن الشيء كان الطلب في مسألتنا واجبًا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الطلب فليس بمحدود. وأما الواجب منه طلب لا شديد مشقة فيه، ولا عظيم نصب. وإذا كان لا ينال إلا بمشقة سقط الطلب. والمشقة لا تتحدد لأن الشاب المطيق لا يشق عليه من معاناة المشي في الطلب، ما يشق على المرأة والرجل الضئيل. وإذا كان ذلك كذلك امتنع التحديد. وقد وقع عندنا أنه لا يلزم طلب الماء من جميع أهل الرفقة الكثيرة ... وإنما يطلب ممن يليه منها. وهذا اعتبار لما قلناه من المشقة. لأن الطواف على الخلق الكثير في الرفقة العظيمة مما يشق. فلهذا أُسقط اعتباره. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قال بعض أصحابنا: إن لم يكن معه إلا الرجلين ونحوهما فلم يطلبهما (¬1) أعادا الصلاة أبدًا. وإن ترك طلب العدد القليل الذي أمرناه بالطلب منه في الرفقة القليلة أعاد في الوقت وإن ترك الطلب أصلًا في الرفقة الكثيرة لم يعد. وهذا ضعيف لأن القليل من الرفقة الكئيرة إذا أمرناه بالطلب منه كان كالقليل الذي لا حد له معه وإضافة كثير للقليل الذي ذكره لا يغير حكمه (¬2). والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما سقط استعمال الحاء إذا غلا ثمنه لأن للمال حرمة، وللصلاة حرمة. والمال إذا بذل لم يوجد منه بدل دنيوي. والماء إذا عدل عنه فإلى بدل يعدل عنه فكان الرجوع إلى البدل أولى. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما زيادة الثمن فإنها غير محدودة ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب فلم يطلبا. (¬2) راجع في بيان هذا التفصيل مواهب الجليل ج 1 ص 345. والتعبير قلق وقد تكون فيه أخطاء في النسخ. كموضع منه الطلب منه في الرفقة.

إلا بأن تكون الزيادة متفاحشة خارجة عن العادة. وحده بعض أصحابنا بالثلث وكأن هذا الحد منه حد للعادة (¬1). قال القاضي رحمه الله: وأما جوازه لتعذر الاستعم الذيعتبر فيه أربعة أشياء: 1 - خوف تلف. 2 - أو زيادة مرض. 3 - أو تأخر برء. 4 - أو حدوث مرض يخاف معه ما ذكرناه. والثاني أن يجد الماء ويخاف لخروجه إليه لصوصًا أو سباعًا، فيجوز له التيمم *والثالث أن يخاف متى تشاغل باستعماله ذوات الوقت لضيقه. أو تأخر المجيء به، أو لبعد المسافة* (¬2) في الوصول إليه أو لعدم الآلة التي توصله إليه كالدلو أو الرشا. والرابع أن يخاف على نفسه أو على إنسان يراه التلف من شدة العطش. أو أن يخاف ذلك في ثاني حال ويغلب على ظنه أنه لا يجده. فأما المحبوس فكالعادم وكذلك المريض الذي عنده ماء ولا يجد من يناوله إياه هو (¬3) كعادم الآلة وليس من شرطه ألا يكون حاضرًا. بل يجوز للحاضر والمسافر على الشروط التي ذكرناها. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على جواز التيمم للمريض؟. 2 - وما الدليل على أن حدوث المرض أو زيادته كخوف التلف؟. 3 - ولم كان خوف السباع واللصوص يبيح التيمم؟. 4 - وما الدليل على أن خوف ذوات الوقت للتشاغل يحيى التيمم؟. 5 - ولم كان الخوف من شدة العطش على نفسه أو غيره (¬4) يحيى التيمم؟. ¬

_ (¬1) حد العادة -ح-ق-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من -ح -و-. (¬3) فهو -ق-الغاني-. (¬4) أو على غيره -ح-.

6 - وما الدليل على جواز التيمم للحاضر؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد منع بعض الناس المريض من التيمم إذا كان واجدًا للماء، تعلقًا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬1). فشرط في جواز التيمم عدم الماء ودليلنا قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬2) وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬3). ولأن الشرع جاء بالمسح على الجبائر وإنما جاز المسح على الجبيرة للمرض (¬4). والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد منع الشافعي من التيمم ما لم يخف التلف. وروي ذلك عن مالك رواية شاذة وذكرها (¬5) بعض البغداديين من أصحابنا. والمعروف من مذهبه. ومذهب أصحابه ما ذكره القاضي أبو محمَّد. والدليل على صحته قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (¬6). ولأنه إذا سقط استعمال الماء صيانة للأموال سقط صيانة للأجسام عن الأسقام. وأما السؤال الثالث فإنا قدمنا (¬7) جوابه في المسائل المتقدمة حيث قلنا أنه إذا غلا الثمن (¬8) جاز التيمم لحرمة المال. فإذا خيف من اللصوص سلب جميع المال كان أحرى وأولى. وقد قدمنا أن الخوف من حدوث المرض يحيى التيمم. فالخوف من السباع المتلفة للنفس أحق بالإباحة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: روى أبو جعفر الأبهري عن مالك أن الحكم التيمم كما قاله القاضي أبو محمَّد ها هنا. وقال بعض الأشياخ المتأخرين بل الحكم استعمال الماء وإن فات الوقت. فوجه المروي عن مالك ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 43. (¬2) سورة البقرة، الآية: 195. (¬3) سورة الحج، الآية: 78. (¬4) للمريض -ق-. (¬5) ذكرها -و-ق-. (¬6) سورة الحج، الآية: 78. (¬7) قد قدمنا -و-. (¬8) أغلى في الثمن -ح -و-.

أنه قد علم أن الماء لا يعدم أصلًا. وقد اتفق على أن عادمه في الوقت يتيمم مع العلم أنه يجده بعد الوقت. فاقتضى ذلك أن العلة تحصيل الفعل لئلا يذهب وقت الوجوب فينتقل الفعل عن كونه أداء لكونه قضاء. وإذا كانت العلة هذه، وجب أن يتيمم في مسألتنا. لأنه إن لم يتيمم أوقع الصلاة قضاء، وقد أخبرنا أن إيقاعها بالتيمم أداء أولى من إيقاعها قضاء بالماء. وأما ما ذهب إليه بعض المتأخرين فوجهه أنه رأى أن الله تعالى إنما أباح التيمم للصحيح عند عدم الماء. فإذا خشي ذوات الوقت متى طلب الماء، حسن أن يقال: إنه غير واجد للماء لعدم القدرة عليه في الوقت الضيق. وعادم القدرة على الشيء غير واجد له. فإذا كان الماء موجودًا وغسل الأعضاء به ممكنًا استحال أن يقال: إنه (¬1) غير واجد. وإذا استحال ذلك لم يصح التيمم لتعليق إجازته على عدم الوجود. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما إذا خاف متى استعمل الماء أن يعطش عطشًا يهلكه فلا شك في إباحة التيمم له لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (¬2) وقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬3). وأما إن خاف أن يعطش عطشًا يمرضه فإنه يجري على الاختلاف الذي قدمناه في جواز التيمم خوفُ امن حدوث المرض. وأما خوفه تلف آخر (¬4) من العطش فإنه يبيح له التيمم أيضًا؛ لأن حرمة نفس غيره كحرمة نفسه. ويتعين على الإنسان صيانة نفس غيره. ويجب ذلك عليه. ولا بدل من ذلك. والوضوء منه بدل وهو التيمم. فتقدمة الواجب الذي لا بدل (¬5) منه أولى. وقد قال ابن حبيب بجواز التيمم إذا خاف على غيره الموت أو ضررًا يشبه الموت. وقد قيد القاضي أبو محمَّد كلامه ها هنا بخوف التلف، لما كان خوف الإنسان مرض نفسه فيه الاختلاف الذي قدمناه. وأما خوفه من مرض غيره ففيه نظر. وقوله أو أن يخاف ¬

_ (¬1) إنه ساقطة -ح-. (¬2) سورة النساء، الآية: 29. (¬3) سورة البقرة، الآية: 195. (¬4) أي إنسان آخر. (¬5) الواجب الذي بدل -ح-. الواجب لا بدل -ق-.

ذلك في ثاني حال ويغلب على ظنه أنه لا يجده ووجهه ما قدمناه. لأنه لا فرق بين أن يخاف التلف من العطش في الحال، أو يخاف ذلك في المستقبل. بأن يغلب على ظنه بأنه لا يجد ماء (¬1) يشتريه في المستقبل، وغلبة الظن ها هنا تقوم مقام العلم. ومما يليق بهذا الوضع أن يقال: قد قلتم فيمن معه من الماء قدر ما يذهب به عطشه وإن لم يشربه كفاه الوضوء، إن الحكم إذا خاف التلف التيمم. فما قولكم فيمن معه من الماء ما يذهب (¬2) نجاسة بدنه وإن لم يغسل به النجاسة كفاه لوضوئه؟ قيل أما هذا فلا أحفظ الآن في عين هذه المسألة نصًّا لأحد من أصحابنا سوى ما حكاه ابن حبيب عن بعض أصحاب مالك فيمن مسح على خفيه، ثم لحقتها نجاسة وهو في السفر، ولا ماء معه أن ينزع خفيه ويتيمم. فهذه الرواية تشير إلى أن الصلاة بطهارة التيمم مع عدم النجاسة أولى منها بطهارة الماء مع حصول النجاسة. فعلى هذا يغسل نجاسته بالماء وإن نقله ذلك إلى التيمم. وقد يحتمل أن تخرج مسألتنا عن القولين في غسل النجاسة هل هو فرض أو سنة؛ فإن قلنا إن ذلك سنة وأن من صلى بالنجاسة عامدًا أعاد في الوقت كما روي عن أشهب، حسن أن يقال إنه يتوضأ ويكون ذلك أولى من غسل النجاسة. لأن الوضوء مع وجود الماء والقدرة على استعماله فرض، وغسل النجاسة على هذا القول سنة. فالفروض مقدمة على السنن. وإن قلنا: إن غسل النجاسة فرض وإن من صلى بها ناسيًا أعاد أبدًا حسن ها هنا أن يقال إن يتيمم؛ لأنهما فرضان تقابلا. وأحدهما له بدل والآخر لا بدل له وهو غسل النجاسة. وما لا بدل له أولى أن يقدم. ومذهب أصحاب أبي حنيفة استعمال الماء لغسل النجاسة. قالوا لأن بذلك نجمع ما (¬3) بين ما تعارض من العبادتين فيطهر النجاسة بالماء ويتطهر للصلاة بالصعيد. وذهب بعض الناس إلى أن الواجب استعمال الماء في طهارة الحدث لكونها أغلظ إذ لا تجوز الصلاة بغير طهارة أصلًا. ¬

_ (¬1) ما يشربه -ق-. (¬2) يذهب به -و-ق-. (¬3) ما: ساقطة من -ق-و-.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما الحاضر الصحيح إذا خاف ذوات الوقت إن تشاغل بطلب الماء فإن في جواز تيممه قولين: المنع والجواز. وبالمنع قال أبو حنيفة. وبالجواز قال الشافعي. فإذا قلنا بالجواز فهل يعيد الصلاة إذا وجد الماء؟ (¬1) فيه قولان: وبالإعادة قال الشافعي. فوجه المنع قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ. . . فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (¬2). فأباح التيمم للسفر أو للمرض. والصحيح المقيم خارج عنهما. فخرج عن أن يكون من أهل التيمم. ووجه القول بالجواز: أن التيمم إنما فرض لئلا تفوت الصلاة وتفعل قضاء، مع إمكان فعلها أداء. وهذه العلة موجودة في المقيم الصحيح كوجودها في المريض والمسافر فوجب أن يكون حكم الجميع سواء. وأما وجه الاختلاف في الإعادة على القول بالجواز، (¬3) فإن من قال بنفي الإعادة رأى أنه إذا كان مأمورًا بالتيمم ووجب إلحاقه بالمسافر والمريض، وجب أن لا يعيد، كما لا يعيدان: وأما من قال بالإعادة فإنه رأى أن المسافر مجمع على جواز التيمم له (¬4). وهذا مختلف في جواز التيمم له. فاحتيط له بالإعادة لتبرأ ذمته من الصلاة من غير خلاف. وقد وقع للقاضي أبي محمَّد في هذا الباب تقسيم لم يف به كما ينبغي في صناعة التأليف. وذلك أنه قال وكل واحد من هذين الشرطين متعلق بشروط منها ما يعم ومنها ما يخص. وظاهر هذا أن لكل واحد من الشرطين شرطًا عامًا وشرطًا خاصًا. فذكر الشرط العام والخاص في أحد القسمين ولم يصرح به في الآخر، ويبينه (¬5) كما بينه في صاحبه. وهذه مناقشة في عبارة ولست أرى الاشتغال بها إنما نبهنا عليها لتعرف. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ مع أن فرض المسألة في واجد الماء ولكونه خشي خروج الوقت إذا هو استعمل الماء. (¬2) سورة النساء، الآية: 43. (¬3) بجواز التيمم -و-. (¬4) ساقطة -ح-. (¬5) بينه -و-ق-.

قال القاضي رحمه الله: فأما صفة التيمم فهو (¬1) أن يضع يديه على الصعيد ثم يمسح (¬2) وجهه كله ويديه إلى المرفقين. وقيل إن مسح إلى الكوعين أجزأه (¬3). والاختيار ضربتان فإن اقتصر على واحدة جاز (¬4). قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الفرض في اليدين؟ هل الكفان خاصة أو الكفان والذراعان؟. 2 - وما الدليل لكل واحد من المذهبين؟. 3 - وهل يخلل أصابع يديه في التيمم؟. 4 - وهل ينزع الخاتم لمسح ما تحته؟. 5 - وهل الضربة الثانية فرض أم لا؟ (¬5). فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في ذلك. فمذهبنا أنه مأمور بالبلوغ إلى المرفقين. وهو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي بالاقتصار على الكفين، واضطرب المذهب في الذراعين. فالبغداديون يرون أن الفرض مقصور على الكفين وأن مسح الذراعين سنة. وهذا مقتضى ما قيل في المذهب المشهور عندنا: أن من اقتصر على كفيه يعيد الصلاة في الوقت. وقال بعض أصحابنا بل يعيد الصلاة أبدًا *والأظهر أن صاحب هذا المذهب يرى مسح الذراعين فرضًا. ولهذا أمر بإعادة الصلاة أبدًا* (¬6) وإن بعض أشياخي يقول في مثل هذا: يمكن أن يكون إعادة الصلاة بعد الوقت بناء على طريقة من يرى أن من ترك السنن متعمدًا يعيد الصلاة بعد الوقت. وذهب ابن شهاب إلى أن مبلغ التيمم إلى الآباط. وحكي عن بعض أهل العلم أن الكفين فرض والذراعان (¬7) إلى ¬

_ (¬1) فهي -الغاني -ق-. (¬2) يمسح بها -الغاني-. (¬3) وقيل إن اقتصر على الكوعن أجزأه -الغاني- وقيل إن اقتصر على الكفين أجزأه -و-ق-. (¬4) أجزأه -و-. (¬5) هكذا في جميع النسخ. والأصح أولًا. (¬6) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬7) الذراعان -و-.

المرافق سنة، والعضدان إلى الآباط فضيلة. هذا جملة ما قيل في ذلك. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الأدلة دائرة بين أثر واعتبار ولغة. فأما الأثر ففي الأحاديث الاقتصار على ذكر الكفين وفي بعضها ذكر الذراعين. ويقول من أثبت مسح الذراعين ما تعلق به المخالف، يمكن تأويله على مذهبي، ولا يمكنه تأويل ما تعلقت به على مذهبه. لأن الذراعين مع الكفين قد يعبر عنهما بالكفين، ولا يعبر عن الاقتصار على الكفين بالذراعين. هذا منتهى القول من جهة الأثر. وأما من (¬1) جهة الاعتبار فيستعمل فيها أصلان من أصول الفقه: أحدهما الأخذ بأول الإسم أو بآخره. واليد من الأصابع إلى الإبط. فمن أخذ بأول الإسم اقتصر *على الكفين. ومن أخذ بآخر الإسم بلغ إلى الآباط كما حكيناه عن بعض من سلف* (¬2) واقتصر على المرافق وأخرج العضدين بدليل (¬3). والأصل الثاني من أصول الفقه رد المطلق إلى المقيد فيما يتناسب. وفيه اختلاف بين أهل الأصول. فمن أنكر الرد ولم يقم له دليل على مسح الذراعين اقتصر على الكفين. ومن قال بالرد فهاهنا آيتان إحداهما قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬4) والثانية قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬5). وقد تقرر أن القطع مقصور على الكفين. فمن رده إلى القطع في السرقة اقتصر في التيمم على الكفين. ومن رده إلى الوضوء بلغ في التيمم إلى المرفقين. لكن رده إلى آية الوضوء أحق وأوجب. ولا يتشاغل بالرد إلى آية السرقة إلا ضعيف النحيزة (¬6). وذلك أنا شرطنا في رد المطلق إلى المقيد أن يكونا متناسبين. ولا تناسب بين السارق والمتطهر. فهذا عاص مذموم محدود. وهذا متطهر متقرب. بل المتوضئ متطهر والمتيمم متطهر. وهما جميعًا ¬

_ (¬1) وأما جهة -ح-ق-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من ح. (¬3) هكذا في جميع النسخ. ويستقيم المعنى بتحوير النص هكذا. ومن اقتصر على المرافق أخرج العضدين بدليل - بزيادة مَن وحذف الواو. (¬4) سورة المائدة، الآية: 6. (¬5) سورة المائدة، الآية: 38. (¬6) النحيزة = الطبيعة.

ينحوان نحوًا واحدًا بفعلهما، وهو استباحة صلاة فكأنهما شيء واحد أطلق في موضع وقيد في آخر. فيجب رد مطلقه إلى مقيده. لا سيما والتيمم والوضوء مذكرران في آية واحدة بكلام متصل مرتبي بعضه ببعض. ونص التقييد في صدر الآية، وآية السرقة في موضع آخر ومع كونه كذلك فليس بمقيد هناك. ولا قيد في القرآن أصلًا. وإنما أخذ التقييد من جهة أخرى. فشتّان ما بين الردين، وبعيدًا ما بين المعنيين. هذا هو (¬1) الذي عليه المدار من جهة الاعتبار. وأما من جهة اللغة فقد قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬2) فحمل بعض من انتصر للاقتصار على الكفين، الباء ها هنا على التبعيض (¬3). بناء على طريقة من قال: أصل الباء للتبعيض. وإذا وجب حملها على التبعيض *جاز الاقتصار على بعض اليدين [وما قيل قل] (¬4) من الكفين. ومن انتصر لإيجاب مسح الذراعين أنكر أن يكون أصل الباء للتبعيض* (¬5) وحملها ها هنا على أنها دخلت صلة في الكلام كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬6). ويعضد (¬7) بأن الوجه فيه دخلت الباء، والواجب إيعابه. فلم تدل فيه على التبعيض. فأحرى ألا تدل على التبعيض فيما عطف عليه. وليست الباء فيه مذكررة بل هي فيه (¬8) مقدرة. ولا يصح أن تحمل الباء في الوجه على الصلة، وفي الذراعين على التبعيض، فيكون حقيقة مجازًا معًا، وهي كلمة واحدة. وهذا له تعلق بمسألة من أصول الفقه، وفيها غموض. وهذ الإرادة باللفظة الواحدة معاني مختلفة. وتكون في بعضها مجازًا، وفي بعضها حقيقة. ولعلنا نشير إلى شيء من هذا الأصل في الكلام على مسألة الصعيد. ¬

_ (¬1) هو ساقطة -ح-. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6. (¬3) للتبعيض -ح-. (¬4) هكذا في -و -وهو ممحو في -ق- وساقط من -ح- ولعله ولا أقل. (¬5) ما بين القوسين ساقط من -ح-. (¬6) سورة المؤمنون، الآية: 20. (¬7) ينتصر في -ح-. (¬8) فيه ساقطة -ح-.

فإن قيل قد ذهب ابن مسلمة من أصحابكم إلى أن التارك للشيء اليسير من الممسوح في التيمم يجزيه تيممه. وظاهر كلامه إن تارك اليسير من الوجه يجزيه تيممه. فلم يثبت الاتفاق على إحالة (¬1) كون الباء للتبعيض في الوجه. قيل كونها للتبعيض يوجب جواز الاقتصار على اليسير منه. وابن مسلمة إنما يجيز ترك اليسير منه لكون اليسير عنده لا حكم له: فشتان بين مذهب يوجب فعل الكثير، ومذهب يقتضي إيجاب فعل اليسير. فلم يكن فيما قلناه قدح بهذا الاعتراض والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قال ابن شعبان من أصحابنا: يخلل المتيمم أصابع يديه. وذلك في التيمم أوجب منه في الوضوء. وإنما قال هذا لأن الحكم إيعاب الكفين. ولا يمكن إيعابهما إلا بالتخليل. وإنما قال: إن ذلك في التيمم أوجب منه في الوضوء؛ لأن جوهر الماء لطيف يسيل بطبعه خلال الأصابع والتراب بخلافه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: يؤمر المتيمم بنزع خاتمه ليمسح ما تحته. وهذا في التيمم؛ لأن التراب لا يسيل بطبعه فيباشر البشرة القياسترها الخاتم. فإن لم يفعل فأصل المذهب أنه لا يجزيه. وعلى ما قدمناه عن ابن مسلمة -أنه يعفى عن اليسير في التيمم- يجزئ هذا التيمم ليسارة ما تحت الخاتم. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف في المأمور به من عدد الضربات فالمعروف من المذهب ضربتان. وانفرد ابن الجهم فقال ضربة واحدة. وقد اختلفت الأحاديث: ففي بعضها ضربة وفي بعضها ضربتان. فإن قلنا بالمشهور فاقتصر على ضربة واحدة فهل يؤمر بالإعادة أم لا؟ فيه قولان. فإن قلنا بالإعادة فهل يعيد في الوقت أو يعيد أبدًا؟ فيه أيضًا قولان. فالأظهر أن من نفى الإعادة أو أثبتها في الوقت لا (¬2) يرى الضربة الثانية فرضًا. ومن أثبت الإعادة أبدًا يرى الضربة الثانية فرضًا. وقد قدمت عن بعض أشياخي أنه أنكر مثل هذا التخريج، وقال يحتمل أن يؤمر بالإعادة أبدً ابن اء (¬3) على طريقة من ¬

_ (¬1) إحالة ساقطة -ح-. (¬2) لا ساقطة -ح-. (¬3) أبدًا ساقطة -ق- بناء ساقطة -و-.

قال: من ترك السنن متعمدًا أعاد أبدًا. وكذلك كان ينكر تخريجنا الآخر في هذه المسألة ويقول في مثلها: قد يرى الإعادة في الوقت من يرى أصل المتروك فرضًا إذا كان فرضه مختلفًا فيه مراعاة للخلاف. والذي قاله محتمل يمكن القول به والمصير إليه. لكن وقع لابن القصار فيمن لم يجد من التراب إلا ما يكفيه لضربة واحدة. أنه لا يتيمم؛ لأنه لا ينتفع بتيممه. وهذا الذي قاله ابن القصار كالنص على أن الضربة الثانية فرض. ولا حيلة لأحد في تأويله. وقد اختلف أشياخنا في مأخذ هذه المسألة. فقال بعض أشياخي: من يجيز التيمم على الصخر لا يوجب الضربة الثانية، إذ لا معنى فيها يقتضي إيجابها. ومن يشترط التيمم بالتراب، يوجب الضربة الثانية ليحصل له من التراب ما يمسح به مرة ثانية. وخالفه غيره من الأشياخ ورأى أن ذلك غير معلل ولا مخرج على هذا الخلاف، بل هو اختلاف من اعتبار حكم الضرب وعدده. قال القاضي رحمه الله: فأما ما يتيمم به فالأرض نفسها وما تصاعد عليها من أنواعها كالتراب والحصي (¬1) والرمل والنورة والزرنيخ (¬2) وغيره (¬3) مما في بابه. وليس من شرطه (¬4) علوق. شيء بالكف، بل يجوز بالحجر الصلد الذي لا يعلق (¬5) باليد شيء منه. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما فائدة تقييده بقوله من أنواعها؟. 2 - وما الصعيد المذكور في القرآن؟. 3 - وما معنى وصفه بقوله سبحانه طيبًا؟. 4 - وهل يجوز التيمم بتراب محمول في وعاء؟. 5 - وهل يجوز مثل ذلك في المنورة والزرنيخ؟. ¬

_ (¬1) الجنة -الغاني -ح-. (¬2) الزرنيخ ساقط من -ح-. (¬3) وغير ذلك -الغاني-. (¬4) شروطه- الغاني-. (¬5) يتعلق -الغاني-.

6 - وهل يجوز التيمم بالملح؟. 7 - وهل يجوز التيمم بالثلج؟. 8 - وهل تغير ما يباح التيمم به بالصنعة يمنع التيمم به؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد يكون على وجه الأرض ما لا يجوز التيمم به كالنبات والرماد وغير ذلك مما ليس من أنواعها. فلهذا قيد بقوله من أنواعها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في الصعيد. فقال جماعة من أهل اللغة هو وجه الأرض. وقال ابن فارس في كتاب مجمل اللغة: هو التراب. والصعيد في اللغة من أسماء القبر أيضًا. لكن هذا خارج عن أغراضنا (¬1). وإنما يقع النظر بين القسمين الأولين: هل الصعيد وجه الأرض أو التراب؛ وهذا سبب اختلاف العلماء. فذهب مالك إلى جواز التيمم بالصخر وما لا تراب عليه (¬2) بناء على أن الصعيد وجه الأرض. وذهب الشافعي إلى أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب واختلف قوله في الرمل. وقال ابن شعبان من أصحابنا يمنع التيمم برمل لا تراب فيه، وصخر لا تراب عليه. وهذا هو مذهب الشافعي. واختلف العلماء لاختلاف أهل اللغة كما ذكرنا ولاختلاف الأحاديث. ففي بعضها: جعلت لي الأرض مسجدًا أو طهورًا (¬3). فعلق الطهارة بنفس الأرض ولم يشترط التراب واشترطه في كتاب مسلم فذكر وتربتها لي طهورا (¬4). فإن ثبت ما نقل الفريقان من أهل اللغة: أن العرب أوقعت اسم الصعيد على مجرد التراب، وعلى مجرد وجه الأرض، فهل يدعى في ذلك العموم حتى يجوز التيمم بالنوعين كما قال مالك؟ يتعلق ذلك بمسألة من أصول الفقه وهو أن التسمية الواحدة إذا تناولت معاني مختلفة فهل يدعى العموم فيها؟ ¬

_ (¬1) غرضًا -ح-. (¬2) فيه -ح-. (¬3) متفق عليه من حديث جابر. الهداية ج 2 ص 112 و 148. (¬4) أخرجه مسلم وابن أبي شيبة وأبو داود والطيالسي في مسنديهما والبيهقي من حديث حذيفة. الهداية ج 2 ص 148.

اختلف أهل الأصول في ذلك. فذهب بعضهم إلى دعوى العموم فيها على الإطلاق. ومنعه آخرون على الإطلاق. وجوز القاضي أبو بكر بن الطيب إرادة العموم بها *لكل معنى ينطلق عليه على الحقيقة ومنع إرادة العموم بها* (¬1) في حقائقها ومجازها معًا على صفة ذكرها. وقد كنا أشرنا إلى هذا الكلام (¬2) على قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (¬3). هل الباء للتبعيض أم لا؟ والكلام على إلحاق تلك المسألة السابقة بهذا الأصل الذي نحن فيه يغمض ويدق ويخرج عن غرض الكتاب. والجواب عن السؤال الثالث: وأما قوله تعالى: {طَيِّبًا} فإن الشافعية تحمله على أن المراد به مُنبتًا ولهذا قصروا التيمم على التراب؛ لأنه ينبت. واستدلوا بقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (¬4) فالطيب في الأرض المحروث. والطيب في الطعام المستعذب. فالتسمية تختلف باختلاف المسميات. وأما المالكية فتخالفهم في هذا الأصل. وتحمل قوله تعالى طيبًا على أن المراد به طاهر. لأن الأرض النجسة لا يجوز التيمم بها. وقد رجح أصحاب الشافعي تأويلهم بأن الله تعالى كرّم بني آدم فجعل تطهيرهم (¬5) من أصلهم. فلما كان أصلهم من ماء وتراب كانت طهارتهم مقصورة على هذين النوعين وهما الماء والتراب. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما التراب إذا نقل عن الأرض وصار في وعاء، فالمشهور عندنا من المذهب جواز التيمم به. وانفرد ابن بكير فمنع التيمم به. وقد يحتج لكل واحد من المذهبين باختلاف الروايتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فمن روى أن الأرض طهور. فالتراب الذي في الأوعية لا يسمى أرضًا. ومن روى أن تربتها طهور فالمنقول في الأوعية ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط -و-. (¬2) أشرنا إلى هذا في الكلام -ح-. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) سورة المائدة، الآية: 58. (¬5) تطهرهم -و-.

يسمى ترابًا. وإذا قلنا أن قوله صعيدًا معناه ما صعد (¬1) عليها. فالمنقول في الأوعية ليس بصاعد عليها ما دام في الأوعية. وقد احتج للجواز، بتيممه صلى الله عليه وسلم على الجدار لرد السلام (¬2). وحجارة الجدار كالمنقولة عن الأرض. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما المنورة والزرنيخ وما في معناهما كالكبريت والشب فيجوز التيمم على ذلك ما دامت في معادنها. لأنها بعض أجزاء الأرض ولأنها صاعدة عليها حال التيمم بها. وتغيرها عن المعهود من أجزاء الأرض بصنعة انفرد بها الخالق تعالى لا ينقلها عن أصلها كالماء المتغير طعمه بالكبريت ونحوه. فإن ذلك لا يمنع التطهر به. وأما التيمم بها وقد نقلت من الأرض وصارت في أوعية فإن قلنا بأحد القولين: بأن التراب (¬3) المنقول لا يتيمم به فهذه أحرى بذلك. وإذا قلنا بأنه يتيمم به. فقد وقع في السليمانية لا يتيمم بالكبريت والزرنيخ والشب ونحو ذلك مما قد صار في أيدي الناس؛ لأنه قد صار كالعقاقير. فأشار إلى أن ادخاره واستعداده للأدوية والمنافع يخرجه عن أصله ويفارق به حكم جنسه. وأما الياقوت والزبرجد فإنه وإن كان من المعادن فإنه يمنع التيمم به لأجل السرف (¬4) *كما منع استخدامه لأجل السرف* (¬5). وقد أجاز ابن القصار التيمم على الحشيش. وللنظر فيه مجال. وقد حكى بعض البغداديين أن في التيمم على الزرع قولين. وأجاز التيمم على الخشب وللنظر فيه أيضًا مجال. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في التيمم على الملح على ثلاثة أقوال. فمنع على الإطلاق. وأجيز على الإطلاق وأجيز المعدني ¬

_ (¬1) صاعد -ح-. (¬2) هو من حديث أبي يهم رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي والدارقطني وأحمد. الفتح الرباني ج 2 ص 186. كما أخرجه البيهقي عن أبي الصمة والحديث منقطع. السنن ج 1 ص 205. (¬3) في ان -ح-و-. (¬4) الشرف -و-. (¬5) ما بين النجمين ساقط من -ح-.

ومنع المصنوع. فالمنع على الإطلاق لأنه ليس من الصعيد. وإلى هذا أشار في السليمانية فقال يمنع لأنه طعام. والجواز لأنه من جنس الصعيد الذي تقدم الكلام (¬1) عليه كالكبريت والزرنيخ. والتفرقة لأجل أن حقيقة الصعيد إنما يتصور في المعدني دون ما سواه. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في التيمم على الثلج وتوجيه الخلاف (¬2) يداني ما ذكرناه في الملح فلا معنى لإعادته. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: الجير المطبوخ وشبهه (¬3) يمنع التيمم به. لأنه بالصنعة خرج عن كونه صعيدًا. قال القاضي رحمه الله: فأما ما يتيمم له فكل قربة لزم التطهر لها بالماء كالصلوات كلها ومس المصحف، وغسل الميت. ولا يكاد يتصور في الطواف إلا للمريض. ولا يجوز التيمم للجنازة في الحضر إلا أن يتعين الفرض (¬4). ولا يجوز الجمع بالتيمم بين صلوات فروض على وجه. ويجوز بين نوافل عدة. ويجوز الجمع بين الفرض والنفل إذا قدم الفرض (¬5) ويجوز التنفل بتيمم الفرض، ولا يجوز الفرض بتيمم النفل. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا منها أن يقال: 1 - ما المراد بقوله كل قربة لزم التطهر لها بالماء؟ هل ذلك على إطلاقه أو يحتاج إلى تقييد؟ (¬6). 2 - ولم لا يتصور في الطواف إلا ما ذكر؟. 3 - وما معنى قوله في الجنازة إلا أن يتعين الفرض؟. ¬

_ (¬1) تقدم ذكره -ق-. (¬2) وتوجيهه للخلاف -و-. (¬3) وشبه ذلك -ح-ق-. (¬4) يتعين الفرض عليه -الغاني-. (¬5) قبل النفل -الغاني. (¬6) التقييد -و-.

4 - ولم لا يجوز الجمع بالتيمم بين فروض؟. 5 - وما معنى قوله على وجه؟. 6 - وهل يعيد إن فعل ذلك؟. 7 - ولم أجاز ذلك في النوافل؟ (¬1). 8 - ولم أجاز (1) الجمع بين الفرض والنفل إذا قدم الفرض؟. 9 - وهل يعيد الفرض إذا قدم عليه النفل؟. 10 - ولم أجاز التنفل بتيمم الفرض؟ (¬2). 11 - ولم منع الفرض بتيمم النفل؟. 12 - وهل يعيد الفرض إن فعل؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: مراده بذلك من كان من أهل التيمم كالمسافر والفريض. لأن الحاضر الصحيح لا يتيمم عندنا للنوافل ومس المصحف. وهو قد أطلق ذكر الصلوات كلها والنوافل داخلة فيها. ومعنى قوله: لزم التطهر لها أي أراد استباحة الفعل. لأن النافلة ومس المصحف من شاء ألا يفعلها لم يلزمه التطهر. فلا بد من حمل إطلاق قوله على ما قلناه وتأويله على ما ذكرناه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أهل التيمم: مسافر، أو مقيم صحيح خاز ذوات الوقت، أو مريض. والطائف بالبيت ليس بمسافر ولا خائف ذوات وقت، ولا هو عادم للماء في الغالب وإنما يتصور ذلك في المريض كما قال. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: متى تعين الفرض وخيف ذوات الوقت جاز التيمم للمسافر والمريض. ويختلف في الحاضر الصحيح على ما تقدم بيانه. وإن تعين الفرض ولم يخش ذوات الوقت ويتصور ذلك في صلاة الجمعة فإن الحاضر يتعين عليه أداؤها فإن لم يفعل صلى الظهر بدلًا منها وأثم في ترك الجمعة. فهذا اختلف المذهب فيه فمنع أشهب في مدونته من خاف ¬

_ (¬1) جاز -ح-. (¬2) الفروض.

ذوات الجمعة من التيمم. وذهب إلى أنه إن فعل لم يجزئه، وكأنه رأى أن وقت صلاة الظهر لما كان باقيًا، والتيمم إنما يباح للحاضر خوف ذوات الوقت، منع هذا من التيمم. وحكى ابن القصار وغيره إباحة التيمم في هذا لأنه لما كانت الجمعة لا يسوغ تركها اختيارًا ليستبدل منها صلاة الظهر صارت في معنى صلاة لا بدل لها، خاف ذوات وقتها. ومما يليق أن نذكره عقب (¬1) هذه المسألة، من عدم الماء فلم يجده إلا في سقاية أو بئر وسط مسجد، فهل يباح له التيمم لدخول المسجد ليتوصل بذلك إلى الماء الذي يتطهر به ويصير في معنى من تعين (¬2) عليه الفعل، أو ينهى عن ذلك لما كان للماء بدل وهو التراب؟ فصار بذلك أيضًا في معنى ما لا يتعين. هذا لا أحفظ الآن فيه عن المذهب نصًا. لكن رأيت بعض المتأخرين قال (¬3) مالك: يمنع من دخول المسجد للجنب عابر (¬4) سبيل. فيجب إذا اضطر لدخوله أن يباح له التيمم. وقد أريناك من وجوه النظر في المسألة طريقًا يرشدك لما سواه. وإن لم يتعين الفرض أصلًا، ولم تكن الصلاة سنة بل كانت من النوافل، فلم يختلف المذهب عندنا في إباحة التيمم للمسافر. ومنعه عبد العزيز بن أبي سلمة لما كان المسافر عنده في مندوحة عن التنفل وإنما جاز له في الفرض لما كان لا بد له منه. وأما الحاضر فإن كان مريضًا فحكمه حكم المسافر. وإن كان صحيحًا فلا يباح له التنفل. وأما السنن فطريقة بعض شيوخنا أن ما يخاطب به الأعيان يلحق حكمها بالفروض. كالوتر وركعتي الفجر. وما كان منها على الكفاية لحق بالنوافل. وقد تقدم بيان (¬5) حكم الفرض والنفل فأغنى عن إعادته. وقد قال ابن سحنون ¬

_ (¬1) بذكره عقيب -ح-. (¬2) يتعين -ق-. (¬3) هكذا في جميع النسخ وتقرأ حسب اصطلاح علماء الحديث. قال: قال. (¬4) عابري -ح- والمعنى على الحال. ولا وجه للجمع. (¬5) ساقطة -ح-.

من أصحابنا سبيل السنن كالعيدين والاستسقاء والكسوف في التيمم كسبيل الفروض. وقد وقع لابن وهب من أصحابنا فيمن خرج للجنازة متوضئًا فانتقض وضوؤه أنه يتيمم. ومنع من ذلك من خرج ابتداء على غير وضوء. وكأنه رأى أن الخارج على غير وضوء كالمختار لترك الماء. ومن خرج على وضوء فانتقض (¬1) وضوؤه (¬2) كالمضطر لأداء صلاة يخشى فواتها، ولا بدل منها. فلما رأى القاضي أبو محمَّد هذا الاضطراب كله تمسك بالوجه الذي لا يختلف فيه. وذلك أنه إذا تعين عليه الصلاة على الجنازة لعدم من يصلي عليها، فعلى القول بأن صلاة الجنازة فرض يلحق بالفروض المؤقتة كالظهر والعصر. بل هذه لها مزية من جهة أخرى، وهي أنها لا تقضى. وتلك تقضى بعد أوقاتها. وإن كانت هذه أيضًا مختلفًا في وجوبها وتلك متفقًا على وجوبها. وإن كان ابن القصار تردد قوله فيها مع التعين فقال يحتمل أن يقال لا يتيمم لجواز الصلاة على قبر من لم يصل عليه عند بعض الناس. وروي عن مالك، والقياس أن يتيمم. وعلى القول بأن صلاة الجنازة سنة فإنها تلحق بالسنن المخاطب بها الأعيان. وقد أريناك وجه الطريقة فيها. وإن لم تتعين فقد نقلنا لك ما ذكر ابن سحنون وابن وهب. وقد تقدم إجازة التيمم للمسافر على الإطلاق. وفصلنا في الحاضر هذا التفصيل المستوعب لجميع مسائله. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما لم يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد لأنا قدمنا أنه مأمور بالطلب لكل صلاة. وقد (¬3) ذكرنا أن من أجاز الجمع من أصحابنا قد التزم ما تقدم ذكره، وذكر الانفصال عنه فلا معنى لإعادته. ومن الناس من يخرج الخلاف في هذه المسألة على الاختلاف في التيمم، هل يرفع الحدث أم لا؟ فمن قال إنه يرفع الحدث أباح الجمع. ومن ¬

_ (¬1) وانتقض -ح-. فإن انتقض -ق-. (¬2) على معنى فهو. (¬3) قد ساقطة -و-ق-.

لم ير أنه لا (¬1) يرفع الحدث لم يبح الجمع. وأشار القاضي أبو محمَّد في آخر هذا الباب إلى البناء على هذه الطريقة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما أكد بقوله على وجه لأن أبا الفرج أجاز الجمع بين فائتتين بتيمم واحد. وبعض أصحابنا حكى عنه إباحته في الفوائت، وللمريض الذي لا يقدر على مس الماء. وحكي عن ابن شعبان (¬2) إجازته للمريض الذي لا يقدر على مس الماء، وكأنه يقصر إباحة الجمع على هذا لسقوط الطلب عنه. فلأجل الاضطراب في هذه الفروع والاختلاف في بعضها أراد القاضي أبو محمَّد استيعاب جميعها (¬3) بالمنع. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في الإعادة. هل يؤمر بها في الوقت أو في الوقت وبعده؟ ورأى أصبغ أن الإعادة إنما تكون في الوقت وبعده إذا كانت الصلاتان لا اشتراك بينهما كالعصر والمغرب. فمن رأى أن ظاهر القرآن استئناف الطهارة عند كل صلاة أوجب الإعادة بعد الوقت. ومن رأى أن الظاهر لا يقتضي ذلك، وأن الذي وقع في السنة من إجازة الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد يقتضي مثل ذلك في التيمم، لم يوجب الإعادة بالاشتراك في وقته كالصلاة الواحدة بخلاف ما لا اشتراك فيه. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما جاز ذلك في النوافل لانخفاض رتبتها عن الفرائض. وأن النافلة الثانية غير مؤقتة بوقت، فيعد (¬4) متيممًا للصلاة قبل وقتها. ولما كانت النوافل غير مؤقتة ولا منحصرة في تكرارها جعلت كالصلاة الواحدة. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما جاز الجمع إذا قدم الفرض ¬

_ (¬1) لم -ح-. (¬2) ابن سعيد -ح-. (¬3) استيعابها جميعًا -ق-. (¬4) فيعيد -و-ق- ولا وجه له.

لأن النفل تبع للفرض. فإذا تيمم للفرض واستباحه بالتيمم انسحب هذا الحكم على النافلة التي تتبعه لأن التبع (¬1) حكمه حكم المتبوع. وإذا قدم النفل صار مقصودًا بالتيمم وصار الفرض بعده كالتبع فانقلبت الحقيقة التي ذكرناها. فلهذا لم يقدم النفل. وسواء كان النفل المتأخر سنة كالوتر أو لم يكن. واستحب سحنون تجديد التيمم للوتر. وكأنه لما رأى تأكدها في الشرع، وأن أبا حنيفة ذهب إلى وجوبها، استحسن أن يسلبها (¬2) حكم الاتباع. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: اختلف في المتيمم إذا قدم على فرضه تنفلًا. هل يؤمر بالإعادة في الوقت خاصة أو في الوقت وبعده؟ فمن رأى أن تيممه بتقدمة النفل لما صار بتقدمته كالقاصد له بالتيمم أعاد أبدًا. ومن رأى أن قصده استباحة الفرض بتيممه لا ينقلب حكمه (¬3) بتقدمة النفل، وأن تيممه لم ينتقض، لم يوجب الإعادة واستحبها لتبرأ ذمته باتفاق. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: قد تقدم جوابه في السؤال الثامن. ولكن لو كان النفل المتقدم سنة كركعتي الفجر. فقد روي عن مالك أنه خفف تقدمة ركعتي الفجر للمتيمم، والمشهور النهي عن ذلك. فإن خالف النهي، فقيل لا إعادة عليه، وقيل يعيد في الوقت. وقيل يعيد أبدًا. والتوجيه في ذلك يفهمه الواقف على توجيهنا لمثل هذا. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: إنما لم يجز الفرض بتيمم النفل، وجاز الفرض بوضوء النفل لأن الوضوء يرفع الحدث. والحدث إذا ارتفع، ارتفع حكمه على الإطلاق. والتيمم إنما يستباح به الصلاة. فإذا قصد استباحة النفل خاصة لم يجز له استباحة الفرض. لأنه يقصد لذلك ولا يصح أن يكون الفرض تبعًا للنفل على ما تقدم بيانه. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إذا صلى الفرض بتيمم ¬

_ (¬1) التابع -ق- وساقطة من -و-. (¬2) ساقطة -و-. (¬3) لأنه غلب حكمه -ح-.

النفل* (¬1) اختلف في الإعادة هل يؤمر بها في الوقت خاصة أو في الوقت وبعده؟ فمن رأى أن التيمم يلحق بالوضوء لم (¬2) يوجب الإعادة واستحبها لتبرأ ذمته باتفاق. ومن لم يلحقه بالوضوء ورأى أن الاستباحة مقصورة على ما قصد إليه أوجب الإعادة أبدًا. قال القاضي رحمه الله: والجنب ينوي بتيممه الحدث الأصغر ناسيًا (¬3) فيه روايتان. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منها أن يقال: 1 - ما وجه الروايتين؟. 2 - وما الفرق بين غسل الجنب العضو بنية الحدث الأصغر ناسيًا للجنابة وبين التيمم على رواية المنع في التيمم؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: وجه قول مالك أن من تيمم للحديث الأصغر ناسيًا لجنابته أن تيممه يجزيه. وبه قال أبو حنيفة والشافعي أن صورة التيمم للجنابة وللحدث الأصغر سيان. والقصد في كل واحد منهما استباحة الصلاة (¬4). وقد نوى هذا استباحتها. فلا يعرج على (¬5) نسيانه لأحد الأحداث؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، فلا يضر نسيانه. وقد قال عليه السلام وإنما لامرئ ما نوى (¬6). وهذا نوى استباحة الصلاة وكان له أن يصلي. ووجه الرواية الثانية عن مالك أن التيمم بدل عن طهارة الماء، وطهارة الماء في الجنابة تعم جميع الجسد. وطهارة الماء في الحدث الأصغر تخص بعض الجسد. فكما لا يجزي غسل بعض الجسد عن جميعه، فكذلك البدل فيهما لا يجزي القصد بالتيمم للحديث الأصغر عن الحدث الأكبر. وتقوى عندي هذه الطريقة ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط -ح-. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم أتبين موضع النجمة الأخرى (¬2) فلم -ح-. (¬3) ناسيًا لجنابته ففيه-غ-. (¬4) استباحتها -ح-. (¬5) عن -و-. (¬6) اللفظ للمسلم باب الإمارة. إكمال الإكمال ج 5 ص 256.

على القول بأن التيمم يرفع الحدث. وقد يخرج الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في ذلك. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الظاهر من المذهب أن من غسل أحد أعضاء الوضوء بنية الوضوء ناسيًا للجنابة أنه يجزيه عن غسل ذلك العضو للجنابة. وهو ظاهر قوله في المدونة في مسألة الجنب الناسي لغسل ما أزال عنه الجبيرة. والفرق عنده بين ذلك وبين التيمم، ما قدمناه في توجيه كون التيمم لا يجزئ، لاختلاف محل الطهارة الصغرى والكبرى في طهارة الماء. فقيس عليه بدله وهو التيمم. ومن غسل وهو جنب عض وَابن ية الوضوء ناسيًا للجنابة، فإن كل واحدة من طهارتي (¬1) الماء أصل في ذلك العضو (¬2) وليست إحداهما بدلًا من الأخرى. وحكمهما فيه حكم واحد. فإذا أكمل على ذلك العضو غسل ما سواه من الجسد، وكان قد تقدم له غسل ما سواه، ارتفع حكم الجنابة عنه وخالف في ذلك التيمم لأجل ما قدمناه. قال القاضي رحمه الله تعالى: ولا يخلو مريد التيمم من ثلاثة أحوال: 1 - إما أن يغلب على ظنه اليأس (¬3) من وجود الماء في الوقت. 2 - أو أن يغلب على ظنه وجوده ويقوى (¬4) رجاؤه له (¬5). 3 - أو يتساوى عنده الأمران. فالأول يتيمم أول الوقت. والثاني آخره. والثالث وسطه. هذا هو الاختيار. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة هذا التقسيم؟. 2 - وما الوقت المشار إليه؟. ¬

_ (¬1) فإن كل واحد من طهارة -ق-. (¬2) العضو ساقطة -و-. (¬3) الأياس -ح -و-. (¬4) يتقوى. (¬5) له ساقطة -الغاني-.

3 - وهل في الذي اختاره اختلاف؟ (¬1). 4 - وهل يعيد من خالف ما اختار؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد تقرر وعلم أن للماء فضيلة على التراب كما تقرر أيضًا عندنا أن لأول الوقت فضيلة على آخره. فالآيس من وجود الماء في الوقت، لو أمرناه بالتأخير، ونحن نعلم أنه لا يجد الماء، لكنا حرمناه الفضيلتين: فضيلة الماء وفضيلة أول الوقت. ولا شك أن تحصيل إحدى الفضيلتين أولى من تركهما جميعًا. وأما الراجي لوجود الماء، فإنما أمر بالتأخير إلى آخر الوقت لأنه يحصل من فضيلة الماء فوق ما فاته من فضيلة أول الوقت. إذ فضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت ليس (¬2) بمتفق عليها. وأما الشاك فإنما أمر بوسط الوقت ليجعل لكل واحدة من الفضيلتين قسطًا من المراعاة. فيؤخر عن أول الوقت طلبًا لفضيلة الماء ويرتفع عن آخر الوقت تقربًا من فضيلة آخره (¬3). فكان وسط الوقت عدلًا بينهما. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الوقت المشار إليه ها هنا وقت الاختيار: القامة في الظهر، والقامتان في العصر، والشفق في المغرب على ما تقف عليه في كتاب الصلاة إن شاء الله. وإنما كان هذا هكذا لأن وقت الاختيار لا ينهى الواجد للماء عن تأخير الصلاة إليه. وجميعه محل لأداء العبادة فكان جميعه محلًا للتيمم. ولكن الاختيار في المشهور الرتبة التي فصلها. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلفت روايات المذهب في ذلك. فالمشهور ما ذكره القاضي أبو محمَّد. وروي عن مالك في المتيمم على الإطلاق أنه يتيمم آخر الوقت. وقيل في المسافر على الإطلاق أنه يتيمم أول الوقت، وقيل بل يتيمم وسط الوقت، إلا الراجي فإنه يؤخر. وقيل بل آخر ¬

_ (¬1) خلاف -و-ق-. (¬2) غير -ق-. (¬3) هكذا في جميع النسخ. والظاهر - أوله-.

الوقت إلا الآيس فإنه يقدم أول الوقت *فكأن من أطلق القول بآخر الوقت رأى أن الضرورة إنما تتحقق في آخر الوقت. لا سيما على طريقة من قال من أهل الأصول أن الوجوب إنما يتحقق في العبادة المؤقتة في آخر الوقت* (¬1) ومن أطلق القول بأول الوقت رأى أن المصلي مأمور إذا قام إلى الصلاة بالوضوء، فإن لم يجد فبالتيمم، والأمر بذلك ورد نسقًا واحدًا وله أن يقوم إلى الصلاة أول الوقت بل ذلك أفضل له. فإذا عدم الماء في (¬2) هذه الحالة التي أمر بالقيام فيها كان له التيمم على مقتضى الظاهر. وأما القولان المستثنى فيهما ما قدمناه فتوجيههما مأخوذ مما بيناه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما من فعل المختار على حسب ما أمرناه فلا إعادة عليه. لكن الشاك المأمور بوسط الوقت إن كان شكه هل يجد الماء أو لا؟ فوجده بعد صلاته فلا إعادة عليه. وإن كان شكه هل يبلغ الماء المعلوم مكانه أو لا يبلغه؟ فبلغه بعد صلاته فإنه يعيد في الوقت. وإنما أعاد هذا وإن كان فعل في صلاته المختار وخالف بقية الأقسام لأنه كالمقصر في اجتهاده وكالمخطئ في حدسه. ولو أنهى الاجتهاد نهايته لأمكن أن يعلم أنه يبلغ الماء فلهذا أمر بالإعادة في الوقت. وكذلك الخائف من الوصول إلى الماء للصوص عليه لجواز تقصيره في اجتهاده. وكذلك المريض العادم لمن يناوله الماء، لتقصيره في ترك الاستعداد بالماء، فحكم هؤلاء التيمم وسط الوقت لأجل الشك. واختصوا بالإعادة في الوقت دون من لا علم عنده من الماء، لما (¬3) ذكرناه من تقصيرهم. وقد قال بعض المتأخرين من الأشياخ قد يدل ظاهر المدونة على أن المريض الذي لا يمكنه مس الماء يتيمم وسط الوقت؛ لأنه يجوز زوال مرضه في أثناء الوقت. وسائر الأشياخ على خلاف هذا. ولا شك أن مرضه إذا كان يقطع بأنه لا يذهب في الوقت، فإن حكمه حكم الآيس من ¬

_ (¬1) فكأن من أطلق الوقت أطلق القول بآخر الوقت رأى أن الضرورة إنما تتحقق في العبادة المؤقتة في آخر الوقت ساقط -ح-. (¬2) على -ح-. (¬3) ما -و-.

وجود الماء في الوقت. وأما من خالف المختار الذي أمر به في التقسيم المتقدم، فإن المأمور بأن يقدم الصلاة أول الوقت فأخرها في آخره فلا شك في أن لا إعادة عليه. لأنه بالغ في الاستظهار حتى خالف المختار. فلا إعادة عليه لوجود الماء. لأجل مبالغته في انتظاره وطلب تحصيله. وأما من أمرناه أن يؤخر إلى آخر الوقت، فقدم الصلاة في أوله ثم وجد الماء في الوقت فقيل يعيد في الوقت خاصة. وقيل بل يعيد (¬1) في الوقت وبعده. فكأن من يرى الإعادة في الوقت يرى أن جميع الوقت محل للتيمم. وإنما التأخير من باب أولى وأحسن، ولا يعيد بعد الوقت من أحل بالأولى المستحسن. ومن رأى أنه يعيد بعد الوقت يرى أن التأخير متأكد؛ لأنه به تتحقق الضرورة وهي محل الوجوب على الرأي الذي ذكرناه. فأمر بالإعادة بعد الوقت. وقد وقع في المدونة فيمن يعلم أنه يصل إلى الماء في الوقت، فتيمم في أوله أنه يعيد في الوقت. واختصر المسألة حمديس فأبدل قوله يعلم بيطمع وكذا وقعت المسألة في المبسوط لابن القاسم إبدال يعلم بيظن. قال بعض الأشياخ إنما تحسن الإعادة في الوقت على رواية يطمع ويظن، وأما على رواية يعلم، فتعاد الصلاة بعد الوقت، لقوة إيجاب التأخير في حق العالم، وانخفاض رتبته في حق الظان. وأما من أمرناه بالوسط فخالف الاختيار بأن (¬2) قدم فإنه لم يختلف هؤلاء في أنه لا يعيد بعد الوقت. وقد ذكر ابن حبيب فيمن لا علم عنده من الماء، أنه لا يعيد بعد الوقت إذا خالف المختار. ولكن المختار عنده في هذا أنه يؤخر إلى آخر الوقت. وإنما لم يقل بالإعادة في هذا بعد الوقت بخلاف قوله في المسألة التي قبل هذه؛ لأن الأول إذ رجا تحصيل الماء في آخر الوقت تأكد أمره بالتأخير (¬3). وهذا لما كان لا علم عنده من الماء ضعف أمره بالتأخير لضعف الشك عن الظن. فلهذا افترقت المسألتان. قال القاضي رحمه الله: ومن تيمم ثم وجد الماء فله ثلاثة أحوال: 1 - إما أن يجده قبل الدخول في الصلاة؟. ¬

_ (¬1) يعيد ساقطة -ق-و-. (¬2) فإن -و-. (¬3) بالتأخر -و-.

2 - أو بعد الشروع فيها. 3 - أو بعد الفراغ منها. فالأول يلزمه استعماله ويبطل تيممه، إلا أن يكون الوقت من الضيق بحيث يخشى معه ذوات الوقت (¬1) إن تشاغل به. والثاني يمضي على صلاته ولا يؤثر وجود الماء شيئًا وكذلك الثالث. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أنه يبطل تيممه إذا رأى الماء قبل الصلاة؟. 2 - وهل يتخرج اختلاف في قطع الصلاة؟. 3 - وما وجه الاختلاف في ذلك؟. 4 - *وهل تمزق الخف في الصلاة كطرو الماء في الصلاة؟ * (¬2). 5 - وما الدليل على أنه إذا فرغ من الصلاة لم يعدها؟. 6 - وهل يكون نسيان الماء في رحله كطروئه عليه؟. 7 - وما الفرق بين نسيان المكفر رقبة في ملكه وبين نسيان المتيم ماء في رحله عند من فرق بينهما؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: المتيمم إذا رأى الماء قبل الشروع في الصلاة، فالعلماء على أن تيممه قد بطل. وانفرد أبو سلمة بن عبد الرحمان فقال لا يبطل تيممه. والدليل للجماعة أن الله سبحانه أمر القائم إلى الصلاة بالتيمم. بشرط عدم الماء. وهذا حين قيامه إلى الصلاة واجد للماء، فلم تصح صلاته بالتيمم، إلا أن يخشى ذوات الصلاة إن تشاغل باستعمال الماء (¬3) فيسقط حكم الماء. وقد قدمنا عن مالك رضي الله عنه: أنه يبيح التيمم لمن خاف الفوات باستعمال الماء. وهذا آكد لحصول (¬4) هذا متيممًا. قد أباح له تيممه الشروع في الصلاة. ¬

_ (¬1) ذوات الصلاة -الغاني -غ-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬3) بالاستعمال للماء -ق-. (¬4) بحصول -و-.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا طرأ على المتيمم، وهو في أثناء الصلاة ماء، فالمنصوص من المذهب أنه لا يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة يقطع الصلاة إلا في صلاة الجنازة والعيدين. ويتخرج عندنا قطع الصلاة على رأي بعض أشياخي، من القول، بأن الذاكر لصلاة نسيها تبطل الصلاة التي هو فيها. والناوي الإقامة يبطل ما هو فيه من صلاة السفر. وإمام الجمعة يبطل ما هو فيه من الصلاة بطرو من عزله. فلما جعلوا في هذه المسائل هذه الطوارئ تمنع استدامة الصلاة كما منعت ابتداء الصلاة، كان طرو الماء على المتيمم يمنع من الاستدامة أيضًا. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: هذا الاختلاف يدور على نقطة واحدة وهي: هل التيمم شرع بدلًا من الوضوء لصحة الشروع في الصلاة أو لصحة الشروع مع الاستدامة. ولما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} إلى قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. قدر قوم أن الأمر (¬1) إنما توجه حالة القيام إلى الصلاة لا أكثر. وقد رأى آخرون أنه في كل جزء من الصلاة قائم للصلاة. فجعلوا التيمم شرع للابتداء والاستدامة، بشرط العدم. فإذا لم يحصل العدم حال الاستدامة، لم يصح التيمم. ثم اختبر العلماء أيضًا أصول الشرع فوجدوها أيضًا مختلفة. منها ما شرع فيه تساوي الحكم في الابتداء والاستدامة. كالردة والرضاع، فإنها تمنع ابتداء عقد النكاح وتمنع استدامته. ومنها ما يمنع الابتداء دون الاستدامة، كالإحرام والصفة المبيحة لنكاح الأمة. فإن ذلك يعتبر حال العقد ولا يعتبر حال الاستدامة. فرد (¬2) كل واحد من الفريقين مسألة التيمم إلى الأصل الموافق لما حكيناه عنه. ورجح القائلون بمساواة حال الاستدامة لحال الابتداء مذهبهم، بأن الصلاة متى طرأ على المصلي فيها تمكن من القيام أو القراءة بعد عجزه عنهما، خوطب بهما. ولم تصح باقي الصلاة دونهما. وفرق الآخرون بأن الانتقال لفعل الطارئ من التهام أو القراءة لا يبطل ما ¬

_ (¬1) الأمر ساقطة من -ح-. (¬2) فذكر -و-.

مضى من عمل (¬1) الصلاة. فأمر المصلي به إذ ليس في فعله ما يبطل عمله. ولو أمرنا المتيمم بالوضوء لأبطلنا ما مضى من صلاته وتد قال تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (¬2). والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الماسح على خفيه إذا شرع في الصلاة فطرأ عليه ما مزق خفه حتى ظهر أكثر رجله، فإن ابن القصار أشار إلى أن الصلاة تبطل وأن الفرق بين ذلك وبين طرو الماء على المتيمم، (¬3) أن باب كون التراب بدلًا عن الماء أوسع من مسألتنا. لأن الماء قد يجوز تركه مع القدرة عليه لعطش ونحوه من الأعذار، فشروع هذا في الصلاة عذر يسقط حكم الماء. وهذا فرق إن نوقش فيه قد لا يصفو له. وأمثل منه إن كان لا بد من تطلب الفرق أن يقال أن التيمم فعل قد تقضى حسًّا وبقي بعد (¬4) تقضيه حكمًا. وطرو الماء لما (¬5) منع من استعماله حرمة الصلاة صار كأنه لم يوجد. وإذا لم يوجد الماء تمادى على صلاته باتفاق. ويكون تماديه بطهارة ثابتة الحكم. والخف إذا تمزق فقد ذهب حسًّا، وهو في حال الصلاة، وظهرت الرجل، وليست بمغسولة، فيكون التمادي على الصلاة، وقد فقد الممسوح ولم يحصل (¬6) الغسل. فلا تصح صلاة عريت من مسح وغسل. أشار إلى هذا الفرق بعض الأشياخ ولم يبسطه هكذا، ومع بسطي له، أنا على تطلب فرق أوضح منه وأبعد من المناقشة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا طرأ الماء بعد الفراغ من الصلاة فالعلماء على إجزاء الصلاة وصحتها. وانفرد طاوس فأمر بإعادتها بالوضوء في الوقت. والدليل للجماعة أن الله سبحانه قد (¬7) جعل التيمم بدلًا من ¬

_ (¬1) فعل -و-. (¬2) سورة محمَّد، الآية: 23. (¬3) التيمم -و-. (¬4) بعد ساقطة -ح-. (¬5) لما ساقطة -ح-. (¬6) ولم يصح في -ح-. (¬7) قد ساقطة -و-.

الوضوء عند القيام إلى الصلاة. ووقع الإشكال: هل هذا اللفظ يتناول ابتداء القيام خاصة أو يقدر أنه في كل جزء قائم إلى الصلاة على ما سبق بسطه. فأما إذا انقضى جميع الصلاة. وسلمها إلى الله سبحانه المطالب له بها، فلا يقال إنه قائم إلى الصلاة. ولا عهدة عليه بعد تسليم الحقال في عليه. وأظن طاوسًا نحا طريقة من قال من أهل الأصول أن الوجوب إنما يتحقق بآخر الوقت. وقد جاء الخطاب بالوجوب وهو من أهل الماء، فيؤمر باستعماله. والذي قلناه كاف في الرد عليه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الناسي للماء في رحله يقطع إن ذكره وهو في الصلاة. وإن ذكره (¬1) بعد فراغه فقيل لا إعادة عليه وقيل يعيد في الوقت، وقيل يعيد أبدًا. فمن رأى أن الصلاة لا تصح وأنها تعاد أبدًا اعتمد أن الله سبحانه شرط في صحة التيمم عدم الماء. وهذا واجد له حين التيمم فلم يصح تيممه ولا يعذر بالنسيان كما لا يعذر (¬2) ناسي ركعة أو سجدة أو ناسي الحدث. ومن لم يوجب الإعادة رأى (¬3) أنه إنما خوطب باستعمال الماء مع التمكن منه. وأما وجوده مع عدم التمكن فلا تأثير له كوجود المريض إياه. والناسي غير متمكن منه مع نسيانه فلا يضره وجوده كالمريض. والفرق عند هؤلاء بينه وبين ناسي ركعة وسجدة وناسي الحدث، أن هذا قد أتى ببدل مما نسيه (¬4) وهو التيمم. وأولىك لم يأتوا ببدل عما تركوه فيقدر لهم عوضًا مما تركوه. ومن (¬5) أمر بالإعادة في الوقت فيمكن أن يكون لا يوجب الإعادة ولكنه استحبها في الوقت لتبرأ الذمة باتفاق. ¬

_ (¬1) ذكر -ح-. (¬2) لا يعذر به -ح-ق-. (¬3) يرى -ح-ق-. (¬4) لما نسي -و-. (¬5) وأما من -و-.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما فرق من لم يوجب الإعادة بعد الوقت وأوجب عتق الرقبة متى ذكر، (¬1) لأن عتق الرقاب لا وقت له محددًا بل كل زمن (¬2) يقال أنه وقت له، فصارت سائر الأزمنة فيه كالوقت في الصلاة. ومن أصحابنا (¬3) البغداديين من أشار إلى أن الفرق بينهما أن الماء يصح تركه للتيمم مع صحة الملك له لعذر، وعتق الرقبة لا يصح العدول عنها مع صحة الملك لها، وكونها مما يجزي إعتاقه فصار المعتبر في الرقبة الملك. وهو حاصل. والمعتبر في الماء التمكن من الاستعمال لا الملك وهو غير حاصل. قال القاضي رحمه الله تعالى: والتيمم لا يرفع الحدث. وفائدة ذلك شيئان: منع الجمع بين فرضين (¬4) بتيمم واحد. وأنه إذا وجد الماء بعد تيممه تطهير للحديث المتقدم. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - هل اختلف في ذلك؟. 2 - وما وجه الخلاف فيه؟. 3 - وهل له من الفوائد سوى ما ذكر في الكتاب؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف فقهاء الأمصار في ذلك وحكى ابن خويز بنداد عن مالك في ذلك روايتين. وفي المذهب ما يدل على الاضطراب في ذلك نذكره في الجواب عن السؤال الثالث. وقد حكي عن ابن المسيب وابن شهاب أنه يرفع الحدث الأصغر. وحكي عن أبي سلمة أنه يرفع المحدثين جميعًا. وكنا حكينا عنه أن من طرأ عليه الماء قبل الشروع في الصلاة لا يلزمه استعماله. ولكنه يحتمل أن يكون إنما قال ذلك لأنه لما لم يصل بتيممه لم يصح أن يبطل حكمه. ولكن هكذا حكي عنه أنه يرفع المحدثين قولًا مطلقًا من غير تفصيل. ¬

_ (¬1) متى ما ذكر -ح-. (¬2) زمان -و-. (¬3) أصحابنا ساقطة -و-. (¬4) الفرضين -الغاني-.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إن الله سبحانه أمر القائم إلى الصلاة بطهارة الماء، وجعل طهارة التراب بدلًا منها عند العدم. فيجب أن تسد مسدها. فلما كانت طهارة الماء ترفع الحدث كان بدلها مثلها. ولما رأى الآخرون ما حكاه بعض أصحابنا من أنه لا خلاف في أن المتيمم إذا وجد الماء اغتسل، دل ذلك على أن حدثه لم يرتفع. إذ لو ارتفع لما لزمه الغسل. كمن اغتسل لجنابة فإنه لا يلزمه الغسل إلا بجنابة أخرى. وينفصل الأولون عن هذا بأن يقولوا: إنما يرفع التيمم الحدث إذا كان صحيحًا. ومن شرط صحته عدم الماء. فإذا وجد الماء بطل التيمم أصلًا، وصار كمن لم يتيمم. ومن لم يتيمم ولا اغتسل لم يرتفع حدثه. فإنما يقول إنه يرفع الحدث بشرط استصحاب حال عدم الماء الذي باستصحابه يصح التيمم. وهذه مسألة مع كثرة بحثي عنها (¬1) لم أجد لهذا الاختلاف تحقيقًا، كما تقتضيه عبارة مطلقيه. وذلك أنهم إذا كانوا متفقين على أنه إذا وجد الماء اغتسل، فالحدث لم يرتفع ارتفاعًا مطلقًا. وإذا كانوا متفقين على أن الصلاة مباحة فلا يصح القول بأن الحدث لم يرتفع. إذ الصلاة لا تصح من المحدث. ولولا أنه طهور (¬2) -كما قال الله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (¬3)، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا (¬4) - لم تستبح به الصلاة لقوله: لا صلاة إلا بطهور (¬5). فلم يبق لهذه العبارة التي أطلقها الأيمة فيما لا يحصى من الكتب كثرة، حقيقة. لكن اشتهر اختلافهم في الجمع بالتيمم بين صلوات. وجعلوا هذا أحد ثمرات الخلاف (¬6). لكون (¬7) التيمم رافعًا للحديث كما قاله القاضي أبو محمَّد. وهذا إنما التحقيق ¬

_ (¬1) عليها -و-ق-. (¬2) طاهر -ق-. (¬3) سورة المائدة، الآية: 6. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) هو حديث ابن عمر رواه مسلم ولفظه لا يقبل الله صلاة بغير طهور. إكمال الإكمال ج 2 ص 7. (¬6) الاختلاف -ق-و-. (¬7) في كون -ح-.

في العبارة عنه أن يقال: هل جعل الشرع التيمم بدلًا من الوضوء بشرط واحد وهو العدم؟ أو بشرطين وهما العدم، وتوجه فرض القيام إلى الصلاة؟ فإذا قلنا بشرط العدم خاصة، جاز الجمع بين الصلوات بتيمم واحد، لاستصحاب حال العدم خاصة. وإن قلنا بشرطين، وهما العدم وتوجه الفرض، فالصلاة الثانية لم يتوجه فرض القيام إليها، فلا يكون التيمم بدلًا فيها. هذا هو محض التحقيق. وعجبًا للقاضي أبي محمَّد أن يقول في كتابه هذا إن من فائدة الخلاف إذ وجد الماء تطهير. وهو يرى الأئمة وفقهاء الأمصار المختلفين في هذا متفقين على أن المتيمم إذا وجد الماء اغتسل. فعم. وقد حكينا اختلافًا في ذلك عن مالك. أفترى مالكًا إذا قال بأن التيمم يرفع الحدث يسقط فرض استعمال الماء عند وجوده؟ هذا ما لا يظن به. كيف وقد حكينا الاتفاق على الأمر بالغسل. ولكنها مسألة لما تساهل الأئمة في إطلاقهم (¬1) فيها (¬2). مر (¬3) في ذلك على ما مروا عليه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد ذكر بعض الأشياخ أن من ثمرة الاختلاف في كون التيمم رافعًا للحديث، جواز وطء الحائض إذا تيممت. وقد أجازه ابن شعبان بناء منه على أنه يرفع الحدث. ومنها من لبس خفيه بطهارة التيمم قبل أن يصلي ثم أحدث فإن أصبغ أجاز له إذا توضأ أن يمسح على خفيه بناء على أن التيمم يرفع الحدث. ومنها إمامة المتيمم بالمتوضئين فقد أجازها ابن مسلمة من أصحابن ابن اء على أن المتيمم يرفع الحدث، وإن كان كرهها مالك. ومنعه ربيعة. وقد احتج للجواز بأن عمرو بن العاصي صلّى بأصحابه وهو جنب فقال له - صلى الله عليه وسلم -: صليت بهم وأنت جنب؟ (¬4) ولم يأمره (¬5) بإعادة. واحتج أيضًا، بهذا ¬

_ (¬1) ولكنها مسألة لم تسهل العلماء في إطلاقهم. (¬2) فيها ساقطة -و-. (¬3) أي القاضي أبو محمَّد. (¬4) رواية البيهقي وأحمد. صليت بأصحابك وأنت جنب. السنن ج 1 ص 255. والفتح الرباني ج 2 ص 197. وأخرجه أبو داود والدارقطني. (¬5) يأمر -و-ح-.

الحديث للقول: بأنه لا يرفع الحدث. لقوله وأنت جنب. فدل (¬1) أن التيمم لا يرفع حدث الجنابة. وقد كشفنا نحن عن حقيقة هذا الاختلاف. وأنه لا يتصور فيما تقتضيه عبارته، مما يغني عن النظر في التعلق بإطلاق هذا اللفظ في الحديث. وإذا حصل الاتفاق على القسمين اللذين قدمنا، حمل إطلاق هذه التسمية على معنى آخر لا يكون مناقضًا لما اتفق عليه إن صح الاتفاق وثبت. وقد تسامحنا في هذا الفصل بأن عبرنا عنه بالعبارة التي أنكرناها (¬2). وإنما جربنا فيها على ما جرى عليه القوم بعد (¬3) أن نبهنا على ما فيه. كما أنا أكثرنا أيضًا في هذا الباب من إطلاق عبارة البدل في التيمم. وإن كان قد تعقب ذلك بعض المتأخرين لأنه ظن البدل أنه إنما يستحق هذه التسمية إذا كان بدلًا في كل الأحوال. والتيمم إنما يكون بدلًا في حال دون حال. وهذا الذي قاله مناقشة. وقد غلب (¬4) على ألسنة الأيمة تسمية التيمم بدلًا. فلو صح ما قاله المتعقب لكانت هذه من الأسماء العرفية عند أهل هذه الصناعة. والعبارة بما تعارفوا عليه أسرع إلى فهمهم، وقد تقدم الكلام على ذلك في افتتاح مسائل هذا الكتاب بما فيه كفاية. ¬

_ (¬1) فقال -و-ق-. (¬2) أنكرنا -و-. (¬3) وبعد -ح-. (¬4) وقد يغلب -ح-.

باب المسح على الخفين *وما يتعلق به* (¬1) قال القاضي رحمه الله: المسح على الخفين جائز في السفر والحضر (¬2)، للرجال والنساء إذا أدخل رجليه في الخفين بعد كمال وضوئه، من غير توقيت بمدة من الزمان لا يقطعه إلا الخلع، أو حدوث ما يوجب الغسل، كان الخف صحيحًا أو فيه (¬3) خرق يسير لا يمنع متابعة المشي. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها: أن يقال: 1 - ما الدليل على جواز المسح على الجملة؟. 2 - وما الدليل على أن الحضر كالسفر (¬4)؟. 3 - ولم ذكر النساء مع الرجال؟. 4 - ولم اشترط كون الرجلين طاهرتين بإكمال الوضوء؟. 5 - وهل يجزي تطهير الرجلين خاصة؟. 6 - وما الدليل على سقوط التوقيت؟. 7 - وهل لبس أحد الخفين قبل غسل الرجل الثانية كلبسه بعد غسلهما جميعًا؟. 8 - ولم كان خلع الخف قاطعًا؟. 9 - ولم كان حدوث ما يوجب الغسل كذلك؟. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من جميع نسخ الشرح. ثابت بالغاني و -غ-. (¬2) في الحضر والسفر -غ-. (¬3) أو كان فيه -غ-. (¬4) إن السفر كالحضر -و-.

10 - ولم كان الخرق اليسير معفوًا عنه؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على جوازه على الجملة الآثار الواردة بذلك، وهي لا تحصى كثرة. وقد حكى بعض أصحابنا عن مالك إنكار جواز المسح وأنه لا يمسح المسافر ولا المقيم. وقال ناقل هذا إن صحت هذه الرواية عنه (¬1) فلعله رأى المسح منسوخًا. والظن عندي أن مالكًا لم يسلك هذا المسلك الذي ظنه ناقل هذه الرواية. وإنما الرواية الثابتة أنه قال: لا أمسح في السفر، ولا في الحضر. وكأنه كرهه. فإنما حكى عن نفسه ما يؤثر فعله. وقد يكون الفعل جائزًا عند الفقيه ويؤثر تركه. فيحتمل أن يكون مالك رأى أن المسح رخصة. والفضل في ترك الرخص. فأخبر عن نفسه أنه يأخذ بالأفضل. كما يرى أن فطر المسافر في رمضان جائز، ويقول الصوم أفضل له إذا كان مطيقًا له. وكيف يظن به إنكار المسح أصلًا، وقد قال الحسن روى المسح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعون نفسًا على أنحاء مختلفة؟ وبعض من صنف الخلاف من أصحابنا لم يضف (¬2) إنكاره إلا إلى المبتدعة. وطائفة من أهل الأصول يرون أن الزيادة على النص كالنسخ فلا يرجع فيها إلى أخبار الآحاد. وهو أصل أبي حنيفة وأصحابه. ولما استشعرت هذه الطائفة هذا (¬3). قال أبو يوسف يجوز نسخ القرآن بمثل الأخبار الواردة بمسح الخف. يشير بهذا إلى أن إثباته مسح الخف لم يكن إلا بآثار خارجة عن أخبار الآحاد. وقال أبو حنيفة في ذلك هي كضوء الشمس يشير إلى إظهارها (¬4) واشتهارها وانتشارها. فأنت ترى أبا حنيفة وأصحابه مع تقصيرهم في البحث عن الآثار عن مالك أثبتوا المسح على الخفين وقالوا فيه ما حكيناه عنهم. فكيف يظن بمالك رضي الله عنه مع معرفته بالآثار واتباعه لها إنكاره أصلًا. وهذا كله يحقق عندك ما ظننا به في تلك الرواية. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف قول مالك في الحاضر. ¬

_ (¬1) عنه ساقطة -و-. (¬2) لم يكن يضيف -و-. (¬3) استشعرت الطائفة هذا -ح-. (¬4) ساقطة من - ح - ق -وهو الأولى.

هل يجوز له المسح على الخفين أم لا؟ فوجه الجواز ظواهر الآثار وهي كثيرة. وفي الحديث: أنه أتى سباطة قوم فبال قائمًا ومسح على خفيه (¬1). والسباطة المزبلة ولا يقال مزبلة قوم إلا في الحضر. وفي كتاب مسلم أنه وقت للحاضر يومًا وليلة (¬2). وفي هذا إثبات المسح على الجملة وقياسًا على الجبائر التي يستوي فيها حال الحاضر والمسافر. ووجه نفي المسح أنه رأى الرخص مختصة بالسفر كالقصر والفطر. فقاس مسح الخفين عليه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: لما رأى أن علة جواز المسح على الخفين ما يلحق بالمسافر (¬3) من النزع عند الطهارة لاشتغاله بالحل والترحال. والغالب أن يقال: إن هذا من أشغال الرجال، خاف أن يظن أن النساء لا يجوز لهن ذلك. فأخبر بجوازه لهن. وأن الرخصة عامة لهن (¬4) كما يجوز لهن القصر والإفطار (¬5). والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما اشترطنا الطهارة لأن المغيرة لما أهوى لنزع خفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له - صلى الله عليه وسلم -: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين (¬6). فلو لم تكن الطهارة شرطًا في جواز المسح لم يكن لهذا التعليل فائدة. وكلامه - صلى الله عليه وسلم - يجل عن أن يكون لا معنى فيه ولا فائدة له. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المعتبر تطهير الرجلين بالطهارة المعهودة التي هي طهارة الحدث. هذا هو (¬7) المعروف من المذهب. وقد وقع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن الكبرى ج 1 ص 270 - 274. (¬2) رواه مسلم والبيهقي. السنن الكبرى ج 1 ص 275 - 276. وأما الذي بيانه صاحب الهداية ج 1 ص 214 - 232. (¬3) بالمسافر -ح-. (¬4) لهن ساقطة -ح-. (¬5) الفطر -و-ق-. (¬6) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والدارمي والبيهقي وأحمد. إرواء الغليل ج 1 ص 136 - 137. (¬7) هو ساقطة من -ق-و-.

في المستخرجة فيمن غسل رجليه خاصة، ولبس خفيه ونام قبل أن يكمل طهارته، أنه يجزيه المسح عليهما. وهذه إشارة إلى ترك اعتبار الطهارة المعهودة *التي هي طهارة الحدث* (¬1) والاكتفاء بتطهير الرجل خاصة. ألا تراه يقول يمسح ولو نام، والنوم يبطل الطهارة. ولو كان (¬2) غسل رجليه بنية وضوء منكس لأن قوله قبل أن يكمل وضوءه فيه إشارة إلى قصد الوضوء المنكس. ويكون الوجه في هذه الطريقة حمل قوله عليه السلام أدخلتهما طاهرتين (¬3) على طهارة الرجلين على وجه ما. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: المشهور من المذهب ترك اعتبار التوقيت. وقد روي عن مالك إثبات التوقيت. وأنكر بعض البغداديين ما نسب إليه من التوقيت في الرسالة المضاف إليه أنه كتب بها (¬4) إلى هارون الرشيد. وذكر الأبهري أن أشهب روى التوقيت للمسافر ثلاثة أيام. وبالتوقيت قال أبو حنيفة والشافعي. وسبب هذا الاختلاف، اختلاف الأحاديث (¬5). فلإثبات التوقيت ما خرجه مسلم من أنه - صلى الله عليه وسلم - وقت للحاضر يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها (¬6). ولنفي التوقيت أن رجلًا قال يا رسول الله: أمسح على الخفين. قال: نعم. قال: يومًا ويومين. قال وثلاثة وما شئت (¬7). وقياسًا على الجبائر. وقد قال من أثبت التوقيت أن طهارة التيمم لما كانت لا ترفع الحدث عن شيء من الأعضاء لم يستبح بها أكثر من صلاة. وطهارة الغسل لما كانت ترفع الحدث عن سائر الأعضاء استبيح بها ما لا ينحصر بعدد من الصلوات. والماسح على خفيه لما ارتفع الحدث عن بعض أعضائه دون بعض، كان له ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬2) فإن كان في -ح-. (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) كتبها -و-. (¬5) وسبب الاختلاف -ح- وسبب الخلاف خلاف -ق-. (¬6) هو تمام الحديث السابق: نفى المراجع. (¬7) أخرجه البيهقي. السنن ج 1 ص 279. وأخرجه أبو داود والطحاوي وابن أبي شيبة وابن ماجه والحاكم. وهو حديث لا يصح. الهداية ج 1 ص 234.

حكم متوسط. فارتفع عن الصلاة الواحدة وانحط عن عدم الحصر. فوقت بما في الحديث وهذا ينتقض بمسح الجبيرة فإنه غير مؤقت. هذا وبعض المؤقتين لم يسلم أن الحدث لم يرتفع. وقد اختلف المؤقتون في المقيم إذا لبس خفيه ثم سافر. فمذهب الشافعي أن ميقات المقيم الذي هو اليوم والليلة لا يبطل لأن ابتداء الفعل كان في الإقامة فخاتمته محمولة (¬1) على ابتدائه. ومذهب أبي حنيفة إبطال ميقات المقيم. واعتبار (¬2) ميقات المسافر لأن ما حدث من السفر يجب فيه صلوات غير متعلقة بما كان في الحضر. فوجب أن يعتبر فيها حال المصلي. ولا أعرف في المذهب فيها نصًالأولكنها تلاحظ الاختلاف (¬3) في المدونة فيمن ابتدأ الصيام في الحضر ثم سافر في أثناء النهار فأفطر. هل يكفر مراعاة لحال مبتدأ الفعل. أو لا يكفر مراعاة للحال التي هو عليها. فبين المسألتين تناسب من هذه الجهة. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف المذهب عندنا فيمن توضأ وغسل إحدى رجليه وأدخلهما في الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها في الخف. هل له أن يمسح على خفيه؟ فقيل ليس له ذلك لأنه لبس الأول قبل كمال الطهارة. ومن شرط جواز المسح إكمال الطهارة. وقيل يجوز له المسح لأن الرجل الأولى لم تدخل إلا وهي طاهرة فجاز المسح. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا خلع خفيه (¬4). فقدإنتقل الحكم للرجل. وإنما يرتفع الحدث عنها يكون المسح على الخف نائبًا عنها. فإذا زال الخف سرى الحدث إليها. ¬

_ (¬1) مبنية في -و-ق-. (¬2) اعتبار ساقطة -ح-. اعتبر -ق-. (¬3) الاختلاف -ح -و-. (¬4) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب خفه.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إنما كان حدوث ما يوجب الغسل قاطعًا لأن غسل الجنابة لا يجزئ فيه المسح على الخفين وقد جعل ذلك حجة له من أنكر المسح أصلًا. فقال: لو كان للمسح على الخف أصل في الطهارة الصغرى لكان له في الكبرى. وهذا لا يلزم لأن الطهارة الكبرى أغلظ وأقوى مرتبة في هذا. ألا ترى أن الرأس في الطهارة الصغرى فرضه المسح، ولا يجزئ الجنب مسح رأسه. بل عليه غسله. فكذلك يمسح الخف في الطهارة الصغرى دون الكبرى. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف الناس في خرق الخف المانع من المسح فمنهم من يتسهل في المسح فأجاز المسح وإن كثر الخرق ما دام الخف يعلق بالرجل. ومنهم من منع المسح لظهور بعض المغسول. وتوسط مالك فأجازه في الخرق اليسير إذ لا تسلم الخفاف منه غالبًا، ومنعه في الكثير لفقد هذه العلة مع ظهور كثير من المغسول، والكثير لا يعفى عنه. وقد قال بعض أصحابنا إذا شك هل الخرق يسير أو كثير فلا يمسح. ووجه هذا أن الأصل غسل الرجل، والمسح رخصة. فلا يتعدى بها المرتبة التي جاء الشرع بها. ومتى وقع الشك عدنا إلى حكم الأصل. قال القاضي رحمه الله: ويستحب للمقيم (¬1) خلعه كل جمعة للغسل وإذا خلعهما غسل رجليه وبطل حكم المسح. ولا يجوز المسح على جوربين غير مجلدين. وفي المجلدين والجرموقين روايتان. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - لم استحب للمقيم خلعه كل جمعة؟. 2 - وما الدليل على أنه إذا خلعهما غسل رجليه؟. 3 - وهل ينتقض وضؤوه أو يكفيه غسل رجليه خاصة؟. 4 - وهل تأخيره غسل رجليه يبطل وضوءه؟. ¬

_ (¬1) للمقيم ساقطة من -و-.

5 - وهل تأخيره مسح خفيه يبطل وضوءه؟. 6 - ولم لا يجوز المسح على الجوربين؟. 7 - ولم اختلف في المسح على الجرموقين؟. 8 - وهل يجزئ مسح ما قطع دون الكعبين؟. 9 - وهل يجوز (¬1) للمحرم أن يمسح الخف الزائد على الكعبين؟. 15 - وهل يجزئ مسح خفين تحتهما آخران؟. 11 - وهل يجزئ ذلك في إحدى الرجلين خاصة؟. 12 - وهل يجزئ غسل إحدى الرجلين ومسح الأخرى فوق الخف؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: وقع في بعض الروايات أن تحديد المسح من الجمعة إلى الجمعة، وتؤول ذلك على أن المراد به الحاضر المخاطب بالجمعة. لأنه مأمور بالغسل للجمعة. ولا يجزئ في الطهارة الكبرى مسح الخفين كما قدمناه. وقول القاضي أبي محمَّد استحب للمقيم خلعه كل جمعة إنما هذا (¬2) عند من لم يوجب غسل الجمعة. ومن أوجبه من العلماء لا يرى ذلك مستحبًّا بل يجعله واجبًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: جمهور العلماء على أن خلع الخفين يبطل طهارة (¬3) الرجلين. وإذا بطلت طهارتهما وجب غسلهما. وقال داود نزع الخفين لا يبطل (¬4) طهارة الرجلين، بل يصلي بطهارته تلك ما لم يحدث. والدليل لما عليه الجمهور أن المسح على الخفين بدل من غسل الرجلين. فإذا بطل المسح بنزع الخفين لم يبق بدلًا مع بطلانه. وإذا بطل كونه بدلأوجب فعل البدل الآخر كالجبيرة إذا نزعت بطل حكم المسح *ولداود المناقضة بمسح الرأس فإنه لو ذهب الشعر الممسوح لم يبطل حكم المسح* (¬5) ¬

_ (¬1) يصح في -و-ق-. (¬2) هو في -و-. (¬3) غسل الرجلين في -و-. (¬4) لا يبطل نزع الخفين -و-ق-. (¬5) ما بين النجمين ساقط من -ح-.

والفرق عندنا أن مسح شعر الرأس أصل في نفسه وليس ببدل عن غيره، فينتقل الأمر إلى البدل (¬1) عند زوال الشعر. والخف بدل فانتقل إلى غيره عند زواله. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: المعروف من المذهب أن وضوءه لا ينتقض. وروى عن مالك رواية شاذة أن وضوءه ينتقض. وبه قال الشافعي. وسبب الاختلاف في ذلك أن الموالاة قد قدمنا الاختلاف في وجوبها. فمن أنكر وجوبها لم ينقض الطهارة ها هنا. ومن قال بوجوبها وقدر أن غسل الرجلين الذي انتقل إليه الفرض الآن، لما تأخر عما سواه من الأعضاء، حصلت التفرقة وعدمت الموالاة، أبطل الوضوء. ومن رأى أنه كالمغلوب على التفرقة أو رأى أنه إنما غسل رجليه بدلًا عن طهارتهما التي بطلت في الحال، لم يبطل الوضوء لصحة الموالاة في جميعه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: تأخير غسل رجليه، فيه اضطراب. ويتخرج على الاختلاف في وجوب الموالاة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: تأخير المسح على خفيه، المعروف منعه. وقد روى الأجزاء. وهذا يحتمل أن يكون بناء الأجزاء على القول بأن الموالاة غير واجبة أو على القول بأن الممسوح حكمه أخف من حكم المغسول. لأن مبناه على التخفيف. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما لم يجز المسح على الجوربين خلافًا لأبي يوسف وصاحبه محمَّد في إجازتهما المسح على الجوربين، الغير مخروزين إذا كانا ثخينين؛ لأن الآثار إنما جاءت بالمسح على الخفين. والجوربان لا يسميان خفين. والحاجة إلى الخفين فوق الحاجة إليهما. فلا يقاس حكمهما على الخفين، فإن جلدا فقد اختلف فيهما لأنهما أشبها بالتجليد الخفين فقاسهما مرة عليهما ومرة لم يقس على الرخصة ولم يبعد ما جاءت به الآثار (¬2). ¬

_ (¬1) البدن -و-. (¬2) الأخبار في -و-.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في الجرموقين ما هما؟ فقيل خفان غليظان لا ساق لهما. وقال بعض البغداديين هما خفان تحتهما خفان. وأشار ابن القاسم إلى أن ما (¬1) خرز عليه يسمى جرموقًا. فإن كان الأمر كما فسره من قال: هما الخفان الغليظان اللذان لا ساق لهما، والتوجيه فيه كنحو التوجيه في الجوربين المخروز عليهما، وإن كان كما أشار إليه ابن القاسم فقد تقدم توجيهه. وإن كان كما قال بعض البغداديين فسنتكلم عليه بعد هذا. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا قطع الخفان دون الكعبين فالمعروف من المذهب أنه لا يصح المسح عليهما لظهور بعض المغسول. وحكى ابن شعبان أن الوليد بن مسلم روى عن مالك: أنه يمسح عليهما وعلى ما ظهر من الرجلين. وهذا مذهب شاذ، وإنما ينسب إلى الأوزاعي. وكان الوليد كثير الرواية عنه. ووجه هذه الرواية" إن صحت، أنه رأى (¬2) أن الظاهر من الرجل في حكم اليسير. فعفي عنه كما عفي عن الخرق اليسير في الخف. والفرق على المشهور بينهما، أن الخرق مما لا ينفك الخفاف عنه غالبًا، ومما لا يخرجه عن السورة التي جاءت بها الآثار. والمقطوع دون الكعبين بخلاف ذلك. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: منع بعض أصحابنا المحرم من المسح لأنه منهي عن لبس الخفين التأمين. وإذا نهى عن لبسهما لم يرخص له في المسح عليهما. وعندي أنه قد يتخرج على القولين في جواز القصر لمن سفره معصية. وعلى هذا تمسح على الخفين المحرمة لأنها في لبسهما غير عاصية. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: حكى البغداديون وغيرهم اختلافًا في ذلك عن مالك. وأطلقوا الحكاية عن ذلك. وقال بعض شيوخنا إنما ¬

_ (¬1) إلى أن كل ما خرز عليه - و. (¬2) روى -و-.

الاختلاف فيمن لبس خفين، على خفين لم يمسح عليهما. وأما إذا مسح على الأسفلين ثم لبس خفين فإنه يمسح عليهما إذا توضأ من غير خلاف في ذلك. وسبب الاختلاف في ذلك أن الآثار إنما وردت بالمسح على خفين مفردين لا على أربع خفاف فلا تتعدى (¬1) الآثار. ومن أثبت المسح قاس على ما ورد من الآثار في ذلك. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: اختلف فيمن نزع الخف الأعلى من إحدى رجليه هل عليه أن ينزع الأعلى من الرجل الأخرى أم لا؟ فمن أوجب النزع رأى أن حكم الخفين لا ينبغي أن يختلف. وقد صار ها هنا تحت الخف الرجل. وحكمها الغسل. وتحت الخف في الرجل الأخرى خف آخر وحكمه المسح. فوجب النزع لرفع هذا الاختلاف. ومن لم يوجب النزع لم يلتفت إلى ما تحت الخف وإنما اعتبر الخفاف خاصة وهو ماسح على الخفين في كلا الرجلين. فلا يضر اختلاف العدد. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: لا يجزئ من خلع إحدى خفيه غسل الرجل التي خلع خفها، ومسح خف الرجل الأخرى. لأن هذا قد اختلف معه حكم الرجلين. فصارت إحداهما مغسولة والأخرى ممسوحة من فوق حائل. وكل المسح بدل من كل الغسل، فلا يبعض ذلك. وأجاز ذلك أصبغ وهذا عندي ينظر إلى الاختلاف في مسألة المكفر عن يمينه إذا أطعم خمسة وكسا خمسة. ولعلنا أن نبسط. الكلام عليها في موضعها إن شاء الله تعالى. وقد قال بعض الأشياخ لو تعذر على هذا الغاسل لإحدى رجليه نزع الخف عن الرجل الأخرى، وخشي ذوات الوقت إن تشاغل بنزعه، فإنه يباح له المسح عليه. ويحمل على الجبيرة التي أبيح المسح عليها للضرورة. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والمختار مسح أعلاهما وأسفلهما. فإن اقتصر على أعلاهما أجزأه وإن اقتصر على أسفلهما لم يجزه (¬2) ولا يجوز المسح ¬

_ (¬1) تبعد في -ق-. (¬2) فلا يجزيه -ح-ق-.

على عمامة، ولا خمار، ولا على حائل دون عضو، سوى الرجلين، إلا لضرورة كسر (¬1)، أو جراح (¬2). فيمسح على الجبائر والعصائب شدهما محدثًا أو متطهرًا بخلاف الخفين. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن المختار مسح الأعلى والأسفل؟. 2 - ولم أجزأ الاقتصار على الأعلى ولم يجز الاقتصار على الأسفل؟. 3 - وما الدليل على منع المسح على العمامة والخمار؟. 4 - وما الدليل على جواز المسح على الجبائر؟. 5 - ولم كانت بخلاف الخفين في اشتراط (¬3) الطهارة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: المشروع عندنا مسح أعلى الخف وأسفله. وقال أبو حنيفة المشروع مسح أعلاه خاصة. وسبب الاختلاف اختلاف الأحاديث. ففي بعضها: أنه مسح أعلى الخف وأسفله، وفي بعضها أنه مسح أعلاه خاصة. وقال علي لو كان الدين يؤخذ بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره (¬4). ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يمسح أعلاهما. فأخذ مالك بحديث مسح الأعلى والأسفل، وحمل حديث الاقتصار على الأعلى على أنه فعله ليعلم بجوازه. وعضد مذهبه بالقياس على الجبائر الواجب عمومها بالمسح. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا اقتصر الماسح على الأعلى. فقيل لا إعادة عليه. وقيل يعيد في الوقت. وقيل يعيد أبدًا. فمن نفى الإعادة تمسك بالحديث الوارد بالاقتصار على الأعلى. ومن أثبت الإعادة في الوقت قال قد بنينا الأحاديث وحملنا الاقتصار على الأعلى على تعليم الجواز. وأثبتنا ¬

_ (¬1) أو كسر -غ-. (¬2) جرح - الغاني. (¬3) في شرط -و-. (¬4) رواه البيهقي بلفقالو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه. وبلفظ الكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه. السنن ج 1 ص 292 وانظر الهداية ج 1 ص 208.

الكمال (¬1) في مسح الأعلى والأسفل فيعيد في الوقت ليحصل له الكمال. ومن قال يعيد أبدًا قاسه على الجبيرة إذا أحل بمسح بعضها. فإنه يعيد أبدًا. ولأن المسح بدل من الغسل، فلو ترك بعض غسل رجليه (¬2) لأعاد أبدًا. فكذلك ترك ما هو بدل عنه. وأما إن اقتصر على الأسفل خاصة. فالمعروف من المذهب أنه يعيد أبدًا. لأنه لم يرد حديث بالاقتصار عليه. وورد في الأعلى حديث بالاقتصار عليه فاختلف حكماهما، وقياسًا على ترك مسح بعض الجبيرة وترك غسل بعض الرجل. وقال أشهب يجزيه وكأنه رأى أن مبنى المسح على التخفيف، فلا تفسد الطهارة بترك بعضه كما لا تفسد الطهارة بترك (¬3) مسح بعض الرأس عند بعض أصحابنا. وعند جماعة من فقهاء الأمصار. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في المسح على العمامة. فمنعه جمهور العلماء لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (¬4). وهذا يقتضي مباشرة الرأس بالمسح. وأجازه ابن حنبل، وغيره لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: مسح على العمامة (¬5). وتأول الجمهور هذا الحديث على أنه فعل ذلك لعذر حال (¬6) بينه وبين مباشرة الرأس. فأشبه المسح على الجبيرة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: المسح على الجبائر واجب عندنا. وأنكر أبو حنيفة كون المسح فرضًا وقال هو سنة. وسبب الاختلاف في ذلك أن القرآن جاء بالغسل. وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا بالمسح على الجبيرة (¬7). وهذه قضية ¬

_ (¬1) وأثبت الكمال -ح-. (¬2) رجله -ح-. (¬3) ترك ساقطة -و-. (¬4) سورة المائدة، الآية: 6. (¬5) رواية مسلم أنه مسح على ناصيته وعلى العمامة. النووي ج 3 ص 172 - 173. وأخرجه أحمد عن عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والعمامة. الفتح الرباني ج 2 ص 38. (¬6) حال ساقطة من -ح-. (¬7) رواه ابن ماجه عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال: انكسرت إحدى زندي فسالت =

في عين. فإذا قلنا بتعديها لسائر الأشخاص، كما قال جماعة من أهل الأصول، فقد صارت هذه القضية زائدة حكمًا، وهي خبر واحد. والزيادة على النص نسخ على أصل أبي حنيفة. وليست بنسخ (¬1) عند غيره. فمن لم يجعلها نسخًا أثبت المسح كما قال مالك. ومن جعلها نسخًا لم يوجب المسح على الجبيرة كما قال أبو حنيفة. لأن النسخ لا يكون بخبر الواحد. وإنما قال بالمسح على الخفين؛ لأنه خرج عنده ما ورد فيه من الآثار عن مرتبة الآحاد. ولما سقط عنده العمل بهذا الخبر على جهة الإيجاب استخف أن يعمل به على حكم السنن لئلا يبطل العمل بالخبر أصلًا. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما لم يشترط الطهارة في مسح الجبيرة واشترطناه (¬2) في مسح (¬3) الخفين. لأن لبس الخفين اختياري يمكن أن يؤمر اللابس إذا أراد المسح ألا يلبسهما إلا على طهارة. فلما أمكن ذلك جاء الشرع به. ولا يمكن أن يقال للإنسان لا تكسر أو تجرح إلا على طهارة. فلما لم يمكن ذلك لم يجىء الشرع به. وقد قال الشافعي إن شد الجبيرة على غير طهارة أعاد الصلاة. وإن شدها على طهارة فله في الإعادة قولان. ولا معنى عندنا نحن للإعادة؛ لأنه مكلف انتقل بحكم الضرورة إلى بدل فلم تلزمه الإعادة (¬4) كالمسافر إذا تيمم لعذر ما (¬5). والمكفر إذا صام لعدم الرقبة. وهذا واضح. وقد كنا أشرنا في باب التيمم إلى ذكر الاختلاف فيمن لبس خفيه قبل الصلاة وهو متيمم ثم أحدث. هل له أن يمسح عليهما؟ فأغنى ما أشرنا إليه هناك عن نقل نص الاختلاف في ذلك ها هنا. ¬

_ = النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن أمسح على الجبائر. السنن ج 1 ص 215. وفي سنده عمرو بن خالد كذبه أحمد وابن معين. وقال البخاري منكر الحديث. (¬1) نسخا -و-. (¬2) اشترطناها -ق-. (¬3) مسح ساقطة من -ح-. (¬4) إعاد -و-ق-. (¬5) لعدم الماء -و-ق-.

واضطرب في صفة المسح هل يبدأ بأن يضع (¬1) عند الأصابع ويمر إلى العقب. أو عند العقب ويمر إلى الأصابع. أو يضع إحداهما عند العقب والأخرى فوق الأصابع ويمر بكل واحدة منهما إلى مبدإ الأخرى لئلا يكون في أسفل الخف ما ينبغي إزالته فيلصقه بالعقب إذا كان مروره بيده إليها. والاختلاف في هذا قريب. فلهذا لم يفرد (¬2) بالذكر في سؤال يختص به. ¬

_ (¬1) يجعل -ق-. (¬2) لم يفرده -ح-.

باب في الحيض والنفاس وما يتصل بهما قال القاضي رحمه الله: الدماء التي تزجيها (¬1) الرحم ثلاثة: 1 - دم حيض. 2 - ودم نفاس. 3 - ودم علة وفساد، وهو الاستحاضة. فأما دم الحيض: فهو الخارج من الفرج على وجه (¬2) الصحة بغير ولادة. والنفاس ما كان عقيب الولادة. والفساد ما خرج عن صفتهما (¬3). ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئًا وهي: 1 - وجوب الصلاة. 2 - وصحة فعلها. 3 - وفعل الصوم دون وجوبه. وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم، ونفيه في الصلاة (¬4). 4 - والجماع في الفرج، وما دونه. 5 - والعدة. 6 - والطلاق. 7 - والطواف. 8 - ومس المصحف. ¬

_ (¬1) ترخيها -ق-غ- الغاني-. (¬2) وجه ساقطة من -غ-ق-و-. (¬3) صفتيهما -الغاني-. (¬4) الصلاة- الغاني-.

9 - ودخول المسجد. 10 - والاعتكاف. 11 - وفي قراءة القرآن روايتان. ويمنع الجنب من القراءة إلا الآيات اليسيرة للتعوذ. قال الإِمام رضي الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة هذا التقسيم؟. 2 - ولم جعل الحيض يمنع وجوب الصلاة دون وجوب الصوم؟. 3 - ولم حرم الجماع في الحيض؟. 4 - وما فائدة تقييده بقوله وما دونه؟. 5 - ولم منع مس المصحف؟. 6 - ولم منع دخول المسجد؟. 7 - ولم اختلف في قراءة القرآن؟. 8 - ولم منع الجنب من القراءة؟. 9 - ولم جوزت له الآيات اليسيرة؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على صحة هذا التقسيم: أنه ليس للجسم سوى حالتين: صحة أو مرض. فالدم الخارج من الفرج لا بد أن يصادف إحدى هاتين الحالتين. فإن خرج على حالة المرض سمي دم استحاضة. وإن خرج على حالة الصحة فليس للمرأة الصحيحة أيضًا سوى حالتين. إما أن تكون حاملًا. أو تكون حائلًا. فإن كان خرج عند وضع العمل سمي نفاسًا. وإن خرج من حائل صحيحة سمي حيضًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد تعقب بعض الأشياخ من أهل الأصول على القاضي أبي محمَّد هذا الكلام. وقال: كيف يقال إن الحيض لا يمنع الوجوب، والحيض لا يصح معه الصوم، بل الصوم فيه معصية؟ فكيف يوسف ما هو معصية بأنه واجب هذا غاية التناقض. واعلم أنا نفتقر ها هنا إلى

أن نورد عليك فصلًا يتعلق بعلم الأصول ليتضح لك الكلام (¬1) المتعقب عليه. فنقول الصوم الذي لا يجوز تأخيره لا امتراء في وجوبه. لأن الواجب ما يستحق الذم بتركه على وجه ما. وهذه الحقيقة موجودة فيما قلناه من الصوم الذي لا يؤثم مؤخره. وقد جاء الشرع بجواز تأخير صوم رمضان لمريض. وإيجاب التأخير على الحائض. فالتبس فيه الأمر على من خاض في علم الأصول. فقد يستلوح من حيث أن الصوم لم يسقط أصلًا (¬2) أن الوجوب لم يسقط. وقد يستلوح من حيث أن الفطر جائز أن الوجوب ساقط. لأن الواجب لا يجوز تركه. وقد اضطرب أهل الأصول في ذلك. فأنكر الكرخي خطاب هؤلاء بالصوم، وأشار غيره إلى خطاب جميعهم. وقال جماعة من أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم بخطاب المسافر والمريض دون الحائض. وقال آخرون من أصحابنا وغيرهم أيضًا بخطاب المسافر دون الحائض والمريض. وسبب الاختلاف بين أهل الأصول ما نبهتك عليه أن التأخير، لما وجب أو جاز، لم يصح مع ذلك أن يقال بأن الخطاب بالوجوب متصل بهؤلاء. لأن اتصال الخطاب بالوجوب يمنع الترك. والترك جائز لهؤلاء أو واجب. ولما رأى آخرون وجوب القضاء على جميعهم وحقيقة القضاء إنما تستعمل (¬3) في ترك واجب، بَعُدَ عندهم مع ذلك وصفهم بسقوط الوجوب. إذ لو سقط لم يكن الصوم الموقع بعد رمضان قضاء. ورأى آخرون افتراق حال ما يجب تركه كصوم الحائض، وما يجوز تركه كصوم المريض والمسافر. فقالوا سقوط الوجوب عن الحائض لأن وجوب الفعل مع وجوب تركه طرفا نقيض. فكيف يتصور أن يقال الصوم واجب على الحائض، ومن فعل الواجب أجر، ويقال مع هذا، الصوم محرم عليها. ومن فعل المحرم أثم. فتكون مأثومة مأجورة معًا في حالة واحدة؟ هذا عين التناقض؟ وأما المسافر والمريض فإنهما لو صاما لأجرا ولم يأثما، وناب صومها مناب الواجب، وبرئت الذمة به. فلم يُوقِعْ القول بأن ¬

_ (¬1) كلام -ح- كلام المتعقب والمتعقب عليه -ق-. (¬2) فقد يستلوح أن الصوم من حيث لم يسقط أصلًا -و-. (¬3) يستعمل -ح-.

الصوم واجب في تناقض كما وقع في الحائل. فلهذا افترق الأمر عند هؤلاء، وصار الأمر في إجازة التأخير لهذين، كإجازة تأخير الصلاة عن أول الوقت إلى آخره. ولم يخرج الصلاة ذلك عن وصفها بالوجوب بأول (¬1) الوقت. وإنما يبقى ها هنانظر آخر، وهو أن يقال (¬2) جواز الترك ينفي حقيقة الوجوب. فكيف وصفت (¬3) الصلاة بالوجوب أول الوقت؟ وهذه المعارضة ألجأت القاضي أبا بكر بن الطيب وغيره من الأئمة إلى إثبات العزم واجبًا ليكون بدلًا من تقدمة الصلاة أو الصوم (¬4) ولم يساعده آخرون على إثبات العزم. ولا مطمع في الخوض في هذا الأصل الآخر في كتابنا هذا. لأنه من الدقيق الغامض الذي يفتقر إلى الاستبحار في علم الأصول. ورأى الآخرون (¬5) أن سقوط الصوم على المريض، قصد الشرع التخفيف عنه بسقوط التكليف لكونه في حكم العاجز عنه. والعاجز لا يكلف. والمسافر قادر. فقصد الشرع التخفيف بالتأخير لا بإسقاط التكليف. فاتبع في ذلك قصد الشرع. والقاضي أبو بكر بن الطيب على عظم شأنه في علم الأصول قد يميل في بعض كتبه إلى التفرقة بين المريض الذي يعسر عليه الصوم ويشق، وبين المسافر لأجل هذا الذي قلناه. ويميل في بعض تصانيفه إلى التسوية بينهما في اتصال الخطاب بهما. وفيهما وقع الالتباس عند الحذاق. وأما من ذهب إلى أن الحائض مخاطبة بالصوم كهذين (¬6) واعتمد على كون صومها الموقع بعد رمضان قضاء، فإنه يتمسك بوجهين: أحدهما لفظي، والآخر معنوي. فأما اللفظي فتسمية أهل الشرع صومها الموقع بعد رمضان ¬

_ (¬1) أول -و-ق-. (¬2) أن نقول -ح-. (¬3) إذا وصفت -ق- وصف -و-. (¬4) تقدمة الصوم أو الصلاة -و-ق-. (¬5) آخرون -ق-و-. (¬6) لهذين -ق-.

قضاء. والواجب (¬1) على هذا أن يقال القضاء يشعر في اللغة بأمر فائت. والفوات على قسمين: ذوات واجب، وفوات وجوب. فمن ترك صلاة سمي فعله لها بعد الوقت قضاء لأنه ناب مناب واجب فات. وأكثر ما يطلق اسم القضاء في هذا القسم. وأما الحائض فإنا لو توهمنا عدم طرو الحيض عليها لكانت مخاطبة بالصوم بإجماع. فلا شك أن الحيض هو الذي يرفع هذا الخطاب حتى صار الوجوب كالفائت الذي يقضي بوجوب آخر، وهو الوجوب المتوجه عليها بعد رمضان. فتسهل الفقهاء في العبارة فأطلقوا العبارة المستعملة في ذوات الواجب على ذوات الوجوب *لشدة ارتباط ما بين الواجب والوجوب (¬2) * وهذا غير مستنكر في اللغة والعرف. ولأن (¬3) الدليل القاطع العقلي الذي ذكرناه أولًا في إفساد هذه المقالة يتمسك بإطلاق عبارة اصطلح عليها الفقهاء. وأما الوجه المعنوي الذي تمسكوا به فهو أمثل (¬4) من هذا. وذلك أنهم قالوا إن الحائض تنوي بصومها القضاء. فلولا أنها مخاطبة بالصوم أيام حيضتها لم تؤمر بنية القضاء. لأن ما لم يجب يستحيل أن يقضى. وهذه معارضة صعبة لهؤلاء. وقوإنطلقت الألسنة بشدة النكير عليهم لقولهم إن الحائض مخاطبة بالصوم. ورأى المنكرون عليهم أن هذا القول أوقعهم في عين المحال المتناقض على حسب ما قدمناه لك أولًا. والقوم إنما حملهم على ما قالوه، هذا الذي ذكرناه من كون الحائض مأمورة بنية القضاء. ولعله الذي دعا القاضي أبا محمَّد إلى إطلاق هذا القول الذي تعقب عليه في كتابه هذا. فاعلم أن الوجوب في الشرع ربما كان له سبب معلوم. وربما لم يكن له سبب. فمثال ماله سبب: مفسد الصلاة، ومفسد الحج، ومفسد الصوم. فإن الوجوب للقضاء متوجه عليه بسبب إفساده (¬5). ومثال ما لا سبب له، الصلاة الواجبة ابتداء، ¬

_ (¬1) الجواب -ق-و-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬3) ولا يرد -و-ق-. (¬4) أشد -ق-. (¬5) من هنا إلى قبيل الجواب عن السؤال الثامن ساقط من -و- وسننبه على مكانه في موضعه. وقد وجدنا هذا النقص بعد ذلك داخلًا في الجواب عن الأسئلة التي أثارها =

والصوم، والحج. فإذا كان المكلف يعلم أن الوجوب له سبب، فلا بد أن يتعرض له في نيته. لأن النية إنما شرعت لتمييز عبادة من عبادة. ألا ترى أن الساجد لله (¬1)، والساجد للصنم، صورة سجودهما واحد. وإنما فرق بينهما النية والقصد. وكذلك التطوع، وصوم الفرض. صورتهما واحدة. وإنما تفرق (¬2) بينهما النية. فإذا لم تصم الحائض رمضان، وأوقعت صومها في شوال، فصورة صومها في شوال، وهي متطوعة بالصوم، كصورة صومها في شوال صومًا واجبًا عليها. فلا بد إذا صامت في شوال من تجديد نية يتميز بين كون صومها نفلًا أم فرضًا. فإذا نوت الفرض وتوجه ذلك عليها (¬3) لما قلناه، فهي تعلم حينئذ أن الله سبحانه لم يفرض على أحد من المسلمات صوم شوال. ولولا ما رفعه الحيض من الخطاب بصوم رمضان لما وجب عليها صوم شوال. فقد صارت نية الفرض لا بد لها منها. ونية الفرض يتضمن أن هذا الوجوب عليها إنما هو كالقضاء عن وجوب فات. فهذا هو سر إطلاق الفقهاء وأهل الشرع، لكون صومها قضاء، ومعنى أمرها بذلك. ولقد قال بعض العلماء: لو أمكن تمييزها الصوم بهذه الحقيقة دون التعرض منهالقضاء، أو أداء، لاكتفي (¬4) بذلك. وهذا فصل قد كشفنا لك فيه اختلافًا كثيرأوقع بين أهل الأصول. ومعنى أطلقه أهل الفروع. وبُحنا لك بالسر فيه فاحتفظ به. فما تعرض لهذا أحد من الفقهاء المصنفين. وإذا أحطت به علمًا علمت حقيقة ما قاله القاضي أبو محمَّد في هذا الكتاب، وحقيقة ما تعقب عليه. فإن تركت قوله على ظاهره فقد وقع بقولته هذه مع تلك الطائفة من أهل الأصول التي ذكرنا لك قولهم. والحجة لهم وعليهم. وإن ¬

_ = حول أقل الحيض والنفاس مما يدل على أن الورقة انفصلت من مكانها ثم وضعت في غير موضعها. وأن الناسخ للنسخة التونسية الثانية نقلها عن النسخة الوطنية رقم -1 - وأن نسخة الوزير منقولة عن النسخة التونسية رقم -2 - . (¬1) سبحانه -و-. (¬2) الفرق -و-. (¬3) عليها ساقطة -و-. (¬4) لاكتفت -و-.

أحببت (¬1) الاعتذار عنه وإلحاقه بالجمهور في هذه المسألة وهو الظن الجميل به لعلو قدره في علم الأصول والفروع، قلت قد أريناك معنى قول الفقهاء إن صوم الحائض يسمى قضاء. وأنها تنوي القضاء فيكون ذلك المعنى الذي أريناك إليه، نحا القاضي أبو محمَّد في إطلاق هذه العبارة، فيكون معنى قوله أن الحيض يمنع من فعل الصوم دون وجوبه ويمنع من فعل الصلاة ووجوبها أن الحيض حرم الصلاة ولم يأت الشرع بفعلها بعد تقضيه. فقد منع الفعل، والوجوب كما قال. ومنع فعل الصوم مع الحيض، وأتى بوجوب الصوم بعد أن تقضيه (¬2) فلم يمنع الوجوب، بمعنى أنه لم يرفعه رفعًا كليًّا بل كان فوت الوجوب في أيام الحيض سبب الوجوب في غيرها من الأيام. فأشعر بهذه العبارة لوجه الفرق بين الصلاة والصوم. وهذا هو العذر له عما تعقب عليه. وقد أشبعنا هذا الفصل من علم الأصول، لتعلقه بهذه اللفظة الواقعة في هذا الكتاب. ولأن المتعرض لتعقبها عليه من الحذاق بالأصول والفروع. وفي هذا الذي قلناه مقنع. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما حرم الوطء في الحيض لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ} (¬3). فنبه سبحانه على أن كونه أذًى هو المانع من الوطء وقد جاءت الآثار بمنع ذلك فلهذا منع الوطء في الحيض. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما وطء الحائض فيما دون الفرج بين فخذيها، فالمشهور من المذهب النهي عنه واستخفه أصبغ. فوجه المشهور قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ}. والمراد من المحيض ها هنا زمن الحيض عند بعض أهل العلم. ثم قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}. وظاهر هذا يقتضي اعتزالها جملة وألا يقرب شيئًا منها. لكن جاءت الآثار بإباحة ما فوق الإزار، فخص ما فوق الإزار بالإباحة. وفي الخبر: ما يحرم علي ¬

_ (¬1) وإن اختلفت -و-. (¬2) نقيضه في -ح-. (¬3) سورة البقرة، الآية: 222.

من امرأتي وهي حائض؟ فقال ما تحت الإزار (¬1). ووجه ما قاله أصبغ: أن علة النهي الدم (¬2). فيجب أن يختص النهي بموضعه. وإنما يكون معنى النهي عن وطئها بين الفخذين حماية للذريعة، لئلا يقع في وطء الفرج. فإذا أمن من ذلك اسخف له الوطء. وقال ابن الجهم من أصحابنا الإزار من السرة إلى الركبة. فيكون النهي عن الوطء فيما بين هذين، حماية لئلا يقع في وطء الفرج الذي هو ممنوع. كما نهي عن التنفل بعد العصر حماية للذريعة أيضًا. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: الحدث مانع من مس المصحف عندنا. ويستوي في ذلك الحدث الأصغر والأكبر. وأجاز داود مسه للجنب، وللمحدث (¬3) الحدث الأصغر. ودليلنا قوله تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) في كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (¬4). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: لا يمس المصحف إلا طاهر (¬5). وأما داود فإنه يحمل الآية على أن المراد بها الملائكة. ومنعه أصحابنا من هذا وقالوا هذا اللفظ يوهم صحة وجود *من ليس بمتطهر في السماء. وإنما يصح وجود* (¬6) من ليس بمتطهر في الأرض لا في السماء. وكأن أصحابنا قد رأوا دخول = إلا = ها هنا, يشير إلى أن بعدها من المستثني يدل على أنه إنما خص بالذكر لئلا يتوهم أن حكمه كحكم غيره ممن لم يستثن. وهذا يقتضي كون غيره متوهمًا دخوله في الخطاب. قالوا وإن حمل داود الآية على الخبر فلا بد أن يكون معناه معنى النهي؛ لأنه إذا وجب حملها على من في الأرض، ونحن نعلم أنه قد يمسه من أهل الأرض من ليس بطاهر، وخبر الله سبحانه لا يصح أن يوجد الأمر بخلافه، وجب أن يكون الخبر معناه معنى النهي. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي عن حرام بن حكيم عن عمه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما يحل لي من امرأتى وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار. السنن ج 1 ص 312. (¬2) من الدم -ح-. (¬3) المحدث ساقطة -و-. (¬4) سورة الواقعة، الآيات: 77 - 78 - 79. (¬5) هذه قطعة من حديث طويل أخرجه السيوطي في مسند عمرو بن حزم رقم الحديث: 18494 - 18495 وانظر نصب الراية ج 2 ص 339 - 341. (¬6) ما بين النجمين ساقط -ح-.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف الناس في دخول الحائض والجنب المسجد. فمنعه مالك على الإطلاق. وأجازه زيد بن أسلم عابر (¬1) سبيل. وقال ابن مسلمة من أصحابنا: الجنب والحائض طاهران وليس ابن جسين. وإنما تمنع الحائض من دخول المسجد صيانة للمسجد على أن يناله من دمها شيء. والجنب يدخل المسجد لأنا نأمن ذلك منه. قال بعض أشياخي: هذا يقتضي جواز كون الجنب في المسجد، والحائض (¬2) إذا استثفرت وتحققت صيانة المسجد عن الدم. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب (¬3). وأما زيد فإنه يعتمد على قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (¬4). والمراد بالصلاة ها هنا موضعها. إذ نفس الصلاة لا يصح فيها عبور السبيل. وإنما يعتبر (¬5) السبيل في المساجد وغيرها من الأماكن. وهكذا حمل الشافعي الآية على ما حملها عليه زيد وأجاب أصحابنا عن هذا: بأن إثبات إضمار. وحمل الآية على المجاز من غير دليل يضطر إليه لا يمكن. وما قدره زيد، دليل يلجئ إلى ذلك. من كون الصلاة لا يصح العبور فيها. فليس الأمر كما قدروا. وإنما المراد بعابري السبيل ها هنا المسافر الذي لا يجد الماء. فإنه يقرب (¬6) الصلاة بالتيمم وإن لم يغتسل. وإن صح حمل الآية على هذا التأويل فلا وجه لإثبات إضمار في الآية من غير ضرورة إليه. وأما ابن مسلمة فإنه يعتمد على قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن المؤمن لا ينجس (¬7). وإذا لم يكن نجسًا فلا وجه عنده لمنعه من دخول المسجد. ¬

_ (¬1) أي لعابر. (¬2) أي وكون الحائض. (¬3) رواه أبو داود في كتاب الطهارة وأخرجه البخاري في الكبير. مختصر سنن أبي داود ج 1 ص 157. (¬4) سورة النساء، الآية: 43. (¬5) يعبر -ق- تعبر السبل -و-. (¬6) يقرب من الصلاة -و-. (¬7) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد. الهداية ج 2 ص 68.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما وجه إجازة القراءة لها، فلأن عائشة كانت تقرأ القرآن وهي حائض والظاهر أن هذا مع تكرره عليها، وكونها مع النبي عليه السلام من القرب في فراش واحد، أنها طالعته على ذلك، أو فهمت عنه ما استباحت هذا منه. وأما وجه المنع فقياسًا على الجنب. وقد فرق أصحاب الرواية الأولى بينهما وبين الجنب، بأن (¬1) حدث الجنب مكتسب وهو قادر على رفعه بالطهارة، ومدة جواز بقائه عليه لا تطول. والحائض من غير اكتسابها. واغتسالها لا يرفع حكم الحيض. ومدة أيام حيضتها تطول فقد يؤدي هجرها للقراءة لنسيانها. فأبيحت لها القراءة لأجل هذا. والجنب فيه بخلافها. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما قراءة الجنب للقرآن فاختلف قول مالك فيها. والمشهور عنه المنع. وقال الشافعي لا يقرأ شيئًا من القرآن أصلًا. وقال داود يقرأ ما شاء. ودليلنا على المنع ما وقع في الخبر لا يقرأ الجنب شيئًا من القرآن. وإخبار علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا (¬2). وقد صحح الترمذي حديث علي رضي الله عنه هذا. ولأن ابن رواحة لما اتهمته امرأته بالجارية وجحدها. فطلبته بقراءة القرآن فتخلص منها بأن أنشدها شعرًا فصدقته. فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فقال: امرأتك أفقه منك (¬3). فلولا اشتهار المنع حتى علمته النساء ما طلبته بالقراءة. ولو كانت القراءة مباحة لما احتاج هو إلى الإلغاز عليها بإنشاد الشعر ولا قال له صلى الله عليه وسلم امرأتك أفقه منك. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إذا ثبت منع الجنب القراءة فإنه ¬

_ (¬1) هنا ينتهي النقص الوارد في -و- وهو بلفظ لأن. ثم وجدنا الصفحة برقم 40 - و- وإذ تكون قد وضعت في غير موضعها عند الجمع. (¬2) عن عليّ أنه كان يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا. رواه الترمذي ولفظه كان يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبًا. عارضة الأحوذي ج 1 ص 212. (¬3) من جامع السيوطي عدد 16667 ج 8 ص 407 - 408. ورواه أحمد مختصرًا ج 3 ص 451.

يباح له اليسير منها كالآية والآيتين للتعوذ أو ما في معناه. ولم يجز أبو حنيفة له إلا قراءة بعض آية. ودليلنا على جواز اليسير أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو وكتب لهم باليسير منه (¬1). فدل أن اليسير معفو عنه إذا دعت الحاجة إليه. وأما حصر أبي حنيفة الإباحة على بعض آية لكون بعض الآية ليس بمعجز. فإنه غير مسلم له. إذ لا مدخل للإعجاز ها هنا. والحرمة ثابتة لجميع القرآن ما قل منه وما كثر. فإذا دعت الحاجة للإباحة فإنما يقتصر على قدر الحاجة. وعلى اليسير المعفو عنه على حسب ما بيناه. هذا وفي القرآن آية أقصر من البعض الذي أشار إليه أبو حنيفة من الآية الأخرى، وما كان بالغًا في القصر من الآي فليس بمعجز وهو مع هذا آية كاملة. وقد عد من أقصر آي القرآن مدهامتان (¬2). وأقصر منها ثم نظر (¬3). لأنها خمسة أحرف. وهذا القدر ليس بمعجز. قال القاضي رحمه الله: وأقل الحيض والنفاس لا حد له، وأكثر الحيض خمسة عشر يومًا وأكثر النفاس ستون يومًا. ولا حد لأقل الاستحاضة. ولا لأكثرها (¬4) ولابد من طهر يفصل بين الحيضتين وأقله خمسة عشر يومًا على الظاهر من المذهب ولا حد لأكثره. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لم قال إن أقل الحيض والنفاس لا حد له؟. 2 - وهل ذلك على الإطلاق أو التقييد؟. 3 - ولم قال إن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا؟. 4 - ولم قال أكثر النفاس ستون يومًا؟. 5 - ولم نفى الحد عن أكثر الاستحاضة وأقلها؟. 6 - وما معنى قوله لا بد من طهر يفصل بين الحيضتين؟. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري. فتح الباري ج 6. ومسلم ج 5 ص 219. وأبو داود. مختصر المنذري ج 3 ص 415 وأحمد ج 3 ص 15. (¬2) سورة الرحمان، الآية: 64. (¬3) سورة المدبر، الآية: 21. (¬4) أكثرها -الغاني-.

7 - ولم جعل أقله خمسة عشر يومًا؟. 8 - وما معنى قوله على الظاهر من المذهب؟. 9 - ولم نفى الحد عن أكثره؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما أقل الحيض فاختلف الناس فيه. فعندنا أن الدفعة من الدم حيض. وقال الشافعي أقل الحيض يوم وليلة. وقال أبو حنيفة أقله ثلاثة أيام. ودليلنا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ} (¬1). فأطلق الاسم. والاعتزال واجب في قليله من غير تحديد. فدل على أن قليله حيض. ولأنها مأمورة بترك الصلاة والصوم (¬2) عند ظهوره. فلو لم يتحقق أنه حيض لما أمرت بترك الصلاة في مشكوك فيه، هل يتمادى إلى الحد الذي حدوه فيكون حيضًا؟ أو ينقطع قبله فلا يكون حيضًا؛ وهذا يوضح ما قلناه من أنه لا حد لأقله أيضًا (¬3) *وحكم النفاس في ذلك كحكمه. فلهذا قال لا حد لأقله أيضًا (¬4) *. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما نفينا التحديد فيما يمنع الصلاة. ويسقط الصوم. وأما الاعتداد به من الطلاق والاستبراء به، فإنا (¬5) لا نرى الدفعة تكفي في ذلك. وهل يحد ما يكفي في ذلك أم لا؟ المشهور نفي التحديد والرجوع إلى ما يكون في العادة حيضة. وقال بعض أصحابنا أقل الحيض ثلاثة أيام. وقال بعضهم أقله خمسة أيام. فعلى هذين القولين يكون ما يكفي (¬6) في العدة والاستبراء محدودًا بما حده (¬7) به هؤلاء. فقد وضح أن ما قاله القاضي أبو محمَّد ليس على الإطلاق. وقد قال أبو الفرج: الدفعة ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 222. (¬2) ساقطة من -و-. (¬3) ساقطة من -و-ق-. (¬4) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬5) فإنه لا يرى -ق-ح-. (¬6) أقل ما يكفي -و-. (¬7) حد -ح-.

حيض، وليست بحيضة. وإنما أشار بهذا القول لما قلناه من افتراق حكم العدة ومنع الصلاة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما أكثر الحيض فإنه خمسة عشر يومًا. وقال أبو حنيفة أكثره عشرة أيام. ودليلنا وصفه - صلى الله عليه وسلم - المرأة بأنها تترك الصلاة نصف دهرها (¬1). فلو كان أكثر الحيض أقل من خمسة عشر يومًا لم تكن تاركة للصلاة إلا أقل من نصف دهرها فدل ذلك على صحة ما قلناه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما أكثر النفاس فاختلف فيه. هل هو محدود أم لا؟ فروي عن مالك ترك التحديد. والرجوع إلى عادات النساء في ذلك. وروي عنه التحديد، وبه قال أبو حنيفة. فحده مالك بستين يومًا. وحده أبو حنيفة بأربعين يومًا. وقد اتفق المحددون على اعتباره بمقدار أكثر في أربع حيضات. فلما كان أكثر الحيض عند مالك خمسة عشر يومًا حده بستين يومًا لأنها نهاية أكثر في أربع حيضات. ولما كان أكثر الحيض عند أبي حنيفة عشرة أيام حده بأربعين يومًا لأنه مقدار الأربع كما بيناه. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما نفى التحديد عن دم الاستحاضة؛ لأنه دم خارج عن المجرى الطبيعي المعتاد. وهو دم مرض وعلة. والأمراض لا تحد بزمن بل تطول وتقصر وتشتد وتضعف على قدر السبب الباعث لها. والمزاج، والقوة، والتدبير الصالح أو الفاسد. وهذا كله يمنع التحديد لكن يعتبر في أيام الاستحاضة أن تبلغ مبلغًا يكون فاصلًا بين الدمين. وتحديد ذلك والكلام عليه يذكر بعد هذا في موضعه إن شاء الله. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما معنى قوله: ولا بد من طهر يفصل بين الحيضتين. فإنه يريد بذلك أن المرأة إذا رأت الدم ثم طهرت (¬2) منه، ¬

_ (¬1) في الأسرار المرفوعة: تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي. قال أبو منده: لا يثبت. وقال ابن الجوزي: لا يعرف. وقال النووي: باطل. وقال البيهقي: تطلبته فلم أجد له إسنادًا والحاصل لا أصل له بهذا اللفظ. الأسرار المرفوعة، ص 165 - 166. (¬2) تطهرت -و-.

ورأت بعد طهرها بأيام دمًا آخر، فهل يكون هذا الدم الثاني حيضة مستأنفة يعتبر فيها خمسة عشر يومًا إن تمادى بها الدم؟ أو تكون مضافة إلى الحيضة الأولى فيحسب من الدمين جميعًا خمسة عشر يومًا، وتقدر أيام الطهر كأنها لم تكن؟ هذا يفتقر فيه إلى معرفة أيام الطهر الفاصلة بين الدمين. هل بلغت إلى ما يحد به أقل الطهر أم لا؛ فإن بلغت لذلك، كان الدم الثاني حيضة مستأنفة. وإن لم تبلغ ذلك كان الدم الثاني كأنه بعض حيضة وأولها ما سبق من الحيض قبل أيام الطهر. فيكون فائدة هذا اعتبار الخمسة عشر يومًا التي هي أكثر أيام الحيض أو اعتبار قدر العادة في الحيض. هل يكون مبدأ (¬1) ذلك، مبدأ الدم الأول أو الدم الثاني؟ يعتبر في ذلك ما قلناه من كون أيام الطهر فاصلة أم لا؟. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما جعل أقله (¬2) خمسة عشر يومًا. لوصفه - صلى الله عليه وسلم - المرأة أنها تترك الصلاة نصف دهرها، فلا (¬3) يمكن أن يكون وصفها بالأقل من مدة الحيض والطهر. لأن اليوم الواحد إذا حاضت فيه تركت الصلاة. وليس اليوم نصف الشهر ولا يمكن أن يكون وصفها بالأكثر (¬4) فيهما؛ لأن الطهر قد يطول بها شهرًا فلا تكون تاركة للصلاة نصف دهرها. ولأجل هذا لا يمكن أن يكون وصفها بأكثر في الطهر والأقل في الحيض, لأن أكثر الطهر لا يحد لما (¬5) بيناه فلم يبق من التقسيم العقلي سوى وصفها بأكثر الحيض، وأقل الطهر. وهذا يوجب كون أقل الطهر خمسة عشر يومًا. وقد جعل الله سبحانه عدة المطلقة التي تحيض ثلاثة أقرؤ وجعل عوضًا عن ذلك في اليائسة ثلاثة أشهر، لكون كل شهر منها بدلًا من أكثر الحيض وأقل الطهر. إذ لا يمكن أن يكون عن أكثرهما لما قدمناه ويعاد ما ذكرناه من ¬

_ (¬1) مبتدأ -و-. (¬2) أكثره في: والمناسب للسؤال هو أقله. ويصح المعنى عليهما. باعتبار ضمير أقله يعود على الطهر، وضمير أكثره يعود على الحيض. (¬3) ولا يمكن -ق-. (¬4) بالاقل -ق-. (¬5) كما -و-ق-.

التقسيم حتى لا يصح إلا ما قلناه. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما قال على الظاهر من المذهب إشارة إلى الاختلاف في ذلك. وقد اختلف فيه هل هو محدود أو لا؟ فقيل ليس بمحدود بل يرجع إلى ما يكون طهرًا في العادة. وقيل بل (¬1) هو محدود. واختلف المحددون في المبلغ: فقيل خمسة عشر يومًا وهو الذي ذكره القاضي أبو محمَّد. وقيل عشرة. وقيل ثمانية أيام. وقيل خمسة أيام. ولا يكاد يتحرر لهذه الأقاويل توجيه يعتمد عليه ويسلم من المناقضة سوى من حده بخمسة عشر يومًا. فإنا قد ذكرنا توجيهه. ولعل الآخرين حوموا حول العوائد التي قال بها من نفى التحديد. فحدده كل إنسان منهم بما قدر أنه عادة. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما نفي التحديد عن أكثر الطهر فإنه يحال تصحيحه على المشاهدة لأنا نعاين من النساء من تقيم طاهرًا أشهرًا. ولا يمكن تحديد ذلك لاختلافهن فيه. والقول في هذا أيضًا هو القول الذي قدمناه في نفي التحديد عن دم الاستحاضة. لأن خروج الدم زائدًا (¬2) على أيام العادة واحتباسه عن أيام العادة كمرض من الأمراض. والأمراض لا تحد زمانها لاختلاف الأسباب الباعثة لها كما (¬3) قدمناه، وهذا واضح. قال القاضي رحمه الله تعالى: والحُيّضُ (¬4) ضربان: مبتدأة ومعتادة. فالمبتدأة تترك الصلاة لرؤية أول دم تراه إلى انقطاعه، وذلك إلى تمام خمسة عشر يومًا، أو مدة أيام لِدَاتها. على اختلاف الرواية. فإن زاد على ذلك، فإن (¬5) اعتبرنا الخمسة عشر يومًا اغتسلت وصلّت (¬6) وكانت مستحاضة. وإذا اعتبرنا أيام لداتها استظهرت بثلاثة أيام ما لم تجاوز خمسة عشر يومًا. وفي المعتادة ¬

_ (¬1) بل ساقطة -و-. (¬2) زائد -و-ح-. (¬3) لما -و-. (¬4) والحائض -الغاني-. (¬5) فإذا -غ-ق-. (¬6) وصامت -الغاني-.

روايتان: إحداهم ابن اؤها على عادتها وزيادة ثلاثة أيام، والأخرى جلوسها إلى آخر الحيض، ثم يعملان فيما بعد على التمييز، إن كانتا (¬1) من أهله. فإن عدمتا التمييز صلتا أبدًا ولم يعتبرا بعادة (¬2). قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة منها أن يقال: 1 - هل يعتبر كون المبتدأة في سن من تحيض أم لا؟. 2 - وهل يعتبر في المعتادة ذلك؟. 3 - ولم قال بالاقتصار على خمسة عشر يومًا؟. 4 - ولم قال بالاقتصار على أيام لداتها؟. 5 - ولم نفى الاستظهار بعد خمسة عشر يومًا؟. 6 - ولم أثبته بعد أيام لداتها؟. 7 - ولم حده بثلاثة أيام؟. 8 - ولم اختلف القول في المعتادة؟. 9 - ولم عملا على التمييز ولم يعتبرا بعادة؟ (¬3). فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما المبتدأة فإنها التي جاءها الدم المبتدأ الذي لم يتقدمه دم قبله. ويعتبر فيه أن تكون في سن من يجيئها الحيض. فإذا جاءها دم وهي من الصغر بحيث لا يمكن أن تحيض، فلا اعتبار بهذا الدم. وهو دم علة وفساد وقد تقدم الكلام على (¬4) أن هذا لا يعتبر به. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أن المعتادة هي التي تكرر عليها دم الحيض واعتادته. فإن جاءها الدم، وهي من الشيخ والهرم، بحيث لا يمكن أن تحيض فهل يعتبر بهذا الدم، ويكون مانعًا من الصلاة والصوم أم لا؟ فيه قولان: فمن لم يعتبر به رآه كدم الصغيرة وقد تقدم الكلام عليه. ويعضد ما قاله بأن ¬

_ (¬1) كانت -الغاني-. (¬2) ولم تعتبر العادة -غ-. ولم تعتبر بعادة -و-. (¬3) لعادة -ح-ق-. (¬4) على ساقطة -و-.

المذهب اتفق على نفي الاعتداد به. فلو كان حيضًا لاعتبر في العدة. وإذا (¬1) قلنا أنه لا يمنع الصلاة، فهل عليها غسل إذا انقطع؟ فيه قولان: فمن نفى الغسل رآه كدم الجرح. ومن أثبته فعلى جهة الاحتياط. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قدمنا أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا. وذكرنا الدليل عليه. فأغنى عن إعادته. فإذا ثبت أن أكثره خمسة عشر يومًا، وكانت التي رأت الدم قد منعها الشرع من الصوم والصلاة فكل ما رأته دم حيض، حتى ينقل عنه ناقل. ولا ناقل يتحقق إلا بلوغها إلى أمد لا يمكن أن ينتهي الحيض إليه، وذلك خمسة عشر يومًا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما لداتها فهن أترابها وأقرانها، فإنما اعتبر في دمها بلوغها إلى دم أمثالها, لأن الأمور الطبيعيات يستوي فيه ابن ات آدم مع تساوي الأسباب العامة. هذا هو الغالب المعلوم في العادة. كاستوائهن في النوم واليقظة واللذة والألم. وإذا كان ذلك كذلك، غلب على الظن عند بلوغها في الحيض مبلغ أمثالها أن الزيادة على ذلك خروج عن الأمر الطبيعي، ولحوق بالعلل والأمراض. وذلك يوجب الحكم يكون الزائد على أيام اللدات دم استحاضة قطعًا أو احتياطًا (¬2). فمنهم من حكم يكون هذا الدم الزائد على أيام اللدات دم استحاضة قطعًا. ومنهم من حكم به احتياطًا. وتظهر ثمرة الخلاف في مسائل منها جواز وطئها. فوقع في الموازية جوازه. وهذ ابن اء على أنها مستحاضة قطعًا. وقال بعض أصحاب مالك: تصلي وتصوم ولا توطأ. فإن انقطع الدم عند الخمسة عشر أشعر بانتقال عادتها في المحيض. وإن زاد على خمسة عشر تحققت الاستحاضته وقفت الصوم والصلاة الموقعين ما بين أيام لداتها والخمسة عشر يومًا. وهذ ابن اء على أنها مستحاضة احتياطًا. ومن ثمرة الاختلاف في ذلك قضاء الصوم والصلاة فإن هؤلاء أمروا ¬

_ (¬1) إن -و-. (¬2) قطعًا أو احتياطًا ساقطة من -و-.

بفضائها، كما حكيناه عنهم. ومن يراها مستحاضة قطعًا لا يأمرها بالقضاء. ومن ثمرة الاختلاف في ذلك الحكم في اغتسالها. فقد قال ابن الجهم تغتسل عند الخمسة عشر يومًا غسلًا هو الواجب عليها. ولو تركت ما أمرناها به من الصلاة لم تقضها وهذ ابن اء منه على أنها مستحاضة احتياطًا. وقد عبر بعضهم بناء على هذه الطريقة بأن الغسل عند انقضاء أيام اللدات مستحب، وعنوإنقضاء الخمسة عشر يومًا واجب. وهذه العبارة يجب عندي أن تحقق. لئلا تغلط من لا دربة له بالحقائق، فيتوهم أن الغسل مستحب فلا تأثم إن صلت بغير غسل. لأن من ترك مستحبًا لم يأثم. وليس الأمر كذلك. بل إن صلت بغير غسل أثمت بإجماع لأنها حائض صلت ولم تغتسل. والصلاة وإن كانت عند هؤلاء غير واجبة فالطهر لها واجب على من أراد الشروع فيها. وهذا كصلاة النافلة، هي غير واجبة. والوضوء واجب على من أراد الشروع فيها ولعل معنى قول هؤلاء أن الغسل مستحب، أنها لو تركته لتركها الصلاة لم تأثم. فهذا الإطلاق يجب أن يحقق هكذا. وأما من حكم بأنها مستحاضة قطعًا فلا ريب عنده في وجوب الغسل، لاعتقاده وجوب الصلاة عليها. ومن ثمرة الخلاف في ذلك أنها إذا وجبت عليها عدة كان مبدأ الطهر الذي هو عدتها، عند انقضاء أيام لداتها، عند من رآها مستحاضة قطعًا. ومبدؤه عند من رآها مستحاضة احتياطًا، عند ذهاب الخمسة عشر يومًا. ويظهر عندي فائدة ذلك في طلاقها حينئذ. هل يجبر الزوج فيه على الرجعة إذا كان الطلاق رجعيًا؟ فمن رآه استحاضة محققة لم يجبره على الرجعة. ومن جعله استحاضة على جهة الاحتياط لم يجعله طهرًا فيجبره على الرجعة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما الاستظهار بعد خمسة عشر يومًا (¬1) فالمشهور عندنا نفيه. لأنا (¬2) قد أقمنا الدليل على أنه أكثر مدة الحيض. وذلك يفيد كون الزيادة عليه استحاضة. وإذا تحققنا كونه استحاضة فلا معنى للاستظهار. وقد قيل تستظهر اليوم واليومين. وحكي عن ابن نافع أنها ¬

_ (¬1) يومًا ساقطة -ح-. (¬2) لأنه -و-.

تستظهر بثلاثة أيام. هكذا نقله عنه ابن حارث وبعض أشياخي. وأنكر بعض الأشياخ أن يكون ابن نافع حوإلاستظهار بحد. قال وإنما ذكر عنه أنه قال: تستظهر. ولعله أراد باليومين. لأن من الناس من قال أن أكثر الحيض سبعة عشر يومًا. ولم يقل أحد بالزيادة على ذلك فلا معنى لإثبات الاستظهار في أمد اتفق على أنه لا يبلغ أكثر الحيض إليه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في الاستظهار فقيل بإثباته. وقيل بنفيه. فوجه إثباته أن أكثر الحيض قد قصر هذا الدم عنه. والدم ربما زاد تارة ونقص أخرى، فوجب الاستظهار فيه لاختلاف حاله. لئلا تكون الزيادة جارية على ما عهد من إطلاقه (¬1). ووجه نفيه أنا إذا أمرناها بالاقتصار على أيام لداتها أو أمرنا المعتادة بالرجوع إلى العادة غلب على الظن أن ما زاد على ذلك ليس بحيض. فوجب أن يحتاط للصوم والصلاة. والاحتياط ينافي ثبوت (¬2) الاستظهار. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما حده بثلاثة أيام لما وقع في الحديث: واستظهري بثلاث (¬3). قال أصحابنا ولأنه خارج من البدن يفتقر إلى تمييزه. فاقتصر في التمييز على ثلاثة كما اقتصر في تمييز لبن التصرية على ثلاثة. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما الاختلاف في المعتادة فتوجيهه قد مر فيما تقدم لما تكلمنا عن أكثر الحيض، وعلى الرجوع إلى العوائد. لكن القائلون بالاستظهار ها هنا يختلفون. هل تستظهر المعتادة على أكثر عادتها لأنها لو استظهرت على أقلها لأمكن ألا تبلغ بالاستظهار زيادة على الأكثر من عادتها فيبطل الاستظهار، أو تستظهر على أقل عادتها احتياطًا للصلاة؟ بين القائلين بالاستظهار في ذلك اختلاف ووجهه هذا الذي أشرنا إليه. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إذا تمادى الدم بالمرأة وحكم ¬

_ (¬1) اختلافه في -و-. (¬2) والاحتياط في ثبوت -و-. (¬3) هو حديث ابنة مرشد الأنصارية أنه قال: إذا رأيت ذلك فامكثي ثلاثًا. البيهقي ج 1 ص 330. والحديث ضعيف. انظر الهداية ج 2 ص 41 - 44.

باستحاضتها فإنها تبقى عند مالك على هذا الحكم ما لم ينتقل الدم عن كيفية دم الاستحاضة إلى كيفية دم الحيض. فإنه إن انتقلت كيفيته إلى دم الحيض. وقد مضى من أيام الاستحاضة مبلغ أقل الطهر حكم بكونها حائضًا. وإن تغير دمها إلى دم الحيض قبل مضي أقل الطهر فلا اعتبار بهذا التغير. قال أبو حنيفة إنما تعتبر المستحاضة أيام عادتها من كل شهر فيحكم فيه بكونها حائضًا. ولم يعتبر التمييز. وقال الشافعي يعتبر التمييز في المميزة، وتعتبر الأيام في غير المميزة. ودليلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - وصف دم الحيض بأنه أسود ثخين (¬1). وهذا يقتضي اعتبار هذا الوصف. فمتى حصل، حكم بأنه حيض، ما لم يمنع منه مانع. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة (¬2). فمحمله عندنا على جنس الحيض لا على أيام الحيض، بدليل ما ذكرناه. فإن تمادى بالمستحاضة الحيض فهل تستظهر على أيام عادتها؟ فيه اختلاف بين من قال بالاستظهار. فمن أثبته قاس الثانية على الحيضة الأولى التي قبل الاستحاضة ومن نفى الاستظهار رأى أن الحيضة الثانية لما تقدمتها استحاضة حمل ما زاد على أيام العادة على الاستحاضة السابقة ورد الزائد إلى أصل تقدم وهو الاستحاضة بخلاف الحيضة الأولى التي لم يتقدمها أصل من الاستحاضة يرد هذا الدم الزائد إليه. قال القاضي رحمه الله: وإذا تقطعت (¬3) أيام الحيض والنفاس وجب التلفيق إلى أن تكمل الأيام المعتبرة في الجلوس ما لم يتخللها طهر كامل، فيكون ما بعده حيضًا مؤتنفُ ا. والصفرة والكدرة كالدم الأحمر والأسود. والحامل تحيض (¬4). ولا تمنع الاستحاضة شيئًا يمنعه الحيض. وللطهر علامتان. الجفوف والقصة البيضاء. وإذا طهرت الحائض لم توطأ إلا بعد الغسل. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش ولفظه إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف. وطعن في سنده ابن القطان وصححه الشيخ شاكر. تهذيب السنن لأبي داود ج 1 ص 682. كما رواه النسائي ج 6 ص 185. كما روي أبو داود عن مكحول النساء لا يخفى عنهن الحيضة أن دمها أسود غليظ. جمع الفوائد ج 1 ص 78. (¬2) رواه البخاري: الفتح ج 1 ص 445. ومسلم إكمال الاكمال ج 2 ص 101. كما رواه أبو داود ورواه الموطأ بلفظ فاترك الصلاة. الزرقاني ج 1 ص 109. (¬3) انقطعت في جميع النسخ ما عدا الغاني. (¬4) لا تحيض -غ-.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال: 1 - هل تلفق أيام الطهر كما تلفق أيام الحيض؟. 2 - ولم جعل الصفرة والكدرة كالدم؟. 3 - وما الدليل على أن الحامل تحيض؟. 4 - وما الجفوف وما القصة؟. 5 - وهل ينوب أحدهما عن الآخر؟. 6 - وما الدليل على أن الحائض لا توطأ إلا بعد الغسل؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اتفق المذهب على أن أيام الدم إذا تقطعت لفقت. واختلفوا في تلفيق أيام الطهر فيمن كانت تحيض يومًا وتطهر يومًا. فالمشهور من المذهب نفي الاعتبار بأيام الطهر وأنها مستحاضة لأنه يتلفق من دمها ما يزيد على أكثر الحيض من غير أن يفصل بين الدماء ما يكون طهرًا. فوجب كونها مستحاضة، لأنه قد يلفق من أيام الدم خمسة عشر يومًا، وذلك مبلغ أكثر الحيض. وتلفق من أيام الطهر خمسة عشر يومًا وذلك أقل أيام الطهر على مذهب بعض أصحابنا. فقد اشتمل الشهر على أكثر أيام الحيض وأقل أيام الطهر. ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة، بأنها تترك الصلاة نصف دهرها وهذا يقتضي كونها حائضًا في هذه الخمسة عشر يومًا. واختلف المتأخرون في جواز طلاقها في أيام طهرها على المذهب المشهور الذي لا، يلفق أيام الطهر. فمنعه أبو إسحاق وأجبر على الرجعة فيه إن وقع. واعتل بأن فيه تطويلًا للعدة وذلك منهي عنه. وأجازه غيره من الأشياخ واعتل بأن للزوج الطلاق في الطهر. وقد لا تحيض بعد اليوم الذي طلقها فيه. ولو حاضت لكان الحيض أمرًا طرأ من غير صنع المخلوق فلم يتوجه عليه النهي. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الصفرة والكدرة والغبرة عندنا حكمها حكم الحيض، إذا لم تر عقيب الطهر. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وقال أبو يوسف لا يكون حكمها حكم الحيض إلا أن يتقدمه دم يوم وليلة. وقال بعض الناس لا يكون حيضًا إلا أن تراه المعتادة في أيام العادة.

ودليلنا قول عائشة لما سئلت عن الصفرة لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء (¬1). وهي أعرف الناس بهذا المعنى وقد أجرت عليها حكم الحيض. وأما إن رأت ذلك عقيب طهرها من المحيض ولم يمض من الزمن ما يكون طهرًا فقد قال ابن الماجشون: إذا رأت المرأة عقيب طهرها قطرة دم أو كالغسالة فإنه لا يجب عليها الغسل منه. وإنما يجب عليها الوضوء. ووجه هذا قول أم عطية كما لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا (¬2). وقد اختلف في اسم الترية (¬3). فعند ابن الماجشون أنها القطرة أو الغسالة التي ذكرنا حكمها عنده. وقيل هي دم متغير دون الصفرة. وقيل هي الدفعة من الدم لا يتصل بها ما يكون حيضًا. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: الحامل تحيض عندنا. وقال أبو حنيفة الدم الذي تراه الحامل ليس بحيض. وهو دم علة وفساد. وقال الداودي لو أخذ فيها بالأحوط، فتصلي وتصوم. ولا يأتيها زوجها لكان حسنًا. وقد أشار ابن القاسم إلى قريب مما قاله الداودي. فقال في المطلقة إذا حاضت ثم أتت بولد، لو أعلم أنه حيض (¬4) مستقيم لرجمتها. وهذه إشارة إلى التشكك فيه. ودليلنا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (¬5). ولم يفرق بين حائل وحامل. وقد اضطرب المذهب عندنا في حكم حيضتها فقيل خمسة عشر يومًا، كما قيل في الحائل. وقيل قدر عادتها ولم يأمر بالاستظهار. وأمر به أشهب. ¬

_ (¬1) البيضاء ساقطة -و-. (¬2) هو حديث أم عطية وهو حديث صحيح. انظر الهداية ج 1 ص 51. (¬3) الترية = الخفي: وهو أقل من الصفرة وقيل هو الشيء الخفي اليسير من الصفرة أو الكدرة تراها المرأة بعوإلاغتسال من الحيض ووزنها تفعلة. لسان العرب ج 7 ص 77. (¬4) سقطت من النسخة الصفحة التي ينتظم بها الكلام إذ جاء في ص 43 الكلام عن الاشتقاق اللغوي للصلاة: وإن كان في أصل اللغة ... وسنبين موقع هذا الكلام من الشرح. (¬5) سورة البقرة، الآية: 222.

واختلفت عنه رواية المدونة. هل يأمر بالاستظهار بشرط أن تستريب أو بشرط ألا تستريب؟ فالاستبراء عند بعضهم أن يتأخر عن وقته، أو يزيد، أو ينقص في عدده. وعند بعضهم أن يرتفع في أول العمل لا غير. لأن الزيادة والنقصان قد تعرضر للحائل. وقيل بالرجوع إلى الاجتهاد من غير تحديد. وقيل بالرجوع إليه مع التحديد في الثلاثة أشهر ونحوها بخمسة عشر يومًا. وفيما بعد ستة أشهر اختلف هؤلاء. فقال بعضهم: عشرون يومًا. وقال بعضهم ثلاثون يومًا. وقيل الواجب عليها أن تضعف أيام عادتها في الشهر الثاني. وفي الشهر الثالث تثلث عادتها. وفي الرابع تربعه. وفي الخامس تخمسه هكذا إلى آخر أشهر العمل. واختلف هؤلاء إن زاد هذا التضعيف على ستين يومًا، هل يسقط الزايد أم يثبت؟ واختلف أيضًا هؤلاء في الاستظهار في حيضة أول شهر (¬1) خاصة. فأمر به بعضهم ولم يأمر به بعضهم. هذه جملة الأقو الذي حيض الحامل. وهذا اضطراب شديد من أصحابنا. وبعض أشياخنا يحمل هذا الاختلاف على من انجلت عليها عادتها في أيام كونها حائلًا. وسبب هذا الاضطراب الاختلاف في أصل المسألة. هل *تحيض الحامل أو لا؟ وكون* (¬2) العمل في غالب الحال حابسًا للدم. ثم إذا اندفع عند الوضع اندفع منه المقدار الكثير الذي قد يظن أنه هو المحتبس. فإذا اندفع في أثناء شهور العمل وقع الإشكال. وصار بعضهم إلى التضعيف، لظنه أن ما احتبس في كل شهر اندفع. ولا يمكن توجيه هذه الأقوال على التحقيق إلا بهذه الطريقة التي أشرنا إليها. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: القصة لفظة مستعارة استعيرت من الجير (¬3) المسمى بهذا الاسم. شبهت به في بياضها فسميت بذلك. وقد ¬

_ (¬1) الشهر -ق-. (¬2) ما بين النجمين ساقط -ق-. (¬3) هكذا في جميع النسخ. وفي اللسان: القَصة. والقِصة. والقص الجنة. لغة حجازية. وقيل الحجارة من الجنة - لسان العرب ج 7 ص 76.

مثلها مالك مرة بالبول ومرة بالمني. والجفوف انقطاع رطوبة الدم الذي من الرحم، فيجف الرحم لذلك. ويختبر بأن يدخل في الرحم ما يدخل، ثم يخرج (¬1) ولا رطوبة من ذلك عليه. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: القصة والجفوف كلاهما علامتان لزوال الحيض. فمن اعتاد من النساء إحدى العلامتين عول عليها إذا وجدها. فإن وجدت صاحبتها فهل يعول عليها أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال. فذهب ابن القاسم إلى أن القصة أبلغ في الدلالة على انقطاع الدم من الجفوف، فتطهر معتادة الجفوف عنده بالقصة. لأنها وجدت ما هو أبلغ. ولا تطهير معتادة القصة بالجفوف لأنها تترك عادتها لما هو أضعف في الدلالة. والأخرى تركتها (¬2) لما هو أبلغ في الدلالة. وقال ابن عبد الحكم بعكس هذا المذهب. ورأى أن الجفوف أبلغ في الدلالة فتطهر معتادة القصة به. ولا تطهير معتادته بالقصة. وذهب الداودي والقاضي وأبو محمَّد عبد الوهاب إلى أن كل واحدة من العلامتين تنوب عن الأخرى في الدلالة وقال ابن عبد الحكم بعكس هذا المذهب ورأى أن الجفوف أبلغ في الدلالة فتطهر معتادة القصة في حق من اعتادتها أو لم تعتدها. فوجه قول ابن القاسم أن الجفوف قد يعرض في أثناء الحيض لعارض يعرض. فلو كان دلالة بالغة لما عرض في أثناء الحيض. ووجه قول ابن عبد الحكم أن القصة هي مما يزجيها الرحم وتدفعها (¬3) الطباع. ولذلك قد يستشعر معه أن الطباع لم ينقطع دفعها. وهذا يوجب أن يكون أخفض رتبة من الجفوف الذي يعلم به عدم الدم حسًّا. ووجه ما قاله الداودي والقاضي أنهما رأيا أن العادة جرت بأن كل واحدة ¬

_ (¬1) ثم يخرج ساقطة -ح-. (¬2) تتركها -ق-. (¬3) وتدفعه -ح-ق-.

منهما علامة في انقطاع الدم، فاستوى في ذلك من اعتاد العلامة ومن لم يعتدها وهذا في المعتادة. وأما المبتدأة فقد وافق ابن القاسم على أنها إذا رأت الجفوف طهرت. قال بعضهم: وهذا منه جنوح إلى طريقة ابن عبد الحكم. وعندي أن الأمر ليس كما قدره هذا المتعقب على ابن القاسم لأن المعتادة خروجها عن عادتها يريب، فلا تنتقل عن العادة إلى ما هو أضعف. فإن وجدت ما هو أقوى وجب إطراح عادتها. والمبتدأة قد رأت الجفوف وهو علامة في نفسه. ولم تسترب لمفارقة عادة. وشتان بهن علامة استريبت، وعلامة لم تسترب. وإذا أمكن أن ينح وابن القاسم هذا النحو، فلا وجه لأن يضاف إليه التناقض أو الرجوع عن مذهبه. وهذا واضح. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف الناس في وطء الحائض إذا رأت الطهر، فمنعه مالك. وقال ابن بكير من أصحابنا: بالمنع منه استحبابًا لا إيجابًا. وقال أبو حنيفة: إن رأت الطهر بعد أكثر الحيض الذي هو عنده عشرة أيام حل وطؤها. وإن رأته قبل ذلك لم يحل وطؤها إلا بالغسل. ويتحقق (¬1) وجوب الصلاة عليها. ووجوب الصلاة يتحقق بآخر وقت الصلاة عنده. ودليلنا قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} (¬2). وقد اختلفت القراءة في يطهرن فقرئ بالتشديد والتخفيف. والظاهر أن التشديد يفيد الغسل والتخفيف يفيد زوال الدم. فإن قيل قد يفيد التشديد زوال الدم، قيل صيغة تفعل إنما تستعمل فيما يكتسب بمثل تكلم وتعلم. وزوال الدم لا يكتسب. فإن قيل قد قالوا: تكسر الكوز وتقطع الحبل. والكوز والحبل لا يكتسبان الفعل المضاف إليهما. قيل: هذا مجاز. والأصل في اللسان ما قلناه. فإذا ثبت هذا قلنا قد وضح (¬3) أن قوله حتى يطهرن على قراءة التشديد. يفيد منع الوطء قبل الاغتسال. وأما قراءة التخفيف فإن قلنا إن التخفيف يستعمل في ¬

_ (¬1) أو -ح-. (¬2) سورة البقرة، الآية: 222. (¬3) صح -ق-.

اللسان في الاغتس الذيقال: طهرت المرأة إذا اغتسلت، لم يكن بين القراءتين تعارض إذا حملنا يطهرن بالتخفيف على الغسل. وإن سلمنا أن الظاهر في قراءة التخفيف زوال الدم قلنا: هاتان قراءتان هما كآيتين. فكأنه قال في الآية لا تقربوهن حتى يزول الدم. وقال في آية أخرى لا تقربوهن حتى يغتسلن. فذكر غاية وذكر غاية بعدها. فيمنع ما بعد الغاية الأولى بما تضمنته الغاية الثانية، وتصير كآية ثانية زادت حكمًا. ويعضد هذا بقوله فإذا تطهرن. وهذا كلام متعلق بما قبله، تعلق الشرط بالمشروط. ولا شك في حمل هذا الكلام الثاني على الغسل؛ لأنه لم يقرأ إلا مشددًا. والتشديد يفيد الغسل. مع أنه سبحانه ختم الآية بالثناء على المتطهرين، ولا يثنى (¬1) على المكلف إلا بما يكتسب. وإذا ثبت حمل الكلام الثاني على الغسل، كان دليله أنهن إذا لم يتطهرن فلا تأتوهن، فقد صار دليل هذا الخطاب الثاني يطابق ما اقتضته قراءة التشديد. ويجب النظر في قراءة التخفيف. فيعلم أنها إنما تفيد إباحة الوطء من جهة دليل الخطاب، وأهل الأصول مختلفون في إثباته ونفيه. ولا شك في أن مثبتيه يثبتونه ها هنا. وأما نافوه فبينهم اختلاف فيما عُلق بحرف الغاية. هل ينفي طردًا للأصل أو يثبت لقوة دلالة الغاية على الغاية على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها؛ فإن قلن ابن فيه في مثل هذا لم يبق معارض يعارض قراءة التشديد. وإن قلنا بإثباته ها هنا وقلنا أن العرب تقول طهرت المرأة إذا اغتسلت، فقراءة التخفيف يحتمل أن يراد بها الغسل فتحمل عليه. وتكون قراءة التشديد المفيدة للغسل كالمفسرة لهذا الاحتمال الرافعة لهذا الإجمال. وإن قلنا إن الظاهر إفادة قراءة التخفيف لزوال الدم كان ما بعد هذه الغاية مستفاده الإباحة فيه من ناحية دليل الخطاب. وقد عارض هذا التأويل (¬2) عموم قوله ولا تقربوهن حتى يطهرن على قراءة التشديد. وعارضه أيضًا دليل قوله فإذا تطهرن فآتوهن لأن دليله (¬3) أنهن إذا لم يتطهرن لا تأتوهن. فهذان كدليلين تعارضا وترجح أحدهما على الآخر لمطابقة العموم له ¬

_ (¬1) ولا يقضى في -ح-. (¬2) الدليل -ح-. (¬3) دلالة -ق-.

فكان أولى. فإذا كان قوله تعالى فإذا تطهرن فأتوهن متعلقًا بما قبله تعلق الشرط بالمشروط فلا بد من إضمار على قراءة التخفيف لينتظم الكلام مرتبطًا بعضه ببعض فيكون التقدير فلا تقربوهن حتى يطهرن. فإذا طهرن وتطهرن فأتوهن. وفي هذا كفاية في إثبات الرجوع إلى قراءة التشديد. ومما يرجح به مذهبه من أخذ بقراءة التخفيف أنه يقول أن الله سبحانه ذكر أن المحيض أذى ونبه على أن ذلك علة لتحريم (¬1) الوطء فيه. فإذا زال الدم وعدم ذلك (¬2) فقد عدمت علة التحريم. فيجب أن يرتفع التحريم للوطء لارتفاع علته. وأجاب أصحاب قراءة التشديد على هذا بأن العلة قد ترتفع وتخلفها علة أخرى تقتضي إثبات مثل حكمها. كالوطء يمنع لأجل الصوم. فإذا حاضت الصائمة بطل الصوم وحرم الوطء لعلة أخرى وهي الحيض. والحائض وإن ارتفع دمها المانع للوطء فإن حكم حدث الحيض باق. وهو يمنع الوطء بالدليل الذي قدمناه. كما منعه نفس الحيض. فإذا ثبت أن الحائض لا يستباح وطؤها بزوال دم الحيض دون تطهير على ما أفادته قراءة التشديد فما هذا التطهر؟ اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال. جمهور العلماء على أنه الطهارة الكبرى التي هي غسل جميع الجسد. وصار قوم إلى أنها الطهارة الصغرى التي هي الوضوء. وصار آخرون إلى أنه غسل الفرج، وهؤلاء الصائرون إلى غسل الفرج حملوا الآية على الطهارة من النجاسة. وإنما ينجس الفرج خاصة فوجب قصر هذا الطهر عليه. ورأى آخرون أن الطهارة إذا أطلقت في الشرع فالمراد بها طهارة الحدث فاقتضى الشذوذ من هؤلاء على الطهارة الصغرى. لأنه أدنى ما يقع عليه الاسم العرفي عند أهل الشرع. ورأى الجمهور أن الطهارة الصغرى لا ترفع جميع موانع الحيض بإجماع الأمة. وإذا لم ترفعه فلا معنى لفعلها ولا وجه لحمل الآية عليها (¬3). ¬

_ (¬1) علة تحرم الوطء فيه -ح-. (¬2) ذلك ساقطة من -ح-. (¬3) كتب ناسخ النسخة -ح- نجز كتاب الطهارة بحمد الله وعونه وصلّى الله على محمَّد نبيه وعلى آله. وسفر في سفر خاص.

كتاب الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد وسلم كتاب الصلاة (¬1) قال القاضي رحمه الله: الصلاة من أركان الدين ومعالمه ومم ابن ي الإِسلام عليه. قال الإِمام رضي الله عنه أبو عبد الله المازري: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن يقال: 1 - ما الصلاة؟. 2 - وما معنى بناء الإِسلام على الصلاة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إن الصلاة في اللغة هي الدعاء. وزعم بعض أصحابنا أن أصل هذه التسمية الإقبال على الشيء واعتماده متقربًا إليه. وإنما سمي الدعاء صلاة لما فيه من هذا المعنى. وسمي وسط الظهر صلا لاعتماد البدن عليه وسمي الفرس الثاني مصليًا لأنه عند صلا السابق (¬2). وإن قلنا بهذا الاشتقاق، وأن أصل الصلاة الإقبال على الشيء تقربًا إليه فتسمية أهل الشرع الصلاة المعهودة صلاة جار على الاشتهار وغير خارج عن أصل اللغة. وكل جزء من أجزاء الصلاة وفعل من أفعالها تنطلق عليه التسمية حقيقة على أصل هذا الاشتقاق. لأن الراكع والساجد مقبل على ربه متقرب إليه بفعله. ¬

_ (¬1) من أول باب الصلاة إلى قوله لأنها وإن وقعت ص 220 أوراق غير موجودة من النسخة -ح-. (¬2) صلا السابق. قال اللحياني: إنما سمي مصليًا لأنه يجيء رأسه على صلا السابق وهو مأخوذ من الصلوين لا محالة. وهما مكتنفا ذنب الفرس فكأنه يأتي ورأسه مع ذلك المكان. لسان العرب ج 14 ص 466.

وإن قلنا إن الصلاة في اللغة الدعاء. وهذا المشهور عند العلماء. فيقال على هذا، تسمية أهل الشرع الصلاة المعهودة صلاة غير جارية على أصل اللغة. فهل يكون الشرع غير اللغة ها هنا أم لا؟ فاعلم أن هذا سؤال يتكلم عليه أهل الأصول. واختلف فيه الفقهاء والمتكلمون. فمنهم من ذهب إلى أن الشرع لم يغير اللغة في ذلك، وإلى هذا ذهب الأئمة من الأشعرية. ومنهم من ذهب إلى أن الشرع غير اللغة في ذلك كما غيرها في تسمية الحج والصوم. وإلى هذا ذهب المعتزلة وسموا هذا المعاني بالأسماء الشرعية. وسبب هذا الاختلاف أن المعتزلة لما رأت انطلاق هذه التسمية على الركوع والسجود وما في أثناء ذلك من قيام وقعود، وذلك ليس بدعاء دل على أن الشرع غير هذه التسمية وأقرها على غير إقرارها في اللغة. لا سيما إن لم يوجب قراءة أم القرآن المشتملة على الدعاء. أو كان المصلي لا يحسن قرانًا ولا ذكرًا. ولما رأت الأشعرية أن الصلاة مشتملة على الدعاء، لا سيما إن قلنا بإيجاب قراءة أم القرآن المشتملة على الدعاء، رأت أن الشرع لم يغير هذه التسمية وإنما أتى بإضافة أفعال إليها. وأخبر أن الدعاء لا يجزئ دون أن يقع على صفات من استقبال جهة، وإضافة أفعال إليه. فالتسمية جارية على مجراها في اللغة، وإنما أحدث الشرع زيادات وإضافات إليها، وذلك ليس بإزالة التسمية (¬1) عن قرارها في اللغة. والحق في ذلك يوضحه ضرب مثالين وذكر طرفين. فأقول: من زعم أن الشرع غير هذه التسمية كما يغير اسم الدار والفرس. فيسمي الفرس باسم الدار والدار باسم الفرس فقد باهت. لأن تسمية كل واحد من هذين لا ينطلق على الآخر في اللغة. لا كلية ولا جزئية ولا حقيقة ولا مجازًا. والصلاة المعهودة فيها الدعاء وما يقرب من معناه. ومن زعم أن الشرع لم يغير ذلك، ولا أحدث فيه حديثًا، كما لم يحدث في تسمية الدار دارًا أو الفرس فرسًا حدثًا. فقد أبعد. لأن الدعاء يسمى في اللغة صلاة على أي جهة وقع مفردًا غير مضاف إلى شيء. والصلاة المعهودة بخلاف ذلك. فإذا بان أن المسألة خارجة عن هذين الطرفين فلا بد من سلوك الوسط. فنقول قد علم من عادة العرب إطلاق الاسم على ¬

_ (¬1) هكذا. والأوضح: للتسمية.

معاني شتى. ثم قصره على بعضها عند كثرة دورانه، والحاجة إلى استعماله. كما قالوا طبيب لكل عالم. ثم قصروه على من يحسن تدبير الناس بالأدوية. وقال (¬1): فقيه لكل عالم ثم قصروه على من يحسن تدبير الناس بالشريعة. فغير بعيد تعارف أهل الشرع على قصر هذه التسمية على بعض الأدعية. وإن كان في أصل اللغة لجميعها (¬2). ولا يكون القاصر لهذه التسمية مغيرًا للغة ولا ناقلًا لها. لأنه إنما سكت عن استعمال التسمية في معنى. والساكت عن النطق غير مغير للغة ولا ناقل لها. وكذلك أيضًا عرف (¬3) من عادة العرب تسمية الشيء باسم ما قاربه (¬4) وتعلق به وكان بينه وبينه ارتباط. وكلما اشتد التعلق بالارتباط كان آكد في وقوع التسمية. وفي القرآن: إني أراني أعصر خمرًا (¬5). وإنما يعصر العنب وسمي خمرًا لخروج الخمر منه. وكذلك قوله: واسأل القرية (¬6). وإنما يسأل أهل القرية. ولكن لما بينهما من التعلق عبر عن أهلها باسمها. وإن كان ذلك كذلك. وكانت هذه الإضافات التي أضافها الشرع إلى الدعاء مرتبطة بالدعاء ملازمة له، صح انطلاق التسمية عليها بحكم اللغة. ومن سلك مسلك العرب في تسمية الشيء باسم ما قاربه وتعلق به فلا يقال إنه ناقل للغة ولا مغير لها. وكذلك أيضًا علم من عادة العرب الاستعارة والتشبيه. وقد استعاروا للشجاع أسدًا لما أشبهه في القوة. وللبليد حمارًا لما أشبهه في عدم اللهم. ومعنى الدعاء ومحصوله وثمرته طلب ما عند الله سبحانه. وكذلك معنى الذكر والسجود ثمرته طلب ما عند الله أيضًا. فتسميته باسم الدعاء الذي هو صلاة غير خارج عن اللغة ولا ناقل لها عن بابها. فإذا حصل في الركوع والسجود التعلق والارتباط، وعادة أهل اللسان إطلاق التسمية عليه، وحصل فيه المعنى والمحصول، وعادة أهل اللسان نقل التسمية إليه علم قطعًا أن إطلاق هذه التسمية غير خارج عن لغة العرب. بل (¬7) هي لغتهم وتسميتهم. لأنا لا نطلب ¬

_ (¬1) هكذا. والأصح وقالوا. (¬2) من هنا يتصل الكلام في النسخة -و- بعد السقوط الذي لاحظناه في آخر كتاب الطهارة. (¬3) علم -ق-. (¬4) قارنه -ق-. (¬5) سورة يوسف، الآية: 36. (¬6) سورة يوسف، الآية: 82. (¬7) هل -و-.

منهم أن يسموا لنا كل شخص بعينه رجلأولا كل نبيذ بعينه خمرًا. وإنما يؤصلون أصلًا، ويفهم (¬1) عنهم ضرورة إجرائه في كل ما حدث بعدهم. فالركوع والسجود على الصفة المعهودة مما حدث بعدهم، فاتبع أهل الشرع فيه طريقتهم. وأجروا عليه تسميتهم. فهذا هو الحقال في لا امتراء فيه. وطريقة الأئمة الأشعرية قد وضحت. ولكن بهذا التفصيل قد عمل الشرع في التسمية قصرًا واستعارة. وكلاهما طريقة أهل اللغة فلم يخالفهم ولا غير لغتهم. ولا وجه للغلو بأن يقال لم يعمل الشرع في ذلك عملًا بعد العمل الذي أوضحناه. وهذا العمل الذي عمل الشرع هو الذي غلط المعتزلة ومن تبعهم. ولو حقق النظر لم يبق بين الجميع اختلاف. وفي هذا كفاية. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: وأما قوله ومم ابن ي الإِسلام عليه فهو مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: بني الإِسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة (¬2). ولكن يجب أن نتكلم ها هنا على الإِسلام ما هو؟ وعلى هذا البناء كيف هو؟ فاعلم أن الإِسلام هو الاستسلام والانقياد، والإيمان شعبة منه. لأن الإيمان هو العلم بالله. والمؤمن مستسلم لله منقاد إليه لعلمه به. فكل إيمان إسلام. وليس كل إسلام إيمانًا. لأن المؤمن مستسلم لإيمانه للأبد. والمنافق قد يستسلم وينقاد للطاعة رهبة وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وقد فرق الله سبحانه بينهما فقال: قالت الأعراب آمنا. قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا (¬3). فجعلهم مسلمين غير مؤمنين. فإذا ثبت ذلك فسائر الطاعات والعبادات تسمى إسلامًا. لأن المطيع منقاد بعبادته، وطاعته لله سبحانه. وقد أمر الشرع بأن يطاع الله وينقاد إليه في أمور لا تكاد تحصى كثرة، فمنها المعاملات التي هي بين الخلق. ويندرج تحتها النكاح والعتاق والحدود والبياعات والإجارات وغير ذلك من ضروب المعاملات. ومنها العبادة التي لا تعلق لها بالمعاملات بل هي ¬

_ (¬1) ويفهمون. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد والطبراني ولفظه عند البخاري بني الإِسلام على خمس وعند مسلم على خمسة. فتح الباري ج 1 ص 55. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 14.

بين العبد وبين ربه، كالصلاة والصوم والحج وما أشبه ذلك. وهذه أشرف وأعلى قدرًا لأنها معاملة بين المخلوق والخالق. وتلد معاملات بين الخلق بعضهم لبعض. فلما كانت هذه العبادات المحضة خوطب بها الكل وهي مقصود الشرع. وشرعت ليطلب بها الكل الزلفى. وقد لا يحتاج مسلم للمعاملات، صارت هذه العبادات من هذه الجهة كالأساس للبناء الذي لا قوام له إلا به. ولا ينفع المسلم في الآخرة عند الموازنة لأعماله (¬1) طاعته في المعاملات وإهماله لهذه العبادات، كما لا يصح بناءٌ بغير أساس. لا سيما وقد ذهب بعض الناس إلى أن مجرد ترك الصلاة كفر. ولا شك أن من كفر لا يصح أن ينبني (¬2) له عمل. فمن هذه الجهة التي أشرنا إليها، كانت الصلاة وما ذكر معها أن كان بني الإِسلام عليها لما كانت هي المقصود في الشرع والعماد على ما ذكرناه. قال القاضي رحمه الله: وهي في الشرع على أقسام خمسة: 1 - فرض على الأعيان. 2 - وفرض على الكفاية. 3 - وسنة. 4 - وفضيلة. 5 - ونافلة. (¬3). قال الشيخ رضي الله عنه يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما فائدة تقييده بقوله في الشرع؟. 2 - وما الفرق بين فرض العين والكفاية؟. 3 - وما الفرق بين السنة والفضيلة والنافلة (¬4)؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما قيد بقوله في الشرع لأنا ذكرنا ¬

_ (¬1) لأعماله ساقطة -و-. (¬2) يبقى -ق-. (¬3) نافلة وفضيلة -و-. (¬4) النافلة ساقطة -و-.

أن الصلاة في اللغة الدعاء والإقبال على الشيء. وهي في الشرع هذه الأفعال المعهودة فقيد بذكر الشرع حتى يعلم أن التقسيم لما أفادته التسمية العرفية خاصة، وأنه من جهة الشرع، انقسمت إلى هذه الخمسة أقسام. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا (¬1) خوطب المسلمون بأمر ما، فلا يخلو ذلك الخطاب من قسمين: أحدهما: أن يكون قيام البعض بذلك الأمر يسقط الطلب عن الباقين. والثاني: أن يكون لا يسقطه. فإن كان يسقطه فهو المسمى فرض كفاية. والمعنى في ذلك أن الشرع اكتفى بقيام البعض عن فعل الآخرين. وأن الفاعلين كفوا التاركين مؤونة الفعل. وهذا كخطاب المسلمين بالقضاء والفتيا (¬2) وتغيير المنكرات. فإن الخطاب متوجه لكل من يصلح له أو يتأتى منه. فإذا قام (¬3) لذلك من أزاح العلة فاذهب المنكر وقضى بين الخصوم وأرشد المستفتين، سقط الفرض عن الباقين. وإن لم يقم بذلك أحد عصى كل من خوطب به وبقي الفرض متوجهًا على الجميع. لأن فرض الكفاية متوجه على أصله على الأعيان كما بيناه (¬4). وإنما يسقط عن بعض، قيام بعض، كما بيناه. وإن كان قيام البعض لا يسقط الخطاب عن الباقين فهو المسمى فرض أعيان. والمعنى أن الشرع خاطب به كل عين، ولم يجعل فعل بعض يسقط الفعل عن بعض. وهذا كالصلاة والصوم وشبه ذلك (¬5). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: السنة ما رسم ليحتذى به. فالواجب يسمى سنة على هذا. وهو طريقة من طرق صاحب الشرع. وأصل ¬

_ (¬1) إنما -و-. (¬2) والفتوى -ق-. (¬3) قدم -و-. (¬4) بيناه ساقطة -ق-. (¬5) وشبهه -ق-.

السنة الطريقة. لكن غلب على السنة الفقهاء إطلاق هذه التسمية على المراسم التي لا يحرم تركها. والواجب يحرم تركه. فلا يطلقون عليه هذه التسمية في غالب محاوراتهم. وقد ذكرنا في كتاب الطهارة من كتابنا هذا تأويل من تأول قول من قال غسل النجاسة سنة على أنه وجب من جهة السنة. وكأن هذا خارج عما ذكرنا ها هنا من غالب عادتهم. وإنما نبهناك عليه لتعرف شذوذه عن عادة الإطلاق عندنا. وقد يعتاد خلاف هذه العادة آخرون. ولا وجه للمناقشة في العبارة. وكذلك أيضًا يطلق الفقهاء لفظة الرغائب. والواجبات مرغب فيها. فالاشتقاق يقضي بكونها من الرغائب. لكنهم لا يختلفون في الامتناع من إيقاع هذه التسمية على الواجبات. وأما النافلة فهي الزيادة وسميت بعض المندوبات نوافل، لكونها زيادة على الفرض. وأصل الاشتقاق يقتضي إطلاق التسمية على سائر المندوبات لكون جميعها زيادة على الفرض. لكنهم لم يستعملوها أيضًا في الجميع. وكذلك قولهم فضيلة إنما يطلقونها على البعض من المندوبات. وإن كان أخذًا (¬1) من الفضل (¬2) فالواجب فيه فضل. وإن كان آخذًا من الفضلة (¬3) فالمندوبات كلها كالفضلة مع الواجبات. هذا اشتقاق هذه التسميات وإجراؤها على حكم الاشتقاق. ولكنهم اصطلحوا على قصرها على معاني ليتميز كل نوع من صاحبه بمجرد النطق بتسميته. فسموا كل من علا قدره في الشرع من المندوبات. وأكد الشرع أمره وحده وقدره، وأشاده وأشهره سنة كالعيدين والاستسقاء. وسموا ما كان من الطرف الآخر بالعكس من هذا، نافلة. وسموا ما توسط بين هذين الطرفين فضيلة. هذا سر القوم في إطلاق هذه التسميات، وهي مما يكثر جريانها على ألسنة أهل الشرع. وعليها يبنى ما نتكلم عليه بعد هذا إن شاء الله. فيجب الوقوف على حقيقتها. ¬

_ (¬1) وإن كان أخذ. هكذا في جميع النسخ والأولى أخذًا بالنصب خبر كان. (¬2) من الفضائل -و-. (¬3) من الفضيلة -و-.

قال القاضي رحمه الله تعالى: فالفرض على الأعيان الصلوات الخمس التي هي الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، والفجر. ووجوب الجمعة داخل في وجوب الظهر؛ لأنها بدل منها. إذ لا يجتمع وجوبهما لأنهما يتعاقبان. والفرض على الكفاية، الصلاة على الجنازة. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن يقال: 1 - ما معنى قوله في الجمعة أنها بدل من الظهر إذ لا يجتمعان في الوجوب بل يتعاقبان؟. 2 - ولم قال إن الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في صلاة الجمعة هل هي صلاة الظهر مقصورة أو صلاة غيرها؟ واختلف الناس أيضًا في زوال الشمس يوم الجمعة هل هو سبب في (¬1) وجوب الظهر وصلاة الجمعة جميعًا أم هو سبب في وجوب (¬2) صلاة الجمعة خاصة لمن كان من أهلها؟ ومذهبنا ما أشار إليه القاضي أبو محمَّد من أنهما لا يجتمعان في الوجوب. والواجب عندنا صلاة الجمعة لا الظهر. والأولى تأخير الكلام على هذا إلى باب صلاة الجمعة فسنتكلم فيه (¬3) إن شاء الله على حقيقة هذا الاختلاف وفائدته، ونوضح الحق فيه. وقد مضى لنا القول في تسمية القاضي أبي محمَّد التيمم بدلًا. وتعقب من تعقب عليه ذلك بأن البدل ما جاز فعله مع التمكن من المبدل منه. ولا شك أن المتعقب عليه ذلك، يتعقب عليه تسمية صلاة الجمعة بدلًا عن (¬4) الظهر. وقوإنفصلنا هنالك عن هذا التعقب. وقد أشار القاضي أبو محمَّد ها هنا إلى معنى مراده بالبدلية. وأنه أراد بها ما حصل بين هاتين الصلاتين من التعاقب. لأن من خوطب بالجمعة سقط عنه الخطاب بالظهر. ومن خوطب بالظهر سقط عنه ¬

_ (¬1) في ساقطة -و-. (¬2) وجوب ساقطة -ق-. (¬3) عليه -و-. (¬4) عن -ق-.

الخطاب بالجمعة. فكأن كل واحدة منهما تنوب عن صاحبتها إذا سقطت. وهذه المعاقبة والتعاقب معنى معقول عند أهل العلوم (¬1) يستعمله المتكلمون والنحاة وأهل العروض. ومراد جميعهم به نحو مما قلناه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما قوله إن صلاة الجنازة فرض على الكفاية فهو أحد القولين عندنا وقدمنا معنى فرض الكفاية. وفي المذهب قول آخر إنها سنة. ويحتج من قال بأنها فرض بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموتى. وأفعاله على الوجوب عند بعض أهل الأصول. إلى غير ذلك مما تأَخُّرُ بسطه إلى كتاب الجنائز أولى وأحق. قال القاضي رحمه الله: والسنة على ضربين: سنة مبتدأة. إما لأوقات وإما لأسباب تفعل عندها. وسنة مشترطة (¬2) في عبادة غيرها. فالأول هو السنة المفردة (¬3) وهي خمس: 1 - صلاة الوتر. 2 - وصلاة العيدين. 3 - وصلاة كسوف الشمس (¬4). 4 - وصلاة الاستسقاء. 5 - واختلف في ركعتي الفجر. فقيل إنهما (¬5) سنة. وقيل من الرغائب. والثاني (¬6) ركعتا الطواف. والركوع عند الإحرام. *قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما معنى قوله إما لأوقات وإما لأسباب تفعل عندها؟. 2 - ولم قال: إن هذه الخمس سنن؟. ¬

_ (¬1) العلم -ق-. (¬2) مشتركة -غ-. (¬3) المنفردة -غ-. (¬4) أما السنن المعلقة بأوقات فصلاة العيدين والوتر والكسوف والاستسقاء -و-. (¬5) أنها -الغاني. (¬6) والضرب الثاني -الغني.

3 - وما معنى الاختلاف في ركعتي الفجر؟ * (¬1). فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما السنن *المعلقة بأوقات فصلاة العيدين -والوتر - وركعتا الفجر- إن عدتا في السنن. وأما السنن المعلقة بأسباب فكصلاة الكسوف والاستسقاء* (¬2). وقد فصل القاضي أبو محمَّد القول في هذا بعد ذلك. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الوتر، فالمشهور عندنا أنها سنة. وقال أبو حنيفة إنها واجبة. وليست بفرض بناءً على أصله في أن الواجب غير الفرض. وقال سحنون يجرح تاركها. وقال اصبغ يؤدب (¬3). وحمل بعض شيوخنا المذهب على قولين في إيجابها، تعلقًا بهذا الذي حكيناه عن سحنون واصبغ. واعتذر بعض الأشياخ عما قاله سحنون، بأنه إنما جرحه بترك الوتر لأن تركها عنوان بسوء حاله، وعلامة على استخفافه بأمور الديانة. ولم يجرحه بأنه ترك واجبًا. والتجريح يكون بما يسقط من المروءة. لأن سقوط المروءة يخرم الثقة بالشاهد. وهذا الاعتذار يمنع أن يكون سحنون يخالف المذهب ويقول بالإيجاب. ولا أحفقالهذا الشيخ اعتذارًا عن اصبغ. والتأديب شديد، والعقوبة إنما تكون على ترك الواجبات. اللهم إلا أن يكون تركه للوتر، وتكرر (¬4) ذلك منه يؤذن باستخفافه بأمور الديانة. فيعاقبه على استخفافه. فعلى هذا لا يكون يضاف إليه أنه رأي أن أصل الوتر واجب. وقد قال محمَّد بن خويز منداد من استدام ترك السنن فسق. فإن تركها أهل بلد، فإن امتنعوا حوربوا. وقال أيضًا من ترك السنن متهاونًا فسق. فأما أبو حنيفة فقال بالإيجاب لورود خبر الواحد به. وخبر الواحد يوجب العمل لا العلم. وما كان هكذا سماه واجبًا. ولم يسمه فرضًا. والخبر الوارد ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬2) يؤدب تاركها -ق-. (¬3) أما السنن المعلقة بأوقات فصلاة العيدين والوتر والكسوف والاستسقاء -و-. (¬4) ترك -و-.

عنده بذلك قوله: (من لم يوتر فليس منا) (¬1). وقوله: (إن الله زادكم صلاة وهي الوتر) (¬2). والزيادة إنما تكون من جنس المزيد عليه. والمزيد عليه الصلوات الخمس. وإنما يكون الوتر من جنسها إذا كانت واجبة. وأما مالك فاستدل على نفي الوجوب بما استدل به عبادة بن الصامت رضي الله هـ تعالى عنه على إنكار قول من قال بالوجوب بقوله عليه الصلاة والسلام: "خمس صلوات كتبهم الله في اليوم والليلة. فمن وفي بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة" (¬3) الحديث. فحصر فرض الصلوات في خمس. وجعل ثمرة الوفاء بهن دخول الجنة. ولو كانت صلاة سادسة واجبة لن يصح هذا الحصر. وقد قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما سأله عن الصلاة فقال: "خمس صلوات. فقال: هل علي غيرهن؟ فقال: لا .. إلا إن تطوع" (¬4). وهذا نص في أن لا يجب عليه غيرهن. وأن ما زاد عليهن تطوع. وقد قال الأعرابي: لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أفلح إن صدق". فوصفه بالفلاح مع إخباره (¬5) أنه لا يزيد عليهن. فلو كانت الزيادة واجبة لما وصفه بالفلاح. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر على الراحلة (¬6). والفروض لا تجوز على الرواحل. وهذه أدلة واضحة اقتضت تأويل قوله: من لم يوتر فليس منا. على أن المراد به المبالغة في تأكد الوتر. وأنه ليس منا بمعنى أنه غير ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود عن بريدة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا. وفي سنده عبد الله بن عبد الله العككي ضعفه بعضهم. جامع الأصول ج 6 ص 42. (¬2) أخرجه أحمد في مسند أبي بصرة الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ زادكم صحة فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح: الوتر - الوتر". ج 6 ص 397 ورواه الطحاوي والطبراني. إرواء الغليل ج 2 ص 158. (¬3) رواه مالك. الزرقاني ج 1 ص 290 وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن محيريز. جامع الأصول ج 6 ص 45. (¬4) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي. فتح الباري ج 1 ص 114 كتاب الإيمان. (¬5) مع أنه أخبره -ق-. (¬6) رواه البخاري عن ابن عمر باب الوتر في السفر. فتح الباري ج 3 ص 142. ورواه الترمذي وأحمد.

جار على طريقتنا في إقامة السنن. وأما وصفه الوتر بأنه زيادة فلا يقتضي وجوبها. وإنما سميت النافلة نافلة لأنها زيادة. ولم يقض هذا الاشتقاق وجوب النوافل. والكلام على ما سوى الوتر أخرناه لأبوابه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد تقدم البيان على معنى السنة والفضيلة. وأن قصد الفقهاء باختلاف هذه العبارات اختلاف المراتب في الأجور والتحضيض. فإذا تقرر هذا فمن عبر عن ركعتي الفجر بأنهما سنة، رأى أنهما بلغا من مراتب الأجور والتحضيض ما يقتضي أن سميا بهذه التسمية. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لهما أحب إلى من الدنيا وما فيها" (¬1). وهذه مبالغة في تفضيلهما. ومن لم يصفهما بأنهما سنة أعتقد أنهما ناقصين في التحضيض والمبالغة في التأكيد من بلوغ المرتبة التي تقتضي الوصف بالسنة، وفي هذا كفاية (¬2). وينبغي أن يتأمل تحرير القاضي أبي محمَّد في عبارته لما ذكر ركوع الحج فقال: ركعتا الطواف والركوع عند الإحرام. وهذه إشارة منه إلى أنه لم يشتهر في أصل الشرع الاقتصار على ركعتين عند الإحرام كما اشتهر الاقتصار عليهما عقيب الطواف. فلهذا لم يقل ركعتا (¬3) الإحرام كما قال ركعتا الطواف. قال القاضي رحمه الله: والفضيلة. 1 - تحية المسجد. 2 - وصلاة خسوف القمر. 3 - وقيام شهر رمضان. 4 - وقيام الليل. 5 - وسجود القرآن. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم. إكمال الاكمال ج 6 ص 10. وأخرجه البخاري: فتح الباري ج 6 ص 106. (¬2) كفاية لما ذكر -ق-. (¬3) ركعتي -و-.

قال الشيخ رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال: 1 - لم قال إن تحية المسجد فضيلة؟. 2 - ولم قال إن صلاة الخسوف فضيلة كذلك؟. 3 - ولم أفرد قيام رمضان عن قيام الليل؟. 4 - ولم قال إن سجود القرآن فضيلة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في تحية المسجد فقال داود بوجوبها. وقال جمهور الفقهاء بنفي الوجوب. فتعلق داود في إثبات الوجوب بالحديث الوارد بالأمر بتحية المسجد. ونفى جمهور العلماء الوجوب بحديث الأعرابي السائل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الصلوات فقال - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلوات في اليوم والليلة. قال هل علي غيرهن؟ قال: لا. إلا إن تطوع" (¬1). فنفى وجوب ما زاد على الخمس. وأثبته تطوعًا. وتحية المسجد زائدة على الخمس. فوجب أن تكون تطوعًا. ونحمل الحديث الذي تعلق به داود على الندب لأجل هذا الحديث الذي ذكرناه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما عد صلاة خسوف القمر في الفضائل لقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر خسوف القمر والشمس: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" (¬2). فأمر بالصلاة عند ذلك. وذلك يقتضي كونها طاعة فيها فضل. وتقاصرت عن صلاة كسوف الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالناس في صلاة كسوف الشمس وأظهر الصلاة وأشهرها (¬3). وذلك يؤذن بعلو مرتبتها في الندب (¬4). فوصفت بأنها سنة. ولم يفعل ذلك في صلاة خسوف القمر فلم توصف بأنها سنة على ما أصلناه في حقيقة السنن والفضائل. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) طرف من الحديث رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة رضي الله عنها. فتح الباري ج 6 ص 156. (¬3) شهرها -و-. (¬4) بالندب -و-.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد ورد في الشرع التحضيض على قيام الليل. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1). وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬2). وقد اشتهر في الشرع فضيلة قيام الليل. لكن الفصيلة تتفاضل. فجاء في قيام ليل رمضان ما يدل على علو مرتبته على غيره من الليالي. فقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬3). فوعد بغفران الذنوب السالفة بقيام رمضان. ولم يعد بذلك في غيره من الليالي. فدل على تأكيد فضله. وقد جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة (¬4) على قارئ يصلي بهم التراويح في رمضان. ولم يجمع الناس في غيره من الليالي. فدل ذلك على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانت ترى لقيام ليالي رمضان مزية على غيرها من الليالي. فلما علم القاضي أبو محمَّد هذا الذي أشرنا إليه خص قيام رمضان بالذكر فقال: وقيام رمضان. وقيام الليل ليشعر باختلاف مرتبتهما في الفضل. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في سجود التلاوة. فذهب أبو حنيفة إلى وجوبه لما ورد في القرآن من الأمر بالسجود فقال تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (¬5). وقال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (¬6). ومدح آخرين فقال: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (¬7). وفي الحديث الصحيح: إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة. وأمرت بالسجود فأبيت فلي ¬

_ (¬1) سورة المزمل، الآية: 1. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 79. (¬3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان 27 ومسلم في باب الترغيب في قيام رمضان. اللؤلؤ والمرجان ص 435. (¬4) الصحابة ساقطة -و-. (¬5) سورة النجم، الآية: 62. (¬6) سورة الانشقاق، الآية: 21. (¬7) سورة مريم، الآية: 58.

النار (¬1). ودليلنا على نفي الوجوب ما روي: أن قارئًا قرأ بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يسجد ولم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) وقال: كنت إمامًا فلو سجدت لسجدت معك. فلو كان واجبًا لما أقره - صلى الله عليه وسلم - على ترك السجود ولا سوغه ترك ما يأثم بتركه. وقد قال عمر بن الخطاب على المنبر بحضرة الصحابة: إن الله سبحانه لم يكتبها علينا إلا أن نشاء (¬3). فصرح بإسقاط الوجوب ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة الحاضرين. فدل ذلك على أن الوجوب ساقط عندهم. على طريقة من قال من أهل الأصول: إن القول المنتشر في الصحابة في مسألة من مسائل الاجتهاد، إذا (¬4) لم يظهر نكيره فإنه يكون كالمذهب ""المجمع عليه. وما وقع في القرآن محمول على الندب بدليل ما قلناه. وما وقع فيه من الذم فمحمول على من ترك السجود كفرًا واستكبارًا. ألا تراه يقول سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} (¬5). وأما الحديث الذي ذكرناه فإنه أثبت السجدة مأمورًا بها على ما حكاه من قول إبليس. والمأمور به يكون واجبًا، ويكون ندبًا على مذهب المحققين من أهل الأصول. وقد عد القاضي أبو محمَّد سجود القرآن في الفضائل. وحمل بعض الأشياخ على المذهب أنه سنة لإشارة (¬6) بعض روايات المذهب إلى أنه يسجد بعد صلاة العصر كما يصلي على الجنازة حينئد. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والنافلة ركعتان بعد الظهر وبعد المغرب (¬7) وقبل العصر ووقت الضحى. وسائر ما يتنفل به ابتداء غير متعلق بسبب يقتضيه ولا وقت بعينه. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم. إكمال الاكمال ج 1 ص 187. (¬2) روى البخاري أن زيد بن ثابت قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والنجم. فلم يسجد فيها. فتح الباري ج 3 ص 209. ورواه مسلم وأخرجه البيهقي أيضًا عن يبيح بن يبيح. السنن ج 3 ص 321. (¬3) أخرجه البيهقي. السنن ج 3 ص 321. (¬4) فإذا -و-. (¬5) سورة الانشقاق، الآيتان: 21، 22. (¬6) لاشارات. (¬7) ساقطة -الغاني -و-.

قال الشيخ رضي الله عنه: قد حصرنا القول في حقيقة السنة والنفل والفضل والنافلة. وحققنا الفرق بين معاني هذه التسميات. فإذا أحطت علمًا بما قلناه هنالك فلا شك أن كل ما يتطوع به الإنسان من سائر الصلوات الغير مؤقتة، كالوتر وركعتي الفجر والعيدين، ولا متعلقة بسبب كالكسوف، ولا حض الشرع عليها تحضيضه على السنن والفضائل فإنها نافلة. وإنما خصص القاضي أبو محمَّد ما ذكر من النوافل لاستمرار عمل الناس بها. ولما وقع في بعض الأحاديث من الترغيب فيها. فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من ثابر على اثنتي عشرة ركعة أربع قبل الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر. بني الله له بيتًا في الجنة (¬1). إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة بتفضيل ما سماه من فضل الصلوات النوافل. وقد أكد بعض أصحابنا أمر الركعتين بعد المغرب حتى جعلهما قريبًا (¬2) من ركعتي الفجر. قال القاضي رحمه الله: فإذا ثبت هذا فالصلوات الخمس التي هي فرض على الأعيان. من جحد وجوبها فهو كافر، ومن تركها أو واحدة منها معترفًا بوجوبها غير جاحد لها، فليس بكافر، ويؤخذ بفعلها ولا يرخص له في تأخيرها عن وقتها. فإن أتى بها (¬3) وإلا قتل. ولها أوقات مختلفة الأحكام منها أوقات لا يجوز تقديمها عليها ولا تأخيرها عنها. وتنقسم إلى أوقات *توسعة وتضييق* (¬4) ومنها ما يتعلق به الفوات ومنها ما لا يتعلق به. ونحن نبين ذلك إن شاء الله. ¬

_ (¬1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بني الله له بيتًا في الجنة، أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر. أخرجه الترمذي وعلق عليه بأنه حديث غريب من هذا الوجه، ولأن في سنده المغيرة بن زياد وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. العارضة ج 2 ص 207 - 208. وأخرجه النسائي ج 3 ص 261. وأخرجه ابن ماجة ورقمه 1140. وكلاهما من نفس الطريق. (¬2) قريبتين -ق-. (¬3) أتاها -غ-. (¬4) ما بين النجمين ساقط من -و-.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما فائدة تقييده بقوله التي هي فرض على الأعيان؟ 2 - وما الدليل على أن من جحد وجوبها كافر؟ 3 - وما الدليل على أن من تركها غير جاحد لها فليس بكافر؟ 4 - وما الدليل على أنه إن لم يفعلها قتل؟ 5 - وما الوقت الذي يقتل إذا أخرها عنه؟ فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما قيد بقوله التي هي فرض على الأعيان لأنه ذكر أن الفروض خمس، والسنن خمس. فلو قال من جحد الصلوات الخمس كان كافرًا. وقد قدم ذكر خمس صلوات فرائض، وخمس صلوات سنن" لكان الكلام غير محرر. لأنه قد يظن ظان أنه أراد الخمس السنن. وأراد كل واحدة من الخمس المذكورة. فحرر كلامه بأن قال: الخمس التي هي فرض على الأعيان. فخرجت الخمس صلوات السنن بهذا التقييد عن أن تدخل فيما أخذ في (¬1) الكلام عليه. وهذا من حذقه في التأليف. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد تقرر الإجماع على أن من كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أتى به عن الله سبحانه فإنه كافر. وقد علم ضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء عن الله سبحانه بفرض الصلوات الخمس وأنه أوجبها على المسلمين. فمن قال: إنها ليست بواجبة، فقد كذبه. ومن كذبه كان كافرًا. فإن قيل فقد جيء بإيجاب أشياء اختلف فيها الفقهاء ولم يكفر بعضهم بعضًا. ألا ترى أن أبا حنيفة يقول إنه جاء بإيجاب صلاة الوتر وهو لا يكفر مالكًا والشافعي في إنكار إيجابها. ويقول مالك أنه جاء بإيجاب قراءة أم القرآن في الصلاة وهو لا يكفر أبا حنيفة في إنكار وجوبها إلى غير ذلك من المسائل التي يطول تعدادها. قيل إيجاب هذه الأمور المختلف فيها إنما وجب عند من قال به بأخبار آحاد وردت بذلك. وأخبار الآحاد لا يعلم صحتهالأولا يقطع على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما نقل عنه فيها. فإذا أنكر منكر الوجوب فيمكن أن يكون إنكاره لأنه لم ¬

_ (¬1) في ساقطة -و-.

يسمع الخبر أو سمعه ولم يثبت عنده ثقة ناقله. أو ثبت (¬1) عنده ثقته، ولكنه قد روي له ما يخالفه أو ظهر له قياس أبطله عنده، أو تأول لفظة على معنى غير ما تأوله عليه من أوجب. فإذا أمكن صرف إنكار الوجوب إلى أحد هذه المعاذير، لم يصح القطع على أن المنكر إنما أنكر الوجوب تكذيبًا للنبي صلى الله عليه وسلم. كيف وكل واحد من الفقهاء إذا أنكر وجوب شيء مما قلناه صرح مخبرًا عن نفسه أنه إنما أنكر ما أنكره (¬2) لبعض الوجوه التي ذكرناها. والصلوات الخمس قد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجبها علمًا ضروريًا، فلا ينصرف القول بأنها غير واجبة إلا إلى تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلهذا كفر من أنكر وجوبها ولم يكفر الفقهاء بعضهم بعضًا فيما اختلفوا في وجوبه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في تكفير من ترك الصلاة مع الاعتراف بوجوبها. فذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه ليس بكافر. وذهب أحمد بن حنبل وطائفة من أهل الحديث إلى أنه كافر تعلقًا بالحديث الوارد فيه أن بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة (¬3). ودليل الجماعة أن الدليل قد قام على أن الإيمان هو العلم بالله وملائكته ورسله والتصديق بذلك. وهذا من أفعال القلوب، والصلاة من أفعال الجوارح. فلا يضاد ترك أفعال الجوارح هذه الأفعال التي في القلب. فإذا لم يكن بينهما تضاد وصح وجود الإيمان في القلب مع ترك الصلاة ولم يقم دليل قاطع على أن ترك الصلاة عَلَمٌ على الانسلاخ من الإيمان" فيثبت الكفر من هذه الجهة. وهذا دليل واضح في إبطال (¬4) التكفير بذلك. وفي الحديث الثابت أن من لم يوف ¬

_ (¬1) يثبت. (¬2) ما أنكر -ق-. (¬3) رواه مسلم عن جابر أن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. إكمال الاكمال ج ص 188. وروي بين الكفر والإيمان ترك الصلاة. وبين العبد والكفر ترك الصلاة. جامع الأصول ج 5 ص 203. (¬4) انطلاق -و-.

بالصلاة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة (¬1). ولو كان كافرًا لما أدخل (¬2) الجنة للإجماع على أنه لا يدخلها كافر. ويتأول الحديث الذي تعلق به أحمد على أن القصد به المبالغة .. وأن التهاون بها واستخفاف تركها يقرب من الانسلاخ من الإيمان. أو يحمله على أن المراد به إن دمه يستباح بترك الصلاة كما يستباح بالكفر. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس فيمن اعترف بوجوب الصلاة ثم تركها هل يقتل أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والماتريدي إلى أنه لا يقتل بل يحبس. وذهب مالك والجمهور من أصحابه (¬3) إلى قتله إذا امتنع من الصلاة حتى مضى وقتها. وقال ابن حبيب إنما يقتل إذا امتنع، وقال لا أصلي. وأما إن قال أصلي ولم يفعل لم يقتل. والدليل لمالك قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (¬4). فشرط في تخلية السبيل من القتل إقامة الصلاة، فاقتضى ذلك أنه إذا لم يقمها لم يخل سبيله من القتل. وفي الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم" (¬5). الحديث. وهذا مطابق لما تأولناه من القرآن. لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه مأمور بالقتال وجعل غاية ارتفاع القتال إقامة الصلاة وما ذكر معها. وذلك يقتضي أنه لا يعصم دم من لم يقم الصلاة. وقد تقرر في الشرع أن في (¬6) ركوب بعض فروع الدين الوارد النهي عن ¬

_ (¬1) هو من حديث طويل لكعب بن عجرة قال: إن ربكم عَزَّ وَجَلَّ يقول: من صلي الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافًا بحقها، فله علي عهد إن أدخله الجنة. ومن لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافًا بحقها فلا عهد له. إن شئت عذبته وإن شئت غفرت له. حسنه المنذري وضعفه الهيثمي. بلوغ الأماني ج 2 ص 239. (¬2) دخل -و-. (¬3) من أصحابه ساقطة من -و-. (¬4) سورة التربة، الآية: 5. (¬5) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد عن ابن عمر. فتح الباري ج 1 ص 82. (¬6) في ساقطة -ق-.

ارتكابها ما يوجب إراقة الدم كالزنى مع الإحصان. فوجب أن يكون في تركه ما أمر به من فروع الدين إراقة الدم. وليس إلا الصلاة. وقد قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة وقاسها على الصلاة. ولم يكن جميعهم جاحدًا للوجوب. ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة لما أظهر وجه الحجة فيه. وأما أبو حنيفة فإنه تعلق (¬1) بقوله: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (¬2) ولم يذكر فيها ترك الصلاة. والجواب عن هذا أنا نثبت زيادة استحلال الدم بخصلة تزيد على الثلاث إذا دل الدليل عليها. وقد دل الدليل الذي ذكرناه على إراقة دم من لم يصل فوجب الرجوع إليه لأنه اقتضى زيادة على الحديث الذي تعلقوا به. وما قدمناه من الأدلة يدل على إبطال ما قاله ابن حبيب؛ لأنه لا فرق بين من (¬3) يقول أصلي ويمتنع من الصلاة، أو يقول لا أصلي ويمتنع. لأن الترك حاصل في الحالين. ولا فائدة في قول لم (¬4) يوف به. فأما أن يقال إن مجرد الترك كفر يمنع من الموارثة كما قال أحمد بن حنبل. أو ليس بكفر ولكن يبيح الدم حدًا لا كفرًا (¬5). كما قال مالك. أو يقال ليس بكفر ولا يبيح الدم كما قال أبو حنيفة. فهذه الثلاثة مذاهب قد تقدم توجيهها. وأما التفرقة بين أن يقول أفعل أو لا أفعل، وهو غير فاعل في الوجهين، فلا معنى لها. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المعروف من المذهب عندنا أنه لا يقتل حتى يبقى بينه وبين آخر الوقت الضروري مقدار ركعة، فحينئذ إن لم يصل قتل على اختلاف بين أصحابنا. هل يراعى مقدار ركعة بسجدتيها؟ أو مقدار الركوع من غير سجود؟ فالمشهور مراعاة الركعة بسجدتيها. ومذهب أشهب أنه يكون مدركًا للصلاة بإدراك مقدار الركوع دون السجود فلا يقتل عنده هذا حتى يبقى مقدار الركوع خاصة. ولا يعتبر قدر قراءة أم القرآن لأنه قد قيل ¬

_ (¬1) يتعلق -و-. (¬2) رواه البخاري في الديات. حديث 87. ورواه مسلم في القسامة. اللؤلؤ والمرجان. الحديث رقم 1091. (¬3) إن -و-. (¬4) في قول من لم -و-. (¬5) كتبت في النسختين حدا الأكثر.

عندنا أنها ليست بفرض في كل ركعة. وقد يعتذر أنه سيقرأها فيما بعد الركعة الأولى فلا يكون تاركًا لها في كل الصلاة. وعلى هذا لا تراعى الطمأنينة لأنها مختلف في وجوبها عندنا. وذكر ابن خويز منداد أن المعتبر مقدار أربع ركعات للعصر قبل الغروب مع القول باعتبار الوقت الضروري. وكان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يقول: إذا راعينا الخلاف لم يقتل حتى يبقى من آخر الوقت مقدار تكبيرة لقول جماعة من أهل العلم أنه يكون مدركًا لوقت الصلاة بمقدار التكبيرة. وهذا التحفظ على صيانة الدم، طرف نقيض ما ذكره ابن خويز منداد من أنه إنما يؤخر إلى آخر الوقت الاختياري. فإن لم يصل قتل. وهذا القول ليس بشيء إلا أن يركب قائله أن ما بعد الوقت الاختياري ليس بوقت للأداء. وإنما هو وقت للقضاء. وأن المؤخر إليه يأثم. فحينئذ يصح ما قال. وأما إن سلم أن التأخير عن وقت الاختيار لا إثم فيه، وأنه وقت للأداء، فيكون ما ذكره خطأ صراحًا. ويلزم عليه أن يقتله إن امتنع من صلاة الظهر بعد الزمن القريب من الزوال. وهذا لم يقله أحد. وكيف يصح أن يقال به. والله سبحانه أجاز له التأخير عن الزوال، حتى قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يتحقق وجوب الصلاة إلا عند آخر وقت الصلاة. ولا يتحقق الوجوب بأول الوقت. وهذا واضح لا يفتقر إلى إطناب. وأما ما ذكره ابن خويز منداد أيضًا من مراعاة أربع ركعات قبل الغروب فقد يتجه إذا أثمنا من أوقع بعض العصر متعمدًا بعد الغروب. وسنتكلم على تأثيمه في موضعه. وقد رأيت أصحابنا اختلفوا فيمن عليه قضاء صلوات فوائت فامتنع من قضائها هل يقتل أم لا؟ فقال بعضهم يقتل وكأنه رأى أن الحديث قد اقتضى كون الوقت الذي ذكر فيه الصلاة المنسية كالوقت الأصلي المتعين للأداء. فإذا دل الدليل على وجوب القتل إذا أخر عن الوقت الأصلي لتعينه للأداء، وجب القتل إذا أخر عن الوقت الذي تعين للقضاء. وقال بعضهم لا يقتل واعتل بأن قضاء الفوائت مختلف فيه، وإقامة الصلاة التي لم يفت وقتها واجب بإجماع. فخالف حكمها حكم الفوائت. وعندي أنه قد يعتل لهذا القول أيضًا بأن قضاء الفوائت لا تجب المبادرة فيه ولا يلزم الفور كما يلزم من ضاق عليه آخر وقت الصلاة. وقد أجاز مالك رضي الله عنه لمن عليه

فوائت كثيرة أن يقضي منها ما تيسر، ثم ينصرف في أشغاله قبل استكمال قضاء ما عليه. فأنت تراه كيف سامح في التأخير. ولا يقال ها هنا إنما سمح به للعذر بالشغل؛ لأن من ضاق وقت الصلاة عليه لا يسامح بالتأخير ولو عنّ له من الشغل ما عنّ. ولو كان مالك إنما سامح بالتأخير للعجز عن الإتيان بجملة الصلوات الفوائت لأمكن أن ينصب هذا فرقًا بين الحاضرة والفوائت (¬1). وأما المسامحة في الفوائت لأجل الشغل فلا وجه له إلا ما أشرنا إليه من أن التعجيل لا يجب وجوبه في الصلاة التي لم يذهب وقتها. ويؤكد هذا الاعتلال أيضًا قولهم فيمن امتنع عن الحج أنه لا يقتل. وما ذاك إلا لأن له التراخي فيه عند بعض العلماء. فلما لم يتأكد الفور لم يجب القتل. وهذا يوضح صحة اعتلالنا لهذا المذهب. فصل قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: الأوقات وقتان: وقت أداء ووقت قضاء. فأما القضاء فيذكر فيما بعد. وأما وقت الإداء فعلى خمسة أضرب: وقت اختيار وفضيلة. ووقت إباحة وتوسعة. ووقت عذر ورخصة. ووقت سنة يأخذ شبهًا من وقت الفضيلة والعذر. ووقت تضييق عن (¬2) ضرورة. وفائدة الفرق بين وقت الاختيار والفضيلة وبين وقت الإباحة والتوسعة، أن وقت الاختيار والفضيلة يتعلق به من الثواب والفضل أكثر مما يتعلق بوقت التوسعة (¬3) من غير مأثم يلحق بتأخيز العبادة إلى وقت التوسعة. وذلك كفضيلة أول الوقت على وسطه، وفضيلة وسطه على آخره. وفائدة الفرق بين وقت العذر والرخصة، وبين وقت الإباحة والتوسعة، أن له تأخير الصلاة عن وقت ¬

_ (¬1) الفائتة -ق-. (¬2) وضرورة -و-ق-. (¬3) الإباحة والتوسعة -الغاني-.

الفضيلة إلى وقت الإباحة والتوسعة ابتداء من غير عذر. لولاه لم يكن له تأخيرها (¬1)، إما حظرًا وإما ندبًا كتأخير الصلاة عن أول الوقت إلى آخره. وليس كذلك في العذر والرخصة. لأنه إنما أبيح لوجود العذر أو لتوقعه على طريق الرفق مع صحة أدائه في الوقت المختار وإمكانه كترخيصنا للمسافر إذا أراد الرحيل وخاف أن يجد به السير أن يجمع بين الظهر والعصر عقيب الزوال. وإذا كان راكبًا أن يؤخر المغرب الميل ونحوه. وكرخصة الجمع بين الصلاتين في المطر. وأما الوقت الآخر شبهًا من وقت الفضيلة والعذر فهو وقت سنة وفضيلة يؤتى بها (¬2) في وقت العذر والرخصة. وذلك كالجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة لأن هذا في صورة وقت العذر والتوسعة (¬3). وهو مع ذلك فضيلة وسنة. وأما وقت التضييق والضرورة فهو تقديم العبادة على الوقت المتعلق بالفضيلة التي لا تجوز قبله لولا الضرورة لم تقدم عليه. أو تأخيره (¬4) إلى الوقت الذي يتعقبه الفوات. ولولا (¬5) الضرورة لم تؤخر إليه. وهذا الوقت لخمسة للحائض تطهير. والمغلوب يفيق. والكافر يسلم. والصبي يبلغ. والمسافر يقدم. والحاضر يسافر وقد (¬6) نسي صلاة. وكل قسم من هذه الأقسام يرد بيانه في موضعه إن شاء الله إلا أن البداية ها هنا بأوقات الوجوب التي يتعلق الأجزاء بها وفي امتدادها وضيقها (¬7). ثم نعقب ذلك بفروض الصلاة وسننها ثم ما يقتضيه الحال من ترتيب الأبواب (¬8). قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الوقت؟ ¬

_ (¬1) تأخيرها -مثبتة في الغاني، ساقطة من النسخ الأخرى. (¬2) بهما -غ-. (¬3) الرخصة -غ -ق-. (¬4) أو تؤخر -غ-. (¬5) الواو ساقطة -الغاني-. (¬6) ومن قد نسي -الغاني-. (¬7) وهي امتدادها وصفتها -ق-. (¬8) الأوقات -ق-.

2 - وما الفرق بين الأداء والقضاء؟ 3 - ولماذا يتعلق الوجوب من آخر الوقت؟ 4 - ولم فضل أوله على وسطه ووسطه على آخره؟ 5 - وما معنى قوله إما حظرًا وإما ندبًا؟ 6 - وما معنى قوله لوجود العذر أو لتوقعه مع صحة أدائه في الوقت المختار وإمكانه؟ 7 - ولم ذكر الفرق في جواز التأخير ومثل في المسافر بالتعجيل؟ وبقية ما يتعلق بالباب من المسائل أخرناه لموضعه لأنه قد قال: إن كل قسم من هذه الأقسام سيرد بيانه في موضعه. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الوقت فإنه يعبر به في عرف التخاطب غالبًا عن حركات الفلك المتضمنة لليل والنهار. فإذا ظهرت الشمس علينا سمي نهارًا. وإذا غربت سمي ليلًا. ولكن الأصل مع هذا أن الوقت لا يتخصص لموجود بعينه، وإنما الأصل في ذلك أن يعرض شيئين (¬1). أحدهما معلوم ومقرر. والآخر في حكم المستبهم المستور. فإذا كان المعلوم منهما متجددًا وقارن تجدده وجود القسم الآخر المستبهم، كان المتجدد المعلوم وقتًا للآخر يذكر ليشعر بمقارنته (¬2) للمستبهم حالة تجدده. وبيان ذلك بالمثال: إنك تقول جاء فلان قبل طلوع الشمس. فلما كان طلوع الشمس أمدًا متجددًا معلومًا وزمن مجيء فلان مجهول، قرن مجيئه بطلوع الشمس لترتفع الجهالة والاستبهام. وكذلك لو فرضنا أن طلوع الشمس خفي على رجل لقلنا له طلعت الشمس وقت دخول زيد عليك، فيكون وقت (¬3) دخول زيد وقتًا لطلوع الشمس. لأن دخوله أمر متجدد معلوم عند هذا، وطلوع الشمس أمر خفي عنه فقرن له بما علم لترتفع الجهالة. وقد تكون هذه المقارنة في معدوم فتقول: ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) لمقاربته. (¬3) ساقطة -ق-.

جئتك عند زوال المطر، ووجدت الحركة عند عدم السكون. وهذه حقيقة الوقت أصليًا وعرفيًا. وعلى هذا جرى الأمر في قولنا: وقت صلاة الظهر الزوال. والصبح طلوع الفجر. لأن الزوال متجدد معلوم وفعل الصلاة مفتقر إلى زمن، ولكن الزمن في حكم المستبهم، فأزيل الاستبهام بمقارنة الوجوب للزوال. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الأداء فعبارة عن وقوع الفعل مطابقًا للأمر ممتثلًا فيه أمر الآمر. فوقت الأداء هو الذي يكون الفعل فيه امتثالًا للآمر. والقضاء عبارة عن إيقاع الفعل بعد تصرم الوقت الذي يكون بالفعل فيه ممتثلًا، كمصلي الصبح ما بين الفجر وطلوع الشمس. فلما كان الأمر ورد بصلاتها حينئذ كان فعلها إذ ذاك امتثالًا. وكان فعلها بعد طلوع الشمس قضاء. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في العبادة المؤقتة بوقت يمكن إيقاعها في بعضه، بماذا يتعلق الوجوب من الوقت؟ فمذهب الشافعية بأوله. ومذهب الحنفية بآخره. وقال الكرخي بفعل الصلاة، أو بآخره. وعند جمهور المالكية بجميعه. وقيل بل يتعلق بزمن واحد يسع فعل العبادة، ولكنه غير معين. وإنما يتعين إذا أوقع الملكف العبادة فيه. وقد قال أبو الوليد الباجي إن هذا المذهب هو البخاري على أصول المالكية؛ لأنهم يقولون إن الأمر إذا ورد بالتخيير بين أشياء فالواجب منها واحد غير معين وإنما يذهب إلى وجوب جميعها من أصحابنا ابن خويز منداد. هذه جملة المذاهب في ذلك. فإذا قيل بماذا يتعلق الوجوب في وقت صلاة الصبح مثلًا أجريناه على هذه المذاهب، فيكون الوجوب تعلق عند الشافعية بطلوع الفجر. وعند الحنفية بمقدار ما يسع الصلاة قبل طلوع الشمس وعند المالكية بما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وعلى ما خرجه أبو الوليد بقدر ما يسع الصلاة مما بين هذين الوقتين، ولكنه غير معين. فأما الشافعية فالرد عليهم يهون وذلك إنا نقول من أخر الصلاة عن طلوع الفجر قليلأهل يكون آثمًا؟ فلا بد من القول إنه لا إثم عليه. فإذا صح أنه لا إثم

عليه، قيل لهم هل هو ممتثل مؤد للعبادة على حسب ما اقتضاه الأمر أم لا؟ فلا بد من القول إنه ممتثل مؤد للعبادة على حسب الأمر. فإذا كان مطيعًا لا آثمًا ومؤديًا لا قاضيًا وممتثلًا لا مخالفُ ا. فما معنى إنكار الوجوب في هذه الحال؟ وأي فرق بين هذا الوقت المفروض وبين أول الوقت وكلاهما ممتثل مؤد؟ وإثبات فضيلة لأول الوقت على وسطه لا توجب مخالفة بين أول الوقت ووسطه في الوجوب لما بيناه من اجتماعهما في الامتثال ومطابقة الأمر. وأما الحنفيون فالرد عليهم لا يهون وذلك أنهم يقولون: حقيقة الواجب ما لا يجوز تركه أو يقولون حقيقة الواجب ما يتعين فعله فإذا كان هذا هكذا وأجمع على أنه يجوز ترك الصلاة لآخر الوقت. وأن فعلها لا يتعين في أوله ولا في وسطه انحصر الوجوب في آخره. لأن التأخير عن آخره لا يجوز. وفعلها حينئذ يتعين. فإذا كانت حقيقة الوجوب إنما ثبتت في آخر الوقت خاصة اختص بالوجوب وانتفى عن أوله كما قالت الشافعية وعن جميعه كما قالت المالكية، واعلم أن هذا الذي قالوه صعب موقعه. ولما رأى القاضيان أبو بكر ابن الطيب وأبو محمَّد عبد الوهاب توجه هذا الذي قالوه لم يجدا عنه مخلصًا مع علو قدرهما في هذا العلم إلا بأن أثبتا العزم بدلًا عن تقدمة الصلاة. ورأيا أن إباحة الترك في أول الوقت لم تكن مطلقًا وإنما كان إلى بدل وهو العزم على أدائها قبل تقضي الوقت. وجواز ترك الواجب إلى بدل لا يخرج الفعل عن كونه واجبًا. كما أن ترك المكفر بالإطعام لا يخرج العتق عن كونه واجبًا. وممن أثبت العزم وتابع القاضيين على إثباته، من (¬1) أنكر تسميته بدلًا، لكون الإنسان مأمورًا بالعزم على الصلاة إذا خطرت بباله ولم يدخل وقتها. والصلاة إذا لم يدخل وقتها لم تجب، وإذا لم تجب لم يكن العزم بدلًا عما لا يجب. وقد اشتد نكير أبي المعالي لإثبات العزم ورأى أنه لم يقم على إثباته دليل وادعى أنه ليس في الأمة من يؤثم من أضرب عن إخطار العزم بباله. وإن الصلاة قد علم من الشرع تعين وجوبها. وإثبات العزم مخيرًا بينه وبين الصلاة يخرج الصلاة عن تعين الوجوب. وأشار إلى أنه إن قيل بتأثيم من مات في وسط الوقت ولم يصل ¬

_ (¬1) من - مبتدأ مؤخر.

على ما ذهب إليه بعضهم فإن ذلك يحقق كون الصلاة واجبة وإن لم يثبت العزم بدلا. لأن حصول التأثيم يثبت للشيء حقيقة الواجب. ولا استنكار في إثبات واجب مفسح في وقته، ويحصل الإثم بتركه إلى الموت. فإن لم نقل بالتأثيم فلا وجه لإنكار ما قاله الحنفيون من تعلق الوجوب بآخر الوقت. هذه طريقة أبي المعالي في هذه المسألة. واعلم أنه كما أنكر على القاضي أبي بكر إثبات العزم واستبعد أن يكون في العلماء من يؤثم من ترك العزم، فكذلك يجب عليه أن يستبعد ما حكاه عن بعض أصحابه من تأثيم من مات في وسط الوقت ولم يصل. فإنه لا يظن بأحد من العلماء أيضًا ممن سلف أنه يؤثم من مات بعد الزوال بقليل أو بعد الفجر بقليل لتأخيره الصلاة عن الزوال والفجر. ولعلنا أن نبسط ما عندنا في ذلك فيما نمليه من أصول الفقه إن شاء الله. وأمَّا ما قاله أبو الوليد الباجي من أن البخاري على أصول أصحابنا أن الواجب من الوقت ما توقع فيه الصلاة. وإنما يتعين بفعل المكلف قياسًا على قول أصحابنا في الكفارة عن اليمين بالله سبحانه، فإنه عندي غير مسلم له. ويجب أن تقدم على التعقب عليه، إن أهل الأصول جعلوا هذه المسألة مسألة اختلاف. فحكوا عن المعتزلة أنها ترى أن وجوب الخلال الثلاث التي خير بها (¬1) الحانث وهو مذهب ابن خويز منداد. وأن الأشعرية وجمهور الفقهاء يرون أن الواجب منها واحد لا بعينه. ولا يتصور عندي بين القوم اختلاف يرجع إلى معنى. وإنما تناقش القوم في عبارة فأطلق بعضهم الوجوب على جميعها لما كان كل واحد منها يحل محل الآخر في إبراء الذمة وحصول الامتثال وتعلق الأمر بها (¬2) تعلقًا متساويًا. ورأى الآخرون أن الذمة تبرأ بفعل أحدها (2) ولا يأثم بترك ما سواه إجماعًا. وما لا إثم فيه لا يوسف بالوجوب، فلهذا أنكر هؤلاء إطلاق القول إن جميعها واجب. فإذا وضح أن القوم مختلفون في عبارة، عدنا إلى ما قاله أبو الوليد، فقلنا لو ترك ما ذكر من الخلاف على ظاهره لم يجب أن تكون مسألة ¬

_ (¬1) فيها -ق-. (¬2) بهما - أحدهما -و-ق-.

الوقت مثله (¬1) لأن الأوقات يعبر بها عن حركات الفلك غالبًا. وذلك لا يدخل تحت التكليف ولا يوسف بوجوب ولا ندب. وإنما يوسف بأنه محل للأفعال ومتعلق للأحكام. والإطعام والإعتاق يدخلان تحت التكليف وهما نفس ما خوطب به المكلف. فإن كان ترك أحدهما لا يأثم فيه إجماعًا فلا يوصفان جميعًا بالوجوب. وأمّا الزمن فإن معنى قول أصحابنا إن جميعه متعلق به الوجوب أي محل للفعل المخاطب به. فأي وقت صلى فيه المكلف فإنه محل الوجوب ومتعلق الخطاب ولا تسقط عنه هذه التسمية بإيقاع الصلاة في غيره (¬2) لأنها وإن وقعت في غيره فإنه محل لها. ألا ترى أنهم يقولون الجوهر محل للحركة وإن كان في حين قولهم ساكنًا. فإن أنكر أبو الوليد تسمية ما لم تفعل فيه الصلاة محلا، قيل له هذه مناقشة في عبارة. ومراد القوم ما قلنا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اعلم أنا وإن قلنا بأن جميع أجزاء الوقت محل للوجوب ومتساوية في تعلق الخطاب بالإيجاب، فإنا (¬3) لا ننكر دخول الندب في الواجبات. لأن الندب، وإن كان مناقضًا للواجب، فإنه إنما يتعلق بصفة أو حال يقع عليها الواجب، وذلك غير مناقض لأصل الوجوب. ألا ترى أن صلاة الظهر واجبة. ولما كان فعلها في الجماعة (¬4) حالًا للصلاة أو صفة لها تعلق الندب بذلك. وكذلك جميع أجزاء الوقت محل الوجوب (¬5). ولكن يتعلق الندب ببعضها بمعنى أن الأجر في هذا الواجب إذا فعل في أول الوقت أكثر من الأجر إذا فعل في آخره. فإذا وضح معنى الفضل ها هنا قلنا: الدليل على ما قاله القاضي أبو محمَّد من تفضيل أول الوقت على وسطه وتفضيل وسطه على آخره. قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬6). والمراد فعل ما ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) اعتمدنا من هنا النسخة -1 - مع النسختين -و-ق- ذلك أن النقص الناشئ عن الصورة المطموسة لثلاث وعشرين صفحة يتم عند أول الصفحة 220. (¬3) فإنه لا ينكر -و-. (¬4) الجماعات في -و-. (¬5) للوجوب -و-. (¬6) سورة آل عمران، الآية: 133.

يوجب المغفرة، والصلاة من أعظم ما يوجبها. فاقتضى عموم الآية أن المسارعة والمبادرة بها (¬1) مأمور بها. وقد قال عمرو: "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" (¬2). وقد ذكرنا عن أبي المعالي أنه حكى عن بعض أصحابه أنه يؤثم من مات في وسط الوقت ولم يصل. وهذا المذهب لو صح لكان تقدمة أول الوقت معقولٌ معناه لأن المؤخر على غرر وركوب خطر في لحوق التأثيم به. ومع هذا فإن هذا يفتقر إلى تفصيل فإن الصلوات قد تختلف في ذلك. ويختلف حال الفذ وحال الجماعة. ورأينا تأخير الكلام على تفصيل ذلك إلى الفصل الذي يلي هذا. فإن القاضي أبا محمَّد تعرض فيه بشيء من تفصيل ذلك. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما تشككه في ذلك فإنه إنما أشار به إلى ما سنتكلم عليه إن شاء الله من تأخير الصلاة عن وقت الاختيار. هل يلحق به الإثم أم لا؟ كمن أخر العصر إلى الاصفرار والمغرب إلى أن غاب الشفق. فالمسافر إذا أخر الصلاة عن الوقت المختار لأجل العذر بالسفر فإنه لو أخرها إلى ذلك الوقت مختارًا من غير عذر لكان منهيًا عن ذلك. والنظر في هذا النهي هل هو على الحظر أو الكراهية؟ يرد بيانه فيما بعد إن شاء الله. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أَمَّا مراده بقوله لوجود العذر في السفر؛ لأن السفر الذي هو عذر أباح التأخير في المغرب على ما قال موجود حين تأخير الصلاة. وأما قوله لتوقعه، فكجمع المسافر في المنهل لتوقعه أن يجد به السير على ما قال. والمريض أيضًا يباح له الجمع لتوقعه أن يغلب على عقله. وأما قوله مع صحة أدائه في الوقت المختار وإمكانه، فإن مراده به أن المسافر وإن أبيح له التأخير لعذر فإنه لو تجشم المشقة وأوقع كل صلاة في ¬

_ (¬1) بها ساقطة -ح-. (¬2) أفضل الصلاة في أول وقتها. رواه أبو داود والترمذي. والحاكم عن أم فروة رضي الله عنها. قال السيوطي في الجامع الصغير صحيح. وذكر في الفيض القدير أن الصدر المناوي وغيره قالوا في سنده عبد الله بن العمري وهو غير قوي. وقد تكلم فيه يبيح من جهة حفظه. وقال ابن حجر في إسناده اضطراب. فيض القدير ج 2 ص 25.

وقتها المختار لكان ذلك سائغًا. بخلاف وقت (¬1) السنة فإن الحاج إذا أفاض من عرفة أمر بتأخير المغرب. ولو أوقعها في الوقت المختار لنهي عن ذلك. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما غرضه بيان كون العذر هو المبيح للخروج عن الوقت المختار إما بالتقديم، أو بالتأخير. وأنه بذلك فارق (¬2) حكم الاختيار. وقد ذكر التأخير بعد ذكره التعجيل فاستوفى النوعين جميعًا. على أنه قد ذكر في وقت الضرورة تقديم العبادة على الوقت المتعلق بالفضيلة. وهذا مما يعد عليه تناقض القول فيه. لأنه عد تعجيل العصر في قسم العذر والرخصة، ثم بعد ذلك في قسم الضرورة، ومزجه بين القسمين في آخر الفصل لما صلح (¬3) فيه المعنيان. لأن التعجيل رخصة، سببها (¬4) ضرورة السفر. فمزج العبارتين في موضع وأفردهما في القسمين. وحقيقة المذهب عده في قسم العذر والرخصة. وأما قسم الضرورة فإنما هو مختص في ضيق الوقت وخوف فواته عندنا. فصل قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: أما وقت الظهر الذي لا تجب قبله ولا يجوز تقديمها عليه فهو زوال الشمس ومعرفة ذلك في غالب الأحوال هو بأن تقيم عودًا مستويًا فترى ظله (¬5) أول النهار طويلًا ممتدًا ثم لا يز الذي نقصان مع ارتفاع النهار كلما قرب من الزوال إلى أن ينتهي إلى حد يقف عنده، ثم يعود في الطول فذلك هو الزوال. قال الإِمام رضي الله هـ تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: ¬

_ (¬1) ساقطة من -و-. (¬2) خالف- ق -ح-. (¬3) صح -ق-. (¬4) يسببها -و-. (¬5) ظله ساقطة -و- ق -ح-.

1 - لم بدأ بالكلام على وقت الظهر؟ 2 - ولم تحرز بقوله ولا يجوز تقديمها؟ 3 - وما الطريق لإثبات الأوقات؟ 4 - وما طريق معرفة الإظلال؟ فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما بدأ بالكلام على الظهر دون ما سواها من الصلوات (¬1) اتباعًا في تعليم الناس تعليم جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه لما نزل عليه وصلى به يعلمه الأوقات، بدأ بصلاة الظهر (¬2). ولهذا سميت الأولى لأنها أول ما بين جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وسميت الظهر مأخوذًا من الظهيرة وهي شدة الحر. فلما كانت تفعل في شدة حر النهار سميت بهذا الاسم. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما تحرز بقوله لا يجوز تقديمها عليه؛ لأن من العبادات ما يجب عند وقت، ويجزئ تقدمته (¬3) عليه كتقدمة الزكاة قبل الحول، فإنها تجزئ إذا كان زمن (¬4) التقدمة يسيرًا عندنا. وتجزئ وإن كان كثيرًا عند المخالف. فبين القاضي أبو محمَّد أن الصلاة بخلاف ذلك لا يجوز تقديمها على وقتها. وأيضًا فقد ذكر في تقدمتها على الزوال عن ابن عباس شيء في ذلك. فلعله تحرز منه لأنه ذكر وإن لم يثبت. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الأوقات فقد ورد فيها بيانان. أحدهما في القرآن والآخر في السنة. والذي في السنة أوضح وأوعب. فأما الذي في القرآن فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (¬5). فاختلف الناس في المراد بقوله دلوك الشمس. فذهب بعضهم إلى أن المراد به غروب الشمس. ومذهبنا أن المراد به زوال الشمس. ودلوك الشمس ميلها. فعندنا أنه ميلها عن وسط السماء مغربة. وعند المخالف أنه ¬

_ (¬1) الصلوات ساقطة -و-. (¬2) شرح الزرقاني على الموطأ ج 1 ص 13. وسنن البيهقي ج 1 ص 364. (¬3) بتقدمته -ح- في تقدمته -ق-. (¬4) زمان -و-. (¬5) سورة الإسراء، الآية: 78.

ميلها عن الأفق غاربة. وقد اختلف المذهب في مقتضى هذه الآية. فقيل المراد بدلوك الشمس صلاة الظهر. والمراد بغسق الليل صلاة العتمة التي تفعل في ظلمة الليل، وغسقه. والمراد بقرآن الفجر صلاة الصبح. وقيل المراد بدلوك الشمس صلاة الظهر والعصر. وبغسق الليل المغرب والعشاء. وبقرآن الفجر صلاة الصبح. فتضمنت على المذهب الأول ثلاث صلوات، وعلى المذهب الثاني الخمس صلوات (¬1). وسبب هذا الاختلاف أن تعجيل العصر وتقريبها من الزوال ليس بوقت مختار *ولكنه وقت لها عند بعض الأسباب والأعذار. فهل تحمل الآية على الوقت المختار* (¬2) فلا يشار بالدلوك إلى العصر ولا بالغسق إلى المغرب لأن تأخير المغرب أيضًا إلى الغسق لا يختار. أو يحمل الدلوك على الظهر والعصر لأنهما يفعلان عند الزوال لأسباب وأعذار، ويحمل الغسق على صلاة المغرب والعشاء لأن المغرب تؤخر إلى الغسق لأسباب وأعذار (¬3). وعندي أن هذا الاختلاف ربما انبنى على اختلاف أهل الأصول في الأمر هل يتناول المكروه أم لا؟ فمن أهل الأصول من قال لا يصح تناوله المكروه. ومنهم من قال يصح ذلك. وبيان تخريج مسألتنا على هذا أن تقريب العصر من الزوال أو تأخير المغرب إلى الغسق مكروه على ما سنذكره. وقد أمر الله سبحانه بإقامة الصلاة في هذه الأوقات. فمن جوز تناول الأمر للمكروه ادخل في الدلوك العصر وإن كان فعلها حينئذ مكروهًا. ومن لم يرد ذلك لم يدخل في الدلوك العصر. لأن فعلها حينئذ مكروه. وكذلك القول في المغرب. وذكر الطبري أن غسق الليل صلاة المغرب (¬4). فكأنه أمر بإقامة الظهر والعصر إلى المغرب. وحكى عن بعض الناس أن غسق الليل صلاة العصر. وقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفُ امِنَ اللَّيْلِ} (¬5). فاختلف ¬

_ (¬1) خمس صلوات -ق-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬3) ولا عذار -و-. (¬4) جامع البيان ج 15 ص 134 ونسبه إلى ابن مسعود وإلى ابن عباس. (¬5) سورة هود، الآية: 114.

المذهب في مقتضى هذه الآية فقيل مقتضاها ثلاث صلوات. فطرفا النهار الصبح والمغرب، وإن كانت المغرب تفعل بعد تقضي طرف النهار، فقد سميت ها هنا (¬1) طرفًا لاتصال فعلها بذهاب الطرف. وزلفُ امن الليل المراد به صلاة العتمة لأن زلف الليل ساعاته. وقيل المراد بها أربع صلوات. فأحد الطرفين الصبح والطرف الآخر الظهر والعصر وزلفُ امن الليل صلاة العتمة. وقيل المراد بها الخمس صلوات. وأدخل هؤلاء في قوله زلفا من الليل صلاة المغرب. والكلام على هذه الآية يضاهي الكلام على الآية الماضية. لأن تأخير الظهر إلى قرب الغروب مكروه، وتأخير المغرب مكروه فهل يتناول الأمر المكروه أم لا؟ فيه الخلاف المتقدم. وإنما يبقى النظر بين إثبات العصر طرفًا لأنها تفعل قبل تقضي طرف النهار. فهي أحق بالطرف. لكن فعلها حينئذ مكروه. وإثبات المغرب طرفًا، وإن كانت تفعل بعد تقضي طرف النهار، فهي أحق بالطرف. لكن فعلها حينئذ مختارًا (¬2) غير مكروه. فمن حملها على المغرب رأى أن التجوز أولى من حمل الأمر على المكروه. ومن حملها على العصر رأى أن تناول الأمر للمكروه أولى من حمله على المجاز. وقوله سبحانه: {وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (¬3). فاختلف في هذه الآية أيضًا هل تحمل على الخمس صلوات أو تخرج صلاة العتمة منها فتحمل على أربع صلوات؟ فقوله وحين تظهرون يفيد صلاة الظهر. وقوله وعشيًا يفيد صلاة العصر. وقوله وحين تصبحون يفيد صلاة الصبح. وقوله حين تمسون يفيد صلاة المغرب المفعولة عنوإلامساء. واختلف هل يتضمن ذلك صلاة العتمة؟ والاختلاف في ذلك جار على ما قدمناه وذلك أن تقريب العشاء من الغروب مكروه وتناول الأمر للمكروه فيه الخلاف الذي قدمناه (¬4). وأما السنة فحديث ابن عباس في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند البيت. ¬

_ (¬1) ها هنا ساقطة -ق-. (¬2) مختار -ق-. (¬3) سورة الروم، الآية: 17. (¬4) قلناه في -و-.

قال - صلى الله عليه وسلم -: فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك والعصر حين صار ظل كل شيء مثله، والمغرب حين أفطر الصائم، والعشاء حين كتاب الشفق والفجر حين حرم الطعام على الصائم. فلما كان الغد صلى بي الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، والعصر حين صار ظل كل شيء مثليه، والمغرب حين أفطر الصائم، والعشاء ثلث الليل، والفجر فأسفر (¬1). وحديث عبد الله بن عمر وابن العاصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم تحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق. ووقت العشاء الأخيرة ما لم يذهب نصف الليل، ووقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس. وقد خرج مسلم هذا الحديث في صحيحه (¬2) وخرج أيضًا عن أبي موسى الأشعري: قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائل فسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا قال فأقام الفجر حين الشفق، والظهر حين زالت الشمس، والعصر والشمس مرتفعة. والمغرب حين وقعت الشمس. والعشاء حين غاب الشفق. ثم أخر الفجر من الغد وانصرف وقائل يقول طلعت الشمس أو كادت. وأقام الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس. والعصر انصرف منها والقائل يقول احمرت الشمس، وأخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ثم العشاء حين كان ثلث الليل. ثم أصبح فدعا السائل فقال الوقت ما بين هذين (¬3). وخرج مسلم أيضًا عن بريدة مثل هذا (¬4). فهذا بيان الأوقات في القرآن مجملًا وفي السنة مفصلًا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: مواقيت هذه الصلوات مختلفة فمنها: ما وكل إلى المشاهدة الذي يستوي في دركها أهل الإبصار، كغروب الشمس وغروب الشفق وطلوع الفجر وطلوع الشمس. فهذه مواقيت لا تخفى ¬

_ (¬1) رواه أحمد والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم. انظر الهداية ج 2 ص 260. (¬2) إكمال الإكمال ج 2 ص 302 ح 178 كتاب المساجد ومواضع الصلاة. (¬3) إكمال الإكمال ج 2 ص 303. (¬4) إكمال الإكمال ج 2 ص 302 والحديث 176 - 177 من كتاب المساجد ومواضع الصلاة.

فيطلب عليها دليل. ومنها زوال الشمس ومبدؤه لا يدرك بالبصر فجعل عليه دليلًا (¬1). وكذلك آخر وقت الظهر وآخر وقت العصر إذا حددنا آخر العصر بالقامتين فنصب الفقهاء لمعرفة ما يخفى من ذلك دليلًا وهو اعتبار أخذ الظل في الزيادة بعد تناهي نقصانه على حسب ما فسره القاضي أبو محمَّد. وبعضهم ينكر ما ذكره ويأمر بأن تدار دوائر، مركز جميعها موضع القائم، حتى يتحصل تناقص الظل وتزايده بتنقله في الدوائر. ومن الطرائق (¬2) إلى معرفة هذا الاسطرلاب. فإن غاية (¬3) ارتفاع الشمس في كل زمن يعرفه من رصده. وهو مسطور في كتب أهل الرصد فيرفع الاسطرلاب إلى الشمس. فإذا خرج شعاع الشمس من أحد ثقبي عضادة الاسطرلاب إلى الثقب الآخر. نظر إلى ما حاذاه (¬4) رأس العضادة هل بلغ إلى الدرج الذي تزول الشمس عليه (¬5) في ذلك الزمن أم لا؛ ثم يعلمون الساعات ومقادير ما مضى من النهار بعمل آخر يعرفه من كشف عنه في أقرب وقت. ومنهم من يصنع خطوطًا في رخامة ويقسمها أقسامًا ويقيم فيها قائمًا. فإذا انتهى ظل القائم إلى أحد الأقسام عرف مقدار ما مضى من النهار ومنهم من يعول على حركة الماء فيضع ماء في إناء ويضع أشكالًا تتحرك عند انتهاء الماء إلى حركة مخصوصة فيستدل بحركة ما حركه الماء على مقدار ما مضى من النهار. وهذه الطرائق كلها مذكررة في كتب المتقدمين. وذكروا هذه الطريقة الأخيرة لكونها دليلًا عندهم على الوقت في الصحو والغيم. والطرق المتقدمة إنما تفيد إذا كان نور الشمس ظاهرًا يستدل به على حسب ما ذكرناه. لكن الفقهاء كلهم إنما يسلكون المسلك الذي ذكره القاضي أبو محمَّد، فهو المتعارف عند أهل الشرع وما سواه أضربوا عنه. لأن علم الاسطرلاب يدق. وقد يؤدي النظر فيه إلى النظر في علم التنجيم الذي يكرهه المتشرعون. وما سواه مما ذكرناه عن المتقدمين عسير مطلبه، صعب ¬

_ (¬1) دليل -و-ق-. (¬2) الطريق في -ح-ق-. (¬3) غاية ساقطة من -و-ق-. (¬4) إلى ما حاذى -و- لما حاذى -ق-. (¬5) التي تزول الشمس عليها -و-ح-.

مرامه. والتعليم الحسن ما اشترك في إدراكه والإحاطة به البليد والفطن. وإذا امتنع الاستدلال بتزايد الظل لكون الشمس محجوبة بالغيم رجع في ذلك إلى أهل الصناعات فإنهم يعلمون قدر ما مضى لهم من أعمالهم من أول نهارهم إلى زوال الشمس في يوم الصحو فيقيسون يومهم بأمسهم فيعرفون بذلك الوقت. قال القاضي رحمه الله تعالى: ويستحب تأخيرها في مساجد الجماعات إلى أن يكون الفيء ذراعًا، والإبراد بها في الحر أفضل (¬1). ثم لا يزال وقتها ممتدًا إلى أن يصير زيادة الظل مثله ويعتبر ذلك من وقت تناهي نقصانه وأخذه في الزيادة لا من أصله. فإذا بلغ مثله فهو آخر وقت الظهر وهو بعينه أول وقت العصر، يكون (¬2) وقتًا لهما ممتزجًا بينهما. فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر واختص الوقت بالعصر، فلا يزال ممتدًا إلى أن يصير الظل (¬3) مثليه فذلك (¬4) آخر وقت العصر. ويستحب في العصر تأخيرها قليلًا في مساجد المجماعات كنحو ما يستحب في الظهر لا زيادة على ذلك. بل تعجيلها بعد هذا التأخير أفضل، وتأخيرها زيادة على ذلك مكروه. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لم استحب تأخير الظهر في مساجد الجماعات. 2 - وهل الفذ في ذلك كالجماعة؟ 3 - وما معنى تحديده بالذراع؟ 4 - وما منتهى الإبراد؟ 5 - وما الدليل على أن آخر وقتها زيادة الظل (¬5) مثله؟ 6 - وهل معنى ذلك أن تنقضي الصلاة عند المثل أو تبتدئ عنده؟ 7 - وما الدليل على أن آخر وقت العصر أن يصير الظل مثليه؟ ¬

_ (¬1) أفضل ساقطة من -ح-. (¬2) وتكون -الغاني-. (¬3) ظل كل شيء مثليه -الغاني-. (¬4) وذلك -غ-. (¬5) الظل ساقطة -و-.

8 - ولم استحب في العصر للجماعة التأخير القليل؟ 9 - وما معنى قوله (¬1) تأخيره عن ذلك مكروه؟ والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أصل مذهب مالك أن أول الوقت أفضل، وإنما يستحب التأخير لمعنى يقتضيه. فاختلف الناس في الأفضل من وقت صلاة الظهر. فعند الشافعي أول الوقت على الإطلاق. وعند أبي حنيفة آخره. وعندنا إذا فاء الفيء ذراعًا. واعلم أنا قد قدمنا ما يدل على فضيلة أول الوقت، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها (¬2). ولما رأى الشافعي ذلك استحب تعجيل الصلاة أول الوقت على الإطلاق لا سيما وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر عند الزوال (¬3). ولما رأى مالك رضي الله عنه ما جاء في الشرع من التحضيض على صلاة الجماعة. وكان أول وقت صلاة الظهر يمر على الناس وهم غير متهيئين للصلاة، أو قائلين إن كان الزمن صيفُ ا، استحسن التأخير عن أوله، ليحصل اجتماع الناس للصلاة. واعتمد أيضًا على قول عمر رضي الله عنه: صلوا الظهر والفيء ذراع (¬4). ولما رأى ابن حبيب هذا التعليل قصر استحباب التأخير إلى الذراع على زمن الصيف لانقطاع الناس عن الاجتماع أول الوقت لكونهم قائلين. واستحسن في الشتاء أول الوقت لعدم العذر القاطع عن الاجتماع. وخصص قول عمر رضي الله عنه بزمن الصيف خلاف ما صنع مالك من حمله على التعميم في الشتاء والصيف. وتأول بعض أصحابنا ما في الصحيحين من صلاته صلى الله عليه وسلم الظهر عند الزوال على أن الناس اتفق اجتماعهم (¬5) في تلك الصلاة التي صلاها بهم عند الزوال. ¬

_ (¬1) قوله ساقطة -و-ق-. (¬2) فيض القدير ج 2 ص 25 والجامع الكبير. رقم الحديث 3611. (¬3) رواه البخاري باب وقت الظهر عند الزوال فتح الباري ج 2 ص 160. ورواه مسلم في أحاديث الأوقات. إكمال الإكمال ج 2 ص 295 وما بعدها. وأخرجه البيهقي ج 1 ص 436. (¬4) هو من كتاب عمر الذي بعث به إلى عماله. رواه مالك في الموطأ شرح الزرقاني ج 1 ص 21 - 22. (¬5) جماعتهم -و-.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف أصحابنا في الفذ فذهب بعضهم إلى أن المستحب له التعجيل أول الوقت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" (¬1). ولم يعرض في الفذ عارض ينقله إلى استحباب التأخير كما عرض في الجماعة. وذهب بعضهم إلى أن المستحب له التأخير إلى الذراع لعموم قول عمر رضي الله عنه: صلوا الظهر والفيء ذراع. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما تحديده بالذراع فإنما ذلك لكون الذراع ربع القامة. وقامة الإنسان مقدار ما بين يديه إذا بسطهما حتى يحاذيا منكبيه. فلما كان الإنسان قد يعدم شيئًا يقيس به الظل ولا يعدم نفسه فيقيس بها الظل، مثل به. وإلا فكل شيء أقيم لاعتبار الظل. فإن الظل إذا زاد قدر ربع طول القائم كان ذلك هو المختار في صلاة الظهر على حسب ما بيناه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أمّا الإبراد بالظهر فمأمور به لقوله عليه السلام: أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم (¬2). وأيضًا فإن شدة الحر تقطع عن استيفاء حق الصلاة وتقتضي استعجال المصلي إلى طلب السكون والراحة. فاستحب ترك إيقاع الصلاة فيه. ألا ترى أن الشرع جاء بنهي الحاقن عن الصلاة لما كانت الحقنة تمنعه من استيفاء الصلاة. وهذا التعليل يوجب أن يستوي الفذ والجماعة *في الأمر بالإبراد لأن كون الحر قاطعًا عن استيفاء ما يجب للصلاة يستوي فيه الفذ والجماعة* (¬3) فإذا ثبت أن الإبراد مأمور به. قال ابن حبيب: منتهاه إلى وسط الوقت وبعده بقليل. وقال بعض الأشياخ يؤخر إلى الذراع لأجل الجماعة وإلى نحو الذراعين لأجل الإبراد. وقال محمَّد بن عبد الحكم يؤمر بالتأخير (¬4). ولكن لا يخرج عن الوقت. فأشار إلى أن الإبراد ينتهي لآخر الوقت. والأصح عندي مراعاة حال يومه. فإذا فتر ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) رواه عن أبي هريرة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والدارمي وغيرهم. الهداية ج 2 ص 267. (¬3) ما بين النجمين ساقطة من -و-. (¬4) بالتبريد -و-.

الحر القاطع عن استيفاء الصلاة، أمر بإيقاع الصلاة حينئذ إذا حان الوقت المختار. فإن لم يفتر حتى خيف ذوات الوقت لم تؤخر عن الوقت. فإذا ثبت تعلق الاختيار بزمن ما وكان التأخير عنه للعذر، فمتى ارتفع العذر تمسكنا بالاختيار. وارتفاع الحر يختلف باختلاف البلاد واختلاف الرياح. ولكن رأى أصحابنا تحديده بما ذكرناه عنهم ليكون الحكم عامًا وترجع إليه العامة التي لا تضبط تفاصيل الاجتهاد، فذلك طريق في النظر. والجواب عن السؤال الخاص: أن يقال: اختلف الناس في آخر وقت صلاة الظهر. فذهب مالك إلى أنه انتهاء الظل إلى زيادة *مثل القائم. وذهب أبو حنيفة إلى أنه انتهاء الظل* (¬1) مثلي القائم. فالحجة لمالك صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد صلى به (¬2) الظهر في اليوم الثاني عندما صار الظل زائدًا مثل القائم. وحديث عبد الله بن عمرو. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل (¬3) كطوله ما لم تحضر العصر. وهذا بيان من جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن آخر وقت الظهر زيادة الظل مثله. وأما أبو حنيفة فإنه تعلق بحديث، القصد منه ضرب مثل وهو حديث تمثيل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل أمته بالإضافة إلى من قبلهم من الأمم بأُجَرَاء عملوا إلى الظهر وآخرون إلى العصر وآخرون من العصر إلى الغروب. والعاملون من العصر إلى الغروب مثلوا بالمسلمين وهم أقل عملًا وأكثر أجرًا (¬4) فقال أصحاب أبي حنيفة إنما يصح هذا التمثيل على أن آخر الظهر القامتان وهو أول وقت العصر، وبذلك يصح كون العاملين من العصر إلى الغروب أقل عملًا. وهذا الذي قالوه لا يخفى عن حاذق ضعف التعلق به. وكيف يقابل حديث فيه نزول جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بين له الأوقات ويصلي به ليعلمه ذلك. وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأمته ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬2) فقد صلى به: ساقطة من -و-. (¬3) مثله كطوله في -و-. (¬4) رواه عن عبد الله بن عمر مالك وأحمد والبخاري والترمذي وغيرهم. الهداية ج 2 ص 265.

في حديث إنما سيق ليعلم الأوقات وبيانها بحديث القصد منه ضرب المثل، ولم يقصد منه بيان الأوقات ولا تعرض فيه لشيء من أمور الصلوات. مع جواز أيضًا أن يكون المراد بأن الآخرين عملوا من آخر وقت العصر. فالحديث لم يذكر إلا أن قومًا عملوا من العصر إلى الغروب ولم يذكر أول وقت العصر ولا آخره فكيف تترك النصوص لمثل مضروب، فيه من الاحتمال ما ذكرنا. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف أصحابنا في معنى القول أن آخر وقت الظهر زيادة الظل مثله. فذهب بعضهم إلى أن المراد به أن تنقضي صلاة الظهر عند زيادة الظل مثله *وبه قال الشافعي* (¬1) وقال آخرون أن المراد به أن يفتتح صلاة الظهر عند زيادة الظل مثله. وسبب هذا الاختلاف: ما وقع في حديث صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني عند زيادة الظل مثله. وفي بعض طرقه إنما صلاها به لوقت العصر بالأمس (¬2). فحمله أهل المذهب الأول على أن المراد به أنه فرغ من صلاة الظهر حينئذ. وحمله أهل المذهب الثاني على أن المراد به أنه ابتدأ الصلاة حينئذ. ويرجح الأولون تأويلهم بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يفيد فعل الصلاة والفراغ منها، بأن الفاعل من حصل منه الفعل". ويرجح الآخرون تأويلهم بأنه قد قال وصلى بهم العصر عند زيادة الظل مثله. ومعنى ذلك أنه ابتدأ الصلاة، فكذلك يكون محمل قوله صلى به الظهر حينئذ أي ابتدأها. وأيضًا فقد قال في حديث عبد الله بن عمر وقت الظهر إذا زالت الشمس. وكان ظل الرجل كطوله ما لم تحضر العصر. فاقتضى ذلك أن حضور وقت العصر يقطع وقت الظهر. ولا يكون قاطعًا لوقتها إلا بأن تنقضي الصلاة قبل حضور العصر. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما صلاة العصر فقد علم أول ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬2) روى البيهقي من حديث فأقام الظهر في وقت العصر الذي كان قبله ج 1 ص 235. وجاء في معالم السنن: في بعض الروايات أنه صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر من اليوم الأول. وقد نسب هذا القول محمَّد بن جرير الطبري إلى مالك بن أنس. معالم السنن ج 1 ص 233.

وقتها. والدليل عليه مما قدمنا ذكره. وقررنا أن أول وقتها ابتداء القامة الثانية عندنا. وآخر القامتين عند أبي حنيفة، فأغنى ذلك عن إعادته *وقد قاله ابن عبد الحكم وابن حبيب في المذهب* (¬1). وأما آخر وقتها فعندنا فيه قولان: أحدهما أن آخر وقتها القامتان لما وقع في حديث جبريل من التحديد بذلك. والثاني أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس لقوله في حديث عبد الله بن عمرو وقت العصر ما لم تصفر الشمس (¬2). والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما استحب تأخير صلاة العصر في مساجد الجماعات قليلًا رفقًا بالناس. وقد قال أشهب يستحب تأخيرها إلى الذراع من القامة الثانية، لا سيما في الحر. وجمهور أصحابنا على استحباب تعجيلها أول وقتها شتاء كان أو صيفًا. واستحب ابن حبيب أن يخص يوم الجمعة بتعجيل، ليقرب انصراف المتطهرين لها ممن صلى الجمعة. وقال بعض أشياخي الاستحباب يتنوع. فالمستحب في المغرب والصبح التعجيل. وفي العشاء التأخير. واختلف في الظهر والعصر. فقيل التعجيل أفضل. وقيل أول وقتها وآخره سواء. فعلى هذا القول لا يكون في التعجيل فضيلة. ومذهب أبي حنيفة استحباب التأخير ما لم تصفر الشمس. وقال بعض أصحابه إنما ذلك ليوسع زمن التنفل للناس لأن العصر إذا صليت يمنع (¬3) التنفل. ولأن القصد افتتاح الصحيفة بعمل خير واختتامها بمثله. فإذا صليت العصر آخر الوقت كانت صحيفة النهار في حكم ما ختم بخير. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما قول القاضي أبي محمَّد إن تأخير العصر عما يقرب من أول وقتها مكروه على حسب ما فسره. فإنه لفظ مشكل وكالهادم لم ابن اه. وذلك أنه أخذ يبين أوقات الاختيار فجعل الوقت ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من -ح-ق-. (¬2) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وأن آخر وقتها "العصر" حتى تصفر الشمس. عارضة الأحوذي ج 1 ص 250. حديث عبد الله بن عمرو. رواه ابن أبي شيبة المصنف ج 1 ص 282 ح 3228. (¬3) منع -و-.

المختار للعصر جميع القامة الثانية. وكذلك جعله جميع علمائنا من تقدم منهم ومن تأخر. والاختيار يشعر بانتفاء إطلاق الكراهة. وقد أطلق القاضي أبو محمَّد ها هنا على تأخير العصر أنه مكروه، وإن كان وقت الاختيار لم يذهب. وغيره من العلماء وإن ذهب إلى فضيلة التعجيل. فما أرى هؤلاء يطلقون الكراهة كما أطلقها إلا بتقييد وبيان على أن المراد بها أنه قد فات المؤخر حظ من الأجر، وفضل التعجيل. فيكون معنى الكراهة أنه مندوب إلى تحصيل الأفضل فيكره له ترك ما ندب إليه. والفقهاء إذا وصفوا الشيء بأنه مكروه وأطلقوا ذلك عليه لا يقصدون (¬1) هذا القصد. ألا تراهم لا يقولون فيمن أخر صلاة الفجر أنه فعل مكروهًا. ولا يقال الصلاة حينئذٍ مكروهة وإن كان التعجيل عندهم أفضل. وكذلك مؤخر الظهر عن الذراع لا يقولون إن صلاته مكروهة. فيجب على قارئ هذا اللفظ أن يتأمل معناه ويعتبر بما قلناه. قال القاضي رحمه الله: ووقت المغرب الذي لا تحل قبله، غروب الشمس. وهو واحد (¬2) مضيق غير ممتد مقدر آخره بالفراغ منها في حق كل مكلف. ويرخص للمسافر أن يمد الميل ونحوه ثم يصلي. وذلك داخل في باب الأعذار والرخص وهو خارج عن هذا الباب. ووقت العشاء الآخرة مغيب الشفق وهو العمرة لا البياض وآخر وقتها ثلث الليل الأول. ويستحب في مساجد الجماعات تأخيرها قليلًا قدرًا لا يضر بالناس. ثم لا يزال وقتها ممتدًا إلى أن ينقضي ثلث الليل (¬3) الأول. قال الشيخ رضي الله هـ تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن المغرب وقت واحد؟. 2 - وما معنى اختصاص وقتها بوصفه بأنه واحد دون غيره من الأوقات؟. 3 - ولم رخص للمسافر أن يمد الميل؟. ¬

_ (¬1) لم يقصدوا -ح-. (¬2) وهو وقت واحد -الغاني-. (¬3) الليل ساقطة -الغاني-.

4 - وما الدليل على أن الشفق هو العمرة؟. 5 - ولم استحب تأخيرها في مساجد الجماعات قليلًا؟. 6 - وما الدليل على أن آخر وقتها ثلث الليل؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف المذهب في المغرب. فذهب مالك في الموطإ أن لها وقتين. وفي المدونة إشارة إلى ذلك. وحكى البغداديون عن مالك أن لها وقتًا واحدًا. واختلف قول الشافعي في ذلك كما اختلف قول مالك. ومذهب أبي حنيفة أن لها وقتين. وسبب الاختلاف في ذلك اختلاف ما قدمناه من الأحاديث. ففي حديث جبريل أنه صلاها به في اليومين عند الغروب بخلاف ما فعل في سائر الصلوات. وهذا يوجب أن لها وقتًا واحدًا. وفي حديث عبد الله بن عمرو: ووقت المغرب ما لم يسقط الشفق. وهذا فيه إثبات وقتين لها. وقد رجح الآخرون بأن لها وقتًا واحدًا، مذهبهم باستمرار عمل (¬1) المسلمين في سائر الأمصار على صلاتها عند الغروب. فلولا أنهم عقلوا عن الشرع أن وقتها واحد لما اتفقت خواطرهم ودواعيهم على إقامتها حينئذٍ كما لم تتفق دواعيهم على إقامة الظهر في وقت واحد، لما عقلوا عن الشرع أن لها وقتين. وينفصل الآخرون عن هذا بأنهم وإن قالوا إن لها وقتين فإنهم يسلمون أن المستحسن والأفضل صلاتها عند الغروب. وأهل السنة مجمعون على ذلك لأنها صلاة تمر بالناس وهم متأهبون لها. فاستحب تعجيلها كصلاة الجمعة. وقد قال ابن مسلمة من أصحابنا أن الغروب وإن كان موسعًا فيها إلى الشفق، فالأحسن تعجيل فعلهالأول وقتها. ويرجح هؤلاء الحديث الدال على أن لها وقتين بأنه متأخر عن حديث جبريل فوجب الرجوع إليه مع كونه عندهم أصح سندًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما وصفت صلاة المغرب بأن وقتها واحد لأن غيرها من الصلوات وقتها ممتد وجميعه وقت مختار، ولأوله على آخره فضل أو لآخره على أوله، فصارت الصلوات لأجل اختلاف حال الأول والآخر هكذا موصوفة بأن لها وقتين لما صار في وقتها هذا النوع من ¬

_ (¬1) عمل ساقطة -و-.

التعدد. والمغرب لما لم يكن وقتها ممتدًا حتى يكون لأوله على آخره فضيلة وصفت بأن لها وقتًا واحدًا، وهذا أولى من أن يجعل معنى ذلك أن زمنها المختار لا يسع أكثر من إقامتها. لأن صلاة الظهر يسع وقتها المختار من إقامتها صلوات كثيرة فيجب أن تكون الظهر موصوفة بأن لها أوقاتًا. ولا معنى حينئذٍ، والمراد بهذا (¬1)، أن يقال لها وقتان إلا أن يتسع في العبارة ويجعل ما بعد قدر إقامتها من مبدأ وجوبها إلى آخر الوقت كوقت واحد يكون ثانيًا لمبدأ الوجوب. فيصح المعنى حينئذٍ على أن المغرب يختلف حال الناس في إقامتها بعد الغروب. فمن مبادر ومن متوان قليلأوقد خرج بتوانيه عن مقدار إقامتها بعد الغروب. وجميعهم موقع لها في الوقت. ولكن إن كان الأمر على ما قلناه من أن المراد بأن لها وقتًا واحدًا منع (¬2) اختلاف حكم أول الوقت مع آخره. فما يصنع من قال إن جميع وقت الظهر متساوٍ في الفضيلة؟ هذا يتطلب معنى آخر غير هذا. وإنما أشرف لتحقيق هذا القول لما رأيت فيه من هذا الإشكال ولم أر أحدًا تعرض لتحقيقه كما يجب ويشفي الغليل فيه. ولعلهم اضربوا عنه لما كان إنما يرجع الأمر فيه إلى مناقشة في عبارة المفهوم منها قد تعارفوه بينهم. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما جاز أن يمد الميل ونحوه ثم يصلي المغرب لما في أصل وقتها من الاختلاف وإن مالكًا قد قال في أحد قوليه إن وقتها ممتد إلى الشفق فلم يخرج بهذا التأخير عن الوقت المختار في أحد القولين. مع أنه في القول الآخر في حكم التأخير اليسير الذي لا يكاد يخرج عن الوقت. مع أن عذر السفر يبيح التأخير فيها والجمع بينهما وبين العشاء الآخرة فقد صار للسفر تأثير في جواز التأخير، فلهذا ألحقه القاضي أبو محمَّد بباب الأعذار والرخص. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس بعد اتفاقهم على أن أول وقت (¬3) صلاة العشاء مغيب الشفق، في الشفق ما هو؟ فقال مالك إنه ¬

_ (¬1) هذا -ح- من هذا -ق-. (¬2) منع ساقطة -ح-. (¬3) أول ساقطة من -ح-.

العمرة الباقية من نور الشمس بعد غروبها. وقال أبو حنيفة هو البياض الباقي بعد العمرة، ووافق الشافعي مالكًا. لكن المزني من أصحابه وافق أبا حنيفة كما وافق أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة مالكًا. وقد أشار بعض أشياخي إلى أن مالكًا وافق أبا حنيفة أيضًا وتعلق بقول ابن شعبان، إن أكثر قوله إن الشفق العمرة. وهذا يشير إلى أن ابن شعبان يرى أن له قولًا آخر أنه البياض. ويمكن عندي أن يكون ابن شعبان إنما أشار بهذا، لما وقع في سماع ابن القاسم عن مالك أنه قال: أرجو أن تكون العمرة، والبياض أبين. وهذا من (¬1) مالك إشارة إلى تردده في مذهبه. فلما رأى ابن شعبان هذا التردد، ورأى ما سواه من القول المطلق أنه العمرة، أشار إلى أن أكثر أقواله الإطلاق بالحمرة دون تردد. هذا مما يمكن عندي أن يحمل كلام ابن شعبان عليه، فلا يقطع بصحة ما فهم شيخنا منه، واعلم أن البياض والحمرة يسمى كل واحد منهما شفقًا. ويشير في أنه العمرة قول الشاعر: وقد تغطت بكمها خجلا ... كالشمس غابت في حمرة الشفق فإذا ثبت أن النوعين جميعًا يسميان شفقًا (¬2). قال أصحابنا نحمله على أولهما أخذًا بأوائل الأسماء وقضاء بالأسبق. وقال أصحاب أبي حنيفة أصل الشفق الرقة، ومنه قولهم الشفقة الرقة، أي رقة المحبة والحنان فيه. فإذا كان هذا أصل هذه التسمية فلا شك أن البياض أرق من العمرة. فإذا كان أحق بمعنى الاشتقاق (¬3) كان أحق بالتسمية ووجب حمل ما ورد من الإطلاق عليه. وقد تنازع الفريقان آية وخبرًا. فأما الآية فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (¬4) فإن كان الدلوك غروب الشمس على ما كنا حكيناه. وغسق الليل ظلمته. والظلمة إنما تتحقق وتكمل بعد مغيب نور الشمس وجميع ¬

_ (¬1) عن مالك -ق-. (¬2) الشفق -و-. (¬3) الاشفاق -و- الانشقاق -ق-. (¬4) سورة الإسراء، الآية: 78.

أثرها من بياض وحمرة، وجب أن تكون صلاة (¬1) العشاء عند مغيب الشفقال في هو البياض. وإن كان دلوك الشمس زوالها وغسق الليل الغروب (¬2) على ما كنا حكيناه فلا حجة في الآية لأحد المذهبين. وأما الخبر فهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء لمغيب القمر لليلة الثالثة (¬3) فزعم أصحابنا أن ذلك إنما يكون قبل مغيب البياض وبعد أن غابت العمرة. وزعم الآخرون أنه إنما يكون بعد مغيب البياض. وقد أدخل النسائي هذا الحديث في كتابه على أنه حجة لاعتبار مغيب البياض ولكنه ضعف الحديث. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما استحب تأخيرها في مساجد الجماعات رفقًا بالناس، وقد استحب ابن حبيب تأخيرها في زمن الشتاء قليلًا لطول الليل. وفي ليالي رمضان أكثر من ذلك قليلًا توسعة على الناس في إفطارهم. وحكى العراقيون من أصحابنا عن مالك أنه يرى أن آخر وقتها أفضل. وفي المدونة إنكار تأخيرها لآخر وقتها. ومحمله على أن ذلك مما يضر بالناس فنهى عنه لإضراره. وبعض أشياخنا اختار التعجيل إن اجتمع الناس، وانتظارهم إن أبطوا لما روي في البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظرهم إن أبطوا (¬4). وقد قال أشهب أما الفذ والجماعة الذين يتفق رأيهم على التأخير. فالاستحباب التأخير إلى مغيب البياض. فإن أخروا إلى ثلث الليل فواسع. وهذا يقتضي أن الاستحباب عنده التأخير، وإنما يعدل عنه لاستحباب التعجيل لنفي الضرر على الناس. وكأنه اعتمد (¬5) في هذا على ما روي أن الناس رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا. فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لولا إن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها ¬

_ (¬1) صلاة -ح-. (¬2) المغرب في -ح -ق-. (¬3) رواه النسائي عن النعمان بن بشير ج 1 ص 264. (¬4) روى البخاري في المواقيت عن جابر بن عبد الله وأنه كان يصلي العشاء أحيانًا وأحيانًا إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطوا أخر البخاري: مواقيت ج 2 ص 18. ورواه مسلم: إكمال الإكمال ج 2 ص 281. كما رواه أحمد. (¬5) اعتمد ساقطة -و-.

هكذا (¬1). وهذه إشارة إلى أن الفضل في التأخير لولا مراعاة المشقة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف المذهب في آخر وقت صلاة العشاء. فذهب مالك إلى أنه ثلث الليل الأول. وذهب ابن حبيب إلى أنه نصف الليل. وسبب الاختلاف اختلاف الأحاديث التي قدمنا. ففي حديث جبريل أنه صلاها به عند الثلث الأول من الليل. وفي حديث عمرو بن العاصي ووقت العشاء الأخيرة ما لم يذهب نصف الليل. قال القاضي رحمه الله تعالى: ووقت صلاة الفجر (¬2) طلوع الفجر الثاني ويسمى الصادق وهو الضياء المعترض في الأفق الذاهب فيه عرضًا يبتدىء من المشرق معترضًا حتى يعم الأفق، ثم لا يزال ممتدًا ما لم تطلع الشمس، وهي الصلاة الوسطى. والتغليس بها أفضل. فهذه أوقات الوجوب المبتدأة وهي على ضربين. منها: ما يكون ابتداؤها علمًا على الإجزاء في كل حال (¬3) عمومًا لا خصوصًا وذلك لثلاث صلوات وهي الزو الذي الظهر، وغروب الشمس في المغرب وطلوع الفجر في صلاة الفجر. فهذه الأوقات هي أوقات الوجوب والإجزاء (¬4). فلا يجوز تقديم هذه الصلوات عليها بوجه، لا في حال عذر (¬5)، ولا غيره. وأما المثل بالعصر. ومغيب الشفق للعشاء الآخرة فهو (¬6) في الرفاهية (¬7) والاختيار لأن الإجزاء والرخصة قد يتعلقان بتقديمهما على هذه الأوقات في حال الضرورات (¬8) على ما نبنيه. قال الشيخ رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال: ¬

_ (¬1) رواه مسلم بسنده إلى عائشة وعبد الله بن عمر وأبي موسى الأشعري. (¬2) الصبح -و-. (¬3) جنس -و-. (¬4) والإجزاء في كل حال -غ-. (¬5) عذره -الغاني-. (¬6) فهي -و-غ-. (¬7) الرفاهة -و-ق-. (¬8) الضرورة -الغاني-.

1 - ما الفجر؟. 2 - وما الدليل على أن آخر وقت الصبح طلوع الشمس؟. 3 - وما الدليل على أنها الصلاة الوسطى؟. 4 - وما الدليل على أن التغليس بها أفضل؟. 5 - وما معنى قوله فهذه أوقات الوجوب المتبدأة؟. 6 - وما معنى قوله إن المثل في العصر ومغيب الشفق في العشاء الأخيرة هو في الرفاهة والاختيار؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الفجر مأخوذ من الانفجار ومنه انفجار الماء بمعنى اندفاعه. وهو نور الشمس البادي في الأفق عند قربها منه. فيكون مستدقًا. وشبه لدقته بذنب السرحان. فتكون الشمس على وضع ما من البعد عن الأفق، فيكون أول ما يبدو من نورها دقيقًا مستطيلًا، ويسمى الفجر الكاذب. فإذا تقربت من الأفق وانتقلت (¬1) عن ذلك الموضع اتسع ذلك النور وانفتق الضوء ويسمى الفجر الصادق. وكلما ازدادت قربًا زاوإنتشار الضوء حتى تبدو بنفسها لأعين الناس. وقد علق الشرع بهذا الضوء البادي منها الذي يسمى الفجر الصادق حكمًا من أحكام الصلاة. كما علق النور الذي تغادره فينا إذا غربت حكمًا من أحكام الصلاة؛ لأنه علق في صلاة الصبح الحكم بظهور النور المنتشر. وعلق في صلاة العتمة الحكم بغروب النور الذي هو العمرة والبياض على الاختلاف الذي ذكرناه (¬2) فيه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الأخبار في صلاة الصبح. ففي بعضها أنه صلاها بعد أن أسفر. والمراد به أنه أوقع جملة الصلاة في الإسفار وافتتحها لما بدأ. وفي بعض الأخبار أن آخر وقتها ما لم تطلع الشمس. فهل يكون ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس وقت اختيار أو وقت ضرورة؟ سنتكلم عليه في الكلام على أوقات الضرورة إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) انقلبت -و-. (¬2) ذكرنا -و-.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في الصلاة الوسطى ما هي على ثمانية أقوال؟ فقال بعضهم هي كناية عن الصلوات الخمس. وقال بعضهم هي كناية عن صلاتين: إحداهما العصر والأخرى الصبح. وقال آخرون هي صلاة (¬1) الجمعة. وقال آخرون هي صلاة الصبح. وقال به من الصحابة ابن عباس. ومن الفقهاء مالك. وقال غيرهم هي صلاة الظهر. وقال به من الصحابة زيد بن ثابت. وقال آخرون هي صلاة العصر وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر، ومن الفقهاء أبو حنيفة والشافعي. وقال بعضهم هي صلاة المغرب قاله من التابعين قبيصة بن ذؤيب. وقال غيرهم هي العتمة. فأما من قال إنها كناية عن الخمس صلوات فإنه يحتج بأن الخمس عدد فرد والعدد الفرد لا وسط له. وما لا وسط له إذا ذكر فيه الوسط كان ذلك كناية عن جميعه كالدائرة التي لا أول لها معينًا (¬2)، وهذا باطل. لأن الله سبحانه قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (¬3). وهذا لفظ يتناول جميعها إذا قصد به العموم تصريحًا. وإذا صرح بالشيء استغنى عن الكناية عنه إذ التصريح يفهم منه المراد، والكناية لا يفهم منها المراد كما فهم بالتصريح، فلا معنى لها. وأيضًا فإن الوسط إذا لم يكن بمعنى النصف ها هنا صح أن يكون الثالث وسطًا في الخمسة لكونه مسبوقًا باثنتين ومعقبًا باثنتين. وأما من قال صلاة الجمعة فدعوى لا وجه لها؛ لأنها لم تختص بمعنى تخالف به الصلوات الخمس فيستحق التسمية بالوسطى. وهذا الاسم ليس بلقب وإنما هو مأخوذ من معنى ومفيد لحقيقة. فمن لم يبدها فيما ادعاه لم يسمع قوله. إلا أن يرد في ذلك نص شرع يتبع. ولهذا اختلف نظر العلماء لما تطلبوا معنى هذا الاسم. فنظر بعضهم إلى التوسط في عدد الركعات، فلم يجد إلا المغرب لأنها فوق الصبح ودون الظهر والعصر والعشاء في العدد فجعلها الصلاة الوسطى (¬4). ونظر بعضهم إلى التوسط في الزمن فقدم مالك الليل على النهار، فيكون المغرب والعشاء طرفًا أولًا، ¬

_ (¬1) صلاة ساقطة -و-. (¬2) معينا ساقطة -و-. (¬3) سورة البقرة، الآية: 238. (¬4) هكذا في نسخة -ح- وأما في نسخة -ق- في التضيع من غيرها فلما خصها بالأمر بالمحافظة عليها في العدد فجعلها للصلاة الوسطى.

ويكون الظهر والعصر طرفًا آخر. فبقي الصبح وسطًا بين هذين الطرفين. ورجح مذهبه بأن وقتها مشكل أمره. ولهذا قيل هو من الليل. وقيل هو (¬1) من النهار. وقيل زمن ثالث لإشكاله. فكان أحق بهذه التسمية. وأيضًا فإن المفهوم أنها إنما خصت بالأمر بالمحافظة عليها *لكونها أقرب للتضييع من غيرها. فلما علم البارئ سبحانه ذلك خصها بالأمر* (¬2) بالمحافظة عليها، ومعلوم أن النوم ربما حمل على إضاعتها، فكانت أحق بهذا الأمر. ولما رأى الآخرون أن الصبح والظهر تكون طرفًا أولًا إذا قدم النهار، والمغرب والعشاء طرفًا آخر كانت العصر وسطًا بين هذين. وأكدوا هذا بأنها وقت شغل الناس بالبيع والشراء. والبيع والشراء مما يحمل على تضييع الصلوات. ولهذا نبه الله سبحانه عليه وخصه بالذكر دون سائر الشواغل عن الصلاة. فقال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬3). واعتمدوا أيضًا على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" (¬4). فقد بين ها هنا - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ولأجل هذا الحديث ذهب من قدمنا ذكر مذهبه إلى أن الوسطى صلاتان إحداهما العصر بالسنة، والأخرى الصبح بالقرآن. وأشار بعض أصحابنا ممن حاول سلوك هذه الطريقة إلى أن قوله تعالى {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ربما انتظم الصلاتين جميعًا الصبح والعصر. وهذا مذهب ضعيف لأن القرآن لم يصرح بإثبات الصبح وسطًا فتدعو الضرورة إلى إثبات وسطين. وإنما ورد القرآن بلفظ كناية اشتد إشكاله حتى اختلف فيه الصحابة ¬

_ (¬1) هو ساقطة من -و-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬4) روى مسلم عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر". ورواه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أيضًا. إكمال الإكمال ج 2 ص 310. كما روى البخاري عن علي كرم الله وجهه يوم الخندق: حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس. ملأ الله قبورهم وبيوتهم أو أجوافهم نارًا. فتح الباري ج 9 ص 261.

والفقهاء على ثمانية أقوال فكيف يطمع مع هذا الإشكال أن يقال إن القرآن تضمن إثبات الصبح وسطًا. فإن اعتضد هؤلاء بما قلناه من أن المفهوم أن القرآن إنما خصها بالذكر لكونها أقرب إلى التضييع بغلبة النوم من غيرها، قلنا قد قابل أبو حنيفة هذا المسلك بأن الشغل بالبيع آكد في العمل على التضييع من غلبة النوم عند الصبح. فمع هذه المقابلة ونص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها العصر لا يمكن القول بأن القرآن أفاد كون الصبح وسطا. على أنه قد يحمل إشارته - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الصلاة الوسطى صلاة العصر". على أنه أراد بالألف والسلام ها هنا إحالة على المعهود المذكور في القرآن. فيكون ذلك كالتفسير للقرآن. وإذا كان قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا مفسرًا للقرآن إما على قطع أو احتمال، لم يصح القول بأن السنة أثبتت صلاة أخرى وسطى غير الوسطى المذكورة في القرآن. هذا وقد ذكر في حديث عائشة رضي الله هـ ه تعالى عنها أنها قالت: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر (¬1). فعلى هذا يكون ما في القرآن مطابقًا لما في السنة من كون الوسطى هي صلاة العصر. وإن كنا لا نرى إثبات هذه الزيادة قرآنا ولا نبيح القراءة بها وإنما ذكرناها تأكيدًا لما قلنا من ضعف القول بإثبات وسطين. على أنه قد روي أيضًا في خبر (¬2) عائشة والصلاة الوسطى وصلاة العصر (¬3) بإثبات الواو وحاول أصحابنا أن يجعلوا ذلك عمدة في الرد على أبي حنيفة في قوله إنها العصر. وأجيبوا عن ذلك أنه قد يعطف الشيء على نفسه فلا يكون في العطف ها هنا دلالة على أن العصر غير الصلاة الوسطى. وأما ما أشار إليه بعض أصحابنا من أن القرآن يصح حمله على صلاتين وسطين فلا معنى له لأنه لم ¬

_ (¬1) عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها قال: كانت أمرتني كائشة أن كتب لها مصحفُ اوقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى. قال: فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. إكمال الإكمال ج 2 ص 310. (¬2) في حديث -ق-. (¬3) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر قرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى. إكمال الإكمال ج 2 ص 311.

يثبت كون الصبح والعصر جميعًا وسطيين، ونفي ذلك عما سواهما. فيصح حمل القرآن على ما ثبت من ذلك. ومن ادعى مع ورود القرآن بلفظ التوحيد حمل ذلك على صلاتين كمن ادعى حملها على ثلاث لا فرق بينهما. فإما أن يحمل على جنس الصلوات واستيعاب الخمس فيكون هو المذهب الذي ذكرناه أولأوقد (¬1) نقضناه. أو يحمل على صلاة واحدة وينظر في عينها على حسب الاختلاف المذكور فيها. وفي هذا كفاية في ضعف هذا المذهب. وقد كنا قدمنا أن هذا الاسم يشار به إلى معنى ينبغي أن يتطلب. فقدره قبيصة بن ذؤيب في عدد الركعات فأثبت الوسطى المغرب. وتطلبه مالك وأبو حنيفة في الزمن فقدم مالك الليل فكانت الصبح وسطى. وقدم أبو حنيفة النهار فكانت العصر. ونظر زيد بن ثابت إلى النهار فوجد وسطه الظهر فأثبت الظهر وسطًا لما كان الزوال وسط الزمان. وهذا فيه نظر لأن الوسطى وصف يعود إلى الصلاة لا إلى زمن الصلاة. فمذهب قبيصة ومالك وأبي حنيفة جار على وصف يعود إلى الصلاة إما في عدد ركعاتها وإما في (¬2) كونها ثالثة في عدد خمس. وكون نصف النهار وسطًا في الزمن لا يعود إلى الصلاة. وإنما اعتبر أبو حنيفة ومالك أي الزمانين تقدم (¬3) حتى تحصل للثالثة رتبة العدد. وقد احتج لزيد بأن الصحابة شكت (¬4) حر الرمضاء فلم يشكهم (¬5) ما أنزل الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}. هذا مثل ما احتج به لمذهب زيد. وقد قالس أصحابنا جوابًا عنه ليس نزول الآية عند شكواهم شدة الحر بالذي يوجب حمل الوسطى على الظهر. وإنما أفادت الآية المحافظة على الصلوات أجمع (¬6) وفيها الظهر الذي كانت الشكوى بسببها. وذكر الوسطى تخصيصًا منبها على زيادة المحافظة عليها. ¬

_ (¬1) قد ساقطة -ح-. (¬2) أو كونها -و -ق-. (¬3) تقدم: ساقطة في -ح-. (¬4) اشتكت -و -ق-. (¬5) رواه مسلم عن خباب رضي الله عنه بطريقين. إكمال الإكمال ج 2 ص 306. (¬6) جمع -و -ق-.

وأما من قال إنها صلاة العشاء فإنه اعتبر ما قدمناه بأن (¬1) خصيصها بالذكر يدل على أنها أقرب إلى التضييع، والإنسان قد يغلب عليه النوم في وقت صلاة العتمة في غالب الأمر فيترك الصلاة فأمر بالمحافظة عليها لأجل ذلك. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في الأفضل من وقت صلاة الصبح. فذهب مالك والشافعي إلى أن أول الوقت أفضل. وذهب أبو حنيفة إلى أن آخر الوقت أفضل. وحكى الطحاوي عنه أن الأفضل الجمع بين التغليس والأسفار، بأن يبدأ الصلاة في التغليس ويختمها في الأسفار. ودليلنا على استحباب التغليس قول عائشة رضي الله عنها: كان النساء يخرجن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس (¬2). وهذا فيه إثبات الفضل في التغليس لأن قولها كان، إشارة إلى المداومة على هذا الفعل. وفيه أيضًا رد ما حكاه الطحاوي من اختيار إتمام الصلاة في الأسفار لإخبارها أنهن كن ينصرفن من الصلاة في الغلس. وأيضًا فإنها إنما خصت بالأذان قبل وقتها لما كانت إقامتها في أول وقتها أفضل فقدم الأذان على الوقت لتأهب الناس للصلاة حتى يدركهم أول (¬3) الوقت وهم متأهبون. وأيضًا فإن الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظر الناس في صلاة العشاء إذا أبطوا (¬4). وأما الصبح قال الراوي: كانوا أو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها بغلس (¬5). قيل معنى أو أي لم يكونوا. فأشار إلى أنه كان لا ينتظرهم في الصبح وينتظرهم في العشاء. وهذا يقتضي فضيلة أول الوقت، وأما أبو حنيفة فإنه يتعلق بقوله عليه السلام: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" (¬6). وأجاب أصحابنا عن هذا بأن المراد بالأسفار ها هنا التبين، لا إسفار الشمس. وأصل هذه اللفظة التبين. ومنه قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} ومنه سفرت المرأة عن وجهها إذا أزالت ¬

_ (¬1) من أن -و -ق-. (¬2) أخرجه مالك والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها. الهداية ج 2 ص 295. (¬3) أول ساقطة -و-. (¬4) تقدم تخريجه قريبًا. (¬5) أخرجه أحمد عن جابر: والفجر كاسمها وكان يغلس بها. مسند أحمد ج 3 ص 303. (¬6) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم. الهداية ج 2 ص 292.

البرقع فبان وجهها، قال الشاعر: وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها ومنها سمي السفر لأنه يكشف عن أخلاق الرجال فالمراد بالحديث أن إيقاع الصلاة بعد بيان الفجر واتضاحه (¬1) أولى من إيقاعها في وقت قد يعرض فيه التباس. وانفصل عن هذا بأن الالتباس والشك في الفجر لا تصح الصلاة معه ولا أجر في تلك الصلاة حتى يقال إن غيرها أعظم منها أجرًا. والجواب عن هذا أنا لم نرد حالة التباس على جميع الناس وإنما أردنا أن وضوح الفجر وبيانه يتفاوت. فأمر المصلي بإيقاع الصلاة في الوضوح التام والبيان الجلي الذي لا يمكن تصور وقوع التباس فيه. وتعلقوا أيضًا بقول ابن مسعود في صلاة المزدلفة وصلاة الصبح بالمشعر الحرام. هاتان صلاتان قدمتا قبل وقتهما. قالوا وهذا يقتضي أن الصبح كانت عادته فيها الأسفار. فخالف العادة في المشعر الحرام فصلاها بغلس. وأجيبوا عن هذا بأن المراد (¬2) أنه عجلها في المشعر الحرام حين بدأ الفجر ولم يؤخرها عن أول الوقت. وقد (¬3) كان يؤخرها عن أوله قليلًا حتى يتضح الفجر إلى آخره. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: معنى قوله الوجوب المبتدأ لأن من نام عن صلاة أو نسيها فجميع الأزمان والأوقات وقت لها إذا ذكرها فيه. فتحرز بقوله أوقات الوجوب المبتدأ من الوجوب المشروع على جهة القضاء، فإنه لا يتحدد بالأوقات التي ذكر. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: لما اختلف حال الصلوات باختلاف حال الاختيار والضرورات نبه رحمه الله على ذلك لأن الشرع جاء بإقامة العصر حال الاختيار عند مضي القامة. وجعل ذلك وقتًا لها مختارًا، كما ¬

_ (¬1) إفصاحه في -و-. (¬2) أن المراد به أنه -و-. (¬3) قد ساقطة -و-.

فصل

جعل الزوال وقتًا مختارًا للظهر. ولكن رخص في تقدمة العصر عن مبدأ وقتها المختار للعذر. ولم يرخص في تقدمة الظهر عن مبدأ وقتها المختار للعذر. فنبه على هذا الاختلاف وأحال تفصيله على ما بعد. فصل قال القاضي رحمه الله: فأما أوقات الضرورات والتضييق فهي للحانض تطهير. والمغلوب يفيق والصبي يبلغ والكافر يسلم والناسي يذكر، ويتصور في اثنين (¬1) من هؤلاء العكس. وهو أن يكون في حق الطاهر تحيض والمفيق يغلب ولا يتصور في الصبي يبلغ لأنه لا يعود إلى الصغر، ولا الكافر يسلم لأنه إذا ارتد ثم عاد إلى الإِسلام لم يؤخذ بقضاء ما فات. وأخذ في حال التضييق بما يؤخذ به الكافر الأصلي إذا أسلم، ويمكن تصويره في الناسي. وبسط ذلك يطول. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما معنى تسمية هذه الأوقات أوقات ضرورة؟ 2 - ولِمَ لَمْ يعد في هذه الجملة الحاضر يسافر والمسافر يقدم؟ 3 - وما الدليل على أن المرتد إذا تاب لم يقض ما فات؟ 4 - وما المعنى الذي أشار إليه في إمكان تصور العكس في الناسي؟ والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: تأخير الصلوات عن أوقات الاختيار التي قدمنا إلى أوقات الضرورة مكروه، أو ممنوع، على ما سيرد بيانه إلا في حق هؤلاء الذين عد، فإنهم (¬2) مضطرون للتأخير إذ لا يمكن الحائض ولا المغلوب بالإغماء صلاة. فصارت ضرورة هؤلاء ومن ذكر معهم ممن شاركهم في هذا المعنى، رفعت الكراهة والمنع (¬3) فسميت أوقاتهم أوقات ضرورة. ¬

_ (¬1) اثنتين -و-ق-. (¬2) فإن فيهم مضطرون -ق-. (¬3) أو المنع -ح-.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما لم يعد المسافر يقدم والحاضر يسافر لأنهما هما المرادان بقوله والناسي. لأن الناسي الذي لم يتغير حاله بقدوم ولا بسفر (¬1) يصلي متى ما ذكر. لا يختلف حكمه في هذا باختلاف الأوقات. وإنما يختلف حكم من نسي الصلاة في الحضر فخرج مسافرًا (¬2) في آخر وقتها أو بعد تقضي وقتها على ما فصله القاضي أبو محمَّد في آخر هذا الفصل لما ذكر فيه حكم الحاضر يسافر والمسافر يقدم. فأجمل ذكرهما في أول الباب وفصل في آخره. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في المرتد هل يقضي ما لم يصله أيام ردته أو ما فرط فيه في (¬3) أيام إسلامه؟ إذا رجع (¬4) إلى الإِسلام فعندنا أنه لا يقضي ذلك. وقال الشافعي يقضيه. ودليلنا عليه (¬5) قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬6) والمرتد كافر أيام ردته فدخل في هذا الخطاب، مع القول بالعموم، ولا معنى لقول أصحاب الشافعي أن المرتد قبل ردته ملتزم لأحكام الشريعة فيؤخذ بالقضاء كما يؤخذ بذلك النائم. لأنه نام وهو ملتزم للشرع. لأن المعتبر إلزام الله تعالى لا التزام الإنسان. وإنما يؤخذ الإنسان ببعض التزاماته (¬7) يخطئ الشرع في ذلك بإلزامه (¬8) إياها. وهب أن المسلم ملتزم للشرع أيام إسلامه فهو في أيام ردته غير ملتزم للشرع. فلا معنى لذكر الالتزام أيام الإِسلام. فإن قالوا المرتد لا يقر على دينه. والكافر الأصلي يقر على دينه فلهذا يقضي المرتد ولا يقضي الكافر الأصلي. قيل الإقرار على الدين أو منع الإقرار أصل. وقضاء العبادة أصل آخر، ¬

_ (¬1) ولا سفر -ح -ق-. (¬2) مسافرًا ساقطة -ح-. (¬3) من -و-. (¬4) إذا راجع الإِسلام -و -ح-. (¬5) عليه ساقطة -ح -ق-. (¬6) سورة الأنفال، الآية: 38. (¬7) التزامه -و-. (¬8) التزامه -و -ق-.

فلأي وجه اعتبرتم أحدهما بالآخر من غير علة تقتضي ذلك ولا مناسبة توجب؟ هذا وهم يقولون إن الوثني لا يقر على دينه وتؤخذ (¬1) منه الجزية ومع هذا فإنه إذا أسلم لم يؤمر بقضاء (¬2) الصلاة. فدل ذلك على صحة ما قلناه من أن قضاء العبادة مرتبي (¬3) بالإقرار أو منع الإقرار. فإذا ثبت أن المرتد لا يقضي، لم يتصور العكس كما قال رحمه الله، وإنما يعتبر فيه إذا أسلم في حال ضيق الوقت، ما يعتبر في الكافر الأصلي إذا أسلم من اعتبار خمس ركعات قبل الغروب في الظهر والعصر على حسب ما يرد بيانه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما انعكاس الناسي فإنه لا يتضح كما اتضح في غيره من الأقسام المنعكسة التي ذكرناها. فلهذا لم يصرح به كما صرح بها، واستغنى بالإشارة إليه لعدم اختصاصه بالمعنى الذي أخذ في بيانه، ولو صورنا (¬4) الانعكاس في ذاكر نسي، فلا شك أن النسيان يمنع من توجه الخطاب؛ لأن الناسي لا يكلف ما هو ناس له. وإن قلنا إن الحاضر إذا كان ذاكرًا لصلاة الظهر والعصر، فلما كان عند تضيف الشمس للغروب أخذ في السفر ونسي أن يصلي الظهر والعصر حتى غربت الشمس وهو في السفر فذكرهما حينئذ كيف يقضيهما قصرًا أو إتماما؟ يعتبر مقدار خروجه. فهذا وإن تصور فإنه لا معنى له. لأن المعتبر مقدار خروجه فيؤمر بالصلاة على حسب ما يقتضيه ذلك المقدار. فإن غفل عن إقامة ما أمر به فلم يذكر إلا بعد حين، فهل تعتبر الحالة الواجبة عليه أو حالة الأداء؟ هذه مسألة أخرى. وقد يمكن صرف إشارته رحمه الله إلى تصويره بأن يفرض الكلام في مسألة من نسي الظهر وصلى العصر عند الغروب وبقي بعد فراغه من العصر للغروب مقدار ركعة. فهل تجعل هذه الركعة وقتًا للظهر أو يكون الظهر خرج وقتها؟ هذا أصل مختلف فيه سنبسط القول فيه إن شاء الله وفي أمثاله من المسائل. فإن بسطها كما قاله ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ بالإثبات. (¬2) بالقضاء للصلاة -و-. (¬3) غير مرتبي -و-. (¬4) ولو صور -ح-.

رحمه الله تعالى فيكون المراد أنه يذكر أمرًا وينسى أمرًا آخر يتعلق حكمه بحكم ما ذكر على حسب ما يفصله إن شاء الله. ولكن هذا الانعكاس لا يطابق الانعكاس المذكور في غير ما عده رحمه الله. لأن العكس هناك في تلك المسائل ينصرف إلى معنى واحد وصلاة واحدة. والانعكاس الذي هو ذاك رنا س (¬1) إنما يتصور على حسب ما قلناه ها هنا في أمرين ولا فائدة له في هذا الباب المقصود الكلام عليه فنزيد في الكشف عنه. قال القاضي رحمه الله: وبيان هذا الأوقات هو أن ابتداء الزوال وقت للظهر مختص لا تشاركها (¬2) فيه العصر بوجه. ومنتهى هذا الاختصاص قدر أربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر. ثم يصير الوقت مشتركًا بينها وبين العصر فلا يزال الاشتراك قائمًا إلى أن يصير قبل وقت الغروب بقدر أربع ركعات للحاضر أو ركعتين للمسافر فيزول الاشتراك ويختص العصر بالوقت. وتفوت الظهر حيئنذ على كل وجه. وإدراك وقت الصلاة المعتد به هو إدراك ركعة منها وما قصر عن ذلك فليس بإدراك. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على ما ذكره من الاختصاص؟ 2 - وما الدليل على ما ذكره من الاشتراك؟ 3 - وما معنى تقييده بقوله وتفوت الظهر حينئذ على كل وجه؟ 4 - وما معنى تأكيده بقوله وما قصر عن ذلك فليس بإدراك؟ والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف أصحابنا في اختصاص أول الصلاتين بأول الوقت وآخر الصلاتين بآخر الوقت. فقال ابن القصار وغيره من أصحابنا بما قاله القاضي أبو محمَّد ها هنا من اختصاص الظهر بعد الزوال بقدر ركعاتها. والعصر قبل الغروب بقدر ركعاتها. وذهب غيرهم من أصحابنا إلى منع الاختصاص. قالوا وإنما ثبت (¬3) الاختصاص لأجل الترتيب الذي جاء به ¬

_ (¬1) ينسى في -و -ق-. (¬2) لا يشركه -غ-. (¬3) يثبت -ح-.

الشرع في هاتين الصلاتين من كون الظهر مقدمة على العصر. فلو سقط الترتيب بوجه ما، لسقط الاختصاص. فحجة من أثبت الاختصاص قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (¬1). فجعل ما قبل الغروب مختصًا بالعصر. فلو كان الاشتراك ممتدًا إلى الغروب لقال فقد أدرك الظهر والعصر أيضًا. فلو جعلنا الاشتراك ممتدًا إلى الغروب لكان موقع صلاة الظهر عند الغروب موقعا لها في وقتها. ويكون إيقاع العصر بعد الغروب إيقاعًا لها في وقتها. وذلك غير صحيح. لأن ما بعد الغروب ليس بوقت للعصر ولأن الغروب إذا حان، سقط فرض صلاة الظهر، مع تقدمها، على العصر. فلولا اختصاص الوقت بالعصر لما سقط فرض صلاة الظهر مع تقدمها. وحجة من قال بنفي الاختصاص أن السفر إنما جعل عذرًا في تخفيف عدد ركعات الصلاة لا في نقلها إلى أوقات لا يصح فعلها فيها (¬2) على جهة امتثال الأمر. ألا ترى أنه عذرٌ رد الظهر إلى ركعتين ولم يبح إقامتها قبل الزوال فلو كان ما بعد الزاول يختص بالظهر لوجب ألاَّ يجوز للمسافر أن يجمع (¬3) عند الزوال لأنه يكون حينئذ إذا صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين أوقع ركعتي العصر في وقت الظهر ووقتها (¬4) ما بعد أربع ركعات بعد الزوال. فيكون السفر حينئذ عذرًا في نقلها عن وقتها إلى ما قبله. وقد قدمنا أن السفر لا ينقل الصلاة عن وقتها. فدل ذلك على أنه لا اختصاص للظهر بعد الزوال. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما اشتراك الصلاتين في الوقت الذي ذكرناه (¬5)، فإن أبا حنيفة والشافعي خالفا في ذلك. ومنعا أن يكون بين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود والبيهقي وأحمد. إرواء الغليل ج 1 ص 273. (¬2) فيها ساقطة -و-. (¬3) الجمع -و-. (¬4) وقتهما -ح-. (¬5) ذكرنا -و-.

والصلاتين اشتراك. ودليلنا ما وردت به الآثار من جمع النبي بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلولا اشتراك الظهر والعصر في الوقت، والمغرب والعشاء في الوقت، لم يجمع بينهما كما لم يجمع وبين العصر والمغرب ولا بين الصبح والظهر، لعدم الاشتراك في الوقت. ولأن الحائض إذا طهرت لمقدار (¬1) خمس ركعات قبل الغروب، صلت الظهر والعصر. فلولا اشتراك الصلاتين في الوقت لم تؤمر بصلاة الظهر كما لم تؤمر بها إذا طهرت بعد الغروب. ولا ينفصل عن هذا بأن هذا وقت مختص بأصحاب الضرورات؛ لأن معنى اختصاصه بهم وإضافة الوقت إليهم أنهم غير مقصرين في تأخير الصلاة إلى آخر الوقت للعذر المانع لهم من إقامتها في (¬2) وقت الاختيار. ومن أخرها عن وقت الاختيار فقد قصر ونقصت صلاته عن الكمال. قال القاضي أبو الحسن ابن القصار: هو وإن لم يلحقه الوعيد بالتأخير فقد أساء. وإذا ثبت أن هذا أساء وقصر، والآخر لم يسيء ولم يقصر، صح معنى الاختصاص في الإضافة. فإن تعلق أبو حنيفة والشافعي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر (¬3). وبقوله: إنما التفريط فيمن ترك الصلاة حتى دخل وقت أخرى (¬4). وإذا ثبت التفريط بدخول وقت الأخرى امتنع الاشتراك. وكذلك تحديده وقت الظهر بأن لا يحضر وقت العصر، قيل المراد بهذا ما لم يدخل وقت العصر المختص به *وهو ما قبل الغروب بقدر ركعاتها. أو يراد به بيان الوقت المختار، وكذلك التفريط إنما يراد به ما لم يحضر وقت الصلاة الأخرى المختص بها* (¬5) فإن تعلقوا بصلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما ¬

_ (¬1) لقدر -ق-. (¬2) في ساقطة -ح -ق-. (¬3) الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر. عارضة الأحوذي ج 1ص 250. وأحمد ج 2 ص 232. (¬4) رواه النسائي في باب من نام عن صلاة عن أبي قتادة إنما التفريط فيمن لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى. السنن ج 1 ص 294. (¬5) ما بين النجمين ساقط من -ح-.

ذكرناه من حديث عبد الله بن عمرو المحدد فيه أوقات الصلوات، وزعموا أن هذه الأحاديث الصحيحة تمنع من الاشتراك وتوجب حصر الأوقات على ما بينه جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس في حديث عبد الله بن وغيره. قيل لهم يقابل هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (¬1). فقد اقتضى هذا الحديث أن العصر تدرك بمقدار ركعة قبل (¬2) الغروب. وهذا على عمومه فيجب بناء هذه الأحاديث. فإن بنوها على أن المراد بقوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، أصحاب الضرورة كالحائض تطهير حينئذ فإنها غير ملومة بالتأخير. والمراد بحديث جبريل وحديث عبد الله بن عمرو، من عدا أصحاب الضرورات، قيل لهم قد يبني أصحابنا الأحاديث على خلاف هذا البناء فيقولون: إن (¬3) المراد بحديث جبريل وحديث عبد الله بن عمر بيان الأوقات المختارة إذا وقعت الصلاة فيها وقعت كاملة. والمراد بقوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر بيان الأوقات التي لا يكون إيقاع الصلاة فيها قضاء بل يكون أداءًا وتكون الصلاة فيها ناقصة لا كاملة. وقد يعترض علينا في هذا البناء بأن متعمد تأخير العصر إلى قبل الغروب بمقدار ركعة آثم إذا لم يكن له عذر في التأخير. وإذا حمل قوله من أدرك ركعة من العصر على عمومه اقتضى ظاهره نفي التأثيم بقوله فقد أدرك العصر. وتحقيق بناء هذه الأحاديث حتى لا تتعارض، وترجيح بناء طائفة على طائفة يفتقر إلى إيراد فصول من علم الأصول لا يحملها كتابنا هذا. وقد نتكلم فيما بعد إن شاء الله على المصلي للعصر إذا أوقع بعضها قبل الغروب وبعضها بعده. ¬

_ (¬1) رواه مالك عن زيد بن أسلم عن أبي هريرة: إرواء الغليل ج 1 ص 237. (¬2) من الغروب -و-. (¬3) إن ساقطة -ح-.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما وجه تقييده بقوله على كل وجه، فإنه يحتمل أن يقصد بذلك الإشارة إلى رد أحد القولين اللذين ذكرناهما، وأن (¬1) الاختصاص يثبت للعصر قبيل (¬2) الغروب خلافًا لمن زعم من أصحابنا أن الاختصاص يسقط إذا سقط الترتيب على ما حكيناه عنهم. وخلافُ اللشافعي في قوله إن مدرك ركعة قبل الغروب يكون مدركًا للصلاتين، فقيد رحمه الله كلامه. وأكد مراده في إثبات (¬3) الاختصاص فقال: وتفوت الظهر حينئذ على كل وجه. ومما انبنى على هذا المعنى الذي أشار إليه وذكرنا نحن الاختلاف فيه، من نسي الظهر وصلى العصر فلما كان قبل الغروب بركعة أغمي عليه. أو كانت امرأة فحاضت فاختلف قول ابن القاسم في وجوب قضاء الظهر. والاختلاف في هذا مبني على الاختلاف من اختصاص العصر بما قبل الغروب. فمن أثبته أوجب قضاء الظهر لأن العذر الطارئ طرأ بعد ذوات الظهر واستقرارها في الذمة، فوجب قضاؤها. ومن نفى الاختصاص عند سقوط الترتيب، كمثل ما جرى في هذه المسألة، فإنه لا يوجب قضاء الظهر. لأنه يقدر مقدار هذه الركعة وقتًا للظهر. فإذا طرأ العذر في وقتها سقط فرضها. ولما أشكل على ابن حبيب هذا الاختلاف ذهب إلى الاحتياط للصلاة فأي المذهبين كان مقتضيًا إيجابها (¬4) ركبه وصار إليه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما وجه تأكيده بقوله وما قصر عن ذلك فليس بإدراك فإشارة إلى خلاف (¬5) أبي حنيفة والشافعي فإنهما قالا إن مدرك مقدار تكبيرة قبل الغروب يكون مدركًا للصلاة. وحملا على أن القصد بقوله عليه السلام: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك ¬

_ (¬1) ولأن -و-. (¬2) قبل -ح-. (¬3) في نفي في -ح- ولا يظهر له وجه. ومراده في الاختصاص -ق-. (¬4) إيجابه -و -ق-. (¬5) قول في -و -ق-.

العصر (¬1)، التنبيه بالأدنى على الأعلى. وذكر ركعة ضرب مثل للقلة فكأنه قال: من أدرك جزءًا من العصر، وهذا لا نسلمه لهم لأنه دعوى. وإخراج لكلامه - صلى الله عليه وسلم - عن ظاهره من غير دليل ألجأ إلى ذلك. لكن اختلف أصحابنا في قوله من أدرك ركعة، هل هو مقصور على إدراك الركعة بمجردها دون سجودها أخذًا بظاهر الحديث، وإليه صار أشهب أو كنى بالركعة عن الركعة وسجودها وإليه صار ابن القاسم؟ لكن ابن القاسم لا يلزمه ما ألزمنا أبا حنيفة والشافعي؛ لأن الركعة يعبر بها في العرف عن الركوع والسجود، فصح حمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على معنى مستعمل في العرف. ولم يستعمل في عرف التخاطب ذكر الركعة كناية عن تكبيرة الإحرام، فلهذا لم يلزم ابن القاسم ما ألزمناه أبا حنيفة والشافعي. وإذا قلنا إن المعتبر مقدار الركعة أو مقدار الركعة بسجدتيها فيختلف، هل يعتبر فيها الطمأنينة أم لا لأجل الاختلاف في فرض الطمأنينة؟ ويختلف هل يعتبر فيها قراءة أم القرآن لأجل الاختلاف في كونها فرضًا في كل ركعة على ما سيرد بيانه إن شاء الله. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: فإذا طهرت حائض أو أفاق مغمى عليه، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر، وقد بقي من النهار بعد فراغهم مما يمكنهم به أداء الصلاة من طهارة وستر عورة وغير ذلك قدر خمس ركعات في الحضر أو ثلاث (¬2) في السفر فعليهم الظهر والعصر لإدراكهم (¬3) وقتهما. وذلك لبقاء ركعة من وقت الظهر المشترك، وإدراك جميع وقت العصر. وإن كان الباقي أربعًا أو أقل من الخمس (¬4) فقد فات وقت الظهر فيسقط عنهم ويخاطبون بالعصر فقط لإدراكهم وقتها. ولو أدركوا من وقت العصر قدر ركعة فقط لكانوا مدركين لوقتها. فإن أدركوا دون ذلك، فلم يدركوا ما يلزمهم به (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم قريبًا. (¬2) ثلاث ركات -غ-. (¬3) لإدراك -ح -و-ق-. (¬4) وأقل من الخمس -غ- وأقل من الخمسة -و-. (¬5) به ساقطة من -ح -و -ق-.

وكذلك لو أخرت امرأة الظهر والعصر إلى أن طرأ عليها الحيض وقد بقي من النهار قدر (¬1) خمس ركعات أو ثلاث على التفصيل الذي ذكرناه فلا قضاء عليها إذا طهرت لأنها حاضت في وقتهما (¬2). وإن كان الباقي دون ذلك كان عليها قضاء الظهر لإدراك (¬3) وقتها ولم يلزمها قضاء العصر لأنها حاضت في وقتها. وكذلك الحكم في المغلوب وغيره، ومثل ذلك في المغرب والعشاء وهو أن تطهير حائض أو يفيق مغلوب وقد بقي إلى الفجر قدر خمس ركعات فتلزمه الصلاتان لإدراكه وقتهما. فإن أدرك قدر ثلاث ركعات سقطت المغرب لفوات وقتها وأنه لو صلاها لم يبق للعشاء وقت. وإن أدرك قدر أربع ركعات فقيل يصليها لأنه تبقى ركعة للعشاء. وقيل يصلي العشاء فقط لأنه لم يدرك شيئًا من وقت المغرب. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن الظهر لا تفوت إلا بالمقدار الذي ذكر؟ 2 - وما الحكم في هذا الوقت لو استحق بصلاة أخرى منسية؟ 3 - وما الحكم فيه لو فسدت بالحدث؟ 4 - وما الحكم لو فسدت بنجاسة الماء؟ 5 - وما حكم الخطإ في التقدير في هذا الوقت؟ 6 - ولم اختلف في مدرك أربع ركعات قبل الفجر؟ فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما اعتبار ذوات الظهر بما ذكر، فإن أبا حنيفة خالف فيه وذهب إلى أن خروج القامتين يفوت به وقت الصلاة المشروع. لأهل الاختيارواهل الضرورة، بناء منه على أصله في أن آخر وقت الظهر القامتان. وسلك في هذا ما كنا أشرنا إليه فيما تقدم من تعليم جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته. فإن الأحاديث الواردة بذلك لم تجعل ما بعد القامتين فيها وقتًا للظهر فسقط اعتباره، وقد كنا قدمنا أن جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ¬

_ (¬1) قدر مثبتة في الغاني ساقطة في بقية النسخ. (¬2) وقتها -غ -و -ق- الغاني- وتفردت ح بقي وقتها. (¬3) لفوات -غ -و -ق -ح-.

هاتين الصلاتين يشعر باشتراكهما في الوقت وذلك يقتضي ما قلناه من أن الظهر لا تفوت إلا قبيل الغروب بمقدار أربع ركعات التي يختص بها العصر، ولا معنى لإعادة هذا بعد ما تقدم. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب فيمن بقي بينه وبين الغروب (¬1) من أصحاب الضرورات مقدار ما يعتبر في الصلاتين أو في العصر خاصة فذكر صلاة منسية فاختلف في ذلك قول ابن القاسم هل عليه إذا صلى المنسية وغربت الشمس قضاء الصلاة التي استحقت الوقت *بحكم الأداء أم لا؟ فقيل ليس ذلك عليه لأن منعه من أداء الصلاة التي استحقت الوقت* (¬2) لأجل اشتغاله بالمنسية. ووجوب تقدمتها عذر (¬3) يمنع من توجه الصلاة المستحقة للوقت عليه. كما كان الحيض مانعًا من توجهها لما جاء الشرع بمنع الحائض من الصلاة. وقيل عليه قضاؤها قياسًا على أصحاب الاختيار إذا أخروا الصلاة حتى ضاق الوقت وذكروا صلاة منسية فإنه لم يختلف أنهم يصلون ما حضر وقته بعد فراغهم من المنسية. ويمكن عندي أن يفرق الأولون بين ما قالوه وبين المسألة المتفق عليها بأن المختار كالمتعدي في التأخير إلى ضيق الوقت، فإذا توجه عليه الأمر بصلاة أخرى فلا تسقط عنه تلك الصلاة، الذي هو كالمتعدي في تأخيرها. والحائض والمغمى عليه غير متعديين في التأخير. فإذا ضاق الوقت عند زوال عذرهما وأمرا بصلاة أخرى منعتهما من صلاة الوقت صار ذلك المنع كمنع الحيض والإغماء. وإنما يبقى على هذا اعتراض بالناسي والنائم، فإنهما لا يختلف في قضائهما ما حضر وقته، وإن شغلهما عنه إقامة الصلاة المنسية، لكن لا يلزم الاعتراض على ما قلناه بالنائم والناسي؛ لأن الشرع لم يجعل النسيان والنوم عذرًا في سقوط القضاء. وإن اتصل النوم والنسيان حتى ذهب الوقت، بل جعلهما في وجوب القضاء كالمختارين، لما كان قد يخيل أن الناسي معه ضرب من التفريط إذ لم يلزم نفسه الذكر، والنائم ¬

_ (¬1) المغرب -و-ق-. (¬2) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬3) عليها -و -عليه -ق-.

كذلك. إذ لم يحترز من الأسباب المطيلة للنوم. والحائض لا يتخيل فيها تفريط ولا قدرة على إزالة سبب التفريط. فلهذا لم يلحق بالمختار. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا تطهرت الحائض ثم أحدثت وأخذت في إعادة الغسل فغربت الشمس فإنها تقضي الصلاة الفائتة لأجل الغسل المعاد؛ لأنها لما كملت طهارتها الأولى (¬1) تحقق خطابها بالصلاة. وحدثها لا يمنع من توجه الخطاب عليها. لأن المحدث مأمور بالصلاة وإن كانت لا تتأتى منه مع بقاء حدثه على ما تقرر بيانه في كتب الأصول. وقد قيل لا يتوجه الخطاب عليها لأن منع (¬2) الحدث الطارئ كاستدامة منع الحيض على ما كنا أشرنا إليه. وهذا إنما يمكن أن يقال فيمن غُلِبَت على الحدث. وأما من أحدثت مختارة فلا يختلف فيها. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا اغتسلت الحائض بماء غير طاهر فَلمَّا أخذت في الإعادة بالماء الطاهر غربت الشمس فإنها لا يلزمها (¬3) قضاء ما فات، لأجل تشاغلها بالغسل المعاد. لأن منعها من الصلاة بالطهر الأول كمنعها من الصلاة بالحيض. وقيل بل تؤمر (¬4) بالقضاء إذا كان الماء الأول لم يتغير لأن الصلاة به تجزئ. وإنما تعاد في الوقت طلبًا للكمال. ولهذا قال أشهب، لو علمت المتطهرة بهذا الماء أنها إذا أخذت في الإعادة للغسل غربت الشمس، كانت صلاتها بذلك الغسل أولى من اشتغالها بالإعادة ضى يفوت الوقت. وهذا الذي قاله صحيح على أصل من قال من أصحابنا: إن الماء لا ينجس إلا بالتغير؛ لأن إعادة الغسل لأجل هذا الماء استحسان. ومراعاة الوقت فرض. وتحصيل الفرض أولى من تحصيل الكمال. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: لو قدرت الحائض لما طهرت، ما قبل الغروب بخمس ركعات، فأخذت في صلاة الظهر فلما صلت ركعة غربت ¬

_ (¬1) أولًا -و-. (¬2) معنى -ح-. (¬3) لا يلزم -ق -و-. (¬4) لا تؤمر -ح-.

الشمس فإن عليها صلاة العصر ولا تسقط الصلاة الواجبة بخطئها، واشتغالها بفعل صلاة غير واجبة. كما لا تسقط الصلاة عمن نسي الصلاة ضى خرج وقتها. وأما قطعه لما هو فيه من الصلاة فيعلم حكمه من كلامنا على ذاكر صلاة وهو في صلاة، وسيرد بيانه إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ. ولو أن هذه المقدرة لهذا الوقت صلت العص رنا سية للظهر، فإن عليها صلاة الظهر لكونها مدركة وقتها. ولا يسقط الإدراك بفعل خطإ على ما ذكرناه (¬1). فإذا صلت الظهر فهل تؤمر بقضاء العصر؟ فيه قيلان. فقيل تؤمر بقضائها لأنها أوقعتها في غير وقتها إذ الأربع ركعات من الخمس المقدرة قبل الغروب وقت مختص بالظهر. فموقع العصر فيه فصل لها في غير وقتها، فيعيدها بعد الوقت. كمن صلى العصر عقيب الزوال بغير فصل فإنه يعيدها وإن ذهب الوقت، لإيقاعه إياها في وقت مختص بالظهر. وقيل لا إعادة عليه للعصر لأن الصلاة المفعولة لا تعاد لأجل المنسية إلا في الوقت. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في مدرك أربع ركعات قبل الفجر هل يكون مدركًا لصلاة المغرب والعشاء كما قاله مالك وأكثر أصحابه، أو يكون مدركًا للعشاء خاصة كما قاله ابن الماجشون وابن مسلمة لأجل الاختلاف في آخر الوقت؟ هل يكون وقتًالأول الصلاتين أو لآخرهما (¬2)؟ فمن قدره لأول الصلاتين جعله مدركًا للمغرب لحصول جميع ركعاتها. وتفضل ركعة يكون مدركًا بها للعشاء أيضًا. ومن قدره لآخر الصلاتين جعله مدركًا للعشاء خاصة لكون هذا المقدار من الزمن لا يسع أكثر من قدر ركعات العشاء. وهكذا قال ابن الماجشون أن المغرب إنما يكون لها ما فضل بعد ركعات العشاء. فحجة القول الأول أن أولى الصلاتين لما وجب تقديمها على الأخرى فعلًا وجب تقديمها في الوقت تقديرًا، لاستحقاقها رتبة السبق. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل مدرك ركعة من العصر مدركًا للعصر. فكذلك من أدرك ركعة من العشاء قبل الفجر يكون مدركًا للعشاء. وإذا كان مدركًا لها بركعة واحدة فلا ¬

_ (¬1) ما قدمناه -و-. (¬2) أو لأحدهما -و-.

معنى لاعتبار جميع ركعاتها. وإذا لم يجب اعتبار جميع ركعاتها وجب صحة القول الأول بأن الواجب الصلاتان جميعًا لتأتي فعل الأولى بكمالها وركعة من الآخرة. وهو الذي كان يختار بعض شيوخنا. وحجة القول الثاني أن الوقت إذا ضاق حتى لا يسع إلا إحدى الصلاتين فإن الواجب على المكلف فعل الصلاة الآخرة وتسقط عنه الأولى. ألا ترى أن مدرك أربع ركعات قبل الغروب إنما يجب عليه العصر خاصة، ويسقط عنه الظهر. فإذا تزاحم الصلاتان على آخر الوقت وثبتت الآخرة وسقطت الأولى دل ذلك على أن آخر الصلاتين أحق بآخر الوقت كما قاله عبد الملك. وعندي أنه يجب أن ينظر في هذه المسألة من وجه آخر، وذلك أن بعض أشياخنا كان يقول لا أعلم خلافًا بين الأمة في أن التعمد في تأخير العصر إلى قبيل الغروب، بمقدار ركعة، لا يجوز، وإن فاعل ذلك آثم، وكذلك في الصبح. وإذا كان هذا هكذا فيحسن اعتبار عبد الملك جميع عدد ركعات الصلاة دون اعتبار ركعة واحدة منها لحصول الإثم بالاقتصار على ركعة واحدة في الوقت، إذ (¬1) كان الاعتبار عندهم بحصول جميع ركعات الصلاة في وقتها، وإن التأثيم يحصل في ذلك لمؤخر العشاء إلى مقدار ركعة قبيل الفجر. إذ (¬2) لم يرد إذن في الشريعة بجواز ذلك في شيء من الصلوات. ويكون محمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"، على أنه أدرك الخطاب بالوجوب إذا كان المانع من الوجوب الذي هو الحيض مثلًا، لم يرتفع إلا حينئذٍ. ولا يكون المراد بالحديث على هذه الطريقة أنه مدرك لوقت الصلاة حتى يكون مؤديًا لجميع ركعاتها في الوقت. ولهذا المعنى الذي أشرنا (¬3) إليه ركب بعض المتأخرين أن المرأة إذا أخرت العصر إلى قبيل الغروب بمقدار ركعة فحاضت حينئذٍ أنها إذا طهرت تقضي العصر لأنه قدر أن الثلاث ركعات ¬

_ (¬1) إذا -و -ح-. (¬2) إذا في -ح-. (¬3) أشار.

التي يسعها (¬1) النهار حصلت في الذمة وصارت كصلاة تركت عمدًا حتى خرج وقتها. وإذا حصلت صلاة في الذمة وجب قضاؤها. ولما لم يمكن فعل ثلاث ركعات والاقتصار عليها وجب أن تأتي بجميع العصر. وعلى هذه الطريقة تكون الحائض إذا طهرت حينئذٍ إنما وجبت عليها ركعة. فلما لم يمكن فعل ركعة على حيالها خوطبت بفعل الثلاث الساقطة بالحيض. وقد اختلف قول أصحاب مالك في المرأة إذا صلت ركعة من العصر قبل الغروب فلما غربت الشمس حاضت *هل تؤمر بقضاء هذه الصلاة إذا طهرت؟ فقيل لا يجب قضاؤها لأن من حاضت في وقت صلاة لا تقضيها* (¬2) وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرك ركعة من العصر قبل الغروب مدركًا للعصر. وإذا كانت هذه مدركة لم يجب القضاء. وقيل بل القضاء عليها واجب. ووجه هذا القول ما نبهنا عليه من أن تعمد التأخير إلى هذا المقدار يحصل به الإثم وأن الثلاث ركعات في حكم ما يقضى لفواته. ومن حاضت بعد الفوات وجب عليها القضاء فيجب (¬3) أن يتأمل هذا الفصل في بناء هذين المذهبين عليه. ولو كان من خوطب بالصلاة مسافرًا وارتفع عذره المسقط للخطاب، وقد بقي للفجر مقدار ثلاث ركعات كحائض تطهير حينئذٍ، أو مغمى عليه يفيق حينئذٍ، فاختلف أصحاب مالك في هذه المسألة. فذهب ابن القاسم وأشهب إلى أن الخطاب إنما يتوجه بصلاة العشاء خاصة، وأسقط (¬4) المغرب. وذهب ابن عبد الحكم إلى إيجاب الصلاتين جميعًا المغرب والعشاء. قال أصبغ هذه آخر مسألة سألت عنها ابن القاسم فقال لي: أصبت أنت (¬5) وأخطأ ابن عبد الحكم وذكر لسحنون قول أصبغ فقال: بل أصاب ابن عبد الحكم. لأن آخر الوقت لآخر الصلاتين. وهكذا لو حاضت المسافرة سقطت عنها الصلاتان على أحد القولين ولم يسقط إلا العشاء على ¬

_ (¬1) لا يسعها في - و - ق -. (¬2) ما بين النجمين هكذا ورد في -ح-. حاضت فقيل: لا قضاء عليها لأنها حاضت في وقت صلاة لا تقضيها. (¬3) فوجب -و-. (¬4) وسقط -ح-. (¬5) أنت ساقطة -و-.

القول الآخر وتقضي المغرب ويصير الوقت كأنه كله للعشاء وتلغي الركعة الفاضلة. واعلم أن تخريج هذه المسألة على الأصل الذي قدمناه يتضح فيه طريقة عبد الملك. لأنه إذا جعل آخر الوقت لآخر الصلاتين فقد أدرك هذا المسافر جميع ركعات العشاء وفضلت ركعة للمغرب، فصار مدركًا للصلاتين فوجب عليه فعلهما كما قال ابن عبد الحكم وسحنون. وإن اعتبرنا المسألة على طريقة مالك وأكثر أصحابه، وهي جعل (¬1) آخر الوقت لأول الصلاتين، فإن الذي نص عليه من سلك طريقته أنه إنما يجب عليه (¬2) صلاة العشاء خاصة وتسقط المغرب. وكان هذا البناء ينافره (¬3) اللهم؛ لأنه إذا اعتبر عند آخر الوقت أول الصلاتين فكيف تسقط المغرب وهي أول الصلاتين؟ وكان سقوطها مناقض للأصل الذي أصله مالك. وابن القاسم وأشهب من القائلين بأصل مالك، وهما قد أسقطا المغرب لأجل أنه لو فعلها لم يبق للعشاء وقت. ولما استشعر بعض الصقليين انحلال هذا البناء دعاه ذلك إلى أن قال المذهب على ثلاثة أقو الذي هذا الأصل: قول يجعل فيه آخر الوقت لآخر الصلاتين. وقول يجعل فيه آخر الوقت لأول الصلاتين. وقول يعتبر فيه إدراك جملة الصلاة وركعة من الأخرى ولا يراعى أن يبدأ بأول الصلاتين ولا (¬4) بآخرهما. فإذا صح له إدراك هذا المقدار وجبت الصلاتان. وإذا ثبت أن الموجبين للعشاء خاصة يرون أن آخر الوقت لأول الصلاتين فلم يستمروا على أصلهم بل أوجبوا الآخرة، وعذرهم عندي في ذلك أنهم لو أوجبوا فعل المغرب لذهب الوقت وتصرم الليل فيصير فعل العشاء بعد الفجر. وليس ذلك وقتًا لها. والحائض إذا طهرت لا تؤمر بفعل ما سبق من الصلوات وترك ما تأخر (¬5). وإيقاع العشاء بعد الفجر كالترك لها. فلما لم يصح تركها وكان الواجب على هذا الأصل صلاة واحدة لا صلاتين ¬

_ (¬1) وهي جعل = ساقطة -و-. (¬2) تجب عليه = ساقطة -ح -ق-. (¬3) ينافر -ح-. (¬4) أو -و-. (¬5) أخر في -ح-.

جعلت الصلاة الواجبة صلاة العشاء لأجل اعتبار إيقاعها في الوقت (¬1) فتركوا اعتبار الترتيب لاعتبار الوقت. وأما ابن عبد الحكم فإنه وإن اعتبر آخر الوقت فلم يبال بإيقاع العشاء بعد الفجر *لأن اعتبار الوقت واجب واعتبار الترتيب واجب فلا يجب ترك أحدهما للآخر* (¬2) وإن أدى لإيقاع الصلاة بعد الوقت *والآخرون لما رأوا اعتبار الأصلين جميعًا يوقع في فعل آخر الصلاتين بعد الوقت تركوا اعتبار أحد الأصلين ها هنا لأجل هذا الذي عرض فيه* (¬3) وأما الذي قاله هذا الرجل من إثبات قول ثالث. فمناقشته فيه والبحث عما قاله يقطع عن غرضنا، فاكتفينا بما كشفناه من الاعتذار عن تحقيق القول فيما ذهب إليه. وقد حاول أبو إسحاق إثبات قول ثالث في هذه المسألة من طريقة أخرى، فقال هذه المسألة عكس مسألة الحاضرة، إذا طهرت لمقدار أربع ركعات لأن هذه إذا بدأت بالأولى استوعبت الوقت وإن بدأت بالآخرة بقيت فضلة. ومسألة الحاضرة بالعكس من ذلك. قال: فعلى قول عبد الملك المستوفي الوقت للحاضرة في الصلاة الآخرة يقول في المسافرة تفضل بعد الركعتين للعشاء ركعة للمغرب، فلا بد أن تصليها وإن أدى إلى ذوات الثانية. قال وانظر على هذا المذهب هل تسقط الثانية على أحد القولين لأنها غلبت على وقتها. وذكر ما قدمناه من الاختلاف فيمن ذكرت صلاة نسيتها أو أحدثت بعد طهرها. وذكر الخلاف فيمن انهدم عليهم البيت حتى خرج الوقت. قال القاضي رحمه الله: وابن القاسم يرى في الكافر يسلم أن يعتبر له من الوقت، من وقت إسلامه دون فراغه من أمره. ويفرق بينه وبين غيره من أهل الضرورات لأنه لم يكن معذورًا بتأخير الصلاة. وغيره من أصحابنا يسوي (¬4) بينهما وهو النظر. لأن بالإِسلام قد (¬5) سقط عنه التغليظ، فأما المسافر ينسى في ¬

_ (¬1) اعتبار الوقت - و - ق -. (¬2) ما بين النجمين ورد هكذا في -ح-. لأن اعتبار الترتيب واجب، فلا يجب تركه، وإن أدى. (¬3) ما بين النجمين ساقط من -ح-. (¬4) سوى -ح-. (¬5) قد ساقطة - ح - و -.

سفره الظهر والعصر فيذكرهما (¬1) بعد دخول (¬2) الحضر فإن كان قدومه لقدر خمس ركعات فأكثر صلاهما تامتين. وإن كان لدون ذلك صلى الظهر مقصورة لفوات وقتها والعصر تامة لبقاء وقتها. وإن سافر وقد نسي الظهر والعصر وكان عليه وقت إن (¬3) فارق الحضر من النهار، قدر ثلاث ركعات صلاهما مقصورتين لإدراك وقتهما وهو مسافر. وإن كان دون ذلك صلى الظهر تامة قضاء (¬4) وصلى العصر مقصورة لبقاء وقتها. وكذلك القول في المغرب والعشاء .. قال الشيخ رضي الله تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لِمَ لمْ يعتبر في الكافر الطهارة؟. 2 - ولم اعتبر ذلك في غيره من أصحاب الضرورات؟. 3 - ولم كان من سافر وقدم في السفر في ضيق الوقت يؤدي الصلاة بحسب حاله إذا كان إدراكه على ما ذكر؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: لا خلاف في أن المغمى عليه غير مؤثم في تأخير الصلاة وكذلك الحائض. وأما الكافر فاختلف الناس هل هو مخاطب بفروع الشريعة أم لا؟ فمن قال إنه مخاطب بفروع الشريعة أثمه بتأخير الصلاة. ومن قال إنه غير مخاطب أثمه بالكفر (¬5) الذي منعه من إقامة الصلاة فلم ينفك من أن يكون ملومًا على (¬6) المذهبين جميعًا. فلهذا اختص عند ابن القاسم بأن لم يعتبر فيه وقت الطهارة بخلاف غيره من أهل الضرورات الذين لا لوم عليهم في التأخير. وهذا التعليل قاد بعض أشياخي إلى أن قال لو تعمدت الطاهرة تأخير العصر إلى قبل الغروب بمقدار ركعة وأخرت الوضوء إلى هذا ¬

_ (¬1) فيدركهما -غ -وهو خطأ. (¬2) دخوله -الغاني-. (¬3) إن ساقطة - و -غ - ح -. (¬4) قضاء ساقطة - ح - و. (¬5) في الكفر في - ح - ق -. (¬6) في المذهبين -و-.

المقدار ولو توضأت حينئذٍ لذهب هذا المقدار في الوضوء، فإنها إذا حاضت حينئذٍ لم تسقط عنها الصلاة؛ لأن مقدار تلك الركعة قد استحقه الوضوء وهي عاصية بالتأخير إليه. وصلاة العصر كالفائتة حينئذٍ والحيض لا يسقط قضاء الفوائت. والحائض إذا طهرت حينئذٍ بخلاف ذلك لأنها غير عاصية بالتأخير. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في المذهب في أصحاب الضرورات وهم الصبي يبلغ والكافر يسلم والحائض تطهير والمغمى عليه يفيق، إذا زالت أعذارهم عند آخر الوقت هل يعتبر إدراكهم الصلاة عند زوال العذر من غير مزيد، أو بعد زوال العذر وفعل الطهارة؟ فقيل يعتبر في جميعهم بعد زوال العذر (¬1) الطهارة، وقيل يعتبر في جميعهم إلا الكافر لما قدمناه فيه من الفرق. وقيل يعتبر في جميعهم إلا الكافر والمغمى عليه. وكان بعض أشياخي يقول لا فرق بين الجميع. فإن قلنا بأن الطهارة شرط في الوجوب لم تجب الصلاة في جميعهم إلا بعد فراغهم من الطهر. وإن قلنا إن الطهارة شرط في الأداء، لم يعتبر الطهر في جميعهم لأن الوجوب غير موقوف على شرط. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قدمنا أن مؤخر الصلاة عن وقت الاختيار قد قال بعض أصحابنا لا يلحقه الوعيد ولكنه أساء وهو مؤد للصلاة في وقتها. وإذا كان ما بعد وقت الاختيار وقت للصلاة وجب صحة اعتبار ما اعتبره القاضي أبو محمَّد في هذا الكتاب. وقد ذهب مجاهد إلى أنه وإن سافر في بقية من الوقت فإنه يصلي الصلاة حضرية، فكأنه راعى ما خوطب به في أول الوقت فلا يعتبر الخطاب بتغير الحال من حضر أو (¬2) سفر. وهذا يشبه ما قاله الشافعي إن المرأة إذا حاضت بعد أن مضى مقدار أربع ركعات بعد الزوال أن الصلاة تقضيها بعد طهرها. وكأنه رأى أيضًا أن الخطاب المتوجه في أول الوقت لا يتغير بتغير الحال. وهذه طريقة الشافعية في أن العبادة المؤقتة بوقت أوسع منها يتعلق الوجوب بأول الوقت. وقد أشبعنا الكلام في هذا ¬

_ (¬1) العذر ساقطة -ح-. (¬2) إلى -و-.

في (¬1) ما مضى. وذكرنا جميع اختلاف أهل الأصول فيه. وكأن أصحاب هذه الطريقة يرون أن الفسحة في تأخير العبادة المؤقتة بوقت عن أول وقتها بشرط سلامة العاقبة. ويلاحظ هذا المعنى ما وقع عندنا في المذهب فيمن أفطر رمضان بمرض أو سفر فإنه إذا زال عذره في جملة شوال ولم يقض رمضان فإنه إن قضاه بعد ذلك قبل الرمضان الآخر لم يكن عليه كفارة التفريط (¬2). وإن مرض بعد خروج شوال إلى الرمضان الآخر كفر كفارة التفريط. فكأن صاحب هذا المذهب قدر أن الفسحة في التأخير بعد شوال إنما يكون بشرط سلامة العاقبة. وسنشبع الكلام على هذه المسألة في كتاب الصوم إن شاء الله. وقد حاول بعض الأشياخ أن يثبت لصلاة الصبح وقت ضرورة مختلفًا فيه في المذهب. وذلك أنه قال قد قالوا لو أن عادم الماء إذا رجا إدراكه قبل طلوع الشمس فإنه يؤخر الصلاة، ولولا أن وقت الإسفار وقت اختيار لما أخر عادم الماء الصلاة إليه لأنه لا يؤمر بالتأخير بطلب الماء إلى وقت الضرورة. قال فهذه المسألة تدل على أن الصبح ليس لها وقت ضرورة. قال وأما ما يدل على أن لها وقت ضرورة فما سئل عنه مالك في المسافرين يقدمون الرجل لسنه فيسفر بصلاة الصبح فقال صلاتهم أفذاذًا أول الوقت أحب إليه. قال فلو كان الإسفار وقت اختيار لما استحب صلاة الفذ قبله. لأن صلاة الجماعة متفق على فضلها. وفضل أول وقت الصبح على آخره مختلف فيه. والفضيلة "المجمع عليها أولى. وهذا الذي قاله فيه نظر؛ لأنه يمكن أن يرى مالك أن فضيلة أول الوقت للفذ أولى من فضيلة آخره في جماعة بدليل قام له على ذلك. ويكون هذا الدليل أولى وأرجح من الترجيح بالاتفاق والاختلاف (¬3). وإذا أمكن هذا لم يلزم القول بإضافة هذا المذهب إلى مالك، وقد حكى غيره من الأشياخ اختلاف المذهب ¬

_ (¬1) على -و-. (¬2) كفارة في التفريط -و-. (¬3) النسخة -ح- صفحة 255 أولها كلام لا يتصل بالبحث. ثم إن النسخة ناقصة من باب ذكر الآذان والإقامة إلى قوله والآذان في الصبح تسعة عشر كلمة.

في أي الفضيلتين أولى؟ أول الوقت، وإن كان فذًا؟ أو آخره لأجل الجماعة؟ وإذا كان هذا الاختلاف، قد ذكر (¬1)، صح قول مالك عليه. وإنما أخرنا الكلام على هذه المسألة وأفردناها بالذكر ولم ندخلها في أثناء المسائل التي بعدها لأنها خارجة عن غرض الباب، ولما فيها من التعقب الذي ذكرناه. ¬

_ (¬1) قد ذكر = ساقطة -ق-.

ذكر الأذان والإقامة قال القاضي رحمه الله: هما سنتان غير واجبتين. وسنة الأذان في الجماعة الراتبة. والإقامة أهبة للصلاة في الجماعة والانفراد. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الأذان؟. 2 - وهل هو واجب أو مسنون؟. 3 - وهل تستوي صلوات الفرض فيه أم لا؟. 4 - وهل الإقامة آكد منه أم لا؟. 5 - وما الدليل على أن الإقامة شرعت للمنفرد؟. 6 - وما وجه قصره للأذان على الجماعة الراتبة؟. 7 - وهل تجوز الإجارة عليه أم لا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أصل الأذان الإعلام. ومنه قوله تعالى: {قَالُوا آذَنَّاكَ} (¬1). معناه قالوا أعلمناك. ومنه قول الحارث بن حلزة: آذنتنا ببيْنها أسماء ولما كان المؤذن معْلمًا للناس بما يقوله من حضور وقت الصلاة سمى قوله: أذانًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: في الأذان معنيان: أحدهما إظهار شعار الإِسلام والتعريف بأن الدار دار إيمان. والثاني الدعاء إلى الصلاة ¬

_ (¬1) سورة فصلت، الآية: 47.

واستدعاء الإتيان إلى المواضع المأمور بإتيانها للصلاة، والتعريف بحضور وقت الصلاة. وهذا المعنى الثاني هو المقصود في أكثره. فأما المعنى الأول فإنه واجب تحصيله. وهذا الوجوب فرض على الكفاية. فلو تمالأ أهل العصر على تركه لأثموا أجمعون ولأجبروا على فعله. فإن امتنعوا ولم يقدر على قهرهم عليه إلا بالجهاد جوهدوا عليه حتى يفعلوه. فإذا فعله بعضهم حتى ظهر شعار الإِسلام وعرفت الدار بالإيمان" سقط الفرض عنهم (¬1) من هذه الجهة وارتفع الإجبار والجهاد. وهذا مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب وبعض الأشياخ المتأخرين. وفي الحديث أنه كان - صلى الله عليه وسلم -: "إن لم يسمع الأذان أغار" (¬2). وأما المعنى الثاني وهو المقصود بأكثره، وهو أذان سائر المساجد والجماعات الراتبة، فالذي حكاه أصحابنا البغداديون أن مالكًا والشافعي وأبا حنيفة يرونه سنة، وأن أهل الظاهر يرونه فرضًا. وقد وقع لمالك في الموطإ أنه واجب. وقال الشيخ أبو محمَّد الأذان واجب في المساجد والجماعات الراتبة. واختلف المتأخرون في الاعتذار عن اختلاف هذا النقل عن المذهب، فتأول القاضي أبو محمَّد قول الشيخ أبي محمَّد: إن الأذان واجب. على أن معناه أنه سنة مؤكدة. وتأول بعض المتأخرين من الأشياخ قول من قال إنه سنة على أن معناه أنه ليس بشرط في صحة الصلاة. واستدل من قال بالوجوب بظواهر الأوامر، وبأن العلم بالوقت فرض. ولما لم يمكن خطاب الجميع باعتباره، خوطب به آحاد بأن يعلموا به، ليحصل الغرض المقصود. ويعم الناس العلم بالوقت كما عمهم وجوب الصلاة فيه. ومن أنكر الوجوب لم يسلم حمل الأوامر بمجردها على الوجوب، وأقل مراتب هذه الأوامر الندب فحملها عليه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في صلاة الجمعة هل الأذان لها سنة كما هو في غيرها من الصلوات، أو الأذان لها واجب لاختصاصها دون سائر الصلوات بوجوب السعي وتحريم البيع؟ وإذا اختصت بذلك وجب الآذان فيها ليجتنب البيع ويسرع في السعي. ¬

_ (¬1) عنهم = ساقطة -و-. (¬2) أخرجه البخاري: فتح الباري ج 2 ص 230. ومسلم إكمال الإكمال ج 2 ص 136 وغيرهما.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الإقامة آكد من الأذان لأنها أهبة للصلاة. وقد خوطب بها المنفرد والجماعة. والأذان لم يخاطب به إلا الجماعة، وما عم الخطاب به ها هنا آكد مما خص. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في المنفرد هل يخاطب بالإقامة أم لا؟ ومذهب مالك أنه مخاطب بها. وقد وقع في المبسوط أن الإقامة للمنفرد إنما هي لجواز أن يأتي من يأتم به. وهذه إشارة إلى ما قاله المخالف من أن المنفرد لا يفتقر لمعنى يختص به. وقد وقع في كتاب مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين في الحج بإقامة واحدة للصلاة الأولى (¬1). فسقوط الإقامة من الصلاة الثانية للاستغناء عنها باجتماع الناس يشير إلى سقوط الإقامة عن المنفرد. وسنتكلم على هذا الحديث فيما بعد إن شاء الله. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: قد قدمنا أن المقصود بالأذان في أكثر الدعاء إلى المواضع المأمور بالإتيان إليهلالإقامة الصلاة في جماعة. ولا شك أن الجوامع والمساجد والجماعات الراتبة يؤمر من أراد الصلاة بالإتيان إليها ليحصل له فضل الجماعة. ولما كان الإِمام الذي تؤدى إليه الطاعة ويقيم الجماعة يؤمر بالإتيان إليه لإقامة الصلاة، قال في الرواية إنه إذا صلى على الجنازة خارج العصر وحضرت الفريضة، أنه يؤذن للفريضة ويقيم. وأما المنفرد أو الجماعة غير الراتبة، الذين لا يفتقرون إلى إعلام غيرهم بالصلاة، وهم في الحضر فاختلف هل يستحسن لهم الأذان لأنه ذكر من الإذكار وفيه إظهار شعار الإِسلام أو لا يستحسن ذلك لهم؛ لأن الغرض الأكثر في الأذان الدعاء إلى صلاة الجماعة، وهؤلاء لا يدعون أحدًا، فلم يكن لأذانهم معنى. وقد نقلت الرواة ما جرى في مبدأ الأذان من اختلاف الآراء هل يدعى الناس للصلاة بضرب الناقوس أو غيره مما ذكر (¬2). فشرع الأذان إذ ذاك وهذا يدل على أن معظم القصد به الدعاء للجماعة. فإذا لم يكن هناك من يدعى فلا معنى له. وأما السفر ¬

_ (¬1) انظر طرقه واختلاف رواياته: سنن البيهقي ج 1 ص 401. (¬2) رواه مالك في الموطإ. شرح الزرقاني ج 1 ص 121 - 124. والبخاري ومسلم عن ابن عمر وأنس: اللؤلؤ والمرجان ص 213 - 214.

فيستحسن فيه وإن كان فذًا لقول ابن المسيب من صلى بأرض فلاة فأذن وأقام، صلى وراءه أمثال الجبال من الملائكة (¬1). وأيضًا فإن فيه إظهار شعار الإِسلام من حيث ليس هناك من ينوب عنه في إظهاره. وقد قال بعض أصحابنا في تأويل قوله عليه السلام: فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت فارفع من صوتك (¬2). الحديث. إن المعني به أنه لما كان معتزلًا عن العصر افتقر إلى إظهار شعار الإِسلام، ولو كان في العصر لاستغنى عن ذلك لنيابة أهل العصر عنه في ذلك. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: المشهور من مذهبنا: جواز الإجارة على الأذان وبه قال الشافعي، ولم يجزه ابن حبيب وبه قال أبو حنيفة. ولا تجوز الإجارة عندنا على الصلاة إلا أن يكون تبعًا للأذان، والقصد بالإجارة الأذان. وأجاز ابن عبد الحكم الإجارة على الصلاة وإن انفردت عن الأذان. فالمذهب فيهما على ثلاثة أقوال: 1 - الإجازة في كل واحد منهما على انفراده. 2 - والمنع في كل واحد منهما بانفراده. 3 - والمنع في الصلاة بانفرادها والإجازة في الأذان منفردًا أو متبوعًا بالصلاة. فمن منع الإجارة على الآذان احتج بقول الراوي في الحديث وأمرني أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرًا* (¬3). ومن أجاز الإجارة على الأذان احتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على الراقي الأخذ على رقيته أجرًا (¬4). والأذان ذكر لله فكان في معنى الرقية. ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطإ آخر باب النداء في السفر وعلى غير وضوء. شرح الزرقاني ج 1 ص 139. (¬2) رواه مالك في الموطإ عن عبد الله بن عبد الرحمن المازني أن أبا سعيد الخدري ... ورواه البيهقي: السنن ج 1 ص 397. (¬3) رواه الترمذي عن عثمان ابن أبي العاص قال: إن من آخر ما عهد إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا. حسن صحيح. ورواه النسائي في الأذان عدد 33، وابن ماجة أذان 3. (¬4) رواه مالك في الموطإ والبخاري فتح الباري ج 10 ص 430 وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد.

وأما الإجارة على الصلاة بإنفرادها، فوجه المنع منها أن كل مكلف تجب عليه الصلاة، ويلزم بفعلها. وهو إذا فعلها وهي لازمة له فالاقتداء به في صلاته لا يغير حكمها ولا يوجب عليه زيادة فعل، فكان أخذ الإجارة على ما يلزمه فعله ويجبر عليه من أكل المال بالباطل. وَأما من أجاز الإجارة فإنه يقدر أن في الإمامة زيادة كلفة عليه وارتباطًالأمر لم يكن يلزمه الارتباط إليه، وسعيا لموضع الإمامة. فالاجارة على هذا مأخوذ على ما لا يلزم فعله من ذلك كله. وقد كان بعض أشياخي يشير إلى ارتفاع الخلاف متى كان ها هنا فعله فيه كلفة لا تلزم المصلي حتى تكون الإجارة تنصرف إليه. كما يرتفع الاختلاف في (¬1) الجواز إذا لم يزد المصلي على الواجب شيئًا. وإذا قلنا بجواز الإجارة على الصلاة، على أنها تبع للإجارة على الأذان، فتعذر على المستأجر الإمامة ووفى بالأذان فهل يحط من الإجارة بسبب عجزه عن الإمامة أم لا؟ اختلف في ذلك المتأخرون، فمنهم: من يقدر أن التبع لا حصة له من الثمن، ولا يحط من الإجارة شيئًا. ومنهم من يقدر أن (¬2) للتبع حصة من الثمن فيحط من الإجارة ما قابله. واعلم أن المسائل الواردة في هذا الأصل مختلف جوابها. فالمذهب في من اشترى عبدًا له مال، أو شجرًا مثمرًا، إن استحقاق المال من يد العبد وجائحة الثمرة لا تستوجب حطيطة من الثمن. ولو استحقت حلية السيف التي هي تبع لنصله، أو أحقر سلعة من صفقة فيها سلع لحط من الثمن بقدر المستحق. فكان كل طائفة تستشهد على صحة مذهبها في الصلاة بما يوافق جوابها من هذه المسائل. والعذر عندنا عن (¬3) اختلاف جواب هذه المسائل أن الثمرة مضمونة بالقبض لما سقط السقي عن البائع، فلهذا لم تكن على البائع عهدة الجائحة. ألا ترى أنه لو باعها مفردة غير تبع لشيء وقوإنقطع السقي عنها أنه لا عهدة عليه في الجائحة. وأما العبد فمالك له وإنما وقعت المعاوضة على أن يقر البائع ملكه في يده وقد أقره، فلهذا لم يؤثر الاستحقاق. وقد قال بعض ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ والمعنى في عدم الجواز. (¬2) إن = ساقطة -و-. (¬3) على -ق-.

المتأخرين الأولى أن يحط من الثمن قدر ما يعلم أن المشتري زاده في الثمن، لتحمل العبد بماله وفوته به. كما قالوا إذا تعذر على المرأة الجهاز حط من الصداق قدر ما زاده الزوج لأجله. وإن كان الزوج لا يملكه ولا يملك انتزاعه. وهو في حكم التبع ولكن زاد في الصداق لحصول تجمل الزوجة. واعلم أنه لا يخفى على أحد أن التجار يقصدون إلى جعل الثمن عوضًا من جميع ما عقدوا عليه قلّ أو جلّ، ويجعلون لكل جزء مما اشتروه حصة من الثمن تابعًا كان أو متبوعًا. فالمخالفة ها هنا لا معنى لها لأنها كالمخالفة في أمر محسوس. وإنما يفتقر إلى الاعتبار ما قاله أصحابنا من أن كون الشيء تبعًا يرفع عنه حكم التحريم المختص به إذا انفرد في مسائل منها حلية السيف التي هي تبع لنصله، فيحرم بيعها بجنسهالأولا يحرم ذلك وهي مضافة إلى السيف إلى غير ذلك مما في معناه. وما قالوه أيضًا من استحقاق التبع في الصفقة، لا يوجب للمشتري رد جميعها. وتشرح هذه الفصول في موضعها إن شاء الله تعالى. قال القاضي رحمه الله تعالى: والأذان في الصبح تسع عشرة كلمة. وفي غيرها سبع عشرة كلمة. وحكاية لفظه في غير الصبح: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. ثم ترجع بأرفع من صوتك (¬1) فتقول أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. وفي الصبح يزيد (¬2) بعد حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. ولفظ الإقامة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أحد عشر سؤالا. منها أن يقال: ¬

_ (¬1) يرجع بأرفع من صوته الأول -غ- يرجع بأرفع من صوته -و- وهي ساقطة من الغاني. (¬2) يردد -غ- ساقطة -و-.

1 - لم اقتصر في التكبير على التثنية دون التربيع؟ 2 - ولِمَ لمْ يقتصر في الشهادتين على التثنية؟ 3 - وهل يفتتح التكبير بصوت منخفض أو مرتفع؟ 4 - وما الدليل على زيادة: الصلاة خير من النوم في الصبح؟ 5 - وهل هي في كل (¬1) أذان الصبح أو أذان ما؟ 6 - وإذا زيدت هل توتر أو تشفع؟ 7 - وما الدليل على أن الإقامة توتر؟ 8 - وهل يوتر قد قامت الصلاة أو تشفع؟ 9 - وما حكم القاطع الطاريء في أثناء الأذان. 10 - وما حكم الإقامة هل تعاد إذا قطعت الصلاة أم لا؟ 11 - وهل يسلم على المؤذن أم لا؟ فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف فقهاء الأمصار في تربيع التكبير المفتتح به الأذان. فقال مالك يثنى ولا يربع. وقال أبو حنيفة والشافعي بل يربع. وسبب الاختلاف: اختلاف الأخبار الواردة في الأذان. ويرجح مالك ما أخذ به من الأخبار بعمل أهل المدينة. ولا يكاد مع تكرر ذلك عليهم واشتهاره فيهم يخفى عنهم ما استقر عليه العمل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن الصحابة رضي الله عنهم. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الشهادتان فإن أبا حنيفة يقتصر فيهما على التثنية. وقد روي عن مالك أن المؤذنين لما كثروا خففوا فصار لا يرفع منهم إلا المؤذن الأول. وحمل بعض أشياخي على أن هذه الرواية (¬2) مذهب عنه خلاف المشهور من القول بالتربيع. والمشهور عن مالك تربيع الشهادتين وهو مذهب الشافعي. وسبب الاختلاف اختلاف الأخبار. ويرجح مالك ما أخذ به في المشهور عنه باستمرار العمل به (¬3). ¬

_ (¬1) لكل -و-. (¬2) هذه الرواية على أنها - ح - ق -. (¬3) به = ساقطة -ح-.

وقد تأول أصحاب أبي حنيفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا محذورة بالترجيع على أن ذلك إنما القصد به إغاظة المشركين. وقد يقولون أيضًا قد يكون أمره بالترجيع ليعلّمه أو لأنه أخفى صوته فأعاد ليعلم. وقد ذكر بعضهم أن أبا محذورة كان شديد البغض للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه. فلما أسلم وأخذ في الأذان فلما وصل إلى ذكر الشهادة أخفى صوته حياء من قومه. فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرك أذنه وأمره بالترجيع. قالوا ومن جهة المعنى أن المقصود بالأذان الدعاء إلى الصلاة. واللفظ المختص بهذا المعنى حي على الصلاة. فإذا لم يربع مع أنه المقصود فأحرى ألاّ يربع غيره. والجواب عما تأولوه في حديث أبي محذورة أن استمرار العمل به يمنع مما قالوه. أو يكون ما قالوه سببًا في أن شرع (¬1) الترجيح. وقد يشرع الشيء لسبب ويزول (¬2) السبب ويبقى الشرع بعده على ما هو عليه. ولهذا قلنا نحن في الرَّمل في الطواف أنه شرع مباهاة للمشركين ثم زال السبب وبقي الرَّمل. وإنما ذكرنا هذا مثالًا لا دليلًا لأنا (¬3) نخالف فيه أيضًا. والجواب عما قالوه من جهة الاستنباط، أن التكبير قد ربع أولًا في الأذان عندهم، وكرر عندنا وعندهم في آخره، مع أنه ليس هو المقصود. فلا يبعد تربيع الشهادتين مع كونها ليست المقصودة على قولهم. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: ظاهر المذهب على قولين في صفة التصويت لمبدأ الأذان. فقيل يكون في الانخفاض مناسبًا لما بعده من الشهادتين. ويكون مبدأ المبالغة في رفع الصوت إذا أخذ في إعادة الشهادة. وكان شيخنا رحمه الله ربما أذن في بعض قصور الرباط في منزله فيؤذن هكذا. والقول الثاني أنه يفتتح التكبير بالمبالغة في رفع الصوت على حسب ما يفعله إذا أعاد الشهادتين. وإنما يختص بخفض الصوت الشهادتان خاصة في أول أمرهما. وربما غلط بعض العوام من المؤذنين إذا أخذ (¬4) بالقول الأول في نطقه ¬

_ (¬1) شروع -و-. (¬2) ويزال -و-. (¬3) لأنا لا نخالف -و-. (¬4) أخذنا في -و-.

بالتكبير ويغلط أيضًا في نطقه بالشهادتين على القولين. فيخفي صوته حتى لا يسمع. وهذا غلط لأن ذكر الله سبحانه، وإن كان حسنًا سرًّا، وعلنا، فالمقصود به ها هنا إسماع (¬1) الناس ليعلموا دخول الوقت. فإذا أخفاه لم يحصل الغرض المقصود منه. وإنما تصور الخلاف في التكبير، وخالف النطق بالشهادتين أول مرة النطق بهما ثاني (¬2) مرة في أن رفع الصوت بالتكبير (¬3) يبالغ فيه مرة ولا يبالغ فيه أخرى. والذي أميل إليه من القولين المبالغة في رفع الصوت بالتكبير (¬4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن حسن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" (¬5) فأمر برفع الصوت وعموم هذا اللفظ يقتضي المبالغة في رفع الصوت بالتكبير. وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - للتعليل لرفع الصوت فقال فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن. وهذا التعليل يقتضي رفع الصوت بالتكبير لجواز أن يكون أحد في البعد من المارين بحيث لو رفع صوته بالتكبير لسمعه وشهد له. وإذا أخفاه لم يسمع. وهذا الذي قدمناه يلزم في مبدأ الشهادة لزيادته في البعد. هذا الأقرب والأظهر في التعليل. والحرص على سماع من يمكن إسماعه في أول الأذان أولى من تركه لتقدير آخر. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: مذهب مالك رضي الله عنه إثبات -الصلاة خير من النوم- في أذان (¬6) الصبح. وكرهه أبو حنيفة إلا بعد الفراغ من الأذان. ولنا عليه التمسك بالأخبار وعمل أهل المدينة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المشهور من المذهب إثباتها في ¬

_ (¬1) إعلام -و-. (¬2) في ثاني -و-. (¬3) بالتكبير = ساقطة -ح-. (¬4) في التكبير -و-. (¬5) رواه مالك في الموطإ باب ما جاء في النداء للصلاة. عن عبد الله بن عبد الرحمن المازني أن أبا سعيد الخدري. ورواه البيهقي السنن ج 1 ص 397. (¬6) أذان = ساقطة من -و-.

كل أذان للصبح. وروي ابن شعبان عن مالك أنه قال: فيمن كان في ضيعته متجنبًا عن الناس، أرجو أن يكون من تركها في سعة. ووجه هذا أن القصد بها إشعار النائمين المخاطبين بإتيان الجماعة، أن إيثار الصلاة أولى من إيثار (¬1) لذة النوم، ليكون هذا القول باعثًا لدواعيهم ومحركًا لهم إلى القيام إلى الصلاة. ومن كان في ضيعته متجنبًا عن الناس مفقدد في أذانه هذا المعنى فلهذا سهل في تركه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: المشهور من المذهب إنها تزاد في الأذان شفعًا. وقيل بل وترًا. وقد وجه القولان بالقياس على "قد قامت الصلاة" فقيل لما كانت لفظًا مختصًا بأحد (¬2) الأذانين وجب أن تكون من جنسه في العدد "كقد قامت الصلاة" وقيل لما كانت لفظًا مختصًا بآخر (2) الأذانين كانت وترًا "كقد قامت الصلاة". والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: مذهب مالك والشافعي أن الإقامة وتر. وعند أبي حنيفة أن جميعها يثنى كالأذان. وسبب الاختلاف اختلاف الأخبار. ورجح (¬3) مالك مذهبه بعمل أهل المدينة. وقد قال بعض أصحابنا: لو شفع الإقامة غلطًا لأجزأه مراعاة لهذا الاختلاف (¬4). والمشهور أنه لا يجزيه كما لو أوتر الأذان، وإن كان الأذان (¬5) لم يختلف في أنه لا يوتر. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: المشهور عن مالك رضي الله عنه أن "قد قامت الصلاة" توتر. وذكر ابن شعبان أن البصريين رووا عنه أنه يشفع. وهو مذهب الشافعي. فللمشهور قول الراوي: أمر بلالًا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (¬6) ¬

_ (¬1) إتيان أولى من إتيان -و-. (¬2) بآخر -و-. (¬3) يرجح في -و -ق-. (¬4) الخلاف. (¬5) الأذان = ساقطة -ح-. (¬6) رواه البخاري ومسلم اللؤلؤ والمرجان ص 78.

فعَمَّ سائر ألفاظ الإقامة. ولأنه (¬1) عمل أهل المدينة. ووجه الرواية الشاذة عنه ما في بعض الطرق وأمر بلالًا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة إلا الإقامة (¬2). ولأنه عمل أهل مكة. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: قال بعض أصحابنا: إن رعف المؤذن تمادى على أذانه. وإن قطع وخرج لغسل الدم ابتدأ الأذان. وإن رعف أو أحدث في الإقامة قطع. وقال بعض أصحابنا: إن مات أو أغمى عليه في الإقامة ابتدأها غيره. وإن بني على ما مضى منها أجزأه. ولو أنه هو أفاق من إغمائه لابتدأ. فإن نسي أجزأه. وقال بعض أصحابنا إن نسي جل الأذان فذكر في مقامه بني على ما مضى ولو (¬3) كان المنسي مثل "حي على الفلاح" أجزأه الأذان. ولو ذكر بعد أن تباعد، لاستوى ما قل وما كثر. ولم يؤمر بأن يعود للأذان. وقال بعض أصحابنا إن تكلم سهوًا أو عمدً ابن ي على أذانه. وينهى العامد عما فعل. وإن كان الكلام لضرورة استنقاذ أعمى من مهواة أو نار جاز الكلام، وبنى. والذي يجب أن يعتبر في هذا الباب أن القواطع إن قل زمنها حتى لا تقطع اتصال الأذان بعضه ببعض فإنه يبني لحصول الغرض المقصود من الأذان مع البناء. وإن طال زمنها حتى منعت الاتصال، لم يبن. لأن الأذان إذا انقطع اتصاله لم يحصل الغرض المقصود به، وإنما يحصل إذا وقع على النظام المعتاد أو قريبًا من ذلك النظام. وقد قال بعض أصحابنا لو قدم الشهادة بالرسالة على الشهادة بالتوحيد لأعاد الشهادة بالرسالة وكأنه رأى (¬4) أن ما قُدِّم في غير موضعه كالعدم فلا يمنع الاتصال وتعاد ليحصل الترتيب. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: ذكر بعض الأشياخ المتأخرين (¬5): ¬

_ (¬1) وهو -و -ق-. (¬2) رواه مسلم عن أنس قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. زاد يحيى في حديثه: فحدثت به أيوب فقال إلا الإقامة. أي إلا قد قامت الصلاة. (¬3) وإن -و-. (¬4) قدر -ح-. (¬5) المتأخرين = ساقطة من -و-.

أن الصلاة إذا قطعت لأمر أوجب قطعها، أن الإقامة تعاد. وأشار إلى إعادتهالأولو قرب القطع من الإقامة. لأنها إقامة قصد بها الصلاة التي قطعت، فلا تكون إقامة لغيرها مع اختصاص الإقامة بالصلاة، ووجوب اتصالها بها بخلاف الأذان. وأشار إلى التعلق في هذا بقوله في المدونة: فيمن رأى بثوبه نجاسة، وهو في الصلاة، أنه يقطع ويستأنف الصلاة بإقامة. ولم يفرق بين أن يكون القطع قريبًا أو بعيدًا. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: السلام على المؤذن منهي عنه؛ لأن المسلم يعرض المؤذن بالسلام بأحد أمرين: إما أن لا يرد. ورد السلام واجب. وإما أن يرد. والكلام في الأذان مكروه. فلما كان في السلام تعريض المؤذن لأحد أمرين منهي عنهما، نهي عن السلام عليه. فإن سلم أحد عليه لم يرد عليه نطقًا ما دام مشتغلًا بالأذان. لأن السلام ربما أدى لفساد (¬1) النظام. وقد يكثر المسقمون ويكثر الرد عليهم فيظن إلى مع أن ما سمعه من الذكر ليس بأذان وإنما هو ذكر غير مقصود به الدعاء إلى الصلاة. فإذا فرغ المؤذن من الأذان كان له الرد نطقًا (¬2) لارتفاع العلة التي من أجلها وقع النهي. واختلف أصحابنا هل له أن يرد، وهو مشتغل بأذانه، إشارة أم لا؟ فقيل له ذلك كالمصلي. وقيل ليس له ذلك بخلاف المصلي. لأن المصلي ممنوع من الكلام، فعوض عنه بالإشارة. والمؤذن غير ممنوع من الكلام وإنما نهى عنه لما فيه من إفساد النظام، فلما لم يكن ممنوعًا في الأصل لم يعوض عنه بالإشارة. قال القاضي رحمه الله تعالى: ولا يؤذن للصلاة قبل وقتها إلا الصبح وحدها. والتوجه إلى القبلة في الأذان حسن (¬3)، والأفضل أن يؤذن متطهرا. ولا يؤذن لنافلة. ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين، وإن أتمه (¬4) جاز. ¬

_ (¬1) إلى فساد -و-. (¬2) قطعًا في -و-. (¬3) أحسن -غ-. (¬4) تركه -غ-.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن الصبح يؤذن لها قبل وقتها (¬1)؟ 2 - وما مقدار الوقت الذي يقدم الأذان فيه؟ 3 - وما الأحوال المانعة من الأذان؟ 4 - ولم لا يؤذن للنافلة؟ 5 - وهل يؤذن لصلاة الفرض إذا جمعت مع أخرى؟. 6 - ولم استحب لسامع الأذان أن يحكيه؟ 7 - وهل ذلك في كل مؤذن أو مؤذن واحد؟ 8 - وهل يحكيه في الصلاة أم لا؟ 9 - وهل يحكيه في كل الأذان أو في (¬2) بعضه؟ فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في الأذان لصلاة الصبح قبل وقتها. فأجازه مالك والشافعي. ومنعه أبو حنيفة. وكان صاحبه أبو يوسف يقول بقوله. فلما قدم المدينة وشاهد المؤذنين يؤذنون لصلاة الصبح قبل وقتها رجع إلى رأي مالك. ولما كان مالك والشافعي يريان (¬3) أن الأفضل التغليس بصلاة الصبح حسن عندهما تقديم الأذان، لكون الناس نياما. فيؤذن لهم قبل الوقت ليتأهبوا للصلاة (¬4) فيدخل الوقت عليهم وهم متأهبون. فيمكنهم إيقاع الصلاة أول الوقت، وتحصيل فضيلة التغليس. ولما كان أبو حنيفة يرى (¬5) أن الأسفار بصلاة الصبح أفضل استغنى عن تقديم الأذان قبل الفجر؛ لأن إيقاع الأذان بعد الفجر يوقظ الناس للصلاة ويتأهبون لها فلا يأتيهم الأسفار الذي هو محل الفضيلة إلا وقد أمكنهم إيقاع الصلاة فيه. فلا معنى عنده لتقدمة الأذان قبل الوقت. ¬

_ (¬1) الوقت -و - ق -. (¬2) في = ساقطة في -و-. (¬3) رأيا -و-. (¬4) للصلاة = ساقطة في -و-. (¬5) رأى في -و-.

وأما مالك فيحتج له بقوله - صلى الله عليه وسلم - أن بلالًا ينادي بليل فكلوا وأشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم (¬1). وانفصل عن هذا بأن معناه أنه كان ينادي مشعرًا بالسحور. وقد قال بعض أصحابنا قد روي أن بلالًا يؤذن بليل. والأذان تسمية تقع في العرف على ألفاظ مخصوصة، الغرض بها الدعاء إلى الصلاة. ولو كان معناه الإشعار بالسحور لم بسم أذانًا ولا ذكرت فيه الحيعلة. وقد أشار بعض المتعقبين من أصحابنا إلى أن الحديث لا يستقل دليلًا في أن الغرض به الدعاء إلى الصلاة. وأما أبو حنيفة فيحتج بقوله عليه السلام لبلال: لا تؤذن حتى يستبين الفجر هكذا ومد يديه عرضًا (¬2). وقال أصحابنا في الانفصال عن هذا قد يكون أراد به استدعاءه - صلى الله عليه وسلم - للصلاة أو غير ذلك من وجوه الاحتمال. ويحتج أيضًا بما روي أن بلالًا ينادي بليل فأمره عليه السلام أن يرجع فيقول: "ألا إن العبد قد نام" (¬3). فأمره بتلافي غلطه في أذانه بليل. وقال أصحابنا في الانفصال عن هذا قد يكون أخر الأذان عن عادته فخيف على السامعين العارفين بعادته أن يقدروا ما بقي من الليل متسعًا فيتسحرون وقد طلع الفجر. ولو كان قدمه قبل عادته لأمره أن يرجع فيقول ألا إن العبد قد استيقظ قبل وقته. ويحتج أيضًا بما روي أن علقمة سمع من نادى بليل فقال: "أما هذا فقد خالف سنة أصحاب محمَّد. ولو كان نائمًا حتى طلع الفجر فنادى (¬4) كان خيرًا له" (¬5). وأجاب عن هذا أصحابنا بأنه يحتمل أن يكون هذا النداء كان قبل نصف الليل، والنداء قبل نصف الليل لا يجوز. فلهذا أنكر عليه. ويحتمل قوله: فإذا طلع الفج رنا دى، ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم ومالك والبيهقي وغيرهم: السنن ج 1 ص 38. (¬2) عن شداد مولى عياض قال جاء بلال للنبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يتسحر قال لا تؤذن حتى ترى الفجر، ثم جاءه من الغد فقال لا تؤذن حتى يطلع الفجر، ثم جاءه من الغد فقال لا تؤذن حتى ترى الفجر. هكذا وجمع بين يديه ثم فرق بينهما. حديث مرسل البيهقي ج 1 ص 384. وروي بروايات متصلة كلها ضعيفة. (¬3) رواه البيهقي بطرق مختلفة في الباب (رواية من روى النهي عن الأذان قبل الوقت) ج 1 ص 383. (¬4) حتى يطلع الفجر فينادي -و-. (¬5) ابن أبي شيبة ج 1 ص 194 ح 2224.

على أنه أراد الفجر الأول. ومما يعتمد عليه أصحابنا في ترجيح تأويلاتهم هذه عمل أهل المدينة واستمرارهم على الأذان للصبح قبل الفجر. وهم أعلم الناس بما كان عليه الأمر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب في مقدار الوقت الذي يقدم فيه الأذان للصبح. فقيل: السدس الآخر من الليل. وقيل النصف الآخر. وقال الوقار: إذا صليت العتمة، وإن كان من أول الليل. وفي هذا القول إفراط. إذ لا فائدة في الأذان (¬1) حينئذٍ. وإذا أذن للصبح أول الليل، ووقت العتمة لم يذهب، أمكن أن يظن أنه (¬2) لصلاة العتمة. فيختلط (¬3) الأمر على السامع ولا يحصل في الأذان فائدة. ولهذا المعنى اعتبر ابن حبيب خروج وقت صلاة العتمة، وحد بالنصف الآخر من الليل لأنه يرتفع بذلك اختلاط الأمر. ومن مذهب ابن حبيب أن آخر وقت (¬4) العتمة نصف الليل. فلهذا حد به. وأما المعتبرون السدس الآخر من الليل، فإن الأصل عندهم في الأذان ألا يكون لصلاة حتى يدخل وقتها. فلما كانت صلاة الصبح الأفضل إيقاعها أول الوقت، والليل وقت منام الناس، اقتضى مجموع هذا تقدمة الأذان ليوقظ النائمين فيتأهبون للصلاة في أول وقتها. فينبغي ألا يباح من التقدمة إلا القدر الذي تمس الحاجة إليه. وهذا المقدار عندهم يكفي فيه سدس الليل لاغتسال الجنب وتأهب غيره. فلا معنى للزيادة على قدر الحاجة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في ثلاثة أحوال هل تمنع الأذان أم لا؟ أحدها أذان الجنب. فوجه إباحته أنه ذكر من الأذكار، فجاز للجنب فعله قياسًا على التسبيح وغيره من الأذكار. ووجه النهي عنه أنه عمل يقدم على الصلاة لأجلها فأمر فيه بالطهارة كما أمر بذلك في الصلاة. وهذا ينتقض باتفاقهم على جواز الأذان لمن كان على غير وضوء، وهو ممنوع من ¬

_ (¬1) أذان -و-. (¬2) أن الأذان -و-. (¬3) فيختلف -و-. (¬4) صلاة العتمة - و - ق -.

الصلاة ولم يمنع من الأذان، إلا أن يقال إن الأذان دعاء إلى الصلاة في المساجد والجنب ممنوع من دخول المسجد، فمنع من الأذان، وإن أوقعه في غير المسجد. ولا يختلف في منع إيقاعه في المسجد مع القول بمنع دخول الجنب المسجد، والمنع حينئذٍ لأجل المسجد لا لأجل الأذان. والثاني أذان القاعد، ففيه قولان: فالجواز لأنه ذكر من الأذكار. وقد قال الله تعالى: {يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} (¬1). والنهي لأن الأذان شرع فيه الاستعلاء والارتفاع (¬2). ولهذا جعل المنار والقعود ينافي ذلك. والثالث أذان من لم يبلغ الحلم، ففيه قولان: فالجواز لأنه ذكر من الأذكار. والذكر سائغ لمن لم يبلغ الحلم. والنهي لأنه من أمانات الشريعة والمؤذن مؤتمن على الوقت (¬3). ومن لم يبلغ الحلم ليس من أهل (¬4) الأمانة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: لا يؤذن عندنا لصلاة فائتة؛ لأنه يزيدها الاشتغال بالأذان فواتًالأولا لنافلة لأن الغرض بالأذان الدعاء للاجتماع للصلاة، والنافلة لا يجتمع لها. ولا لسنة مؤكدة كالعيدين والكسوف، وإن كان يجتمع لها. لأن الأذان دعاء إلى الصلاة وأمر بالإتيان إليها. فوجب أن يختص الأذان بما يجب أن يؤتى إليه من الصلوات الفرض دون ما سواها (¬5) من السنن والنوافل. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف في الجمع بين الصلاتين، كصلاتي عرفة والمزدلفة والمجموعتين لأجل المطر. فقيل يؤذن لهما جميعًا. وقيل لا يؤذن لهما جميعًا. وقيل يؤذن للأولى منهما دون الثانية. وأما الإقامة فإنه اتفق عندنا على أنه يقام لكل صلاة. وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه يقام للأولى دون الثانية. والغرض بالأذان الدعاء ¬

_ (¬1) سورة آل عمران، الآية: 191. (¬2) لأن شريعته الاستعلاء والارتفاع في -و-. (¬3) الأوقات في - و - ق -. (¬4) بأهل للأمانة في -ح-. (¬5) ما سواه -و-.

إلى الاجتماع للصلاة. فمن نفاه فيهما استغنى عنه باجتماع الناس. ومن أثبته في الأولى خاصة *رأى أن الثانية قد تحقق اجتماع الناس لها. والأولى إنما افتقرت للدعاء إليها. ومن أثبته فيهما* (¬1) رأى أن الأذان سنة لكل صلاة. واجتماع الصلاتين لا يغير حكمهما فيؤتى بالأذان، وإن فقد الغرض به. وقد اختلفت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جمعه الصلاتين في الحج فروي عنه سائر هذه المقالات التي حكيناها، وروي عنه أنه جمع الصلاتين بأذانين. وروي عنه بأذان واحد (¬2). وفي الموطإ بإقامتين. وفي بعض طرق كتاب مسلم بإقامة واحدة. ولاختلاف الأحاديث اختلف العلماء على حسب ما قلناه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما استحب حكايته المؤذن لقوله عليه السلام: إذا سمعتم النداء فقدلوا مثل ما يقول المؤذن (¬3). ولأن الأذان يتضمن الشهادة بالتوحيد، والشهادة بالرسالة، وهما عمدة الإيمان" فاستحب مطابقة المؤذن في قوله لذلك. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في إعادة الحكاية وذلك في ثلاث مسائل: أحدها إذا أذن المؤذن الأول فقال السامع مثل قوله، ثم أذن ثان فهل يؤمر السامع أن يحكيه. وكذلك الثالث ومن بعده. فيه قولان: فقيل يحكيه لقوله عليه السلام: إذا سمعتم النداء فقدلوا مثل ما يقول المؤذن (¬4). فعم سائر المؤذنين. ولأن حكايته المؤذن الأول إنما كانت لأنها ذكر من أذكار الله ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) روى مسلم أنه صلى المغرب بأذان وإقامتين. وذكر الطبري في تهذيب الآثار أنه عليه السلام صلاهما بإقامة واحدة في حديث ابن مسعود وابن عمر وأبي بن كعب وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد. البيهقي ج 1 ص 400 - 401. (¬3) رواه مالك: الزرقاني ج 1 ص 124. ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد. نيل الأوطار ج 1 ص 35. (¬4) خ. مسلم مالك. أحمد. فيض القدير. ج 1 ص 379.

سبحانه. فإذا (¬1) كان الثاني إنما أتى بمثل ما أتى به الأول، كان حكمه في الأمر بالحكاية. وقيل لا يحكيه لأن التكرر يرفع حكم الأمر ها هنا. والثاني: إذا رجع المؤذن الشهادتين فهل يحكيه (¬2) السامع في إعادة لفظ الشهادتين. فيه قولان: مذهب مالك الاكتفاء بالحكاية أول مرة؛ لأن المؤذن إنما أعاد ذكرهما ليرفع صوته مبالغًا في الإسماع. والسامع غير محتاج إلى ذلك فلم يكن عليه تكرير اللفظ. وقال الداودي يكرر سامع اللفظ أيضًا. ووجهه التمسك بعموم الحديث. والثالث: إذا حكى المؤذن وفرغ المؤذن من الحيعلة ثم عاد إلى القول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، فهل يؤمر السامع بحكايته أيضًا في ذلك؟ فيه أيضًا (¬3) قولان. في المدونة إن شاء فعل وإن شاء ترك. وفي مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان وفي كتاب ابن حبيب يؤمر السامع أن يحكيه في ذلك. ووجه هذا الاختلاف ما تقدم لأنه قول قد تقدم حكايته مثله فهل يسقط بالتكرار أم لا؟ هو جار على ما قدمناه. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: اختلف في حكايته في الصلاة على ثلاثة أقوال: فقيل يحكيه في الصلاة فرضها ونفلها. وقيل لا يحكيه لا في فرضها ولا في نفلها. وقيل يحكيه في نفلها دون فرضها. فوجه الأول العموم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم النداء فقدلوا مثل ما يقول المؤذن" ولأنه ذكر من الأذكار فصح أن يشرع في الصلاة فرضها ونفلها كالتشهد والتسبيح. ووجه الثاني: إن العبادة التي هو فيها *أولى بأن تقدم بشروعه فيها* (¬4) فلا ينبغي أن تقطع بعبادة أخرى سواها. ووجه التفرقة بين الفرض والنفل أن ¬

_ (¬1) فإن -و-. (¬2) يحكيها في -و-. (¬3) أيضًا = ساقطة في -ح-. (¬4) ما بين النجمين ساقط -و-.

النفل أخفض رتبة من الفرض. ولهذا جاز فيه التعوذ والبسملة ولم يجز ذلك في الفرض. فكذلك (¬1) حكايته المؤذن ينبغي أن تقصر (¬2) على النفل لخفة أمره وينهى عنها في الفرض لارتفاع قدره. وإن الشغل به أولى من غيره من النوافل. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: ظاهر المذهب أن منتهى حكايته المؤذن إلى آخر التشهدين وفي مختصر ابن شعبان وفي كتاب ابن حبيب أن المؤذن إذا حيعل حوقل السامع. فقال لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا هو الصحيح. لأن في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السامع إذا حكى المؤذن دخل الجنة (¬3). وذكر في الحديث صفة حكايته المؤذن فلما انتهى إلى الحيعلة قال لا حول ولا قوة إلا بالله. وينقدح في نفسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عوض عن الحيعلة الحوقلة. لأن قول المؤذن حي على الصلاة، حي على الفلاح أمر للسامعين * بأن يأتوا * (¬4) للصلاة وللفلاح. ولا فائدة في أن يحكي السامع ذلك سرًّا. لأن الأمر الذي لا يسمع ها هنا لا فائدة فيه. فلما علم - صلى الله عليه وسلم - ذلك عوض عن هذا الذي لا يفيد بما يفيد، وإن كان سرًّا. وخص الحوقلة دون سائر الأذكار لأن بينها وبين قول المؤذن مناسبة وكأنها كالجواب عن أمره. فإذا قال المؤذن حي على الصلاة بمعنى تعالوا إلى الصلاة، فكأن السامع قال له لا قوة لي على ذلك إلا بالله. فلأجل ما فيها من معنى المجاوبة خصها النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سائر الأذكار. وقد اختلف المتأخرون في المصلي إذا حكى المؤذن في الحيعلة وأتى في الصلاة بمثل لفظ المؤذن فقال الأصيلي لا تبطل صلاته؛ لأنه متأول. وقد قال بعض الأشياخ تبطل صلاته لأنه كمن تكلم عامدًا. وحكي ذلك عن ابن القصار (¬5). ¬

_ (¬1) وكذلك -و-. (¬2) تقتصر - و - ق -. (¬3) رواه مسلم. انظر شرح النووي ج 4 ص 85. (¬4) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬5) جاء في النسخة -و- الكلام التالي [نجز الجزء الأول من شرح التلقين وصلى الله على سيدنا محمَّد].

باب العمل في الصلاة قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والصلاة مشتملة على فروض وسنن وفضائل. والفروض (¬1) ضربان منفصلة ومتصلة. فالمنفصلة نوعان متقدم ومصاحب. فمن فروضها الطهارة من الحدث وإزالة النجاسة وستر العورة، فهذه هي المنفصلة. وأما المتصلة فاستقبال القبلة، والنية، والترتيب في الأداء. ونريد بالانفصال جواز تقديم فعلها، وأنها مكتفية بنفسها. وذلك يتم في الطهارة وستر العورة. وأما استقبال القبلة والنية فمصاحبان لا حكم لهما إلا بإضافتهما إلى الصلاة. ومن هذه الفروض ما هو فرض (¬2) على الإطلاق لا تصح الصلاة مع عدمه على وجه وهو الطهارة من الحدث. والصحيح من (¬3) مذهبنا أنه إذا عدم الماء والصعيد لم يصل حتى يجد أحدهما (¬4). ثم إذا وجده بعوإنقضاء الوقت فهل يلزمه القضاء أو لا يلزمه؟ نظر آخر. والنية أيضًا فرض مطلق لا تصح الصلاة مع تركها على وجه (¬5). قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - تقدمة الوضوء قبل الوقت ما حكمه؟. 2 - ولم ذكر (¬6) إزالة النجاسة قسمًا آخر؟. ¬

_ (¬1) فالفروض -غ- الغاني-. (¬2) فروض -الغاني-. (¬3) في مذهبنا -غ-. (¬4) في الغاني زيادة وهي "وقد قيل إنه يصلي إذا لم يجدهما". (¬5) والنية أيضًا إلى على وجه = مذكررة هنا. وفي القسم الآتي- ولعل وجود هنا خطأ. لأن الشارح أجل التعليق على النية عند شرحه للقسم التالي. (¬6) ولم ذكر أن إزالة النجاسة قسم آخر -و-.

3 - ولم ذكر أن النية من الفروض المصاحبة؟. 4 - ولم ذكر أن استقبال القبلة من الفروض المصاحبة أيضًا؟ 5 - ولم قال إن من عدم (¬1) الماء والصعيد لا يصلي؟ فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد كنا حكينا فيما تقدم أن مذهب أصحاب أبي حنيفة أن وجوب الصلاة إنما يتعلق بآخر الوقت. وقد ذكر بعضهم أن الصلاة الموقعة أول الوقت تكون نفلًا، ولكنها تنوب عن الفرض إذا انصرم الوقت. واحتج لهذا المذهب بأن (¬2) الوضوء قبل الوقت لا يجب وإنما يجب إذا وجبت الصلاة بدخول وقتها. ثم مع هذا يجري إيقاعه قبل الوقت ويكون نفلًا ناب عن الواجب. وأجيب (¬3) عن هذا بجوابين: أحدهما: أن من الفقهاء من لا يسلم ما قالوه في الوضوء. ويراه واجبًا وجوبًا موسعًا. وإنما يجب بشرط الحدث. فإذا حصل الحدث الذي هو شرطه صح فعله مقصودًا به رفع حكم المانع من الصلاة. والجواب الثاني (¬4) أنا لا نسلم لهم هذا القياس. أولًا: لأن الطهارة عبادة تراد لغيرها وليست مقصودة في نفسها. والغرض بها ألا يتقرب إلى الله سبحانه إلا على أكمل الأحوال والتطهر من الأحداث. والصلاة عبادة تراد لنفسها لا لغيرها. فلا يصح قياس هذه العبادة على هذه العبادة. والذي عندي في ذلك لا يصح بسطه إلا في كتب الأصول، ولكني أشير إلى طرف منه ها هنا. فنقول: إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلوات بوضوء واحد، فقد صارت الصلاة الثانية تطهير لها قبل وقتها. فاقتضى ذلك جواز إيقاع الطهارة قبل الوقت. لكن يبقى ها هنانظر آخر، وهو أن يقال: ما أنكرتم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما توضأ لما جمع الصلوات بوضوء واحد بعد دخول وقت الصلاة الأولى؟ فيكون وضوؤه حينئذٍ واجبًا لأجل الصلاة الأولى. فيصح اعتقاد الوجوب فيه. وإذا صح اعتقاد ¬

_ (¬1) أن عادم في -و-. (¬2) أن -و-. (¬3) وأجيبوا -و-. (¬4) الثاني- ساقطة -و-.

الوجوب فيه لم يتوجه فيه اعتراض لأن التعبد بجمع صلوات بوضوء واحد سائغ. قلنا قد مر جماعة من الفقهاء على أن الوضوء لا يفتقر إلى نية. وروي ذلك عن مالك. فإذا قلنا بهذه المقالة فلا معنى للنظر فيما يعتقد بالوضوء. لأن هؤلاء إنما يعتبرون حصول الأعضاء مغسولة كيف ما اتفق. وإن قلنا بإثبات النية في الوضوء وإن القدر المطلوب منه القصد لرفع حكم الحدث المانع واستباحة الممنوعات دون التعرض لاعتقاد وجوب أو نفل، فلا معنى للقول بأن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بعد دخول وقت الأولى صح منه اعتقاد الوجوب. وإذا كان قبل دخول وقتها لم يصح اعتقاد الوجوب فيما لم يجب. ولكن إنما يبقى (¬1) النظر في حكم الوضوء قبل الوقت هل يصح وصفه بالوجوب حتى يصح اعتقاد الوجوب فيه عند فعله، وإن وجب اعتقاد ذلك عند الوضوء؟ أو يكون واجبًا ناب عن الواجب بعد الوقت وإن لم يجب اعتقاد الوجوب حين الفعل؟ أو (¬2) يوسف بأنه نفل ناب عن الواجب؟ هذا مما يختلف فيه أهل الأصول. والوضوء قبل الوقت كالصلاة في أول الوقت لجواز التأخير فيهما. وحصول الأجزاء بإيقاعهما، لكن الصلاة وقتها محدود ووجوبها متعلق (¬3) بشرط تجدد الأزمان. والوضوء غير محدود بزمن وإنما هو متعلق (¬4) بتجدد أحداث. وإنما يبقى نظر واحد وهو أن القاضي ابن الطيب ومن تابعه لا يبيح التأخير للصلاة الواجبة بأول الوقت إلا بأن يفعل المكلف العزم بدلًا عن تقدمتها. إذ لو لم يقل بذلك لأداه لإثبات واجب يترك إلى غير بدل ولا إثم فيه. وهذا يبطل حقيقة الوجوب. فإذا قيل إن الوضوء كالصلاة وأنه يجب وجوبًا موسعًا فهل يكون تاركه قبل الوقت إنما يباح له الترك بشرط العزم كما قيل في الصلاة؟ هذا يلزم بلا شك. ولكن القول به (¬5) شنيع (¬6). وقد يسبق إلى النفس ¬

_ (¬1) يبقى = ساقطة من -و-. (¬2) ويوصف -و-. (¬3) معلق -ح-. (¬4) معلق -ق-. (¬5) فيه -و -ق-. (¬6) يشيع -و- يتسع -ق-.

إنكاره. وقد أنكر وجوب العزم في الصلاة طائفة من الحذاق وأنكره أبو المعالي أشد الإنكار، فكيف به إذا أثبتناه (¬1) في الوضوء الواجب لأجل الصلاة، والصلاة لم تجب بعد. ولعلنا أن نحقق هذه المسألة فيما نمليه من الأصول إن شاء الله سبحانه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما قال الطهارة من الحدث ولم يقتصر على قوله الطهارة دون التقييد بقوله من الحدث، لئلا (¬2) يدخل في ذلك طهارة النجاسة. لأن النجاسة إنما توجب زوالها لا طهارتها. فإن كانت على البدن فلا تزول إلا بالطهارة، وإن كانت في الثوب أو المكان أزالها أو زال (¬3) عنها بطهارة الماء أو بنزع الثوب والتنقل من المكان. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما ذكر النية في الفروض المصاحبة؛ لأن من حقها أن تكون مقارنة لافتتاح الصلاة. وقد رام بعض الأشياخ تخريج اختلاف في جواز تقدمتها على الصلاة بالأمر اليسير من الاختلاف في تقدمة النية على الطهارة بالزمن اليسير. ورد ذلك غيره من الأشياخ بأن الصلاة مجمع على وجوب النية فيها، والطهارة جماعة من العلماء على سقوط النية فيها. فإذا سهل الأمر في المختلف فيه، فلا يسهل في "المجمع عليه (¬4). والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما كون (¬5) ستر العورة وإزالة النجاسة من الفروض الخارجة عن الصلاة فواضح. لأنها أفعال يفعلها الإنسان، ولا تعلق بينها وبين الصلاة إلا من ناحية الشرع. وأما استقبال القبلة فإن نفس القبلة ليست من فعله ولا اكتسابه. وكون الأفعال المسماة صلاة محاذية لجهة ما، ومقابلة لها لا يظهر كونه بائنًا عن نفس الصلاة. والجوهر عندنا إذا كان في ¬

_ (¬1) وكيف به إذ ابن يناه -و-. (¬2) فتدخل -ح-. (¬3) أو أزال -ح-. (¬4) معه -ح-. (¬5) أما غير ستر العورة -و- أما عد النية وستر العروة -ح-.

مكان يكون ما، فإن محاذاته (¬1) لجوهر آخر لا يقلب حقيقة كونه. وهذا مما يتعلق بالكلام في الأكوان، والكلام عليها من دقائق الأصول. ولكن القاضي أبا محمَّد رحمه الله لما رأى أن المصلي في قدرته محاذاة ما شاء من الجهات الأربع، فاقتصاره على أحد (¬2) الجهات الأربع مع قدرته على محاذاة غيرها وكون الجهة بائنة عن نفس الصلاة، فجعل ذلك كأنه فعل خارج عن نفس (¬3) الصلاة. فلهذا ألحقه بالنية. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف المذهب فيمن لم يجد ماء ولا ترابًا هل يؤمر بالصلاة على حالته تلك بغير طهارة أصلًا أم لا يؤمر بها؟ واختلف الآمرون بها (¬4) هل يعتبرها (¬5) إذا تمكن من الطهارة أم لا؟ واختلف القائلون أيضًا بأنه لا يؤمر بالصلاة هل يقضيها أم لا؟ فأما الاختلاف في القضاء بين هذه الطائفة فمبني على كون الطهارة شرطًا في الوجوب أو في الأداء. فإن قلنا إنها شرط في الوجوب لم يجب القضاء. لأن الشرط فقد فيفقد المشروط. فإذا فقد لم يجب. وما لم يجب لم يقض. وإن قلنا إنها شرط في الأداء وجب القضاء لأن الوجوب قد توجه وما وجب يصح قضاؤه. وأما الطائفة الأولى المختلفون في أمره بالصلاة، فحجة من لم يأمر بالصلاة، قوله لا تقبل صلاة بغير طهور (¬6). والصلاة إذا لم تقبل لم تجب. وحجة من أمر بالصلاة أن القوم الذين أرسلهم - صلى الله عليه وسلم - لطلب القلادة التي فقدتها عائشة صلوا بغير وضوء (¬7) لما فقدوا الماء. فأنزل الله تعالى آية التيمم. ولم ينكر عليهم (¬8) - صلى الله عليه وسلم - صلاتهم بغير ¬

_ (¬1) فإنه بمحاذاته -و- لمحاذاته -ق-. (¬2) هكذا في جميع النسخ. (¬3) فعل - و - ق -. (¬4) بها = ساقطة -و-. (¬5) هل يعيدها - ح - ق -. (¬6) رواه مسلم عن ابن عمر باب الطهارة. النووي ج 3 ص 102. كما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والدارمي. (¬7) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 1 ص 214. (¬8) عليهم = ساقطة - و -.

طهارة أصلًا. ولو كانت لا تحل لأنكرها. وأما قول القاضي أبي محمَّد في هذا الفصل: والترتيب في الأداء فقد يريد به ترتيب الأفعال بعضها على بعض. والصلوات بعضها على بعض بأن لا يصلي العصر قبل الظهر. وفي عده أيضًا معنى زائدًا على الصلاة من النظر، ما في عد استقبال القبلة معنى زائدًا، وقد تكلمنا عليه. وإن كان ترتيب الأفعال واختصاصها بأزمنة قد يتسع القول فيه من طريق آخر يختص به دون ما تقدم. قال القاضي رحمه الله: *والنية أيضًا فرض مطلق لا تصح الصلاة مع تركها على وجه* (¬1). وأما إزالة النجاسة فاختلف هل هو (¬2) من شرط الصحة أو ليس من شرطها؟ فإذا قيل ليس (¬3) من شرطها فلا نقول إنه ليس بفرض ولكن ليس كل الفروض من شرط الصحة. وإذا قيل إنه من شرط الصحة فذلك مع الذكر والقدرة. ونريد بذلك ما على البدن. فأما ما كان على الثوب فلا يتوجه عليه فرض إلا في ترك محله أو فعل الإزالة إن اختار المحل أو وجب. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على وجوب النية في الصلاة؟. 2 - وهل إزالة النجاسة فرض أو سنة؟. 3 - وما يعفى عنه منها؟. 4 - وما ينضح منها أو يغسل؟. 5 - وهل يجزئ إزالة عينها بالمسح أو مائع غير الماء؟. 6 - وهل تفتقر إزالتها إلى نية أم لا؟. 7 - وهل يقطع مزيلها عنه الصلاة أم لا؟. 8 - وهل إذا قطع وغسل يبني على الصلاة أم لا؟. 9 - وما معنى تقييده بقوله مع الذكر والقدرة؟. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين مكرر مع ما سبق أن نبهنا إليه - وموقعها هنا أصح. (¬2) هي -و -غ-. (¬3) أنه ليس -غ-.

10 - وما تصير قوله لا يتوجه عليه في الثوب إلا في ترك المحل أو فعل الإزالة إن اختار المحل أو وجب؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على وجوب النية للصلاة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (¬1) وعموم هذا يقتضي وجوب النية للصلاة. وما يتعلق بالكلام على النية أخرناه لموضعه من هذا الكتاب (¬2). والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اضطرب الحذاق من أهل المذهب في العبارة عن هذا المعنى، فالجاري على ألسنتهم في المذاكرات والإطلاقات أن المذهب على قولين: أحدهما أن غسل النجاسة فرض. والثاني: أنه سنة إطلاقًا لهذا القول من غير تقييد. ومن أشياخي من يعبر عن هذا فيقول المذهب على ثلاثة أقوال: فيذكر القولين المتقدمين ويضيف إليهما قولًا ثالثًا وهو أنها فرض مع الذكر، سنة مع النسيان. وأما القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب فقد اضطرب قوله في العبارة عن هذا فعبر بها في كتابه هذا وعبر في غير هذا الموضع من كتبه بأن قال اختلف في غسل النجاسة. هل هو واجب وجوب الفرائض أو وجوب السنن؛ وهذا مع الذكر والقدرة. وقد نص مالك وأصحابه على أن من صلى بها ناسيًا يعيد في الوقت ولو كانت فرضًا لاستوى العمد والسهو. ولا يعترض على هذا بقولهم إن المتعمد يعيد أبدًا *لأنه قد يعيد أبدا* (¬3) مع كونها سنة. ألا ترى القول بأن من ترك التسمية على الذبيحة عمدًا لا يأكلها، ومن ترك السورتين عمدًا أنه يعيد صلاته (¬4). وكل ذلك مسنون. على أن أشهب يرى أن من صلى بالنجاسة عامدًا إنما يعيد في الوقت. وقد قال إسماعيل في المبسوط كل ما يرى مالك الإعادة فيه في الوقت فإنما هو استحباب. فأنت ترى القاضي أبا محمَّد كيف استدل فيما حكيناه عنه على أنها ليست بفرض بإجزاء الصلاة. ثم أنكر هذا في التلقين فقال ¬

_ (¬1) متفق عليه. تقدم تخريجه. (¬2) من هذا الكتاب ساقطة من -و- وأبدلها إن شاء الله. (¬3) ما بين النجمين = ساقط من -و-. (¬4) عمدًا يعيد الصلاة -و-.

إذا قيل إنه (¬1) ليس من شرطها فلا نقول إنه ليس بفرض، إذ ليس كل الفروض من شرط الصحة. فقد جعل الإجزاء يحصل مع كون ما أحل به فرضًا. واعتذر فيما حكيناه عنه أيضًا من قولهم إن العامد يعيد الصلاة أبدًا، بأن ذلك قد يحمل على القول إن غسل النجاسة سنة. وعبر ها هنا في التلقين بأنها مع الذكر شرط الصحة. وشرط الصحة في الفرض يجب عند أهل الأصول أن يكون فرضًا. وغيره من الأشياخ يحمل القول بالإعادة مع العمد أبدًا، على أن غسل النجاسة فرض، والإعادة في الوقت على أنها سنة. وسبب هذا الاضطراب في العبارة عن هذا المعنى اختلاف المتقدمين من أصحاب مالك. فمنهم من قال يعيد أبدًا وإن كان ساهيًا. وهذا كالتصريح بأنها فرض، إذ لا تعاد الصلاة أبدًا مع السهو إلا للإخلال بفرض. فهذا قول يتضح ما يخرج عليه. وقال بعض أصحاب مالك في العامد يعيد أبدًا وفي الساهي يعيد في الوقت. وقال بعضهم في العامد يعيد في الوقت. ففي التخريج على هذين القولين وقع الاضطراب. فمن الأشياخ من خرج منهما قولين آخرين: القول بأنها سنة على الإطلاق، والقول بأنها فرض مع العمد دون السهو على حسب ما حكيناه عنهم. ومنهم من استدل بإيجاب الإعادة أبدًا مع العمد على أن غسلها فرض. وبالأمر بها في الوقت على أنها سنة. والقاضي أبو محمَّد اضطرب قوله كما بيناه لك. ومن عجيب ما في هذه المسألة أن القاضي أبا محمَّد حكى الاتفاق على تأثيم من تعمد الصلاة بها (¬2). والاتفاق على التأثيم كالاتفاق على الوجوب. إذ التأثيم إنما يختص بالواجبات. وقد سالت بعض أشياخي عن هذا فقلت له ما معنى الاختلاف في كونها فرضًا ¬

_ (¬1) أنه = ساقطة من - ق - ح - وذلك مبني على اختلاف الرواية للتلقين- انظر تعليقنا عليه. (¬2) من صلى بها -و-.

مع حكايته الاتفاق على (¬1) التأثيم؟ فوقف عن الجواب عن هذا. وسألت غيره من الأشياخ فقال لي إنما الاختلاف في كونها فرضًا أو سنة محمول على الاختلاف في طريق وجوب الإزالة للنجاسة. هل وجب ذلك بالقرآن فيعبر عنه بأنه فرض، أو بالسنة فيعبر عنه بالسنة (¬2)؟ فحمل شيخنا هذا ما وقع من الاختلاف على الاختلاف في طريق الوجوب لا في نفس الوجوب. وأنت إذا تأملت ما حكيناه لك عن القاضي أبي محمَّد من قوله اختلف في ذلك هل هو واجب وجوب الفرائض أو وجوب السنن؟ أمكن حمله على ما يطابق مراد شيخنا؛ لأنه ذكر الوجوب في الوجهين (¬3) جميعًا. وهذا كله بناءً على أن السنن" يأثم بتركها المتعمد. ومتى أثمناه ألحقناه بالواجبات. وأما إن قيل غير ذلك فيستغني عن النظر فيما سالت عنه الأشياخ. وقد تعلق من قال بالوجوب بقوله تعالى: {وثيابك فطهر} (¬4) وبأمره عليه السلام بغسل الذكر من المذي، وأمره بغسل دم الحيض (¬5). وظاهر الأمر على الوجوب. وقد قال في حديث القبرين إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله (¬6). والعذاب لا يكون إلا في ترك واجب. وذهب ابن المعذل إلى مذهب أشهب في أن الإعادة في التعمد مقصورة على الوقت واحتج لذلك بأن قال فإن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا وخاف ذوات الوقت فإنه يصلي به. ولو أن (¬7) رجلين تعمد أحدهما الصلاة بثوب نجس وتعمد الآخر ترك الصلاة حتى خرج ¬

_ (¬1) عن -و-. (¬2) بأنه سنة -و-. (¬3) المذهبين في -و-. (¬4) سورة المدبر، الآية: 4. (¬5) حديث غسل الذكر من المذي. رواه مالك والبخاري ومسلم وأصحاب السنن. الهداية ج 1 ص 322. وحديث أسماء في غسل دم الحيض. رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن. إرواء الغليل ج 1 ص 88. (¬6) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن. (¬7) إن ساقطة -و-.

الوقت (¬1) ما استوت حالهما عند مسلم. وإنما يعيد من صلى بالنجاسة متعمدًا ليأتي بما هو أكمل. هذه حجة أحمد بن المعذل للقول بأنها سنة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: يعفى عن قليل الدم، وقد تقدم الكلام عليه. وذكر ابن حبيب أنه إنما يعفى عن يسير الدم في الصلاة أو بعدها. وأما من رآه في ثوبه قبل الصلاة فإنه يغسله. وقد تقدم ذكر الاختلاف في دم الحيض (¬2) هل يعفى عن قليله؟ ومن المتأخرين من الأشياخ من يشير إلى أن الخلاف في ذلك إنما يتصور إذا كان في ثوب المرأة. وأما ما (¬3) في ثوب الرجل فيعفى عن قليله كسائر الدماء. وأنكر بعض الأشياخ هذا. وقال: الرجل أحق بأن لا يعفى له عنه (¬4). لأنه دم إنما يصيبه نادرًا بخلاف المرأة. واختلف المذهب أيضًا في قليل دم الميتة. فالمشهور العفو عن قليله. وقال ابن وهب لا يعفى عن قليله كدم لحيض. وقال بعض الأشياخ إنما هو (¬5) مبني على أن الإنسان لا ينجس بالموت، وسائر الحيوان غيره ينجس بالموت. فالدم ينجس في الحيوان غير ابن آدم إذا مات نجاسة الميتة. والميتة لا يعفى عن قليلها وهي في حال الحياة إنما تنجس نجاسة الدم لا أكثر. ونجاسة الدم معفو عن قليلها إلى هذا أشار بعض الأشياخ. ولكنه ضعفه لأجل أن الدم المنفصل حال الحياة يجب أن يكون ميتة فيستوي حال الحياة والموت فيه. وهذا الذي قاله صحيح لأنه إذا قيل إن في الدم حياة فيجب أن يستوي حكم المنفصل منه حال (¬6) الحياة وحال الموت. وكذلك اختلف في قليل القيح وقليل الصديد هل يعفى عنه كالدم أو لا يعفى عنه كالبول. وحكى بعض أشياخي اختلافًا في دم ما لا نفس له سائلة من الحيوان البري. ودم الحوت هل هو نجس أم لا؟ وأراه إنما أخذ القول بطهارته من مسألة من تنشف بثوب فيه دم كثيف يخشى أن يكون تنحل منه ¬

_ (¬1) وقتها في -ح-. (¬2) الحائض -ح-. (¬3) ما ساقطة -ح-. (¬4) عنه ساقطة -و-. (¬5) هذا -و-. (¬6) في حال -و-.

نجاسة تعلق (¬1) ببدنه، فإنه قيل بغسل بدنه. وإن صلى ولم يغسل فلا يعيد لأنه ليس بدم مسفوح (¬2). فكأنه أشار إلى أن ما ليس بمسفوح من الدماء فإنه (¬3) طاهر. وإنما يغسل استحسانًا (¬4) وسنتكلم على هذه المسألة في هذا الفصل إن شاء الله. ومما عفي عنه من ذلك ما تدعو الضرورة إليه مثل من به قرحة تسيل بطبعها فإنه يعفى له (¬5) عن ذلك ويؤمر بغسل ما تفاحش. وقد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دمًا (¬6). وكذلك دم البراغيث يعفى عنه. وأمر مالك بغسل ما تفاحش منه. ولم يذكر هل يقطع الصلاة إذا رأى فيها ما تفاحش منه. وقد قال الداودي الدماء على ثلاثة أضرب: منه ما لا يؤمر بغسله ولا تقطع الصلاة لأجله كيسير دم البراغيث. ومنه ما يؤمر بغسله ولا تقطع الصلاة لأجله كقدر الخنصر على قول أو الدرهم على قول. وما زاد على ذلك يؤمر بغسله وتقطع الصلاة لأجله. فأشار ها هنا إلى قطع الصلاة لأجل المتفاحش (¬7) من دم البراغيث. ومن ذلك أيضًا قوله في المدونة في ماء المطر وطينه يكون بالطرقات وفيه العذرة والنجاسات فإنه يعفى عما أصاب منه الجسد أو الثوب. قال الشيخ أبو محمَّد ما لم يكن غالبًا أو عينًا قائمة. وهذا لاحق بما ذكرناه من باب الضرورة. وقد تأول بعض الأشياخ (¬8) المتأخرين أن النجاسة إذا كانت تخفي عينها ولا يقطع بعلوقها بالجسم أو الثوب فإنه يعفى عنها في مثل هذا. فإذا كان تحقق علوقها بالثوب لم يعف عنها وكأنه رأى أن الشك مع الضرورة غير معتبر. وقد كنا (¬9) حكينا عنه هذا في تأويل قوله في الدرع يطهره ما ¬

_ (¬1) تتعلق -خ -ق-. (¬2) ليس بمسفوح -ح-. (¬3) رأى أنه طاهر -و-. (¬4) استحبابًا -ح-. (¬5) له = ساقطة -و-. (¬6) مالك. باب العمل فيمن عليه الدم من جرح أو رعاف. كتاب الطهارة ح 53. (¬7) التفاحش -و -ق-. (¬8) الأشياخ = ساقطة -و-. (¬9) كما = ساقطة -و-.

بعده. وعلى تعليله هذا يتضح ما قاله الشيخ أبو محمَّد لأنها إذا كانت عينًا قائمة، وعلم علوقها بالثوب، لم يعف عنها. وكذلك أيضًا اختلف القول عندنا في غسل الخفين أو النعلين إذا وطئ بهما على أرواث الدواب بعد الاتفاق على غسلهما إذا وطئ بهما على الدم أو العذرة. فقيل بالغسل استمساكًا بالأصل، وقيل بإسقاطه اعتبارًا بالضرورة. وقيل يغسل النعل لخفة نزعه ويترك غسل الخف لمشقة نزعه. وقد قال عليه السلام: إذا جاء أحدكم المسجد فإن كان ليلًا فليدلك نعليه وإن كان نهارًا فلينظر إلى أسفلهما (¬1). وهذا عندي يحتمل أن يتعلق به من تأول قوله في الدرع يطهره ما بعده. على أن المعني به أن الغرض به زوال عين النجاسة بمرور الدرع على الأرض الطاهرة. والدلك يذهب عين النجاسة. ويمكن أن يتأوله من فرق بين الشك واليقين في هذا الباب على ما حكيناه عن بعض الأشياخ على ما يطابق قوله، فيقول: قد فرق بين حالة الليل والنهار. فلما كان الليل حالة شك أمر بالدلك وأمر في النهار بالنظر لما أمكن اليقين. والنظر في هذين التأويلين يطول. وإنما اتفق على غسل الخف والنعل من البول والعذرة. واختلف في أرواث الدواب لأن البول والعذرة نجاستهما محققة مقطوع بها. وأرواث الدواب تلحق بالمكروهات. وأيضًا فإن الطرقات لا تنفك من أرواث الدواب غالبًا. وتنفك من العذرة والدم والبول. وحكم من مشى حافيًا كحكم من مشى منتعلًا فيما (¬2) اتفق عليه واختلف فيه. وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم تمشي حفاة وتغسل أرجلها إذا وطئت ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وطيء أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور. وفي سنده راو مجهول. ثم روى عن عائشة رضي الله عنها بسنده إليها ولم يذكر لفظه. وسند رواية عائشة رضي الله عنها حسن. وعن أحمد والدارمي أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر إلى نعليه فإن رأى فيهما قذرًا أو أذى فليمسحهما وليصل فيهما وعن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما. فإن رأى خبثًا فليمسحه في الأرض ثم ليصل فيهما. رواه أحمد وأبو داود. وتتبع الشوكاني الروايات وبين ما في كل واحدة منها من ضعف ثم علق على ذلك بقوله: وهذه الروايات يقوي بعضها بعضًا. (¬2) في حكم -و-.

قشبًا رطبًا ولا تغسلها إذا كان يابسًا. وهذا من فعلها (¬1) تأكيد لأحد القولين. وقد قيل في الفرس في الجهاد يمسكه صاحبه فيبول أنه يعفى عما أصاب صاحبه من بوله إذا لم يجد من يمسكه. وهذا أيضًا للضرورة مع كون بوله مكروهًا فهو ملحق بما نحن فيه. وقد قيل أيضًا في الدم يصيب سيف المجاهد أو الصائد لعيشه، إن غسله يسقط عنه. وقد يحتمل أن يكون هذا للضرورة وإن كان الدم متفقًا على نجاسته. وقد علل بغير هذا وسنتكلم عليه. ومن هذا الباب أيضًا ما سئل عنه مالك رضي الله عنه فقيل له الرجل يطأ على موضع قذر جاف وقد غسل رجليه فقال لا بأس بذلك قد وسع الله على هذه الأمة. وتلا: ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به (¬2). وقد اختلف في سبب توسعة مالك في هذا. فقال ابن اللباد لأن الواطىء على موضع قذر يطأ بعده موضعًا طاهرًا يذهب عين النجاسة فيكون تطهيرًا لها. وهكذا تأويله في تطهير الدرع بما بعده. وقال غيره من الأشياخ إنما هذا لأن الماشي لا يكاد تستقر رجله على النجاسة استقرارًا ينحل معه من النجاسة قدر له بال يعلق بالرجل. وقال غيره من الأشياخ إن الماء يدفع عن نفسه ولا ينجسه إلا ما يغيره ولا يكاد ينحل من النجاسة ما يغير أجزاء الماء الباقية في الرجل. وعلى هذا حمل المسألة التي قدمناها فيمن تنشف بثوب (¬3) فيه دم كثيف أو خفيف. فقال إنما قيل فيمن عرق في ثوب نجس أنه يغسل بدنه. وفصل القول فيمن تنشف بثوب فيه دم خفيف لا ينحل بالتنشيف أنه لا يغسل بدنه. وإن كان كثيفًا يخاف أن ينحل غسل. لأن الماء يدفع عن نفسه فلا ينجس إلا بالتغير، والعرق لا يدفع عن نفسه فينجس وإن لم يتغير. وهذه جملة كافية فيما يعفى عنه من النجاسات. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: قال مالك النضح طهور لكل ما ¬

_ (¬1) وفعلها هذا تأكيد -و-. (¬2) سورة البقرة، الآية: 286. (¬3) في ثوب -ح-.

يشك (¬1) فيه، وهو الشأن وهو من أمر الناس. وقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب: النضح استحباب. وقال بعض أشياخي لا يوسف بالوجوب. إذ لو وصف به لكان الواجب الغسل بدلًا منه. قال واتفاق المذهب عليه حجة لصحة القول بأن الوضوء لا يجب لأجل الشك في الحدث. وقال القاضي إسماعيل لما كان ما علم من النجاسة أمره قوي لم يكتف فيه (¬2) إلا بالغسل. وما شك في وجوده من النجاسة (¬3) أمره ضعيف. فالنضح يذهبه لو قدر وجوده. وهذا الذي قاله القاضي إسماعيل كالرد على ما قاله شيخنا من أن النضح لو وجب لكان الواجب (¬4) الغسل بدلًا منه لأن القاضي إسماعيل أشار إلى أن النضح يكفي في إزالة مثل هذا. وإذا كفى في إزالته فلا معنى لإيجاب الزيادة عليه. وقد ورد في الشرع النضح في حديث الطفل الذي أجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله (¬5). واحتلم عمر رضي الله عنه في ثوبه فغسل ما رأى ونضح ما لم ير. فالنجاسة إن كانت متيقنة كان الحكم الغسل. وإن تيقن حلولها في الثوب وجهل محلها كان الحكم غسل الجميع ليحصل اليقين بغسل النجاسة إذ اليقين لا يحصل إلا كذلك. وإن شك في إصابتها للثوب كان الحكم النضح على ما بيناه. وهكذا ظاهر المذهب لو شك في إصابتها الجسد. وقد قال بعض المتأخرين إن الجسد (¬6) يغسل. بخلاف الثوب. وأضاف هذا إلى المذهب تعلقًا بقوله في المدونة فيمن أمذى فليس عليه غسل أنثييه إلا أن يخاف أن يكون أصابهما شيء. وظاهر هذا أنه إذا شك هل أصابهما شيء أم لا، أنه يغسلهما. وهذا تعلق في هذه المسألة بدليل الخطاب. وليست بنص على صحة ما تأوله هذا ¬

_ (¬1) لكل ما شك فيه - ح - لما شك فيه - ق -. (¬2) به -و-. (¬3) النجاسات -ح-. (¬4) الواجب = ساقطة من -و- والغسل = ساقطة -ق-. (¬5) حديث أم قيس بنت محسن. رواه الجماعة. وروي عن علي بن أبي طالب روى داود وابن ماجة وأحمد والترمذي. حديث صحيح. (¬6) البدن -و-.

المتأول. وقد قال ابن شعبان ينضح الثوب والجسد. وإذا أمر الشاك بالنضح، لما لم يره من النجاسة المشكوك فيها، فصلى ولم ينضح، فالمذهب على ثلاثة أقوال: 1 - نفي الإعادة. 2 - وإثباتها في الوقت. 3 - وإثباتها أبدًا في العمد والجهل. وهو مذهب ابن حبيب. ولكنه لم ير ذلك فيمن احتلم في ثوبه فلم ينضح ما لم ير لخفة أمر (¬1) النضح عنده في ذلك. ولا يتحقق فرق بين هذا وبين النجاسة المشكوك فيها. وقد قدمنا الاختلاف في الإعادة لأجل ترك غسل النجاسة المخففة وأن في المذهب قولًا بالإعادة أبدًا مع النسيان. ولم يقل أحد من أصحابنا مثل هذا في النضح. وإنما كان ذلك كذلك لانتقاص (¬2) رتبته عن الغسل. وقد قدمنا قول القاضي أبي محمَّد أنه استحباب. وقد وقع في المذهب اختلاف فيمن أصاب ثوبه ماء حلت (¬3) فيه نجاسة لم تغيره، هل يغسل ثوبه أم لا؟ فقيل حكمه الغسل. وهذا ميل إلى القول بنجاسة هذا الماء. وقيل حكمًا النضح. وهذا ميل إلى القول بأنه ماء مشكوك فيه. وقيل إن كان رفيعًا يفسده الغسل لم يغسله وصلى به كذلك، قاله ابن الماجشون. وقال مثل ذلك في ثوب الذمي إذا اشتراه المسلم، وهذا عفو عن النجاسة صيانة للمال. وأقيم ذلك مقام الضرورة. وقد قدمنا القول في المسائل المعفو عنها للضرورة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في المزيل للنجاسة شرعًا ما هو؟. فقال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن هو الماء خاصة دون ما سواه. وقال أبو حنيفة هو الماء وكل مائع يعمل عمل الماء مما يذهب العين والأثر كالخل وماء الورد. واشترط بعض المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة في ذلك ¬

_ (¬1) أمر = ساقطة -ح-. (¬2) لانخفاض في -و-. (¬3) حلته - ح - ق -.

أن تكون النجاسة في الثوب. وأما الجسد فلا يطهر إلا بالماء. وكان مالكًا والشافعي رأيا أنها وإن كانت عبادة معقول معناها معلوم أن الغرض بها زوال عين فيجب قصرها على مورد الشرع (¬1). يتعلق فيها بتخصيص النصوص ويكون ذلك أولى من الاسترسال على حكم الغرض. ورأى أبو حنيفة أن اتباع قصد الشرع والجري على حكم القياس فيه أولى. ونظير اختلافهم في هذه المسألة الاختلاف أيضًا في مسألة إخراج القيم عن الزكاة. لأن الشرع جاء بإخراج الزكاة وعلم أن القصد بها سد خلة المساكين. ولكن الشرع نص على أعيان تخرج كبنت المخاض والحقة. فمن أَتبع مواقع التخصيص ولم يلتفت إلى المقصود، منع من إخراج القيم. ومن اعتبر المقصود وجرى معه أجاز إخراج القيم لأنها تسد خلة المساكين كما تسده ابن ت المخاض والحقة. وكذلك النجاسة إذا كان الغرض زوال عينها، فإن (¬2) النحل وغيره يسد مسد الماء في زوال عينها. بل ربما كان النحل أبلغ لأنه يزيل من آثار الألوان في الثياب ما لا يزيله الماء. وقد قال عليه السلام في الدم: ثم اغسليه بالماء (¬3). فخص الماء بالذكر، وجب القصر عليه. وكذلك أمران يصب على بول الأعرابي ذنوبًا أو ذنوبين من ماء. وقد تعلق صحابنا بقوله تعالى: {ماءً طهورًا} (¬4). وقوله: {ماء ليطهركم به} (¬5) والقصد التنبيه على فضيلة الماء. فلو تركه غيره في ذلك لبطلت فائدة التخصيص. وهذا فيه نظر لأنه لا يمتنع أن يكون القصد أن الماء له فضيلة التطهير. وكون غيره له هذه الفضيلة لا يسلبه فضيلته. وقد يمدح بعض الأشخاص بما وجد في غيره فيقال فلان عالم وصالح وإن كان يوجد من هو مثله في ذلك. وقد يمن علينا بخلق الماء طهورًا وإن كان غيره يشركه في ذلك. وخص الماء بالذكر لأنه أعم في الطهارة من جهة الوجود الكثرة. ومن جهة ¬

_ (¬1) ما ورد الشرع به - و - ق -. (¬2) وإن -و-. (¬3) روى أبو داود والنسائي قال حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر: جامع الأصول ج 7 ص 98. وإسناده حسن. (¬4) سورة الفرقان، الآية: 48. (¬5) سورة الأنفال، الآية: 11.

الشرع لأنه طهور في الطهارة العينية والحكمية. وما سواه في المائعات ليس بطهور في الطهارة الحكمية باتفاق. فهذا عندي مما يدافع به أصحابنا عن التعلق بالآية. وقد تعلق من جرى مع حكم القياس واتبع الغرض (¬1) بقوله في الدرع يطهره ما بعده (¬2) وبأمره في النعل أن تدلك، وبأن الخمر إذا استحالذينفسها خلا طهرت في نفسها وطهر الدن بالخل المستحيل. وأجيبوا عن هذا بأن حديث الدرع محمول على القشب اليابس كما تأوله مالك. وبأن الدلك في النعل محمله على أنه إنما أصابها أرواث الدواب. وقد قدمنا ذكر السبب في المعفو (¬3) عنه. وأما الدن فإنه لم يطهر بالخل وإنما طهر لأن جميع الأجزاء النجسة قد استحالت، فصارت طاهرة فلم تبق نجاسة يسند إليها نجاسة الدن. وأما ما حكيناه من تفرقة بعض أصحاب أبي حنيفة بين الجسد والثوب فإنه مر على الأصل الذي قررناه (¬4)، ولكنه تخيل فيه خيالًا، أداه إلى التفرقة. وذلك أن نجاسة الثوب لا يجب غسلها إذا اختار استبدال الثوب النجس بثوب طاهر، فاتضح فيها أن الغرض الإزالة. ونجاسة البدن يتعين غسلها. فمن جهة التعين أشبه طهارة الحدث المتعينة. وهذا ساقط لمن عنده ثوب نجس لا يجد سواه. فإن غسله يتعين كما يتعين غسل الجسد، مع أن تعين غسل الجسد لم يكن لأمر يعود إلى النجاسة المختصة به، وإنما هو لاستحالة استبدال البدن. ولو قدر زوال العضو النجس وانفصاله عن البدن لم يجب غسل نجاسته، وفي هذا مقنع. وقد ذهب أبو حنيفة إلى أن للشمس مدخلًا في تطهير النجاسة. فقال في جلد الميتة تجففه الشمس، أنه يطهر. وكذلك الأرض إذا جففت نجاستها الشمس فإنها تطهير ويصلى عليها. ولكن لا يتيمم بها. وكذلك عنده النعل إذا علقت به نجاسة غليظة فجفت، إن (¬5) الدلك يذهب حكمها ورأيت القاضي إسماعيل نحا نحوه في هذا فقال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي الأرض مسجدًا ¬

_ (¬1) الفرض -و-. (¬2) رواه مالك وأبو داود والترمذي عن أم سلمة. (¬3) العفو -و-. (¬4) قدرناه -و-. (¬5) فإن - ح - ق -.

وطهورا" (¬1). فلو أكلت الأرض النجاسة حتى ذهب أثرها لرجوت أن تطهير كما تطهير النجاسة بالماء الكثير الغالب عليها، بخلاف الثوب فإن النجاسة لا يذهب أثرها منه والموطأل الزمن. وما قدمناه من الأدلة على اشتراط الماء في طهارة النجاسة كاف في الرد على من سلك (¬2) هذه الطريقة. وقد ذكر الشيخ أبو الحسن اللخمي اختلافًا في إزالة النجاسة بالمائع. وأراه إنما أخذه من قول ابن حبيب إذا بصق دمًا في الصلاة فلا شيء عليه ما لم يتفاحش. فظن أنه إنما طهر عنده المحل بالريق. وهذا ليس كما ظن. لاحتمال أن يكون إنما عفي عنه ليسارته. ألا تراه اشترط عدم تفاحشه؟ وقد أشار شيخنا أبو الحسن إلى أن مذهب ابن حبيب اعتبار النجاسة لا اعتبار محلها. وذكر هذه المسألة. وذكر قول ابن حبيب فيمن اقتصر على مسح موضع المحجمة، أنه لا يعيد لأنه يرى ذلك -لو اجتمع- في حكم الدم اليسير. وإن قول مالك إنه يعيد في الوقت، إما في العمد على أحد التأويلين. أو في العمد والسهو على التأويل الآخر؛ لأنه يعتبر مقدار محل النجاسة لا مقدارها في نفسها. وقد ذكر غيره من الأشياخ الأندلسيين هذا التأويل بقول مالك في أنه يعتبر المحل. وإذا كان هذا هكذا فلا معنى لتخريجه الذي أشرنا إليه. وكذلك أيضًا حكى اختلافًا في النجاسة إذا بولغ في مسحها حتى ذهب أثرها. فأشار إلى تخريج الخلاف من مسألة السيف يصيبه الدم. وقد قدمنا نحن ذكرها. والتخريج عنها (¬3) فيه ضعف لأنه قد وقع في الرواية أنه يصلي به مسحه أو لم يمسحه. فأنت ترى كيف عفي عن هذه النجاسة وإن بقيت عينها لم يمسح. وذكر المسح في بعض الروايات. واعتل الأبهري وعبد الوهاب لذلك بأنه صقيل لا يبقى مع صقالته للنجاسة أثر إذا مسحت، وإن غسله يفسده. وهذان معنيان لا يوجد مجموعهما في غير السيف من الأشياء النجسة على الإطلاق. فلا يصح هذا التخريج الذي خرج لما ذكرناه. ¬

_ (¬1) روى مسلم عن حذيفة قال - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لنا الأرض مسجدًا كلها وجعلت لنا تربتها طهورًا. كما روى أبو داود عن أبي هريرة في حديث تفضيله عن الأنبياء: وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا. (¬2) يسلك -و-. (¬3) منها في -و-.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: لا يفتقر غسل النجاسة إلى نية لأنها طهارة معقول معناها. والمراد بها أمر محسوس وهو حاصل لمن نوى ولمن لم ينو. فمن طرح عنه ثوبه النجس أو غسل نجاسة بغير قصد، فإنه قد حصل الغرض المطلوب. فلا معنى لاشتراط النية في ذلك. ولما كانت طهارة الحدث لا يراد بها إزالة أمر محسوس ولا تحصيل غرض وإنما يحصل بها أجر في العقبى، افتقرت إلى نية لتحصيل هذا الغرض المطلوب. وقدر أبو حنيفة أنها إنما شرعت لتحصيل مكرمة النظافة. وإن لم يظهر ذلك للحس كما ظهر في النجاسة. فلم يعتبر فيها النية واعتبرها في التيمم لما لم يحصل ذلك فيه لا وجودًا ولا تقديرًا. وقد مال بعض المتأخرين من القرويين إلى أن النضح للنجاسة يفتقر إلى نية بخلاف غسلها. واستبعد هذا غيره من القرويين. وقال إن قدرنا أن ما شك فيه من النجاسة موجود فالنجاسة الموجودة لا (¬1) تفتقر إزالتها إلى نية. وإن قدرنا عدم النجاسة فالغسل ساقط. وإذ سقط لم تشترط النية. ومن عجيب ما ينبغي أن يتفطن له أن هؤلاء المتأخرين من المغاربة تحوم خواطرهم على هذه المعاني التي أبرزها حذاق أهل العراق للوجود. وذلك أنا قدمنا أن ما كان القصد به تحصيل أم رنا جز فلا معنى للنية فيه كغسل النجاسة. وإن طهارة الحدث لما كانت لا يقصد بها إزالة أمر محسوس افتقرت إلى نية. وهذا المعنى بسطه المتأخرون كأبي المعالي وغيره. وكأن من حكينا (¬2) عنه من القرويين *إن النضح يفتقر إلى نية* (¬3) استشعره ورأى أن الناضح لا يزيل عينا فأشبه المتطهر للحديث في افتقاره إلى النية، فلا وجه لاستبعاد قوله كما استبعده صاحبه. وقد قدمنا لك تفرقة بعض أصحاب أبي حنيفة بين النجاسة التي على البدن وبين النجاسة التي على الثوب في تطهيرها بغير الماء. ورأى أن ما على البدن، لما تعين، أشبه طهارة الحدث. ولم نوجه هذا القول لأنه الصواب عندنا. وإنما نبهناك على أن العالم، وإن لم يرد خاطره مورد الحقيقة، فإنه حولها يحوم. ¬

_ (¬1) لا = ساقطة -ح-. (¬2) حكيناه -و-. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف المذهب في المصلي إذا رأى في ثوبه، وهو في الصلاة، نجاسة لا يعفى عنها. هل يقطع الصلاة أم لا؟ فقيل يقطع الصلاة. وقيل يتمادى بعد نزعها عنه. وإن لم يمكنه النزع تمادى وأعاد. وقيل إن لم يمكنه النزع قطع. وإن أمكنه النزع تمادى. وسبب الاختلاف اختلاف الأحاديث. فقال ابن شهاب بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في ثوبه دمًا، وهو في الصلاة، فانصرف (¬1). وفي الصحيح أنه عليه السلام خلع نعليه في الصلاة لما أخبره جبريل عليه السلام أن بهما قذرًا (¬2). وقد قال بعض المتأخرين من أصحابنا لا حجة في حديث النعلين؛ لأن النجاسة بأسفلهما وقد حال بينه وبينها أعلى النعل. ومن بسط على النجاسة ثوبًا كثيفًا صحت صلاته. ومن قام على نعلين بأسفلهما نجاسة فإن أعلاهما جلد كثيف يحول بين المصلي وبين النجاسة. فإذا نزعهما بأن أخرج رجليه منهما من غير أن يحركهما -فيكون بتحريكهما- حامل النجاسة صحت صلاته. وقد قال بعض المتأخرين من الأندلسيين أمره في المدونة أن يقطع. وهذا محمله: على أن الصلاة بالنجاسة ناسيًا غير صحيحة. وأمره إذا لم يعلم، أن يعيد في الوقت. والإعادة في الوقت تشعر بالصحة، فكان ينبغي على مقتضى قوله إن الإعادة في الوقلت: أن يتمادى ويعيد في الوقت. وقال بعض أشياخي إنما أمره بالقطع استحسانًا (¬3). وقال ابن حبيب إذا رأى الحجاسة في الصلاة فانسيها وتمادى، فإنه يعيد الصلاة (¬4) وإن خرج الوقت. لأن برؤيتها انتقضت صلاته. وكذلك لو أمرناه بالإعادة في الوقت إذا صلى بها ناسيًا فنسي أن يعيد في الوقت، فإنه يعيد بعده. فأنت ترى ابن حبيب كيف قال فيمن رأى النجاسة وهو في صلاته، إن صلاته انتقضت. فهذا يشير إلى أن القطع واجب وليس باستحسان كما قاله شيخنا. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي مقطوعًا وموصولًا. وروي مرسلًا ومتصلًا. وفي كل رواياته ضعف. سنن البيهقي ج 2 ص 403. (¬2) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. منتقى الأخبار ص 318. (¬3) استحسان -ح- وعليه فإن أمره اسم. (¬4) الصلاة = ساقطة -و-.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: المشهور من المذهب أنه إذا انصرف لغسل النجاسة فغسلها وعاد فإنه (¬1) يستأنف الصلاة. وقال أشهب لو بني لأجزأه كالراعف. وسنتكلم على حكم البناء على ما مضى من الصلاة في موضعه إن شاء الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: معنى تقييده لقوله مع الذكر تحرزًا من الناسي، فإن المشهور أن (¬2) صلاته صحيحة. وإنما يعيد في الوقت. وفي قول آخر عندنا أنه يعيد أبدًا وإن كان ناسيًا. فعلى هذا القول لا يفتقر إلى زيادة التحرز بالذكر. وأما قوله: والقدرة فتحرزًا ممن لا يجد ما يستر به عورته إلا ثوبًا نجسًا فإنه يؤمر بالصلاة به وصلاته مع هذا صحيحة لعدم القدرة على ثوب طاهر. والكلام في إعادته للصلاة يذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: تصير قوله: فأما ما كان على الثوب فلا يتوجه عليه فرض إلا في ترك محله، أو فعل الإزالة إن اختار المحل أو وجب. لأن من عليه ثوب نجس فإنما عليه ألا يصلي به. فإذا نزعه ولبس الطاهر سقط الفرض عنه. فإن اختار (¬3) بقاءه عليه ليصلي به فلا بد من إزالة النجاسة. وكذلك إن وجب بقاؤه عليه *لأنه لا يجد ثوبًا يستره سواه فإنه يجب عليه الغسل ويصير إذن إذا اختار المحل الذي هو محل النجاسة أو وجب بقاؤه عليه* (¬4) كالبدن الذي لا بد من غسله لاستحالة استبداله. قال القاضي رحمه الله: وحكم ستر العورة حكم إزالة النجاسة. إلا أنه لا يتصور فيه الترك. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة عشر سؤالًا. منها أن يقال: ¬

_ (¬1) أنه -و-. (¬2) إن = ساقطة -و-. (¬3) فإن أحب -و-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط من -و-.

1 - هل ستر العورة فرض أو سنة؟. 2 - وما حد العورة؟. 3 - وهل هي في الرجال والنساء سواء؟. 4 - وهل تصح الصلاة مع انكشافها؟. 5 - وما المشروع من اللباس للصلاة؟. 6 - وما حكم من لم يجد ما يستر به عورته؟ 7 - وما حكمه إن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا؟. 8 - وما حكمه إن لم يجد إلا ثوبًا حريرًا؟. 9 - وما حكمه إن وجدهما خاصة؟. 10 - وما حكمه إن صلى بأحدهما اختيارًا؟. 11 - وما أمر بإعادته من الصلاة هل يعاد بهما؟. 12 - وهل حكم الخز حكم الحرير؟. 13 - وما قدر ما يعفى عنه من الحرير؟. 14 - وما حكم ما طرأ في أثناء الصلاة من انكشاف العورة؟. 15 - وما تصير قوله إلا أنه لا يتصور فيه الترك؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما ستر العورة ففرض عن أعين المخلوقين. وهذا معلوم متقرر في الشرع. ومستحب عن أعين الملائكة. وقد خرج الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوا منهم وأكرموهم (¬1). وخرج البخاري أنه نهى أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء بينه وبين السماء (¬2). وأقل مراتب هذا النهي أن يحمل على الاستحباب. وأما ستر العورة في الصلاة فقال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: اختلف أصحابنا في ذلك. فذهب القاضيان إسماعيل وابن بكير والأبهري إلى أن ذلك من سنن الصلاة. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وعلق بقوله: حسن غريب: لا نعرفه إلا من هذا الوجه: العارضة ج 10 ص 241. (¬2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن: الهداية ج 2 ص 404.

وذهب أبو الفرج إلى أن ذلك من فروض الصلاة. هكذا ذكر القاضي أبو محمَّد. وأشار ها هنا في التلقين إلى نقل المذهب على غير هذه الرتبة؛ لأنه ذكر أن حكم ستر العورة حكم إزالة النجاسة. وهو قد قدم أنه قد قيل في إزالة النجاسة أنها ليست من شرط الصحة. ولا يدل ذلك على أنها ليست بفرض. وذكر أنه قد قيل إنها من شرط الصحة مع الذكر والقدرة. فأثبت أن كلا المذهبين لا ينفي كونها فرضًا. وإذا جعل ستر العورة حكمه حكمها انتفى الخلاف أيضًا في كونه فرضًا. وقد ذكر في غير هذا الكتاب الخلاف في ذلك كما حكيناه عنه. فهذا يجب أن يتأمل. وقد بسطنا نحن القول فيما تكلمنا عليه في الفصل الذي أحال عليه بما يغنيك عن إعادته ها هنا. وأما أبو حنيفة والشافعي فذهبا إلى أنه من فروض الصلاة *وقد تعلق بعض من رأى أن ستر العورة من فروض الصلاة* (¬1) بقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2) وهذه الآية قد كثر كلام الناس عليها. فأشار مالك رضي الله عنه في المستخرجة إلى أن المراد بالزينة الأردية، وبالمساجد الصلوات في المساجد. وذكر ابن مزين أن المراد بالمساجد الصلوات. وقال القاضي إسماعيل: ذهب قوم إلى وجوب لباس الثياب في الصلاة تعلقًا بهذه الآية. والآية إنما نزلت ردًا لما كانوا يفعلونه من الطواف عراة تحريمًا للباس. فهذا القصد بها. ألا تراه سبحانه يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (¬3). ويتعلق أيضًا من رأى ستر العورة فرضًا في الصلاة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة الحائض إلا بخمار" (¬4). ويستدل من أنكر كونها فرضًا في الصلاة بأنها لو كانت فرضًا لسقطت الصلاة عمن لم يقدر على ما يستر به عورته كما تسقط (¬5) عمن لم يقدر على الماء والتراب. وقد روي أن الآية إنما تضمنت ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 32. (¬4) روي موقوفًا ومتصلًا. رواه أبو داود والحاكم والبيهقي والترمذي حسنه الترمذي وصححه الحاكم: الهداية ج 2 ص 410. (¬5) سقطت -و-.

الأمر بالزينة، والزينة إنما تكون بعد حصول العورة مغطاة. فكان العورة لا ذكر لها في الآية. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما السوءتان القبل والدبر فلا شك في كونهما عورة. وما فوق السوأة إلى السرة، وما تحتها إلى الركبة هو من العورة عندنا أيضًا. وليست نفس الركبة ولا نفس السرة من العورة (¬1). وقد قال بعض أصحابنا إنما العورة السوءتان والفخذان. وذكر (¬2) ابن خويز منداد: أن مالكًا أجاز للرجل أن ينظر إلى فخذ خصي امرأته. وأن أصحابنا حملوا هذا على أن العورة هي الفرج. وأن التحديد من السرة إلى الركبة، لأصحاب مالك لا لمالك. وبما قلناه إن العورة من السرة إلى الركبة. قال أبو حنيفة والشافعي. لكن لأبي حنيفة تفصيل في إعادة الصلاة بانكشاف بعض ذلك. وقد اختلفت الأحاديث. ففي حديث جرهد: خمر عليك فخذك. أما علمت أن الفخذ عورة (¬3). وهذا كالنص على كون الفخذ عورة. وفي حديث عثمان لما ستر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فخذه. وقد (¬4) كان منكشفُ الأبي بكر وعمر رضي الله عنهما (¬5). ما قد يستدل به على أنه ليس بعورة. والواجب بناء هذه الأحاديث إن أمكن أو ¬

_ (¬1) عورة -و-. (¬2) وقال -و-. (¬3) أخرجه أحمد ج 3 ص 479. وأخرجه أبو داود عن جرهد أنه قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا وفخذي منكشفة فقال: أما علمت أن الفخذ عورة. وهو في الموطإ من رواية معن بن عيسى القزاز ويحيى بن بكير وسليمان بن برد وليس عند غيرهم من رواة الموطإ. وذكر ابن الحذاء أن فيه اضطرابًا في إسناده. مختصر سنن أبي داود ج 6 ص 16 - 18. ورواه الترمذي ولفظه - صلى الله عليه وسلم -: غط فخذك فإنها من العورة. (¬4) وقد = ساقطة -و-. (¬5) أخرجه مسلم بسنده إلى عائشة رضي الله عنها كان رسول الله مضطجعًا كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبا بكر فأذن له وهو على تلك الحال. فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسوى ثيابه. ورواه أحمد من حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا كاشفًا عن فخذه. فلما استأذن عثمان أرخى عليه ثيابه. المسند ج 6 ص 62. وبمعناه عن حفصة ج 6 ص 288.

الترجيح بينها إن لم يمكن. وذلك مما يتسع القول فيه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: النساء على قمسين: حرة وأمة. فأما الحرة فكلها عندنا (¬1) عورة إلا الوجه والكفين. لأن الله سبحانه قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (¬2). قيل المراد بما ظهر منها: الكحل والخاتم. قال ابن الجهم لأن بها ضرورة إلى إبداء هذين العضوين للمعاملات والأخذ والعطاء فدعت الضرورة إلى استثناء هذين العضوين. لأن المرأة يباح لها لبس الخفين في الإحرام. فلو كان ساقها ليس بعورة ما جاز أن تستره كما لا تستر وجهها في الإحرام. وأما الأمة فقد قال مالك في المدونة إنها لا تصلي إلا بثوب يستر جميع جسدها وتصلي بغير قناع. فجعلها أخفض رتبة من الحرة التي لا تصلي إلا بقناع. ونص أصبغ في كتاب ابن حبيب على أن مبلغ عورتها مبلغ عورة الرجل. وقال لو صلت مكشوفة البطن ما ضرها. والستر موضوع عنها عند الرجال. وفي المبسوط إجازة إبداء يديها وعنقها وصدرها *ما على الثديين منه وارتفع عنهما. ولمالك في كتاب ابن حبيب كراهة نظر المشترى عند التقليب لصدرها* (¬3) ومعصمها. وبالجملة فإن ظاهر المذهب انخفاض رتبتها عن الحرة في حكم العورة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: قد أشار القاضي أبو محمَّد رحمه الله إلى الجواب عن ذلك لما ذكر أن حكم ستر العورة حكم إزالة النجاسة. وذكر أن إزالة النجاسة اختلف فيها. هل ذلك من شرط الصحة أم لا؟ وأشار إلى أنه يصح القول بصحة الصلاة مع (¬4) كون ذلك فرضًا. والبخاري على الألسنة في المذاكرة، وهي طريقة بعض الأشياخ، إن القول بأن ستر العورة فرض يقتضي بطلان الصلاة إذا لم تستر. وإن القول بأنها سنة لا يقتضي بطلان ¬

_ (¬1) فإنها عندنا كلها عورة -و-. (¬2) سورة النور، الآية: 31. (¬3) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬4) ومع -و-.

الصلاة إذا لم تستر. وقد (¬1) قال ابن القاسم في المصلي عريانًا إنه يعيد أبدًا. وقال أشهب يعيد في الوقت. وقال أصبغ إن عورة الرجل والأمة من السرة إلى الركبة. ولكن انكشاف فخذ الرجل في الصلاة لا يقتضي الإعادة. وانكشاف فخذ الأمة (¬2) يقتضي الإعادة في الوقت. فأنت ترى كيف ساوى (¬3) بينهما في كونهما عورة، وفرق بينهما في حكم الإعادة. وما ذلك إلا لغلظ حكم العورة في فخذ الأمة وخفته في فخذ الرجل. ولقد قسم أبو حنيفة العورة إلى قسمين: مغلظة وهي السوأتان، ومخففة وهي ما سواهما. فانكشاف السوأتين عنده يوجب الإعادة، وانكشاف فخذ الرجل لا يوجب الإعادة. وانكشاف أقل من الربع من ساق المرأة أو شعرها لا يوجب الإعادة. وعند صاحبه أبي يوسف انكشاف النصف فأقل مما ذكرناه لا يوجب الإعادة. وقد قال بعض المتأخرين من الأندلسيين لا يبعد تقسيم العورة إلى المغلظة والمخففة كما قال أبو حنيفة. وذكر أن قول مالك في المرأة تصلي بادية الصدر والشعر أنها تعيد في الوقت، يشير إلى ذلك. وما ذكرناه نحن عن أصبغ من التفرقة في الإعادة بين فخذ الرجل والأمة، فيه إشارة أيضًا إلى التغليظ والتخفيف. ولكن ليس على الصورة التي قصد أبو حنيفة إليها. وقد وقع لأشهب ما يشير إلى خلاف هذه الطريقة. وذلك أنه قال: من صلى عريانًا أو في ثوب يشف، أو في ثوب لا يبلغ الركبتين فإنه يعيد في الوقت، فأشار ها هنا إلى كون (¬4) الفخذ عورة لذكره الثوب المتقاصر عن الركبة. وسوى في الإعادة بينه وبين العريان. فلم يختلف عنده حال العورة. وإن كان قد وقع له أن من صلى في سراويل أو تبان فإنه يعيد في الوقت وإن كان هذا لم تنكشف له عورة. ولعله إنما أمره بالإعادة لأنه لم يأخذ الزينة المأمور بها عند الصلاة. وقد قال بعضهم إن الصلاة بالمئزر أحسن من السراويل *لأن السراويل تصف شكل ¬

_ (¬1) وقد ساقطة -و-. (¬2) المرأة -و-. (¬3) سوى -و-. (¬4) لكون -ح-.

الفرج. وإنما ذكرنا قول أشهب هذا في المصلي بالسراويل لإمكان تأويل الصلاة* (¬1) في الثوب المتقاصر عن الركب على هذا والأظهر تأويله على ما تقدم. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اضطرب المذهب في المشروع من اللباس للصلاة. وقد كنا أشرنا إلى الاختلاف في المذهب في تأويل قوله سبحانه: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (¬2). فتأول السدي الآية على أن المراد بها ستر العورة. وهذا يطابق قول أصبغ إن صلى الرجل مكشوف الفخذ لم يعد بناءً على تخفيف حكم العورة في الفخذ (¬3). وقد يطابق أيضًا قول ابن القاسم: من صلى بمئزر لم يعد. فلعله بناه على أن الفخذ عورة وأن المئزر يستر نهاية العورة وزيادة عليها. وقد قال بعض أشياخي بأن في المذهب اختلافًا في الواجب من اللباس في الصلاة. وأشار إلى هاتين الطريقتين: إحداهما إيجاب ستر السوأتين، والآخر إيجاب الائتزار في الوسط. وذكر أبو الفرج أن لمالك في الواجب من اللباس للصلاة كلامين. أحدهما ما يدل على وجوبه وهو قوله في المكفر عن يمينه: إنه يكسو للرجل ثوبًا وللمرأة درعًا وخمارًا وذلك أدنى ما يجزئ في الصلاة. وقوله في أم الولد: تصلي بغير قناع تعيد، ولا أوجبه عليها كما أوجبه على الحرة. والكلام الثاني الموهم أنه سنة، قوله في الحرة: تصلي بادية الصدر أو الشعر، أنها تعيد في الوقت. قال: وبما دلَّ عليه قوله من الوجوب أقول. وحمل بعض أشياخي هذا الذي نقلناه عن أبي الفرج على أن الواجب ستر جميع البدن على حسب ما فصله مالك. ولعله تعلق في هذا بقول مالك: وذلك أدنى ما يجزئ في الصلاة. وظاهر عبارة الإجزاء يقتضي الوجوب. وهذا الذي قاله، وإن كان ظاهرًا، يمكن (¬4) المنازعة فيه، بأن يقال لعل مالكًا أراد بقوله: وذلك أدنى ما يجزئ في الصلاة، أي ما يكفي فيها. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط - و - ق -. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 31. (¬3) على تخفيف حكم الفخذ في العورة -ح-. (¬4) فتمكن -و-.

ويحتاج إليه للقيام بالفضل من اللباس لا بالفرض. لأن اللباس يتنوع إلى فرض وفضل. وإذا ثبت أن المستحب والمشروع ستر جميع البدن في الصلاة أمكن أن يعبر عن ذلك بأن يقال إن الثوب هو أدنى ما يجزئ فيه بمعنى أدنى ما يكفي فيه. وقد كنا قدمنا أنه قد وقع في المذهب تأويل قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، على أن المراد بالمسجد الصلوات. وهذه إشارة إلى أمر الفذ بالزينة. فإن صح ما حمله شيخنا على أبي الفرج فيكون الأمر عنده ها هنا على الوجوب، فخرج من مضمون ما حكيناه أن المذهب عنده (¬1) على أربعة أقوال: أحدها: إيجاب ستر جميع البدن على حسب ما تأوله على أبي الفرج. والثاني: لا يجب ستر شيء منه بناءً على ما كنا قدمناه من قول من قال من أصحابنا إن ستر العورة سنة. فمن صلى على هذه الطريقة في بيته عريانًا لم تكن صلاته باطلة. والقول الثالث: إيجاب ستر السوأتين خاصة. والقول الرابع: إيجاب الاتزار من الوسط. وقد بسطنا القول في هذا فلا معنى لإعادته. وإذا ثبت أن الزينة مأمور بها فقد قال مالك: إنها الأردية. وإن المسجد المذكور في القرآن المراد به الصلوات في المساجد. فأشار إلى استحسان الأردية للمصلين في المساجد ورأى أن الحال فيها ينبغي أن يكون أرفع من الح الذي البيوت. وكره في المدونة للإمام أن يصلي بغير رداء في المسجد. واستخفه إذا أم في غير المسجد. واستحب مع هذا أن يجعل عمامة على عاتقه. ورأيت فيما علق عن أشياخي القرويين: أن الشيخ أبا عمران رأى أن العمامة إذا جعلت على العاتقين قامت مقام الرداء وسقطت الكراهة. وخالفه في ذلك أبو القاسم بن الكاتب. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي الرجل بثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء" (¬2). وهذا الحديث يصلح أن يكون حجة لمن تأول على أبي الفرج من إيجاب اللباس في الصلاة، لإيجابه ستر العاتقين. إذا قلنا إن النهي ها هنا على الحتم ¬

_ (¬1) عنده = ساقطة - و -. (¬2) رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء". فتح الباري ج 2 ص 17. ورواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء. ج 2 ص 224.

والإلزام. وإن لم نقل إنه على الحتم والإلزام كان حجة لما قلناه من أن في اللباس فضلًا مندوبًا إليه في الصلاة. وذكره - صلى الله عليه وسلم - العاتقين إشارة لما استحبه (¬1) العلماء من وضع الرداء على العاتقين أو العمامة على تفصيل لهم قد ذكرناه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: من لم يجد ما يستر به عورته فإن حكمه عندنا أن يصلي قائمًا كما (¬2) يصلي الساتر لعورته. وعند الأوزاعي حكمه أن يصلي جالسًا. وخيره أبو حنيفة بين الأمرين. وسبب الخلاف في ذلك أن ستر العورة فرض. والقيام في الصلاة فرض. والقائم تبدو عورته والجالس تستر، فيعتبر أي الفرضين آكد؟ فيترك الأضعف له. فرأى مالك أن (¬3) القيام آكد لأن الشرع لم يسقطه إلا إلى بدل وهو الجلوس. وستر العورة يسقط إلى غير بدل فدل على أنه أضعف. فإذا أثبت أن القيام آكد قدم، وكان الواجب الصلاة قائمًا. ورأى الأوزاعي أن ستر العورة آكد لأنه لم يسقط في الشريعة، *في موضع من المواضع ولا في صلاة من الصلوات. والقيام قد سقط في الشريعة* (¬4) اختيارًا في صلوات النوافل. وما لم يسقط أصلًا آكد مما يسقط في حال ويثبت في حال. وإذا ثبت أنه آكد فيكون الفرض الجلوس لأنه أستر. ورأى أبو حنيفة الترجيحين كالمتساويين فخير بين الأمرين. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا فإنه يصلي به خلافًا للشافعية في قولهم إنه يصلي عريانًا. ولأبي حنيفة في قوله إنه (¬5) بالخيار. وإنما قلنا هذا لأن ستر العورة آكد من طهارة الثوب. ألا ترى أن كشف العورة لا يباح في حال من الأحوال، ولباس الثوب النجس سائغ في كل الأحوال إلا في الصلاة. فإذا كان ستر العورة آكد قدم. ¬

_ (¬1) استحسنه -و-. (¬2) كما كان يصلي -و-. (¬3) إن = ساقطة -ح-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬5) أنه يصلي بالخيار -و-.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إن لم يجد إلا ثوبًا حريرًا فإنه يصلي عريانًا. قاله ابن القاسم وأشهب. ويتخرج من قوله في المدونة -فيمن لم يجد إلا ثوبًا حريرًا أو ثوبًا نجسًا أنه يصلي بالحرير- أن يصلي من لم يجد إلا ثوبًا حريرًا، بالثوب الحرير؛ لأنه قدمه في المدونة على الثوب النجس. والثوب النجس مقدم على التعري. فإذا قدم على -ما قدم على التعري فلا يصح أن يقدم التعري عليه. وسبب هذا الاختلاف مراعاة الترجيح: فمن قدر أن ستر العورة آكد صلى بالحرير. ويحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في لبسه لحكة (¬1) فضرورة الصلاة به آكد. ومن رأى اجتناب الحرير آكد صلى عريانًا. وعندي أنه لما كان لبس الحرير يمنع عمومًا في غالب الأحوال، والتعري يمنع عمومًا، حسن الخلاف فيهما. أيهما يقدم؟ ولما كانت النجاسة يجوز لباسها عمومًا إلا في الصلاة لم يختلف عندنا في أن الصلاة بها أولى من التعري. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إن لم يجد إلا ثوبين كتانًا نجسًا أو حريرًا طاهرًا فبأيهما يصلي؟ فيه قولان: أحدهما: يصلي بالنجس] والآخر بالحرير. وسبب الاختلاف في ذلك ما قدمناه من مراعاة الأخف والأثقل. فمن رأى الحرير أخف؛ لأن النهي عنه لا يختص بالصلاة قدمه. ومن رأى النجس أخف لأنه يحل لبسه في عموم الأحوال إلا في الصلاة قدمه. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما إن صلى بالنجس اختيارًا مع وجود ثوب طاهر فقد تقدم الكلام عليه، وذكر الاختلاف فيه. وما قيل في غسل النجاسة هل هو سنة أو فرض فلا معنى لإعادته. وأما إن صلى بثوب حرير، مع القدرة على ثوب طاهر، فلا يخلو من قسمين: أحدهما أن يصلي به، وعليه ما يواريه سواه، أو صلى به وليس عليه سواه. فإن صلى به وعليه ما يواريه، فاختلف في الإعادة. فقيل لا إعادة عليه. وقيل يعيد في الوقت. وهكذا اختلف ¬

_ (¬1) عن أنس رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكة بهما: فتح الباري ج 12 ص 411. ولمسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القميص الحرير في السفر من حكة كانت بهما أو وجع كان بهما. إكمال الإكمال ج 5 ص 381.

فيمن صلى متختمًا بالذهب. فمن نفى الإعادة فلأن العورة مستورة بما تحل الصلاة به. ولأن النهي عن لبس الذهب والحرير لم يكن لأجل الصلاة ولا مختصًا بها فلا تعاد لمخالفة نهي لا يختص بها ولا يعود إليها. ومن رأى الإعادة في الوقت، فلأن ركوب النهي في الصلاة يثبت فيها نقصًا، فينبغي أن يتلافى هذا النقص بالإعادة في الوقت ليأتي بصلاة لم يركب فيها نهيًا. وأما إن لم يكن عليه ما يواريه سوى ثوب الحرير فصلى به اختيارًا، ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: نفي الإعادة. والثاني: إثباتها في الوقت. والثالث: إثباتها وإن خرج الوقت. فتوجيه القولين الأولين كتوجيه ما تقدم في الصلاة به وعليه ثوب آخر سواه. وأما القول الثالث بالإعادة أبدًا فإنما اختص بهذا القسم لأجل أن ستر العورة واجب على الطريقة التي قدمناها. ولبس الحرير منهي عنه كما قدمناه، فإذا كان ستر العورة مأمورًا به ولبس الحرير منهيًا عنه فلا يكون ركوب النهي امتثالًا للأمر. وإذا لم يكن امتثالًا صار في معنى من صلى عريانًا. ومن صلى عريانًا يعيد الصلاة أبدًا على الطريقة التي قدمنا. ولكن يلزم هؤلاء عندي على هذا التعليل أن يقولوا فيمن صلى بثوب مغصوب أنه يعيد الصلاة أبدًا. وإن التزموه طرد عليهم الأمر في الصلاة في الدار المغصوبة. وإجزاء الصلاة في الدار المغصوبة، هو المعروف عند العلماء. لا يكادون يجدون انفصالًا عما ألزمناهم إلا أن يقولوا إن النهي عن الصلاة بالثوب المغصوب وفي الدار المغصوبة لحق الخلق، والنهي عن لباس الحرير لحق الخالق. والنهي يفترق حكمه إذا كان عائدًا لحق الخلق أو عائدًا لحق الخالق. وهذه الطريقة (¬1) يستعملها أشياخ المذهب، ولعلنا نبسط القول فيها في كتاب البيوع إن شاء الله. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: ذكر أشهب فيمن صلى عريانًا وهو واجد لثوب نجس أنه يعيد به (¬2) في الوقت. وقد قدمنا أن أصل أشهب فيمن صلى عريانًا أنه يعيد في الوقت. وقال سحنون فيمن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا أو ثوبًا حريرًا نجسًا فصلى به، ثم وجد في الوقت ثوبًا حريرًا طاهرًا ¬

_ (¬1) طريقه -و - ق -. (¬2) به = ساقطة من - و - ق -.

فإنه لا يعيد. ووجه هذا الذي ذكره سحنون أن الإعادة في الوقت إنما تكون لتلافي نقص وقع في الصلاة فتعاد ليحصل الكمال الذي فات في الأولى. فإذا صلى بثوب نجس أو حرير نجس مضطرًا، ثم وجد حريرًا طاهرًا، فإن الحرير الطاهر منهي عن لباسه والصلاة فيه. فلا يحسن أن يؤمر بتلافي نقص بفعل نقص آخر. وإنما يتلافى النقص بفعل الكمال. هذا هو العمدة المرجوع إليها في هذه المسائل وما كان في معناها. والمذهب فيمن صلى بثوب نجس اضطرارًا، أنه يعيد في الوقت بالثوب الطاهر ليتلافى بكمال الطاهر نقص النجس. واختلف عندنا فيمن صلى بالحرير اضطرارًا. هل يتلافى هذا النقص بالإعادة بثوب كتان طاهر؟ ففي المدونة فيمن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا وثوبًا حريرًا أنه يصلي بالحرير ويعيد إن وجد غيره في الوقت. وفي كتاب ابن المواز، لاصبغ أنه (¬1) يصلي بالنجس ويعيد في الوقت. وإن صلى بالحرير فلا إعادة عليه. وقد يسبق للنفس إنكار هذا الذي قاله أصبغ لأجل أنه أمر بالإعادة لمن صلى بالثوب النجس ولم يأمر بالإعادة لمن صلى بالحرير. وهذا يقتضي أن الحرير أخف وهو قد قال: يقدم النجس على الحرير. وهذا يقتضي أن النجس أخف وهذا كالمتناقض. وعندي أنه اعتبر في الإعادة ما يختص من النواهي بالصلاة دون ما لا يختص بها. واعتبر فيما يؤمر به من اللباس، ابتداء عموم النهي عن اللباس وخصوصه. فلما كان لباس الحرير لا يحل على حال، ولباس النجس يحل في كل حال، إلا في الصلاة، كان النجس في حكم اللباس أخف لجوازه في الغالب. وفي حكم الإعادة أثقل لاختصاص النهي عنه بالصلاة. هذا هو (¬2) الذي يمكن عندي في توجيه قوله هذا. وقد قدمنا عن أشهب أنه أمر من صلى عريانًا وهو واجد للثوب النجس أن يعيد به في الوقت. وقد يقع في النفس أن هذا كالنقص، لما أصلناه لأنه أمران يتلافى نقص التعري بنقص آخر وهو الصلاة بالثوب النجس. وقد كنا نحن قدمنا أن المعتبر في هذا أن لا يتلافى نقص بنقص. والذي يمكن أن يقال أيضًا في توجيه ما قاله أشهب أن المصلي عريانًا كان مأمورًا حين صلاته ¬

_ (¬1) أنه = ساقطة -ح-. (¬2) هو = ساقطة -و-.

بلبس هذا الثوب النجس من غير خلاف عندنا. فلم يوقع الصلاة إلا وهو مأمور حين إيقاعها بلبس هذا الثوب. فلهذا أمره بالإعادة. ويحتمل أن يكون يرى (¬1) نقص النجاسة أخفض رتبة من التعري فأمر بالاعادة لينتقل إلى ما هو أعلى في الكمال قليلًا. وعلى هذا التعليل يؤمر بالإعادة عنده من كان واجدًا للثوب النجس حين صلاته عريانًا، ومن كان فاقدًا له ولكنه وجده في الوقت. وقد أجمع أصحابنا على أن الصلاة بالثوب النجس أولى من التعري. وهذا يدل على انخفاض رتبة النجاسة عن التعري. فإن قيل اعتذاركم عن أشهب بهذا يوقعكم في التعقب على سحنون لأنكم ذكرتم عنه أن من صلى بثوب نجس أو ثوب حرير نجس أنه لا يعيد إن وجد حريرًا طاهرًا. والحرير الطاهر أعلى رتبة من الحرير النجس. والحرير الطاهر أيضًا أولى بأن يصلى به من الثوب النجس على مذهب المدونة. فلِمَ لمْ يأمر سحنون بالإعادة لينتقل أيضًا إلى ما هو أعلى في الكمال قليلًا على حسب اعتذاركم عن أشهب. قيل الترجيح ما بين مثل (¬2) هذه النواهي من أغمض مسائل الفقه. وهي نظير الترجيح بين العلل وبين التأويلات عند أهل الأصول. فقد يغلب على ظن الفقيه أن شيئًا أرجح ويغلب على ظن آخر خلافه. فلم يقدر سحنون بين الحرير الطاهر والحرير النجس من التفاوت في رتب الكمال ما يوجب الإعادة. وأيضًا فإن لبس الحرير محرم والإعادة في الوقت ليست بأمر ضروري، فلم يأمره بلبس الحرير اختيارًا. ألا ترى أن ابن القاسم وأشهب قد قالا فيمن لم يجد إلا ثوبًا حريرًا أن صلاته عريانًا أولى. فإذا كانا قالا في الصلاة الواجبة التي هي معنى الأمر الضروري لا يصلي بالحرير، فلأن يقولا ذلك في الصلاة المعادة في الوقت التي هي في المعنى الاختياري، أولى وأحرى. والثوب النجس اتفق المذهب على أن الصلاة به أولى من التعري. وهذا يدلك على تفاوت منازل هذه الأمور عندهم. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما الحرير فجمهور العلماء على منعه للرجال وإباحته للنساء. فأما منعه للرجال فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يلبس ¬

_ (¬1) رأى في -و-. (¬2) مثل = ساقطة -ح-.

الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" (¬1). وتفسير الخلاق: النصيب الوافر من الخير. وأما إباحته للنساء فلأن أسامة راح في حلته فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرًا عرف منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر ما صنع. فقال يا رسول الله ما تنظر إلى؟ أنت بعثت بها إلى. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ولكن بعثت بها إليك لتشقها خمرًا بين نسائك" (¬2). وهذا يدل على الإباحة للنساء كما قلناه. وهذا حكم الحرير المحض. وأما المختلط كالذي سداه حرير ولحمته قطن أو كتان، فكرهه مالك للرجال وهو مذهب ابن عمر. ومذهب ابن عباس جوازه (¬3). وقال بعض المتأخرين من أصحابنا اختلف فيه فأجيز وكره. وإجازته أكثر. وأما الخز فذكر عن مالك جوازه. وقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب: يجوز لبسه وكرهه مالك لأجل السرف. وذكر ابن حبيب عن خمسة عشر من الصحابة إجازته. والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: أما القدر اليسير من الحرير المحض المضاف إلى الثياب فإنه ممنوع. وفي كتاب ابن حبيب النهي عن اتخاذ الجيب منه. وقد قال بعض أصحابنا ما وقع في الحديث من استثناء العلم يدل على جواز اتخاذ الطوق منه أو اللِبْنة (¬4). وقد يحتج أيضًا عندي على الجواز بما خرجه مسلم عن عبد الملك بن عبد الله مولى أسماء قال: أرسلتني أسماء إلى ابن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب. وذكرت ما سواه. فأجابها ابن عمر سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له. فخفت أن يكون العلم منه. قال فرجعت إلى أسماء فأخبرتها فقالت: هذه جبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخرجت إلى جبة طيالسة كسروانية ¬

_ (¬1) رواه مسلم: إكمال الإكمال ج 5 ص 375 وهي إحدى رواية الموطإ. الزرقاني عن الموطإ ج 4 ص 111. وروى البخاري ومسلم إنما يلبيس هذه من لا خلاق له في الآخرة. اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 541. (¬2) رواه مسلم ج 5 ص 375. (¬3) ومذهب ابن عمر ومذهب ابن عباس جوازه -و-. (¬4) اللبنة: هي بنيقة القميص. والبنيقة هي ما يثبت في الأزرار.

لها لِبْنة ديباج وفرجاها ملفوفان بالديباج، فقالت هذه كانت عند عائشة رضي الله عنها حتى قبضت. فلما قبضت قبضتها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها فنحن نغسلها للمرضى تستشفي بها (¬1). وقوإنفصل عن هذا بعض أصحابنا بأن قال يحتمل أن يكون هذا الحرير أحدث فيها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا احتمل ذلك لم يكن في الحديث حجة. وأما المختلط كالذي سداه حرير ولحمته قطن أو كتان فقد تكلمنا عليه. وإذ قلنا بالنهي عنه فإن العلم يكون في الثوب ذكر ابن حبيب أنه رخص في لبسه والصلاة فيه وإن عظم. وقد روي عن مالك في غير كتاب ابن حبيب في مقدار الأصبع من الحرير يكون علمًا في الملاحف فنهى عنه مرة وأجازه أخرى. وقال في كتاب مسلم أن عمر رضي الله عنه خطب فقال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثًا أو أربعًا (¬2). وهذا يدل على جواز العلم اليسير يكون في الثوب. وأما لباس الحرير لعذر فقد رخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه، لحكة. وقال القاضي أبو محمَّد يجوز لبسه للضرورة والحاجة. وظاهر كلام مالك النهي عنه. واختلف في لباسه في الغزو فمنعه مالك واستخفه ابن الماجشون. والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: إذا صلى عريانًا لعدم الثوب فطرأ عليه الثوب في أثناء الصلاة أو صلت أمة بلباس الإماء ثم اعتقت في أثناء الصلاة فقال بعض الأشياخ، من يرى ستر العورة فرضًا في الصلاة، يأمر بالقطع. وهي طريقة سحنون في هذه المسألة. ومن يرى ستر العورة سنة يتناول الثوب فيستتر (¬3) به، وهي طريقة ابن القاسم في هذه المسألة. لأن الفروض كيفما تركت أفسدت الصلاة. والسنن إذا لم تترك استخفافًا وتهاونًا لم تفسد الصلاة. والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: تصير قوله إلا أنه لا ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم باب اللباس: إكمال الإكمال ج 5 ص 376. (¬2) أخرجه الترمذي: عارضة الأحوذي ج 7 ص 225. حسن صحيح. وفي مختصرًا أبي داود ج 6 ص 29 عدد الحديث 3884. (¬3) ويستتر -و-.

يتصور فيه الترك: أن النجاسة الواجب غسلها، أو ترك محلها بأن ينزع الثوب النجس عنه. والعورة: الواجب سترها. ولا يتصور فيها واجب غير ذلك كما تصور في النجاسة. إذ النجاسة يمكن إزالتها بالنزع والترك، ولا يمكن إزالة العورة وتركها. قال القاضي رحمه الله: وأما استقبال القبلة ففرض بشرط القدرة. فإن كان معاينًا لزمه استقبالها إلا مع عدم القدرة وهو حال المسايفة. وأما مع الغيبة فالفرض فيه الاجتهاد مع القدرة. فإن كان مسايفُ الم يلزمه وصلى كيف أمكنه، وكذلك المتنفل (¬1) على دابته في سفر القصر. وأما في السفينة فمع التعذر يسقط عنه. وإذا اجتهد مع القدرة فصلى ثم بأن له غلطه فالإجزاء حاصل ويستحب له الإعادة في الوقت. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن استقبال القبلة فرض؟. 2 - وهل فرض المعاين استقبال العين أو الجهة؟. 3 - وهل فرض الغائب مثله أم لا؟. 4 - ولم سقط الفرض عن المسايف؟. 5 - ولم سقط عن المتنفل على دابته في السفر؟. 6 - وهل السفينة مثل الدابة؟. 7 - وما حكم الصلاة داخل الكعبة؟ 8 - وما حكم الصلاة على ظهرها؟ 9 - وما حكم الصلاة في الحجر؟. 10 - ولم أجزأت صلاة المجتهد الغالط في القبلة؟. 11 - وما حكم من لم تظهر له أمارة يعول عليها؟. 12 - وهل تجوز إمامة من خالف في الاجتهاد؟. ¬

_ (¬1) التنفل -غ- المستنفل -الغاني-.

13 - وما الوقت الذي يعيد الغالط الصلاة فيه؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على وجوب استقبال القبلة قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس على اختلاف في ذلك. هل كان بأمر من (¬2) الله سبحانه لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} (¬3). أو كان باجتهاد؟ ويكون: كنت. بمعنى أنت عليها. وقد أطلق العلماء القول بأن هذا أول ناسخ فإن لم يريدوا أول ناسخ بالمدينة كان في هذا دلالة على أن لا نسخ بمكة. فإن قيل لا يستقبل لكم (¬4) الاستدلال بهذه الآية مع قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (¬5). قيل هذه الآية منسوخة أيضًا بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، على أصل مالك وأصحابه. والظاهر على هذه الطريقة أنها من نوع نسخ الحكم قبل امتثاله وفعل المأمور به، إذ لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فريضة إلى أي جهة شاء، ولا ثبت ذلك عن أحد من أصحابه (¬6). وبما قلناه من كونها منسوخة قال ابن عباس وغيره وقد قيل فيها بمذهب آخر هو (¬7) طرف نقيض لما قلناه. وهو أنها ناسخة للصلاة لبيت المقدس. *لأن اليهود لما أنكروا التحول عن بيت المقدس* (¬8) وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (¬9). أنزل الله هذه الآية منبهًا على طريق الرد عليهم بأن الجهات كلها لله سبحانه، وإنما يختص بعضها بالتعبد والتشريف عند أمره بذلك. وإطلاق هؤلاء على هذا المعنى تسمية الناسخ فيه ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 144. (¬2) من = ساقطة -ح-. (¬3) سورة البقرة، الآية: 143. (¬4) هكذا في جميع النسخ ولعلها لا يستقيم. (¬5) سورة البقرة، الآية: 115. (¬6) ولا يثبت ذلك عن أحد من الصحابة في - و - ق -. (¬7) وهو -و-. (¬8) ما بين النجمين = ساقط من -و-. (¬9) سورة البقرة، الآية: 142.

بعد. وإنما هو تقرير (¬1) لصحة الناسخ. والناسخ شيء غير المقرر (¬2) لصحته. ومن النّاس من ذهب إلى أنها ليست بمنسوخة كما قلناه ولا ناسخة كما قال هؤلاء ولكنها محكمة مخصوصة. واختلف هؤلاء في تعيين ما خصت به. فقال بعضهم محملها على الدعاء أي ادعوا إلى أي جهة شئتم. وقال آخرون بل محملها على صلاة المسافر للنافلة على راحلته. وقال آخرون محملها على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي حين صلى عليه واستقبل جهته فهي (¬3) من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال آخرون (¬4) محملها على من خفيت عليه القبلة. والنظر في الصحيح من هذه الأقوال والفاسد، يفتقر إلى خوض بحر من الأصول. وذلك أن النسخ إنما يكون عند المحققين إذا وقع بين الآيتين تعارض حتى لا يمكن رد بعضها إلى بعض. فإذا كانت الآيتان أو إحداهما من قبيل الظواهر أمكن صرف الظاهر عن المعنى الذي هو ظاهر (¬5) فيه بطريق التأويل. فأما من قال محملها على الدعاء فإنه يعتمد على أن الآية لم يذكر فيها المعنى الذي نولي وجوهنا لأجله، وإنما قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا}. فيحتمل أن يكون للصلاة أو للدعاء. فإذا احتمل الأمرين وكان قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ} معلوم أنه مراد به أن يولي وجهه للصلاة. وكان الدعاء معلوم جوازه إلى كل الجهات وجب البناء. فحمل إحدى الآيتين على الصلاة والأخرى على الدعاء. وأما من يقول محملها على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي، ومن يقول محملها على من خفيت عليه القبلة، فإنه يرى نزولها على هذا السبب يقتضي قصرها عليه. وبين أهل الأصول اختلاف في العموم إذا خرج على سبب هل يقصر عليه أو يتعدى سببه، فإن قلنا بقصره على سببه وصح نزولها على السبب الذي زعموه صح ما ذهبوا إليه. وأما من يقول محملها على صلاة النافلة في السفر على الراحلة فإنه يرى أن المراد بقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} أي للصلاة. ¬

_ (¬1) تقدير في -و-. (¬2) غير المقدر في -و-. (¬3) وهو -و-. (¬4) غيرهم -ح-. (¬5) هو نظر فيه -ح-.

ويرى الآية الأخرى التي هي قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} يقتضي تعيين جهة ويرى أن الشرع جاء بجواز النافلة على الراحلة في السفر فيبني الآيتين، فيحمل إحداهما على صلاة الفرض والنفل على الأرض، ويحمل الأخرى على تنفل الراكب المسافر. ليسلم من التعارض، ويعتضد في صحة هذا البناء بمطابقته للوارد في الشرع بإباحته (¬1) الصلاة للمتنفل على الراحلة سفرًا. وهذا كله مع العلم بأن الآية حكمية. وليست على ما يقتضيه ظاهرها من كونها خبرية. فهذه طريقة العمل في النظر بين هذه المذاهب. ومن أحب سلوك طريق التحقيق في معرفة الناسخ والمنسوخ فليسلك هذه الطريقة التي أريناك. وإنما لم نتمم لك النظر في ترجيح هذه الطرق لأن ذلك يخرج الكتاب عن غرضه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المشروع لمن كان بمكة الصلاة إلى عين (¬2) الكعبة لا إلى جهتها. وقد اختلف الناس هل المشروع لهذا استقبال بنائها (¬3) أو استقبال هوائها؟ فمذهب أبي حنيفة أن المشروع استقبال هوائها. وأما مذهبنا فقد نص محمَّد بن عبد الحكم على أن من صلى على ظهر الكعبة أن صلاته تجزيه. قال وهو كالمصلي على أبي قبيس. فإنه إنما يحاذي هواء الكعبة الذي بين الأرض والسماء. وبمثل ذلك احتج أيضًا أصحاب أبي حنيفة. والمشهور عندنا من (¬4) المذهب منع الصلاة على ظهرها. وإن ذلك أشد من منع (¬5) الصلاة في بطنها. وهذا المذهب المشهور يشير إلى خلاف ما قاله ابن عبد الحكم. ويقتضي كون المشروع استقبال البناء لا الهواء. وعلى ذلك خرجه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في غير هذا الكتاب، فقال: إن لم يكن على ظهر الكعبة سترة فإنه يمنع من الصلاة عليها إلا على القول بأن الفرض طلب السمت. وإن كان عليها سترة كان حكم الصلاة عليها كحكم الصلاة في بطنها. ¬

_ (¬1) بإباحة الصلاة -و-. (¬2) نفس -و-. (¬3) بنيانها. (¬4) في -و-. (¬5) منع ساقطة -و-.

وقد أنكر بعض أشياخي احتجاج ابن عبد الحكم بالصلاة على أبي قبيس وقال إن المصلي على أبي قبيس فصل إلى الكعبة ومتوجه إليها، والمصلي على ظهرها لم يفعل ما أمر به من التوجه إليها. فكأن شيخنا رأى أن المستعلي على أبي قبيس يمكن أن يخفض بصره حتى يرى بنيانها وجدرانها، إذا كانت منه بحيث لا مانع يمنع من الرؤية. والمستعلي عليها لا يمكنه ذلك. وكأن ابن عبد الحكم لم يعتبر ذلك لأن المستعلي لا يقابل شيئًا من أجزاء ما استعلى عليه، وإن أمكنه (¬1) خفض بصره إليه. وإبصاره حينئذٍ مع عدم المحاذاة لمعاني آخر ليس هذا كتاب ذكرها. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف المالكية على قولين والشافعية على قولين: ما فرض الغائب عن مكة، ومطلوبه إذا اجتهد في استقبال القبلة؟ هل استقبال عينها وسمتها أو استقبال جهتها؟ فذهب الأبهري من أصحابنا إلى أن المطلوب الجهة وهو مذهب أبي حنيفة. وذهب ابن القصار إلى أن المطلوب السمت والعين. وأشار إلى أنه لا يمتنع كثرة المسامتين مع البعد كما لم يمتنع (¬2) ذلك في مسامتة النجوم. وهذا الذي قاله يفتقر إلى تحقيق. وذلك أن المتكلمين اختلفوا في الدائرة هل يحاذي مركزها جميع (¬3) أجزاء المحيط أو إنما يحاذي من أجزاء المحيط مقدار ما ينطلق (¬4) عليه ويماسه؟ فذهب النظام من المعتزلة إلى أن المركز يحاذي جميع (¬5) أجزاء المحيط، واحتج في ذلك بأنك لو قصدت إلى جزء من أجزاء المحيط *وأخرجت منه خطًا لأتصل ذلك الخط بالمركز. ورد عليه مقالته هذه أئمتنا المتكلمون وقالوا بأن الخطوط من المركز إلى المحيط فإنها (¬6) يضيق عن ابتدائها وينفرج عنوإنقطاعها. وما ذلك إلا أن مآل مساحة المركز يفتقر فيه إلى تفريج ¬

_ (¬1) وإن أمكن -و-. (¬2) يمنع في -ح-. (¬3) هل تحاذي مركزها من جميع -و-. (¬4) ينطبق -و-. (¬5) جميع ساقطة -و-. (¬6) هكذا في -و- وهي النسخة المنفردة بإثبات النص الساقط من ح - و -ق- ولعل الصواب تضيق عند ابتدائها وتنفرج.

الخط وتعويجه ليمكن الاتصال. وقالوا ولا يحاذي نقطة المركز من أجزاء المحيط* (¬1) إلا ما لو قدر منطبقًا عليها لماسها. فهذه المسألة التي ذكرها المتكلمون يجب أن يعتبر بها ما قاله ابن القصار، فيقال له إن أردت بتصحيح مسامتة الكثرة مع البعد، أنهم وإن كثروا فكلهم يحاذي بناء الكعبة، فليس كما توهمت. وقد أخبرناك إنكار أئمتنا على النظام هذا. وإن أردت أن الكعبة تقدر كأنها بمرأى منهم لو (¬2) كانت بحيث ترى وإن الرائي يتوهم المقابلة والمحاذاة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. فهذا نسلمه لك ويسلم تمثيلك فيه برؤية الكواكب فإن الأمر فيها على ذلك جرى. ولكن مع هذا لا يكون كل فصل محاذيًا مقابلًا، ولكنه مسامتًا ببصره، ولا يكون كل فصل مسامتًا بجسمه. فهذا الذي يظهر لي في تحقيق ما قاله ابن القصار وكشف الغصطاء عنه. وقد قال الشيخ أبو الطيب عبد المنعم وهو أحد أشياخ شيخنا، وكان ممن لم تمنعه الإمامة في الفقه عن الإمامة في الهندسة: (من قال: إن الفرض استقبال الجهة لا العين فقد غلط لأن الله تعالى قال: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، والشطر إن كان هو النحو أو القبالة أو القصد أو النصف فذلك غير الجهة. والوجه والجهة والمواجهة (¬3) والوجاهة ما استقبل. والوجاه والتجاه استقبال الشيء. ولو كان المطلوب الجهة لكان من كان من الكعبة في الشمال (¬4) مستحقًا (¬5) لكان مخيرًا بين أن يصلي إلى المشرق أو إلى المغرب أو إلى الجنوب. لأنه يكون حينئذ مستقبلًا للكعبة إما بوجهه أو أحد خديه، وهذا الذي نصر به الشيخ أبو الطيب أبا الحسن ابن القصار لا يدفع ما قلناه في تحقيق القول في المسامتة والنظر فيه أيضًا يطول ويقطع عن غرض الكتاب. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما المسايف المقاتل للعدو إذا لم ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -ح-. (¬2) ولو -و-. (¬3) المواجهة = ساقطة -ح-. (¬4) في الكعبة في الشمال -ح-. (¬5) مستحقًا في -و- وغير واضحة في -ح- والمعنى غير واضح.

يمكنه استقبال القبلة فإنه يسقط عنه فرض التوجه إليها. وهل يسقط بسقوط ذلك فرض الصلاة حينئذ أم لا؟ فمذهبنا أن فرض الصلاة لا يسقط ويصلي إلى أي الجهات أمكنه. وسقوط هذا الركن من أركان الصلاة لا يسقطها، كما لا يسقطها سقوط فرض القيام لأجل المرض أو القراءة أو ستر العورة. وقد قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬1) قيل معناه: مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. ومذهب أبي حنيفة أن الفرض يسقط عنه حينئذٍ. وحجته ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق حتى خرج الوقت (¬2). وأجيب عن هذا بأن صلاة الخوف لم تكن شرعت له - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ. وعندي أن أبا حنيفة رأى أن استقبال القبلة شرط من شروط الصحة في الصلاة كطهارة الحدث، فأسقط الفرض حال العجز عن هذا الشرط، كما أسقطه (¬3) بعض أصحابنا عن عادم الماء والتراب حال عدمه لهما، لما كانت الطهارة عنده من شروط الصحة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: تنفل المسافر على دابته (¬4) جائز على الجملة ويوميء للركوع والسجود؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الحمار وهو متوجه إلى خيبر (¬5). ويصلي عندنا على الدابة السنن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر على راحلته. والوتر من آكد السنن. ولكن من شرط جواز التنفل عندنا على الدابة أن يكون ذلك في السفر لا في الحضر خلافًا للاصطخري وأبي يوسف في أحد قوليه في إجازتهما ذلك في الحضر. والحجة عليهما قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬6). وهذا على ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 239. (¬2) أخرجه البخاري عن علي كرم الله وجهه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم الخندق: "ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس". وعن جابر أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الحصر بعد ما غربت الشمس. ثم صلى بعدها المغرب. فتح الباري ج 8 ص 409. (¬3) أسقط -ح-. (¬4) الدابة -و-. (¬5) الموطأ ج 27 كتاب قصر الصلاة في السفر. إكمال الإكمال ج 2 ص 354. (¬6) سورة البقرة، الآية: 144.

عمومه إلا أن يرد ما يخصصه. وقد ورد في السفر الحديث الذي ذكرناه فعدلنا به عن الظاهر وخصصناه. فإن قاسا الحضر على السفر منعناهما من القياس، لاختصاص السفر من الرخص بما لا يختص به الحضر، ولو لم يسلم القياس لقدم العموم عليه. وإن تعلق بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (¬1). فقد أشبعنا الكلام على معنى الآية. وإذا ثبت اختصاص الجواز بالسفر فإن ذلك يختص بالراكب دون الراجل خلافًا للشافعي في إجازته ذلك للراجل بشرط أن يحرم ويركع ويسجد إلى القبلة. ودليلنا عليه أن علة الجواز المشقة. ولا مشقة تدرك الراجل في صلاته للقبلة، والراكب بخلافه؛ لأن الدابة قد تحركه إلى غير قصده وتنحرف به عن وجهته فاختصت المسامحة بها لوجود هذا العذر فيها دون غيرها. وكأن الشافعي رأى أن علة الجواز حسم الأسباب المقللة للنافلة. والراجل قد تكون أسفاره إلى غير جهة القبلة فلو ألزمناه التوجه لقلت نوافله فكان كالراكب. والفرق عندنا بين الراكب والراجل أن الراكب كالمتنفل جالسًا فإنما عفي له عن القبلة خاصة. والراجل الماشي يعمل المشي الكثير وهو مضاد للصلاة فلا يعفى له عنه فيكون قد عفي له عن أمرين منافيين للصلاة. وإذا ثبت أن من شرطه أن يكون مسافرًا راكبًا فإن من شرط السفر أن يكون سفرًا تقصر في (¬2) مثله الصلاة خلافًا للشافعي في إجازته ذلك في السفر الطويل والقصير. ونحن لما اعتبرنا المشقة قصرنا ذلك على سفر القصر لاختصاصه بالرخص المعللة بالمشقة كالقصر والفطر. وكأن الشافعي لما رأى أن العلة حسم الأسباب المقللة للنافلة استوى عنده طويل السفر وقصيره. وقد حكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب أن الجمع بين الصلاتين في السفر يجوز في طويل السفر وقصيره *وقد يقع في النفس أنه يلزمه على هذا أن يجيز التنفل على الدابة في طويل السفر وقصيره* (¬3) وأقصى ما يمكن أن يفرق به بين المسألتين عندي أن يقال إن أعظم مراتب السفر القصير أن يكون في حكم الحضر. والجمع بين الصلاتين قد ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية:- 115. (¬2) فيه -و-. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -ح-.

يباح في الحضر للمشقة كالجمع في المطر. وترك استقبال القبلة لا يباح مع الإمكان في الحضر على حال من الأحوال. فلما كان للحضر مدخل في جواز الجمع أبيح الجمع في السفر القصير لأن أقصى مراتبه أن يكون كالحضر. ولما كان ترك استقبال القبلة مع الإمكان لا مدخل للحضر فيه لم يكن للسفر القصير فيه مدخل مع أن الجمع بين الصلاتين لا يوقع في فعل الصلاة في غير وقتها الذي هـ واجب اعتباره. فسومح به في السفر القصير. ولما كانت المسامحة بالصلاة على الدابة في السفر القصير توقع في تر استقبال القبلة الذي يجب اعتباره لم تصح المسامحة به. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما التنفل في السفينة حيث ما توجهت به ففيه قولان: الجواز قياسًا على الدابة. والمنع. لأن التوجه إلى القبلة يمكن لكون الراكب فيها يحكم نفسه. والدابة لا يمكنه ذلك فيها. فعفي له عن ذلك في الدابة لتعذر الإمكان، ولم يعف له في السفينة لوجود الإمكان. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف الناس في الصلاة في الكعبة. فذهب الشافعي إلى الجواز على الإطلاق. وذهب الطبري إلى المنع على الإطلاق. وفصل مالك فمنع الفرائض والسنن وأجاز النوافل. فللشافعي ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة (¬1) وهو - صلى الله عليه وسلم - وإن كان متنفلًا فلا فرق بين الفرض والنافل في وجوب استقبال القبلة للحاضر. وللطبري قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬2) وشطره إن كان بمعنى قصده ونحوه وقبالته، فمن صلى داخل الكعبة لم يصل نحو الكعبة وقصدها وقبالتها. وأيضًا فقد صلى النبي (¬3) عليه السلام خارج الكعبة وقال هذه القبلة (¬4). وأيضًا فإن التكليف إنما يتصور إذا كان فيه معنى الابتلاء بأن يؤثر المكلف رضا الله سبحانه على اختياره وهواه. وينصرف عن معصية الله إلى تمكنه إلى طاعته. ومن كان خارج الكعبة فهذا ¬

_ (¬1) أخرجه مالك والبخاري ومسلم وغيره. إرواء الغليل ج 1 ص 320. (¬2) سورة البقرة، الآية: 150. (¬3) فقد صلى - صلى الله عليه وسلم -ح-. (¬4) رواه البخاري ومسلم. الهداية في تخريج أحاديث البداية ج 2 ص 389.

المعنى حاصل فيه لأنه يمكنه أن يستدبرها ويركب في ذلك هواه فيكلف طلب رضا الله سبحانه باستقبالها. ومن كان داخل الكعبة لا يمكنه الاستدبار *لأنه حيث ما دار مواجه لها فلا يكلف من لا يمكنه الخروج عما كلفه لأنه يصير في معنى تكليف الأمر الضروري* (¬1). ولما رأى مالك رضي الله عنه دلالة القرآن على المنع ودلالة السنة على جواز النافلة خص عموم القرآن بالسنة. ولم يقس الفرض على النفل لأن القياس يدفعه العموم، فلم يصح المصير إليه. فلهذا فرق بين الفرض والنفل. فإن صلى أحد في "خل الكعبة صلاة الفرض فهل يعيد أم لا؟ اختلف فيه. فقيل لا إعادة عليه. قاله أشهب لجواز صلاة الفرض داخل الكعبة (¬2). لكنه مع هذا استحب (¬3) أن لا يصلي داخلها صلاة الفرض. وقال القاضي أبو محمَّد: مذهب مالك أنه مكروه وقيل يعيد في الوقت ليأتي بصلاة متفق على كمالها. وقال أصبغ يعيد أبدًا، ولكنه ذكر ذلك في متعمد الصلاة فيها. وقال بعض المتأخرين ظاهر قوله إنه لو كان ناسيًا لأعاد في الوقت لأن الناسي للقبلة إنما يعيد في الوقت. واستشهد بقوله في المدونة: أنه يعيد في الوقت كمن صلى إلى غير القبلة. وإنما يصح هذا التشبيه فيمن صلى إلى غير القبلة ناسيًا. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: اختلف الناس (¬4) في الصلاة على ظهر الكعبة. فالمشهور عندنا المنع. والمنع في ذلك آكد من المنع في الصلاة في بطنها. لأن من صلى في بطنها إنما يعيد في الوقت. ومن صلى على ظهرها فقال مالك: يعيد أبدًا. والنفل أيضًا يجوز في بطن الكعبة. ومنعه ابن حبيب فوق ظهرها. ومذهب أشهب إجزاء الصلاة فوق ظهرها على حسب ما حكيناه عنه في الصلاة في بطنها. ومذهب أبي حنيفة إجازة الصلاة فوق ظهرها إذا كان بين يدي المصلي قطعة من سطحها. وقد قدمنا قول القاضي عبد الوهاب إنه ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = -و-. (¬2) وقد قال أشهب من صلى الفرض داخل الكعبة أجزأه -ق-. (¬3) المستحب -و-. (¬4) الناس = ساقطة - و - ق -.

إذا كان عليها سترة كانت الصلاة عليها حينئذ كالصلاة في بطنها. وإنه لم يكن عليها سترة تخرج ذلك على الخلاف، هل الواجب السمت أم العين؟ وذكرنا مذهب محمَّد بن عبد الحكم وإجازته لذلك واستشهاده بالصلاة على أبي قبيس. ومذهب الشافعي إجازة ذلك إذا كان عليها سترة. كما تجوز عنده الصلاة في بطنها. وقد يستدل عن المنع بما روي من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في سبع مواطن وذكر منها بيت الله الحرام. وجميع ما قدمنا من الكلام في وجوب طلب السمت أو العين، والكلام على الصلاة في بطنها، يصرف في هذه المسألة فلا معنى لإعادته. وكان أبا حنيفة رأى أن من صلى وبين يديه قطعة من سطحها فإنه فصل إلى الكعبة، ومن صلى وليس بين يديه ذلك فلا يقال إنه فصل إليها. فلهذا لا يجوز له ذلك. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: الصلاة في الحجر كالصلاة في بطن الكعبة. وقد تقدم الكلام على ذلك. لكن قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز أن (¬1) من ركع ركعتي الطواف الواجب في الحجر ثم (¬2) رجع إلى بلده فإنه يركعهما ويبعث بهدي فأجراه مجرى من لم يركعهما. وقد تعقب ذلك عليه بأن المصلي في بطن الكعبة تجزيه صلاته عندنا. وإنما يعيد (¬3) ليأتي بما هو أكمل. فكان الواجب على هذا أن يعتد هذا بهاتين الركعتين إذا وصل إلى بلده ويكون ذلك كفوت وقت الصلاة. وقد ذهب بعض الناس إلى أن الحجر بخلاف البيت. فإن البيت يصلى إليه (¬4) والحجر لا يصلى إليه. إذ لا يقطع بكونه من البيت. قال بعض أشياخي وهذا لا وجه له لأن مقدار ستة أذرع منه من البيت. وقد تواترت الأخبار بأن الحجر من البيت. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف الناس في المجتهد في القبلة إذا صلى إلى غيرها غلطًا. فالمشهور عندنا أن الصلاة تجزيه وإنما يعيد ¬

_ (¬1) أنه -و-. (¬2) ورجع -ح-. (¬3) يعيدها -و-. (¬4) فيه في -ح-.

في الوقت احتياطًا. وقال المغيرة وابن سحنون لا تجزيه الصلاة ويعيد أبدًا وهو أحد قولي الشافعي وحجتنا على الإجزاء ما ذكره جابر أنهم صلوا في الليل إلى غير القبلة غلطًا فلما أصبحوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنتم. ولم يأمرهم بالإعادة (¬1). وأيضًا بما رواه عامر من أنهم صلوا إلى غير القبلة غلطًا (¬2) فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (¬3). وأيضًا فإن المصلي باجتهاده فعل أقصى ما في وسعه. إذ لا سبيل له إلى اليقين فوجب أن يعذر في غلطه كالمسائف إذا صلى إلى غير القبلة. واحتج ابن سحنون على منع الأجزاء بأنه قد تبين غلطه فأشبه من اجتهد في الوقت وصلى قبله غلطًا أو الأسير إذا اجتهد في رمضان فصام قبله غلطًا. واحتج غيره بأن غلطه إنما سببه التقصير في الاجتهاد. ولو وفي النظر في الإمارات حقه لأصاب القبلة. وإذا انكشف تقصيره وجب ألا تجزيه صلاته. وقد انفصل من قال بالإجزاء عن مسألتي الغالط في رمضان وفي الوقت بأنه مأمور في هاتين المسألتين بطلب اليقين إذا أمكنه فصار كالمتعدي في اجتهاده. والغالط في القبلة غير متعد في اجتهاده إذ لو انتظر واستظهر لما تيقن القبلة. ومن كان متعديًا في اجتهاده ومقتصرًا على الظن مع القدرة على اليقين لم يعذر بغلطه. ومن كان غير متعد في اجتهاده ولا قادر على اليقين عذر في اجتهاده. أشار إلى هذه الطريقة من الانفصال أبو الحسن ابن القصار وبعض أصحاب الشافعي. ولو قدرنا المجتهد في الوقت وفي رمضان بحيث لا يمكنه اليقين كالمحبوس في مطبق لكان كالمجتهد في القبلة يغلط فيعذر في غلطه أشار إليه بعض أصحاب الشافعي. وقد حاولت (¬4) طائفة أخرى الانفصال بغير هذه الطريقة فقالوا إذا كان القضاء يؤمن فيه من الخطأ وجبت الإعادة، وإذا كان لا يؤمن في القضاء من ¬

_ (¬1) رواه الحاكم والدارقطني والبيهقي. وضعف غير واحد سنده. وحاول صاحب الهداية نفي الضعف عنه. الهداية ج 2 ص 386 - 387. (¬2) أخرجه أبو داود الطيالسي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والترمذي وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك. (¬3) سورة البقرة، الآية: 115. (¬4) تأولت -ح-.

الخطأ مثل ما كان في الأداء فلا معنى لإيجاب الإعادة. فلما كان المجتهد في القبلة يجوز أن يكون في القضاء مخطئًا أيضًا لم تجب الإعادة. ولما كان المخطيء في الوقت يتيقن الإصابة في القضاء وجبت الإعادة. وهذا الانفصال لا يعم جميع مواضع الإشكال. لأن المصلي إلى مغرب الشمس عندنا أو مطلعها صيفًا يقطع أنه فصل إلى غير الكعبة. فإذا صلى إلى إحدى هاتين الجهتين غلطًا فإن خطاه مقطوع به ويأمن في القضاء من مثل الخطأ المقطوع به فصار بأمانة من ذلك. كالغالط في الوقت. أشار إلى هذا التعقب على هذا الانفصال بعض أشياخي، ولي فيما قاله نظر يطول إيراده. وقد قال بعض أهل العلم بناءً على هذه الطريقة أن المصلي إلى غير القبلة غلطًا إذا كان بمكة أو بالمدينة أعاد الصلاة أبدًا لتيقنه الإصابة في القضاء. وقبلة المدينة مقطوع بها؛ لأن جبريل هو أقامها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أشار ابن سريج من أصحاب الشافعي إلى أن المجتهد في إناءين أحدهما نجس متى توضأ بأحدهما وصلى ثم تبدل اجتهاده عند الصلاة الثانية إلى أن الثاني هو الطاهر، إن الصلاة الأولى تجزئه. وسلك في هذا مسلك هذه الطائفة أنه متى كان الانتقال من اجتهاد إلى اجتهاد فإن الإعادة لا تجب. وقد قال بعضهم إن المخطئين في يوم عرفة تجزئهم حجتهم (¬1) لمشقة القضاء. وما يلحق فيه من مفارقة الأهل والوطن. ورأى أن هذا معنى تختص به هذه المسألة وسنبسط القول فيها في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: الأعمى والبصير الذي لا يعرف القبلة ولا يمكنه تعلم طرق الاجتهاد فيها حكمه أن يرجع فيها إلى تقليد غيره. هذا هو الواجب عندي عليه. وهو كالعامي، لما لم يمكنه طرق الاجتهاد في الفقه كان فرضه أن يقلد العلماء. وقال داود يصلي إلى أي جهة شاء. وهذا غلط. ويلزمه عليه عندي أن يأخذ العامي في المسائل ما شاء من خواطره فإن تعلق بقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (¬2) فقد ذكرنا معنى الآية وما قيل فيها ولا معنى لإعادته. فإن لم يجد هذا من يقلده فقال ابن عبد الحكم يصلي إلى ¬

_ (¬1) حجهم -ح-. (¬2) سورة البقرة، الآية: 115.

أي جهة شاء. قال ولو صلى أربع صلوات لكان مذهبًا. ويتخرج ما أشار إليه من صلاته أربع صلوات على قول من قال من أصحابنا: إن الشاك في نجاسة أحد الإناءين يتوضأ بهما. والناذر صوم يوم نسيه يصوم الجمعة كلها، وناسي صلاة لا يعرفها يصلي الخمس صلوات. وكل هذا طلب لليقين. وقد رأيت بعض أصحاب الشافعي مال إلى أنه يصلي إلى الجهة التي تقع في نفسه أن القبلة فيها، ويعيد صلاته. وعندي أنه نحا في ذلك نحو من قال من أصحابنا أن من لم يجد ماء ولا ترابًا فإنه يصلي ويعيد في (¬1) الوقت إذا وجد ما يتطهر به. قوال أبو يوسف من صلى بغير اجتهاد فصادف القبلة فإنه لا يعيد. كمن توضأ بأحد إناءين فصادف الطاهر منهما. وقال أصحاب الشافعي بل يعيد صلاته. ويعيد الصلاة المتوضيء بأحد الإناءين إذا شرع في الصلاة قبل أن يعلم إصابته للطاهر *لأنه يكون داخلًا في الصلاة وهو على شك. بخلاف أن يعلم إصابته الطاهر* (¬2) قبل دخوله في الصلاة (¬3) فإن هذا تصح صلاته. وهذا الذي قاله عندي خروج عن أصلهم إلى أصل أبي حنيفة لأنهم وإيانا نوجب النية في الوضوء وأبو حنيفة لا يوجبها. فإذا كانت العلة عنده في فساد الصلاة كونه داخلًا فيها مع الشك في صحتها وذلك يمنع من صحة النية فيها. فكذلك المتوضيء في إناء يشك في طهارته فإن شكه في ذلك يمنع من اعتقاد صحة طهارته. وامتناع اعتقاد صحة طهارته (¬4) يمنع من صحة النية. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إذا اختلف اجتهاد رجلين في القبلة فلا يجوز أن يأتم أحدهما بصاحبه (¬5)، لاعتقاده أن صلاته في الباطن غير صحيحة خلافًا لأبي ثور في إجازته ذلك قياسًا منه على صلاة الدائرين بالكعبة بإمام وهذا غير صحيح. لأن كل من حول الكعبة يقطع بأنه إلى القبلة صلى. والمأمومون حولها يقطعون بإصابة إمامهم. وفي مسألتنا المأمومون ¬

_ (¬1) بعد الوقت -ح-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -ح-. (¬3) قبل دخول الصلاة -و-. (¬4) الطهارة -و-. (¬5) فلا يؤم أحدهما الآخر.

يعتقدون (¬1) خطأ إمامهم. وأنه صلى إلى غير القبلة فلا يجوز لهم أن يأتموا بمن يعتقدون خطأه. فإن فعل هؤلاء وصلوا مؤتمين بمن يعتقدون خطأه فقد قال أشهب في قوم صلوا ببيت مظلم فأصاب الإِمام القبلة وأخطأوها فإنهم يعيدون دون إمامهم. وإن أصابوها وأخطأ الإِمام أعادوا أجمعون، ولم تسقط عنهم الإعادة كما سقطت عمن كان إمامه على غير وضوء ناسيًا؛ لأن هؤلاء قصدوا مخالفة إمامهم. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي إعادتهم الصلاة تجري على اختلاف في هذا الأصل. وذكر قول أشهب فيمن صلى وراء من لا يتوضأ من مس الذكر فإنه لا يعيد. ومن صلى وراء من لا يتوضأ من القُبلة فإنه يعيد أبدًا. لأن القبلة من اللماس. وقال سحنون بل يعيد فيهما بحدثان ذلك. فإن طال لم يعد. فخرج الشيخ أبو الحسن على هذا صلاة المالكي خلف الشافعي، والشافعي خلف المالكي. ورأى أنها يختلف فيها. وإجراء الخلاف في ذلك على الإطلاق عندي لا يصح. وقد حكى حذاق أهل الأصول إجماع الأمة على إجزاء صلاة الأئمة المختلفين في الفقه بعضهم وراء بعض. لأن كل واحد منهم يعتقد أن صاحبه مصيب إن كان يرى أن كل مجتهد في مسائل الفروع مصيب. وإن كان ممن يرى الحق في واحد فإنه لا يقطع بأنه وافقه دون صاحبه الذي خالفه، فلهذا صحت صلاة بعضهم وراء بعض. والذي أشار إليه أشهب من الإعادة في القبلة أبدًا فإنما ذلك لأنه اعتقد أن المسألة من الوضوح بحيث يكاد يبلغ مسائل القطع التي يقطع فيها بخطأ المخالف. وهذا معنى قوله إن القبلة من اللماس يعني بذلك أنها إذا كانت من اللماس وكان القرآن قد جاء بإيجاب الوضوء من اللماس صار ذلك يكاد يلحق بالمقطوع به لمَّا كان مما جاء به القرآن. وأدل دليل على صحة ما تأولناه تفرقته بين مس الذكر والقبلة في إيجابه الإعادة. فلو كان جميع ما اختلف فيه يجري مجرى واحدًا لما صحت تفرقته. وأيضًا فقد نص بعض أصحاب مالك على نقض أحكام القضاة في مسائل اختلف فيها، وإمضاء أحكامهم في مسائل أخر. وأشاروا إلى ما تأولته عليهم. وإن ما (¬2) كان ¬

_ (¬1) معتقدون -و-. (¬2) ما = ساقطة - ح - ق -.

من المسائل التي وردت فيها الأحاديث الثابتة التي لا تأويل في إسقاطها فإن حكم الحاكم ينقض إذا خالفها. وقد ذكر ابن حبيب هذه المسائل وسنذكرها نحن في مواضعها إن شاء الله تعالى. وهذا واضح لا مراء فيه فلا وجه لإطلاق القول لإجراء الخلاف في هذه الصلاة في كل مسائل الخلاف. والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: اختلف في منتهى الوقت الذي يعيد الصلاة فيه من صلى إلى غير القبلة غالطًا أو بالنجاسة ناسيًا. فقيل في الظهر والعصر منتهى ذلك غروب الشمس. وقيل منتهاه إصفرارها. وقال بعض أشياخي هذا يتخرج على القول بتأثيم مؤخر الصلاة إلى الإصفرار. فمن أثمه جعله (¬1) منتهى الإعادة. ومن لم يؤثمه جعل منتهاها الغروب. وقال غيره إنما تعاد الصلاة في الوقت ليتلافى نقصها. والنقص الذي يلحقها بإيقاعها في وقت الضرورة عند من منع الإعادة فيه أشد من نقصها الذي تعاد بسببه. ألا ترى أنهم أباحوا التيمم أول الوقت إذا كان لا يجد الماء إلا في وقت الضرورة مع كون الماء شرطًا في صحة الصلاة. وهذا يدل على شدة نقص وقت الضرورة. ومن أمر الإعادة للغروب فإنه (¬2) رأى أن النقص الحاصل في الصلاة أشد من وقت الضرورة. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (¬3). وقد أشار بعض الأشياخ إلى أن الفرق في أحد القولين بين صلاتي الليل وصلاتي النهار أن التنفل بعد الإصفرار منهي عنه والصلاة المعادة كالنافلة. فلهذا لم يعد بعد الإصفرار. وصلاة المغرب والعشاء تعاد إلى الفجر لما كانت من النافلة في سائر الليل سائغة. ولم يسلم بعض أشياخي كون الإعادة في معنى النافلة المحضة فلم ير هذا فرقًا صحيحًا. وأشار هو وغيره من الأشياخ إلى أنه إذا روعي الوقت المختار كانت إعادة الظهر إلى القامة والعتمة إلى ثلث الليل أو نصفه. لكن قال بعض هؤلاء لما كانت الظهر تشارك العصر في الوقت جعل وقتها في الإعادة وقت العصر المختار. ولكن يلزم ¬

_ (¬1) جعل منتهى الإعادة الإصفرار -و-. (¬2) فإنه = ساقطة -و-. (¬3) مالك والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة: الهداية ج 2 ص 282.

على هذا أن يجعل إعادة المغرب آخر وقت العشاء المختار. قال القاضي رحمه الله: وأما (¬1) أركان الصلاة التي هي منها فتسعة وهي: 1 - التحريم. قال الإِمام رضي الله تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - هل تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة وجزء منها، أو شرط فيها؟ 2 - وهل هي واجبة أم لا؟. 3 - وهل تتعين بلفظ التكبير (¬2) أم لا؟. 4 - وما حكم من لا يحسن التكبير؟. 5 - وإذا وجبت هل تجب على المأموم أم لا؟. 6 - وهل من شرطها أن توقع في القيام أم لا؟. 7 - وهل يصح أن ينوي بها الإحرام والركوع أم لا؟. 8 - وهل تنوب عنها تكبيرة الركوع أم لا؟. 9 - وإذا أمر المأموم الناسي لها بالتمادي، هل ذلك في كل الصلوات أم لا؟. 10 - وهل طمعه بإدراك الركعة مع الإِمام إذا قطع يبيح له القطع أم لا؟. 11 - وهل يفتقر في قطعه إلى سلام أم لا؟. 12 - وهل الشك في تكبيرة الإحرام كاليقين بتركها أم لا؟. 13 - وإذا كملت الصلاة على الشك ثم تيقن الإحرام هل تجزئه أم لا؟. 14 - وهل يجوز الإحرام قبل الإِمام؟. 15 - وما حكمه إن فعل (¬3)؟. 16 - وما حكمه إن فعله معًا (¬4)؟. 17 - وما معنى تقييده بقوله منها؟. ¬

_ (¬1) فأما = الغاني. (¬2) وهل يتعين لفظ التكبير - ق - و. (¬3) إن نوى -ق-. (¬4) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب إن فعلاه معًا. أو فعله معه.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في الإحرام للصلاة، والإحرام بالحج هل هما ركنان فيهما (¬1) وجزءان منهما أو ليستا (¬2) منهما وإنما هما شرطان فيهما؟ فمذهب الشافعي أنهما جزءان منهما وركنان فيهما. ومذهب أصحاب أبي حنيفة أنهما شرطان فيهما. والذي حكاه بعض أصحابنا البغداديين أن تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة. وكان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يرى أن فائدة الخلاف في ذلك ما ذكره سحنون من أن الناظر إلى عورة إمامه في صلاته تعمدًا، أن صلاته تبطل. فإذا قيل إن تكبيرة الإحرام من نفس الصلاة، بطلت صلاة الناظر إلى عورة إمامه في حين إحرامه. وإن قيل ليست من نفس الصلاة لم تبطل صلاته. والذي عندي أن فائدة الخلاف في ذلك صحة تقديم الإحرام على وقت العبادة. فمن رأى الإحرام من نفس العبادة اشترط في صحة إيقاعه الوقت كما يشترطه في سائر أجزاء العبادة. ولهذا منع الشافعي من الإحرام بالحج قبل أشهر الحج لما كان يرى الإحرام من نفس الحج. ونحن، وإن كان مذهبنا صحة الإحرام بالحج قبل أشهره فإنا عذرنا عن ذلك سنورده في كتاب الحج إن شاء الله. ومن رأى الإحرام شرطًا وليس ركنًا ولا جزءًا صح عنده الإحرام قبل الوقت؛ لأن شرط العبادة المؤقتة لا يشترط في إيقاعه وقتها، كالطهارة لما اتفق على أنها شرط في الصلاة لم يشترط فيها وقت الصلاة، بل صح إيقاعها قبل الصلاة. فكذلك الإحرام بالصلاة والحج. ودليلنا على أن الإحرام للصلاة من نفس الصلاة حديث الإعرابي لما أمره عليه السلام بإعادة صلاته فقال يا رسول الله علمني. فعلمه الصلاة وأمره فيما علمه بالتكبير (¬3) ومراده بقوله علمني الصلاة. فكل ما علمه فهو محسوب منها ومعدود من أجزائها إلا أن يخرجه عن ذلك دليل. وأيضًا فإن شرط العبادة يصح انفصاله منها حتى لا يكون بينهما اتصال. ألا ترى أن الطهارة، لما كانت شرطًا، صح انفصالها عن الصلاة وعدم اتصالها بها. فلو كان الإحرام شرطًا ¬

_ (¬1) فيهما = ساقطة -و-. (¬2) ليستا - ح - و -. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: الهداية ج 3 ص 11.

لصح انفصاله من الصلاة. واحتج من قال إنه شرط في الصلاة، وليس بجزء منها بقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬1). ومقتضى هذا أن الصلاة غير الذكر لورودها بعده بفاء التعقيب. والإحرام ذكر. فوجب أن يكون غير الصلاة. وأجيبوا عن هذا بأنه يمكن أن يكون المراد بالذكر ها هنا النية، والقصد. وذلك أمر يتقدم الصلاة، وليس بجزء منها. واحتجوا أيضًا بقوله عليه السلام: تحريم الصلاة التكبير (¬2). فلو كان التكبير من نفس الصلاة لصار تقدير الكلام تحريم التكبير، التكبير. وأجيبوا عن هذا بأن الإضافة لا تجري على مجرى واحد بل تتنوع. وقد يضاف البعض إلى كله فيقال رأس الإنسان. والإنسان تسمية لجملة منها الرأس. وإذا أمكن إضافة البعض إلى الكل لم يكن في الحديث حجة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المشهور من مذاهب العلماء بأسرهم وجوب تكبيرة الإحرام على الجملة. وحكى ابن المنذر عن ابن شهاب أنه قال في رجل نوى الصلاة ورفع يديه ولم يحرم أن صلاته تجزيه. والدليل على الوجوب حديث الأعرابي لما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فأمره بالتكبير (¬3). وظاهر الأمران كل ما علمه لا تجزي الصلاة دونه إلا أن يدل على ذلك دليل. وإذا لم تجز الصلاة دونه دل ذلك على وجوبه. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى أحرم. وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي (¬4). وظاهر هذا يقتضي الوجوب. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في لفظ التكبير في افتتاح الصلاة هل يتعين أم لا؟ فمذهبنا أنه يتعين حتى لا يجزئ إلا القول = الله أكبر = وعند الشافعي أن التكبير يتعين لكنه يجزئ فيه = الله أكبر = والله أكبر = ¬

_ (¬1) سورة الأعلى، الآية: 15. (¬2) عن علي كرم الله وجهه: مفتاح الصلاة الطهور. وتحريمه التكبير. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في الباب وأحسن. ج 1 ص 44. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. الهداية ج 3 ص 11. (¬4) البخاري كتاب الأذان وكتاب الأدب والآحاد. والإمام أحمد ج 5 ص 56. والدارمي ج 1 ص 586.

وقال أبو يوسف يجزئ = الله الكبير = وقال أبو حنيفة يجزئ كل لفظ فيه فيه التعظيم كالقول = الله أعظم = والله أجل = والرحمان أقدر = ووافقنا على أن ما كان بصيغة الأدعية لا يجزئ. وكذلك البسملة لا تجزيء عنده. ونكتة المسألة راجعة إلى أن الصلاة عبادة غير معقول معناها. ولا تبلغ أفهام البشر مدارك وجوه اختصاصاتها. وإذا كان الأمر كذلك وجب التسليم فيها والاتباع. وقد علم قطعًا من عادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائر المسلمين افتتاح الصلاة بالتكبير فوجب اتباعهم على ذلك وألا يخرج عنهم بالقياس، كما لو حاول محاول أن يبدل الركوع بالسجود ويقول: القصد بالركوع الخنوع والخضوع. والساجد أشد خنوعًا وخضوعًا فيجب أن يكون له إبدال الركوع بالسجود. وهذا لو قاله قائل لخرج عن مذاهب المسلمين فكذلك التكبير. وإن كان القصد به الثناء والتمجيد، فلا يسامح بإبداله بثناء وتمجيد آخر كما صنع أبو حنيفة. وهذا لازم لا بد من القول به. ولا تظن بنا أننا نهينا عن شيء وأتينا مثله فتقول: أنكرتم على أبي حنيفة قياس الله أعظم على الله أكبر. وقستم أنتم في منع الإبدال التكبير على الركوع والسجود؛ لأنا لم نورد هذا قياسًا وإنما ضربنا لك به أمثالًا (¬1) ليتضح عندك منع القياس في هذا الباب. ويناقض أبو حنيفة أيضًا: بأن يلزم جواز افتتاح الصلاة بما منع (¬2) منه مما حكيناه عنه. ويناقض الشافعي في مذهبه وأبو يوسف في مذهبه بأن يقال لهما: إن لزمتما الاتباع، فقدلا بما قاله (¬3) مالك من التحجير وألا تخرج عن الاتباع بحرف واحد. وإن سامحتما باستعمال القياس فهلا وسعتما الأمر كما وسعه أبو حنيفة؟ فليس إلا القياس كما قال أو الاتباع كما قلنا. فإن اعتذرا بأنه تكبير كله على اختلاف صيغه، قيل لهما هو على كل حال خروج (¬4) عن الاتباع لكنكما أقرب إلى الاتباع من أبي حنيفة. ومالك ألزمكم للاتباع (¬5) فلا يوجد سبيل إلى مناقضته. ¬

_ (¬1) مثالًا -و-. (¬2) يمنع -و-. (¬3) قال به -ق-. (¬4) خارج -و-. (¬5) الاتباع -و-.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما من لا يحسن أن ينطق بالتكبير فإنه ليس عليه نطق آخر سواه يفتتح به الصلاة عوضًا من التكبير. إلى هذا ذهب الشيخ أبو بكر الأبهري وهو صحيح على أصلنا لأنا قدمنا أن لفظ التكبير متعين، وأن استعمال القياس فيه بالإبدال لا يصح. ولم يأت الشرع بإيجاب بدل منه عند العجز عنه، كما أتى بإبد الذي غيره من العبادات، والأصل براءة الذمة فلا توجب عبادة إلا بدليل. وقد قال أبو الفرج يدخل بالحرف الذي دخل به الإِسلام. وحكى القاضي أبو محمَّد عن بعض أشياخه أنه يدخل الصلاة بلسانه، ويحتمل أن يكون هذا القائل أباح للأعجمي الذي لا يحسن العربية أن يفتتح الصلاة بلسانه. لأنه ثبت عنده بالنقل صحة معنى ما يفتتح به. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد قدمنا وجوب تكبيرة الإحرام على الجملة ومخالفة ابن شهاب في إيجابها على الإطلاق. وقد قال بعض الناس أن ابن شهاب وابن المسيب يريانها سنة. وأنكر بعض الناس هذا. وأشار إلى أنهما إنما يريان ذلك سنة في إحرام المأموم خاصة، وإلى ذلك أشار ابن المواز. لأنه ذكر أنه لم يختلف في الفذ والإمام، وإنما اختلف في المأموم. فإذا ثبت وجوب ذلك على الإِمام والفذ، فقد اختلف المذهب في إحرام المأموم هل يحمله عنه الإِمام أم لا؟ فعن مالك روايتان: المشهور منهما أنه لا يحمله قياسًا على الركوع والسجود. والرواية الأخرى أنه يحمله قياسًا على القراءة. فإن قلنا إنه لا يحمله فلا يخلو المأموم من قسمين: أحدهما أن يذكر ذلك قبل أن يركع. والثاني أن يذكره بعد أن ركع. فإن ذكر ذلك قبل أن يركع أحرم واستأنف القراءة وإن ذكر ذلك بعد أن ركع فلا يخلو من أن يكون كبر حال ركوعه أو لم يكبر. فإن لم يكبر فحكمه حكم من لم يركع، في أنه يحرم ويستأنف الصلاة. وإن كان كبر لركوعه ثم ذكر أنه نسي الإحرام، فإن كان لم يرفع رأسه من ركوعه ويمكنه أن يرفع رأسه فيحرم ويعود إلى ركوعه فيدرك الإِمام راكعًا، فإن في ذلك قولين. وإن لم يذكر ذلك حتى رفع رأسه فإنه يتمادى على صلاته. فإذا فرغ منها أعادها. ورأى مالك رضي الله عنه هذا احتياطًا، واعتل بأنه يأمره بالتمادي لكون الصلاة تجزئه عند ابن المسيب وبالإعادة لكونها لا تجزئه عند ربيعة.

واختلف الأشياخ المتأخرون في هذه الإعادة: هل تكون مقصورة على الوقت أو تكون في الوقت وبعده؟ فمن قصرها على الوقت حمل على (¬1) مالك أن التمادي على الصلاة هو الأصل عنده، والإعادة هي التي احتاط بها. ومن أمر بها في الوقت وبعده رأى أن الأصل عنده الإعادة، وإنما احتاط بالتمادي على الصلاة. وقد ذكر أبو مصعب أنه غير بين التمادي والقطع. وهذا يقتضي كون الإعادة هي الأصل. إذ لو كان التمادي هو الأصل لما ساغ القطع. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف المذهب في تكبيرة الإحرام هل شرطها القيام أم لا؟ فذهب ابن المواز إلى أن ذلك من شرطها. وقال فيمن أحرم راكعًا أنه يقضي ركعته التي أحرم فيها. وكذلك لو أحرم حال انحطاطه للسجود أو حال رفعه منه لاعتد ببقية صلاته وقضى الركعة التي لم يحرم فيها قبل ركوعها. وكأنه قدر أن ما يحدث من القيام بعد تكبيرة الإحرام يوجب الاعتداد ببقية الصلاة لحصول ذلك بعد إحرام وقيام، بخلاف الركعة التي أحرم في ركوعها. وكذلك قال فيمن كبر لسجود الأولى وركع (¬2) للثانية ناسيًا لتكبيرة الركوع فيها، أن يتمادى ويعيد. وقد رأى أن تكبيرة السجود السابق كأنه مقارن للركوع. وقد قال بعض المتأخرين إنما قضى هذه الركعة واعتد بما سواها ولم يأمره بالتمادي والإعادة لأنه تعمد ترك القيام للإحرام. وابن المسيب الذي راعى مالك خلافه حتى أمر بالتمادي إنما يقول بإجزاء الصلاة فيمن لم يتعمد ترك القيام للإحرام. وقد (¬3) كان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يحكي عن بعض الناس وأظنه (¬4) ابن أبي صفرة أنه كان يقول: في أثناء المدونة ما هو كالنص على أن تكبيرة الإحرام ليس من شرطها القيام في حق المأموم. لأنه قال في المدونة: ولا ينبغي لرجل أن يفتتح الصلاة بالركوع قبل القيام وذلك يجزئ من كان خلف الإِمام. فقد نص على إجزاء صلاة المأموم المفتتح صلاته بالركوع. فإن قيل فلم فرق في المدونة بين المأموم ومن سواه في هذا؟ قيل: أشار بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أن المأموم إخلاله بالقراءة لا يفسد ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) رفع -و-. (¬3) وقد = ساقطة - ح - ق -. (¬4) وأظنه أنه -ق-.

صلاته لحمل الإِمام ذلك عنه. فلهذا صح افتتاحه الصلاة (¬1) بالركوع. والفذ مخاطب بقراءة أم القرآن في كل ركعة. فلهذا لم يصح له افتتاح الصلاة بالركوع. وكأنه يشير إلى أن من يرى أنه ليس من شرط صحة كل ركعة قراءة أم القرآن فيها لا يفرق بين الفذ والمأموم في هذا. وأشار بعضهم إلى أنه لا تصح صلاته، وإن لم يوجب القراءة في كل ركعة لأنه كالتارك سنة متعمدًا. وتعمد ترك السنن يفسد الصلاة. وعندي أنه متى قيل إن الإِمام يحمل تكبيرة الإحرام عن المأموم فلا ريب في سقوط فرض القيام عنه. لأن القيام إنما يراد للتكبير فإذا أسقط التكبير سقط ما يراد له. وإن قيل إنه لا يحمل تكبيرة الإحرام عنه فقد يستخف حمل القيام عنه لكونه غير مقصود في نفسه. وقد أتى المأموم بالمقصود منه. فهذا مما يمكن أن يقال في وجه تفريقه في المدونة بين المأموم والفذ. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: لو أسقط المأموم تكبيرة الركوع واقتصر على تكبيرة الإحرام لصحت صلاته. فإذا أحرم عند الركوع ومزج في نيته للإحرام قصد الركوع، فقال بعض الأشياخ تصح صلاته كمن نوى بغسله الجنابة والجمعة. وبهذا قال الحسن والثوري وجماعة غيرهما. وقالت الشافعية لا يصح وقد قدمنا ما عندنا من التعقب عليهم في مزج نية الوجوب بنية النفل. وقد مضى مبسوطًا فلا معنى لإعادته. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: قد قدمنا اختلاف ربيعة وابن المسيب فيمن كبر للركوع ناسيًا لتكبيرة الإحرام هل تجزيه صلاته أم لا؟ وتردد قول (¬2) مالك بين مذهبيهما، وتشككه في نيابة تكبيرة الركوع عن تكبيرة الإحرام فلا معنى لإعادته. وقد قال بعض الأشياخ إنما يؤمر بالتمادي والإعادة إذا كبر لركوعه (¬3) وهو قائم. وهذا لا معنى له عندي؛ لأن التكبير للركوع لا يشترط فيه القيام والإحرام لم يحصل، فيشترط له القيام. فالتمادي يحسن على أصله وإن لم يكبر للركوع حال القيام. ¬

_ (¬1) للصلاة -و-. (¬2) قول = ساقطة. (¬3) للركوع -ق-.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال. حكم سائر الصلوات عندنا فيما قلناه حكم واحد الأصلاة الجمعة فإن فيها (¬1) قولين فيمن نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع. فقيل يتمادى ويعيد بعد فراغه ظهرًا أربعًا كسائر الصلوات. وقيل بل يقطع ويستأنف الجمعة مع الإِمام بخلاف غيرها من الصلوات، وهذا عندي ينظر إلى ما قدمناه من الاختلاف في كتاب الطهارة، فيمن خاف إن تشاغل بالماء فاتته صلاة (¬2) الجمعة. وسبب الاختلاف في ذلك أن من قدر أن الجمعة لا تفوت لوجود بدل منها وهو الظهر إذ (¬3) يمكن فعله، والوقت باق، لم يبح لهذا القطع، ولا لذلك التيمم. ومن قدر أن الجمعة لا بدل منها وأنه لا يمكن قضاؤها بعد الإِمام أمر هذا بالقطع ليدرك مع الإِمام صلاة لا يمكنه أن يأتي ببدل منها. وأمر ذلك بالتيمم لأجل هذا. وقد ذكر عن ابن حبيب أنه فرق بين الركعات في الصلوات الخمس فأمر بالتمادي والإعادة من أدرك الإِمام في أول صلاته. وأمر من فاتته بعض صلاة الإِمام بالقطع متى ما (¬4) ذكر. وأنكر بعض المتأخرين هذه التفرقة ولم ير لها وجهًا ولا يمكن عندي أن يوجد لها وجه إلا أن يقال إن الفذ إذا نسي تكبيرة الإحرام لم يصح أن يؤمر بالتمادي على صلاة نسي الإحرام فيها، والمأموم بخلافه يؤمر بالتمادي. فإذا كان ناسي تكبيرة الإحرام قد فاتته بعض صلاة الإِمام فإنه لا بد أن يقضي ما فاته بعد فراغ الإِمام ويكون فيما يقضيه كالفذ. والفذ لا يتمادى على صلاة نسي إحرامها. فلهذا أمر من فاتته بعض الصلاة بالقطع ولم يؤمر بذلك من لم يفته شيء منها. هذا أقصى ما يمكن أن يتخيل عندي في ذلك. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: قد قدمنا الاختلاف فيمن نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع هل يباح له القطع إذا طمع بإدراك الإِمام في الركعة بعد قطعه. وسبب الاختلاف في هذا، الاختلاف في عقد الركعة هل هو تمام الانحناء أو ¬

_ (¬1) ففيها قولان -و-. (¬2) صلاة = ساقطة -و -ق-. (¬3) إذ = ساقطة -ح-. (¬4) ما = ساقطة -ح-.

رفع الرأس منه؛ فإن قلنا إنه تمام الانحناء لم يقطع هذا الذي ذكر وهو رافع لكونه قد حصل ركعة. وإن قلنا هو رفع الرأس قطع هذا لكونه لم تحصل له ركعة. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: فيمن قدر أنه إذا قطع أدرك الإِمام في الركعة بعد القطع هل يقطع بسلام أم لا؟ وسبب هذا الاختلاف مرعاة الخلاف. فمن لم يراعه قطع بغير سلام. ومن راعاه افتقر إلى القطع بالسلام لئلا يكون المصلي قد زاد ركعة في صلاته عند من قال بصحتها. وقد قال ابن حبيب فيمن ذكر بعد ركعته أنه نسي تكبيرة الإحرام فجهل أن يتمادى فأحرم مستأنفُ اللصلاة فإن صلاته باطلة، ولا يخرج مما كان فيه بالنية والإحرام، دون سلام أو كلام. وكذلك من رأى نجاسة بثوبه فنزعه وأحرم فلا تصح صلاته دون القطع بسلام أو كلام. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إذا شك الفذ هل أحرم أم لا (¬1) أو توضأ أم لا فهل يقطع أو يتمادى ويعيد؟ فيه قولان: أحدهما: القطع إذ لا يلزمه التمادي على صلاة لا تجزيه فيصير كمن وجبت عليه صلاتان. وإنما عليه واحدة. وقيل يتمادى لجواز أن تكون هذه الصلاة في الباطن صحيحة. وقطع الصلاة الصحيحة لا يجوز. ويعيد لجواز ألا تكون صحيحة. وقد ينفصل هؤلاء عندي عما قاله الأولون من أنا لا نوجب عليه صلاتين بأن من نسي صلاة لا يعرف عينها، يؤمر بأن يصلي خمس صلوات حتى يحصل له اليقين لبراءة ذمته. فإذا لم يبعد إيجاب خمس صلوات والواجب صلاة واحدة، لم يبعد إيجاب الصلاتين والواجب واحدة. وإن كان إمامًا شك في تكبيرة الإحرام فقد قال سحنون يتمادى فإذا فرغ سألهم. ويتخرج القطع على القول الآخر. قال سحنون وإن شك في وضوئه استخلف ثم وقف عن (¬2) الاستخلاف لجواز أن يكون على وضوء، فيكون قطع صلاة صحيحة. وفرق في الاستخلاف بين تكبيرة الإحرام وبين الطهارة لأن نسيانه الطهارة لا تبطل صلاة المأمومين ونسيانه الإحرام يبطل صلاتهم. ورأى الشيخ أبو الحسن اللخمي أن المسألتين سواء. ¬

_ (¬1) هل هو أحرم أو لا أو توضأ أو لا -و-. (¬2) على -و-.

وأن صلاتهم مع نسيانه الإحرام تصح لهم دونه كما تصح في نسيانه الطهارة. والذي قاله الشيخ أبو الحسن من التسوية بينهما قد أنكره سحنون على ما قلناه. والذي قاله سحنون هو مقتضى المذهب على ما أشار إليه بعض الأئمة. وذلك أن الطهارة لا يحملها الإِمام عن المأموم إجماعًا. فلم يكن نسيانه لها ساريًا حكمه إليهم. وتكبيرة الإحرام يحملها عنهم في أحد قولي مالك فكان نسيانه لها ساريًا حكمه إليهم. ويكون تركه لها كالترك لهم وإن كانوا فعلوا. لكن إن قلنا إن الإِمام لا يحملها عنهم تعذر الفرق ويضطر للرجوع إلى ما قاله الشيخ أبو الحسن، إلا أن يفرق مفرق بمراعاة الخلاف في حمل تكبيرة الإحرام وعدم الخلاف في حمل الطهارة. والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: اختلف المذهب فيمن افتتح الصلاة على الوجه الواجب ثم طرأ عليه شك فتمادى عليه حتى أكمل الصلاة فتبين له بعد إكمالها أنه أصاب في التمادي. وأنه هو الواجب عليه. أو زاد في الصلاة شيئًا تعمدًا أو سهوًا *ثم تبين له أنه هو الواجب عليه هل تجزئه عن الواجب أم لا؟ فمن ذلك الاختلاف فيمن سلم وهو شاك في إكمال الصلاة* (¬1) ثم تبين له أنه أكملها. فقيل تجزئه صلاته وقيل لا تجزئه. ومن شك هل أحرم أم لا؛ ثم تبين له بعد الفراغ أنه أحرم. فقيل تجزئه صلاته، وقيل لا تجزئه. وكذلك من شك في طهارته ثم تبين له أنه متطهر. فوجه الإجزاء أن اعتقاد الصحة والوجوب عند الشروع في الصلاة ينسحب حكمه على سائر أجزاء العبادة فلا يضره التشكك لانسحاب حكم النية عنوإلافتتاح على سائر أجزاء العبادة. ووجه القول بأنه لا تجزئه، إن التشكك يرفع حكم انسحاب النية حتى تصير الأجزاء المفعولة مع التشكك واقعة بغير نية، ولا اعتقاد وجوب لا ذكرًا ولا حكمًا. وذلك يمنع من الإجزاء. وأشار بعض أشياخي إلى أن من أحرم بالظهر ثم تشكك هل كان إحرامه للظهر أو للعصر فتمادى على صلاته ثم تحقق أنه للظهر أحرم، أن صلاته تجزيه من غير اختلاف. لأجل أنه إنما تشكك بين صلاتين واجبتين. فالفعل لم يخرج عن كونه واجبًا وليس عليه بعد عقد النية ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط من -و-.

تجديد ذكرها عند كل جزء من أجزاء الصلاة. فلم يكن لشكه حكم. لأنه لم يمنع من انسحاب (¬1) حكم اعتقاد الوجوب. بخلاف من شك في الصحة والفساد. ومثال ما اختلف فيه: من فعل شيئًا سهوًا أو عمدًا ثم انكشف الغيب أنه هو الواجب عليه: من زاد في صلاته ركعة خامسة عمدًا أو سهوًا ثم تبين له أن الركعة الأولى فسدت حتى صارت هذه رابعة. فقيل تصح صلاته وتجزيه هذه عن الرابعة. وقيل لا تجزيه عن الرابعة. وتبطل صلاة المتعمد للزيادة. وتوجيه هذا الخلاف نحو ما قدمناه. وكذلك اختلف فيمن سلم من اثنتين ظنًا أنه سلم من أربع ثم تنفل بركعتين هل تجزئه هاتان الركعتان عن بقية فرضه أم لا؟ والإجزاء ها هنا وفيمن زاد في صلاته ركعة متعمدًا غير صحيح. لأن حدوث (¬2) نية مضادة للنية الأولى يمنع انسحاب حكمها لأنه إذا ضادها و (¬3) ناقضها وجودًا، فأحرى أن يضادها (¬4) حكمًا واستصحابًا. وكذلك اختلف فيمن أحرم للظهر ثم أكمله ابن ية العصر هل تجزئه عن الظهر أم لا؛ وهذا قد يظن منه أن المسألة التي قدمنا أن بعض أشياخنا أشار إلى ارتفاع الاختلاف فيها يتصور الخلاف فيها. لأن هذا تبدل اعتقاده إلى تصميم. ولكن لم يخرج الاعتقادان عن الوجوب. وذلك تبدل اعتقاده إلى تشكك ولم يخرج بتشككه عن الوجوب. والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: لا يجوز الإحرام قبل الإِمام عندنا. وعند أبي حنيفة خلافًا للشافعي في أحد قوليه في إجازة ذلك. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا كبر فكبروا" (¬5). فمن كبر قبله خالف الأمر. وقياسًا على السلام لما اتفقنا على (¬6) أنه لا يجوز قبله. فإن قال أصحاب الشافعي لما جاز للمأموم أن يقضي بعض صلاة الإِمام بعد فراغ الإِمام جاز له أن يسبقه ببعضها وهو التكبير. قيل لهم: إنما يقضي بعده صلاة أحرم بها معه. فكأنه باق معه وهو لم ¬

_ (¬1) الاستحباب -و- استحباب -ق-. (¬2) وجوب -و-. (¬3) أو -و-. (¬4) أن يناقضها - و - ق -. (¬5) صحيح. أخرجه البخاري ومسلم. اللؤلؤ والمرجان ح 232. (¬6) على = ساقطة -و-.

يتأخر عنه. وإذا سبق الإِمام بالإحرام فإنه لا يقدر فيه متابعة الإِمام فيما سبقه (¬1) به لا حسًا ولا حكمًا فافترقا. فلم يصح قياس هذا على هذا. والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: إذا سبق الإِمام بالإحرام فإنه يقطع الصلاة ثم (¬2) يستأنفها معه. واختلف هل يفتقر قطعه إلى سلام أم لا؟ وسبب هذا الاختلاف مراعاة الخلاف. وقد قدمنا مثله. فإن لم يقطع وأكمل صلاته -بحكم نفسه- (¬3) على (¬4) إحرامه السابق فهل تصح صلاته أم لا؟ قال سحنون لا تصح صلاته. وقال بعض أشياخي كان الأولى بمذهب سحنون صحة صلاته. لأنه لما أمره بالقطع أمره أن يقطع بسلام. وإنما ينبغي أن يقول (¬5) بأن صلاته لا تصح مالك الذي يقول يقطع بغير سلام. ولقد قال أشهب فيمن أحرم وهو يظن أن الإِمام لم يكمل صلاته فإذا هو قد أكملها أنه يبني على إحرامه. فكأن شيخنا هذا رأى أن قول سحنون إن القطع يفتقر إلى سلام، يشير إلى صحة الإحرام. وإذا أمكنت صحة الإحرام صح البناء عليه. ولم يمنع من ذلك فقد الجماعة التي قصدها. كما لم يمنع ذلك في المسألة التي ذكر أشهب. وفي هذا الذي قاله نظر. لأن القطع بسلام لا يقتضي كون الإحرام صحيحًا عنده. وإنما هو استظهار للتخلص من عهدة الخلاف. ومسألة أشهب لم يوجد فيها إمام يؤمر بمتابعته. ومسألتنا الإِمام فيها موجود. والمتابعة ممكنة. فلا يلزم سحنون أن يقول ما ظُن به أنه يلزمه أن يقوله. والجواب عن السؤال السادس عشر: أن يقال: اختلف في المأموم إذا أحرم مع الإِمام معًا أو سلم معه معًا. فقيل لا تجزيه صلاته وقيل بل تجزيه وقال محمَّد بن عبد الحكم إن لم يسبقه الإِمام بحرف من حروف التكبير لم تجزه صلاته فكأنه يشير إلى أنه إن سبقه بحرف من التكبير صحت الصلاة. فمن قال ¬

_ (¬1) يسبقه -و-. (¬2) ويستأنفها -و-. (¬3) هكذا في جميع النسخ. (¬4) عن -و-. (¬5) يقال.

لا تصح الصلاة حمل قوله فإذا كبر فكبروا على أن المراد به إذا فعل التكبير وفرغ منه. ومن قال بصحة الصلاة لم يسلم أن المراد ذلك، وأمكن عنده أن يحمل الحديث على أنه يراد به إذا شرع فأشرعوا وإذا أمكن ذلك لم تكن فيه حجة على إبطال الصلاة. والجواب عن السؤال السابع عشر: أن يقال: إنما تحرز بقوله التي هي منها لأن من فروض الصلاة ما هو خارج عنها (¬1) كالنية واستقبال القبلة وجميع ما عدده من ذلك فأشعرك بهذا التقييد أنه إنما ميز هذه التسع عن تلك لكون هذه منها وتلك خارجة عنها. قال القاضي رحمه الله: والقراءة (¬2) والركوع. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها أن يقال: 1 - هل القراءة واجبة في الصلاة أم لا؟. 2 - وإذا وجبت هل هي متعينة أم لا؟. 3 - وإذا تعينت هل تجب مرة واحدة أو تتكرر؟. 4 - وهل المصلون حكمهم في ذلك واحد أو مختلف؟. 5 - وهل على من لا يحسن القراءة تعويضها أم لا؟. 6 - وهل يجب عليه قدر القيام لها أم لا (¬3)؟. 7 - وما حكمه لو حدث له العلم بها في أثناء الصلاة؟. 8 - وكيف يتلافى إصلاح ما تركت القراءة فيه؟. 9 - وما الحكم في تقديم السورة على أم القرآن؟. 10 - وما حكم من أسرها ثم جهر بها؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في وجوب القراءة على الجملة في الصلاة. ففقهاء الأمصار وجمهور العلماء على إيجابها على ¬

_ (¬1) منها -ح-. (¬2) والقراءة والقيام والركوع -الغاني -غ-. (¬3) أم لا = ساقطة -ح-.

الجملة. وحكي عن قوم من العلماء سقوط وجوبها. وذكر عن الشيخ أبي القاسم ابن شبلون أنه قال: قراءة أم القرآن ليست بفرض. قال لأن الإِمام يحملها عن المأموم. والإمام لا يحمل الفرض. وهذا منه مصير إلى هذا المذهب الشاذ المخالف لمذهب فقهاء الأمصار لأن الإِمام يحمل جميع القراءة على الإطلاق. فمقتضى اعتلاله سقوط فرض جميعها. وهذا الذي اعتل به الشيخ أبو القاسم بن شبلون، به احتج هؤلاء المسقطون للإيجاب. فقالوا: قد أجمع على أن المأموم إذا أدرك مع الإِمام الركوع دون القراءة فإنه يعتد بالركعة. فلولا أن القراءة غير واجبة لما صح اعتداده بالركعة ولا صح حمل الإِمام عنه. ذلك. كما لم يصح أن يحمل عنه الركوع والسجود لما كان فرضًا. وسننفصل عن هذا الذي احتجوا به فيما بعد. وإن عولوا على ما روي عن عمر رضي الله عنه من أنه ترك القراءة في الصلاة فقيل له في ذلك. فقال كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا حسن. قال فلا بأس إذن (¬1). قيل لهم يحتمل أن يكون عمر ترك الجهر ولم يترك القراءة أصلًا. وإذا احتمل ذلك لم تكن فيه حجة في أنه ترك القراءة ودليلنا على وجوبها على الجملة قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬2) والمراد بهذا القراءة في الصلاة. وفي الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا" (¬3). وقد كنا قدمنا الكلام على مثل هذا اللفظ وذكرنا اختلاف أهل الأحوال فيه. وأن منهم من ادعى حمله على العموم في نفي الإجزاء والكمال، ومنهم من جعله محتملًا لهما، وإن الأظهر من المحتملين نفي الإجزاء. فعلى هذين المذهبين يكون الحديث حجة على وجوب القراءة. وإن لم نقل بهذين المذهبين وتوقفنا في المراد بمثل هذا اللفظ اعتمدنا على الآية المذكورة وعضدناها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى قرأ. وقد قال: صلوا كما رأيتموني ¬

_ (¬1) يقول ابن رشد في البداية: هو حديث غريب عندهم أدخله مالك في موطئه في بعض الروايات. الهداية ج 3 ص 36. (¬2) سورة المزمل، الآية: 20. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. الهداية ج 3 ص 41.

أصلي (¬1). فوجب اتباعه فيما أيقنا من أفعال الصلاة، وأقوالها إلا ما دل دليل على نفي وجوبه. وقد قال بعض أصحاب المعاني: إن الله سبحانه حرم الكلام في الصلاة، فلولا أنه أوجب على اللسان عملًا من الأعمال لما حرم اشتغاله بالكلام كما لم يحرم اشتغال العين بالنظر لما لم يوجب عليها الحركة والنظر. وهذا وإن كان لا يستقل دليلًا فقد يصلح أن يكون ترجيحًا. وقال أيضًا: إن الله سبحانه استخدم الرجل بالقيام والظهر بالركوع والرأس بالسجود فليستخدم اللسان بالقراءة لأنه عضو مقصود في مثل هذه المعاني. وهذا عندنا مثل (¬2) الأول. بل ربما كان أخفض رتبة في طرق الترجيح. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في ذلك. فمذهب مالك والشافعي تعين الواجب من القراءة وهو أم القرآن ومذهب أبي حنيفة أنها لا تتعين وإنما تجب قراءة على الجملة. وقدرها بالآية. وقدرها أبو يوسف بثلاث آيات قصار أو آية طويلة. ودليلنا على التعيين ما قدمناه من قوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا (¬3) وهذا نص على التعيين كما قلناه. فإن قالوا قد روي إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها، قيل: يحتمل أن يكون من شك الراوي فلا تترك رواية البخاري ومسلم لمثل هذه الزيادة التي فيها هذا الاحتمال. فإن قالوا قد روي أيضًا لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب (¬4). قيل معناه ولو بالاقتصار عليها. لأنه قد شرع قراءة زائدة عليها. فأشار إلى أن أقل ما شرع فاتحة الكتاب. فإن قالوا قد قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (¬5). وأمر الأعرابي الذي علمه أن يقرأ بما تيسر معه من القرآن (¬6). قيل الآية محمولة على صلاة الليل نافلة. وإن سلمنا عمومها أثبتنا التعيين بالحديث الذي قدمناه على أن قراءة أم القرآن وأكثر منها مما يتيسر (¬7) فتجب قراءتها ¬

_ (¬1) رواه البخاري وهو طرف من حديث مالك ابن الحوريث في كتاب الأذان ورواه أحمد ج 5 ص 53. (¬2) كالأول - و - ق -. (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) الخطيب البغدادي عن أبي هريرة. حديث رقم 26131. جامع الأحاديث للسيوطي. (¬5) سورة المزمل، الآية: 20. (¬6) متفق عليه من حديث أبي هريرة. الهداية ج 3 ص 11. (¬7) تيسر - و - ق -.

ويسقط ما زاد عليها (¬1) مما تيسر بدليل. ولا يسلم لهم حملها على أن المراد بها أي شيء يتيسر. بل نقول يمكن حملها على أن المراد بها قراءة كل الذي يتيسر (¬2). وأما حديث الأعرابي فالكلام عليه كنحو الكلام على الآية إما أن نقول أمر بقراءة كل ما تيسر معه كما قلناه في الآية أو نقول لعله لم يكن يحسن قراءة أم القرآن. وأما استعمال القياس ها هنا وإثبات بعض القرآن بدلًا من بعض فنحن نمنعه لما بيناه في وجوب تعيين التكبير وقد تقدم مبسوطًا. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اتفق المذهب على وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة على الجملة. وإن الإخلال بها في جميع الصلاة يمنع الإجزاء إلا رواية شاذة رواها الواقدي. وهذه الرواية الشاذة أما (¬3) إن حملت على سقوط وجوب القراءة أصلًا فقد قدمنا إفساد هذه المقالة. وإن حملت على أن القراءة تجب ولكن لا يتعين وجوب قراءة أم القرآن أصلًا كما قال أبو حنيفة فقد قدمنا أيضًا الرد على هذه المقالة. واختلف المذهب بعد الاتفاق على وجوب قراءتها كما حكيناه. هل تجب مرة واحدة أو متكررة؟ فقال المغيرة بإيجابها مرة واحدة. وقال الجمهور بتكريرها. واختلف المكررون لها. فروي عن مالك إيجاب تكريرها بتكرر الركعات. وهو مذهب الشافعي. وروي أيضًا عنه العفو عن إيجاب تكريرها في أقل الركعات واختلف في الأقل على هذا المذهب ما هو؟ فقيل هو الأقل على الإطلاق وقيل هو الأقل بالإضافة. ومعنى الأقل على الإطلاق العفو عنها. في ركعة واحدة، وإن كانت الصلاة صبحًا أو جمعة أو ظهرًا لمسافر. ومعنى الأقل بالإضافة أن تكون الركعة من صلاة الرباعية كالظهر أو ثلاثية كالمغرب. وأما إن كانت واحدة كركعة من الصبح أو الجمعة أو ظهرًا لمسافر فلا يعفى عنها. فأما رواية الواقدي فالحجة فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي ¬

_ (¬1) عليها = ساقطة - ح - ق. (¬2) تيسر -ق - و -. (¬3) أما = ساقطة -و-.

خداج ثلاثًا غير تمام (¬1) ومعنى خداج أي ناقصة. يقال خدجت الناقة إذا ولدت قبل أوان الولادة. ووصف الصلاة بالنقص يشعر بحصول الإجزاء. وقوإنفصل عن هذا بأن النقص قد يعبر به عن نقص بعض الأجزاء. والصلاة إذا ذهب بعض أجزائها التي هي من أركانها لم تصح ولم يقع الاعتداد بها. وقد أشار ابن نافع وعيسى ابن دينار إلى حمل التشبيه ها هنا (¬2) على المشابهة لولد غير تام. فإن صح ما قالاه ووقع التشبيه بولد ناقص فلا دلالة في الحديث على الإجزاء لدخول النقص في أجزاء الصلاة وأركانها. وأما المغيرة فإنه يعتمد في أجزاء الصلاة إذا قرئت أم القرآن في ركعة واحدة منها على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا". فإذا قرأ فاتحة الكتاب مرة واحدة اقتضى ظاهر هذا الحديث عنده صحة الصلاة. لأنه لم يشترط في كونها صلاة تكرير القراءة. وينفصل عن هذا بأن يقال قد تسمى الركعة الواحدة صلاة. وإذا سميت صلاة لم تصح كل ركعة إلا بقراءة الفاتحة على ظاهر الحديث. وأما الموجبون التكرير فإن من اشترط منهم التكرير في كل ركعة، فحجته قوله: كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلها إلا وراء إمام. وهذا يقتضي إثبات التكرار في كل ركعة. وأما المكررون الذين عفوا عن الأقل فلا يتحرر لهم متمسك من جملة هذه الظواهر كلها. كما تحرر لهؤلاء الذين ذكرنا قبلهم. ولعلهم يتمسكون بشواهد بعض الأصول المعفو فيها عن القليل. وإذا ثبت لهم العفو عن القليل رأى بعضهم أن الركعة قليلة حيثما كانت. ورأى بعضهم أنها إنما تكون قليلة بالإضافة. فهي في الرباعية والثلاثية قليلة لكونها الثلث أو الربع. والثلث أو الربع قليل. وفي الثنائية ليست بقليلة أنها نصف والنصف ليس بقليل. وقد رأى بعض الأشياخ أن الركعة من الثلاثية ليست بقليلة. وكأنهم قدّروا الثلث كثيرًا. وفي الحديث "الثلث ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثًا غير تمام". ورواه مالك وغيره. انظر الهداية ج 3 ص 42. (¬2) ها هنا - ساقطة -و-.

والثلث كثير" (¬1). ولكنه رجع عن هذا الرأي إلى موافقة الجماعة. وأما أبو حنيفة فإنه يشترط التكرير. ولكنه يقتصر على التكرير في ركعتين. وحجتنا عليه قوله: كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلها إلا وراء إمام (¬2). وهذا يوجب تساوي حكم الركعات الأربع. وكذلك قوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا. فإن كل ركعة تسمى صلاة على ما قدمنا الإشارة إليه. ولأنه لَمَّا علم الأعرابي الصلاة وأمره بالقراءة قال له افعل ذلك في صلاتك كلها. ولأن الصلاة إنما تتم بتكرار الركعة الأولى. فيجب أن تتكرر بجميع أركانها من قيام وقراءة وركوع وسجود وقد قرأ عليه السلام في الأربع وقال صلوا كما رأيتموني أصلي (¬3). وهذا يوجب تساوي الركعات الأربع في وجوب القراءة. واستدل أصحاب أبي حنيفة بقوله عليه السلام القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين. قال وقد قال علي وابن مسعود في الأخريين إن شاء قرأ وإن شاء سبح. ولأنه قول يخافت به فكان مسنونًا كالتسبيحات. ولأن مخالفة الأخريين للأوليين في الجهر والاقتصار على سورة واحدة يشعر بالمخالفة في الوجوب. قالوا والتكرار بحسب الركعة الأولى يجب كما قلتموه. ولكن فيما كان أصليًا في الصلاة كالركعة الثانية. وأما الثالثة والرابعة فمزيدتان في الفرض ويسقطان عن المسافر. فلهذا لم يتكرر الأمر فيهما كما تكرر في الثانية. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في وجوب القراءة هل تجب وجوبًا عامًا أو وجوبًا خاصًا فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها تجب وجوبًا خاصًا فيختص الوجوب عندهما بالإمام والفذ ويسقط عن المأموم. وقال الشافعي بل (¬4) تجب وجوبًا عامًا. فيلزم الفذ والإمام والمأموم. ¬

_ (¬1) حديث صحيح. أخرجه البخاري ومسلم. (¬2) رواه مالك في الموطإ ولفظه: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فلم يصل إلا وراء الإِمام. شرح الزرقاني ج 1 ص 158. وقال الترمذي حسن صحيح. (¬3) تقدم تخريجه ص 401. (¬4) بل = ساقطة - ح - ق -.

ودليلنا ما خرجه مسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا قرأ فأنصتوا" (¬1) فعم قراءته أم القرآن وغيرها. وقوله كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلها إلا وراء إمام (¬2). وأيضًا فقد اتفق على أن من أدرك مع الإِمام الركوع دون القراءة أنه يعتد بركعته. فلو كانت القراءة واجبة على المأموم لم يعتد بركعته ولا حملها الإِمام عنه. وأما الشافعي فإنه يحتج بقوله عليه السلام لمن خلفه: (فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة إلا بها) (¬3). وهذا نص في إثباتها في حق المأموم وأيضًا قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا" (¬4). فعم المأموم وغيره. وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي في اعتداد المأموم بالركعة التي فاتته قراءتها بأن ذلك رخصة لا يعقل لها معنى محرر. وقد حمل الإِمام القيام وهو فرض ولم يدل حمله إياه على سقوط فرضه. قالوا وإنما اقتصر المأموم على قرأءة أم القرآن ولم يقرأ السورة مع الإِمام لأن قراءة أم القرآن فرض والاستماع للإمام سنة. والفرض أولى أن يقدم. والسورة التي مع أم القرآن سنة والاستماع سنة فصح أن يقدم سنة على سنة. ولنا نحن أن نتأول أحاديثهم على استحباب قراءتها حتى نضطرهم إلى إثبات دليل آخر على الوجوب. وقد قال مالك في الإِمام إذا كان ¬

_ (¬1) لفظه إنما جعل الإِمام ليؤتم به. وإذا قرأ فأنصتوا -رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال مسلم: هو صحيح. نيل الأوطار ج 2 ص 236. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) عن عبادة بن الصامت قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثقلت عليه القراءة. فلما انصرفنا قال: "إني أراكم تقرأون وراء إمامكم" قال: قلنا يا رسول الله إي يا رسول الله. قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". بلوغ الأماني ج 2 ص 194. ورواه أبو داود والترمذي، وقيل الأوطار ج 2 ص 239. (¬4) البخاري ومسلم. وروى البيهقي عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي لا صلاة إلا بقرآن بفاتحة الكتاب فما زاد. علق عليه ابن التركماني أن في سنده جعفر بن ميمون. وقد تكلم فيه النقاد. ج 2 ص 37. وروى عبد الرزاق بسنده إلى عبادة بن الصامت قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدًا". رواه أحمد ج 5 ص 322.

يسكت قبل القراءة فإن المأموم يقرأ أم القرآن واعتل بعض المتأخرين لهذه الرواية بأنه إنما رأى ذلك لأجل أن اشتغاله بالقراءة يقطعه عن الوسواس ويحميه من الفكرة التي تعتور الصامت. ولهم أيضًا أن يتأولوا أحاديثنا. ولكن النظر في ترجيح التأويلات بعضها على بعض يفتقر إلى خوض في فنون من أصول الفقه ليس هذا موضعه (¬1) فإذا ثبت سقوط وجوبها عن المأموم فلا يقرأ في صلاة الجهر. وفي قراءته في صلاة السر قولان: استحبابها وهو المشهور، وسقوطها وبه قال أبو حنيفة. فأما سقوطها في الجهر فلقوله عليه السلام في صلاة جهر فيها لما انصرف منها (ما لي أنازع القرآن) (¬2). قال أبو هريرة فانتهى الناس عن القراءة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ماجهر فيه. وأما ثبوتها في صلاة السر فلأجل أن ظاهر قول أبي هريرة هذا يقتضي بقاؤهم عليها في صلاة السر. وأما سقوطها فلأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة سر فلما انصرف قال: "أيكم قرأ سبح اسم ربك الأعلى". فقال بعض القوم أنا ولم أرد إلا الخير. فقال قد عرفت أن بعضكم خالجنيها (¬3). وانفصل عن هذا بأن الظاهر (¬4) أنه جهر حتى سمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ممنوع. وقد كان ابن عمر لا يقرأ خلف الإِمام. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: من قرأ خلف الإِمام مليء فوه ترابًا (¬5). والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قال بعض أهل العلم يجب على المصلي الذي لا يحسن القرآن أن يقف قدر قراءة أم القرآن ويذكر اسم الله سبحانه: وقال أشهب لو قرأ شيئًا من التوراة أو الإنجيل أو الزبور لم تصح صلاته لأنه لا يعلم أن ذلك من الكتاب المنسوب إليه. وإنما عليه أن يذكر الله ¬

_ (¬1) موضعها -و-. (¬2) رواه مالك في الموطإ. الزرقاني ج 1 ص 161. ورواه أبو داود والنسائي والترمذي. نيل الأوطار ج 2 ص 238. الترمذي ج 2 ص 108. (¬3) رواه البخاري ومسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 155. (¬4) بأن الظاهر من المذهب -و-. (¬5) روى عبد الرزاق بسنده إلى محمَّد بن عجلان قال قال علي من قرأ مع الإِمام فليس على الفطرة. قال وقال ابن مسعود ملىء فوه ترابًا. وقال عمر بن الخطاب وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر المصنف. ج 2 ص 138 ح 2806.

سبحانه. ولو قرأ شعرًا فيه ذكر وتمجيد لم تصح صلاته. وقال ابن سحنون أن يذكر الله. وظاهر كلام أشهب وابن سحنون أن تعويض الذكر يجب في محل القراءة. وقال القاضي أبو محمَّد لا يجب. ويستحب أن يقف وقوفُ اما. فإن لم يفعل أجزاه وفي المبسوط أنه ينبغي له أن يقف قدر قراءة أم القرآن وسورة ويذكر الله. قال كالمصلي على الجنازة يقوم بين كل تكبيرتين قدر أم القرآن وسورة يدعو في ذلك. وقد كنا قدمنا أن الأبهري لم يوجب على من لم يحسن النطق بتكبيرة الإحرام تعويضًا منها لما كانت متعينة. فمقتضى قوله عندي: إنه لا يجب أيضًا على من لا يحسن قراءة أم القرآن تعويض خلافًا لمن أوجبه ممن حكينا قوله. ولعل من أوجبه تعلق بما ذكر في بعض الطرق، في حديث الأعرابي الذي علمه من قوله إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فأحمد الله وكبره وهلله (¬1). وهذه الزيادة لم تأت من طريق ثابتة. فلهذا لم يتفق على الوجوب. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: قد ذكرنا في هذا السؤال الذي فرغنا منه أمر طائفة من أهل العلم لمن لا يحسن القرآن بالقيام. وإن في المبسوط استحبابه. وإليه ذهب القاضي أبو محمَّد. ولكن الذي وقع في المبسوط حد فيه قدر المستحب. والمستحب (¬2) بمقدار القراءة. والقاضي أبو محمَّد لم يعتبر مقدار القراءة وإنما استحب أن يفصل بين الإحرام والركوع بوقوف ما، يكون فاصلًا بين هذين الركنين. والذي يظهر في هذا أن القيام إن لم يكن مقصودًا في نفسه ولا ورد الشرع به *لأجله وإنما ورد به* (¬3) لأجل القراءة وليكون محلًا لها. فإذا سقطت القراءة للعجز عنها ولم يجب عوض منها فلا فائدة للأمر به. كما لا تؤمر الحائض بالطهارة لما كانت الصلاة ساقطة عنها، والطهارة إنما تراد لأجل الصلاة. وإن قلنا إن القيام عبادة مقصودة في نفسها لا تراد للقراءة ولا شرعت لأجلها، بدليل أنها تجب على المأموم وإن كانت القراءة ساقطة عنه. ولا يتخيل أنها إنما وجبت على المأموم لأجل وجوب المتابعة ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والنسائي والترمذي. نيل الأوطار ج 2 ص 231. (¬2) والمستحب = ساقطة -ح-. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-.

والاقتداء بالإمام. لأن الإِمام إذا صلى جالسًا لعذر وأبحنا الصلاة وراءه فإن القيام يجب على المأمومين (¬1)، وإن كانت المتابعة إنما تكون بالجلوس. وهذا يشعر بأنه وجب لا لأجل المتابعة، ولا لأجل القراءة. وإذا وجب لنفسه لا لغيره لم يسقط عن القادر عليه لأجل عجزه عن غيره. ولعل أصحابنا إنما استحبوا القيام ولم يوجبوه لأجل الإشك الذي القصد بوجوبه عندهم. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إذا قلنا بالمشهور من أن القراءة واجبة فعلى الإنسان تعلمها ليتوصل بذلك إلى إقامة الصلاة الواجبة عليه. فإن لم يسعه وقت الصلاة للتعليم صلى وراء من يقرأ ليحمل هذا الفرض عنه. فإن ترك الائتمام به وصلى فذا اختيارًا فقال بعض أصحاب مالك صلاته باطلة. وكان هذا رأى أن تعمده لترك حمل القراءة عنه كتعمده لتركها مع القدرة عليها وهو وحده. وقال بعض أصحاب مالك فيمن كان أميًا فصلى بمن يقرأ: أن صلاة الإِمام تصح والمأموم تبطل. وقال بعض أشياخي هذا قول آخر بصحة الصلاة لأن الإِمام وجد من يقرأ وهو المأموم. وقال بعض *الأشياخ إن لم يعلم يكون المأموم قارئًا صحت صلاته. وإن علم لم تصح. وقال غيره من الأشياخ اختلف* (¬2) أصحابنا في صحة صلاة الأمي إذا أم قارئًا ووجه القول بالصحة أن صلاة الجماعة ليست بفرض ولم يقم دليل على وجوب طلب الأمي إمامًا. وَوُجّه القول الآخر بنحو ما ذكرنا (¬3) فيه. فإذا ثبت وجوب التعلم فشرع في الصلاة قبل إمكان التعلم ولم يجد من يتحمل عنه القراءة فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة. وهذا يتصور بأن يكون سمع من قرأها فعلقت بحفظه من مجرد السماع *فهذا لا أعرف فيه في المذهب نصًا* (¬4). ومذهب الشافعي صحة ما مضى من صلاته بغير قراءة. ومذهب أبي حنيفة إبطال ما مضى من صلاته ووجوب استئناف الصلاة. ووقفت في كتاب ابن سحنون على ¬

_ (¬1) المأموم -ح-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -ح-. (¬3) ما ذكرناه -ح-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -ح-.

حكايته عن أبيه وغيره من أصحابنا أنه لا يستأنف الصلاة. وذكر مذهب المخالف ورد عليه: بأنه إذا ما مضى على حسب (¬1) ما أمر به فلا وجه لإبطاله. واحتج أيضًا بأن الإجماع على أن الجالس إذا صح يعتد بما مضى من أجزاء الصلاة يقتضي أن يعتد الأمي بما مضى. وليس الأمر كما (¬2) حكاه من الإجماع. فإن محمَّد بن الحسن التزم أن الجالس لا يعتد بما مضى. وإنما يكون ما ذكره ابن سحنون مناقضة لأبي حنيفة. فإنه يرى أن الجالس يعتد بما مضى. فإن كان أراد الإجماع منا ومنه (¬3) فصحيح ما قال. وقد قال بعض الأشياخ لو طرأ على الأمي قارئ لم يلزمه أن يقطع ليأتم به. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: من ترك قراءة أم القرآن في ركعة واحدة هي أقل صلاته. فإن قلنا إنها لا تجب في الركعة التي تركت فيها القراءة فحكمه أن يسجد لسهوه وتصح صلاته. فأما صحة صلاته، فلأنه لم يخل بفرض. وأما سجوده لسهوه فلتركه قراءة أقل مراتبها أن تكون سنة. ويختلف إن فعل ذلك متعمدًا هل تبطل صلاته أو تصح تخريجًا من الاختلاف في ترك السنن تعمدًا؟ وإن قلنا إنها تجب في الركعة التي ترك القراءة فيها وجوبًا محققًا لا إشك الذي، فحكمه أن يلغي تلك الركعة ويعتد بما سواها. ويكون ما سواها هو الذي حصل له من الصلاة. فإن ذكر تركه القراءة وقد أكمل ركعته الأولى وهو قائم في الثانية جعل الثانية أولى (¬4) صلاته. حتى كأنه لم يصل غيرها. وسجد بعد سلامه لزيادة ما ألغيناه من الأفع الذي أول صلاته. وكذلك إن ذكر وهو قائم في ثالثته جعلها ثانيته وقرأ مع أم القرآن سورة أخرى وسجد بعد السلام. وإن لم يذكر إلا وهو في رابعته سجد قبل السلام بعد قضاء الركعة التي ترك قراءتها. وإنما سجد قبل السلام ها هنا لأنه أحل بالجلوس فيما قدره ثالثة وهي ¬

_ (¬1) سبب -ح-. (¬2) على ما حكاه -و-. (¬3) منا ومنهم - و - ق -. (¬4) أول -ح-.

ثانية، وبقراءة (¬1) السورة المسنونة في ذلك. وزاد ما ألغيناه من الأعمال. والنقص والزيادة إذا اجتمعا سجد لهما قبل السلام. وإن قلنا بالتشكك بين المذهبين الأولين هل القراءة فرض في تلك (¬2) الركعة على أحد قولي مالك أو سنة على قوله الآخر؛ فإن الحكم: *في هذا الذي ترك قراءة أم القرآن من ركعة* (¬3) إذا لم يذكر إلا عند آخر صلاته. أن يسجد لسهوه ويعتد (¬4). وقد صار مالك إلى هذا مرة أخرى وكأنه ترجح (¬5) بين المذهبين الأولين. وإن ذكر في أثناء صلاته فهل يتمادى لجواز أن تكون صلاته صحيحة فلا يسوغ له قطعها أو يقطع لئلا يوجب عليه صلاتين؟ وعندي إن هذا يتخرج على القولين اللذين قدمناهما فيمن شك في تكبيرة الإحرام أو في الوضوء على ما قدمناه في ناسي تكبيرة الإحرام المكبر للركوع. وقد (¬6) قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز إن ذكر ترك القراءة قبل إكمال الركعة الأولى رجع فاستأنف القراءة. وإن لم يذكر حتى أكمل الركعة الأولى صيرها نافلة بأن يكمل عليها ركعة أخرى ويسلم منها. وإن ذكر بعد أن ركع الثالثة أكمل صلاته وأعاد. وقال بعض المتأخرين قول ابن القاسم ها هنا بالقطع بناءً منه على هذه الطريقة التي ترجح (¬7) مالك فيها. وقد ذكر مالك في المجموعة أنه إن ذكر وهو راكع رجع فاستأنف القراءة. وإن كان بعد أن رفع رأسه تمادى وأعاد احتياطًا. وهذا الفرقال في في المجموعة هو القول الذي أشرف إليه أنه يتخرج من الأصل الذي ذكرته. وإنما لم يأمره بالتمادي وقد حصل راكعًا لأنه رأى أن عقد الركعة رفع الرأس لا تمام الانحناء. وإن ترك القراءة من ركعتين فقيل يلغيهما ويعتد بما سواهما. وقيل ¬

_ (¬1) ولقراءة -ق-. (¬2) في كل -و-. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -ح-. (¬4) ويعيد - ق - و -. (¬5) رجح. هكذا في جميع النسخ -ترجح - رجح- ولعل الصواب تردد. (¬6) قد = ساقطة -و-. (¬7) هكذا في جميع النسخ. ولعله تردد.

يتمادى على صلاته ويسجد ثم يعيد. وهذا يحتمل عندي أن يكون بناه على التشكك في وجوبها مرة واحدة أو متكررة. فلهذا أتم وأعاد. ويحتمل أن يكون لكثرة السهو فيها، جانبَ طريقة من قال بالإلغاء وأمر بالتمادي والإعادة. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: اختلف فيمن قدم على أم القرآن السورة التي تقرأ معها. هل يعيد قراءة السورة بعد أم القرآن أم لا؟ وهل يسجد لهذا السهو أم لا؟ وسبب الاختلاف النظر في هذا الترتيب هل هو متأكد حتى يؤمر بتلافيه ويخاطب بسجود السهو فيه أو غير متأكد فلا يؤمر بذلك؟ وسنتكلم على أحكام السهو في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف فيمن أسر قراءة أم القرآن في صلاة الجهر، ثم ذكر فعاد فجهر بها هل يسجد للسهو أم لا؟ فقيل لا سجود عليه لتلافيه ما أحل به. وقيل يسجد بعد السلام. واختاره بعض الأشياخ لأن من أحل ببعض أركان الفرض يقضيه. ومع هذا لا يسقط سجود السهو *عنه. فمن أمره بسجود المسهو رأى أنه خوطب به بالفراغ منها فلا يسقط ما خوطب به من ذلك العود (¬1) إلى قراءتها. ومن لم يأمره بذلك رأى أنه قادر على تلافي ما قصر فيه ولم يمنعه من ذلك مانع. فإذا تلافاه لم يلزم بالسجود. وعندي أن من أمره بالسجود لا يأمره بالعود إلى إعادة القراءة. ومن لم يأمره بذلك أمره بالعود إليها. وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى* (¬2). قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والركوع والرفع منه والسجود (¬3) والفصل بين السجدتين. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا في -و- وفي غيرها الكلام ساقط كله. (¬2) ما بين النجمين = ساقط من - ح - ق -. (¬3) والركوع والسجود والرضع = الغاني.

1 - ما الركوع وما السجود؟. 2 - وما الدليل على وجوبهما؟. 3 - وهل يجب فيهما الطمأنينة؟. 4 - وإن وجبت ما مقدار الواجب منها؟. 5 - وهل يجب رفع الرأس من الركوع (¬1)؟. 6 - وما حكم الاعتدال عند الرفع من الركوع؟. 7 - وهل يجب الفصل بين السجدتين؟. 8 - وإن وجب ما القدر (¬2) الواجب منه؟. 9 - وهل يجزئ الاقتصار على بعض الوجه؟. 10 - وهل يجب السجود على اليدين والركبتين والقدمين؟. 11 - وهل تكشف اليدان في سجودهما أو تستران؟. 12 - وهل يشترط مباشرة الوجه للأرض أم لا؟ وما يسجد عليه؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الركوع فانحناء الظهر وانعطافه متطاطئًا. قال الشاعر: أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم عصا تحنى عليها الأصابع أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب كأني كلما قمت راكع وأما السجود فهو التطامن والميل إلى الأرض والانخفاض. تقول العرب سجدت الدابة وأسجدت إذا خفضت رأسها لتركب. وسجدت النخلة إذا مالت. قال زيد الخيل: بجيش تظل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدًا للحوافر والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الدليل على وجوب الركوع والسجود قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬3). ولأن ¬

_ (¬1) هذا السؤال ساقط من جميع النسخ - وأثبتناه بناء على ما جاء في الشرح. (¬2) المقدار -و-. (¬3) سورة الحج، الآية: 77.

النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى ركع وسجد وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي (¬1). وأجمعت الأمة على وجوبهما. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في إيجاب الطمأنينة في الكروع والسجود. فأثبت الشافعي وجوبها ونفاه أبو حنيفة. والمذهب على قولين عندنا. أحدهما إيجابها، والثاني إثباتها فضيلة. فأما نفاة الإيجاب (¬2) فيعتمدون على قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬3). فيقصر الواجب (¬4) على ما يسمى ركوعًا وسجودًا. والركوع والسجود العاريان من الطمأنينة يسميان ركوعًا وسجودًا. وأما الموجبون فيعتمدون على قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي علمه الصلاة: ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تطمئن قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا (¬5). فمن قال إن الأمر على الوجوب استدل بمجرد هذه الأوامر. ومن وقف فيه أو حمل الأمر فيه (¬6) على الندب استدل على الوجوب بسياق الحديث. فإنه لما صلى قال له - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فصل فإنك لم تصل". وتكرر منه هذا إلى أن قال: علمني فعلمه ما ذكرناه. فلو خلط له (¬7) الوجوب بالندب لم يستبن المعنى الذي يكون بتركه غير فصل. وهذا على أن معنى قوله لم تصل: أي صلاة جازية. وقد ذم - صلى الله عليه وسلم - صلاة المنافقين وقال في الحديث: قام أحدهم فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا (¬8). وظاهر هذا ذم الاقتصار على النقر. ومن لم يطمئن فإنه في حكم من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم. وهو طرف من حديث مالك ابن الحويرث في كتاب الآذان. ورواه أحمد ج 5 ص 53. (¬2) الوجوب -و-. (¬3) سورة الحج، الآية: 77. (¬4) الوجوب - و - ق -. (¬5) متفق عليه من حديث أبي هريرة. انظر الهداية ج 3 ص 11. (¬6) أو حمله على الندب -ح-. (¬7) له = ساقطة -و-. (¬8) أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك. وفي ختامه (تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا) =

نقر. فأما نفاة الإيجاب من أصحاب أبي حنيفة فإنهم ينفصلون عن هذا بأن القرآن اقتضى الاقتصار على ما يسمى ركوعًا وسجودًا. فإذا جاء خبر واحد بزيادة عليه كان نسخًا. والنسخ لا يكون بخبر الواحد. وأما نفاة الإيجاب من أصحاب مالك فقد يقولون يمكن أن يكون الأعرابي قد أحل بالطمأنينة فأمره (¬1) النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة على جهة التغليظ حتى لا يتعود ترك أمر مشروع وليأتي بصلاة كاملة. وعلمه صفة الصلاة الكاملة. ويعتضدون في هذا التأويل بأن يقولوا لو كان ما أحل به مفسدًا للصلاة لأمره بالقطع ولم يتركه يتمادى على صلاة فاسدة وهو يراه وكرر فعلها بحضرته. فلما أقره على التمادي أشعر ذلك بأنه لم يفسد صلاته بما تركه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الواجب من الطمأنينة أدنى لبث، كما ذكره القاضي أبو محمَّد ها هنا. فإن زاد على أدنى لبث. فذكر ابن شعبان أن من الناس من يقول بوجوبه وكأنه يرى (¬2) الطمأنينة وجبت وجوبا موسعا. ومنهم من يقول إن الزائد نافلة. وكان هؤلاء وصفوه بهذا لما جاز تركه إلى غير بدل. وسنبسط الكلام على هذا في قصر المسافر إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في رفع الرأس من الركوع. فذهب الشافعي إلى إيجابه. وذهب أبو حنيفة إلى سقوط وجوبه. وصحح صلاة من خر راكعًا إلى سجدته. والمذهب عندنا على قولين: أحدهما أنه فرض. والثاني أنه سنة. فروى ابن القاسم عن مالك أنه يتمادى ويعيد. فكأنه رأى (¬3) التمادي مراعاة للخلاف. وروى عنه ابن زياد أنه لا يعيد فكأنه رآه لم (¬4) يخل بفرض. فلهذا تصح صلاته. فحجة الوجوب قوله: في حديث ¬

_ = حديث رقم 195 من كتاب المساجد ومواضع الصلاة. كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد. (¬1) وأمره في -ح-. (¬2) رأى -ح-. (¬3) رأى أن -و-. (¬4) رأى أنه لم يخل - و - ق -.

الأعرابي ثم ارفع حتى تطمئن قائمًا. فأمره بالرفع من الركوع وعلمه إياه. والظاهر إيجاب كل (¬1) ما علمه لما بيناه. ولأنه عليه السلام ركع ورفع. وظاهر فعله يقتضي الوجوب ها هنا. وأما نفاة الإيجاب فلا أعلم لهم ظاهرًا يتمسكون به. ولعلمهم لما سمعوا الله سبحانه وتعالى يقول: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬2). وكأن الركوع في اللغة هو الانحناء على ما بيناه لم يثبتوا في الركوع زيادة على ما ورد به ظاهر الآية. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: قد قدمنا اختلاف المذهب في إيجاب الرفع من الركوع فإن لم نقل بإيجابه وهو مذهب أبي حنيفة لم نوجب الاعتدال الذي هو فرع عنه. وإن قلنا بإيجابه وهو مذهب الشافعي، فهل يجب الاعتدال أم لا؟ ذكر القاضي أبو محمَّد في كتابه هذا: أن الاعتد الذي القيام للفصل مختلف فيه. قال والأولى أن يجب منه ما كان إلى القيام أقرب. وقد ذكر ابن القصار عن بعض أصحابنا إيجاب ما كان إلى القيام أقرب على حسب ما اختاره القاضي أبو محمَّد. ولابن القاسم فيمن رفع من الركوع والسجود ولم يعتدل، أن صلاته تجزيه ويستغفر الله ولا يعود. ولأشهب أن صلاته غير صحيحة. فمن أوجب الاعتدال يعتمد على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصح صلاة لا يقيم فيها صلبه من الركوع والسجود" (¬3). وأما من نفى الإيجاب فعندي أنه رأى أن القصد بالرفع من الركوع الفصل بينه وبين السجود. والفصل في ذلك يحصل بالرفع وإن لم يعتدل. فإذا حصل الغرض المقصود لم يكن معنى لزيادة أمر آخر عليه في الوجوب. وكأن القاضي أبا محمَّد رأى أن ما قارب الشيء فحكمه حكمه. فإذا رفع رفعا هو إلى القيام أقرب، حكم له بحكم القيام لمقاربته (¬4) إياه وإن كان إلى الركوع أقرب كان كحكم الراكع الذي لم يرفع، ¬

_ (¬1) كل = ساقطة - و - ق -. (¬2) سورة الحج، الآية: 77. (¬3) لفظه: لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره من الركوع والسجود. وراه أبو داود والنسائي والدارقطني والترمذي. وقال حسن صحيح. ورواه البيهقي وصححه. نصب الراية ج 1 ص 180. (¬4) مقارنته - ح - و -.

ولم يوجد منه فصل بين الركوع والسجود. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما الفصل بين السجدتين فواجب باتفاق. فإن قيل لم اتفق على وجوبه واختلف في وجوب الفصل بين الركوع والسجود؟ قيل لاختلاف شكل الركوع وشكل السجود. لأن الركوع انحناء الظهر والسجود إلصاق الوجه بالأرض. فالفصل بينهما حاصل إذا ركع وإن لم يرفع رأسه. والسجدة الواحدة وإن طالت لا تتصور سجدتين فلا بد من الفصل بين السجدتين حتى تكونا اثنتين لا واحدة. هذا وجه الاتفاق على وجوب الفصل بين السجدتين والاختلاف في إيجاب الفصل بين الركوع والسجود. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما أبو حنيفة فإنه يوجب الفصل بين السجدتين بأن يرفع وجهه من الأرض ولو بمقدار حد السيف. وأما القاضي أبو محمَّد فإنه أشار في كتابه هذا إلى اختيار إيجاب ما كان إلى الجلوس أقرب. وأجرى حكم الفصل بين السجدتين مجرى حكم الفصل بين الركوع والسجود. وقد قدمنا قبل هذا اختلاف ابن القاسم وأشهب فيمن رفع رأسه من الركوع ولم يعتدل، هل تصح صلاته أم لا؟ من غير تحديد منهما في مقدار الرفع. وذكرنا توجيه ذلك وما قدمناه من الكلام على ذلك فنحو منه. وإذا أوجبنا الاعتد الذي هذه الفواصل، فيختلف في الطمأنينة على حسب ما تقدم. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: اختلف الناس في مقدار الواجب من الوجه فقال بعض أصحابنا: من اقتصر على الأنف أو الجبهة صلاته باطلة. وظاهر هذا إيجاب السجود عليهما. وحكى أبو الفرج أنه لا تجب إعادة الصلاة أبدًا في الاقتصار على أحدهما. وظاهر هذا تعلق الوجوب بأحدهما على البدل. وقال أبو حنيفة إن الوجوب متعلق بأحدهما قال ابن المنذر: "لا أعلم أحدًا قال هذا القول قبله ولا بعده. والمشهور من مذهبنا وهو مذهب الشافعي تعلق الوجوب بالجبهة. وقد خالف أبو حنيفة صاحباه (¬1). وقالا بمثل قولنا هذا. فأما أبو حنيفة فتعلق بقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}. والمقتصر على الجبهة أو ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. والصواب: وقد خالف أبا حنيفة صاحباه.

الأنف (¬1) يسمى ساجدا. وهو ممن لا يقبل في الزيادة على الكتاب خبر الواحد. لأنه يراه نسخًا. وأما الموجبون للجميع (¬2) فيحتجون بقوله عليه السلام: لا صلاة لمن لم يصب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين (¬3). وفي الحديث: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. فذكر الجبهة وأشار إلى الأنف (¬4) وهذا يشير إلى اشتراكهما في هذا الحكم. وأما من اقتصر في الوجوب على الجهبة فلقوله عليه الصلاة والسلام: ومكن جبهتك من الأرض (¬5). وهذا يشعر بقصر الوجوب عليها في السجود. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما اليدان فقد قال سحنون اختلف أصحابنا في الساجد إذا لم يرفع يديه عند رفعه للسجدة الثانية. فمنهم من قال: لا تصح صلاته لما جاء أن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه (¬6). ومنهم من خفف ذلك. وقد اختلف قول الشافعي في إيجاب السجود على اليدين والركبتين والرجلين. وقال ابن القصار الذي يقوى في نفسي: أن السجود على الركبتين وأطراف القدمين سنة في المذهب وهو مذهب أبي حنيفة. واحد قولي الشافعي. فكأن الموجبين يحملون قوله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وذكر اليدين والركبتين والرجلين والجبهة، على أن المراد به أوجب ذلك علي. وهذا يقوى على طريقة من قال: المندوب إليه ليس بمأمور به. وكأن الآخرين ¬

_ (¬1) أو الأنف = ساقطة -و-. (¬2) للجمع -و-. (¬3) رواه الدارقطني عن ابن عباس. واختلف في إرساله وإسناده. والإسناد من أبي قتيبة وهو ثقة. وزيادة من الثقة مقبولة. نصب الراية ج 1 ص 382. (¬4) رواه مسلم عن ابن عباس بلفظ: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم الجبهة. إكمال الإكمال ج 2 ص 212. (¬5) هو من حديث تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي لم يحسن الصلاة. البيهقي ج 2 ص 102. (¬6) رواه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من وضع جبهته بالأرض فليضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته. ثم إذا رفع فليرفعهما فإن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه. الزرقاني عن الموطإ ج 1 ص 294 البيهقي ج 2 ص 107.

يرونه محتملًا للوجوب والندب. لأن المندوب إليه مأمور به عند بعض أهل الأصول، وإذا احتمل لم تكن فيه حجة على الوجوب. وإنما يثبتون وجوب السجود على الجبهة بدليل آخر. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: لا يجب كشف اليدين عندنا في السجود خلافًا للشافعي في أحد قوليه بإيجاب ذلك. ولنا عليه القياس على الركبتين والرجلين. فإنه لا يجب كشفهما. وقد ذكروا في الحديث لما ذكرت اليدان. ونحن وإن لم نوجب ذلك فإنا نستحسنه (¬1) ليخرج بكشفهما من الخلاف. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: اختلف الناس في السجود على كور العمامة فمنعه الشافعي. وأجازه أبو حنيفة ومالك. واشترط ابن حبيب أن يكون الكور قليل الطاقات. وهذا فيما شد على الجبهة لا فيما برز عنها. حتى منع من لصوقها بالأرض. فللجواز ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد على كور العمامة (¬2). وقياسًا على الركبتين والقدمين، فإن الستر فيهما جائز. وللمنع ما روي أنه نهى عن السجود على كور العمامة (¬3). وتأول بعض أصحابنا هذا على الكراهة. أو على أنه كور منع من لصوق الأنف بالأرض. وتأول الآخرون حديث الجواز على أنه فعل ذلك لعلة وعذر. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والجلوس والتسليم. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: ¬

_ (¬1) نستحبه - و - ق -. (¬2) روي بألفاظ متقاربة. رواه عبد الرزاق وأبو نعيم والطبراني وابن عدي. نصب الراية ج 1 ص 385. وقال البيهقي: وأصح شيء من ذلك ما روي عن الحسن البصري. البيهقي ج 2 ص 106. (¬3) روى البيهقي عن عياض بن عبد الله القرشي قال رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا سجد على كور عمامته فأومأ بيده ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته. وهذا المرسل شاهد لحديث صالح بن حيوان السبائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا سجد بجنبه وقد اعتم على جبهته فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبهنه. ثم روى آثارًا في المعنى. ج 2 ص 105.

1 - ما الدليل على وجوب الجلوس؟ 2 - وما مقدار الواجب منه؟ 3 - وما الدليل على وجوب التسليم؟ 4 - وهل يتعين أم لا؟ 5 - وإن تعين فما صفة (¬1) لفظه؟ 6 - وهل يتكرر التسليم أم لا؟ 7 - وما صفة الهيئة (¬2) التي يفعل عليها؟ الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما وجوب الجلوس فلأنه - صلى الله عليه وسلم -جل س في آخر صلاته وقال: صلو كما رأيتموني أصلي (¬3) .. وهذا يقتضي وجوبه. ولأن السلام واجب ولا بد له من محل ولا محل له إلا الجلوس. وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما مقدار الواجب منه، فقدر ما يوقع فيه السلام. وهكذا قال القاضي أبو محمَّد في كتابه هذا: أن الواجب منه قدر ما يعتدل فيه ويسلم. وإنما قلنا بوجوب هذا المقدار لما قدمناه من أن السلام واجب. ولا بد له من محل. ولا محل له إلا الجلوس. وهذا يقتضي وجوب هذا المقدار. وأما إيجاب ما زاد عليه فسنتكلم على سقوطه عند كلامنا على التشهد الثاني إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: الدليل على وجوب التسليم أنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلى، سلم من الصلاة (¬4). وفعله ها هنا يقتضي الوجوب لما قدمناه. ولأن الصلاة تفتقر إلى تحليل يخرج به منها. كما افتقرت إلى تحريم يدخل به فيها. ولما كان التحريم واجبا كان التحليل واجبا. ¬

_ (¬1) ما صفة -ح-. (¬2) وما الهيئة -ح-. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن يساره. ج 2 ص 88. عن عائشة أنه كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن. ج 2 ص 89.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: مذهب مالك والشافعي أن التحليل من الصلاة يتعين بالتسليم. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يتعين وأنه يتحلل من الصلاة بكل معنى يضادها كالحدث وما في معناه. وذكر عن ابن القاسم أن من أحدث في آخر صلاته في التشهد أن صلاته صحيحة. قال أبو الوليد الباجي وهذا يقرب من قول أبي حنيفة. وهذا الذي ذكر أبو الوليد أنه يقرب من قول أبي حنيفة إنما يصح تأويله فيه على أن ابن القاسم ذكر ذلك فيمن أحدث متعمدًا قاصدا بذلك الخروج (¬1) من الصلاة لأن أبا حنيفة إنما يقول ذلك فيما قصد به الخروج من الصلاة. وأما (¬2) وقوع ما يضادها من غير قصد إليه فإنه لا يكون عنده تحليلًا. وسبب الاختلاف في ذلك يقرب مما قدمناه من القول في تعين تكبيرة الإحرام. وإن من لزم الاتباع عَيَّنَ التحليل والتحريم ومن استعمل القياس لم يعين فيهما. وهكذا الاختلاف أيضًا في السلام. هل هو من نفس الصلاة أم لا؟ يقال فيه ما قلناه في تكبيرة الإحرام. وقد استدل أصحابنا على التعيين بقوله وتحليلها التسليم (¬3) وهذا يقتضي قصر التحليل على التسليم لأنه حصر التحليل في التسليم. واستدل المخالف على نفي التعيين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رفع الإِمام رأسه من السجدة الأخيرة وقعد، ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته (¬4). وهذا الحديث لم يسلم له ثبوته فلا يلزم تأويله واستدلوا أيضًا بما وقع في الحديث في الشاك كم صلى؟ واتفق إن وقعت زيادته على أكثر أن الركعة والسجدتين نافلة قالوا فلو كان لا بد من ¬

_ (¬1) للخروج -ح-. (¬2) وإنما -ح-. (¬3) روي مسندا عن علي وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن زيد وابن عباس أخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي. وقال المسند إلى علي أصح شيء في هذا الباب وأحسنه. نصب الراية ج 1ص 307. (¬4) لفظه إذا قضى الإِمام الصلاة فقعد فأحدث قبل أن يتكلم قد تمت صلاته ومن كان خلفه. رواه الترمذي وإسناده ليس بالقوي. نصب الراية ج 2 ص 63.

السلام ولا يصح التحلل إلا به لكانت هذه الزيادة مفسدة. ولا يؤمر بإصلاح يؤدي إلى إفساد (¬1). وهذا الذي قالوه لا يلزم. لأن الزيادة غير متحقق كونها نافلة وباطلة. وإنما ذكر في الحديث كونها نافلة تقديرًا لا تحقيقًا. وبإزاء تركها مخافة أن تكون نافلة إيجاب فعلها مخافة أن تكون واجبة. ومن شك هل فعل؟ حكم بأنه لم يفعل. لأن الأصل عدم الفعل. ومن تحقق أنه لم يفعل الركعة الرابعة فيجب عليه فعلها إجماعا. فلا معنى لاستدلالهم بهذا الحديث. واستدلوا أيضًا بأن المأموم يقضي ما فاته قبل السلام. فلو كان من الصلاة ولا يصح التحلل إلا به لوجب متابعة الإِمام فيه. وهذا لا يلزم. لأن ترك المتابعة إنما يسقط لما بقي على المأموم من الصلاة. والباقي عليه منها واجب اتصاله بما مضى. ولا يصح أن يفرق بينهما بقاطع محلل. فلهذا لم تلزم المتابعة للإمام في السلام، على الفور. واستدلوا أيضًا بأن الصوم لما ضاده الأكل وخرج منه به، خرج منه بالليل وإن لم يقع أكل. وهذا غير صحيح لأن مناقضة الليل للصوم لا يشترط فيها القصد. وهم يشترطون في الحدث القصد. على أن الصوم يفتقر مبدؤه إلى تصرم الليل. فكذلك منتهاه ينقطع بدخوله. والصلاة لما افتقر مبدؤها إلى نطق، افتقر منتهاها إلى نطق. وقد قال بعض من اشترط التعيين أن الصلاة مبنية على الاحترام والتعظيم. وقصد الحدث ينافي التعظيم. ولا يليق بمحاسن الشرع أن يجعل محللًا من الصلاة. وقد أنكر القفال كون (¬2) السلام مضادًا للصلاة. ولو قيل له فما باله ينقضها في أثنائها؟ لقال كما تنقضها الركعة والسجدة في غير موضعها. وإذا صح ما قاله القف الذي منع المضادة انسد باب القياس الذي حاولوه لفقد ما قالوه من معنى الأصل. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما السلام من الصلاة فلفظه متعين وصورته السلام عليكم. فإن نكر السلام ونونه فقال: = سلام عليكم = فذكر القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا أنه لا يجزيه. وذكر ابن شعبان عن ¬

_ (¬1) فساد -و -ق-. (¬2) أن يكون -و-.

بعض الناس: أنه يجزيه. وهو أحد قولي الشافعي. وقد قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد في الإِمام المُنكر للسلام لا يجزيه. وقال ابن شبلون يجزيه. فمن منع الإجزاء اعتمد على أنه هو المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبه مضى العمل. فالاتباع فيه واجب على حسب ما قلناه في تكبيرة الإحرام. وقال ابن شعبان الأولى أن يقال: السلام عليكم لأن السلام هو الله سبحانه. وأما من نكّر فكأنه رأى المعنى متقاربًا. فوجب لتقاربه أن يقع الاعتداد به. وهذا يبعد على أصولنا التي قدمناها في وجوب تعيين لفظ التكبير. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما الإِمام والفذ فيسلمان تسليمة واحدة في المشهور من المذهب. وروي عن مالك أن كل واحد منهما يسلم تسليمتين ولا يسلم المأموم حتى يفرغ الإِمام منهما. وبإثبات تسليمتين فيهما، قال أبو حنيفة والشافعي والحسن بن صالح وابن حنبل. واختلف هؤلاء في التسليمة الثانية هل هي واجبة أو مندوب إليها؟ فقال الحسن بن صالح وابن حنبل بوجوبها. وقال من قدمنا ذكره من مثبتيها بالندب إليها. وسبب الاختلاف في ثبوتها اختلاف الأحاديث. ففي بعضها أنه سلم واحدة (¬1). قال بعض المحدثين ولا يثبت ذلك. وفي بعضها أنه سلم تسليمتين (¬2) إحداهما عن يمينه والأخرى عن شماله. ودليلنا على نفي الوجوب أن التحليل، يحصل بالتسليمة الأولى ولا يجب تكرارها كما لم (¬3) يجب تكرار التحريم. وأما المأموم فيسلم تسليمتين إحداهما للتحليل من الصلاة والثانية يرد بها على الإِمام. وهل يسلم ثالثة أم لا يرد بها (¬4) على من كان على يساره. المشهور إثباتها. قال القاضي أبو محمَّد: في غير كتابه هذا: ذلك مختلف فيه. فإن أثبتناه ¬

_ (¬1) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم والدارقطني. وانفصل صاحب نصب الراية على ضعفه. ج 1 ص 433. كما رواه البيهقي ج 2 ص 179. (¬2) عن ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعن واثبة ابن الأصقع وجابر بن سمرة. رواه مسلم وأبو داود والترمذي. نصب الراية ج 1 ص 432. (¬3) لا -و-. (¬4) يرد بها = ساقطة - و - ق -.

فلأن الإِمام ينفرد بحكم عن المأمومين (¬1) *فأفرد بسلام يختص به دونهم، كما انفردت تسليمة الرد عليه عن تسليمة التحليل لما اختلف حكماهما. وإن نفيناه فلأنه كما جاز أن يجمع جماعة من المأمومين* (¬2) في الرد عليهم. جاز أن يجمع الإِمام معهم ولا يلزمه إفراده كما لا يلزمه إفراد كل مأموم بسلام. فإن قلنا بالمشهور الذي حكيناه من إثبات تسليمة ثالثة. فبأي سلامي الرد يبدأ؟ قيل بالإمام لأنه السابق بالسلام فكان أولى أن يقدم في الرد وقيل لمن على اليسار. وحكى القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا التخيير بينهم. فكأن هذا المخيِّر لم يلُح له ترجيح بينهما فخير فيهما. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: روي عن مالك أن المأموم يجهر بتسليمة التحليل جهرًا يسمع نفسه ومن يليه ويخفي تسليمة الرد على من على يساره. قال لئلا يقتدى به في ذلك. قال بعضهم بالتسليمة الأولى يستدعي الرد. واستدعاء الرد يفتقر إلى الجهر. وتسليمة الرد لا يستدعى بها رد. فلم يفتقر إلى الجهر. والإمام والفذ يسلمان قبالة وجوههما ويتيامنان قليلًا وأما المأموم فقال الشيخ أبو محمَّد يسلم عن يمينه. وهكذا ظاهر رواية ابن القاسم لأنه قال فيه (¬3) يتيامن ولم يقل قبالة وجهه. وأما من فاته بعض الصلاة فقام لقضائه فهل يخاطب بتسليمة الرد أم لا؟ اختلف فيه قول مالك وعلل بعض المتأخرين ثبوته بأن حكم الإِمام باق عليه في حكم قضائه. فكان الإِمام لم يفرغ بعد من صلاته. وعلل نفيه بأن من سنة الروإلاتصال بسلام الابتداء. فإذا عدم الاتصال لم يثبت الرد. وهذا اعتلال يقتضي تصور الاختلاف في الرد، وإن كان من يرد عليه حاضرًا لم يذهب. وأشار بعض أشياخي إلى أن الاختلاف (¬4) لا يتصور مع حضور من يرد عليه وإنما يتصور مع غيبته. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وقد بينا وجوب النية واستقبال القبلة. ¬

_ (¬1) عن المأموم -و-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -ح-. (¬3) فيه = ساقطة -ح-. (¬4) الخلاف -ح-.

والواجب المعتد به من النية (¬1) ما قارن تكبيرة الإحرام سواء ابتديتا (¬2) في حال أو تقدمت النية واستصحبت ذكرًا إلى التكبير. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن المعتد به في النية ما قارن الإحرام؟ 2 - وما معنى قوله واستصحب ذكرًا؟ الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في زمان النية. فالمشهور عندنا ما ذكره القاضي أبو محمَّد من قصر الوجوب على حالة الإحرام. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يجوز تقديمها على الإحرام بالزمن اليسير. وبعض أشياخي يشير إلى تخريج الخلاف (¬3) عندنا في هذا. وقد قدمنا الكلام على أن تخريج الخلاف في ذلك من الاختلاف في تقدم (¬4) نية الطهارة عليها بالزمن اليسير. وقد ينفصل عنه بأن النية في الصلاة آكد، للإجماع على وجوبها. وأن الطهارة لما اختلف في إيجاب (¬5) النية فيها أمكن أن يتساهل في جواز التقدمة للنية بالزمن اليسير. وذهب داود إلى أن من شرط النية تقدمها على تكبير الإحرام وأن لا يكونا معًا، تخيلا منه أن إباحة المقارنة تؤدي إلى أن يقع جزء من التكبير عاريًا من النية. وهذا لا يسلم له لأنا اشترطنا وقوعهما معًا. وذلك غير مستحيل. وما لا يستحيل لا يمتنع وجوده. وأما أبو حنيفة فإنا نرد عليه بأن النية عرض والعرض لا يبقى. وإذا تقدمت وعدمت، وقع الفعل عاريا من النية. فلا يفيد إذن قرب المتقدم. ولا فرق بين القرب والبعد لأن الغرض بالنية تخصيص الفعل بأحد الأنحاء التي (¬6) يمكن ¬

_ (¬1) في النية -و-. (¬2) ابتديتا في ح الذي -ح- وابتديا في ح الذي -ق- وابتدأ به في حال واحد في تحقيق الغاني وفي -و-. (¬3) الاختلاف -ح-. (¬4) تقدمة -و-. (¬5) وجوب في -ح-. (¬6) الذي -و-.

وقوعها عليها. وإذا وقع عاريا لم يتخصص بذلك. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما قيد بقوله ذكرًا لأن النية قد تستصحب حكمًا كمن افتتح الصلاة بنية ثم ذهل عن النية في بعض أثناء الركعات، فإن صلاته صحيحة لأن النية مستصحبة فيما ذهل عنه من جهة الحكم والشرع. فلما كان الاستصحاب قد يكون حكمًا كما مثلناه وهو لا ينفع قبل الدخول في الصلاة لما بيناه، قيد بقوله ذكرًا تحرزًا من هذا. وهو إذا استصحبها ذكرًا (¬1) فكأنه مجدد للنية حين الإحرام. فعاد الأمر لما قلناه من وجوب المقارنة للنية بتكبيرة الإحرام. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولفظ التكبير متعين وهو أن يقول الله أكبر لا يجزي غيره من قوله الله الأكبر أو أجل أو أعظم (¬2). والواجب من القراءة متعين وهو فاتحة الكتاب لا يجوز (¬3) غيرها في كل ركعة. هذا هو الصحيح من المذهب *وقول آخر الاكتفاء بأكثر الصلاة أو نصفها أو بعضها وهي ضعيفة في المذهب* (¬4) والاعتد الذي الركوع والسجود واجب. ويجزي منه أدنى لبث ولم نعده فرضًا زائدًا على الركوع والسجود. لأن اسمهما قد تضمنه. ويسجد على جبهته وأنفه. فإن ترك الجبهة فلا يجزيه وإن اقتصر عليها أجزاه. والاعتد الذي القيام للفصل بينهما مختلف فيه والأولى أن يجب منه ما كان إلى القيام أقرب. وكذلك في الجلسة بين السجدتين. والواجب من التسليم مرة ولفظه متعين. وهو أن يقول السلام عليكم لا يجزي غيره. وقدر القيام الواجب ما يكبر فيه للإحرام ويقرأ أم الكتاب. وما زاد على ذلك مسنون. ومن الجلوس قدر ما يعتدل ويسلم وما زاد على ذلك مسنون. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: جميع ما في هذا الأصل قد فرغنا نحن من الكلام عليه في مواضعه المتقدمة. ورأينا أن ذلك أقرب تناولًا لمن أحب ¬

_ (¬1) ذكرا = ساقطة -و-. (¬2) قوله الأكبر أو الأجل أو الأعظم -غ- قوله الأكبر أو أجل أو أعظم- الغاني-. (¬3) لا يجزئ غيرها -الغاني -غ-. (¬4) ما بين النجمين مثبت -بالغاني- فقط.

المطالعة وأسل للحفظ (¬1). فلما ذكرنا التحريم استوفينا جميع المسائل المتعلقة به التي منها ما ذكر في هذا الفصل من وجوب التعيين. وكذا صنعنا في القراءة ليكلون له الأخذ في النظر في مسألة قد استوعب جميع فروعها قبل أن ينتقل إلى غيرها. ولكن ننبهك هنا على رموز القاضي أبي محمَّد في هذا الفصل لتستدل بذلك على سعة علمه. فمن ذلك أنه لما ذكر وجوب التعيين في الإحرام *مثل فيما يمنع* (¬2) مما خالف التعيين بقوله: الله أكبر أو أجل أو أعظم ليشعر بذلك مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة جميعًا؛ لأن الشافعي لا يجيز أجل وأعظم ويجيزها أبو حنيفة. وأما أكبر فيجيزانه جميعًا كما قدمنا. ومن ذلك قوله في القراءة إن الواجب منها متعين وهو فاتحة الكتاب. هذا أيضًا إشارة إلى ما قدمناه من أن أبا حنيفة، يرى حصول الإجزاء بجميع آي القرآن. ومن ذلك قوله: في كل ركعة. هذا هو الصحيح من المذهب. فهذا أيضًا إشارة إلى ما قدمناه من الاختلاف الكثير في المذهب. ومن ذلك قوله والاعتد الذي الركوع والسجود واجب ويجزي منه أدنى لبث. ومراده بالاعتدال هنا الطمأنينة. وفي قوله أدنى لبث، تنبيه على ما كنا قدمناه من الكلام على مقدار الواجب من الطمأنينة. ومن ذلك قوله الواجب من التسليم -مرة- فيه إشارة إلى مذهب ابن حنبل الموجب تسليمتين كما قدمناه. وفي قوله ولفظه معين وهو أن يقول السلام عليكم مرة، فيه إشارة إلى ما قدمناه من الاختلاف في السلام المُنكر. وفي قوله لا يجزئ غيرها، إشارة إلى ما قدمناه من مذهب أبي حنيفة من صحة التحلل بكل ما يضاد الصلاة. وما ذكره من أن الواجب من القيام قدر الإحرام وقراءة أم القرآن. قد قدمنا الكلام على وجوب القيام للإحرام، والقيام لقراءة الفاتحة مبني على القول بوجوبها. وقد تكلمنا على وجوب القيام على من لا يحسنها (¬3). فجميع ما اشتمل عليه الفصل الذي ذكرناه عنه قد مضى الكلام عليه موعبًا. فمن شاء معرفته فليطالعه هناك في مواضعه. ¬

_ (¬1) تحفظا -و - ح -. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬3) على من يحسنها -ح- وغير واضحة في -و-.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وسنن الصلاة اثنتا عشرة. وهي قراءة سورة مع أم الكتاب (¬1) والجهر بالقراءة في موضع الجهر، والإسرار بها في موضع الإسرار والاعتد الذي الفصل بين الأركان. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن قراءة سورة مع أم القرآن سنة؟. 2 - وهل تسن في الصلاة كلها أو في بعضها؟. 3 - وهل تنوب بعض السورة عن السورة؟. 4 - وهل تزاد مع السورة سورة أخرى؟. 5 - وهل تكون السورة السابقة للركعة السابقة؟. 6 - وما الدليل على أن الجهر والإسرار سنتان؟. 7 - وما مواضع الجهر والإسرار؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في حكم السورة التي مع أم القرآن. فذكر عن عمر رضي الله عنه وغيره (¬2) إيجاب قراءة زائدة على أم القرآن. ويحدها (¬3) عمر رضي الله عنه بثلاث آيات. والغير بما تيسر. وقد حاول الشيخ أبو الحسن اللخمي أن يخرج من المذهب قولًا بالإيجاب بقراءة السورة. واعتمد على قول عيسى: من ترك السورة (¬4) عامدًا أو جاهلًا أعاد الصلاة. وأظنه إنما اعتمد على هذه الرواية لما ذكر فيها ترك القراءة جهلًا. لأن القول بالإعادة مع العمد قد يحمل على طريقة القائلين بالإعادة لترك السنن عمدًا. وفي هذا التخريج نظر لأن المذهب اختلف في الجاهل هل هو كالعامد أو لا؟ فإذا قيل إنه كالعامد وكان تعمد (¬5) ترك السنن يوجب الإعادة لم يسلم له هذا التخريج. فإذا ثبت أن المعروف من المذهب أنها ليست بواجبة فقد اختلف ¬

_ (¬1) أم القرآن -الغاني. (¬2) وغيره = ساقطة -و-. (¬3) وحدها -و-. (¬4) القراءة -و-. (¬5) عمد.

المذهب هل هي سنة أو فضيلة؟ فالمشهور أن من تركها سهوًا سجد (¬1). وهذ ابن اء على أنها سنة. وروي عن مالك لا سجود عليه. وهذ ابن اء على أنها فضيلة. ودليلنا على سقوط الوجوب قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب (¬2). وهذا يقتضي جواز الاقتصار عليها. وأما الدليل على كونها مشروعة فما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة (¬3). وقوله لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدًا (¬4). وتأكدت دلالة هذه الظواهر حتى ألحقت (¬5) بالسنن ولم تبلغ دلالتها على القول الآخر إلى إلحاقها بالسنن فعدت من الفضائل. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: مذهبنا أنها إنما تكون سنة في ركعتين لا في أكثر خلافًا للشافعي في أحد قوليه إنها سنة في الأربع. وقد قال محمَّد بن عبد الحكم: من قرأها في الأخريين فقد أحسن. فلنا قوله كان يقرأ في الظهر والركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة وفي الأخريين بأم القرآن. وللشافعي وابن عبد الحكم قوله حزرنا قيامه في الركعتين الأوليين ثلاثين آية (¬6)، وفي الأخريين على النصف من ذلك وحزرنا قيامه في العصر في الركعتين الأوليين على قدر الأخريين من الظهر والأخريين من العصر على قدر ذلك. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف المذهب في الاقتصار ¬

_ (¬1) يسجد -ح-. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية. البخاري ومسلم اللؤلؤ والمرجان. حديث 260 وفتح الباري ج 2 ص 386 والأبي ج 2 ص 194. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) لحقت -و-. (¬6) روى مسلم بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: كنا نحزر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين في الظهر قدر قراءة {الم تَنْزِيلُ} [السجدة]- إكمال الإكمال ج 2 ص 195. كما رواه ابن ماجة في سننه وأحمد بإسناد ضعيف. انظر نصب الراية ج 2 ص 2 وسنن ابن ماجة حديث 828.

على بعض السورة التي مع أم القرآن. فقيل مكروه، وقيل جائز أن يقرأ أم القرآن وآية طويلة كآية الدين. فوجه الكراهة مضي العمل بقراءة سورة كاملة. وهذا ينقله الناس قوم بعد قوم. ومخالفة مثل هذا يكره. ووجه الجواز أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح بسورة المؤمنين. فلما جاء لذكر موسى وهارون أخذته سعلة. فركع (¬1). فلو كان مكروها لما ركع عليه. وهذا عندي قد تبين عذره - صلى الله عليه وسلم - فيه. فلا يحتج به على جواز فعل المختار. لكن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجزيء صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فصاعدًا" (¬2). ولم يحد هذا الصاعد. فيه إشارة إلى جواز الاقتصار على بعض السورة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: يجوز أن يقرأ مع أم القرآن سورتين وأكثر. ولكن الأفضل الاقتصار على *واحدة* (¬3). فأما الجواز فلقول ابن مسعود: لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهما وذكر عشرين سورة (¬4). وإنما اخترنا الاقتصار على واحدة لأن السورة تبع لأم القرآن. فكان الأحسن أن تكون واحدة *كما كانت أم القرآن واحدة* (¬5). ولكن العمل مضى به والأحسن متابعة العمل. وحديث ابن مسعود محمول على النوافل. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: يجوز أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة وفي الركعة الثانية بسورة قبلها في ترتيب المصاحف. لأن المشروع قراءة السورة مع أم القرآن. وهذا قد قرأ فيهما كذلك. ولكن المختار أن يقرأ سورة بعدها ليجري في رتبة الصلاة حذو رتبة المصاحف. ¬

_ (¬1) طرف من حديث رواه مسلم بسنده إلى عبد الله ابن السائب. إكمال الإكمال ج 2 ص 197. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) من هنا سقط من نسخة -ح- إلى قوله منها أن يقال هل ترفع اليدان - في مبحث فضائل الصلاة. (¬4) رواه مسلم بطرق مختلفة في بعضها النظائر التي كان يقرأ بهن سورتين في كل ركعة. وفي بعضها النظائر التي كان يقرن بينهن. إكمال الإكمال ج 2 ص 433 - 434. وفتح الباري ج 10 ص 117. (¬5) ما بين النجمين مثبت في -ق- ساقط من -و- ومن - ح من غيره.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الدليل على أن الجهر والإسرار سنتان ما نقل من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنوعها إلى إجهار وإسرار. ومضى عمل المسلمين على ذلك. فإن لم يدل ذلك على الوجوب لمعنى صرف عنه فأقل المراتب أن يدل على أن ذلك سنة كما قلناه. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما مواضع الإجهار، فصلاة الصبح وصلاة الجمعة والأوليان من المغرب والعشاء والعيدان والاستسقاء والوتر ما لم يمنع من الجهر مانع على ما سنبينه في مواضعه. وقد تكلمنا على الاعتد الذي الفصل بين الأركان فلا معنى لإعادته. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والتشهد الأول والجلوس له والتشهد الثاني والمختار من ألفاظ التشهد: تشهد عمر رضي الله عنه. ولفظه: التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله (¬1)، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله *وحده لا شريك له* (¬2) وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فأما الجلوس فالواجب منه قدر ما يسلم فيه وما يوقع فيه التشهد المسنون. وكذلك القيام الذي يقرأ فيه الزيادة على أم القرآن مسنون غير مفروض. والتكبير في كل خفض ورفع. وقوله سمع الله لمن حمده في الرفع من الركوع. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم نذكر سجود السهو لأنه يتنوع إلى واجب وسنة على ما نبينه. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن التشهد الأول والجلوس له سنتان؟. 2 - وهل يزاد على التشهد الأول؟. 3 - وما الدليل على أن التشهد الثاني والجلوس له سنتان؟. 4 - ولم اختار تشهد عمر رضي الله عنه؟. 5 - وما معنى التحيات الزاكيات الطيبات؟. ¬

_ (¬1) ورحمة الله وبركاته: في تحقيق الغاني. وفي -ق-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط من -غ-.

6 - وما الدليل على أن التكبير مسنون؟. 7 - وما الدليل على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنونة؟. 8 - وإلى ماذا أشار في قوله في سجود السهو أنه يتنوع على ما نبينه؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في التشهد والجلوس له. فقال فقهاء الأمصار هما سنتان. فذهب الليث وأبو ثور وأحمد بن حنبل وداود إلى أنهما واجبتان. وقال أبو الحسن اللخمي اختلف في الجلوس الأول. فقيل سنة وقيل فرض ويجزيء منه سجود السهو. وأشار إلى أن هذا الاختلاف الذي ذكره إنما هو مقصور على الجلوس خاصة. فإن كان أراد أن (¬1) *الاختلاف وقع في المذهب فإني لم أقف عليه. وإن كان أراد اختلاف الناس فإن اختلافهم إنما وقع في الجلوس والتشهد جميعًا على حسب ما حكيناه. ودليلنا على سقوط الوجوب فيهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين ولم يرجع إلى الجلوس والتشهد (¬2). ولو وجبا أو أحدهما لرجع إليه. فإن قيل فلعله إنما لم يرجع إليه لأنه لم يذكره. فقيل قد ذكر الترمذي أنهم سبحوا به (¬3). وهذا يقتضي أنه علم بسهوه لما سبحوا له. وإذا ثبت علمه به ولم يرجع إليه دل على سقوط وجوبه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: التشهد الأول. روى ابن زياد عن مالك رضي الله عنه أنه ليس بعد التشهد الأول موضع للدعاء. وروى ابن نافع أن له أن يدعو بما شاء. وقال الشعبي من زاد على التشهد سجد سجدتي السهو. وكأن الشعبي غلظ القول فيه حتى ألحق الاقتصار على التشهد بالسنن. ¬

_ (¬1) أراد أن = ساقطة -و-. (¬2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والدارمي ومالك. (¬3) الذي رواه الترمذي هو حديث الشعبي. قال: صلى بنا المغيرة ابن شعبة فنهض في الركعتين -الحديث- وعن زياد ابن علاقة قال: صلى بنا المغيرة ابن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح من خلفه. فأشار إليهم أن قوموا. فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم وقال: هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعلق عليه: حسن صحيح. عارضة الأحوذي ج 2 ص 160.

وقد يحتج له بقول ابن مسعود كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس في التشهد الأول كأنه على الرضف (¬1). وكأن مالكًا قاسه في أحد قوليه على التشهد الثاني وأجاز فيه الدعاء. وقد فرق بينهما بأن الجلوس الثاني قد كملت فيه الصلاة فيجلس (¬2) جلسة مطمئن يحسن فيه الدعاء. وهو في الجلسة الأولى غير مطمئن؛ لأنه متشوف للإتيان بما بقي عليه فلم يحسن الدعاء. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في التشهد الآخر والجلوس له. فقال مالك ليس بواجبين. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه. وقال الشافعي هما واجبان وروي ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما. وقد روى أبو مصعب عن مالك إيجاب التشهد الآخر. فالجلوس على هذا يجب كما قال الشافعي. وقال أبو حنيفة الجلوس بقدر التشهد واجب والتشهد في نفسه غير واجب. فأما مالك وأبو حنيفة فيحتجان على سقوط وجوب التشهد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه للأعرابي. ولو كان واجبًا لعلمه إياه. ولأن الأذكار المفعولة في الأركان كالركوع والسجود واجبة. فكذلك الذكر المفعول في التشهد. وقوإنفصل عن هذا القياس بأن القعود (¬3) لما كان يقع عادة وعبادة، فميز بين العادة والعبادة بإيجاب الذكر فيه. ألا ترى أن القيام لما كان عادة وعبادة ميزت العبادة عن العادة بإيجاب الذكر وهو القرآن. والركوع والسجود لا يقعان عادة. فلهذا لم يجب الذكر فيهما. فإذا سقط وجوب التشهد بما احتججنا به لمالك وأبي حنيفة. اعتبر مالك الجلوس بالتشهد لأنه إنما يراد له. فإذا سقط وجوب التشهد المراد سقط وجوب الجلوس الذي إنما يراد له. ولم يعتبر أبو حنيفة الجلوس بالتشهد كما قال مالك: بل قال بوجوبه خاصة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له. ولم يقم دليل على سقوط وجوبه كما قيل في التشهد. ويعتمد أيضًا على قوله لعبد الله بن مسعود: فإذا رفعت رأسك من السجود وقعدت قدر ¬

_ (¬1) عارضة الأحوذي ج 1 ص 161. حسنه الترمذي وصححه ابن العربي. ورواه أبو داود والنسائي وأحمد. (¬2) فجلسته. (¬3) بالقعود -و-.

التشهد فقد تمت صلاتك (¬1). وهذا يقتضي مراعاة قدر التشهد. وإن الصلاة تتم دون التشهد وأما الشافعي فإنه يعتمد على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتشهد. وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي. وعلى قول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده (¬2). الحديث. فقد أخبر ابن مسعود بكونه مفروضًا. وقوإنفصل عن هذا بأن -يفرض- بمعنى يقدر. ويحتج أيضًا بقوله قولوا التحيات لله. والأمر على الوجوب. وهذا لا يسلمه له من قال إن الأمر على الندب. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في المختار من لفظ التشهد. فاختار مالك رضي الله هـ تعالى عنه تشهد عمر بن الخطاب وهو التحيات لله. الزاكيات لله. الطيبات الصلوات لله. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. واختار الشافعي تشهد ابن عباس وهو التحيات المباركة، الصلوات الطيبات لله. سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. واختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود وهو التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن (¬3) محمدًا عبده ورسوله. ووافق أبا حنيفة الثوري وأبو ثور وأحمد وإسحاق وكل واحد من هؤلاء الفقهاء الثلاثة قد اعتمد فيما اختاره على حديث مشهور. ولكن اختلفت طرق الترجيح بهم. فرجح مالك رضي الله عنه ما اختاره بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه علمه الناس على المنبر. وما اشتهر هذا الاشتهار حتى قرأه عمر رضي الله عنه على المنبر بمحضر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكره أحد منهم، كان أولى أن يختار وأحق أن يتبع. ورجح الشافعي اختياره بأن رواية ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الأوسط وبين أن ذلك من قول ابن مسعود مجمع الزوائد ج 2 ص 142. (¬2) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 2 ص 138. (¬3) وأشهد أن -ق-.

كما يعلمنا السورة من القرآن (¬1) وهو متأخر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وهو حدث السنن. فالأظهر أن الذي سمعه هو آخر الأمرين والأخير من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع. ولأن فيه زيادة المباركات ولأن السلام فيه منكر وهو أكثر سلام القرآن. قال الله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (¬2) {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} (¬3) {سلام عليكم ادخلوا الجنة} (¬4) إلى غير ذلك مما يكثر. ورجح أبو حنيفة ما اختاره بأن رواية ابن مسعود رضي الله عنه قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي فعلمني التشهد (¬5). وقال عليه السلام أخذ جبريل بيدي فعلمني التشهد. وهذا يقتضي العناية بنقله والضبط. وقد جرى التعليم عندهم على هذا الأسلوب. فقال محمَّد بن الحسن أخذ بيدي أبو يوسف فعلمني هذا التشهد. وقال أخذ بيدي أبو حنيفة فعلمنيه. وقال أبو حنيفة أخذ بيدي حماد فعلمنيه. وقال حماد أخذ بيدي إبراهيم فعلمنيه. وقال إبراهيم أخذ بيدي علقمة فعلمنيه. وقال علقمة أخذ بيدي ابن مسعود فعلمنيه. وأخذ بيد ابن مسعود النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبيد النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام كما قدمناه. ولأنه جاء بحرف الواو وهي قد تفيد معنى لا يفيده حذفها فكانت زيادتها أولى. وقد اختلفت إشارات أصحابنا إلى حقيقة اختيار مالك لتشهد عمر رضي الله عنه. فأشار بعض البغداديين إلى تأكد هذا الاختيار حتى كأنه يرى ما سواه ليس بمشروع. وأشار الداودي إلى أنه على جهة الاستحسان وإيثار هذا التشهد. وقد روي عن مالك أنه استحسن أن يعاد من هذا التشهد عند التسليم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ويكون السلام من الصلاة بعقب ذلك. وقال ابن مسلمة إنما اختار هذا: لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما من فعل ذلك. وليس من المسنون عندنا التسمية في افتتاح التشهد. واستحبها بعض أصحاب الشافعي فقال بسم الله التحيات لله. وقد روي ذلك عن علي ¬

_ (¬1) رواه أحمد ورجاله ثقات. مجمع الزوائد ج 2 ص 139. والحاكم ج 1 ص 267. (¬2) سورة الرعد، الآية: 27. (¬3) سورة الزمر، الآية: 73. (¬4) سورة النحل، الآية: 32. (¬5) أخرجه أحمد بلفظ. علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد بين كفيه. بلوغ الأماني ج 4 ص 5.

رضي الله عنه (¬1) كان إذا تشهد قال بسم الله خير الأسماء (¬2). ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - فليكن من أول قول أحدكم التحيات لله (¬3). وسمع ابن عباس رجلًا يقول بسم الله التحيات لله فانتهره. وقال ابن المنذر: ليس في الإخبار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر التسمية. فإن تعلق من أمر بذلك بقول جابر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك (¬4). قلنا قد قيل بعض رواته فيه ضعف. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: التحيات جمع تحية. والتحية الملك. وينشد لعمرو بن معدي كرب: أسير بها إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بخير أي على ملكه. قال النحاس الذي اعتمد عليه أهل اللغة: أن التحيات لله معناه الملك لله. وحياك الله ملكك الله. وأصل هذا أن الملك كان يحيَّى فيقال له: أبيت اللعن -ولا يحيَّى غيره. ثم سمى الملك تحية. إذ كانت التحية لا تكون إلا من الملوك. وقال غيره التحيات لله، البقاء لله. وقال زهير الكلبي: من كل ما نال الفتى قد ... نلته إلا التحية أي البقاء. وقال قوم التحيات السلام قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} (¬5). وقال الكميت ألا حييت عنا يا ردينا (¬6). ومعنى الزاكيات. أي الصالحات من الأعمال. ومعنى الطيبات أي الطيبات من القول. معنى الصلوات لله أي يراد بها وجه الله. وقيل معناها الرحمة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: التكبير عندنا مشروع في كل ¬

_ (¬1) عن علي رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه -ق-. (¬2) سنن البيهقي ج 2 ص 142. (¬3) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن حطاب ابن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى الأشعري. نصب الراية ج 1 ص 421. (¬4) رواه النسائي وابن ماجة والحاكم وصححه. وضعفه جماعة. ورجح النووي صحته. نصب الراية ج 1 ص 421. (¬5) سورة النساء، الآية: 86. (¬6) تمام البيت: نعمناكم مع الاصباح عينا.

خفض ورفع. وقال عمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وسعيد بن جبير لا يكبر إلا عنوإلافتتاح. ويذكر مثل هذا عن عكرمة. وليس هذا المذهب مما يعول عليه. وقد أجمع المسلمون في سائر الأمصار على مرور الأعصار على التكبير في كل خفض ورفع. وما نقل هذا النقل فلا وجه لإنكار كونه مشروعًا (¬1). وقد صلى أبو هريرة رضي الله عنه فكبر كلما خفض ورفع. فلما انصرف قال والله إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). فإذا ثبت أنه مشروع فقد قال بعض أصحابنا: ما سوى تكبيرة الإحرام من التكبير ليس بواجب. وقال بعض المتأخرين لعل المراد بهذا أنه ليس بشرط في صحة الصلاة. وإلا فرواية أصحابنا تقتضي وجوبه. وهذا الذي قاله من اقتضاء الرواية الوجوب قد يسلم له إذا قلنا فيمن ترك التكبير سهوًا أو سها أن يسجد عنه حتى طال، إن صلاته تنتقض. وأما إذا قلنا بقول أشهب في مدونته إن السجود من تركه لا يجب كما لا يجب في ترك التسبيح في الركوع والسجود. ويستحب أن يسجد بعد السلام. فإن هذا المذهب يقتضي أنه ليس بواجب على ما قال بعض أصحابنا الذين قدمنا قولهم. ويقتضي أيضًا أنه ليس بسنة. لأنه لم ير السجود منه واجبًا. وقد قال بوجوبه ووجوب التسبيح في الركوع والسجود أحمد وإسحاق وداود. وإن ترك شيء من ذلك يبطل الصلاة، إلا داود فإنه لا يرى إبطالها بذلك على حال. ودليلنا على سقوط الوجوب أنه عليه السلام علم الأعرابي الصلاة ولم يعلمه التكبير والتسبيح. ولو كان واجبًا لعلمه إياه كما علمه ما سواه. وأما القول سمع الله لمن حمده فداخل فيما ذكرناه من التكبير. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف الناس في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الآخر. فعندنا أنه مسنون. وعند الشافعي أنه واجب. وبه قال ابن المواز. فدليلنا على أنه ليس بواجب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ابن مسعود التشهد وقال له: إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد تمت صلاتك (¬3). فأشار إلى ¬

_ (¬1) هكذا بجميع النسخ. وفي التعبير شيء. (¬2) رواه البخاري ومسلم. فتح الباري ج 2 ص 416 وإكمال الإكمال ج 2 ص 146. (¬3) رواه أبو داود والبيهقي. ورجح البيهقي أن قوله: إذا قلت هذا أو قضيت هذا ... الخ =

تمامها دون الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. وأما من أوجبها فإنه تعلق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬1). وهذا محمول على الصلاة. إذ لا تجب الصلاة عليه في غير الصلاة. ويتعلق أيضًا بقوله: لا يقبل الله صلاة إلا بطهور وبالصلاة علي (¬2). والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: لما أشار القاضي أبو محمَّد إلى تنوع سجود السهو ووعد أنه سيبينه، فإنه إنما ذكر في باب السهو السجود الذي تبطل الصلاة بتركه والذي لا تبطل. فكأنه يشير إلى أن ما بطلت الصلاة بتركه هو الواجب، وما لا تبطل بتركه هو السنة. وسنوعب الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وفضائلها سبع وهي رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام إلى المنكبين لا إلى الأذنين. وعنه في رفعهما عند الركوع والرفع منه روايتان. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها *أن يقال: 1 - هل ترفع اليدان (¬3) في الصلاة أم لا؟. 2 - وإن رفعت في كم موضع ترفع؟. 3 - وما منتهى الرفع؟. 4 - وما صفته؟. 5 - وما معناه؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: المشهور عند العلماء وعن ¬

_ = هو مدرج من كذا من ابن مسعود. السنن ج 2 ص 174 - 175. ونصب الراية ج 1 ص 425. (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 56. (¬2) ابن ماجة رقم 400. والحاكم في المسندرك ج 1 ص 269. وفي إسناده مقال. (¬3) من النجم انتهى النقص بالنسخة -ح- فتمت المقابلة في ما يلي على جميع النسخ.

مالك (¬1) رضي الله عنه إثبات الرفع على الجملة. وروى ابن شعبان عن ابن القاسم عن مالك النهي عن الرفع أصلًا. وتأوله بعض أصحابنا على المدونة لما ذكر الرفع وضعفه. والدليل على ثبوته على الجملة ما ورد في الحديث الصحيح من رفعه (¬2) - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة فكأنه من حكمه أن يقترن به عمل كالسلام. وقد يتعلق في النهي عن الرفع على الإطلاق بقول جابر بن سمرة كنا نرفع أيدينا في الصلاة ومر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس أسكنوا أيديكم في الصلاة" (¬3). وهذا على عمومه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الرواية عن مالك في ذلك. فروى ابن القاسم عنه الاقتصار في الرفع على تكبيرة الإحرام. وروى ابن عبد الحكم عنه زيادة الرفع عند الرفع من الركوع. وروى ابن وهب عنه زيادة على هذين الرفع عند الركوع. وقال ابن وهب بزيادة الرفع عند القيام إلى الثالثة. وبرواية ابن القاسم عنه قال أبو حنيفة وبرواية ابن وهب عنه قال الشافعي. فوجه الاقتصار في الرفع على تكبيرة الإحرام ما رواه علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه في أول الصلاة ثم لا يعيد (¬4). وأجيب عن هذا بأن الصحيح بأنه موقوف على علي رضي الله عنه. وروى البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب أذنيه ثم لا يعود (¬5). وأجيب عن هذا بأن عيينة قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد ولم يذكر فيه: ثم لا يعود. وقال الحميدي وغيره يزيد بن أبي زياد ساء حفظه في آخر عمره واختلط. وقال ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في افتتاح الصلاة، ثم لا ¬

_ (¬1) عند مالك -و-. (¬2) رواه أحمد والأربعة. والبيهقي. وقال الشوكاني لا مطعن في إسناده - الهداية ج 3 ص 166. (¬3) إكمال الإكمال ج 2 ص 181. (¬4) رواه البيهقي ج 2 ص 80. ووهن هذه الرواية بما ثبت عن علي بطريق أجود أن عليًا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفعهما عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع. (¬5) أبو داود. مختصر المنذري ح 720.

يعود (¬1). وروي عن ابن عمر وابن عباس موقوفًا عليهما ومرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الأعياد وتكبيرة القنوت وذكر أربعة في الحج (¬2). وعن ابن عباس أن العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ما كانوا يرفعون أيديهم إلا لافتتاح الصلاة. ولأنه تكبير للانتقال من حال إلى حال فلم ترفع فيه اليدان كالانتقال من الجلوس إلى السجود. ووجه رواية ابن وهب الحديث الثابت في الموطإ والبخاري ومسلم أن ابن عمر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إذا قام إلى الصلاة حتى يكونا حذو منكبيه (¬3). وكان يفعل ذلك حين يركع وحين يرفع من الركوع. ولأن الرفع شرع في تكبيرة القيام ولم يشرع للتكبير الذي ليس في حال القيام كتكبير السجود. والرافع من الركوع قائم. والرافع في حكم القائم. ألا ترى أن مدرك (¬4) الركوع مع الإِمام يكون كمدرك القيام. وإذا ثبت للركوع والرفع منه حالة القيام شرع التكبير فيه. ووجه رواية ابن عبد الحكم أن حديث ابن عمر الذي ذكرناه اختلفت رواة الموطإ فيه. فبعضهم لم يذكر رفع اليدين عنوإلانحناء للركوع، وإنما قال إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه. وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. وكان لا يفعل ذلك في السجود. فلما اختلف في إثبات الرفع عنوإلانحناء، الرواة، فأسقطه يبيح وأبو مصعب والقعنبي وأثبته ابن القاسم وابن المبارك وابن مهدي وغيرهم. ولم تثبت الحجة لما اختلف فيه الرواة هذا الاختلاف كما ثبت بما اتفقدا عليه. ولعله أيضًا قدر أن المنحني للركوع ليس بقائم على الحقيقة ¬

_ (¬1) وفي إسناده مقال وفي متنه اختلاف. نصب الراية ج 1 ص 390. (¬2) في مجمع الزوائد لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن حين يفتتح الصلاة وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت وحين يقوم على الصفا وحين يقوم على المروة وفيه وعند رمي الجمار. وإذا أقيمت الصلاة وفي الإسناد الأول محمَّد بن أبي ليلى وهو مبنى الحفظ وحديثه حسن إن شاء الله وفي الثاني عطاء بن السائب وقد اختلط. مجمع الزوائد ج 3 ص 238. (¬3) مالك والبخاري ومسلم وأحمد. الهداية ج 3 ص 105. (¬4) من أدرك - و - ق -.

والرفع إنما شرع في تكبيرة القيام. ووجه ما ذهب إليه ابن وهب رواية البخاري عن ابن عمر أنه كان يرفع إذا قام من ائنتين (¬1). ويذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. وقد ذكر في الرفع في تكبيرة السجود أحاديث. قال بعض الحذاق إنها لا تثبت. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في منتهى الرفع، فقيل حذو الصدر وقيل حذو المنكبين وقيل حذو الأذنين. والمشهور عن مالك حذو المنكبين. وبه قال الشافعي. وروى أشهب عن مالك حذو الصدر. وبحذو الأذنين قال أبو حنيفة. واختلفت الأحاديث على حسب اختلاف هذه الروايات. فقال بعض المحدثين هو بالخيار بين أن يرفع حذو منكبيه أو حذو أذنيه. وقال بعض أشياخي: يحمل اختلاف الأحاديث على التوسعة يفعل أي ذلك أحب. فروى ابن عمر الحديث المتقدم في الصحيح وفيه حذو المنكبين. وروى أبو حميد في عشرة من الصحابة أحدهم أبو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام اعتدل قائمًا ورفع يديه حتى يحاذي منكبيه (¬2). وروى مالك بن الحويرث ووائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حذو أذنيه (¬3). وقد استعمل بعض المتأخرين من أصحابنا هذا الاختلاف بين الأحاديث فقال كان يحاذي بكفيه منكبيه، وبأطراف أصابعه أذنيه فيكون مراد أحدهما بالمحاذاة غير مراد الآخر. وإن استعملنا الترجيح من قبل الإسناد قلنا: ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أصح من قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث. وقال بعضهم اختلفت الرواية عن مالك ووائل فروي عنهما أيضًا حذو منكبيه. فإما أن تتعارض الروايتان وتسقطان. وتبقى الرواية التي لا اختلاف فيها ولا معارض. وترجيح إحدى الروايتين المختلفتين بالموافق لها من الرواية التي لا اختلاف فيها. وهذا فيه اختلاف بين أهل الأصول وكلا القولين يؤديان إلى مطلوبنا. ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 2 ص 364. (¬2) رواه البخاري ومسلم: الهداية ج 3 ص 99. (¬3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد. الهداية ج 3 ص 115.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما صفة الرفع فالذي عليه العراقيون من أصحابنا اختيار كون اليدين قائمتين يحاذي بكفيه منكبيه وبأصابعه أذنيه لأن بهذا الشكل يتمكن من بناء الأحاديث المختلفة كما قدمناه، وهو الذي رأيت أشياخي يفعلونه. ولو لم يكن في اختياره إلا البعد عن التكلف لكان معنى يقتضي إيثاره ويحسّن اختياره. واختار سحنون كونهما مبسوطتين وبطونهما إلى جهة الأرض. وحكى عن بعض المتأخرين اختيار إقامة الكف مع ضم الأصابع لأنه زعم أن هذا الشكل فيه معنى حال الرهبة، وهو ما اختار سحنون. وفيه معنى من حال الرغبة وهي الإشارة بالكف نحو السماء والأمر في هذا قريب وإلى ما اختار أشياخي أميل. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما إبداء معنى معقول في الرفع فلا يلزم. ولم يشتغل بذلك مشاهير الأئمة. ولكن قال بعض أشياخي: القصد به إشعار النفس استعظام ما تدخل فيه. وكثيرًا ما يجري من الناس عند مفاجأة أمر يستعظم رفع اليدين كالفزع منه والمستهيل له. وقال بعض الخراسانيين إن رفع اليدين للمسؤول إنما يكون إذا اختلف مكان السائل من المسؤول وتباين مستقراهما. والباري سبحانه لا مكان له ولا مستقر. فكأن (¬1) هذه الحركة عنوإلافتتاح تسكين لوحشة النفس من سؤال من ليس في مكان (¬2)، وبسطًا لها للتضرع والسؤال إذا تحرك البدن بالحركات التي تألفها النفس عند سؤال من ارتفع قدره وعظم شأنه. هذا معنى ما فهمته من كلامه. وذكر عن بعض المتصوفة أن القصد بذلك إشعار النفس بنبذ أمور الدنيا وراء ظهره لتستقبل النفس طلب ما عند الله. وهذا الذي قاله هذا المتصوف إنما يناسبه من الأشكال المتقدمة ما اخترناه في حال الرفع لأن ذلك الشكل هو شكل النابذ للشيء وراء ظهره. وهذه الثلاثة أجوبة دائرة كلها على أن القصد إشعار النفس بأمر ما وهي معان تروق الذهن. وإن صحت وثبت أن قصد الشريعة ذلك، فذكرها ها هنا غرضنا به التنبيه على محاسن الشرع وعنايته بأن يمهد للنفس ¬

_ (¬1) فكانت -و-. (¬2) في مكان = ساقطة -ح-.

تسهيل سبل الخير وليعلم المصلي معنى أفعاله وما يقصد به. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وإطالة القراءة في الصبح على ما سنذكره والتأمين بعد أم الكتاب. والتسبيح في الركوع والسجود. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما معنى التأمين؟. 2 - وهل يخاطب به المصلون عمومًا أو خصوصًا؟. 3 - وهل يخفى أو يجهر؟. 4 - وهل يؤمّن من لا يسمع قراءة الإِمام؟. 5 - وما الدليل على أن التسبيح في الركوع والسجود مشروع؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف في معنى هذه اللفظة. فقيل معناها معنى الدعاء وتقديره اللهم استجيب لي. وقيل تقديره فعل الله ذلك. وهي عبرانية عربتها العرب وبنت نونها على الفتح. وقيل بل هي من أحد أسماء الله سبحانه. وحذف حرف النداء. قال بعض هؤلاء فَنُونُها مضمومة. وقال بعضهم بل حركت بالفتح. واختلف في شدها وتخفيفها. فالمشهور التخفيف. وحكى الداودي التشديد للميم، وأنكر هذه اللغة ثعلب. وعلى القول بالتخفيف وهو المشهور المعروف اختلف في قصرها ومدها وينشد في القصر: تباعد مني فطحل إذ سألته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا وضعف ابن درستويه القصر وتأول أن هذا الشاعر قصر الممدود للضرورة إن ثبت رواية البيت على هذا النظم. وينشد في المد: ويرحم الله عبدًا قال آمينا (¬1) والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الرواية عن مالك، فروي ¬

_ (¬1) الشطر هو لعمر بن أبي ربيعة وصدر البيت: يا رب لا تسلبني حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال آمينا

عنه أن التأمين مشروع لسائر المصلين عمومًا. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وروي عنه استثناء الإِمام في صلاة الجهر خاصة. وذهب ابن بكير: إلى تخيير الإِمام بين التأمين وإسقاطه في صلاته الجهر. وسبب هذا الاختلاف اختلاف الأحاديث. ففي بعضها إذا أمّن الإِمام فأمّنوا (¬1) وأيضًا قول ابن شهاب وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول آمين (¬2). وحديث ابن شهاب هذا وإن كان مرسلًا على المعروف والمشهور فقد أسنده بعضهم. وفي بعض الأحاديث إذا قال الإِمام ولا الضالين فقدلوا آمين (¬3). وظاهر هذا أنه لا يقول آمين. لأنه لو كان يقولها لم يقل هذا اللفظ الدال على اقتصاره على -ولا الضالين- وقد تأولت كل طائفة الحديث الذي تعلقت به الأخرى. فمن أنكر تأمين الإِمام قال: معنى قوله: إذا أمَّن: أي بلَغ موضع التأمين أو يكون المعنى أن دعاءه بما في خاتمة أم القرآن يسمى تأمينًا. وغير بعيد أن يسمى الداعي مؤمنًا كما يسمى المؤمن داعيًا وقد قال تعالى في موسى وأخيه: "قد أجيبت دعوتكما" (¬4) وأحدهما داع والآخر مؤمّن. وأما حديث ابن شهاب فمرسل. وإن وجب العمل به حمل على صلاته - صلى الله عليه وسلم - وحده. أو على إمامته في صلاة السر. ومن أثبت تأمين الإِمام تأول قوله إذا قال ولا الضالين. على أن المراد: أنها علم على تأمينه. فإذا لم يسمع المأموم التأمين لأن الإِمام يخفيه جعل له علم عليه. وهو قول الإِمام: ولا الضالين. ولما رأى ابن بكير اختلاف هذه الأحاديث وإمكان رد كل طائفة حديث مخالفها إلى حديثها صار إلى التخيير الذي حكيناه. وقد أنكر الحذاق قول من حكينا عنه أن الداعي يسمى مؤمنًا لأنه إثبات لغة بالقياس. وتسمية التأمين دعاء قد علم وجهه واتضح معناه. وتسمية الدعاء تأمينا لا وجه له. وأشار بعض المتأخرين إلى أن قوله: إذا أمّن الإِمام لا يستقل بنفسه دليلًا لجواز أن يكون تأمينه مُباحًا ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه الستة: نصب الراية ج 1 ص 368. (¬2) مرسل أخرجه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 408. ورواه الدارقطني موصولًا. (¬3) أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف بن مالك ومسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه والبيهقي ج 2 ص 55. (¬4) سورة يونس، الآية: 89.

فيجعل (¬1) هذا الفعل المباح علمًا على خطاب المأموم بالتأمين إلا أن يعضد بأن يقال: لم يصر أحد إلى الإباحة فانتفت لعدم قائل بها. وبطل قول من قال بالكراهة. فلم يبق إلا قول من قال بالندب، فيستقل حينئذ الاستدلال بالحديث. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أن يقال اختلف الناس في التأمين هل يخفى أو يجهر؟ فذهب أبو حنيفة إلى إخفائه وذهب الشافعي إلى الإجهار به. ومذهبنا أن المأموم يخفيه. وأما الإِمام فإن قلنا بتأمينه فإنه يخفيه. واختار بعض أشياخي أن يجهر به ليتقدى به. وأشار بعض المتأخرين من أصحابنا إلى تخييره بين الجهر والإخفاء. فحجة من أظهره قوله: إذا أمّن الإِمام فأمّنوا (¬2). فلو لم يكن مسموعًا لم يقل إذا أن الإِمام فأمنوا. وقد ذكر أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤمنون حتى يسمع لتأمينهم رجة (¬3). واعتمد من أخفى التأمين على أن قوله إذا قال ولا الضالين فقدلوا آمين يقتضي إخفاء التأمين. لأنه لو كان يجهر به لم يحتَجْ علمًا عليه. ولا يمكن من قال بالتأمين أن يتأول هذا الحديث إلا على هذا على حسب ما قلناه. وتنازعت الطائفتان أيضًا جهة المعنى فقال من أثبت الجهر ينبغي أن يكون تابعًا لقراءة أم القرآن فإذا جهر بها جهر به، كما جرى الأمر في السورة التابعة لأم القرآن. وقال من أمر بالإخفاء. قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬4). وقال: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} (¬5). والخائف لا يتكلم إلا همسًا. ولهذا جرى الأمر في مخاطب ملوك الزمن أنه يخفض صوته إشعارًا لهم بالهيبة والخوف. وقد قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (¬6). وقال في زكرياء: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً ¬

_ (¬1) فجعل -و-. (¬2) متفق عليه. أخرجه الستة. نصب الراية ج 1 ص 368. (¬3) رواه البيهقي بالسنن (حتى أن للمسجد لرجة) بسنده إلى عطاء. كما رواه بسند آخر إليه: إذا قال الإِمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين- سمعت لهم رجة بآمين. سنن البيهقي ج 2 ص 59. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 55. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 56. (¬6) سورة الحجرات، الآية: 2.

خَفِيًّا} (¬1). وأثنى على الصدقة الخفية لبعدها من الرياء. وإنما شرع رفع الإِمام صوته بالتكبير لكون تكبيراته إعلامًا. ولهذا لم يشرع ذلك في تكبير المأموم. وهذا كله يقتضي إثبات الإخفاء. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: قال مالك في العتبية وعيسى ابن دينار في كتاب ابن مزين فيمن لا يسمع قراءة الإِمام أنه لا يؤمّن. وحكاه ابن حارث عن ابن نافع. وحكى عن ابن عبدوس أنه يتحرى فيؤمّن. وأن لقمان ابن يوسف شبهة بتحري المريض رمي الجمار عنه فيكبر. وإن يحيى ابن عمر أنكر هذا التشبيه لأجل أن التأمين لا يكون إلا في مواضعه. ووجه الذي قاله مالك أنه قد يصادف تأمينه ما هو أولى على الجملة بأن يستعاذ بالله منه، من أن يؤمّن فيه كآي الوعيد. وإذا أمكن ذلك لم يحسن التأمين. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: الدليل على أن التسبيح في الركوع والسجود مشروعان (¬2) قول عقبة ابن عامر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال سبحانه ربي العظيم ثلاث مرات. وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات (¬3). وليس بواجب لأنه لم يعلمه للأعرابي. وقد تقدم حكايتنا عن أحمد وإسحاق وداود إيجابه وبطلان الصلاة بتركه إلا داود فإنه لا يبطلها. وإذا كان مستحبًا فإن مالكًا لم يحد فيه حدًا. وأنكر في المدونة قول الناس في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى. وقال لا أعرفه ولا أجد فيه حدا. والشافعية (¬4) تستحسن هذا اللفظ وتحده بثلاث. وأشار الثوري إلى التحديد بخمس في الإِمام ليتمكن المأموم من أن يقول ثلاثًا. وقال الحسن: التام من السجود سبع والمجزي ثلاث. وأشارت الشافعية إلى استحسان زيادة ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 3. (¬2) مشروع -و- ق. (¬3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه. نصب الراية ج 1 ص 376. (¬4) والشافعي في -ح- والشافعي في بقية النسخ.

القول -وبحمده- لوقوعه في بعض الآثار ولما فيه من زيادة التحميد. قال القاضي رحمه الله: والقنوت في الفجر وقول المأموم ربنا ولك الحمد وسجود التلاوة. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما معنى القنوت؟. 2 - وما حكمه؟. 3 - وما محله من الصلوات؟. 4 - وما محله من الصلاة؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: القنوت ينطلق على أربعة معاني. أحدها الدعاء يقال فيه قنت وأقنت. والثاني الطاعة ومنه قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (¬1). والثالث السكوت، ومنه قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (¬2). والرابع القيام. وقد اختلف في قوله عليه السلام لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال طول القنوت (¬3). فقال بعض الناس معناه طول القيام. وقال بعض البغداديين من أصحابنا: القنوت هو الدعاء وهو المراد بهذا الحديث. والقنوت الذي أخذنا في الكلام عليه قد حصلت فيه هذه المعاني الأربعة بأنه طاعة ودعاء والدعاء محله القيام وفيه السكوت مقدرًا. لأن الآخذ في دعاء القنوت ساكت عن القراءة في محلها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في القنوت. فقال أبو حنيفة ليس بمشروع وبه قال الثوري. وذهب إلى هذا يحيى بن يحيى من أصحاب مالك. لكن أبا حنيفة يراه في الوتر في جميع السنة. وقال مالك والشافعي هو مشروع في صلاة الصبح. فعند الشافعي أنه مسنون. والمشهور عن مالك وأصحابه أنه ليس بمسنون ولكنه مستحب. وقال ابن سحنون هو ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 116. (¬2) سورة البقرة، الآية: 238. (¬3) أخرجه مسلم في باب صلاة الليل.

سنة. والقياس أن فيه السجود. وفي السليمانية أنه يسجد إذا سها عنه. وقال ابن زياد تعمد تركه يفسد الصلاة. وبالغ (¬1) بعض أصحابنا في إنكار كونه سنة حتى جعل تعمد السجود لتركه يبطل الصلاة. فدليلنا على أنه مشروع قول أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يقنت في الصبح إلى أن فارق الدنيا (¬2). وحجة أبي حنيفة قول أم سلمة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القنوت في الفجر (¬3). وقد تأول أصحاب أبي حنيفة حديثنا على أن المراد به أنه طول القيام في الصبح حتى فارق الدنيا. وتأول أصحابنا حديث أبي حنيفة على أن المراد به النهي عن لعن قوم بأسمائهم، أو المراد به النهي عن الجهر به. وقد قال بعض الناس: حديث أم سلمة يرويه محمَّد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمان عن عبد الله بن نافع عن نافع وكلهم ضعاف إلا نافع. ونافع لم يلق أم سلمة. وقد روي عن بعض الصحابة تركه وعن الخلفاء الأربعة فعله. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: محله من الصلوات عندنا (¬4) صلاة الصبح. وعنه في كون الوتر في النصف الآخر من شهر رمضان محلًا له روايتان: الجواز والمنع. وحكي عن ابن حنبل أنه لا بأس به. وروي عنه أنه مقصور على إمام الجيش بدار الحرب يدعو للجيش أو للسلطان الأعظم. وقال إسحاق: القنوت للأئمة عند حوادث تحدث. وما قدمناه من حديث أنس يدل على صحة ما قلناه من الاقتصار على الصبح. إذ لو قنت في غيرها من الصلوات لم يخصها بالذكر. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما محله من صلاة الصبح فاختلف الناس فيه. فقال مالك: الأفضل أن يكون قبل الركوع من الركعة الثانية (¬5). ¬

_ (¬1) وقال -و-. (¬2) رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي. صحيح، نصب الراية ج 2 ص 132. (¬3) أخرجه ابن ماجة في باب القنوت من صلاة الفجر. والدارقطني والبيهقي. وقال الغماري حديث أم سلمة هذا باطل موضوع. انظر الهداية ج 3 ص 81. (¬4) عند في -ح-. (¬5) الآخرة في -ح-.

ويجوز أن يكون بعد الركوع. وقال الشافعي وابن حبيب من أصحابنا: المختار أن يكون بعد رفع الرأس من الركوع. وقد ذكر عن بعض الصحابة رضي الله عنهم فعل ما اختاره مالك. وعن بعضهم فعل ما اختاره الشافعي. فالحجة لمالك فيما اختاره قول عاصم لأنس: القنوت قبل الركوع أو بعده؟ قال قبله. قال عاصم قلت حدثني فلان عنك أنك قلت بعده. قال كذب فلان. إنما قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهرًا أراه بعث قومًا وذكر حديث البراء (¬1) وهذا يقتضي كون *القنوت قبل الركوع* (¬2) ولأن في كونه قبل الركوع زيادة بمقدار ما تدرك به الصلاة. فمن تأخر أدرك صلاة من قنت قبل الركوع وفاتته صلاة من قنت بعده. والشافعي يحتج لاختياره: بأنه مذهب أبي بكر وعمر وعثمان فكان عنده أولى. وما ذكره القاضي أبو محمَّد في بقية الفصل من سجود التلاوة قد قدمنا الكلام عليه. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وصفة الجلوس كله صفة واحدة. وهو أن يفضي إلى الأرض بأيسر وركيه (¬3) ويضع رجله اليسرى تحت يمنى ساقيه ويضع كفيه على فخذيه ويقبض يمناهما ويشير بسبابته منها ويبسط يسراهما. والسنن والفضائل كثيرًا ما تتداخل وقد بينا جُمَلها. ونحن نبين تفصيلها في تضاعيف ما نورده من المسائل إن شاء الله. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على اختيار هذه الجلسة؟. 2 - وما معنى الإشارة بالسبابة؟. 3 - وما معنى قوله أن السنن والفضائل كثيرًا ما تتداخل؟. ¬

_ (¬1) رواه البخاري والبيهقي - السنن ج 2 ص 207. (¬2) ما بين النجمين = ساقط من - ح - و -. (¬3) وهي أن يفضي إبهام رجله إلى الأرض بيسرى وركيه. الغاني. وهو أن يفضي إلى الأرض بيسرى ركبتيه -غ-. وهو أن يفضي إلى الأرض بأليتيه وركبتيه -و-.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الجلوس يقع مفترشًا. ومعناه: - أن يفترش رجله فيجلس عليها. ويقع متوركًا ومعناه: - أن يخرج رجله إلى جانب وركه الأخرى، ويضع أليتيه على الأرض. - ويقع مقعيًا واختلف في تفسيره، فقال أبو عبيدة هو أن ينصب رجليه ويجلس على أليتيه. قال وسمعت جماعة من أهل العلم يقولون: الإقعاء أن ينصب رجليه ويجلس على عقبيه. وقيل هو أن يفترش رجليه ويجلس على عقبيه. فذهب مالك رضي الله عنه إلى أن جلوس الصلاة كله في التشهدين وبين السجدتين توركًا (¬1). وهو أن يثني رجله اليسرى ويخرجها من جهة وركه الأيمن وينصب رجله اليمنى ويجعل باطن إبهامه إلى الأرض ولا يجعل جنبها ولا ظاهرها. وعند أبي حنيفة أن السنة فيه أن يفترش رجله اليسرى ويقعد عليها وينصب اليمنى ويوجه أصابعه نحو القبلة. وقال الشافعي بالافتراش بين السجدتين وفي التشهد الأول وهو أن يفترش اليسرى فيجلس عليها وينصب اليمنى كما قال أبو حنيفة. وقال في الجلسة الأخيرة بما قال مالك. وقال طاوس في الجلوس بين السجدتين رأيت العبادلة. ابن عمر. وابن عباس (¬2). وابن مسعود. وابن الزبير. يُقْعُونَ بين السجدتين. وقال أحمد أهل مكة يفعلونه. وقال ابن عباس من السنة أن تمس عقبيك أليتيك. فيحتج لمالك رضي الله عنه بقول ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركًا (¬3). ويحتج لأبي حنيفة بأن عائشة ذكرت أنه عليه السلام كان يقعد في صلاته. ووصفت الصفة التي ذهب إليها ¬

_ (¬1) إما على معنى: يكون توركًا أو هو تورك بالضم. (¬2) ابن عباس = ساقط -و-. (¬3) رواه أحمد في مسنده ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه التشهد فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى. الحديث. نصب الراية ج 1 ص 422.

أبو حنيفة (¬1). ويحتج للشافعي بحديث أبي حميد الساعدي (¬2) *وقد ذكر في التفرقة بين الجلستين ذكره الشافعي من التفرقة بينهما* (¬3). وحديث أبي حميد الساعدي رد على العبادلة لأنه وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحضر عشرة من الصحابة صدقوه. فقال فيه: أهوى إلى الأرض ساجدًا. وقال الله أكبر ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ثم أهوى ساجدًا (¬4). وقد أنكرت تفرقة الشافعي بأن أركان الصلاة المتكررة متساوية الشكل كالقيام والركوع والسجود. فيجب أن يكون الجلوس كذلك. واعتذر أصحاب أبي حنيفة عن حديث أبي حميد بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أسن فلعله جلس في الآخرة تلك الجلسة لطولها ولا يمكنه مع الطول إلا تلك الجلسة. ويرجح أصحاب الشافعي مذهبهم بأن الجلسة الأولى هو مستوفز فيها إلى القيام فوجب ألا يجلس فيها جلسة مطمئن بخلاف الآخرة. وبأن المصلي قد يشك في جلسته هل هي الأولى أو الأخرى؟ فينتبه لذكر ما هو فيه بشكل الجلسة وبأن التفرقة تشعر من جاء لإدراك الصلاة، يكون الصلاة قوإنقضت. فينصرف لطلب جماعة أخرى، أو لم تنقض فيدخل مع الجماعة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: ذكر ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع كله اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده إلا التي تلي الإبهام (¬5). وقال بعض المتأخرين: هذا، يقتضي إطلاقه أن هذا الفعل كان في جميع الجلوس. ولو اختلف حكم الجلوس لفصله ابن عمر. وقال غيره: إنما يختار هذا في جلوس التشهد. وأما الجلوس بين السجدتين فإنه يبسط كفيه على فخذيه. وقد اختلف المذهب في الأصبع إذا بسطت، هل تحرك أم لا؟ فقال ابن القاسم رأيت مالكًا يحركها في التشهد ملحًا. وقيل لا يحركها بل يجعل جانبها الأيسر مما يلي السماء. واختلف في تعليل كون هذه الأصبع ¬

_ (¬1) حديث عائشة أخرجه البيهقي ج 2 ص 129 وأحمد. الفتح الرباني ج 4 ص 14. (¬2) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. الهداية ج 3 ص 128. والبيهقي ج 2 ص 127. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -ق-. (¬4) البيهقي ج 2 ص 118. (¬5) رواه أحمد ومسلم والنسائي في الهداية ج 2 ص 135.

مخالفة لشكل الأصابع. فقيل مَقْمعةً للشيطان. وقال الداودي ليذكر أنه في الصلاة. وقيل إشعارًا بالتوحيد. وقال بعض أصحاب مالك من علل بالمقمعة أو نفي السهو حركها. ومن علل باستشعار التوحيد لم يحركها. وذكر عن يحيى ابن عمر أنه كان يحركها عند قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وعندي أن ابن عمر إنما حركها عند هذا الموضع لأنها حركة تستعمل في تقرير الأمر وثبوته. ألا ترى أن الإنسان إذا حادث صاحبه حرك إصبعه كالمقرر بها والمحقق حديثه. فلما افتتح المصلي الشهادتين رأى ابن عمر أن ذلك مما يحتاج إلى التقرير. فكأنه قرر (¬1) على نفسه وحقق عندها صحة ما أخذ فيه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما قول القاضي أبو محمَّد ها هنا أن السنن والفضائل كثيرًا ما تتداخل، فإن هذا اللفظ إذا أخذ على مقتضاه في عرف إطلاق العلماء عسر تصور معناه. لأنهم إنما يطلقون التداخل بسقوط اعتبار شيء عند إضافته إلى آخر. مثل قولهم الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر. بمعنى أن الوضوء الواجب على البول يسقط بالغسل الواجب على الجنابة. وهذا المعنى لا يتصور في السنن والفضائل. ولكن يتصور فيهما (¬2) معنى مأخوذ مما قدمناه. حيث قلنا إن السنن والفضائل عبارتان قد تنوب إحداهما عن الأخرى. وتستعمل هذه مكان هذه على مقتضى اللغة. ولكن قَصرَهُما العُرف على ما كان مندوبًا إليه. فمتى قوي الندب وعظم الأجر سمينا الفعل سنة، ومتى ضعف سميناه فضيلة. فكأن السنة فيها معنى الفضيلة وزادت (¬3) عليها. فصارت الفضيلة كالداخلة في السنة. ولكن هذا المعنى وإن كان صحيحا فلم يرده القاضي أبو محمَّد لأنه معنى يشتمل على جميع الفضائل وجميع السنن. والقاضي أبو محمَّد قيد قوله بأن قال: كثيرًا ما يتداخل. فأشار إلى أنها قد لا تتداخل في بعض الأحيان. فإن كان أراد أن الفضيلة ربما كانت ¬

_ (¬1) قدر في -ح-. (¬2) فيها -و -ق-. (¬3) زيادة -و -ق-.

بعض أوصاف السنة ومقدرة كالجزء منها كالسورة التي مع أم القرآن فإنها سنة وتطويلها أو تقصيرها فضيلة. والطول والقصر وصف من أوصاف السورة (¬1). وقد تطلق العبارة بأن السورة المعتاد قراءتها في صلاة الصبح سنة. وإن كان المسنون أصلها لا وصفها بالإطالة أو بالقصر. وكذلك القول فيما ضاهى هذه المسألة فإن أراد هذا فهو معنى صحيح. وإن أراد بالتداخل ما وقع من الاختلاف من عد بعض السنن فضائل وعد بعض الفضائل سننًا. فصارت تدخل بعضها في بعض على هذا المعنى. ويكون المراد أنها تتداخل على مذهب دون مذهب. فيدخل بعض ما عده من السنن في قسم الفضيلة على قول ومذهب. ويدخل ما عده من الفضائل في قسم السنة على قول ومذهب. فهذا معنى صحيح. وقد يراد بالتداخل اختلاف حال المصلين. فإن من السنن ما يخاطب به المنفرد. فإذا صار مأمومًا سقط كونه سنة. وربما عد في الفضائل كالقراءة. فمنها ما يكون سنة في حق المنفرد. وربما عاد فضيلة في حق المأموم. فيكون معنى التداخل دخول الحكمين في جنس من الأفعال على نوع من هذا التفصيل. وهذه المعاني (¬2) هي التي يمكن أن تراد. وإن كان بعضها يقرب من لفظه وبعضها يبعد. ولم يرد الإطالة بتمييز بعضها من بعض، وإيعاب القول في كل قسم منها؛ لأن جدوى ذلك وقوف على حقيقة مراده. وإلا فحقائق السنن والفضائل جملة وتفصيلا، تفريعًا وتأصيلًا قد أتينا على جمهوره. ونأتي بالبقية منه في مواضعها (¬3) إن شاء الله تعالى. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والمختار له بعد تكبيرة الإحرام أن يعقبها بقراءة أم القرآن من غير أن يفصل بينهما بتسبيح أو توجيه أو قراءة بسم الله الرحمن الرحيم سرًّا أو جهرًا أو استعاذة. لا عند قراءة أم القرآن (¬4) ولا في ¬

_ (¬1) السنن -و- ولا معنى له. (¬2) معان -ح-. (¬3) ونأتي بالبقية في مواضعه -و-. (¬4) أم الكتاب -غ-.

التي (¬1) بعدها. إلا الذي يصلي التراويح أو يقوم الليل أو يعرض القرآن. فإن شاء فصل بين السور بالبسملة (¬2). قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أنه لا يفصل بين القراءة والتكبير بشيء؟. 2 - وما معنى قوله تسبيح أو توجيه؟. 3 - وما معنى قوله: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم؟. 4 - وما معنى قوله سرا أو جهرًا؟. 5 - ولمَ لم يتعوذ القارئ في الصلاة المكتوبة؟. 6 - وما معنى قوله عند قراءة أم القرآن أو في التي بعدها؟. 7 - ولمَ قال في الذي يقوم الليل ويعرض القرآن إن شاء فصل ببسم الله الرحمن الرحيم؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في الفصل بين القراءة والإحرام. فالمشهور عن مالك المنع منه. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق: المستحب أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وحكى ابن شعبان في مختصره عن مالك أنه كان يقول ذلك بعد إحرامه. ورأيت في كتب المخالفين إثبات الواو في وتبارك. وذكر عن الشافعي أنه كان يقول الله أكبر كبيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلا. ويقول وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين. ورأيت في كتب بعض أصحاب الشافعي: أن المستحب أن يقول بعد التكبير وقبل التعوذ: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفُ اوما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا (¬3) واهدني ¬

_ (¬1) ولا في السورة التي -الغاني-. (¬2) ببسم الله الرحمن الرحيم - ح - و - ق -. (¬3) جميعًا = ساقطة -ح-.

لأحسن الأخلاق لا يهدي (¬1) لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئهلالا يصرف سيئها إلا أنت. لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك. والمهدي من هديت أنا بك وإليك لا منجأ منك إلا إليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك. وذكر أن المستحب عنده أن يجمع بينه وبين ما حكيناه عن أبي حنيفة. فإنه (¬2) مذهب أبي يوسف. وقد حاول الشيخ أبو الحسن اللخمي أن يخرج قولًا عندنا بجواز الفصل بالدعاء. وأشار إلى ما حكيناه عن ابن شعبان. واستحسن الجواز. واحتج بقول أبي هريرة في الصحيحين يا رسول الله إسكاتتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد (¬3). فأما أصحاب أبي حنيفة فيحتجون بقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (¬4). قالوا (¬5) ولا تسبيح مشروعًا إلا ما قلناه. واحتجوا بما روت عائشة وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح الصلاة بسبحانك اللهم وبحمدك. وقد خرج مسلم عن عمر رضي الله عنه أنه كان يجهر بذلك في للصلاة (¬6). وأما أصحاب الشافعي فيحتجون بما روي عن علي بن أبي طالب أنه عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} -الآية- إلى أن يقول: وأنا من المسلمين (¬7). ¬

_ (¬1) ولا يهدي -و-. (¬2) وأنه - ق - و -. (¬3) رواه البخاري ومسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 288. (¬4) سورة الطور، الآية: 48. (¬5) قالوا = ساقطة -و-. (¬6) رواه مسلم موقوفًا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد بين عياض وجه رواية مسلم له مع كونه موقوفًا. (¬7) أخرجه مسلم في التهجد. ولفظه أنه كان إذا قام إلى الصلاة. قال وجهت وجهي ... -الحديث- ورواية مسلم: وأنا من المسلمين. وروي: وأنا أول المسلمين. إكمال الإكمال ج 2 ص 398.

والحجة لمالك قول أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين (¬1). وقد انفصل عن هذا بأن المراد به يفتتح القراءة. وقد يعبر على القراءة بالصلاة كما في الحديث الآخر: قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي (¬2). وهذا لا يسلم لهم بغير دليل *وليس إذا دل الدليل على حمل الصلاة على القراءة في حديث وجب مثل ذلك في حديث آخر بغير دليل* (¬3). *والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: هذا اللفظ الواقع من القاضي أبي محمَّد تنبيه منه على المذاهب التي حكيناها؛ لأنا حكينا أن أبا حنيفة يفتتح بالتسبيح. وعن الشافعية بالتوجيه. فنظم رحمه الله المذهبين جميعًا بهذه الإشارة لما لم يمكنه بسطه (¬4) في هذا الكتاب لأنه لم يوضع لذلك* (¬5). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما بسم الله الرحمن الرحيم فإن القول فيها هل هي قرآن أم لا؟ يتسع. ولكن نقتصر لك علي اللباب ونبوح لك بالأسرار. فنقول: أول ما يجب أن يقدم: الاهتمام بالنظر في الانفصال عن معارضة قد تلتبس (¬6) هنا على من لا يستبحر في الحقائق: بأن يقول قائل من الطاعنين في الشرع: القرآن معجزته عليه السلام وقاعدة الإِسلام، فكيف اختلف الأئمة المقتدى بهم في أمصار المسلمين في كون البسملة قرآنًا؟ وإذا كانت عند الشافعي قرءانا فهلا كفر مالكًا وأبا حنيفة في مخالفتهما له في ذلك كما يكفر هو وغيره من خالف في كون الحمد لله رب العالمين من القرآن؟ قيل لم يثبتها ¬

_ (¬1) البخاري. ومسلم. والنسائي وأحمد وابن حبان والدارقطني وأبو يعلى والطبراني. ورجال هذه الروايات كلهم ثقات. نصب الراية ج 1 ص 326. (¬2) مسلم عن أبي هريرة. إكمال الإكمال ج 2 ص 150 - 151. والأربعة وأحمد. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -ح-. (¬4) بسطها -ح-. (¬5) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬6) قد يُلبّس في - ح - ق -.

الشافعي قرآنًا على حسب ما أثبت غيرها. وإنما أثبتها حكمًا وعملًا لا دلالة اقتضت ذلك عنده سنوردها عليك. فإثبات الشيء قرآنًا قطعًا ويقينًا حتى يُكفر من خالفه إنما يحصل بالنقل المتواتر الموجب للعلم الضروري الذي لا يمكن فيه اختلاف ولا امتراء. ككون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن في أثناء سورة النمل. وأما إثبات تعلق الأحكام بما اقتضاه مضمون ما نقل منه آحادًا كقراءة من قرأ في كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات ففيه اضطراب بين أهل الأصول (¬1)، هل يجب التتابع ويكون هذا كخبر واحد ورد بإيجابه أو لا يجب؛ وهذا يستقصى في كتب الأصول. وأما إثبات مرتبة ثالثة تنخفض عن الأولى القطعية المُكفّر مخالفها، وترتفع عن هذا القسم الآخر الذي هو العمل بالمظنون بأن يثبت الوارد قرآنًا ويحكم -بكونه كذلك فيكتب في المصاحف ويُقرأ في المحارب عملًا بذلك كله- حكمًا (¬2) لا قطعًا ويقينا، يجب تكفير مخالفه، فهو (¬3) ما نحن فيه. وقد اختلف الناس في بسم الله الرحمن الرحيم، فأثبتها الشافعي آية من أم القرآن. واختلف قوله في إثباتها آية في غيرها من السور ولم يحك عن أحد من السلف إثباتها فيما سوى أم القرآن. ويتبين من عندهم الآي سوى الشافعي وابن المبارك. وذهب مالك وأبو حنيفة وداود إلى أنها ليست من القرآن في افتتاح شيء من السور أم القرآن أو غيرها. وذكر عن أصحاب أبي حنيفة أن التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور والتبرك بها للابتداء. وإن هذا قول عدل من الأقوال. واعلم أن ها هنا معان قد تتعارض في الظاهر فمنها ينشأ الخلاف. أحدها أن القرآن معلوم قطعًا اعتنى الصحابة بنقله من جهة الطبيعة ومن جهة الشريعة. فأما من جهة الطبيعة فإن في طباعهم الاعتناء بالبلاغات والاهتزاز لها والاهتمام ¬

_ (¬1) الأصوليين -و-. (¬2) لا حكمًا -ح-. (¬3) جواب وإما إثبات مرتبة ثالثة.

بحفظها وتدبرها والنظر فيها. ولهذا كانت معجزتهم فصاحة بهرت عقولهم حتى انقادوا للإيمان بها مذعنين. وأما من جهة الشريعة فلكون القرآن أصل هدايتهم وينبوع أحكامهم. وحفظه وتلاوته عبادة من أجل عباداتهم وقربهم. وإذا كان هذا هكذا وجب القطع على أن ما كان من القرآن شاع فيهم وظهر ونقلوه إلينا نقل أمثاله. ولما لم ينقلوا كون البسملة قرآنًا كما نقلوا غيرها ولا ظهر ذلك فيهم كما ظهر في غيرها من الآي وجب القطع على أنها ليست من القرآن. وهذا دليل معتمد به نرد نحن والشافعي ما زاده الروافض وأمثالهم في القرآن. ونقطع على بطلان ما قالوه. فهذه عمدة مالك وأبي حنيفة. وأما عمدة الشافعي فإنه لما رأى تحفظ السلف لما كتبوا القرآن حتى كانوا يقولون جردوا القرآن. ويكرهون النقط والتفاسير. وكانوا إنما كتبوه حسمًا لمواد الزيادة والنقصان فيه. وجب أن يكون ما اشتمل عليه قرآن. وقد اشتمل على بسم الله الرحمن الرحيم. والانفصال عن هذا أنا لم نفهم عنهم حين تسليم المصاحف إلينا أن البسملة من القرآن كما فهمنا ذلك عنهم في غيرها من الآي. وكما لم نفهم ذلك عنهم ولا فهمه الشافعي في فواتح السور *ونحن الآن نقول إن البسملة ليست من القرآن في افتتاح السور* (¬1) ونحن مع هذا نشير إلى المصحف فنقول هذا القرآن ونطلق هذا الإطلاق في عصرنا هذا وفي غيره من الإعصار. مع العلم بأننا ننكر كون البسملة من القرآن. فإذا صح إطلاقنا هذا مع اعتقادنا ما قلناه، صح إطلاق الأولين مع كونهم معتقدين ما اعتقدناه مع أنها في المصاحف القديمة مكتوبة بخط على حدة غير متصلة بالسور. وإفرادها بخط على حدة كالإشعار بأنها ليست من السورة. وأيضًا فإن بعض المصاحف المبعوثة إلى البصرة والكوفة ليست فيها البسملة. ولأجل هذا قرأ أبو عمرو وحمزة بترك الفصل ببسم الله الرحمن الرحيم. فإن قالوا: فإن المصاحف اختلفت في قوله {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} في سورة الحديد، {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في سورة براءة وغير ذلك. ثم لم يدل حذف الزيادة من بعض المصاحف على أنها ليست بقرآن. فكذلك حذف البسملة من بعض المصاحف. قلنا حذف ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -ح-.

تلك الأحرف من تلك المصاحف لم يحدث اختلافا على أنها من القرآن، بل هي قرآن عند من كانت في مصحفه. ومن لم تكن عنده. والبسملة ينكر كونها قرآنا جمهور من كانت في مصحفه فضلًا عمن لم تكن في مصحفه. وأما الأخبار الواردة في هذا فقد اختلفت وحاولت كل فرقة تأويل أحاديث الفرقة الأخرى. فاحتج أصحابنا بقول أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وهذا إن تأولوه على أن المراد به السورة من أولها. وأولها البسملة منعهم من ذلك ما أخرجه مسلم عن أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان. فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم لا في أول القراءة ولا في آخرها (¬1). وهذا إن تأولوه على أنه كان يخفيها. فإن ظاهره خلاف ذلك لأنه نفى الذكر على الإطلاق. واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. يقول العبد الحمد لله رب العالمين (¬2) -. والمراد بقوله قسمت الصلاة الفاتحة لأنه قد فسر المقسوم. وقد قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} (¬3). أي بالقرآن في صلاتك. وقد تضمن الحديث ما يبتدىء به المصلي. فلو كان بسم الله آية منها (¬4) لبدأ بها. وأجابوا عن هذا بأنه إنما حذفها لأن الثناء الذي في البسملة يتكرر في قوله الرحمن الرحيم. وأجيب عن هذا بأنه لو كان الحذف للاختصار لحذف الثاني خاصة حتى تكون البداية بالتي أنزلت بداية. وأيضًا فإنما تكرر بعض البسملة. ودليل آخر من هذا الحديث وهو أن البسملة لو كانت آية لما صح كون الفاتحة نصفين بين العبد (¬5) وربه كما ورد به الحديث. وأجيب عن ¬

_ (¬1) رواه مسلم بسنده إلى قتادة أنه كتب إليه غيره عن أنس بن مالك باب حجة من قال لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الصلاة باب 13. (¬2) رواه مسلم عن أبي هريرة. إكمال الإكمال ج 2 ص 150 - 151. ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد. (¬3) سورة الإسراء، الآية: 110. (¬4) منها = ساقطة - ح - ق -. (¬5) وبين ربه -و-.

هذا بأن المراد: نصفان من جهة العدد لا من جهة المعنى. فالمعنى أن افتتاحها لله واختتامها للعبد. ووسطها مشترك. وهذا غير مسلم لأن ذكر القسمة والتنصيف وعد الآي يقتضي أن المراد بالحديث خلاف ما قالوه. ولا وجه لحمل القسمة والتنصيف على غير ما يقتضيه اللفظ في اللغة إلا بدليل. واستدل أصحابنا بقوله عليه السلام لأبي بن كعب أني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى أعلمك سورة (¬1) -الحديث- وفيه أنه سأله كيف تقرأ في الصلاة؟ قال فقلت الحمد لله رب العالمين إلى آخرها. فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حين قرأ الفاتحة. فلو كانت البسملة منها لأنكر عليه تركها حين قرأ جملة الحمد لله دونها. وأما المخالفون فلا يجدون خبرًا صحيحا ولا سقيما يثبتون به كونها آية في سائر القرآن. بل اتفاق القراء على أن سورة الملك ثلاثون آية والكوثر ثلاث آيات. والإخلاص أربع آيات، دليل على أنها ليست من كل السور. إذ لو كانت من هذه السور لزاد عدد هذه السور على ما قلناه. ولم يقل بالزيادة على ذلك أحد. وأيضًا فإنها لو كانت من كل السور لم يحسن إثباتها بين سورة الفيل والتي بعدها. لأن قوله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} (¬2) كالتعليل: {لإيلاف قريش} (¬3). ولا يحسن الفصل بين العلة والمعلول بكلام غير مناسب لهما بل كالقاطع للربط بينهما. ولكن ذكروا أخبارًا تعلقوا بها في كونها من أم القرآن. منها أنه قرأ البسملة وعدها آية (¬4). ومنها أنه من ترك (¬5) بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله (¬6). وقد عد علي فيما عد من أم الكتاب ومنها أنه عليه السلام كان يقطع قراءته لبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب ¬

_ (¬1) رواه الترمذي العارضة ج 11 ص 5. ورواه أحمد: الفتح الرباني ج 18 ص 70. (¬2) سورة الفيل، الآية: 5. (¬3) سورة قريش، الآية: 1. (¬4) رواه الشافعي تلخيص الحبير ج 1 ص 232. وانظر الهداية ج 3 ص 36. وأخرجه البيهقي ج 2 ص 44. (¬5) قوله من ترك -و- ومنها من ترك -ح-. (¬6) رواه الديلمي عن طلبة بن عبيد الله. الجامع الكبير ج 6 حديث رقم-21644.

العالمين (¬1). ومنها إذا قرأتم القرآن فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وأن بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها (¬2). ونسلك في الجواب عن أحاديثهم هذه ثلاثة طرق: أحدها أنها أخبار آحاد والقرآن لا يثبت بإخبار الآحاد. وقد مر لنا من ذلك كفاية. وهذا جواب كاف عن جميع الأحاديث. والجواب الثاني: مبني على طريقة من قال من أصحاب أبي حنيفة أنها آية أنزلت للفصل بين السور ولم تنزل آية من أم القرآن. وطريقة هؤلاء في الجواب عن الأحاديث أن يقولوا الأخبار النافية مبنية على أنها ليست من نفس السورة والأخبار المثبتة محمولة على أنها أنزلت للفصل إلا ما وقع من بعض ألفاظ في بعض الأحاديث تمنع من هذا البناء. فإنهم ينكرون صحتها أو يتطلبون لها تأويلًا. والطريقة الثالثة النظر في عين كل حديث فقوله: عدها آية معناه في الأجر والثواب، أو عدها آية على أنها من سورة النمل. فأخذ كونها آية من هناك وبنى عليه العدد. وقوله: يقطع قراءته ليس فيه تصريح بكونها من القرآن وإنما القصد به ضرب من الحكاية. وقوله: إنها أم القرآن، وأم الكتاب والسبع المثاني ظاهره أن البسملة هي السبع المثاني، وقد علم أن البسملة ليست هي السبع المثاني، مع أن الحديث ضعيف. وقوله فقد ترك آية من كتاب الله قد يتأول عندي على أن المراد به أنها آية من سورة النمل أو كالآية في الأجر والثواب، أو آية (¬3) أنزلت للفصل، لو قلنا كما قال أصحاب أبي حنيفة. ولم يذكر في ماذا عُدت عليه فيكون نصًا في كونها من القرآن. وهذه التأويلات وإن خرج في بعضها عن مقتضى ظاهر اللفظ فإن ذلك مما لا يضطر إلى الرجوع إليها والتعويل عليها لما قدمناه من أن أخبار الآحاد لا مدخل لها في هذا الباب. وهو (¬4) الذي أغنانا أن ¬

_ (¬1) حديث أم سلمة رواه أحمد وأبو داود. الهداية ج 3 ص 34. (¬2) رواه البيهقي ج 2 ص 45. (¬3) وأنها آية -و-. (¬4) وهذا -ح-.

أذكر (¬1) لك صحتها أو سقمها ونكشف لك عن رواتها. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما قال القاضي أبو محمَّد سرًّا أو جهرا تنبيها على اختلاف الناس في ذلك فقد قال الشافعي السنة أن يجهر بالبسملة. وروي ذلك (¬2) عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة. وقال مالك في المبسوط إن جهر بها في المكتوبة فلا حرج. وقال الثوري وأبو حنيفة وأحمد لا يجهر بها. وروي ذلك عن علي وابن مسعود وعمار. وقال ابن أبي ليلى إن شاء جهر وإن شاء خافت. فحجة من قال بالجهر قول نعيم بن عبد الله المجمر: صليت خلف أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم قبل أم القرآن وقبل السورة. وكبر في الخفض والرفع وقال أنا أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أتاني جبريل عليه السلام فعلمني الصلاة وقام فصلى بأصحابه وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" (¬4). وحجة من لم يقل بالجهر ما ذكر أنس أنه صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكانوا لا يجهرون بها (¬5). وعن ابن مسعود ماجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة مكتوبة قط بالبسملة (¬6). وعن عبد الله بن المغفل أنه سمع ابنه يجهر بالبسملة (¬7) فقال: أي بني إياك والحدث في الإِسلام فإني صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر فكانوا لا يجهرون بالبسملة (7). وإذا أردت القراءة فقل الحمد لله رب ¬

_ (¬1) أغنانا عن أن نذكر - ق - و -. (¬2) وذلك = ساقطة - و - ق -. (¬3) أخرجه الطحاوي والدارقطني والحاكم والبيهقي. قال صاحب الهداية: وليس في الرواية وقبل السورة. الهداية ج 3 ص 31. (¬4) في سنده خالد بن أياس مجمع على ضعفه. وصوب الدارقطني وقفه. نصب الراية ج 1 ص 341. (¬5) رواه أحمد والدارقطني وابن عبد البر. الهداية ج 3 ص 28. (¬6) رواه أبو بكر الرازي في التفسير. قال عنه الزيلعي: هذا حديث لا تقوم به حجة لكنه شاهد لغيره من الأحاديث. نصب الراية. ج 1 ص 335. (¬7) التسمية -ح-.

العالمين (¬1). وأيضًا فإن التسمية مذكررة على سبيل الثناء. وسبيل الثناء المخافتة به على ما مر ذكره في التأمين. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في التعوذ فقال مالك: لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام رمضان إذا قرأ. ويتعوذ من قرأ في غير صلاة إن شاء. وقال الشافعي يستحب التعوذ بعد دعاء الاستفتاح وقبل القراءة. واحتج أصحاب الشافعي بقول الخدري أن النبي عليه السلام كان يقول قبل القراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (¬2). وحجة أصحابنا ما تقدم من أنهم كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وقال بعض أصحابنا في صفة التعوذ أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العلم. واختار الشافعية (¬3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. واختاره الثوري (¬4) وأضاف إليه إن الله هو السميع العلم. وقال الحسن بن صالح وابن سيرين أعوذ بالسميع العلم من الشيطان الرجيم. واختاره ابن حنبل. وأضاف إليه إنه هو السميع العلم. وحجة من أثبت هذه الزيادة قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬5). وحجة الشافعية ما تقدم من حديث الخدري. وقال بعض أشياخي إنما لم يتعوذ في الصلاة لأن افتتاحها بالتبكير يكون مطردة للشيطان. كما أخبر في الحديث إن المؤذن إذا أذن أدبر الشيطان (¬6). والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما قوله لا عند قراءة أم القرآن ولا في التي بعدها، فإنا قد قدمنا أن البسملة ليست من أم القرآن ولا في شيء ¬

_ (¬1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والطحاوي. وفي إسناده اضطراب. حديث ضعيف. الهداية ج 3 ص 24. وحسنه الترمذي وأيده الزيلعي. نصب الراية ج 1 ص 333. (¬2) رواه البيهقي ج 2 ص 35. (¬3) الشافعي في -و -ق-. (¬4) المزني -و-. (¬5) سورة فصلت، الآية: 36. (¬6) مالك والبخاري وأبو داود والنسائي والدارمي. الموطإ كتاب الصلاة ج 6 ص 66. والبخاري كتاب الأذان ج 4. ومسلم كتاب الصلاة ج 4.

من السور التي تقرأ بعدها. وأن الشافعي اختلف قوله في كونها من السور التي تقرأ بعد أم القرآن ولم يختلف قوله في أنها من أم القرآن. وأما التعوذ فعند الشافعي أن محله بعد دعاء الاستفتاح (¬1) وقبل القراءة. ولمالك فيمن قرأ في الصلاة أنه يتعوذ بعد أم القرآن. وقال أبو هريرة وابن سيرين والنخعي التعوذ بعد القراءة. واحتج ابن سيرين بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (¬2). وأجيب عن هذا بأن المراد إذا أردت قراءة القرآن. وهذا كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}. أي إذا أردتم القيام إليها. والتعوذ يختص بالركعة الأولى عند أبي حنيفة، والشافعي. وقال ابن سيرين بل يتعوذ في كل ركعة. وقيل إن هذا قول آخر للشافعي. فمن قال بتكرره رآه كالتأمين لما كان من توابع القراءة، ككون التأمين من توابعها. واحتجت الشافعية بأنه كدعاء الافتتاح فوجب أن لا يتكرر. وفُرق بينهما بأن دعاء الافتتاح يراد لافتتاح الصلاة وذلك لا يتكرر. والتعوذ يراد للقراءة. والقراءة تتكرر. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: البسملة لا تقرأ في الفرائض (¬3). ويجوز قراءتها في النوافل. وقال ابن نافع لا يدعها في فرض ولا نفل. وهذا المذهب إنما يليق بمذهب الشافعي الذي قدمناه. واختلف المذهب فيمن قرأ السورتين بعد أم القرآن. فروى ابن وهب عن مالك أنه يفصل بينهما بالبسملة. وقال أشهب لا يؤمر بذلك. وإلى هذا المذهب أشار القاضي أبو محمَّد هنا بقوله إن شاء فصل بين السور. والذي عندي في هذه المسألة أن إطلاق القول فيها لا يحسن حتى يعلم لمن يقرأ (¬4) القارئ. فإن القراء السبعة مختلفون في الفصل بين السور بالبسملة. فمنهم من أثبتها، ومنهم من نفاها. فإذا قرأ القارئ برجل من السبعة فينبغي أن يقرأ له على حسب ما روي عنه من الفصل أو تركه. ¬

_ (¬1) الافتتاح - و - ق -. (¬2) سورة النحل، الآية: 98. (¬3) في الفرض -ح-. (¬4) قرأ -ح-.

قال القاضي رحمه الله تعالى: والمختار من قدر القراءة في الصلاة مختلف لاختلاف أعيانها. وهو على ثلاثة أضرب: إطالة وقصر وبينهما. فالإطالة في الصبح والظهر. ويستحب أن يقرأ في الصبح بطوال المفصل أو ما زاد عليه بقدر ما يحتمله التغليس ولا يبلغ به الأسفار. والظهر تليها في ذلك وتقاربها (¬1). ويستحب التخفيف في العصر والمغرب. ويستحب في العشاء الآخرة بين القراءتين. والصلوات في الجهر والإسرار على ثلاثة أضرب منها: ما يجهر في جميعها وهي الفجر والجمعة. ومنها ما يسر في جميعها وهي الظهر والعصر. ومنها ما يجمع الأمرين وهو المغرب والعشاء. وهذا (¬2) حكم الفرائض. فأما (¬3) النوافل فتذكر فيما بعد. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة ما قال؟. 2 - وهل تقدر الإطالة والقصر والتوسط؟. 3 - وهل الظهر كالصبح؟. 4 - وهل العصر كالمغرب؟. 5 - وهل الركعة الأولى مثل الثانية أم لا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على صحة ما قاله في هذا الفصل نقل الخلف له عن السلف وظهور العمل به في سائر الأعصار (¬4). وما نقل هذا النقل فينبغي اتباعه كما عولنا في عدد الركوع والسجود على النقل المستفيض. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قدر أصحابنا القراءة في الصبح ¬

_ (¬1) أو تقاربها = الغاني. (¬2) هذا بدون عطف - و - ح -. (¬3) وأما - و - ح -. (¬4) الأمصار.

بطول المفصل. وقالت الشافعية باستحباب طوال المفصل مثل: ق والذاريات ونحوهما. وقال أبو حنيفة يقرأ في الأولى من ثلاثين إلى ستين. وفي الثانية من عشرين إلى ثلاثين. وقد استدل من اختار طوال المفصل مما روي أنه قرأ في الصبح والنخل باسقات. وقرأ في صبح يوم الجمعة ألم تنزيل، وهل أتى على الإنسان. وأما العشاء الآخرة فتقدر القراءة فيها بإذا الشمس كورت ونحوها (¬1). وعند الشافعية بأوساط المفصل كالجمعة والمنافقين ونحوهما. وقال أبو حنيفة يقرأ في الأوليين في كل ركعة بعشرين آية غير فاتحة الكتاب. وقال ابن حنبل خمس عشرة آية. واحتجت الشافعية بأنه روي أنه عليه السلام قرأ في العشاء الآخرة بالجمعة والمنافقين (¬2). والحجة لنا فيما آخترناه قوله عليه السلام لمعاذ لما شُكيت إليه إطالته في صلاة العشاء أفتّان أنت يا معاذ؟ وذكر أنه قال له اقرأ بسورة كذا وكذا قال بسورة والسماء ذات البروج والليل إذا يغشى والسماء والطارق وهل أتاك حديث الغاشية (¬3). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف أصحابنا في الصبح والظهر فقال أشهب الظهر نحو الصبح. وقال يحيى الصبح أطول. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: العصر والمغرب عندنا متساويتان يخفف فيهما. وتقدر القراءة بإحدى السور التي من والضحى إلى آخر القرآن. ويستحب أن يقرأ الإِمام بأطول ذلك في العصر. وعند الشافعية أن العصر كالعشاء. وكذلك عند أبي حنيفة. وقد ذكرنا ما قدروه في القراءة في العشاء فالعصر عنده مثل ذلك (¬4). والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قال في المختصر لا بأس أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 197. والترمذي والنسائي. الجامع ج 5 ص 335. (¬2) الموجود في مسلم وأبي داود أنه قرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين. الجامع ج 3 ص 243. (¬3) رواه مسلم. انظر إكمال الإكمال ج 2 ص 200. (¬4) كذلك -ح-.

يقرأ في الثانية بأطول من قراءته في الأولى. وقال في الواضحة: الصبح والظهر نظيران في طول القراءة. ويستحب أن تكون الركعة الأولى أطول .. وظاهر (¬1) هذا أن المذهب على قولين. وكذلك اختلفت الشافعية على قولين. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف يستحب أن تفضل الأولى على الثانية في صلاة الصبح خاصة. وقال الثوري ومحمد يستحب ذلك في جميع الصلوات. فحجة من قال بالمساواة قول الخدري حزرنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين من الظهر قدر (¬2) ثلاثين آية (¬3) *ولأن الأخريين تساويًا في القراءة* (¬4) فكذلك الأوليان. وحجة من قال بالتفصيل قول أبي قتادة أن النبي عليه السلام كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية (¬5). وقد تأولت الشافعية هذا الحديث على أن المراد به إطالة الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ. وقد تقدم ذكر مذهبهم في دعاء الافتتاح. وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة فيما قرأ به. منها قراءته في المغرب بأطول الطوليين (¬6). وأيضًا بالطور. وأيضًا بالمرسلات. وفي الصبح بالمؤمنين حتى أخذته سعلة قبل إكمالها (¬7). وقرأ الصديق في الصبح بالبقرة (¬8). ولم يفسر الناقل هل قسمها بين الركعتين أو كررها فيهما؟ والظاهر أنه لو كررها لخرج الوقت، بل ربما أن قسمتها إلى أن لا يفرغ منها حتى يسفر. وقرأ عمر في الصبح بيوسف والحج (¬9). وكان عثمان يقرأ فيها بيوسف (¬10). وعن ¬

_ (¬1) ظاهر = ساقطة -و- أن = ساقطة من -ح-. (¬2) بقدر -ح-. (¬3) أخرجه مسلم والدارقطني. نصب الراية ج 2 ص 6. (¬4) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬5) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 194. (¬6) رواه البخاري وأبو داود والنسائي. الجامع ج 3 ص 344. والمراد بأطول الطوليين الأعراف. (¬7) أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي. الجامع ج 5 ص 345. (¬8) رواه مسلم وأبو داود والنسائي. الجامع ج 5 ص 333. وأخرجه البخاري تعليقًا. (¬9) رواه مالك في الموطإ وإسناده منقطع. (¬10) أخرجه في الموطإ. الجامع ج 5 ص 336 - 337.

النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث أخر تقتضي التخفيف. وقد أوعبنا الكلام على جميعها وذكرنا صفة البناء فيها وما تأولت عليه فيما أمليناه على البخاري. فمن أحب الوقوف عليه فليلتمسه هناك. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والمصلون ثلاثة: إمام ومأموم ومنفرد. وهم في أداء الصلاة على ثلاثة أضرب: أحدها يشتركون في الخطاب لفعله، والآخر يختص به الإِمام والمنفرد، والآخر يختص به المأموم دونهما. وليس في ذلك ما يختص به الإِمام دون المنفرد إلا مواضع لا يتصور مقصودها على (¬1) الانفراد على ما نبينه. فمما يخاطب به الجميع: النية والإحرام والركوع والسجود، والفصل بينهما والجلوس والتسليم المفروض، وجميع الهيئات. والذي ينفرد به الإِمام والمنفرد وجوب القراءة والجهر بها، وسجود السهو. وفعل التسليم واحدة والذي ينفرد به المأموم سقوط فرض القراءة وسجود السهو وفعل التسليمة الثانية. ونحن نذكر صفة أداء الصلوات كلها على سياقه (¬2) وإن طال ليتضح به ما ذكرناه. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على ما قال؟. 2 - وما معنى قوله إن الإِمام لا يختص دون المنفرد إلا فيما يتصور مقصودها في الانفراد؟. 3 - وما معنى عده سجود السهو فيما يختص بالإمام والمنفرد؟. 4 - ولم لم يكتف بوجوب القراءة عند ذكر الجهر بها؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: يستدل على صحة ما قاله بما أوردناه في عين كل مسألة أشار إليها وبما نورده فيما بعد. وقد ذكرنا الدلالة على جميع ما عدده فيما يخاطب به الجميع فيما تقدم. فلا معنى لإعادته. ¬

_ (¬1) في -الغانى-. (¬2) سياقها -و-.

وذكرنا الدلالة على سقوط فرض القراءة عن المأموم وذكرنا حكم تسليمته الثانية. وإنما يصح عند القاضي أبي محمَّد التسليمة الثانية فيما ينفرد به المأموم، على أحد القولين عندنا: أن الإِمام والمنفرد يسلمان واحدة. وأما على القول الذي قدمناه: أن كل واحد منهما يسلم تسليمتين، فلا تعد التسليمة الثانية فيما ينفرد به المأموم. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما إشارة القاضي أبي محمَّد إلى مواضع لا يتصور مقصودها في الانفراد فإنها حمل الإِمام القراءة وسجود السهو عن المأموم، فإن هذا العمل يختص به الإِمام ولا يتصور في المنفرد. إذ المحمول عنه معدوم عند المنفرد. فتصور العمل من غير محمول لا يمكن. وكذلك أيضًا اعتقاد الإِمام الإمامة في الجمعة، وصلاة الخوف ينفرد به الإِمام دون المنفرد لأن المنفرد عبارة عمن ليس معه أحد يأتم به. ومن لا أحد معه لا يتصور منه اعتقاد الإمامة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: معنى قول القاضي أبي محمَّد أن المأموم يسقط عنه فرض القراءة وسجود السهو أن الإِمام يحمل عنه نسيان بعض أفعال الصلاة فلا يلزمه لأجل نسيانه سجود ولو كان منفردًا للزمه ذلك. فإن قيل إن المأموم يسجد مع الإِمام إذا سجد للسهو ويخاطب المأموم بذلك. فتراه لم يسقط عن المأموم. قيل إنما يسجد لمتابعة الإِمام لأن سجوده عوض عما ترك بدليل أنه يسجد مع الإِمام للسهو وإن لم يسه هو بنفسه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما لم يكتف القاضي أبو محمَّد فيما عده من خصائص الإِمام بقوله وجوب القراءة عن قوله والجهر بها. لأن وجوبها يسقط وقد يبقى مع سقوطها الندب إليها على قول من قال من أصحابنا إن المأموم يقرأ في صلاة السر دون صلاة الجهر فقد اختص الجهر بالسقوط دون السر في هذا الموضع وإن كان وجوب القراءة ساقطًا عن المأموم في السر والجهر. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: فنقول والله الموفق أن وجوب استقبال

القبلة واعتقاد نية الفريضة يستوي فيه (¬1) الصلوات كلها والمصلون كلهم. وينفرد المأموم باعتقاد (¬2) الائتمام ولا يلزم الإِمام أن ينوي الإمامة إلا في الجمعة وصلاة الخوف. ولا يجوز للمأموم أن يخالف الإِمام في اعتقاد نيته في الفرض (¬3) ولا في النفل ولا في غير الصلاة التي يأتم به فيها إلا أن يكون المأموم متنفلًا فله أن يأتم بمفترض. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال: 1 - هل قوله في استقبال القبلة أن الصلوات كلها تستوي فيه على إطلاقه (¬4) أم لا؟. 2 - وما الدليل على أن المأموم يلزمه اعتقاوإلائتمام؟. 3 - وما الدليل على أن الإِمام لا تلزمه نية الإمامة؟. 4 - ولم استثنى من ذلك الجمعة وصلاة الخوف؟. 5 - وما الدليل على أن المأموم لا يجوز له أن يخالف الإِمام في النية؟. 6 - ولِمَ استثنى من ذلك اقتداء المتنفل بالمفترض؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: مراده بقوله تستوي فيه الصلوات كلها والمصلون كلهم صلاة الفرض. لأن النفل على الدابة في السفر لغير القبلة يجوز على ما قدمنا (¬5). وقد ذكر مع وجوب استقبال القبلة اعتقاد نية الفريضة؟ واعتقاد نية الفريضة لا تمكن في النوافل. فدل على أن مراده ما قلناه. وكذلك قوله والمصلون كلهم إنما يريد به مع إمكان استقبال القبلة لأن المسايف الذي لا يمكنه الاستقبال يسقط فرض القبلة عنه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: لما كان معنى الائتمام القصد ¬

_ (¬1) فيها -غ-. (¬2) نية الائتمام -الغاني-. (¬3) نية الفرض -الغاني- النية في الفرض -ق-. (¬4) الإطلاق -و-. (¬5) قدمناه -ق-.

لمتابعة الإِمام وجب على المأموم أن ينوي ذلك. لأنه إما أن يقال لا يتابعه في الركوع والسجود فهذا، مَن فعله ولم يتابع الإِمام على شيء، فهذا إنما صلى منفردًا. ونحن كلامنا فيمن صلى مؤتمًا. وإن اتفق مقارنة أفعاله لأفعال الإِمام من غير قصد فهذا غير مؤتم أيضًا ولا مقتد. على أنه يبعد في العادة أن تتقارن سائر أفعال الصلاة اتفاقًا. وإن قارنت الأفعال الأفعال بقصد لذلك. وتعمد له، فهذا معنى النية. ولا بد من افتتاح الصلاة بها لئلا يمضي جزء من الصلاة لم يقصد (¬1) فيه المتابعة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في الإِمام هل عليه أن ينوي الإمامة؟ فقال مالك ليس ذلك عليه. وقال الشافعي والثوري وأحمد وإسحاق يجب ذلك عليه. ومتى لم يفعل لم تصح صلاة المأموم. وقال أبو حنيفة يلزمه ذلك إذا أم النساء ولا يلزمه إذا أم الرجال. فحجة من لم يشترط: حديث ابن عباس. والظاهر فيه أن ابن عباس دخل معه في الصلاة بعد أن أحرم. وظاهر هذا أنه عليه السلام لم يفتتح الصلاة بنية الجماعة. وقول أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه فجاء رجل إلى جنبه وجاء رجل فقام إلى جنبي حتى كنا رهطًا. فلما أحس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة. الحديث. وحجة من أوجب نية الإمامة قوله عليه السلام: الإِمام ضامن (¬2). وإنما يكون الضمان بعد العلم. ولأنه يحمل القراءة فوجب أن يقصد الإمامة ليصح العمل. وأجيب عن هذا بأن الضمان ها هنا لا يشترط فيه العلم، وإنما يضمن ما يتحمله وهو القراءة (¬3) والسهو. وحمل هذا لا يفتقر إلى نية. ألا ترى أنه لو نوى الإمامة ونوى أن لا يحمل القراءة (3) لم تؤثر نيته هذه في صحة العمل. وأما تفرقة أبي حنيفة بين الإمامة للنساء والإمامة للرجال، فإنه إنما يعتمد في ذلك على أن صلاة المرأة إلى جانب الإِمام يفسد صلاتها، وصلاة الإِمام. وهذا يقتضي أن على الإِمام تأخيرها ¬

_ (¬1) تقصد -و-. (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة. حديث 981 أو أخرجه أحمد ج 1 ص 314. (¬3) القراءة = ساقطة -ح-.

عنه (¬1) لتصح صلاته. وهذه زيادة فرض عليه لا يلزمه إلا بالقصد للإمامة. فلو أجزنا إمامته لها من غير قصد لأثبتنا عليه فرضًا لم يلتزمه (¬2). ولم يقصد إليه وليس هو ثابتًا في الأصل. وهذا الذي بني عليه أبو حنيفة لا نسلمه له. وسنتكلم على قوله بفساد الصلاة لأجل مقام المرأة هذا المقام. وإذا أوضحنا فساد الأصل فسد ما بني عليه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما استثنى صلاة الجمعة والخوف لأن صلاة الجمعة من شرطها الجماعة ولا تصح إلا بها فلما كانت الجماعة من شرط الصحة افتقر إلى القصد إلى ما هو شرط الصحة. ووجبت النية فيه. وأما صلاة الخوف فإنما أوجبوا فيها ذلك، عندي؛ لأن الإِمام يقيم الصلاة بين الطائفتين وينتظر الطائفة الأخرى (¬3)، وهذا لا يكون إلا مع العلم والقصد. هذا وجه ما قالوه في ذلك. ويلحق بهاتين المسألتين الاستخلاف. فإن الإِمام الذي أحدث فاستخلف افتقر إلى قبول المستخلف للاستخلاف وقبوله لذلك (¬4) يتضمن نية الإمامة أيضًا في تحصيل فضيلة الجماعة. لأن الإِمام إنما يكتب له فضل الجماعة إذا نواها. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: عندنا أن من شرط صحة صلاة المقتدي أن يوافق الإِمام في النية إلا فيما استثناه من جواز اقتداء المتنفل بالمفترض. وقال الشافعي ليس ذلك بشرط في الصحة. وقد خرج بعض شيوخنا مثل هذا، من القول عندنا بجواز إمامة الصبي في الفرائض. وخالفه غيره من الأشياخ وتردد فيه لاعتقاد الصبي نية الفرض. وقد قال بعض أصحابنا فيمن افتتح الصلاة ورأى من هو في خامسة ساهيًا أن صلاته لا تصح. قال ولو قلنا بصحة صلاته لم نناقض بذلك لأن الإِمام صلاه بنية الوجوب. وهذا الذي قاله فيه إشارة إلى الذي تردد فيه بعض الأشياخ. ودليلنا قوله إنما جعل الإِمام ¬

_ (¬1) عنه = ساقطة -و-. (¬2) يلزمه في -ح- ويلتزمه في بقية النسخ. (¬3) الثانية - ح - ق -. (¬4) ذلك -ح-.

ليؤتم به فلا تختلفوا عليه (¬1). واختلاف النيات ضرب من ضروب المخالفات. ولأن الاقتداء يقتضي المشاركة حتى تصير الصلاتان في معنى الصلاة الواحدة ولا يمكن ذلك إلا بأن يمكن (¬2) الإِمام على تحريمته صلاة المأموم. والإمام إذا أحرم بالنفل لا يمكنه أن يبني على هذه التحريمة صلاة الفرض التي يفعلها المأموم. ولما لم يمكن ذلك واستحالت المشاركة والاتحاد، وجب المنع من اختلاف النيات. ويحتج الشافعي بحديث معاذ وقد ذكر فيه أنه كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يصليها بقومه (¬3). وأجيب عن هذا بأنه لم ينقل أن النبي عليه الصلاة والسلام علم (¬4) بذلك فأقره. ولو علم به فأقره لأمكن أن يكون معاذ صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بنية النفل وصلى بقومه بنية الفرض. وقد ردوا هذا بأنه قد قال في بعض طرقه: فكانت له نافلة وكانت لهم فريضة. وأجيبوا عن هذا بأنه تأويل من الراوي وقد يغلط فيما تأول على معاذ. ويحتج أيضًا بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بكل طائفة ركعتين (¬5). والظاهر أن الثانية كانت نفلًا. وأجيبوا عن هذا بأن يمكن أن يكون صلى صلاة الخوف حضرا أو كان مسافرًا فنوى الإقامة حتى تكون الأربع هي فرضه. ويحتج أيضًا بإمامة عمرو بالناس وه وابن سبع سنين (¬6). وأجيبوا عن هذا بأنه لم يذكر أنه عليه السلام علم به فأقره. ولعله كان في مبدإ الإِسلام قبل وجوب القراءة. وتعلق صلاة المأموم بصلاة الإِمام، أو لعله كان في النفل. وتعلقوا أيضًا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بالناس صلاة الفجر فسمع صوتًا حدث من خلفه، فلما فرغ قال عزمت على من أحدث أن يتوضأ ويعيد. فلم يقم أحد فقال جرير بن عبد الله البجلي: رأيت يا أمير إن توضأنا كلنا وأعدنا الصلاة. فقال عمر لم تزل مد كنت سيدا في الجاهلية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري. الفتح ج 2 ص 318 ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: الجامع ج 2 ص 388. (¬2) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب يبني. (¬3) رواه مسلم: إكمال الإكمال ج 2 ص 200. (¬4) أنه علم -و-. (¬5) أخرجه البخاري: جامع الأصول ج 5 ص 734. (¬6) رواه البخاري وأبو داود والنسائي والبيهقي. الهداية ج 3 ص 187.

فقيهًا في الإِسلام. ففعلوا كذلك. وأجيبوا عن هذا بأنه لم يذكر أن عمر أمّ بهم ثانية. بل الظاهر أنه لم يفعل لأنه كان لا يرى بعد صلاة الفجر التنفل حتى تطلع الشمس. مع أنه يعارض بقول كثير بن أفلح قدمت المدينة ولم أكن صليت الظهر فدخلت المسجد وهم يصلون فصليت معهم الظهر. فلما فرغوا علمت أنهم كانوا في العصر، فقمت فصليت الظهر ثم صليت العصر ثم سألت عن ذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلهم أفتوا بما صنعت. واحتجوا من جهة المعنى بأن صلاة الجماعة إنما شرعت للبعد عن الغفلة والسهو بما يلتزم من مراقبة فعل الإِمام، والسهو بعيد عن الجماعة مع ما في الاجتماع والتكاثر على الفعل من تعظيمه في النفوس وإثارة الخشية والخضوع فيها. وهذا إنما يحصل بالمطابقة على الأفعال الظاهرة. وأما النيات فلا يطلع عليها إلا الله فيقدر المتابعة فيها مع أن النية تكون عند الإحرام. والمتابعة والاقتداء أمر يحدث بعد ذلك. فلم يكن للنية فيه مدخل. وأجيبوا عن هذا بأن صفة الصلاة لا تتميز عن الصلاة. فإذا وجبت المشاركة في الأصل وتقدير الاتحاد فيه وجب ذلك في صفته (¬1) التي لا تتميز عنه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما استثنى صلاة المتنفل خلف المفترض لما كنا أشرنا إليه من أن الاقتداء إنما يحصل متى أمكن الإِمام أن يبني على إحرامه صلاة المأموم. ومن أحرم بالظهر لا يمكن أن يبني على إحرامه صلاة العصر. ومن أحرم بالنفل لا يمكن أن يبني على إحرامه صلاة الفرض. فأما من أحرم بالفرض فيمكنه أن يبني عليه صلاة النفل كمن أحرم بظهر فرض ثم علم أنه صلاها فإنه يفعل الذي يفعل من هذه الصلاة بعد ذكره بنية النفل. فلما أمكن ن يبني فعل النفل على إحرام الفرض صحت إمامة المتنفل بالمفترض. ولما لم يكن أن يبني فعل الفرض على إحرام النفل لم تصح صلاة المفترض خلف المتنفل. وقد تردد (¬2) بعض أصحابنا في جواز صلاة ناذر ركعتين ¬

_ (¬1) صفة لا تتميز -ح-. (¬2) توقف -و-.

خلف متنفل بهمالك ون النذر أخفض رتبة من الفرض وللنظر فيما قال مجال. قال القاضي رحمه الله: ومن أحرم بصلاة الصبح رفع (¬1) يديه حذو منكبيه. والإمام (¬2) والمنفرد يعقبان التكبير بقراءة أم القرآن وسورة من الطوال جهرا على ما قدمناه في كلتي الركعتين. والمأموم (¬3) سنته بعد التكبير الإنصاف والاستماع. ومن لا يحسن أم الكتاب صلى خلف من يحسنها. فإن لم يقدر كبر واعتدل وسبح إن أحسن ثم ركع، ولا يجوز (¬4) أن يؤم من يحسنها وعليه أن يأتم به. إلا أن لا يصلح للإمامة. ويجوز أن يؤم مثله. ومن فرغ منهم من قراءة أم القرآن أمّن المنفرد والمأموم. والأفضل للإمام الاجتزاء بتأمين المأموم، والاختيار إخفاء التأمين. وإذا فرغ من القراءة كبروا للركوع (¬5) واعتدلوا فيه ورفع جميعهم منه. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: جميع ما اشتمل هذا الفصل عليه قد مضى القول فيه مستوعبًا في مواضعه؛ لأنا قدمنا الكلام على رفع اليدين وجميع ما يتعلق به ونفينا التوجه الفاصل بين التكبير والقراءة. وذكرنا مقدار القراءة، وذكرنا حكم الأمي وحكم التأمين. وقول القاضي أبي محمَّد ها هنا في الأمي: ولا يجزيه أن يؤم من يحسنها قدمنا الكلام عليه لما ذكرنا اضطراب المذهب في صحة صلاة الأمي مع وجود القارئ. فمن اختار أن يقف على قولنا في هذه الفصول فله طلبه في مواضعه المتقدمة يجد فيه قولًا شافيا. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: فأما الإِمام فيقول (¬6): إذا رفع رأسه سمع الله لمن حمده ولا يقول ربنا ولك الحمد. والمأموم لا يقول سمع ¬

_ (¬1) يرفع -الغاني-. (¬2) فالإمام -غ-. (¬3) وأما المأموم -غ-. (¬4) ولا يجزيه -الغاني- ح - و -. (¬5) كبروا والركوع -الغاني-. (¬6) من قول القاضي عبد الوهاب وأما الإِمام فيقول إلى وروى عنه اللهم ربنا ولك الحمد قبيل السؤال الخامس = ساقط من نسخة - ح.

الله لمن حمده ويقول اللهم ربنا ولك الحمد. والمنفرد يجمع الأمرين ثم يكبر للسجود ويجلس منه، ثم يسجد الثانية. وإذا أهوى (¬1) للسجود فإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه أو ركبتيه قبل يديه إلا أن وضع اليدين ابتداء أحسن. وينهض من السجود قائمًا لا يقعد. ثم يقوم إلا أن يضطر إلى (¬2) ذلك، لمرض أو ضعف. ويفعل في الثانية من القراءة مثل ما فعل (¬3) في الأولى. إلا أنه يقنت إن شاء قبل الركوع، وإن شاء بعده. واختاره مالك رحمه الله قبله من غير تضييق. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما معنى سمع الله لمن حمده؟. 2 - وهل يقتصر الإِمام عليه أم لا؟. 3 - وهل يقتصر المأموم على ربنا ولك الحمد أم لا؟. 4 - وما المختار من لفظ المأموم عندنا؟. 5 - ولمَ جمع اللفظتين المنفرد؟. 6 - ولمَ اختار في السجود البداية بوضع اليدين؟. 7 - ولمَ نهي القائم من السجود عن القعود؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف في معنى قول المصلي سمع الله لمن حمده. قال بعض أصحابنا معناه الدعاء. وكأن هذا القائل يشير إلى أن المراد به الدعاء بقبول التحميد. وقال بعض الأشياخ المراد به الحث على التحميد وإليه مال بعض الحذاق من غير أصحابنا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المشهور من المذهب عندنا اقتصار الإِمام على القول: سمع الله لمن حمده. وقال ابن نافع وعيسى ابن دينار بل يضيف إليه ما يقول المأموم: اللهم ربنا ولك الحمد، وبه قال الشافعي. فحجة القول المشهور عندنا قوله عليه السلام في الإِمام وإذا قال سمع ¬

_ (¬1) فإذا هوى -الغاني-. (¬2) لذلك -و-. (¬3) يفعل -الغاني-.

الله لمن حمده فقدلوا ربنا ولك الحمد (¬1). وهذا يقتضي اقتصار الإِمام على القول: سمع الله لمن حمده. لأنه خص كل واحد من الإِمام والمأموم بقول ما. فلو كان كل واحد منهما يقول ما يقوله صاحبه لم يكن لهذا التخصيص فائدة. وهذا نحو ما قلناه في نفي التأمين من أن قوله إذا قال: ولا الضالين فقدلوا آمين، يقتضي اقتصار الإِمام على ذلك، وأنه لا يؤمّن. وقد قدمنا ما قيل في ذلك. ولأن معنى سمع الله لمن حمده: الحث على التحميد، فيجب أن يكون الإِمام مختصًا بالحث على ذلك والمأموم مختصًا بالمجاوبة له (¬2) عما حث عليه بأن يقول: اللهم ربنا ولك الحمد. ويكونان في ذلك كالداعي والمؤمّن. ووجه القول من أن الإِمام يجمعهما ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: كان يقولهما (¬3) وانفصل عن هذا بأنه يحتمل أن يكون ذلك كان في صلاة انفرد بها - صلى الله عليه وسلم -. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: يقتصر المأموم في المشهور من المذهب عندنا على القول: اللهم ربنا ولك الحمد. وقال ابن نافع وعيسى بل يجمع بين ذلك وبين القول: سمع الله لمن حمده. وبه قال الشافعي. وقال الثوري وأحمد ومحمد وأبو يوسف يجمع بينهما الإِمام ولا يجمع بينهما المأموم. فخرج من مجموع ذلك: أن الشافعي يرى أنهما يجمعان بينهما. ومالك وأبو حنيفة لا يريان لهما الجمع بينهما. والثوري ومن ذكرنا معه يرون الجمع بينهما للإمام دون المأموم. ودليلنا ما قدمناه من الحديث والمعنى. فلا معنى للإعادة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلفت الرواية عن مالك. فروي عنه أن المختار أن يقول المأموم اللهم ربنا ولك الحمد. فكأنه اختار هذا لأنه كان أعم فائدة. وتنزل تنزيل كلمتين تقديرهما اللهم استجيب لنا ولك الحمد. وروي (¬4) عنه: اللهم ربنا لك الحمد بحذف الواو. وقد اختلفت الأحاديث ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 320. (¬2) مختصًا به له على ما حث عليه -ق- ولا معنى له. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم: نصب الراية ج 1 ص 376. (¬4) من هنا اتصلت نسخة -ح-.

ففي بعضها اللهم ربنا ولك الحمد وفي بعضها اللهم ربنا لك الحمد. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما المنفرد فيجمع بين اللفظتين: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. ورأيت بعض أصحاب أبي حنيفة ذكر أنه قد روي عن أبي حنيفة أن المنفرد لا يجمع بينهما، وكأنه قدر أن القول: سمع الله لمن حمده حث على التحميد، والحاث على ذلك لا يؤمر بأن يجاوب نفسه. ونحن لما رأينا أن المنفرد لا مجاوب له أمرناه بأن يجاوب (¬1) نفسه. ولهذا المعنى جمع المنفرد بين اللفظتين بخلاف المأموم. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في المختار لمن أهوى بالسجود هل يبدأ بوضع يديه أولًا أو ركبتيه؟ فروي عن مالك أنه لم يحد في ذلك حدًا. وروي عنه أن المختار أن يبدأ بوضع يديه. وعند أبي حنيفة والشافعي المختار البداية بركبتيه. فدليلنا حديث أبي هريرة لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه (¬2). واستدل المخالف بحديث أبي وائل أنه عليه السلام كان إذا أهوى للسجود وضع ركبتيه قبل يديه فإذا نهض رفع ركبتيه قبل يديه (¬3). ويقول سعد كنا نضع أيدينا قبل ركبنا (¬4) فنهينا عن ذلك وأمرنا أن نضع ركبنا قبل. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف الناس في رافع رأسه في سجود ركعة وتر. فقال مالك وأبو حنيفة لا يؤمر بجلوس قبل قيامه. بل يستوي قائمًا من غير جلوس. وقال الشافعي بل يجلس جلسة خفيفة. ودليلنا حديث وائل بن حجر أنه عليه السلام كان إذا رفع رأسه من السجود يستوي قائمًا (¬5). ¬

_ (¬1) يجاوب عن نفسه -و-. (¬2) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. مختصرًا بي داود ج 1 ص 398. (¬3) أخرجه البيهقي. السنن ج 2 ص 99. (¬4) سنن البيهقي ج 2 ص 100. (¬5) في كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 140 - 141) بلفظ ثم انحط ساجدًا بمثل ذلك ثم رفع رأسه بالتكبير بيديه إلى أن حاذتا بشحمة أذنيه قالما الهيثمي وفيه محمَّد بن حجر قال البخاري فيه بعض النظر وقال الذهبي له مناكير. مجمع الزوائد ج 2 ص 138.

ولأنه لو كان الجلوس مسنونًا لسن فيه ذكر كالتشهد في الجلستين. ولا ينقض هذا بالجلسة بين السجدتين؛ لأنها ليست بمسنونة على القول الذي قدمناه عندنا. ولا نسلم أن التكبير ذكر شرع لهذه الجلسة التي قالوها. واستدل الشافعي بوصف أبي حميد لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر أنه كان يجلس (¬1). وأجيب عن هذة بأنه يحتمل أنه يكون ذلك عندما أسن - صلى الله عليه وسلم - وثقل عليه القيام من غير جلوس. أو فعل ذلك في بعض الصلوات لمرض أصابه. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ودعاء القنوت على نحو ما ورد في الحديث: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونخضع لك ونخنع (¬2)، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وقنا شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك لا يذل من واليت ولا يعز ما عاديته تباركت وتعاليت". هذه الألفاظ وما يقاربها، وإن كان في نفسمعاجة دعا الله تعالى بها وكل ذلك سر. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل للقنوت دعاء مخصوص معين أم لا؟. 2 - وما تصير الألفاظ الغريبة التي وقعت في المستعمل منه؟. 3 - وهل يجوز الدعاء في الصلاة بما شاء على الإطلاق؟. 4 - وما محل الدعاء من الصلاة؟. 5 - ولمَ اختار إخفاءه؟. ¬

_ (¬1) الموجود في مسند أحمد ج 5 ص 424 أنه كان لا يجلس وكذلك في البخاري وأبي داود والترمذي حسب ما وجد في جامع الأصول ج 5 ص 415 - 417. (¬2) ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك. ونخنع لك ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد. إن عذابك بالكافرين ملحق اللهم اهدنا الخ. الغاني.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: ليس عندنا في القنوت دعاء معين ولا نوقت فيه قولًا ولا مقدارًا من الوقوف. وقد اختلف الناس فيما يختار منه. فذكر القاضي أبو محمَّد ما في كتابه هذا. وقد روي أن جبريل (¬1) عليه السلام علم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القنوت، وهو: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق". وقالت الشافعية الدعاء المسنون في القنوت: "اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فمين توليت وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا (¬2) شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت" (¬3) فما زاد على ذلك فهو حسن. واحتجوا بقول الحسن بن علي رضي الله عنه كلمات علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادعو بهن في القنوت: "اللهم اهدنا فيمن هديت وذكر ما قلناه" (¬4). والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قوله نخنع أي نخضع ومعنى قوله نخلع أي نخلع الشركاء والأنداد. ومعنى نحفد أي نبادر وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع فيه. يقال حفد الحادي وراء الإبل إذا أسرع، ودارك خطوه. ومنه قيل للعبيد والإماء حَفَدة لأنهم يسرعون إذا مشوا للخدمة. قاله ابن قتيبة. ¬

_ (¬1) روي في المدونة عن ابن وهب عن معاوية بن صالح عن عبد القاهر عن خالد بن أبي عمران قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو على مضر إذ جاء جبريل فأومأ إليه أن اسكت فسكت فقال يا محمَّد إن الله لم يبعثك سبابًا ولا لعانًا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابًا. ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ثم علمه هذا القنوت: اللهم إنا نستعينك ... المدونة ج 1 ص 100. (¬2) إلى هنا تنتهي النسخة -ح- والاعتماد فيما يلي على النسخة -و- والنسخة -ق-. (¬3) رواه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. الهداية ج 3 ص 93. (¬4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح. بلوغ الأماني ج 4 ص 311.

وقال غيره معناه نخدم. يقال حفد العبد يحفد حفدًا إذا خدم. وقال أبو عبيد يقال حفد وأحفد بمعنى. وقال طاووس في قوله تعالى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} (¬1) أن الحفدة الخدم. وإن كان قد خولف في ذلك. وقال ابن مسعود هم الأَخْتَانُ. وقال عكرمة هم بنو الرجل، من نفعه منهم. وقال الضحاك هم بنو المرأة من زوجها الأول. ومعنى الجد بكسر الجيم الحق. ومعنى ملحق أي لاحق. يقال ألحقت القوم بمعنى لحقتهم. قال ابن قتيبة هكذا يروى هذا الحرف. ومن قال ملحق بفتح الحاء أراد أن الله يُلحقه إياهم. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: مذهب مالك والشافعي جواز الدعاء في الصلاة بما في القرآن من الأدعية وبما ليس فيه منها، خلافًا لأبي حنيفة من قصره الإجازة على ما ورد في القرآن، والأدعية المأثورة. وإن من أصحابه من قال إن دعا بما لا يطلب إلا من الله جاز. وإن دعا بما يطلب من الآدميين بطلت صلاته. وروي ذلك عن الحسن. وروي عنه أيضًا أنه أباح الدعاء في التطوع وكرهه في المكتوبة. وقال عطاء والنخعي يكره أن يسمي من يدعو له باسمه في صلاته. ولنا قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (¬2) فهذا على عمومه. وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بما ليس في القرآن كقوله: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" (¬3). وقوإنفصلوا عن هذا بأنه يشبه أدعية القرآن إذ ليس فيه تسمية أحد، فيقال لهم قد سمى ناسًا في دعاء آخر. منهم الوليد بن هشام وعياش بن أبي ربيعة. وقد تعلق المخالف بقوله في حديث معاوية بن الحكم إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين (¬4). وأجاب بعض أصحابنا عن هذا بأن محمله على الكلام المعهود في المخاطبة. وهو وإن كان إنما قال يرحمك الله فإنا لا نجيز مثل هذا لأنه مخاطبة لإنسان. وقال بعض ¬

_ (¬1) سورة النحل، الآية: 72. (¬2) سورة غافر، الآية: 60. (¬3) رواه البخاري في كتاب الدعوات ومسلم في كتاب المساجد وغيرهما. (¬4) رواه مسلم وأبو داود والنسائي والدارمي عن معاوية بن الحكم السلمي إرواء الغيل ج 2 ص 112.

أصحابنا إن قال يا فلان يرحمك الله فإنه كالمتكلم لما افتتح دعاءه بالنداء لإنسان. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الدعاء في الصلاة جائز إلا في ثلاثة مواضع: عَقِيب الإحرام قبل أن يقرأ. وعقيب الجلوس قبل أن يتشهد. وفي الركوع. وقد قدمنا أن ابن شعبان حكى عن مالك الفصل بين الإحرام والقراءة بالتسبيح الذي حكيناه. قال بعض أشياخي ويتخرج عليه جواز الدعاء. ومال إليه لقول أبي هريرة رضي الله عنه يا رسول الله ما تقول في إسكاتتك هذه. فذكر له الدعاء الذي يقوله حينئذ (¬1). وقال أيضًا شيخنا هذا: لا يكون الدعاء في الركوع ممنوعًا لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم اغفر لي يتأول القرآن (¬2). ووقفت لأبي مصعب على جواز الدعاء في الركوع. واستحبت الشافعية أن يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وارفعني واجبرني وارزقني واهدني للسبيل الأقوم وعافني. وليس عندنا ولا عند أبي حنيفة فيه ذكر مسنون. واحتجت الشافعية بما روى ابن عباس أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا رفع رأسه من السجود: اللهم اغفر لي وذكر الحديث إلى قوله واهدني. وزادت أم سلمة للسبيل الأقوم وعافني (¬3). قالوا ولأنه جلوس يشرع فيه الاستقرار فشُرع فيه ذكر مسنون كجلوس التشهد. ولا يلزم أن يكون الذكر تشهدًا كما لم يلزم أن يكون الذكر المشروع في قيام القنوت قرآنًا. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما استحب السر في الدعاء في القنوت وما أضاف إليه لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (¬4) وقد ¬

_ (¬1) رواه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 73. (¬2) رواه البخاري ومسلم ولفظ مسلم عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك. اللهم اغفر لي يتأول القرآن. إكمال الإكمال ج 2 ص 201. (¬3) سنن البيهقي ج 2 ص 122. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 55.

أثنى الله تعالى على زكرياء فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (¬1). ولأن الخفوت وضعف الصوت يدل على استيلاء الهيبة على النفس فكان أولى أن يستعمل في طلب الحاجات من الله سبحانه. وقد تقدم هذا المعنى فيما سلف. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ثم يركع ويسجد ويجلس على ما بيناه، فإذا (¬2) فرغ من تشهده سلم الإِمام والمنفرد واحدة، والمأموم اثنتين، ينوي بالأولى التحليل وبالثانية الرد على الإِمام. وإن كان على يساره من سلم (¬3) عليه نوى الرد عليه. فأما الظهر فليست تفارق الصبح في الأداء إلا في الأسرار. والاختيار للمأموم أن يقرأ إذا أسر إمامه ويؤمّن الإِمام فيما يسر فيه ويكبر القائم من اثنتين بعد اعتداله في القيام بخلاف التكبير في (¬4) سائر أفعال الصلاة التي يأتي بها مع الشروع في الفعل. وسنة الجهر في المغرب والعشاء في الركعتين الأوليين منهما *وكل صلاة تزيد على ركعتين فالسنة فيها قراءة سورة مع أم الكتاب في الركعتين الأوليين منها* (¬5) والاقتصار على أم الكتاب في الأخيرتين. وعورة الرجل المخاطب بسترها في الصلاة من سرته إلى ركبتيه. وكذلك الأمة. وعورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين. وتجزيء الصلاة في ثوب واحد. إلا أنه يكره أن يعري كتفيه من رداء، أو ما يقوم مقامه في الجماعة. وله أن يتقي بثوبه الحرَّ والبرد وأذى الأرض. وليس له كفت ثوبه ولا شعره عند الصلاة إلا أن يكون في صنعة صادفته الصلاة عليها فلا يكره له. ويكره له التلثم والاقناع وزيادة الانحناء عن التعديل في الركوع. قال الشيخ رحمه الله وقدس روحه: قد تقدم الكلام على ما في هذا ¬

_ (¬1) سورة مريم، الآية: 3. (¬2) وإذا -غ-. (¬3) من يسلم عليه - و - ق - الغاني-. (¬4) الذي في -و-. (¬5) ما بين النجمين انفردت به نسخة الغاني.

الفصل من أحكام السلام وما يقرأ في الركعتين الأوليين والأخريين. وأحكام العورة مبسوطًا موعبًا في مواضعه. فمن أحب مطالعته فليقف عليه فيما قدمناه. وقد ذكر في هذا الفصل أن الاختيار للمأموم أن يقرأ إذا أسر إمامه. وهذا مما اختلف الناس فيه. والمختار عندنا أن للمأموم أن يقرأ فيما أسر فيه الإِمام. وقال ابن وهب وأشهب لا يقرأ المأموم أصلًا. وبه قال أبو حنيفة. ودليلنا قول أبي هريرة فانتهى الناس عن القراءة في ماجهر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وهذا يدل على أنهم لم ينتهوا عن القراءة في السر. ودليل من نفى القراءة في السر قوله عليه السلام في الإِمام: وإذا قرأ فأنصتوا (¬2) فعم قراءة السر والجهر. وكان ابن عمر لا يقرأ خلف الإِمام، وقال علي رضي الله عنه من قرأ خلف الإِمام مليء فوه ترابًا. وذكر ابن حبيب عن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم نفي القراءة في صلاة السر. وذكر في هذا الفصل أيضًا أن التكبير في القيام من اثنتين يكون بيع الاعتدال. وهذه مسألة اختلف الناس فيها أيضًا. فمذهبنا ما ذكره. وقال الشافعي بل يكون التكبير عند ابتداء القيام قياسًا على تكبير الخفض والرفع *وقد حكى الطبري عن مالك مثل هذا أنه يكبر في حال القيام* (¬3) وفي الخبر أنه كبر كلما خفض ورفع (¬4). وهذا يشير لكون التكبير مصاحبًا للفعل. واحتج لمذهبنا بأن التكبير ينبغي أن يكون في مسألتنا عند كمال الانتصاب قياسًا على تكبيرة الإحرام؛ لأن التكبيرة السابقة للجلسة الأولى إنما كانت لرفع ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في الموطإ باب ترك القراءة خلف الإِمام فيما يجهر فيه. تنوير الحوالك ج 1 ص 82. (¬2) نصب الراية ج 2 ص 14. (¬3) ما بين النجمين = ساقطة -ق-. (¬4) عن ابن مسعود رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه: الهداية ج 3 ص 11. إرواء الغليل ج 2 ص 35.

الرأس من السجدة والتكبير بعد الجلسة إنما هو للثانية. فيجب أن يكون في مبدإ الثانية، وهي حالة اعتداله وانتصابه. وأكد هذا بعضهم بأن عائشة رضي الله عنها أخبرت أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر (¬1). وهذا يشير إلى كون الركعتين الأخريين كصلاة أخرى مزيدة. فينبغي أن يكون الإحرام لها عند تمام الاعتدال وكمال الانتصاب. وذكر في هذا الفصل أن له أن يتقي بثوبه الحر والبرد وأذى الأرض. وهذا كما قال: لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتقي بثوبه حر الأرض وبردها (¬2). ولكن قال ابن مسلمة من أصحابنا يكره له أن يسجد على ثوبه الذي هو لابسه لأنه يصير كالساجد على الأرض بغير وجهه. وإنما أبيح السجود على الثوب عندنا لضرورة إتقائه أذى الأرض به. وأما مع الاختيار فيكره السجود على ثياب القطن والكتان. وأجازه ابن مسلمة. ووجه الكراهة ما فيه من الترفه (¬3). والصلاة مبناها على التواضع والتذلل لله سبحانه. فقصد الترفه فيها ينافي موضوعها. هذا وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: يا رباح عفر وجهك في الأرض (¬4). وهذه إشارة منه - صلى الله عليه وسلم - إلى التذلل والخشوع لله سبحانه. وأما ما تنبته الأرض كالحصر فلا كراهة في السجود عليه لأنه خارج عن أبواب الترفه. ولكن كان بعض أشياخي يكره السجود على حصر السامان كما يفعله المترفهون (¬5). لأن الصلاة عليها المقصود بها الترفه والتعظيم فنهي عنه لذلك. وذكر في الفصل أنه ليس له كفت ثوبه ولا شعره عند الصلاة وهذا كما قال لنهيه - صلى الله عليه وسلم - المصلي عن فعل ذلك. واستثنى منه ها هنا من كان في صنعة صادفته ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 9 ومسلم إكمال الإكمال ج 2 ص 345 وغيرهما. (¬2) عن أنس بن مالك قال كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود. فتح الباري ج 2 ص 39. (¬3) مخافته من الترفيه -ق-. (¬4) رواه في كنز العمال وعزاه لابن عساكر بلفظ ترب وجهك ج 8 ص 131. (¬5) المتعظمون.

الصلاة عليها. واختار بعض المتأخرين من الأشياخ لهذا أن يزيل تشميره ليأتي بالصلاة على الهيئة الفاضلة. وكره له في الفصل التلثم والاقناع، وزيادة الانحناء على التعديل في الركوع. وهذا كما قال. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة ركوعه أنه لو صب على ظهره ماء لاستقر (¬1). وهذا يشير إلى الاعتدال. والاقناع يكره لخروجه عن الاعتدال. وقد كره ابن عمر تغطية اللحية ورآها من الوجه. تم كتاب الصلاة الأول ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجة: السنن ص 872. حديث ضعيف إذ في إسناده طلبة بن زيد وهو منكر الحديث.

باب السهو وما يفسد الصلاة وما يتصل بذلك قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: السهو يقع على وجهين: بنقصان وبزيادة (¬1). وله سجدتان كثر أم قل (¬2) كان من أحد الوجهين أو من كليهما. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة تقسيمه للسهو؟. 2 - وما الدليل على الاكتفاء بسجدتين عن جميعه؟. 3 - وما معنى تقييده بقوله كان من أحد الوجهين أو من كليهما؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد جاء الشرع يكون الصلاة على مقادير محدودة فمن أوقع جميع مقاديرها، على ما هي عليه في الشرع، فلا شك في كونه ممتثلا وفي كونه غير مخاطب بسجود أصلًا، إلا أن يسهو عن النية أو عن بعض الأفعال سهوا، بمنع من الاعتداد بالصلاة، فذلك غير مخاطب بالسجود ولا هو مراد بهذا التقسيم. ومن شك في عدد الركعات التي صلى فإنه، وإن خوطب بالسجود فلتقدير (¬3) نقص أو زيادة على ما نبينه. وذلك لا يخرج عن هذا التقسيم. وإذا ثبت أن الموقع للصلاة على مقاديرها الشرعية غير مخاطب بسجود سهو لم يبق إلا أن يخاطب به من لم يوقعها على هذه المقادير. وخروجه عنها لا يكون إلا بزيادة فيها أو نقص منها. وهذا يدل على صحة ¬

_ (¬1) وزيادة -غ -ق- (¬2) قل أو كثر -غ-. (¬3) فالتقدير -ق-.

تقسيمه. وقد ذكر عن علقمة (¬1) والأسود أنه لا سجود في سهو الزيادة ويرد عليهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسًا فسجد (¬2). والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: مذهب فقهاء الأمصار الاكتفاء بسجدتين عن جميع ما يسهى عنه وإن كثر مما فيه السجود. وقالت طائفة لكل سهو سجدتان. وقال الأوزاعي إن كان من جنس واحد تداخل. وإن كان من جنسين لم يتداخل. وقال ابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي مسلمة إن كان أحدهما محله قبل السلام والآخر بعد السلام سجد قبل السلام لما يختص بما قبل السلام، وبعد السلام لما يختص بما بعد السلام. فدليلنا على تداخله أنه - صلى الله عليه وسلم - سلَّم من اثنتين ثم مشى ثم تكلم (¬3). وهذا سهو في ثلاثة مواضع مختلفة الأجناس، ومع هذا فإنما سجد سجدتين. وأيضًا فإن سجود السهو إنما أخر عن سببه إلى آخر الصلاة ليكتفى عن جميعه بسجدتين. ولو لم يُكتف بذلك عن جميعه لجُعِل السجود عقيب سببه. وهذا لم يقله أحد. ويستدل *نفاة التداخل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل سهو سجدتان" (¬4) وأجيبوا عن هذا بأن الخبر لم يثبت. ولو ثبت لحمل على أن المراد به* (¬5) لكل سهو انفرد سجدتان. واستدلوا بأن الدم في الحج لا يتداخل مع تعدد أسبابه. فكذلك سجود السهو. وأجاب ابن القصار عن هذا بأن القياس أن يكون الحج كالصلاة في اتحاد الدم. على أنه يفرق بينهما. بأن الدم يجب في الحج عقيب السبب ولا يجب السجود في الصلاة عقيب السبب بل أخر فيها (¬6) لجواز أن يتكرر فيكتفي عن جميعه بسجود واحد. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما نبه القاضي أبو محمَّد بقوله ¬

_ (¬1) غير واضحة في -و- نحتمل عائشة وعلقمة. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة مختصر سنن ابن أبي داود للمنذري ج 1 ص 465. (¬3) أخرجه الستة إلا ابن ماجة: جامع الأصول رقم 3764. (¬4) ابن أبي شيبة عن ثوبان 4483. (¬5) ما بين النجمين = ساقط من -و- مثبت -ق-. (¬6) بل أخر وقتها -ق-.

كان من أحد الوجهين أو من كليهما على ما ذكرناه من الخلاف عن ابن أبي حازم وعبد العزيز ومصيرهما إلى أن يختص كل سهو بسجوده إذا تباين محله. فأشار القاضي أبو محمَّد رحمه الله إلى اختلاف الأجناس أو المحال لا تمنع من تداخله (¬1) على حسب ما بيناه. فلما كان التداخل فيما تماثل جنسه ومحله أوضح منه في ما اختلف جنسه ومحله نبه عليه حتى يشتمل كلامه على الغامض والواضح. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ويؤخر سجوده (¬2) إلى آخر الصلاة فيؤتى به (¬3) في النقصان قبل السلام، وفي الزيادة بعده، وفي اجتماعهما يُغلِّب النقصان فيسجد قبل السلام ويكبر لهما في ابتدائهما والرفع منهما ويتشهد للتين بعد السلام ويسلم. وأما اللتان قبل السلام فإن السلام من الصلاة يكفي منهما. وفي التشهد لهما روايتان. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما وجه تأخير سجود السهو إلى آخر الصلاة؟؟ 2 - وما الدليل على افتراق حكم النقص والزيادة فيه؟. 3 - وما الدليل على التكبير والتشهد فيه؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما تأخير سجود السهو إلى آخر الصلاة فمعلل بعلتين: إحداهما: أنه إنما أخر لجواز أن يتكرر السهو فيكتفي فيه وإن كثر بسجدتين ولو أوقع عند سببه لوجب أن يسجد بسهو آخر ويفعل ذلك في ثان وثالث. وهذا لم يصر إليه أحد. والثانية أن الأصل أن يعوض ما سهى عنه بمثله ويفعل عند الذكر له. وحالة الذكر إذا كانت في أثناء الصلاة لا يصح أن يفعل فيها ما ترك سهوًا، أو يفعل العوض منه؛ لأن ذلك المكان قد استحق فعلًا آخر من أفعال الصلاة بأصل الشرع. فإذا تزاحم هو والمتروك على ¬

_ (¬1) لا يمنع من التداخل -ق-. (¬2) سجودهما - و - ق -. (¬3) بهما -الغاني-.

المحل (¬1) كان أحق به لاستحقاقه إياه في أصل الشرع. فمن رأى أن سجود السهو بعد السلام لم يعترض في تعليله بهذا. ومن رآه قبل السلام قد يعترض بأنه يفعل في محل قد استحق فعلًا آخر من الصلاة. والانفصال عند هؤلاء عن هذا الاعتراض بأن أفعال الصلاة قد تصرمت ولم يبق منها إلا التسليم. والتسليم لا يتعين وقته بل له تأخيره. فصار إيقاع سجود السهو في محل لا يستحق فعلًا آخر يزاحمه سجود السهو عليه. فافترق حال ما قبل السلام من حال ما سواه من أثناء الصلاة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في محل سجود السهو. فذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعمار ابن ياسر وأنس بن مالك وابن عباس وابن الزبير إلى أنه بعد السلام. وبه قال من الفقهاء الحسن البصري وابن صالح والنخعي وابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة. وذهب أبو هريرة وأبو سعيد الخدري إلى أنه قيل السلام. وبه قال الشافعي والزهري وربيعة والأوزاعي والليث بن سعد. وذهب مالك رضي الله عنه إلى أنه إن كان عوضًا عن نقص كان قبل السلام وإن كان لأجل زياده كان بعد السلام. وبه قال إسحاق وأبو ثور والشافعي في القديم. وذهب ابن حنبل وغيره إلى اتباع ظواهر الآثار. وما لم يرد فيه أثر فالسجود فيه قبل السلام. فالسجود عنده في ترك الجلسة الأولى قبل السلام على حديث ابن بجينة (¬2) وإذا شك فرجع إلى اليقين فالسجود قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري (¬3) فإذا شك فكان ممن يرجع إلى التحري. فالسجود بعد السلام على حديث ابن مسعود (¬4). وإذا سلم من اثنتين فالسجود بعد السلام على حديث أبي هريرة (¬5). وذهب داود إلى اتباع الآثار على حسب ما ورد. ومن أصله نفي القياس، فنفى السجود فيما سوى ما وردت به الآثار. ¬

_ (¬1) على هذا المحل -ق-. (¬2) رواه مالك في الموطإ: تنوير الحوالك ج 1 ص 90. والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. الجامع ج 5 ص 531. (¬3) أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي. جامع الأصول ج 5 ص 376. (¬4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي جامع الأصول ج 5 ص 376. (¬5) رواه مالك في الموطإ. تنوير الحوالك ج 1 ص 88.

وأشار بعض العلماء إلى التخيير في محله. وقد قال مالك رضي الله عنه: ما كان الناس يحتاطون في سجود السهو قبل ولا بعد. وكان ذلك عندهم سهلًا. ومدار هذه المذاهب على اختلاف الطرق في بناء الأحاديث المختلفة الظواهر الواردة في السهو. فقد خرج الصحيحان في حديث ابن بجينة لما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - من اثنتين أنه سجد قبل السلام. وخرجا في حديث ذي اليدين لما سلم من اثنتين أنه صلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتين. وخرجا في حديث ابن مسعود أنه عليه السلام لما صلى الظهر خمسًا سجد سجدتين بعد السلام. فهذه أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اختلفت كما ترى. وقد اختلفت ظواهر أقواله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشك وسنوردها عليك إن شاء الله فيما بعد. فأما داود فلما كان من نفاة القياس أخذ بكل حديث على ما وقع فيه وأنكر ما خرج عنه ولم يستعمل البناء في الأحاديث لجواز ورود التعبد بحسب ما وردت فيه من الاختلاف. وأما ابن حنبل. فلم يستعمل البناء فيها لأجل ما اعتللنا به لداود ولكنه استعمل القياس فيما سواها. وتمسك فيه بالمعنى. وصار إلى كونه قبل السلام لما سنورده عليك في احتجاج القائلين بأن السجود كله قبل السلام. وأما من أشار إلى التخيير فإنه قد تعذر البناء عليه ولم يجد سبيلًا إلى طرح جميع الأحاديث فاستعملها على جهة التخيير. وأما من قال: السجود كله قبل السلام فإنه يتأول ما ورد من الأحاديث بأنه بعد السلام على ثلاثة أوجه: أحدها أن يقدر أن المراد بالسلام، السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -: السلام (¬1) المذكور عند التشهد. أو يحمل ما وقع من سجوده عليه السلام بعد السلام على أنه نسي أن يوقعه قبل السلام فأوقعه بعده. أو يحمله على أنه كان ثم نسخ. ويعضده بقول ابن شهاب كان آخر الأمرين السجود قبل السلام. وهذا إشارة إلى أنه كان بعد ثم نسخ. وأما من قال السجود كله بعد السلام فإنه يتأول ما وقع من الأحاديث بأنه قبل السلام على أحد وجهين. إما أن يريد أن السجود قبل التسليمة الثانية وإما أن يريد السجود قبل التسليم منه. وأشار بعضهم إلى تأويل ثالث وهو أن المراد بالسجدتين السجدتان اللتان من نفس ¬

_ (¬1) السلام = ساقطة -ق-.

الصلاة. فهذه جملة تأويلات هؤلاء، وهؤلاء (¬1). وإنما يبقى النظر في أحد أمرين هل البناء غير واجب فيكون الأمر كما قاله من أَتبع الأحاديث على حسب ما وقعت. أو البناء واجب، فينظر في تأويل الفئتين فترجح طريقة من كان أقرب منهم استمساكًا بالظواهر. وقد دافعت كل طائفة الأخرى عن تأويلها. فقيل أما التسليمة الثانية فلا يسلمها، وإذا لم يسلمها لم يصح البناء عليها. وأيضًا فإن في بعض طرق ابن بجينة فانتظرنا تسليمه (¬2). والتسليمة الثانية لا تنتظر. وكذلك حمل القول بأنه سجد قبل السلام على أن المراد به قبل التسليم من سجود السهو، فيه بُعْد عن مقتضى اللفظ وخروج به عما يفهم عنه. وكذلك تأويل السجدتين على اللتين من نفس الصلاة تأويل بعيد وتعسف شديد. وكذلك تأويل السلام على السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - خروج عن الظاهر. وأيضًا فإنه قال تشهد. ثم سلم. والتشهد بعد السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وتقدير سهوه عليه الصلاة والسلام عن إيقاع السجود للسهو قَبْلُ بعيد؛ لأن السهو منه نادر. ولما استشعر مالك رضي الله عنه بعد هذه التأويلات وبناء الفريقين وكون كل واحدة من الطائفتين ترد مذهمه ظواهر ألفاظ أحاديث الطائفة الأخرى، استعمل في البناء طريقة ثالثة لا يردها ظاهر لفظ. فأثبت سجود السهو قبل السلام تارة لأن حديث ابن بُجينة تضمن نقصًا فجعل سجود النقص قبل السلام. ورأى حديث ابن مسعود في زيادة الخامسة تضمن زيادة فأثبت سجود الزيادة بعد السلام. وأما مذهبه في سجود الشاك فسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى. وقد تمسك فقهاء الأمصار بطريقة المعنى فيقول من رأى السجود قبل السلام أن الأصل أن يوقع عقيب سببه. وإنما أخر لما قلناه من العلل. والعلل التي ذكرناها ترتفع قبل السلام، فوجب أن تفعل عنده ولا تؤخر عنه. وتمسك ¬

_ (¬1) هؤلاء الثانية = ساقطة -ق-. (¬2) رواه في المسند عبد الله عن أحمد قراءة عن عبد الرحمان بن مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمان الأعرج عن عبد الله بن بجينة أنه قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه. فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم كما رواه من طريق عبد الرزاق وابن بكر قالا: ثنا عن ابن جريج أخبرني ابن شهاب ... الخ مسند أحمد ج 5 ص 345 - 346.

من قال: بأنه بعد السلام بأنه زيادة على المقادير المقدرة في الصلاة فرسمه (¬1) أن يفعل عنده ولا تؤخر عنه و"تمسك" (¬2) ويكون خارجًا عنها صيانة للصلاة عن الزيادة في مقاديرها. وتمسك من فرق بين النقص والزيادة بأن سجود النقصان جبر. وجبران الشيء لا يكون إلا في نفسه وقبل تقضيه. وسجود الزيادة ترغيم وليس بجبران (¬3) الناقص. فوجب أن يكون بعده. هذه النكت التي دارت عليها جملة المذاهب لفظا ومعنى. وإذا اجتمع النقص والزيادة غلّب مالك حكم النقص إذ السجود بعد السلام ترغيم للشيطان ولا يرغم الشيطان بصلاة ناقصة. وقد قدمنا مذهب عبد العزيز في هذا. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف قول مالك في الإحرام لسجود السهود *الذي بعد السلام* (¬4) فنفاه مرة وأثبته أخرى. واختلف قوله في التشهد لما قبل السلام من سجود السهو فأثبته مرة لأن من سنة السلام أن لا يقع إلا بعد تشهد. ونفاه مرة أخرى لئلا يتشهد في الرابعة مرتين. وقد اختلف الناس في التشهد والسلام في سجود السهو الذي محله بعد السلام من الصلاة. فمذهبنا إثباتهما. وذهب الحسن إلى نفيهما. وروي ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وذهب النخعي إلى إثبات التشهد دون السلام. وذهب عطاء إلى التخيير في ذلك إن شاء فعل التشهد والسلام وإن شاء لم يفعلهما. وفي المدونة لابن القاسم إذا انتقض وضوؤه قبل أن يسلم منهما إن لم يعدهما اكتفى بهما. وقيل لا يكتفي بهما. واختلف القول عندنا في الإحرام لهما إذ لم يوقعهما بعد السلام وأوقعهما بعد أن طال انفصاله من الصلاة. ولو كانتا قبل السلام فنسيهما لأحرم لهما إذ لا يرجع لإصلاح ما انتقض من الصلاة إلا بإحرام. وقد اختلف الرواة في حديث ¬

_ (¬1) فوجب -ق-. (¬2) هكذا في - و - ق - والظاهر أنها مقحمة. (¬3) لما نقص -ق- (¬4) ما بين النجمين = ساقط -ق-.

ذي اليدين: فبعضهم ذكر السلام وبعضهم لم يذكره (¬1). وهذا سبب اضطراب الناس. وكذلك لم يذكر في حديث ابن بجينة التشهد لهما. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وإن سها عنهما سجد للتين بعد السلام متى ما ذكر (¬2). وأما اللتان قبله فيسجدهما ما لم يطل أو ينتقض وضؤوه فإن (¬3) كان ذلك أعاد الصلاة. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل سجود السهو واجب أو سنة؟. 2 - وما حكم من أخر سجود السهو الذي قبل السلام؟. 3 - وأين يسجده (¬4) إذا ذكره؟. 4 - وما حكمه إذا ذكره وهو في الصلاة؟. 5 - وما حكم من قدم ما بعد السلام (¬5) إلى ما قبل السلام؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في سجود السهو، فذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب وذهب الشافعي إلى أنه سنة، وقد قدمنا قول القاضي أبي محمَّد في هذا الكتاب أنه يتنوع إلى واجب، وسنة. ومعنى ما أشار إليه من هذا التنوع أن ما كان منه بعد السلام فهو سنة وما كان قبله (¬6) فهو واجب على قولنا: إن تأخير ما قبل السلام إلى ما بعد الصلاة تأخيرًا طويلًا يفسد الصلاة. وسنتكلم في جواب السؤال الثاني على اختلاف المذهب في هذا *عندنا. وثبوت الوجوب أو سقوطه مخرج على ما نذكره من الخلاف في هذا* (¬7) ¬

_ (¬1) لم يذكره = ساقطة -و-. (¬2) ما = ساقطة - غ - ق -. (¬3) وإن كان -الغاني-. (¬4) يسجد -ق-. (¬5) الصلاة -ق-. (¬6) وما كان منه قبل السلام -ق-. (¬7) ما بين النجمين = ساقط -و-.

فحجة الوجوب قوله عليه السلام في حديث ابن مسعود فليتحر به الصواب وليتم ما عليه وليسجد سجدتين (¬1). وهذا أمر والأمر على الوجوب عند جماعة من أهل الأصول. واستدل بعض الموجبين بجبران الحج. وأجيبوا عنه بأن جبران الحج عوض عن واجب وسجود السهو عوض عن غير واجب. بهذا انفصل بعض أصحاب الشافعي عن القياس على الحج. ولعلنا نحن إن شاء الله نحقق القول في كتاب الحج على هذا الموضع. وحجة من أنكر الوجوب قوله في حديث أبي سعيد كانت الركعة نافلة له والسجدتان (¬2). فقد صرح بكونهما نافلة. وقال أيضًا والسجدتان ترغمان الشيطان (2). وترغيم الشيطان ليس بواجب. أصله الحوقلة. ولأن الجبران يجب أن يكون بحسب المجبور وحكمه حكمه. لأنه كالتابع له. فلما كان سجود السهو إنما يفعل عوضًا عن ترك سنة لا عن ترك واجب وجب أن يكون السجود في نفسه سنة لا واجبًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد تقرر من مذهبنا أن سجود السهو إذا كان بعد السلام فإن الصلاة تصح، وإن طال الفصل بينه وبين الصلاة. فأما الذي قبل السلام فاختلف المذهب إذا آخره عن الصلاة حتى طال الفصل بينهما. فروي عن مالك أن الصلاة تفسد من غير اعتبار بالمتروك الذي كان السجود عوضًا عنه. وروي عنه أن الصلاة إنما تفسد إذا كانت عوضًا عن بعض الأفعال. ولم يعتبر الأفعال على الإطلاق ولا اعتبر شيئًا من الأقوال. وقال في المختصر إنما تبطل الصلاة إذا كانت عوضًا عن الجلسة الأولى أو أم القرآن من ركعة. وما سوى هذين فلا يؤثر في بطلانها. وأوجب ابن القاسم الإعادة في أحد قوليه إذا كانت عوضًا عن ثلاث تكبيرات. أو عن القول سمع الله لمن حمده ثلاث مرات. وقال محمَّد بن عبد الحكم لا إعادة، وإن كانت عوضًا عن الجلسة الأولى، أو ترك القراءة في ركعة. وهذا القول حكم بصحة الصلاة مع المتروك على الإطلاق بعكس القول الأول الذي ذكرنا فيه بطلان الصلاة على الإطلاق من غير اعتبار بالمتروك. ولم أقف على خلاف في المذهب. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة. نصب الراية ج 2 ص 167. (¬2) ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري 4403.

أما ما كان منها قبل السلام فأوقعه بعد (¬1) السلام، إن الصلاة لا تبطل. وقال أبو حنيفة إن تكلم عامدًا قبل أن يسجد لسهوه بطلت صلاته. وأصله أن سجود السهو كله بعد السلام كما قدمناه. وقد اختلف هو وصاحبه محمَّد بن الحسن في تسليم الصلاة الذي يؤمر المصلي بعده بسجود السهو هل يخرج هذا التسليم من الصلاة أم لا؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنه يخرج من الصلاة ويحلل منها حكمًا، وينفصل منها المصلي ثم ينفصل بعد ذلك بالسجود؛ لأن السجود جبران. وجبران الشيء بعد إكماله، ويعود في حكم المتصل به. وقال محمَّد بن الحسن لا يخرج التسليم من الصلاة ولا يحلل منها لأن تسليم التحليل لا يؤمر بعده بصلاة هي من الأولى. وعندي أن بطلان الصلاة بالكلام على أصل محمَّد بن الحسن أوضح. وقال الحسن وابن سيرين إذا صرف وجهه لم يسجد. وقال الحكم وابن شبرمة إذا خرج من المسجد أعاد الصلاة. وقال أبو ثور إن كانتا (¬2) للنقصان فتعمد وسلم وهما عليه أعاد الصلاة. وإن كانتا للزيادة سلم (¬3) وسجد سجدتي السهو. وقال أحمد ما كان منه من الصلاة إن تركه عامدًا بطلت صلاته. وإن كان ساهيا أتى به ما لم يتطاول الفصل. فإن تطاول الفصل لم يأت به. وإن لم يذكر سجود السهو قبل السلام ولم يقل بإبطال الصلاة مع طول الانفصال. فظاهر مذهب من قال بذلك من أصحابنا عندي أن يسجد متى ما ذكر. واختلف قول الشافعي. فقال مرة إنه يسجد وإن طال الفصل كجبران الحج فإنه يوقع وإن طال الفصل *وقال مرة أخرى لا سجود عليه إذا طال الفصل* (¬4) لأن سجود السهو مبني على الصلاة. ومقدر كالجزء منها. ومع الطول يمتنع البناء. وجبران الحج ليس مبنيًا عليه فيفتقر للاتصال. وسبب ما قدمناه من الاضطراب في مذهبنا في تأخير سجود السهو الذي قبل السلام: أن ¬

_ (¬1) عقيب -ق-. (¬2) إن كان -و-. (¬3) سلم = ساقطة -ق-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -ق-.

من اعتبره بحال ما هو (¬1) عوض عنه لم يبطل الصلاة لأنه عوض عن متروك ليس بواجب. وإلى هذا كان يميل (¬2) بعض أشياخي المحققين. ومن أبطل الصلاة به على الإطلاق إذا تطاول الفصل، فإنه ينزله بخلاف منزلة ما هو عوض عنه. ولا يستبعد أن يكون ترك مندوب إليه علمًا على وجوب فعل آخر. ومن فصل اعتبر تأكيد المتروك وخفته (¬3). فقد تستخف الأقوال وتنحط رتبتها عن الأفعال لأجل مجيء الشرع يحمل الإِمام بعضها وهي القراءة. وهي من أركان الصلاة. ولم يرد الشرع بحمله فعلًا من الأفعال. ومن قصر الإبطال على ترك الجلسة الأولى وقراءة أم القرآن من ركعة واحدة، قصر التأكيد على هذين خاصة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: من ذكر سجود السهو الذي قبل (¬4) السلام فإنه يسجد حيث ما ذكره إلا أن يكون عوضًا عن متروك من صلاة الجمعة. فإن ابن المواز قال لا يجزيه إلا أن يكون في الجامع. وكأنه رأى أن الجمعة من شرطها الجامع على الجملة. فكان شرطًا في أجزائها (¬5). وقد قال ابن شعبان إن الراعف (¬6) في صلاة الجمعة يتم حيث غسل الدم. فعلى هذا يسجد ذاكر السجود حيث ما ذكر. وكان هذا رأى أن السعي أشد من اعتبار الجامع أو غير ذلك مما سيبسط في باب الرعاف إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا ذكر سجود السهو الذي قبل السلام وهو في صلاة أخرى فإن ذلك معتبر ومبني على المذاهب التي قدمناها. فمن رأى أنه لا يبطل الصلاة تأخر الفصل لم يؤثر ذكره في هذه الصلاة، ولكنه يوقعه بعد فراغها. وقد قال ابن القاسم فيمن ذكره (¬7) من نافلة وهو في نافلة ¬

_ (¬1) إن من اعتبر ما هو -ق-. (¬2) ميل -ق-. (¬3) وحقيقته = ق. (¬4) بعد -و-. (¬5) إجازتها ق. (¬6) في الراعف -ق-. (¬7) ذك رنا فلة -ق-.

أخرى قد أط الذيها أنه يستحب له السجود بعد فراغه منها. قال أصبغ ولا يجب ذلك عليه. وأما من حكم ببطلان الصلاة على الإطلاق أو حكم ببطلانها على تفصيل، وكان هذا السجود مما اقتضى تفصيله إبطال الصلاة به، فإنه إن ذكره ولم تطل قراءته في هذه التي هو فيها ولا ركع فيها، فإنه يعود إلى إصلاح الأولى بالسجود، ويقدر هذا الفاصل كالعدم، ما لم يكن سجود السهو من نافلة والذكر في فريضة، فإن هذا لا يقطع الفريضة أصلًا لحرمتها وعلو قدرها على قدر النافلة، فلا يؤمر بإبطال الأعلى بما هو أدنى منه. وإن لم يذكر السجود إلا بعد أن أطال القراءة أو ركع فإنه يكون كذاكر صلاة وهو في صلاة أخرى. وسنتكلم على حكم ذاكر صلاة وهو في صلاة. وقد وقع بين الأشياخ تنازع في ظاهر المدونة فيمن ذكر سجود السهو في فريضة وقد أطال القراءة في فريضة أخرى. فقال بعضهم يقطع هذه. ولو كانت نافلة لأتمها لأن الفرض الثاني إنما يوقع عند ذهاب وقت الفرض الأول. فلو أمران يصير ما هو فيه من الفرض نفلًا لزاد الأولى تفويتًا. والنفل قد يقع ووقته الأول لم يفت ولو كان تماديه على النفل بفوات وقت الاختيار في الفريضة لقطع (¬1) كما يقطعه من ذكر (¬2) وهو فيه قبل أن يركع صلاة فات وقتها. وقد قيل إنما يقطع في الفرض دون النفل لأن الفرض يعود إليه والنفل لا يعود إليه. ولأن الفرض إن تمادى فيه إلى صورة النفل تغيرت نيته الأولى. والنفل لا تتغير نيته فيه. والفرق الأول مال إليه بعض الحذاق. وقال غيره من الأشياخ إنما قال في المدونة تنتقض صلاته ولم يذكر ماذا يفعل. وهذا التنازع أيضًا إنما هو في ظاهر المدونة خاصة وإلا ففي الموازية أنه يقطع في الفريضة كما قال الأولون. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد قدمنا لمالك أنه أشار إلى أن محل سجود السهو واختصاصه بما قبل السلام أو بما بعد السلام ليس يتأكد. فمن آخر ما قبل السلام إلى ما بعد أجزأته صلاته. ومن قدم ما بعد السلام إلى ما قبل تعمدًا ففي بطلان صلاته اختلاف. فذهب ابن القاسم إلى الأجزاء. وهذا هو ¬

_ (¬1) لقطعه -ق-. (¬2) من ذكره -ق-.

المستحسن على ما قلناه في نفي تأكيد تعين المحل. وذهب أشهب إلى بطلان الصلاة. وقدره كالزيادة فيها متعمدًا. وإذا (¬1) لم نقل ببطلان الصلاة فهل يؤمر بإعادته بعد الصلاة ليقع في محله المشروع فيه اختلاف أيضًا. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: والمتروك بالسهو أربعة أنواع: فريضة وسنة وفضيلة وهيئة، ولا يسجد لشيء من ذلك إلا للسنة وحدها. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة استيعاب هذا التقسيم؟. 2 - وهل فيه تداخل أم لا؟. 3 - ولِمَ اختص سجود السنن دون ما سواها؟. 4 - وهل تختلف أجناس السنن في هذا أم لا؟. 5 - وهل يعفى عن القليل منها أم لا؟. 6 - وهل كثيرها يفسد الصلاة أم لا؟. 7 - وهل تركها عمدًا كتركها سهوًا؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على صحة هذا التقسيم أن المشروع في الصلاة من الأقوال والأفعال، إما أن يأثم بتركه فيكون واجبًا أو لا يأثم بتركه، ويؤجر على فعله فيكون ندبًا. ثم يتأكد الندب فيسمى سنة. ويضعف فيسمى فضيلة وما سوى ذلك فليس بمشروع لأن المحرم والمكروه والمباح لم يشرع فعله في الصلاة فثبت صحة استيعاب هذا التقسيم. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: هذا التقسيم فيه أشكال. وقد يظن به تداخل في التقسيم وذلك أن الهيئة ما كان مباحًا فعله (¬2). لم (¬3) يشرع للمصلي ولا أمر به على وجه فإنه غير معدود في المتروكات المشروعات وهو إنما أخذ في تقسيم المتروك المشروع. وإن كانت الهيئة مشروعة ومأمورًا بها ¬

_ (¬1) تعمدًا وان -ق-. (¬2) إن الهيئة والشكل ما كان منه مباح = ق. (¬3) هكذا في النسختين ولعل الصواب: فما لم.

فإن (¬1) الأمر لا ينفك من أن يكون واجبا أو ندبًا. والهيئة معدودة في جملة الفضائل. وإذا عدت في الفضائل وقع التداخل في هذه القسمة. لكن لما كان رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وشكل الجلوس في الصلاة أمرًا غير خارج عنها ولا منفصلًا منها. والصلاة راجعة إلى حركات، ولا تنفك الحركات من وقوعها على إحدى الجهات عدها قسمًا غير ما يقع منفصلًا من الصلاة، وتنفك الصلاة منه. ويصح تركه على حياله كالتأمين والقنوت. وقد تقدم للقاضي أبي محمَّد في هذا الكتاب عد الهيئات في الفضائل. لأنه قال وفضائلها سبع وهي رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام. ورفع اليدين من الهيئات. فإذا عد رفع اليدين من الفضائل وهو من الهيئات ثبت أن التحقيق ما قلناه من دخول الهيئات في الفضائل، ولكن العذر عن عدها ها هنا قسما رابعًا ما أشرنا إليه. والمعنى الواحد يختلف تقسيمه باختلاف مواقعه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قدمنا أن المشروع في الصلاة لا ينفك من كونه واجبًا أو ندبًا. والأصل في القضاء الامتثال. فما أفسد أو أتلف فإنما يقضى بمثله. فالفروض إذا تركت تقضى بأمثالها. والمندوب إليه ما ضعفت مرتبته ثم لم يؤثر في نقص كمال الصلاة تأثيرًا يحوج إلى تلافيه فاستغني عن سجود السهو فيه. وما تأكدت مرتبته من المندوبات جاء الشرع بأنها لا تقضى بأمثالها وخرج عن الأصل الذي قلناه. ولما كان تأثيرها في نقص الكمال تأثيرًا متحسسًا إليه تلافى النقص بسجود السهو. فلهذا قصر السجود على ترك المسنون. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: لا يختلف جنس السنن عندنا في إيجاب سجود السهو، خلافًا للشافعي في قصره سجود السهو على ترك الأفعال دون الأقوال. ولنا عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل سهو سجدتان" (¬2). وقياس الأقوال على ¬

_ (¬1) كان -و-. (¬2) أخرجه أبو داود وابن ماجة وقال البيهقي انفرد به إسماعيل بن عياش وليس بالقوي. نصب الراية ج 2 ص 167.

الأفعال بعلة أن السجود على ترك المسنون إنما شرع تلافيًا لنقص الصلاة. وانتقاصها يكون بترك الأقوال كما يكون بترك الأفعال. ولم يختلف المذهب عندنا في أن ترك التسبيح في الركوع والسجود لا يوجب سجود السهو (¬1). واختلف المذهب في ترك تكبيرات الركوع والسجود. فالمشهور من المذهب إثبات سجود السهو في ذلك. وقال أشهب لا يجب، ويستحب أن يسجد فيه بعد السلام، وصرح بقياس ترك التكبير على التسبيح في نفي إيجاب سجود السهو. ولما رأى السجود في ذلك ليس بواجب، ولكنه مستحب جعل محله بعد السلام لئلا يزيد في الصلاة فعلًا لا يجب فيها. وسلم أن ترك المزيد من تكبيرات إحدى ركعتي العيد يوجب سجود السهو. وهكذا قال أبو حنيفة بقصر سجود السهو على ترك المزيد من تكبيرات العيد دون غيره (¬2) لما كانت كثيرة يؤتى بها في محل واحد كالتشهد الأول. وقال الشافعي في تارك التكبيرات وتسبيح الركوع والسجود لا يقضيه ولا يسجد له بناء على أصله الذي قدمناه في اختصاص سجود السهو بترك الأفعال. وقال قتادة والأوزاعي يقضيه إذا ذكره. وهذا فاسد لما قدمناه من أن محل الفعل إذا فات لم يقض الفعل بمثله إذا كان مسنونًا، وإنما يُقضى بسجود السهو. وقال الحكم وإسحاق وأبو ثور يسجد للسهو. وقد قدمنا اختصاص سجود السهو بترك السنن دون ترك الفضائل. وهكذا اختلف الناس فيمن أسر في موضع الجهر أو جهر في موضع السر. فقال الشافعي لا سجود عليه، واحتج له بأن ذلك هيئة لا يقتضي تركه للسجود كوضع اليمين على الشمال. ولم يختلف المذهب عندنا في إثبات السجود في ذلك. وإن كان وقع لمالك رضي الله عنه فيما روى أشهب عنه فيمن أسر في موضع الجهر أن سجوده بعد السلام، وأصله في النقص أن يكون السجود قبل السلام. فتأخيره السجود إلى انقضاء الصلاة إشارة إلى ضعف السجود عنده، وتوقى (¬3) في إثبات السجود قبل السلام من زيادة فعل في الصلاة ليس بواجب. وهذا ¬

_ (¬1) سهو -و-. (¬2) غيرها -و-. (¬3) يرى -ق-.

كنحو ما ذكرناه عن أشهب في استحبابه إيقاع سجود السهو بعد السلام في تارك التكبيرات. وقد حاول بعض الأشياخ أن يخرج في المذهب اختلافًا في الإسرار والإجهار هل يعد ذلك في جملة الهيئات أو لا يعد في جملتها؟ وبنى على هذا اختلاف أصحاب مالك رضي الله هـ تعالى عنه فيمن ترك الإجهار والإسرار تعمدًا هل تبطل صلاته أم لا، وهذا الشيخ وإن سلم له هذا التخريج في عد ذلك هيئة فإنه قد لا ينحو نحو الشافعي في إسقاطه السجود في ذلك لكونه هيئة على ما قدمناه. وقد كنا قدمنا اختلاف المذهب في السجود عند ترك قراءة السورة التي مع أم القرآن. وأشرنا إلى وجه الاختلاف فيه. فمن أحب مطالعته فليقف عليه في باب القراءة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد قدمنا أن المندوب إليه يتنوع. فما تأكد منه جُبر بسجود السهو. وما ضعف منه وهو المسمى بالفضيلة لم يسجد فيه للسهو. فاختلف المذهب على هذا الأصل فيمن ترك تكبيرة واحدة هل يسجد للسهو أم لا؟ فمن أثبت السجود فإن التكبيرة الواحدة لحقت بتأكدها بمرتبة السنن فكان في تركها السجود. ومن لم يثبت السجود فيها فإنه يراها لقلتها بالإضافة إلى سائر التكبير لم تتأكد تأكدًا يُلحقها بالسنن التي يجب السجود فيها. وقال في المدونة لا سجود في ترك التكبيرة ونحوها (¬1) وقال الأشياخ معنى قوله ونحوها القول: سمع الله لمن حمده. وقد وقع في المدونة لفظ آخر يُبعد عندي تأويلهم هذا على مقتضى ظاهره. وهو قوله من نسي سمع الله لمن حمده ذلك خفيف بمنزلة من نسي تكبيرة أو نحوها. وفي المدونة أيضًا فيمن أبدل سمع الله لمن حمده بالتكبير. والتكبير يسمع الله لمن حمده أنه يعود فيفعل ما وجب عليه فإن لم يفعل سجد للسهو قبل السلام. وقد يفهم من إطلاق هذا الظاهر ما كنا حكيناه عن قتادة والأوزاعي من أن تارك التكبير يقضيه بعد فواته؛ لأن هذا إنما ذكر ما أحل به بعد أن رفع رأسه من الركوع. فإذا (¬2) ¬

_ (¬1) والتكبير قال فيه مالك إن نسي تكبيرة واحدة أو نحو ذلك رأيته خفيفا ولم ير عليه شيئًا. وإن نسي أكثر من ذلك أمره مالك أن يسجد لسهوه. المدونة ج 1 ص 129. (¬2) فإذا = ساقطة -و-.

أمر بأن يقول الله أكبر بعد رفعه من الركوع فقد قضى الشيء في غير محله وبعد فواته. ولكن تأول بعض الأشياخ أن المراد بما وقع في المدونة أنه يعود فيقول سمع الله لمن حمده خاصة. فيكون إنما أتى بالتحميد عنده في محله ولم يقض شيئًا بعد فواته. وأكدوا هذا التأويل أيضًا بأنه إذا اقتصر في الإصلاح على التحميد خاصة، صار قوله مرتبًا؛ لأنه لما أعاد التحميد بعد التكبير فقد حصل الترتيب المطلوب في الشرع آخرًا، وإن كان لم يحصل أولًا. وهذا كمن قرأ السورة قبل أم القرآن فإنه إنما يعيد السورة خاصة فيحصل بإعادتها الترتيب آخرًا، الذي أحل به أولًا. وخالف في ذلك بعض الأشياخ فقال يأتي بالتحميد والتكبير؛ لأن التكبير الذي أوقعه قصد به الرفع فلا ينوب له عن تكبير شرع له أن ينوي به الخفض. ولا يحصل الترتيب بإعادة التحميد خاصة لأجل ما قلناه من عدم النية المشروعة في التكبير. ورأيت في بعض (¬1) التعاليق عن الشيخين أبي القاسم بن الكاتب وأبي عمران أنه إذا عاد لقول ما يجب عليه لم يسجد؛ لأنه إنما يحصل معه زيادة تكبيرة وزيادة التكبير لا سجود فيه. وحكى أبو محمَّد عبد الحق عن بعض أشياخه أنه يسجد بعد السلام. وقال بعضهم إن قلنا أنه يعود فيأتي باللفظتين جميعًا اتضح سجود السهو لأن اللفظتين المطروحتين زيادتان. وزيادة تكبيرتين يؤمر فيه بسجود السهو. وتردد قوله في السجود على طريقة من قال إنما يأتي بإحدى اللفظتين وأشار إلى بناء ذلك على اختلاف (¬2) التعليلين. هل أمر بإعادة التحميد خاصة لأنه يعتد بما سبق من التكبير فيكون المزيد التحميد خاصة وذلك لا يقتضي سجود السهو. وإنما أمر بإعادة التحميد خاصة لفوات محل التكبير فيكون قد زاد لفظتين وذلك يقتضي السجود. ونقص التكبير أيضًا يقتضي السجود. واختلف المذهب فيمن أبدل في أحد هذين الموضعين خاصة، فقيل: لا سجود عليه لأن قصارى ما فيه أنه أدخل تكبيرة أو ما في معناها. والإخلال بتكبيرة لا سجود فيه كما قدمناه. وقيل يسجد قبل السلام لأنه نقص ما كان مأمورًا به أن يقوله فلم يفعل وزاد ¬

_ (¬1) فيما علق -ق-. (¬2) من بداية هذه الصفحة انقطع تواصل النص بالنسخة.

القول الذي وضعه في غير موضعه، فاجتمع فيه سهوان. فأمر بالسجود لهما بخلاف السهو الواحد الذي هو مجرد ترك تكبيرة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما زيادة ركعة في الصلاة الرباعية سهوًا فلم يختلف المذهب في أن الصلاة لا تبطل بها. وقال أبو حنيفة إذا زاد الركعة الخامسة بعد أن جلس في الرابعة مقدار التشهد ولم يذكر حتى سجد فإنه يضيف إليها سادسة وتكون الركعتان نافلة. وإن لم يذكر حتى سجد في الخامسة ولم يكن قعد للرابعة بطلت صلاته. لأنه يرى أن السلام ليس بركن في الصلاة، وإن الخروج من الصلاة يكون بغيره. فإذا جلس مقدار التشهد عدّ خارجًا منها بالنفل. فإن لم يجلس مقدار التشهد فقد خلط النفل بالفرض، فأفسد الفرض. ولا يعذر في هذا السهو وإنما أمره أن يضيف إلى الخامسة سادسة إذا جلس مقدار التشهد ليشفع الركعة النافلة المزيدة. ويستدل على هذا الشفع بما وقع في حديث الشاك من الركعة المزيدة تكون نافلة ويشفعها بسجدتين. ولنا عليه حديث ابن مسعود أنه عليه السلام صلى الظهر خمسًا (¬1). فقيل له في ذلك فسجد للسهو. فهذا الحديث حجة عليه على أي الوجهين وقع. فإن تأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم -جل س في الرابعة فإنه لم يشفع الخامسة سادسة. وإن كان لم يجلس في الرابعة فإن صلاته اعتد بها فلم تكن فاسدة. وحديث الشاك إنما ذكر فيه الشفع بسجدتين. وأبو حنيفة يرى في مسألتنا الشفع بركعة كاملة. ومعنى قوله في حديث الشاك كانت الركعة نافلة (¬2) أي يثاب عليها وإن لم تكن واجبة عليه في باطن الأمر. وإن كثر السهو فاختلف المذهب فيه. فقيل: زيادة نصف الصلاة كركعة في الصبح واثنان في الظهر تبطل الصلاة. وقيل لا يعتبر النصف في الصلاة الثنائية وإنما يعتبر زيادة ركعتين. وروي عن مالك أنه لو صلى الظهر ثمانية ساهيًا لم تبطل صلاته. وهكذا قال مطرّف من ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه من مختصر سنن أبي داود للمنذري ج 1 ص 465. (¬2) هو حديث أبي سعيد إذا شك أحدكم فليلغ الشك وليس على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان. وإن كانت ناقصة كانت الركعة تمامًا لصلاته وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان. مختصرًا بي داود ج 1 ص 1342.

صلى المكتوبة ستًا فأكثر لم تبطل صلاته وبأنه رأى (¬1) الطول في قربة بخلافه في غير قربة. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: من أحل بشيء من السنن متعمدًا فقد اختلف المذهب فيه على أربعة أقوال: فقيل يسجد كما يسجد الساهي. وقيل بل هو بخلاف الساهي. واختلف هؤلاء في الإعادة. فقيل لا إعادة عليه. وقيل يعيد في الوقت. وقيل يعيد أبدًا. فمن أمره بالسجود رأى أن الساهي إذا سجد تلافيًا للنقص مع عذره بالسهو. فالعامد الذي لا عذر له أولى بالسجود. ومن نفى السجود يرى أن الأصل قضاء ما أحل به بمثله، وتعويضه بالسجود خارج عن الأصل. وإنما ورد السجود في السهو فلم يقس عليه مع خروجه عن الأصل. ثم تأكد أمر المتروك عمدا عند طائفة من هؤلاء حتى لحق بالواجبات في إفساد الصلاة إذا تعمد تركه، فأوجبوا الإعادة أبدًا. ولم يتأكد عند آخرين فلم يفسدوا بتركه الصلاة. واستحب بعض هذه الطائفة الإعادة في الوقت ليأتي بصلاة متفق على صحتها. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: فأما الفريضة فلا يجزئ منها إلا الإتيان بها وقد بينا السنن فيما تقدم. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - ما حكم من ذكر أنه ترك سجدة من ركعة وهو فيها؟. 2 - وما حكمه إن ذكر ذلك من ركعة سابقة؟. 3 - وما حكمه إن ذكر تركها من ركعات؟. 4 - وما حكمه إن شك في تركها؟. 5 - وما حكمه إن ذكر تركها بعد أن زاد في عدد الصلاة؟. 6 - وما حكمه إن فعلها دون إمامه؟. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب وكأنه.

7 - وكيف يرجع إلى إصلاح ما ترك من السجود؟. 8 - وما حكم سجود السهو في ذلك؟. 9 - وما حكمه إن نسي الركوع؟. 10 - وما حكمه إن ذكر سجدة أو ركعة في صلاة أخرى؟. 11 - وما حكمه إن نسي التشهد الآخر؟. 12 - وما حكمه إن نسي السلام؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: من ذكر سجدة من ركعة هو فيها لم تنقض بعد فلا خفاء في أنه يسجدها. ولو كانت في الركعة الرابعة فذكرها بعد أن تشهد وقبل أن يسلم، فإنه يسجدها إذا لم يحل بينه وبين ذلك حائل. ويعيد تشهده لوقوعه في غير موضعه. لأن من سنته أن يؤتى به بعد السجدتين. وهذا أتى به بعد إحداهما. وإن لم يذكر ذلك حتى سلم من الرابعة، فالمذهب على قولين: فقيل الحكم فيه كما ذكرناه. والسلام لا يحول بينه وبين إصلاح ما هو فيه. وقيل قد حال السلام بينه وبين الإصلاح. والسلام في هذا كركعة تحول بينه وبين الإصلاح فيقضي الركعة في جملتها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إن ذكر سجدة من الركعة الأولى وقد قام إلى الثانية ولم يقرأ فإنه يرجع لإصلاح ما أحل به. وإن ذكر بعد ما قرأ فكذلك أيضًا. خلافًا لابن حنبل في قوله: إذا قرأبيلت الركعة التي أحل بسجدتها. واعتد بالركعة التي هو فيها، وكأنه رأى أن القراءة لما كانت فرضًا لم يحسن إبطالها لفرض آخر فات موضعه وكان الجماعة رأوا أن السجود آكد من القراءة. وأركان الأفعال آكد من أركان الأقوال، فإنما رجوعه لما هو آكد ثم يعود إلى القراءة فيجد محلها لم يفت. وإما أن ذكر وهو راكع لم يرفع رأسه من الركوع. فالمذهب على قولين: هل انعقاد الركعة تمام الانحناء فيمنعه ذلك من إصلاح ما قبل، إذ لا يحسن إفساد فرض حاصل لفرض فائت. أو انعقادها رفع الرأس منها فيعود لإصلاح ما سبق، إذ أن ركعته لم تنعقد حتى يقدر مفسد ركعته لركعة أخرى. وخيره ابن المواز بين الاعتداد بها وإبطال ما قبلها مما أحل بسجوده أو الرجوع لإصلاح ما فاته. وأما أن ذكر بعد أن رفع رأسه فإن المذهب

عندنا أنه يعتد بما هو فيه ويلغي الركعة التي أحل بسجدتها. وإن لم يذكر حتى سجد للثانية فإن ذلك عندنا آكد في إلغاء ما سبق. وعند الشافعي إن سجد للثانية يعتد به عما ترك من الأولى حتى يكمل به الأولى ويلغي ما فعله في الثانية. ويتخرج هذا عندنا فيمن لم يركع للثانية من قول ابن مسلمة فيمن سجد قبل السلام سجود سهو ثم ذكر أنه لم يسجد للرابعة أنه يعتد بسجود السهو. فإذا اعتد ابن مسلمة بسجود السهو وجعله قضاء عن سجود الرابعة المفروض فأحرى أن يكتفي بسجود ثانية عن سجود أولى لتساويهما في الوجوب وكونهما من أركان الصلاة. وقد كنا قدمنا من الكلام في تبدل النية ما يؤخذ منه تحقيق القول في هذه المسألة. وذكرنا تبدل نية الفرض إلى نية النفل وتبدل النية بين الواجبات فلا معنى لإعادته ها هنا. وأما أصل أبي حنيفة في هذه المسألة فمذكرر في التي تليها. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا نسي أربع سجدات من أربع ركعات فعندنا أنه يصلح الرابعة بالسجدة التي أحل بها منها ويبطل ما قبلها. ويجري كثرة السهو فيها على الاختلاف المذكور عندنا وهو إحدى الروايتين عن ابن حنبل، وعنه رواية أخرى وهو بطلان الجميع. وقال الحسن والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة يأتي بأربع سجدات متواليات يكمل بها صلاته. وحكى أصحابنا عن الشافعي أنه يعتد بركعتين بعد إصلاح الرابعة بسجدة. ورأيت في كتب أصحابه الاعتداد بركعتين من غير اشتراط إصلاح الرابعة بسجدة. وأما إن نسي الثاني سجدات فإنه لم يحصل (¬1) له سوى ركوع الرابعة. فيبني عليها على أصلنا على حسب ما ذكرناه. وحكى الطحاوي عن الحسن بن صالح بن حي أنه يأتي بثماني سجدات متوالية وتتم صلاته. فدليلنا على أبي حنيفة أن الترتيب واجب في الصلاة فلا يجزئ سجود قبل ركوع ولا ركوع قبل قراءة. فكذلك لا يجزئ توالي السجدات على ما ذكر لعدم الرتبة المشروعة. وأما أبو حنيفة فإنه يرى الصلاة مبنية على ركعات متكررة. وكل ركعة فيها أركان مختلفة من قراءة، وركوع وسجود فإذا حصلت ¬

_ (¬1) من هنا يتصل بالنص في نسخة ق.

الركعة بسجدة واحدة فقد حصلت الأركان المختلفة. وإنما بقيت سجدة واحدة هي مكررة بعد الأولى. والتكرير لا يراعى فيه الترتيب كمن فاته بعض ركعات الإِمام، فإنها آخر صلاته، وإن كانت أول صلاة الإِمام، فلم يراع الترتيب ها هنا. وأيضًا فإن الركعة إذا سجد فيها فقد أتى بأكثرها، والحكم متعلق بأكثر في صحة البناء، كمن أدرك الركوع مع الإِمام. فأما ما قالوه من قضاء من فاته بعض ركعات الإِمام. فسنتكلم على حقيقته في موضعه وأما ما قالوه فيمن أدرك الركوع مع الإِمام فإنما صح له البداية بالركوع لأن الإِمام ناب عنه في فعل ما قبله. فقُدر المسبوق كالفاعل لما فعل الإِمام فلم تختل عليه الرتبة. وفي مسألتنا لا نائب عنه حتى يقدر حصول الترتيب (¬1) بالنيابة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: حكم الشاك في ترك السجدة كحكم الموقن بتركها في (¬2) وجوب إتيانه بها. لكن لو تيقن بتركها وهو في الرابعة، وشك في محلها هل هي من الرابعة أو مما قبلها أو شك في تركها وفي محلها. فالمذهب على قولين: أحدهما أنه يصلح الرابعة بسجدة لجواز أن تكون السجدة منها. ويأتي بعد ذلك بركعة لجواز أن تكون مما قبلها. وهذا مذهب ابن القاسم. والثاني أنه يأتي بركعة من غير أن يصلح الرابعة بسجدة. وهذا مذهب أشهب. وسبب هنا الاختلاف تقابل أمرين يطلب الترجيح بينهما *فمن أمره بركعة وسجدة حاذر وقوعه في أمر غير مشروع. وهو التفرقة بين سجدتي الركعة بعمل آخر ليس منها. لأنا لو اطلعنا على أن السجدة المنسية من الركعة الرابعة، لم يجز للمصلي أن يؤخر إيقاعها ويتشاغل بقراءة وركوع قبل فعلها، وهذا لا يجوز مع اليقين. وكان الشاك يمكن أن يكون حاله كحال هذا الموقن. فلم ¬

_ (¬1) الرتبة -ق-. (¬2) ووجوب -ق-.

يحسن أن يأمره بفعل يقدر فيه الغلط لو تيقن. فلما كان الاقتصار على الركعة خاصة يوقع في هذا تقديرًا عُدل عنه إلى أنه يؤمر بسجدة قبل الركعة. ومن أمره بركعة خاصة حاذر وقوعه في أمر غير مشروع وهو زيادة في الصلاة قد يستغنى عنها. وتفرقة بين الركعة التي هو فيها والركعة التي يقضيها بسجدة قد لا تجب* (¬1) وإذا كان هذا لا يجوز مع اليقين مُنع الشاك منه خوفًا من الوقوع في الغلط الذي يقدر في الموقن. وإن كان في الأمرين توقى ما ذكرناه فأيهما أحق أن يتوقى؟ اختلف المذهب فيه على حسب ما ذكرناه. وعلى هذا المعنى جرى اختلاف أصحاب مالك في هذا الذي ذكر سجدة في الرابعة وشك في محلها وأمرناه أن يصلحها بالسجود هل يتشهد بعد سجدته لجواز أن تكون السجدة من الرابعة. وحكم الرابعة أن يتشهد عقيب سجودها فإن لم يتشهد جوزنا عليه الوقوع في الغلط أو لا يتشهد لأنه يتشهد بعد ما يقضي، والتشهد الآخر لا يتكرر. ولأن ما يقوم لقضائه فرض فلا يتشاغل بسنة، ولأنه يجوز أن يكون لم يحصل له سوى ثلاث والثلاث لا يتشهد فيها. فإذا تشهد جوزنا عليه الوقوع في الغلط. وكذلك اختلف أصحاب مالك فيمن ذكر وهو قائم في الثالثة سجدة لا يدري هل هي من الأولى أو من الثانية إذا أمرناه بسجدة يصلح بها الثانية هل يجلس ويتشهد لجواز أن تكون السجدة من الثانية وقد أصلحها فصحت له الركعتان. وترك الجلوس بعد الركعتين غلط. فإن لم يفعل توقينا عليه الوقوع في الغلط أو يؤمر إذا أصلح الثانية بالسجود ولا (¬2) يجلس ولا يتشهد لئلا تكون الثانية أولى، والجلوس في الأولى غلط. فإن جلس توقينا عليه الوقوع في الغلط. واحتج ابن المواز في الجلوس بأنه إذا أصلح بالسجدة وصار كمن شك لما سجد السجدتين، هل هو في الأولى أو في الثانية، ولو كان ذكره هذا وهو قائم في الرابعة وشك في محل السجدة فإنه إذا أتى بالسجدة جلس لأنه لم يحصل له من الصلاة سوى ركعتين وجلوسه في الركعتين مشروع. فكان هذا بخلاف ما قدمنا الاختلاف فيه. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين كلام مختلط وغير واضح حاولنا نظمه. (¬2) لا يجلس -و-.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد قدمنا أن من نسي سجدة فإنه يعود لإصلاحها ما لم يَحُل بينه وبين أن يعود لإصلاحها عقد ركعة. فإن عقد ركعة بعد ما نسي فإن كانت الركعة أصلية حالت بينه وبين الإصلاح كعقد الثانية فإنه يمنع من إصلاح الأولى والثالثة من إصلاح الثانية، والرابعة من إصلاح الثالثة. وإن كانت الركعة خامسة زادها غلطًا فهل يَمنع من إصلاح الرابعة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أن ذلك يمنع كما منعت الرابعة من إصلاح الثالثة. والثاني أن ذلك لا يمنع لأن الخامسة المزيدة لا حرمة لها فيراعى إفسادها وإبطالها بخلاف الركعة الأصلية. فإن قلنا إنها لا تمنع من الإصلاح عاد إليه وأكمل به ما وجب من الركعات عليه. وإن قلنا إن ذلك يمنع من إصلاح الرابعة فإن الرابعة قد بطلت إذ لم يمكن إصلاحها. ولما بطلت هل يقضيها أو تكون له الخامسة قضاء عنها؟ فيه قولان مبنيان على ما كنا أشرنا إليه في مسألة الساجد للثانية التارك لسجود الأولى، هل ينوب له ذلك عن سجود الأولى مع قصده بذلك غيرها أم لا ينوب له عن ذلك؟ فكذلك مصلي الخامسة ظنا أنها الرابعة لم يقصد بها القضاء عما وجب عليه من الرابعة التي أفسدها. وقد قدمنا من الكلام في النية ما يؤخذ منه حقيقة الكلام في هذه المسألة. ولو شك هذا الذي زاد ركعة خامسة في السجدة هل أسقطها من الرابعة أو الخامسة لكان جوابه مخرجًا على هذا الخلاف المتقدم: هل الركعة المزيدة لا تمنع من العود إلى الإصلاح فيصلح الرابعة بسجدة أو تمنع من الإصلاح ولكن تنوب عن الرابعة ويكتفي بإحدى الركعتين لقطعه بسلامتهما؟ أو تمنع ولا تنوب فتبطل الرابعة؟ وكذلك لو شك هل إسقاطه لسجدة أو سجدتين مجتمعتين أو مفترقتين؟ فيتخرج على أحد الأقوال المتقدمة أنه يسجد سجدة ينوي بها الخامسة لإمكان أن تكونا مفترقتين وقد بطلت الرابعة. والخامسة تنوب عنها فتصلح بسجدة لجواز أن تكون السجدة منها. ولا يصلح بسجدتين لأننا لو قدرنا أن السجدتين من الخامسة تحققنا كمال الرابعة. والرابعة إذا كملت لم تفتقر إلى مزيد. وإكمال التخريج على بقية الأقوال جار على نحو ما قدمناه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إذا نسي الإِمام السجدة من ركعة

*وسجدها المأمومون* (¬1) فلا يخلو أن يكون *لم يحل بينه وبين إصلاحها حائل* (1) أو حال بينه وبين إصلاحها حائل. فإن كان لم يحل بينه وبين إصلاحها حائل كناسي سجدة من الأولى وهو قائم في الثانية. فإن الإِمام يرجع إلى إصلاح ركعته الماضية فيصلحها بسجدة. واختلف في المأمومين فأوجب عليهم سحنون متابعته فيها، وإن كانوا قد سجدوها. *وقيل يستحب لهم متابعته فيها وإن كانوا قد سجدوها* (¬2) وهم بمثابة من رفع من الركعة أو السجدة قبل الإِمام، فالإجزاء قد حصل والمتابعة تستحب. وقال ابن القاسم لا يتابعونه في السجود وأحب إلى أن يعيدوا. وهو أولى من أن يسجدوا ثانية فيزيدوا في صلاتهم متعمدين. وأولى من أن يتبعونه في الركعة فتكون خامسة. وإن كان قد حال بينه وبين إصلاحها حائل كالإمام يذكر في تشهد الرابعة أنه أسقط سجدة من الأولى وقد سجدها من خلّفه. فاختلف في ذلك. فمر سحنون على أصله وقال لا تجزيهم الركعة القياسجدوا فيها دون الإِمام. ويأتي الإِمام بركعة يتبعونه فيها. وقال محمَّد يعتد المأمومون بها ويقضي الإِمام الركعة دونهم. وقد قدمنا استحباب ابن القاسم للإعادة (¬3) وهي عنده أولى من زيادة ركعة قد تكون خامسة. وحكى ابن حبيب أن الإِمام إذا ذكر السجدة بعد أن حال بينه وبين إصلاحها حائل فألغى تلك الركعة وبنى على ما سواها أن صلاة المأمومين باطلة لاختلاف بناء الصلاة منهم ومن إمامهم. ولو أن الإِمام زاد ركعة خامسة سهوًا لبطلت صلاة من تعمد اتباعه دون من سها، كسهوه، أو جلس. فلو قال الإِمام ها هنا إنما أتيت بها لكوني أسقطت سجدة من الأولى فتصح صلاة الساهي وتبطل صلاة الجالسين إن جلسوا على شك، وتصح إن أيقنوا أنه لم يسقط. وأما المتعمدون إتباعه فتبطل إن أيقنوا أنه لم يسقط إلا أن أن يتأولوا وجوب اتباعه فتكون إعادتهم مستحبة. وأطلق ابن المواز القول ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -ق-. (¬2) ما بين النجمين أثبت في نسخة -ق- على النحو التالي: وقيل لا يؤمرون بمتابعته فيها. (¬3) الإعادة -ق-.

بصحة صلاة العامد وبطلان صلاة الجالس. ولو أَتبع الإِمام في هذه الركعة الخامسة من فاتته معه الأولى وهو يعلم بكونها خامسة فقد بطلت صلاته. وإن لم يعلم فليقض ركعة أخرى. ولو قال الإِمام ها هنا كنت أسقطت سجدة من الأولى لأجزته هذه الركعة التي اتبعه فيها، وقد فاتته ولم يعلم بكونها خامسة إلا أن يجمع كل من خلف الإِمام على أنهم لم يسقطوا شيئًا فلا يجزئ هذا الذي اتبعه وهو لا يعلم وليقضها. ويؤمر هذا الذي علم بكونها خامسة ألَّا يتبعه. فإذا لم يتبعه واجتمع الإِمام وكل من خلفه على إسقاط سجدة من الأولى أعاد هذا صلاته. ولو انفرد الإِمام بنسيانها دون من خلفه أجزأت هذا صلاته. وإنما افترق انفراد الإِمام بالنسيان دون من خلفه من اجتماع المأمومين معه عليه؛ لأن الإِمام والمأمومين إذا اجتمعوا على إسقاطهم السجدة من الأولى فقد صارت الخامسة رابعة لهم وسقطت الأولى عن الإِمام والمأمومين كما سقطت عمن فاتته، وسجود السهو ها هنا قبل السلام لاجتماع الزيادة والنقصان فإذا لم يتبعه فيها من فاتته فقد بطلت صلاته لتركه الاتباع فيها يجب عليه الاتباع فيه، فإذا انفرد الإِمام بالنسيان فإنه يتنزل (¬1) منزلة من استخلف بعد أن فاتته ركعة، فلا يؤم فيها من فاتته. وسجود السهو ها هنا بعد السلام، وإذا كان لا يؤم فيها من فاتته، فلا يقضي من فاتته إلا بعد فراغه منها وسلامه من صلاته، لم تبطل صلاة هذا بترك اتباع من لا يجب عليه اتباعه. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: لا يخلو الناسي للسجود إما أن يكون نسي سجدتين، أو سجدة واحدة. فإن نسي سجدتين وذكرهما قبل أن ينحني في الثانية راكعا خرّ لهما ساجدا. وإن ذكرهما وقد حتى ظهره للركوع ولم يرفعه وقلنا إن ذلك لا يمنعه من أن يعود لإصلاح ما نسي، فاختلف هل يرفع رأسه ليخِر للسجود من قيام على حسب ما كان يفعل (¬2) لو لم يسه. وأما لو كان نسيانه ها هنا لسجدة واحدة فإنه لا يعود إلى القيام لأنه قد كان خر للسجدة الأولى (¬3) ¬

_ (¬1) ينزل -ق-. (¬2) يفعله -ق-. (¬3) للسجود الأول = ق.

من قيام. ولكن اختلف هل غير ساجدا أو ينحط جالسًا ليسجد للثانية من جلوس إذ لم يكن جلس فمن رأى أن المقصود السجدة دون الحركات إليها لم يأمره إلا بما أحل به من السجود. ومن رأى أن ذلك مقصود كما كان السجود مقصودًا أمره بالرجوع إلى الشكل الذي أحل به ليكون سجوده منه. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: قد قدمنا أن المعتبر في سجود السهو عندنا السجود في النقص قبل السلام وفي الزيادة بعد السلام. فناسي السجدة أو السجدتين إنما يعتبر فيه هل حصلت معه زيادة فيسجد بعد السلام، أو نقص بانفراده أو مع الزيادة فيسجد قبل السلام. واختلف المذهب أيضًا فيمن فاته بعض ركعات الصلاة هل يكون قاضيا أو بانيًا فتختلف قراءته بحسب اختلاف حال كونه بانيا أو قاضيًا؟ واختلاف القراءة على المذهبين قد يؤدي إلى نقص يفتقر إلى أن يجبره. فلو نسي سجدة من الرابعة سجدها وأعاد التشهد. وكان سجوده بعد السلام إن أطال (¬1) الجلوس بين السجدتين لأنها زيادة محضة. ولو كانت السجدة من الثالثة وذكر وهو في الرابعة لسجد بعد السلام أيضًا. ولو كانت السجدة من الأولى أو من الثانية فاختلف في ذلك فقيل: يسجد قبل السلام لأنه يكون بانيًا فيقرأ في الركعة التي يأتي بها بأم القرآن لا أكثر فيحصل له من هذا أنه لما عادت الثالثة ثانية نقص منها السورة التي مع أم القرآن والجلسة وزاد الركعة الملغية، والزيادة والنقص يسجد لهما قبل السلام، وقيل بل سجوده بعد السلام لأنه يكون قاضيا فيقرأ بأم القرآن وسورة فتتجرد الزيادة من النقص. ولو ذكر في الرابعة سجدة من الثالثة وأخرى مما قبلها فقد صارت الرابعة ثانية. فإن بنينا على القول بالبناء كان سجوده قبل السلام. لأن الركعتين اللتين يأتي بهما يقرأ فيهما بأم القرآن. فحصل من هذا أنه نقص السورة التي مع أم القرآن من الثانية وزاد الملغيتين. وإن بنينا على القول بالقضاء قرأ في أول ما يقضيه بالحمد وسورة وفي التي تليه بالحمد خاصة وسجد بعد السلام *ولو أن الإِمام ذكر وهو في الرابعة نسيان سجدة من الأولى فإن انفرد بنسيانها دون المأمومين سجد بعد السلام لأنه يقرأ فيما يقضي بأم القرآن وسورة. وإن ¬

_ (¬1) طال -ق-.

كان قد شاركه في إسقاطها المأمومون أو بعضهم فإنه يسجد قبل السلام وتصير رابعته ثالثة لأنه لما وجب أن يصلي هذه الركعة التي بطلت فمن شاركه في بطلانها صارت صلاته كأنها لم تنقض بعد، ولم تكمل، وصار كإمام لم يصل بمن معه إلا ثلاث ركعات. ولو أن هذا الإِمام المسقط لهذه السجدة التي شاركه فيها المأمومون أو بعضهم علم بسلامة الأوليين وجوز كونها من إحدى الأخيرتين لكان سجوده بعد السلام لتجرد الزيادة ها هنا في صلاته عن النقص. وقال بعض أصحابنا* (¬1) ولو ذكر سجدتين لا يدري أمجتمعتين أو مفترقتين فليسجد سجدتين ويتشهد ويأتي بركعتين بأم القرآن في كل ركعة ويسجد قبل السلام ولو كان مع الإِمام سجد سجدتين فإذا سلم إمامه قام فأتى بركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة في كل ركعة ويسجد بعد السلام. واستحب أن يعيد الصلاة في المسألتين. وهذا الذي تقدم ذكره تفريع على أحد القولين المتقدمين. وأما تفرقته بين المأموم والمنفرد فقال ابن المواز: المأموم فيما يفوته أو يسهو عنه قاض. والإمام والفذ بانيان. هذا قول المدنيين وإليه رجع ابن عبد الحكم وفرع على هذا نسيان ثلاثة سجدات لا يدري كيف هي فمر فيها على ما حكيناه عنه من التفرقة بين الإِمام والفذ، فقال في الفذ يسجد سجدتين ولا يتشهد ويأتي بركعة بأم القرآن وسورة، ويجلس. ثم يأتي بركعة (¬2) بأم القرآن ويسجد قبل السلام. ولو كان مأمومًا سجد سجدتين. فإذا سلم الإِمام أتى بركعة بأم القرآن وسورة ويجلس، وأخرى كذلك ويقوم. وأخرى بأم القرآن ويسجد بعد السلام، وأجرى الجواب في ذلك لأربع سجدات على هذا الأسلوب. وقال ابن عبدوس إذا ذكر المأموم في قيام الثانية سجدة أو شك فيها ولم يقدر على إصلاحها خوفًا من ذوات الركعة التي تليها فإنه يأتي بركعة، بعد سلام الإِمام، بأم القرآن وسورة. فأما الموقن بترك السجدة فلا سهو عليه. والشاك يسجد بعد السلام لجواز أن تكون الرابعة زيادة. ولو كان في قيام الثالثة فذكر سجدة، أو شك فيها ولم يدر هل هي من الأولى أو من الثانية فإن طمع ألا تفوته الركعة خر بسجدة ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط من -ق-. (¬2) بركعتين -و-.

ثم يتبع الإِمام. فإذا سلم أتى بركعة بأم القرآن وسورة لجواز أن تكون من الأولى ويسجد بعد السلام إذ لعله أصاب بالسجدة موضعها والركعة زيادة. ولو أيقن بسلامة الثانية فيختلف يقينه وشكه. فإن أيقن بالسجدة قضى ركعة ولا يسجد للسهو. وإن شك سجد بعد السلام وإن لم يدرك أن غير بسجدة في الثالثة وتمادى مع الإِمام وشك في السجدة هل تركها من الأولى أو من الثانية فإنه إذا قضى الركعة بأم القرآن وسورة سجد بعد السلام، إذ لعله لم يبق عليه شيء فيصير سهوه بعد الإِمام. ولو أيقن أنها باقية من إحداهما لم يسجد للسهو، وقد وافق ابن المواز ابن عبدوس في جميع ما قاله ها هنا، وقد وقع في المدونة في ناسي السجود من الأولى والركوع من الثانية أنه يسجد للأولى ويبني عليها ولم يذكر سجود السهو فيها. وزاده بعض المختصرين للمدونة في اختصاره فقال يسجد بعد السلام. واختلف هؤلاء المختصرون الذين زادوا سجود السهو، فقال بعضهم إذا نسي السجود. وقال ابن أبي زيد: إذا نسي سجدة. فأما على نقل ابن أبي زيد أن المتروك سجدة. فالسجود بعد السلام كما قال. وأما على نقل غيره أن المتروك سجدتان فإنما يصح السجود بعد السلام إذا ذكر وهو قائم فانحط لهما من قيام. فأما لو ذكر وهو جالس لم يقم فينحط لهما من قيام فسجوده ها هنا قبل السلام لنقصه الانحطاط لهما. وإذا كان المتروك سجدة واحدة فالانحطاط قد فعله للسجدة الأولى فلم ينقص شيئًا. إلى هذا أشار بعض الأشياخ وقد كنا نحن قدمنا اختلافًا في مراعاة الانحطاط للسجود. فهذا الذي أشار إليه بعض الأشياخ مستمر على إحدى الطريقتين اللتين قدمناهما. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إن قرأ في الركعة وسجد ونسي ركوعها فقال مالك: يرجع قائمًا ثم يركع. ويستحب له أن يقرأ قبل أن يركع. ويتخرج على القول الآخر الذي قدمنا الإشارة إليه أنه يرجع محدودبًا ثم يرفع رأسه ويسجد. وقد أشرنا إلى سبب الخلاف في الحركة إلى الأركان. ولو أن هذا ركع ولكنه سها عن الرفع من الركوع لكان جوابه مأخوذًا مما قدمناه من الاختلاف في الرفع، هل هو فرض أو سنة؟ وقد اختلف قول مالك في هذا فقال مرة تجزيه صلاته. وقال مرة أخرى يتمادى ويعيد. وقال محمَّد إذا فعل ذلك سهوًا رجع إلى الركوع محدودبًا ثم يرفع. وإن رجع إلى القيام معتدلًا أبطل.

قال وإن لم يذكر حتى ركع (¬1) التي تليها تمادى وأعاد ولم يأمره بإلغاء (¬2) الركعة للاختلاف. ويتخرج على ما قدمناه، أنه تلغى تلك الركعة *وظاهر كلام ابن حبيب في صفة الرفع أنه لا يرجع محدودبًا لأنه قال من خر من ركوعه للسجود فليرجع إلى القيام كالرافع من الركوع. وكأنه رأى أن القصد بالرفع من الركوع أن ينحط للسجود من قيام. فإذا رجع إلى القيام وانحط منه للسجود فقد حصل المقصود* (¬3) وقد تنازع الأشياخ في ناسي الركوع من الأولى فذكره وهو راكع في الثانية، ما الذي يجب على القول: بأن (¬4) عقد الركعة رفع الرأس منها؟ فقال بعضهم يرفع رأسه بنية إصلاح الأولى ولا يكون إتمامًا لهذه؛ لأنه نوى بذلك غيرها وأنكر هذا غيره من الأشياخ. وقال لو صح هذا لوجب أن يركع للأولى إذ لا يمكن أن يرفع بنية الأولى ولم يكن ركوعه لها وإنما كان لغيرها، بل يتمادى على هذه الركعة التي هو فيها ويبطل الأولى وتصير هذه مكانها. وقال غير هؤلاء (¬5) من الأشياخ في هذين الجوابين نظر. ويحتمل أن يقال يرفع رأسه من غير تكبير ليعود لإصلاح الأولى ثم يركع لها ويرفع، ولا يجزيه الركوع بنية الثانية عن ركوع الأولى كما لم يجزه سجود الثانية عن سجود الأولى. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: كنا قدمنا حكم الذاكر سجود السهو قبل السلام وهو في صلاة أخرى، واقتصرنا على ذكر المذهب المشهور. وقد اختلف في ذاكر ركعة أو سجدة من صلاة فرض وهو في صلاة فرض أخرى، ففي المدونة أنه يرجع لإصلاح الأولى إذا كان قريبًا. وإن أطال (¬6) القيام أو ركع بطلت الأولى. وفي الموازية أن الركعة خفيفة لا تبطل الأولى. ولمالك في المبسوط في هذا الأصل تخيير المصلي إذا صلى ركعة بين أن يعود إلى إصلاح الأولى أو يمضي على هذه ويعيد تلك. ولمالك في مختصر ابن شعبان ¬

_ (¬1) رجع إلى التي -ق-. (¬2) بإعادة -ق-. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -ق-. (¬4) إن -و-. (¬5) غيره = و. (¬6) طال -و-.

فيمن سها عن شيء من الفريضة فأحرم لنافلة أن صلاته تبطل. وظاهر هذا الاقتصار في إبطال الأولى على مجرد الإحرام. وقال أشهب لو صلى سبع ركعات ما عاد (¬1) إلى المكتوبة وهذه طريقة مطرف وقد قال في الثمانية من دخل من مكتوبة في نافلة قبل السلام فذكر بعد أن ركع ركعتين فإنما عليه سجود السهو ولا يكون أسوأ حالًا من المصلي خمسًا أو ستًا، وفرق بين الفصل بقربة أو بغير قربة. وأما ذاكر الركعة أو السجدة من نفل وهو في فرض فالمشهور أنه لا يرجع لإصلاح الأولى. وقد قدمنا توجيه هذا في ناسي سجود السهو. وقال محمَّد بن عبد الحكم في ذاكر سجدة من النافلة بعد ركعتين من الفريضة أنه يعود لإصلاح النافلة. وكذلك الساهي عن السلام من النافلة فإنه يعود لإصلاح النافلة فيسلم منها ويسجد. ولو كان ذكره ذلك في الرابعة من المكتوبة، فكان ابن عبد الحكم لما رأى النفل لا يخل قطعه صار بالشروع فيه كالفرض فلم تنحط حرمته عما هو فيه كما تصور الجمهور انحطاطها، فلم يقطع الفرض لأجلها. وقال مطرف فيمن دخل في المكتوبة قبل أن يسلم من النافلة إن ذكر قبل أن يركع رجع فجلس وسلم. وإن لم يذكر حتى ركع مضى إلى الرابعة لينصرف على شفع ويسجد قبل السلام لتركه السلام من الركعتين الأوليين. وأما ذاكر ذلك من نفل وهو في نفل بعد أن ركع الثانية فإنه لا يرجع لإصلاح الأولى ولا يقضيها لأنه مغلوب على فسادها وعلى قول ابن عبد الحكم يرجع لإصلاحها وإن ركع. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: قد قدمنا ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في وجوب التشهد الآخر. فإن قلنا أنه ليس بواجب فقال في المدونة إن ذكر وهو في مكانه سجد لسهوه وإن لم يذكر حتى تطاول فلا شيء عليه. قال ابن القاسم وكذلك سهوه عن التشهدين جميعًا لا يراه (¬2) بمنزلة غيره من الصلاة فيما يسهو (¬3) عنه. وإن قلنا بوجوبه فقال في المبسوط إن لم يذكر حتى انتقض ¬

_ (¬1) غير واضحة -ق-. (¬2) ألا تراه -ق-. (¬3) فيما سها عنه -ق-.

وضؤوه أعاد الصلاة وإن ذهب الوقت. وإن لم ينتقض وضؤوه وكان قريبًا من مصلاه رجع إليه وجلس وكبر وسجد لسهوه ثم سلم. وإن بعد من مصلاه جلس حيث هو وكبر وتشهد. فأمره بالقرب من مصلاه أن يعود لمكانه. وفي البعد منه أن يصلي حيث هو. فأما عوده إلى مصلاه في القرب فلا يظهر وجهه. وأما صلاته في مكانه إذا بعد من مصلاه فحمله بعض الأشياخ على أنه موافق لقول ربيعة في الناسي لبعض صلاته يأتي به وإن بعد ما بينهما ما لم تنتقض طهارته. وقال مالك لو كان الناسي للتشهد إمامًا صنع كما يصنع الفذ وإن طال وجبت عليه الإعادة. وليس على الناس أن يستأنفوا معه يريد إذا تشهدوا. قال وإن كان مأمومًا حمله عنه الإِمام. وقال ابن القاسم إذا نسيه حتى سلم الإِمام فليتشهد ولا يدعو ويسلم. وقد حمل بعض الأشياخ ما وقع ها هنا في المبسوط من إعادة الصلاة بعد الوقت لترك التشهد على أنه يقتضي القول بوجوب التشهد. وفيه نظر عندي. لاحتمال أن يكون إنما قال ذلك لأنه يجب لأجل السهو عن التشهد السجود قبل السلام. وترك سجود السهو قبل السلام سهو يفسد الصلاة على ما تقدم تفصيل القول فيه. وما ذكره ها هنا من حمل الإِمام له عن المأموم يحتمل أن يكون يراه واجبًا ولكنه من الأركان الواجبة التي يحملها الإِمام عن المأموم كالقراءة. ويحتمل أن يكون رآه من السنن والسنن يحملها الإِمام عن المأموم. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إذا نسي السلام وذكره بعد أن فارق موضعه فلا يخلو إما أن يذكر (¬1) عن قرب من مفارقته لموضعه أو عن بعد. فإن ذكر عن قرب فإنه يرجع ليأتي بما بقي عليه. واختلف فيه هل يرجع للإتيان بما بقي عليه بتكبير أم لا؟ فالمشهور رجوعه بتكبير ووقع ما ظاهره أنه لا يؤمر بتكبير. وعلى القول إنه يرجع بتكبير اختلف هل يوقعه قائمًا أو بعد أن يجلس. وسبب الخلاف في التخيير أن هذا الناسي للسلام نوى بانصرافه من الصلاة الخروج منها فلا يكون خارجًا عندنا لأنه لم يخرج بسلام. وأبو حنيفة يرى الخروج منها بما يضادها. فإن راعينا خلافه *افتقر في رجوعه إلى تكبير ¬

_ (¬1) بذكر ذلك -ق-.

يعود به إلى صلاة قوإنصرف عنها وإن لم يراع خلافه* (¬1) لم يفتقر إلى تكبير لأنه لم يخرج من الصلاة فيفتقر إلى تكبير يعود به إليها. وقد اختلف في المسلم من اثنتين هل يرجع بتكبير أم لا؟ وهو قد سلم قاصدًا الانصراف من الصلاة. وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. وإذا رجع ليأتي بما بقي عليه من الصلاة فهل عليه أن يتشهد ليقع السلام عقيب تشهد عار من فاصل بينه وبين السلام أو يكتفي بتشهده الأول لكون هذا الفصل غير معتبر في إبطال الصلاة ولا يتشهد في آخر الصلاة مرتين؟ فيه قولان. وأما إن ذكر السلام وقد بعد عن موضعه فإن انتقضت طهارته بطلت صلاته. وإن لم تنتقض طهارته بطلت صلاته على المشهور. وقد قدمنا الاختلاف في هذا الأصل. وما ذكره في المبسوط في نسيان التشهد. وهذا حكم من أيقن بنسيان السلام. ولو شك هل سلم أو لا؛ فإنه يسلم ولا يسجد للسهو ها هنا لأنه إن كان قد سلم فسلامه هذا مطرح. وإن كان لم يسلم اعتد بسلامه. هكذا قال ابن القاسم. ومحمله على أنه لم يبعد من الصلاة. وأما لو بعد منها جرى الأمر على ما قدمناه في الموقن بنسيان السلام وذكر ذلك بعد أن بَعُد. لجواز أن يكون هذا الشاك لم يسلم. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ومن لم يدر كم صلى بني (¬2) على يقينه وسجد بعد السلام إلا أن يكون ممن لا تيقن له (¬3) لاستنكاح الشكوك له وغلبتها عليه فلا يلزمه إلا غالب الظن ويستحب له السجود بعد السلام. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن المستنكح يبني على الظن ومن سواه على اليقين؟. 2 - وما حكم سجود السهو في ذلك؟. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -ق-. (¬2) بقي -غ- وهو خطأ. (¬3) يقين له -غ- الغاني -ق- وانفردت نسخة الشرح -و- لا تيقن وهي أصوب.

3 - وهل يجوز للشاك أن يسأل؟. 4 - وما حكمه إذا أخبره مخبر عما شك فيه (¬1) أو عما يعتقد خلافه؟. 5 - وهل يبطل التسليم الصلاة؟. 6 - وما حكم البناء بعد التسليم (¬2)؟. 7 - وهل توجب فكرة المتشكك سجودًا أم لا؟. 8 - وما حكم من كثر السهو عليه؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس فيمن شك في عدد الركعات أو السجدات. فمذهبنا ما ذكره القاضي أبو محمَّد من التفرقة بين المستنكح وغيره. وقال الشافعي يبني على اليقين. وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة تبطل صلاته في (¬3) أول شك يعتريه. فإن تكرر ذلك منه بني على اجتهاده. فإن لم (¬4) يؤده اجتهاده إلى شيء بني على اليقين. وقال أحمد يبني المنفرد على اليقين. واختلفت الرواية عنه في الإِمام فرآه مرة كالمنفرد، ورآه مرة أخرى بخلافه فيبني على غلبة الظن. وقال الشافعي وشريح والأوزاعي وغيرهم تبطل الصلاة ويعيد حتى يتحفظ. وروي ذلك عن ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما وكان عطاء وابن مهران وابن جبير في إحدى الروايتين عنه إذا شكوا في الصلاة أعادوها ثلاث مرات وإذا كانت الرابعة لم يعيدوها. وقال الحسن يبني على وهمه ويسجد سجدتي الوهم. وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما. وذكر الطبري عن بعضهم أنه خير المصلي بين أن يأتي بما شك فيه أو لا يأتي به. وسبب هذا الاختلاف اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في هذا. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد ¬

_ (¬1) وما حكمه إن أخبره مخبر بما شك -ق-. (¬2) السؤال 6 = ساقط -ق-. (¬3) من -ق-. (¬4) فلو لم -ق-.

سجدتين وهو جالس (¬1). وقال أبو سعيد الخدري قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري كم صلى فليطرح الشك وليس على اليقين ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته وإن كان صلى تمامًا كانت ترغيمًا للشياطين (¬2). وقال ابن مسعود قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه (¬3). وفي بعض طرقه فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب (¬4). وفي بعض طرقه فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب (¬5). فظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه اقتصاره على سجدتي السهو من غير أن يؤمر بالإتيان بما شك فيه. وحديث الخدري رضي الله عنه يقتضي الإتيان بما شك فيه. فلما رأى بعضهم هذا التعارض وفقد التواريخ خير المصلي بين أن يأتي بما شك فيه أو لا يأتي به على ما حكاه الطبري. ورجح الحسن حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخذ به. ورجح الشافعي حديث الخدري فأخذ به وعضده بالقياس على الشاك هل صلى أم لا، فإن عليه أن يصلي. ولأن الركعة في ذمته بيقين فلا يبرأ منها بالشك قياسًا على من شك في صلاة لا يدري عينها فإنه يصلي الخمس طلبًا لليقين لما لم توجد أمارة يظن منها. وكذلك الشاك في عدد الركعات لا أمارة له يظن منها *وأيضًا فإن شك المصلي في فعل هيئة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 264. وأخرجه أبو داود في مختصر المنذري ج 1 ص 468. (¬2) رواه مسلم: وإن كان صلى لأربع كانت ترغيمًا للشيطان. إكمال الإكمال ج 2 ص 266. والهداية ج 4 ص 93. ولفظ مسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فلن يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليس على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيما للشيطان. (¬3) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 267 وأبو داود مختصر المنذري ج 1 ص 466. (¬4) أخرجه مسلم من حديث محمَّد بن مثنى قال ثنا محمَّد بن جعفر ثنا شعبة عن منصور إكمال الإكمال ج 2 ص 269. (¬5) أخرجه مسلم من رواية ابن بشير إكمال الإكمال ج 2 ص 268.

ولا يتحرى في فعل هيئة* (¬1) كالشاهد والحاكم إذا شكا فإنهما لا يتحريان. وأما نحن فإنا أخذنا بهذا في غير المستنكح فإذا استنكحه الشك أخذنا فيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب (¬2). وظاهر هذا الرجوع إلى الظن لا إلى القطع فيبني الأحاديث على هذه الرتبة. على أن بعض أصحابنا تأول قوله فليتحر الصواب على أن المراد به البناء على اليقين لأن البناء عليه هو تحري الصواب، والتحري القصدوقد يقع بفكرة وقد يقع بغير فكرة. كما قال: لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها (¬3). فهذا قصد لا فكرة فيه. وهذا التأويل إن سلم لهذا المتأول احتمال الظاهر له فقد لا يسلم هذا الاحتم الذي رواية من روى فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب. فإن لفظ أقرب يشير إلى الظن. وأيضًا فإن المستنكح لا يمكنه إتمام الصلاة إلا على الظن لأن فيما لا يقدر فيه إلا على الظن هو (¬4) أصل الشرع كالاجتهاد للقبلة والأواني والقيم والنفقات. فإن قيل لا أمارة عنده يظن منها كالشك هل صلى أم لا؟ قيل بل له أمارة (¬5). وهي أن يعلم أن بينه وبين الإحرام من الزمان مقدار ما يصلي فيه ركعات مقدرة على عادته. والشاك هل صلى أم لا، لو كان مستنكحًا لم يجب (¬6) عليه طلب اليقين. مع أنه قد يمكنه أيضًا أن يأتي بالفرض من غير تقدير وقوع في منهي (¬7) عنه. بخلاف هذا الذي يحاذر الوقوع في زيادة أو نقص. ولأجل هذه المحاذرة أمره من ذكرناه بإعادة الصلاة ليأتي بصلاة يتحقق سلامته ¬

_ (¬1) هكذا في -و -وهو غير واضح المعنى منبىء بوجود تحريف. أما نسخة -ق- فالحروف أكلتها الأرضة وزادتها الرطوبة تداخلا. (¬2) ابن أبي شيبة ج 1 ح 4402. (¬3) متفق عليه مشكاة ج 1 ص 327. عن ابن عمر لا تنحيتن عند طلوع الشمس ولا عند غروبها بالصلاة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهي عن ذلك. المصنف ابن أبي شيبة ص 134 ح 7365. (¬4) هو هذا أصل -و-. (¬5) فقيل له أمارة -ق-. (¬6) لوجب -ق-. (¬7) فيما سها عنه -ق-.

من الوقوع في منهي عنه. واعتمد هؤلاء على قوله عليه السلام: لا غرار في الصلاة (¬1). وتأولوا قوله لا غرار على معنى لا تغرير والباني على اليقين مُغَرر بصلاته. وأجيبوا عن هذا بأن البناء على اليقين يرفع التغرير. وإنما يكون مغرورًا من بني على الظن كما قال أبو حنيفة فيمن تكرر عليه الشك. ويناقض أبو حنيفة فيمن تكرر عليه الشك. فإنه إن زعم أن صلاة الشاك الذي لم يتكرر الشك عليه تبطل مخافة التغرير. فهذه العلة موجودة فيمن تكرر الشك عليه وهو قد فرق بينهما. ثم التغرير في البناء على الظن أشد منه في البناء على اليقين. لأن الباني على اليقين متردد بين أن يكون أكمل أو زاد، والزيادة لا تبطل الصلاة. والظان متردد بين هاذين مع زيادة التجويز أن يكون نقص. والنقص يبطل الصلاة. وأما الذين أعادوا الصلاة ثلاث مرات فلعلهم قدروا أن المشقة إنما ترتفع بهذا القدر من العدد (¬2) فإذا زاد عليه تحققت المشقة فلم تلزم الإعادة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما سجود هذا الشاك للسهو بعد عمله (¬3) ما أمرناه به فقد قدمنا مذهبنا في محل سجود السهو وما يكون فيه قبل السلام وما يكون بعده. وقد وقع في حديث الشاك ها هنا ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. وقد كنا قدمنا الكلام على تأويل هذا الحديث وانفصلنا عن استدلال من استدل به على أن محل السجود كله قبل السلام بما يغني عن إعادته ها هنا. وقد دعا محمَّد بن يحيى ى بن عمر بن لبابة ظاهر هذا الحديث إلى أن قسم محل سجود السهو على غير ما قسمناه. فقال: السجود للنقص المتحقق وفي الشك، قبل السلام. وإنما يسجد بعد السلام من تيقن الزيادة. ولو أن المصلي شك في سهوه، هل هو مما يقتضي السجود قبل السلام أو بعد السلام؟ فالمشهور أنه يسجد قبل السلام. وحكى ابن حارث أنه يسجد بعد السلام. ¬

_ (¬1) أخرجه في المسند عن عبد الله قال سمعت أبي يقول سألت أبا عمرو الشيباني عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا إغرار في الصلاة فقال: إنما هو لا غرار في الصلاة ومعنى غرار يقول لا يخرج منها وهو يظن قد بقي عليه منها شيء حتى يكون على اليقين والكمال. المسند ج 2 ص 461. (¬2) الغرر -ق-. (¬3) علمه -ق-.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في الشاك هل أكمل صلاته أم لا؟ هل يجوز له أن يسأل المؤتمين به؟ فالمشهور منع ذلك كان في الصلاة أو انصرف منها بسلام ثم حدث له الشك بعد سلامه. ووجه هذا أنه مع الشك مخاطب بالبناء على اليقين كما تقدم. فهو في حكم من يتحقق أنه لم يكمل الصلاة. ومن لم يكمل الصلاة لا يجوز له الكلام. وقيل يجوز السؤال بعد التسليم خاصة. ووجه هذا: أنه بالتسليم خرج من الصلاة في الظاهر فيستظهر بالسؤال حتى يعلم حقيقة ما يعود إليه. ومن لم يسلم لم يخرج من الصلاة فلا يتكلم على شك. ولأن كلامه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذي اليدين إنما كان بعد أن سلم. وأجاز محمَّد بن عبد الحكم السؤال قبل السلام وبعده. ووجهه أنه كلام لإصلاح الصلاة. والكلام لإصلاح الصلاة غير ممنوع وإن كان في أثنائها. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف قول مالك في الإِمام إذا أخبره من خلفه أنه لم يكمل هل يرجع إليهم أم لا؟ فروي عنه أنه لا يرجع إليهم إذا كان الأمر عنده بخلاف ما قالوه. وبه قال الشافعي. وروي عنه أنه يرجع إليهم وبه قال أبو حنيفة. وقال ابن حنبل يرجع إلى قول اثنين. وبه قال أشهب واشترط أن يكونا عدلين. وقال ابن مسلمة يرجع إلى قول العدد الكثير ولا يرجع إلى العدد اليسير كالاثنين والثلاثة. فوجه القول أنه لا يرجع، قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا شك أحدكم فلم يدر كم صلى أثلاثًا أم أربعًا فليبن علي يقينه (¬1). ووجه القول بأنه يرجع إليه، رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى قول من خالفه. والظاهر أنه لم يذكر ولا تحقق أنه نسي. إذ لو كان ذلك كذلك لأعلمهم بذلك لئلا يتوهموا عليه أنه رجع إلى قولهم، وهو إنما رجع إلى علم نفسه. ولأن الإنسان يرجع إلى خبر غيره في رؤية الهلال، وكذلك (¬2) يرجع إلى خبر غيره في الصلاة. وأجيب عن هذا أنه إنما رجع في استهلال الهلال إلى خبر غيره لأنه لا يعتقد بطلان قوله، بخلاف المصلي الذي يعتقد بطلان قول من خلفه. على أن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم حديث رقم 57 أو لفظه: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك وليس على ما استيقن. (¬2) فكذا -و-.

الشاك في الوقت لو أخبره غيره لم يعمل على خبره، فكذلك الشاك في عدد الركعات. وقوإنفصل الأولون عن هذا أيضًا بأن الزوال له علامات ويقدر على العلم فلم (¬1) يعول فيه على الخبر. وقد أشار ابن القصار إلى أنه لا يرجع إلى قولهم في الزيادة إذا تيقن خطأهم لأنهم إن تعمدوا تركه على غلطه فليسوا بعدول، وإن جهلوا لم يرجع إليهم. وإن نسوا ثم أيقنوا فيقينه أولى لتبدل اعتقادهم. ولأن سجود السهو في الزيادة بعد السلام ليس بواجب. وأما إن أخبروه بالنقص فليرجع إليهم لأن يقينهم أولى من يقينه. والمصلي مأمور بالبناء على اليقين. وأما إذا شك المصلي فأخبره من (¬2) ليس معه في صلاة فقال بعض أشياخي إذا شك الإِمام ومن خلفه فأخبرهم عدلان أنهم أتموا رجعوا إليهما. ويختلف إذا كان المخبر عدلا واحدًا. فروي عن مالك أنه لا يرجع إليه. وفي الموازية إذا أخبره واحد أنه أتم طوافه أرجو أن يكون في ذلك بعض السعة. فمن سلك به مسلك الشهادات اشترط العدد، ومن سلك به مسلك الإخبار لم يشترطه. ولو كان على يقين لم يرجع إلى قول من ليس معه في صلاة، أخبره بالإكمال، أو بالنقص، إلا أن يكونوا عددًا كثيرًا فيرجع إليهم على أصل ابن مسلمة. وقال ابن القصار إذا شك هل صلى أم لا فأخبر أنه صلى فإن كان المخبرون معه في الصلاة فهي كمسألة الإِمام يشك في عدد الركعات لأنهم يراعون أمر صلاته كما يراعيها. وإن لم يكونوا معه لم يقبل منهم لأنهم لا تكون مراعاتهم لصلاته أكثر من مراعاته هو لها. وكذلك لو شهد شاهدان أن القبلة إلى جهة كذا لم يصل إليها من يعتقد خطأهم لأنه يبتدىء الصلاة إلى جهة يعتقد أنها غير القبلة ولا يصلي وراءه الشاهدان لاعتقادهما أنه في غير صلاة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا سلم الإِمام فكلمه بعض من ¬

_ (¬1) على العلم فلهذا لم -ق-. (¬2) فأخبره غيره من -و-.

خلفه بعد سلامه مخبرا أنه لم يكمل، فقيل تصح صلاته وقيل تبطل صلاته. وقيل إن جرى ذلك في الركعة الثانية خاصة صحت الصلاة. وإن جرى فيما سواها من الركعات لم تصح. فوجه القول بصحة الصلاة على الإطلاق. حديث ذي اليدين (¬1) وقد ذكر فيه بعض كلام المأمومين للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم ينقل أنه أمرهم بالإعادة. ووجه القول ببطلان الصلاة أن الكلام في الصلاة عمدا يبطلها. وهؤلاء قد تكلموا وهم على علم بأن صلاتهم لم تكمل. ومن تكلم ممن صلى وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فعذره بيّن لتجويز النسخ حينئذٍ، فليس على يقين من عدم الإكمال *ومن بَعْد النبي - صلى الله عليه وسلم - على يقين من عدم الإكمال* (¬2). وقد أفسد ابن القاسم هذا الاعتلال لما ذكر له عن ابن كنانة بأن القوم تكلموا بعد علمهم بعدم النسخ. ألا ترى أنهم قد قالوا قد كان بعض ذلك لما سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان قولهم ذلك بعد الإخبار أنها لم تنسخ. ولما استشعر بعض المتأخرين من أصحابنا صحة انفصال ابن القاسم اعتذر عن كلام بعض الصحابة رضي الله عنهم بعد علمهم بعدم النسخ بأن قال: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: أصدق ذو اليدين استدعى منهم الجواب. ومجاوبته - صلى الله عليه وسلم - لازمة. وامتثال أوامره مشروع. فهو في هذا - صلى الله عليه وسلم - بخلاف من سواه من الأئمة الذين لا تلزم مجاوبتهم. ولعمري إن هذا الذي قاله ليروق. ولكن قد يقول قائل في الممكن أن يجيبوه - صلى الله عليه وسلم - إشارة لا عبارة. والإشارة في الصلاة لا تبطلها. والكلام يبطلها إلا أن يدعي هذا المعتذر بما حكيناه عنه أنه لا يمكنهم إفهامه - صلى الله عليه وسلم - إلا بالعبارة أو يدعي أنه استدعى منهم الجواب عبارة، وإن أمكنت الإشارة. ووجه القول بالتفرقة بين الثانية وما سواها أن الأصل بطلان الصلاة بالكلام ووقع في حديث ذي اليدين الكلام في الثانية فقصرت الإباحة على الثانية دون ما سواها. وهذا ضعيف. لأن المنع من الكلام تتساوى فيه الركعات ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ما بين النجمين = ساقط من -ق- ومعناه أن الشك في النسخ وعدم الإكمال ينتفي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

والحاجة إليه تتساوى فيه أيضًا، فلا معنى للتفرقة. على أنه قد خرج مسلم في حديث (¬1) أن ذلك جرى في الثالثة، وهذا يفسد القول بالتفرقة. وقد وقع في حديث ذي اليدين أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أن الصلاة لم تقصر وأنه لم ينس. وقد ثبت أنه نسي. وهذا إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه وهو معصوم - صلى الله عليه وسلم - من الكذب. والجواب عن هذا أن نقول لو صرح - صلى الله عليه وسلم - بتقييد كلامه فقال ما قصرت ولا نسيت في اعتقادي، وسمع الناس منه هذا التقييد، وهو قوله في اعتقادي، لم يعد ذلك كذبًا ولا إخبارا عن الشيء بخلاف ما هو عليه. فإذا لم يقل ذلك وسكت عن التقييد بقوله في اعتقادي، كانت قرينة الحال دالة على أنه مراده. لأن المراجعة التي كانت تقتضي ذلك ولا ينكر عاقل أن الإنسان منا قد يقول قولًا أو يفعل فعلًا فينبه على وهم وقع منه فيه فيقول لم يكن ذلك ويشعر المنبه له بأن مراده أني لم أقصد لما أضفت إلى وإن اعتقادي خلاف ما نسبت إلى لا سيما ولم يقع قول ذي اليدين موقع التصميم على أمر يعينه، وإنما وقع منه لفظ تردد بين أمرين فقال أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ كالمستفهم فأجابه بأن الأمرين لم يكونا، يعني على ما أعتقد. وأشعره أنه لم يسلم إلا وعنده أنه قد أكمل الصلاة. وهذا لائق في جواب المستفهم بمثل هذا اللفظ. كما أن عصمة الأنبياء من وقوع الكذب منهم تعمدًا أو نسيانًا فيه كلام يطول وموضعه كتب الأصول. وقد تكلف بعضهم تأويلا تعسف فيه فتأول قوله - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لم يكن على أن المراد به لم يكن القصر والنسيان جميعًا، وإن كان يمكن أن يكون قد وقع أحدهما. وهذا تعسف وبعيد عن ظاهر اللفظ. وهب أنه سلم له هذا التأويل على بعده فما يصنع في الرواية الأخرى التي ذكر فيها أن الصلاة لم تقصر وأنه لم ينس. وهذا لا يسلك فيه إلا ما سلكناه في الجواب. والاعتماد ¬

_ (¬1) هو الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعًا عن ابن عليه قال زهير ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن خالد عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات. كتاب المساجد باب السهو في الصلاة حديث رقم 101.

عليه أولى لاطراده وجريانه على الروايتين جميعًا وسلامته من التعسف على ظاهر هذا اللفظ. والجواب عن السؤال السادس (¬1): أن يقال: إذا سلم من اثنتين فذكر وهو جالس في مقامه فعليه أن يرجع إلى الصلاة بإحرام ثم يكبر تكبيرة القيام للثالثة. وقد قال بعض الأشياخ ليس ذلك عليه وإنما يفتقر إلى الإحرام لو قام بعد سلامه أو فعل ما يوجب حاجته إلى الإحرام. وأما إن ذكر بعد قيامه وانصرافه فإنه يفتقر في رجوعه إلى إحرام. فإن رجع بغير إحرام بطلت صلاته عند ابن نافع ولم تبطل صلاته عند ابن أبي زيد وغيره من مشائخ عصره. قال الأصيلي ونيته تكفيه عن الإحرام كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد وقع في المدونة أنه - صلى الله عليه وسلم - رجع بإحرام. وقال بعض الأشياخ لم يثبت لأن ابن سحنون أسنده لابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال الشيخ أبو الحسن: ليس في السهو لابن عمر حديث صحيح ولا سقيم. فإذا أمرناه أن يرجع بإحرام فهل يوقعه جالسًا لأنها الحالة التي فارق منها الصلاة، أو يوقعه قائمًا؟. قال من تقدم من أصحاب مالك يوقعه قائمًا. وقال ابن شبلون يوقعه جالسًا: فإذا قلنا بوقوعه قائمًا فهل يجلس بعد إيقاعه أم لا؟ فيه قولان. قال ابن القاسم يجلس ليأتي بالنهضة التي فعلها أولًا في غير صلاة. وقال ابن نافع لا يجلس، ورأى أن النهضة غير مقصودة في نفسها وقد فات محلها بالقيام فلا يعود إليها. وإذا قلنا أنه إذا أحرم قائمًا جلس فهل يجلس من سلم حين رفع رأسه من سجود الثانية أو الثالثة؟ قال بعض أصحاب مالك لا يجلس. وقال بعض المتأخرين بل يجري ذلك على القولين لأن ما بين رفع رأسه ومنتهى قيامه لم يفعله في صلاة فيختلف فيه أيضًا. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إطالة التذكر لا تخلو من قسمين: أحدهما أنه تقطع في فعل في تطويله قربة كالقيام والركوع والسجود ¬

_ (¬1) السؤال السادس والسابع = ساقطان من نسخة -ق-.

والجلوس فليس في إطالة هذا سجود سهو. لكن سحنون قال في الجلوس: إن أطاله طولًا خرج فيه عن الحد سجد للسهو. وقال أيضًا فيمن أطال القراءة في السجود أو الركوع أو القيام أو القعود، فإنه يسجد بعد السلام لأجل الإطالة. لا لأجل القراءة. وإن كان (¬1) لا قربة في تطويله كالجلوس بين السجدتين والمستوفز للقيام على يديه وركبتيه بعد رفعه من السجدتين فإن مالكًا قال في هذا لا سجود عليه. وكأنه رأى أن الشك بانفراده لا يوجب سجودًا وإطالة الفعل عمدا لا توجب سجودًا. وقال أشهب يسجد للسهو لأنه إنما طولها بالشك ولا قربة في التطويل. وقد اعتل ابن القاسم لنفي السجود في إطالة التذكر في الركوع أو السجود أو القيام أو القعود بأنه ليس بزيادة ولا نقصان. واعتل أشهب بأن الإطالة لما لم تمنع على الجملة لم يتعلق بها سجود سهو (¬2). وقد تلخص من هذا أن الإطالة يراها سحنون توجب سجود السهو على الإطلاق. ومالك وابن القاسم وأشهب لا يوجبون بالإطالة سجود سهو، لكن أشار بعض المتأخرين إلى الاختلاف فيما لا قربة في إطالته وذكر ما ذكرناه في المطيل بين السجدتين عند رفع الرأس منهما. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: لا يخلو الاستنكاح ها هنا إما أن يكون كثرة شك فلا يدري سها أم لا، أو يسهو. أو يتكرر ذلك عليه. فأما الذي يتكرر عليه الشك فإنه لا يلزمه أن يبني على اليقين. وكأن كثرة تكرر (¬3) الشك أسقطت (3) عنه أن يأتي بالإكمال الذي يؤمر به من لم يتكرر الشك عليه. وهل يسقط عنه هذا التكرر سجود السهو أم لا؟. اختلف فيه قول مالك فقال مرة يسجد، وقال مرة أخرى لا سجود عليه. ¬

_ (¬1) هذا هو ثاني القسمين. (¬2) هكذا في النسخة -و- التي عليها وحدها الاعتماد لسقوط الجواب من نسخة -ق- وأشهب يقول بسجود السهو للإطالة. والتعليل يفيد عكس ذلك. (¬3) تكرر ساقطة = و. أسقط.

فوجه القول بالسجود قياسًا على من لم يتكرر عليه. ووجهه القول بنفيه أن التكرار إذا أسقط مقتضاه من البناء على اليقين أسقط مقتضاه من السجود. فإن قلنا بالسجود فما محله؟. فيه اختلاف. قال مالك بعد السلام. ووجه هذا أنه سجود ترغيم. وتجويز النقص غير معتبر. ولو اعتبر لما اقتصر على سجود السهو لتجويز نقص ما لا يجزئ عنه السجود. وقال ابن حبيب يسجد قبل السلام. ووجهه أن النقص والزيادة يجوز أن يُغلّب حكم النقص على الزيادة في تجويزهما كما غلب في اليقين بهما. وأما الذي يتحقق السهو ويكثر عليه فإنه يبني ولا سجود عليه قاله في الموازية. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ولا يسجد المأموم لسهوه. والإمام يحمله عنه (¬1). ويسجد هو مع الإِمام في سهو الإِمام أدركه أو سبقه به (¬2). فإن سبقه به سجد معه إن كان قبل السلام، وإن كان بعده انتظر إلى أن يفرغ من القضاء ثم يسلم ويسجد (¬3). قال الشيخ رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لم حمل الإِمام سهو المأموم؟. 2 - ولم سجد المأموم في سهو الإِمام؟. 3 - وإن لم يسجد الإِمام فهل يسجد المأموم؟. 4 - وهل يسجد المسبوق لسهوه فيما يقضيه؟. 5 - ومتى يسجد المسبوق عن سهو الإِمام؟. 6 - وما حكم المسبوق إذا اجتمع عليه سهو الإِمام وسهو نفسه؟. ¬

_ (¬1) عنه = ساقطة -الغاني-. (¬2) به = ساقطة -غ-. (¬3) ثم يسجد -غ- في -و - ق- ثم يسلم. وانفردت نسخة الغاني بالجمع بينهما.

7 - وما حكم المسبوق إذا قام لقضاء ما عليه قبل سلام الإِمام؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أطبق العلماء على أن المأموم لا يلزمه السجود في سهوه. وحكي عن مكحول أنه قام عن قعود الإِمام فسجد سجدتين، ولنا ما رواه الدارقطني بإسناده عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس على من خالف الإِمام سهو. وإن سها الإِمام فعليه وعلى من خلفه (¬1). وأيضًا فإن معاوية ابن الحكم تكلم في صلاته خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمره بسجود. ولأنه لما لزمه سهو الإِمام وإن لم يسه، لم يلزمه سجود عن سهوه؛ لأن الإِمام يتحمله عنه. ولأن الجماعة شرعت ليحصل للمأموم من مراعاة الاتباع والاقتداء ما يبعد صلاته عن السهو، فإذا سها لم يسجد. فكانت كلفة الاقتداء والمتابعة تسقط (¬2) عنه سجود السهو لتشاغله بمعنى شرع ليبعده عن السهو. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا سها الإِمام لزم المأموم أن يسجد معه. لقوله: فإذا سها الإِمام فعليه وعلى من خلفه. ولأنه كما حمل عنهم عهدة ما فعله فليتبعه المأموم ويلزم معه عهدة ما لم يفعله. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الإِمام ليؤتم به (¬3). ومن الائتمام به اتباعه في السجود. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا لم يسجد الإِمام للسهو فإن المأموم يسجد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال عطاء والحسن والقاسم والثوري والمزني وابن حنبل في أحد الروايتين عنه لا يسجد المأموم. ودليلنا أن سجود السهو إنما شرع في النقص ليتلافى به ما انتقص من الصلاة عن الكمال. فإذا انتقصت صلاة الإِمام انتقصت صلاة المأموم فيؤمر الإِمام بالإكمال فإن لم يفعل أمر به المأموم كما يؤمر المأموم بفعل السجدة إذا تركها الإِمام. وإن كان السهو زيادة فحكمه حكم النقص في هذا. واحتج المخالف بأن المأموم لم يسه، وإنما يسجد على سبيل التبع ¬

_ (¬1) الجزء الأول ابن أبي شيبة ج 1 ح 4526. (¬2) مسقطة -ق-. (¬3) تقدم تخريجه. ص 531.

للإمام. فإذا ترك المتبوع لم يفعل التابع. وما قدمناه من مراعاة طلب الكمال انفصال عن هذا. وقال بعض المخالفين سجود السهو نفل، والمأموم يتابع الإِمام في النفل. والجواب عن هذا ما قدمناه من اختلاف الناس في سجود السهو هل هو واجب أو مستحب، فإن قلنا بوجوبه فمخالفة الإِمام (¬1) يظهر وجهها. وإن قلنا باستحبابه فإن المأموم لم يخالف الإِمام في حال كونه إمامًا، وإنما يسجد للسهو بعد سلام الإِمام. فالإمام إذا سلم خرج من الإمامة فلم يكن في الأمر للمأموم بالسجود سلوك لطريقة مخالفة للإمام. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا قام المسبوق لقضاء ما فاته فسها فيه فإنه يسجد لسهوه. وبه قال ابن عمر وابن الزبير والخدري. وقالت الشافعية لا سجود عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم - ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا (¬2). قلنا إن السهو حدث له في فعل انفرد به فأمران يتلافى نقصه كالمنفرد في الصلاة كلها. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المسبوق لا يخلو من قسمين: أحدهما أن يكون لم يدرك ركعة مع الإِمام وإنما أدركه في الجلوس الآخر (¬3) والثاني أن يعقد معه ركعة. فأما من لم يعقد معه ركعة فاختلف في متابعته الإِمام إذا كان سجوده (¬4) قبل السلام. فقال ابن القاسم لا يتبعه. وقال سحنون يتبعه. وأما إن عقد معه ركعة فإنه يلزمه أن يسجد لسهو الإِمام فيما سبقه. وهل عليه متابعة الإِمام في السجود في الفعل والزمن أو الفعل دون الزمن؟ اختلف الناس في ذلك. فقال ابن سيرين وإسحاق لا يتابعه في الزمن سواء كان السجود قبل السلام أو بعده ¬

_ (¬1) لم يظهر -ق-. (¬2) فأتموا. عن أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتيتم الصلاة فأتوا وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقتم. الطبراني الأوسط. ورجاله موثقون. مجمع الزوائد ج 2 ص 31. (¬3) وإنما أدرك الجلوس الأخير. (¬4) سجود -و-.

وإنما يسجد إذا قضى ما عليه. لأن محل السجود ما بعد القضاء لا ما قبله. وقال أبو حنيفة يتابعه في السجود فعلًا وزمنًا لأنه يرى أن السجود كله بعد السلام. وقد قدمنا الاختلاف بينه وبين صاحبه في كون تسليم من عليه السهو غير محلل له من الصلاة. وإذا لم يكن التسليم محللًا وكان الإِمام يعود لسجود السهو إلى حكم صلاته حتى كأنه لم يخرج منها أمر المأموم بمتابعته قبل أن يقوم إلى القضاء لكون الإِمام غير مقدر خروجه من الصلاة عند سجوده للسهو. ومذهبنا أن سجود الإِمام إن كان قبل السلام تابعه فيه المأموم، إذ لو لم يتابعه فيه لكان مخالفًا عليه. وهو يتابعه فيما لا (¬1) يعتد به مثل إذا أدركه ساجدًا فإنه يسجد معه، وإن كان لا يعتد بالسجود فأحرى أن يتابعه ها هنا. وإن اتبعه لم يعد السجود إذا سلم خلافًا لأحد القولين عند الشافعية بإعادة السجود إذا فرغ من القضاء؛ لأن الإِمام إنما سجد عن سهوه وتابعه المأموم على ذلك فلا يعيد السجود إذ لا يسجد عن سهو واحد مرتين. وإن كان بعد السلام لم يسجد إلا بعد قضائه لأن الإِمام خرج بالتسليم عندنا من الصلاة وتحلل منها. فلم يكن في تأخر المأموم عن السجود معه مخالفة على الإِمام لزوال الإمامة بالتسليم وفساد (¬2) هذا التعليل أن يقوم للقضاء عند سلام الإِمام من صلاته لكون المخالفة غير معتبرة حينئذٍ فيما قلناه وهو أحد الأقوال عندنا. وإن كان قد قيل إن المختار قيامه بعد سلام الإِمام من سجود السهو لأن انتظاره إلى أن يسلم من سجود السهو فيه تقليل المخالفة عليه، ومجانبة لأن يكون المأموم يحدث فعلًا مخالفًا لما أحدثه الإِمام. وقيل إن المأموم غير بين هذين المذهبين. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: لا يخلو المسبوق إذا سها فيما يقضيه إذا سها إمامه أن يكون سهو الإِمام قبل السلام وقد سجده معه، أو بعد السلام ولم يسجده معه. فإن كان قبل السلام اعتبر حكم سهوه في نفسه فيسجد ¬

_ (¬1) في -و- رطوبة. الأقرب: لم. (¬2) هكذا في -ق- وهي كلمة ممحوة في -و- والمعنى غير واضح. ولعل الأولى ومفاد.

للنقص قبل، وللزيادة بعد. وقيل لا يعتبر بسهوه وينوب له سجوده مع الإِمام عنه سواء كان سهوه نقصًا أو زيادة. إذ لا يسجد للسهو مرتين. وأما إن كان سجود الإِمام بعد السلام فلا يخلو أن يكون سهو المسبوق زيادة أو نقصانا. فإن كان زيادة سجد بعد السلام وناب له عن السهوين. وإن كان نقصًا فاختلف فيه. فقيل يسجد قبل السلام عنهما تغليبا لحكم سهوه على حكم سهو الإِمام لما كان سهوه نقصا. وقيل بل يغلب حكم سهو الإِمام فيسجد بعد السلام عنهما. ولو كان هذا المسبوق استخلفه إمامه بعد أن سها الإِمام فإنه لا يخلو أن يكون سهو الإِمام زيادة أو نقصانًا. فإن كان زيادة فلا يسجد للسهو إلا بعد فراغه من قضائه وتسليمه من الصلاة. فإذا سلم بهم سجد بهم. وإن كان نقصًا فاختلف في سجوده متى يكون؟ فقيل بعد أن يفرغ من قضائه فيسجد حينئذٍ ويسلم بهم. وقيل عند انقضاء صلاة الإِمام. ولو كان هذا المسبوق سها فيما يصليه، بعد إمامه، فلا يخلو إما أن يكون إمامه الذي استخلفه سها، أو لم يسه. فإن كان إمامه لم يسه فلا يخلو سهو المستخلف إما أن يكون مما يسجد فيه بعد السلام أو قبله. فإن كان مما يسجد فيه بعد السلام فلا يتبعه المأمومون لانفصالهم عن حكم الإمامة بالسلام. وإن كان مما يسجد فيه قبل السلام فهل يتبعه المأمومون فيه أو لا؟ اختلف فيه. فقيل لا يتبعونه ووجهه أنه سها في صلاة انفرد بها فلم يلزم (¬1) اتباعه فيها في سهو. وقيل بل يتبعونه كما يتبع المسبوق إمامه فيما لم يحضر مجه السهو فيه. وإن كان هذا المسبوق قد سها إمامه ثم سها هو فيما يصليه بعده. فإن كان سهو الإِمام نقصانًا كان سجوده عن جميع السهو الذي انفرد به والذي لم ينفرد به قبل السلام. وسواء كان ما انفرد به زيادة أو نقصانًا. وإن كان سهو الإِمام زيادة وسهو المسبوق فيما يصليه بعده زيادة كان سجوده عن جميع السهو الذي انفرد به والذي لم ينفرد به بعد السلام. وإن كان سهو المسبوق نقصانًا حتى اختلف حكم سهوه وحكم سهو ¬

_ (¬1) يلزمهم.

إمامه ففيه قولان: ما الذي يغلب من السهوين؟ هل حكم زيادة الإِمام؟ فيكون السجود بعد السلام. أو ما نقصه المسبوق؟ فيكون السجود قبل السلام، وقد تقدم ذلك. وسواء كان سهو المسبوق في بقية صلاة الإِمام أو فيما يقضيه مما فاته لم يتعرض أحد من أصحابنا إلى (¬1) التفرقة بينهما ولو فرق مفرق بينهما بقدر ما يقع من السهو في بقية صلاة الإِمام. أن الإِمام فعله حتى يتوهم أن الإِمام بنفسه زاد ونقص فيكون السجود قبل السلام، وقدر ما يقع من السهو فيما يقضيه المسبوق لا تعلق (¬2) له بالإمام فينظر في التغليب بين سهو المسبوق وسهو الإِمام، لكان (¬3) للنظر في قوله مجال. ولم أر أحدًا من أصحابنا تعرض للتفرقة وهذا مما يحتاج إلى قصد تأمل. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: لا يسوغ لمن فاته بعض صلاة الإِمام أن يقضي ما فاته حتى يسلم الإِمام من صلاته. فإن قام للقضاء ظنًا أن الإِمام سلم فهل يعتد بما عمله من القضاء أم لا؟ المشهور أنه لا يعتد بذلك. وقال ابن نافع يعتد به. فوجه المشهور أن القضاء لما تعين محله وجب أن يكون تقدمته على محله تمنع من الاعتداد به، كما لو قدم السجود على الركوع. فإذا لم يعتد به وأمرناه بإعادته فهل يسجد للسهو؟ لا يخلو من أن يكون صادفه سلام الإِمام وهو جالس أو صادفه وهو ساجد، أو صادفه وهو قائم. فإن صادفه وهو جالس فلا سهو عليه لأن جميع الأفعال التي وقعت منه كانت والإمام في صلاته فهو يحمل ذلك عنه. وإن صادفه سلام الإِمام وهو ساجد فرفع رأسه بعد سلام الإِمام وجلس ثم قام للقضاء سجد بعد السلام لزيادته الحركات التي هي رفع الرأس من السجود. وإن رفع رأسه من السجود ولم يرجع جالسًا بل استوى قائمًا سجد قبل السلام لأنه زاد حركات الرفع ونقص النهضة من الجلوس الذي يجب عليه عند القضاء على طريقة من قال من أصحابنا باعتبار سقوط النهضة. وإن سلم الإِمام وهو قائم فاختلف في سجوده. فقيل: لا سجود عليه ¬

_ (¬1) للتفرقة -ق-. (¬2) لا يتعلق له بالإمام فيكون في التغلب -ق-. (¬3) لكان جواب ولو فرق مفرق بينهما.

وعلل ذلك بعلتين: إحداهما إن (¬1) تركه النهضة وقع منه وهو مؤتم، والمؤتم لا سجود عليه. والثانية أنه لم يتركها نسيانًا بل فعلها بعمد وقصد، فإذا لم يسه لم يسجد. وقيل عليه السجود. واختلف هؤلاء في محل سجوده. فقيل قبل السلام لنقصه النهضة والنقص محل السجود فيه قبل السلام. وقيل بل يسجد بعد السلام. ولعل هذا رأي ضعف السجود، فتحفظ من إيقاعه في الصلاة فاستظهر به واستظهر للصلاة فأوقعه بعدها. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: من قام من اثنتين قبل الجلوس رجع ما لم يعتدل قائمًا فإن اعتدل قائمًا مضى وسجد قبل السلام؛ لأنه نقص. فإن أخطأ فرجع جالسًا سجد بعد السلام لأنه زاد. وقيل قبله لأنه زاد ونقص. قال الشيخ الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لم رجع قبل أن يستوي قائمًا؟. 2 - ولمَ لم يرجع إذا اعتدل قائمًا؟. 3 - وما حكمه إذا رجع بعد أن اعتدل قائمًا؟ 4 - وما حكم سجود السهو إذا لم يعتدل؟. 5 - ولم اختلف في محل (¬2) سجوده إذا رجع بعد أن اعتدل؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف المذهب في المتحرك للثالثة ساهيًا إذا ذكر قبل أن يستوي قائمًا. فقيل إذا استقل وفارق الأرض تمادى على قيامه ولم يرجع. وهذا هو المشهور. وحده ابن المنذر عن مالك بأن قال إذا فارق الأرض بأليتيه. وقيل يرجع ما لم يستو قائمًا. فوجه القول بأنه لا يرجع: إن محل الجلوس قد فات فلا يعود إليه بعد فواته. ووجه القول بأنه يرجع أن الأصل قضاء الأفعال بمثلها ما لم يمنع من ذلك مانع، فإذا اعتدل قائمًا فقد تلبس بالقيام، والقيام فرض فلا يترك فرضًا نشب فيه لسنة أحل بها. وما قبل ¬

_ (¬1) إن = ساقطة -و-. (¬2) محل = ساقطة -ق-.

استوائه قائمًا لم يتلبس بفرض فَيُمنعَ من الانتقال منه إلى السنة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس فيمن اعتدل قائمًا وقد نسي الجلوس، فمذهبنا أنه لا يرجع. وقال النخعي يرجع ما لم يقرأ. وقال الحسن يرجع ما لم يركع. وقال ابن حنبل إذا لم يقرأ فهو بالخيار بين أن يرجع أو لا يرجع، والأولى أن لا يرجع. فدليلنا ما روي أن المغيرة قام من اثنتين فسبحوا به فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ قال هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ولأنا قدمنا أن القيام فرض وذكرنا اختلاف الناس في الجلسة الأولى وبينا أن مذهبنا أنها سنة، ودليلنا على ذلك. وإذا كان ذلك كذلك فلا يترك فرض لسنة. ولعل النخعي رأى أن القيام إنما يراد للقراءة فإنما يتحقق تلبسه بالفرض إذا تلبس بالقراءة. وكذلك الحسن لعله قدر أن القيام إنما يراد للقراءة، والقراءة في هذه الركعة لا تجب فإنما يتحقق تلبسه بالفرض عند تلبسه بالركوع. ولعل ابن حنبل رأى أن تتساوى المراتب فيما أحل به وفيما أخذ فيه. فخير بينهما واستحسن أن لا يرجع لنوع من الترجيح، ولكونه أقرب لظاهر الحديث. هذا الذي يظهر لي في توجيه هذه الثلاث مقالات. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا رجع بعد أن اعتدل قائمًا لم تبطل صلاته في المشهور من مذهبنا. وقيل بل تبطل إذا فعل ذلك عن قصد. وقال ابن سحنون تبطل ولم يقيد قوله، وقد يتأول قوله على أنه أراد إذا رجع عن قصد كما حكيناه عمن سواه. فوجه المشهور أن نهيه عن الرجوع بعوإلاعتدال لم تقم عليه دلالة قاطعة لا يمكن دخول التأويل فيها. وقد وقع فيه من الخلاف ما حكيناه. فإذا رجع بعد اعتداله فقد أصاب وجه الصواب عند من حكينا قوله من العلماء. فلم تبطل صلاته لذلك. ووجه القول الآخر أنا إذا كنا نوجب عليه التمادي على قيامه، فمتى لم يفعل وتعمد مخالفة المشروع بطلت صلاته كما لو رجع من سجدة إلى ركعة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: ذكر ابن حبيب أنه إذا تزحزح ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والترمذي. حديث حسن. جامع الأصول ج 5 ص 533.

للقيام ثم ذكر فجلس أنه لا يسجد. وقال أشهب: إذا رجع للجلوس بعد أن قام ولم يعتدل قائمًا فإنه يسجد بعد السلام. وذكر الشافعية (¬1) قولين في سجود من قام ولم يعتدل ثم رجع. قالوا: فإثبات السجود لحصول الزيادة ونفيه لخفة الزيادة وقلتها. وقياسًا على من مشى خطوة أو خطوتين. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا رجع بعد أن اعتدل قائمًا فاختلف في سجوده. فقيل: بعد السلام لزيادة القيام. وقيل قبل السلام لأن سجود السهو قد ترتب عليه واستقر حكمه باعتداله قائمًا ونقصه الجلسة. وهي لا تقضي بمثلها بعد فواتها. فإذا رجع إلى الجلوس فقد زاد بعد تحقق النقص واجتماع النقص والزيادة محل السجود فيه قبل السلام. وعلى هذا الاختلاف يسري حكم جلوسه الذي رجع إليه هل يتمادى عليه حتى يكمل جلوسه أو يرجع إلى القيام حين يذكر؟ فإذا قلنا أن سجوده بعد السلام، تمادى على جلوسمعتى يكمله. لأن التقدير على هذه الطريقة أن الزيادة قد تجردت بحصول القيام الذي رجع عنه. والجلوس لم يأت به ولا بعوض عنه فيجب أن يتمادى على هذا الجلوس الذي رجع إليه. وإذا قلنا أن سجوده قبل السلام فإنه لا يتمادى على جلوسه هذا؛ لأنه قد عوض عن الجلوس المتروك بهذا السجود الذي قبل السلام فلا يجمع العوض والمعوض عنه. ¬

_ (¬1) الشافعي -ق-.

مفسدات الصلاة قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ويفسد (¬1) الصلاة اثنتا عشرة خصلة: 1 - قطع النية عنها جملة. فأما تغييرها ونقلها فله تفصيل. 2 - والردة. 3 - وطرو (¬2) الحدث على أي وجه كان من سهو أو عمد أو غلبة. قال الشيخ الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما معنى قوله بقطع النية عن الصلاة جملة؟. 2 - وما مراده بالتغيير والنقل؟. 3 - ولم أفسدتها الردة؟. 4 - ولم استوى في الحدث سهوه وعمده وغلبته؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا الدلالة على وجوب النية للصلاة. وذكرنا أنه لا يلزم استصحابها ذكرًا. ولكنها تستصحب حكمًا. ومعنى استصحابها حكمًا أن من نوى الصلاة حين الإحرام ثم ذهل عن النية في أثناء الصلاة فإن ذهوله لا يفسد صلاته وكان النية مذكررة حكمًا. وهذا لمشقة التحرز من الذهول عنها في سائر أجزاء الصلاة. فإذا كان ذاكرًا لها. وخطرت بباله وقصد رفعها ورفضها (¬3) وأن يوقع بقية الصلاة لهوًا ولعبًا فإن ذلك لا يجزيه ¬

_ (¬1) وتفسد -غ-. (¬2) طرو ساقطة - و - ق -. (¬3) ورفضها = ساقطة -و-.

لقطعه النية جملة وإحداثه معنى ينافي القربة. وقد اختلف فيمن ظن أنه أحدث أو رعف فخرج من الصلاة ثم تبين له خطاه في ظنه هل يبني على صلاته أم لا؟ فقيل يبني قياسًا على حديث ذي اليدين. وقيل لا يبني إذا لم يكن في ليل مظلم يتعذر فيه معرفة الخارج منه، لتركه التثبت قبل الخروج. واختلف لو كان هذا الخارج إمامًا. هل يفسد على من خلفه؛ فإنما ذكرنا هذا ها هنا لأن الخارج لظن الحدث قطع النية عن الصلاة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: كنا قدمنا اختلاف أصحابنا فيمن ظن أن فرضه قد كمل وأنه في نافلة هل يعتد بما عمله بنية النافلة أم لا؟ وذكرنا اختلافهم أيضًا فيمن ظن في أثناء الظهر أنه في العصر فأكملها على ذلك هل تجزيه صلاته أم لا؟ وذكرنا وجه الاختلاف في هذا كله فلا معنى لإعادته ويمكن أن يكون القاضي أبو محمَّد عبر عمن تغيرت نيته عن الظهر إلى العصر بالتغيير. وعمن انتقلت نيته من الفرض إلى النفل بالنقل. ويمكن أن يكون أراد بالعبارة كل واحد من هذين المعنيين. وكذلك اختلف فيمن زاد ركعة خامسة ساهيًا أو عامدًا ثم تبين له أنها رابعة لفساد إحدى الركعات. وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك. ولما تنوع التغيير والنقل إلى هذه الأنواع ولم يكن القاضي بسطها أشار إليها، بقوله فله تفصيل. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: حكم الردة في الصلاة مأخوذ مما تقدم لأن المرتد يستحيل منه التقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. وإذا استحال ذلك منه فقد قطع النية عن الصلاة جملة. وقد ذكر القاضي أبو محمَّد أن قطع النية عن الصلاة جملة يفسد الصلاة. والردة منه. مع أن (¬1) الردة لها مدخل في إفساد الطهارة أيضًا على ما كنا ذكرناه في كتاب الطهارة. وإذا فسدت الطهارة فسدت الصلاة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الحدث ينقض الطهارة باتفاق وهل ينقض الصلاة أم لا؟ لا يخلو من قسمين إما أن يكون محمدًا أو سهوًا. فإن كان ¬

_ (¬1) كون -ق-.

محمدًا نقضها باتفاق وإن كان سهوًا نقضها عندنا خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا ينقضها. وأما الشافعي فله قولان. وأصحابه ينصرون من قوليه ما ننصره. وقال الثوري إن كان قيئًا أو رعافُ الم تبطل صلاته. وإن كان غير ذلك بطلت صلاته. وقد احتج أصحاب أبي حنيفة بقوله عليه السلام: من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضا وليس على صلاته ما لم يتكلم (¬1). وروى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قاء أو رعف أو مذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليس على صلاته ما لم يتكلم. قالوا والمذي حدث بإجماع. قالوا وروي عن ابن عباس (¬2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وكذلك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزاد فيه إذا تكلم استقبل الصلاة. قالوا ومذهب الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عمر وأبي الدرداء وسلمان الفارسي البناء على الصلاة عن (¬3) الحدث السابق فيها. وعن علي في الغائط والبول. وليس في السلف موافق لمن خالفنا إلا المسور بن مخرمة. وأعلم أن حديث ابن أبي مليكة هو العمدة في الاحتجاج لأنه ذكر فيه المذي والمذي حدث. ولهذا وقع التنازع فيه فقال بعضهم هو مرسل لأن ابن أبي مليكة لم يلق عائشة رضي الله هـ تعالى عنها وقد أسند الحديث إسماعيل بن عياش. وقال الشافعي إسماعيل سيء الحفظ فيما يرويه عن غير الشاميين وابن أبي مليكة ليس شاميًا. وزعم أصحاب أبي حنيفة أنه لقي عائشة رضي الله عنها فإنه قال سمعت عائشة رضي الله عنها تقرأ: إذ تُلِقّونه بالسنتكم بكسر اللام وتخفيفها. وقد سلم حذاق أصحاب أبي حنيفة أن القياس ما قلناه لولا الخبر. لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة. فلا تبنى الصلاة بدون شرطها. ألا ترى أن الوقت لما كان شرطًا ذهب الوجوب بذهابه. وكذلك المحتلم في الصلاة تفسد صلاته وإن كان الاحتلام بغير قصد منه. ولأن المشي في الصلاة من غير حدث يفسدها. فالحدث إذا انضاف إلى المشي لا ينبغي أن يكون مخفيًا لحكمه بل منتقلًا له مع ما ينضاف ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة ج 2 ص 13 ح 5901. (¬2) رواه ابن ماجة والدارقطني. وفي إسناده ضعف ج 2 ص 261. نصب الراية. (¬3) على -ق-.

إلى ذلك من استدبار القبلة واستقاء (¬1) الماء والتوضئ. ولأن الطهارة شرط ابتداء فوجب أن تكون شرطًا دوامًا ولا يعارض ذلك بما هو شرط في الابتداء دون الدوام لأن ذلك لعلل. وقد قال بعض أصحاب الشافعي إن نوقضنا بمن انكشفت عورته فرد إزاره على البدار أو ألقت الريح على ثوبه نجاسة يابسة فنفضها أو حوله محول عن القبلة لحظة ثم أرسله فاستدار إليها. قلنا أما النجاسة اليابسة إذا أزيلت عن البدار فإن الثوب لا يتصف (¬2) بالتنجس ولم يحصل ما يخرم نظام الصلاة بخلاف أن يحمل النجاسة اليابسة، فإن حملها إسقاط لحرمة الصلاة لكونه يسمى حاملًا. ولو كانت النجاسة رطبة فقرض موضعها على الفور لبطلت صلاته لاتصاف الثوب بالتنجس. وكذلك لو انعطف طرف إزاره وبدا شيء من العورة فرد ما انعطف على الفور لم تبطل صلاته. لأن هذا لا يعد زوالًا للستر، وابتداء السترة بعد الزوال. فلو انحل عقد إزاره وزايله الإزار ورده على البدار لبطلت صلاته لأن هذا ستر جديد. وكذلك لو صرف بكليته عن القبلة بطلت صلاته ولو صرف بعضه فعاد إلى الاستقبال لم تبطل؛ لأنه يعد استقبالًا واحدًا. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: و (¬3) تعمد الكلام بغير (¬4) إصلاحها. ولا يفسدها سهوه ولا عمده المقصود به إصلاحها. قال الشيخ الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما حكم الكلام في الصلاة محمدًا من غير عذر؟. 2 - وهل يحل أو لا؟. 3 - وما حكمه محمدًا لإصلاحها؟. 4 - ومما حكمه لصيانة نفس أو مال؟. 5 - ومما حكم القرآن أو الذكر (¬5) إذا قصد به الإفهام لمعنى مطلوب؟. ¬

_ (¬1) استقبال -ق-. (¬2) لا يوسف -ق-. (¬3) أو تعمد الكلام من غير إصلاحها -الغاني-. (¬4) لغير -و-. (¬5) والذكر -و-.

6 - وما حكم الكلام سهوًا؟. 7 - وما حكم النفخ والتنحنح؟. 8 - وما حكم الأنين؟. 9 - وما حكم الضحك؟. 10 - وهل يحل الشرب في الصلاة محل الكلام؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما تعمد الكلام في الصلاة بغير عذر فإنه يبطل الصلاة. وقد جاءت الآثار بمنعه. واشتهر نقلأوعملًا. ووضوحه يغني عن الإطناب فيه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: كل ما ينطلق عليه اسم كلام فله مدخل في إفساد الصلاة من غير تحديد لحروفه ولا تعيين لها. وقال أبو يوسف كل كلمة من حرفين أحدهما من حروف الزوائد فإنها لا تقطع الصلاة. وحروف الزوائد عشرة يجمعها قولك اليوم تنساه. وقولك سألتمونيها. فكان أبا يوسف رأى أن أصل الكلام ثلاثة أحرف. فالحرف الواحد أقل هذا الأصل والأقل لا يحكم له بحكم الكل. وإذا كانت الكلمة من حرف أصلي وحرف زائد قدر الزائد كانه لم ينطق به وكان النطق إنما وقع بالأصلي وهو حرف واحد. والحرف الواحد لا يؤثر. ولهذا لم يقطع التنحنح الصلاة لأنه حرفان. أحدهما الهمزة وهي من حروف الزوائد. وهذا الذي قال انما يروق في تعاليل النحاة لا في تعاليل الفقهاء. وما للفقهاء وللكلام على الحرف الزائد والأصلي؟ إنما هذا شغل أهل النحو والتصريف. فإذا كان النطق يسمى كلامًا كان له مدخل في إفساد الصلاة. والنظر في حروفه أصلية أو فرعية، شفوية أو حلقية مجهورة أو مهموسة شغل قوم آخرين. وسنتكلم على التنحنح إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما كلام المتعمد المضطر للكلام لإصلاح الصلاة كالمأموم يتكلم ليشعر إمامه بسهو دخل عليه فاختلف فيه. فالمشهور أنه لا يبطل الصلاة. وقال المغيرة يبطل الصلاة. والأصل في هذه المسألة كلام ذي اليدين. وقد ذكرنا ما تأوله ابن كنانة فيه. وأشرنا إلى قول

بعض المتأخرين أن كلام من أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة لا يقاس عليه؛ لأن الاستجابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور بها. وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنسًا لما دعاه وهو في الصلاة على أن من حقه أن يجيبه وتلا عليه قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (¬1). الآية. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا تكلم محمدًا لاستنقاذ مسلم كتحذير أعمى من السقوط في مهلكة فإنه عندنا يبطل الصلاة. وإن كان الكلام واجبًا. وقال الأوزاعي لا تبطل الصلاة. ورأى أن وجوب الكلام يمنع من كونه مبطلًا. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي لو كان هذا المصلي في خناق من الوقت لم يبطل كلامه الصلاة قياسًا على المسايف في الحرب لعلة اشتراكهما في إحياء النفس. وفي هذا التشبيه نظر. لأن المسايف لا يبطل كلامه الصلاة إذا اضطر إليه. ولو أوقع الصلاة في أول الوقت. والمصلي الرائي للأعمى يبطل كلامه الصلاة إذا لم يكن في خناق من الوقت مع اشتراكهما في كون الكلام تتساوى الحاجة إليه في أول الوقت وآخره. ولو خاف المصلي على تلف مال كثير له أو لغيره تكلم وأبطل الكلام صلاته أيضًا. وقال سحنون في إمام يخاف على أعمى أن يقع في بئر أو ذكر متاعًا له خاف عليه التلف، فله الخروج لذلك ويستخلف. وقال أشهب في مدونته إذا خرج المصلي ليغسل النجاسة من ثوبه أو جسده ثم بني فإنه يجزيه قياسًا على الراعف. وقد يتخرج على قول أشهب أن يبني من قطع الصلاة لصيانة نفس أو مال ما لم يحدث ما يمنعه (¬2) من البناء. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المصلي إذا افتتح على إمامه بالقراءة (¬3) فإن صلاته لا تفسد لأن قراءة الإِمام له قراءة (¬4). فإنما اشتغل بإصلاح عمل هو عامله في الحكم، ويعود بإصلاح صلاته. وأما إن فتح المصلي على ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 24. (¬2) ما يمنع -ق-. (¬3) إذا فتح على إمامه بالقرآن -ق-. (¬4) لأن قراءة الأمام قراءته -ق-.

من ليس معه في صلاة فاختلف فيه. عندنا على قولين. فقيل: لا تفسد صلاته وبه قال الشافعي. وقيل تفسد صلاته. واشترط الحنفيون في إفساد الصلاة أن يتكرر ذلك منه مرارًا؛ لأنهم رأوه تعليمًا، والتعليم مما ينفع الناس به بعضهم بعضًا. وإذا كان من أعمال الناس روعي فيه أن يكون كثيرًا كسائر الأعمال بخلاف ما هو فيه من كلام المخلوقين فإنه ينقض الصلاة، وإن قل. لأنه بعينه من نواقض الصلاة. ووجه أحد القولين (¬1) عندنا بإبطال الصلاة من غير مراعاة لتكرار، أنه يقدر كلكلام في الصلاة بغير القرآن *لما كان لا حاجة به إليه ولا هو من مصلحة صلاته. وأما إن تكلم في الصلاة بالقرآن* (¬2) لإفهام رجل فقد قال ابن حبيب ما جاز للرجل أن يتكلم به في صلاته من الذكر والقراءة (¬3) فجائز له أن يرجع بذلك رجلًا أو يوقفه. وقد استأذن رجل على ابن مسعود وهو في الصلاة فقال ادخلوا مصر إن شاء اله آمنين (¬4). ولقد أجاز مالك والشافعي التسبيح للتنبيه والنائبة. وذهب أبو حنيفة إلى أن التسبيح لإفهام رجل يبطل الصلاة. وقد يتخرج في ذلك قول آخر بإبطال الصلاة قياسًا على أحد القولين عندنا فيمن فتح بالقرآن على من ليس معه في صلاة. وقد قال ابن القاسم فيمن أُخْبِرَ في الصلاة بما يسره فحمد الله تعالى أو بمصيبة فاسترجع، أو يخبر بالشيء فيقول الحمد لله على كل حال أو قال الذي بحمده تتم الصالحات فلا يعجبني. وصلاته مجزية. قالِ أشهب إلا أن يريد بذلك قطع الصلاة. وهكذا قال أبو حنيفة فيمن أخبر في صلاته بما يسر فأجاب عن ذلك باذ قال: الحمد لله إن صلاته تبطل. وقال أبو يوسف لا تبطل صلاته. ووافق أبو يوسف أبا حنيفة على إبطال الصلاة إذا نطق بالاسترجاع مجاوبًا لمن أخبره بما يسوؤه كما أبطل الصلاة بقول المصلي أيضًا: يا يبيح خذ الكتاب بقوة (¬5)، قاصدًا بذلك تنبيه رجل على أخذ كتاب. وقد تردد في هذا بعض أصحابنا البغداديين. قال لا يلزمنا على ¬

_ (¬1) أحد الأقوال -و-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -ق-. (¬3) والقرآن -ق-. (¬4) سورة يوسف، الآية: 99. (¬5) سورة مريم، الآية: 12.

إجازة التسبيح بقصد التنبيه، إجازة التنبيه بقوله يا يبيح خذ الكتاب بقوة. لأن هذا مما يستعمل خطابًا في مثل هذا المعنى. ولو أورده على جهة التلاوة وقصد به التنبيه لم يبعد القول بان الصلاة لا تبطل. لأن التنبيه ها هنا في حكم التبع فصار كالمعفو عنه. وقد كنا قدمنا أن إنشاد الشعر المشتمل على الثناء على الله تعالى يبطل الصلاة. ولو كان منشده لا يحسن قرآنًا لما كان ذلك من صنع كلام المخلوقين. وهذا المعنى هو سبب اختلاف أبي حنيفة وصاحبه في صلاة المجيب بالحمد لله؛ لأن أبا يوسف لما رآه قرآنًا لم يبطل الصلاة. ولما قدره أبو حنيفة مما يستعمله الناس جوابًا في التهنيات لحق بالاستعمال بحكم كلام المخلوقين في هذا. وقد يصعب على أبي يوسف الفرق بين الجواب بالحمد لله والاسترجاع لأنهما يستعملان جميعًا مجاوبة على حسب ما قلناه. وقد استدل أصحابنا على أبي حنيفة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من نابه شيء في صلاته فليسبح (¬1). فاجاز التسبيح للنائبة تنوب. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف الناس في الكلام في الصلاة على جهة السهو. فمذهبنا أنه لا يبطل الصلاة. وذهب ابن المسيب وقتادة والنخعي إلى إبطاله للصلاة. ووافقهم أبو حنيفة على هذا. لكنه استثنى السلام (¬2) ناسيًا فلم يبطل به الصلاة. فلم يستثنه من ذكرناه. وسبب الاختلاف في ذلك اختلاف ظواهر الأحاديث. فحديث ذي اليدين يتعلق به من لم يبطل الصلاة لأن ذا اليدين تكلم كالمكره لإصلاح الصلاة، ومجاوبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلموا كالمكرهين شرعًا لوجوب مجاوبته والشعبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم ناسيًا. ولم تنقل الإعادة لأجل هذا الكلام. وهذا الحديث الذي قدمناه في القيء والرعاف قد ذكر فيه: وليس على صلاته ما لم يتكلم. ولم يفرق بين أنواع الكلام. وذكر أيضًا في بعض الأحاديث الكلام في الصلاة ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء (¬3). فعم ¬

_ (¬1) عن سهل بن سعد قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - التسبيح للرجال والتصفيق للنساء. المصنف ج 2 ص 126 ح 7255. (¬2) الكلام -ق-. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة بسنده إلى إبراهيم قال: إذا تكلم في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء. ولم يرفعه. ج 2 ص 200 ح 8112.

جهات وقوع الكلام، فلأصحابنا أن يتاولوا ما تعلق به المخالف على كلام العمد ويمنعوا من القياس في صلاة قطعت برعاف أو قيء على صلاة لم تقطع برعاف أو قيء. وأما أصحاب إبي حنيفة فإنهم تأولوا حديث ذي اليدين (¬1) على أنه إنما جرى الأمر فيه كذلك لكون الكلام في الصلاة مباحًا حينئذٍ. وقد رد هذا عليهم بان راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه. وهو ممن أسلم بالمدينة. وتحريم الكلام في الصلاة كان بمكة. وأجابوا عن هذا بأنه قد يكون رواه عن غيره وأرسل الحديث. وقد جرى ذلك لأبي هريرة رضي الله عنه في حديث آخر. وقد قال بعض من أنكر إبطال الصلاة بالكلام سهوًا: إن موارد الشرع تنقسم إلى مأمور به ومنهي عنه. فالمأمور به إذا لم يفعل بقيت على المكلف عهدة الامتثال. والمنهي عنه إذا ركب فإنما في ركوبه انتهاك الحرمة، والاجتراء على النواهي. وهذا المعنى إنما يتحقق مع القصد والعمد. والمتكلم على جهة النسيان غير منتهك للحرمة ولا مجترىء على الشرع فلا وجه لإبطال صلاته بكلامه. هذا ولأن القارئ لو جرى في خلال قراءته تغيير حرف من حروف القرآن أو إبداله حتى يكون كالمتكلم لم يمكن أن يقال بإبطال صلاته. وقد تعلق المخالفون لهذا المذهب بان الحدث يستوي سهوه وعمده في نقضه للصلاة، فكذلك الكلام يجب أن يستوي سهوه وعمده في نقض الصلاة. وقوإنفصل عن هذا بأن الحدث مباح لا حرام فيه بخلاف الكلام. وهو ناقض للطهارة بعينه فوجب أن ينقضها كيفما تصرفت به الحال. مع أن التحقيق فيه أنه ليس بناقض لها على الحقيقة. إذ لو كان كذلك لسرى النقض إلى ما قبل الحدث حتى تبطل الصلاة من أولها. وإنما التحقيق فيه أنه أجلها ومنتهاها. والآجال والنهايات لا يختلف حكمها باختلاف الحالات. وأما أبو حنيفة فإنه إنما استثنى السلام من أنواع الكلام لأن السلام شرع في الصلاة وأمر به عند التحليل منها. فإذا وقع في غير حينه محمدًا أبطل الصلاة. وإن وقع في غير حينه على غير عمد لم يبطل الصلاة. لأن قصارى ما فيه قصد التحليل نسيانًا، والقصد من أفعال القلوب. ومثل هذا الفعل من أفعال القلوب لا يثمر إبطالًا لكونه غير مقصود للتعدي فيه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

وإنما حصل كلام جنسه مشروع. وهذا النوع من القصد غير ملوم فيه. فعفي له (¬1) عنه ولم يؤثر إبطالًا. والكلام لم يشرع في الصلاة على حال فصار كالمبطل لها بعينه. فاستوى سهوه وعمده. ولما تكلمنا على حكم الكلام سهوًا أو محمدًا فاعلم أن الكلام جهلًا يجري عندنا على القولين في الجاهل هل حكمه حكم العامد أو حكم الناسي؟ وقد تعلق من أنكر بطلان الصلاة بالكلام جهلًا بحديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة فاستدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين (¬2). ولم يأمره بالإعادة. وقوإنفصل بعض المخالفين عن هذا بان الجهل حينئذٍ معفو عنه لأن الشرائع لم تكن بُلّغت كلها وإنما بلغها - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فشيئًا وعلمها الناس حينًا فحينًا، والمتكلم حينئذٍ يعذر بالجهالة بخلاف الحال الذي بعده لكمال ما بلغ من الشرائع فيه. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: التنحنح على قسمين: تنحنح طبعي دعت إليه ضرورة الطباع فهذا لا حكم له. وتنحنح اختياري ليسمع رجلًا فالمذهب عندنا على قولين. هل يبطل الصلاة أم لا؟ فقيل يبطل الصلاة لأنه كالكلام. وقيل لا يبطلها لأنه ليس فيه حرف من حروف التهجي. وقد قدمنا ما قاله أبو يوسف من أن الكلمة التي على حرفين أحد حرفيها من الزوائد لا تبطل الصلاة، وعد التنحنح من ذلك. وأما النفخ في الصلاة فعندنا أنه مأمور باجتنابه في الصلاة فإن فعل فعندنا قولان في إبطال الصلاة به. وقال أبو يوسف لا يبطل الصلاة إلا أن يقصد به التأفيف. وله قول آخر أنه لا يبطلها ولو قصد به التأليف. فوجه قولنا بالأبطال قوله عليه السلام وقد مر برباح وهو ينفخ في التراب فقال من ¬

_ (¬1) فحصل عنه -ق-. (¬2) أخرجه مسلم وأبو عوانة وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد وغيرهم. حديث صحيح إرواء الغليل ج 2 ص 101 - 102.

نفخ في الصلاة فقد تكلم (¬1). ووجه قولن ابن في الإبطال أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في سجوده في صلاة الكسوف أف، أف ألم تعدني أنك لا تعذبهم وأنا فيهم (¬2). والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: مذهبنا أنَّ مَنْ أَنَّ مِنْ وجع فإن صلاته لا تبطل. ومذهب الشافعية إبطال الصلاة بالأنين إذا أبدى من الأنين حرفين. فقال أبو حنيفة أن من أنّ من وجع بطلت صلاته وأن من أن خشية لم تبطل صلاته. وهكذا مذهب الحنفيين في البكاء إذا اشتد به يبطل الصلاة؛ لأنهم يرونه عملًا من الأعمال، والعمل الكثير يبطل الصلاة. وقد استدل على نفي الإبطال بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬3) فاثنى عليه بذلك. وهذا لا دليل فيه. لأنه لم يثن عليه بالتاوه في الصلاة، على أن بعضهم قال إن التاوه قولك أؤه (¬4) بشديد الواو وهي كلمة من أربعة أحرف والكلمة التي عددها هذا تبطل الصلاة. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما مبدأ الضحك وهو التبسم. فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقيل: 1 - لا اعتبار به (¬5) لخفته. 2 - وقيل يسجد قبل السلام لإخلاله بالخشية والخشوع. 3 - وقيل يسجد بعد السلام لأنه كالزائد في الصلاة. وأما الضحك الذي هو القهقهة فاختلف فيه هل هو كالكلام يفترق سهوه من عمده؟ أو هو بخلاف الكلام يستوي سهوه وعمده وغلبته. فقيل هو كالكلام لا يبطل الصلاة نسيانه ويبطلها عمده. وقيل بل هو بخلاف الكلام يبطلها سهوه وعمده وغلبته. ولكن الضاحك إن كان مامومًا ولم تجزه صلاته لضحكه فالمشهور أنه يتمادى ويعيد. وظاهر الواضحة أنه يقطع. وإن كان الضاحك إمامًا وتعمد الضحك فقد أفسد على نفسه وعلى من خلفه. وإن غلب عليه ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي عن أم سلمة بأن رسول الله يقول لعبد لنا أسود أي رباح ترب وجهك ... وهو ضعيف. قال وروي حديث آخر عن زيد بن ثابت مرفوعًا وهو ضعيف. السنن ج 2 ص 252. (¬2) أخرجه أبو داود- حديث صحيح. إرواء الغليل ج 2 ص 124. (¬3) سورة التربة، الآية: 114. (¬4) أواه في -و-. (¬5) فيه -ق-.

استخلف من يتم بهم وأتم معهم. فإذا فرغوا أعادوا. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: الشرب في الصلاة ممنوع وسواء كان فريضة أو نافلة، خلافًا لابن الزبير وابن جبير والحسن وعطاء في قولهم بإجازة ذلك في النافلة. ولنا عليهم أنه عمل ينافي الصلاة فاستوى في المنع الفرض والنفل قياسًا على الكلام وغيره من جملة الممنوعات. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويفسدها (¬1) وترك ركن من أركانها. والعمل الكثير فيها من غير جنسها والقهقهة سهوًا أو محمدًا. وذكر صلاة عليه يجب (¬2) ترتيبها وفساد صلاة الإِمام لغير سهو الحدث (¬3). وطرو النجاسة المقدور على إزالتها. وانكشاف العورة المقدور على تغطيتها إذا تعمد ترك الإزالة أو التغطية في "المجمع عليه من ذلك فإن كان قدرًا مختلفًا فيه سهل الأمر قال الشيخ الأمام رضي الله عنه: أما ما يشمل هذا الفصل من ذكر ترك ركن من أركان الصلاة والقهقهة وحكم العورة والنجاسة فإنا قد قدمنا الكلام عليه بما يغني عن إعادته ها هنا. لكنه قد تحرز ها هنا باشتراط القدرة على إزالة النجاسة واشتراطها في تغطية العورة. وهذا التحرز إشارة إلى ما قدمنا القول فيه عند ذكرنا ما ينبعث من الدماء غلبة وما تدعو الضرورة إلى العفو عنه. وعند ذكرنا حكم من لم يجد (¬4) ما يستر به عورته. وكذلك أيضًا إشارته إلى تسهيل الأمر في المختلف فيه وتشديده في "المجمع عليه، فيه تعريض لما فرغنا من القول فيه لما تكلمنا على المختلف فيه في العورة والنجاسة. وكذلك إفساد الصلاة بالعمل الكثير من غير جنسها معلوم صحته واضح حكمه فلا معنى للإطناب فيه وإنما يفسدها العمل الكثير إذا كان من غير جنسها كما ذكر؛ لأنه إذا كان من غير جنسها أفسد نظامها ومنع اتصالها. هذا جملة ما اشتمل عليه هذا الفصل سوى ¬

_ (¬1) ساقطة - و -ق-. (¬2) يجب عليه - ق - الغاني -. (¬3) الحدث = ساقطة -الغاني-. (¬4) وعند ذكرنا لمن لم يجد -ق-.

مسألتين نؤخر الكلام على إحداهما وهي وجوب الترتيب، ونتكلم الآن على المسألة الأخرى وهي فساد صلاة الإِمام بحكم الحدث فهي مما اختلف الناس فيها. فذهب أبو حنيفة إلى بطلان صلاة المأموم إذا كان إمامه غير متطهر. وذهب الشافعي إلى صحة صلاة المأموم إذا كان لم يعلم يحدث إمامه. وذهب مالك إلى بطلان صلاة المأموم إذا علم بهذا الحدث الإِمام والمأموم. وصحة صلاة المأموم إذا جهلاه جميعًا. وقال بعض أشياخي يتخرج على قوله في المدونة في الإِمام إذا ذكر صلاة وهو في صلاة أخرى أن المأمومين يقطعون. واعتل بأنه يجب عليهم ما يجب على الإِمام كما قاله أبو حنيفة في بطلان صلاة المأموم علم الإِمام بحدثه أو جهله. وقد قال أبو الفرج القياس على مذهب مالك بطلان صلاة المأموم علم الإِمام بحدثه أو جهله. ويتخرج على القول (¬1) عندنا بصحة صلاة الفرض خلف الصبي، ما قاله الشافعي من أن صلاة المأموم تصح إذا لم يعلم يحدث إمامه وإن علم الإِمام بالحدث. وقد ذكر ابن عبد الحكم في المولدات أن أشهب ذهب إلى صحة صلاة المأموم وإن علم الإِمام بحدثه. وذكر في المستخرجة في إمام أحدث بعد التشهد متعمدًا وقعد حتى سلم بهم أن صلاة المأمومين لا تبطل. وإن كان هذا قولًا يلزم عليه إيقاعه جميع الصلاة محدثًا لكون الصلاة يتحلل منها بالحدث على ما كنا حكيناه عن أبي حنيفة. ولكن أبا حنيفة اشترط أن يقصد بالحدث التحلل، ففي الرواية إشكال. وأشار القاضي أبو محمَّد إلى أن بطلان صلاة المأموم إذا علم الإِمام بالحدث يجري على الاختلاف في صحة صلاة من ائتم بفاسق. ولهذا فرق مالك بين علم الإِمام وجهله. وقال ابن الجهم تبطل صلاة المأموم *إذا لم يقرأ* (¬2) وإن كان الإِمام لم يعلم بحدثه. وكذلك جرى الاختلاف في الإِمام إذا طرأ عليه الحدث في أثناء الصلاة فعند الشافعي أن المأمومين يتمون لأنفسهم أفذاذًا وعندنا أنه يستخلف وكذلك رأيت أصحاب أبي حنيفة حكوا عنه ورأيت أصحاب الشافعي حكوا عن أبي حنيفة بطلان صلاة المأمومين وهو البخاري ¬

_ (¬1) القولين -ق-. (¬2) إذا لم يقرأ = ساقط -ق-.

على ما قدمناه من مذهبه. وقال أبو بكر الأبهري لو ترك الإِمام القراءة لبطلت صلاة من خلفه *بخلاف كونه محدثًا لأن قراءة* (¬1) الإِمام قراءة للمأموم فإذا تركها الإِمام فكان المأموم تركها. وهذا الذي قاله ابن عبد الحكم هو (¬2) الذي دعا ابن الجهم إلى اشتراط قراءة المأموم لأن الإِمام إذا بطلت (2) صلاته بطلت قراءته (2). فإذا كان المأموم لم يقرأ والإمام مقدر أنه لم يقرأ. وإن كان لم يقرأ (¬3) فقد حصل: المأموم صلى بغير قرأءة. وإذا كان لم يقرأ فمذهب (2) بعض أصحابنا لا تجزئ الصلاة خلف الكافر والأمي لأنهما ممن يتأتى الاطلاع على حالهما. وطهارة الإِمام (2) لا يطلع عليها غالبًا. وقال مالك لو أحل الإِمام بالإحرام لبطلت صلاة من خلفه، وإن أحرموا. وقال بعض أشياخي يتخرج على قوله في الإِمام الجنب أن تصح صلاة المأموم (¬4). وقد كنا قدمنا اختلاف قول أصحاب مالك في الإِمام إذا ذكر وهو في الرابعة سجدة من الأولى وقد سجدها المأمومون فلا يجب عليهم إعادتها معهم أو يعتدون بها (¬5). ولو كانت الصلاة صلاة جمعة فصلاها الإِمام وهو غير عالم بحدثه لصحت صلاة المأمومين على أصلنا. وقال بعض أشياخي تبطل صلاة المأمومين على قول ابن الجهم وإن (¬6) قرأوا لأن الجمعة من شرطها الإِمام. وقد فقد ها هنا. وقد قدمنا الاختلاف في الإِمام إذا خرج لظن الحدث غالطًا. هل تبطل صلاة من خلفه (¬7) أم لا؟ وأشرنا إلى توجيه ذلك. وقد احتج على صحة صلاة المأموم إذا كان إمامه محدثًا لا يعلم بحدثه بان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه جنب فأشار إليهم أن امكثوا (¬8) الحديث. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط من -و-. (¬2) بياض في -و-. (¬3) قرأ -ق-. (¬4) المأمومين -ق-. (¬5) من قوله وسجدها المأموم بالإفراد إلى يعتد بها -ق-. (¬6) ولو -ق-. (¬7) عجلته -ق-. (¬8) عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحل في صلاته وكبرنا معه فأشار إلى القوم أن كما أنتم فلم نزل قيامًا حتى أتانا نبي الله قد اغتسل ورأسه يقطر ماء. الطبراني في الأوسط. ورجاله =

وأجيب عنه بأنه لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر. فيمكن أن يكون ذلك قبل أن يكبر. ولو ثبت أنه كبر فإنه لم يثبت أنهم كبروا. ولو ثبت أنهم كبروا فإنه لم ينقل هل بنوا على صلاتهم أو استأنفوها. وقد احتج على بطلان صلاة المأموم بأنه لو علم يحدث إمامه لبطلت صلاته باتفاق. فلو كان كل فصل فصل (¬1) لنفسه ولا تعلق له بصلاة الإِمام لم يضره علمه كما لم يضره علم (¬2) إمامه إذا جهل هو في نفسه. واحتج على بطلان صلاة المأموم أيضًا بأن سهو الإِمام يلزمه وإن لم يسه هو في نفسه. وما ذاك إلا لكون صلاة الإِمام والمأموم امتزجتا حتى صارتا بالاتحاد كصلاة واحدة. وإذا بطلت صلاة الإِمام بطلت صلاة المأموم. وأجيب عن هذا بأن المأموم لما حمل الإِمام سهوه وجب أن يشارك الإِمام في سهوه حتى يعتدل الجانبان جميعًا. والمأموم لو أحدث ما حمل الإِمام حدثه ولا سري بطلان صلاته إلى بطلان صلاة الإِمام فكذلك حدث الإِمام لا يجب أن يسري إلى صلاة المأموم حتى يعتدل الجانبان أيضًا ها هنا. على أن الإِمام إنما حمل السهو عن المأموم لما كلفه المأموم من معاناة الاقتداء والاتباع مع كون الاتباع مبعد عن السهو. فلهذا حمل السهو عنه وكلف المأموم حكم سهو الإِمام لوجوب المتابعة والاقتداء. والاقتداء والمتابعة إذا وجبا وجب على المأموم ما يجب على الإِمام. وهذه المعاني مفقددة في الحدث فلم يصح التشبيه. ¬

_ = رجال الصحيح. وفي رواية أخرى دون هذه في الصحة. إنما أنا بشر مثلكم. وكنت جنبًا فنسيت. مجمع الزوائد ج 2 ص 69. (¬1) هكذا في جميع النسخ والصواب لو كان كل فصل مصليًا لنفسه. (¬2) عمل -ق-.

باب في الإمامة والجماعة وقضاء الفوائت والنوافل وأوقات النهي ومواضعه والجمع وما يتصل بذلك قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: يقدم في الإمامة كل من كان أفضل. والفقيه أولى من القارئ. ولا تجوز إمامة الفاسق ولا المرأة ولا الصبي إلا في نافلة، فتجوز دون المرأة. ولا العبد في الجمعة. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية عشر سؤالًا منها أن يقال: 1 - ما الدليل على اعتبار شروط في الإمامة؟. 2 - وما هي الشروط (¬1)؟. 3 - وما أقسامها؟. 4 - ومن أولى بالإمامة الفقيه أو القارئ؟. 5 - وما حكم إمامة الكافر؟. 6 - وما حكم إمامة المرأة؟. 7 - وما حكم إمامة الصبي؟. 8 - وما حكم إمامة العبد؟. 9 - وما حكم إمامة الطفل؟. 10 - وما حكم إمامة الألكن واللحان؟؟. 11 - وما حكم إمامة الأمّي؟. ¬

_ (¬1) وما هي من الشروط -و-.

12 - وما حكم إمامة القارئ من المصحف؟. 13 - وما حكم إمامة الفاسق؟. 14 - وما حكم المخالف في مسائل الاعتقاد والاجتهاد؟. 15 - وما حكم إمامة من للمأموم عليه حرمة؟. 16 - وهل للمنفرد أن ينتقل لحكم الجماعة وإن كان في جماعة أو ينتقل إلى حكم المنفرد؟. 17 - وهل للإمام أن يولي غيره ولاية؟. 18 - وما الذي يفعله المتولي؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ فإن كانوا في القراءة سواء فاعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلامًالأولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على مكرمته إلا بإذنه (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أئمتكم شفعاؤكم فاختاروا من تستشفعون به" (¬2). فأمر في الحديث الأول بمراعاة أوصاف وعينها. وأمر في الحديث الثاني باعتبار حال الإِمام وإن لم يصرح بتعين (¬3) الحال. وذلك يدل على آعتبار ما قلناه من اعتبار شروط. وأيضًا فإن الذي يورده في منع إمامة الكافر والصبي وغيرهما يدل على مراعاة شروط. وأن الإمامة لا تجوز إلا بعد تحصيل شرائط (¬4). والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الشروط المعتبرة في الإمامة البلوغ، والعقل والإِسلام والذكررية والحرية، والعدالة والعلم بالواجب من فقه ¬

_ (¬1) رواه مسلم والأربعة وأحمد. الهداية ج 3 ص 186. (¬2) ذكره الغزالي في الإحياء بلفظ أئمتكم شفعاؤكم. أو قال وفدكم إلى الله. علق عليه الزين العراقي. الدارقطني والبيهقي وضعف إسناده من حديث ابن عمر وابن نافع والطبراني والحاكم من حديث مرثد بن أبي مرثد وهو منقطع وفيه يبيح بن يبيح الأسلمي وهو ضعيف. الإحياء ج 1 ص 180. (¬3) نفس -ق-. (¬4) إلا بعد شروط -ق-.

الصلاة وقراءتها وسلامة الأعضاء التي يكون فقدها قادحًا في الصلاة وستقف على تفصيل (¬1) هذه الجمل إن شاء الله. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: المعاني المانعة من الإمامة على قسمين: أحدهما يمنع صحة الإمامة، والثاني يمنع فضيلتها. فموانع الصحة الأنوثة، وعدم التكليف ونقص الدين على الجملة، وعدم العلم (¬2) بما لا تصح الصلاة إلا به من قراءة وفقه على الجملة. وموانع الفضيلة المقتضية كراهية الإمامة هي النقائص. وهي على ثلاثة أضرب: نقمريمنع إكمال (¬3) الفروض، كالعبد فإنه لا حج عليه ولا جمعة، ولا زكاة. ونقص يقرب من الأنوثة كالخصاء ونقص يحط المنزلة وتسرع إلى صاحبه الألسنة كولد الزنى. وستقف على هذه الجملة إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في الفقيه والقارئ أيهما أولى بالإمامة. فذهب مالك والشافعي إلى أن الفقيه أولى. وبالغت الشافعية في هذا حتى قالت إن من يحسن الفقه الكثير ولا يحسن من القراءة إلا الفاتحة أولى بالإمامة ممن يحسن القرآن الكثير. وذهب أبو حنيفة إلى أن القارئ أولى من الفقيه وبه قال أحمد وإسحاق وابن سيرين والثوري. وقد احتج الشافعي لقوله وقولنا بان ما تحتاج إليه الصلاة من القرآن محصور، وما يحتاج إليه من الفقه في الصلاة غير محصور، فما كان لا ينحصر المقدار المحتاج إليه منه كان أولى بالمراعاة. فالمكثر منه أحق من المقل بالإمامة. واحتج أصحابنا بهذا المعنى واحتجوا أيضًا بأن في حديث عقبة ابن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يؤم القوم أعلمهم بالسنة (¬4). وذكر الأقرأ بعد ذلك. واحتج المخالف بالحديث الذي قدمناه وهو قوله عليه السلام: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. وهذا الحديث صحيح خرجه مسلم. وأجيب عن هذا بأن الصحابة كانوا إذا تعلموا شيئًا من ¬

_ (¬1) تفصيل = ساقطة -و-. (¬2) القيام -ق-. (¬3) كمال -و-. (¬4) مسلم بثمرح النووي ح 5 ص 172. وأحمد الساعاتي ج 5 ص 225.

القرآن تعلموا أحكامه. ولهذا قال ابن مسعود كنا لا نتجاوز عن آية حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها. وإذا كان الأمر كذلك كان القارئ لكتاب الله تعالى فقيهًا لأنه أصل الفقه وينبوع الأحكام. وأما قول الشافعية إذا كان لا يحسن سوى أم القرآن فإنه أولى من القارئ ففيه عندي نظر ويفتقر إلى تفصيل. وقد كنا قدمنا الاضطراب في عد ما زاد على أم القرآن من السنن أو الفضائل (¬1). وقد ذكرنا قول من قال من السلف بوجوب الزيادة على أم القرآن. والنظر في هذه المذاهب ومراعاتها مما يفتقر إليه في معرفة الصواب في هذه المسألة، وهذه الإشارة يكتفي بها من تأملها. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا صلى مسلم مؤتمًا بكافر عالم بذلك فلا خلاف في بطلان صلاته. وإن كان المسلم غير عالم بكفر إمامه فالفقهاء كلهم مجمعون على بطلان صلاته إلا أبا ثور والمزني. وقد استدل على بطلان الصلاة بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬2). وبقوله {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (¬3). فلو لم يعد الصلاة لكان الكافر مساويًا للمسلم. وقياسًا على علم المؤتم بكفر إمامه. وقياسًا على ائتمامه بمجنون يجهل جنونه. ولأن الكفر يمكن الاطلاع عليه والكشف عنه فلا يعذر المؤتم بجهله. ألا ترى أن الحاكم إذا حكم بشهادة كافر نقض حكمه ولم يعذر لتقصيره في البحث عن كفره. وكذلك لو حكم بشهادة عبد. ولو حكم بشهادة غير عدل لم ينقض حكمه وعذر بخطئه لما كان لم يقصر. وقد ترجح (¬4) بعض أصحابنا البغداديين في الزنديقال في يسر الكفر ويظهر الأيمان فقال: قد يفرق بينه وبين الكافر الأصلي فإن من أقام زمانًا يظهر الإِسلام ويؤم ويقرأ القرآن ثم اطلع على إسراره الكفر فإن الإعادة تشق وتصعب. قال ويحتمل أن تعاد الصلاة. وهذا الذي تردد فيه (¬5) بعض ¬

_ (¬1) والفضائل -و-. (¬2) سورة الحشر، الآية: 20. (¬3) سورة السجدة، الآية: 18. (¬4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب وقد تردد. وهو المنسجم مع قوله بعد وهذا الذي تردد فيه. (¬5) فيه = ساقط -و-.

أصحابنا قطع القول فيه بعض أصحاب الشافعي بنفي الإعادة. واعتل بأنه مما لا يظهر غالبًا. وإذا ثبت أن الصلاة خلف الكافر لا تجزئ فهل يكون الكافر بصلاته مسلمًا أم لا؟ اختلف الناس في ذلك فقال الشافعي لا تكون صلاة الكافر إسلامًا. وقال ابن حنبل تكون إسلامًا. وقال أبو حنيفة إن صلى في جماعة إمامًا أو مأمومًا أو صلى منفردًا في مسجد كانت صلاته إسلامًا. وأما مذهبنا فإنه إذا أم بقوم فلا يخلو بعد فراغه من صلاته بأن يعترف بأنه مسلم وأنه صلى معتقدًا للإسلام أو ينكر كونه مسلمًا. فإن زعم أنه مسلم فقد قال سحنون في النصراني إذا أم يعرض عليه الإِسلام. فإن أسلم صحت صلاة من خلفه. وتؤول قوله على أنه أراد بقوله فإن أسلم أي تمادى على إسلامه. وتعقب هذا بعض المتأخرين بأنه كجنب صلى عالمًا بجنابته لكون الكافر غير مغتسل من جنابته. وإن أنكر كونه مسلمًا فلا يخلو من أن يكون ظهر أنه دافع بصلاته عن نفسه وماله عند خوف حدث له أو لم يظهر ذلك. فإن ظهر ذلك فقال سحنون لا يعترض (¬1) له. ووقع في بعض الروايات استتابته مطلقًا من غير تفصيل. ولم يتعرض لما تعرض له سحنون. وإن لم يدافع بصلاته عن نفسه وماله فقدلان: أحدهما أن صلاته إسلام فيستتاب كالمرتد. والثاني أنه لا يستتاب، ولا تكون صلاته إسلامًا. والأصل في هذه المسألة أن تعلم أن الإيمان الذي تنطوي عليه القلوب مما ينفرد بعلمه علام الغيوب. وإنما تعبدنا بظواهر جعلت علمًا عليه فجاء الشرع بجعل لفظ الشهادتين علمًا عليه. وهذا من حكمة الشرع لأن الشهادتين على اختصارهما وإيجازهما تضمنتا كل معنى مطلوب في هذا. فالقول لا إله إلا الله فيه اعتراف بالألوهية والتوحيد. ويتضمن إثبات الصفات وتنزيه الباري تعالى عن سمات المحدثات. والشهادة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة يتضمن تصديق سائر الرسل والتزام جميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من العبادات والأحكام. فلما كانت هذه الألفاظ تقتضي التصديق عامًا جعلت علمًا على ما في القلب من الإيمان. وأما الخاص في مثل هذا *فلا يخلو* (¬2) إما أن يكون تكذيبًا أو ¬

_ (¬1) لا يعرض-و-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و-.

تصديقًا. فإن كان تكذيبًا فلا يختلف في أنه يحل محل التكذيب العام. وإن كان تصديقًا فهذا موضع الاضطراب. وإنما اتفق على التكذيب ووقع الإشك الذي التصديق لعدم الاحتم الذي التكذيب وإمكانه في التصديق. لأن من قال كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله إن الصلاة واجبة فلا شك في أنه كذبه في قوله إني نبي لأن النبي لا يكذب في واحدة كما لا يكذب في آحاد. وأما من قال صدق في أن الصلاة واجبة فيحتمل أن يكون صدقه في ذلك لأنه وافق ما عنده في شرعه أو في عقله. وإذا أمكن ذلك لم يحل التصديق الخاص محل التكذيب الخاص. فإذا انكشف لك هذا السر فاعلم أن مثار الخلاف في المسألة راجع إليه. فمن اعتقد أن الكافر يكون بصلاته مسلمًا رأى أن هذا الفعل إنما وقع عن تصديق به، والتصديق الخاص يتنزل منزلة التصديق العام. ومن اعتقد أنه لا يكون مسلمًا أنكر أن يكون هذا الفعل تصديقًا أو سلم كونه تصديقًا وأنكر كون التصديق الخاص يتنزل منزلة التصديق العام. وقد وقعت في الشرع ظواهر تنوزع في كونها دالة على جعل صلاة الكافر علمًا على إسلامه كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} (¬1). وأجيب عن هذا بان المراد إنما يستحق عمارة مساجد الله تعالى من كان على هذه الصفة. ألا تراه ذكر الصلاة والزكاة فالمراد أن من كان على هذه الأوصاف استحق عمارة المساجد ومن لم لكن عليها طرد عن المساجد وبقوله في الخبر: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم (¬2). وأجيب عنه بأنا لا نتحقق أنه صلى صلاتنا إلا بعد إظهاره الشهادتين لجواز أن يكون قصد اللعب والعبث. والصلاة لهو ولعب ليست من صلاتنا. وهكذا الجواب عن قوله نهيت عن قتل المصلين (¬3). وأما الذين غزاهم جرير فاعتصموا بالسجود فقتلهم فوداهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا دلالة فيه على كون الصلاة علمًا على الإِسلام؛ لأنه وداهم بنصف ¬

_ (¬1) سورة التربة، الآية: 18. (¬2) البخاري. فتح الباري ج 2 ص 42. (¬3) رواه الطبراني والدارقطني عن أنس قال الهيثمي فيه عامر بن سنان وهو منكر الحديث. قال المناوى لكن له شواهد. فيض القدير ج 6 ص 2050.

دياتهم ولو كانوا مؤمنين حقًا لوداهم بجميع دياتهم. ويناقض أبو حنيفة بصلاة المنفرد في غير المسجد. وأما الكافر إذا أذن فإن أبا حنيفة رأى أذانه إسلامًا. وتردد فيه بعض أصحابنا فقال إن قلنا لا يكون إسلامًا فإنه قد يحكي به إنسانًا كما فعل أبو محذورة قبل أن يسلم. وإن قلنا يكون إسلامًا فلإظهاره في أذانه الشهادتين بخلاف الصلاة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: لا تصح إمامة المرأة عندنا وعند أبي حنيفة لا رجالًا ولا نساء. وحكى بعض أصحابنا عن الطبري وداود وأبي ثور جواز إمامتها رجالًا ونساء ورأيت في نقل غيرهم عن أبي ثور والمزني والطبري أنهم أجازوا أن تؤم الرج الذي التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال. وذهب الشافعي إلى جواز إمامتها النساء ورواه ابن أيمن عن مالك. وقد احتج أصحابنا للمنع على الإطلاق بقوله عليه السلام: خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (¬1). وبأن كلامها عورة. وقياسًا على الإمامة الكبرى. واحتج للجواز بالقياس على العبد. وأجيب عنه بأن نقص الأنوثة في باب الإمامة آكد وأشد، والمرأة موصوفة بنقص العقل والدين. والعبد لم يوسف بذلك وقد تنوزع في قوله يؤم القوم أقرؤهم (¬2). هل يشتمل على النساء أم لا؟ وسبب التنازع في ذلك هل تسمية القوم ينطلق على الرجال خاصة أو على الرجال والنساء؟ واحتج أصحابنا في قصرها على الرجال بقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} (¬3). فقابل القوم بالقوم والنساء بالنساء. فلو كان النساء يسمين بالقوم لما صحت هذه المقابلة. وقال زهير: وما أدري ولست أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء فأظهر التشكك بين كونهم قومًا أو نساء. وهذا لا يصح إلا مع قصر لفظ القوم على الرجال. ولو سلم انطلاق القوم على الرجال والنساء لأمكن أن ينازع ¬

_ (¬1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. حديث رقم 3862. جامع الأصول. (¬2) رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. حديث 3818 جامع الأصول. (¬3) سورة الحجرات، الآية: 11.

في دخولهن في الحديث لقوله أقرؤهم لأن هذا الضمير ضمير المذكرين. وقد احتج للرواية الشاذة عندنا وهي قصر جواز إمامتها للنساء بما روي أنه عليه السلام كان يزور أم ورقة في بيتها. وجعل لها مؤذنًا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها (¬1). وفي رواية الدارقطني نساء دار أهلها. وقد قال بعض المتأخرين من أصحابنا هذا الحديث مما لا جب أن يعول عليه. وتعلقوا أيضًا في هذه الرواية الشاذة بان عائشة كانت تؤم النساء. وأجيب عنه بأنه إن صح حمل ذلك (¬2) على أنه كان على وجه التعليم أو كان ثم نسخ. فإن أمت المرأة أعاد صلاته من صلى وراءها، وإن خرج الوقت قاله ابن حبيب. وقد قال سحنون: الخنثى المحكوم له بحكم النساء يعيد صلاته من ائتم به وإن خرج الوقت. وإن كان ممن يحكم له بحكم الرجال لم يعد. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في إمامة غير البالغ فاجازها الشافعي على الإطلاق. وللشافعي قولان في إمامته للجمعة لاختصاصها باشتراط الجماعة فيها بخلاف غيرها من الصلوات. ومنعت في أحد القولين لمالك على الإطلاق. ومنعت في القول الآخر في الفروض دون النفل. فإن أم غير البالغ فاختلف عندنا في إعادة صلاة من ائتم به. فقال ابن حبيب يعيد أبدًا وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو مصعب تمضي صلاة من ائتم به. وقال أشهب في إمام أحدث فاستخلف صبيًا فأتم بالقوم، إنه إن عقل الصلاة وأمرها أجزته وأعاد من خلفه ما لم يذهب الوقت. فإن ذهب الوقت فلا إعادة عليهم. وقد تعلق من أجاز إمامته على الإطلاق بقول عمرو بن مسلمة كنت غلامًا حافظًا قد حفظت قرآنًا كثيرًا فانطلق أبي وافدًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله فقدموني فكنت أصلي بهم وأنا ابن سبع أو ابن ثمان" (¬3). وأجيب عن هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بذلك ولا نقل أنه علم به فأقره. وإنما توهموا جوازه من قوله يؤمكم أقرؤكم ولم يك عمرو ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي. الهداية ج 3 ص 190. (¬2) ذلك = ساقطة -و-. (¬3) رواه البخاري وأبو داود والنسائي. جامع الأصول. حديث رقم 3828.

حاضرًا في هذا الخطاب. وتعلق من منع إمامته على الإطلاق بأن المفترض إذا صلى خلفه صار كالمفترض خلف المتنفل والمتنفل إذا صلى خلفه فقد صلى خلف من لا يلزمه ما عقد على نفسه من الصلاة. ألا ترى أنه لو خرج من الصلاة قبل تمامها لم يكن عليه قضاؤها. ومن فصل بين الفرض والنفل يرى أن عقده الصلاة لم يحله ولم يبطله فلا معنى لاعتبار ما لم يوجد من الحل والإبطال. وقد كنا قدمنا في غير هذا الباب تردد بعض الأشياخ في قول أبي مصعب هل هو محمول على أن صلاة الصبي نافلة وصلاة المفترض خلف المتنفل تصح أو محمول علي أن الصبي ... الفرض صحت ... (¬1) وقول ابن حبيب ها هنا يعيد من أئتم به أبدًا تصريح بتأكيد المنع من إمامته وأنها مما لا ينعقد (¬2). وقول أشهب بقصر الإعادة على الوقت يمكن أن يكون قاله مراعاة للخلاف. وقول أبي مصعب يحتمل (¬3) أن يكوِن سلك مسلك الشافعي. فلهذا قال إذا أم صحت صلاة المؤتم ويحتمل غير ذلك. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما إمامة العبد فإن أبا حنيفة كرهها والشافعي لم يكرهها. ومذهبنا جوازها إذا لم يؤم إمامة راتبة ولم تكن الصلاة صلاة جمعة. وقد روي عن مالك أنه قال: لا يؤم العبد الأحرار إلا أن يكون يقرأ، وهم لا يقرؤون فيؤمهم في موضع الحاجة. وقد كره مالك وابن القاسم أن يؤم في الفرائض إمامة راتبة. وأجاز ابن القاسم أن يؤم في التراويح إمامة راتبة، والسنن عند ابن القاسم كالعيدين والاستسقاء والكسوف كالفرائض يكره أن يكون فيها إمامًا. *وأجاز ابن الماجشون أن يكون إمامًا راتبًا في الفرائض على قوله جواز إمامته في السنن* (¬4). ¬

_ (¬1) في الكلام خلط يوجب عدم الوضوح. وأقرب ما يكون النص عليه "محمول على أن صلاة الصبي نافلة. وصلاة المفترض خلف المتنفل لا تصح، أو محمول على أن الصلاة صلاه ابن ية الفرض صحت صلاة من صلى خلفه". (¬2) وأنها لا تنعقد -ق-. (¬3) يمكن -و-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط من -ق-.

وأما إمامته في صلاة الجمعة فمنعها ابن القاسم وأمر بإعادة صلاته وصلاتهم. وأجازها أشهب. فوجه إجازة إمامته في الفرائض قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي أجاع ما أقام فيكم الصلاة" (¬1). وروي عن عائشة رضي الله هـ تعالى عنه أنه كان يؤمها غلام لها. ووجه القول بكراهة إمامته الراتبة في الفرائض أنه ناقص الفروض لسقوط الحج عنه والجمعة والزكاة. والإمامة مقام رفعة فلا يرتب لها من كان ناقصًا. وسبب اختلاف ابن القاسم وأشهب في إمامته في الجمعة أن العبد لا تتعين عليه صلاة الجمعة وله تركها إلى الظهر. والأحرار تتعين عليهم صلاة الجمعة. فإذا أم في من لا تتعين عليه صلاة الجمعة من تتعين عليه ضارع صلاة المفترض خلف المتنفل. لأن اننفل يشرع فيه المتنفل باختياره. وصلاة الجمعة يشرع فيها العبد باختياره أيضًا، فمنعها ابن القاسم لهذا. ورأى أشهب أنه لما خير بينهما وبين الظهر فاختارها صارت باختياره وشروعه فيها كالفرض المتعين وفارقت النفل لأنها لا يسوغ تركها إلا لفعل آخر وهو الظهر. والنافلة يسوغ تركها لغير بدل. وإمامة الأعرابي عندنا للحضريين مكروهة خلافًا للشافعي. واعتل ابن حبيب بجهله بالسنن. واعتل بعض المتأخرين بأنه يستديم نقص الفرائض كالجمعة والفضائل كالجماعات. فعلى هذا التعليل يقرب حكمه من حكم العبد. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: من كان ناقص الخلقة فإنه على ضربين: أحدهما أن يكون العضو المنتقص لا تعلق له بالصلاة. والثاني أن يكون له تعلق بالصلاة. فإن كان لا تعلق له بالصلاة فلا يخلو أن يقرب من الأنوثة أو لا يقرب منها. فإن كان مقربًا منها كالخصي ففي جواز إمامته في الفرائض إمامة راتبة قولان: الكراهة لمالك والجواز لابن الماجشون. ولا يلزم على القول بكراهته كراهة إمامة العنين، فإن العلة ليست بحالة ظاهرة تقرب من الأنوثة بخلاف الخصي. وإن كان غير مقرب من الأنوثة كالعمى فان الإمامة معه ¬

_ (¬1) رواه مسلم والترمذي ولفظه عن يبيح بن الحسين عن أمه قالت إنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع: يا ايها الناس اسمعوا وأطيعوا وأن أمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله كتاب المساجد ص 240 وكتاب الحج ص 311.

جائزة. وقد أم ابن عباس وعتبان بن مالك وهما أعميان. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كيف لا أؤمهم وهم يعدلوني إلى القبلة. والدليل على الجواز أن قوله يؤم القوم أقرؤهم فعم. وقد استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم على المدينة بضع عشرة مرة. ولأنها حاسة لا تؤثر في شرط (¬1) من شروط الصلاة فلم تمنع الإمامة كالصمم. وإن كان العضو له تعلق بالصلاة فإنه على قسمين: أحدهما أن يتعلق بها تعلق فريضة والثاني أن يتعلق بها تعلق فضيلة. فإن تعلق بها تعلق فريضة (¬2) كالسقيم العاجز عن القيام فعندنا فيه قولان: المشهور منهما أنه لا يؤم القيّام. وأجاز ذلك مالك في رواية الوليد بن مسلم عنه وأجازه أشهب في مدونته. وبالجواز قال أبو حنيفة والشافعي. وبالمنع قال محمَّد بن الحسن. فإذا (¬3) قلنا بالجواز فإن المؤتمين (¬4) الأصحاء يصلون قيامًا. وقال أبو هريرة وجابر وأسيد بن حضير وقيس بن فهو والأوزاعي وأحمد وإسحاق والمزني يصلون جلوسًا. وسبب هذا الاختلاف اختلاف الأحاديث. فروي أنه عليه السلام لما جحش شقه صلى قاعدًا. قال أنس: وصلينا وراعه قعودًا. الحديث. إلى قوله: فإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا (¬5). وصلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه (¬6). فقد اضطرب الرواة فيه هل بقي أبو بكر على الإمامة أو خرج عنها وائتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وسائر الناس؟ وقد رجحت رواية من قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإِمام بكونه عن يسار أبي بكر وهذا يقتضي أن (¬7) النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإِمام. وأجيب عن هذا بأن الرتبة (¬8) ها هنا خرجت عن المألوف لأن أبا بكر لم يرجع إلى صف الناس ويكون معهم كما تقتضيه المرتبة (8) المألوفة. وقد تأول بعض ¬

_ (¬1) شيء -و-. (¬2) فريضة = ساقطة -و-. (¬3) وإذا -و-. (¬4) المأمومين -و-. (¬5) أخرجه البخاري ومسلم وباقي الستة. نصب الراية ج 2 ص 42. (¬6) متفق عليه من حديث البخاري ومسلم. الهداية ج 3 ص 224. (¬7) كونه - صلى الله عليه وسلم -و-. (¬8) المرتبة -و-.

الناس من أصحابنا ما خرجه مسلم عن عائشة أن أبا بكر صلى قائمًا يقتدي بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن المراد به أنه ينتظر تمكنه من الركوع والسجود كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي الإِمام بصلاة أضعف القوم *فهذا الحديث فيه من الاضطراب ما ترى. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال* (¬1): لا يؤمن أحد بعدي جالسًا (¬2). وقدح فيه بأن راويه جابر الجعفي وهو متروك. ورواه عن الشعبي مرسلًا. فمن منع الإمامة أصلًا يتعلق بهذا الحديث إن ثبت عنده. ومن أجاز ذلك وأمر الناس بالجلوس يتعلق بحديث أنس صلى قاعدًا وصلينا وراءه قعودًا. ومن أجاز ذلك وأمر الناس بالقيام تعلق بصلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه. وأخذ برواية من روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإِمام. ويرى هذا لتأخره أولى أن يتعلق به. لأن حديث أنس كان قبله. وهو كالمنسوخ بهذا. وقد تأول بعض أصحابنا قوله إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا على أن المراد به النافلة لأن النافلة يجوز ترك القيام فيها اختيارًا. وقال بعضهم وقوله في هذا الحديث فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد يحتمل أن تكون نافلة وهذا فيه نظر. وقد منع في المدونة إمامة الجالس في النافلة كما منعها في الفرض (¬3). وقد يعتل أيضًا بأن المقيم يصلي خلف المسافر مع زيادة فرض المؤتم على فرض الإِمام فكما لا تمنع زيادة فرض الحاضر على فرض المسافر الائتمام فكذلك لا يمنع زيادة الصحيح على السقيم بالقيام جواز الائتمام. ويؤكد هذا الجمع (¬4) بان الأصل القعود. ولهذا جاز ذلك في النافلة اختيارًا والقيام للصحيح في الفروض كالفرض المزيد. كما أن أصل الصلاة ركعتان. ولهذا قدرت النافلة بها. فالركعتان كالمزيد على أصل الفرض. وقد ينفصل عن هذا الجمع بأن الحاضر يصلي الركعتين المزيدتين منفردًا بها غير ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو من -و-. (¬2) قال أبو عمر بن عبد البر لا يصح عند أهل العلم بالحديث لأن رواية جابر الجعفي يرسله وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل. ورواه الدارقطني والبيهقي من رواية جابر الجعفي عن الشعبي مرسلًا. والجعفي كذاب. (¬3) الفروض -و-. (¬4) الجميع -و-.

مخالف فيها لأحد. كما يقضي المسبوق ما فاته. والقائم (¬1) المقتدي بالجالس مخالف لمن اقتدى به. والمخالفة ممنوعة. ولأجل منع المخالفة ذهب من ذكرنا إلى أن المؤتمين يصلون جلوسًا ويتركون فرض القيام المقدور عليه لفرض الموافقة في الاقتداء. وقد اختلف المذهب عندنا في الإِمام إذا كان جالسًا لمرض، هل تصح إمامته وهو جالس للجلوس المرضي (¬2)؟ وكان من أجاز ذلك رأى أن المخالفة لما فقدت ها هنا لم تمنع الإمامة. ومن منع يتعلق بقوله لا يؤمن أحد بعدي جالسًا. وأما لو كان الإِمام يصلي إيماءً فهل يجوز الائتمام به أم لا؟ فأجازها الشافعي ومنعها أبو حنيفة. وظاهر ما أشار إليه أصحابنا أنا لا نجيزها، وإن أجزنا إمامة الجالس. فإن صلاة المومىء لا ركوع فيها ولا سجود فلا يجوز أن ياتم به من صلاته ركوع وسجود كما لا يأتم مصلي الفرض بمصلي الجنازة. وأما إجازة الشافعي فإنه يرى الإيماء إلى الفعل يحل محل الفعل. بخلاف الجنازة التي ليس فيها ما يحل محل الركوع والسجود. فإذا قلنا بمنع إمامة الجالس، فإن الإِمام القائم إذا عجز عن القيام في أثناء الصلاة يستخلف. وإذا قلنا بإجازة إمامة المريض للمرضى فصح بعض المؤتمين في أثناء الصلاة فحكى ابن حارث عن سحنون أنه يخرج عن الإمامة ويتم وحده. وذكر عن يبيح بن عمر أنه لا يخرج من الإمامة. وقد كنا قدمنا الكلام على الأمي إذا تعلم في أثناء الصلاة والمتيمم إذا وجد الماء، والمريض إذا صح إلى غير ذلك من المسائل المنخرطة في هذا السلك. وإذا ائتم القائم بالجالس أعاد المؤتم وإن ذهب الوقت. وعند ابن الجلاب يعيد في الوقت لأنه يرى إمامة الجالس مكروهة، والكراهة لا تقتضي الإعادة بعد الوقت. وإذا قلنا بجواز إمامة الجالس فقد روي عن مالك أنه يستحب أن يصلي إلى جنبه من يقتدي به ليكون علمًا على صلاته، ويلحق بهذا القسم إمامة من لا يقدر على النطق وسنتكلم عليه في إمامة الألكن. وإن تعلق بها تعلق فضيلة كقطع اليد وشللها (¬3) فقدلان: أحدهما جواز ¬

_ (¬1) القيام -و-. (¬2) من المرض -و-. (¬3) وشبهها. ق.

الائتمام به وعليه جمهور أصحابنا لأنه عضو *لا يمنع من فرض من فروض الصلاة. فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعمى* (¬1) وقال ابن وهب لا أرى أن يؤم الأقطع والأشل إذا لم يقدر أن يضع يديه في الأرض. ووجه كراهة ابن وهب لإمامته أنه وإن بلغ نهاية طاقته في فعل لا يتحمله عن المأموم فإنه منتقص عن درجة الكمال فكرهت إمامته لأجل النقص. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما إمامة الألكن فقد روي عن مالك أنه أجاز أن يؤم الألكن الفصيح (¬2). وقال الشيخ أبو الحسن معناه أنه لا يخل بشيء من قراءته (¬3). قال بعض المتأخرين محتجًا لصحة ما قاله الشيخ أبو الحسن (¬4) إن القراءة يحملها الإِمام عمن خلفه فمتى كان التقصير فيها يخل بشيء من القراءة لم يصح التحمل. فقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في الأعجمي الذي يلفظ بالضاد ظاء والألثغ الذي يلفظ بالراء خفيف الغين طبعًا، أن إمامته صحيحة لأنه ليس في ذلك إحالة معنى. وإنما هو نقصان في أداء الحروف. وقال بعض الأشياخ إذا كان يعرف الظاء من الضاد إلا أنه لا يستطيع اللفظ بها لعلة في لسانه فإمامته جائزة. وقد روي عن إسماعيل القاضي: إجازة (¬5) إمامة الألكن إذا كانت لكنته في غير قراءته. وهذا الاشتراط لا معنى له لأن التقصير في غير القراءة لا يخفى أنه لا يؤثر في القراءة مع بعد اختلاف حال النطق بالحرف في القرآن وفي غير القرآن. وأما اللحان فاختلف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا: فقيل لا تصح الصلاة خلفه ولو كان لحنه في غير أم القرآن قاله الشيخ أبو الحسن. وإن كان لحنه في أم القرآن لم تصح الصلاة خلفه. وإن كان في غير أم القرآن أجزت الصلاة خلفه، قاله ابن اللباد ووافقه ابن أبي زيد، ورأى أن الإِمام لا تصح صلاته أيضًا. وقيل إن كان لحنه لا يغير معنى *صحت ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) بالفصيح -و-. (¬3) القراءة -و-. (¬4) معناه أن القراءة -ق-. (¬5) إجازة = ساقطة -و-.

إمامته ما لم يتعمد ذلك فيفسق بتعمده* (¬1) وإن كان لحنه يغير المعنى كقراءته إياك نعبد وإياك نستعين بكسر الكاف. وأنعمت عليهم بأنعمت بضم التاء لم تصح امامته. إلى هذا ذهب القاضيان أبو الحسن بن القصار وأبو محمَّد عبد الوهاب. وحكى أبو الحسن اللخمي قولًا رابعًا وهو الجواز على الإطلاق ولم أقف عليه. وسبب الاختلاف في هذه المسألة اعتبار اللحن هل يخرج الكلمة الملحون فيها عن كونها قرآنًا ويلحقها بكلام البشر أو لا يخرجها عن كونها قرآنًا. فكان من فرق بين ما يغير المعنى وما لا يغيره، رأى أن تغير المعنى يخرج الكلمة المغيرة عن كونها قرآنًا. لأن الإعراب نقلها من معنى إلى معنى. وإذا اختلف المعنى صارت الكلمة كأنها ليست هي التي كانت وهي معربة. وأما من فرق بين أم القرآن وغيرها فكانه رأى أن الإِمام يتحمل القراءة على المأموم ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. فإذا قرأ الفاتحة ملحونة لم يصح تحمله. وإن كان لحنه لا يغير المعنى كما لو أبدل لفظة بما يسد مسدها في المعنى فقال مكان أنعمت عليهم أفضلت عليهم فإنه لا تصح إمامته، وإن كان أتى بالمعنى. وكذلك مغير الإعراب وإن كان أتى بالمعنى. وقد قال ابن أبي زيد فيمن صلى خلف من يلحن في أم القرآن أنه لا يعيد إذا استوت حالهم. فكأنه لم ير اللحن كالكلام في الصلاة ولكنه يحل محل ترك القراءة. فإذا استوت حال المصلين في اللحن صاروا كالأمّيين يؤم بعضهم بعضًا. وأما من ساوى بين أم القرآن وغيرها فإنه يتعلق بان مالكًا لما ذكر صلاة من لا يحسن القرآن لم يفرق بين أم القرآن وغيرها. وقد قال في المدونة: إن الذي لا يحسن أشد من ترك القراءة، وكأنه رأى أن اللاحن كالمتكلم بكلام الناس في الصلاة. وإن كان قد يحتمل أن يريد: إن الذي لا يحسن افتتح الصلاة على وجه لا يجوز، والتارك قد يكون طرأ عليه النسيان بعد افتتاحها على ما يجوز. فهذا وجه (¬2) الأقوال الثلاثة التي حكيناها. وأما ما حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي فإنه أشار إلى أن وجه الإجزاء أن اللحن ¬

_ (¬1) هو ب -و-. (¬2) توجيه -ق-.

لا يقع في الغالب إلا في أحرف يسيرة. ولو اقتصر المصلي على ما سواها لأجزأه. واللحن لا يصير الكلمة الملحونة خارجة عن كونها قرآنًا. ولو أخرجها بذلك عن كونها قرآنًا فإنه لم يتعمده. وكذلك لو كان يغير المعنى فإنه لم يعتقد إلا معنى الكلمة المعربة. وهذا الذي أشار إليه أبو الحسن من أن الاقتصار على السالم من اللحن يجزئ، قد أشار أبو محمَّد عبد الحق إلى خلاف فيه، وذلك أنه لما ذكر ما حكاه ابن حبيب من أن الإِمام لا يلقن حتى يقف ينتظر التلقين. قال أبو محمَّد عبد الحق لو أسقط آية من أم القرآن لا ينبغي أن يلقن وإن لم يقف (¬1)، لا سيما أن قائلًا يقول إنه كالتارك جملة أم القرآن تبطل صلاته. وقال أبو عمران في ناسي آية من أم القرآن قال إسماعيل يجب على المذهب أن يسجد قبل السلام، وفيها قول آخر أنه لا يسجد فأنت ترى كيف جعل بعضهم ترك اليسير من أم القرآن كترك جميعها، وإن كان قد خولف في ذلك على ما حكيناه، وإن كان قد حكي عن الشيخين أبي محمَّد وأبي الحسن أن عدم تمييز الظاء من الضاد في أم القرآن يجري مجرى اللحن فيها. ووجه هذا الذي قالاه إن النطق بالضاد يخالف النطق بالظاء، وعمل اللسان فيهما عمل مختلف. وهو مما يخفى عن أكثر الخاصة من الناس فضلًا عن عوامهم. فإذا كان النطق بهما مختلفًا، فنطق بالضاد في المغضوب وفي الضالين كنطقة بالظاء، صار كمبدل حرف بحرف، وإبدال حرف بحرف أشد من تغيير إعرابه. وإبدال حركة بحركة لا يخرج المعنى عن ما هو عليه. ولو أبدل الكلمة كلهالمنع من ذلك فكذلك إبدال أحد حروفها. وقد منع مالك من الائتمام بمن يقرأ بقراءة ابن مسعود. وروى عنه ابن وهب أنه قال: أقرأ ابن مسعود رجلًا {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} فجعل الرجل يقول: (طعام اليتيم) فقال ابن مسعود (طعام الفاجر) فقلت لمالك أترى أن يقرأ كذلك فقال: نعم أرى ذلك واسعًا. فخرج أبو الحسن اللخمي على هذه الرواية جواز الائتمام بمن يقرأ بقراءة ابن مسعود. ورآه موافقًا لقول ابن شهاب في تأويل قوله أنزل القرآن على سبعة أحرف. فهذا التخريج ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الأولى حذف الواو -إن لم يقف- لعدم ظهور معنى المبالغة.

زلل. والمسألة عظيمة الموقع. وأقل ما في الإبدال تحكم التمني والشهوة وافساد بلاغة القرآن. ومن علم ما يطلبه البلغاء من تناسب النظام علم ما قلناه. ومالك لا يقطع على أنه قال ما روي عنه في هذه الرواية الشاذة. ولو قطعنا به لتأولناه على وجه يوافق الصواب كما تأول العلماء ما حكي عن ابن مسعود في هذا واضطروا إلى الاعتذار عنه لما كان عندهم الإبدال مما لا يتسامح فيه. وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة. وتأويل قوله عليه السلام أنزل القرآن على سبعة أحرف (¬1) وذكرنا تأويل ما حكي (¬2) عن ابن مسعود وابن شهاب (¬3) في كتابنا المترجم بقطع لسان النابح في المترجم بالواضح وهو كتاب نقضنا فيه كتابًا ألفه بعض حذاق نصارى المشرق قصد فيه إلى جمع المطاعن التي تشبث بها الملحدون وقذفها الطاعنون على ديننا وأضافوها إلى العقل والنقل فاكتفينا بذكرها هناك عن ذكرها ها هنا لاشتغال أهل الأصول عن (¬4) الخوض فيها دون أهل الفروع. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: لا يصح أن يأتم القارئ بالأمي وبه قال أبو حنيفة وابن حنبل وهو أحد أقوال الشافعية. وقال الثوري وأبو ثور وابن المنذر يجوز ذلك وهو أحد أقوال الشافعية أيضًا. واختاره المزني وروي ذلك عن عطاء وقتادة. وللشافعية قول ثالث بإجازة ذلك في الصلاة التي يسر فيها دون التي يجهر فيها فدليلنا على المنع أن الإِمام يحمل القراءة عن المأموم وهي القراءة الواجبة في صلاة الجماعة. وأعظم مراتب قراءة المأموم عندنا أن تكون مستحبة ولا ينوب الفعل المستحب عن الواجب. وأما المجيزون للائتمام فإنهم يقولون إن العجز عن القراءة لا يمنع من أن يكون العاجز إمامًا للقادر عليها، كما لا يمنع إمامة العاجز عن القيام للقادر عليه. ونحن وإن قلنا بمنع إمامة الجالس فقد أنكرنا الأصل الذي قاسوا عليه. وإن أجزنا فرقنا بان الجالس أتى ببدل عن القيام وهو الجلوس مع أن القيام لا يتحمله الإِمام عن ¬

_ (¬1) البخاري ومسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 427. (¬2) ذكر-و-. (¬3) وابن شهاب = ساقط -و-. (¬4) هكذا ولعلّ الصواب بالخوض فيها.

المأموم. فلم يعد (¬1) إخلال الإِمام به إخلالًا من المأموم بخلاف القراءة التي يتحملها الإِمام، فإنه يعد إخلاله بها إخلالًا من المأموم. وأما تفرقة الشافعية بين صلاة السر وصلاة الجهر فبناء منهم على أحد القولين (¬2) في أن القراءة في صلاة السر تجب على المأموم فلا يكون الإِمام متحملًا لها عنه بخلاف صلاة الجهر. وقد اضطرب المذهب في الأمي هل عليه أن يطلب قارئًا يصلي وراءه أم لا؟ فقال بعض أصحابنا لا دليل على أن الأمي يجب عليه أن يأتم بغيره. وصلاة الجماعة غير واجبة. وإنما أجزأ (¬3) المأموم القارئ قراءة إمامه وإن كان الائتمام غير واجب في الأصل؛ لأن المأموم لما اختار الائتمام وشرع فيه وجب عليه. ولما صار واجبًا عليه أجزأت عنه قراءة إمامه. وقال بعضهم القراءة مع القدرة واجبة والائتمام بقارىء يقوم مقام القراءة فعليه أن يفعل فإن لم يفعل فكانه ترك القراءة مع القدرة عليها. فهذا وجه اختلاف أصحابنا في إعادة الإِمام الأمي إذا صلى خلفه قارئ. وقد قال أشهب في مدونته في أمي صلى بقوم فيهم من يقرأ أن صلاة الإِمام تجزيه، وإن كنت أكره أن يصلي فذا ما دام أميًا. ولابن القاسم أن الإِمام يعيد لأنه وجد قارئًا يأتم به فلم يفعل. وقال بعض الأشياخ إن كان الإِمام عالمًا بالقارىء المؤتم (¬4) به فإنه يعيد وإن لم يعلم به ولم يجد قارئًا يأتم به فشرع في الصلاة ثم طرأ عليه قارئ فائتم به فإنه لا يعيد. وذكر ابن حبيب عن جماعة من أصحاب مالك في الأميين يؤم بعضهم بعضًا أن ذلك لا يجوز إلا أن لا يجدوا قارئًا. ووقع لسحنون أن صلاتهم تامة. وحكى عنه ابنه أن ذلك إذا لم يجدوا من يصلون معه وخافوا ذهاب (¬5) الوقت. وبصحة صلاة الأمي إذا أم قارئًا قالت الشافعية، وبالبطلان قال أبو حنيفة. واختلف أصحابه في تعليل ذلك فقال أبو حازم إنما بطلت ¬

_ (¬1) يقدر -و-. (¬2) أقوالهم -و-. (¬3) وأما اجزاه -و-. (¬4) أي عالمًا بأميته. (¬5) ذوات -ق-.

صلاته لأنه يمكنه أن يقتدي بالقارىء فعلى هذا لا يجوز له أن يصلي وحده. وقال الكرخي إنما بطلت صلاته لأنه لما أحرم معه القارئ صح إحرامه ولزمه القراءة عنه، فلما عجز عنها بطلت صلاته. وقد احتج للقول بان الجماعة لا تجب على الأمي بأن رجلًا جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فقال له: قل سبحان الله. الحديث (¬1). فلو كان الائتمام واجبًالأمره به. وأما الذي ذكره الكرخي فلا وجه له لأن الأمي إذا لم يلزمه تحمل القراءة لنفسه لم يلزمه أن يتحمل لغيره. فنحن إذا قلنا بالبطلان نعلل بغير تعليل الكرخي. وروي (¬2) أن الائتمام واجب عليه، وإذا أحل به بطلت صلاته كما قدمنا بيانه. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إمامة القارئ عندنا من المصحف تكره في الفرائض دون النفل. وهذا إذا ابتدأ الإمامة ناظرًا فيه. وأمّا أن يطلب منه حرفُ اوهو في أثناء الصلاة فإن ذلك منهي عنه في النفل والفرض. وقال أبو حنيفة إذا أم من (¬3) المصحف فسدت (¬4) صلاته. وقال بعض أصحابنا (¬5) لا تفسد ولكنه يكره لأنه صنيع أهل الكتاب، ولأن النظر في المصحف ليس من أعمال الصلاة فيكره إدخاله فيها إلا أنها لا تفسد؛ لأن النظر عمل قليل. وروي أن ذكران مولى عائشة رضي الله عنها كان يؤم بها في شهر (¬6) رمضان في المصحف (¬7) ... ¬

_ (¬1) عن عبد الله بن أبي أوفى. قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا فعلمني ما يجزئني. فقال قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال يا رسول هذا لله فما لي؟ قال قل: اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني. قال هكذا بيديه وقبضهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما هذا فقد ملأ يديه من الخير. رواه أبو داود. مشكاة المصابيح ج 1ص 275 ح 858 مختصر سنن أبي داود ح 795 وصحح الدارقطني هذا الحديث. (¬2) ونرى -و-. (¬3) في المصحف -ق-. (¬4) بطلت -و-. (¬5) أصحابه -ق-. (¬6) شهر ساقطة -و-. (¬7) رواه البخاري تعليقًا في إمامة العبد والمولى قال الحافظ وصله ابن أبي داود وابن

والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: أما الفاسق بجوارحه لا من جهة الاعتقاد والتأويل والاجتهاد كالزاني وشارب الخمر فاختلف المذهب فيه. فقيل لا تجزي الصلاة خلفه. وقيل بإجزائها. وقال ابن حبيب من صلى وراء من يشرب الخمر فإنه يعيد أبدًا إلا أن يكون الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذٍ سكران. قاله من لقيت من أصحاب مالك. وهكذا اختار الأبهري أن الصلاة خلف الفاسق بغير تأويل تعاد أبدًا. وقد قال في الموازية فيمن صلى وفي جوفه الخمر وليس بسكران أن من صلى خلفه يعيد أبدًا. وهذا إشارة إلى الإعادة لكونه مصليًا بالنجاسة متعمدًا. وإن رأى أن النجاسة ها هنا وإن كانت باطنة تعتبر. وقال ابن وهب لا يصلي خلف عاصر الخمر فمن صلى خلفه لم يعد. قال بعض المتأخرين هذا يقتضي أن الفسق بإجماع لا يمنع صحة الائتمام. وقيل في إمامة الفاسق تستحب الإعادة في الوقت. ومذهب الشافعية أن الصلاة خلفه تجزئ، إلا أنها تكره ابتداءًا. وقد احتج لمنع الائتمام به بقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (¬1). فلو صح الائتمام بالفاسق كان مساويًا بالمؤمن العدل. والظاهر قد اقتضى أنهما ليس سواء. وقال عليه السلام: "أئمتكم شفعاؤكم فاختاروا (¬2) بمن تستشفعون" والفاسق ممن لا يستشفع ولأن المأموم لو علم أن إمامه غير متطهر لم تجزه صلاته لكون إمامه فاسقًا إذ تعمد ترك الطهارة، فكذلك إذا فسق الإِمام بشرب الخمر أو الزنى. وقد أجيب عن هذا بأن العلة في بطلان صلاة المأموم كون الإِمام المحدث في غير صلاة. وإن الظواهر الأولى يعارضها قوله صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وخلف كل برّ وفاجر (¬3). وقد تنوزع في تهمته في الصلاة فقال من صحح إمامة الفاسق لا تلحقه تهمة في الصلاة لأن مرتكب ¬

_ = أبي شيبة ووصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق آخر. حديث رقم 3825 جامع الأصول. (¬1) سورة السجدة، الآية: 18. (¬2) فانظروا -ق-. (¬3) رواه الدارقطني عن ابن عمر وأعله ابن الجوازي بمحمد ابن الفضل وقال متروك الحديث وطحن فيه أحمد أيضًا. نصب الراية ج 2 ص 28.

الكبائر بحكم الشهوة وغلبة الهوى لا باعث يبعثه على التلاعب في صلاته وقال من منع إمامته بل يتهم على ما يتعلق بصلاته مما يصلح الصلاة ويفسدها. وقد يستخف ترك الصلاة أصلًا. فاستخفاف ترك شروطها أولى أن يظن به. وقد تردد جواب بعض أصحابنا في إمام صلى في دار مغصوبة عالمًا بذلك فقال: إن قلنا بالإجزاء فلأن المعصية ها هنا راجعة لحق العباد فهي بخلاف ما يرجع لحق الله تعالى كالزنى وشرب الخمر. وإذا قلنا لا يجوز فطردًا لباب المعاصي المانعة من العداله. والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: أما المخالف في مسائل الاعتقاد فإنه على قسمين: مخالف في مسائل أصولية قطعية. ومخالف في مسائل فروعية (¬1) ظنية. فإن كانت مخالفته في الأصول القطعية فإن كان كفرًا صراحأ لا مراء فيه كالتهود والتنصر فقد تقدم الكلام عليه. وإن كان مما يشكل كونه كفرًا كالاعتزال وغيره من مذاهب أهل الأهواء فإن فيه اختلافًا. فقيل لا تجزئ الصلاة خلفه. قال مالك: من صلى الجمعة وراء قدري أعادها ظهرًا. وقال محمَّد بن عبد الحكم فيمن صلى خلف البدعي يعيد أبدًا إلا أن تكون الجمعة، لكونها فرضًا على الأعيان. وقال أصبغ وابن حبيب ببطلان الصلاة خلف البدعي وإنها تعاد أبدًا. إلا أن ابن حبيب اشترط أن لا يكون واليًا، فإن كان واليًا فالصلاة وراءه جائزة. وإن أعاد في الوقت فحسن. وقال ابن القاسم يعيد في الوقت. وقال سحنون لا يعيد في وقت ولا غيره. وقد حكاه عن جماعة من أصحاب مالك. وسبب هذا الاختلاف أن الصلاة خلف الكافر لا تصح، وتصح خلف المؤمن العدل. فمن قال إن الله سبحانه ليس بعالم فقد كفر والكافر لا يصلى خلفه. ومن قال إن الله سبحانه عالم ولكن لا علم له وإنما هو عالم بنفسه كما تقول المعتزلة فقد اختلف أئمة الأصول في تكفيره. فمنهم من كفره لأنه رأى أن اعتقاد نفي علم البارئ تعالى يمنع من اعتقاد كونه عالمًا، ونافي العلم عنه ناف لكونه عالمًا. ومنهم من رأى أن نافي العلم لم يصرح بنفي كونه عالمًا بل يكفر من أنكر كونه عالمًا فلا يضاف إليه مذهب هو يكفره ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب فرعية.

ويبطله، وان كان يلزمه القول به. هذا هو سبب الاختلاف في تكفيرهم. والاختلاف في تكفيرهم هو سبب الاختلاف في إجزاء الصلاة خلفهم. والقول في تكفيرهم، أو تفسيقهم بما قالوه دون (¬1) إضافة الكفر إليهم من أغمض مسائل الأصول. وقد عد المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب على عظم تبحره في الأصول من الدقائق. ولا يمكننا بسط القول فيها ها هنا. وقد صرح مالك بالتكفير، فروي عنه فيمن يقول بخلق القرآن أنه قال: هو كافر فاقتلوه. وقد سئل عن تزويج القدري: أنه قال: لا يزوج. قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} (¬2). وروي عنه خلاف هذا هذا أنه قال فيمن قال بخلق القرآن يوجع ضربًا ويحبس حتى يتوب. فأنت ترى اضطراب قوله رحمه الله في هذه المسألة وهو إمام الفقهاء كما اضطرب فيها رأي القاضي أبي بكر وهو إمام المتكلمين. وهذا يشعرك بما قلناه من إشكالها. وقد نقلنا عن ابن حبيب ها هنا أنه استثنى من أهل البدع الولاة كما نقلناه عنه أنه استثناهم (¬3) في إمامة فاسق الجوارح ولا معنى عندي لاستثناء الولاة من أهل الباع إن كان يقول بتكفيرهم وهو ظاهر قوله بالإعادة أبدًا لأن الكافر لا تجزئ الصلاة وراءه وإن كان واليًا. وإن عول في استثنائهم في فاسق الجوارح على صلاة أنس وابن عمر خلف الحجاج فإنه يحتمل أن يكونا رضي الله عنهما خافا منه إن تأخرا عن الصلاة خلفه فصليا خلفه تقية وأعادا. وإن كانت المخالفة في مسائل فروعية (¬4) ظنية وما طريقه الاجتهاد فقد تقدم كلامنا على هذا لما ذكرنا حكم اختلاف المجتهدين في القبلة وأنهم لا يؤمهم من خالفهم في الاجتهاد في جهة (¬5) القبلة وقد ذكرنا قول أشهب فيمن صلى خلف من لا يتوضأ من القُبلة أنه يعيدى أبداً ولو صلى خلف من لا يتوضأ من مس الذكر لم يكن عليه إعادة. وإن أبا الحسن اللخمي ألزم على هذا منع صلاة المالكي خلف الشافعي والشافعي خلف المالكي. وذكرنا أن هذا الذي ¬

_ (¬1) دون كون إضافة -و-. (¬2) سورة البقرة، الآية: 221. (¬3) إنهم استثناءهم -و-. (¬4) هكذا في جميع النسخ. (¬5) طلب -و-.

ألزمه لا يلزم (¬1) وبسطنا القول في إفساد هذا الالتزام. واعتذرنا عما وقع لأشهب وسحنون في هذا فلا معنى لإعادته. والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: لما كان للأمراء حرمة على الرعايا، وجب أن تكون الإمارة مرتبة يستحق بها المتقدم في الصلاة. وفي الحديث الذي قدمناه: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه (¬2). وكذلك صاحب الدار أولى بالإمامة وإن كان عبدًا. فرأى أن حق ملك المحل يفي بنقص العبودية. ويوفي (¬3) عليه. وإذا كان المنزل لامرأة فهي وإن كانت ليست من جنس من يؤم فإن حقها لا يبطل، ولكنها تستخلف من يؤم بهم لأنها إنما منعت من الإمامة لا من الاستخلاف. ويستحب لها أن تستخلف أحق القوم بالإمامة. وكذلك الأب أولى من ابنه بالإمامة، والعم أولى من ابن أخيه قال مالك وإن كان العم أصغر فإن العم أحق إلا أن يأذن الأب أو العم فيجوز له أن يؤمهما (¬4). قال سحنون وذلك إذا كان العم في العلم والفضل مثل ابن الأخ. وألزم بعض أشياخي سحنون أن *يشترط في كون الأب أحق أن يكون مساويًا لابنه في العلم والفضل كما اشترط ذلك في العم. وقد لا يلزم ذلك لكون* (¬5) الأب آكد حرمة وأوجب برًا. والعم إنما يشبه بالأب فلهذا استحق الحرمة على ابن أخيه (¬6) بالشيء أخفض منه مرتبة وقد كنا ذكرنا في تعديد النقائص ما تسرع إليه الألسنة كولد الزنا فإنه مما تسرع الألسنة إلى الطعن فيه. وقد اختلف فيه فكره مالك أن يكون إمامًا راتبًا. وقال ابن دينار لا تكره إمامته إذا كان في نفسه أهلًا لذلك. وإلى هذا ذهب ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم والثوري والأوزاعي. ¬

_ (¬1) لا يلزمه-و-. (¬2) جزء من حديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. نصب الراية ج 2 ص 24. (¬3) ويرى -و-. (¬4) إن يؤمهما = ساقط -و-. (¬5) ما بين النجمين ممحو -و-. (¬6) كلمة ممحوة في -و- ومختلطة في -ق- لم نهتد لتبينها.

والجواب عن السؤال السادس عشر: أن بقال: من صلى منفردًا فليس له نقل صلاته وتحويلها إلى الجماعة. وبه قال أبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما ما قلناه، والثاني: له أن ينقل صلاته من الانفراد إلى الجماعة. واحتجوا على هذا بحديث أبي بكر رضوان الله عليه لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة وأبو بكر يصلي فخرج أبو بكر من الإمامة فصار مأمومًا. والإمام كالمنفرد فقد نقل أبو بكر صلاته عما هو في معنى المنفرد إلى حكم الجماعة. وقد قدمنا نحن اضطراب الرواة في هذا الحديث واختلافهم فيه وأن بعضهم زعم أن أبا بكر لم يخرج عن الإمامة. فإذا قلنا بهذه الرواية لم يكن لهم في هذا الحديث تعلق. ولو سلمنا أن الإِمام في حكم المنفرد فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لامرىء ما نوى" (¬1). والنية معتبرة في مبدأ العبادة والمنفرد ابتدأ الصلاة بنية الانفراد فلا يكون له تحويلها، وأما المأموم فلا يجوز له نقل صلاته من الجماعة إلى الانفراد. وبه قال أبو حنيفة، وأجاز ذلك الشافعية على اختلاف عندهم في جوازه، إذا فعل ذلك اختيارًا بغير عذر. ودليلنا قوله عليه السلام: إنما جعل الإِمام ليؤتم به (¬2). وتحذيره من رفع الرأس قبله. وتهديده أن يبدل الله رأسه رأس حمار على ما وقع في الحديث (¬3). وهذا يقتضي منع الخروج من الإمامة. وقد اتفق على أن سهو الإِمام يلزم المأموم وإن لم يسه المأموم في نفسه. فلو كان له أن يخرج من إمامته لم يلزمه حكمه ولا سهوه. واحتجت الشافعية بأن معاذًا لما طول وخرج رجل من صلاته لأجل التطويل ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك عليه لما أعلمه. وأجيب عن هذا بأنه لم يذكر في الحديث أنه خرج منها وبنى عليها منفردًا، ويحتمل أن يكون قطعها غالطًا في قطعها. وإذا احتمل ذلك سقط التعلق به. واحتجوا أيضًا بصلاة الخوف وأن الطائفة الأولى خرجت من الإمامة وأتمت لنفسها. وأجيبوا عن هذا بان صلاة الخوف شرع فيها هذا الفعل للعذر وصار الخروج من الإمامة فيها مشروعًا وما سواها من الصلوات لا يمكن أن ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه أحمد. بلوغ الإماني ج 5 ص 277.

يقال إن الخروج من الإمامة مشروع والعذر له مدخل في التحويل. ألا ترى أن من كان في فرض لم يجز له أن يحوله نفلًا. ولو ابتدأ فريضة يظنها واجبة عليه ثم ذكر أنه صلاها لتحولت نافلة. وقد قال ابن القصار يحتمل على قول مالك في الإِمام يحدث ولم يستخلف وأتم من خلفه وحدانًا أن صلاتهم تجزيهم أن يجوز للمأموم أن يخرج من صلاة الإِمام. ويحتمل أن يفرق بين الأمرين أن هؤلاء لم يخرجوا من حكم الإِمام إلا لعذر. وهذا الذي أشار إليه ابن القصار من ترديد القول في تخريج مذهب الشافعية من المسألة التي ذكرها ليس من الإشكال بحيث يجب (¬1) ترديد القول فيه؛ لأن الإِمام إذا أحدث فقد بطلت إمامته. وإذا (¬2) بطلت إمامته لم يبق إلا إلزامهم استيناف إمام آخر لم يلتزموه حين شروعهم في الصلاة. ومخرج نفسه من إمامة من لم تبطل إمامته لا يصلح لأنه حلٌّ لما عقد وإبطال لما التزم. فلهذا يجب ألا يردد القول في هذه المسألة. والجواب عن السؤال السابع عشر: أن يقال: قد قدمنا حكم استخلاف الإِمام إذا أحدث وذكرنا ما في ذلك من الخلاف وسنذكر حكم استخلافه إذا ذكر صلاة نسيها. ولو أنه أحصر عن القراءة فهذا مما اختلف الناس فيه. فذكر ابن سحنون فيمن أحصر عن القراءة فعلم أنه لا يقدر على القراءة في بقية الصلاة أنه يستخلف ويصلي مامومًا خلف النائب عنه. ووافقنا أبو حنيفة على أنه يستخلف. وخالفه صاحباه وقالا تبطل صلاته وصلاة من خلفه. ورأيا أنه إنما ضمن وتحمل صلاة بقراءة، فإذا عجز عما ضمنه وتحمله بطلت صلاته وصلاة من اقتدى به. ولنا نحن القياس على الحديث. وقد تأخر أبو بكر رضي الله عنه وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور وهو مما نجعله أصلًا في مسألتنا. ولو أن الإِمام إذا أحصر عن قراءة بعض السورة التي مع أم القرآن لم يكن له عندي أن يستخلف لأن صلاته تصح مع تركه فعل ما عجز عنه. وقد قال أصحابنا فيمن لقن فلم يتلقن أنه بالخيار بين أن يركع أو يشرع في سورة أخرى. ¬

_ (¬1) يجب = ساقطة -و-. (¬2) ومن -ق-.

فإذا كان للأمام أن يستخلف فليس ذلك بواجب عليه لأنه إنما التزم أن يقتدي به ما دام الاقتداء به ممكنًا. فإذا تعذر ذلك فليس عليه أن يأتي بعوض منه. لكن لما كان المأمون ممنوعين من الكلام كان من حسن النظر لهم أن يقيم لهم من يصلي بهم. فإن أقام لهم مصليًا بهم فلا يلزم المأمومين أن يأتموا به لأنهم إنما التزموا الاقتداء بالأول فلا يلزمهم الاقتداء بمن أقامه الأول. وقد قال سحنون إذا استخلف الإِمام *رجلًا فلم يتقدم حتى تقدم غيره وصلىِ المستخلف وراءه* (¬1) فصلاتهم تامة. وهذه إشارة لما قلناه من أنهم لا يلزمهم الاقتداء بمن أقامه الإِمام لهم. وإذا استخلف الإِمام ثم عزل خليفته لما عاد إلى حال الإمامة، فيه قولان. قال في العتبية في إمام أحدث فاستخلف ثم توضأ وأخرج المستخلف وأتم بهم أن ذلك لا ينبغي. فإذا فعل فينبغي إذا تمت الصلاة أن يشير إليهم أن يثبتوا حتى يقضي لنفسه. وقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يصلي بالناس فتاخر وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقال يبيح بن عمر لا يجوز هذا لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومال بعض أشياخي إلى الأخذ بحديث أبي بكر اعتمادًا منه على الرواية التي خرجها أصحاب الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس وأبو بكر إلى جنبه يسمع الناس تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وهذا عند موته فلا ناسخ له. وقد كنا نحن قدمنا اختلاف الرواية (¬4) فيمن كان الإِمام، لما تكلمنا على إمامة الجالس بالقيّام. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أن ما وقع في الحديث من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يقاس عليه غيره. ويؤمر الإِمام إذا أحدث أن يستخلف قبل أن يعمل بهم عملًا وهو محدث. فلو أحدث وهو راكع لاستخلف من يرفع بهم لئلا يقتدوا به إذا رفع فيرفعوا. وقيل يرفع رأسه من غير تكبير. ولو أن القوم اغتروا به فرفعوا برفعه لما أخذ هذا القول (¬5): فقد قال بعض المتأخرين لا تفسد صلاتهم بخلاف الإِمام إذا سلم عقيب حدثه فسلموا بسلامه على القول بان الصلاة تفسد ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو -و-. (¬2) مسلم عن سهل بن سعد الساعدي. إكمال الأكمال ج 2 ص 176 - 177. (¬3) رواه مسلم ج 2 ص 170 - 175 وأبو داود والنسائي وابن ماجة بلوغ الأماني ج 5 ص 285. (¬4) قدمنا الاختلاف -و-. (¬5): هكذا في النسختين.

لأن المسلم يسلم ليتبع وهذا رفع ليستخلف فيكون الرافعون معه كالرافع قبل إمامه غلطًا فيرجعون إلى الركوع ليرفعوا برفع المستخلف ولو رفعوا برفعه ولم يستخلف عليهم أتموا صلاتهم. والجواب عن السؤال الثامن عشر: أن يقال: إذا استخلف بعض المأمومين فمن شرط صحة استخلافه أن يكون أحرم قبل أن يحدث الإِمام ليحصل مع الإِمام في صلاة واحدة قبل الحدث. فإذا أحرم بعد أن أحدث الإِمام فلا يصح استخلافه لأنه لا تعلق بين صلاته وصلاة من استخلفه ويصير المأموم معه بمثابة من أحرم قبل إمامه فتفسد صلاتهم إن اتبعوه. وأما صلاته في نفسه فإنها تفسد إن استخلفه على ركعة أو ثلاث لجلوسه في غير موضع الجلوس. وإن استخلفه على ركعتين فيجري على القولين في ترك قراءة السورة متعمدًا. إلى هذا أشار ابن عبدوس. فإن كان قد أدرك الإحرام معه أو ألفاه راكعًا فعقد الركعة معه بالركوع فإنه يصح استخلافه. وإن كان ألفاه قد رفع رأسه من الركوع فهل يصح استخلافه أم لا؟ في ذلك قولان: أحدهما أنه لا يصح ويؤمر المستخلف باستخلاف غيره فان لم يفعل وائتموا به فصلاتهم باطلة، وقيل صلاتهم صحيحة. وسبب هذا الاختلاف أن المستخلف لا يعتد بالسجود الذي يفعله عند خروج الإِمام لأنه لم يعقد ركوعه. فإنما يفعله بحكم ما لزمه من وجوب الاقتداء بالإمام الأول. والمأمومون يقتدون به فصارت نيتهم فيه مخالفة لنية المستخلف فلا يجزيهم الاقتداء به ولا اتباعه فيما ليس هو في الأصل واجبًا عليه كما لا يجزي المفترض الصلاة خلف المتنفل. ومن قال بالإجزاء رأى أن هذا الاختلاف لا يؤثر لأن هذا المستخلف واجب عليه فعل السجود الذي فعل لو لم يحدث إمامه. فلما أحدث الإِمام واستخلفه فكان الإِمام لم يذهب وكأنهم لما اقتدوا بمستخلفه اقتدوا به. فإذا صح الاستخلاف لصحة ما ذكرناه من هذه الشروط المعتبرة فإن كان موضع المستخلف بعيدًا من الإِمام أكمل بهم الصلاة في موضعه وجاز ها هنا مخالفة الرتبة للضرورة وكون المشي الكثير مفسدًا للصلاة. وإن كان موضعه قريبًا تقدم إلى موضع الإِمام لتحصيل الرتبة إذ لا مانع

يمنع من تحصيلها. ويكون تقدمه إليها على الهيئة (¬1) التي صادفه الاستخلاف عليها. فيتقدم الراكع راكعًا والجالس جالسًا والقائم قائمًا فيكمل فعل الأول. فإن علم حيث انتهى الأول من القراءة قرأ من حيث قطع الأول. وإن ثم يعلم ففي السليمانية أنه يبتدىء قراءة أم القرآن من أولها إذا كانت صلاة سر، وكأنه رأى أن تجويز كون الإِمام لم يقرأ إما لنسيان أو غيره يقتضي ابتداء المستخلف القراءة من أولها. وإذا استخلف الإِمام رجلًا على بقية الصلاة وقد فاته بعضها فهل يستخلف من يسلم بالقوم ثم ينهض للقضاء؟ أو ينهض للقضاء وينتظرونه حتى يسلم بهم؟ في ذلك قولان: المشهور (¬2): إته يشير إليهم كالآمر لهم بالجلوس ثم ينهض للقضاء. فإذا فرغ منه سلم بهم. لأن السلام من بقية صلاة الأول وقد حل محله في الإمامة فيه، فلا يصح خروجه عن ذلك بغير معنى يقتضيه. وانتظار القوم لفراغه من القضاء أخف من الخروج من إمامته. وقيل يستخلف من يسلم بهم؛ لأن السلام من بقية صلاة الأول كما قدمنا. فلا ينبغي له (¬3) أن يقضي قبل فرك الصلاة. وخروج القوم عن الاقتداء به إلى الاقتداء بمن أقامه مقامه أخف من انتظاره. وسبب هذا الاختلاف ما أشرنا إليه من أن هذا المصلي تدفعه الضرورة إلى الخروج عن الأصل على المذهبين جميعًا. فالنظر في أي الخروجين أخف هو مثار الخلاف. ولو ساوى هذا المستخلف طائفة من القوم في ذوات ما فاته فهل يقضون ما فاتهم أفذاذًا في حال قضائه ويسلمون بسلامه أو يؤخرون قضاءهم حتى يسلم المستخلف من صلاته؟ في ذلك قولان: فكان من أمر بالقضاء في حال قضائه يتعلق بأن الطائفة الأولى في صلاة الخوف تصلي قبل فراغ الإِمام على إحدى الروايات المنقولة في صلاة الخوف. ومن أمر بالتأخير إلى فراغ المستخلف يتعلق برواية ابن عمر في صلاة الخوف. فقد تضمنت أن الطائفة الأولى تؤخر الإكمال، حتى يفرغ الإِمام. ¬

_ (¬1) الحالة -ق-. (¬2) الجمهور يرون -ق-. (¬3) له = ساقطة -ق-.

ولو أن هذه الطائفة القياساوت المستخلف في الفوات ائتمت به فيما تساووا في فواته لكان في صحة صلاة المؤتمين به قولان: أحدهما أن صلاتهم بإطلة والآخر أن صلاتهم صحيحة. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أن القول بإبطال الصلاة يحتمل وجهين أحدهما: إن المؤتمين به لزمهم حكم الأول. ومن حكم الإِمام الأول أن لا يصلي تلك الصلاة مع إمام غيره. فصلاة ما فات وراء المستخلف كصلاته وراء غيره من الأئمة، والحكم فيه أن يقضي فذًا. والوجه الثاني، أن من ائتم بمأموم فعليه القضاء. ويشير إلى صحة هذا التعليل قول ابن المواز: من أَتبع المأموم في القضاء فمن كان معه في الصلاة أو من غيرهم بطلت صلاته. وهذا يقتضي أن المؤتم بمأموم لا تصح صلاته لأن قوله أو من غيرهم يقتضي بطلان صلاة من دخل مؤتمًا معه في ركعة الفوات. وقد قال ابن حبيب في إمام كان يصلي بقوم في السفر فرأى أمامه جماعة تصلي بإمام فجهل فصلى بصلاتهم أجزته صلاته وأعاد من وراءه أبدًا لأنهم لا إمام لهم. وقد اختلف الأشياخ في الاقتداء بمسمع تكبير الإحرام هل تصح الصلاة معه أم لا؟ فمنهم من منع صحتها ومنهم من لم يمنع صحتها لأن في الصحيح. في صلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه فتأخر أبو بكر وقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر إلى جنبه يسمع الناس تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). ومنهم من منع صحتها بشرط أن يكون الإسماع بغير إذن الإِمام. وقد ساوى ابن عبد الحكم في كتاب ابن المواز بين من ابتدأ الصلاة بإمام فأتمها فذًا أو ابتدأها فذًا فاتمها بإمام أو قضى ما وجب عليه فذًا مؤتمًا. في أن الصلاة تعاد في هذا كله. وإن كان قد قال (¬2) في المدونة في إمام أحدث ولم يستخلف فصلى القوم وحدانًا إن صلاتهم تجزيهم. وحمل بعض أشياخي مطلق قول ابن عبد الحكم الذي حكيناه على أنها لا تجزيهم. وقد كنا قدمنا الكلام على نقل صلاة الجماعة إلى الانفراد ونقل صلاة الانفراد إلى الجماِعة، وذكرنا اختلاف الناس في ذلك وحجة كل فريق وما ذكرناه عن ابن حبيب وعن ابن عبد الحكم يجب أن ينظر فيه بعد اعتبار هذا الذي ذكرنا أنا قدمناه. وما فعله ¬

_ (¬1) رواه مسلم ج 2 ص 170 - 175. وأبو داود والنسائي وابن ماجة. بلوغ الأمافي ج 5 ص 285. (¬2) مما قال -ق-.

المسبوق من القضاء وللإمام حكم عليه (¬1) فإنه لا يعتد به وإن كان جاهلًا. لأن الإِمام عليه حكم. كمن فاتته ركعة. فلما سلم إمامه قام لقضائها. فأخبره الإِمام أنه قد كان أسقط من الركعة التي فاتت هذا معه سجدة، فإنه لا يعتد بقراءته بأم القرآن لأن الإِمام من حقه أن يبني هذه الركعة على صلاته. فكأن المأموم قضى والإمام من يفرغ من صلاته. وإذا لم يعتد بها كان كالتارك لها. فإن كان في صلاة الصبح ولم يشعر حتى فرغ من صلاته أعادها وإن كان فيما سواها من الصلوات لم تبطل صلاته على القول بأن ترك قراءة أم القرآن في أقل الصلاة لا يبطلها ويسجد قبل السلام. وكذلك يعتبر في ركوعه فإن كان ركع ورفع في زمن قريب حكم الإِمام أن يبني فيه، فإنه لا يعتد بركوعه لأنه فعله أيضًا وحكم الإِمام باق عليه. وهذا الذي ذكرناه من اعتبار حكم القرب المجيز للإمام البناء، إنما نعتبره بشرط أن لا يكون الإِمام قطع صلاته بتعمد كلام أو سلام. وإذا كان ركوعه بعد طول قيام لا يبني الإِمام في مثله فإنه يعتد بالركعة ولا يعتد بقراءة أم القرآن على ما فصلناه. وإذا كان هذا فعل فعلًا لا يعتد به فإنه يلغيه كأنه لم يفعله. وإذا اعتد بصلاته بعد تصحيحها فإنه يقدر كالظان أن إمامه سلم فقام ليقضي فسلم الإِمام وهو قائم، فحكم سجود هذا قد تقدم الكلام فيه، والاختلاف (¬2) فيه. ولو أن هذا المسبوق بركعة الناسي إمامه سجدتها، استخلفه إمامه فأكمل بالقوم ثم قضى الركعة، فإنه يعتد بها وإن ركعها بالقرب لأنه كالمستخلف عليها ويسجد قبل السلام ويسجد القوم معه. ثم يقضي الإِمام بعد سلام المستخلف ركعة فذًا ويصليها الناس أيضًا أفذاذًا قبل سلامهم ويصيرون كقوم غفلوا عن ركعة حتى سلم إمامهم. ويصير المستخلف كأنه لم يفته شيء. ولو علموا بذلك قبل أن يركعها وصلوها معه لأجزأتهم، وكذلك الإِمام لو أدركه فيها لاتبعه. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومقامات المأموم مع الإِمام أربعة: أحدها عن يمين الإِمام وذلك للرجل وحده. والثاني خلفه وذلك للرجلين فأكثر ¬

_ (¬1) والإمام عليه حكم -و-. (¬2) وذكر الاختلاف -ق-.

وللرجل والصبي العاقل الذي (¬1) يثبت، والمرأة وحدها وجماعة النساء إذا لم يكن معهن رجل. والثالث صفوف خلفه لا صف واحد وذلك للرجلين فأكثر ومعهما (¬2) امرأة أو نساء. فإن الرجال يقومون صفُ ا (¬3) خلف الإِمام والنساء خلفهم. والرابع إلى جنبه وخلفه وذلك للرجل الواحد والمرأة وحدها (¬4) أو جماعة نساء فإن الرجل يكون عن يمين الإِمام والنساء خلفه. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن الواحد يقف عن يمين الإِمام؟. 2 - وما الدليل على أن الإثنين يقفان خلفه؟. 3 - وما الدليل على أن أحدهما إن كانت امرأة قامت خلفه؟. 4 - وما حكم المرأة إذا صلت إلى جنب الإِمام؟. 5 - وما حكم المأموم إذا صلى أمام إمامه؟. 6 - وما حكمه إن صلى وراء الصفوف؟. 7 - وما حكمه إن كان بينه وبين الإِمام حائل يمنع المشاهدة؟. 8 - وما حكمه إن كان بينه وبين الإِمام طريق أو نهر؟. 9 - وما حكم الإِمام إذا كان مكانه أرفع من المأموم؟. 10 - وما حكم المشروع في هيئة الصفوف؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: مذهبنا أن الواحد يقف عن يمين إمامه خلافًا لابن المسيب في قولة يقف عن يساره. وللنخعي في قوله: يقف وراءه. فإن جاء أحد وقف معه، فإن ركع الإِمام ولم يجيء أحد تقدم فوقف عن يمينه. ودليلنا حديث ابن عباس وقد ذكر فيه أنه قام عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله ¬

_ (¬1) الذي = ساقطة -الغاني-. (¬2) وإن كان معها امرأة -الغاني-. (¬3) صفًا واحدًا -الغاني-. (¬4) وحدها = ساقطة -غ-. الغاني-.

النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يمينه (¬1). وأما ابن المسيب فإنه يتعلق يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يسار أبي بكر في الصلاة التي كانت في مرضه - صلى الله عليه وسلم - فإنا قد قدمنا اختلاف الرواة في كون أبي بكر رضي الله عنه في تلك الصلاة إمامًا على أن تلك القصة لو ثبت كون أبي بكر إمامًا فيها لكان مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب أبي بكر من خصائصه التي لا تتعدى إلى غيره فلا تكون حجة لما قاله ابن المسيب. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: موقف الاثنين خلف إمامهما. وبه قال عمر وابنه وعلي رضي الله عنهم وذهب ابن مسعود إلى أن أحدهما يقف عن يمينه والآخر عن شماله ولنا أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى برجلين فأقامهما خلفه (¬2). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا كان مع الإِمام رجل وامرأة قام الرجل عن يمينه والمرأة خلفه. وقال الحسن يصلي بعضهم خلف بعض ولنا ما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله عن يمينه والمرأة أسفل منه (¬3). والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا قامت المرأة إلى جانب إمامها وخالفت الترتيب المشروع لم تبطل صلاتها ولا صلاة إمامها. وقال أبو حنيفة تنعقد صلاتها ثم تبطل صلاة الإِمام، فإذا بطلت صلاة الإِمام بطلت صلاتها. ووافقنا الشافعي على صحة صلاة الإِمام خاصة دون المرأة. ودليلنا أن الاصطفاف ليس بفرض فالإخلال به لا يفسد الصلاة. وأبو حنيفة رأى أن الرتبة (¬4) في المقام في هذه المسألة مفروضة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أخروهن حيث أخرهن ¬

_ (¬1) متفق عليه. الهداية ج 2 ص 202. (¬2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قمت عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي فأدارني ثم أقامني عن يمينه ثم جاء جابر بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام على يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بأيدينا جميعًا فدفعنا حتى قمنا خلفه. هذا لفظ مسلم. الهداية ج 3 ص 205. (¬3) لفظ مسلم وأقام المرأة خلفنا. شرح النووي ج 5 ص 164. (¬4) الترتيب -و-.

الله" (¬1). ولا مكان يجب تأخيرهن عنه إلا مكان الصلاة. ولأن المرأة إنما لم تؤم الرجال لأن تأخيرها واجب. والمتأخر لا يصح أن يكون إمامًا. ولم تمنع الإمامة للنقص لأن العبد يؤم وهو منقوص بالرق. وقد نوزعوا في هذا التعليل بأن الجمعة لا تنعقد بهن وإن كن متاخرات. وإنما ذلك لأنهن لسن بأهل لانعقاد الجماعة لنقصهن. فكذلك إنما لم يكن أئمة لنقصهن. وقد قال بعض أصحاب الشافعي في الرد على أبي حنيفة أن المرأة إذا وقفت في غير الموقف المشروع، فمقتضى ذلك ألا تنعقد صلاتها كما لو تقدم متقدم على إمام في موقفه فإنه لا تنعقد صلاته. فإذا كانت المرأة لا تنعقد صلاتها لم تبطل صلاة الإِمام. وهذا الذي قاله في بطلان صلاة المأموم بمخالفة الموقف هنا نحن نتكلم عليه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا وقف المأموم بين يدي إمامه لم تبطل صلاته عندنا خلافًا للشافعي في أحد قوليه. ودليلنا أن مخالفة الرتبة لا تفسد الصلاة كما لو وقف عن يسار الإِمام فإن صلاته لا تبطل. لأنه - صلى الله عليه وسلم - أدار ابن عباس ولم يأمره بالابتداء. وفرقت الشافعية بين مخالفة الموقف المختار بالتقدم أو الكون على اليسار. لأن اليسار موقف لبعض المأمومين في حال، والتقدم ليس بموقف لأحد. وهذا غير مستقل لأنا وإن سلمنا أن اليسار موقف لبعض المأمومين فإنه ليس بموقف لمن تكلمنا عليه وهو العادل إليه عن اليمين اختيارًا، وإنما المعتمد على ما قلنا في أن ترتيب الموقف ليس بشرط في صحة الصلاة ولا الإخلال به إخلال بأحد أركانها. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: صلاة المنفرد خلف الصف مع وجود الفرج بين يديه يكره عندنا ويقع بها الإجزاء. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وقال ابن حنبل إن انضاف إليه آخر قبل الركوع صحت صلاته وإن ركع وحده بطلت صلاته. ثم إذا انضاف إليه آخر كان كالفذ أيضًا. وقال النخعي والحكم والحسن بن صالح وإسحاق وابن المنذر تبطل صلاته. ونقل بعضهم ¬

_ (¬1) ليس بمرفوع وإنما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن مسعود من قوله. الهداية ج 3 ص 195.

عن ابن حنبل هذا المذهب مطلقًا. وقال ابن وهب في المجموعة إذا خرج أحد عن الصف بطلت صلاته ودليلنا أن أبا بكرة رضي الله عنه جاء والشعبي - صلى الله عليه وسلم - راكع فركع دون الصف ومشى إلى الصف وهو راكع. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: "أيكم الذي ركع دون الصف ومشى إلى الصف وهو راكع. فقال أبو بكرة أنا. فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد. ولم يأمره بالإعادة" (¬1). فإن قيل قوله لا تعد نهي، وركوب ما نهي عنه يبطل الصلاة. قيل: إنما نهاه عن السعي والإسراع وهو المراد بقوله. ولا تعد. مع أن تركه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالإعادة يبطل قولهم بوجوب الإعادة. وأيضًا فإنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بأنس واليتيم والعجوز من ورائهم (¬2) وحدها ولم تبطل صلاتها. ولأن مخالفة الموقف المختار لا يفسد الصلاة كما قدمناه. ويحتج المخالف بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى فأبصر رجلًا صلى خلف الصفوف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا صلاة لمنفرد خلف الصف (¬3). والجواب عن هذا أن أمره بالإعادة إن ثبت حملناه على الاستحباب. وأشار بعض أصحابنا إلى أنه لا يثبت. وقوله لا صلاة يحمل على نفي الكمال، مع تسليم صحته أيضًا. وإن كان المنفرد يخشى ذوات الركعة إن منع من الركوع دون الصف، فهل يباح له الركوع دون الصف أم لا؟ فلا يخلو من قسمين: أحدهما أن يكون قريبًا والثاني أن يكون بعيدًا. فإن كان قريبًا جاز له ذلك. وروى أشهب عن مالك لا يحرم الداخل حتى يصل إلى الصف. وإطلاق هذه الرواية يقتضي المساواة بين القرب والبعد. واختلف في حد القرب فقيل: قدر ذلك صفان فيباح على هذا أن يمشي فرجتين. وقيل ثلاثة صفوف. وقال إسماعيل يعتبر في ذلك أن يكون بحيث يدرك أن يسجد مع الإِمام في تلك الركعة في الصف. وإذا كان من القرب بحيث يباح له الركوع فإنه يدب ليصل إلى الصف. ومتى يدب؟ عن مالك روايتان: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي والبيهقي. الهداية ج 3 ص 214. (¬2) البخاري ومسلم. نصب الراية ج 2 ص 40. (¬3) رواه أحمد وابن ماجة والطحاوي والبيهقي وابن حزم من حديث علي بن شيبان عن أبيه وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن حزم. الهداية ج 3 ص 212.

إحداهما أنه يدب راكعًا، والثانية إذا رفع رأسه من الركوع. وفي حديث زيد بن ثابت فركع ثم دب (¬1). وهذا لفظ يحتمل هذين المذهبين. وإن كان بعيدًا ففيه (¬2) قولان: أحدهما أنه يباح له الإحرام دون الصف احتياطًا من الفوات. والثاني أنه ينهى عن ذلك حكاه ابن حبيب. ووجهه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه" (¬3). وهذا إذا كان منفردًا أو بمكان إحرامه عدد قليل لا يحلون محل جزء مقصود من الصف. قال مالك في العتبية: من جاء والإمام راكع وعند باب المسجد قوم يصلون فليركع معهم ليدرك الركعة إلا أن يكونوا قلة فليتقدم إلى الفرج أحب إليَّ. ولو كان الإِمام على حال يشك معه المأموم في تحصيل الركعة وإدراكها معه حتى يجوز أن يكون ركوعه بعد رفع الإِمام رأسه فلا ينبغي له أن يدخل معه، فإن فعل وعقد معه الركعة وشك في إدراكها فقال أشهب لا يعتد بها. وقال ابن الماجشون يتمادى على صلاته ويعيد. وقد يحتج لأشهب بالحديث الوارد في الشاك أنه يبني على اليقين. فإذ ابن ي على اليقين وألغى تلك الركعة التي شك في فعلها فكذلك يلغيها إذا شك في إدراكها. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إذا كان بين الإِمام والمأموم حائل يمنع المشاهدة وسماع الصوت حتى لا يجد طريقًا للاقتداء به فلا خفاء بان الائتمام لا يتصور. وإذا كان بينهما حائل يمنع المشاهدة ولا يمنع سماع نطق الإِمام فإن كان مكان المأموم أمام الإِمام فقد مضى كراهته وذكر اختلاف الناس فيه. وإن لم يكن أمام الإِمام ففي المدونة: لا بأس بالصلاة في دور محجورة بصلاة الإِمام في غير الجمعة إذا رأوا عمل الإِمام والناس أو سمعوه. واحتج لذلك بصلاة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرهن بصلاة الإِمام. فظاهر هذا: الجواز مع وجود الحائل إذا سمع صوت الإِمام. وقد اختلف قوله في المدونة في صلاة الرجل في غير الجمعة على ظهر المسجد والإمام في "خله فأجازه مرة لأن أبا هريرة وصالحًا مولى التؤمة صليا على ظهر المسجد والإمام أسفل وكرهه مرة ¬

_ (¬1) رواه البيهقي ولفظه قال: دخل زيد بن ثابت المسجد والإمام راكع فركع دون الصف حتى استوى في الصف. الهداية ج 3 ص 106. (¬2) من هنا اختلطت الأوراق في نسخة -ق- فنظمناها كما يجب وأثبتنا الترقيم حسبما هو موجود بالنسخة. (¬3) أخرجه الطحاوي عن أبي هريرة. شرح معاني الآثارج 1 ص 396.

أخرى. وقال بعض أشياخي بكراهة ذلك إذا لم ير المأموم الإِمام، وإن سمعوه. واعتل بانهم لا يدرون ما يحدث عليه ولكنه تجزئ الصلاة عنده مع هذه الكراهة. وقد كره في المدونة أن يصلي على أبي قبيس وقعَيْقِعان بصلاة الإِمام في المسجد الحرام. وذكر أبو محمَّد عبد الحق عن بعض أصحابنا أن الصلاة تجزيء إن وقعت. وأنكر هذا وقال: لا صلاة لهم واعتل بأن البعد يمنعهم من مراعاة فعل الإِمام وعلم سهوه وظاهر قوله بطلان الصلاة. ووقع في كتاب ابن حبيب في أهل سفينة صلى إمامهم بمن في أعلاها ومن في أسفلها أن صلاة الأسفلين تعاد في الوقت. واعتل له بعض المتأخرين بان ذلك إنما كان كذلك لكون الأسفلين لا يتحصل لهم مراعاة حال الإِمام. وهذا الاضطراب في الإعادة يشير إلى الكراهة التي ذكرها شيخنا. ولكنه استخف ذلك مع الضرورة إذا ضاق الموضع بمن مع الإِمام فكان يكره كون الإِمام في بيت المسجد وآخرون فوقه أو هو فوقه وآخرون في بيته ويستخف مع ضيق الموضع. وأشار إلى أنه يدخله مع الاختيار تفرقة الصفوف مع ما اعتل به من عدم العلم بمراعاة الفعل إذا لم يروه. ومنعت الشافعية الائتمام مع وجود الحائل المانع من المشاهدة. وأجازه أبو حنيفة. واعتلت الشافعية بان حائط المسجد يبنى للفصل بين المسجد وغيره فلا يجوز الائتمام مع وجود الفاصل. وأما إذا كان المأموم بحيث يرى الإِمام ولا يسمع صوته فظاهر ما نقلناه عن المدونة جواز الائتمام لأنه قال لا بأس به إذا رأوا عمل الإِمام أو سمعوه فجعل الرؤية بمجردها كافية. وكره أيضًا ذلك شيخنا واعتل بان صلاة المأموم تكون تخمينًا وتقديرًا. وهذا الذي قاله صحيح. لأن المأموم إذا حصل ساجدًا فلا طريق له إلى العلم برفع الإِمام رأسه إلا الصوت. فإذا لم يسمع الصوت لم يصح منه الاقتداء. ومحمل ما في المدونة عندي على أن المأموم له طريق إلى علم ذلك إما بمشاهدة أفعال المأمومين أو بغير ذلك من الطرق التي يبيح بها فعل الإِمام. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: مذهبنا جواز (¬1) الائتمام وإن كان بين الإِمام والمأموم نهر صغير أو طريق خلافًا لأبي حنيفة وابن حنبل في قولهما إن ذلك يمنع الائتمام. ودليلنا أن أنسًا كان يصلي في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف بصلاة الإِمام ولم ينكر عليه أحد. فإن احتج لأبي حنيفة ¬

_ (¬1) جواز = ساقطة -و-.

بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان بينه وبين الإِمام طريق فليس مع الإِمام" (¬1). فقد أجيب عن هذا بأن هذا الخبر لا يعرف في كتب أهل الحديث. وإن صح حُمِلَ على طريق يمنع الاقتداء. وأشار شيخنا إلى كراهته في هذا الأصل على الجملة. فقال لا بأس أن يصلي أصحاب الأسواق جماعة وإن كانوا على خلاف السنة من تفرقة الصفوف، وفرقت بينهم الطريق. لأن هذه ضرورة. وظاهر هذا كراهة كون الطريق حائلة مع الاختيار. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: مذهبنا منع الإمامة، والإمام أرفع مما عليه المأمومون. فإن فعل ففي (¬2) المدونة تعاد الصلاة أبدًا لأنهم يعبثون إلا أن يكون الارتفاع يسيرًا فتجزيهم الصلاة. وقدر بعض المتأخرين الارتفاع بقدر الشبر وعظم الذراع. إلى هذا نحا الشيخ أبو محمَّد. ودليلنا ما رواه ابن سنجر في كتابه أن حذيفة بن اليمان قدم المدائن فقام يصلي على دكان فجذبه سلمان. فقال: ما أدري أطال العهد أم نسيت؟ أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يصلي الإِمام على شيء أنشز مما عليه أصحابه" (¬3). ومعنى أنشز أرفع. وذكر بعضهم أن هذا ذكره أبو داود أن ابن مسعود جذبه (¬4). فلما فرغ من صلاته قال له ابن مسعود ألم تعلم أنه قد نهى عن ذلك؟ قال بلى، قد ذكرت حين جذبتني. ورواه الشافعي ألم ترني تابعتك. فإن قيل فقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر بالناس. وهذا يعارض حديثكم. قيل قد نبه - صلى الله عليه وسلم - على العلة التي من أجلها فعل ذلك لأنه لما فرغ من صلاته قال إنما فعلت ذلك لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي (¬5). وقد استحبت الشافعية لأجل ¬

_ (¬1) قال النووي هذا حديث باطل لا أصل له وإنما يروى عن عمر رضي الله عنه من رواية ليث بن أبي سليم عن تميم. وليت ضعيف وتميم مجهول. المجموع شرح المهذب ج 4 ص 181. (¬2) فعلى -و-. (¬3) رواه البيهقي عن أبي سعيد الخدرى. الهداية ج 3 ص 201. (¬4) رواه مع أبي داود والحاكم والبيهقي وابن الجارود. الهداية ج 3 ص 200. (¬5) رواه البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة من حديث سهل بن سعد. الهداية ج 3 ص 199.

هذا الحديث إذا أراد تعليم المأمومين أن يصلي على موضع مرتفع ليروه ويتعلموا صلاته. وقال بعض أصحابنا إنما نهى مالك عن صلاة الإِمام مرتفعًا على أصحابه لأن بني أمية فعلوه على وجه الكبر، والجبرية. فرآه من العبث ومما يفسد الصلاة. وذهب سحنون ويحيى بن عمر إلى إجازة الائتمام إذا ضاق وموضع الإِمام على المأمومين. وقال فضل ابن مسلمة: تعليله بأنهم يعبثون يشير إلى قصر المنع على موضع واسع يمكن أن يصلي مع الإِمام فيه غيره. وكذلك أيضًا ذهب بعض الأشياخ إلى صحة الصلاة إذا كان مع الإِمام قوم في مكانه المرتفع. وكأنه رأى أنه لما لم يختص بالارتفاع صحت صلاة الأسفلين. فإن قيل قد قال مالك لا يعجبني أن يصلي الإِمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك. وهذا خلاف لما ذكرتموه عن بعض الأشياخ. قيل: محمله عندي على أنه إنما كره ذلك لكون الأسفلين لا يرونه وقد قدمنا وجه كراهة الائتمام بمن لا يرى. وقد ذكرنا قول ابن حبيب في إمام السفينة يصلي فوقها ومعه قوم وفي أسفلها قوم يصلون معه، إن الأسفلين يعيدون في الوقت. وأشار بعض الأشياخ إلى أن هذا ليس برد لقول من قال بجواز الائتمام بإمام مرتفع وشاركه في الارتفاع قوم لأن ابن حبيب إنما اعتبر في ذلك كون المأمومين لا يمكن لهم مراعاة فعل الإِمام. وقال بعض أشياخي إذا صلى رجل في موضع مرتفع لنفسه فأتى رجل فائتم به فإن صلاتهما تصح. وكأنه رأى أن افتتاحه لنفسه يشعر بعدم قصده العبث والكبر. وإن كان قد قيل لبعض الأشياخ لِمَ لم يمنع كون الإِمام تحت المأمومين لعلوهم عليه؟ وهلا كان هذا من العبث أيضًا؟ فقال حال الإمامة تشرف حال الارتفاع فلا يظن بهم قصد العبث. وأشار إلى أنهم لو قصدوا العبث لأعادوا. وقال وأما علو الإِمام عليهم فلا يراعى فيه القصد لأنه فعل قديمًا كبرًا وتجبرًا فتحمى الذريعة فيه ويجري المقاصد وغير المقاصد مجرى واحدًا. وكأن هذا إشارة إلى ما قاله شيخنا وما حكيناه عن سحنون من إجازة ذلك إذا ضاق الموضع بالإمام. وعن بعض الأشياخ في صحة الصلاة إذا شاركه بعض المأمومين في الارتفاع، يشير إلى صحة ما قاله شيخنا

من إجازة ذلك إذا ضاق الموضع. ولعل هذا الذي حكيناه عنه حماية للذريعة، إنما يحميها إذا افتتح الصلاة مرتفعًا على المأموم غير قاصد للكبر. ولا تطرد الحماية فيمن افتتح الصلاة منفردأوحده، ثم طرأ عليه من ائتم به في مكان منخفض منه؛ لأن هذا لم يفتتح الصلاة قاصدًا للإمامة فيؤمر فيها وإن لم يقصد العبث، كما يؤمر به من قصده. وفي كلامه احتمال ولعله لا يخالف شيخنا فيما قال. ويمكن عندي أن تجعل صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر قصدًا للتعليم حجة للجواز إذا ظهرت العلامات الدالة على عدم قصد الكبر على ما أشار إليه سحنون وغيره. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: تسوية الصفوف مأمور بها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة" (¬1). وأكد - صلى الله عليه وسلم - أمرها حتى توعد عليه فقال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (¬2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يحرم: "اعتدلوا وتراصوا" (¬3). وكان أمير المدينة يعاقب من خرج عن الصف. ويبتدىء الصف من خلف الإِمام ثم عن يمينه وعن شماله حتى يكمل. وفي المدونة من دخل المسجد وقد قامت الصفوف قام حيث شاء. إن شاء خلف الإِمام أو عن يمينه أو عن يساره. وتعجب مالك ممن قال يمشي حتى يقف حذو الإِمام. وليس هذا الذي تعجب منه مالك رَدًّا لما اخترناه من كون مبدأ الصف خلف الإِمام لأن هذا الذي (¬4) في المدونة إنما تكلم عن رجل وحده، وقد كملت الصفوف. ونحن أخبرنا بالمختار عندنا في مبدأ الصف الأول. وهل يجوز أن يبتدأ صف قبل إكمال ما قبله؟ ظاهر المذهب على ¬

_ (¬1) البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد. فيض القديرج 4 ص 115 ح 4728. (¬2) رواه مسلم من حديث نعمان بن البشير. شرح النووي ج 4 ص 156. (¬3) رواه أحمد قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول تراصوا وفي رواية أقيموا صفوفكم وتراصوا واعتدلوا فإني أراكم من وراى ظهري. بلوغ الأماني ج 5 ص 309. (¬4) هذا الذي قال في المدونة -و-.

قولين: والمختار (¬1) أن لا يُبْتَدَأَ صف حتى يكمل ما قبله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الآخر" (¬2). وخرج مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؛ ثم قال: يتمون الصف الأول ويتراصون" (¬3). وذكر في المدونة إذا كانت طائفة عن يمين الإِمام أو حذوه في الصف الثاني أو الأول، فلا بأس أن تقف طائفة عن يسار الإِمام في الصف ولا تلصق بالطائفة التي عن يمينه. قال ابن حبيب وهو كصف يبنى عليه. والذي ذكرناه أنه المختار من إكمال الصف قبل الشروع فيما يليه، لورود الحديث بإتمامه والتراصص فيه. مع قول ابن مسعود كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى" (¬4). يشير إلى النهي عن هذا الذي أجازه في المدونة. وأما الصلاة بين الأساطين فإن كان لضرورة من ضيق المسجد فإنه جائز عندنا وما في عن ابن مسعود من كراهة الصلاة بين السواري محمله على كون المسجد متسعًا. وقد كره مالك تقطيع الصفوف. والشأن في الصلاة سد فرج الصفوف. وإذا رأى المأموم فرجة فليتقدم إليها ليسدها وإن خرق إليها الصفوف خرقًا لا يضر. وما أجزناه من اتصال الصفوف بالعمل (¬5) غير مناقض لهذا الذي قلناه من النهي عن تقطيع الصفوف. وقد رأى أبو إسحاق ما حكيناه عن المدونة من إجازة قيام طائفة غير متصلة بطائفة أخرى، يشير إلى إجازة تقطيع الصفوف ولا يؤمر المصلي بسد فرجة في الصف. وأما الصلاة بين الأساطن لغير ضرورة فظاهر المدونة كراهته لتقييده الإجازة بالضرورة. وفي المبسوط إجازته اختيارًا. وقال في الصف بين السواري لم يزل ذلك ¬

_ (¬1) والاختيار -و-. (¬2) أخرجه أحمد عن أنس وأبو داود والنسائي والبيهقي سنده جيد: بلوغ الأماني ج 5 ص 316. (¬3) إكمال الإكمال ج 2 ص 182. (¬4) رواه مسلم من حديث أبي مسعود. شرح النووي ج 4 ص 154. (¬5) بالعمد -ق-.

يعمل به عندنا ولم أسمع أحدًا أنكره ولا كرهه. وقد احتج لكراهته بأنه خارج عن التراصص والمحاذاة بالمناكب التي وردت في الأحاديث التي ذكرناها. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والجماعة في غير الجمعة مندوب إليها متأكدة (¬1) الفضيلة. ويستحب للمنفرد إعادة ما عدا المغرب في الجماعة. قال الشيخ الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - ما حكم صلاة الجماعة؟. 2 - وما معنى اختلاف الأحاديث في مقدار أجرها؟. 3 - وهل يؤمر بالجماعة من صلى في جماعة؟. 4 - وهل يؤمر بها من صلى وحده؟. 5 - وهل يؤمر بالصلاة منفردًا من صلى في جماعة؟. 6 - ومن الجماعة التي يؤمر بإعادة الصلاة معها؟. 7 - ومن الجماعة التي يمنع من صلى فيها على الإعادة في جماعة؟. 8 - وهل يؤم من صلى في جماعة؟. 9 - وهل تعاد الجماعة في مسجد واحد؟. 10 - وما حكم من أقيمت الجماعة عليه وهو في صلاة؟. 11 - وما الذي يعاد من الصلوات في جماعة؟. 12 - وبأي نية تعاد؟. 13 - وهل يجتزىء بالصلاة المعادة إن بطلت الأولى أو تقضى الثانية إن بطلت؟. 14 - وما حكم من حضر عشاؤه وحضرت الجماعة؟. 15 - وما صفة المشي إليها؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في صلاة الجماعة في غير الجمعة. فالظاهر من مذهبنا ومذهب الدهماء من العلماء أنها سنة مؤكدة. ¬

_ (¬1) متأكد -الغاني-.

وذهب بعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي إلى أنها فرض على الكفاية. وذهب عطاء والأوزاعي وأبو ثور وابن حنبل وداود إلى أنها فرض على الأعيان. واختلفوا هل هي شرط في صحة الصلاة؟ فقال بعض أهل الظاهر هي شرط في صحة الصلاة. وقال من سواهم ممن ذكرنا ليست بشرط في الصحة. وسبب هذا الاختلاف اختلاف الظواهر. فلنا على نفي الوجوب، والاعتداد بصلاة المنفرد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا" (¬1). والتفاضل لا يكون إلا بين شيئين اشتركا في معنى وتفاضلا فيه. وهذا يقتضي كون صلاة المنفرد فيها فضل يقصر عن صلاة الجماعة. وإذا ثبت أن فيها فضلًا ثبت إجزاؤها والاعتداد بها. فإن قيل قد يفاضل بين شيئين لا يشتركان في المعنى الذي تفاضلا فيه كما قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (¬2). ولا مقيل لأهل النار. وكما ورد في الخبر: كل ذي مال أحق بماله. ولا حق لغير صاحب (¬3) المال. قيل لا يصح هذا التأويل في هذا الحديث لتحديد إجزاء الفضل بخمسة وعشرين. ولو كانت صلاة المنفرد لا فضل فيها أصلًا لم يكن ذكر خمسة وعشرين أولى من ذكر أقل منها أو أكثر من العدد. لأن فضل صلاة الجماعة يكون حينئذ منفردًا لا فضل يقابله حتى ينظر في زيادته عليه أو نقصانه عنه. وهذا واضح لا خفاء به. وقال محجن: كنت قد صليت في أهلي. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" (¬4). ولم يقل إن كانت صلاتك في أهلك منفردًا فاعدها. وأما المخالف فإنه يحتج بظواهر منها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم ولفظ: صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا. إكمال الإكمال ج 2 ص 320. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 24. (¬3) ذي المال -و-. (¬4) رواه مالك والشافعي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي. الهداية ج 3 ص 179.

قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء فلم يأت أو قال فلم يجب فلا صلاة له، إلا من عذر" (¬1). وأجيب عن هذا بأنه يحتمل أن يكون المراد به صلاة الجمعة. أو يكون المراد به غيرها من الصلوات ويكون المعنى لا صلاة كاملة. ويحتج أيضًا بقوله عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬2). وأجيب عن هذا بأنه محمول على تقدير لا صلاة له كاملة. وقد ذكرنا في مواضع من كتابنا حقيقة اختلاف أهل الأصول في مثل هذا النفي. هل يكون مجملًا أو عمومًا في نفي الذات وأوصافها وتخص الذات بدليل أو عموم في نفي أوصافها خاصة التي ها هنا الإجزاء أو الكمال، أو مترددًا بين الوصفين ها هنا ترددًا متساويًا أو ترددًا مع كون أحدهما أظهر بما يغني عن بسط القول فيه ها هنا. وقد أجيب عن هذا الحديث أيضًا بأنه لم يصرح فيه بذكر الجماعة؛ لأنه لم يقل إلا في المسجد جماعة. وإذا لم يقل ذلك لم يكن فيه دليل. ويحتج أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن أم مكتوم: أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة (¬3). وأجيب عن هذا بأن تقديره لا أجد لك رخصة تنفي عن صلاتك النقص. أو لعله كان في مبدأ الإِسلام وهم محتاجون للتناصر والتكاثر. ويحتج أيضًا بقوله عليه السلام لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلًا يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم. والذي نفس محمَّد بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء (¬4). قالوا وهذا التوعد لا يكون إلا على ترك فرض. وأجيب عن هذا بأنه هَمَّ ولم يفعل (¬5) ما توعد به. والواجب لا يكفي فيه الهم ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا وعن أبي موسى الأشعري موصولًاوموقوفُ اوالوقف أصح. سنن البيهقي ج 3 ص 57. (¬2) رواه البيهقي عن علي موقوفًا ومرفوعًا وعن أبي هريرة موقوفًا. والأصح الوقف. السنن ج 3 ص 57. (¬3) أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم والبيهقي. الهداية ج 3 ص 170 - 171. (¬4) رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. الهداية ج 3 ص 172. (¬5) ولم ينفذ -ق-.

بالعقاب. وهذا ضعيف لأن الندب لا يهم فيه بالعقاب، ولا يخبر عن نفسه بمثل هذا فيه. لكن الجواب عن الحديث بان يقال محمله على المنافقين التاركين الصلاة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - نفاقًا عليه وزهدًا فيه واعتقادًا لتكذيبه. وهذا كفر يحتمل أن يعاقب فاعله على تكذيبه بأشد من هذا. ودليل هذا أنه وصف هؤلاء الرجال المتخلفين عن الصلاة معه بوصف لا يليق بأحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ولا يليق إلا بكافر أو منافق؛ لأنه أشار إلى أن الشيء الحقير الذي لا قدر له آثر عندهم من صلاة العشاء خلفه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مما لا يظن بمسلم أنه يعتقده. مع أن قوله عليه السلام ثم آمر رجلًا يصلي بالناس يشير إلى تخلفه - صلى الله عليه وسلم - عن الجماعة. ولو كانت الجماعة فرضًا على الأعيان لما أخبر أنه يهم بذلك. والمرمتان المذكررتان في هذا الحديث اختلف في تفسيرهما فقال مالك هما السهمان. وقال ابن وضاح هي حديدة كالسماق كانوا يكومون كومًا من تراب ويقومون عنده عن أذرع ويرمونها بها. وقال أبو عبيدة هي اللحم الذي بين ظلفي الشاة. وهذا حرف لا أدري ما هو ولا ما وجهه. ولكن هذا تفسيره. وقد تعلق المخالف أيضًا بآثار رويت عن الصحابة رضي الله عنهم كمثل ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: الجماعة واجبة. واستدل بان الله تعالى يسقطها في الخوف وتلا: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1). وأجيب عن هذا بأن لا دليل في الآية لأنه لم يقل تعالى: أقم لهم الصلاة فيكون أمرًا، قد يتعلق به. وإنما قال فأقمت. وهذا خبر عن أمر يفعله باختياره. وكمثل ما روي عن ابن مسعود أنه قال لو صليتموها في بيوتكم لخالفتم سنة نبيكم. ولو خالفتم سنة نبيكم لضللتم. وأجيب عن هذا بأنه قد صرح بكونها سنة. وهذا الذي قلناه. وأما قوله لضللتم فعلى جهة التغليظ أو محمول على التمالؤ على ترك الجماعة على رأي من قال من أصحابنا أنها من فروض الكفايات لا يسوغ لأهل بلد أن يتمالأوا على تركها كما لا يسوغ لهم التمالؤ على ترك الأذان لأنه إخلال بشعار الإِسلام. وإذا ثبت تأويل جميع ما تعلق به المخالف وسقطت الحجة به، تعلقنا بان الله تعالى أمر بالصلاة أمرًا مطلقًا لم يشترط في ذلك جماعة. فإذا قوبلنا بشيء من أخبار الآحاد، قال ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 102.

أبو حنيفة: هي زيادة على النص والزيادة على النص نسخ. والنسخ لا يكون بأخبار الآحاد. وقال مالك هي متاولة بدليل قوله: صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده (¬1) الحديث. فإن قيل بل حديثكم متاول بدليل أحاديثنا، ومحمول على أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ إذا قطعه عن الجماعة مرض أو عذر. قيل هذا تأويل فيه استكراه وتعسف. ولا يحمل خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخارج مخرج التعميم في كل فذ، المقصود به: تحضيض (¬2) ذوي القدرة على الجماعة وترغيبهم فيها لئلا يزهدوا فيها، على مريض أو من كان في معناه ممن لا يمكنه حضور الجماعة. ولو رغب فيها ما نفع ترغيبه لعجزه عنها. مع أن المرض والعجز نادر شاذ لا يلبق أن يحمل مثل هذا الكلام عليه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الأحاديث الواردة في فضل الجماعة فروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا" (¬3). وروى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (¬4). وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل في جماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفُ ا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء فخرج إلى مسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط بها عنه خطيئة. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه فلا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة" (¬5). وقد أكثر الناس الأجوبة عن اختلاف ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم ومالك عن أبي هريرة. الهداية ج 3 ص 164 - 165. (¬2) تخصيص -ق-. (¬3) رواه مسلم عن أبي هريرة. إكمال الإكمال ج 2 ص 320. (¬4) رواه مالك والبخاري ومسلم ولفظ مسلم: صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعًا وعشرين درجة. إكمال الإكمال ج 2 ص322 والهداية ج 3 ص 164 - 165. (¬5) رواه مسلم ولفظه صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة. الحديث. إكمال الإكمال ج 2 ص 329.

الرواة في مقدار الفضل فقد ذكر أبو هريرة مع الخمسة والعشرين لفظ الجزء. وذكر ابن عمر مع السبع والعشرين لفظ الدرجة فيحمل (¬1) على أن الجزء أكثر من الدرجة بمقدار ما. فإذا قسمت الأجزاء على مقادير الدرج صارت سبعًا وعشرين. وهذا تعسف شديد. وليست الدرجة ولا الجزء تسمية لمقادير محدودة حتى تختلف التسميات لاختلاف المقادير، وإنما المراد ها هنا أن ما حصل في صلاة الفذ من الفضل يضاعف بمثله لمن صلى في جماعة أضعافًا تنتهي إلى عدد ما. وهذا يستحيل معه اختلاف لفظ الدرجة والجزء. وقيل يمكن أن يكون أحد الحديثين أشير به إلى أقوام بأعيانهم، وخوطب به قوم مخصوصون. والآخر خطاب لمن سواهم. فيبنى الحديثان على صنفين كما يبنى العمومان إذا تعارضا. وقيل يمكن أن يبنى الحديثان على نوعين من الصلوات كم ابن ي هؤلاء على نوعين من الناس فيكون التضعيف في بعض الصلوات بخمسة وعشرين (¬2). وفي بعضها بسبع وعشرين. ويعتضد أصحاب هذا التأويل بما في حديث عثمان أن صلاة العتمة في جماعة تعدل قيام نصف ليلة. وصلاة الصبح في جماعة تعدل قيام ليلة (¬3). وقيل يبنى الحديثان على حالين فالسبع والعشرون في الجماعة الكثيرة والإمام الفاضل، والتزام شروط الكم الذي حكم الإمامة والصلاة. والخمسة والعشرون فبما قصر عن ذلك. وقيل الخمسة وعشرون فيمن صلى فذًا في المسجد فتفضله الجماعة في المسجد بخمسة وعشرين جزءًا. والسبع والعشرون فيمن صلى وحده في بيته فتفضله الجماعة في وجه المسجد بسبع وعشرين. وإنما اختلف الفضل عند هؤلاء ما بين المسجد والبيت لأن من صلى في البيت لم يكتب له ثواب السعي للمساجد والخطى إليها. وقد نبه في حديث أبي صالح على معنى فضل صلاة الجماعة. وأشار إلى التعليل ¬

_ (¬1) فيحتمل -ق-. (¬2) خمسًا وعشرين. وفي بعضها سبعًا وعشرين -و-. (¬3) أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي ومسلم ولفظ مسلم بسنده إلى عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صلى العشاء في جماعة فكأنما صلى نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله. إكمال الإكمال ج 2 ص 325. وبلوغ الأماني ج 5 ص 168.

بالخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة. ومن صلى في بيته قد أقصر عن درجة من صلى في المسجد فذًا. لعدم خطوه إلى المساجد. فلهذا زاد التضعيف عليه بسبع وعشرين. وعلى هذا قال هؤلا يمكن أن يحمل حديث أبي صالح على أن صلاة الجماعة في المسجد تفضل صلاة الرجل في بيته وسوقه. فإن صلاحها في بيته أو سوقه جماعة فما ذكر من التضعيف ... (¬1) الصلاة في البيت ما نبه عليه أبو صالح في حديثه جميع هذه التأويلات أشار أصحابنا إلى إمكان حمل الحديثين عليها وعندي أنه قد يستغنى عن ذلك كله إذا قيل بأن حصر هذا الخطاب بعدد لا يدل على نفي ما زاد بل تكون الزيادة لا حكم لها في الخطاب وأن الله تعالى أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يفضل بعدد من الثواب ثم أوحى إليه بأنه زاد فيه إذا كان حديث الخمسة وعشرين سابقًا. وإذا أمكن هذا لم تكن هذه التأويلات مضطرًا إليها ولكن من لم يسلك هذه الطريقة فلا بد أن يركب أحد هذه التأويلات. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: مذهبنا أن من صلى في جماعة فلا يعيد في جماعة أخرى خلافًا لأحمد وإسحاق. والظاهر من مذهب الشافعي أنه يصلي في جماعة أخرى. ومن أصحابه من قال: لا يصلي. ودليلنا قول ابن يسار رأيت ابن عمر جالسًا على البلاط والناس يصلون، فقلت: يا أبا عبد الرحمن مالك لا تصلي؟ فقال: إني قد صليت. إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تعاد الصلاة في يوم مرتين (¬2). وقد استثنى مالك رضي الله عنه الثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة ومسجد إيليا. ووجه استثنائه لهذه الثلاثة المساجد فضل الصلاة فيها على غيرها فتعاد الصلاة فيها طلبًا للفضل. كما يعيد الفذ صلاته في جماعة طلبًا للفضل. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: من صلى وحده فله أن يعيد في جماعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمحجن: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت في ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ. (¬2) رواه أبو داود والنسائي. نيل الأوطار ج 3 ص 188 - 189. وسنن النسائي ج 2 ص 114.

أهلك" (¬1). فإن كان أمره بإعادة الصلاة، وإن كان قد صلاها في أهله جماعة، فأمره بذلك إذا كان قد صلاها في أهله وحده أولى. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لرجلين لم يصليا معه: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم" (¬2). الحديث. ولأن صلاة الجماعة أفضل فكان لمن صلى فذًا طلب الأفضل. فإذا ثبت أن له أن يعيد فلا تلزمه الإعادة وله أن يخرج من المسجد ما لم تقم الصلاة وهو فيه. وكذلك لو رأى الناس يصلون وهو مار فإنه لا تلزمه إعادة الصلاة معهم. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما من صلى في جماعة فلا خفاء في أنه لا يعيدها وحده ولا ينتقل عن الأعلى للأدنى. والإعادة إنما يطلب بها الإكمال فلا يطلب هذا الأنقص. لكن بعض أشياخي قال: يلزم على قول مالك: أن من صلى في جماعة له أن يعيد في المساجد الثلاثة، أن يعيد من صلى في جماعة فذا في هذه المساجد طلبًا لزيادة الفضل على صلاته في جماعة (¬3). وقد قال مالك فيمن أتى المسجد الحرام ومسجد الرسول عليه السلام وقد صلى في أهله وهو يطمع أن يدرك الجماعة في غيره أنه يصليها فيه فذالأولا يخرج للجماعة في غيرها. قال لأن الصلاة فيها فذا أفضل (¬4) من الجماعة في غيرها وهذا يؤكد ما قلناه. ومحمل الحديث في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة على تساوي فضل البقاع المصلى فيها. ولو اختلفت البقاع وتساوت الصلاة في الانفراد أو الجماعة لكانت الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - تفضل على غيرها من البقاع بألف صلاة إلا ما استثني في الحديث الوارد بذلك. ولو اختلفت البقاع والصلاة لكانت الصلاة في مسجده عليه السلام جماعة تفضل الصلاة فذا في غيره من البقاع المشار إليها سبع وعشرين ألفُ ا. ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطإ وأحمد والنسائي والحاكم وسنده جيد. بلوغ الأماني ج 5. ص 339. (¬2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم. وقال الترمذي حسن صحيح. بلوغ الاماني ج 5 ص 338. (¬3) يلزم على قول مالك أن من صلى في جماعة له أن يعيد في المساجد الثلاثة فذًا طلبًا لزيادة الفضل = ق. (¬4) أعظم -ق-.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إذا وجد المصلي فذا رجلين سواه أعاد الصلاة معهما لأنه إنما يعيد طلبًا لفضل الجماعة وأقل الجماعة اثنان. فاما إن وجد رجلًا واحدًا فإنه لا يعيد معه قاله الشيخ أبو الحسن قال الشيخ أبو عمران إلا أن يكون هذا الواحد إمامًا راتبًا فهو كالجماعة. ألا ترى أنه إذا صلى الإِمام الراتب وحده فإنه لا يعيد في جماعة لأنه وحده كالجماعة. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: من صلى معه رجل بالغ فإنه لا يعيد الصلاة. فإن كان غير بالغ فاختلف الأشياخ فيه إذا كان الصبي يعقل الصلاة فقال بعضهم لا يمنع ذلك الإعادة لأن صلاة الصبي نافلة، فلا تمنع الإعادة. وإنما يمنعها الاجتماع على الفرض. وقال بعضهم لا يعيد تلك الصلاة في جماعة وكأنه رأى أن الصبي دخل بنية الفرض فلا يضره سقوطه في الباطن عنه. وقد كنا قدمنا إلزام بعض أشياخنا لأبي مصعب على قوله بصحة الائتمام بالصبي في الفرائض أن يجيز صلاة المفترض خلف المتنفل. وذكرنا أن غيره من الأشياخ تردد في هذا الإلزام لأجل ما أشرنا إليه من كون الصبي معتقدًا للفرض. ولو صلى في بيته مع امرأته أو مع أخته فهل يعيد في جماعة؟ قال الشيخ أبو الحسن اختلف فيه أصحابنا في أيام الشيخ أبي محمَّد، والذي أذهب إليه أنه لا يعيد. لأنه هو والمرأة جماعة. وإلى هذا نحا الشيخ أبو عمران. ولو ائتم رجل بآخر لم يعلم أنه غير متطهر فقد قال أبو إسحاق لا يعيد المأموم في جماعة. واحتج بإمام الجمعة يصلي ناسيًا للطهارة فإن الجمعة تجزي من خلفه وإن كانت الجماعة من شرط الجمعة. فعدم العلم بطهارة الإِمام في مسألتنا لا تمنع من حصول حكم الجماعة. قال وانظر لو كان المأموم هو الذاكر أنه على غير وضوء هل يمنع الإِمام من إعادة الصلاة في جماعة، وهذا الذي تردد فيه أبو إسحاق في المأموم لا يتضح وجه تردده فيه مع إمضائه القول في الإِمام لأن اعتقاد الجماعة قد حصل فيما تردد فيه. وحصل مع هذا الاعتقاد فعل الجماعة ظاهرًا. فوجب أن يمنع من الإعادة في الجماعة كما لو كان الإِمام هو الناسي

لوضوئه. وقد منع في المدونة إمامًا راتبًا صلى وحده لتأخر الناس عنه أن يعيد في جماعة أخرى ولم يحصل له سوى اعتقاد الجمع فكيف بهذا الذي حصل له اعتقاده وفعله. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: من صلى وحده فلا يصح أن يؤتم به لأنه لا يدري أيتهما صلاته، فالمؤتم به يقتدي بمن لا يتحقق أنه في فرض يعتد به. قال بعض أشياخي: ولو نوى رفض الأولى لجرى صحة الائتمام به على القولين في صحة الرفض. فمن صححه صحح الائتمام به لبطلان الأولى. ومن لم يصححه لم يصحح الائتمام به للتردد في فرضه كما قدمنا. ولو نوى بصلاته الثانية النافلة لجرت صلاة من ائتم به على القولين في صحة الائتمام بالصبي. وقد كنا نحن قدمنا الكلام على ائتمام المفترض بالمتنفل. وذكرنا تردد بعض الأشياخ في تخريج ذلك على إمامة الصبي لكون الصبي معتقدًا الفرض. وما قدمناه يغني عن إعادته ها هنا. فإن أم من صلى وحده فإن صلاة المأموم لا تجزيه. قال سحنون يعيد المأموم وإن خرج الوقت ما لم يطل لاختلاف الصحابة في ذلك. قال ابن حبيب يعيد المؤتمون أفذاذًا لأجل صحة صلاتهم عند آخرين فراعى ابن حبيب خلاف هؤلاء القائلين بصحة الصلاة خلفه. والصلاة إذا صحت لا تعاد في جماعة عندنا. ومن لم يراع خلاف ما ذكرناه فيما تقدم من الذاهبين إلى أن الصلاة ولو صحت جازت إعادتها في جماعة وإن صليت في جماعة. وعندي أنه إنما سلك هذا المسلك لأنا إذا راعينا صحة الصلاة على قول غيرنا ترتيبًا على هذا، منع إعادتها في جماعة على مذهبنا. وإجازة ذلك على مذهب غيرنا. ومراعاة مذهبنا أولى من مراعاة مذهب غيرنا. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: مذهبنا أن المسجد إذا كان له إمام راتب فصلى فيه فإنه ينهى عن أن يصلي فيه جماعة بعده، وبه قالت الشافعية. واشترطت إذا لم يكن المسجد على قارعة الطريق، وكان في المحلة (1). وذكر

_ (1) المحجة -و-.

ابن مزين عن أصبغ أنه دخل مع أشهب المسجد وقد صلى إمامه. فأمر أصبغ أن يأتم به. وظاهر هذا أنه يجيز الجمع. وحكاه عنه ابن حارث. وأضاف إليه إجازة الجمع. وقال عطاء والحسن والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق بجواز ذلك. وروي ذلك أيضًا عن أنس وابن مسعود. وروي عن أحمد رواية أخرى أنه قال لا يصلي في المسجد الحرام ولا في مسجد المدينة ويصلي فيما سوى ذلك من المساجد. فأما من أجاز ذلك فإنه يتعلق بعموم قوله عليه السلام: "صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم وحده" (¬1). الحديث. ونحن إن سلمنا العموم في مثل هذا خصصناه بضرب من الاستدلال: وهو ما ذكره القاضي إسماعيل من أنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء وتفرق الكلمة. لأن الإِمام الراتب يقع في نفسه أن المنفردين بجماعة أخرى تأخروا عنه واتخذوا إمامًا لأنفسهم، لاعتقادهم أن الإِمام الراتب ليس بأهل للإمامة، فتقع الشحناء والعداوة بين الأئمة. ويؤدي إلى افتراق الكلمة. وقد علل أيضًا ذلك بتعليل آخر وهو أن في الأذن فيه تطريقًا لأهل البدع لأن يتخذوا لأنفسهم إمامًا يصلون خلفه. وأيضًا فقد كانت الصحابة رضي الله عنهم إذا دخلوا المسجد وقد صلى فيه إمامه صلوا أفذاذًا. وكذلك السفينة عندنا لا يجمع فيها مرتين. لأن ما عللناه في المساجد يوجد مثله في السفن. ولو كان المسجد له إمام راتب في بعض الصلوات خاصة فإنه يمنع الجمع في تلك الصلوات. وأما ما سواها من الصلوات التي ليس فيها إمام راتب فهل يمنع فيها من الجمع إذا تقدمت جماعة أم لا؟ اختلف في ذلك قول مالك. والأظهر (¬2) على أصلنا في إجازة الجمع في المساجد، التي لا إمام لها راتبًا، الجواز. لأن المتقدمين بالجمع لم يكن لإمامهم حق في المتقدم في تلك الصلاة، فيقدر من أتى بعده، كالمنازع له في حقه. إذا ثبت أن المعنى الذي من أجله وقع المنع مراعاة حقوق الأئمة، فإن ذلك يطرد في كل ما فيه حق لهم. فلو حاول قوم أن يجمعوا قبل الإِمام الراتب لنهوا عن ذلك. لأن فيه من أذي أذى قلب الإِمام ما فيه إذا جمعوا بعده، وكذلك لو استخلف الإِمام الراتب لم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) الأشهر -ق-.

يكن له أن يجمع بعد من استخلفه. وقال مالك إن صلى المؤذن فلم يأته أحد. ثم أتى إمام المسجد والناس. فإن كان المؤذن ممن يؤمهم إذا غاب إمامهم فهو كالإمام صلاته وحده كصلاة (¬1) جماعة لا يجوز لهم أن يجمعوا بعده تلك الصلاة. وإن كان ممن لا يصلي إذا غاب الإِمام فهو كرجل من الناس. ويحمل هذا الذي قاله مالك على أن المؤذن صلى في وقت لا يؤمر فيه بانتظار الإِمام. وأما لو صلى في وقت صلاة الإِمام المعتاد أو بعد ذلك بيسير لكان من حق الإِمام أن يعيد تلك الصلاة لأن من أم قبله كالمتعدي في الإمامة لمسابقة الإِمام في الإمامة. وإنما يكون للناس إسقاط حق الإِمام إذا طال تأخره حتى أضر بهم، فإنهم يكون لهم حينذٍ أن يقدموا من يصلي بهم. وعلى طرد التعليل الذي قلناه يمنع الفذ أن يصلي والإمام يصلي، سواء أحب الفذ أن يصلي فرضًا أو نفلًا. ويمنع أيضًا أن يجلس والإمام يصلي وأن يخرج بعد أن تقام الصلاة. وقد قال في المدونة فيمن صلى في جماعة فليخرج من المسجد إذا أقيمت تلك الصلاة. فمنع الجمع قبله أو بعده ومنع الصلاة في حين صلاته أو الجلوس في حال صلاته تأخرًا عن الصلاة معه أو الخروج بعد إقامة الصلاة، كل ذلك معلل بما قلناه من إيذاء قلب الإِمام. ولو تعمد الفذ التأخير عن الإِمام فيأتي المسجد ويصلي وحده لمنع من ذلك لما فيه من إيذاء الإِمام. وإنما يجوز للفذ أن يتقدم بالصلاة أو يتأخر مع عدم القصد لما يؤدي قلب الإِمام. وصحن المسجد حكمه حكم المسجد في جميع ما قدمناه. وما قدمناه من حديث الأسود فيه إشارة إلى بعض ما في هذا الباب. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: من أقيمت عليه الصلاة وهو في صلاة في المسجد فلا تخلو الصلاة التي هو فيها من ثلاثة أحوال (¬2) أحدها أن تكون هي تلك الصلاة التي أقيمت. والثاني أن تكون صلاة نفل. والثالث أن تكون صلاة فرض آخر. ¬

_ (¬1) صلاة -ق-. (¬2) أقسام -ق-

فأما إن كانت تلك الصلاة التي أقيمت فلا تخلو من ثلاثة أقسام إما أن تكون إقيمت عليه الصلاة قبل أن يعقد ركعة أو بعد عقدها أو بعد أن عقد ركعتين. فإن أقيمت عليه ولم يعقد ركعة فظاهر المذهب على قولين: أحدهما وهو المشهور أنه يقطع. وذكر أشهب أنه يتم ركعتين ما لم يخف ذوات الركعة مع الإِمام فيقطع. وعن ابن القاسم في كتاب ابن سحنون فيمن أقيمت عليه الصلاة وهو في المغرب لم يعقد ركعة أنه يكمل ركعتق ويسلم. ولم يشترط ألا تفوته الركعة مع الإِمام وهذا إن أخذ على ظاهره كان قولًا ثالثًا. وإن أقيمت عليه وقد عقد ركعة فلا يخلو: إما أن تكون الصلاة التي هو فيها وأقيمت عليه ما سوى المغرب. أو المغرب فإن كانت ما سوى المغرب فإنه يضيف إليها ثانية. هكذا (¬1) مطلق الروايات. وحملها بعض الأشياخ على أن ذلك إذا لم يخف ذوات ركعة مع الإِمام. واحتج برواية أشهب عن مالك قال: قيل لمالك: فإن علم أن الإِمام سيسبقه ببعض صلاته ويدرك بعضها. قال: لا ينبغي له أن يصلي والإمام يصلي إلا أن يفرغ هو قبل أن يرفع الإِمام رأسه من الركعة الأولى. وإن كانت الصلاة هي المغرب فاختلف قول ابن القاسم. فقال يضيف إليها أخرى كسائر الصلوات. وقال: في المدونة يقطع. ورآها بخلاف غيرها من الصلوات لما كانت المغرب لا تنفل (¬2) قبلها. فلو أمره بإكمال ركعتين لأمرد بالتنفل قبل المغرب. وأشار بعضهم إلى أنه إنما رآها بخلاف غيرها من الصلوات لأجل أن نية الوتر ينافي نية الشفع. فلو شفع الركعة لفعل ما ينافي نية الوتر التي دخل عليها. وتشفيعه ركعة الظهر لا ينافي ما دخل فيه لأنه على نية الشفع دخل. وإن أقيمت عليه وقد صلى ركعتين فلا يخلو أيضًا: إما أن يكون سوى المغرب أو المغرب فإن كانت سوى المغرب فإنه يسلم من ركعتين. وإن كانت ¬

_ (¬1) وهكذا -و-. (¬2) لا يتنفل -ق-.

المغرب فاختلف في ذلك قول ابن القاسم أيضًا. فقال في المجموعة: يسلم من اثنتين كسائر الصلوات وذكر ابن حارث أنها رواية ابن غافق في المدونة. وقال في المشهور من رواية المدونة: يكملها ثلاثًا ويخرج. وأجرى أشهب المغرب مجرى سائر الصلوات فقال إن صلى منها ركعة أضاف إليها ثانية. وإن صلى اثنتين سلم منهما كأحد قولي ابن القاسم. ولو كان هذا الذي ذكرنا أنه عقد ركعتين لم تقم عليه الصلاة حتى عقد الثالثة فإنه يكمل صلاته بالرابعة بنية الفرض ثم يعيدها مع الإِمام على أن ذلك إلى الله تعالى على ما نذكره في إعادة الفذ. وأشار بعض الشيوخ إلى أن محمل ذلك على أنه لم يخف ذوات ركعة مع الإِمام. وأما لو خاف لقطع بسلام. واحتج في هذا بما احتج به فيما قبل من رواية أشهب. وفيه نظر عندي. لأن هذا مأمور بالإكمال بنية الفرض وقد يكون عند الله تعالى هو المحسوب فرضه والقطع فيه مع إكماله بنية الفرض لخوف ذوات ركعة مع الإِمام أثقل منه إذا قطع من ركعة مخافة أن تفوته ركعة مع الإِمام. لأن هذا لم يفسد بقطعه فرضًا. بل فرضه قد فسد. وإنما امتنع من إكمال صورة الفعل. وقد يكون إدراك ركعة مع الإِمام أولى من إكمال صورة الفعل بنية النفل. وسبب الاختلاف فيما اختلف فيه من ذلك: الموازنة بين المنهيات ليعلم أيها أخف فيركب. فقطع العمل أو تغير النية فيه منهي عنه. وصلاتان معًا منهي عنه أيضًا وتحصيل ركعة مع الإِمام مأمور به. فالمواضع التي أمر فيها بالقطع من أمر به رأى أنه أخف من صلاتين معًا. وأخف من فوت ركعة مع الإِمام. والتمادي إنما أمر به من أمر لأنه رآه أخف من قطع الصلاة والتمادي إلى صورة النفل (¬1) تخفيفُ القبح القطع فهذا السر الذي دار عليه جميع ما تقدم في مسائل هذا الباب. وأما إن كانت صلاة نفل ففي المدونة فيمن كان في نافلة ولم يركع حتى أقيمت عليه الصلاة: أنه إن كان ممن يخف عليه الركعتان أن يقرأ فيهما بأم القرآن وحدها ويدرك الإِمام قبل أن يركع فلا يقطع نافلته. فإن قيل لم فرق ¬

_ (¬1) الفعل = ق =.

في المدونة بين من كان في فرض أو نافلة فأقيمت عليه الصلاة قبل أن يعقد ركعة فأمره في النافلة بالإكمال على الشرط الذي ذكرتموه وأمره في الفريضة بالقطع؟ قيل فعل ذلك لثلاث علل: إحداها أنه إذا قطع الفريضة عاد إليها. وإذا قطع النافلة لم يعد إليها. لأنه لم (¬1) يتعمد قطعها. فعوده إلى العبادة يسهل (¬2) قطعها عند سبب يقتضيه. وما لم يعد إليه يثقل القطع فيه. والثانية أن الفريضة لو أمرناه بالتمادي لم يتماد لإكمال صورة الفرض؛ لأن ذلك لا يصح. وإنما يتمادى ليكمل صورة النفل. واقتصاره على صورة النفل بعد أن أحرم على صورة الفرض قطع للفرض (¬3). فلما كان الفرض لا يخلو من قطع استخف قطعه قبل إكمال صورة النفل. والثالثة أنه لما *أمره بإكمال النفل لم يأمره بتغيير النية التي أحرم عليها وإذا أمره بالتمادي في الفرض إلى صورة النفل* (¬4) أمره بتغيير نيته واعتقاد نية النفل بعد أن أحرم على نية الفرض. وتغيير النية يثقل فاستخف القطع لأجله. وأما إن كانت الصلاة التي هو فيها صلاة فرض آخر غير الذي أقيمت عليه كمن كان في الظهر فأقيمت عليه العصر فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: فأجرى ابن القاسم هذه المسألة مجرى ما لو أقيمت عليه الصلاة بنفسها فقال إن كان ركع ركعه أتم ركعتين إلا أن يخاف ذوات ركعة مع الإِمام فليقطع. ومراعاته ها هنا فوت ركعة الإِمام يؤكد تأويل الذي قدمنا ذكره عن بعض الأشياخ. وقال مالك إن كان يطمع أن يفرغ من صلاته ويدرك الصلاة مع الإِمام فعل. وإلا قطع ودخل مع الإِمام ثم استأنف الصلاتين. وحمل بعض المتأخرين هذه الرواية على أنه إنما أذن له في الإكمال ما لم يخف ذوات ركعة. فإن قيل فما الفرق على هذه الرواية ما بين إقامة صلاة أخرى عليه وبين إقامة تلك الصلاة بعينها؟ قيل: قد قال بعض المتأخرين من أصحابنا: يحتمل أنه يساوي مالك بينهما ويرى إذا ¬

_ (¬1) لا -و-. (¬2) لعوده إلى العبادة فيسهل -و-. (¬3) الفرض. (¬4) ما بين النجمين = ساقط - و - ق -.

أقيمت عليه الصلاة التي هو فيها وطمع بإكمالها قبل ركوع الإِمام أكملها وإليه نحا في رواية أشهب. ولا فرق بين أن تقام الصلاة التي هو فيها *أو صلاة أخرى. لأنه إنما أمر بالقطع في الجميع لئلا يقع في صلاتين معًا. وقد يفرق بينهما بأن من أقيمت عليه الصلاة التي هو فيها* (¬1) إذا قطع وصلى مع الإِمام اعتد بصلاته معه، وحصل له فضل الجماعة. والذي اْقيمت عليه صلاة أخرى إذا قطع لم تحصل له الصلاتان جميعًا. أما الأولى فلإبطاله إياها وأما التي مع الإِمام فلأنه صلاها وعليه صلاة. وإذا أمر بالتمادي والإكمال ثم الصلاة بعد ذلك مع الإِمام حصلت له الصلاتان جميعًا فأمر بالتمادي لأن فيه تحصيل (¬2) الصلاتين، وفي القطع إبطالهما فحسن القرق بينهما. وقال محمَّد بن عبد الحكم يتم صلاته التي هو فيها ويخففها. فإن أدرك مع الإِمام شيئًا صلى وإن لم يدرك صلى لنفسه. وإن لم يكن دخل في الصلاة خرج من المسجد فأمره بالإكمال لنفسه كما أمره مالك ولكنه لم يشترط ما اشترطه مالك من مراعاة فوت صلاة الإِمام. وإنما لم يشترط ذلك لأنه رأى أن في قطع صلاة الظهر (¬3) التي هو فيها زيادة في فواتها. ومراعاة ذوات الوقت عنده أولى من مراعاة حق الإِمام. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: مذهب مالك رضي الله عنه إعادة الصلوات كلها سوى المغرب هكذا ذكر عنه مطلقًا. وذكر مالك في العتبية أنه لا يعيد أيضًا العشاء إذا أوتر. وقال المغيرة من أصحابه يعيد الصلوات كلها وبه قال الشافعي. وروي عن ابن عمر وابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهم أنه يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والصبح. وبه قال النخعي والأوزاعي. وقال الحسن وأبو ثور وابن حنبل وبعض أصحاب الشافعي يعيد الصلوات كلها إلا الصبح والعصر، إلا ابن حنبل قال يصليها مع إمام الحي دون غيره. وأما أبو حنيفة فاختلفت النقلة عنه فنقل ابن القصار من أصحابنا عنه مثل مذهب الحسن أنه يستثني الصبح والعصر. ونقل غيره من أصحابنا وأصحاب ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) لأنه فيه يحصل -و-. (¬3) الظهر = ساقطة -و-.

الشافعي قصر جواز الإعادة على الظهر والعصر خاصة. وإذا قلنا بمنع إعادة العشاء إذا أوتر فمتى أعادها أعاد الوتر عند سحنون ولم يعد (¬1) عند يحيى بن عمر. وإذا قلنا بمنع إعادة المغرب فمتى أعادها اختلف قول مالك فيه. فروي عنه ابن القاسم *أنه يضيف إليها ركعة ليشفع صلاته بها. وروي عنه ابن وهب أنه يعيدها ثانية* (¬2). ودليلنا علي إعادة الصلوات كلها حديث محجن لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" (¬3). ولم يفرق فيه بين سائر الصلوات. وقال الأسود شهدت الصبح مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته بمسجد الخيف فلما انصرف رأى رجلين لم يصليا معه. فقال: علي بهما. فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا قد صلينا في رحالنا. فقال لا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة (¬4). فعم سائر الصلوات وخرج الحديث على سبب وهو صلاة الصبح فصار كالنص على إعادتها وردًا على من منعه. فإن قيل في مقابلة هذا العموم عموم آخر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُصَلَّى صلاة واحدة في يوم مرتين". قيل معناه لا تُصَلَّى مرتين على جهة الوجوب بدليل ما قدمناه من حديثنا. وأما المستثنون للصبح والعصر فإنهم يحتجون بقوله - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس (¬5). وجوابهم عن هذا أن المراد ما سوى الصلاة المعادة لأجل الجماعة بدليل حديثنا. وقد ذكرنا أنه خرج على سبب وهو صلاة الصبح. وأما مالك فإنه إنما استثنى المغرب لأنها وتر صلاة النهار فإذا أعادها ¬

_ (¬1) ولم يعده -ق-. (¬2) ما بين النجمين -ممحو بالنسخة -و-. (¬3) أخرجه النسائي. السنن ج 2 ص 112. (¬4) أخرجه أبو داود والترمذي. جامع الأصول ج 5 ص 651. (¬5) البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد. فيض القدير ج 6 ص 428 ح 9893.

صارت شفعًا. ولأنه لا بد أن تكون إحدى صلاتيه نافلة (¬1). والتنفل بثلاث لا يجوز. ولا تكون صلاة الوتر حجة على جواز التنفل بالثلاث لأن الوتر صلاة مسنونة فاتبع في عددها ما سن فيها. وأشار بعض الناس إلى أن ابن عمر إنما أضاف إلى صلاة المغرب صلاة الصبح لأنه رآها صلاة أقرت (¬2) على الفريضة الأولى. فأشبهت صلاة السفر وكان لا يتنفل في السفر إلا من جوف الليل حرصًا على أن يلتزم رخصة التخفيف. وإعادة الصبح كالإخراج لها عما شرع فيها من بقائها على الأصل. وأما منع مالك إعادة العشاء إذا أوتر فإنما ذلك عندي لأنه لا يوتر في ليلة واحدة مرتين، ومن شأن العتمة أن يوتر بعدها. فلو كانت إعادتها مشروعة لأعيدت على حسب ما شرعت أولًا، وذلك يقتضي إعادة الوتر وإعادة الوتر لا تجوز. وأما اختلاف أصحابنا في إعادة الوتر فيحتمل أن يكون مبنيًا على الاختلاف في كيفية نية الإعادة. فمن ذهب إلى الإعادة بنية النفل لم يعد الوتر إذا سلك طريقة من قال: من تنفل بعد وتره فلا يعيد الوتر على ما سنذكره في باب الوتر إن شاء الله تعالى. ومن ذهب إلى الإعادة بنية الفرض أعاد الوتر لأنه لا يدري أي صلاتيه هي الفرض؟ فإذا أمكن أن تكون الثانية هي الفرض ومن شأن الفرض في هذه الصلاة أن يوتر بعده فيؤمر بالإعادة للوتر. وأما اختلاف قول مالك في إعادة صلاة المغرب ثالثة فإنه إنما أمر به في أحد قوليه لأنه يرى أن منع إعادة المغرب لأجل أنها وتر النهار فإذا صلاها ثانية فقد شفعها فيؤمر بإعادتها ثالثة ليزيل ما أفسد من موضوعهلالا سيما إن قيل إن للوتر مدخلًا في النفل بدليل الوتر في صلاة الليل. وإنما أمر في قوله الثاني أن يشفعها بركعة لأنه كانه يرى أن منع الإعادة لأجل أن النافلة مطلقة لم يشرع فيها وتر. فإذا فعل تدارك ذلك بإشفاعه ما لم يفت لا سيما إن قيل إن نية الشفع لا ¬

_ (¬1) إحدى الصلاتين نفلًا -و-. (¬2) إشارة إلى حديث عائشة رضي الله عنها.

تنافي نية الوتر على طريقة من رأى ذلك. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: اختلفت الرواية عن مالك رضي الله عنه في الصلاة المعادة. فروي عنه أن الأولى فرضه، والثانية نفل. وروي عنه أن ذلك إلى الله تعالى يجعل أيتهما شاء فرضه. وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنه. وهذا يقتضي أن يصلي الثانية بنية الفرض. هكذا قال بعض أصحابنا البغداديين، يؤمر المعيد أن ينوي بها فرضًا، وروي عن الشعبي والأوزاعي أنهما قالا أنهما فرضاه، فإن أرادا فرضيه بمعنى التردد بينهما فهو كقولنا هذا. واختلف قول الشافعي أيضًا على حسب ما اختلف عليه قول مالك. وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الثانية نفل. وروي ذلك عن علي رضوان الله عليه والثوري وأحمد وإسحاق. واختلف عن ابن المسيب وعطاء، فروي عنهما أن الأمر في ذلك إلى الله تعالى كأحد قولينا. وروي عنهما أن الثانية فرضه. وقال بعض أشياخي: إذا اتفق مالك وأصحابه على جواز إعادة الصبح والعصر اقتضى ذلك أن الأخيرة (¬1) ليست بنافلة. ولو قيل إنها نافلة للزمهم أن يمنعوا إعادة الصبح والعصر. وأشار بعض الأشياخ أن القولين مبنيان على صحة الرفض. فإن منعناه كانت الأولى فرضه لأنها لا ترفض. وإن جوزناه صح أن يكون فرضه مترددًا. وقد احتج من قال إن الثانية نفل بقوله في الحديث الذي قدمناه قبل هذا فإنها لكم نافلة. وأجيبوا عن هذا بجوابين أحدهما: أن الضمير محتمل على ماذا يعود، على الصلاة الأولى أو الثانية؟ وإن احتمل *أن يكون أراد بقوله: نافلة الصلاة الأولى لم تكن فيه حجة على أن الثانية نفل. والثاني أن النفل -الزيادة- فيحتمل أن يريد أنها* (¬2) زيادة على الواجب الأول. واحتجوا أيضًا بأن الذمة قد برئت بالصلاة الأولى فإذا تيقنا براءتها فلا وجه إلا جزم القول بان الثانية نفل. وأجيبوا عن هذا بأن تأدية الفرض تقع على وجهين: وجه نقص. ووجه كمال. وإن المكلف إذا أوقعها على وجه النقص كان له إعادتها على صفة الكمال بنية الفرض. فيقبل الله منه أي الصلاتين شاء. وقد يمكن أن يقال إن ¬

_ (¬1) الثانية -ق-. (¬2) هو في نسخة -و-.

الذمة موقوفة فإن لم يعد تحققنا براءتها. وإفي أعاد كان الأمر إلى الله تعالى. واحتج من قال بأنه يعيد بنية الفرض أن الإعادة إنما أذن فيها إذا كانت في جماعة، فلو كانت الثانية نفلًا لما شرط في الأذن الجماعة. وأجيب عن هذا أنه إنما شرط ذلك لأن الجماعة سبب هذا النفل، فعلق فعل هذا التنفل عليه. كما علقت السنن بأسبابها. واحتجوا أيضًا بأنها لو كانت نفلًا لم يشترط في الإذن في الإعادة أن يكون صلى الأولى فذالأولجازت الإعادة في جماعة بعد جماعة إلى غير حد. لأن النفل لا يقف على عدد. وهذا أيضًا قد يجاب عنه فيقال سبب هذا النفل الجماعة فإذا حصلت لم يتكرر بتكررها (¬1) لأن ما في الثاني من الفضل نحوٌ مما في الأول فلا معنى للتكرير. والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: إذا صلى فذًا ثم أعاد في جماعة فذكر بعد إعادته أن الأولى كانت على غير طهارة فهل يكتفي بصلاته الثانية أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال: قال ابن القاسم تجزيه الثانية. وقال ابن الماجشون لا تجزيه لأنه صلى الثانية على جهة السنة" على جهة أداء الفريضة (¬2). ومراد ابن عمر في قوله في الصلاتين هما إلى الله أي في التقبل لا في الاعتداد. وقال أشهب إن كان حين دخوله في الثانية ذاكرًا للأولى فلا تجزيه هذه، وإن لم يكن ذاكرًا أجزأته. وهكذا اختلف أيضًا إذا صلى مع الإِمام لفضل الجماعة معتقدًا أنه صلى في بيته ثم ذكر أنه لم يصل فقال ابن القاسم تجزيه. وقال أشهب لا تجزيه. وأما إذا كانت الأولى على طهارة وأحدث في أثناء الثانية فهل عليه قضاؤها أم لا؟ في ذلك أربعة أقوال: روى المصريون عن مالك: ليس عليه أن يعيد الثانية. قال أشهب ولو قصد بصلاته مع الإِمام رفض الأولى لم تلزمه الإعادة. وروي عن مالك أنه يعيدها وبه قال ابن كنانة وسحنون، واختلفا في التعليل. فقال ابن كنانة لأنه لا يدري أيتهما صلاته وقال سحنون لأنها وجبت ¬

_ (¬1) والنفل يتكرر بتكررها -و-. (¬2) الفرض -و-.

عليه بدخوله فيها. وفائدة اختلافهما في التعليل عندي أن الحدث إذا كان عن غلبة فمقتضى قول سحنون أن الإعادة لا تلزم. لأنه علل الإعادة بالتزام المعيد إياها، والنافلة إذا حدث فيها عن غلبة لم يعدها. ومقتضى قول ابن كنانه أنه يعيد لأنه علل الإعادة بما يشير إلى أن الأولى قد ارتفضت. وإذا جاز رفضها وجاز أن تكون الثانية هي الفرض، فالفرض من أفسده عن غلبة قضاه. وقد أشار ابن مسلمة في المبسوط إلى هذا الذي ظهر لي إشارة عن بعد. فقال يعيد الثانية سواء كان حدثه عن غلبة أو عمد. فتنبيهه عن الغلبة إشارة لما خرجته على التعليل. وقال عبد الملك إن أحدث بعد عقد ركعة أعاد الثانية لأنه أدرك صلاة الإِمام. وإن كان قبل أن يعقد ركعة لم تلزمه إعادتها. وحكى هذا المذهب ابن سحنون عن أبيه. وقال مالك في كتاب ابن سحنون إن كان أراد بصلاته مع الإِمام أن يجعلها فرضه والتي صلى وحده نافلة، أو كان أراد أن يكون الأمر إلى الله تعالى في صلاتيه فليعد الثانية. وسبب هذا الاختلاف في إجزاء الثانية عن الأولى الاختلاف في كيفية النية للثانية. فان كانت الثانية صليت بنية النفل فلا شك أنها لا تجزيء عن الأولى إذ لا تجزئ صلاة نفل عن صلاة فرض. وإن صليت بنية الفرض أجزأت الثانية عن الأولى، وإن صليت بنية أن الأمر لله سبحانه أجزأت أيضًا، وفيه نظر عندي. لأن النية للثانية وقع فيها تردد فقد لا تنوب عن نية الجزم. وأشار بعض أشياخي إلى أنه لو ذكر الثانية خاصة على غير طهارة اعتد بالأولى إن صلى الثانية بنية التردد. وإن صلاه ابن ية الفرض جرى اعتداده بالأولى على اختلاف في صحة رفضها. وأما الاختلاف في قضاء الثانية إذا أحدث فيها فإنه يجري أيضًا على اعتبار كيفية النية للثانية، هل نوى بها النافلة أو الفرض، فإن نوى النفل فإنه يلزمه لدخوله فيه على ما أشرنا إليه. وإن نوى الفرض نظر هل ارتفضت الأولى به أم لا، فإن ارتفضت فلا شك في الإعادة لأنه لم تحصل له الأولى ولا الثانية. وإن لم ترتفض الأولى نظر هل تجري الصلاة الثانية مجرى الواجب الأصلي فتقضى وإن أحدث فيها عن غلبة أم لا؟ على هذا يدور الخلاف المتقدم، سوى القول الذي فرق فيه بين أن يعقد ركعة أو لا يعقدها، فإنه لا وجه له سوى ما أشار إليه

من التعليل من أنه إنما يدرك صلاة الجماعة بعقد ركعة مع الإِمام. فكانه يرى أنه إنما التزم وقصد فضل الجماعة فلا تلزمه الصلاة إلا بالدخول في ذلك والدخول في ذلك لا يكون إلا بعقد ركعة وهو توجيه ليس بالواضح. وقد وقع في أحد هذه الأقوال الأربعة قول مالك إن كان أراد بصلاته مع الإِمام أن يجعلها فرضه والتي صلى وحده نافلة، أو أراد أن يكون الأمر إلى الله. وهذا إشارة منه إلى صحة كون النية جازمة. وصحة كونها مترددة على ما كنا أشرنا إليه. وهكذا قول مالك في المبسوط فيمن صلى في بيته ثم أتى المسجد فوجد الإِمام جالسًا آخر صلاته فكبر وجلس معه، أنه إن كانت نيته حين دخل مع الإِمام، أن يجعلها فرضًا (¬1) وصلاته في بيته نافلة، فعليه أن يتمها وقد أجزت عنه صلاته في بيته. فأشار ها هنا إلى صحة الدخول بنية الفرض الجازم وجعل عليه الإتمام لأجل الالتزام وإن كان لم يعقد ركعة مع الإِمام. والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: إذا حضر العِشاء والعَشاء فقال ابن حبيب إنما يؤمر بتقدمة الطعام إن كان جائعًا قد اشتهاه حتى يشغله ذلك عن الصلاة. ونحوه قالت الشافعية يبدأ بالصلاة أيضًا إن كانت نفسه لا شوق إلى الطعام، فإن كانت تتوق إليه أكل منه ما يسكن نفسه. وقال الثوري وأحمد وإسحاق يبدأ بالطعام بكل حال، وروي ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما، وقال بذلك داود. ورأي: أنه إن بدأ بالصلاة بطلت صلاته. وقد تعلق من قال يبدأ بالطعام بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء" (¬2). ورأى داود إن مخالفة هذا وركوب النهي في تقدمة الصلاة يفسدها: فحمل ابن حبيب والشافعية على كون النفس تتوق إلى الطعام لأن ذلك يمنع من استيفاء الصلاة والقيام بسائر حقوقها كما نهي الحاقن عن الصلاة لاستعجال الحقنة له عن استيفاء حقوق الصلاة. والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: أجاز مالك الإسراع في ¬

_ (¬1) ظهرًا -و-. (¬2) رواه البخاري ومسلم ولفظ مسلم عن أنس إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعَشاء. إكمال الإكمال ج 2 ص254و 290.

المشي إلى الصلاة إذا أقيمت ما لم يسع (¬1) أو يحث وكره الإسراع الذي يبتهر فيه، وسئل عمن خرج إلى الحرمين فسمع مؤذن المغرب في الحرس فحرك فرسه ليدرك الصلاة فقال لا بأس به، وقالت الشافعية المستحب أن يمشي على سجية نفسه وعليه السكينة، وإن خاف فوت الجماعة. وروي ذلك عن زيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبي ذر. وروي عن ابن عمر أنه أسرع المشي إلى المسجد لما سمع الإقامة، وعن ابن مسعود أنه اشتد إلى الصلاة وقال: أبادر حد الصلاة: يعني التكبيرة الأولى، وكان الأسود بن يزيد يهرول إذا ذهب إلى الصلاة. والدليل على النهي عن السعي المنافي للخشوع والسكينة قوله عليه السلام: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا (¬2). ولأن السعي الشديد يتعبه فيبقى أثره في الصلاة فيمنعه من الخشوع واستيفاء حقوق الصلاة. فصل قضاء الفوائت قال القاض أبو محمَّد رحمه الله: والترتيب في الفوائت واجب بالذكر في الخمس فدون. وهي أولى عند ضيق الوقت من الحاضرة ويقضيها على صفة أدائها. قال الشيخ الأمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على وجوب القضاء على الجملة؟. 2 - وهل يقضي الساهي ما كثر من الصلوات؟. 3 - وهل يقضي العامد ما ترك من الصلوات؟. 4 - وهل يجب ترتيب الفوائت (¬3). ¬

_ (¬1) يسرع -ق-. (¬2) عن أبي هريرة إذا نودي للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. الموطإ ص 66. وسنن البيهقي ج 2 ص 221. (¬3) بعضها على بعض -و-ق.

5 - وهل يجب ترتيبُ الفوائت مع الحاضرة في سعة الوقت؟. 6 - وهل يجب في ضيق الوقت؟. 7 - وإذا وجب ترتيب القليل فما حده؟. 8 - وهل يجب (¬1) الترتيب بعد فعل الحاضرة؟. 9 - وما حكم من ذكر صلاة في صلاة (¬2)؟. 10 - وهل تقضى الفوائت بعد الصبح وبعد العصر؟. 11 - وما الدليل على أنها تقضى على حسب الأداء؟. 12 - وما حكم الشك في ترتيب المتروكات. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف أهل الأصول في العبادة المؤقتة بوقت هل يجب قضاؤها بالأمر المقيد بالوقت أو إنما يجب القضاء بأمر ثان؛ فإن قلنا يجب القضاء بالأمر الأول لم يفتقر إلى دليل يوجب القضاء. وإن قلنا إنما يجب القضاء بأمر مجدد وهو الأصح لم نوجب القضاء على الحائض والمجنون لفقد الأمر بذلك. على أنه قد قام الدليل على سقوطه عنهما. وأوجبنا القضاء على الناسي والمتعمد والنائم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" (¬3). فهذا أمر بالقضاء بعد ذوات الوقت؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أورده لما نام عن الصلاة حتى خرج وقتها. وقد تقرر الإجماع على وجوب القضاء على الجملة وإنما اختلف في تفاصيله. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اتفق العلماء بأسرهم إلا من شذ على أنه تقضى المنسيات وإن زادت على الخمس صلوات، والدليل عليه الحديث المشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - لما عرّس ليلة بطريق مكة ووكل بلالًا أن يوقظهم للصلاة فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس (¬4) ¬

_ (¬1) يجب = ساقطة -و-. (¬2) وهو في صلاة -ق-. (¬3) مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 344. (¬4) رواه مالك مرسلًا في الموطأ ص 33 - 35. رواه البخاري ومسلم. نصب الراية ج 2 ص 163. والإكمال ج 2 ص 344.

فاستيقظ القوم وقد فزعوا، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال: إن هذا واد به شيطان. الحديث. إلى قوله فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها. وفي بعض طرقه من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. فقوله من نسي الصلاة أو إذا رقد أحدكم عن الصلاة فعم الصلوات وإن كانت أكثر من خمس عند من قال بالعموم في مثل هذا. وقد وقع في بعض الطرق: لا كفارة لها إلا ذلك. فأشار إلى كون القضاء مكفرًا وهذا يستوي فيه القليل من الصلوات والكثير. فإن قيل أنتم توجبون القضاء على الفور ولا تبيحون التأخير في قضاء الصلاة، بخلاف الصوم إلا أن تكثر كثرة يشق قضاؤها على الفور متوالية فيباح التأخير بقدر زوال المشقة. والشعبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور أخر الصلاة عن وقت الذكر وأمرهم بالاقتداء (¬1) فقد صار الحديث متروك الظاهر عندكم. فأجاب الناس عن هذا التأخير بأجوبة منها: إن ابن وهب وابن دينار قالا: إن التأخير منسوخ. وهذا وإن قال بالنسخ في التأخير خاصة فلا يلزمهما على هذا أن يجعلا الأمر بالصلاة منسوخًا. ولكن لا بد من بيان الناسخ حتى ينظر فيه. فقال ابن دينار هو قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (¬2). وقوله من نام عن صلاة. الحديث. وهذا الذي قاله غير صحيح. أما الآية فلا يصح أن تكون ناسخة لأنها مكية وهذه القصة كانت بعد الهجرة إلى المدينة بأعوام. فالآية متقدمة على القصة ولا يتقدم الناسخ على المنسوخ لأن الحقيقة نسخ الأول بالآخر لا نسخ الآخر بالأول. وأما الحديث فلم تدع ضرورة إلى جعله ناسخًا لأن النسخ إنما يكون مع التنافي الذي لا يمكن أن يحمل قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها على ما إذا ذكرها في كل مكان سوى هذا الوادي. وإذا أمكن ذلك لم يمكن القطع على النسخ على أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال: هذا الذي قال تلا الآية عقيب قوله. وأجرى تلاوتها (¬3) مجرى التعليل لِمَا قال. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) سورة طه، الآية: 14. (¬3) الآية -و-.

وصار هذا كالإشارة إلى أخذه الحكم من الآية، وإذا صار الحكم مأخوذًا من الآية لم تكن الآية ناسخة لما قدمناه من كونها سابقة للقصة. ومن أصحابنا من أجاب عن ذلك بجواب آخر فقال: إنما أخر الصلاة ليكمل اجتماع الناس إليه لكون الرحيل سببًا ليقظة جميعهم وانتباههم وهذا ضعيف. لأن من لم ينتبه لا لوم عليه في التأخير ومن انتبه لا يسوغ له التأخير. فكيف يقدر فعل ما لا يسوغ في أصل الشرع طلبًا لتحصيل فعل من مكلف آخر لا لوم عليه إن لم يفعل؟ ولو استيقظ أحدهم عند طلوع الشمس ولم يصل الصبح فقد لا يسوغ له أن يشتغل بتنبيه آخر ليصلي معه تشاغلًا تفوته معه الصلاة إذا كان معه جماعة (¬1) سواه. وإن كان ابن القصار قد أجاز لمن فاتته الصلاة أن ينتظر آخر حتى يتوضأ ويصليا جماعة (¬2). وفيما قاله من جواز الانتظار مجال للنظر. والشعبي - صلى الله عليه وسلم -، الظاهر أنه استيقظ معه جماعة، ففضل الجماعة حاصل. وقد ذكر مالك أنه لم يبلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع حيئذٍ للفجر. وقال لا يركع النائم حتى يبدو حاجب الشمس للفجر، وإن كانت ركعتا الفجرُ من سنن هذه الصلاة. فأنت ترى مالكًا كيف نهى عن ركوعهما خوفًا من زيادة الفوات. وإن كان قد قال أشهب بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع. قال ابن زياد: وقاله غير مالك. وهو أحب إليّ أن يركع. وقد قال سحنون فيمن ذكر صلاة منسية بعد أن ركع الفجر: أنه يعيد ركعتي الفجر إذا صلى المنسية. كما يعيد الصبح إذا صلاها. فأعطى ركعتي الفجر حكم صلاة الصبح في الأمر بالترتيب لما كانت متعلقة بها، وكأنها جزء من أجزائها. وقد يكون في هذا إشارة إلى ما اختار ابن زياد. ومن أصحابنا من أجاب عن هذا التأخير بأنه إنما كان لكون الوادي به الشيطان. وهذا هو الحق ولا معنى للنظر في معنى آخر سواه. ومتى سلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - إن هذا الوادي به شيطان، خرج مخرج التعليل للتأخير، لم يحسن للفقيه أن يشتغل بالنظر في تعليل آخر إلا أن ينظر في علة أخرى تكون مؤكدة لما علل به النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يقصد به رد الأصول ¬

_ (¬1) جماعة - ساقطة -و-. (¬2) جميعًا -ق-.

بعضها لبعض. وقد ذهب أبو حنيفة إلى تعليل التأخير بمعنى آخر فقال إنما كان ذلك كذلك لأنه استيقظ حين طلوع الشمس وذلك الزمن لا يصلح فيه قضاء الفوائت. وهذا الذي قاله فاسد من ثلاثة أوجه: أحدها على مقتضى أصلنا فإنا نخالفه في منعه قضاء الفوائت عند طلوع الشمس ونجيز قضاءها في كل وقت. والثاني على مقتضى أصله لأنه وإن منع قضاء الفوائت في هذا الوقت فهو يجيز صلاة صبح يومه في هذا الوقت وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى يوم الوادي صبح يومه. هكذا حكى بعض أصحابنا عن مذهبه. ومذهبه خلاف ما قال. وسنتكلم عليه في قضاء الفوائت. والثالث على مقتضى *الحديث، ومقتضى الحديث يرد عليه من وجهين لفظًا ومعنى* (¬1) فأما اللفظ فقوله - لم يستيقظوا حتى ضربتهم الشمس وفي بعض طرقه فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس. وهذا لا يكون إلا بعد ارتفاع الشمس وتمكنها في الطلوع. وأما المعنى فإنه علل يكون الوادي به شيطان ولم يعلل يكون الشمس طالعة. فالعدول عن تعليله - صلى الله عليه وسلم - لا يصح على حسب ما بيناه. فإن قيل فلو علمنا ذلك الوادي، هل تجوز فيه الصلاة أم لا؟ قيل تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى قسمين: تعليل يعلم وجوده حساُ وتعليل لا يعلم وجوده إلا من جهته - صلى الله عليه وسلم -. فما كان يعلم حسًا أو في معنى الحس لزم طرده والجري معه حيث جرى. وما كان غيبًا لا يعلم إلا بوحي كتعليله ترك الصلاة على قتلى أحد بالحالة التي يبعثون عليها. وترك تخمير رأس المحرم بالحالة التي يبعث عليها. وتعليله ترك الصلاة في هذا الوادي بان به شيطانًا على ما أشار إليه في الحديث لا يلزم طرده إلا حيث تتحقق العلة. وتحقق العلة موقوف على الوحي بالغيب. وهذا الوادي وإن علم السامعون منه - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ قطع أن به شيطانًا وظنناه نحن ظنًا إن لم يتواتر الخبر عندنا. فإنا نجوز أن يكون الشيطان ذهب منه الآن. فهل يكون هذا التجويز يحيى الصلاة فيه أم لا؟ ذهب الداودي إلى أنه لا يبيحه (¬2) وأشار بعض المتأخرين إلى أنه يمكن القول بالإباحة لأجل هذا التجويز. والأصل القضاء على الفور فلا يزال عنه بالشك. فإن قيل فما معنى تلاوته - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وإشارته إلى ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو في نسخة -و-. (¬2) لا يحيى الصلاة فيه.

أخذ الحكم من الآية. والآية خطاب لموسى - صلى الله عليه وسلم -. وهو غير مخاطب بأن يخاطبنا بشريعة من قبله. قيل هذا مما اختلف فيه أهل الأصول. فمن قال إنا مخاطبون بشريعة من كان قبلنا فلا يلزمه على هذا جواب. ومن قال لسنا مخاطبين بها كان جوابه أن يقول أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - أن يعمل بهذه الآية. فلم يعمل بها بمجرد كونها خطابًا لموسى عليه السلام بل للوحي إليه أن يعمل بها. وتلاوته - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية عند هذه القصة يشهد بصحة قول بعض المفسرين لها القائلين إن معناها أقمها حين تذكرها. والمراد بالذكر ذكر الصلاة. وإن كان قد قال غير هؤلاء المفسرين فيها أقوالًا أُخر. منهم من قال معنى لذكري أي لأذكرك بالمدح. وقيل معناه لتذكرني فيها، وقيل معناه إذا ذكرتني. وقد قرئ في الشاذ للذكر قيل معناه لتذكرني فيها. وقرىء لذكرَى أبدلوا من الياء ألفا كما قالوا يا غلامًا وقرىء للذكرى. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اتفق جماعة الفقهاء على أن المتعمد لترك الصلاة، عليه قضاؤها. خلافًا لداود وأبي عبد الرحمن الشافعي وكأنهما رأيا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - من نام عن صلاة أو نسيها يقتضي دليل الخطاب فيه أن العامد ليس عليه أن يصليها. ورأى جمهور الفقهاء أن في ذكر النائم والناسي تنبيهًا على العامد؛ لأن النائم والناسي لا إثم عليهما ولا لوم في ترك الصلاة. والعامد مأثوم ملوم فهو أحق بالتكفير من الناسي. لأنه المذنب حقًا، والنائم لا ذنب له. على أنه قد قيل: إنه يمكن أن يحمل قوله عليه السلام أو نسيها على التارك لها محمدًا؛ لأن الناسي يسمى تاركًا. فيكون الحديث انتظم القسمين، ذكر فيه النائم، وفي ذكره تنبيه على الناسي. وعبر على التارك محمدًا بالناسي. وقد اختلف عندنا في الحربي إذا أسلم ببلد الحرب وترك الصلاة جهلًا بوجوبها هل تلزمه إذا علم بوجوب القضاء لأنه مُخاطَبٌ تَرَك الصلاة محمدًا، أو لا يلزمه لأنه بموضع لا يمكنه تعلم الشريعة فيه فصار كالمغلوب على الترك بإغماء أو غيره؟ فقال سحنون عليه القضاء. وقال محمَّد بن عبد الحكم لا قضاء عليه. وهذا كله إنما يحتاج إليه إذا قيل إن قضاء ما فات يفتقر لأمر ثان. وأما إذا قيل يلزم قضاؤه بالأمر الأول كان الاقتصار على مجرد الأمر بالصلاة كافيًا في إيجاب القضاء على العامد والناسي.

والجواب عن السؤاله الرابع: أن يقال: أما الفوائت فيجب ترتيب بعضها على بعض مع الذكر لجميعها. فمن نسي صبح يوم وظهره وذكر ذلك فإنه يصلي الصبح ثم الظهر. ولا يجوز له أن يصلي الظهر قبل الصبح. ولما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترك من الصلوات التي حبسه المشركون عن فعلها بدأ بالأول فالأول (¬1). فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء. وهذا يدل على صحة ما قلناه من وجوب ترتيب الفوائت. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا فاتت إنسانًالأصلواتٌ وأمكنه قضاؤها وإيقاع الصلاة الحاضرة قبل تصرم وقتها كان الحكم البداية بالفوائت لما قدمناه من وجوب الترتيب. ولكن متى هذا الوقت الذي إذا أمكن فعل الحاضرة فيه وجب أن تقدم الفوائت؟ فيه قولان: أحدهما، أنه الوقت المختار قاله أشهب وابن حبيب. وقد روي عن مالك أنه يؤخر الظهر والعصر لأجل الفوائت إلى اصفرار الشمس. وهذه الرواية تحتمل عندي أن تكون جنوحًا منه إلى أن الوقت المختار يمتد في الظهر إلى الاصفرار. والثاني أن المراعى في ذلك وقت الاضطرار. وروى أشهب (¬2) عن مالك أيضًا أن المراعى في ذلك إلى غروب الشمس، فمتى أدرك فعل الحاضرة قبل الغروب اشتغل بالمنسيات وإن كان متى اشتغل بالمنسيات فاته الوقت الذي أشرنا إليه. فإن كانت المنسيات قليلة فسيرد حكمها. وإن كانت كثيرة فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يبدأ بالمنسيات إلا أن يخشى ذوات الحاضرةَ فيصليها ثم يعود لقضاء ما بقي عليه، وهو مذهب محمَّد بن عبد الحكم. والثاني أنه يبدأ بالمنسيات، وإن خرج وقت الحاضرة إذا كان يصلي جميعها من غير تأخير لبعضها عن بعض. وهو مذهب محمَّد بن مسلمة. والثالث مذهب ابن حبيب ¬

_ (¬1) من حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي والنسائي وأخرجه أبو يعلى والبيهقي عن يبيح بن أبي أنيسة. ورواه النسائي عن أبي سعيد الخدري وفي الأسانيد المذكورة مقال. نصب الراية ج 2 ص 164 - 166. والنص الذي أثبته الإِمام الماصري مروي بالمعنى. (¬2) أشهب = ساقطة - و- ق -.

وهو جواز البداية بالحاضرة لأنه قال: إن كان أخر الظهر إلى وقت يجوز لغيره تأخيرها إليه أتى بما ذكر. وبدأ به (¬1) وإن كثر. وإن كان إن بدأ به خرج الوقت، بدأ بالظهر إلا أن تكون المنسيات خمس صلوات فأقل. وأما الاختلاف في تحديد الوقت الذي بإدراكه يجب تقديم المنسيات، فسببه الاضطراب فيما بين الاصفرار إلى الغروب. هل يقع التاثيم بتأخير صلاة الظهر والعصر إليه أم لا؟ فمن أثم لم يبلغ بالتحديد إليه. لأن تأخير الحاضرة إليه يصير في معنى تأخيرها إلى بعد الغروب. ومن لم يؤثم بالتاخير إليه أباح تأخير الحاضرة إليه لعدم الإثم. وقد أشار ابن حبيب إلى هذا بقوله فيما حكيناه عنه إذا أخر الظهر إلى وقت يجوز لغيره تأخيرها إليه. فأشار إلى جواز التأخير. وقد حكينا (¬2) عنه وعن أشهب أنهما يراعيان الوقت المختار، فإن وسعا فيه إلى الاصفرار في الظهر فهو مبني على ما قلناه. لان لم يوسعا في الظهر إلا إلى القامة فهذا لا وجه له، إلا أن ينظر في تأخير الظهر عن القامة هل هو مما يجوز أم لا، وهذا مضى مستقصى في الكلام في الأوقات. أو يسلك في ذلك مسلك من رأى أن الترتيب مستحب وليس بواجب أصلًا على ما سنذكره، ويعتقد أن استحباب (¬3) فعل الصلاة في الوقت المختار آكد من استحباب الترتيب. وأما الاختلاف فيها إذا كثرت كثرة لا يمكن الإتيان بجميعها إلا بفوات الحاضرة فإن ابن عبد الحكم رأى أن قضاء المنسيات على الفور. فما دام وقت الحاضرة واسعًا فلا رافع لهذا الوجوب. فإذا ضاق وقت الحاضرة ارتفع الوجوب بوجوب آكد منه عنده. فإذا ارتفع هذا المانع بفعل الحاضرة عاد الوجوب على ما كان عليه أول مرة. وإن ابن مسلمة رأى أن المنسيات، إذا وفي بجميعها دفعة واحدة قدمت ولو فاتت الحاضرة لوجوب الترتيب، وتقدمة الأسبق. وإذا كان لا يوفي بجميعها دفعة واحدة فلا فائدة في تأخير الحاضرة عن وقتها؛ لأنه إذا لم يقدم جميع المنسيات فلا بد أن يصلي الحاضرة. فترك صلاتها من غير شغل بالقضاء لا يصح كما لا ¬

_ (¬1) بداية -ق-. (¬2) حكي -و-. (¬3) أن استحبابه -و-.

يصح تعمد تركها لمن لا صلاة عليه. وإن ابن حبيب على ظاهر كلامه، لما رأى أنه لا بد من فعل الحاضرة وعليه بقية من الصلوات المنسيات، أجاز البداية بالحاضرة في سعة الوقت، إذ لا يمكن إيقاع الحاضرة ولا صلاة عليه. وإذا لم يمكن إيقاعها ولا صلاة عليه فلا فرق بين كثرة الصلاة وقلتها إذا خرجت عن العدد الخمس الذي يقدم على الحاضرة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما المنسيات إذا كثرت فقد فرغنا الآن من حكمها وذكرنا الواجب على القول بمراعاة الترتيب. ويتضح مذهب من لا يوجب الترتيب عند ذكرنا مذاهبهم في هذا السؤال. وأما المنسيات إذا قلت فاختلف في المقدم عند ضيق الوقت هل تقدم الصلاة الحاضرة أو المنسية؟ على ثلاثة أقوال: فالمشهور عندنا تقديم المنسية. وقال ابن وهب تقدم الحاضرة وخير أشهب بينهما. وهذا الاختلاف مبني على وجوب الترتيب أو استحبابه. فالشافعي يراه مستحبًا. فمن صلى الحاضرة عنده وعليه صلاة أجزأته صلاته. ولكنه خالف الاختيار إذا كان وقت الحاضرة واسعًا. فإن ضاق فالاختيار تقديم الحاضرة. وعندنا أن الترتيب واجب فمن صلى الحاضرة وعليه صلاة خالف الواجب. ويختلف عندنا في اعتداده بما صلى وهو ذاكر لصلاة عليه. فإن قلنا أن الترتيب واجب وهو شرط في صحة الصلاة لم يعتد بما صلاه. وإن قلنا أنه واجب وليس بشرط في صحة الصلاة. أو قلنا بما حكيناه عن المخالف أنه مستحب اعتد بالصلاة التي صلى. والتخريج على هذا الأصل مطرد في ضيق الوقت وسعته. لكن المصلي الحاضرة في ضيق وقتها وعليه صلاة ذاكر لها فيه إشكال عندي: هل يطرد هذا فيه قول من قال من أصحابنا إن الترتيب شرط في صحة الصلاة، وقال بتقدمة الفائتة أو لا يطرد هذا فيه لأجل اختلاف أهل المذهب في الفائتة والتي ضاق وقتها أيهما يقدم؟ وظاهر كلام ابن القصار طرد الخلاف فيه ولكنه ذهب إلى سقوط الترتيب فيما تماثل من الصلوات الفوائت كظهرين فاتتا من يومين ماضيين *واستدل بتساويهما في الصورة والهيئة ووقت الذكر فلا معنى لاعتبار الترتيب مع هذا التساوي. وإنما يعتبر فيما اختلف من الصلوات

واقتضب هذا من قوله* (¬1) إن من نسي ظهرًا أو عصرًا لا يدري السابقة منهما إنه يصليهما ويعيد ما بدأبه منهما. وإنما لم نقل ذلك في ناسي ظهرين من يومين لا يدري أيتهما قبل صاحبتها لتماثلهما. ولو وجب الترتيب مع التماثل لأعاد ظهر اليوم الثالث. وهذا الذي زعم إنا لا نقول به، فيتخرج عندنا (¬2) فيه اختلاف إذا عين اليومين ولم يدر أيتهما قبل صاحبتها على ما سنشير إليه في موضعه. ولكنه مع هذا كله راعى الترتيب في ظهر يومه مع ظهر فائتة لاختلاف معنى وقتيهما بخلاف الفائتتين. وأشار إلى تردد فيه فقال: ولو قيل بسقوط الترتيب فيه لم يبعد. وأما أبو حنيفة فاختلف قوله فقال مرة بما حكيناه عن الشافعي. وقال مرة أخرى بوجوب الترتيب مع الذكر إذا كانت الصلوات المنسية خمسًا فأقل، كما حكيناه عن مذهبنا. ولكنه يُسقط الترتيب مع ضيق الوقت وتُقدم الحاضرة كما حكيناه عن ابن وهب. وإذا وجب الترتيب عنده بتقدمة المنسية كان شرطًا في صحة الصلاة. فلا صلاة عنده مع سعة الوقت لمن عليه صلوات. وحكي عن الزهري وربيعة وغيرهما إيجاب الترتيب على الإطلاق. وأضيف إلى ابن حنبل اعتباره شرطًا في صحة الصلاة مع عدم الذكر. وأن من نسي صلاة في شبابه ولم يذكرها إلا في شيخه أنه يعيد سائر الصلوات التي بين زمن تركه وذكره. وسبب الاختلاف في الترتيب على الجملة أنه روي (¬3) في ذلك أربعة أحاديث. أحدها قوله عليه السلام: إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسيها (¬4). وظاهر هذا سقوط الترتيب؛ لأنه أمر بالبداية التي هو فيها ولم يأمر بإعادتها بعد قضاء ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو -و-. (¬2) عندنا- ساقطة -ق-. (¬3) ورد -ق-. (¬4) رواه البيهقي وأعله بان في سلسلته عمر بن أبي عمرو وهو مجنون لا أعلم يروي عنه غير بقية.

المنسية. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا صلاة لمن عليه صلاقه" (¬1). وهذا اللفظ يخمل أن يكون المراد به لا صلاة كاملة فيكون مطابقًا لمذهب من لم يوجب الترتيب وغير مناقض للحديث المتقدم. ويحتمل أن يراد به لا صلاة مجزية فيكون مطابقًا لقول من أوجب الترتيب ورآه شرطًا في الصحة. وإذا احتمل الوجهين حمل عليهما جميعًا أخذًا بالعموم عند قوم من أهل الأصول. وامتنع حمله على العموم عند قوم آخرين، فيجب الوقف فيه. فيعضد حمله على نفي الإجزاء بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة فذكرها مع الإِمام مضى على صلاته مع الإِمام فإذا سلم قضى التي فاتته ثم أعاد التي صلى مع الإِمام" (¬2). فالأمر بالإعادة إن حمل على الإيجاب كان دلالة على كون الترتيب شرطًا في الصحة. وروي عنه عليه السلام أنه لما فاتته أربع صلوات يوم الخندق قضاهن على الترتيب (¬3). فمن زعم أن فعله على الوجوب بمجرده أو لكونه ها هنا كالبيان استدل به في وجوب الترتيب. ومن لم يره كالبيان وحمل مجرد فعله على الاستحباب استحب الترتيب ولم يوجبه. فمن أنكر وجوب الترتيب حمل قوله لا صلاة لمن عليه صلاة على نفي الكمال أو على أن المراد به لا صلاة نافلة لمن عليه صلاة أو منع الاستدلال به بان يغلب الدليل فيه فيقال: الحاضرة إذا ضاق وقتها فهي صلاة عليه فلا يصلي الفائتة، وهذه حاضرة عليه. ويحمل أمره بإعادة التي صلى مع الإِمام على الاستحباب. ومن خالفه يحمل النفي على الإجزاء بما قدمناه، ويمنع من حمل قوله لا صلاة على النفل، لحق (¬4) العموم. وينكر كون اللفظ محمولًا على أن المراد به: إن التي عليه هي الصلاة الحاضرة لأن المفهوم منه صلاة ترتبت في الذمة متى صارت عليه. والحاضرة لم تترتب في الذمة. ويمكن حمل إعادة ما صلى خلف الإِمام على الاستحباب لاعتقاده أن الأمر على الوجوب. ¬

_ (¬1) ذكر ابن الجوزي في العلل أنه سئل أحمد عن هذا الحديث فقال: لا أعرف هذا ولا سمعته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. نصب الراية ج 2 ص 166. (¬2) رواه الدارقطني والبيهقي وهو حديث موقوف. نصب الراية ج 2 ص 162. والسنن للبيهقي ج 2 ص221. (¬3) هو من حديث ابن مسعود رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري. نصب الراية ج 2 ص 165 - 166. (¬4) بحق -ق.

هذا سبب الخلاف من ناحية الآثار. وأما من ناحية الاعتبار فيستدل من أوجب الترتيب بان الحاضرة، الزمن الذي هو فيه وقت لها في الأصل، والفائتة هو وقت لها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليصلها إذا ذكرها. وروي فذلك وقتها لا وقت لها إلا ذلك" (¬1). وإذا كان الوقت لهما جميعًا قدمت الفائتة لكونها أسبق. ولأنها في الشريعة هكذا رتبت مقدمة. ولأن الجمع بين صلاتي عرفة والمزدلفة لما وقع قدمت فيه الظهر على العصر لكونها أسبق، وإن كان الوقت قد حول في ذلك اليوم وتغير فلم يكن تغييره وتحويله يحيى سقوط الترتيب. وينفصل عن هذا من خالف فيه. بأن السبق لا تأثير له. لأن الحاضرة أحق بالوقت لكونه وقتًا لها بالأصل، وبأن الجمع بين صلاتي عرفة والمزدلفة إنما لم تقدم العصر لأجل أن وقتها لم يدخل بعد، وإنما يدخل وقتها ذلك اليوم بعد فراغ الظهر. وغلا بعضهم في هذا الانفصال حتى ركب أن الجمع في السفر وبعرفة والمزدلفة لو كان بعد في خول وقت الثانية، لصح صلاة من قدم الثانية على الأولى وأنه غير بين أن يقدم الثانية أو الأولى. واشتد نكير ابن القصار على راكب هذا. وقال ما ظننت أحدًا يقوله ويركبه. ويرى أن تقدمة العصر يوم عرفة إنما لم يجز لحق الرتبة لا لحق الوقت لأن الوقت مشترك. ولعل ابن القصار إنما استبعد تخييره البداية بأي الصلاتين شاء *وأما صحة الصلاة إذا وقعت* (¬2) فقد أشار بعض المتأخرين إلى تخريج الخلاف عندنا في كون الترتيب ليس بشرط في صحة الصلاة من رواية ابن زياد عن مالك في ذاكر الظهر والعصر من يومه في وقت العصر فبدأ بالعصر جهلًا أو سهوًا فليعدهما، وإن لم يذكر حتى ذهب يومه لم يعد شيئًا. فقد ذكر ها هنا في هذه الرواية أن ترك الترتيب في صلاتي اليوم جهلًا بعد دخول وقت الثانية لا يمنع من الإجزاء. واستدل من أسقط وجوب الترتيب بأنه لو كان واجبًا وشرطًا في الصحة لاستوى نسيانه وعمده، والترتيب مع النسيان ساقط. وأيضًا فإن الكثير من الصلوات لا يقدم على الحاضرة لضيق وقتها. فلو كان الترتيب واجبًا لِحَقّ السبق لاستوى قليل الصلوات وكثيرها. ¬

_ (¬1) وروى البخاري ومسلم: لا كفارة لها إلا ذلك. انظر السنن للبيهقي ج 2 ص 218. (¬2) هو في -و-.

ويجاب عن هذا بأنه لا يبعد كون الشيء واجبًا مع الذكر دون النسيان. ويسقط كونه شرطًا في الصحة في حق الناسي دون الذاكر كستر العورة وغسل النجاسة في إحدى الطريقتين. وأجاب ابن القصار بأن الإجماع حصل على الصلوات الكثيرة فلهذا لم يقدمها. وأشار إلى أن العلة أن الصلوات إذا زادت على مقدار الخمس المختلفة وقع فيها التكرير، والتكرير يسقط الترتيب على حسب ما كنا قدمنا مذهبه فيه. وأما سبب الاختلاف من ناحية الاعتبار في كون الترتيب شرطًا في الصحة كما اختاره القاضي أبو محمَّد أو ليس بشرط في صحتها. فإن من رآه شرطًا رأى أنه معنى لا يتصور انفصاله عن الصلاة فوجب أن يكون شرطًا في صحتها كتكبيرة الإحرام. ومن لم يره شرطًا يرى أن تقديم الصلاة التي هو في وقتها ليس فيها أكثر من تأخير الأخرى عن وقتها فلا يمنع ذلك صحة صلاة الوقت؛ لأنه لا يقال أنه أوقعها فيما ليس بوقت لها. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في مقدار القليل من الصلوات التي تقدم على ما ضاق وقته. فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى أنه ست صلوات. والمشهور من مذهب مالك أنه خمس صلوات. وذهب بعض أصحابه إلى أنه أربع صلوات. فأما قول بعض أصحاب أبي حنيفة فيرد من ناحية أنه عدد دخل فيه التكرير على نحو ما كنا قدمناه عن ابن القصار. وأما المشهور من مذهبنا فالحجة له أنه عدد لا تكرير فيه لأن الخمس صلوات مختلفات. فإذا زادت سادسة كانت السادسة كإحدى الخمس والترتيب يسقط مع التكرير ويثبت مع عدمه. ولا يعدم إلا في الخمس فأقل. فوجب التحديد بها. وأما وجه من حد بأربع فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق إنما رتب أربع صلوات، ولم ينقل عنه ترتيب فوائت زائدة على هذا العدد. فوجب الاقتصار عليه. ولأن الترتيب في الصلوات يقاس علي الترتيب في الركعات، وأكثر الركعات أربع فوجب أن يكون أكثر الصلوات المرتبة أربعًا. وإذا راعينا العدد القليل في وجوب الترتيب لم يفترق الحكم فيه في أن يكون هو جملة العدد الذي لم يكمل عليه سواه. أو كان بقية بقيت عليه من فوائت قضاها. قاله بعض الأشياخ.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا صلى صلاة لوقتها غير ذاكر لصلاة عليه ثم ذكرها فلا يخلو إما أن يذكر بعد خروج وقت التي صلى أو قبل خروج وقتها. فإن ذكر بعد خروج وقتها فلم يختلف المذهب أَلَّا قضاءً عليه. وكذلك لو قضى منسية ناسيًا للأخرى قبلها فلا إعادة عليه. لأنها بالفراغ منها تلتحق بما خرج وقته. وروي عن مالك فيمن ذكر ظهر أمسه وعصره بعد غروب الشمس فبدأ بالعصر ثم الظهر فإن علم مكانه أعادها. وإن طال فلا شيء عليه. قال الشيخ أبو محمَّد أراه يعني بقوله يعيدها العصر؛ لأنه صلاها ذاكرًا لصلاة عليه. فأما تأويل الشيخ أبي محمَّد فتعسف على اللفظ. وإن كان صحيحًا من جهة المعنى. لأنه إذا صلى العصر ثم الظهر اعتد بالظهر وجعلها أولى وألغى ما قبلها وأعاد بعد صلاتها صلاة العصر. فيحصل الترتيب. فلا معنى لإعادة الظهر كما قال. وهذا كما نقول فيمن نكس وضوعه حتى ختم بوجهه، أنه يبني على غسل وجهه. لأنه ببنائه عليه يحصل الترتيب. وأما حمله الرواية على أنه صلى العصر ذاكرًا لصلاة عليه فليس في لفظها ما يقتضي ذلك. بل نقلها متصلة بالرواية التي قدمنا حكايتها عن ابن زياد فيمن بدأ بعصر يومه قبل الظهر جهلًا أو سهوًا. فإن حملت الرواية على ما ذكرت عقيبه فقد يصح حملها على السهو أيضًا. وأيضًا فإن من صلى عصر أمسه ذاكرًا لظهر أمسه، فقد خالف الترتيب الواجب. وقد قدمنا اختلاف المذهب على قولين في صحة الاعتداد لما خولف فيه الترتيب محمدًا. فمنهم من يعتد بالصلاة. ومنهم من لا يعتد بها، ويقول تعاد الصلاة أبدًا. وهذه الرواية قد فُرِّقَ فيها بين قرب الزمن وبعده. فإن كان قدر أن قرب الفراغ من الصلاة المنسية يقدر كأنه وقت دها لجواز أن يمتد الفعل إليه، فتكون الإعادة حينئذ لها طريقة. لأن من اعتد بالصلاة المخالف ترتيبها يؤمر بالإعادة في وقتها ليحصل الترتيب. ولكن هذه الرواية تقتضي أنه لا يكون الفراغ *من فعل المنسية تصرمًا لوقتها* (¬1) وأن المصلي يعيدها إذا ذكر في مكانه لإخلاله بالترتيب. وأما إن ذكر من صلى الصلاة الحاضرة صلاة منسية قبل أن يخرج وقت التي صلاها، فإنه يؤمر بالإعادة لها ليحصل الترتيب المشروع. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو -و-.

وقال أبو بكر الوقار إنما يؤمر بالإعادة في الوقت إذا كانت المنسيات خمسًا فأقل. فإن كانت أكثر من ذلك فلا يؤمر بالإعادة في الوقت. وكأنه رأى أن الترتيب غير معتبر إذا كثرت المنسيات. فإن كان غير معتبر فلا معنى لإعادة الصلاة ولا لاعتبار الوقت في تلافي الترتيب. واختلف في تحديد الوقت الذي بالذكر فيه يؤمر بالإعادة. فقيل وقت الضرورة. وقيل من صلى العص رنا سيًا للظهر فإنه يعيد العصر ما لم تصفر الشمس. وهذا يراعي وقت الاختيار. والتوجيه للقولين قد تقدم أسلوبه قبل هذا. وهو الموازنة بين فضيلة الترتيب وكراهة (¬1) الصلاة بعوإلاصفرار. فلا معنى لبسطه ها هنا. ولو أن هذا المأمور بالإعادة في الوقت لما ذكر الصلاة المنسية في الوقت نسي أن يعيدها في الوقت (¬2) حتى ذهب. فهل يعيدها بعد الوقت أم لا؟ في ذلك قولان: بنفي الإعادة لأن الإجزاء قد حصل. والإعادة طلب للكمال. ولا يطلب الكمال بعد تصرم الوقت. وإثبات الإعادة لأنه بالذكر خوطب بالإعادة. فصارت كالصلاة الأصلية إذا نسيها حتى خرج وقتها. ولو كانت الصلاة المنسية ذكرها بعد أن فرغ من صلاة الجمعة، فإنه إذا قضى المنسية لم يعد الحاضرة. عند أشهب، لخروج وقت صلاة الجمعة بالفراغ منها. وأعادها عند مالك ظهرًا لبقاء وقت الظهر. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: من ذكر صلاة وهو في صلاة فلا تخلو الصلاة المنسية من أن تكون قد ذهب وقتها أو لم يذهب. فإن كان قد ذهب وقتها فاختلف في ذكرها هل يفسد الصلاة الحاضرة التي هو فيها أم لا يفسدها؛ وهذا الاختلاف قد سبق ذكره وتوجيهه لما ذكرنا الاختلاف في الترتيب، هل هو شرط في الصحة أم لا؛ فإن قلنا لا يفسدها استحب له القطع على الجملة إن كان فذًا أو إمامًا. وإن كان مامومًا لم يستحب له القطع، بل يؤمر بالتمادي إلا أن يكون في صلاة المغرب أو الجمعة ففيها قولان (¬3). فأما ¬

_ (¬1) كر اهية -ق-. (¬2) في الوقت = ساقطة -و-. (¬3) قولان = ساقطة -و-

المغرب فمذهب المدونة أن المأموم يتمادى فيها كسائر الصلوات. ومذهب ابن حبيب أنه لا يتمادى فيها بخلاف غيرها من الصلوات بل يقطع المغرب عنده المأموم والفذ. وإن كان صلى واحدة شفعها بثانية وإن كان صلى ثالثة شفعها برابعة. وكل بني على أصله. لأن مذهب المدونة أن من صلى صلاة ذاكرًا لأخرى لا تفسد صلاته بل يعتد بها. وإنما يعيدها في الوقت استحبابًا ليحصل الترتيب. ومذهب ابن حبيب أن ذكره صلاة فائتة (¬1) وهو في صلاة أخرى يفسدها ويعيد ما هو فيه في الوقت وبعده. ويرى أن التمادي فيه ابن ية النافلة. فإذا كان هذا أصله أمر بقطع المغرب لئلا يكون متنفلًا قبل صلاة المغرب. لكن أشار بعض الأشياخ إلى أنه يلزمه قطع المأموم في سائر الصلوات، إذا كان ذكره لصلاة منسية يفسد ما هو فيه؛ لأن صلاته إذا فسدت فلا معنى لمراعاة فضل الجماعة في صلاة فاسدة. ويلزم أن يكون القطع واجبًا لا مستحبًا في حق سائر المصلين فذًا كان أو مأمومًا. لأن الصلاة إذا فسدت وجب قطعها ولم يجز التمادي على إكماله ابن ية الفرض. وأما الجمعة فقال أشهب إن علم أنه إذا قطع وصلى المنسية أدرك ركعة من الجمعة فليقطع. وإن أيقن أنه لا يدرك تمادى. فإذا فرغ صلى المنسية ولم يعد ظهرًا لخروج الوقت. وإن أعادها ظهرًا فحسنٌ. وقال الشيخ أبو الحسن مذهب مالك اتباع الإِمام. فإذا فرغ صلى المنسية وأعاد الجمعة ظهرًا. وكان بعض أشياخي يرى أن الأولى في النظر أن يستوي سائر المصلين في التمادي على صلاتهم لعقدهم الإحرام فيها ناسيًا (¬2) لصلاة أخرى. لأنهم أحرموا بوجه جائز فلا يؤثر في صلاتهم ما طرأ عليها في أثنائها مما لا يجوز الابتداء عليه مع الذكر، كطريان الماء على المتيمم وهو في الصلاة. وإذا أُمِر الإِمام الناسي لصلاة فائتة بالقطع، فهل يسري ذلك لصلاة المأمومين أم لا؟ عن مالك في ذلك روايتان: إحداهما القطع والأخرى الاستخلاف. فوجه القطع أن الترتيب ليس بمعنى منفصل عن الصلاة فيسري فساد صلاة الإِمام فيه إلى صلاة ¬

_ (¬1) فائتة في الذمة -ق-. (¬2) ناسيًا بالأفراد - هكذا في جمبع النسخ.

المأمومين كنسيانه تكبيرة الإحرام. وقد أشار ابن حبيب محتجًا للاستخلاف إلى أن نسيان تكبير الإحرام بخلاف نسيان صلاة فائتة. فقال إنما يقطع المأمومون إذا ذكر إمامهم أنه صلى تلك الصلاة التي صلى بهم أو دخل من نافلة في فريضة بغير سلام. أو نسي الإحرام وشبه ذلك، فهؤلاء يقطعون. وإن لم يعلموا حتى فرغوا أعادوا. غير أن من كان إمامهم قد صلى ما صلى بهم فلا يعيدون جماعة لأجل الاختلاف في إجزاء صلاتهم. ولم يذكر فرقًا بين هؤلاء وبين ناسي صلاة فائتة. وقد اعتل بعضهم لقطع المأمومين بأن قال إن القطع لا يتعين على الإِمام ولا هو متفق على وجوبه. بل لو تمادى على صلاته لأجزأته. فإذا قطع والحالة هذه صار كقاطع صلاته محمدًا لغير سبب. وذلك يفسد صلاة المأمومين. فلما ضارع (¬1) هذا الإِمام الناسي *قاطع الصلاة لغير سبب* (¬2) "احتيط للمأمومين بأن أمروا بابتداء الصلاة. وهذا الذي أشار إليه بعضهم من أن قطعه غير واجب، وأن تماديه يجزيه، وإن استحب الإعادة للترتيب. وقد قال خلافه أبو العباس الإبياني: إن الإِمام إذا جهل وتمادى بهم لزمتهم الإعادة في الوقت وبعده. وهذا الذي قاله الإبياني إنما يتضح عندي على القول: بأن ذكر صلاة في صلاة يفسدها. وأما على القول الآخر بأنه لا يفسدها. فالذي قاله الآخرون: من صحة اعتداده بالصلاة أظهر. ووجه القول بالاستخلاف قياسًا على الحدث. وإذا قلنا بالاستخلاف فالمعروف ثبوته في سائر أجزاء الصلاة. وقال ابن كنانة في كتابه: إن كان لم يعقد الإِمام بالقوم ركعة استخلف وإن كان قد عقد بهم ركعة أتم ثم أعاد صلاته. ونقل عنه ابن حبيب وغيره الاستخلاف مطلقًا لكنه في كتابه فصله كما قلناه. ولا وجه له إلا أن يكون رأى أن لا حرمة لصلاته قبل أن يعقد ركعة فحسن عنده قطعه واستخلافه. فإذا عقد منها ركعة قبح القطع لحصول حرمة الصلاة. ............ (¬3) فأمره ¬

_ (¬1) فلما صار -و-. (¬2) من هذا الموضع نقص بنسخة -و-. (¬3) هو بمقدار أربع كلمات.

بالتمادي. وعلى هذا الأسلوب جرى الاختلاف في المأمومين إذا لم يذكر إمامهم الصلاة المنسية حتى فرغ. هل يعيدون الصلاة في الوقت لتحصل فضيلة الترتيب أو لا يعيدون؟ فإذا قلنا يسري من صلاة الإِمام إلى صلاتهم ها هنا بعض ما تلافوه أمروا بالإعادة. وإذا قلنا أنه لا يسري لم يؤمروا بالإعادة. وإذا أمر المصلي بالقطع وهو في أثناء الصلاة، فهل يقطع في الحال أو يؤمر بالتمادي؛ لأن كمال الصورة التي يسلم منها المصلي وهو العدد الشفع؟ لا تخلو الصلاة التي هو فيها من أن تكون فرضًا أو نفلًا. فإن كانت فرضًا لم يخل أن يذكر المنسية قبل أن يعقد ركعة، أو بعد أن عقد ركعة. فإن ذكرها بعد أن عقد ركعة فلا يخلو إما أن لا يكون عقد ركعة سواها أو عقد سواها. وإن عقد سواها فلا يخلو أن يكون على وتر أو شفع. فإن ذكرها قبل أن يعقد ركعة ففيه قولان. أحدهما: وهو المشهور أنه يقطع والثاني أنه يكمل ركعتين. فوجه القطع أن الصلاة التي لم يعقد منها ركعة ليست لها من الحرمة المتاكدة ما يحيى تأخير الصلاة الفائتة. فلا يحسن به التمادي، فيزيد الفائتة فواتًا. ووجه التمادي إلى إكمال ركعتين أن الفائتة إنما خوطب بها الناسي في الصلاة التي هو فيها، وقد أثرت بإحالتها من نية الفرض إلى نية النفل. فإذا حصل التأثير لم يحسن القطع قبل الصورة التي يسلم منها في الشرع. وتأخير الفائتة إنما يمنع لغير عذر. وهذا عذر. وإن ذكرها بعد أن عقد ركعة فلا يخلو إما أن تكون الصلاة زائدة على الثنائية كالظهر والمغرب، أو ثنائية. فإن كانت زائدة عن الثنائية أضاف إلى ركعته أخرى لأن عقد الركعة يؤكد حرمة الصلاة. والخروج من الصلاة على ركعة واحدة لا يحسن. فأمر بالتمادي إلى صورة النفل. وهي ركعتان. والمنسية مع هذا لم تخل من تأثير كالتي هو فيها لأنها نقلتها من أربع إلى آثنتين. ومن نية الفرض إلى نية النفل. وإن كانت الصلاة ثنائية كصلاة الصبح. فمقتضى إطلاق الروايات أنها كسائر الصلوات. وقال بعضصح مقتضى اختيار ابر الِقاسم في الرباعية أن

يقطع بعد ثلاث ليؤثر ذكر المنسية في منع الإكمال، أن يقطع في الصبح بعد ركعة ليؤثر ذكر المنسية أيضًا في منع الإكمال. وإن ذكر المنسية بعد أن زاد على عقد ركعة وهو على شفع فإن كان على أربع فقد كملت صلاته. وصار كالذاكر بعد الفراغ. وإن كان على ركعتين في صلاة الصبح فقد كملت صلاته أيضًا. وإن كان في الثانية من الرباعية سلم من شفعه. ولم يعتد بصلاته لعدم كمال عدد ركعاتها. وإن ذكر المنسية بعد أن زاد على ركعة وهو على وتر فإن كان في المغرب فقد كملت صلاته. وإن كان في الرباعية ففيه روايتان، إذا ذكرها بعد ثلاث. إحداهما الإكمال لحصول جل الصلاة. والثانية القطع ليحصل للمنسية تأثير في هذه التي هو فيها. لأنه إن تمادى للإكمال لم يكن للمنسية تأثير. وإن كانت الصلاة التي هو فيها نفلًا فلا يخلو من قسمين. أحدهما أن يذكر ذلك قبل أن يعقد ركعة أو بعد أن عقد ركعة. فإن ذكر ذلك قبل أن يعقد ركعة قطع لأنه لا كبير حرمة لما هو فيها. ولو أمر بالتمادي إلى إكمال ركعتين لم يكن للمنسية تأثير لا في نقص عدد ولا في نقل نية. وإن ذكر بعد أن عقد ركعة فعنه روايتان. إحداهما الإكمال لتاكد حرمة ما هو فيه بعقد الركعة. والثانية القطع لأن الإكمال يمنع من كون المنسية لها تأثير. فركعة من النافلة كثلاث من الفريضة. واختلف قول مالك في المسألتين جميعًا. ولكن اختلف اختيار ابن القاسم فيها. فاختار من قوله في النفل أن يكمل ومن قوله في الفرض أن يقطع. فإن قيل ما وجه اختلاف اختياره؟ قيل إنما اختلف اختياره فيهما لأن المنسية إنما يجب أن يكون لها (¬1) تأثير عنده في صلاة أوجبت الشريعة الترتيب بينها وبينها. والشريعة إنما جاءت بالترتيب بين صلاتي فرض لا بين صلاتي فرض ونفل. فلما لم يكن بين الفرض والنفل ترتيب في أصل الشرع لم يقتض عنده ذكر الفرض في النفل تأثيرًا. ولما جاء الشرع بالترتيب بين الفرضين أثرت المنسية في التي هو فيها لاستحقاقها رتبة السبق عليها، فاقتضى ذلك القطع. وهذا معنى يروق لولا ما يعترض عليه بأن مقتضاه يوجب أن لا يؤثر الفرض في النفل وإن لم يعقد ركعة من النفل. وابن القاسم يرى أن ذكر الفرض يؤثر في ¬

_ (¬1) إنما يجب لها تأثير -ق-.

النفل إذا لم يعقد من النفل ركعة، ويأمر بقطع النافلة. قد ينفصل عنه بأن يقال إنما افترق الحكم عنده في النفل بين أن يعقد ركعة أو لا يعقدها لأنه إذا عقد ركعة صارت لصلاته حرمة استحقت بها الوقت. ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬1). وإذا استحقت النافلة الوقت لم تقطع لغيرها، وإذا لم يعقد منها ركعة لم تكن لها حرمة تستحق بها الوقت، فوجب قطعها للمنسية التي استحقت الوقت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليصلها إذا ذكرها" (1) وفي رواية أخرى: فإن ذلك وقتها. فهذا وجه اختلاف اختيار ابن القاسم. والانفصال عما قد يعترض به على التوجيه. وأما إذا كانت الصلاة المنسية لم يذهب وقتها، فهل يستحب لبعض المصلين إلاّ يقطع كما يستحب له ذلك في الفائتة أم لا؟ في ذلك قولان: أحدهما أنه يستحب للمأموم أن يتمادى. قاله في المدونة فيمن نسي الظهر فذكرها وهو مع إمام في العصر أو مغرب ليلته. وقال ابن حبيب: يقطع المأموم إذا ذكر ظهر يومه وهو في عصره أو مغرب ليلته وهو في عشائها. ويقطع وإن كان على وتر لأنه في خيار من وقت الأولى. وهي فرض والتي هو فيها لا تجزيه، فمبادرته للأولى أولى. فأما ابن حبيب فقد وجه قوله. وأما وجه القول الآخر فإنه رأى أنه إنما استحب التمادي إذا ذكر ما فات وقته مع استحقاقه الوقت بالذكر فأحرى أن يستحب التمادي إذا ذكر صلاة لم يذهب وقتها ذهابًا كليًا كما ذهب في الفائتة. وأما الفذ الذي لا يستحب له التمادي بل يؤمر بالقطع فإن حكمه حكم من نسي سجود السهو الذي يبطل تركه الصلاة. وقد ذكرنا حكمه مبسوطًا في باب السهو. وإن ذكر قبل أن يعقد ركعة وهو في فريضة قطع وفي النافلة يتمادى فإن ذكر بعد أن عقد ركعة أضاف إليها أخرى كان في نفل أو فرض. قال بعض الأشياخ: لا يختلف قول مالك ها هنا في النفل بعد ركعة، ولا في الفرض بعد ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

ثلاث. كما اختلف قوله في ذاكر الفائتة، لاتساع الؤقت ها هنا وضيقه في التي فات وقتها. وقد ذكرنا في باب السهو أن ناسي السجود قبل السلام المبطل للصلاة إذا لم يطل ما مضى من الصلاة التي هو فيها فإنه يقطع ليرجع لإصلاح الأولى. وها هنا بعقد النفل يمضي عليه إذا لم تتقدم منه صلاة يجب أن يعود لإصلاحها، بل هو ناس للصلاة أصلًا. وإنما أحلناك على باب السهو إذا لم يجب العود للإصلاح. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف الناس في قضاء الفوائت المفروضة هل يجوز قضاؤها في سائر الأوقات أو يمتنع في بعض الأوقات؟ فذهب مالك والشافعي إلى إجازة ذلك في سائر الأوقات. ومنع أبو حنيفة من قضائها عند طلوع الشمس وعند استوائها وبعد اصفرارها. وأجاز أداء عصر يومه عند الغروب والاصفرار. ومنع من ذلك في صبح يومه حتى قال: لو صلى ركعة من الصبح فطلعت عليه الشمس فإن صلاته تبطل. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". الحديث (¬1). فجعل وقتها وقت الذكر ولم يفرق بين وقت ووقت. فاقتضى عمومه استيعاب سائر الأوقات. ويحتج أبو حنيفة بأخبار النهي. ويؤكد حجته بأن النهي إنما كان لمقارنة الشمس الشيطان على ما أشار إليه في الحديث. وهذا المعنى موجود في صلاة الفرض كوجوده في صلاة النفل. وهذه الأخبار متعارضة فيجب بناؤها فنقول نحن أخبار النهي محمولة على النوافل. ويقولون هم أخبار الأمر بقضاء المنسية محمول على ما سوى هذه الأوقات. وإذا أمكن أن يبنى حديثهم على حديثنا وحديثنا على حديثهم وجب النظر في الأرجح من التأويلين. والأولى من البناءين. فنرجح نحن بناءنا بأن قد أبقينا أحد الخبرين على عمومه وهو خبر الأمر بقضاء المنسية، وخصصنا أحاديث النهي فحملناها على النوافل. وأبو حنيفة في بنائه يخصص كلا الخبرين، فيخصص من خبرنا الأوقات التي ذكر. ويخص من خبره عصر يومه. فإنه يبيح صلاته في الوقت الذي يقتضي عموم خبر النهي المنع منه. فإذا كان بناؤه فيه تخصيص كلا الخبرين وتخصيص ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الخبر إزالة له عن ظاهره. وكان بناؤنا إنما فيه تخصيص أحد الخبرين كان بناؤنا الأولى. لأن إخراج خبر واحد عن ظاهره أخف من إخراج خبرين عن ظاهرهما. ويرجح أبو حنيفة بناءه بان خبره معلل بعلة يستوي فيها الفرض والنفل. فكان البناء الذي يصح طرد التعليل معه أولى من الذي لا يطرد التعليل معه. وأجيب عن هذا بان الكفرة إنما كانت تصلي حين مقارنة الشمس قرن الشيطان صلاة ليست عليها وإنما بقصد السجود للشمس. فحقيقة التعليل إنما يطرد فينا إذا صلينا صلاة ليست علينا. وأيضًا فإنا نرجح بأن تفريقنا بين الفرض والنفل، يظهر للفرقان بينهما وجه. وتفرقته بين عصر يومه وصبحه لا وجه لها. فإن قيل بل له وجه لأن الفراغ من العصر يكون في وقت تجوز فيه الصلاة والفراغ من الصبح يكون وقت نهي عن الصلاة فيه. قيل لو عكس هذا فأجيزت الصبح ومنعت العصر لكان أولى. لأن الابتداء بالعصر يكون في وقت النهي، والابتداء بالصبح ليس في وقت النهي. فمراعاة حال الابتداء أولى. لأن المؤثر في التمادي أولى أن يؤثر في الابتداء. وقد يؤثر النهي في الابتداء ولا يؤثر في التمادي. وقد وافقنا أبو حنيفة على جواز قضاء الفوائت بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر إذا لم تطلع الشمس ولم تصفر، وإن كانت النوافل عنده وعندنا حينئذٍ لا تجوز. فلم يطرد النهي في هذا. ولا ساوى بين الفرض والنفل. بل فرق بينهما. وكون النهي في هذا لأجل الفعل وهو صلاة الصبح والعصر. والنهي عند الطلوع والاصفرار لأجل الوقت لا يدرأ ما قلناه من ضعف بنائه واضطراب أصله فيه. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: مذهبنا أن الفوائت تقضى على حسب ما توجه الخطاب بها حين الأداء. فمن فاتته صلاة يسر بقراءتها في وقتها فإنه يسر قراءتها في وقت قضائها. وإن فاتته صلاة يجهر بقراءتها حين أدائها جهر بقراءتها حين قضائها. خلافًا للشافعي في مراعاة حكم زمن القضاء. فقال من فاتته صلاة بالليل فإن قضاها بالنهار أسر. وإن قضاها بالليل جهر. ووافقه الأوزاعي إلا أنه جعله بالخيار إذا قضاها بالليل بين أن يجهر أو يسر. ووافقنا الشافعي على أنه إن فاتته صلاة نهارية فإنه يسر القراءة. وإن قضاها بالليل جهر اعتبارًا بحال الأداء. والفزق على أصله هو صلاة النهار وصلاة الليل. أن

صلاة النهار يجب أن يعتبر فيها حالة الأداء لأنه إذا قضاها بالليل وجهر بالقراءة صارت حالة القضاء أكمل من حالة الأداء (¬1). وإذا فاتته صلاة الليل فقضاها بالنهار أسر لأنه لا ينكر أن يكون القضاء أقل كمالًا من الأداء. والجهر صفة معلقة بالوقت فتسقط بفوات الوقت. كتكبيرات أيام التشريق. ولنا أن الصلاة إذا فاتت فقد ترتبت في ذمته ووجب قضاؤها. والقضاء يجب أن يكون مماثلًا للمقضي. والأصل في القضاء الأمثال (¬2)، فوجب اعتبار حالة الأداء لتحقق المماثلة، لا سيما على القول إن القضاء إنما يلزم بمجرد القول الأول. ولهذا قلنا وقال جمهور الفقهاء إن من نسي صلاة في الحضر فذكرها في السفر أنه يقضيها حضرية كما وجبت عليه خلافًا لداود والمزني وإحدى الروايتين عن الحسن في مسيرهم إلى أنها تقضى سفرية اعتبارًا لحالة الفعل لا بحالة الترك. ولا حجة لهم في أنه عليه السلام جعل وقت الذكر وقتًا للمنسية، فيجب أن يعتبر وقت الذكر. لأنه عليه السلام قال: فليصلها. وهذه إشارة إلى حالة الصلاة المتروكة. ولا حجة لهم بمن فاتته صلاة في حال الصحة فذكرها في حال المرض أنه يصليها على مقتضى حالته من المرض؛ لأن المريض لا يمكنه فعلها على الوجه الذي وجبت عليه. وفي تأخيرها إلى زمن الصحة تفويت. والمسافر يمكنه فعلها في الحال تامة على حسب ما وجبت عليه. ومن شرط توجه الأمر الإمكان. فتوجه على المسافر الإتمام لإمكانه وسقط عن المريض القيام لعدم إمكانه. وأما لو نسي صلاة في السفر فذكرها في الحضر فإنه يقضيها على حسب ما كان يؤديها عندنا وعند أبي حنيفة. فعلى قولنا (¬3) أن القصر فرض، يتعين عليه القصر في القضاء. وعلى قولنا أنه سنة يسر أيضًا في القضاء. ومن ذهب إلى التخيير خير أيضًا في القضاء. فذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنه يقضيها تامة. وكمن فاتته صلاة حكمه أن يتيمم لها فإنه يقضيها بطهارة الماء إذا وجد الماء وكالمريض إذا فاتته صلاة حكمه أن يصليها جالسًا فإنه يقضيها إذا صح قائمًا. ودليلنا على ما قدمناه من وجوب اعتبار حالة الوجوب وأن الثابت في الذمة لا يجب الزيادة عليه لا ¬

_ (¬1) أن صلاة الليل يجب أن يعتبر فيها حال الأداء. والقضاء لا يكون أكمل من الأداء -ق-. (¬2) المثال -ق-. (¬3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب فعلى قوله.

سيما على القول إن القضاء يجب بمجرد الأمر الأول. فإنما يقضى بحسب ما توجه عليه الأمر الأول. فاما ما ذكروه من صلاة الجمعة فلا حجة فيه لأن الأصل الظهر، والجمعة بدل منها. فإذا استحال فعل الجمعة رجع إلى الأصل وهو الظهر. وهكذا ما ذكروه في التيمم فإن الأصل طهارة الماء والتيمم بدل عنها بشرط. فإذا لم يوجد الشرط رجع إلى الأصل. وكذلك المريض الأصل فرض القيام عليه. وإنما رخص له في القعود بشرط. فإذا لم يوجد الشرط الذي هو العجز عن القيام وهو سبب الرخصة رجع إلى الأصل وهو القيام. وقد فرق بعض أصحابنا أن قال: القيام والقعود من الهيئات والهيئات يعتبر فيها حال الأداء كمريض لم يصل في مرضه، فإنه إذا صح صلى قائمًا. أو صحيح لم يصل في صحته فإنه إذا مرض قضى الصلاة قاعدًا. وأما العبد فإنه يعتبر فيه حالة الوجوب كحاضر سافر فإنه يقضي تامة، ومسافر حضر فإنه يقضي مقصورة. ولو نسي صلاة سفر فقضاها في سفر آخر فإنه يقضيها مقصورة خلافًا لأحد قولي الشافعي في أنه يقضيها تامة لزوال سبب الترخيص عندهم الذي هو السفر المبيح لقصرها حال الخطاب بها وما قدمناه من مراعاة حال الوجوب يرد قولهم في هذا. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما الشك في ترتيب المتروكات، فإن الناس قد أكثروا في التفريع منه ومدار جميع ما فرعوه على اعتبار تحصيل اليقين ببراءة الذمة. والنظر في تحصيل عدد الأحوال المشكوك فيها، فيوقع من الصلوات أعدادًا على ترتيب ما يحيط بجميع حالات الشكوك. هذا هو الأصل الذي يشمل جميع هذه المسائل، وما نذكره من الفروع يوضح وجه العمل فيه. فمن ذلك أن من نسي صلاة لا يدري أي الصلوات الخمس هي؛ فإنه يصلي الصلوات الخمس *لأن كل صلاة من الخمس يمكن أن تكون هي المنسية يصلي على عدد حالات الشك خمسًا* (¬1) لتستوفي جميع أحوال الشك. وأما إن علم عين الصلاة وجهل يومها فإنه يصليها غير ملتفت لعدد الأيام. لأن الصلاة الواحدة لا تختلف باختلاف الأيام. وإذا كان اليوم المنسي منه تلك ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -ق-.

الصلاة مجهولًا فصلى تلك الصلاة، ينوي بها يومها الذي تركت منه فقد برئت ذمته. ولا قدرة له على أكثر من ذلك. لأنه وإن كرر فعل تلك الصلاة فلا يحمل في نيته إلا على يوم مجهول. فإذا كان لا بد من الإحالة على جهالة فلا فائدة في التكرار. وقد كما قدمنا ما ذكره ابن القصار من قولنا: إن من نسي ظهرًا أو عصرًا ما يدري أيتهما قبل صاحبتها فإنه يصلي ظهرًا بين عصرين أو عصرًا بين ظهرين مراعاة لحال الترتيب لما اختلفت الصلوات. وأنا لم نقل ذلك فيمن نسي ظهرين من يومين لا يدري أي اليومين قبل صاحبه. وإنما ذلك لسقوط مراعاة الترتيب، للتماثل (¬1) بين الصلوات. وهذا الذي قدمناه يقدح في قوله هذا لأنا لو أمرناه أن يصلي الظهر ثلاثة أيام مجهولات كما أمرنا ناسي الظهر والعصر ها هنا أن يصلي ثلاث صلوات لم يفده التكرير؛ لأنه وإن كرر الظهر لم يحمل في نيته إلا على يوم مجهول. وهكذا نرى (¬2) في اليومين الأولين فلا فائدة في تكرير ثالث مجهول. لكن لو علم هذا الشاك أعيان الأيام وجهل رتبتها لكان المذهب على قولين: فمنه إذا نسي ظهرًا لا يدري أمِنَ السبت هي أو من الأحد؟ ففي كتاب ابن حبيب أنه يصلي ظهر السبت وظهر الأحد. وفي كتاب ابن سحنون أنه يصلي ظهرأواحدة. وهكذا ذاكر صلاة يوم واحدة لا يدري سفرًا أو حضرًا أنه يصلي صلاة يوميَن يوم للسفر ويوم للحضر سوى المغرب والصبح فإنه لا يكررهما لأنهما لا يقصران. هذا مذهب ابن القاسم. وحكى ابن سحنون عن بعض أصحابنا أنه يكررهما وهذا مراعاة للاختلاف في الأيام. ومنه أيضًا إذا نسي ظهرًا أو عصرًا لا يدري الظهر للسبت والعصر للأحد أو العصر للسبت والظهر للأحد فإنه يصلي ظهرًا للسبت ثم عصرًا للأحد ثم عصرًا للسبت ثم ظهرًا للأحد. وهذا على مراعاة اختلاف الأيام. وأما على القول بترك مراعاتها فإنه يصلي ظهرًا بين عصرين أو عصرًا بين ظهرين. وقد قال ابن المواز إن ذكر ظهرًا أو عصرًا من يومين لا يدري أيهما قبل. فليصل ظهرًا بين عصرين أو عصرًا بين ظهرين. قال الشيخ أبو محمَّد: لم يذكر ابن المواز وسحنون تفرقة بين يوم معروف أو غير ¬

_ (¬1) وإذا لم نقل ذلك فيما يماثل من الصلوات -ق-. (¬2) كلمة غير واضحة تحتمل نرى - ونوى وهي ممحوة في -ق-.

معروف. وهذه إشارة من الشيخ أبي محمَّد إلى ما قلناه من تصور الخلاف في الأيام المعينة المجهول ترتيبها. وقد كنا قدمنا نحن الاختلاف في إعادة المغرب والصبح في مسألة الشاك في اليوم المنشيءل هو سفر أو حضر؟ ولعل اختلاف هذا اليوم بالسفر والحضر يلحقه بالأيام المعينة. وأما الأيام المجهولة فيبعد الخلاف فيها. ولو روعيت الأيام المجهولة على من نسي ظهرًا لا يدري يومها من غيره أن يكررها بعدد ما مضى له من أيام عمره في زمن البلوغ. وحضرت شيخنا أبا محمَّد عبد الحميد رحمه الله فأتاه بعض الخواص عنده ممن كان يقرأ معنا عليه ممن اشتهر بالوسوسة فقال: لقد كنت أصلحك الله البارحة أصلي صلاة المغرب بمسجد فلان فأتى هذا لمفتى وأشار إلى الموسوس فصلى إلى جانبي وسمعته عند الإحرام يقول صلاة المغرب ليلة كذا. فأنكرت نفسي تسميته الليلة. ثم خشيت أن يكون ما قاله إنما هو لما يسمع منك. فجئت أسألك. فأظهر شيخنا النكير على صاحبنا. واعتذر للسائل عنه بما اشتهر من وسوسته. فلما انصرف السائل أقبل علينا حملة أهل الميعاد فقال هل يتخرج من المذهب اعتبار ذكر (¬1) القلب يوم الصلاة عند النية فلم يظهر لنا شيء. فأشار رحمه الله إلى نحو ما نحن فيه من هذا الباب من اضطراب الأصحاب في مراعاة اختلاف الأيام وذكر ما قيل في إمامة من نسي صلاة في يوم لمن نسيها من يوم آخر. وهذا الذي قاله رحمه الله يفتقر إلى بسط طويل وإنما ذكرناه عنه لتعلقه بما نحن فيه ولكونه منبهًا على ما قد يؤمر به المصلي عند عقد النية. وتحقيق القول في ذلك لا يمكن بسطه ها هنا. ومن فروع هذا الباب: أن من نسي ظهرًا ولا يدري هل هي سفرية أو حضرية فإنه يصلي ظهرًا تامة وظهرًا مقصورة ليستوعب الصلاتين حال الشكين. ولو نسي ظهرًا أو عصرًا ولا يدري أيتهما قبل صاحبتها فإنه يصلي ظهرًا بين عصرين أو عصرًا بين ظهرين كما قدمناه. لأن بهذا العدد وهذه الرتبة يحاط بجميع حالات الشكوك. فإذا صلى الصلاتين أعاد ما بدأ به منهما. فإن كانت المعادة هي الأولى كانت المعادة لغ وَا واكتفي بما تقدم. وإن كانت هي الآخرة كانت البداية بها ملغاة وحصلت الرتبة بالإعادة. ولوانضاف إلى هذا ¬

_ (¬1) أهل القلب -ق-.

الشك في هاتين الصلاتين شك آخر وهو أن يشك بعد علمه أن إحداهما من سفر والأخرى من حضر في السفرية منهما حتى صار الشك في حالتين. إحداهما: هل الظهر قبل العصر أو بعدها وهل الظهر هي سفرية أو العصر؛ فإن في ذلك اختلافًا. ذكره ابن س القاسم في العتبية: أنه يصلي ست صلوات ظهرًا أو عصرًا تامتين ثم مقصورتين ثم تامتين فإن شاء بدأ بهما مقصورتين وختم بما بدأ به على حسب ما قلناه فيمن نسي ظهرًا أو عصرًا لا يدري أيتهما قبل صاحبتها. والتعليل فيهما واحد. لكن بالجملة الأولى فيها شك واحد وهي الرتبة. فاكتفى فيها بثلاث. وهذه زاد فيها شك آخر وهو القصر والتمام. فضوعف العدد لتضاعف الشك. فصارت الثلاث ستًا. وذكر ابن سحنون عن بعض أصحابنا أنه رتب هذه الست على خلاف هذه الرتبة فيصلي ظهرًا تامة ثم عصرًا مقصورة ثم يعيد العصر تامة ثم الظهر مقصورة ثم يعيد الظهر تامة ثم الظهر مقصورة ثم العصر تامة. ونقل ابن حارث هذا السؤ الذي كتابه فجعل شكه في الظهر والعصر هل هما سفريتان أو حضريتان؟ ونقل جواب ابن القاسم من المستخرجة الذي بدأ بذكره. وليس الأمر كما نقل عن المستخرجة. بل ذكر في المستخرجة أنه يعلم أن إحداهما سفرية وا لأخرى حضرية ولا يدري السفرية من الحضرية. ونقل عن ابن سحنون ما حكاه عن بعض أصحابنا لكنه جعل الأخيرتين عصرًا ثم ظهرًا خلاف ما نقله الشيخ أبو محمَّد أنه ظهر ثم عصر ولكنه مضى في نقله عن ابن سحنون على أن صورة السؤال أنه حكى عن أبيه قولين آخرين في السؤال الذي صوره: أحدهما أنه يصلي أربع صلوات ظهرًا حضرية وعصرًا سفرية ثم يعيد الظهر سفرية والعصر حضرية. قال ابن سحنون وهذا كله جوابه. ثم رجع عنه. فقال يصلي ست صلوات: ظهرًا تامة ثم يعيدها مقصورة ثم عصرًا تامة ثم يعيدها مقصورة. ثم ظهرًا تامة ثم يعيدها مقصورة. فصار في الجملة أربعة أقوال على ما نقل ابن حارث. ولكن هذا الذي حكي من القول الآخر المرجوع إليه ذكره ابن حبيب عن أصبغ في السؤال الذي نقلناه نحن عن المستخرجة أنه أجاب فيه بما نقلناه عن ابن القاسم من المستخرجة. وظاهر نقل ابن حبيب عن أصبغ أنه يشير إلى أن تصور السؤال على الصورتين مخالف بين الجوابين عنه. فأول ما يجب أن يعلم في هذا أن الجواب الذي حكاه سحنون أنه رجع إليه. ونقل ابن حبيب مثله عن أصبغ هذا الجواب الصحيح الذي أرى

أن يعتمد عليه. وهو جواب يصح على النقلين جميعًا على نقلنا ونقل ابن حارث (¬1)، وعليه يعول أئمة الحساب. ونحن نذكر أهل الحساب في هذا. فإذا فرغنا منه تعقبنا ما سواه من الأجوبة. فالذي أصله الحساب في هذا أن من نسي ظهرًا وعصرًا لا يدري أيتهما قبل، فإنك تأخذ عدد المنسيات وهما اثنان فتضربهما في أقل منهما بواحد وذلك واحد في اثنين باثنين وتزيد على هذا العدد الصلاة الأولى فتكون ثلاث صلوات عصر أبي ن ظهرين على حسب ما قدمناه لك. ولو كان مع ذلك لا يدري سفريات ولا حضريات ولا إحداهما سفرية والأخرى حضرية فإن وجه العمل واحد، تأخذ هذه الثلاث صلوات الحضرية التي أدى إليها هذا الحساب فتعيد عند فراغك من كل حضرية تلك الصلاة بعينها سفرية ولو كان الذي نسي ثلاث صلوات حضريات صبحًا وظهرًا وعصرًا من ثلاثة أيام لا يدري أيتهما قبل. فإنك تضرب أيضًا العدد ثلاثة في أقل منها بواحد وهو اثنان فثلاثة في اثنين بستة. ثم يزيد الصلاة الأولى فيصير سبع صلوات فتبدأ بالصبح. فإذا كملت الثلاث أعدتها ثم أعدت ما بدأت به وهو الصبح. وإن كانت الثلاث صلوات لا يدري هل هي حضريات أجمع أو سفريات أجمع أو منهن حضريات ومنهن سفريات. فكل صلاة تقضى صلاة حضر وصلاة سفر. وإذا صليت الظهر أولًا حضرية أعدتها سفرية. وكذلك العصر ثم يعيدها كذلك بتكريرهما فتبلغ عدد الصلوات إحدى عشرة صلاة الصبح ثم الظهر تامة ومقصورة ثم العصر كذلك ثم تعيد ما بدأت به وهو الصبح. فإن كان الذي نسي أربع صلوات صبحًا وظهرًا وعصرًا ومغربًا فتضرب أيضًا الأربعة في أقل منها بواحد وتزيد الصلاة الأولى فإذا ضربت ثلاثًا في أربع وزدت الصلاة الأولى بلغت ثلاث عشرة صلاة. هذا إذا كان يوقن أنها كلها حضرية فإن شك في السفر والحضر على حسب ما قلناه فيزيد مع كل صلاة حضرية تقضى صلاة سفرية فتبلغ سبع عشرة صلاة فيصلي صبحًا ثم ظهرًا تامة ومقصورة ثم عصرًا كذلك إلى المغرب ثم الصبح. فإذا كانت الصلوات المنسية المجهول رتبتها خمسًا فيكون عليه إحدى وعشرون صلاة لأنه تضرب الخمس في أقل منها بواحد. وذلك ¬

_ (¬1) على التعليلين جميعًا على ما نقلناه - ونقل ابن حارث.

خمس في أربع بعشرين. وتزيد الصلاة التي بدأت بها فيكون الجميع إحدى وعشرين صلاة. فإن كان مع ذلك شك في السفر والحضر على حسب ما قدمناه فيزيد مع كل صلاة تقصر صلاة سفر. ويكون التكرير في هذا على حسب ما تقتضيه الرتبة التي بيناها. وهذا على القول بأن ما لا يقصر لا يعاد إذا شك في يومه هل هو من السفر أو الحضر. وقد قدمنا في ذلك اختلافًا في المذهب. فإن قلنا بإعادته زاد تعداد الصلوات على ما رسمناه ولم يقصر الإعادة على ما تقصر خاصة. وهذا إذا تدبروا حكم تصوره في الذهن، لم يصعب، وفرعت عليه ما شئت من المسائل بعد الآن إلى تعقب الأجوبة المتقدمة. فأما ما حكاه ابن حارث في السؤال الذي يصوره أنه يصلي أربع صلوات ظهرًا وعصرًا سفرية ثم ظهرًا سفرية ثم عصرًا حضرية فإنه ينحل من وجهين: أحدهما أنه يمكن أن يكونا جميعًا سفريتين. فالظهر مقدمة ولا يوجد في هذه الرتبة ظهر سفرية سابقة لعصر سفرية. والثاني أنه يمكن أن يكونا حضريتين والعصر مقدمة ولا يوجد في هذه الرتبة عصر حضرية سابقة لظهر سفرية. وأما من قال يصلي ست صلوات ظهرًا وعصرًا حضريتين ثم يصليهما سفريتين ثم يعيدهما كما بدأهما حضريتين وإن شاء بدأ بالسفر وختم به فإنه جواب صحيح على ما نقلناه نحن من المستخرجة. وعلى ما يستقيم على ما نقله ابن الحارث عنها. لأنه إن بدأ بهما حضريتين وختم بمثل ذلك انحل عليه وجود عصر سفرية بعدها ظهر سفرية. وإن بدأ بهما سفريتين وختم بمثل ذلك، انحل عليه عصر حضرية بعدها ظهر سفرية. فكأنه إن بدأ بشيء انحل عليه وجود عكسه مع عكس الصلاتين في الحالين. وأما من قال يصلي ست صلوات ظهرًا حضرية ثم عصرًا سفرية ثم ظهرًا حضرية ثم عصرًا سفرية، فإنه صحيح على نقل الشيخ أبي محمَّد وتصويره السؤال على أنه إنما شك في عين أي الصلاتين صلاة سفر. وأما على ما صوره ابن الحرث من السؤال أنه شك هل هما جميعًا سفريتان أو حضريتان ونقله أنه يختم بالعصر سفرية. ثم الظهر حضرية، فإنه ينحل لعدم وجود ظهر سفرية بعدها عصر سفرية. وإن بنينا نقل ابن حرث السؤال على نقل الشيخ أبي محمَّد للجواب وهو عدم ظهر سفرية بعدها عصر سفرية. ومن هذا الباب لو أنه نسي صلاة

وتاليتها ولا يدري ما هما، فإنه يصلي الخمس صلوات على رتبتها في الشريعة. ويبدأ بالصبح ثم يعيدها إذا فرغ من الخمس صلوات التي تليها خاصة في هذه الرتبة، كيفما قدرت، وبإعادة الصبح يتحقق إتيانه بما نسي. لأنا نجوز أن تكون المنسية العتمة ثم الصبح. فلو لم يعد الصبح لم يتحقق براءة الذمة. ولو كان نسي صلاة وتاليتها ولا يدريهما أيضًا، فإنه يصلي ست صلوات يبدأ بالصبح ثم يمر بثالثيها وهي العصر. ثم الثالثة من هذه الثالثة وهي العشاء. ثم الثالثة من هذه الثالثة وهي الظهر. ثم الثانية من هذه الثالثة وهي المغرب. ثم يعيد الصبح. وإعادة الصبح ها هنا لما قلناه من جواز أن تكون المنسية، المغرب وثالثتها الصبح. فلولا الإعادة لم تتحقق براءة الذمة. ولو كان نسي صلاة ورابعتها فإن ما عليه ست صلوات أيضًا. الصبح ثم رابعتها وهي المغرب ثم رابعة الرابعة وهي الظهر. ثم رابعة رابعة هذه الرابعة وهي العشاء ثم رابعة هذه الرابعة وهي العصر ثم يعيد الصبح للمعنى الذي ذكرناه، لجواز أن تكون المنسية العصر. فلولا إعادة الصبح لم تتحقق براءة الذمة أيضًا. ولو كان نسي صلاة وخامستها فإنه يصلي أيضًا ست صلوات وليس عليه أكثر من هذا العدد ويعيد ما بدأ به فيصلي الصبح وخامستها وهي العشاء ثم خامسة هذه الخامسة وهي المغرب ثم خامسة هذه الخامسة وهي العصر ثم خامسة هذه الخامسة وهي الظهر. ثم يعيد الصبح للعلة التي ذكرناها. وهي لجواز أن تكون المنسية العشاء وخامستها الصبح فلولا الإعادة للصبح لم تتحقق براءة الذمة. ولو كان نسي صلاة وسادستها وحادية عشرها وسادسة عشرها على هذه السنة وهي أن تكون الصلاة الثانية بعد حصول الخمس فإنه يصلي عشر صلوات يصلي كل (¬1) * واحدة من الخمس ويعيدها فيصلي صبحين وظهرين وعصرين ومغربين وعشاءين. وإنما كان هذا كذلك لأنه إذا كانت الثانية بعد عدد له خمس كالسادسة والحادية عشر، والسادسة عشر فإن الصلاة الأولى مثل الثانية سواء. والسادسة من الصبح صبح والسادسة من الظهر ظهر وكذلك الحادية عشر من الصبح صبح، ومن الظهر ظهر. فصار محصول السؤال أنه نسي صلاتين ¬

_ (¬1) هنا ينتهي النقص من نسخة -و-. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم أتبين موضع النجمة الأخرى

متماثلتين من يومين لا يدري عين الصلاة فإن عليه صلاة يومين. فإن نسي صلاة واحدة من يوم واحد عليه الصلوات الخمس. فإذا علم أنه نسي مثل تلك الصلاة من يوم آخر صار عليه صلاة يومين. وهذا واضح. وإنما ذكرنا هذه المسائل ليكد الطالب فيها فهمه فيكتسب من كده بفهمه فيها انتباهًا وتيقظًا فيما سواها من المعاني الفقهية وغيرها مما يطالعه. وفيما أوردناه منها كفاية. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومن فاته بعض الصلاة (¬1) قضى أولها كما فعل الإِمام. قال الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن المأموم يقضي كما فعل الإِمام؟. 2 - وهل الفذ يكون فيما بطل من صلاته قاضيًا كالمأموم أم لا؟. 3 - وما حكم المأموم إذا فاته شيء من صلاة الإِمام بعد دخونه فيها وهو بصقة من تُفكِنه الصلاة كالناعس والغافل؟. 4 - وما حكمه إن كان بصفة من لا تمكنه الصلاة كالراعف؟. 5 - وما حكمه إذا سبق إمامه بالفعل؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف قول مالك فيما أدركه المسبوق من صلاة الإِمام هل هو أول صلاته أو آخرها؟ فروي عنه أنه أولها. وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وروي عنه أنه آخرها وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. قال القاضي أبو محمَّد في إشرافه وهو المشهور عن مالك. وفائدة هذا الاختلاف النظر في الصفة التي يفعل المأموم، هل يفعل كما يفعل إمامه في أقواله وأفعاله، أو في القول الذي هو القراءة دون ما سواها من الأفعال التي هي قيام وقعود. أو يفعل على حكم نفسه غير ملتفت لفعل إمامه؟ فتنازع المتأخرون في تأويل هذا الاختلاف. فذهب جمهورهم: إلى أن المذهب لم يختلف في حكم قيام المأموم وقعوده أنه يفعله على مقتضى صلاة نفسه لو كان منفردًا لا على مقتضى ما فعله إمامه. وذهب بعض أشياخي إلى أن المذهب ¬

_ (¬1) الصلوات -غ-.

يختلف في حكم قيامه وقعوده، هل يعمل فيه على حكم نفسه لو كان منفردًا أو على فعل إمامه؟ فأما الجمهور فإنهم يستدلون بأجوبة المتقدمين من أصحاب مالك في آحاد مسائل سنذكرها في قضاء الراعف. وهي مشتملة على أنه وإن اعتبر في القراءة حكم إمامه، فإنه يعتبر في القيام والقعود حكم نفسه. ومن آكد ما يستدلون به من هذه المسائل قول مالك في المدونة: فيمن أدرك ركعة من الظهر أنه يأتي في أول قضائه بركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويجلس؛ لأنها وسط صلاته. ثم بركعة أخرى يقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ثم يقوم منها ولا يجلس لأنها ثالثته. فأنت ترى مالكًا كيف فرق في هذه الركعة الثالثة بين القراءة وبين القيام والقعود. فجعله في القراءة قاضيًا لأنها ثانية. وفي القيام بانيًا لأنها ثالثة المصلي. وقد قال الشيخ أبو محمَّد: لا خلاف بين مالك وأصحابه أن القاضي إنما يفترق من الباني في القراءة فقط لا في قيام أو جلوس. وإن كل مأموم فقاض. وكل فذ أو إمام فبان. وأما شيخنا هذا الذي ذهب إلى إجراء (¬1) القولين في القيام والقعود فإنه يحتج بعموم إطلاق ما نقل من الخلاف عن مالك، ولم يفصل الناقلون عنه القراءة من (¬2) القيام والقعود. ويحتج أيضًا بقول القاضي أبي محمَّد ها هنا أنه يقضي كما فعل الإِمام. وبقوله في موضع آخر: إن مقتضى القول إن الفائت هو أول الصلاة، أن يقضي من فاتته ركعتان من المغرب ركعتين لا جلوس بينهما. وينفصل عما تعلق به الآخرون من مسألة المدونة بأنه إنما أمره بان يقرأ في الثالثة بسورة مع أم القرآن وإن كان عنده بانيًا على حكم نفسه احتياطًا لأجل الاختلاف في ذلك. والذي قاله الأولون هو الصحيح. ومن تتبع أقاويل سلف المذهب ومسائلهم في هذا الباب علم أنهم لا يختلفون في القيام والقعود. ولم يرد ما رتب (¬3) عليه من ذلك بإطلاق القاضي أبي محمَّد ها هنا. وليس إطلاقه بأعظم من إطلاق مالك رحمه الله تعالى. وقد حمله بعض أصحابه على ما ذكرناه عنهم. وكذلك يجب أن يحمل إطلاق ¬

_ (¬1) أحد -ق-. (¬2) بين -و-. (¬3) ما وقف -و-.

أبي محمَّد ها هنا. وأما ما أشار إليه في صلاة المغرب فلا معتصم لشيخنا هذا فيه. لأنا لو سلمنا أن طريقة القاضي أبي محمَّد كطريقته، لكان ما أشرنا إليه من الروايات يرد عليه. فكيف ومن الممكن أن يكون القاضي أبو محمَّد إنما أراد بهذا مناقضة لمن ركب أحد القولين وتصحيحأ للقول بالبناء. وإن المُدرَك هو أول الصلاة، لا على أن ذلك قولًا قيل في المغرب. كيف وقد قيل (¬1) يجهر بالقراءة فيهما مع كونه يجلس بينهما ففرّق بين القراءة والجلوس. وتأويل مسألة المدونة بأنه فعل ذلك احتياطًا لا معنى له. لأنه قد يغلب عليه. فيقال ولعل الذي قاله في القراءة هو الأصل وإنما جلس في أول قضائه احتياطًا. وبالجملة فلا معني إخراجه الرواية عن ظاهرها بغير دليل يلجئ إلى ذلك وعلي هذا يعتمد فيها. لأنه قد يصح الاحتياط بزيادة سورة فلا يصح الاحتياط بالجلوس في غير موضعه. لأن الزيادة في القراءة لا تفسد الصلاة .. والجلوس تعمدًا في غير موضعه قد يفسد الصلاة. فإن قيل إذا صححتم طريقة من قال إن المذهب لا يختلف في القيام والقعود، فعلى ماذا تحملون الخلاف المنقول عن مالك. قيل المشهور من مذاهب الأشياخ أنه يحمل على حالين. فما روي عنه أن المدرك هو أول الصلاة فمحمول على اعتبار القيام والقعود على حكم نفسه. وأما ما روي عنه أنه آخرها فمحمول على اعتبار القراءة على ما كان الإِمام يقرأ. وأما مذهب شيخنا الذي قدمناه فإن الاختلاف عنده محمول على ظاهره في القيام والقعود وفي القراءة. وأظن أن بعض الأشياخ كان يميل إلى حمل الخلاف على القراءة خاصة دون القيام والقعود. فأما من يقول إن المدرك هو أول الصلاة، فإنه يحتج بقوله عليه السلام: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (¬2). والتمام إنما يكون بعد حصول الأول. وأما من يقول إن المدرك هو آخر الصلاة، فإنه يحتج بقوله: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" (¬3). وهذا ¬

_ (¬1) قال إنه يجهر -ق-. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) البخاري في كتاب الأذان وما فاتكم فأتموا هكذا في رواية الزهري. ورواه ابن عيينة =

يقتضي أن المدرك هو آخر الصلاة. لأنه جعل الفائت يقضى. والقضاء يحل محل الأداء. ولو لم يفت وأدى لكان أولًا بإجماع. فإذا فات وعبر عنه بالقضاء، دل على أنه يفعل على أنه أول. ويؤكد هذا وصفه بالفوات. وذلك (¬1) يشير إلى أن الأول فات، فيؤدى على حسب ما فات. وقد تأولت كل طائفة خبر الأخرى. فمن تعلق بقوله: "وما فاتكم فأتموا" يحمل على قوله: "وما فاتكم فاقضوا". على أن المراد به فأدوا. وقد يكون القضاء بمعنى الأداء بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} (¬2). ومعنى القضاء ها هنا الأداء لا خَلفُ ما فات. ويدفع عن هذا التأويل بأن الظاهر في الخبر أن يحمل القضاء على خلف ما فات. لأن ذكر الفوات قبل القضاء يشعر أن المراد به ما قلناه. وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} ليست هناك صلاة فائتة. فلهذا لم تحمل الآية على خَلَف ما فات. وأيضًا فإن قوله: "فما أدركتم فاقضوا" أمر بالأداء. وقد قابله بقوله: "وما فاتكم فاقضوا". وهذه مقابلة تقتضي أن يكون القضاء ها هنا بخلاف الأداء. ومن تعلق بقوله: "وما فاتكم فاقضوا" يحمل على قوله: {فَأَتِمُّوا}. على أن المراد به الإكمال (¬3) الذي هو ضد النقصان. والإكمال (3) لا يقتضي أولأولا آخرًا. وقد يبتدأ الشيء من آخره فيكمل بأوله. ويبتدأ من أوله فيكمل من آخره. وتنازعت أيضًا الطائفتان طرق الاعتبار، فيحتج من يقول المدرك أول الصلاة، بأن التحريم أول الصلاة فيجب أن يكون الذي يليه أولها أيضًا. وجتج من يقول إنه آخرها بأن المدرك لو كان أول الصلاة لكانت نية المأموم ونية الإِمام يختلفان. لاعتقاد الإِمام أن ركعته آخر الصلاة. واعتقاد المأموم أنها أول الصلاة. وقد قال عليه السلام: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" (¬4). ¬

_ = فاقضوا. قال ابن حجر بعد أن تتبع الروايات والحاصل إن أكثر الروايات ورد بلفظ فاتموا. وأقلها بلفظ فاقضوا. فتح الباري ج 2 ص 259. وكذلك الترمذي. انظر العارضة ج 2 ص 124. (¬1) وهذا -و-. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 10. (¬3) الإتمام -ق-. (¬4) البخاري. فتح الباري ج 2 ص 319 مسلم. إكمال الإكمال ج2 ص 168.

وقال: (فلا تختلفوا عليه). واختلاف هذين في هذا الاعتقاد ركوب لهذا النهي. ولأن المدرك لسجدة يسجدها مع الإِمام ولا يعتد بها. فلو كان بانيًا على حكم تحريم نفسه لما صح أن يسجد ما لا يعتد به. وإنما سجد ما لا يعتد به لأنه بأن على حكم الإِمام. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الفذ فإذا بطلت إحدى ركعات صلاته، مثل أن يذكر في آخر صلاته أنه نسي سجدة من الأولى. فإن المذهب على قولين. هل يكون في الركعة التي يأتي بها عوضًا عما بطل قاضيًا أو بانيًا؟ فقال ابن القاسم وغيره يكون بانيًا بخلاف المأموم. وقال أشهب وغيره يكون قاضيًا كالمأموم. فوجه ما ذهب إليه ابن القاسم أن الفذ لو كان قاضيًا فيما بطل حتى يجب أن يقرأ فيما يأتي به عوضًا عن الأولى بأم القرآن وسورة لأذى ذلك إلى عكس الترتيب. وأن يكون المفعول آخرًا هو المعتقد أولًا. وأن يكون المقروء في آخر الصلاة أم القرآن وسورة. وذلك خلاف للترتيب. وما أدى إلى خلاف الترتيب (¬1) فمعدول عنه. وإنما استخف في المأموم مخالفة هذه الرتبة مراعاة لرتبة أشد منها وهي المخالفة على الإِمام. فلو لم يعتقد فيما أدركه أنه آخر صلاته، والمفعول آخرًا أولهلالخالفت نيته نية الإِمام. ومخالفة الإِمام قد نهي عنها. ولما كان الفذ لا يتوقع في مخالفته الرتبة الوقوع في مخالفة في (¬2) رتبة أشد منها، بقي على الأصل الذي قلناه. ووجه ما ذهب إليه أشهب أن الفذ لو كان بانيًا لأدّي أيضًا إلى فساد الرتبة من ناحية النية. بأن (¬3) تصير الركعة التي فعله ابن ية كونها ثانية أولى، وتصير الثالثة ثانية. وتبدّل نيات الركعات يؤثر في الاعتداد بها. ألا ترى قوله في المدونة في ناسي سجود الأولى وسجد للثانية ولم يركع لها إنه لا يجزيه ذلك عن سجود الأولى. لأنه إنما سجد بنية الثانية. فرأى أن نية الأركان قض من تبدلها. ¬

_ (¬1) الرتبة -ق-. (¬2) في = ساقطة -ق-. (¬3) من أن -ق-.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا غُلب المأموم عن أن يفعل ركنًا من أركان الصلاة كالركوع والسجود، فهل يفعله بعد فراغ الإِمام منه أم لا؟ لا يخلو هذا الركن من أحد قسمين. إما أن يكون ركوعًا أو سجودًا. فإن كان ركوعًا وغلب على فعله قبل أن يشرع الإِمام نيه حتى فرغ منه الإِمام وفعله ورفع رأسه من ركوعه، فعنه في ذلك ثلاث رواييات. إحداها أنه يقضي ما فاته. والثانية أنه لا يقضيه ويلغي تلك الركعة. والثالثة التفرقة بين أن يكون عقد ركعة أو لم يعقدها. فإن كانت هذه الغلبة في أول ركعة ألغاها. وإن كانت في ركعة ثانية (¬1) مما بعدها قضى ما فاته. فوجه القضاء أنه قد حصل مؤتمًا بالإمام وواجب عليه الاقتداء به. فإذا منع من الائتمام به، عاد إليه بعد زوال المانع. ولا يكون هذا ممنوعًا كما يمنع من قضاء ما فاته قبل الدخول حتى يفرغ من الصلاة. لأن هذا فاته ما لزمه أن يقتدي بإمامه فيه والآخر فاته ما لم يتوجه عليه الاقتداء به فيه. ووجه نفي القضاء فيه قياسًا على ما فات قبل دخوله في الصلاة. ووجه التفرقة بين الركعة الأولى وما بعدها أن من عقد ركعة حصل بها مدركًا للصلاة. ومن أدرك الصلاة قضى ما فاته مع الإِمام وهو في الصلاة. ومن لم يدرك ركعة فدم يحصل له ما يبيح له القضاء قبل فراغ الإِمام (¬2). بل صار كمن فاته شيء قبل الدخول في الصلاة. وإذا وجب القضاء فإنه إنما يجب بشرط أن لا يفوته أن يفعل مع الإِمام ما هو آكد من تشاغله بالقضاء. واختلف في هذا الذي هو آكد، فقيل هو سجود الركعة التي غلب على ركوعها. وقيل بل هو عقد الركعة التي تليها. فوجه القول باعتبار السجود وهو المشهور أن السجود مجمع على كونه فرضًا وهو ركن من أركان الصلاة. فلا وجه لأن يتشاغل بقضاء ركن فات، حتى يفوته ركن آخر هو حال. ووجه القول باعتبار عقد الركعة التي تليها أن الركعة وإن كانت مركبة من أجزاء مختلفة، فهي في حكم الشيء الواحد الذي لا يتعدد. فركوعها وسجودها كالشيء الواحد. فإذا دخل الفوات في بعضها لم يعتبر ذوات البعض الآخر ¬

_ (¬1) غير واضحة في -و-. (¬2) الصلاة -ق-.

ها هنا. وإذا لم يعتبر فلا ركن بعد ذلك إلا الركعة التي تليها. والركعة التي تليها تشتمل على قراءة وركوع. والقراعة لا تجب على المأموم. فوجب اعتبار عقد الركعة. فإن قلنا باعتبار السجود، فهل تعتبر السجدتان جميعًا أم الأولى منهما؟ في ذلك قولان. المشهور منهما اعتبار السجدتين جميعًا لأن بهما تفرغ الركعة. والثاني اعتبار السجدة الأولى لأنها ركن وفرض مجمع عليه، فوجبت مراعاتها ومحاذرة فواتها. وهذا القول ذكره ابن أبي زمنين عن بعض أشياخه (¬1). فقال معنى القول إنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من سجودها: معناه السجدة الثانية. وقد سألت عنها أحمد بن عبد الله اللؤلئي ففسره لي كذلك. وذلك أن بعض أصحابنا خالفني فيها وقال يعني (¬2) السجدة الأولى. وإذا قلنا باعتبار الركعة فما عَقْدُها ها هنا؟ المنصوص رفع الرأس منها. ويتخرج على القول الآخر تمام الانحناء فيها. ومن شرط إجازة القضاء لمن غلب على الركعة (¬3) أن يمكنه بعد إحرامه فعلها مع الإِمام. فأما لو أحرم والإمام راكع فلم يمكنه الركوع حتى رفع الإِمام لأن الزمن الذي بين إحرامه ورفع الإِمام لا يحمل الركوع، فإنه لا يقضي هذا الركوع. وقد فاتته الركعة من غير خلاف في المذهب. ومن شرط الركعة الحائلة أيضًا بينه وبين قضاء ما فاته أن يكون فيها متمكنًا من متابعة الإِمام تصح مخاطبته بذلك. وأما لو نعس عن ركوع الإِمام وتمادى نعاسه إلى أن عقد ركعة أخرى، فإنه لا يمنعه ذلك من إصلاح أول ما نعس فيه من الركعات. لأنه غير مخاطب حال نعاسه في الركعة الثانية بمتابعة الإِمام فيها. وإن كان هذا الركن المغلوب عليه سجودًا فإنه يتبع الإِمام ما لم يعقد الركعة التي تليها بأن يرفع رأسه منها. قاله في المدونة في المزاحم في صلاة الجمعة عن سجود الأولى أنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من التي تليها وعلى القول بان عَقْد الركعة تمام الانحناء يتبعه ما لم يتم انحناؤه ويُكمل ركوعه. ولو اعترته هذه الغلبة وهو في ركوعه لم يرفع رأسه ¬

_ (¬1) أصحا به -ق-. (¬2) يعني ساقطة -ق-. (¬3) على الركعة منها -و-.

فإنه يؤخذ حكمه مما قدمناه. فإن قلنا أن عقد الركعة رفع الرأس منها، صار هذا كالمغلوب قبل أن يركع الإِمام. وقد تقدم حكمه. وإن قلنا أن الركعة تنعقد بتمام الانحناء فهو كالمغلوب بعد رفع الإِمام رأسه يتبع الإِمام ما لم يعقد التي تليها. والغلبة المعتبرة في هذا: النعاس والغفلة. وأما المزاحمة ففيها قولان. أحدهما: وهو مذهب ابن القاسم أنها بخلافهما لا يباح معها قضاء ما فات من الركوع. لأن الزحام فعل آدمي يمكن التحرز منه. فعد المزاحَم عن الركوع مقصرًا، فيلغي تلك الركعة. والناعس والغافل مغلوبان بفعل الله تعالى لا صنع للخلق فيه فعذرا. والثاني وهو مذهب أشهب وابن وهب وعبد الملك أنها مثلهما يباح معها قضاء ما فات. قال عبد الملك المزاحم أعذر لأنه مغلوب. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الراعف إذا رعف بعد أن عقد مع الإِمام ركعة فخرج لغسل الدم ثم رجع فوجد الإِمام قد صلى بعده ركعة، فإنه لا يتشاغل بقضائها. بل يدخل مع الإِمام بما هو فيه. فإذا فرغ من صلاة الإِمام قضى ما فاته معه. وقد يقع في النفس أن منع مالك رحمه الله للراعف أن يقضي ما فاته قبل فراغ صلاة الإِمام يشير إلى خلاف ما كنا قدناه من أن الناعس إذا تمادى نعاسمعتى عقدت عليه ركعة ثانية، فإنها لا تحول بينه وبين إصلاح ما نعس فيه أولًا لما كان غير مخاطب باتباع الإِمام في حال نعاسه. وهذا الذي قلناه في الناعس مما اختاره بعض أشياخي. وقد يفرق بين الناعس والراعف، أن الراعف خرج من الصلاة وفارق الإِمام. وإنما رخص له في العودة إلى الصلاة *بعد الخروج منهالأمر سنذكره في موضعه. فصار ما فعله الإِمام وهو مفارق له خارجًا عن صلاته، كما فعله* (¬1) قبل أن يدخل معه في الصلاة. فلما كان لا يقضي المسبوق ما فاته قبل دخوله في الصلاة، فكذلك الراعف لا يقضي ما فاته بعد خروجه من الصلاة. لأن الإِمام فعل ما فعل والمسبوق والراعف خارجان عن صلاته. والناعس لم يخرج عن صلاته ولا معه ما يمنعه من متابعة الإِمام من ناحية الشرع. والراعف لو حاول متابعة الإِمام قبل غسل الدم لمنع من ¬

_ (¬1) هو في -و-.

ذلك من ناحية الشرع. مع أن الراعف، الغالب عليه أن تفوته أركان كثيرة من الصلاة لا يمكن قضاؤها وإدراك الإِمام. والغالب في الناعس أنه إنما تفوته أركان يسيرة يمكنه فعلها وإدراك الإِمام. إذ لو نام نومًا طويلًا لانتقضت طهارته. فهذا أقصى ما يمكن أن يفرق به بين الناعس والراعف فيما قبناه. وهذا الراعف إذا قضى ما فاته، فإنه (¬1) يقرأ فيه بما كان الإِمام يقرأ فيه. وقد يجتمع على الراعف خطاب بقضاء وبناء، بان يفوته شيء قبل الدخول في الصلاة فيوصف فعله فيه بأنه قضاء، وبعد دخوله فيها فيوصف فعله فيها بأنه بناء، فاختلف بأيهما يبدأ: فقيل بالبناء وإليه ذهب ابن القاسم وقيل بالقضاء وإليه ذهب سحنون. ومئال ذلك أن يصلي الراعف الركعة الثانية لا أكثر، أو الثالثة لا أكثر، أو إياهما جميعًا لا أكثر. فإن قلنا بتقدمة البناء قرأ في أول ما يأتي به بأم القرآن لا أكثر حتى يفرغ مما عليه من أفعال البناء. لأنه إنما يتصور البناء ها هنا في الركعتين الأخيرتين من الصلاة أو إحداهما. وإن قلنا بتقدمة القضاء قرأ على حسب قراءة الإِمام فيما سبقه به ثم يعود بعده إلى البناء. واختلف القائلون بالبناء إذا فرغ منه وصادف فراغه منه موضع قيام على عدد ركعاته هل يقوم مراعاة لمقتضى صلاته لو انفرد أو يجلس لأن القضاء لا يقام إليه إلا من جلوس؟ فقال ابن حبيب لا يجلس. وكأنه رأى أنه إنما جلس من عليه قضاء مع الإِمام لئلا يخالفه. فإذا لم يكن إمام يحاذر مخالفته بني في القيام والقعود على حكم نفسه على ما ذكرنا أنه أصل المذهب. وقال ابن القاسم بل يجلس وكأنه رأى أنه لما كانت رتبة القضاء ألا يقام إليه إلا من جلوس، أمر هذا بالجلوس، وإن لم يكن في موضعه مراعاة لهذه الرتبة. وهكذا اختلف المذهب فيمن ليس عليه بناء وقام إلى القضاء وكان قيامه من جلوس لم يقع في موضعه لو كان فذا كمدرك ركعة أو ثلاث. فالمشهور أنه يقوم بغير تكبير؛ لأن جلوسه مع الإِمام إنما كان محاذرة للمخالفة. فهو كالعدم فقدرت تكبيرته عند رفع رأسه من السجود كأنها مقارنة لقيامه للقضاء. وقيل يقوم بتكبير. وكأن هذا قدر أن ¬

_ (¬1) فإنه = ساقطة -و-.

الجلوس فاصل بين تكبيره وقيامه، فلا بد أن يأتي بتكبير لافتتاح القيام. وقدّر أن التكبير في الوتر من الركعات لرفع الرأس من السجود لا للقيام، وقد فعله. ولو كان جلوسه في موضع الجلوس لاتفق على أنه يقوم بتكبير. وما ذكرناه من اختلاف القائلين بالبناء في الجلوس يتصور فيمن أدرك الثانية والثالثة لا أكثر، ثم أتى بعد غسل الدم بالرابعة. فهي رابعة إمامه فيجلس فيها عند ابن القاسم ليقوم للقضاء من جلوس. ولا يجلس عند ابن حبيب؛ لأنها ثالثته (¬1). وكذلك لو أدرك الثانية لا أكثر، كان بانيًا في ركعتين يجلس في الأولى منهما لأنها ثانيته، ويختلف في الثالثة منهما على ما تقدم. ولو كان مدركًا للثالثة لا أكثر لارتفع الخلاف ها هنا إذا أتى بالرابعة؛ لأنها موضع جلوس لإمامه وله لو انفرد. فوجه البداية بالبناء أن المسبوق لو لم يرعف لأتى ببقية الصلاة قبل قضاء ما سُبق به. فإذا رعف في بقية الصلاة بقيت هذه الرتبة في استحقاق النية المتقدمة على ما فات على حاله لا تتغير. ووجه القول بتقدمة القضاء، أن الأصل تقدمته لأنه أول الصلاة. وإنما آخره المسبوق إلى الفراغ لئلا يخالف الإِمام ويقع في صلاتين معًا ويكون شغله بقضاء ما سُبق يمنعه من فعل ما لحق. فإذا زالت هذه العلل عادت الرتبة لأصلها. وقد أشار (¬2) إلى هذا سحنون فقال: إنما كان يبني أولًا قبل القضاء اتباعًالإمامه. وهذا الذي صورناه في اجتماع (¬3) القضاء والبناء في الراعف يتصور في حاضر أدرك من صلاة مسافر ركعة فإنه ما فاته يعد قضاء وما يكمله من صلاة الحاضرة يعد بناءً. وقد كنا قدمنا أن في مسائل الراعف ما يشير إلى صحة ما قاله الجمهور من الأشياخ أن القيام والقعود لا يختلف المذهب فيهما. فمن ذلك قول ابن القاسم فيمن أدرك الثانية من الظهر بسجدتيها ثم رعف فخرج لغسل الدم، فإذا الإِمام قد فرغ، أنه يبني ثم يقضي يأتي بركعة بأم القرآن ويجلس لأنها ثانيته ثم يأتي بأخرى بأم القرآن ويجلس كما كان يفعل إمامه ثم يأتي بركعة القضاء بأم القرآن وسورة. وهكذا فرع مسائل الراعف من ¬

_ (¬1) ثالثة -ق-. (¬2) ذهب -ق-. (¬3) من اجتماع -ق-.

قدمنا قوله من الأشياخ أن المذهب يختلف في القيام والقعود وجرى في تعريفه على أن القيام والقعود يراعى فيه حكم نفسه غير معرج على إشارة للخلاف فيه. فهذا الراعف *المدرك للثانية من الظهر، جعله يجلس في ثانيتها وإن كان الإِمام لا يجلس في ثانيتها، فلم يعتبر فعل الإِمام. وقد لا يتضح الفرقان بين نفي اعتباره ها هنا واعتبار فعله مما (¬1) سواه من ليس براعف. وقد يتعلق ها هنا بأمر ابن القاسم له* (¬2) بالجلوس في رابعة الإِمام وإن كانت ليست بموضع جلوس. وقد كنا قدمنا الاعتذار عن هذا. ووجهنا أمره بالجلوس. ولما كانت صلاة الظهر يستغرب الجلوس فيها إلا مرتين كثر في الأولى (¬3) امتحان الخواطر. فإن قيل كيف يتصور صلاة ظهر يجلس في الأربع ركعات كلها. ومسألة ابن القاسم هذه فيها (¬4) يجاوب عن ذلك؛ لأن مدرك الثانية من الظهر جلس فيها متابعة للإمام، فلما عاد بعد غسله الدم وقد فرغ الإِمام من الصلاة جلس في أول ما يقضيه لأنها ثانية، وفي الثاني مما يقضيه لأنها رابعة الإِمام ولا يقوم للقضاء إلا من جلوس. وجلس في ركعة القضاء لأنها آخر صلاته فقد صارت صلاة الظهر كلها جلوسًا. والجواب عن السؤال الخاص: أن يقال: المأموم حكمه أن يتابع إمامه ويقتدي به في أفعاله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" (¬5). والائتمام يقتضي أن تكون أفعال المأموم بعد أفعال الإِمام، إذ السابق له غير مؤتم به. وقد قال عليه السلام: "أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالقيام ولا بالانصراف" (¬6). وكذلك فاعل الفعل مع إمامه معًا، لا تحصل له حقيقة الائتمام لأن الفعلين إذا وجدا في زمن واحد فليس أحدهما بأن يقال فيه هو تبع للآخر أولى من الآخر بأن يقال ذلك فيه. فأما مسابقة الإِمام فلا شك في منعها. ¬

_ (¬1) فيما يساويه -ق-. (¬2) ما بين النجمين ممحو - ز-. (¬3) الأولى = سا قطة -ق-. (¬4) بها -ق-. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) رواه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 179 كما رواه النسائي.

فإن فعل وسبقه بأن يركع ويرفع ساهيًا قبل إمامه فذلك ملغى غير معتد به. وعليه متابعة الإِمام فيما يفعله بعد ذلك من الركوع، وإن لم يرفع رأسه من ركوعه حتى حصل الإِمام راكعأولكنه رفع قبله فإنه إن كان (¬1) لم يتابع الإِمام في حال ركوعه بمقدار الفرض من الركوع فحكمه حكم من رفع قبل ركوع إمامه، فإن كان قد تابع الإِمام في حال ركوعه بمقدار الفرض فركوعه معتد به لحصول متابعة الإِمام بمقدار الفرض. فإذا حصل الركوع معتدًا به وخالف في الرفع قبل إمامه، فإن علم أنه يقدر على أن يعود للركوع ليتابع الإِمام في الرفع فعل ذلك. لأن المتابعة مأمور بها ولم يفت محلها. فتركه العود للمتابعة مع القدرة عليها مخالفة على الإِمام. وإن علم إن عاد لا يدركه راكعأولا يقدر على متابعته في الرفع فهل عليه أن يعود أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أنه لا يعود وإليه ذهب مالك وأشهب. والثاني أنه يعود وإليه ذهب سحنون، وأمره إذا عاد أن يبقى بعد الإِمام بقدر ما انفرد الإِمام به بعده. فوجه قول مالك إنه قد خالف الإِمام فيما انتقل عنه الإِمام فلا يتلافى هذه المخالفة بمخالفته فيما عليه الإِمام الآن. فلما كان تلافي المخالفة لا يمكن إلا بمخالفة لم يأمره مالك بذلك. ووجه قول سحنون أنه يجب أن يعود للمتابعة وإن أدى ذلك إلى مخالفة في الحال كما فعل ذلك من فاته بعض الركعة مع الإِمام فإنه يفعله وإن خالف الإِمام في الحال، لا سيما إن (¬2) قلنا بأن الرفع من الركوع فرض، ولكن ليس في هذا التوجيه ما يقتضي أمر المأموم بلبث ما انفرد الإِمام دونه. لأن الغرض تلافي ما خالف فيه الإِمام من المتابعة. وذلك يحصل بالعودة والرفع بعده من غير مراعاة لبث (¬3). ويمكن عندي أن يكون وجه اللبث أن مقدار ما انفرد به الإِمام بلبثه قد كان مما يؤمر المأموم فيه بمتابعة الإِمام. فالعودة وإن لم تكن لأجله فإنها إذا ¬

_ (¬1) وإن كان -ق-. (¬2) بأن -و-. (¬3) اللبث -ق-.

وجبت وجب أن تعود المتابعة على حسب ما كانت. وقد كان مقدار ما انفرد الإِمام به مما تجب المتابعة فيه. وقد قال مالك فيمن ظن أن الإِمام قد رفع رأسه فرفع هو رأسه فإذا الإِمام لم يرفع، فإنه يرجع فيسجد ثم يرفع برفع الإِمام ولا يتخلف عنه إلا أن يكون لم يتم السجدة فليتمها. فأمره ها هنا بأن لا يتخلف ولم يعتبر مقدار ما فاته من سجود الإِمام حال تشاغله بالرفع فيامره أن يتخلف بقدره. ويمكن عندي أن يكون إنما لم يأمره ها هنا بالتخلف لأجل أن في التخلف مخالفة الإِمام في الرفع، والرفع فرض مقصود. فلا تصح مخالفة الإِمام فيه في الحال لزيادة لبث في هذه السجدة على مقدار الفرض وقد فات. فهذا حكم الرفع قبل الإِمام. فأما الخفض قبله لركوع أو سجود فإنه إن قام بعد ركوع الإِمام راكعًا (¬1) أو بعد سجوده ساجدًا مقدار فرضه صحت صلاته. وإن كان قد أخطأ في سبقه الإِمام وإن لم يقم بعد ركوع الإِمام وسجوده مقدار فرضه لم يصح ركوعه ولا سجوده، وعليه أن يرجع لاتباع الإِمام بالركوع والسجود على حسب الواجب، وقد تقدم في تفاصيل الكلام بيانه. وقد روي عن مالك أنه قيل له فيمن سبق الإِمام بالسجود ثم سجد الإِمام وهو ساجد فهل يثبت على سجوده أم يرفع رأسه ثم يسجد؟ فقال يسجد كما هو إذا أدركه الإِمام بسجوده وهو ساجد. وقد اختلفت إشارات المتأخرين في هذا الأصل فأشار بعضهم إلى أنه لا يختلف في هذا الذي قاله مالك من بقائه ساجدًا ولا يرفع ليسجد بعد الإِمام. وذكر أنه لم يختلف المذهب في أن الخفض للركوع والسجود مقصود وإنما المقصود الركوع والسجود. وأشار إلى أن الإتفاق للمذهب على كونه غير مقصود يمنع من إجراء الخلاف في رفعه ليخفض بعد إمامه. وأشار بعض أشياخي إلى أن إجراء الخلاف فيه مما ذكرناه من الرفع قبل الإِمام؛ لأن الغرض حصول المتابعة في الرفع فكذلك في الخفض. وقد قال مالك في الأعمى يخالف إمامه في فعله إن كان ركوعه وسجوده قبل الإِمام فليستأنف الصلاة دان كان بعد ركوع الإِمام وسجوده بقليل فلا بأس به. ¬

_ (¬1) ر اكعًا = سا قطة -و-.

ومحمل قوله إذا ركع قبل الإِمام أو سجد قبله على أنه فعل الركوع والرفع منه قبل أن يركع الإِمام أو السجود والرفع منه قبل أن يسجد الإِمام. فأما لو ركع قبله أو سجد قبله وبقي راكعًا أو ساجدًا حتى ركع الإِمام أو سجد لكان حكمه على التفصيل الذي قدمناه فيمن فعل ذلك سهوًا أو غلطًا. وأما قوله إن فعل ذلك بعد الإِمام بقليل فلا بأس به. فلا معنى لاشتراطه القرب. بل حكمه حكم الناعس والغافل يقضي ما فاته به الإِمام إذا ركع الإِمام ورفع قبل أن يركع، أو يسجد ورفع قبل أن يسجد ما لم يمنع من قضاء ما فات من ذلك مانع قد ذكرناه في مسألة الناعس، إلا أن يريد مالك أن الأعمى يمكنه التحرز من مخالفة الإِمام فيصير كتعمد الفوات فإن هذا يمنع من قضاء ما فات إذا بعد. فهذا صحيح فيما بعد. ولكنه يلزم عليه منع قضاء ما قرب إذا صار كالمتعمد لأن يفوته الركوع والرفع منه. وهذا حكم المسابقة في الأفعال. وأما المسابقة في الأقوال فإن الأقوال على قسمين.: فضائل وفرائض. فأما الفضائل فإنه ينهى عن تقدم الإِمام فيها فإن تقدمه فيها لم تفسد الصلاة لأن تركها مما لا يفسد الصلاة، ففعلها قبل الإِمام كالترك لها. وأما الفرائض كالإحرام والسلام فإن تقدم الإِمام في أحدهما عمدًا لم يعتد بصلاته. وإن تقدمه سهوًا لم يعتد بها في الإحرام؛ لأنه عقد صلاته غير مؤتم. واعتد بها في السلام، وحمله عنه الإِمام كما يحمل عنه سهو الكلام. فهذا حكم مسابقة الإِمام في الأفعال والأقوال. وأما تأخره عنه بأن يدخل في الفعل بعد خروج الإِمام عنه فإن تعمد هذا ممنوع. وأما فعله مع الإِمام معًا، فلا خلاف في الإحرام والسلام والقيام من اثنتين في أنه لا يفعل ذلك مع الإِمام معًا. وأما ما سوى ذلك من الركوع والسجود والتكبير ففيه قولان: أحدهما وهو الأظهر أنه لا يفعل ذلك إلا بعده، فلا يركع حتى يراه راكعًا ولا يسجد حتى يراه ساجدًا لقوله عليه السلام: "إذا ركع فاركعوا" (¬1). والفاء هنا للتعقيب والثاني أن له أن يفعل ذلك معه. وروي ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. حديث إنما جعل الإِمام ليؤتم به.

ذلك عن مالك ولا وجه له فإن تقارن فعل الإِمام والمأموم فأَما الإحرام والسلام ففيهما قولان: أحدهما أنه يعيد الإحرام، فإن لم يفعله أجزأته صلاته *والثاني أنه لا يعتد بذلك الإحرام المفعول مع الإِمام ولا تجزيه صلاته ويعيدها أبدًا* (¬1). وقد قدمنا فيما سلف ذكر الخلاف في هذه المسألة. وقول محمَّد بن عبد الحكم إذا لم يسبق الإِمام بشيء من حروف التكبير لم تُجْز المأموم صلاته. وأما الركوع والسجود فإن فعل الإِمام منه أكثر من مقدار الفرض صحت صلاة المأموم لأنه قد اتبع الإِمام في مقدار الفرض وفيما يقع عليه اسم ركوع وسجود، وهذا بخلاف تكبيرة الإحرام على القول بمنع الاعتداد بالصلاة. لأن الركوع والسجود يدوم ويتكرر منه مقدار الفرض، وما يقع عليه اسم ركوع. وتكبيرة الإحرام لا تكرر فيها وهي فرض واحد لا يتبعض ولا يقع عليه اسم (¬2) تكبير. وإن كان الإِمام لم يأت من الركوع إلا بمقدار الفرض فقد أجراه بعض المتأخرين على الاختلاف في تكبيرة الإحرام إذا وقعت مقارنة لإحرام الإِمام لما لم يحصل ها هنا من المأموم متابعة كما لم تحصل في تكبيرة الإحرام. وقد حصلت المتابعة لامام إذا زاد على مقدار الفرض والاقتداء به فيما يسمى ركوعًا وسجودًا فلهذا لم تجر على تكبيرة الإحرام. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقطة -و-. (¬2) ولا يقع على إجزائها تكبير -و-.

النوافل قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والنوافل ضربان: منها ما له وقت مرتب وهو ما لا سبب (¬1) له سوى وقته، ومنها ما يتعلق بسبب فهو تابع له لا يتعلق (¬2) بالوقت. ومنها مبتدأ لا سبب له. فالمتعلق بالأوقات منها صلاة العيدين والوتر وركعتا الفجر. والمتعلق (¬3) بسبب: صلاة الكسوف والاستسقاء وسجود القرآن وتحية المسجد، والركوع عند الإحرام وركوع الطواف. ويلحق بالأول قيام شهر رمضان، وقيام الليل والركوع قبل العصر وبعد المغرب. فأما صلاة العيدين والكسوف والاستسقاء فتذكر في مواضعها. قال الإِمام رضي الله عنه: هذا الفصل نتكلم على ما يتعلق به عند تفصيل القاضي أبي محمَّد الكلام على ما أجمل فيه لكنه قد وقع في كلامه هذا ما يسبق إلى النفس إنكاره. وذلك أنه حصر التقسيم بعدد جعله كالجنس له، ثم نوعه وفسره بما هو أكثر من ذلك العدد. فقال: والنوافل ضربان: منها ما له وقت مرتب، ومنها ما يتعلق بسبب، ومنها مبتدأ لا سبب له فأتى بثلاثة بعد أن ذكر أنها اثنان ولعله رحمه الله لما ذكر في تصير المتعلق بالأوقات العيدين والوتر مما قد يظن به أن له سببًا وهي (¬4) صلاة العشاء أعاد في القسم الثالث ذى ما أشار إليه في الأول بلفظ مقابل للقسم الثاني مقابلة تضادد وعكس حتى ينبه على أن من النوافل ما ابتدىء ابتداء بغير سبب كالعيدين فإنها يعلم أنها شرعت غير ¬

_ (¬1) سبيل -غ-. (¬2) ولا -الغاني-. (¬3) وما يتعلق بسبب فصلاه - غ - ق -. (¬4) وهو -ق-.

متعلقة بسبب يزول بزواله بخلاف صلاة الكسوف المتعلقة بسبب لا يثبت إلا عنده فكأن حرصه على البيان أوقعه في هذا الذي قد يستدرك عليه في هذا التقسيم. ولو أورده على غير هذه الرتبة لكان أشبه بعلو منصبه في تحقيق المعاني والبلاغة في إيرادها. وقد أورد هذا المعنى في أول كتاب الصلاة على غير هذه الرتبة فقال السنة على ضربين: سنة مبتدأة إما لأوقات وإما لأسباب تفعل عندها. وسنة مشترطة في عبادة غيرها. وفسر الأول بالوتر والعيدين والكسوف والاستسقاء وفسر الثاني بركوع الإحرام والطواف. فأنت تراه كيف جمع الوتر مع الكسوف وجمعها مع العيدين اللذين لا إشك الذي أنهما من غير سبب. وعد ها هنا أيضًا ركوع الطواف فيما هو مشترط في عبادة، وعده في الفصل الذي نتكلم عليه فيما يتعلق بسبب. والشيء قد يكون له وصفان، فيعد تارة بأحد وصفيه في نوع. ويعد تارة أخرى بوصفه الآخر في نوع آخر. ثم قال ها هنا ويلحق بالأول قيام رمضان وقيام الليل والركوع قبل العصر وبعد المغرب. وكان من حق هذا المستلحق أن يعد غير ملحق لأنه نافلة معلقة بوقت. ولكنه لما قصر المندوب إليه عن رتبة ما مثل به القسم الأول لأنه لم يقل فيه أحد أنه سنة، جعله ملحقًا ليشعر بذلك انخفاض رتبته في النوافل عن رتبة ما قبله، وأنه غير معدود معها في الرتبة. وذكر قيام رمضان مع ذكره قيام الليل وإن كان قيام رمضان داخلًا في قيام الليل، والتداخل في التقسيم عيب. لينبه أيضًا على ارتفاع رتبة قيام ليل رمضان علي ليل ما سواه مما لم يرد الشرع بإلحاقه برمضان. وذكر الركوع قبل العصر وبعد المغرب ما لتأكدهما عنده علي غيرهما من النوافل. ولقد عد ابن الجلاب الركوع بعد المغرب من السنن وهذا لتاكده. وقد كنا أوردنا فيما سلف من الأحاديث ما يقتضي فضيلة الركوع قبل العصر. وذكر القاضي أبو محمَّد في هذا الفصل ركعتي الفجر. وقد كنا قدمنا الكلام على الاختلاف فيهما، هل هما من الرغائب كما قال مالك أو من السنن كما قال أشهب؟ قال بعض المتأخرين رأى أشهب أن السنن كل ما قدّر ولم يكن للمكلف الزيادة فيه بحكم التسمية المختصة به. وركعتا الفجر من ذلك أنها (¬1) ما فعله عليه السلام ¬

_ (¬1) يظهر أن في الكلام نقصًا.

في الجماعات وتكرر. وركعتا الفجر ليستا من ذلك. ويستحب مالك الاقتصار فيهما على أم القرآن والإسرار لقول عائشة رضي الله عنهما: إني لأقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ ولو سمعت ما قدرت (¬1). ولأنها مع صلاة الصبح في صورة الصلاة الرباعية وركعتان من الرباعية تسر قراءتهما ويقتصر فيهما على أم القرآن. ولمالك في مختصر ابن شعبان يقرأ فيهما بسورتين من قصار المفصل. وثبت أنه عليه السلام قرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}. وروي أنه قرأ في الأولى {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (¬2) الآية. وفي الثانية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الآية. ومن أتى المسجد بعد أن ركع الفجر في بيته (¬3) فاختلف قول مالك هل يركع أم لا؟ فأشار ابن الحرث إلى أنه اختلاف قول في إعادتهما. وعقب نقله اختلاف قول مالك بقول سحنون ليس عليه أن يعيدهما. وإلى هذا مال بعض المتأخرين من أهل العصر. وأنكر ذلك بعض الأشياخ وحمل الاختلاف على الاختلاف في تحية المسجد وإليه ذهب أبو عمران. واعتل بان مالكًا عورض بقوله عليه السلام: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر (¬4). فانفصلَ (¬5) بحديث تحية المسجد. وهو أثبت مما عورض به. ولو لم يركع الداخل المسجد للفجر في بيته فقال الشيخ أبو الحسن بن القابسي يركع للتحية ثم يركع للفجر وقال أبو عمران إذا ركعهما للفج رنا با له عن التحية كما تنوب صلاة الفريضة. وأشار إلى ضعف قول أبي الحسن. قال بعض أشياخي: أما على قول مالك فيمن ركع للفجر أنه لا يحيي المسجد فإن هذا يقتصر على ركعتي الفجر. وأما على قوله الآخر فهو بالخيار بالاقتصار على ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطإ. (¬2) سورة البقرة، آية 136. (¬3) وقد ركع في بيته الفجر. (¬4) رواه الترمذي. العارضة ج 4 ص 211: لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين. علق عليه القاضي بأنه حديث غريب ورواه البيهقي: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر. بطرق عديدة. السنن ج 2. (¬5) ففصل -و-.

ركعتي الفجر لكونهما تنوبان عن التحية أو يصلي التحية ثم ركعتي الفجر. قال وهذا يرجع إلى الخلاف في التنفل بعد الفجر. فمن أجازه ركع للتحية وتنفل بما أحب. وقد قال مالك لا بأس أن يصلي بعد الفجر ست ركعات وأجاز صلاة الحزب لمن فاته. وإنما كرهه ابتداءًا حماية. فللفذ أن يتنفل بما شاء إذا تأخرت إقامة الصلاة. ومن أقيمت عليه الصلاة وهو بالمسجد ولم يركع للفجر فليصل مع الإِمام ويترك ركعتي الفجر لقوله عليه السلام: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (¬1). وإنكاره عليه السلام على المصلي (¬2) عند إقامة الصلاة بقوله: أصلاتان معًا؟ (¬3) فكان عمر رضي الله عنه يضرب على الصلاة (¬4) بعد الإقامة. وخالف ابن مسعود فكان يصليهما والإمام يصلي. ودخل ابن عمر المسجد والناس في الصلاة فدخل بيت حفصة فصلى ركعتين ثم خرج. .. (¬5) وقال ابن الجلاب يخرج من المسجد ويركعهما إذا كان الوقت واسعًا ولم يعتبر ما في الخروج من أذى الإِمام. وأما إن كان لم يدخل المسجد فإن قدر على صلاتهما خارجًا منه وإدراك ركعتي الفرض صلاهما. وإن كان إن تشاغل بهما فاته الركوع مع الإِمام فليتركهما. وروي عن مالك رواية أخرى أنه يصليهما ما لم يخف ذوات الصلاة. وبه قال أبو حنيفة. وراعى الأوزاعي وسعيد ابن عبد العزيز ذوات الركعة الآخرة أيضًا لكنهما قالا إذا لم يخش فواتها (¬6) وكان في المسجد أنه يركعهما في ناحية من المسجد. ومن صلى الصبح ولم يركع للفج رنا سيًا فله أن يركعهما بعد طلوع الشمس. قال الأبهري يكونان تطوعًا لا ركعتي الفجر. قال بعض المتأخرين إنما صلاهما بعد طلوع الشمس لأنه (¬7) لم يحل بينه وبين فعلهما صلاة فرض. قال ومقتضى هذا أنه يصليهما ما لم يصل الظهر. وقال ¬

_ (¬1) رواه أحمد ومسلم والأربعة من حديث أبي هريرة. الهداية ج 4 ص 169. (¬2) على المصلي = ساقطة -و-. (¬3) رواه مالك مرسلًا. الموطأ ص 99 حديث رقم 31. (¬4) على صلاة -و-. (¬5) هو -و-. (¬6) فواتهما -و-. (¬7) لأنهما -و-.

الشافعي يمتد وقتهما إلى الزوال. وحكى بعض أصحابنا عن مالك أنه لا يصليهما بعد الزوال. وقال بعض أصحاب الشافعي يمتد وقتهما إلى طلوع الشمس. وقال أبو حنيفة إن أحب قضاهما عند ارتفاع الشمس. وقد كنا قدمنا في باب الصلاة المنسية حكم صلاتهما لمن نسي الصبح حتى طلعت الشمس وإنما أوردنا الكلام على ركعتي الفجر على خلاف رتبتنا في تعديل المسائل إجمالًا ثم الشروع في الجواب بعد ذكر جميعها لأن القاضي أبا محمَّد لم يقصد الكلام على حكمهما وإنما ذكرهما ها هنا متمثلًا بهما. فلهذا عدلنا عن الرتبة فيها. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وأما الوتر فسنة بعد العشاء الآخرة وهو ركعة بعد شفع منفصلة عنه. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل الوتر واجب أم لا؟. 2 - وما عدده واحدة، أو ثلاث؟. 3 - وهل من شرطه أن يكون متصلًا بشفع أم لا؟. 4 - وهل يعاد إذا أعيد التنفل أم لا؟. 5 - وهل من شرطه أن ينوي عدده؟. 6 - وما حكم السهو في عدده والشك فيه؟. 7 - وما حكم مدرك ركعة مع الإِمام من الشفع؟ 8 - وما وقته؟. 9 - وما قراءته؟. 10 - وما حكم ذكره في الصلاة؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا فيما سلف ذكر الاختلاف في وجوبه وما ذهب إليه أبو حنيفة فيه وقول سحنون يجرح تاركه. وأصبغ يُؤَدب تاركه. وما قاله بعض الأشياخ في طريقة هذين وذكرنا الأدلة في ذلك لنا وعلينا فمن أحب مطالعة ذلك فليقف عليه هناك.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في عدد الوتر فقالت الشافعية أقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة. يسلم في (¬1) كل ركعتين وإن صلاها بتسليمة واحدة جاز. وقال أبو حنيفة الوتر ثلاث لا يفصل بينهما بالسلام ولا ينقص منها ولا يزاد عليها. وبه قال علي وعمر وأبي وأنس وابن مسعود وابن عباس وأبو أمامة رضي الله عنهم. وأما مذهبنا فإنه اختلف القول فيه فقال مرة الوتر واحدة. وقال في كتاب الصوم يوتر. بثلاث. وفي الموازية فيمن ذكر سجدة لا يدري من الشفع أو الوتر أنه (¬2) يسجد سجدة ثم يعيد الشفع والوتر. وقد ذهب بعض أشياخي إلى أن هذا يقتضي كون الوتر ثلاثًا وأن الاقتصار على واحدة لا يجزئ لأنه أمر ها هنا بإعادة الشفع ولا معنى لإعادته إلا أن يكون الوتر لا يصح إلا به. لأنه إذا سجد سجدة الإصلاح تيقن سلامة الوتر لأن السجدة إن كانت من الوتر فقد أصلحه. وإن كانت من الشفع فقد بطل الشفع وسلم الوتر، فلا معنى لإعادة الشفع إلا أن يكون شرطًا في صحة الوتر. وهذا عندي تأويل ضعيف. لأن المذهب لم يختلف عندنا في كراهة الاقتصار على ركعة واحدة في حق المقيم الحاضر الذي لا عذر له. وإنما اختلف المذهب في المسافر ففي المدونة لا يوتر بواحدة. ولمالك في كتاب ابن سحنون إجازة وتره بواحدة، وأوتر سحنون في مرضه بواحدة ورآه عذرًا كالسفر. فإذا ثبت أن المذهب لم يختلف في نهي الحاضر عن الوتر بواحدة، صح أن يأمره ابن المواز بإعادة الشفع ليأتي بالوتر على الصفة الكاملة كما تعاد الفرائض في الوقت ليؤتى بها على الصفة الكاملة. وقد اختلف المذهب في الموتر بواحدة، فقال سحنون إن كان بحضرة ذلك شفعها بركعة ثم أوتر. وإن تباعد أجزأه، فأمره سحنون بشفع الركعة بالحضرة يطابق قَول ابن المواز. لأن ابن المواز أمره بالإصلاح بالسجدة، ولا يصح الإصلاح بها إلا في القرب. لكن أشهب قال فيمن أوتر بواحدة أنه يعيد وتره ¬

_ (¬1) من -و-. (¬2) أنه = ساقطة -و-.

بإثر شفع ما لم يصل الصبح. وهكذا ذكر ابن سحنون أن ابن نافع ذكر في الموتر بواحدة يأتي بركعتين ثم بالوتر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوتر له ما قد صلى" (¬1). وهذا لم يصل شيئًا. فمقتضى قول أشهب وابن نافع منع الاعتداد بواحدة وأن الوتر ثلاث والتعويل عليهما في هذا المذهب أولى من التعويل على ما ذكره ابن المواز. وكان أشهب لما رأى الركعة موترة اقتضى ذلك أن يكون قبلها موترًا. ويجب أن يكون من جنسها. فإذا وقعت الركعة غير موترة (¬2) خرجت عن حقيقتها. وإذا خرجت عن حقيقتها بطلت وإذا بطلت قضيت ما لم يخرج وقتها بصلاة الصبح. فإذا خرج وقتها لم تقض لأن النوافل لا تقضى بعد أوقاتها. وكان سحنونًا رأى أن هذه الركعة لما فصلت بالسلام مما قبلها اقتضى ذلك استقلاله ابن فسها. وأشعر بأن الشفع قبلها من شرط الفضيلة لا من شرط الصحة. إذ لو كان من نفس الوتر لم يُفصل فيه بسلام. وأما الشافعية فاحتجت بأنه عليه السلام قال: "إن الوتر حق وليس بواجب فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" (¬3). وبأن ابن عمر قال: الوتر ركعة. ويقول كان ذلك وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، قالوا وهو مذهب جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينكر ذلك منهم أحد (¬4). وقال أبو أيوب لمن شاء أن يوتر بسبع أو بخمس أو بثلاث أو بركعة. وقال ابن عباس إنما هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر من ذلك يوتر بما شاء. وروي عن سعد ابن أبي وقاص أن ثلاثًا أحب إليه ¬

_ (¬1) رواه الشيخان. فح الباري ج 3 ص 134 - 135. ورواه أحمد ج 2 ص 49. (¬2) كلمة ممحوة غير واضحة بجميع النسخ. (¬3) روى أبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن أبي أيوب الأنصاري وليس في مروياتهم وليس بواجب. ونص أبي داود الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحل أن يوتر بواحدة فليفعل. مختصر المنذري ج 2 ص 137 والسنن ج 3 ص 24 - 25 ونصب الرابة ج 2 ص 112. وروى الترمذي أيضًا عن علي قال الوتر ليس بحتم كصلاتكم المكتوبة ولكن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعلق عليه بأنه حديث حسن. العارضة ج 3 ص 242. (¬4) أحد = ساقطة -و-.

من واحدة وخمسًا أحب إليه من ثلاث وسبعًا أحب إليه من خمس. وروي مثله عن أبي موسى الأشعري. وأما أبو حنيفة فإنه يحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم قبل الوتر (¬1). وبأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة البتيراء (¬2). وبقول ابن مسعود ما أجزت ركعة قط. وقياسًا على صلاة المغرب. وأجيبوا عن هذا بان حديث عائشة رضي الله عنها إن ثبت فمحمول على الجواز والآخر أفضل لأنه أمر به، وهو أثبت منه وأصح. وأجيبوا عن نهيه عن الصلاة البتيراء. فإنه إن ثبت، وكان المراد به الوتر كما فسره الراوي، فمحمول على الاقتصار على ركعة لا شفع قبلها، هذا تأويل أصحابنا فيه. وأما تأويل الشافعية فيه فإن معناه عندهم الركعة الناقصة التي لا يكمل ركوعها ولا سجودها. وإنما حملوه على هذا لأنهم لا يمكنهم أن يتأولوه كتاويلنا لإجازتهم الاقتصار على ركعة واحدة. وأما قول ابن مسعود فمحمله على الفرائض لأنه قيل له: صلاة السفر ركعتان وصلاة الخوف ركعة. فقال ما أجزت ركعة قط. وأما القياس على المغرب فلا يسلم إلا بعد إبداء جامع بينهما. ثم الفرق أن المغرب وتر لشفع هو أربع. والوتر الذي نتكلم عليه إنما هو وتر لنافلة غير محصورة بعدد. وأما نحن فنحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" (¬3). فأمر بالوتر بواحدة وذكر تقدم الشفع قبلها، وقال: الوتر ركعة من آخر الليل. وقال ابن عباس صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ركعتين ثم أوتر فتلك ثلاثة عشرة ركعة. ولو أوتر بثلاث لكانت خمس عشرة ركعة. وإن أجابوا عن هذا بما ذكرناه عن عائشة رضي الله عنها بأنه لم يسلم قبل الوتر فقد تقدم جوابه. ¬

_ (¬1) رواه النسائي والحاكم. نصب الراية ج 2 ص 118. (¬2) رواه أبو عمر بن عبد البرقي التمهيد. وفي سنده عمان بن محمَّد بن ربيعة. قال عبد الحق الغالب على حديثه الوهم. نصب الراية ج 2 ص 120 و 172. (¬3) رواه مالك والبخاري ومسلم والبيهقي. الفتح ج 3 ص 134 والسنن ج 3 ص 12 أو مختصر المنذري ج 2 ص 95.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في الوتر هل من شرطه أن يكون متصلًا بشفعه فروي عن مالك فيمن تنفل بعد العشاء ثم انصرف فلا ينبغي أن يوتر حتى يأتي بشفع. وروي عنه أيضًا إجازة ذلك. وبالأول أخذ ابن القاسم فقال فيمن صلى مع الإِمام أشفاعًا ثم انصرف ثم رجع فوجده في الوتر فدخل معه فقال لا يعتد بها، وأحب إليّ أن يشفعها بركعة ثم يوتر. قيل له فإن فعل قال: إن فعل فالوتر ليس بواحدة وفي رواية أخرى فالوتر ليس بواجب (¬1). وقد روي عن ابن القاسم فيمن أصبح ولم يوتر أنه إن كان تنفل بعد العتمة فليونر الآن بواحدة. وهذا لأنه ليس بوقت للنافلة إلا لضرورة، مع تقدم النفل المصحح للوتر على أحد القولين، وإن لم يقارنه. قال أصبغ فيه: إذا لم يتنفل بعد العتمة فإنه يشفع قبل وتره. فوجه الأول الاتباع لفعله لفعله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده، وأيضًا فإن الشفع مختص بالوتر، ألا تراه ينسب إليه ويسمى باسمه. وهذا يقتضي مقارنته له. ووجه الثاني أنه قد وُجد من النافلة ما يكون هذا وترًا له فوجب (¬2) صحة الوتر وإن لم يقارن ما كان وترًا له (¬3). ألا ترى أن المغرب توتر صلاة النهار ووقتها مفارق لوقت صلاة النهار. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: المشهور من المذهب أن من تنفل، بعد وتره فإنه لا يعيد الوتر. وقال في المبسوط فيمن أوتر ثم ظن أنه لم يصل إلا ركعتين فأوتر بركعة ثم ذكر بعد أن فرغ أنه كان أوتر فإنه يضيف إليها أخرى (¬4) ثم يستأنف الوتر. وظاهر هذا أن من شفع بعد وتره يعيد الوتر. هكذا جعله بعض أشياخي قولًا آخر. فوجه الأول قوله عليه السلام: لا وتران في ليلة (¬5). ووجه القول الثاني قوله عليه السلام: "واجعلوا آخر صلاتكم بالليل ¬

_ (¬1) ليست بواحدة -و-. (¬2) يوجب -و-. (¬3) له = ساقطة -و-. (¬4) أخر ى = سا قطة -و-. (¬5) رواه الترمذي حسن غريب. العارضة ج 3 ص 245.

وترًا" (¬1). وقد ذهب بعض الناس إلى أن من كان له تهجد فالأولى أنه لا يوتر مع الإِمام وهذا ليكون وتره آخر تنفله علي مقتضي ظاهر قوله: واجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا. واختار ابن المنذر أن يوتر مع الإِمام، وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل إذا قام مع الإِمام حتي ينصرف كتب له بقية ليلته " (¬2). وقد ذهبت طائفة إلى أن من سلم من وتره ثم رأى أن عليه ليلًا فأراد التنفل أنه يشفع وتره بركعة أخرى. وروي ذلك عن عثمان وعلي وابن عمر وأنكره جماعة من الصحابة، وأكثر الفقهاء. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وتران في ليلة. ولأن السلام ينافي استدامة الصلاة ويمنع إضافة ما بعدها إليها (¬3). والجواب عن السؤال الخاص: أن يقال: اختلف المذهب فيمن أحرم بشفع ثم أحب أن يجعله وترًا. أو أحرم بوتر ثم أحب أن يجعله شفعًا فقال مالك في الموازية: ليس له ذلك في الأمرين جميعًا. وذكر الداودي عن (¬4) أصحابنا أنه لا يجوز أن يوتر بركعة تفتتح بغير نية الوتر. واختلف إن أحرم فيهما على شيء ففعل خلافه فقال أصبغ يجزيه. وقال محمَّد لا يجزيه إذا أحرم بشفع ثم جعله وترًالأولعله يجزيه إذا أحرم بوتر فشفعه. فوجه الإجزاء فيهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا خشي احدكم الصبح ركعة" (¬5).وظاهر هذا أنه إذا خشي الصبح وهو في الشفع انصرف من ركعة لأنه لم يفرق بين من خشي الصبح وهو في صلاة أو في غير صلاة. وإذا ثبت بظاهر هذا الحديث صحة وتر من أحرم على شفع فقس عليه من أحرم على وتر فشفعه. وأيضًا فإن الوتر والشفع نفلان. والقصد إلى العدد ليس بشرط في صحة الصلاة. وهذا قد نوى النفل فلا يينعه الإجزاء مخالفة القصد في العدد. ووجه تفرقة ابن المواز أن الوتر آكد من الشفع فإذا أحال الأضعف إلى الأقوى لم يجزه. لأن الأقوى يفتقر إلى زيادة نية لقوته ¬

_ (¬1) رواه أحمدج 2 ص 20 والبخاري. الفتح ج 3 ص 141. (¬2) رواه عبد الرزاق بسنده إلى أبي ذر من حديث قيام شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين. أخرجه البيهقي ج 2 ص 494. (¬3) إليه -و-. (¬4) من. (¬5) أبو داود. المختصر للمنذري ص 2 ص 95.

فلهذا لم يُجز من أحرم بشفع أن يجعله وترًا. وإذا أحرم (¬1) وأحال الأقوى إلى الأضعف أجزأه. فلهذا أجزأ من أحرم بوتر إذا شفعه. ومما يشهد بصحة هذا أن الفرض يصح أن يحال إلى النفل ولا يصح أن يحال النفل إلى الفرض. ومما خُرّج على هذا قول مالك فيمن افتتح الصلاة في المسجد فلما صلى منها ركعة أقيمت عليه الصلاة أنه يشفع ركعته. ولو كان في المغرب لقطع ولم يشفع. فلما كانت المغرب وترًا لم تحل إلى الشفع بخلاف غيرها من الصلوات التي ليس في إحالتها تحويل الأقوى إلى الأضعف. وقد كنا تكلمنا على علة التفرقة بين المغرب وغيرها في موضعه وعللناه بعلة أخرى سوى هذه العلة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: من زاد في وتره ركعة ساهيًا فقال مالك يجزيه ويسجد لسهوه، وفي المبسوط يستأنف وتره وهذا مخرج على ما قدمناه من الاختلاف في كثرة السهو. وقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في حد ما يفسد الصلاة منه. فتُرد هذه المسألة إليه. وكذلك إذا شك فلم يدر هل جلوسه في الأولى أو في الثانية أو في الوتر فإنه يبني على ما قدمناه من الشك في عدد الركعات. وأنه مأمور بان يبني على اليقين، واليقين ها هنا ركعة فليأت بأخرى ويسلم. ويسجد لسهوه ثم يوتر لواحدة. وهذا جار على ما أصلناه من البناء على اليقين لأنه لم يستيقن الأصلاة الشفع خاصة. وشك هل أوتر أم لا، فكان عليه أن يوتر كمن شك هل صلى أم لا؟. فأما أمر ابن القاسم له في المدونة بالسجود فقد خالفه غيره وقال لا سجود عليه. واختلف المتأخرون في وجه أمر ابن القاسم له بالسجود بعد السلام. فصار الأبهري وبعض الأشياخ إلى أنه إنما أمره بذلك لجواز أن يكون أضاف ركعة الوتر إلى ركعتي الشفع من غير سلام فيصير قد صلى الشفع ثلاثًا فيسجد بعد السلام لأجل الزيادة. وأنكر هذا بعض الأشياخ ورأى أن مقتضى هذا التعليل أن يكون السجود قبل السلام لركه السلام من الشفع. كقول أشهب فيمن لم يسلم من الشفع وصلى الوتر أنه يسجد. قال ابن المواز يريد قبل السلام. وذهب بعضهم إلى أن وجه ما قاله ابن القاسم أنه لما شك في الوتر ¬

_ (¬1) أحرم = سا قطة -ق-.

وكان من حقه أن يأتي به، شفع ما هو فيه بسجدتين لئلا يكون متنفلًا بركعة واحدة. واقتصر ها هنا على تشفيعها بسجدتين دون أن يشفع بركعة أخرى لئلا يكون لم يوتر فتقع له هذه الركعة مفردة. ثم بعدها ركعة الوتر. والإتيان بركعة مفردة ثم أخرى مفردة غير مشروع؛ لأن التنفل لا يكون بواحدة. وكذلك لو قدرنا أنه أوتر لكان فيه التكرير الممنوع. فلما كان الشفع بركعة يوقع في مكروه عدل عنه إلى الشفع بسجدتين. وقد جاء الشرع بكونهما شافعتين لقوله في حديث الشاك وإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين (¬1). والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: من أدرك ركعة من الشفع مع الإِمام فلا يسلم معه وليصل معه الوتر. فإذا سلم منه سلم معه ثم أوتر، إلا أن يكون الإِمام لا يسلم في شفعه. ففي سلام هذا مع الإِمام قولان: أحدهما أنه لا يسلم إذا سلم الإِمام من وتره لأنه شفع المأموم وقد كان إمامه لا يسلم من شفعه فيؤمر هذا بان يفعل كفعل إمامه. وهذا مذهب ابن القاسم. والثاني أنه يسلم لأن المأموم مأمور عندنا أن يسلم من الشفع. وإنما أمرنا من دخل مع الإِمام في أول شفعه بان لا يسلم من الشفع إذا كان الإِمام لا يسلم منه لئلا يخالف على الإِمام فيكون الإِمام يفعل فعلأويفعل هو خلافه. وهاهنا لا مخالفة على الإِمام بل صورة الحال موافقة للإمام في الظاهر. وإذا لم تكن فيه مخالفة أمران يفعل فيما ينفرد بفعله ما هو البخاري على مذهبه. وإلى هذا ذهب مطرت وابن الماجشون. وطريقة الشيخ أبي محمَّد في هذا حمل قولهم يصلي معه الوتر على أن المراد به محاذاة الإِمام في الركوع والسجود لا الائتمام به في ركعة الوتر؛ لأنه لو ائتم به لكان محرمًا قبل إمامه. وعلى هذا الأسلوب جرى الأمر في مدرك الركعة الأخيرة من أحد أشفاع رمضان. فإنه إذا صلاها مع الإِمام لا يسلم بسلامه ولكنه إذا قام الإِمام إلى شفع ثان حاذي هذا في قضاء ركعته فعل ¬

_ (¬1) رواه أحمد وجمسلم وأبو داود والحاكم والبيهقي: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدْر كم صلى أثلاثًا أم أربعًا؟ فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين وإن كانت رابعة كانتا ترغيمًا للشيطان. نيل الأوطارج 3 ص 142.

الإِمام فإذا صلى ركعة القضاء جلس فتشهد وسلم، ثم هو بالخيار بين أن يدخل هو في صلاة الإِمام أيضًا أو ينتظره حتى يسلم. إلى هذا ذهب مالك رحمه الله. وذهب ابن القاسم إلى أنه يتبع الإِمام في ركعة القضاء. وكأن هذا يقتضي ألا يحاذيه في ركعة الوتر. لكن الشيخ أبا محمَّد حمل الأمر في هذه الرواية عن ابن القاسم، على أن ابن حبيب تأول ذلك عليه. وإنما مراد ابن القاسم أن يصحبه بصلاته إذا قام الإِمام إلى الشفع الآخر من أشفاع رمضان. وقول مالك ها هنا يوافق تأويل الشيخ أبي محمَّد. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما صلاة الوتر فمبدأ وقتها عند الفراغ من صلاة العشاء فإن قدمت على ذلك مع الذكر والعمد لم يعتد بها، وإن قدمت نسيانًا لصلاة العشاء، أو أخرت عنها ولكن بطلت صلاة العشاء لعدم الطهارة وشبهه فإنه لا يعتد بها أيضًا خلافًا لأبي حنيفة والثوري في مصيرهما إلى الاعتداد بها إذا قدمت نسيانًا قياسًا على سقوط الترتيب بين صلاتي فرض مع النسيان. وهذا لا يسلم له لأن الوتر عندنا غير واجب. ولأنه يفعل تبعًا لصلاة أخرى والفرضان ليس أحدهما تبعًا للآخر. فالفرع بخلاف (¬1) الأصل، مع تسليم الأصل. وأما آخر وقتها فطلوع الفجر. واختلف في صلاته بعد الفجر إذا لم يصلّ الصبح فقال مالك: يصلي حينئذٍ. ووتجهه بعض المتأخرين على أنه وقت ضرورة للوتر. وبصلاته حينئذٍ قال ابن عباس وابن عمر وغيرهما من الصحابة، رضي الله عنهم. وقال ابن مسعود: وقت الوتر ما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح. وذهب أبو مصعب إلى أنه لا يُقْضى بعد الفجر. وقال ابن الجهم: إنما قال مالك يُصلى بعد الفجر وإن كان من صلاة الليل للاختلاف في الفجر. فقد قال قوم هو من الليل وقال قوم من النهار وقال قوم حال بين حالين. فلتاكده أحب قضاءه في هذا الموضع. ومذهب الشافعية أن بطلوع الفجر يخرج وقته. كما قال أبو مصعب لكنهم يقولون بقضائه. وقال سعيد بن جبير من فاته الوتر يوتر من الليلة القابلة. وقال طاوس يصلي الوتر وإن صلى ¬

_ (¬1) يخالف -و-.

الصبح. فحجة من جعل آخر وقته طلوع الفجر قوله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب مسلم: "بادروا الصبح بالوتر" (¬1). وقوله: " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى" (¬2). وروي أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا طلع الفجر فقد ذهب فعل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل الفجر" (¬3). وأما إجازة مالك صلاته بعد الفجر إذا لم يصل الصبح، فقد أشار إلى توجيهه ابن الجهم. وأما من قضاه بعد خروج الوقت فلأنه سلك بالسنن مسلك الفرائض في قضائها بعد الوقت على الجملة. ولو كان قد ذكر الوتر ولم يصل الصبح في زمن لم يبق بينه وبين طلوع الشمس سوى قدر ركعتين فاختلف في ذلك: فقيل يصلي الصبح وقد فات وقت الوتر. وقيل لم يفت لأنه إذا صلى الوتر أدرك ركعة من الصبح قاله أصبغ. وقال في مدرك مقدار أربع ركعات أنه يوتر بثلاث ويصلي الصبح. وعلى القول الآخر يوتر بواحدة ليحضل جميع الصبح قبل الطلوع. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما القراءة في الشفع فقد اختلفت الرواية فيها عن مالك، فروي عنه في المجموعة أن الناس يلتزمون في الوتر قل هو الله أحد والمعوذتين وما ذلك بلازم وإني لأفعله. أما الشفع فما عندي فيه شيء يستحب القراءة به دون غيره. وروى عنه ابن شعبان أنه يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية قال يا أيها الكافرون وإليه ذهب الشافعي إذا اختار المصلي أن يوتر بثلاث لأن مذهبه إباحة الوتر بواحدة كما قدمنا. وقد كنت في سن الحداثة وعمرني عشرون عامأوقع في نفسي أن القراءة في الشفع لا يستحب تعيينها إذا كانت عقب تهجد بالليل. وإن الاستحباب إنما يتوجه في حق من اقتصر على شفع الوتر فأمرت من يصلي التراويح في رمضان أن يوتر عقيب ¬

_ (¬1) إكمال الإكمال ص 2 ص 383. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) رواه الترمذي وابن عدي ولفظه إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر. قال الترمذي تفرد به على هذا اللفظ سليمان بن موسى. قال في إرواء الغليل سليمان بن موسى خلط قبل موته وهو لين الحديث. انظر عارضة الأحوذي ج 3 ص 243. وإرواه الغليل ج 3 ص 154.

فراغه من عدد الأشفاع ويأتي بجميع مقروآته بالحزب الذي يقوم به فيه ويوتر عقيبه. فتمالأ المشائخ المفتون حينئذٍ بالبند على إنكار ذلك واجتمعوا بالقاضي وكان ممن يقرأ علي، ويصرف الفتوى فيما يحكم به إلى. فسألوه أن يمنع من ذلك فأبى عليهم إلا أن يجتمعوا لمناظرتي على المسألة فابوا، فأبى. واتسع الأمر وصارت المساجد تفعل كما فعلت وخفت اندراس ركعتي الشفع عند العوام إن لم تُخص في رمضان بقراءة. فرجعت إلى المألوف. ثم بعد زمن طويل رأيت أبا الوليد الباجي أشار في كتابه إلى الطريقة التي كنت سلكت، فذكر في بعض كتبه قول مالك في الشفع: ما عثدي فيه شيء يستحب القراءة به فيه، فقال هذا يدل على أن الشفع من جنس سائر النوافل. قال وهذا عندي لمن كان وتره واحدة عقيب صلاته بالليل. فأما من لم يوتر إلا عقيب الشفع فإنه يستحب له أن يقرأ في الشفع بسبح وقيل يا أيها الكافرون، فأنت ترى أبا الوليد كيف فصل التفصيل الذي كنت اخترته. وذكر أن الوتر إذا كان عقيب صلاة الليل لم يفتقر في الشفع إلى قراءة معينة، اللهم إلا أن يكون أراد قيام المتهجدين في غير رمضان. لأن (¬1) رمضان يجتمع فيه الناس على التنفل ويُتّبع فيه فعل السلف بالاقتصار على عدد معلوم فيكون مخالفًا لما سواه من قيام الليل. فقد يمكن أن يقصد إلى ذلك. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بقل هو الله أحد (¬2). وقالت عائشة رضي الله عنها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما في الأولى بفاتحة الكتاب وسبح، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وقيل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص وقيل أعوذ برب الفلق، وقيل أعوذ برب الناس. وظاهر حديث عائشة هذا يرد على ما كنا اخترناه في سن الحداثة، واختاره أبو الوليد الباجي لأن عائشة رضي الله عنها حكت فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. والظاهر أنها حكت وتره عقيب تهجده في السحر - صلى الله عليه وسلم -. لكن مما ¬

_ (¬1) لأجل أن -ق-. (¬2) أخرجه الترمذي وقال حسن غريب. عارضة الأحوذي ج 2 ص 249 - 250 وكذلك أبو داود مختصر السنن ج 2 ص 124 - 125.

يحتج لهذا المذهب الذي كنا اخترناه أن غيرها ممن حكى قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدد ركعاته ووصفها لم يذكر أنه خص الركعتين اللتين يليهما الوتر بقراءة. وقد قال بعض الأشياخ المختار ما قاله مالك من أن الشفع لا تستحب فيه قراءة معينة لقوله عليه السلام: "فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى" (¬1). وظاهره أن الشفع لا يفتقر أن يخص بنية ولا بقراءة. وأما القراءة في الوتر فإن المختار عند مالك أن يقرأ بأم القرآن والإخلاص والمعوذتين. وقال في المجموعة أن الناس يلتزمون في الوتر قراءة قل هو الله أحد والمعوذتين وما ذلك بلازم، وإني لأفعله. وذهب أبو حنيفة وأحمد والثوري وإسحاق إلى الاقتصار فيها على فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص. وحجتهم ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بسبح وقيل يا أيها الكافرون وقيل هو الله أحد ويَقْنُت في الثالثة قبل الركوع (¬2). ولنا عليهم حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم وهو أولى. ولأن فيه زيادة والزيادة مقبولة من العدل. ولو قرأ بأم القرآن خاصة في وتره سهوًا فلا سجود عليه، قاله مالك. ولو نسي أن يقرأ في ركعة وتره، فقد استحب مالك أن يضيف إليها أخرى ويسجد لسهوه ثم يوتر. وقال بعض المتأخرين (¬3). والقراءة في ركعة الوتر جهرًا. وهو بالخيار في شفعها. إن شاء جهر وإن شاء أسرّ. فإن أسز في الوت رنا سيًا سجد قبل السلام. وإن جهل أو تعمد فعليه الإعادة في ليلته، وبلغني ذلك عن يبيح بن عمر. قال بعض الأشياخ هذا استحسان بعيد. وقد اختلف فيمن تعمد الإسرار في الفرض هل يعيد فكيف في الوتر؟ وقال بعض الحذاق: المجهور فيه الصبح والجمعة والأوليان من المغرب والعشاء ومن غير الفرائض العيدان والاستسقاء والوتر إذا أمّ فيها بالناس. فأما الناس في المساجد فإنهم يسرون إذا أوتروا أفذاذًا لئلا يجهر بعضهم على بعض في القراءة. ويُسرّ في غير الفرائض في ركعتي الفجر وصلاة الكسوف. وأما النوافل التي لا تتعدد ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) تتبع النسائي الروايات ولم يذكر ويقنت في الثانية قبل الركوع وكذلك ابن ماجة وكذلك أحمد. شرح سنن النسائي ج 3 ص 243 - 247 وابن ماجة 1171 - 172 أو بلوغ الأماني 1093. (¬3) الاشياخ -ق-.

فهو بالخيار بين الجهر والإسرار. واستحب ابن حبيب الجهر في نافلة الليل. وقال الشيخ أبو محمَّد يستحب الأسرار في نافلة النهار. وهكذا في المبسوط أنه يخافت بالقراءة. وقال القاضي أبو محمَّد اختلف في الجهر في نافلة النهار فقيل جائز وقيل مكروه. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما الوتر إن ذكرها وهو في صلاة الصبح وهو في وقت يمكن إذا قطع وأوتر أن يدرك الصبح قبل طلوع الشمس فإنه لا يخلو من أن يكون فذًا أو إمامًا أو مأمومًا. فإن كان فذًا فالمشهور أنه يقطع وفي المبسوط لا يقطع. وإن كان إمامًا، ففي كتاب ابن حبيب أنه يقطع. ويتخرج على القول الآخر أنه لا يقطع. وإن كان مأمومًا فقيل: يقطع وقيل لا يقطع، وقيل إن شاء تمادى مع الإِمام فإذا فرغ أوتر وأعاد الصبح. وهذه الثلاثة أقوال مروية عن مالك. وحمل بعض أشياخي تماديه إذا اختار ذلك على القول بالتخيير على أنه يتمادى بنية النفل. وسبب الاختلاف في جميع هذه الأقسام تقابل الأعمال وترجيح بعضها على بعض. فمن أنكر القطع فلأن الوتر سنة وصلاة الصبح فريضة فلا يقطع الفرض لما هو دونه. ومن قال بالقطع فلأن الوتر سنة مؤكدة يخشى فواته والصبح إن قطعها لم تفت وعاد إليها. ومن فرق بين المأموم وغيره فلاجل أن الجماعة مسنونة فاجتمع صلاة الفرض وسنة الجماعة. فكان آكد. من الوتر. فلهذا لم يقطع المأموم. ولو أن ذاكر الوتر ذكرها وهو بالمسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يخرج لصلاتها لتأكدها ولا يخرج لركعتي الفجر. وقد أسكتَ عبادةُ المؤذن لأجل الوتر مع ما روي من قوله عليه السلام: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (¬1). قال بعض حذاق المتأخرين يحتمل أن يعتقد حمل الحديث على المأموم. وأما الإِمام فله إسكات المؤذن والإتيان بمؤكد النفل. لأن الصلاة لا تنفذ إقامتها دونه. وهو بخلاف غيره. وقد روى ابن القاسم عن مالك إذا أخذ المؤذن في الإقامة للفجر ولم يكن الإِمام ركع ركعتي الفجر فلا يخرج إليه ولا يُسْكته. وليصل ركعتي الفجر قبل أن يخرج إليه. قال بعض الأشياخ أسكت عبادة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

المؤذن لتأكد أمر الوتر. ولأنه لو صلى لم يأت به بعد ذلك. وركعتا الفجر إن شاء صلاهما إذا طلعت الشمس. وهذه إشارة إلى أنه لا يسكت المؤذن لركعتي الفجر. وقد قدمنا قول مالك لا يسكته وليصل ركعتي الفجر قبل أن يخرج إليه. فقد نهى عن إسكاته. ولكنه ذكر أنه يصليهما قيل الخروج إليه. ولم يذكر إذا لم يمكنه صلاتهما. وقد قدمنا إشارة بعض الأشياخ في هذا. والأسبق إلى النفس من ظاهر هذه الروايات أنه لا يسكته. وقد ذكرنا تفرقته في الخروج من المسجد إذا أقيمت الصلاة بين صلاة الوتر وركعتي الفجر فأخرجه في الوقر لتأكدها. ولم يخرجه لركعتي الفجر لانخفاض رتبتهما عن حرمة الإقامة (¬1). ¬

_ (¬1) إلى هنا تنتهي النسخة التي كان الفراغ من نسخها يوم الجمعة العاشر من جمادى الأولى من عام 698.

سجود التلاوة (¬1) قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وأما سجود القرآن فعزائمه (¬2) إحدى عشرة سجدة. أولها خاتمة الأعراف (¬3)، وثانيها في الرعد عند قوله وظلالهم بالغدو والآصال (¬4). وثالثها في النحل عند قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (¬5). ورابعها في بني إسرائيل في قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (¬6). وخامسها في مريم عند قوله: {وَبُكِيًّا} (¬7). وسادسها أولى الحج في قوله: {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (¬8). وسابعها في الفرقان عند قوله: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (¬9). وثامنها في النمل عند قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬10). وتاسعها في آلم تنزيل عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (¬11). وعاشرها في "ص" عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬12) وقيل {وَحُسْنَ مَآبٍ} (¬13) والحادية عشر في ¬

_ (¬1) من هنا اعتمدنا إلى جزء الثاني من نسخة مكتة القرويين بفاس ونشير بقث = قرويين ثاني. (¬2) فعزائمها -و-. (¬3) آخر سورة الأعراف، الآية: 206. (¬4) سورة الرعد، الآية: 5. (¬5) صورة النحل، الآية: 50. (¬6) سورة الإسراء، الآية: 109. (¬7) سورة مريم، الآية: 58. (¬8) سورة الحج، الآية: 58. (¬9) سورة الفرقان، الآية: 60. (¬10) سورة النمل، الآية: 26. (¬11) سورة السجدة، الآية: 15. (¬12) سورة ص، الآية: 24. (¬13) سورة ص، الآية: 25.

فصلت عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (¬1)، وقيل: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (¬2) وليس في المفصل منها شيء. ويسجدها من قرأها في صلاة فرض أو نفل، واختلف عنه في فعلها في الأوقات المنهي عنها. قال الإِمام رضي الله تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - هل سجود التلاوة واجب أو مستحب؟. 2 - وما عددها؟. 3 - وما مواضعها؟. 4 - وما حكم قراءتها في الصلاة؟. 5 - وما حكم من نسي أن يسجدها في الصلاة؟. 6 - وما حكم من أراد أن يسجدها فنسي فركع؟. 7 - وما حكم سامعها؟. 8 - وما حكم تكررها؟. 9 - وهل تفرد بالقراءة؟. 10 - وما حكم السلام فيها والإحرام؟. 11 - وهل من شرطها الطهارة؟. 12 - وما حكم سجودها في الوقت المنهي عنه؟. 13 - وما حكم سجود الشكر؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في سجود التلاوة فذكر بعض أصحابنا أنه سنة عند مالك والشافعي، وواجب عند أبي حنيفة. فأما ما (¬3) ذكره عن أبي حنيفة والشافعي فصحيح. وأما ما (3) ذكره عن مالك فإن المتأخرين من أصحابه اضطربوا، فبعضهم أطلق القول بأنها سنة. والقاضي أبو محمَّد أطلق القول في هذا الكتاب أنها فضيلة. والذي اشتهر من قول مالك ¬

_ (¬1) سورة فصبت، الآية: 37. (¬2) سورة فصلت، الآية: 38. (¬3) ما = ساقطة -و-.

فيها:- اجتمع (¬1) الناس- وروي عنه: الأمر المجتمع عليه عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء. قال بعضهم معنى العزائم: إنها آكد مما سواها. ومعنى قوله: اجتمع (1) الناس: أنهم أجمعوا على السجود فيها. ولم يرد أنهم أجمعوا على (¬2) ألا سجود إلا فيها كما ظن به بعض الناس. وقد (¬3) استدل كل واحد من المتأخرين على أن ما ذكره هو مذهب مالك بما وقع في المدونة. فاستدل من قال: أنها سنة، بقوله يسجدها بعد الصبح ما لم يسفر وبعد العصر ما لم تصفر الشمس، فألحقها بحكم صلاة الجنازة. ورفعها عن رتبة النوافل. وهذا يقتضي كونها سنة. واستدل الشيخ أبو القاسم بن الكاتب على أنها مستحبة بقوله: كان مالك يستحب له إن قرأها في إبان الصلاة ألا يدع سجودها. وينفصل عن هذا الأولون بأن إطلاق الاستحباب لا ينفي كونها سنة. وأما أبو حنيفة فيستدل بما ورد في القرآن من الأمر كقوله واسجد واقترب (¬4). وأجيب عنه بأنه يمكن أن يحمل على سجود الفرض. وبأنه (¬5) يقتضي السجود قبل التلاوة. وهذا لا يجب إلا بالتلاوة. ويستدل أيضًا بان السجدة جعلت في القرآن علمًا على ترك الاستكبار. وترك الاستكبار واجب، وعلمًا على ترك السآمة والنفور عن الطاعة وما جعل علمًا على الواجب فهو واجب. وأجيب عن هذا بأنه *لم يرد ما ذكره في سجود التلاوة. وإنما ورد إنكارًا للتكذيب والعناد. ودعاءً* (¬6) إلى الطاعة والانقياد. ويستدل أيضًا بان صيانة الصلاة عن الزيادة فيها لاضافة ما ليس منها إليها واجب. فلو كانت السجدة نفلًا لما سجدها المصلي. لأن الصيانة الواجبة أولى من النفل. فلما ¬

_ (¬1) أجمع - قث. (¬2) على = ساقطة -و-. (¬3) قد = ساقطة -و-. (¬4) سورة العلق، الآية:19. (¬5) وأنه - قث. (¬6) ما بين النجمين ممحو -و-.

كانت في الصلاة دل سجودها على أنه واجب من وجوب الصيانة. وأجيب عن هذا بأن المصلي لم يقطع القيام المفروض لأن القيَام المفروض هو ما اشتمل على القراءة الواجبة وما زاد فليس بمفروض: فلا ينكر قطع ما ليس بفرض بما ليس بفرض. وإن صوروا مصليًا لا يحسن أم القرآن ويحسن آيات فيها سجدة، وأوجبوا عليه الإتيان بتلك الآيات، فقد قال بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي لا يبعد المنع ها هنا من سجود التلاوة، وحتى لا ينقطع القيام المفروض. وأما مالك والشافعي فيستدلان بأن رجلًا قرأ بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يسجد فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كنتَ إمامًا فلو سجدت لسجدتُ معك" (¬1) ولم ينكر عليه ترك السجود. وبأن عمر رضي الله عنه قرأ سجدة على المنبر فسجد ثم قرأها في يوم آخر فتهيأ الناس للسجود فلم يسجدها. وقال إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. ولم ينكر ذلك عليه أحد. وأجيب عن هذا بأن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود إنما كان في الحال. قال المخالفون: عندنا السجود على الفور إذا لم يسجد القارئ. وهذا الذي قالوه خلاف لتعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يعلل بأكثر من تَركه السجود. ولم يذكر عزمه على السجود على الفور إذا لم يسجد القارئ في المستقبل. والظاهر أنه لو كان لذكره. وأجيب عن فعل عمر أن معناه إلا أن نشاء قراءتها ولم يكتب علينا تعجيلها إلا أن نشاء. وهذا خروج أيضًا عن ظاهر قول عمر. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب في عدد سجود التلاوة فالمشهور أنه إحدى عشرة سجدة. وذكر القاضي أبو محمَّد في غير هذا الكتاب عن مالك أنه قال العزائم أربع عشرة سجدة. وأضاف إِلى الإحدى عشرة ثلاث سجدات من المفصل وجعلها من العزائم. وقال ابن وهب وابن حبيب هي خمس عشرة سجدة. وأثبتا ثانية الحج. وأما الشافعي فإنه اختلف قوله: فقال مرة أربع عشرة سجدة سوى سجدة "ص" فإنها سجدة شكر. وقال مرة أخرى ¬

_ (¬1) حديث عطاء بن يسار أن رجلًا قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قرأ آخر عند السجدة فلم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله أقرأ فلان عندك السجدة فسجدت وقرأت عندك السجدة فلم تسجد فقال كنت ... الخ روي موصولأوهو واهي الإسناد وروي مرسلًا قال الحافظ ورجاله ثقات. انظر إرواء الغليل ج 2 ص 227.

إحدى عشرة سجدة فأسقط منها سجدات المفصل وبه قال ابن عباس وابن عمر وأبي وزيد رضي الله عنهم. وأما أبو حنيفة فإنه قال بالأربع عشرة إلا أنه أسقط الثانية من الحج وعد مكانها سجدة "ص". وقال أبو ثور ثلاث عشرة فأسقط منها سجدة النجم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال عشرة وأسقط سجدة "ص". وقال علي وابن مسعود العزائم أربع: ألم تنزيل وحم تنزيل والنجم. واقرأ باسم ربك لأنه أمر بالسجود، والبقية وصف. وهكذا حكى عنهما ابن شعبان. وحكى عنهما غيره أنهما قالا: أربع سجدات من العزائم، سجدتا الحج، وآخر النجم، وآخر العلق. فأما نفي السجود من المفصل وهو المشهور عندنا، فلقول زيد بن ثابت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في: "والنجم" (¬1) ولقول ابن عباس إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك السجود في المفصل بعد الهجرة (¬2). وأما إثباته فإن أبا هريرة رضي الله عنه صلى العتمة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد، فكيل له ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت فيها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ولا أزال أسجدها حتى ألقاه (¬3). وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سجدة في القرآن ثلاث منها في المفصل (¬4). ولأن السجود في غير المفصل عند مدح لمن (¬5) سجد أو ذم لمن (5) ترك. وكذلك سجود المفصل وسجدة النجم أمر. وانفصل هؤلاء عن حديث زيد بأنه محمول على أنه كان القارئ فلم يسجد لعذر منعه من السجود، فلهذا لم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. لأنه قال قرأت على ¬

_ (¬1) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن زيد قال: قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة فلم يسجد فيها. الهداية ج 4 ص 268. (¬2) رواه أبو داود الطيالسي والسجستاني عن عكرمة عن ابن عباس قال لم يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من المفصل بعد ما تحول إلى المدينة قال النووي ضعيف الإسناد وقال ابن عبد البر منكر. الهداية ج 4 ص269. (¬3) أخرجه الشيخان والنسائي. الهداية ج 4 ص 275. (¬4) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والحاكم والبيهقي وفي سنده الحارث بن سعيد وهو غير معروف وعبد الله بن منين وهو مجهول. الهداية ج 4 ص 273. (¬5) من -و-.

النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَالنَّجْمِ} فلم يسجد ولم يقل إني سجدت. وأما حديث ابن عباس فأجيب عنه بأنه لم يشهد جميع إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وإنما كان قدومه سنة ثَمان بعد الفتح فلا يُرد حديث أبي هريرة مع صحة سنده بمثل هذا. مع كونه مثبتًا والمُثبِت أولى. مع جواز أن يحمل على أنه ترك السجود ليشعر بسقوط وجوبه أو يكون تركه لأنه اتفق أن كان عذرٌ منع من السجود. وأما السجدة الثانية من الحج فقد تعلق من أثبتها بقول عبد الله بن عمرو بن العاصي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة (¬1). وأجيب عنه بأنه لم يقل أنه سجد فيها ولا أمره بالسجود. ولعله أراد أن يخبر أنه سمع القرآن كله منه أو أكثره. وتعلقوا بقول عقبة: يا رسول الله في الحج سجدتان قال نعم. من لم يسجدهما فلا يقرأهما (¬2) وبأنه مذهب عمر وأبي وعلي وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. وقال ابن إسحاق أدركت الناس سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين قالوا والآية وإن ذكر فيها الركوع مع السجود فلا يقتضي ذلك سقوط السجود في التلاوة. وقياسًا على قوله تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} (¬3) لأن هذا قياس ترده الآثار التي ذكرناها. أما قول الشافعي في سجدة "ص" إنها ليست من العزائم لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأها فسجد ثم قرأها في الجمعة الأخرى فلم يسجد حتى تشوف الناس سجودها فنزل وسجد، وقال إنها توبة نبي. ولكن رأيتكم تشوفتم السجود فسجدت (¬4). فلا دليل فيه على أنها بخلاف غيرها من العزائم لأن الغرض بالخبر الإشعار بسقوط وجوبها. وكذلك قوله سجدها داود توبة ونحن نسجدها ¬

_ (¬1) تقدم قريبًا. الهداية ج 2 ص 273. (¬2) أخرجه د - ت وأحمد والحاكم قال الترمذي ليس إسناده بالقوي وقال الحاكم لم نكتبه مسندًا إلا من هذا الوجه نصب الراية ج 5 ص 179. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 43. (¬4) عن أبي سعيد الخدري قال الحاكم وهو على شرطها وقال البيهقي حسن الإسناد صحيح. الهداية ج 4 ص 278 - 279.

شكرًا (¬1). فلا دليل فيه. لأن سجود التلاوة يكون لنفي الاستكبار أو الائتمار (¬2) أو الشكر. وأما قول ابن عباس ليست من العزائم فمعناه ليس مما ورد بلفظ الأمر بالسجود، أو في مواضع التعظيم والمدح وإنما هي توبة نبي. على أنه روي عنه أيضًا أنه قال سجدها داود وأمر صاحبكم أن يقتدي به (¬3) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي بعض الطرق عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}، فقال أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده (3). وقد سجد عثمان في صلاته وسجد الناس معه ولم ينكر عليه أحد. فلو كانت سجدة شكر كما قاله الشافعي لم يجز إدخالها في الصلاة. والجواب عن السؤال الشاك: أن يقال: أما مواضع السجود فقد ذكره القاضي أبو محمَّد في كتابه هذا وذكر الاختلاف فيه في موضعين. فأما سجدة "ص" ففيها قولان. كما ذكر فاختار ابن حبيب قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} (¬4). واختار الشيخ أبو الحسن ابن القابسي {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬5) وهو الذي ذكره الوقار. فأما اختيار {حُسْنَ مَآبٍ} فلأنه متصل بذكر السجدة ومتضمن للثناء على فعلها وإشارة للحض عليها، فكان إيقاع السجود عنده أولى. وأما اختيار قوله وأناب، فلأنه اللفظ المشتمل على ذكر ما فعله من الركوع والإنابة. فكان حقيقة التشبيه به فيه يقتضي فعله عند ذكر ذلك عنه. وكذلك الاختلاف في سجدة حم تنزيل فذهب مالك والشافعي إلى أنها عند قوله تعالى: {تَعْبُدُونَ} (¬6) وروي عن عمر رضي الله عنه وقال ابن وهب من أصحابنا وأبو حنيفة عند قوله {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (¬7) وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنه. وتوجيه هذا الاختلاف كنحو توجيه ما تقدم في سجدة "ص". فمن قال: تعبدون فلأنه موضع الأمر فكانت حقيقة الامتثال السجود عند ذكره. ¬

_ (¬1) عن ابن عباس رواه النسائي وأحمد والحاكم. وهبة الألمعي مع نصب الراية ج 2 ص 181. (¬2) الائتمان -و-. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة. انظر الدر المنثور ج 5 ص 304. (¬4) سورة ص، الآية: 40. (¬5) سورة ص، الآية: 24. (¬6) سورة فصلت، الآية: 37. (¬7) سورة فصلت، الآية: 38.

ومن قال لا يسئمون فلانه تمام معاني السجدة فإنها شرعت مرة بالأمر ومرة بذكر استكبار الكفرة. وذكر خشوع المطيعين. وفي الآية الأولى أمر وفي الثانية ذكر استكبار الكفرة وخشوع الملائكة فكان إيقاع السجود عند استيفاء المعنيين أولى. وقد جاءت سجدة الرعد والنحل والحج بمدح من سجد، وسجدة الفرقان وغيرها بذم من عاند. فامرنا بالتشبه بالممدوحين والمخالفة للمعاندين. وجاءت سجدة النجم وغيرها بالأمر بالسجود فامتثلناها. فلما اشتملت سجدة حم على معنيين مما ذكرناه (¬1)، حسن إيقاع السجود عند استيفائهما مع أنه إحوط. وزيادة هذا المقدار من التلاوة لا يُخرج عن حكم السجود على القول الأول. وأما مواضع السجود التي لم يذكرها القاضي أبو محمَّد فذكر ابن حبيب أن السجدة الثانية في الحج عند قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬2). وفي النجم آخرها عند قوله: {وَاعْبُدُوا} (¬3). وكذلك في الانشقاق والعلق. عند خاتمتهما. قال القاضي أبو محمَّد السجدة في الانشقاق عند قوله تعالى: {لَا يَسْجُدُونَ} (¬4). والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما المصلي صلاة الفرض فهل يجوز له أن يقرأ ما فيه سجدة أم لا، فإنه إن كان إمامًا وخاف أن يُخلّط على من خلفه نهي عن ذلك. وإن أمن التخليط على غيره إذا سجد أو كان فذًا فظاهر المذهب على قولين: فإن كانت الصلاة صلاة سر فإن سجوده يتقى منه أن يخلط عليهم، وإن كانت صلاة جهر والجماعة كثيرة فكذلك أيضًا لأن الجهر وإن كان رافعًا للتخليط فالكثرة توقع فيه. وإن كانت الجماعة قليلة. فإنه يؤمن من التخليط. فأجازه مالك في المجموعة والعتبية. وكرهه في المدونة للإمام على الإطلاق. وكذلك أيضًا كره في المدونة للفذ وأجيز ني غيرها. وأما الشافعي فإنه لا يكره قراءة سجدة في الصلاة. وأما أبو حنيفة فإنه يكره ذلك في صلاة ¬

_ (¬1) ذكرنا -و-. (¬2) سورة الحج، الآية: 77. (¬3) سورة النجم، الآية: 53. (¬4) سورة الانشقاق، الآية: 21.

السر دون الجهر. والدليل على الجواز حديث أبي هريرة لما صلى بهم فقرأ بالانشقاق فسجد ثم قال سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - وأيضًا فإنه قد ثبت أنه عليه السلام كان يقرأ في يوم الجمعة في الصبح بـ {الم} "السجدة" وهل أتى على الإنسان (¬1). وكان عبد العزيز بن مروان وأبو بكر بن حزم يؤمان بهما في الصبح يوم الجمعة وحديث أبي هريرة وما ذكر معه فإنما هو في صلاة الجهر. فلهذا قصر أبو حنيفة الجواز على صلاة الجهر وحملناها نحن على الأمن من التخليط، فلهذا اشترطناه. وأما الشافعي فيحتج للجواز، وإن كانت صلاة سرّ، بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد في الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ سورة سجدة (¬2). وأما اختلاف أصحابنا في الفذ، والإمام الذي يأمن من التخليط فسببه أن من اعتبر في علة الكراهة التخليط أجاز للإمام الذي يأمن من التخليط وللفذ. ومن اعتبر زيادة في الصلاة على مقاديرها اختيارًا. وأن ذلك على خلاف المشروع كره للإمام وإن أمن وللفذ. وإن قرأ الإِمام السجدة في الموضع الذي أجزناه له فلا شك أنه مأمور بسجودها ومن خلفه مأمور باتباعه. وإن قرأها في الموضع الذي نهيناه عنه سجد بها. إذ لا يحسن الإخلال بالسجود بعد قراءتها. واختار بعض أشياخي إذا قرأ سورة السجدة ألا يقرأ موضع السجدة تحرزًا من الكراهة. فإن قرأها وكانت صلاته سرًا أعلن بقراءة (¬3) السجدة ليشعر من خلفه أنه لذلك سجد وقد قال أبو هريرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا الظهر ويسمعنا الآية أحيانًا (¬4). فإذا أسمعهم الآية لغير سبب (¬5) مثل ما نحن فيه. فأحرى فيما يقتضيه سبب. وهو إزالة التخليط عن المأمومين. ¬

_ (¬1) كلام غير واضح بمقدار أربع كلمات. (¬2) رواه أبو داود: مختصر المنذري عدد 770 الحديث. وأحمد والحاكم والطحاوي عن ابن عمر حرز الأماني ج 4 ص 162. (¬3) بقراءته للسجدة - قث. (¬4) رواه البخاري ومسلم: نصب الراية ج 2 ص 3. والسدي والسيوطي على النسائي عن البراء بن عازب وعن أبي سعيد الخدري وعن أبي قتادة ج 2 ص 163 - 166. (¬5) لغير سبب اقتضى ذلك مثل -و-.

وأما المأمومون هل يتبعونه في سجوده إذا وضعه في الموضع الذي نهيناه عنه؛ وهذا لا يخلو أن يكون جهر بالسجدة أو لا يجهر. فإن كان جهر بالسجدة فلا شك في اتباعه. وإن كانت صلاة سر ولم يجهر بها، ففي السليمانية قولان: أحدهما أنهم يتبعونه، فإن لم يفعلوا فلا شيء عليهم. قاله ابن القاسم. والثاني لا يتبعونه إذ لا يدرون أنه قرأ سجدة ويجوز أن يكون ساهيًا. قاله سحنون وتصح صلاتهم عنده وإن لم يتبعوه. ولا يقرأ السجدة الخطيب على المنبر يوم الجمعة. قاله أشهب. وكأنه رأى أن النزول للسجدة (¬1) يؤثر في نظام الخطبة واتصالها وتركه مع القراءة لا ينبغي. فَنُهي عنه كما ينهى الإِمام عن قراءتها في الصلاة إذا خاف التخليط على المأمومين. فإن قرأها الخطيب فقال أشهب ينزل فيسجد الناس معه. فإن لم يفعل فليسجدوا ولهم في الترك سعة؛ لأنه إمامهم. وينبغي أن يعيد قراءتها إذا صلى ويسجد. وقال مالك لا يسجد. والعمل على آخر فعل عمر رضي الله عنه. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قارئ السجدة إن جاوزها بيسير سجدها وقرأ من حيث انتهى. وإن جاوزها بالكثير رجع إليها فقرأها وسجد ثم عاد إلى حيث انتهى في القراءة. فكذلك المصلي إذا نسي سجودها عند قراءتها وقرأ بعدها يسيرًا فإنه يسجد حينئذٍ وإن قرأ بعدها كثيرًا عاد إليها. ولو نسي فقدمها عند آية قبلها ظن أنها السجدة فليقرأ السجدة ويسجد لها ثم يسجد لسهوه بعد السلام. وإن كان المصلي لم يذكرها حتى عقد الركعة التي هو فيها ورفع منها فإنه لا يخلو أن يكون (¬2) في فرض أو في نفل. فإن كان في فرض لم يعد إلى قراءتها. قاله في المدونة. وقال ابن حبيب: قال مالك وأصحابه يعود إلى قراءتها في الثانية ويسجد. وإن كان في نافلة فإنه يعود إلى قراءتها في الثانية. لم ¬

_ (¬1) للسجود - قث. (¬2) إما أن يكون - قث.

يختلف فيه المذهب فيما علمت. وإن ذكر وهو راكع لم يرفع ففيه قولان. وهما مبنيان على ما قدمناه في عقد الركلعة هل هو تمام الإنحناء أو رفع الرأس؟ فقال مالك في هذه المسألة يمضي على ركوعه وقال أشهب بل ينحط للسجود. وإذا أمر المصلي الناسي للسجدة في ركعته أن يسجدها في الثانية فهل يسجدها قبل قراءة أم القرآن أو بعد قراءتها؟ اختلف الأشياخ فقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد بعد قراءتها. وقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان بل قبل قراءتها. قال وإنما يكره أن يقدم قبل أم القرآن ذكر أو دعاء في الركعة الأولى إذا أحرم. وأما في غيرها فلا يكره ذلك. وكان الشيخ أبا محمَّد حافظ على الرتبة (¬1) الأصلية وهي كون السجود بعد القراءة، وكان الشيخ أبا بكر حافظ على تعجيل القضاء، ورأى أنه إذا صارت الركعة الثانية هي محله، قُدم أولها. لأنه أقرب إلى موضعها الأصلي. وإن لم يذكر المصلي للنافلة السجدة حتى عقد الثانية، فقد فاته (¬2) السجود وقضاؤه في هذه الصلاة. وقال أشهب بل يسجد وإن لم يذكر إلا وهو جالس لم يسلم أو قد سلم. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما قارئ السجدة فإنه لا يركع بها عندنا. قاله مالك وابن القاسم لأنه إن قصد بفعله الإتيان بما عليه من الركوع فقد ألغى السجدة. وإن قصد السجدة فقد أحالها عن صفتها وأزالها عن هيئتها. ونحا ابن حبيب إلى إجازة ذلك. وهكذا قال أبو حنيفة أن الركوع يقوم مقام السجود ولكنه جعل ذلك من ناحية الاستحسان. واحتج بقوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (¬3). وأجيب عنه بان المراد أنه سجد وعبر عن السجود بالركوع بدليل قوله: {وَخَرَّ} إذ لا يقال خرّ راكعًا وإنما يقال خرّ ساجدًا. ويمكن عندي أن يكون ابن حبيب رأى أن السجود الأصلي المتصل بالركوع يُغني عنها لأن صورته كصورتها. وهو يفعل عقيب قراءتها فاكتفي به عنها. كما ينوب غسل الجنابة عن غسل الجمعة لتساويهما في الصورة وحصول الغرض من غسل ¬

_ (¬1) المرتبة -و-. (¬2) فات -و-. (¬3) سورة ص، الآية: 24.

الجمعة بغسل الجنابة. فإن قلنا بما قاله مالك وتعمد فعل الركوع اعتد بركعته وقرأها في ثانيته على حسب التفصيل الذي أمرنا به ناسي سجودها عند قراءتها في الأولى، فذكر في الثانية. وإن لم يتعمد الركوع ولكنه أراد السجود لها فركع ناسيًا فهل يعتد بركوعه أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أنه لا يعتد به. فإن ذكر وهو منعن خر لسجدته، وإن ذكر وقد رفع لم يعتد بركعته وألغاها. وهذا مذهب ابن القاسم. والثاني أنه يعتد بركعته. وإلى هذا ذهب مالك. فإن ذكر وهو منعن رفع متممًا للركعة. وإن ذكر بعد أن رفع فقد تمت الركعة ويقرأ السجدة فيما بعد على حسب ما تقدم. فإن قلنا بالإلغاء فقال بعض المتأخرين: يسجد السجدة ثم يقوم فيقرأ شيئًا ثم يركع. وإنما أمره ها هنا بقراءة شيء استحسانًا ليكون الركوع عقيب قراءة على حسب عادات الشرع وإلا فقد قال ابن حبيب من قرأ سورة في آخرها سجدة فسجد ثم قام فإن شاء ركع وإن شاء قرأ من الأخرى شيئًا ثم ركع. وسبب هذا الاختلاف في الاعتداد بهذه الركعة أن الانحطاط للركوع ها هنا لم يكن بنية الركوع ولكن بنية السجود. والركوع فرض والسجود نفل. فإن قلنا أن الحركة إلى الأركان غير مقصودة في نفسها وإنما القصد أن يحصل المصلي راكعًا فهذا قد حصل راكعًا فينوي بركعته الفرض. وأعظم مراتب الانحطاط أن يكون كالفرض (¬1). ولو صح الركوع مع عدمه لاكتفي به. وها هنا قد صح الركوع. وإن قلنا أن الحركة إلى الأركان مقصودة في نفسها وقلنا إن الخروج عن نية الفرض إلى نية النفل لا يمنع الاعتداد كالمصلي في نفل وهو في فرض يعتقد أنه أكمل، اعتد هذا بركعته. وإن قلنا أنه يمنع الاعتداد لم يعتد هذا بركعته. ولقد استبعد ابن حبيب قول ابن القاسم حتى تأول قوله: لا يعتد بالركعة. على أن مراده لا يعتد بالركعة في النيابة (¬2) عن السجدة، ولا معنى لاستبعاده مع ما أريناك من وجه قوله. وحاول الشيخ أبو محمَّد خلاف ما حاول ابن حبيب فتأول قول من قال بالاعتداد على أنه إنما أجاب عن من قصد في الانحطاط الركوع ساهيًا عن السجدة. ولكنه مع هذا أشار إلى تخريج الخلاف ¬

_ (¬1) كالعدم - قث. (¬2) الثانية - قث -وهو غير مستقيم.

في المسألة على الاختلاف في تحويل النية. وإذا قلن ابن في الاعتداد فذكر وهو منعن فخر ساجدًا فهل عليه سجود السهو أم لا؟ قال ابن حبيب: إن طال الركوع سجد بعد السلام. وفسر أبو محمَّد الطول ها هنا بالطمانينة في الركوع. وإن قلنا بالاعتداد بالركعة، ففي المجموعة يقرأ السجدة فيما بقي من صلاته ويسجد بعد السلام. ولم ير المغيرة في هذا سجود سهو. والذي قاله المغيرة هو الأصل، إذ ليس ها هنا زيادة تقتضي السجود بعد السلام، ولا يظهر عندي للسجود بعد السلام وجه على مقتضى أصل المذهب إلا أن يعتقد أن الحركة إلى الركوع لما حولت النية فيها صارت كالعدم. وعدمها لا يمنع الاعتداد، ولكنه نقص يقتضي سجود السهو. ومقتضى النقص أن يكون قبل السلام لكنهم ربما أخروه إلى بعد السلام، لما كان إثبات السجود فيه ضعف احتياطًا للصلاة لئلا تكون فيها زيادة، وقد قدمنا قول أشهب أن ناسي التكبير يسجد بعد السلام لضعف السجود فيه، فاحتيط فيه من الزيادة في الصلاة. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف الناس في المستمع لقراعة السجدة. فعندنا أن المستمع لها يسجد مع القارئ دون السامع. وقال أبو حنيفة القارئ والمستمع والسامع سواء. وبما قلناه قال جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. روي أن عثمان مر بقاصّ فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان رضي الله عنه فلم يسجد. فقال ما استمعنا له. وقال ابن مسعود وعمران بن حصين ما جلسنا لها. وقال سلمان ما غدونا لها. وإذا ثبت أن السامع لا يسجد وإنما يسجد المستمع الذي جلس للقارىء، فإن لسجوده شروطًا. منها: أن يكون القارئ ممن يؤتم به فإن كان ممن لا يؤتم به كالمرأة فإن المستمع لا يسجد، وكالصبي فإنه لا يسجد أيضًا. ويتخرج أيضًا على القول بجواز إمامة الصبي في النافلة أن يسجد معه المستمع. أو كرجل بالغ على غير وضوء فإن المستمع لا يسجد. أو كان بالغًا فاسقًا وفسقه يمنع من الائتمام به فإن المستمع لا يسجد. فإن كان القارئ ممن يؤتم به ولكنه قرأ قراءة يُنْهى عنها كالقاصد لقراءة القرآن وسجوده بالناس لا لإرادة التعليم، فإن المستمع لا يسجد وإن سجد القارئ وإن كانت قراءته مما تجوز سجد وسجد معه المستمع. وإن لم يسجد القارئ فإن

كان في صلاة لم يسجد المأموم لئلا يخالف الإِمام *لورود النهي عن مخالفة الإِمام. وهكذا عندي لو قرأ المأموم سجدة لم يسجد على أصلنا لئلا يخالف الإِمام فيه* (¬1) وبه قال أبو حنيفة. وقال محمَّد بن الحسن يسجدها ومن سمعه إذا فرغوا من صلاتهم. وهذا غير صحيح لأنه وإن تحرز من المخالفة ففيه التأخير للسجود وذلك لا يصح على أصلنا. مع أن قراءته كالتبع لقراءة الإِمام فقدرت كالعدم. فلم توجب سجودًا. وإن كان في غير صلاة ففيه قولان: فقال ابن القاسم في المدونة يسجد المستمع. وقال غيره من أصحاب مالك لا يسجد المستمع. واحتج ابن حبيب لهذا القول: بترك سجود المأموم إذا لم يسجد الإِمام. وقد قدمنا أن الصلاة إنما لم يخالف فيها الإِمام لورود النهي عن مخالفة الإِمام. لكن مما يحتج به لهذا القول ما روي أن رجلًا قرأ آية فيها سجدة وهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فسجد الرجل وسجد معه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قرأ آخر آية فيها سجدة وهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. فانتظر الرجل أن يسجد، فلم يسجد فقال الرجل يا رسول الله قرأت السجدة فلم تسجد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتَ إمامًا فلو سجدتَ سجدتُ معك" (¬2). ومما يحتج به لابن القاسم أن المستمع خوطب بالسجدة كما خوطب القارئ بها. فإذا اشتركا في الخطاب فيها فلم يمتثله أحدهما فلا يؤمر الآخر بارتكاب النهي لركوب غيره له. ولو كان السامع للقراءة مصليًا سمعها من قارئ غير فصل فإنه لا يسجد عندنا؛ لأنا نشترط في سجوده وهو في غير صلاة أن يكون مستمعًا فكيف به إن كان في صلاة مشتغلًا بعمل آخر. ومن كان في صلاة فليس بمستمع وإن كان سامعًا. وقال الحكم وحماد يسجد. وبه قال النخعي إلا أنه يشترط ألا يكون ساجدًا. وقال ابن سيرين وأبو حنيفة يسجد إذا فرغ من الصلاة. وبنى أبو حنيفة على أصله في السامع يسجد وإن لم يكن مستمعًا. ولا يمكن هذا أن يسجد في الصلاة فأخر إلى بعد الفراغ. وقد نوقض في هذا بأنه يقول إذا قرأ المصدي آية سجدة في الصلاة ودم يسجد فإنه لا يسجد إذا فرغ. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) تقدم: ارواء الغليل ج 2 ص 227.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا قرأ القارئ آية سجدة بعد ما سجد، فإنه يسجد عندنا، وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة لا يسجد استحسانًا. فلنا أنه ممن يخاطب بالسجود وقد وُجد سبب السجود فشرع له السجود كما لو أعادها في مجلس إخر. واحتج لأبي حنيفة بأنه اجتمع سبب سجدتين في مجلس واحد فأجزأه سجود واحد، كما لو لم يسجد. وأجيب عن هذا بأنه إذا سجد فعل الموجب عن سبب السجود، وإذا لم يسجد فإنه لم يفعل الموجب فاكتفي بسجود واحد، ألا ترى أن الحدود إذا لم تقع وقد تكرر السبب فإنه يكتفى بحد واحد، وإذا تكرر السبب بعد استيفاء الحد كرر الحد. وهذا الذي ذكرته من تكرر السجود هو أصل المذهب عندي، إلا أن يكون القارئ ممن يتكرر ذلك عليه غالبًا كالمعلم والمتعلم، فهذا فيه قولان في المذهب إذا كان المعلم والمتعلم بالغَيْن، فقال ابن القاسم يسجدانها أول مرة ولا إعادة عليهما في ترديدها. وقال غيره لا سجود عليهما ولا في أول مرة. فكان ابن القاسم رأى أن المشقة إنما تحصل بالتكرار وإنما يحصل التكرير بعد أول مرة. ورأى غيره أنهما لما كانا منتصبَيْن لشغل يتكرر سقط السجود، في أوله وآخره. ولو كان المعيد للقراءة ليس بمعلم ولا متعلم، وإنما اتفق إعادتها بأن قرأ حزبه ثم أعاد اتفاقًا أو لغرض ما، فإن الأظهر عندي أن يسجد على أصل المذهب كما بدأت بذكره. وإن كان بعض المتأخرين رأيته قد وجه سقوط السجود على المعلم والمتعلم، بان قال إذا تكرر على القارئ والمستمع السجود سقط. كما لا يلزم الجنب المزيد للنوم إعادة الوضوء إذا أحدث. لأن ذلك يتكرر على القارئ. فأشار في هذا الكلام إلى سقوط السجدة مع التكرار من غير اعتبار حال القارئ. ولو أن معلمًا قرأ عليه متعلم حرفُ افيه سجدة فسجد، ثم أتى آخر فقرأ حزبًا فيه سجدة أخرى لسجدَا جميعًا، العالم والمتعلم. لأن قارئ جميع القرآن يسجد جميع سجداته. ولا يسقط عنه بتكرير السجود. هذا اختيار بعض أشياخي وهو قد يتضح وجهه على قول ابن القاسم الذاهب إلى أن المعلم والمتعلم يسجدان السجدة أول مرة ويسقط عنهما السجود إذا كرراها. لأن هذا المعلم السامع جميع سجدات القرآن من آحاد بعددها لم يتكرر عليه سجود

سجدة واحدة، بل هو في كل سجدة لم يسجد لها إلا مرة. وأما على قول من قال من أصحابنا أن المعلم والمتعلم لا يسجدان، ولا في أول مرة، لما كانا منصوبين لأمر يتكرر، فإن سجود المعلم ها هنا فيه نظر على أصلهم؛ لأنهم إنما راعوا مشقة التكرر فاسقطوا المبدأ والمُعاد. والتكرر ها هنا حاصل للمعلم. فإن قيل فقارىء القرآن كله تتكرر عليه السجدات ولا يسقط عنه السجود لمشقة التكرار. قيل قد أشرنا فيما تقدم إلى أن المنتصب للتعليم والمُتعَلِم هما بصدد من يتكرر ذلك عليهما على مدى الأيام فخففت المشقة لهما بخلاف قارئ القرآن لغرض غير غرضهما. فهذا مما يمكن أن يذهب إليه من ذهب إلى هذا القول الثاني الذي أشرنا إليه. وهكنا اختار شيخنا أيضًا إذا تكررت السجدة بعينها على المعلم أن المكررين لها إن كانوا جماعة، واحدًا بعد واحد سجد كل واحد من المتعلمين ولا يسجد المعلم إلا مع أولهم لحصول التكرر فيه دونهم وإن كان المكرر لها عليه رجل واحد لسقط السجود مع التكرر *في ثاني مرة فما بعدها عنهما جميعًا لتساويهما جميعًا فيه* (¬1). والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: كره في المدونة أن يقتصر على قراءة السجدة مجردة مما قبلها ومما بعدها. واختلف الأشياخ في تأويل قوله هذا، فحمله بعضهم على أن المراد به نفس السجدة دون جملة الآية التي هي منها. وحمله بعضهم على أن المراد به جملة آية السجدة وهذا الأشبه. لأنه لا فرق بين قراءة كلمة السجدة أو جملة الآية التي هي منها. لأنه إذا قرأ جملة الآية ليسجد صار كمن قرأ نفس الكلمة، المتعلق السجود بها. فكان هؤلاء الذين حملوا كراهته (¬2) لقراءة آية قصدًا إلى السجود رأوا أن ذلك خلاف ما مضى به العمل، وأن الشرع إنما جاء بسجود من قرأ جملة اتفق فيها ذكر سجدة. فاما من قرأ آية ليسجد فلم يأت الشرع به فكره. لأنه بخروجه عن الشرع يضاهي من سجد في غير موضع السجود. وإذا كره هؤلاء الاقتصار على قراءة الآية فالاقتصار على قراءة كلمة السجدة ينبغي أن يكون أقرب إلى الكراهة. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو -و-. (¬2) كراهيته - قث.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما سجود التلاوة فلا يسلم منه عندنا. وأما التكبير له خافضًا ورافعًا فاختلف قول مالك فيه. فأثبته مرة وضعفه مرة أخرى إلا أن يكون في صلاة فلم يختلف قوله في إثباته. وبمثل قولنا في إثبات التكبير خافضًا ورافعًا ونفي السلام (¬1). قال أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه. وعنه رواية أخرى أنه يكبر للرفع دون الخفض. وبمثل قولنا أيضًا في إثبات التكبير خافضًا ورافعًا. قال ابن حنبل إلا أنه أثبت السلام. وبمثل قولنا في إثبات التكبير خافضًا ورافعًا. قال الشافعي إلا أنه زاد تكبيرة أخرى للافتتاح وأثبت السلام في أحد قوليه دون تشهد. فأما إثبات التكبير في الصلاة فإنه في عبادة مشروع في سجودها التكبير فجرى الأمر في سجودها الفرض والنفل مجرى واحدًا. وأما إثباته في أحد القولين في غير الصلاة فتشبيهًا بسجود الصلاة. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن فلما مرّ بالسجدة كبّر وسجد (¬2). وأما نفيه فلان التكبير إنما شرع في الصلاة وسجود التلاوة بمجرده ليس بالصلاة المعهودة. وأما إثبات الشافعي تكبيرة الافتتاح فقياسًا على صلاة مبتدأة، وابتداؤها إنما يكون بتكبيرة الافتتاح. وقد قال بعض الأشياخ إنما اختلف قول مالك في التكبير ولم يختلف قوله في نفي التسليم لأن التسليم إنما يكون فيما كبر فيه للافتتاح قائمًا. ألا ترى أن صلاة الجنازة لما كان تكبير افتتاحها قائمًا شرع فيهآ السلام. فعورض هؤلاء بسجود السهو لما كان السلام ثابتًا فيه وتكبيره جالسًا، فأجاب بعضهم بأنه تبع لصلاة شرع فيها السلام، فشرع في التابع لها. وأجاب بعضهم بأن العقد للصلاة آكد من الحل؛ لأنها يخرج منها بالحدث وغيره كما حكيناه عن أبي حنيفة. فلأجل الاختلاف في افتقار الصلاة إلى التسليم ضعف حتى انحطت رتبته عن التكبير. والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: من شرط سجود التلاوة عندنا أن يكون القارئ طاهرًا ويستقبل بسجوده القبلة. ويجب عندي أن يراعى ¬

_ (¬1) ونفى السلام = ساقط -و-. (¬2) رواه أبو داود: نصب الراية ج 2 ص 179.

فيه ما يراعى في سجود الصلاة من طهارة النجس وستر العورة. لأنه جزء من أجزاء الصلاة فروعي فيه ما يراعى في كلها. وقد قال ابن المسيب الحائض تومىء برأسها وتقول اللهم لك سجدت. وروي ذلك عن عثمان رضي الله عنه. وما قدمناه من القياس على الصلاة يرد هذا المذهب، وكذلك يرد فعل الأسود بن يزيد وعلقمة وعطاء ومجاهد أن الماشي إذا قرأ آية السجدة يومئ إلى السجود. ولأن الماشي يمكنه السجود على الأرض فلم يجز له الإيماء كسجود الصلاة. والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما إذا اصفرت الشمس بعد العصر أو أسفرت بعد الصبح فإن سجود التلاوة حينئذٍ ينهى عنه حتى تغرب الشمس أو تطلع. وأما قبل ذلك وقد صليت العصر أو الصبح ففي المذهب ثلاثة أقوال. قال مالك السجدة صلاة فلا تصلى حينئذٍ. وقال ابن القاسم بل يسجد حينئذٍ وفرق مطرت وابن الماجشون بين ما بعد العصر وما بعد الصبح فأجازاها بعد الصبح ولم يجيزاها بعد العصر، وهكذا فرقا في ركعتي الطواف وأجرياها مجرى سجود التلاوة. فاما النهي فقد أشار إلى توجيهه مالك حيث قال إن السجود صلاة. وإذا ثبت أنه صلاة كما قال منع بعد العصر وبعد الصبح، كما تمنع النوافل حينئذٍ. وأما الإجازة فلأن سجود التلاوة سنة والسنن تصلى حينئذٍ. وقد كنا قدمنا في الكلام في قضاء الفوائت جملًا في أحكام الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. وسنبسط القول فيها فيما بعد إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ. وعند بسط القول فيها يتضح حكم الصلاة حينئذٍ. وأما ابن الماجشون وصاحبه فرأيا أن النهي بعد العصر آكد منه بعد الصبح فلهذا فرقا بينهما. والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: اختلف الناس في سجود الشكر فالمشهور عن مالك كراهته وإنكاره. وحكى ابن القصار عنه الجواز وبه قال ابن حبيب. وأما الشافعي فحكى عنه اين القصار الجواز. وذكر أصحابه أنه سنة. وهو مذهب أبي بكر وعلي وكعب بن مالك. وأما أبو حنيفة فذكر ابن القصار عنه أنه يراه سنة في قول وفي قول آخر يجيزه. وحكى غير ابن القصار عنه أنه يكرهه في أحد قوليه. فأما المنكرون له فيتعلقون بأنه - صلى الله عليه وسلم -

لم يذكر عنه أنه سجد شكرًا عند تجدد نعمة وارتفاع نقمة. ولو كان مشروعًا لفعله. أو جائزًا لاتفق وقوعه منه مع تكرار نعم الله عليه وعلى أصحابه. ولا نعمة أشرف من الإيمان بالله والهداية للإسلام ولم ينقل عن أحد ممن أسلم على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه شكر (¬1) نعمة الإيمان بالسجود. وأما المجيزون له فيحتجون على الجواز بقوله - صلى الله عليه وسلم - في سجدة "ص" سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرًا (¬2). وبقول أبي بكر رضي الله عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه شيء يُسرّ به خرّ ساجدًا (¬3). وروي أيضًا أنه سجد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة. وحين جيء برأس أبي جهل. وحين كتب إليه علي في إسلام أهل همدان (¬4). وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لقيت جبريل فأخبرني أنه من صلى عليّ صلى الله عليه ومن سلم عليّ سلم الله عليه فسجدت شكرًا لله تعالى (¬5). وفي البخاري أن كعب بن مالك خرّ ساجدًا لما بشر بتوبة الله عليه (¬6). ومن أثبت سجود الشكر سنة رأى أن الاقتداء بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - مشروع وقد سجدها ها هنا فيما ذكرناه، فكان سجود الشكر مشروعًا ليحصل الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) أنه سجد لشكر -و-. (¬2) سنن النسائي بشرح السيوطي ج 2 ص 159. (¬3) أخرجه الخمسة إلا النسائي. نيل الأوطار ج 2 ص 128. (¬4) لم أجد هذه الثلاثة مجموعة في حديث واحد. لكن روى ابن ماجة سجوده يوم بُشر برأس أبي جهل وفي رجال إسناده مقال رقم الحديث 1391. وروى الدارمي عن شعثاء قالت: رأيت ابن أوفى صلى ركعتين وقال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضحى ركعتين حين بُشر بالفتح أو برأس أبي جهل. سنن الدارمي ج 1ص 341. (¬5) أخرجه أحمد والبيهقي والحاكم. نيل الأوطار ص 2 ص 128. وإرواء الغليل ج 2 ص 229 "صحيح). (¬6) من حديث طويل أخرجه البخاري في غزوة تبوك وفيه يقول كعب سمعت صوتًا صارخًا أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدًا وعرفت أنه قد جاء فرج. فتح الباري ج 8 ص 184 وقيل الأوطار ج 2 ص129. وابن ماجة ح 1393.

الأوقات المنهي عن التنفل فيها قال القاضي أبو محمَّد: والأوقات التي نهي عن التنفل فيها وقتان، بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع. فأما الأحوال التي نهي عن التنفل فيها فتختص ولا تعم، كحال خطبة الإِمام وشروعه في الصلاة وغير ذلك. والاختيار في النفل مثنى مثنى، والجهر بالقراءة فيها جائز ليلًا ونهارًا. قال الشيخ الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على النهي عن التنفل في الوقت الذي ذكر؟. 2 - وهل يلحق به غيره من الأوقات؟. 3 - وهل سائر البلاد وسائر الأيام في النهي واحد أم لا؟. 4 - وما الدليل على أنه لا يركع إذا خطب الإِمام أو شرع في الخطبة أو في الصلاة؟. 5 - وما معنى قوله وغير ذلك؟. 6 - ولِمَ اختار في النفل مثنى مثنى؟. 7 - وَلِمَ أجاز الجهر فيه؟. 8 - وهل يصلي جالسًا اختيارًا؟. 9 - وهل يصلي إيماءً أو اضطجاعًا اختيارًا؟. 15 - وما حكم قطعه؟. الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا في باب الكلام في قضاء

الصلاة المنسية قول بعض أصحابنا إن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها (¬1) وقتان راجعان إلى الفعل. وهو إذا صُليت الصبح أو العصر، ووقتان راجعان لنفس الوقت. وهما بعوإلاصفرار وعند الطلوع (¬2). وذكرنا اختلاف الناس فيما يتعلق بذلك الفصل. وقد اختلف الناس في صلاة التطوع بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، فمذهبنا النهي عنها على حسب ما ذكره القاضي أبو محمَّد. وبه قال أبو حنيفة ووافقنا الشافعي على ذلك فيما لا سبب له. فاما ماله سبب من النوافل فإنه يجيزه. وبما ذهب إليه الشافعي قال جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. وقال ابن المنذر يجوز فعل النوافل بعد العصر إلى أن تصفر الشمس. وقال داود بل إلى أن تغرب. وذهبت طائفة إلى قصر النهي على طلوع الشمس حتى ترتفع. وعلى دنوها أيضًا إلى الغروب للمغيب حتى تغيب. وذكر الطبري أن هذا مذهب ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاصي وبلال رضي الله عنهم. وذكر عن علي وأبي أيوب وتميم الداري وأبي الدرداء رضي الله عنهم أنهم كانوا يصلون ركعتين بعد العصر. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يصلي بعد صلاة الفجر. فاما نحن فنستدل بقوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس (¬3). وقد قال ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون ارتضاهم عمر بن الخطاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد صلاتين صلاة الصبح وصلاة العصر (¬4). واختلفت إشارات الذاهبين إلى ما ذهبنا إليه، وفي معنى النهي عن ذلك. فمنهم من أشار إلى أن النهي عن ذلك حماية لئلا توقع التوسعة فيه إلى الصلاة حالة الطلوع والغروب. وقد أشار إلى هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه لما نهى تميمًا الداري عن الصلاة بعد العصر فقال له تميم: صليتها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال عمر: ليس من إياكم من أنهى ¬

_ (¬1) فيها = ساقطة -و-. (¬2) وعند طلوع الشمس - قث. (¬3) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 2 ص 452. (¬4) متفق عليه والأربعة وأحمد: مختصر المنذري ج 2 ص 81.

أيها الرهط. ولكني أخاف من قوم يأتون بعدكم فيصلون بعد العصر إلى الغروب حتى يمروا بالساعة التي ينهى عنها. وأشار آخرون إلى أنه إنما نهى عن ذلك حقًا لهذين الفرضين ليكون ما بعدهما مشغولًا بما هو تبع لهما من دعاء ونحوه تخصيصًا لهاتين الصلاتين بذلك دون ما سواهمامن الصلوات. ونهي عن الصلاة بعدهما لأنه شغل بفعل مقصود في نفسه وهو الصلاة. وأما الفرض فإنه يقضى حينئذٍ لأنه لا يمنع فرض مراعاة لتوابع فرض غيره. وكذلك ما له سبب من النوافل ورآه الشافعي كالفرض لا ينبغي أن يمنع لما يتبع غيره. ورأيناه نحن كما لا سبب له من النوافل. ويحتج الشافعي على صحة ما ذهب إليه بما روته أم سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بعد العصر فلما سئل عنهما أخبر أنهما عِوَض عما شغله عنه الوفد من ركعتين بعد الظهر (¬1). وأجيب عن هذا بأنه خصوص له - صلى الله عليه وسلم - لأن أم سلمة قالت: دخل علىّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر فصلى ركعتين فسألته عنهما فقال ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلني الوفد عنهما. فقالت أنصليهما إذا فاتتنا. قال: لا (¬2). وهذا كالنص في اختصاصه بهما. ويحتج أيضًا بقول قيس بن فهو. قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فقال ما هاتان الركعتان يا قيس؟ فقلت يا رسول الله لم أكُ صليت ركعتي الفجر فهما هاتان الركعتان. فسكت (¬3). وأما داود فاحتج له بقول عائشة رضي الله هـ تعالى عنها قالت: والله ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد العصر قط (¬4). وهذا لا دليل فيه لاحتمال أن يكون لم تصفر الشمس. وابن المنذر يجيز التنفل ما لم تصفر الشمس، ويحتمل أن يكون فيما له سبب. هكذا حمل الشافعية هذا الحديث على ما له سبب، وأشاروا إلى أنهما الركعتان اللتان بعد الظهر، اللتان شُغِل عنهما. وهذا ضعيف لأن عائشة أخبرت بتكرر ذلك. واللتان شغل عنهما لم يتكرر الشغل عنهما. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم وأحمد: بلوغ الأماني ج 6 ص و209 - 212. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الترمذي ج 2 ص 214 وأبو داود مختصر المنذري. حديث رقم 1223. (¬4) متفق ورواه أحمد والنسائي والبيهقي: بلوغ الأماني ج 4 ص 206.

وأجاب أصحابنا بأنه يحتمل أن يكون المراد أن دخوله - صلى الله عليه وسلم -عليها بعد وقت العصر، لا بعد فعل العصر. وأما ابن المنذر فإنه يحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة" (¬1). وأجيب عن هذا بأن إخبار النهي المطلق أشهر وأكثر رواة. وأما الذين قصروا النهي على طلوع الشمس حتى ترتفع وعلى دنوها للغروب حتى تغيب فيحتجون بقوله عليه السلام: لا يتحز أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها (¬2). فقصر النهي على هذين الزمانين يدل على نفيه عما سواهما. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا طلع الفجر كره التنفل سوى ركعتي الفجر، وبه قالت الشافعية في ظاهر مذهبهم. قال بعضهم وفيه وجه آخر أنه لا يكره. فوجه النهي قوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر (¬3). وأيضًا فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي بعد الفجر إلا ركعتي الفجر. وأيضًا فإن صلاة النهجر أول الوقت أفضل. ففي إباحة التنفل في هذا الوقت ذوات فضيلة أول الوقت. ويحتج أيضًا من أجاز بالأحاديث الواردة في النهي وفيها من التقييد ما يدل على جواز التنفل في هذا الوقت كقوله: نهي عن الصلاة بعد صلاتين الصبح وصلاة العصر (¬4). فقُيد النهي بفعل الصلاة فدل على أنه قبل فعلها يجوز. وإذا ثبت النهي فعندنا أنه يستحب لمن فاته حزبه بالليل أن يصليه حينئذٍ لأجل الاختلاف في هذا الوقت، ولأنه أمر لا يتكرر. وكالقضاء لنافلة فاتت. وهكذا التنفل بعد غروب الشمس ينهى عنه لما ذكرناه من أن في إباحته تأخير المغرب. وقد تقرر أن أول الوقت فيها أفضل. وعلى ذلك مضى العمل. بل قال قائلون: ليس لها إلا وقت واحد. لكن بعض أشياخي أجاز التنفل بعد ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد: مختصر سنن أبي داود 2 ص 81 حديث 1229. (¬2) رواه مسلم: إكمال الأكمال ج 2 ص 439. (¬3) رواه الترمذي ج 2 ص 211. (¬4) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 2 ص 452.

الغروب إلى أن تقام الصلاة وبعد طلوع الفجر إلى أن تقام الصلاة لقوله في الصحيحين: بين كل أذانين صلاة قال ذلك ثلاث مرات ثم قال ذلك لمن شاء (¬1). ومراده بالأذانين الأذان والإقامة. وفي حديث آخر قال: "صلوا صلاة قبل صلاة المغرب" (¬2). وقال عقبة بن عامر كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬3). وأما الصلاة إذا استوت الشمس نصف النهار. ففيه قولان: أجازها مالك في المدونة. وقال في المبسوط لا أحبها للذي بلغني من النهي فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأما الجواز فلما قدمناه من النواهي المقيدة مثل حديث طلوع الشمس وغروبها وبصلاة الصبح والعصر. وهذا يقتضي قصر النهي على ذلك. وقد قال مالك ما أدركت أهل الفضل والعبادة إلا وهم يهجرون ويصلون نصف النهار. وأما النهي فلما رواه في الموطإ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها ثم إذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها" (¬4). ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: لم يفرق أحد من أصحابنا بين مكة وغيرها من سائر البلاد في حكم ما قدمناه من النهي. وبه قال أبو حنيفة. وأجاز الشافعي صلاة التطوع بمكة في جميع الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. فلنا عموم النواهي انمتقدمة ولم يفرق فيها بين مكة وغيرها. ولأن النهي كان لمعنى مقارنة الشمس قرن الشيطان. وهذا المعنى يعم سائر الأمكنة فوجب أن لا يخص مكان دون مكان، كالنهي عن صوم يوم النحر. لما كان المعنى عم الأمكنة كلها. واحتج الشافعي بما رواه أبو ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة إلا ¬

_ (¬1) متفق عليه أخرجه الأربعة أيضأوالبيهقي: مختصر المنذري. حديث رقم 1238. والبيهقي ج 2 ص 474. (¬2) رواه البخاري وأبو داود والبيهقي: بلوغ الامانى ج 6 ص 27 أو السنن ج 2 ص 474. (¬3) رواه أحمد والنسائي سنده جيد: بلوغ الامانى ج 6 ص 210. (¬4) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 436 والترمذي والبيهقي السنن ج 2 ص 454.

بمكة إلا بمكة" (¬1). وهذا يخصص ما تقدم من النواهي المطلقة والزيادة مقبولة. وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ي ابن ي عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئًا فلا يمنعنّ أحدًا طاف بهذا البيت وصلى آية ساعة شاء من ليل أو نهارًا" (¬2). وهكذا لم يفرق أصحابنا بين يوم الجمعة ولا اغيرها. فإذا قلنا بالنهي عن الصلاة نصف النهار نهي عن ذلك يوم الجمعة أيضًا. وبه قال أبو حنيفة. وأجاز الشافعي وأبو يوسف التطوع في نصف نهار يوم الجمعة. فلنا عموم النهي. وله قول الخدري: نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة (¬3). ولأن الناس يوم الجمعة ينتظرون الصلاة فيغلبهم النوم فأبيحت لهم الصلاة ليشتغلوا بها عن النوم. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في الركوع تحية المسجد حال خطبة الإِمام يوم الجمعة، فمنعه مالك وأبو حنيفة وأجازه الشافعي، ورأى أن حكم تحية المسجد في هذا الحال باق على أصله. فاحتج أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام: إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب أنصت فقد لغوت (¬4). فإذا نهي عن التشاغل بقول: أنصت وكان الركوع أشد شغلًا فهو أولى بالنهي. ولقوله عليه الصلاة والسلام: إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا صلاة له ولا كلام حتى يفرغ (¬5). وهذا نفي لجميع الصلوات حيئنذٍ إلا ما خرج بدليل، ويقوله عليه الصلاة والسلام لرجل دخل المسجد وهو يخطب: اجلس فقد آنيت وآذيت ولم يأمره بالركوع (¬6). وهكذا صنع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما دخل عثمان وهو ¬

_ (¬1) هذا حديث أبي ذر. رواه البيهقي: السنن ج 2 ص 46 أو في إسناده ضعف. (¬2) رواه الحميدي والبيهقي. السنن ج 2 ص 461. (¬3) رواه البيهقي. السنن ج 2 ص 464. (¬4) متفق عليه ورواه الأربعة والطحاوي: نصب الراية ج 2 ص 202. (¬5) رواه الطبراني في الكبير. جامع السيوطي. حديث 1223. (¬6) هذا رواه أحمد حرز الاماني ج 4 ص 188. ورواه ابن ماجة. حديث رقم 1115.

يخطب وجرى بينهما ما جرى ولم يأمره بالركوع (¬1). وأما أصحاب الشافعي فإنهم يحتجون بعموم الأمر بتحية المسجد وبأن رجلًا جماء والشعبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فقال: أصليت يا فلان؟ قال لا. قال: قم فاركع (¬2). وبغير ذلك مما سنبسطه إذا أعدنا الكلام على المسألة في باب صلاة الجمعة، وحينئذٍ نتكلم على تأويل كل طائفة أحاديث الطائفة الأخرى. وأما قوله عطفًا على الركوع في الخطبة وحال شروعه في الصلاة فقد تقدم الكلام عليه لما ذكرنا حكم من أقيمت عليه الصلاة وهو في المسجد فصلى النافلة. وبالجملة فإن التنفل والإمام يصلي داخل في عموم النهي عن صلاتين معًا. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما قوله وغير ذلك فإنه إشارة إلى أحوال أخر سنبسط الكلام عليها في مواضعها كالآتي مُصلّى العيد فإنه لا يركع قبل صلاة العيد ولو كانت صلاة العيد في الجامع. فعن مالك في إجازة تحية الجامع روايتان. وكذلك التنفل بعد صلاة الجمعة سنتكلم عليه في موضعه. وقد تقدم الكلام على أن من عليه صلاة منسية فإنه لا يشتغل عن قضائها بالتنفل. فإلى هذه المعاني أشار القاضي أبو محمَّد رحمه الله بقوله وغير ذلك. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف الناس في عدد التنفل فعندنا أنه مثنى مثنى يسلم من كل ركعتين سواء كان التنفل، ليلًا أو نهارًا. وقالت الشافعية بما قلنا إلا أنها أجازت ما سواه كالتنفل بركعة وبثلاث وبأربع وبما زاد على ذلك وترًا كان أو شفعًا معدودًا كان أو غير معدود، يخرج عن جميع ذلك كله بتسليمة واحدة. وذهب أبو حنيفة إلى التفرقة بين نافلة الليل والنهار فقال في نافلة النهار: الأفضل أربع والجائز ركعتان، وفي نافلة الليل الأفضل أربع والجائز ركعتان وست وثمان ولا يزيد على ذلك. ومن الناس من ذهب إلى أن ¬

_ (¬1) رواه مسلم: إكمال الأكمال ج 3 ص 413. ورواه الترمذي. العارضة ج 2 ص 280. (¬2) متفق عليه والأربحة والطحاوي: نصب الراية ج 2 ص 203.

صلاة الليل مثنى مثنى وصلاة النهار أربع. وقد اختلفت الأحاديث في هذا الباب فروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الليل مثنى مثنى (¬1). وروي عنه حديث ابن عباس لما بات عند خالته ميمونة فحكى أنه صلى ركعتين ثم ركعتين (¬2). الحديث. وروي عنه حديث عائشة أنه كان يقوم من الليل: فيصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثًا (¬3). وروي عنها أيضًا أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شيء إلا في آخرها (¬4). وروي عنها أيضًا أنه كان يصلي تسع ركعات لا يجلس منها إلا في الثامنة ثم ينهض ولا يسلم ويصلي التاسِعة. فلما أسن - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبع (¬5). وروي أربع قبل الظهر لا يسلم فيهن تفتح لهن أبواب السماء (¬6). فأما مالك فعول على قوله عليه الصلاة والسلام: صلاة الليل مثنى مثنى (¬7). وحديث ابن عباس، ورجحهما لأن الفرائض أكثرها ضعف أقلها فلتكن النوافل كذلك. فلما كان أقل النوافل ركعة وجب أن يكون أكثرها ركعتين. وبأن التسليم في كل ركعتين فيه زيادة في الأذكار والقُرب وأحوط لسلامة ما خرج منه إذ العمل المتصل يفسد أوله بفساد آخره. وأما من خالفه فيحتج بما أوردناه من الأحاديث المخالفة لهذا. وقد قال بعض أصحابنا: قول عائشة رضي الله عنها: كان يصلي أربعًا، لا دلالة فيه. لأنها لم تذكر هل صلى الأربع بتسليمة أو بتسليمتين. وأما أحاديث أربع قبل الظهر لا يُسلّم فيهن، فقال بعض الناس رواية عبيدة بن مغيث قال يحيى بن سعيد لو حدثت عن ابن مغيث بشيء لحدثت بهذا الحديث. وقد ذكر ¬

_ (¬1) متفق عليه وخزج طرقه نصب الراية ج 2 ص 143 - 145 والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة مختصر المنذري ح 1282 ج 2 ص 95. (¬2) مالك والبخاري ومسلم الموطاص 95. (¬3) رواه مالك والبخاري ومسلم. الموطاص 95. (¬4) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد. حرز الأماني ج 4 ص 266. (¬5) رواه النسائي. شرح السيوطي والسندي ج 3 ص 201. (¬6) رواه أبو داود وابن ماجة. جامع الأصول ج 6 ص 24. والبيهقي السنن ج 6 ص 488. (¬7) تقدم تخريجه قريبًا. (8) للسلامة فأخرج منه =و=.

عنه أيضًا أنه قيل له الذي ترويه كله عن إبراهيم سمعته منه؟ فقال منه ما سمعته ومنه ما أقيس عليه. وهذا يوجب عدم الثقة بحديثه. ويرجح المخالفون أيضًا حديثهم بأن السلام مُخرج من العبادة. ومن خرج منها فلا يعود إليها. فكان ترك اشتراطه في كلل ركعتين أولى. ولأن البقاء على الصلاة أشق من التحلل. فكان بزيادة المشقة فيه أولى. وقد احتج على الشافعية في إجازتهم الاقتصار على ركعة واحدة بما كنا قدمناه في غير هذا الموضع، من أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء. وبأن ما لا يجزئ في الفرض لا يجزئ في النفل كالسجدة. وأجابوا عن الخبر بأنه مرسل أرسله محمَّد بن كعب. وأيضًا فإن ابن عمر فسر البتيراء بان يقوم الرجل فيصلي ركعة يقرأ فيها ويتم ركوعها وسجودها ثم يقوم إلى الثانية فلا يقرأ فيها ولا يتم ركوعها ولا سجودها. وأجابوا عن القياس على السجدة بأنها لا تجمع أفعال الصلاة بخلاف الركعة. على أن النفل لا يقاس عليه الفرض. واستقبال القبلة يسقط في النفل ولا يسقط في الفرض. على أنه قد يعكس القياس المذكور على الفرض بان يقال: أول الشفع صلاة فرض فيجب أن يكون (¬1) الوتر صلاةَ نفل. هذا المعنى من القياس وإن لم يكن. نصَّ عليه أصحاب مالك والشافعي فهو مقتضب مما نصوا عليه. والجواب عن السؤال السابع: أن بقال: أما الجهر والإسرار في النافلة فجائز. واستحب ابن حبيب الجهر في نافلة الليل واختار مالك رفع الصوت فيها. وكان الناس يتواعدون بالمدينة لقيام القُرَّاء بالليل. وأما نافلة النهار فقال مالك في المبسوط: يخافت فيها بالقراءة. قال الشيخ أبو محمَّد يستحب فيها الإسرار. وذكر القاضي أبو محمَّد أن في الإجهار فيها قولين: الجواز والكراهة. وقد كنا قدمنا ذكر الخلاف في هذه المسألة. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: القيام ركن من أركان الصلاة وشرط في صحة صلاة الفرض مع القدرة عليه. لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ ¬

_ (¬1) أن يكون أول الوتر - قث.

قَانِتِينَ} (¬1). وخص من هذه الآية العاجز عن القيام في الفرض. لقول عمران بن حصين رضي الله عنه كانت به بواصير فسالت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جَنْب" (¬2). وخص بهذا الحديث أيضًا من لا يستطيع القيام في النافلة إذا قلنا أن الآية واردة في الفرض والنفل. وأما من يستطيع القيام في النافلة فإن له تركه والصلاة جالسًا *ويخص هذا بما روي من صلاته - صلى الله عليه وسلم - النافلة جالسًا* (¬3) ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين وقد سأله عن صلاة الرجل قاعدًا فقال: إن صلى قائمًا فهو أفضل ومن صلى قاعدًا فله أجر نصف القائم ومن صلى نائمًا فله أجر نصف القاعد (¬4). وقد اختلف الأئمة في تنصيف الأجر على ماذا يحمل؟ فحمله ابن الماجشون على من صلى قاعدًا مع القدرة على القيام. ورأى أن من أقعده المرض في المكتوبة أو النافلة فإن أجره في القعود كاجره في القيام. ورأى بعض المتأخرين أن التنصيف في صلاة الفرض جالسًا مع العجز عن القيام أو في صلاة النافلة جالسًا مع القدرة على القيام أو العجز عنه. وذكر إسماعيل القاضي أن الحديث ورد في النوافل. قال لأن الإتيان بها غير واجب. فإذا أتى بها جالسًا كان له نصف أجر القائم على رأي من قدمنا ذكره من المتأخرين. وتخصيص الحديث بالنوافل يفتقر إلى دليل وكان بعض أشياخي يميل إلى طريقة ابن الماجشون ويحتج لها بإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عمن كان له حزب من الليل فغلب بالنوم عليه أن له أجره ونومه صدقة عليه (¬5). فإذا كانت الغلبة المانعة من فعل الصلاة يكتب معها أجر جميع الصلاة فالغلبة عن بعض الصلاة يكتب له أجر ذلك البعض. وهذا الذي قاله شيخنا يروق ولكن يلزم على طرده أن يكتب للحائض أجر الصلاة أيام حيضها لما كانت مغلوبة على تركها. فإن التزم هذا فقد طرد أصله. وبالجملة فإن التحقيق أن القياس الشرعي ¬

_ (¬1) صورة البقرة، الآية: 238. (¬2) أخرجه الجماعة إلا مسلمًا. نصب الراية ج 2 ص 175. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬4) البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. نصب الراية ج 2 ص 150. (¬5) رواه مالك وأبو داود والنسائي. الموطإ ص 93.

لا يستعمل في مقادير الثواب إلا أن يرد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفظ يقوم مقام العموم حتى يشتمل على ما يتنازع فيه من ذلك. ويستعمل القياس فيه في العمليات لتقدم بعضها على بعض في العمل. وهذه إشارة يَفهم منها ما وراءها من خاض في علم الأصول وعلم أحكام القياس وحيث يجوز. وإذا ثبت أن له أن يصلي النافلة جالسًا فله أن يقوم ليأتي بالركوع على إكماله وله أن يومئ به جالسًا. فاما قيامه ليركع فلما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قام بعد جلوسه فقرأ وركع (¬1). وأما ركوعه جالسًا فلأنا لو منعناه منه لكنّا أوجبنا القيام في النافلة وقدمنا أنه لا وإذا ثبت أن له الجلوس فإنما يكون ذلك إذا افتتح النافلة عليه. فأما لو افتتحها قائمًا ثم أحب أن يجلس ففيه قولان: أجازه ابن القاسم ومنعه أشهب. وكان بعض أشياخي يرى أن الاختلاف إنما يحسن فيمن افتتح قائما ونوى القيام في جميعها غير ملتزم له. فأما من التزمه فإنه لا يختلف في أنه لا يجلس. كما لا يُختلف فيمن افتتحها قائمًا ونيته أن يجلس، أن الجلوس يجوز له. وأما من افتتحها جالسًا فلا شك أن له أن يقوم لأنه ينتقل إلى ما هو أفضل. وقد صلى - صلى الله عليه وسلم - جالسًا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية (¬2). فإن قيل ظاهر هذا حجة لابن القاسم في إجازته القعود بعد القيام لكون هذا الخبر مبنيًا (¬3) على أنه يرجع إلى القعود بعد أن قام. قيل: قال بعض المتأخرين يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينوي ذلك عند افتتاح نافلته. وقد قدمت قول بعض أشياخي إن الخلاف لا يتصور فيمن نوى عند الافتتاح الجلوس بعد القيام. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما الإيماء في النافلة فقال ابن القاسم لا يومئ الجالس للسجود إلا من علة. فإن أومأ من غير علة في ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 372. (¬2) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 2 ص 490. (¬3) لكن هذا الخبر يبنى - قث.

النوافل أجزأه. وقال عيسى لا يومئ من غير علة في نافلة ولا غيرها. قال بعض المتأخرين ظاهر قول ابن القاسم الكراهة. وظاهر قول عيسى المنع. وقال ابن حبيب له ذلك في النافلة كما له ترك القيام مع القدرة. وأما تنفل المضطجع اختيارًا فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقيل يُمنع الصحيح والمريض. ويجوز لهما عند الأبهري. ويجوز للمريض خاصة عند ابن الجلاب، وهو ظاهر المدونة. وقد احتج الأبهري للجواز على الإطلاق بما قدمناه من حديث عمران بن حصين وقد ذكر فيه: ومن صلى نائمًا مثل نصف أجر القاعد. وظاهر الحديث أنه في المختار كما قدمناه. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما النافلة فليس له أن يقطعها قبل إكمالها لأنها عمل متصل شرعًا، فالشروع في أوله التزام لآخره. وقال الشافعي وابن حنبل له قطعها متى شاء. وكأنهما رأيا أنها لما لم تكن واجبة في أصل الشرع وإنما هي موقوفة على اختيار المكلف اقتضى ذلك بان يكون بالخيار بين الفعل والترك متى شاء. والاختلاف في هذه المسألة كالاختلاف في جواز قطع صوم التطوع وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى ونذكر ما تعلق به الشافعي من الأحاديث الدالة عنده في الصوم على ما قال. وسنتكلم أيضًا في كتاب الحج على قطع حج التطوع والصد عنه وفواته بما يكون الوقوف عليه يكشف الغطاء عن الاختلاف في هذه المسألة. وأما لو قطعت النافلة غلبة كما لو أحدث مغلوبًا فإنه لا قضاء عليه لمّا كان الفعل في أصله غير واجب. ولم يكن القطع باختياره فيعَدّ قاطعًا لما التزم. ولو كانت النافلة منذورة لقضاها وإن قطعت. لأنها بالنذر والإحالة على الذمة تُشبه الصلوات الفرائض المحالة على الذمة. لكن لو كان النذر في الصلاة نذرًا معينًا، كالناذر تنفل ساعة بعينها فَغُلِب على ترك الصلاة فيها فإن هذا يتخرج على القولين في ناذر صوم يوم بعينه فغُلب على إفطاره. فإن أصحابنا اختلفوا في قضائه.

فصل الأماكن التي نكره فيها الصلاة

فصل الأماكن التي نكره فيها الصلاة قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وتكره الصلاة في معاطن الإبل وفي البِيَع والكنائس، والفرض داخل البيت عند مالك وعلى ظهره، وتجوز الصلاة في مراح البقر والغنم. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لِمَ نهي (¬1) عن الصلاة في معاطن الإبل ولم ينْه عنها في مراح البقر والغنم؟. 2 - وما حكم الصلاة في المقبرة والحمّام؟. 3 - ولم كرهت الصلاة في البيع والكنائس؟. 4 - وما حكم المصلي إذا صلى على نجاسة أو حملها أو استقبلها؟. وبقية هذا الفصل وهو الصلاة على الكعبة وداخلًا فيها (¬2)، قد تقدم الكلام عليه مبسوطًا مفصلًا فيه المسائل المتعلقة به؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما معاطن الإبل فهي مباركها عند الماء. وأما مراح الغنم فهو مجْتَمعها من آخر النهار. وقد روى ابن وهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في المزبلة والمجزرة ومحجة الطريق وظهر بيت الله عَزَّ وَجَلَّ ومعاطن الإبل. وخرج الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الصلاة في سبع مواطن: في المجزرة والمزبلة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمّام ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام (¬3). فاستفيد من هذا الحديث والذي قبله النهي ¬

_ (¬1) ينهى -و-. (¬2) وهو الصلاة في الكعبة وعلى ظهرها - قث. (¬3) عن داود بن حسين عن عمر نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي في سبعة مواطن في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام ومواطن الإبل وفوق الكعبة. رواه الترمذي وعبد بن حميد وابن ماجة وفي إسناده مقال.

عن الصلاة في معاطن الإبل، ولم يختلف العلماء في كراهة الصلاة في معاطن الإبل واختلفوا في تعليل النهي عن الصلاة فيها. فقال بعض أصحابنا إنما نُهي عن ذلك لأنها يستتر بها للبول والغائط فلا تكاد تسلم مباركها من نجاسة. وقال غير هؤلاء من أصحابنا بل لأنها خلقت من الشياطين، ويحتج هؤلاء بأنه عليه الصلاة والسلام سئل عن الوضوء من لحوم الإبل فقال: " توضؤوا منها. وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة" (¬1). وقال غير هؤلاء من أصحابنا إنما نهي عن ذلك لنِفَارها فإن نفارها يمنع من إتمام الصلاة. وقالت طائفة إنما نهي عن ذلك لزفورتها وثقل رائحتها. والشرع قد سن الصلاة للنظافة (¬2) والمساجد تُطيّب لأجل الصلاة. وقد جمع القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا بين جميع هذه التعاليل: فقال كرهت الصلاة في معاطن الإبل لمعان منها ما روي أنها جنّ خلقت من جنّ فلا ينبغي أن يصلي بحيث الشياطين. ومنها أنه يستتر بها عند البراز، ومنها أن نفورها خلاف نفور البقر والغنم، ومنها أن الأغلب عليها الوسخ والزفورة والغنم والبقر بخلافها. ولما جمع القاضي أبو محمَّد بين هذه التعاليل وذكر التعليل بالنفار أشار إلى أن البقر بخلافها كما حكيناه عنه. وقد قال غيره من المتأخرين إذا علل بالنفار وجب أن تجري البقر مجراها لأن نفارها أيضًا لا يُؤمن منه. وتختلف أحكام التفريع ها هنا لاختلاف (¬3) هذه التعاليل. فإذا أمِن من النجاسة لتيقن طهارة مباركها أو بُسِط فيها ثوب يصلى عليه فإن في ذلك قولين: قال ابن القاسم تأويل النهي لما يخالطها من مذاهب الناس ولو سلم من ذلك فلا بأس بالصلاة فيها. وروي عن مالك أنه لا يصلى فيها وإن لم يجد غيرها ولو بسط عليها (¬4) ثوبًا. فإذا عللنا بالنجاسة كان الأمر كما قاله ابن القاسم وكما علل به. وإن عللنا بكونها من ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان وابن الجارود. نيل الأوطار ج 1 ص 254. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب وقد سن للصلاة النظافة. (¬3) باختلاف - قث. (¬4) عليها = ساقطة -و-.

الشياطين مخلوقة نهي عن الصلاة ولو بسط عليها ثوبًا كما قاله مالك. وإن عللنا بالنفار لم يصل في مباركها ما دامت فيها، وأن تُيقن طهارتها ويصلي فيها بعد أن تزول عنها. وهذا تنبيه على طرد التفريع على ما بقي من التعليل. وحكى ابن مُزيَنْ أن الإبل المؤبلة (¬1) لا بأس بالصلاة في مواضعها. قال الشيخ أبو القاسم ابن الكاتب إنما النهي عن المعاطن التي اعتادت الإبل أن تغدو منها وتروح إليها. وأما لو باتت إبل سُفّار في بعض المناهل لجازت الصلاة فيها. لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلي إلى بعيره في السفر فإن صلى فيها فصل وهو منهي عن الصلاة فيها فاختلف فيها فقال أصبغ يعيد في الوقت. وقال ابن حبيب إن كان عامدًا أو جاهلًا أعاد أبدًا، كمن صلى على موضع نجس. فكأن ابن حبيب رأى أن الظن بحصول النجاسة كاليقين بحصولها. فإذا كان الغالب نجاسة المبارك كانت الصلاة فيها كالصلاة في موضع تحقق نجاسته. وكان أصبغ رأى اختلاف التعليل (¬2) في ذلك وأن التعليل بأحدها، وهو كون المبارك تخالطها النجاسة أمر غير محقق، ولا مقطوع به. فكان حكمه الاستظهار بإعادة الصلاة في الوقت، وإعادتها بعد الوقت إنما يكون مع عدم الإجزاء. ولا دليل ها هنا يمنع الإجزاء. وأما الصلاة في مراح الغنم فإنها جائزة لسلامتها من سائر العلل المذكررة، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي في مرابض الغنم. ولم ينقل في ذلك خلاف عن أحد من أهل العلم. وعلى هذا الأصل مضى ابن حبيب فيما ذكره (¬3) في الأحاديث المتقدمة من النهي عن الصلاة في المجزرة والمزبلة ومحجة الطريق لما كان الغالب نجاسة هذه المواضع. فاجرى الصلاة في هذه المواضع (¬4) مجرى من صلى في موضع يتحقق نجاسته. فإن كان عامدًا أو جاهلًا أعاد أبدًا وإن كان ساهيًا أعاد في الوقت، وهذا إذا صلى في الطريق ¬

_ (¬1) وهي التي استغنت برعي الكلإ عن الماء. (¬2) التعاليل - قث. (¬3) ذكر - قث. (¬4) المواضع = ساقطة -و-.

اختيارًا. وأما من (¬1) صلى فيه اضطرارًا لضيق المسجد فإن الصلاة حينئذٍ جائزة. ورأيت فيما عُلّق على ابن الكاتب وابن مناس من صلى على قارعة الطريق لم يُعد إلا أن تكون النجاسة فيها عينًا قائمة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الصلاة في المقبرة، فالمشهور من مذهبنا إجازتها وإن كان القبر بين يديه. وروى أبو مصعب عن مالك أنه كره الصلاة فيها. وتال القاضي أبو محمَّد تكره الصلاة في المقبرة الجديدة في الجملة. وإن كانت قديمة وفيها نبش فلا يجوز إلا أن يجعل فيها حصيرًا تحول بينه وبينها. وتكره في مقابر المشركين جملة من غير تفصيل. ووافقنا أبو حنيفة والشافعي على الجواز. هكذا حكى بعض أصحابنا. وفي كتب أصحاب الشافعي أن الصلاة لا تجوز إذا تكرر نبشها وتجوز إذا لم تنبش إلا أنه يكره، ولا فرق بين (¬2) أن يصلي فيها أو إليها. قالوا وإن جهل حالها هل تكرر نبشها أم لا؟ قولان: أحدهما الجواز لأن الأصل الطهارة. والثاني لا يجوز لأن الظاهر تكرار النبش لكون المقبرة مدفنًا قديمًا. وقال بعض أهل الظاهر لا تجوز الصلاة في المقبرة. فدليلنا على الجواز قوله - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا" (¬3). ولأنه عليه الصلاة والسلام صلى على السوداء في قبرها بعد دفنها (¬4). وقد قال نافع صلينا على عائشة رضي الله عنها وأم سلمة رضي الله عنها وسط البقيع والإمام يومئذٍ أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر رضي الله عنهم. وأما وجه النهي عن ذلك فلأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تتخذ القبور مساجد (¬5). وخرج مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها (¬6). وقد أخذ ¬

_ (¬1) وأما إن - قث. (¬2) بين = ساقطة -و-. (¬3) أخرجه أصحاب الصحيح بطرق متعددة. نيل الأوطار ج 1 ص 230 وج 2 ص 134. (¬4) رواه مسلم. إكمال الإكمال ج 3 ص 90. والنسائي ج 3 ص 69. (¬5) رواه مسلم وأبو داود وأحمد والنسائي وابن ماجة. نيل الأوطار ج 2 ص 135. (¬6) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. نيل الأوطار ج 2 ص 138.

الليث بظاهر هذا الحديث فكره الصلاة في القبور والجلوس عليها والاتكاء إليها، ورأى للميت حرمة تمنع من القعود والاتكاء عليه. وقال بعض أصحابنا مجيبًا عن خبر النهي عن الصلاة في المقبرة فحمل النهي على مقبرة المشركين. لأن الصلاة رحمة ولأن الغالب عليهم النجاسة فلا يتحفظون أن تصيب قبورهم. وهذا الذي ذكره من حمل النهي على مقبرة المشركين قد نص الشيخ أبو محمَّد على المنع من الصلاة في مقبرة المشركين، وعلل بعض أصحابنا ذلك بأنها بقعة خصت بأهل العذاب فشرع اجتنابها كما شرع تحري مواضع الصالحين. وهكذا حمل ابن حبيب خبر النهي عن الصلاة في المقبرة في الحديث الذي قدمناه المذكور فيه تعديد ما نهى عنه من المواطن تأويله أنه في مقبرة المشركين لأنها حفرة من حفر النار. وأما مقبرة المسلمين فلا، عامرة كانت أو داثرة. قال بعضهم يريد إلا أن تكون مبعثرة، فلا يصلَّى فيها. قال ابن حبيب فيمن صلى في مقبرة المشركين وهي عامرة أعاد أبدًا في العمد والجهل. وإذا كانت دارسة لم يعد، وقد أخطأ. وهذا الذي حكيناه عن بعضهم من تقييده كلامَ ابن حبيب بأن لا تكون مبعثرة فيه نظر. فإن مالكًا ق الذيها لا بأس به وإن كانت دارسة. قال بعض المتأخرين هذا بناءً أن المؤمن لا ينجس بالموت. وقال وقول القاضي أبي محمَّد لا يصلي في المقابر التي يكون فيها النبش، مبني على أن المؤمن (¬1) ينجس بالموت. وأما الصلاة في الحمام فأنجازها مالك في المدونة. وقال القاضي أبو محمَّد *تكره الصلاة داخل الحمّام. وبالكراهة قالت الشافعية. وبالمنع قال ابن حنبل فلا تصح الصلاة عنده فيه لحديث النهي عن ذلك. ومحمل النهي عن ذلك على الكراهة إذا أثبتناها كما أثبتها القاضي أبو محمَّد* (¬2) وإن احتج أحمد بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمّام " (¬3). تأولناه كما ¬

_ (¬1) الميت - قث. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. نيل الأوطار ج 2 ص 135.

تأولنا الذي قبله. وتأولنا استثناءه *المقبرة* (¬1) على ما تقدم من اختلاف الطرق والمذاهب. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما كرهت الصلاة في البيع والكنائس لنجاسة الموضع وللصور التي فيها. وقد كره مالك أن يصلى إلى قبلة فيها تماثيل. لأنه يصير كالساجد للصورة. وأيضًا فإن النظر إليها يلهيه. وقد جاء الشرع باجتناب ما يلهيه عن الصلاة. وقد قال مالك في الخاتم فيه تماثيل لا يلبس ولا يصلى به. وأيضًا فإنها مواضع أسست على غير التقوى. وقد كره مالك النزول بالكنائس إذا وجد عنها مندوحة، فإن اضطر إليها المسافر لبَرْد وشبْهِه بسط فيها ثوبًا طاهرًا إذا أحب الصلاة. وقد قال مالك لا يصلى على بساط فيه صورة إلا من ضرورة. فأباح الصلاق على ما فيه صورة للضرورة. فإن صلى مُصَلّ في الكنيسة جرت إعادته على القولين اللذين أشار إليهما في معاطن الإبل. وقد قال سحنون أحب إليّ أن يعيد من صلى في الكنيسة لضرورة أو غير ضرورة في الوقت. وقد قال ابن حبيب من صلى بثوب نصراني أو في بيت مسلم لا يتنزه عن النجاسة أعاد أبدًا. وقد قدمنا أصله في هذا في معاطن الإبل. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: تقدم الكلام على اختلاف المذهب في إزالة النجاسة هل هي فرض وشرط في صحة الصلاة مع الذكر والنسيان كطهارة الحدث أو ليست بشرط مع النسيان لقا كانت من قبيل التروك كالأكل في الصوم والكلام في الصلاة؟ وبسطنا القول في ذلك وذكرنا اختلاف عبارة الأصحاب عنه، ونبهنا على وجه التحقيق فيها. وكذلك قدمنا الكلام على نجاسة الموضع إذا جفت، وذكرنا ما قال الناس في ذلك فلا معنى لإعادته. وحكم الموضع عندنا إذا كان نجسًا كحكم الثوب إذا كان نجسًا. وقال ¬

_ (¬1) المقبرة ساقطة -و-.

أبو حنيفة إذا كان موضع قدميه طاهرًا صحت صلاته ولو كان موضع يديه وركبتيه نجسًا. وفي الجبهة روايتان واعتمد في هذا على أن الركبتين واليدين لا يجب السجود عليها فصار وضعها كَلاَ وضع. ويجاب عن هذا بالنظر في وجوب السجود عليها. وقد قدمنا ما قال الناس فيه في موضعه. ويناقض بالثوب الزائد على ستر العورة فإنه لا يجب لباسه، وإذا كان نجسًا أثر في الصلاة، ولم (¬1) يلحقه عدم وجوب لباسه بان يكون لباسه كَلاَ لباس. وإنما تشترط طهارة البقعة التي يصلى عليها. فلو كانت البقعة الطاهرة متصلة ببقعة نجسة كحصير أحد طرفيه طاهر والآخر نجس، فإن الصلاة على الطرف الطاهر تصح. قال بعض المتأخرين ولو تحرك الموضع النجس. بخلاف العمامة يكون بطرفها المنسدل نجاسة، فهاهنا يراعى التحرك، فإنْ تحرك الموضع النجس أثر في الصلاة وكان كمصل بنجاسة. ومذهب الشافعية أن من صلى بثوب، الطاهر منه عليه، والنجس على الأرض، لم تصح صلاته لاتصال ما عليه بالنجاسة. وقال أبو ثور تصح صلاته. وقال أبو حنيفة إن لم يتحرك بتحركه صحت صلاته. وأجاز مالك للمريض أن يصلي على فراش نجس إذا بسط عليه ثوبًا كثيفًا طاهرًا. واختلف الأشياخ في الصحيح هل هو في هذا كالمريض أو بخلافه؟ فقال بعضهم هو كالمريض لأن مصلاه طاهر. فنجاسة ما تحته كنجاسة طرف الحصير الآخر الذي ذكرنا أنه لا يؤثر في الصلاة ولو تحرك. وقال بعضهم لا يباح ذلك للصحيح. لأنه بصلاته يكون محركًا للنجاسة. وقد قدمنا فيما مضى الكلام على النجاسات الضرورية. ووسعنا القول في فروعها بما يغني عن إعادته. ومما أغفلنا ذكره هناك ويناسب ما نحن فيه اختلاف المذهب فيما تداوى به الجراح من النجاسة. فقال مالك في المرتك الذي يصنع من عظام الميتة إذا جعل في القرحة لا يصلى به حتى يغسل. ورخص ابن الماجشون في ترك غسله ¬

_ (¬1) لان لم يلحقه - قث.

فصل الجمع بين الصلاتين

وأجاز الصلاة به. فكان مالكًا أبقى هذه النجاسة على أصلها. وكأن ابن الماجشون أخرجها عن أصلها للضرورة. إما لحدوث الألم والضرر بنزعها، أو بغسلها. وقد اختلف الناس فيمن جبر عظمه بعظم نجس. فقال أبو حنيفة لا يجب قلعه إذا التحم. وقالت الشافعية يجب قلعه وإن التحبم إذا لم يؤد إلى التلف أو تلف ذلدق العضو. ومن الشافعية من أوجب قلعه وإن أدى إلى التلف. فحجة أبي حنيفة أن العظم إذا التحم صارت النجاسة باطنة فلم تجب إزالتها كالخمر إذا شربها. وأجابت الشافعية عن هذا بأن الخمر تجب إزالتها بأن يتقيا. فلم يسلم أصل القياس. قالوا: ولو سُفم أنه لا يلزم إزالة الخمر، فإنما ذلك لأنه أوصلها إلى معدن النجاسة. والعظم بخلاف ذلك. ورأت الشافعية أنها نجاسة باقية على أصلها تجب إزالتها ما لم يمنع من ذلك مانع وهو تلف العضو. ورأى بعضهم أن تلفه ليس بعذر يسقط الإزالة. وقد قدمنا مذهبهم فيمن خاف باستعمال الماء التلف هل له أن يتيمم؟. وأما الصلاة مستقبلًا النجاسة فقال ابن حبيب من تعمد الصلاة إلى نجاسة وهي أمامه أعاد، إلا أن تكون بعيدة جدًا. وقال مالك في المدونة فيمن صلى وأمامه جدار مرحاض فلا بأس به إذا كان موضعه طاهرًا. قال بعض أشياخي لو ظهرت النجاسة في هذا الجدار ببلل، ونحوه لم يُصل إليه. فصل الجمع بين الصلاتين قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويجوز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت أيتهما شاء إذا جد به السير، والاستحباب في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية. وذلك في الظهر والعصر وفي المغرب والعشاء ولا يتنفل بينهما. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الأسباب المبيحة للجمع؟. 2 - وهل يجوز لغير سبب؟.

3 - وما الدليل على جواز الجمع في السفر؟. 4 - وما صفة السفر المبيح للجمع؟. 5 - وما وقت الجمع؟. 6 - ولِمَ قال لا يتنفل بينهما؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الأسباب التي تكلم أهل العلم على كونها مؤثرة في جواز الجمع أربعة. أحدها السفر. والثاني المطر. والثالث المرض. والرابع الخوف. وقد تكلم القاضي أبو محمَّد ها هنا على سببين منها وهما السفر والمطر. وسنلحق نحن الكلام على السببين الآخرين في أثناء كلامنا على ما تكلم عليه وإنما انحصرت الأسباب في هذه الأقسام لأنه لا يتصور عذر في غالب الأمر يشق معه أداء الصلاة على الفرض الأصلي سوى هذه الأسباب. ولهذا انحصر الأمر فيها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الجمع لِغير سبب فإنه مأخوذ مما قدمنا الكلام عليه في أول كتاب الصلاة لما ذكرنا اشتراك الظهر والعصر في الوقت. وذكرنا الخلاف في ذلك، وسبب الخلاف. وأشرنا إلى أن من ذهب إلى الاشتراك يستدل بجمع عرفة والمزدلفة. وإن الجمع بعرفة ترك فيه الوقت لفضل الوقوف. فلو كان الوقت فرضًا لما ترك لما ليس بفرض وكذلك تأخير المغرب في المزدلفة لأجل الإفاضة. فلو كان الوقت فرضًا ما ترك للإفاضة، وما ورد من الأحاديث في جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر. وأن من نفى الاشتراك يحتج بحديث الأوقات، ويرى أن سبب وجوب الصلاة: الوقت. فلو كان الوقت واحدًا لم يفتقر إلى التمييز بين الصلاتين في النية كما لم يحتج إلى التمييز في سائر أيام رمضان لاستواء أيامه في سبب الوجوب، وكونها من رمضان. فلما افتقر إلى التمييز في الصلاتين علم أن السبب مختلف، وأن الأوقات متميزة، وهذا الذي أحلنا عليه إنما يفيد النظر في الإجزاء إذا خولف في الأوقات حكم الاختيار. وإلا فالجامع لغير عذر منهي عنه عندنا. وقد قال القاضي إسماعيل في المبسوط لما نص على القول بالاشتراك واحتج له إنما هذا عند الضرورة كما فعله الأئمة. وأما من فعله لغير ضرورة فإنه

ينهى (¬1) عن ذلك ويُؤدب عليه. وفي التأديب هنا نظر لأن القاضي إسماعيل إذا سلم القول بالاشتراك لم يكن الجامع للصلاتين مخالفًا لوقت مفروض إلا أن يقصر الاشتراك على حال الضرورة والعذر وينفيه مع حال الاختيار. فيصح التأديب حينئذٍ. أو يكون أثبت الاشتراك في حال الاختيار وحال الضرورة. لكنه أدب من جمع اختيارًا لتاكد النهي عنده عن ذلك. وإلحاقه بالسنن المؤكدة، فيكون التأديب في ذلك جاريًا على قول من تقدم من أصحابنا أن تارك الوتر يؤدب. وقد قدمنا الاعتذار عن هذا القول وذكرنا ما تأول عليه. فإن جمع جامع اختيارًا فهل تصح الصلاة أم لا؟ في المجموعة قولان. ذكر عن ابن القاسم فيمن جمع بين العشاءين في الحضر من غير مرض أنه يعيد الثانية أبدًا. قال أبو محمَّد يريد أنه صلاها قبل مغيب الشفق. وذكر عن أشهب فيمن صلى العصر قبل القامة والعشاء قبل مغيب الشفق أرجو أن تكون صلاته صلاة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الجمع في السفر بين الصلاتين المتفق على أنه لا شركة بينهما في الوقت كالظهر مع الصبح والمغرب مع العصر فإنه لا خلاف في منع الجمع بينهما ولو تكاثرت الأعذار. وأما ما يشترك وقته كالظهر مع العصر والعشاء مع المغرب فإن الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا جائز باتفاق فقهاء الأمصار. وذلك بأنْ يُصلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها فيكون المصلي جمع بينهما فعلأولم ينقل إحداهما إلى وقت الأخرى. وقال أشهب في كتبه: يجوز مع الاختيار للحاضر والمسافر أن يؤخر الظهر فيصليها في آخر وقتها. والعصر أول وقتها. قال وذلك أن ينقضي الظهر وقد صار ظل كل الشيء مثله أو يبتدىء صلاتها حينئذ فإذا صلاها أقام الصلاة وصلى العصر. أو تنقضي المغرب إذا غاب الشفق أو يبتدىء صلاتها حينئذٍ فإذا صلاها أقام الصلاة وصلى العشاء. وأما الجمع بينهما بنقل الوقت على الجملة فإنه يجوز عندنا وعند ¬

_ (¬1) منهي -و-.

الشافعي، ومنع أبو حنيفة من الجمع إلا بعرفة والمزدلفة. وقد وقع في المذهب عندنا الكراهية. فقال مالك في العتبية: أكره جمع الصلاتين في السفر. قال بعض المتأخرين: محمله على جهة إيثار الأفضل لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه. وقال أيضًا إذا ارتحل المسافرون عند الزوال فلا يجمعون. قيل معناه إذا كان نزولهم عند الغروب. وقال في كتاب ابن شعبان يكره الجمع في السفر للرجال ويرخص فيه للنساء. وسبب الاختلاف في هذا أن أحاديث الأوقات وبيانها ثابت مشتهر (¬1)، وفي بعضها ألفاظ تدل على الحصر على ما ذكر ونفي ما سواه من الوقت. كقوله وقت الظهر ما لم تحضر العصر إلى غير ذلك مما قدمنا ذكره من الأحاديث وهذا ينفي الجمع. وقد تواتر الجمع بعرفة والمزدلفة منقولًا بالعمل في سائر الأعصار ووردت أحاديث بجمعه عليه الصلاة والسلام في السفر سنذكر نصوصها فيما بعد. وهذا يبيح الجمع. فايّ الأمرين أولى أن يؤخذ به؟ فرأى مالك والشافعي أن أحاديث الأوقات عمومات خص منها السفر بما ذكرناه من جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر. وأفاد هذا التخصيص الاشتراك في الحضر أو (¬2) لم يفده على الاختلاف في ذلك ورأيا أن جمع الحجيج معلل في عرفة بمشقة الشغل الملهي عن الصلاة لأنهم في حط رحال وإقبال على دعوات وابتهال فصار ذلك عذرًا أباح الجمع. فقيس عليه المسافر فإنه ربما كانت حاجته للجمع أشد، وأيضًا الجمع بالمزدلفة لمشقة الاشتغال بالإفاضة إلى غير ذلك من المشاق المذكررة في هذا. فصار ذلك عذرًا أيضًا أباح الجمع. ورأى أبو حنيفة أن أحاديث الأوقات أولى أن تتبع لاشتهارها وكثرتها وكونها أقوالًا وأفعالًا، وجمع الحجيج لا يراه معللًا. لاذا لم يكن لم يقس عليه. وأخبار جمعه عليه الصلاة والسلام يتأولها على أنه جمع بينهما فعلًا لا وقتًا. وهو يحيى الجمع فعلًا كما قدمناه عنه. ويؤكد هذا بأنه روي عن أنس أنه جمع بينهما فعلًا. ثم قال هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقول ابن مسعود ما صلى عليه الصلاة والسلام صلاة قبل ميقاتها الإ صلاتين صلاة العصر بعرفة وصلاة الفجر بالمزدلفة، فإنه قد ¬

_ (¬1) ثابتة مشتهرة -و-. (¬2) إذ -و-.

غلس بها (¬1). وإن ورد من الأخبار ما لا يمكن حمله على الجمع فعلًا، جوّز أن يكون ذلك من غلط الراوي في التقدير. وإن كان حمل الغلط على الرواة بعيدًا. فهذا سبب اختلاف فقهاء الأمصار في هذه المسألة. وأما ما وقع عندنا من الكراهة فقد ذكرنا ما تأول عليه. ويمكن أن يتأول فيه الاحتياط من الاختلاف الذي ذكرناه عن أبي حنيفة. والتفرقة في الكراهة بين الرجال والنساء يمكن أن يكون لشدة حاجة النساء إلى الصون عن الحط والترحال بخلاف الرجال. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: يجوز الجمع في السفر وإن كان سفرًا لا تقصر في مثله الصلاة خلافًا لأحد قولي الشافعي في أنه لا يجوز إلا في سفر القصر. ودليلنا جمع أهل مكة بين الظهر والعصر بعرفة والمغرب والعشاء بالمزدلفة. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله في غير كتابه هذا: ولأنه سفر مباح فأشبه ما يقصر فيه. وتقييده ها هنا بالإباحة إشارة إلى أنه لا يجمع في سفر المعصية. وسنتكلم على الاختلاف في تعلق الرخص بسفر المعصية إن شاء الله تعالى. وأما الشافعي فإنه يحتج في منع الجمع بالقياس على الفطر فلما كان الفطر لا يجوز في قصير السفر فكذلك الجمع. ولا يكون مجرد السفر الطويل مبيحًا للجمع عندنا دون أن يضامه وصف آخر. واختلف في الوصف المشترط فيه. فقال مالك في المدونة: لا يجمع المسافر في حج أو غيره حتى يجدّ به السير ويخاف ذوات أمر فليجمع بين الظهر والعصر، يصلي الظهر في آخر وقتها ثم العصر في أول وقتها إلا أن يرتحل عند الزو الذيجمع حينئذٍ في المنهل. ويجمع بين العشائين بمقدار ما يكون المغرب في آخر وقتها قبل مغيب الشفق والعشاء في أول وقتها بعد مغيب الشفق. فأشار مالك ها هنا إلى اشتراط الجدّ في السير وخوف ذوات أمر. وهكذا اعتبر أشهب مبادرة ما يخاف فواته والإسراع إلى ما يهمه. واعتبر ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ قطع السفر بمجرده. فاباحوا للمسافر الجمع إذا كان القصد بالجد في السير قطع المسافة ولم يعتبروا خوف ذوات أمر لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أعجل به ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم. حرز الأماني ج 5 ص، 127.

السير جمع بين المغرب والعشاء (¬1) فلم يذكر الراوي ها هنا سوى العجلة في السير. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما وقت الجمع فقد وردت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث فروى أنس في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى آخر وقت العصر ثم نزل فجمع وإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر وركب (¬2). وروى أنس أيضًا في كتاب مسلم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير أخّر الظهر إلى آخر وقت العصر فيجمع ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق (¬3). وروى معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن ترتفع الشمس أخّر الظهر حتى يجمعها مع العصر وإذا ارتحل بعد أن ترتفع الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا. وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب (¬4) وجمعه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة مشهور. وهو من هذا المعنى. لأنه قدم العصر. لأنهم يركبون للوقوف ولا يرفعون حتى تغيب الشمس. وكذلك جمعه بالمزدلفة وتأخيره المغرب، لأن الوقت يدخل عليهم وهم ركبان فلا ينزلون إلا بالمزدلفة. واعلم بأنا قدمنا في أول كتاب الصلاة من الكلام على الوقت الاختياري والضروري ما هو أصل لهذه المسألة. فإذا علمت من هناك جميع ما قلناه في تحديد الوقت الاختياري ووقت الاضطرار فالجمع ها هنا لا يخلو من ثلاثة أقسام. أحدها أن تصلي الصلاتان في وقت اختيار لهما جميعًا. والثاني أن يصليهما في وقت اختيار لإحداهما ضرورة للثانية (¬5). والثالث أن يصليهما في وقت ضرورة لهما جميعًا. فأما الجمع بينهما في وقت اختيار لهما جميعًا فلا ¬

_ (¬1) مسلم والبيهقي. السنن ج 3 ص 159. (¬2) البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي. حرز الأماني ج 5 ص 121. (¬3) رواه مسلم والبيهقي. السنن في 3 ص 161. (¬4) رواه أحمد ومسلم وغيرهما. حرز الأماني حديث 1234 ج 5 ص 118. (¬5) الثانية - ساقطة -و-.

يتصور إلا بان تقع أولى الصلاتين في آخر وقتها وأخرى الصلاتين في أول وقتها. وقد عُد هذا القسم في المدونة من قبيل ما لا يرخص فيه للمسافر إلا بأن يجدّ به السير ويخاف ذوات أمر. وقد حكينا قوله في المدونة في هذا لما قال لا يجمع المسافر إلا عند جذ السير وخوف ذوات أمر. فيصلي الظهر آخر وقتها والعصر أول وقتها. وهذا الذي في المدونة لا وجه لعدّه من قبيل الرخص، لأنه لم يختلف في أن تأخير الظهر إلى آخر وقتها اختيارًا جائز. وقد قدمنا ما قوله أشهب في كتابه من إجازة ذلك للمسافر اختيارًا وللحاضر أيضًا. وذكرنا قوله وإجازته ذلك بان تنقضي الظهر وقد صار ظل كل شيء مثله، أو يبتدؤها حينئذٍ. وقد تقدم نص قوله في هذا لكنه يمكن عندي أن يكون مالك رضي الله عنه لما رأى أن وقت الاختيار أفضله أوله، وكان مؤخر الظهر إلى آخر وقتها، قد أحل بتحصيل هذا الفضل ألحق التأخير لأجل عذر السفر بأبواب الرخص. وصار فوته الفضل ها هنا لَمّا دعت إليه ضرورة السفر كفوت جملة وقت الاختيار أصلًا الذي لا يلحق منه تقصير لضرورة السفر. وقد أشار أشهب إلى هذا المعنى فقال في المجموعة لا أحب الجمع بين الظهر والعصر إلا بعرفة أول الزوال وهي السنة. قال: وللمسافر وإن لم يجدّ به السير من الرخصة في جمعهما ما ليس للمقيم. وله في جدّ السير أكثر مما له إذا لم يجدّ في ذلك، وللمقيم في ذلك أيضًا رخصة، لأنه يصلي في آخر (¬1) الوقتين الذي وفت جبريل عليه السلام. فإذا فاء الفيء قامة كان للظهر آخر وقت وللعصر أول وقته وأول الوقت فيهما أحبّ إلينا وإذا ساغ للحاضر جاز للمسافر وإن لم يجد به السير، وكذلك في المغرب والعشاء، ويكون مغيب الشفق وقتًا لهما يشتركان فيه. مع ما روي من جمع المسافر ولم يذكر جدّ السير. وأما جدّ السير فمجتمع عليه. وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر وقت هذه وأول وقت هذه وذلك أن تنقضي المغرب وقد غاب الشفق أو يبتدىء بها حينئذٍ ثم يقيم فيصلي العشاء بعدها. وهذا في الظهر والعصر أجوز منه في المغرب والعشاء لأن المغرب إنما ذكر لها وقت واحد في الحديث. فأنت ترى أشهب لما ذكر الجمع في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية سماه ¬

_ (¬1) أحد - قث.

رخصة. وعقبه بقوله وأول الوقت فيهما أححت إلينا، ليشعر أن عدّه رخصة إنما كان لفوت فضيلة أول الوقت على حسب ما تأولناه على المدونة. وما ذكره أشهب في المغرب والعشاء إنما ذلك على القول بان للمغرب وقتين، وأشار إلى كونهما أخفض رتبة من الظهر والعصر لأجل الاختلاف في وقت المغرب. وأما الجمع في وقت اختيار لإحداهما ضرورة في الأخرى فيتصور بأن تقع الأولى في أول وقتها، والثانية في وقت لها ضروري ليس باختياري لأن من جمع بين الظهر والعصر عند الزوال فإن الظهر واقعة في وقتها المختار والعصر في وقت اضطرار. ويتصور أيضًا بان تؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر فيجمع بينهما. وأما كونهما يوقعان في وقت ضروري لهما فيتصور بأن يجمع بينهما قبل الغروب. فإذا وضح لك أن الخروج عن وقت الاختيار إنما يسوغ عند العذر والاضطرار فيجب أن يراعى حال المسافر. فإن كان زالت عليه الشمس وهو في المنهل ويعلم أنه متى رحل لا ينزل إلا بعد الغروب، فإنه ها هنا يجمع بين الظهر والعصر عند الزوال إذا كان رحيله حينئذٍ، لأنا إن منعناه من الجمع فلا بد أن نكلفه النزول ليصلي المعصر قبل خروج وقتها، وفي النزول اضرار به. وإن لم نكلفه النزول صلى العصر بعد الغروب، وتأخير الصلاة عن جميع وقتها محظور. فلما تقابل الإضرار به في تكليف النزول، والتقصير في العصر بأن توقع في وقتها الضروري، رأى لك رحمه الله أن مراعاة الضرورة آكد من مراعاة الاختيار في الوقت. ورأى المخالف أن مراعاة الاختيار في الوقت أولى من مراعاة الضرورة. وقد تقدمت الحجة لمالك في هذا. وقد ذكر في المدونة جمع المسافر في المنهل إذا كان رحيله عند الزوال ولم يذكر إباحة الجمع بين العشاءين إذا كان (¬1) رحيله عقيب الغروب. وذهب سحنون إلى جواز ذلك في العشاءين كجوازه في الظهر والعصر. وأشار بعض المتأخرين إلى أن مذهب المدونة خلاف ما قال سحنون. ووُجَّه ظاهر المدونة عنده بأن ما بعد الغروب ¬

_ (¬1) لمن كان - قث.

ليس بوقت للرحيل في العادة، فإذا وقع نادرًا لم تتعلق به الرخصة كما تعلقت (¬1) بالرحيل عند الزوال. لأن الرخص لا تتعلق بالشواذ (¬2). وأما سحنون فإنه يحتج بالقياس على الظهر والعصر. وإذا كانت الإباحة عند الزوال لعذر الرحيل عنده. فلو زال العذر بان نزل بعد الزوال فجمع بينهما حينئذٍ لا لعذر استئناف الرحيل حينئذٍ فإنه يعيد العصر ما دام في الوقت. رواه زياد عن مالك. قال بعض المتأخرين وكذلك يجب أن يكون حكم من جمع بين الصلاتين ولم يجد به السير عند من شرط في الجمع أن يجد به السير. وفي هذا نظر عندي لأن اشتراط الجد في السير لا يبلغ مبلغ مخالفة وقت الاختيار في الحرمة. وإذا أمكن أن لا يبلغ الجدّ في السير عند من اشترطه مبلغ وقت الاختيار في الحرمة والتاكد، لم يصح إلزامه أن يقول بالإعادة في الوقت فيمن جمع ولم يجدّ به السير. وإن كان المسافر الراحل عقيب الزوال من المنهل يعلم أنه ينزل قبل تصرم وقت الصلاة الثانية لم يجمع، بل يصلي الظهر قبل رحيله والعصر إذا نزل قبل الاصفرار. وكذلك المغرب عند الغروب والعشاء قبل ثلث الليل أو نصفه. لأن إيقاع كل صلاة ها هنا في وقتها المختار يمكنه على حسب ما يمكن الحاضر، فلا معنى للجمع. وإن كان المسافر، زالت الشمس أو غربت (¬3) وهو على ظهر، ويعلم أنه ينزل قبل الاصفرار وقبل ذهاب ثلث الليل أو نصفه على الاختلاف في آخر وقت العشاء جمع في آخر وقت الصلاة الثانية ويكون هذا كالراحل عند الزوال من المنهل، وإن كان هذا أخر الأولى فاوقعها في وقت الضرورة والثانية في وقت الاختيار، والراحل من المنهل عند الزوال بالعكس من ذلك. لأنه قدم الثانية فاوقعها في وقت الضرورة وأوقع الأولى في وقت الاختيار. لكنهما يستويان في إزاحة (¬4) صلاة واحدة عن وقتها المختار. وإنما اتفق نفي الضرر فيهما على هذا الأسلوب من التقديم والتأخير. وإن كان هذا ¬

_ (¬1) تتعلق -و-. (¬2) النوادر - قث. (¬3) أو غربت = ساقطة -و-. (¬4) إزاله - قث.

المسافر الذي أخذه الزوال أو الغروب وهو على ظهر لا ينزل في، النهار إلا بعد الغروب أو في الليل إلا بعد طلوع الفجر جمع الصلاتين في وقتهما المختار فيصلي الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها لأن الشرع لم يسوغ له تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها الضروري. فإذا كان ذلك لا يسوغ له ولا بد له من النزول فنزول تتفق فيه الصلاتان في وقتهما المختار أولى من نزول يقعان فيه جميعًا أو إحداهما في وقت ضروري. ولو كان المسافر زالت عليه الشمس وهو في المنهل ويعلم أنه إذا رحل نزل بعد الاصفرار فهذا لا بد له من إيقاع الصلاة الثانية في غير وقتها المختار. فإن أبحنا له التعجيل والجمع أوقع العصر مقدمة على وقتها المختار. لان نهيناه عن الجمع أوقعها مؤخرة عن وقتها المختار. فهذا فيه إشكال. وطريقة النظر فيه الموازنة بين التقديم على الوقت أو التأخير عنه أيهما أخف فيركب؟ وقد أشار بعض أشياخنا إلى تخيير المسافر في ذلك. ورأى مع هذا أن تأخير العصر أولى لأنها توقع في وقت يخصها. وهذا الذي قاله ومال إليه من التأخير يظهر وجهه إذا قيل إن مؤخر العصر اختيارًا إلى الاصفرار ليس يأثم ولكنه مقضر. وأما إن قلنا بتأثيمه إذا أوقع العصر بعد الاصفرار على ما ذكره ابن سحنون عن مالك فإن ترجيح التأخير يحتاج نظرًا آخر. ولو كان المسافر زالت عليه الشمس وهو على ظهر ولا ينزل إلا بعد الاصفرار فإن ابن مسلمة أشار إلى جواز التأخير ليجمع الصلاتين إذا نزل. فقال فيمن خرج وأجمع السير يومه كله إلى الغروب يجمع إن شاء. وكذلك جمع أهل عرفة حين راحوا. قال: ولا أرى إلا أن وقتهما للضرورة من الزوال إلى الغروب. وهذا أيضًا يتّضح وجهه على القول بان المؤخّر إلى بعد الإصفرار لا يأثم. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما لم يتنفل بين الصلاتين المجموعتين في السفر لأن الجمع إنما أباحه ضرورة الجد في السير، فسقط مراعاة وقت الاختيار لضرورة الاستعجال والتنفل يشعر بالطمأنينة والاستقرار. فلما نافى التنفل ما وضع الجمع له لم يكن لإدخاله في الجمع معنى. ولهذا اجتنب من اجتنب التنفل في السفر لأنه إنما رأى أنه ينافي ما وضع للمسافر من وضع شطر الصلاة.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويجوز في الحضر لعذر المطر في المغرب والعشاء دون الظهر والعصر. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على جواز الجمع في المطر؟. 2 - وما المساجد التي يجمع فيها؟. 3 - وما الصلوات التي يجمع بينهما (¬1) فيه؟. 4 - وهل الجمع سنة أم لا؟. 5 - وهل يكون الطين عذرًا كالمطر؟. 6 - وما وقت الجمع؟. 7 - وهل يتنفل بين صلاتي الجمع؟. 8 - ومن الذي يباح له الجمع؟. 9 - وما حكم الجمع في المرض؟. 10 - وما حكمه في الخوف؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في جواز الجمع لأجل المطر فأجازه مالك والشافعي ومنعه أبو حنيفة والمزَني. وقد قال ابن القاسم في المجموعة من جمع بين المغرب والعشاء في الحضر لغير مرض أعاد العشاء أبدًا. قال بعض المتأخرين هذا يقرب من قول أبي حنيفة. وكأن هذا لما رأى ابن القاسم استثنى المرضى خاصة استلوح من ذلك أنه لا يرى المطر عذرًا كالمرض. وأنه لو رآه عذرًا لذكره كما ذكر المرض. وهذه المسألة مبنية على القول بالاشتراك في الوقت، فإذا قيل بنفيه لم يكن للجمع وجه وإذا قيل بإثباته فقد تقابل فضيلتان، إحداهما فضيلة وقت الاختيار، والثانية فضيلة الجماعة، فتجب الموازنة بينهما. فمن رجح فضيلة الوقت لم يجمع ورأى أن صلاة العشاء فذًا بعد مغيب الشفق أولى منها جماعة قبل مغيبه. ومن رجح فضيلة الجماعة ورأى أن صلاة العشاء جماعة قبل مغيب الشفق أولى منها فذًا ¬

_ (¬1) بينهما. هكذا في جميع النسخ.

بعد مغيبه جمع. وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر (¬1). قال مالك أراه في المطر. وهذا الحديث دليل على جواز الجمع على الجملة على تأويل مالك. وسنتكلم على باقي هذا الحديث بعد هذا إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد قدمنا أن مذهبنا جواز الجمع لأجل المطر فإذا كان جائزًا فسائر المساجد في ذلك سواء. وروى ابن شعبان عن مالك أنه لا يجمع إلا في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الاختلاف راجع إلى ما تقدم من الموازنة بين الفضيلتين. فكانه رأى في المشهور أن فضيلة الجماعة في سائر المساجد تربي على فضيلة وقت الاختيار. وروى في هذه الرواية الشاذة عنه أنها لا تربي إلا إذا كانت في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لِعظَم فضل الصلاة فيه على غيره من المساجد، وأصل الجمع إنما وقع في مسجده - صلى الله عليه وسلم -. ويمكن أن يكون إنما فعل ذلك فيه لاختصاصه بالفضل، فلا يقاس غيره عليه. وعلى هذه الطريقة قال مالك رضي الله عنه فيمن أتى المسجد وقد جمع الناس فلا يصلي العشاء وحده قبل الشفق إلا في مسجد الحرمين. لأجل أن فضيلة المسجدين تربي على الفضيلة التي أحل بها. وهذا الذي ذكرناه عن مالك يقتضي جواز الجمع في المسجد الحرام. وقد اختلف أي المسجدين أفضل؟ ولو قيل إن مسجد المدينة أفضل لأمكن أن يستخف الجمع في المسجد الحرام لأجل الخلاف فيه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الصلوات التي لا اشتراك بينهما في الوقت كالعصر والمغرب، والعشاء والصبح، أو الصبح والظهر فلا خفاء في منع الجمع بينهما. وأما التي بينهما الاشتراك كالظهر والعصر، أو المغرب والعشاء فعندنا أن الجمع لعذر المطر مختص بصلاتي الليل المغرب والعشاء دون صلاتي النهار: الظهر والعصر. خلافًا للشافعي في إجازته ذلك بين الظهر والعصر كما يجيزه في المغرب والعشاء. وسبب هذا الاختلاف أن ¬

_ (¬1) مالك في الموطإ والبيهقي وأبو داود. وفي بحض روايات أبي داود ولا سفر وفي بعضها ولا مطر. قال الحافظ واعلم أنه لم يقع مجموعًا بالثلاثة في شيء من الحديث بل المشهور من غير خوف ولا سفر. حرز الأماني ج 5 ص 131.

الشافعي رأى أن قاعدة جواز الجمع اشتراك الأوقات. والاشتراك ثابت بين الظهر والعصر كثبوته بين المغرب والعشاء، والمطر موجود في حق الجميع فوجب أن لا يفترق الحكم في ذلك. ورأى مالك أن مجرد الاشتراك لا يحيى الجمع دون تحقق العذر. والعذر إنما يتحقق في صلاة الليل دون صلاة النهار، لأن المطر لا يقطع الناس عن التصرف في أمور (¬1) دنياهم في النهار فإذا كانوا غير منقطعين عن التصرف فتكليفهم التصرف إلى المساجد لا يضر بهم. وهم في الليل لا يتصرفون. فتكليفهم التصرف إلى المساجد مع المطر إضرار بهم. فلما اختلفت مواقع العذرين، اختلفت مواقع الأحكام. وقد يحتج للشافعي بما قدمناه من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر (¬2). قال مالك أرى ذلك كان في المطر. وقد تأول مالك الحديث على المطر وفي تأويله لذلك تسليم لاحتجاج الشافعي به. ولكنه خالف ما تأول الحديث عليه في الظهر والعصر لما قدمنا ذكره من اعتباره (¬3) مواقع الضرورة. وقد قال بعض البغداديين من أصحابنا يمكن أن يكون قول مالك: "أراه في المطر" أي في مطر غالب منع من تقديم الظهر فأخرها إلى آخر وقتها. وقد تؤول الحديث على غير تأويل مالك فقيل إنما فعل ذلك ليري اشتراك الوقت. وقد سئل ابن عباس على المراد بذلك فقال: أراد أن لا يحرج أمته. ويمكن أن يكون فعل ذلك لأجل مرض. ويمكن أن يكون إنما جمع بأن صلاهما في وقتهما المختار فصلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها الذي كرهه (¬4) مالك في الظهر والعصر. وقد قال بعض أصحابنا البغداديين لعله فعل ذلك لعذر أوجبه من حشد أو غيره. وقيل يمكن أن يكون هذا مختصًا بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل ما اختص به من الفضيلة على ما قدمناه. فيجوز فيه الجمع بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ولا يجوز في غيره ¬

_ (¬1) أمر -و-. (¬2) مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 356. (¬3) اعتبار - قث. (¬4) في آخر القامة الأولى. والعصر في أول القامة الثانية -و-.

من المساجد أصلًا على ما قدمناه من حكايته ابن شعبان عن مالك. وقد اختلفت الرواة عن ابن عباس كما اختلفت التأويلات فروي عنه في غير خوف ولا سفر كما قدمنا، وروي عنه في غير خوف ولا مطر. وهذا يرد تأويل مالك. وروي عنه أنه قال كان ذلك في سفرة سافرها. ويحتمل أن تكون هذه الروايات حكايات عن أوقات متغايرة. وخزج مالك في الموطإ أنه عليه الصلاة والسلام عام تبوك كان يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يومًا ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا. ثم دخل ثم خرج فصاى المغرب والعشاء جميعًا (¬1). وهذا الحديث ذكر فيه الجمع بين الظهر والعصر جميعًا. ولكن على وجه تأخير الظهر لا على وجه تقديم العصر. ومالك إنما يكره الجمع بين الظهر والعصر في المطر بأن يقدم العصر عن وقتها المختار كما يفعل في العشاء. وليس في الحديث ما يقتضي ذلك. وقوله ها هنا في هذا الحديث ثم دخل ثم خرج، ظاهره أنه مقيم لا راحل سائر، لأن الدخول والخروج إنما يستعمل غالبًا في الدخول في المنزل أو الخباء لا في الخروج عن الطريق للصلاة. ثم الدخول إليها للمسير. وإذا كان ظاهره أنه ليس على ظهر الرحيل فلعله فعل ذلك لضرورة مطر. قال أبو الوليد الباجي يتعلق أشهب بظاهر هذا اللفظ. وقال: إن للمقيم رخصة في الجمع بين الصلاتين لغير عذر مطر ولا مرض. وهو قول ابن سيرين، فأطلق النقل ها هنا عن أشهب في جمع الحاضر بين الصلاتين. وقد قدمنا نحن نص قوله وإشارته إلى أن يكون ذلك في وقتهما المختار. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الجمع بين الصلاتين لأجل المطر رخصة. وقد أطلق مالك في المختصر القول بأنه سنة. قال بعض الأشياخ معناه أنه مما عُمل به. وسُن لنا أن نترخص بعمله، وإنما الجمع رخصة. وفي الموازية الجمع في السفر توسعة ورخصة لمن احتاج إليه وليس ذلك بسنة لازمة. وهكذا ينبغي أن يتأول قول مالك في المجموعة: سنة الجمع ليلة المطر أن ينادى للمغرب. على معنى أن من أخذ برخصة الجمع فسنة الجمع وطريقته كذا وكذا. وقد قال ابن قسيط في المدونة الجمع ليلة المطر سنة وقد صلاها ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم والبيهقي. السنن ج 3 ص 161.

أبو بكر وعمر رضي الله عنهم على ذلك. وهذا يمكن أن يتأول أيضًا كما تأولنا قول مالك. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد ذكرنا أن المطر عذر يحيى الجمع. فإن لم يكن مطر ولكن كان طين وظلمة، فإن الجمع جائز أيضًا لأن الضرر بالتصرف في الطين في الليلة الظلماء كالضرر بالتصرف في الليلة المطيرة. فإن كان الطين والليلة مقمرة فظاهر المذهب منع الجمع لأن ضياء القمر يقوم مقام ضياء الشمس فلا يشق التصرف في الطين في الليلة المقمرة إلا كما لا يشق التصرف فيه بالنهار. والجمع معتبر بالمشقة. وقد قيل لمالك رضي الله عنه في العتبية ربما ينجلي المطر ويبقى الطين أيجمعون؟ قال نعم. قال بعض أشياخي ظاهر هذا إجازة الجمع بمجرد الطين وإن لم تكن ظلمة. قال وكذلك قوله: "إذا كان الطين والوحل الكثير أرجو أن يكون له سعة في أن يصلي في بيته" يقتضي جواز الجمع لعذر (¬1) الوحل. وفي هذا الذي قاله نظر لأنه إنما أباح له التأخر عن الجماعة لأجل الوحل. وقد لا يحيى تقدمة الصلاة قبل الوقت لأجل الوحل لكون التقدمة قبل الوقت آكد من ترك الجماعة. فإذا أمكن أن يكون هذا المعنى قصد، فلا وجه لإلزامه ما قال. وقد ورد في الحديث إباحة التأخر عن الجماعة لأجل العذر. وفي الحديث الثابت إذا كانت ليلة باردة. وفي بعض الروايات ليلة ذات برد وريح أمر عليه الصلاة والسلام المؤذن أن يقول: "ألا صلوا في الرحال" (¬2). وقد خرج من محصول ما قدمناه أن الأسباب التي لها مدخل في الجمع ثلاثة: مطر، وطين، وظلمة. فإن اجتمعت جاز الجمع. وكذلك إن اجتمع منها اثنان ما كانا. وإذا انفرد منها واحد فكان المطر جاز الجمع. لان كان الظلام لم يجز وإن كان الطين فقدلان: المنع على ظاهر المذهب والجواز على ظاهر المستخرجة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما وقت الجمع، فإن ابن حبيب حكى عن مالك أنه ينادي للمغرب أول الوقت، وإنما نودي لها حينئذٍ ليعلم ¬

_ (¬1) لأجل - قث. (¬2) رواه مالك والبخاري ومسلم. الموطإ ص 68.

بالوقت من لا يجمع معهم. ويعلن بالأذان في المنار. وأما الأذان للعشاء فقال مالك يؤذن لها في داخل المسجد في مقدَّمه. وقال ابن حبيب يؤذن لها في صحن المسجد أذانًا ليس بالعالي. وقد قدمنا في باب الأذان الاختلاف في تكريره في صلاتي الجمع بما يغني عن إعادته ها هنا. فإذا أذن للمغرب في الوقت المذكور فهل يؤخر فعلها أم لا؟ اختلف قول مالك في ذلك. فالمشهور عنه تأخيرها قليلًا. وروي عنه أيضًا تصلّى بإثر الأذان لها من غير تأخير، وبه قال ابن وهب. ورواه البرقي عن أشهب. فوجه القول بتأخيرها مراعاة التقرب من الوقت المختار للعشاء. ووجه نفي التأخير أن الجمع للرفق والانصراف قبل الظلمة. وهذا إنما يتحصل مع التعجيل. وأيضًا فإن إيقاع المغرب أول وقتها أفضل. وقد قال بعض أشياخنا شأن الناس اليوم تأخير المغرب. فمن صلى المغرب في أول وقتها المعتاد فقد أخر التأخير المراد. وإنما أشار مالك إلى التأخير عن الوقت الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها فيه. وقد قال رافع بن خَديج كنا ننصرف من الصلاة وإن أحدنا ليرى مواقع نبله. وأشار شيخنا هذا إلى أن الأولى عنده التخيير في صلاة المغرب بين أن تقدم عند الغروب لأنه الوقت الأفضل فيها، ولم تدع ضرورة إلى تأخيرها. أو تؤخر وتجمع مع العشاء. وأما العشاء فيختار فيها ما قاله في المدونة أن ينصرف الناس وعليهم إسفار (¬1). لأن تقدمتها عن هذا لم تدع إليه ضرورة وتاخيرها عنه يوقع في الضرر. وفي الذي قاله نظر، لأن التخيير في أن يصلي المغرب أول الوقت ثم يؤخر العشاء إلى أن ينصرف الناس وعليهم إسفار، فيه إيقاع العشاء قبل وقتها غير مجموعة لما قبلها. وإنما جاءت التقدمة مع الجمع. والتقدمة مع التفرقة لم تنقل. ولم يصحبها عمل. ألا ترى أن التنفل بينهما منهي عنه علي أحد القولين، لأن في فعله إحالة لمعنى الجمع. وقد كنا قدمنا ذكر ما في ذلك من إحالة معنى الجمع. فإذا قلنا بالتأخير على القول المشهور فما مقداره؟ قال في المدونة يؤخرون المغرب شيئًا ثم يصلونها ثم يصلون العشاء وينصرف الناس وعليهم ¬

_ (¬1) أسفار قليل - قث.

إسفار قليل. وقال أشهب في مدونته: إذا كان المطر، تؤخر المغرب إلى غيبوبة الشفق ثم يجمع. قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم تؤخر المغرب ثم تصلى ثم يؤذن للعشاء ويطولون حتى يغيب الشفق أو معه ثم تصلى، وهذا الذي قاله في المختصر وذهب إليه أشهب يكاد أن يُخرج الجمع عن معناه. لأن معناه الرفق بالناس ورفع ما يدركهم من المشي في المطر والطين عند شدة الظلمة والتأخير إلى غيبوبة الشفق أو ما قرب من غيبوبته قربًا كثيرًا يوقع في الضرر الذي كان الجمع لرفعه وإزاحته. وإذا كانوا يصلون العشاء بعد أن غاب الشفق فلا معنى لتأخير المغرب عن وقتها المختار. ولا فائدة في ذلك وهو قد قال في المختصر تؤخر المغرب مع قوله يطول أذان العشاء حتى يغيب الشفق أو معه. وهذا فيه نظر كما قررناه (¬1). والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما التنفل بين العشاءين إذا جمع فاختلف المذهب فيه. فقال مالك لا يتنفل بينهما. وكل صلاتين يجمع بينهما فليس بينهما نافلة. ووجه هذا قد تقدم. وذكرنا أن التنفل بين المجموعتين يحيل معنى الجمع. وإذا كان محيلًا له ونافيًا لمعناه لم يحسن كما لم يحسن التنفل في السفر لكونه منافيًا (¬2) لمعنى التخفيف بوضع شطر الصلاة عند من ذهب إلى ذلك. وأجاز ابن حبيب التنفل بينهما وكأنه رأى أن تَنَفل من في المسجد ما دام المؤذن يؤذن للعشاء الآخرة لا يحيل معنى الجمع، لأن الناس ينتظرون المؤذن حتى يفرغ. وقد قال بعض المتأخرين ما قاله مالك مبني على تقدمة العشاء لما في ذلك من الرفق. وما قاله ابن حبيب مبني على جواز التأخير بعد الأذان ليتنفل من يريد. وأشار إلى تخريج الخلاف في التنفل على التقديم والتأخير، وهذا حكم التنفل بينهما. وأما التنفل بعدهما فقد قال مالك في المستخرجة لا يتنفل بعد العشاء في المسجد. وقال أيضًا لا يُوترون في المسجد ولكن في منازلهم بعد مغيب الشفق. فأما التنفل بعد العشاء فيمكن أن يكون نهي عنه لأنه إنما أبيح الجمع ¬

_ (¬1) قدمناه - قث. (¬2) مناقضا - قث.

لينصرف الناس إلى منازلهم قبل الظلمة الشديدة، وفي التأخير للتنفل وقوع فيها. وأما الوتر فإنها سنة مؤكدة لم تدع الضرورة إلى تقدمتها قبل وقتها كما دعت في العشاء فلهذا أخرت إلى مغيب الشفق. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: لا يمنع قرب الدار من المسجد من الجمع. قال مالك يجمع الناس وإن كان فيهم قريب الدار إذا خرج منها دخل المسجد من ساعته. وقال يحيى بن عمر وغيره يجمع معهم المعتكف في المسجد. قال أبو محمَّد عبد الحق لو كان المعتكف إمامهم لم يكن له عندي أن يجمع بهم، ولكن يستخلف من يصلي بهم ويصلي هو معهم. لأن المعتكف إذا كان مأمومًا جمع معهم لكونه تبعًا للجماعة. فإذا كان المعتكف إمامًا لم يجمع بهم لأنه لا يكون حينئذٍ تبعًا لأحد. وتنازع الأشياخ في المرأة تجاور المسجد وتصلي أبدًا مع الناس وهي في منزلها هل لها أن تجمع مع أهل المسجد إذا جمعوا؟ فمنع أبو عمران من جَمْعها لكون المطر غير مانع لها من الصلاة بالمكان الذي اعتادت أن تصلي فيه مع الجماعة. فصارت كمن حاول الجمع لغير عذر. وهذا التعليل وإن طرد في المعتكف والبائت في المسجد لغربته فإنهم يجمعون لمعنى آخر غير موجود في المرأة. إذ من كان في المسجد لا يقدر على مخالفة الإِمام بأن يجلس ولا يصلي معه. وخالفه غيره من الأشياخ ورأى أن هذه المرأة تجمع كما يجمع المعتكف. لأن الجمع وتقدمة الصلاة عن وقتها الاختياري إنما جاز لتحصيل فضل الجماعة. وهذا المعنى يحيى الجمع للمرأة كما أباحه للمعتكف. وهل يباح الجمع إذا حدث العذر بعد صلاة المغرب؟ في ذلك قولان. روى أصبغ عن ابن القاسم في القوم يصلون المغرب فهم يتنفلون لها إذ وقع المطر. فقال لا ينبغي أن يعجلوا العشاء إذا فرغوا من المغرب قبل أن يقع المطر. قال ابن أبي زيد وأعرف فيها قولًا آخر لا أعرف قائله. قال ابن أبي زمنين. قال أصبغ إن فعلوا ذلك فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى. قال بعض المتأخرين من ذهب إلى أن الجمع يكون أول الوقت أجاز الجمع ها هنا إذا

وقع المطر بعد صلاة المغرب. وفي الذي قاله نظر لأنه وإن قال بتقدمة الصلاتين أول الوقت فإنه قد ينهى هاهنا عن الجمع لأنهم لم يصلوا المغرب بنية الجمع. وقد اختلف المذهب فيمن صلى المغرب في بيته ثم أتى المسجد وصلى الجامعون فيه المغرب هل يصلي معهم العشاء أم لا؟ فقال بعض المتأخرين محتجًا لما في المدونة من الجواز: إن المغرب تؤدى في وقتها ولا تأثير لها في جواز تقديم العشاء، وإنما تقدم العشاء للتخفيف ولتحصيل فضل الجماعة. وهذا يحتاج إليه من صلى المغرب في بيته كما يحتاج إليه من صلاها في المسجد. قال ووجه الرواية الثانية: إن تقديم العشاء إنما أبيح لحكم الجمع ولذلك وصف به. ولو لم يكن للجمع فيه تأثير لوصف بتقديم العشاء خاصة. فإذا فات معنى الجمع امتنع تقديم العشاء، فإن صلاّها معهم على القول بالنهي فقد أساء ولا يعيد لأنه مما اختلف فيه. وكان النهي على معنى الاستحباب لما في الوقت من الاشتراك. وبنفي الإعادة قال ابن عبد الحكم وأصبغ. والتعليل في هذه المسألة بأن معنى الجمع إذا فات امتنع تقديم العشاء، يشير إلى ضعف التخريج الذي حكيناه عن بعض المتأخرين في مسألة وقوع المطر بعد صلاة المغرب. وقد ذكرنا الاختلاف في المطر لو وقع بعد صلاتهم المغرب. فلو كان ارتفع بعد صلاتهم المغرب وقد صلوها بنية الجمع. قال أبو محمَّد عبد الحق لا يمنع من الجمع إذ لا يُؤمن من عودة المطر. والأوْلى عندي مراعاة شاهد الحال. فإن كف المطر كفًا ظهر معه من الصحو ما يؤمن معه من عودة المطر فإنهم لا يجمعون، وكثيرًا ما يقلع المطر إقلاعًا يغلب على الظن معه أنه لا يعود عن قرب. ووقع في العتبية إذا كان المطر لا ينقطع وليس لتعجيلهم منفعة لدوامه، فلا بأس أن يجمعوا. وكذلك ذكر فيها أيضًا إذا كانوا في رمضان لا ينصرفون حتى يقنتوا، إن الأحب ألا يجمعوا فإن جمعوا ثم قنتوا فهم في سعة. وحكى ابن أبي زيد عن أبي بكر أنهم إذا جمعوا ثم قنتوا فعليهم إعادة العشاء. قال أبو محمَّد إنما لم ير مالك الإعادة لأنه لا بد أن ينصرف بعضهم، وأحب إلى أن يكون للأقل حكم الأكثر. فأنت ترى هذا الاضطراب في إجازة الجمع بمجرد المطر دون أن يصحبه ارتفاق بالجمع. وما قاله أبو بكر بن

اللباد من تأكد النهي عن الجمع هو أولى، لأنه قد عقل معنى الجمع في الشرع، وأنه حيث ما وقع إنما وقع للارتفاق به كما ذكرناه في جمع الحجيج بعرفة والمزدلفة، والجمع في السفر. وكذلك الجمع في المطر إذا لم يحصل به ارتفاق فلا معنى له. ولما استشعر أبو محمَّد صحة هذا الذي قلناه اعتذر عن مالك بأنه إنما وسع فيه إذا وقع مراعاة لحق من يريد الانصراف، ثم أشار إلى مراعاة عدد من يحب الانصراف هل هم الأكثر فيغلب حقهم في الجمع أم لا؟ وهذا الذي قاله من اعتبار حكم أكثر له أصل في الشرع وطريقة في النظر. والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: اختلف الناس في جواز الجمع لأجل المرض فاجازه مالك *رضي الله عنه على الجملة* (¬1). ومنعه الشافعي رحمه الله وابن نافع من أصحابنا. وحكى ابن مزين عن ابن نافع أنه لا يجمع قبل الوقت ورأى أنه يصلي كل صلاة لوقتها. فمن أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يكن عليه قضاؤه. فاحتجت الشافعية بان الجمع لأجل الارتفاق في جمع الحجيج وجمع المسافر معلوم. ولا ارتفاق في جمع المريض بل إيقاعه الصلاتين مفترقتين أسهل عليه وأرفق به. ورأى أصحابنا أن لجمعه معنى. إما تحصيل الصلاة في وقتها الضروري إذا خاف أن يغمى عليه في وقتها الاختياري حتى يفوت. صاما لأن تحريكه (¬2) مرة لصلاة واحدة أسهل عليه وأرفق به من أن يتحرك لها مرتين، أو يفتقر إلى وضوء ثان للصلاة الثانية إن لم يجمعهما. وإذا ثبت العذر والارتفاق جاز الجمع كجمع الحجيج وجمع المسافر. لا سيما وقد ذهب ابن سيرين وابن المنذر إلى إجازة الجمع للحاضر من غير عذر لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر من غير خوف ولا سفر (¬3). وروي من غير خوف ولا مطر. وقد كنا قدمنا أن بعض المتأخرين حكى عن أشهب أنه قال: إن للمقيم رخصة في المجمع بين الصلاتين غير عذر مطر ولا مرض. وأشار إلى أن أشهب يوافق ابن سيرين وقلو قدمنا نص ما وقع لأشهب في هذا. فإذا كان هؤلاء ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو -و-. (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب تحركه. (¬3) انظر حرز الأماني ج 5 ص 131.

ذهبوا إلى إجازة جمع الحاضر من غير مرض. فكيف بالحاضر إذا كان مريضًا وله ارتفاق في الجمع؟ وإنما ذكرنا مذهب هؤلاء ها هنا لنشعرك بأن مراعاة الاشتراك قد قوي عند طائفة حتى أجازت الجمع لغير عذر. فإذا ثبت جواز الجمع فمتى وقته؟ اختلف المذهب في ذلك. فقال في المدونة، إن كان الجمع خوف الغلبة على العقل جمع بين الظهر والعصر عند الزوال وبين المغرب والعشاء عند الغروب. وإن كان للارتفاق جمع في صلاتي النهار وسط وقت الظهر وفي صلاتي الليل عند غيبوبة الشفق. واختلف على هذه الطريقة في وسط وقت الظهر فقال ابن حبيب: إذا كان الفيء ذراعًا وقال بعض الأشياخ بل نصف القامة. ومعنى قوله عند غيبوبة الشفق إذا فرغ منها غاب الشفق حينئذٍ. وهذا الاختلاف ها هنا في وسط الوقت كنحو الاختلاف في قوله في المدونة في المريض، والخائف، والمسافر، أنهم يتيممون وسط الوقت. فقال ابن أبي زمنين: وسط وقت الظهر نصف القامة. وهذا نحو ما حكيناه ها هنا عن بعض الأشياخ. وقال أبو عبد الله محمَّد بن سفيان المُقرىء ينبغي أن يكون وسط الوقت على ضرب من التقريب عند ثلث القامة لأن الشمس عند زوالها تبطىء حركاتها وكلما مالت أسرعت. فعلى قوله هذا يجمع المريض عند ثلث القامة. وفي مختصر ابن عبد الحكم أن وقت الجمع يستوي فيه الخائف على عقله والمرتفق بالجمع، فيجمعان بان تؤخر الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء. وفي مختصر ابن شعبان أنهما يستويان أيضًا ولكن يكون وقت الجمع أول وقت الظهر وأول وقت المغرب. وذهب أشهب وسحنون وابن حبيب إلى أنه إذا جمع للارتفاق جمع بينهما في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر. ورأى بعض الأشياخ أن المريض الخائف على عقله غير في إيقاع الظهر عند الزوال أو عند آخر القامة. لأن تعجيل الصلاة أول الوقت غير واجب. فإن اختار تعجيل الظهر خير في العصر بين أن يجمعها مع الظهر أو يؤخرها. فإذا قلنا بأن الخائف على عقله يجمع أول الوقت فإن فعل ثم لم يغب عقله فقد قال عيسى يعيد الآخرة. وكأنه رأى أن الجمع أول الوقت احتياطًا للصلاة من أن يخرج وقتها ولم تصلّ لذهاب العقل. فإذا علم أن العقل لم يذهب فقد ارتفع شرط

إباحة التعجيل للثانية. وقد تقدم من الكلام في جمع المسافر ما يعلم منه وجه الاختلاف في هذا المعنى فمن تدبر ما قلناه هناك علم سبب هذا الاضطراب. والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما الجمع لأجل الخوف من العدو فقال ابن القاسم في العتبية لم أسمعه ولو فعله لم أر به بأسًا. وقد قال قبل ذلك لا يجمع بينهما فإن الله تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬1). فوجه إجازة الجمع بأن الجمع إنما شرع للارتفاق على ما قدمنا والحاجة إلى الارتفاق به في خوف العدو أمسّ فكان جواز الجمع أولى. ووجه المنع ما اعتل به لِما مُنع لأن الله سبحانه لما قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، اقتضى ذلك الاقتصار على الارتفاق بتحويل الصلاة عن هيئتها وشكلها لا بتحويلها عن وقتها. وتحويلها عن وقتها زيادة على ما وقع في القرآن. فلا يثبت إلا بدليل. فإذا قلنا بجواز الجمع فمتى وقته؟ أشار بعض المتأخرين إلى أنه يجري على حكم ما قدمناه في المريض من مراعاة شاهد الحال. فإن كان خوف العدو يتوقع منه تأخير الصلاة عن وقتها جمع في أول الوقت كما يجمع المريض في أوله إذا خاف تأخير الصلاة عن وقتها بذهاب عقله، وإن كان الخوف لا يبلغ إلى ذلك ولكن يمنع من الإقبال عليها والانفراد بها كما يجب، جمع في وقتها المختار. فصل الرعاف في الصلاة قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومن رعف في صلاته فإن كان يسيرًا قتله وتمادى. وإن كان كثيرًا نظر فإن كان قبل تمام ركعة بسجدتيها قطع ومضى وغسل (¬2) الدم واستأنف. وإن كان بعد عقد (¬3) ركعة بسجدتيها فهو غير إن شاء ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 239. (¬2) يغسل -غ-. (¬3) عقد - ساقطة -غ-.

قطع وإن شاء مضى فغسل الدم في أقرب المواضع وبنى. وهذا للمأموم. واختلف في المنفرد. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال: 1 - لِمَ بنى الراعف؟. 2 - وما حكم الدم الذي يخرج له في الصلاة؟. 3 - وما حكمه إذا تكلم في طريقه؟. 4 - وفي أي موضع يبني؟. 5 - ولِمَ لم يبن إذا لم يعقد ركعة؟. 6 - وهل يلغي بعض ما عمله إذا بني؟. 7 - ولمَ اختلف في المنفرد دون المأموم؟. 8 - وما صفة بنائه؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الراعف فقد يتعلق في بنائه برواية ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوض وليبن على صلاته ما لم يتكلم" (¬1). وقد قدمنا نحن الكلام على هذا الحديث لما رددنا على أبي حنيفة قوله إن الحدث عن غلبة يبنى معه على الصلاة إذا توضأ. وذكرنا ما قيل في هذا الحديث. وإن ابن أبي مليكة لم يلق عائشة. وإن كان أصحاب أبي حنيفة قالوا: قد لقيها. لأنه قال سمعتها تقرأ إذ تلِقّونه بألسنتكم بكسر اللام وتخفيفها. وإن كان إسماعيل بن عياش أسند هذا الحديث فإن الشافعي قال إسماعيل سيء الحفظ فيما يرويه عن غير الشاميين. وابن أبي مليكة ليس شاميًا. وقد روى أصحاب أبي حنيفة مثل هذا الحديث من طرق غير طريق عائشة رضي الله عنها. وقد قال ابن عباس كان عليه الصلاة والسلام إذا رعف في صلاته توضأ قيل معناه غسل الدم. وما تقدم من الكلام على هذه الأحاديث يغني عن إعادته. وقد روي ¬

_ (¬1) روى ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها من أصابه قيء أو رعاف أو مذي فينصرف فليتوضأ ثم ليبن علي صلاته وهو في ذلك لا يتكلم. في سنده إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في روايته عن الحجازيين ح 122 أو الهداية ج 4 ص 40.

عن ابن عباس وابن عمر وأنس رضي الله عنهم أن الرعاف لا يمنع البناء. قال القاضي أبو محمَّد ولا مخالف لهم. وأشار إلى أنها صارت كمسألة إجماع من الصحابة. وإذا جاز البناء فإنه رخصة. والأفضل عند مالك أن يقطع ويستأنف، ولمالك في المجموعة: "ولولا ما قالت العلماء يبنى في الرعاف لرأيت أن يتكلم ويبتدىء. ولكن الشأن ما مضوا عليه. قيل فإن اختار الراعف أن يتكلم ويبتدىء. قال فلا بأس بذلك. وظاهر هذه الرواية أن القطع ليس بأفضل فإن اختار القطع وتكلم قبل أن يبتدىء الصلاة صحت صلاته. وإن ابتدأ من غير أن يتكلم فقال ابن القاسم يعيد الصلاة. قال ابن حبيب: كمن زاد في صلاته تعمدًا" (¬1). وكأنه رأى أن التمادي، لما كان جائزًا له ولم يحصل منه مما يضاد الصلاة ما يكون قاطعًا لها، وإنما حصل منه مجرد النية للقطع، لم يعدّ قاطعًا، وصار فيما يفعله كزائد في الصلاة تعمدًا. وقد كنا تكلمنا على تحويل النية في الصلاة عند ذكر القاضي أبي محمَّد في مفسدات الصلاة قطع النية عنها. فمن أحب تحقيق القول في هذا فليقف عليه هناك. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الدم القاطر من أنف المصلي لا يخلو أن يكون لا يرجو انقطاعه إذا انصرف لغسله أو يرجو ذلك. فإن كان لا يرجو انقطاعه إذا انصرف لعادة علمها من نفسه، فإنه لا ينصرف. ويكفه ما استطاع ويمضي على صلاته. وقد قال ابن المسيب فيمن رعف فلم ينقطع عنه الدم أتم صلاته إيماء. وقاله مالك أيضًا. قال ابن مسلمة إنما أومأ لأنه إن سجد أضر به ذلك وكثر عليه الدم، فجاز الإيماء للضرورة كمن برأسه صداع يمنعه من السجود. وقال ابن حبيب ليس عليه أن يركع ويسجد ويقوم ويقعد فيتلطخ بالدم. فأشار ابن مسلمة إلى أن العلة ضرورة المرض وما في معناه. وأشار ابن حبيب إلى أن العلة صيانة الثوب والبدن عن التلطخ بالدم فيمكن أن يكون ابن حبيب رأى أنه إذا ركع وسجد تلطخ بالدم، فصار حاملًا للنجاسة. وإذا لم يفعل ¬

_ (¬1) متعمدًا - قث.

أمِن من التلطخ (¬1) وحمل النجاسة، فيكون أباح الإيماء للصون من النجاسة. ويمكن أن يكون رأى ذلك للتأذي بالتلطخ (1) فيكون ذلك كما حكاه ابن حبيب أيضًا في مسافر حضرته الصلاة والأرض كلها طين، فإنه يومئ للسجود عند ذلك عند مالك وأصحابه (¬2) إلا ابن عبد الحكم فإنه قال يجلس ويسجد على الطين. ولمالك في العتيبة أنه يجلس ويسجد على الطين بقدر طاقته. واختلاف قول مالك في هذا مبني على تقابل أمرين فينظر في أيهما أولى والأولى ترك السجود صيانة للثوب والبدن من الطين، أو تقدمة حق الله تعالى في السجود. وإن تأذى بالطين، فقد تقدم اختلاف كثير في فروع مبنية على مثل هذا الأصل. وقد قيل ينبغي أن يؤخر هذا الراعف الصلاة إلى آخر الوقت المفروض رجاء أن ينقطع الدم عنه حينئذٍ. وكان هذا نحا به ناحية الراجي وجود الماء. وإن كان هذا الراعف يرجو انقطاع الدم، فإن (¬3) كان يسيرًا يزيله بحكّه بين أصابعه فإن يفتله بين أصابعه (¬4) ويتمادى على صلاته. وإن كان كثيرًا ويذهبه الفتل لثخانته فاختلف فيه: هل يفتله ويمضي على صلاته أو يخرج لغسله؟ فقال ابن حبيب: رأيت ابن الماجشون يصيبه الرعاف في الصلاة فيمسحه بأصابعه حتى تختضب فيغمس أصابعه في حصباء المسجد ويردها ثم يمضي على صلاته. وفي المدونة ينصرف من الرعاف في الصلاة إذا سأل أو قطر، قل ذلك أو كثر فيغسله ويبني على صلاته. وإن كان غير قاطر ولا سائل قتله بأصابعه وتمادي. وكان أبو هريرة وابن المسيب وسالم رضي الله عنهم تتخضب أصابعهم دمًا من أنوفهم فيفتلونه ولا ينصرفون. وقال مالك في المبسوط *إذا خرج من أنف المصلي دم ففتله* (¬5) فإن كان يسيرًا فلا بأس به. وإن كان كثيرًا فلا أحب ¬

_ (¬1) التلطخ بالدم - قث. (¬2) تعليق في هامش نسخة -و- ولأنه إذا سجد في الخصخاض دخل ذلك في عينيه فيتحصل له بسجوده عليه أذية فلأجل ذلك أباح له الإيمان بالسجود دون الركوع. (¬3) وإن كان -و-. (¬4) بين أصابعه = ساقطة - قث. (¬5) ما بين النجمين ممحو -و-.

ذلك حتى يغسل أثر الدم. وفي المجموعة قيل لمالك إن امتلأت له أربع أصابع إلى الأنملة، ويقدر أن يفتله؟ قال لا شيء (¬1) عليه. قيل له إن امتلأت الأربعة إلى الأنملة الوسطى قال هذا كثير. ورأى أن يعيد صلاته. قال بعضهم معنى قوله: إن امتلأت له أربع أصابع إلى الأنملة أي كلما امتلأت أنملة فتلها. وإنما قال في امتلاء الأصابع إلى الوسطى ما قال لأنه امتلأ له أكثر من الدرهم فصار حامل نجاسة. فلهذا قال يقطع. وأما لو سأل ولم يصل إلى بدنه أو ثيابه فإنه ينصرف ويغسل الدم ويبني. وقد أشار بعضهم فيما حكيناه عن ابن المسيب ومن معه إلى أن ظاهره اختضاب الأصابع كلها وهذا في حيز الكثير. ولعل المراد الأنامل العليا. وسبب الاختلاف في هذا القسم ما كنا قدمناه من الاختلاف هل يراعى موضع النجاسة أو قدرها. فراعى عبد الملك قدر النجاسة وراعى في المبسوط موضعها لأنها حلت في محل كثير، وإن أذهبها الفتل. وقد تقدمت الإشارة إلى أن المذهب على قولين في هذا الأصل. وإن كان هذا الكثير لا يذهبه الفتل ويرجو انقطاعه متى غسله فهذا ينصرف لغسله في أقرب المواضع إلى ثم يعود إلى صلاته. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا تكلم الراعف في صلاته محمدًا بطلت صلاته. واختلف المذهب في كلامه سهوًا، فقال ابن حبيب إن تكلم في انصرافه أبطل صلاته وإن تكلم في رجوعه لم تبطل صلاته. وفي كتاب ابن سحنون أن الإِمام يحمل ذلك عن الراعف إذا كان قد عقد معه ركعة. وفي المدونة إن رعف الإِمام (¬2) فلما خرج تكلم بطلت صلاته. قال ابن الماجشون: إن تكلم (¬3) سهوًا أو عمدًا. وفي كتاب ابن سحنون إن تكلم سهوًا. والمستخلف في الصلاة حمل ذلك عنه. فوجه الإبطال مع العمد للكلام قصده بفعل ما يضاد ¬

_ (¬1) يفتله فلا شيء عليه -و-. (¬2) إن رعف إمام - قث. (¬3) إن تكلم - قث.

الصلاة. ووجه الإبطال مع السهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضا وليس على صلاته ما لم يتكلم" (¬1) فعم أنواع الكلام سهوه وعمده، وكون الراعف فذًا أو مأمومًا. وقد أشار ابن الماجشون إلى هذا بقوله إذا تكلم الراعف في ذهابه لغسل الدم عنه ابتدأ صلاته. وذلك لأن السنة إنما جاءت في بناء الراعف ما لم يتكلم. لكن قوله إذا تكلم في ذهابه لغسل الدم، إن أراد سائرًا أو راجعًا فإنه لا يتحقق له وجه. لأن عموم الحديث يقتضي المساواة بين السير والرجوع. وكذلك قوله في المدونة فلما خرج تكلم، إن كان أراد أيضًا بذكر الخروج والتقييد به، الإشارة إلى التفرقة بين السير والرجوع، فهذا خلاف مقتضى العموم أيضًا. وإن كان أراد بما في المدونة وبما قال ابن الماجشون المساواة بين السير والرجوع ولم يقع ما ذكرناه عنهما تقييدًا، فهو مقتضى العموم (¬2). وأما ابن سحنون فإنه رأى أن الإِمام يحمل ذلك عنه كما يحمله عنه لو كان خلفه ولم يرعف. وكذلك المستخلف يحمل عن من استخلفه لأنه صار كإمام له. لكن تقييد ابن سحنون بعقد الركعة إن كان أراد به أن من لم يعقد ركعة فلا يبني فهذا لا فائدة لإيراده ها هنا؛ لأنه إذا كان من لم يعقد ركعة لا يبني وإن لم يتكلم فلا شك أنه إذا تكلم أحرى أنه لا يبني. وإن كان أراد به: يبني وإن لم يعقد ركعة لكن الإِمام لا يحمل عنه الكلام إذا لم يعقد ركعة. فهذا غير واضح. لأنه إذا كان في حكم الإِمام استوى عقد الركعة وترك عقدها كما يستوي ذلك فيمن لم يرعف، وقد تكلم قبل عند الركعة أو بعد عقدها. وقول ابن سحنون إن رعف قبل أن يعقد معه ركعة لم يحمل عنه الإِمام السهو: ظاهره عندي أنه أراد أنه لا يحمله وإن بني. لأن من لم يبن لا شك في أنه ليس في صلاة فيحمل عنه فيها ما يحمل. وإن اختلف المذهب في الإِمام إذا أبطل صلاته هل يسري ذلك إلى إبطال صلاة الراعف؟ ففي كتاب ابن سحنون أن صلاة الراعف تبطل وهو طرد قوله إن الإِمام يحمل عنه سهو الكلام. وفي المجموعة عن سحنون لا تبطل صلاة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) فهو ما اقتضى العموم -و-.

الراعف. وكأنه رأى أن بخروجه لغسل الدم صار كمن خرج عن حكم الإِمام. واختلف في الراعف إذا مشى في ذهابه على قشب يابس فقال ابن سحنون تبطل صلاته وقال ابن عبدوس لا تبطل. قال بعضهم هو كالصلاة في طريق المسجد وفيها أرواث الدواب وأبوالها. وقد فُرّق بينهما بأن الراعف ليس بمضطر إلى المشي على القشب اليابس بخلاف طريق المسجد بحصول الضرورة فيها. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: لا يخلو الراعف إذا خرج لغسل الدم أن يرجو إذا عاد إلى مُصلاّه إدراك بعض صلاة الإِمام أو لا يرجو إلى إدراك شيء من صلاته. فإن رجا إدراك بعض صلاة الإِمام فلا يخلو إما أن يرجو إدراك. ركعة فأكثر أو إدراك أقل من ركعة. فإن رجا إدراك ركعة فأكثر فلا بد من عودته لاتباع الإِمام في بقية صلاته. لأنا إنما أبحنا له مفارقته للضرورة فإذا ارتفعت الضرورة فلا يصح أن يصلي منفردًا *ما يمكنه فيه اتباع إمامه* (¬1) وإن كان لا يدرك إلا أقل من ركعة فالمشهور من المذهب أن يعود لاتباع إمامه في بقية صلاته ولو لم يبق منها إلا التشهد. وقال ابن شعبان يصلي مكانه. فوجه المشهور أنه لا يسوغ له مفارقة الإِمام فيما قل أو جل إذا لم يرعف، فكذلك إذا رعف وزال حكم الرعاف. ووجه قول ابن شعبان أن ما دون الركعة لا تتاكد حرمته تأكيدًا يباح له المشي في الصلاة وفعل ما يضادها من مشي واستدبار قبلة مما تدعو الضرورة إليه. وإذا لم يكن له هذا التاكد في الحرمة جاز مفارقة الإِمام لصيانة الصلاة من فعل يضادها. وقد منع المذهب في أحد القولين من بناء الراعف على ما دون الركعة، لما لم يكن لما دون الركعة من التأكد حرمة تمنع من إبطاله عند الضرورة. ولو رجع لرجاء الإدراك، فتبين أنه أخطأ في تقديره ووجد الإِمام قد أكمل صلاته أتم هذا صلاته ولم تبطل لرجوعه حيث لا يجب عليه الرجوع في الباطن. لأنه رجع رجوعًا مأمورًا به. إلى هذا ذهب ابن القاسم في المبسوط. وإن كان لا يرجو إدراك شيء من صلاة الإِمام فلا يخلو إما أن يكون في صلاة الجمعة أو في غيرها من الصلوات. فإن كان في صلاة الجمعة فإنه يرجع ¬

_ (¬1) هو في نسخة -و- والتصحيح من - قث.

إلى الجامع لكون الجامع شرطًا في صلاة الجمعة. وهل الرجوع ها هنا شرط في صحة الصلاة أم لا؟ المذهب على قولين: المشهور منه والظاهر من قول مالك أنه شرط في الصحة. وإن إكمال الصلاة لا يجزي إلا فيه. وقد قال ابن المواز فيمن ذكر سجدتي السهو قبل السلام من الجمعة فلا يسجدهما إلا في المسجد، فإن سجدهما في غير المسجد لم يجزه. وقال المغيرة في الراعف إن حال بينه وبين الرجوع واد فليضف لركعته ركعة أخرى ثم يصلي أربعًا. فلم ير إكمال الصلاة جائزًا في غير المسجد، وإن كان قد منع من المسجد. هذا إذا كان الفرض عنده الأربع التي يأتي بها بعد إكمال الجمعة. والقول الثاني إن الرجوع إلى الجامع ليس بشرط في الصحة. قال ابن شعبان: يرجع إلى أدنى موضع يصلي فيه بصلاة الإِمام فيُتم هناك لأن الجمعة لا تكون إلا في المسجد. فإن أتم في موضعه لم أرَ عليه إعادة. فأشار ها هنا إلى أن الرجوع إلى الجامع من فضيلة ما بقي عليه من فضيلة صلاته لا من شرط صحتها. وكأن الجامع إنما يجب عند تكامل شروط الجمعة. فهذا إذا سقط عنه اعتبار الجماعة فيما بقي من صلاته سقط عنه اعتبار الجامع في شروط الصحة. وقوله يكمل في أدنى موضع يصلي فيه بصلاة الإِمام. إنما اعتبر أدنى ما يصلى فيه بصلاة الإِمام لأن ما زاد على ذلك مستغنى عنه. فإن قيل فإذا كانت الصلاة عنده جائزة بموضعه فالرجوع إلى أدنى موضع مستغنى عنه فيجب ألا يؤمر به. قيل قد رآه الجمهور شرطًا في الصحة. فكأن أقل المراتب فيه عند ابن شعبان أن يراه فضيلة فيأمر به للخروج من الخلاف وتحصيل هذه الفضيلة. وإن كان في غير صلاة الجمعة أكمل في موضعه. هذا هو المعروف من المذهب. وفي المدونة عن مالك يرجع إلى إتمام الصلاة في مسجدي الحرمين المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكأنه رأى أن فضيلة المكانين تقتضي الرجوع وإن لم يكن المكانان شرطًا في صحة الصلاة. وهذا كمسلك ابن شعبان في أمره بالرجوع إلى صلاة الجمعة إلى حيث تصلى فيه الجمعة وإن لم يكن الرجوع عنده شرطًا في الصحة. فإن ظن هذا المصلي أنه لا يدرك فصلى مكانه

ثم تبين له أنه أخطأ وأنه لو رجع أدرك، فإن صلاته تجزيه. وقد قدمنا قول ابن القاسم في المبسوط في هذا المعنى. ولو كان الراعف في صلاة الجنازة ففي الموازية يرجع إذا غسل الدم إلى الموضع الذي صلى فيه فيتم بقية التكبير. وكذلك صلاة العيدين. ولو أتم صلاة العيدين في بيته أجزأه. وقال أشهب إن خاف ذوات الجنازة أو العيدين فليمض على صلاته ولا ينصرف. وكذلك إن رأى في ثوبه نجاسة وليس معه غيره ويخاف الفوات في انصرافه. وليس كمن كان على غير وضوء فأراد التيمم للإدراك لأن التيمم لا يكون إلا في سفر أو مرض. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف قول مالك فيمن رعف قبل أن يعقد ركعة بسجدتيها هل يبني أم لا؟ فوجه البناء المراعاة لحرمة إبطال الصلاة. ووجه القطع والاستئناف أنه لم يمض من الصلاة ما له من تأكد الحرمة ما يباح معه فعل ما يضاد الصلاة من مشي وغيره. وقال بعض المتأخرين هذا الاختلاف مبني على الاختلاف في الفذ هل يبني أم لا؟ فمن جوزه جوزه ها هنا. ومن منعه للفذ منعه ها هنا. ولذلك فرق ابن حبيب بين الجمعة وغيرها لأن الجمعة لا تكون إلا بإمام ولا يحصل للمأموم حكم صلاة الإِمام إلا بأن يصلي ركعة بسجدتيها. وعلى طريق (¬1) من قال لا يبني على أقل من ركعة لضعف حرمتها على ما أشرنا إليه جرى الأمر في مسألة المدونة فيمن رعف بعد سلام الإِمام أنه يسلم وتصح صلاته. ورأى أن إيقاع السلام بالنجاسة مع قلة مقداره والاختلاف في كونه فرضًا أولى من فعل ما يضاد الصلاة من مشي وغيره. لكنه قال في المدونة إذا رعف قبل الإِمام خرج لغسل الدم. وكان طرد ما قلناه من التعليل يقتضي أنه ينصرف، لكن حمل المسألة بعض الأشياخ علي أن المراد بها أن الإِمام لم يسلم بالحضرة. فأما لو سلم عقيب رُعافه فإنه لا ينصرف بل يسلم وتصح صلاته. وهذا الاعتذار صحيح يسلم من المناقضة فيما قلناه لأنه إذا لم يسلم بالحضرة والمأموم يجوز تطويل اللبث فإطالة اللبث بالنجاسة لا يحسن. ¬

_ (¬1) طريقة - قث.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما الراعف فقد اختلف المذهب فيه إذا رعف، وقد عمل بعض أجزاء الركعة. إما القراءة خاصة أو القراءة والركوع أو القراءة والركوع وسجدة واحدة؟ هل يعتد لما عَمِله من ذلك ويبني عليه أو يلغيه ويستأنف جملة عمله (¬1) إذا عاد؟ فمذهب مالك في المدونة الإلغاء. ومذهب ابن الماجشون وابن حبيب الاعتداد بما عمل والبناء عليه. وقد روى ابن وهب أيضًا عن مالك الجنوح إلى هذا الذي حكيناه عن عبد الملك، وأنه لو فعله الراعف لأجزأه. وسبب هذا الاختلاف ما كنا قدمنا الإشارة إليه في مواضع من تقابل أمرين تجب الموازنة بينهما أيها أخف فيرتكب؟ وذلك أن تكرير العمل في الصلاة خارج عن أصل ما شرع. وتفرقة أجزاء الركعة بعضها عن بعض خارج أيضًا عن أصل ما شرع فيها. فأي هذين الخروجين أخف فيرتكب؟ وفيه وقع الخلاف. والأولى ترك الإعادة والبناء على ما مضى إذا قيل بصحة البناء في الرعاف. لأن الراعف قد دخلت التفرقة في صلاته. فلا فرق بين أن تدخل بين ركعاتها أو بين أجزاء ركعاتها. وتكرير العمل لم يدخل صلاته. فإحداث أمر لم يكن مراعاة لأمر قد كان لا معنى له. فإذا قلنا أنه يبني على ما مضى فإنه يرجع إلى الحالة التي عليها قطع. فإن لم يكن فرغ من القراءة قرأ من حيث انتهى. وإن كان فرغ من القراءة ركع إذا رجع. وإن رعف في مبتدأ جلسته قبل أن يتشهد رجع إلى الجلوس والتشهد. وإذا قلنا أنه لا يبني وأصابه الرعاف في أول ركعة وألغى ما عمل، فهل يلغي الإحرام أو يبني عليه؟ اختلف فيه فقال ابن القاسم وأشهب يبتدىء الإحرام. وقال سحنون لا يبتديه. وقد كنا قدمنا الاختلاف في صحة البناء فيمن لم يعقد من الصلاة ركعة. وذلك اختلاف وتوجيهه عائد ها هنا. وقد قال بعض المتأخرين إن الإحرام ركن قائم بنفسه كالركعة التامة فصح البناء عليه بخلاف بعض الوكعة. فأشار بهذا إلى التفرقة بين إلغاء ما لم يكمل من أجزاء الركعة الأولى وترك إلغاء الإحرام منها. وإن أجزاء ما عمل منها إنما اختلفت في ¬

_ (¬1) ويستأنف عمله - قث.

الإلغاء للفرق الذي ذكرناه. وقد اختلف المذهب في الراعف في الأولى من صلاة الجمعة قبل إكمالها، ثم أتى وقد فرغ الإِمام. ففي المدونة يبتدىء الظهر أربعًا. و (¬1) قال سحنون يبني على إحرامه. وروي عن مالك أيضًا أنه يقطع ويبتدىء بإقامة. وقال أشهب: أستحب أن يتكلم ويبتدىء، وإن بني على إحرامه أجزأه. وإن كان قد سجد سجدة فسجد أخرى وصلى ثلاثًا أجزأه فاباح له البناء على الركوع وإحدى السجدتين. وإن كان ذلك إنما وقع بنية الجمعة فأكمل عليه صلاته ينوي بها الظهر. ولو أكمل هذا على هذه السجدة صلاة الجمعة لتخرج عند شيخنا أبي الحسن اللخمي صحة الصلاة من قول أشهب في الموازية: في من أدرك الثانية من الجمعة ثم ذكر بعد سلام الإِمام سجدة، فإنه يسجدها ويأتي بركعة وتجزيه الجمعة. وهذا التخريج للنظر فيه مجال. وقد يفرق بين المسألتين بان ناسي إحدى السجدتين من الثانية حتى سلم الإِمام لم يحل بينه وبين إصلاحها حائل على أحد القولين عندنا، وإذا لم يحل بينه وبين إصلاحها حائل وكان مأمورًا بفعلها قدّر كانه فعلها مع الإِمام وتابعه فيها. ومن تابع الإِمام في صلاة الجمعة في ركعة بسجدتيها بني عليها جمعة من غير خلاف عندنا. والذي رعف في الأولى بعد أن ركع وسجد سجدة قد فعل الإِمام في حال تشاغله بغسل الدم جميع الركعة الثانية. وعَقد الإِمام ركعة كاملة يمنع من العود لإصلاح ما فات في حق الغافل. وإذا منع من العود لإصلاح ما فات، فقد صارت السجدة التي يفعلها بعد سلام الإِمام غير مقدر فيها متابعة الإِمام. وإذا لم يُقدّر فيها متابعة الإِمام لم يدرك من الجمعة ركعة كاملة. ومن لم يدرك من الجمعة (¬2) ركعة كاملة فلا جمعة له من غير خلاف عندنا. وجملة الأمر مسألة أشهب في الموازية إنما بناها على أن السلام لا يحول بين المصلي والإصلاح. وهو قول مشهور عندنا. وأما إن كانت ركعة كاملة فإنها تمنع الغافل من العود للإصلاح من غير خلاف عندنا أعلمه على ما مضى بسط القول في باب الناعس. ومن تدبر هذا تبين أن تخريجه رحمه الله فيه ¬

_ (¬1) الواو = ساقطة في جميع النسخ. (¬2) ص الجمعة = ساقطة - قث.

نظر. فإن قيل أنتم بنيتم القدح في تخريجه على أن السلام لا يمنع الناعس من الإصلاح ويمنعه عقد الركعة من الإصلاح. والراعف بخلاف الناعس لأن الراعف إذا جاء وقد عقد الإِمام بعده ركعة فإن له أن يفعل بعض أجزاء الركعة التي رعف فيها، وإن عقد الإِمام بعده ركعة، ما لم يكن التشاغل بفعل ما بقي عليه من أجزاء الصلاة يفوته الركعة التي أصاب الإِمام فيها. وأبو الحسن إنما خرج من قول أشهب في الغافل عن السجدة الآخرة من الجمعة مسألة الراعف قبل إكمال السجدة من الركعة الأولى. والراعف يحول بينه وبين الإصلاح والبناء ما فعله الإِمام بعده سواء كان السلام أو عقد ركعة. وإذا استوى في حق الراعف السلام وعقد ركعة كان التخريج صحيحًا. قلنا الغرض مما قلناه أن صلاة الجمعة من شرطها الجماعة في ركعة كاملة من غير خلاف في المذهب. ومسالة أشهب في الغافل عن السجدة الأخيرة حتى سلم الإِمام. قدّر أشهب أن المأموم إذا سجد بعد سلام الإِمام فكأنه سجد معه وتابعه، وصار كرجل تأخر بعد سجود الإِمام قليلًا. وإذا قدّر هذه الركعة كأنها كلها مفعولة مع الإِمام صح بناء الجمعة عليها. والسجدة الأخيرة من الركعة الأولى قد لا يقدّر أشهب كونها مفعولة مع الإِمام لكثرة ما فعل الإِمام بعدها من الأفعال التي تمنع من الإصلاح في بعض الأعذار، بخلاف السلام الذي لا يمنع من الإصلاح في عذر من الأعذار على أحد القولين. وإذا كان ما فعل الإِمام بعد السجدة الأولى أشد حرمة ها هنا لكونه مانعًا من الإصلاح في حق الغافل دون الراعف من السلام الذي لا يمنع أحدًا من الإصلاح، وأمكن أن تقدّر السجدة المفعولة من بقية الصلاة (¬1) مضافة إلى الركعة الثانية فيصير الجميع كأنه لم ينسحب عليه حكم الجماعة. إذ إنما ينسحب حكم الجماعة على من صحت له ركعة مع الإِمام، لم يتضح هذا الإلزام. ولو فعل هذا الراعف بعد رعافه فعلًا من أفعال الصلاة هل يعتد به ويبني عليه أم لا؟ ذهب ابن حبيب إلى أنه يعتد بثلاثة أشياء رفع رأسه من الركوع وهو راعف أو من السجود أو قيامه إلى الثالثة بعد فراغ تشهده. وكأنه وأى إذا حصل له الركوع والسجود ولا رعاف به ثم عرض له الرعاف فرفع منهما ¬

_ (¬1) الأولى - قث.

فإن الرفع منهما يجزيه ولا يعيده إذا عاد إلى البناء. لأن المقصود من الركعة والسجدة قد حصل فإذا حصل المقصود سالمًا من موانع الصلاة عُدّ ما تعلق به وكان تابعًا له في حكم السالم، وإن كان به رعاف حينئذٍ. وقد كنا قدمنا اضطراب القول بني الرفع من الركوع هل هو فرض في نفسه أم لا؟ وذكرنا ما قاله الناس في الرفع من السجود وأشرنا إلى الاضطراب أيضًا في الحركة إلى الأركان. وهل القيام إلى الثانية مراد في نفسه أو المراد حصول المصلي قائمًا؟ وإذا لم تكن هذه الأمور مرادة في نفسها كان قول ابن حبيب أوضح منه إذا بني على القول بأنها مرادة في نفسها. وإذا قلنا بأن الراعف يعتد بأجزاء الركعة ويبني عليه، فإنه متى عاد فعل الأجزاء الباقية من الركعة ما لم يكن تشاغله بفعلها يفيته مع الإِمام عقد الركعة التي صادفه فيها ولا يمنعه من البناء وإكمال ما بقي عليه من الركعة صلاة الإِمام ركعة في غيبته، بخلاف الناعس لأن الناعس إذا زال عذره والإمام لم يعقد ركعة كان اتباع الإِمام أولى به من تشاغله بقضاء ما فات. لأنه إن تشاغل بقضاء ما فات زاد في الفوات. والراعف في حال غسله الدم غير مأمور باتباع الإِمام فيما عقده بعده. ولا يمكنه ذلك، فلهذا لم يمنعه ذلك من الإصلاح. ولكنه إذا صادف الإِمام في حال يكون تشاغله بإصلاح ما رعف فيه يفيته الركعة مع الإِمام منع ذلك وصار كالناعس. وكذلك الناعس لو تمادى به النعاس حتى عقد الإِمام ركعة أخرى لم يمنعه ذلك من الإصلاح لما كان في حال نعاسه غير مخاطب بالاتباع كالراعف إذا تشاغل بغسل الدم (¬1)، فالراعف والناعس جاريان على أصل واحد. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف المذهب في الراعف إذا كان فذًا هل يبني أم لا؟ فأجاز مالك له البناء. ومنعه ابن حبيب، فكأن مالكًا رأى أن الظواهر والآثار عن الصحابة المقتضية للبناء لا تخص مصليًا دون فصل فحملها على إطلاقها. وكان البناء في الراعف لحرمة قطع الصلاة، واحيتاطًا من إبطال العمل بمانع وقع عن غلبة، ولم يؤثر في نقض الطهارة. وهذا حاصل في الفذ كما هو حاصل فيمن كان في جماعة. وكان ابن حبيب رأى أن البناء في ¬

_ (¬1) ساقطة -و-.

فصل صلاة المريض

الرعاف لحرمة الجماعة وفضلها. ألا ترى أن المصلي يقطع في بعض الأعذار إذا كان فذًا. ولا يقطع إذا كان في جماعة لحرمتها. ولا يبني إذا كان فذًا لفقد حرمة الجماعة التي هي سبب البناء. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما صفة بناء الراعف فقد تقدم القول فيه مبسوطًا لما تكلمنا على القضاء والبناء. وهل يكون المأموم إذا فاته شيء قاضيًا فيه أو بانيًا؟ وهل يكون الفذ أيضًا قاضيًا أو بانيًا؟ وهل القضاء والبناء إنما يفترتان في القراءة خاصة دون القيام والقعود أو يفترقان في جميع ذلك؟ وإذا اجتمع القضاء والبناء أيهما يقدم؟ وذكرنا ما في هذا كله من الاختلاف، وسبب الاختلاف فيه، فلا معنى لإعادته. وفي الموازية أن الإِمام إذا سجد سجدة التلاوة بعد خروج الراعف أن الراعف إذا عاد لإصلاح ما فاته سجدها قبل إكمال صلاته، ليقْفوَ أثرَ إمامه ويفعل على حسب ما كان يفعل. وهذا هو المعتمد في هذا الباب إكمال الصلاة على ما بقي من ترتيبها سوى ما أشرنا إليه من الاختلاف في الفصول التي قدمناها فمن أحب بسط فروع هذا الباب، طالع هذا الموضع الذي أحلناك عليه. فصل صلاة المريض قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وصلاة المريض بحسب إمكانه ولا يسقط عنه ما يقدر عليه لعجزه عن غيره. ويختار له أن يجلس متربعًا ويثني رجليه للسجود (¬1). فإن لم يقدر على السجود أومأ. وجعله أخفض من الركوع. وإن عجز عن الجلوس اضطجع على جنبه (¬2) الأيمن مستقبل القبلة فإن لم يتمكن من ذلك فعلى ظهره. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال: ¬

_ (¬1) في السجود -الغاني-. (¬2) شقه -و- قث-.

1 - ما حكم المريض إذا عجز عن ركن دون ركن؟. 2 - وما حكمه إذا عجز عن الإيماء برأسه؟. 3 - وما حكمه إذا عجز عن الجلوس وصلى مضطجعًا؟. 4 - وما صفة الإيماء؟. 5 - وفي أي موضع يجوز الإيماء؟. 6 - وما صفة الجلوس؟. 7 - وما الأعذار المبيحة لترك القيام؟. 8 - وما حكم العجز إذا تغير في الصلاة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الأصل عندنا أن يصلي المريض بحسب طاقته بن غير لحوق مشقة له. فإن عجز عن القيام فأمكنه أن يفعله متكئًا صلى متكئًا. فإن لم يقدر على القيام ولا التوكؤ صلى جالسًا. فإن لم يقدر على الجلوس إلا مستندًا. ولكنه لا يستند إلى جُنُب ولا إلى حائض. فإن فعل أعاد في الوقت. واختلف المتأخرون في علة الكراهة في الاستناد إليهما. فقال ابن أبي زيد وغيره إنما ذلك لنجاسة ثيابهما وأبدانهما. فلو تحققت الطهارة لجاز ذلك. وقال القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا إنما كره ذلك لأن مسند المريض إليه يجب أن يكون حكمه حكم المصلي. لأن إمساك المصلي معاونة له على فعل الصلاة فيجب أن يكون متوليه على أكمل أحواله. ولذلك أُمِر من حمل الجنازة أن يتوضأ لها، صلى عليها أو لم يصل. قال بعض المآخرين هذا الحكم يختص بالمستند إليه لا بالمصلي. وقول ابن القاسم يعيد في الوقت إشارة إلى رجوع التعليل إلى المصلي. وطرد ما قال القاضي أبو محمَّد، يقتضي أيضًا أَلاَّ يستند لغير متوض. وقال بعض أشياخي إنما كره ذلك لأنهما في حكم النجس. ولذلك مُنعتا (¬1) دخول المسجد. ولهذا أعيدت الصلاة في الوقت. ويتخرج جواز ذلك على قول ابن مسلمة بجواز دخولهما المسجد لأنهما في حكم الطاهر. وقد قال عليه الصلاة والسلام: المؤمن لا ينجس (¬2). وفي ¬

_ (¬1) منعنا -و - قث-. (¬2) متفق عليه رواه البخاري ومسلم.

الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وأن بعض ثوبه إذا سجد ليصيب زوجته ميمونة وهي حائض (¬1). فإن عجز عن الركوع وقدر على القيام لم يسقط عنه فرض القيام. وقال أبو حنيفة هو بالخيار إن شاء صلى قاعدًا وإن شاء صلى قائمًا. هكذا نقل هذه المسألة عن أبي حنيفة بعض أصحاب الشافعي. ونقلها بعض أصحابنا إذا عجز عن السجود دون القيام فقال أبو حنيفة صلاته كلها جلوس. ونقل بعض أصحاب أبي حنيفة إذا عجز عن الركوع والسجود دون القيام لم يلزمه القيام وإن شاء صلى قاعدًا يومئ إيماء. وبالجملة فإن مذهبنا أن فرض القيام لا يسقط بالعجز عن غيره. وقد قدمنا ما قيل في قيام العاجز عن القراءة. وإنما تكلمنا ها هنا على فرض القيام على الجملة في حق القادر على القراءة. والدليل على أن القيام لا يسقط بالعجز عن غيره أن الأصل فيما يسقط لعذر أن يتقدر بقدر عذره. فإن كان العجز هو العذر تعذر الساقط بمقدار العجز. لأن العجز كعلة في السقوط والحكم يتقدر بقدر علته. ألا ترى أن العاجز عن القيام خاصة لا يسقط عنه الركوع والسجود. وكذلك القراءة لا يسقطها العجز عن غيرها. والمريض (¬2) إذا قدر على القعود لم يصل مضطجعًا. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب" (¬3). فأمر بالقيام على الإطلاق بشرط الاستطاعة. وأما أبو حنيفة فإنه يحتج بأن القيام تبع لهذه الأركان فإذا سقط المتبوع سقط التابع. وإذا كانِ القيام إنما أريد لها فإن لم تكن فلا معنى لإيجابه. ألا ترى أن النافلة لما سقط فيها الركوع سقط فيها القيام (¬4). والقراءة لم تجب لأجل غيرها فتسقط بالعجز عن ذلك الغير. وأما القادر على الإيماء قاعدًا، فإنما ¬

_ (¬1) روى البخاري بسنده إلى ميمونة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا إلى جنْبه نائمة فإذا سجد أصابني ثوبه وأنا حائض. (¬2) المومىء -و-. (¬3) رواه البخاري والنسائي والبيهقي. الهداية ج 4 ص 34 ونصب الر اية ج 2 ص 175. (¬4) لما سقط فيها القيام والقراعة لم تجب -و - قث-.

لم يصل مضطجعًا، لأن استقبال القبلة يجب. والتوجه إليها، إنما يكون بالقيام أو القعود. والمستلقي على قفاه لم يستقبل القبلة، وإنما استقبل السماء، ولو استقبل القبلة بالإيماء على جنبه لم يكن ذلك استقبالًا لأنه إنما يكون الإيماء إلى يسار القبلة لا إلى القبلة. فحقيقة الاستقبال حالة الإيماء غير حاصل. وعمدة أصحاب أبي حنيفة كون القيام تبعًا. وهذا لا يسلم لهم. ولا يسلم لهم ما قالوه في النافلة لأن القيام فيها ساقط في الأصل لا لأجل سقوط الركوع. وإذا ثبت أن القيام لا يسقط بالعجز عن غيره. فلا يخلو القائم: أن يقدر على الجلوس ليسجد أو لا يقدر على ذلك. فإن قدر على ذلك وعجز عن الركوع أيضًا صلى قائمًا وأومأ للركوع ثم جلس وأومأ للسجود فإن قدر على الركوع دون السجود ركع ثم جلس وأومأ للسجود وإن كان القادر على القيام لا يستطيع أن يجلس إذا قام ولا يقدر على الركوع والسجود صلى الصلاة كلها قائمًا موميًا للركوع والسجود. فلو كان المريض لا يعجز عن ركن إلا إذا تلبس بركن آخر مثل أن يكون إذا افتتح الصلاة قائمًا وجلس للسجود في الأولى فإنه لا يقدر على القيام في باقي صلاته. وإن لم يجلس قدر أن يصلي صلاته كلها قائمًا لكنه يومئ للسجود في الثلاث ركعات الأولى ثم يجلس في الرابعة فيسجد، فأي الأمرين أولى به، الاحتفاظ على قيام ثلاث ركعات مع الاقتصار على الإيماء بسجودها أو السجود في سائر الأربع ركعات مع الاقتصار على الجلوس في الثلاث الأواخر منها؟ هذا مما اضطرب فيه المتأخرون فمال أبو إسحاق رحمه الله إلى إيثار السجود على القيام لأن السجود في الأولى يسبق فرضه فرض القيام في الثانية. ولا يترك فرض حضر وهو قادر عليه لفرض آخر لم يحضر. ولأن السجود مجمع على كونه فرضًا وهو من أعظم أركان الصلاة. وإلى هذا مال بعض أشياخي. واعتل بأن القيام مختلف في كونه فرضًا فما أجمع عليه أولى أن يراعى. وذهب بعضهم إلى أنه يصلي الثلاث الأول ركعات قائمًا يومئ فيها للسجود وأن ذلك أولى من صلاته الثلاث ركعات جالسًا ساجدًا. وكأن هذا رأى أن اعتبار القيام أولى. ولا يكاد يتحقق لهذا المذهب ترجيح إذا كان الجلوس بعض القيام. كما أن الإيماء للسجود بعض السجود.

هذا إذا كان تلبسه بركن مفروض يعجزه عن ركن مفروض آخر. وأما لو كان عجزه في ركن ليس بمفروض مثل أن يكون المريض لا يقدر إذا قام أن يقف إلا مقدار قراءة أم القرآن فإن صلّى قائمًا اقتصر عليها وإن صلّى جالسًا قرأ بأم القرآن وسورة فإنه يصلي قائمًا لأن القيام فرض وقراءة السورة التي مع أم القرآن ليست بفرض، فلا يترك فرضًا لما ليس بفرض. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا لم يستطع المريض أن يومئ برأسه للركوع والسجود فهل يومئ بطرْفه وحاجبه ويكون مصليًا بهذا الفعل مع النية للصلاة؟ مقتضى المذهب فيما يظهر لي أنه يؤمر بذلك ويكون مصليًا به، وبه قالت الشافعية وقال أبو حنيفة لا يصلي في هذا الحال وتسقط الصلاة. وقد قال ابن القاسم في العتبية إذا لم يقدر المريض على التكبير والقراءة بلسانه فلا يجزيه أن ينوي ذلك (¬1) بغير حركة اللسان بقدر ما يطيق. وهذا وإن كان فيه إشارة إلى أن النية لا تنفع فإن المراد به أن يأتي بحركة ما في اللسان (¬2) إذ لا يعجز عنها مع أن العجز عن القراءة أصلًا لا يسقط فرض الصلاة. وكأن أبا حنيفة رأى أن هذا إثبات صلاة بقياس. ولا يثبت أصل الصلاة بالقياس. ولأنه لم يأت بالركوع والسجود ولا ببعض منه، وهما مقصودا الصلاة. والمومىء أتى ببعض ذلك. واحتج أصحابه بأن ابن عمر روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن لم تستطع فعلى القفا تومىء إيماء فإن لم تستطع فالله أولى بقبول العذر (¬3). واحتجت الشافعية بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يصلي المريض قائمًا فإن لم يستطع صلى جالسًا فإن لم يستطع صلّى على جنبه مستقبلًا القبلة فإن لم يستطع صلى مستلقيًا على قفاه ورجلاه في القبلة (¬4) وأومأ بطرفه وحاجبه (¬5). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا لم يقدر المريض على ¬

_ (¬1) ذلك = ساقطة -و-. (¬2) بحركة بما في اللسان -و-. (¬3) حديث غريب: نصب الراية ج 2 ص 176. (¬4) في هامش -و- تصحيح بالقبلة. (¬5) أخرجه البيهقي بلفظ قريب منه عن الحسن بن علي. كنز العمال ج 3 ص 234

الجلوس وكان فرضه الاضطجاع فهل يصلي على جنبه أو ظهره؟ فيه قولان: أحدهما أنه يصلي على جنبه وهو المشهور. وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشافعي. والثاني أنه يصلي على ظهره ورواه ابن حبيب عن ابن القاسم وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وروي عن ابن عمر المذهبان. فوجه البداية بالجنب قوله - صلى الله عليه وسلم -: صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنْب (¬1). وقد تنازع الناس في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (¬2). فقال بعضهم المراد به المريض والخائف. فيكون ذكر الجنب على هذا التأويل حجة لهذا المذهب. وقيل المراد ذكر الله تعالى باللسان بعد انقضاء الصلاة، لأن أصحاب التأويل الأول يفتقرون إلى التَجوز يحمل فعل الماضي على المستقبل فيجعلون (¬3) المراد: بقضيتم: أردتم أن تقضوا. وإلى التجوز أيضًا يحمل الذكر على الصلاة. وحقيقة الذي ما كان باللسان. واعلم أن التوجه إلى الكعبة مطلوب في الصلاة. فمن قال بالصلاة على الجنْب راعى التوجه بجميع البدن. ومن قال على الظهر راعى التوجه بالصلاة لأن المضطجع على ظهره لو أكمل ما أشار إليه من السجود لكان إلى الكعبة. والمضطجع على جنبه الأيمن لو أكمل مبدأ حركته لكان إلى يسار القبلة. وإذا قلنا يبتدىء بالجنب فالجانب الأيمن مُبدَّاٌ. فإن لم يقدر عليه فقال ابن المواز يصلي على الأيسر فإن لم يستطع فعلى ظهره ورجلاه إلى القبلة. وقال سحنون يصلي على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة كما يُجعل في لحده، فإن لم يقدر فعلى ظهره. ووقع في المدونة: يصلي على جنبه أو على ظهره ويجعل رجليه مما يلي القبلة. وتأول عليه أنه لم يُرد التخيير بين هذين. وإنما أراد البداية بالجنب. فإن لم يقدر فعلى الظهر. وكذلك قوله: يجعل رجليه مما يلي القبلة، معناه إذا صلّى على الظهر. وأما لو صلّى على جنبه فرجلاه تلي المشرق. ولو ¬

_ (¬1) حديث 914. مختصر المنذري أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة. (¬2) سورة النساء، الآية: 103. (¬3) فجعلوا - قث.

بدأ هذا المصلي بجانب وحقه أن يبدأ بغيره لأجزأته صلاته. ولو صلى على جنب وهو قادر على أن يصلي قاعدًا (¬1) مستندًا، لأعاد. قاله بعض الأشياخ. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الإيماء يكون بالرأس والظهر جميعًا. قال مالك في المدونة إذا لم يقدر المريض أن يسجد على الأرض فليومىء بظهره ورأسه. والإيماء للسجود أخفض من الإيماء للركوع. وليس الإيماء على الحقيقة ببدل من الركوع والسجود لأن الإيماء للركوع بعض الركوع والإيماء للسجود بعض السجود، لأن الركوع الانحناء. والسجود إمساس الجبهة بالأرض. ولا يمكن ذلك إلا بحركة الرأس والظهر إلى مبلغ ما. فالعاجز عن ذلك المبلغ يفعل بعض الحركات التي يفعلها من لم يعجز. فهي مفعولة في الحالين مع القدرة ومع العجز. وهذا لا يكون بدلًا إذ لا يكون بدل الشيء بعضه، هذا هو التحقيق. ومتى أطلق المحقق على ذلك اسم البدل فتوسعٌ وتساهل في العبارة. وإذا ثبت هذا فإن المريض وإن أبيح له الإيماء والجلوس لأجل المرض، فالمأمور به أن يصلي إلى القبلة. قال في المدونة في المريض: لا يصلي إلا إلى القبلة. وإن عسر تحويله إليها احتيل فيه. فإن صلّى إلى غيرها أعاد في الوقت إليها. قال بعض المتأخرين الوقت المشار إليه غروب الشمس في الظهر والعصر. وإنما يعيد في الوقت من لم يقدر على استقبال القبلة. فأما المريض القادر على استقبالها فيعيد أبدًا كالصحيح. وهل على المومىء أن يبلغ نهاية ما في وسعه من الحركة إلى هذا المبلغ المشار إليه؟ ظاهر المدونة أنه ليس ذلك عليه لقوله في المصلي قائمًا يجعل إيماءه للسجود أخفض من إيمائه للركوع. فأشار إلى جواز الاقتصار في الإيماء للركوع على دون المقدور عليه منه. وهكذا قوله في المدونة في القادر على السجود على الأنف دون الجبهة يومئ ولا يسجد على الأنف، فاْمره بترك زيادة مقدور عليها في الإيماء. وظاهر مختصر ابن شعبان أن عليه البلوغ إلى نهاية ما يقدر عليه من الإيماء؛ لأنه قال فيمن رفع إليه شيء يسجد (¬2) عليه. إن كان أومأ إلى طاقته ثم ¬

_ (¬1) جالسا - قث. (¬2) فسجد - قث.

سجد على ما رُفع إليه وهو يطيق من الانحطاط للإيماء أكثر من ذلك فسدت صلاته. فأشار بهذا إلى أن الواجب البلوغ إلى نهاية ما يقدر عليه من الإيماء. وسبب هذا الاختلاف ما كنا قدمنا الإشارة إليه من الاختلاف في الحركة إلى الأركان هل هي فرض مقصودة في نفسها، أو غير مقصودة في نفسها وإنما المقصود الركوع والسجود، فإن قيل هي مقصودة في نفسها حسن القول بان المأمور به نهاية ما يقدر عليه من الإيماء. لا سيما وقد بيّنا أن الإيماء ليس ببدل. وإنما السجود والحركة إليه كفرض واحد عجز عن بعضه وقدر على بعض، فيجب ألا يترك شيء من المقدور عليه لأجل المعجوز عنه. وإن قيل ليست بمقصودة حسن القول بأنه لا يؤمر بالبلوغ إلى نهاية ما يقدر عليه لا سيما إن قدرنا أن الإيماء كعبادة هي بدل من السجود. فإذا فعل منها ما ينطلق (¬1) عليه اسم إيماء أجزأه كما يجزئ فعل ما ينطلق عليه اسم ركوع. هذا حكم المومىء إذا قصر. فأما لو زاد على المبلغ المأمور به مثل من بجبهته قروح تمنعه من السجود عليها فإنه مأمور بأن يومئ ولا يسجد على أنفه. قال ابن القاسم في المدونة فإن فعل وسجد على أنفه فقال أشهب: يجزيه لأنه زاد على الإيماء. واختلف المتأخرون في مقتضى قول ابن القاسم هل الأجزاء كما قال أشهب أم لا؟ فقال بعض الأشياخ وحكاه عن ابن القصار هو خلاف قول أشهب. لأن فرض هذا المصلي الإيماء فإذا سجد على أنفه فقد ترك فرضه وصار كمن سجد لركعته فإنه لا يعتد بذلك، وإن كان زاد على مبلغ الركعة. وقال غيره من الأشياخ بل ابن القاسم يوافق أشهب لأن الإيماء لا يحصر بحد ينتهي إليه، ولو قارب المومىء الأرض لأجزأه باتفاق فزيادة إمساس الأرض بالأنف (¬2) لا يؤثر. مع أن الإيماء رخصة وتخفيف ومن ترك الرخصة وركب المشقة فإنه يعتد بما فعل. ولو ركب هذه المشقة وسجد على جبهته وأنفه لأجزأه، كمتيمم أُبيح له التيمم لعذر فتحمل المشقة واغتسل بالماء فإنه يجزيه. لاذا لم يقدر المريض على الركوع وصلّى قائمًا أومأ لركوعه ومد يديه إلى ¬

_ (¬1) يطلق - قث. (¬2) بالأنف = ساقطة -و-.

ركبتيه في إيمائه. ولو صلّى جالساّ وهو قادر على الركوع فقد قال مالك فيمن تنفل في محمله يركع متربعًا ويضع يديه على ركبتيه، وإذا رفع رأسه من ركوعه رفعهما. وإن لم يعجز المريض إلا عن السجود فقد قال مالك في المدونة فيمن لم يقدر على السجود لرمد بعينيه، أو صدل يركع ويقعد ويثني رجليه ويومىء للسجود. قال أبو إسحاق رحمه الله إن قدر أن يومئ للسجدة الأولى من انحطاطه إلى الركوع فعل، لأنه لا يجلس قبل السجدة الأولى. وإن تعذر ذلك عليه جلس ثم أومأ للسجود، ولو حاول هذا المريض أن يجمع بين إيماء وسجود فإنه ينهى عن ذلك. قال مالك في المدونة لا يرفع إلى جبهته أو ينصب بين يديه شيئًا يسجد عليه فإن جهل وفعل ذلك لم يُعِد. وقال أشهب إنما يجزيه إذا أومأ إلى ذلك الشيء برأسه حين يسجد عليه. وأما لو رفعه حتى أمسه جبهته وأنفه لأعاد صلاته أبدًا. وكان أشهب رأى أنه إذا لم يُومِ برأسه لم يحصل السجود ولا ما أُقيم مقامه وهو الإيماء. فإذا أوما فقد حصل المطلوب منه وهو الإيماء، ولا يضره مماسته جبهته لبعض الأشياء. وعلى مقتضى قول مالك في مختصر ابن شعبان يراعي أيضًا في إيمائه أن يبلغ نهاية الحركة المقدور عليها. واشترط بعض أشياخي أن يقصد بإيمائه الأرض لا الشيء المسجود عليه، لأن المراد بالإيماء عنده أني مطيع غير مستكبر عما دُعيت إليه من السجود على الأرض. وإذا لم تكن الإشارة إلى الأرض وإنما كانت للمسجود عليه لم يحصل الغرض المقصود فلا يعتد بهذا الإيماء. قال ألا ترى أن مالكًا أمره أن يحسر العمامة عن جبهته في حال إيمائه. فكانه استشعر من قول مالك هذا ما قاله: من أن القصد مضاهاة فعل الساجد في التذلل، وإنما حسر في عمامته حتى يستشعر حالة الساجد بالأرض. وإذا لم يقدر المريض إلا على الاضطجاع فليومىء برأسه ولا يدع الإيماء. وقد قال عليه الصلاة والسلام: من لم يستطع الركوع والسجود فليومىء برأسه إيماء (¬1). ¬

_ (¬1) من حديث جابر أخرجه البزار في مسنده والبيهقي في المعرفة وأبو يعلي في مسنده ومن حديث ابن عمر رواه الطبراني نصب الراية ج 2 ص 176.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: من كان فرضه الإيماء فصلى في المحمل وهو عاجز عن القيام أيضًا حتى تكون صلاته في المحمل كصلاته في الأرض فإن المذهب ظاهره مختلف في ذلك. كره مالك في المدونة صلاته في المحمل وإن كان (¬1) لا يستطيع الجلوس. وروي عن مالك إجازة ذلك إذا تساوت الحال وأمْسكت به الدابة إمساكًا يكون به متوجهًا إلى القبلة. وروي عن مالك أيضًا أنه لا يجوز أن يصلي في المحمل راكبًا إلا إذا لم يقدر أن يصلي بالأرض جالسًا. وظاهر المدونة وإن كان مقتضاه النهي على الإطلاق، فقد تأوله أبو محمَّد على أن معناه أنه لا يصلي حيث ما توجهت به الدابة. وأما لو وقفت واستقبل القبلة لجاز. فالمنع على الإطلاق عنده ليس برواية إذا تُؤول ما في المدونة على موافقة الرواية الأخرى التي حكيناها. ولو كان المريض يقدر على السجود وعلى القيام لم يصل في المحمل لأنه لا ينتقل إلى الجلوس أو الإيماء مع القدرة على القيام والسجود. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما صفة الجلوس فيمن صلى جالساً فقد قال مالك في المدونة: من تنفل في محمله فقيامه توبع فإذا ركع ركع متربعًا. وقال محمَّد بن عبد الحكم: بلغني عن كبار أهل العلم وخيارهم أنهم إذا صلوْا جلوسًا فيركعون ويثنون أرجلهم على نحو الجلوس بين السجدتين. وذكر أن محمَّد بن المنكدر وابن أبي حازم وربيعة كانوا يفعلون ذلك إذا صلوا النفل. ومال بعض الأشياخ إلى اختيار هذه الجلسة لما كانت مشروعة في الصلاة كما أشار إليه ابن عبد الحكم. ولكونها أقرب للتواضع. واختلف قول الشافعي فقال مرة بالتربع وقال مرة بالافتراش. واختلف قول أبي حنيفة قال مرة بالتخيير بين هذين وقال مرة بالتربع. فإذا أراد أن يركع ثنى رجله. ووجه القول بالتربع قول عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي النفل متربعًا. ولأنه بدل عن القيام فخالف غيره في الهيئة كالقيام. ووجه ما صار إليه الشافعي من الافتراش ما أشرنا إليه من أن الجلوس ¬

_ (¬1) فإن كان - قث.

ينبغي أن يوافق هيئة الصلاة. وعنده أن التشهد الأول يجلس فيه مفترشًا. ولأن ابن مسعود أنكر التربع فقال: لأن أجلس على رضف أحب إقي من أن أصلي متربعًا. وهذا المحكي عن ابن مسعود يقابله من اختار التربع بما روي عن ابن عمر وابن عباس وأنس من اختيار التربع. ووجه قول أبي حنيفة بالتخيير أن القيام، لما سقط تخفيفًا، فالهيئة أولى أن تسقط. وإذا اضطر الجالس إلى مخالفة الهيئة المختارة فعل. وقد سئل مالك في المدونة عن من بركبتيه ما يمنعه من الجلوس والسجود عليهما فقال يفعل من ذلك ما استطاع وتيسر عليه فإن دين الله يسر. وقال مالك في المدونة فيمن تنفل في المحمل إذا أهوى للسجود ثنى رجليه وأومأ بالسجود فإن لم يقدر أن يثني رجليه أوما متربعًا. وقال ابن حبيب من شاء في تنفله قام في ركعة وقعد في ثانية أو قام بعد قعود أو قعد بعد قيام فقرأ ثم عاد للقيام، بدأ أول ذلك كيف شاء. وإن شاء سجد وإن شاء أوما من غير علة وله أن يمُد إحدى رجليه إذا عيي وكذلك في المحمل له أن يقعد بين التربع والاحتباء، فأنت تراه كيف أشار إلى جواز مد الرجل عند الإعياء وإن كان ذلك ليس من هيئة الصلاة. وقد قال في المدونة لا بأس بالاحتباء في النوافل للذي يصلي جالسًا بعقب تربعه. قال بعض الأشياخ معناه: مرة احتباء، ومرة تربعًا. يبدأ بالتربع ثم يعقبه احتباء. وقيل معناه يجعل العقب حذو العقب. ومن رواه بعقب تربعه بالباء التي هي حرف جر لم يصح هذا التأويل عنده. والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إذا عجز المريض عن القيام لم يخاطب به. فإن كان لا يعجز عنه، ولكنه تلحقه من القيام إذا تكلفه مشقة فادحة تُلحقه بحكم العاجز فإنه لا يخاطب بالقيام أيضًا. وقال محمَّد بن عبد الحكم إن خاف معاودة علة تضر به إن قام سقط عنه القيام. وكذلك عنده من لا يملك خروج الريح منه إذا قام. فإن القيام يسقط عنه ويصلي جالسًا. وكأنه رأى أن مراعاة فرض الطهارة التي هي شرط في صحة الصلاة أولى من مراعاة فرض القيام. هل يباح له ترك القيام لقدح الماء من عينيه؟ لا يخلو أن يترك القيام إلى الجلوس أو إلى الاضطجاع، فإن تركه إلى الجلوس وأمكنه أن يصلي جالسًا

ويومىء برأسه جاز ذلك. وإن لم يمكنه الجلوس ولم تمكنه الصلاة إلا مستلقيًا فاختلف المذهب فيه، فمنعه في المدونة. وقال إن صلّى كذلك أعاد في الوقت وبعده، وأجازه أشهب وبه قال أبو حنيفة. وروي عن مالك التسهيل فيه. وأجازه مالك في كتاب ابن حبيب في اليوم ونحوه. وكرهه فيما كثر من الأيام. وليس للشافعي فيه نص. قال أصحابه والذي يجيء على المذهب أنه لا يجوز. فوجه الجواز القياس على جواز السفر في شهر الصوم وإن كان ذلك سببًا في الفطر. والسفر في مواضع لا ماء فيها. وإن كان ذلك سببًا في التيمم. وعلى المسح على الجبائر. وهو انتقال عن فرض للضرورة. وقال أبو إسحاق ولأن التداوي جائز. وإذا كان جائزًا جاز أن ينتقل من القيام إلى الاضطجاع كما يجوز أن يتداوى بالفصد وينتقل إذا توضأ من غسل إلى مسح موضع العِرق وما يليه مما لا بد له من رباطه. ووجه المنع أن النُجْح بالقدح لم تجر عادة في النفع به حتى يتحقق المقدوح أو يظن غالبًا انتفاعه به. وما كان كذلك لا يباح ترك الفروض لأجله بخلاف الفطر والتيمم في السفر (¬1). لأن الانتفاع بالسفر في حكم المعلوم وبخلاف المسح على الجبيرة لأن الانتفاع باجتناب الماء معلوم. ويفرق هؤلاء (¬2) بين المستلقي والجالس عند بعض أشياخي بأن الجالس يأتي بعوض من الركوع والسجود وهو الإيماء بالرأس، والمستلقي لا يأتي بعوض وإنما يأتي عند الركوع والسجود بنية من غير فعل. وقد روي أن ابن عباس لما كفّ بصره أتاه رجل فقال له إن صبرت على سبعة أيام أن تصلي مستلقيًا داويت عينيك ورجوت أن تبرأ. فأرسل إلى عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك. فكل قال له إن من في هذه الأيام ما الذي تصنع بالصلاة؟ وأما تفرقة مالك بين ما قلّ من الأيام وما كثر منها فمراعاة لتأكد الحرم لأن الأيام إذا كثرت كثرت صلواتها وإذا قلت قلت صلواتها. والصلوات الكثيرة لها من الحرم أكثر مما للقليلة. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا تغيرت حالة المصلي إلى ما هو أكمل وأعلي بني علي صلاته وأدى بقية الصلاة على حسب ما انتقل إليه مثل ¬

_ (¬1) في السفر = ساقطة -و-. (¬2) هكذا في النسختين ولا يظهر لكلمة =هؤلاء= موقع.

أن يصح المصلي جالسًا في أثناء صلاته، فإنه *يكمل الصلاة قائمًا. وإن انتقل إلى ما هو أدنى كالصحيح يصلي قائمًا ثم يعجز عن القيام في أثناء صلاته فإنه* (¬1) عندنا-، وعند الشافعي وأبي حنيفة يبني على صلاته أيضًا ويكملها جالسًا. وقال محمَّد بن عبد الحسن تبطل صلاته لما طرأت القدرة على فرض لم يكن. ولنا القياس على من انتقل إلى الحالة العليا لأن ما مضى وتقضى قد وقع على حسب ما أمر به في الحالين. ومن امتثل الأمر فلا معنى للقضاء بفساد فعله. وهكذا عندنا لو صلى مومئًا ثم انتقل إلى القدرة على الركوع وفعل الركن الذي يومئ إليه فإنه يبني على صلاته ويكملها بفعل ما هو أعلى. وقال أبو حنيفة يستأنف الصلاة وفرق بين هذا وبين الجالس إذا قدر على القيام وإن كانا جميعًا انتقلا إلى ما هو أعلى. فإن أصل القيام في الجالس موجود؛ لأن القيام باستواء النصفين حصلا جميعًا من الشخص والنصف الأعلى من القاعد مستو، وإذا حصل أصل القيام ووجد أصل هذا الركن وقد اشتملت النية على الركن فصح البناء عليه، لأنه إنما انعدم في أول الصلاة تمامه. وأما المومىء فلا ركوع في صلاته ولا سجود لأن الركوع حنوّ الظهر والسجود مماسة الجبين الأرض، والمومىء لم يوجد منه تحريك رأسه فإذا لم ينعقد هذا الركن في أول صلاته لم يصح إكمال الصلاة بما لم تنعقد عليه أولًا (¬2). ودليلنا ما تقدم من اعتبار امتثال الأمر. وأن المؤدي فرضه على حسب ما أمر به، لا معنى للحكم بإبطال فعله. وهذه المسألة قد تقدمت الإشارة إلى طريقتها لما ذكرنا فيما سلف للأمي إذا تعلم القراءة في أثناء الصلاة والعريان إذا وجد السترة في أثناء الصلاة. وذكرنا هناك حكم هذه المسائل. وهكذا تقدم الكلام على الإِمام إذا عجز في أثناء الصلاة عن القيام فإنه يستخلف ويرجع إلى الصف فيصلي مأمومًا. وقد أوعبنا حكم إمامة الجالس للقُيّام. وكذلك أيضًا قدمنا ما حكاه ابن حرث من الاختلاف في المريض يصلي بالمرضى فيصح بعض من خلْفَه فمذهب سحنون أنه يخرج من صلاة الإِمام ويتم لنفسه، كما يجوز للأمام أن يصير مأمومًا لوجود عذر فكذلك المأموم يجوز أن يصير فذًا ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) أولًا = ساقطة - قث.

لوجود عذر. ومذهب يحيى ابن عمر أنه يتمادى لأنه دخل بما يجوز له. قاط القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويقف المصلي خلف الصفوف وحده إذا لم يجد في الصف موضعًا ولا يجبذ إليه أحدًا من الصف ولا ينتظر الإمام من سمع حسه. ولا يقطع الصلاة مرور شيء بين يدي المصلي، ويستحب للمصلي في الفضاء أن يكون (¬1) بين يديه سترة تحول بينه وبين المارين. وقدرها عَظْم الذراع في غِلَظ الرمح. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة: منها أن يقال: 1 - لِمَ لمْ ينتظر الإِمام من سمع حسه؟. 2 - وما الدليل على الأمر بالسترة بين يدي المصلي؟. 3 - وما الدليل على أن المار لا يقطع الصلاة؟. 4 - وما صفة السترة؟. 5 - ومن يؤمر بها؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف المذهب إذا كان الإِمام راكعًا فأحس بداخل عليه هل يطيل ركوعه ليدرك الداخلُ معه الركعة أم لا؟ فقال ابن حبيب لا يفعل. وقد قال النخعي: من وراعه أعظم حقًا ممن يأتي. وقال سحنون ينتظره ولو طال ذلك. وذكرت الشافعية أن عندهم قولين في ذلك. أحدهما: كراهية الانتظار. والثاني استحبابه. وأنكر الإسفراييني أن يكون قيل عندهم بالاستحباب. قال: وإنما الخلاف هل يكره أم لا؟ وبالكراهة قال أبو حنيفة وداود وابن المنذر، وبنفي الكراهة. قال الشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق وأبو ثور. هكذا حكى بعضهم عن النخعي. وهو خلاف ما حكيناه عنه أولًا. فوجه الكراهة ما أشار إليه النخعي من مراعاة حق من خلفه. فإذا أكمل بهم الركن فلا يسقط حقهم في الشروع في غيره بمراعاة حق آخر. وقد اعتل لهذا القول بأنه متى انتظر، صلّى (¬2) جزءًا من الصلاة لأجل آدمي. وهو قد أمر أن يخلص صلاته كلها لله. وهذا ضعيف، لأنه إذا اعتقد أنه مأمور بالانتظار، فقد ¬

_ (¬1) تكون -غ- الغاني. (¬2) صلّى = ساقطة - و

صار الانتظار طاعة لله عَزَّ وَجَلَّ، ولم تخرج الصلاة كلها عن إخلاصها لله تعالى. ووجه القول بالانتظار ما فعله - صلى الله عليه وسلم - من الانتظار في صلاة الخوف من انتظار الطائفة الثانية بمقدار قضاء الأولى وإتيان الثانية. وهذا أيضًا قد يقال فيها أنها صلاة خرجت عن الأصل لجواز خروج الطائفة الأولى من الإمامة. ولكن إن خرجت عن الأصل بخروج الطائفة الأولى، فلهؤلاء أن يقولوا الانتظار لا خروج فيه عن الأصل فاستدل بفعله عليه الصلاة والسلام. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الدليل على أن السترة بين يدي المصلي مشروعة ما ثبت من أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر أو خرج إلى العيدين ركزت له الحربة أو العَنَزة فيصلي إليها وأنه كان يصلي إلى بعيره (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - يستر المصلي مثل مؤخرة الرَّحْل يجعله بين يديه (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدن من سترته فإن الشيطان يمر بينه وبينها (¬3). وقوله إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه وليَدْرَأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان (¬4). قيل يمكن أن يكون المراد بقوله فليقاتله أي فليلعنه. والمقاتلة قد تكون في اللغة والشرع بمعنى اللعن. قال الله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} (¬5). معناه لعن الخراصون. وقال: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬6). قيل معناه لعنهم الله. وقد يكون المراد تأنيبه على ما فعل بعد تمام الصلاة. وقد قيل معناه فليدفعه دفعًا أشد من الدرء مُنكِرًا عليه ومغلظًا. ويسمى ذلك مقاتلة على سبيل المبالغة. وإنما احتيج إلى تأويل الحديث لأجل الإجماع على أنه لا يجوز له أن يقاتله المقاتلة المفسدة للصلاة. وقد قال مالك يمنعه بالمعروف. وقال أشهب إذا مر بين يديه شيء في بعد منه فليرده بالإشارة ولا يمش إليه. فإن فعل وإلا تركه. وإن قرب منه ولم يفعل فلا ينازعه. فإن ذلك المشي أشد من مرّهِ. فإن ¬

_ (¬1) معالم السنن ج 1 ص 340 حديث 657 - 660. (¬2) نصب الراية ج 2 ص 81. (¬3) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان. نصب الراية ج 2 ص 83. (¬4) رواه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 132. (¬5) سورة الذاريات، الآية: 10. (¬6) سورة التربة، الآية: 30.

مشى إليه ونازعه لم تفسد صلاته. وقد قال عثمان بن عفان رضي الله عنه لرجل درأ رجلًا فكسّر أنفه: لو تركته كان أهون من هذا. وقال ابن شعبان إذا درأه فخرّ ميتًا فإن ديته على عاقلة الذي درأه، ولو لم يُذكر فيما حكيناه عن عثمان رضي الله عنه أنه جعل في كسر الأنف شيئًا. وأجرى ذلك بعض المتأخرين على الاختلاف فيمن جبذ إصبعه من فم من عضه فقلع أسنانه. فقد قال مالك يضمن. وقال غيره لا ضمان عليه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: عندنا أنه لا يقطع الصلاة مرور شيء. وقال الحسن يقطع. وقال قوم المرأة تقطعها والحمار والكلب الأسود. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع الصلاة شيء (¬1). واستدل المخالف بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه قدر مؤخرة الرحْل، الحمار والكلب الأسود والمرأة. قال أبو ذر فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقلت ما بال الأسود من الأحمر من الأبيض؟ فقال: الكلب الأسود شيطان (¬2). وأجيب عن هذا بأنه منسوخ بما قدمناه. وأنه يحمل على معنى اشتغال المصلي بهؤلاء بدليل حديث عائشة رضي الله عنها وقولها فأنسَلُّ من قبل رجلي السرير (¬3). الحديث. وإخبارها فيه بانها تنسل بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي، إشارة إلى أن مرور المرأة لا يقطع الصلاة. وقد ذكرت المرأة في الحديث الذي استدل به. المخالف. وقال الأبياني فيمن مر بين يدي رجل فظن أن ذلك يقطع صلاته فابتدأ بإحرام جديد إن ذلك لا يضره لأنه إنما زاد تكبيرة وقراءة. ومراده من فعل ذلك في أول ركعة. ولهذا قال إنما زاد تكبيرة وقراءة. وأما لو كان بعد ركعة فإن إحرامه لا يقطع ما تقدم ويصير كمن زاد في صلاته جهلًا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما السترة فقال مالك هي مثل عظْم الذراع في جلة (¬4) الرمح وإنما جعل الارتفاع بمقدار عظم الذراع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والدارقطني مسندًا ورواه مالك والبخاري موقوفًا. نصب الراية ج 2 ص 76 - 77. (¬2) رواه مسلم. نصب الراية ج 2 ص 78. (¬3) رواه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 128. (¬4) الحيلة بضم الجيم الغلظ = لسان العرب ج 11 ص 118.

وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من يمر من وراء ذلك (¬1). فارتفاع مؤخرة الرحل نحو مما قاله مالك. وأما اعتباره غلظ الرمح فلأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه (¬2). وكان يفعل ذلك في السفر. وكره مالك السوط فإن فعل أجزأه. ومن صفة السترة أن تكون ظاهرة لا تشغل المصلي. وقال ابن القاسم لا يعجبني أن يصلي المصلي وأمامه مجنون مُطبق لا يعرف الوضوء ولا الغسل، ولا صبي ولا امرأة ولا كافر. وقد بلغني أن أبا سلمة بن عبد الأسود كره أن يصلي وأمامه رجل مأبون في دبره. وإن صلّى وهو أمامه لم أر عليه إعادة ناسيًا كان أو عامدًا وهو بمنزلة الذي يصلي وأمامه جدار مرحاض. وقال مالك لا يصلي إلى نائم وكأنه رأى أنه قد يحدث منه ما تنزه الصلاة عنه. وفي مسند ابن سنجر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني نُهيت أن أصلي إلى النائم والمتحدثين (¬3). وتجوز الصلاة إلى ظهر الرجل إذا رضي أن يثبت له حتى تنقضي صلاته ولا يصلي إلى وجهته ولا إلى جنبه لأن ذلك مما يشغله. واختلف في الصلاة إلى الحلقة فأُجيز لأن الذي يليه ظهر أحدهم وكره لأن وجه الآخر يقابله. ولو صلى أحد إلى سترة وراءها رجل جالس يستقبل المصلي بوجهه لاختلف فيه على طرد هذا التعليل الذي اعتللنا به فيمن صلّى إلى الحلقة. قال مالك له أن يصلي وراء المتحدثين. قال ابن حبيب إن لم يعلنوا حديثهم. *وخفف مالك أن يصلي إلى الطائفين. وكأنه رأى أنهم في معنى من هم في صلاة. ويجوز أن يصلي إلى البعير* (¬4) لأن ¬

_ (¬1) رواه أبو داود وابن ماجة. مختصر المنذري ج 1 ص 340. روى عبد الرزاق بسنده أن من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا كان بينك وبين الطريق مثل مؤخرة الرجل فلا يضرك من مر عليك. ح 2276ج 2 ص 10. (¬2) روى عبد الرزاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما كانت تحمل معه الحربة لأن يصلي إليها. ح 2287 ج 2 ص 12. (¬3) أخرجه أبو داود بسنده إلى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث. وأخرجه ابن ماجة وفي سنده رجل مجهول وقال الخطابي هذا حديث لا يصح. مختصر المنذري ج 1 ص 341 نصب الراية ص 96/ 97. (¬4) ما بين النجمين ممحو -و-.

أبوال الأنعام طاهرة وقد صلّى عليه الصلاة والسلام إلى بعيره. وقال مالك لا يصلي إلى الخيل والحمير فإن أبوالها نجسة، وأبوال الإبل والبقر والغنم طاهرة. قال ابن القاسم كأنه لا يرى بأسًا بالسترة إلى البقرة والشاة. ويكره أن يصلي إلى الحجر الواحد ولا بأس بالحجارة يكومها ويصلي إليها. ولا يصلي إلى ظهر امرأة وإن كانت امرأته. واختار بعض أشياخي إذا صلى إلى مثل الرمح والحَرْبة أن يجعله على جانبه الأيمن لقوله عليه الصلاة والسلام إذا قام أحدكم إلى عمود أو خشبة فلا يجعله نصب عينيه ولكن على جانبه الأيمن (¬1). وقال المقداد ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عمود أو عود أو شجرة إلا جعله على جانبه الأيمن أو الأيسر، لا يصمُده صمدًا (¬2). ولا يكون الخط عندنا سترة. قال مالك: الخط باطل لا أعرفه. وذهب بعض الناس إلى جوازه. واختلفوا في صفته قال ابن حنبل يخط عرضًا. وقال مسدد يخط طولًا. قال ابن أبي زيد صورة الخط عند من يذهب إليه أن يخط خطًا من القبلة إلى الدبور عوضًا من السترة. ويؤمر المصلي بالدنوّ من سترته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدن إلى سترته. فإن الشيطان يمر بينه وبينها (¬3). قال مالك ليس من الصواب أن يصلي بينه وبين سترته قدر صفين. واختلف في القدر الذي يكون بين المصلي وبين (¬4) سترته. فقيل قدر شبر، وكان الشيخ أبو الطيب عبد المنعم إذا قام للصلاة دنا من الجدار قدر الشبر. وقيل قدر ثلاثة أذرع. وقال الداودي ذلك واسع. أكثره ثلاثة أذرع وأقله ممر شاة. واختلفت ظواهر الأحاديث فقال سهل بن سعد كان بين مصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار قدر ممر الشاة (¬5) وقدر ذلك شبر. وقال بلال رضي الله عنه: صلّى عليه الصلاة والسلام في الكعبة وجعل بينه ¬

_ (¬1) رواه ابن القيم بسنده إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية أو شيء فلا يجعله نصب عينيه وليجعله على جانبه الأيسر. معالم السنن ج 1ص 342 (¬2) رواه أبو داود بلفظ صاحبه بدل جانبه وقال ابن القيم في إسناده ثلاثة مجاهيل. معالم السنن ج 2 ص 341 حديث: 661. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) وبين = ساقطة -و-. (¬5) رواه البخاري: فتح الباري ج 2 ص 120.

وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع (¬1). وقد قيل معنى ممر الشاة إذا كان ساجدًا وثلاثة أذرع إذا كان قائمًا. ولو كان قدر ممر الشاة وهو قائم لاحتاج إلى أن يتأخر للسجود وذلك عمل في الصلاة مستغنى عنه. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما المصلي الذي لا يأمن المرور بين يديه فإنه مأمور بالسترة. واختلف فيه إذا أمن من المرور بين يديه. فقال مالك لا بأس أن يصلي في السفر لغير سترة. وقد صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الفضاء. وقال ابن القاسم في الحضر إذا أمن أن يمر بين يديه فلا بأس أن يصلي إلى غير سترة. وحكى ابن حبيب عن مالك (¬2) أنه قال: لا يصلي المصلي إلا إلى السترة في حضر أو سفر. أمن أن يمر بين يديه مارّ أو لم يأمن. وكأنه رأى أن السترة من سنة الصلاة لا لأجل المار خاصة. والسترة إنما يؤمر بها الإِمام أو الفذ. وأما المأموم فلا سترة عليه. وقد اختلف في وجه سقوط السترة عن المأمومين فقال مالك لا بأس أن يمر الرجل بين يدي الصفوف لأن الإِمام سترة لهم. وقال القاضي أبو محمَّد لأن سترة الإِمام سترة له ولمن خلفه. وهكذا قال البخاري أن سترة الإِمام سترة لمن خلفه (¬3). ومن صلّى في مكان مشرف فقد قال مالك إن كان تغيب عنه رؤوس الناس وإلا جعل سترة. والسترة أحب إلى إلا أن لا يجد. وإذا سقطت السترة فقد قال مالك إذا استتر الإِمام برمح فسقط فليقمه إذا كان ذلك خفيفأوإن شغله فليدعْه. وأما التأثيم في المرور بين يدي المصلي فقال ابن حبيب بلغني عن بعض التابعين أنه من مر بين يدي من صلّى إلى غير سترة فإثم ذلك على المارّ. قال بعضهم إنما نُهي أن يمرّ بين يدي من صلى إلى سترة. واعلم أن التأثيم قد يتعلق ¬

_ (¬1) رواه البخاري: فتح الباري ج 2 ص 126 ورواه النسائي شرح السيوطي ج 2 ص 63. (¬2) وذكر ابن حبيب عن عبد الملك - قث. (¬3) رواه البخاري: فتح الباري ج 2 ص 117.

بالمارّ والمصلي وقد يسقط عنهما وقد يسقط عن المصلي دون المارّ أو المارّ دون المصلي. فإن صلى إلى غير سترة في موضع يغلب على ظنه المرور بين يديه أثم المصلي لما تعرض إليه. والمارّ لارتكابه المحظور. هكذا قال بعض المتأخرين. وقال بعضهم إن لم تكن للمارّ مندوحة عن السير بين يديه وكان صبره إلى أن يفرغ المصلي يشق عليه لم يكن على المار إثم وانفرد المصلي به. وأما سقوطه عنهما فبان يصلي إلى موضع يأمن المرور فيه فطرأ من اضطر إلى الجواز بين يديه وكان الصبر يشق عليه فها هنا يسقط الإثم عنهما. أما المصلي فلأنه لم يتعرض وأما المارّ فللضرورة. وأما سقوطه عن المصلي دون المارّ فبأن يصلي إلى سترة فإن المار ينفرد بالإثم لتعديه دون المصلي فإنه فعل ما يؤمر به، وبأن يصلي إلى غير سترة بموضع يأمن المرور فيطرأ عليه من يمرّ بين يديه ولا ضرورة به للمرور وله عنه مندوحة. وأما سقوطه عن المارّ دون المصلي فبأن يصلي إلى غير سترة في موضع لا يأمن المرور، وبالمارّ ضرورة إلى المرور لا يمكنه معها الصبر إلى أن يفرغ. ويُنهي المصلي عن أن يناول غيره شيئًا وكذلك يُنهى من على يمينه أن يناول من على شماله شيئًا. ومرور سائر الأشياء بين يدي المصلي كمرور الإنسان. وكره مالك أن يحدّث من على يمينه من على شماله. قال وحسن أن يتأخر عنهما. وكأنه رأى أن في المحادثة إشغالًا له كما في المرور، فلهذا نهى عنها. وقد تقدم الكلام على ما افتتح القاضي أبو محمَّد به في هذا الفصل من مقام المصلي وحده خلف الصفوف فيما سلف من كتابنا هذا ووسعنا القول فيه وفي فروعه بما أغنى عن إعادة الكلام عليه على هذا المقدار ها هنا.

باب في قصر الصلاة في السفر

باب في قصر الصلاة في السفر قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: القصر في الصلاة الرباعية أن المغرب لا تتنضّف. والفجر لو قصرت لكانت ركعة وذلك ممنوع. وأداؤها على صفة أداء (¬1) التامة إلا في الإتمام. قال الإمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما معني قوله لأن المغرب لا تتنصف؟. 2 - وما معنى استحالة الفجر إلى ركعة؟. 3 - وما معنى قوله على صفة أداء التامة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما قوله لأن المغرب لا تنصف فلأن التنصف إنما يكون في عدد الزوج. وأما عدد الفرد فإنه لا ينتصف إلا بتبعيض الواحد. ولم يقم دليل على جواز تبعيض الركعة الواحدة فتنصف. كيف وقد أشعر الشرع بأنها في حكم الجزء الواحد وإن كانت ذات أفعال مختلفة. فالجزء الواحد لا يصح تنصفه. وقد جاء الشرع يكون العبد على النصف من الحرّ في أحكام شتّى. ولما نُصف طلاق العبد جعل طلقتان لما لم يمكن تنصف الطلقة الواحدة. وكذلك عدة الأمة قَرْءان لما لم يمكن (¬2) أن تنصف. ولو جعلت المغرب ركعتان وأكمل (2) الواحدة المنكسرة لزادت على الشطر في الحقيقة (¬3) وخرجت عن حد التخفيف المراد. وبالجملة فإن هذا مما لا يلزم ¬

_ (¬1) أداء = ساقطة - و- غ-. (¬2) أي المصلي. (¬3) بالحقيقة - قث.

تعليله. والاتفاق عليه يغني عن بسط القول فيه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما رده صلاة الفجر إلى ركعة فإن ذلك لا يستحيل عقلًا. كيف وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة في الخوف ترد إلى ركعة واحدة ولكن قد تقرر الإجماع أن الصلاة في حال الأمن لا يقتصر فيها على ركعة واحدة. وإلى هذا أشار القاضي أبو محمَّد بقوله: وذلك ممنوع. وكأن الصبح خففت عن الصلاة الرباعية والسفر جاء بالتخفيف والحذف من العدد. والتخفيف والحذف إذا دخل الأصل روعي أعلى مبالغه، وأعلى مبالغ الصلاة الرباعية. فإذا شُطرت صارت كالثنائية الأصحلية من الفروض. وصار التخفيف في العدد متناسبًا، وإن كان في الصبح أصليًا وفي الرباعية طارئًا. وقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى طريقة أخرى فقالت: أول ما فرضت الصلاة ركعتين فلما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة صلّى إلى كل صلاة مثلها إلا صلاة المغرب فإنها وتر وإلاصلاة الصبح لطول قراءتها (¬1). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما قوله وأداؤها على صفة أداء التامة إلا في الإتمام. فإن التغيير دخل الصلاة في الشرع على ضروب شتّى فغيرت من القيام إلى الجلوس. ومن الركوع والسجود إلى الإيماء إليهما عند المرض. وغير حكم القبلة في التنفل على الدابة في السفر، وغيرت الهيئة في صلاة الخوف دون العدد. فلما اختلف التغيير هكذا أخبر القاضي أبو محمَّد أن التعْيير لم يدخل في هذه الصلاة إلا في حذف العدد خاصة دون ما سواه من قيام وركوع وسجود واستقبال القبلة ومراعاة ترتيب وهيئة. والتخفيف إذا جاء الشرع به في جهة واحدة فليس لنا أن نجعله في جهات غيرها إلا بدليل. ومع هذا فقد أشار مالك إلى أن السفر يؤثر في إجازة تخفيف القراءة فيما الأفضل فيه الإطالة. قال في المدونة: في صلاة الصبح واسع أن يقرأ فيها بسبح ونحوها في السفر. والأكرياء يُعْجِلون في صلاة الناس. وكذلك قال أيضًا في المدونة في صلاة المغرب: وأما المسافر فلا بأس أن يُمِدّ الميل ونحوه ثم ينزل ويصلي. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي. السنن ج 1 ص 363.

إشارة إلى أن للسفر تاثيرًا في إزاحتها عن وقتها المعتاد قليلًا. وقد كنا قدمنا الكلام في جمع الصلاتين في السفر، وإزاحتهما عن وقتيهما المختارين لهما، وإزاحة إحداهما. وذلك مما أثره السفر. ولكن القاضي أبا محمَّد لم يردْ هذا، لأن الجمع بين الصلاتين في معنى الرخص، وكذلك ما ذكرناه في مسألة المدونة كأنه لا حق بهذا الأسلوب. وهو إنما تعرض إلى الكلام على نفس أدائها لا على الرخصة الداخلة في أوقاتها، لأن ذلك أمر قد بينه عند كلامه على الأوقات. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وحَدُّ صلاة السفر (¬1) ثمانية وأربعون ميلًا وفي البحر يوم تام وليلة. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على اعتبار ما قال من المسافة؟. 2 - وكيف تفسر هذه المسافة إن اختلفت جهات التصرف؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في مقدار السفر المبيح للقصر. فمذهبنا ومذهب الشافعي أنه أربعة بُرُد. قال مالك يقصر في مسيرة يومين. وقال أيضًا يوم وليلة. قال الشيخ أبو محمَّد عبد الحق عن بعض الأشياخ أن المراد يوم وليلة يُسار فيهما. وإذا كان هذا هكذا كما قاله بعض الأشياخ فالقولان يرجعان إلى معنى واحد. لأن يومًا وليلة كيومين بلا ليل. وإن كان الزمان يختلف حتى يصير اليومان أقصر من يوم وليلة فإن المراد زمن يعتدل فيه ذلك أو يختلف اختلافًا لا يتحسس إليه في المسير. وقال مالك أيضًا يقصر في ثمانية وأربعين ميلًا. وهذا أيضًا موافق لما تقدم إن كان أراد بمسير اليومين مشي الإبل بالأحمال لأن سيرها متوسط أربعة وعشرين ميلًا كل يوم. وهكذا حكى القاضي أبو محمَّد عن بعض أصحابنا أن اليوم والليلة والأربعة بُرُد واحد. ومعنى قول ابن القاسم رجع عنه أن يترك (¬2) التحديد باليوم والليلة. وقال مالك أيضًا رضي ¬

_ (¬1) سفر القصر -غ- الغاني. (¬2) أي ترك - قث. والكلام غير مرتبط بما سبقه إذا لم يتقدم نقل قول ابن القاسم.

الله عنه في العتبية يقصر في خمسة وأربعين ميلًا. وقال في المبسوط يقصر في أربعين ميلًا. وقال في المبسوط أيضًا في مسافر البحر لا يقصر حتى ينوي اليوم التام لأن الأميال والبُرُد لا تُعرف في البحر. وهذا الذي قاله في البحر كانه مخالف لما تقدم من التقدير. وقد اعتذر ها هنا بان الأميال لا تعرف في البحر. وهذا الاعتذار لا يخرج هذه الرواية عن مخالفة ما تقدم. لأن اليومين أو اليوم والليلة لا يختلف قدرهما في سفر البر أو البحر. ولو كان مراده بقوله فيما تقدم يومًا وليلة أن اليوم يسار فيه دون الليل لكان موافقًا لهذا الذي حكيناه عن المبسوط في تحديد سفر البحر باليوم التام. وقد قال الشيخ أبو محمَّد عبد الحق: قال بعض شيوخنا إنما قال في البحر يوم دون الليل لأن قطعه في البحر أكثر من قطعه في سير البر، قلت فلعل معنى قولهم في البر يوم وليلة إنما هو ليوم يبات فيه فعبر عنه بيوم وليلة فقال بل المعنى: يوم وليلة سيرًا. وهذا الاعتذار من بعض الأشياخ لسرعة حركة السفينة في البحر. وأنها تقطع في اليوم قطع سفر البر في يومين، يتضح معه تفرقته بين سفر البر والبحر. وبما قلناه من اعتبار مسيرة يومين، وهي ستة عشر فرسخًا. قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة المعتبر في سفر القصر ثلاثة أيام وهي أربعة وعشرون فرسخًا. وبه قال ابن جبير والثوري والنخعي. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الأوزاعي يقصر في مسيرة يوم. وروي ذلك عن أنس أيضًا أنه يقصر في خمسة فراسخ. وقال الزهري يقصر في يوم تام وهو ثلاثون ميلًا. وروي ذلك عن ابن عمر (¬1). وقال داود وأهل الظاهر يقصر في طويل السفر وقصيره. وسبب هذا الاختلاف اختلاف ظواهر منها قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬2). وظاهر هذا يحيى القصر في قليل السفر وكثيره. كما قال داود وقال عليه السلام: لا تسافر المرأة يومًا وليلة إلا مع ذي محرم (¬3). فاشعر هذا: أن هذا المقدار من الزمان سفر تتغير فيه ¬

_ (¬1) عن عمر- قث. (¬2) سورة النساء، الآية: 101. (¬3) روى البخاري: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم ولا ليلة ليس =

الأحوال. وما دونه في حكم الإقامة. وأيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد من مكة إلى عُسْفان (¬1). ولأن مشقة الحمل والترحال والسير الذي يحصل مقدار يومين فجعل ذلك حدًا للقصر. فاقتضت هذه الظواهر ما قال مالك والشافعي وخصت قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} على أن الضرب في الأرض فيه إشعار سفر مالًا ولا يقتضي أقل الضرب وأقصره. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن (¬2). وهذا يقتضي مسح المسافر هذه المدة. ولا يمكن ذلك إلا إذا قدّر السفر بثلاثة أيام. وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفر ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم منها أو زوجها (¬3). وهذا يشعر بتحديد الثلاثة أيام على حسب ما قلناه نحن في الحديث المروي فيه النهي عن سفرها يومًا وليلة. وبهذه الظواهر أخذ أبو حنيفة. وأما ما أضربنا عن توجيهه من الأقوال فمأخوذ من هذا الإسلوب لأن المفهوم أن القصر لأجل المشقة فكل من أولئك (¬4) يُقدّر المشقة بالتقدير الذي حكينا عنه. وإذا ثبت ما قلناه بن اعتبار القصر بأربعة برد. فمن قصر في أقل منها فقال ابن القاسم في العتبية إنْ قصر في ستة وثلاثين ميلًا فلا إعادة عليه. وقال يحيى بن عمر يعيد أبدًا. وقال عبد الله بن عبد الحكم يعيد في الوقت. وإن قصر في أقل منها فقد قال ابن القاسم من قصر دون ذلك أعاد أبدًا. لأنه غير مسافر ولم يعتبر اختلاف الناس في ذلك. وكان ما دون ذلك يتضح أن معاني السفر مفقودة (¬5) فيه فلم يتعلق به حكم السفر. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المعتبر عندنا في مقدار السفر أن تكون الأربعة برد سيرًا محضًا ولا تلفق من سير ورجوع. فمن خرج لسفر نهايته ¬

_ = معها محرم. فتح الباري ج 1 ص 222. (¬1) حديث ضعيف رواه البيهقي: السنن ج 3 ص 137. (¬2) أخرجه مسلم والبيهقي والترمذي: سنن البيهقي ج 1 ص 276. (¬3) رواه البيهقي. السنن ج 3 ص 138. (¬4) أولئك = ساقطة -و-. (¬5) مقصودة -و- وهو خطأ.

أربعة وعشرون ميلًا ونيته أن يعود من فوره (¬1) إلى وطنه لم يقصر. وقد سئل في المدونة عن السعاة. فقال ما أدري ما السعاة؟ وذكر أن مغ يدور في القرى وفي دورانه أربعة برد يقصر. وإنما امتنع عن الجواب في السعاة لأنهم قد يخرجون لأخذ الزكاة على غير وجهها فيكون سفرهم سفر معصية. وسفر المعصية لا يقصر فيه على أحد القولين. فلما في سفرهم من التفصيل عدل عنه إلى ذكر ما لاتفصيل فيه. وهذا الذي ذكره في الدائر في القرى، وليس بين منزله وأقصاها أربعة برد، محمول على أنه يلفق الأربعة برد من تطواف لا يَعُد منه ما كان (¬2) رجوعًا إلى البلد. فإذا ضرب يمينًا وأمامًا وشمالًا احتسب ذلك كله. فإذا استدبر وجهته راجعًا في طريق بلده قاصدًا الرجوع إليها لم يحتسب بذلك في الأربعة برد. ولو كان سير المسافر في بر وبحر فقد قال عبد الملك من توجه إلى سفر فيه بر وبحر فإن كان في أقصاه باتصال البر مع البحر ما يقصر قصر. قال ابن المواز وإن كان ليس بينه وبين البحر ما يقصر فيه، وهو يجري في البحر بالريح وغير الريح فإنه يقصر. فإن كان لا يجري في البحر إلا بريح فلا يقصر حتى يبرز عن موضع إقلاعه. ولو كان في سفره طريقان أحدهما لا يبلغ مسافة القصر والآخر يبلغها، فان سلك الطريق الأقصر لم يقصر لقصورها عن مسافة القصر. وإن سلك الطريق الأبعد، فان كان لغرض فيها كالأمن أو السهولة أو حاجة لا بد منها فإنه يقصر. وإن كان لغير غرض ففي السليمانية لا ينبغي له أن يقصر. لأن تركه القاصرة وأخذه بغيرها لغير معنى عبث. ومن كان عابثًا لا يقصر. وهو أحد قولي الشافعية. والقول الثاني عندهم القصر. وبه قال أبو حنيفة. فوجه منع القصر ما علل به في السليمانية. قال بعض أصحاب الشافعي قياسًا على ما لو مشى في الطريق يمينًا وشمالًا حتى طال سفره. قال ووجه القول الآخر أنه سفر مباح، فجاز فيه القصر، كما لو سلك هذا الطريق لغرض. قالت طائفة منهم هذا ليس بصحيح لأنا لا نسلم أنه السفر المباح. لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال إن الله سبحانه وتعالى يبغض المشائين من غير إرب. يعني من غير حاجة. ¬

_ (¬1) أربعة وعشرون ونيته أن يعود إلى وطنه -و-. (¬2) يكون - قث.

ويراعى مقدار السفر من حيث يخاطب بالصلاة. ففي السليمانية في النصراني يقدم من مصر يريد القيروان فأسلم بقلشانه أنه يتم. قال لأن الباقي من سفره لا يقصر فيه. وإذا وجب عليه الإتمام من قلشانه فطرد هذا يقتضي أن يراعي مقدار السفر من حين البلوغ، في حق من بلغ في أثناء السفر. وكذلك يراعى في حق المجنون إذا عقل في أثناء السفر. قال بعض أشياخي في طهر الحائض في أثناء السفر نظر وعندي أنه لا يتضح فرق بينهما وبين ما تقدم لأنها غير مخاطبة بالصلاة أيام حيضتها إجماعًا، والكافر مخاطب بالصلاة وبغيرها من فروع الشريعة بشرط تقدمة الإيمان عند جماعة من أهل الأصول. وإذا لم يعتبر ما مضى من سفره مع الاختلاف في خطابه فالحائض أولى بذلك لكونها لم يختلف في سقوط الخطاب عنها إلا أن يقال إن الحائض كانت قبل حيضتها مخاطبة بالصلاة وإنما ارتفع الخطاب عنها لمانع والمانع يتوقع ارتفاعه في كل جزء من أجزاء السفر فخالفت بهذا من ذكر معها فهذا مما ينظر فيه. ومن شرط مقدار السفر أن يكون معزومًا عليه لا مترددًا فيه فمن خرج لبيع سلعة وهو شاك في مقدار مسافة بيعها فإنه لا يقصر الصلاة لأن الأصل الإتمام والقصر طارئ فلا يصار إليه إلا بعد تحقق السبب المبيح له. وكذلك قال مالك في المدونة فيمن خرج في طلب آبق أو حاجة فقيل له بين يديك على بريدين فمشى كذلك أيامًا ولا يدري غاية سفره فليتم في سيره ويقصر في رجوعه إذا كان أربعة برد فأكثر. وقال مالك في المدونة فيمن واعد قومًا للسفر يمر بهم، وبينه وبين موضعهم ما لا تقصرُ فيه الصلاة في مثله أو تقدمهم حتى يلحقوه فإن كان عازمًا على السفر خرج القوم أم لا فليقصر إذا برز عن قريته. وإن كان لا يخرج إلا بخروجهم فليتم حتى يبرز عن موضعهم أو عن الموضع الذي يلحقونه فيه. واختلف (¬1) قول مالك فيمن خرج من الفسطاط إلى بئر عميرة يقيم به اليومين كما يصنع الأكرياء حتى يجتمع الناس فقال أحب إلى أن يتموا إذا كان الاكرياء يحبسون الناس. وقال أيضًا يقصرون. وقال يحيي ولم ير ¬

_ (¬1) وإن اختلف -و-.

ذلك إلا في الأمير يخرج على الميلين ويقيم حتى يجتمع بقية جيشه بل قال يتم، فقال بعض المتأخرين إنما ذلك لأجل أن الأمير هو مختار للإقامة لأن السفر بحكمه. والخارج إلى بئر عميرة غير مختار للإقامة بل قاصد للسفر والغالب لحاق سائر الناس به فكان له القصر وأنكر بعضهم هذا الفرق وقال يطرد الاختلاف في السؤالين. واستضعف الفرق لأجل كون المسير للأمير يقتضي القصر لأن عزمه لا أحد يثنيه بخلاف الخارج لبئر عميرة. وليس من شرط مقدار السفر أن يكون سيرًا متصلًا. وقد قال مالك فيمن سافر من مصر إلى مكة يسير يومًا ويقيم يومًا أنه يقصر في سيره وإقامته. ولم ير تخليل ما دون زمان الإقامة مانعًا من تلفيق السير بعضه إلى بعض. فلو كان يقيم يومين أو ثلاثًا لقصر أيضًا، وكان حكم الإِمام حكمًا واحدًا. ولو كان يقيم أربعة أيام لأتم فيها. وأما السير الذي قبلها فإن كان فيه ما تقصر الصلاة فيه قصَرَ. وإن كان لا تقصُر الصلاة فيه فاختلف في تلفيق بعضه إلى بعض. وسنعيد الكلام عليه إن شاء الله تعَالى. فقد وقع بين المتأخرين تنازع فيمن خرج في طلب آبق لا يعلَم موضعه فأتم في سفره فحكمه أن يقصر في رجوعه إذا كان قد بلغ أربعة برد على ما قاله مالك في المدونة. لو كان لما بلغ أربعة برد فقيل له إن الآبق على بريد بين يديك أو عن يمينك أو عن يسارك فعزم على البلوغ إلى الموضع المشار إليه وينقلب منه إلى منزله على كل حال. هل يضاف هذا البريد إلى حكم ما قبله، فيتم فيه الصلاة ويكون مبدأ القصر من حيث رجوعه لأجل أنه في البريد المزيد سائر وفي انقلابه راجع، فلا يضم سير إلى انقلاب *أو يقصر صلاته في هذا البريد ويضاف إلى انقلابه لأنه في حكم الراجع. وإن كان طالبًا فيه لحاجته. ويكون ذلك كما لو آثر الرجوع من حيث بلغ الأربعة برد على هذه الطريقة المشتملة على هذا البريد لسهولتها. أو كمن خرج مسافرًا* (¬1) ضاربًا في جهة قبلة بلدته، فعرض له بعد خروجه حاجة في دبرها على بريد فعزم على سيره وانعطافه إلى طريقه الأولى (¬2) من غير رجوع إلى بلده فإنه يقصرُ في هذا البريد فكذلك حكم ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو من -و-. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب الأول.

البريد الزائد على الأربعة في مسألتنا (¬1). قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والأظهر من المذهب أن القصر سنّة والإتمام مكروه. فإن كان خلف مقيم فليتبعه وإن كان خلف مسافر فاتم فلا يتبعه. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل القصر سنّة أو فرض؟. 2 - وما حكم صلاة المسافر خلف المقيم؟. 3 - وما حكم المسافر إذا دخل على عدد ففعل خلافه؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اضطرب المذهب في حكم القصر فروى أشهب عن مالك أنه فرض. وبه قال إسماعيل القاضي وابن سحنون ومال ابن المواز إليه. وقال ابن سحنون في كتابه قال مالك ومن قال بقوله: فرض الصلاة في السفر ركعتان. فمن صلاها أربعًا أعاد الصلاة ولم يُعزم عليه لقول مالك وأصحابه: إن المتم في السفر يعيد في الوقت. قال القاضي أبو محمَّد: جماعة من البغداديين يرون القصر فرضًا ووافق أبو حنيفة هذه الرواية عن مالك. وذهب إلى أن القصر فرض. وروي عن مالك في المبسوط أن القصر سنّة. قال القاضي أبو محمَّد ذهب أكثر أصحابنا إلى أن فرض المسافر التخيير إلا أن القصر أفضل وهو سنة. وقاله ابن وهب عن مالك. قال ابن القصار قال الأبهري وغيره: هو مخيّر والقصر أفضل. وحكى أبو جعفر الأبهري أن أبا بكر الأبهري يقول هو غير بين القصر والإتمام. وقال الشافعي هو غير بين القصر والإتمام. واختلف قول مالك في أيهما أفضل، وذكر أبو الوليد أن أصحابنا اختلفوا في القصر هل هو واجب أو مندوب إليه أو مباح؟ وما أضافه إلى المذهب من الإباحة لا يكاد يوجد لاتفاق المذهب على أن القصر مأمور به إما إيجابًا وإما ندبًا. إلا أن يكون أبو الوليد تعلق بما نقل عن الأبهري من التخيير ¬

_ (¬1) إلى هنا انتهت نسخة قث. إذ ورد بعد هذا أبواب المعاملات قبيل كتاب الحوالة. ومن هنا نعتمد النسخة الثالثة من القرويين. ونشير إليها. قل وأوراقها متداخلة وذلك مع النسخة الأصلية المشار إليها. ب- و.

من غير تقييد بالأفضل. فانه قد حُكي لنا عنه أنه قد قتد في بعض ما نقلناه عنه. فأما من قال إنه فرض فإنه يحتج بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: إن الله تعالى فرض للحاضر أربعًا وفرض للمسافر ركعتين (¬1). وأجيب عنه بأن معناه: فرضه ذلك إذا اختار. لقول عائشة رضي الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين، ركعتين في الحضر فزيدت في صلاة الحضر وأقرت في صلاة السفر (¬2). وأجيب عن هذا بأن المراد بأنها أقرت في السفر في حق في اختار القصر. وأنكر أبو المعالي هذا الخبر وقال من زعم أن صلاة الإقامة كانت ركعتين ركعتين ثم زيد فيها فقد جحد الضرورة والبديهة. فإنا نعلم بالتواتر والنقل المستفيض أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الظهر في الحضر أربع ركعات كما نعلم أنه كان يركع في كل ركعة ركوعًا. ومن أبدى في هذا المراء طرق القدح إلى نقل التواتر. فالأولى تضعيف الرواية أو نسبة رواتها إلى الوهم. وهذا الذي قاله طريقة انفرد بها. والحديث أشهر من أن ينكر. والصلوات وإن كانت مما ينقل تواترًا في العادة وأعلام الدين متكررة المتابعة في المسلمين شأنها أن تنقل تواترًا فإن ذلك إنما يكون مع حصول الأسباب والدواعي الباعثة على النقل، فإذا تبدلت الأسباب والدواعي تبدل هذا الحكم. وما كان من الشريعة في أول الإِسلام ثم طرأ عليه النسخ بعد قليل من العمل به وألف الناس خلافه، واستمروا على الإضراب عنه، وحرم عليهم فعله، فإن الدواعي الباعثة على نقله قد فقدت. فلا يستنكر فيما هذا شأنه ذهابه واندراسه لعدم الحاجة إلى نقله. والحاجة إليه هي سبب توافر الدواعي عليه. فإذا استغني عنه فلا معنى للتشاغل بنقله. وقد أشار أبو المعالي في بعض كتبه (¬3) إلأصولية إلى مثل هذا المعنى الذي قلناه. وأشار القاضي أبو محمَّد رحمه الله إلى نحو هذه الطريقة. ومثله (¬4) كيف يهجم هذا الهجوم على خبر رواه مالك في موطئه. ورواه البخاري أيضًا في صحيحه ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن عروة عن ابن عباس. نصب الراية ج 2 ص 189. وأخرجه أحمد ج1 ص 355. (¬2) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي والنسائي. الهداية ج 3 ص 315. (¬3) كتب -و-. (¬4) ومثله = ساقطة -و-.

وغيرهما من مدوني السنن. فإذا كذّب بخبر رواه مثل هؤلاء فما ظنك بمن سواهم؟ وقد قال أبو بشر الدولابي قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو يصلي ركعتين ثم نزل تمام صلاة المقيم في الظهر يوم الثلاثاء لإثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر بعد مقدمه بشهر وأقرت صلاة السفر ركعتين. وقالت عائشة رضي الله عنها: أول ما فرضت الصلاة ركعتين فلما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - لي صلّى لكل صلاة مثلها إلا المغرب فإنها وتر وصلاة الصبح لطول قراءتها (¬1). فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر سفرًا عاد إلى صلاته الأولى. أي ركعتين. واحتج أيضًا بقول عمر: صلاة الأضحى وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وتمام غير قصر على لسان نبيكم (¬2). وأجيب عن هذا بأنه محمول على من اختار القصر مع أنه قرنه بالسنن فدل على أنه سنّة. ويقول عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سافر إلا صلّى ركعتين (¬3). وبقول ابن عباس إن الله تعالى فرض على لسان نبيكم للمقيم أربعًا وللمسافر اثنتين. وبقول ابن عباس أيضًا إن من صلى في السفر أربعًا كمن صلّى في الحضر ركعتين وبأن عثمان لما أتم الصلاة في الموسم أنكروا عليه الإتمام حتى اعتذر عنه ولو كان الإتمام سائغًا لما أنكروه. ولا احتاج إلى الاعتذار. وقد أكثر الناس من الاعتذار على إتمام عثمان وعائشة. فذكر ابن سنجر أن عثمان رضي الله عنه صلّى بأهل مني أربعًا فأنكر الناس عليه ذلك فقال: يا أيها الناس إني لما قدمت مني تأهلت. وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا تأهل الرجل ببلد فليصل به صلاة المقيم. (¬4) فذكر ابن حبيب أنه إنما أتم بمنى خاصة من أجل أنه ¬

_ (¬1) روى مسلم عن عائشة أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين فاقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر. إكمال الاكمال ج 2 ص 346. وأخرجه البخاري وأبو داود والنسائي. مختصر المنذري ح 1455 علق عليه الخطابي. هذا قول عائشة عن نفسها وليس برواية عن رسول الله. ج 2 ص 47. (¬2) أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سمّاك الحنفي قال: سالت ابن عمر عن صلاة السفر نقال: ركعتان تمام غير قصر. الدر المنثور. ج 2 ص 210. (¬3) هو في -و- أتممناه من نسخة متداخلة الأوراق. (¬4) رواه أحمد وأبو يعلي. مجمع الزوائد ج 2 ص 157.

كان له بها أرض وأهل. فتأول أنه غير مسافر. وقيل أنه تأول أنه أمير المؤمنين فحيث ما كان من البلاد فهو في عمله. وقيل إنما أتم لأنه كان معه الجند والأعراب ومن لا يعقل فخاف أن يعتقدوا أن الصلاة عددها ركعتان لا أكثر. وقيل تأول أن القصر إنما هو لمن يناله تعب السفر دون الترفه. وقال الزهري: بلغني أن عثمان إنما أتم لأنه أزمع المقام بعد الحج فلعله يريد أزمع المقام أربعة أيام لضرورة دعته إلى ذلك. وقد قال ابن عمر صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين في السفر حتى قبضه الله تعالى. قال بعضهم هذه إشارة منه إلى أن عثمان رأى مكانه مكانًا يمنع القصر. وإنما يصح هذا بأن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم بمكة قبل الخروج إلى مني مدة توجب الإتمام. وأقام عثمان بها مدة توجب الإتمام، واعتقد أن مسافة الخروج إلى عرفة إذا انفصلت مما قبلها من السفر لا تبيح القصر. وهذا اعتذار بمقام قبل الخروج خلاف اعتذار الزهري بمقام بعد الخروج. وهذا التأويل بأن الإقامة قبل الخروج إلى مني تمنع القصر إنما يذكر على جهة إمكان أن يكون ذهب إليه (¬1). وإلا فالمكي يقصر بمنى وعرفة وإن لم يكن بينه وبينها ما يوجب القصر. وعلل ذلك بأن عمل الحاج لا ينقضي إلا في أكثر من يوم وليلة مع الانتقال اللازم فيه. والمشي من موضع إلى موضع لا يوجب الإخلال به فجرى ذلك مجرى مشي الأربعة برد. ولا يلزم عليه التنقل من موضع إلى موضع في مسافة قصيرة لأن ذلك لا يلزم بالشروع (¬2). وهذا تنقل لازم فكان حكمه حكم السير المتصل. وعلل أيضًا بأن الخارج من مكة إلى عرفة أنه لا بد له من الرجوع إلى مكة بحكم الشرع فصار في مجموع السير والرجوع مقدار ما تقصر فيه الصلاة ولا يلزم على هذا من خرج إلى خمسة وعشرين ميلًا قاصدًا إذا بلغها أن يرجع إلى حيث خرج منه. لأن رجوعه هناك ليس بلازم. وفي الحج الرجوع لازم. فكان السير والرجوع يقدران تقدير سير واحد في جهة واحدة. ولعلنا أن نبسط هذا في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) إليه = ساقطة -و-. (¬2) بالشرع - قل.

ويمكن عندي أن يكون عثمان أتم لاعتقاد (¬1) التخيير وجواز الإتمام (¬2) في السفر وقد حكينا أن الشافعي يرى في أحد قوليه أن الإتمام هو الأفضل فخرج من مجموع ذلك ثماني (¬3) تأويلات لما فعله عثمان. وأما التأويل على إتمام عائشة فقد قال ابن الجهم قيل لعروة ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: أراها تأولت ما تأوله عثمان. قال ابن الجهم ويقال أن الذي تأول عثمان أنه كان يقول: أنا أمير المؤمنين فحيثما كنت من البلاد فأنا في عملي. وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا أم المؤمنين فحيثما كنت فأنا عند ولدي وفي بيتي. وقد أجيب عن هذا بأن وطن ولدها ليس بوطن لها، فلا يكون هذا عذرًا. وقال سحنون يقولون إنما أتمت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: إنما هي هذه ثم ظهور الحضر. وأنكر بعض المتأخرين هذا وقال إنه حديث شيعي لا يصح، وإنما أدخله من قصده الطعن على عائشة رضي الله عنها. وعندي أن الأولى أن يظن بسحنون أنه إنما نقل ذلك منكرًا له، ولعله أورده في سياق كلام يفهم منه ذم من سلك هذا التأويل. فنقل الراوي لفظه مجردًا من القرائن الدالة على قصده. والذي أشار إليه. ومما يعتمد عليه من قال أن القصر فرض إن (¬4) الركعتين في السفر يُجزيان قطعًا ولم يقم على إثبات الزيادة دليل، والزيادة في الصلاة من المبطلات. وأجيب عن هذا بأن الزيادة إنما تكون من المبطلات إذا ثبت المنع منها، كالزيادة في صلاة الصبح. وهي (¬5) في صلاة المسافر جائزة عند من ذهب إلى ذلك. فكونها من المبطلات غير مسلم. ومنع من ذهب إلى أن القصر فرض أن الركعتين المزيدتين في حكم النافلة، لأن من تركهما (¬6) لم يأثم. وما كان يجوز تركه إلى غير بدل من غير مأثم يلحق بذلك فليس بواجب. وهذا له يجعل الركعتين ليستا بواجبتين. وإذا لم يكونا واجبتين لم يصح إثباتهما إلا أن يكونا بمعنى النفل. وقد قال أبو حنيفة إن صلى أربع ركعات فإن جلس للتشهد الأول أجزأته الركعتان الأوليان وإن لم ¬

_ (¬1) لاعتقاده. قل. (¬2) ألا يضام -و-. (¬3) تمام -و- وثلاث قل والمعنى على ثماني. (¬4) وأن -و-. (¬5) وهي = ساقطة -و-. (¬6) ولأنه وإن تركهما -و-.

يجلس للتشهد أعاد الصلاة* (¬1) ورأى أن الزيادة على ركعتين تطوع. فإذا خلط المكتوبة بالتطوع قبل أن يتشهد في الركعتين بطلت صلاته. ومن أنكر كون القصر فرضًا فلا يعتقد في الركعتين المزيدتين النافلة المحضة. وإذا لم يعتقد ذلك بطل قوله. وثبت أن القصر فرض. وأجيب عن هذا بأن الأصل إيجاب أربع ركعات. والقصر طارئ. فوجب أن للمكلف الخيار في إسقاطه الركعتين. وقد قال عليه الصلاة والسلام صدقة تصدق الله بها عليكم (¬2) فإذا لم تقبل الصدقة بقيت الأربع على أصل الوجوب ولم تصِرْ الركعتان نافلة. وهذا بخلاف ما ليس له حكم في الأصل فإنه متى قيل فيما لا أصل له إن (¬3) لم يفعله فلا عهدة عليه فإنه لا يكون واجبًا. وما نحن فيه له أصل. فإذا لم يختر المكلف قبول ما تصدق به عليه بقيت الأربع على أصل الوجوب. وهذا كمن له على رجل أربعة دنانير فوهبه دينارين فلم يقبلهما فإن الأربعة دنانير توصف بأنها باقية على أصل الثبوت ومتى أداها من هي عليه فإنما أداها بحكم أصل المعاملة، وثبوتها في الذمة. ولا يقدر بقضائها كمبتدىء تمليك الدينارين اللذين لم يقبلهما. وهذا يوضح: إن اختار المسافر أربع ركعات لا تخرج الأربع عن أصل الوجوب. وأجيب عن هذا بأن الأسباب من سفر وإقامة مفوضة إلى رأي العبد. وأما الفعل المأمور به (¬4) مفوض أيضًا إلى رأي العبد. والأحكام لا تصح إلا أن تفوض إلى رأي العبد لأنها تكون كنصف شريعة من قبل العبد والتفويض إلى مشيئته تمليك. والعبد لا يملك إقامة الشرع (¬5). فإذا كان هذا هكذا فالأسباب المعلق عليها الأحكام من سفر وإقامة ففعل العبد فيها ما اختار. والأداء الذي هو فعل الصلاة المرتب على الأحكام من اكتساب العبد إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولكنه واجب عليه الفعل. وجعل الصلاة أربعًا أو اثنتين حكم من الأحكام لا يضاف إلى العبد، بخلاف ما تمثلوا به في الدين فإن واهب بعض الدين لا يملك ولاية على الموهوب ولا ¬

_ (¬1) ما بين النجمين هو -و-. (¬2) أخرجه مسلم وأحمد والدرامي وأبو داود والترمذي والنسائي. الهداية ج 3 ص 307. (¬3) ان = ساقطة -و-. (¬4) هكذا ولعل الصواب فمفوض. (¬5) إقامة الشرع = ساقطة -و-.

يلزم الموهوب طاعته. فكان للموهوب الرد. ورد الركعتين من الصلاة لا يصح لأن الله سبحانه واهبها يملك (¬1) الولاية على العبد ولا يسوغ رد ما شرع. ولا يناقض هذا يكون المملوك مخيرًا بين الظهر وصلاة الجمعة، وصلاة الجمعة ركعتان، والظهر أربع. لأن ذلك في معنى عبادتين مختلفتين كالثلاث خص الذي كفارة الأيمان التي خيّر العبد منها في الشرع لا في الشروع. ووجه الاختلاف بين الظهر وصلاة الجمعة أن في الجمعة سعيًا وخطبة وليس ذلك في صلاة الظهر. فكان الركعتين من الظهر تقابل السعي والخطبة (¬2). ولا شك في اختلاف ذلك ولا يناقض هذا بتخيير المسافر بين الصوم والفطر وتفويض ذلك إلى مشيئته لأنه لا إسقاط ها هنا، والعبادة ثابتة. وإنما خيّر المكلف بين تعجيل يستفيد منه طيبَ نفسه بمساواة المسلمين في الصوم، (¬3) وتأخير يستفيد منه تخفيف مؤونة السفر. وهذا أيضًا كالمختلف. والرخصة في السفر إسقاط عدد. وحقيقة الإسقاط من العدد ينافي إكمال المعدود. فكان ظاهر إسقاط الشرع ببعض العدد وجوب الاقتصار على الباقي منه لأن العدول عن (¬4) إيجاب الاقتصار لا يمكن إلا برد الإسقاط. وإسقاط الشرع لا سبيل إلى رده. وهذا المعنى المفرق بين إسقاط العدد والتقديم والتأخير يورد جوابًا أيضًا لمن قال بتخيير المسافر في الصلاة قياسًا منه ذلك على الصوم والفطر. ومما يعتمد عليه أيضًا من قال إن القصر فرض، إن التخير ما بين أقل الشيء وأكثره لا يمكن. لأن الأول حاصل على كل حال. والزيادة لا معنى لها. ولو جرى هذا في حقوق العباد لعُدّ مختار الأثقل مع الإباحة للاقتصار على الأقل خارجًا عن الحكمة. وحقوق الله سبحانه مبنية على الحكمة. فكان لا معنى للتخيير بين الأقل والأكثر. وإن نوقض هذا بالتخيير بين الجمعة والظهر في حق المملوك فقد أجبنا بأن ذلك ليس بتخيير بين أقل وأكثر بل بين مختلفين. ¬

_ (¬1) وهبها يملك الولاية -و-. (¬2) تقام للسعي والخطبة -و-. (¬3) في الصوم = ساقطة -و-. (¬4) بياض في -و-.

وكذلك إن نوقض هذا بالتخيير بين الصوم والفطر فقد أجبنا أنه ليس، بإسقاط، والتعجيل ليس بردّ. وإكمال الأربع كالرد لما شرع من الإسقاط. ألا ترى أنا قدمنا أن الأحكام لا يصح تفويض شرعها إلى العباد. وتعجيلها قد فوض (¬1) إليهم عند سبب ما كما جعل الله للحالف قبل حِنْثه لوجود سبب الحنث وهو اليمين. وكما جعل للمزكي المقدم زكاته قبل الحول عند من رأى ذلك. فأنت ترى كيف جاء الشرع بأن تعجيل الأحكام بخلاف شرعها ابتداء. وأجيب عن هذا أيضًا بأن إكمال الأربع زيادة ثواب وزيادة مشقة. وفي القصر زيادة تخفيف ونقصان ثواب فصار ذلك في معنى مختلف. وبعض من قال إن القصر فرض لم يسلم هذا. وقال لا يسلم أن صلاة المسافر أقل ثوابًا من صلاة الحاضر لأن الثواب التام في فعل العبد كل ما عليه. وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن أفضل الصدقة قال: جهد المقل أي طاقته (¬2). وإذا سقطت عبرة الثواب لم يبق للأكثر فائدة. فهذه عمدة القائلين بأن القصر فرض. وأما القائلون بأن القصر ليس بفرض فإنهم يعتمدون على قوله: تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3). فلو كان القصر فرضًا لم يقل فيه فلا جناح عليكم إذ لا يعبر عن الواجب بأنه لا جناح فيه. وإنما يعبر ذلك عما يجوز العدول عنه وأن لا يفعل. وقد اختلف الناس في هذه الآية هل المراد بها قصر العدد أو قصر الوصف؟ فذهب بعضهم إلى أن المراد بها قصر العدد. وذهب بعضهم إلى أن المراد بها قصر الوصف، ثم اختلفت طريقة هؤلاء في قصر العدد ما مقداره في الآية؟ هل هي (¬4) جملة واحدة أو مركبة من جملتين؟ وذهب آخرون إلى أن المراد بها قصر الوصف. وسبب هذا الاختلاف أن الله سبحانه قال عقب ذلك: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ}. فقال بعضهم المراد بقضيتم أردتم ¬

_ (¬1) فرض -و-. (¬2) أبو داود. المختصر للمنذري. (¬3) سورة النساء، الآية: 101. (¬4) في -و-.

قضاءها كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي أردت تراءته. وإذا كان المراد هذا. وقد قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا}. فإنما القعود إنما يجوز لعذر الخوف. وأيضًا فقد قال تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} معناه فإذا أمنتم فأدوها قيامًا. وهذا التأويل يصحح (¬1) حملها على قصر الهيئة. وقال بعضهم حمل قضيتم أردتم القضاء تجوّزٌ. أو المراد أن الله أمركم بالذكر بعد الفراغ من الصلاة ليكون ذكر الله سببًا لنصرتكم. وقد قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (¬2). والمراد بهذا وبقوله تعالى: فإذا اطمأننتم في أمصاركم فأقيموا الصلاة تامة العدد. ويرجح من يحملها على قصر الوصف مذهبه بأن القصر في الوصف تخفيف الركوع والسجود لخوف العدو. وهو القصر الحقيقي. وأما صلاة المسافر ركعتين. فإذا قيل إنّ ذلك فرضه وأن هذا هو أصل الفرض فلا حقيقة للقصر. ولا يطلق إلا توسعًا. كما لا يقال في صلاة الفجر إنها صلاة مقصورة لما كان أصل الفرض فيها ركعتين. ويرجح من يحملها على قصر العدد مذهبه بأن المسافر لما خيّر بين القصر والإتمام كان اختياره لركعتين قصرًا حقيقة. لأنه حذف من العدد اللازم له في الحضر شطره. والاقتصار على بعض العدد هو أولى أن يسمى قصرًا من تخفيف الركوع والسجود. ولأن الإطالة في الركوع والسجود لا تجب. والإطالة وإن شرعت فليست بمحدودة، وكذلك ما يباح في صلاة الخوف من مخالفة الهيثة لا يسمى قصرًا حقيقة. وإذا كان هذا هكذا كان العمل على قصر العدد أولى لا سيما وقد جرى لعمر رضي الله عنه في الآية ما يؤكد هذه الطريقة. فقد خرّج مسلم عن يعلي بن أمية أنه قال لعمر قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}. فقد أمن الناس. فقال عمر: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته (¬3). وظاهر هذا أن عمر فهم من الآية قصر ¬

_ (¬1) وهذا يصح حملها على الهيئة. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 45. (¬3) رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حُميد وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن =

العدد إذ عُلّق بالخوف وأن مقتضاها أن القصر مع الأمن لا يكون حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال. وذكر عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم. فقالوا إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين فقالت إنه كان في خوف فهل تخافون أنتم؟ (¬1) وظاهر هذا إشارة إلى حمل الآية على قصر العدد في الخوف. ولكنه قد فهم من إشارتها أنها فهمت ما فهم عمر رضي الله عنهما. ولم تعلم ما علم من إسقاط حكم التعليق بالخوف. ويجب عندي أن يتأول أن قولها هذا على أنها أرادت تفضيل الإتمام على القصر أو أرادت إعلامهم بجوازه في السفر كي لا يظنوا أن القصر فرض كما ظن ذلك من ذهب إليه من العلماء. وإنما دعا إلى تأويل قولها هذا إن الإتمام في السفر لا أعلم أحدًا يقول بوجوبه. ومما تجاذبه الفريقان من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (¬2). فهذان تعليقان الأول منهما الضرب في الأرض. وقصر الوصف يجوز مع الضرب في الأرض ومع عدمه. والثاني منهما الخوف وقصر العدد يجوز مع الخوف والأمن في السفر. فمن حمل الآية على قصر الوصف التفت إلى جانب التعليق الثاني وهو الخوف وجعل التعليق الأول كأنه لبيان الحال ولمطابقة العدد. فإن الخوف لا يكون في القرار، وإنما يكون في الأسفار. ويستدل بأن القائل إذا قال لزوجته إذا دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدًا. فإن الطلاق يتعلق بالكلام. وإنما الدخول لبيان الحال. والطلاق إنما يقع بالكلام ولكن بعد الدخول. هذا إن كان حامل هذه الآية على قصر الوصف ممن يجيز صلاة الخوف في الحضر كما يجيزها في السفر فحينئذ يحتاج إلى الاعتذار عن التعليق بالضرب في الأرض. وأما إن كان ممن يمنع صلاة الخوف في الحضر فلا حاجة به إلى الاعتذار عن التعليق الأول، بل التعليقان عنده مستعملان. إلى هذه الطريقة ذهب ابن الماجشون من أصحابنا. فقال في المبسوط في صلاة الخوف إنما تأولها أهل العلم في السفر. لقوله ¬

_ = ماجة وغيرهم. الدر المنثور ج 2 ص 109. (¬1) رواه ابن جرير الطبري في التفسير ج 5 ص 155. (¬2) سورة النساء، الآية: 151.

تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}. لأن صلاته عليه الصلاة والسلام كانت على تلك الهيئة في السفر. ومن حمل الآية على قصر العدد التفت إلى التعليق الأول .. (¬1). التعليق الثاني بحديث عمر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدقة تصدق الله بها عليكم. الحديث المتقدم (¬2). هذا جملة القول في سبب الاختلاف في حمل الآية على قصر الوصف أو قصر العدد. فإن قلنا محملها على قصر الوصف فبيانه يرد في بابه. وإن قلنا محملها على قصر العدد فقد اختلف الناس في العدد ما المراد بها؟ فقال بعضهم هو الاقتصار على ركعتين من أربع، وهو الذي يشير إليه ما قدمناه من حديث عمر وعائشة رضي الله عنهما. ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن صلاة الخوف ركعة فقالوا فرض الله على المقيم أربعًا وعلى المسافر ركعتين، وقالوا فقصر الصلاة في الخوف أن يصلي ركعة لأنهم مسافرون فصلاتهم ركعتان. وقصر الركعتين لا يكون إلا ركعة (¬3) وهذه إشارة إلى حمل الآية على قصر العدد إلى ركعة مع اشتراط الضرب في الأرض والخوف، فخرج من مجموع ذلك أن هؤلاء يحملون الآية على قصر العدد فيستعملون التعليقين جميعًا. كما أن ابن الماجشون يحمل على قصر الوصف ويستعمل التعليقين جميعًا. فهذا أيضًا مما يتعلق بالكلام في اختلافهم في قصر العدد. وسنوسع في بابه إن شاء الله تعالى. وأما الاختلاف في الآية هل هي مركبة من جملة واحدة أو جملتين؟ فذهب الأكثرون إلى أنها جملة واحدة وقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} اشتراط يعود إلى ما قبله لا إلى ما بعده على ما مضى من اختلافهم في صفة عودته، وحقيقة القصر المراد. وذهب بعضهم إلى أن الآية مركبة من جملتين إحداهما قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}. فهذا يقتضي قصر المسافر في العدد. وقوله {إِنْ خِفْتُمْ} ابتداء جملة أخرى لتعليم صلاة الخوف. ويقدر هؤلاء الآية على معنى إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا أي يحملون عليكم وأنتم ¬

_ (¬1) هو في نسخة -و- بمقدار ثلاث كلمات وساقطة من قل. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في نسخة -و- إلا ربعة. وبياض في بقية النسخ والصواب ما أثبتناه.

ساجدون وراكعون. ويكون قوله إن الكافرين كانوا لكم عدوًا مبينًا اعتراض فصل من الكلام في صلاة الخوف بعضه عن بعض. والواو زائدة في قوله وإذا كنتَ. وكأن تقدير حمل الآية إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إذا كنت فيهم. قال بعضهم وجواب الشرط ها هنا فأقمت لهم الصلاة. ويصح عندي أن يكون جواب الشرط على هذا التأويل فلتقم طائفة منهم معك. وقول من قال فأقمت لهم الصلاة ممكن أيضًا. رحمل هؤلاء الآيتين على جملتين تأويل فيه تعسف. وإن كان قد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سأل قوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬1). ثم انقطع الوحى. فلما كان بعد ذلك بحول، غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى الظهر فقال المشركون: لقد أمكنكم هو وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم! فقال قائل منهم إن لهم أخرى مثلها، في أثرها. فأنزل الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله "عذابًا مهينًا". فنزلت صلاة الخوف بكيفيتها. وهذا الخبر يعضد ما قاله هؤلاء من كون الآية مركبة من جملتين وأن قوله إن خفتم ابتداء جملة أخرى. وقصد بها بيان صلاة الخوف. هكذا ظاهر هذا الخبر وإن كان للآخرين أن يقولوا بأن الشرط يصح أن يعود على ما تقدم وإن تأخر نزوله. وقد يتأخر التخصيص عن المخَصَّص مدة من الزمان. وهذا قد يعترض عليه بأنه، لو كان حكم الأصل ثابتًا في سفر الخوف والأمن فلا يعجب عمر من القصر في سفر الأمن. وقد جاء عموم القرآن به على هذا التأويل. وهذا أيضًا يفتقر إلى الخوض في بحر عظيم من الكلام على أحكام التخصيص، والفرق بينه وبين النسخ. والفرق بين تأخير الاستثناء وما في معناه من ضروب الكلام وما سواه من أنواع التخصيص. والقول في صيغة التعميم إذا لم يوجد له مخصص هل يقطع على تعميمها أم لا؟ والقول في جواز تأخير البيان أو منعه. هذه جمل كلها تستعمل في النظر في هذا التأويل ولا سبيل إلى إيراده ها هنا لا سيما أنا قد ¬

_ (¬1) أخرجه ابن جرير عن علي قال سأل قوم من التجار رسول الله. الحديث. الدر المنثور ج 2 ص 209.

أشبعنا الكلام على الآية بما (¬1) كتب التفسير والمعاني أولى به. لأنا لما رأيناها يكثر دورها على ألسنة الفقهاء ويكئر استدلالهم بها أحببنا أن نُطلع الفقيه على جميع ما قاله أهل المعاني فيها ونذكر له سبب اختلافهم ليصير إلى ما يصير إليه من المذاهب على بصيرة. على أنا أوردناها إيرادًا لم أقف عليه لأحد من المصنفين وفيه غاية الإيضاح لما يتعلق من القول بها. ومما يحتج به من قال إن القصر ليس بفرض. أن المفهوم من الشريعة أن القصر إنما شرع لتخفيف كلف السفر. ولهذا اعتبر فيه مبلغ سياق. وإن كان فهم ذلك عن الشريعة فيما يكاد أن يلحق بالنصوص كان التخفيف موكولًا إلى رأى المخفف عنه. لأن التخفيف والمسامحة والتسهيل كمناقض العزيمة والختم. وهكذا جرى الأمر في رخص الشريعة من فطر ومسح على الخفين وغير ذلك. وأيضًا فإن أصل الوقت يقتضي أربعًا والسفر سبب القصر. وقد وجه لا على معنى أنه الأولى. ألا تري أن المسافر يلزمه أربع إذا اقتدي بالمقيم. ولو كان ارتفع حكم الأربع لما لزم الإتمام. فإذا وقع كان السفر سببًا واحدًا يقتضي القصر لا على رفع حكم الأصل، وجب أن لا يكون القصر فرضًا (¬2). وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: كان يقصر في السفر ويتم (¬3) قال أنس كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمنا من يقصر ومنا من يتم فلا يعيب بعضنا على بعض. قال ابن جريج قلت لعطاء أي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم الصلاة في السفر؟ (¬4) فقال: عائشة وسعد ابن أبي وقاص. ولو كان الإتمام غير جائز لما خفي عن هذين وعن غيرهما كحذيفة والمسور وعبد الرحمن بن يغوث. ولا يحسن أن يتأول أنه عليه الصلاة والسلام كان يقصر ويتم على قصر ¬

_ (¬1) بما في كتب التفسير -و-. (¬2) أن يكون القصر فرضًا -و-. (¬3) قال ابن القيم لا يصح ونقل عن شيخه ابن تيمية أنه كان يقول أنه كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث أخرجه الدارقطني في السنن ج 2 ص 189. وقال عنه إسناده صحيح. قال الحافظ ابن حجر وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة وذكر ابن حجر في بلوغ المرام رواه ثقات إلا أنه معلول. الهداية ج 3 ص 316/ 317. (¬4) الدر المنثور ج 2 ص 210.

الوصف، لأن الأظهر في هذا التأويل لخلاف هذا التأويل. هذا جملة ما يتعلق بما قدمناه من الخلاف في كون القصر فرضًا أو ليس بفرض وما قدمناه من اختلاف عبارة من لم يره بأنه سنّة، وأفضل من الإتمام، وما حكيناه من التخيير مطلقًا مأخوذ توجيهه مما قدمناه. فقدم يتأكد فضل القصر عندهم على الإتمام تكدًا يعد به من باب السنن فيعبرون عنه بأنه سنّة. وقوم لا يبلغ هذا المبلغ عندهم فيعبرون عنه بأنه أفضل. والنظر فيما قدمناه من الادلة يُستلوح منه سبب اختلاف هذه الطرق أيضًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما صلاة المسافر خلف المقيم فلا يخلو القول فيها أما أن يُبنى جملى أن القصر فرض أو على أنه سنة. فإن بنينا على القول بأنه فرض فقد اضطربت طريقة المتأخرين. فذهب بعضهم إلى منع ائتمام المسافر بالمقيم وأن الصلاة لا تجزي وتعاد أبدًا وإلى هذه الطريقة أشار أبو محمَّد عبد الوهاب في غير كتابه هذا فقال: لو كان فرض المسافر القصر لما جاز له الإتمام. كما أن الحاضر لما كان فرضه الإتمام لم يجز له القصر خلف المسافر. وقال بعضهم لا يمتنع أن يكون القصر فرضًا فإذا ائتم المسافر بمقيم انتقل فرضه لفرض المقيم كالعبد والمرأة فرضهما أربعٌ، فإذا صليا الجمعة خلف الإِمام صار ذلك فرضهما. وانفصل الأبهري عن هذا بان العبد والمرأة دخلا في الخطاب بالجمعة وعذرا بالتخلف لاشتغالهما بخدمة السيد (¬1) والزوج. وكون المرأة عورة فصارت كالمريض والمسافر المخاطبين في الأصل المعذورين بما طرأ عليهما. وإن بنينا على القول بأنه سنة، وقع الترجيح بين فضيلة القصر وفضيلة الجِماعة فايهما أولى كان بالتقدمة أحق. وهذا مما اضطرب المذهب فيه هل الجماعة أفضل للاتفاق على فضلها على الجملة والاختلاف في تفضيل القصر وما اتفق عليه أولى مما اختلف فيه. أو يقدم القصر لأن الجماعة متى أن إلى تغيير عدد الصلاة كان تركها أولى؟ ألا ترى أن من عليه الجمعة لا يجوز أن يأْتَئَّم بمن يصلي الظهر أربعًا. وقد يُشْكل طريق الترجيح فيعتضد الفقيه بزيادة أوصاف فيرجح جانبًا على جانب. هذا هو الأصل الذي تدور عليه ¬

_ (¬1) السيد = ساقطة -و-.

الروايات التي نوردها. قال ابن الحارث اتفقوا على أن من دخل في صلاة المقيم في المساجد الثلاثة العظام أو في جوامع الأمصار ومع الإِمام أكبر أنه يتم ولا تجب عليه إعادة. واختلفوا فيما سوى ذلك فروى (¬1) ابن القاسم وابن الماجشون تقدمة القصر فإن ائتم بمقيم أعاد عند ابن الماجشون في الوقت ولم يعد عند ابن القاسم. وروى ابن شعبان في مختصره لا بأس بصلاة المسافر خلف المقيم لفضله وسِنه وفهمه. وقال مالك في المستخرجة إن قدموا المقيم لسنه وفضله أو لأنه صاحب المنزل فليصلوا بصلاته صلاة مقيم. وقال مالك أيضًا صلاة المسافر وحده أو مع أصحابه خير له (¬2) من صلاته مع المقيمين إلا في المساجد الجامعة التي يرجى فضلها، أو ينزل المسافر بالرجل في منزله فلا أرى بأسًا أن يصلي في منزله؛ لأن الرجل أحق بالإمامة في منزله. فأنت ترى كيف أشار ابن الحارث إلى الاتفاق على أن فضيلة القصر لا ترجح على فضيلة الجماعة إذا كثرت الجماعة الكثرة التي أشار إليها. وهذا كنحو ما ذكره ابن حبيب من أن فضل الجماعة يختلف. وأنه كلما كثرت الجماعة كان أكثر أجرًا. وكذلك أيضًا ما أشار إليه من أن الإِمام الأكبر إنما خصّ بذلك لأن الإِمام الأكبر ومن في معناه من الأمراء تلزم طاعتهم، والإجماع عليهم. والانفراد بالصلاة دونهم إظهار الخلاف عليهم فالصلاة خلفهم أفضل من الإنفراد. وكذلك أيضًا ما ذكرناه من تخير صاحب المنزل، والأفضل الأسن، إنما ذلك لاستحقاق صاحب المنزل وفضيلة الصلاة خلف الأفضل والأسن. وهذا كله يشعر بأن فضيلته ترجحت على الجماعة حتى غلب (¬3) بجواز الخروج منه أحد الأعذار المذكررة. وحكى بعض الأشياخ أن الظاهر من قول مالك تقدم فضيلة الجماعة. وأورد ذلك مطلقًا. وإذا ائتم المسافر بالمقيم على الصفة التي أشرنا إلى النهي عنها فقد ذكرنا ما حكاه ابن الحارث من اختلاف ابن القاسم وابن الماجشون في الإعادة. وروى مطرّف عن مالك أنه كره للمسافر أن يدخل في صلاة المقيم ورأى أن صلاته وحده خير له. فإن دخل معه فلا إعادة عليه. وقال مالك أيضًا في ¬

_ (¬1) فرأي -و-. (¬2) له = ساقطة -و-. (¬3) طلب - قل.

رواية ابن الماجشون وأشهب لا يصلي خلف المقيم فإن كان في مسجد فإن فعل أعاد في الوقت. إلا أن يكون بمسجد الحرمين أو مساجد الأمصار الكبار. فمن نفى الإعادة فلخفَّة الكراهة ومن أثبتها في الوقت فليأتي بالصلاة على أكمل فضيلة. وقد قيل لسحنون أن عبد الملك روى عن مالك في المسافر يدخل خلف المقيم أنه يعبد فقال ما سمعت خلقًا قال هذا. وهذا خلاف المسائل وإبطال (¬1). وهذا الذي استبعده سحنون لا معنى لاستبعاده. لأن إعادة الصلاة في الوقت لتقع على الوجه الأكمل طريقة مشهورة. وقد- ذكرنا اضطراب المتأخرين في البناء على أن القصر فرض. وذلك يُحسّن الإعادْة. وقد وقع في بعض نسخ التفريع لابن الجلاب في مسافر ائتم بحضري أنه يتم معه أربعًا ثم يعيد في الوقت وبعده. وكأنه رأى أن مقتضى القول بان القصر ليس بفرض يدعو إلى إتمام الصلاة. والقول بأنه فرض يمنع من الاعتداد بها، ويوجب إعادتها أبدًا. فإذا كان هذا قد أعادها أبدًا فما ظنك بما أنكره سحنون من إعادتها في الوقت؟ وهذا الذي ذكره ابن الجلاب من الإعادة أبدًا يشير إلى صحة إحدى الطريقتين من أن المصمم على أن القصر فرض يمنع من ائتمام المسافر بالمقيم ويوجب الإعادة أبدًا. ولما كان ابن الجلاب لم يصمم في هذا الذي نقلناه عنه، جمع بين المذهبين. وإن كان في قبالة هذا أن أبا حنيفة ممن يرى القصر فرضًا وهو يرى الائتمام خلف المقيم. يستظهر بهذا من قال من أصحابنا من الإتمام بناء على أن القصر فرض. وإذا ائتم مسافر بمقيم، على القول بان القصر فرض، وسلكنا طريقة من قال إنه لا يتم فلينو في أول صلاته ركعتين فإذا فرغ مع الإِمام منها فلا يتبعه في الركعتين الأخيرتين بل يسلم أو يجلس حتى يسلّم بسلامه على ما مضى من القول فيه في حكم انتظار المأموم في مثل هذا فيما تقدم من كتابنا. وقد اختلف قول أشهب وقول سحنون أيضًا في رجلين ذكرا صلاة واحدة من يوم واحد إلا أن أحدهم سفري فائتم السفري بالحضري هل يثبت السفري حتى يتم الحضري ويسلم بسلامه أو يتم معه؟ فقدلهما بالجلوس على اتّباعه وانتظاره لسلامه تصريح بان البناء على القول بان القصر فرض يقتضي أن لا يكمّل الصلاة ¬

_ (¬1) هو كثير في نسخة. وعدم وضوح في قل.

خلف المقيم كإحدى طريقتي المتأخرين. لأنهما إذا قالا ذلك في صلاة سفرية فات وقتها، مع اختلاف الناس فيها، هل تقضى تامة سواء ذكرها في حضر أو سفر، فأحرى أن يقولا ذلك في صلاة لم يفت وقتها. وأما قولهما بالإتمام فتردد بين الثلاثة طرق: أحدها البناء على أن القصر ليس بفرض. والثاني على أنه فرض ولكن يتعين الفرض بالاقتداء. والثالث وهو أبعدها أن يكونا رأيًا أن ما يقضيه المسافر لما اختلف الناس في إتمامه خفّ اتباعُ الإِمام في الإتمام، بخلاف ما حضر وقته من صلاة المسافر. وإذا قلنا بان المسافر يُتِم خلف المقيم فإنما يكون ذلك إذا أدرك ركعة فأكثر. فاما إن أدرك أقل من ركعة فإنه يكمل على إحرامه صلاة سفر. وقال أبو حنيفة والشافعي يتم وإن لم يدرك مع الإِمام إلا التشهد. فاما نحن فنحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (¬1). دليل هذا الخطاب أنه لا يكون مدركًا بأقل من ركعة قياسًا على صلاة الجمعة فإنها لا تدرك بأقل من ركعة عندنا وعند الشافعي دون أبي حنيفة وقد فرقت الشافعية بين الجمعة وبين ما نحن فيه بأن مدرك بعض الجمعة يتقل إلى عدد أقل لأن الظهر أربع والجمعة ركعتان. فلم يتقل إلى الأقل بإدراك ما دون الركعة. والمسافر يتقل من ركعتين إلى أكثر. والانتقال من الأقل إلى أكثر يكون بدون الركعة. وغير بعيد أن يكون التخفيف معلقًا بإدراك ما له قدْر. والزيادة معلقة بما لا قذر له. وأما المخالف فإنه يحتج بأن ابن عباس سئل فقيل له ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الإنفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال تلك السنّة. ولم يقيد ما قال بإدراك ركعة. وبأنه عليه الصلاة والسلام قال: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" (¬2). وبقوله: "وما فاتكم فاقضوا" (¬3). وأجيب عن هذا بأن الائتمام إنما يكون مع الإِمام. ومسألتنا إنما تتصور بعد فراغ الإِمام. وكذلك قوله فاقضوا معناه ما وجب، وفي الواجب اختلفنا. وأما خبر ابن عباس ¬

_ (¬1) متفق عليه عن أبي هريرة. فيض القدير ج 6 ص 44. (¬2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة. جامع الأصول ج 5 ص 619. حديث رقم 3882. (¬3) رواه عيينة عارضة الأحوزي ج 2 ص 124.

فالغرض منه السؤال عن تعليل الحكم ببيان ما يكون به مدركًا. واحتجوا أيضًا بأنه قد ألزم نفسه موجب تحريم الإِمام بدخوله معه فلزمه ما التزم. وأجيبوا عن هذا بأنه إنما يكون ملتزمًا إذا أدرك الصلاة ولا يدركها بأقل من ركعة. واحتجوا أيضأ بأنه قد أخذه حكم الإِمام لأن الإِمام لو أحدث متعمدًا لأبطل عليه. وأجاب ابن القصار عن هذا بأن ظاهره لأ يسلمه بل يقول يبني على إحرامه. وهذا حكم المسافر إذا صلّى خلف مقيم وهو عالم أن الإِمام مقيم. وإن صلّى خلف من لا يعرف حاله فإن صلاته مجزية قاله سحنون. وقالت الشافعية يلزم الإتمام وإن قصّر إمامه. وكان سحنونًا رأى أن ليس من شرط صحة الصلاة التعرض لعدد ركعاتها ها هنا. وأجاز (¬1) اعتقاد مطابقة الإِمام في نيته (¬2) على الجملة لا يعلم (¬3) تفصيلها مع اعتقاد الوجوب على الجملة. وهذا كطريقة أشهب فإنه قال في الموازية فيمن صلّى مع الإِمام وهو لا يدري يومه ذلك أيَوْمَ جمعة أم يوم خميس فإنه يجزيه ما صادف من ذلك. فإن دخل على إحداهما فصادف الأخرى فإنه لا يجزئ. فأنت ترى كيف فرّق بين نية الإجمال وبين نية التفصيل إذا أخطأ فيها. وهذا كما وقع في الحج: فإن أبا موسى أحرم وأهل بالتلبية ثم قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة في حجة الوداع فقال - صلى الله عليه وسلم -: بم أهللت؟ فقال له: بما أهل به نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (¬4). فقال: قد أحسنت. وقدم عَليٌّ من سقايته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بم أهللت؟ فقال بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: أهل وآمكث حرامًا. فأنت ترى كيف وقعت نية هذين رضي الله عنهما في الحج محالة على نية النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر ذلك عليهما مع كون أفعال الحج لا تلزم فيها المتابعة كما تلزم في الصلاة خلف الإِمام. وأما قول الشافعية يلزم الإتمام وإن قصر إمامه، فلعلهم رأوه ل ماجهل حال (¬5) الإِمام ودخل مع الإِمام على الإتمام لأن الأصل ¬

_ (¬1) أجاب -و-. (¬2) بقيته -و-. (¬3) اعلم -و-. (¬4) وراه البخاري ومسلم. فح الباري ج 4 ص 160 - 16 أو إكمال الإكمال ج 3 ص (¬5) فلعلهم أوهموا لما جهل الإِمام -و-.

صلاة الحضر. وإنما ينتقل عنها عند اعتقاد السفر. وهذا لما لم يعتقد لزمه الوفاء بما دخل عليه. ولو صلّى المسافر خلف من اعتقد فيه حالة فظهر له خلافها، فقد إختلف المذهب فقال سحنون إذا ظن أنه مسافر أو أنه مقيم فأخطا في ظنه فإن صلاته لا تجزيه. وقال أشهب بل تجزيه. وسبب هذا الاختلاف مراعاة عدد الركعات في أصل عقد النية وسنتكلم عليه. وقد قال ابن حبيب في المسافر الظان في مسافر فإذا به مقيم فأتم أنه يعيد في الوقت كمسافر أتم صلاته. وسنتكلم على إتمام المسافر. ولو تبدلت على المسافر *حال الإِمام بان تتغير نية الإِمام* (¬1) أو تفسد صلاته، فإن كانت نية الإِمام تغيرت بأن يكون نوى الإقامة في أثناء صلاته فإنه لا يتم بالمسافرين الذين خلفه الصلاة. لأن صلاته قد انتقضت. واختلف هل يسري انتقاضه إلى من خلفه فيبطل عليهم أم لا يسري ذلك إليهم فيستخلف عليهم؟ اختلف في ذلك قول ابن القاسم، وبالاستخلاف قال مالك. أما الاستخلاف فقياسًا على الحدث. قال ابن القاسم كنت أرى أن يبطل على المأمومين ثم رأيت أن لا يكون أسوأ حالًا من الحدث. وأما نفي الاستخلاف فأنه كالقاطع محمدًا (¬2). قال بعض أصحابنا الحدث بالغلبة، وإحداث النية في المقام تعمدًا وإن كانت نية الإِمام لم تتبدل ولكن فسدت صلاته يحدث غلب عليه (¬3) أو ذكر أنه على غير وضوء فإنه يستخلف، كإمام صلى بمقيمين. وإذا وضح جميع ما قدمناه في حكم ائتمام المسافر فقد قال ابن حبيبَ: صلاة المقيم بإمامة المسافر أيسر من صلاة المسافر بإمامة المقيم بالكراهة (¬4). لأن المسافر إذا صلّى بإمامة المقيم تغيرت صلاته عن سنتها. وإذا ائتم المقيم بالمسافر أتم لنفسه بعد فرك إمامه. وقال ابن حبيب أيضًا: اتفقت الروايات عن مالك أنه إذا ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) كالقاضي قال بعض -و-. (¬3) غلب عليه = ساقطة -و-. (¬4) هكذا في -و- وفي قل.

اجتمع مسافرون ومقيمون أنه يؤم المسافرين مسافر والمقيمين مقيم، ولا مقيم مسافرين إلا أن يكون ذلك في المساجد الجامعة التي تصلي فيها الأئمة يعني الأمراء، فإن الإِمام يصلي بصلاته. فإن أم مقيم أتم معه المسافرون. وإن كان مسافرأ أتم من خلفه من المقيمين. فأنت تراه ها هنا كيف أشار إلى كراهية ائتمام المقيم بالمسافر مع أنه لا يخالفه في الفعل إلا بعد فراغه على ما أشار إليه. ومع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأهل مكة: "أتموا الصلاة فإنا قوم سَفْرٌ" (¬1). لكن استثناءه الصلاة خلف الأمراء يسقط عنه الحجة لصلاة النبي عليه السلام بأهل مكة. ولعله أشار إلى الكراهة فيما سوى ذلك لاختلاف نية الإِمام والمأموم في عدد الركعات. وإذا كان المحاولون للصلاة صنفين: مسافرين وحضريين، فقد قدمنا أن المأمور به انفراد كل *طائفة بإمام يساويها* (¬2) في حكمها. فإن صلّى مسافر بمقيمين فذكر أنه على غير طهارة أو أحدث مغلوبًا فأنه يؤمر أن يستخلف مسافرًا *فإن لم يفعل وقدم مقيمًا فلا يقبل استخلافه ويقدم مسافرًا. فإن جهل وقبل الاستخلاف وأتم صلاة الإِمام، فإن المسافرين يتمون لأنفسهم وقيل يستخلف مسافرًا يتم بهم* (¬3). وقيل بل يثبت المسافرون حتى يسلموا بسلامه بعد فراغه وكذلك المقيمون أيضًا اختلف فيهم هل يتمون أفذاذًا بعد فراغ صلاة إمامهم أو بعد سلام المستخلف؟ وبَسْطُ هذا الاختلاف وتوجيهه قد مضى في باب السهو. وكذلك لو نوى (¬4) الإِمام المسافر الإقامة في أثناء صلاته وخلفه الصنفان فقال عيسى أحب إليّ أن تنتقض عليهم أجمع. وقال في الاستخلاف قال ابن القاسم وإذا استخلف هذا الخارج فلا يضيف إليه ركعة ويجعلها نافلة بمنزلة ما لو كان وحده ولم يدخل معهم وليتم بنية الصلاة وتجزيه. وقد تأول بعض المتأخرين هذا على أنه يريد أن يقطع ما كان فيه ويدخل بإحرام جديد فإذا سلم الإِمام أتم هذا بقية صلاته وتجزيه. وهذا التأويل ¬

_ (¬1) رواه مالك في صلاة المسافر إذا كان إمامًا. الموطأ ص 111. (¬2) طريقة من هؤلاء في حكمها -و-. (¬3) ما بين النجمين = ساقطة -و-. (¬4) نسي -و-.

تعرف حقيقته من كلامنا على حكم تبدل النية في أثناء الصلاة. وقد أشار هذا المتأخر إلى أن وجه قول عيسى: ينتقض عليهم أجمع أنه قد حصل للمسافرين، في هذه الصلاة إمامان مسافر ومقيم. وحكم الصلاة خلف كل واحد منهما يختلف، واتباع حكم أحدهما مخالفة على الآخر. وقد كنا قدمنا نحن خلاف هذا التعليل، وأن التعليل هو كون القطع ها هنا كالتعمد لقطع الصلاة وهو أولى؛ لأنه تعليل يعم من خلفه من الحاضرين (¬1) والمسافرين. وقالت الشافعية إذا نوى الإِمام الإقامة في أثناء الصلاة أتم ولزم من خلفه الإئتمام، (¬2) كما لو ائتموا بمقيم أول الصلاة. وقد اختلف الناس في مسافر صلّى خلف مقيم ففسدت صلاة الإِمام، فقال أبو حنيفة لا يلزم المأموم الإتمام لأنه إنما لزمه حكم الاقتداء فإن زال الاقتداء سقط حكمه كما إذا صلّى الجمعة. وقالت الشافعية الفرق بينهما أن الجمعة لا تقضى. ومسالتنا مما يصح فيها القضاء فيلزم المأموم إتمامها على الوجه الذي دخل عليه. وهكذا قالت الشافعية إذا ائتم مسافر بمقيم ثم أفسد صلاته فإنه يلزمه الإتمام كما لم تفسد صلاته. وقال الثوري يصلي ركعتين. وهذا يعلم حقيقة القول فيه من كلامنا على نية المسافر. والتزامه لما يلتزم من العدد (¬3). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا قلنا إن القصر فرض المسافر فيما ينويه كالحاضر لأن كل واحد فرضه متعين، إما ركعتان أو أربع. ولهذا قال أبو حنيفة لا يفتقر إلى نية القصر لأنه كان يراه فرضًا. وإذا قلنا إن القصر ليس بفرض قيل من شرط جوازه أن ينويه عند عقد الإحرام. قال بعض أشياخي لا يصح أن يلتزم القصر أو الإتمام قبل الشروع في الصلاة ويصح أن يدخل في الصلاة على أنه بالخيار بين القصر والإتمام، وكأنه رأى أن عدد الركعات لا يلزم المصلي أن يعقد في نيته حين الإحرام. وقد أشرنا إلى هذا حين تكلمنا على مسافر، ائتم بإمام لم يعلم هل هو مسافر أو مقيم. ولا شك أن المصلي إذن لم ¬

_ (¬1) الحاضرين = ساقطة -و-. (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب: الإتمام. (¬3) لما يلزم العدد -و-.

يلزمه التعرض لعدد الركعات، حين شروعه في الصلاة، على الخيار. وقالت الشافعية لا يجوز له القصر حتى ينوي القصر عند الأحرام بالصلاة، فيمكن أن يكون قالوا ذلك إيجابًا على المصلي التعرض لعدد الركعات في أصل نيته. ويمكن أن يكون قالوه بناء على أن الأصل في الفروض المستقرة الأربع. وهو صلاة الحاضر. والسفر طار على هذا الأصل أباح الترخص بصلاة ركعتين. فإذا لم يقصد إلا الترخص حين الإحرام خوطب بما هو الأصل المستقر وهو صلاة الحاضر. وهذا التعليل الثاني هو الذي عللوا به (¬1). وقال المُزني منهم لا تختص نية القصر عند الإحرام، وينوي في أثناء الصلاة. وكأنه رأى أن عِدة الركعات لا يلزم التعرض لها حين الإحرام. وإحرامه مطلقًا ليس بالتزام للإتمام. ولو سُلم أنه هو الأصل. هذا حكم نيته وصفة إيقاعها حين شروعه. وأما إذا أوقعها (¬2) على عدد أكثر أو أقل فهل له أن يفعل خلافه؟ الظاهر من مذهبنا أنه ينهي عن ذلك. وقال بعض الناس يجوز له القصر وإن نوى الإتمام (¬3). واحتج بأنه إذا (¬4) خير في العبادات قبل الدخول فيها خير فيها بعد الدخول، كالصوم عند من أباح الإفطار في صوم التطوع بعد الشروع فيه. وأجيب عن هذا بأن حج التطوع لا يخير فيه بعد الشروع فيه بخلاف ما قبل الشروع. فدل على أن ذلك أصل غير مطرد بعد تسليم التخيير في الصوم. وهذا التعليل إلى ي اعتل به لهذا الرجل يوجب جواز الإتمام، وإن دخل بنية القصر. ولو أنه اقتصر على جواز الرجوع إلى القصر بعد نية الإتمام لكان له وجهة في النظر لأن القصر هو الأفضل. فكانه سُومح أن يرجع عن النية المكروهة إلى النية الفاضلة. وإذا قلنا بقول من قال من أصحابنا أن القصر فرض ففي تماديه إلى الأربع نظر، فضلًا عن إجازة تحويل نية القصر. فإن فعل خلاف ما دخل عليه من العدد فإن المذهب اختلف في هذا ¬

_ (¬1) قالوا به -و-. (¬2) إذا وقعنا -و-. (¬3) وإن نوى الإتمام به -و-. (¬4) إذاً = ساقطة -و-.

الأصل في مسائل كثيرة. منها اختلافهم فيمن دخل يوم الجمعة يظنه يوم الخميس أو يوم الخميس يظنه الجمعة. فقال أشهب لا تجزئه الصلاة (¬1). وقال في المدونة إن نوى الجمعة فكان الخميس أجزأ. وإن نوى الخميس فكانت الجمعة لم تجزه. ففي السليمانية تجزيه الصلاة والإعادة أحوط. وقد قدمنا الاختلاف في مسافر ائتم بمن ظنه مقيمًا فإذا به مسافر أو بمن ظنه مسافرًا فإذا به مقيم. وهذا كله جار على الاسلوب الذي قلناه فيمن دخل على عدد ففعل خلافه. وعلى هذا الأصل يجري القول في المسافر إذا فعل خلاف ما دخل عليه ثم المسافر إن أحرم على أربع وفعلها ساهيًا عن السفر أو التقصير فقال ابن المواز يعيد في الوقت. وقد كان ابن القاسم يجيز في هذا سجدتي السهو *حين تبين له واستبصر فرجع عن ذلك. وذكر عن ابن حبيب عن مالك إذا أتم المسافر ناسيًا أنه يسجد للسهو. وقال ابن حبيب على الساهي سجود السهو* (¬2) إلا على قول ابن الماجشون الذي يقول إذا كثر السهو أعاد. وقال سحنون إن كان ناسيًا لسفره فإنما عليه الإعادة في الوقت وهو كالعامد والجاهل. فإن كان ذاكرًا لسفره (¬3) فصلى أربعًا ناسيأوهو يظن أنها ركعتان أعاد أبدًا، لكثرة السهو. وذكر ابن نافع اختلاف قول مالك في المسافر إذا أتم ساهياَ هل يعيد في الوقت أو يسجد لسهوه. وقال ابن المواز الذي رجع إليه ابن القاسم أنه يعيد في الوقت عامدًا أو جاهلًا أو ناسيًا. وقال ابن المواز إذا عقد إحرامه على أربع فليعد في الوقت ساهيًا أو عامدًا. وإن عقد على ركعتين فأكمل أربعاً فإنه يسجد للسهو ويعيد أبدًا *في العمد. وقال سحنون يعيد أبدًا لكثرة السهو. قال ابن المواز ليس كسهو مجتمع عليه. فأما الإعادة في الوقت مع نية الأربع* (¬4) وفعلها فليأت بالصلاة على ما هو أكمل. وأما اختلافهم في إبطال هذه الصلاة لكثرة السهو فقد قدمنا في باب السهو حكم السهو إذا كثر والاختلاف فيه. ولكن هذا السهو ها هنا لما كان مختلفًا فيه وفي إباحة زيادته انخفضت رتبته عن السهو المجتمع عليه كما أشار إليه ابن ¬

_ (¬1) الصلاة = ساقطة -و-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط من -و-. (¬3) لسفره ساقط -و-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط من -و-.

المواز. وكان سحنونًا لم يعرج على هذا الاختلاف وأجراه على حكم كثرة السهو المجمع عليه. وقد يحتج لجواز التنقل عن العدد الذي دخل عليه بفطر النبي عليه الصلاة والسلام مخيرًا بين أن يصوم أو يفطر بنية العزم على القضاء في المستقبل. فإن اختار الصوم وتلبس به فإنه كاختيار المسافر القصر وتلبسه به، *أو الإتمام وتلبسه به* (¬1). فإذا انتقل إلى خلاف ما دخل عليه صحت صلاته قياسأ على إفطاره - صلى الله عليه وسلم - بعد أن تلبس بالصوم. فكانه أشار إلى أن المخيَّر في العبادة له التخيير في انتهائها كما في ابتدائها. وقد أجاز مطرت من أصحابنا للصائم رمضان في السفر أن يُفطر بعد تلبسه بالصوم. واحتج بهذا الحديث وإن كان مالك (¬2) قد منعه من الفطر. وقيل إن إفطار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الناس أصابهم العطش وأبوا أن يفطروا حتى رأوه - صلى الله عليه وسلم - أفطر. وهو يفطر في تبدل نية المسافر من (¬3) وجه آخر وهو ما كنا قدمنا الإشارة إليه من كون (¬4) الركعتين في حكم النافلة كان للمسافر تركها إلى غير بدل من غير ماثم يلحقه. وإذا كان في معنى النافلة افتتح الصلاة على أربع كمفترض بركعتين ومتنفل بركعتين، والتنفل لا يلزم بالنية حتى يقارنها شروع في الفعل فينظر (¬5) في الزكعتين الأخيرتين لما كانتا متصلتين بالأوليين. هل يقال إن الشروع في أول الصلاة كالشروع في آخرها كما نوى ركعتين نافلة وأحرم بهما فإن الشروع في الأولى شروع في الآخرة أو يقال إن الركعتين الأخيرتين لما اختلف حكمهما مع الأوليين لم يكن الشروع في أول الصلاة شروعًا فيهما. وصار ذلك كمن نوى التطوع بصلاة وبحج (¬6) فإن الشروع في إحدى العبادتين لا يكون شروعًا في الأخرى لاختلافهما جنسًا. وكذلك الركعتان الآخرتان لاختلافهما مع الأوليين حكمًا. هذا مما ينظر فيه على هذه ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط من -و-. (¬2) وإن كان لمالك منعه -و-. (¬3) وقد ينظر في تبدل المسافرين وجه -و-. (¬4) حكم -و-. (¬5) ينظر -و-. (¬6) نوى التطوع والحج -و-.

الطريقة. فإن قلنا ليستا بمعنى النافلة بل هما واجبتان كوجوب الأولى إلا أن يختار المكلف سقوط الوجوب. ومنهم من لم يختر سقوط الوجوب نفيًا (¬1) على الأصل، فلا شك ها هنا في المصلي إذا نوى الأربع لم يكن له التنفل لأنه لما شرع في الوجوب لزمه على حسب ما شرع فيه. وكذلك أيضًا ما حكيناه من كون المسافر إذا صلى أربعًا يعيد في الوقت وإن كان عامدًا، ينبغي أن ينظر في تعمده لذلك. فإن كان قصد إليه لاعتقاده التخيير أو أن الإتمام (¬2) أفضل لاجتهاده أو تقليده في ذلك من يسوغ تقليده فإنه لا معنى للإعادة ها هنا. أما المجتهد فإنا لو أمرناه ما أطاع، لأن الأمر له مثله. وأما العامي فإنا نبيح له تقليد من قلده، لكنه لو فعل ذلك جهلًا بحكم صلاة المسافر لحسُن أن يقال بالإعادة في الوقت على القول بأن القصر سنة. وأما على القول بأنه فرض أو أنه غير فقد أشرنا إلى ترديد القول في ذلك فيما تقدم ونبهنا على ما يجب أن يكون مقتضى المذهبين. وإذا قلنا بالإعادة في الوقت فهل يكون الوقت وقت الاختيار أو وقت الضرورة؟ قال الأبياني وقته وقت الصلاة المفروضة. وقال أبو محمَّد في صلاة النهار وقت النهار كله. وقد قدمنا سبب الاختلاف في مثل هذا في مواضع. وذلك أن إيقاع الصلاة في الوقت الضروري إيقاع فيه نقص وإيقاعها في السفر أربعاً إيقاع فيه نقص فأي النقصين أولى أن يعتبر؟ هذا هو موضع الاختلاف. ومما يجري على ما قدمنا فيمن نوى شيئًا فاحب أن يفعل خلافه كمسافر صلّى بمسافرين فقام من اثنين فسبحوا به فتمادى وجهل، فإن الإِمام يعيد في الوقت. واختلف في المأمومين ففي المدونة. أنهم يقعدون فإذا سلم الإِمام سلموا بسلامه وتجزيهم صلاتهم. وروي عن مالك أيضًا أنهم يسلمون وينصرفون. ولمالك أيضًا أنهم يصلون معه ويعيدون. فأمرهم بالتمادي معه. وظاهر أمرهم أنهم أحرموا على ركعتين. وقال سحنون إن أتم ناسيًا لسفره أو لإقصاره أو متأولًا فإنه يعيد هو ومن اتبعه في الوقت ويعيد من لم يتبعه أبدًا. ألا ترى أنهم لو سبحوا به حين قام من الركعتين فرجع إليهم وسلم لكانت عليهم ¬

_ (¬1) يقينًا -و-. (¬2) الائتمام -و-.

الإعادة أبدًا لأن صلاته على أول نيته. وأما إن أحرم على اثنتين فتمادى سهوًا فليسبحوا به إلى وقت لو سبح (¬1) وسلم لأجزاته. فإن زاد سلموا أو قدموا من يسلم بهم وصاروا كإمام أحدث بغلبة. قال ابن عبدوس يسبحون به إلى أن يرفع رأسه من الركعة فحينئذ يبطل على نفسه ويخرج القوم من إمامته. وإن كان في القوم مقيمون أتموا لأنفسهم. فأما اختلاف قول مالك فيهم فهل يسلمون الآن أو ينتظرونه حتى يسلموا بسلامه؟ .. (¬2). اختلف قول مالك في ائتمام المأمومين فإن قلنا بصحة ذلك إتبعوه وإن قلنا بمنعه لم يتبعوه. فإنما اختلف قول مالك فيهم هل يسلمون الآن أو ينتظرونه حتى يسلموا بسلامه، لأن النظر في تعديه وزيادته هل يكون بها كمفسد الصلاة فينعزل بذلك عنه ويسلمون دونه أو لا يكون كالمفسد فلا ينعزل عن السلام الذي يؤمرون به كما يؤمر به الإِمام. وأما قول سحنون بإعادته وإعادة من اتبعه في الوقت إذا كان متأولًا أو ناسيًا لسفره. فبناء على ما تقدم من توجيهنا إعادة المسافر في الوقت إذا أتم. وأما إعادة من لم يتبعه أبدًا فلأجل أنه قدرهم كالخارج على الائتمام بإمامته متعمدًا. فأما قوله فيه إذا كان زاد الركعتين سهوًا فإنه يعيد أبدًا، فقد قدمنا نقل ذلك عنه. وأشرنا إلى أنه يرى أن كثرة السهو يبطل الصلاة، وإن كان مختلفًا فيه. وإذا كان هذا هكذا فما (¬3) قاله من أن القوم لا يتبعونه صحيح. ولكن لا ينعزل حتى يصير إلى حالة تبطل بها صلاته فيعزل حينئذ. وأما تحديد ابن عبدوس ذلك برفع رأسه من الثالثة فبناء على أن صلاة المسافر ركعتان. وأن زيادة ركعة (¬4) هي نصف صلاته تبطل الصلاة على طريقة من قال أن زيادة نصف الصلاة سهوًا يبطل الصلاة. ومما يجري على هذا الأصل أيضًا مسافر أمّ بمقيمين وأتم بهم الصلاة، فإن المذهب اختلف فيه لما كان من حقهم أن يتموا أفذاذًا فأتموا بإمامة المسافر. فروى ابن زياد أن المأمومين تجزيهم صلاتهم. وقال ابن المواز: إذا ¬

_ (¬1) لو أثبته وسلم أجزته =قل=. (¬2) هو في -و- بمقدار أكثر من سطر. ونقص في - قل. (¬3) كما -و-. (¬4) ركعة = ساقطة -و-.

صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فأتم بهم فليعد الإِمام والمسافرون في الوقت *واختلف في الحضريين فقيل لا يعيدون أيضًا إلا في الوقت. وقال ابن القاسم يعيدون في الوقت* (¬1) وبعده. وقال ابن المواز: من أجل أن الركعتين اللتين كان ينبغي أن يصلوهما أفذاذًا صلوهما بإمام. ولابن كنانة في غير الموازية أن الإِمام يسجد سجدتي السهو ولا شيء على المأمومين. قال سحنون أصل هذه المسألة صلاة عمرو رضي الله عنه بالقوم جنباً فأجزأتهم الصلاة ولم تجزه. وحمل ابن عبدوس كلام سحنون على أن الإِمام ابتدأ الصلاة ناويًا الإكمال ناسيًا لسفره. قال وأما لو ابتدأها وهو عالم أو جاهل فإنها لا تجزيه ولا تجزيهم. ألا ترى أن الجنب لو تعمد لأبطل على من خلفه. قال وليس الجنب هكذا. لأن الجنب ابتدأ الصلاة وهو ينوي أن يأتي بها بكمالها. فأتى بها على ما نوى. وهذا المسافر صلى ركعتين سهوًا فلا يعتد بهما أحد. كالأمام يصلي خامسة فلا يعتد بها من فاتته الركعة الأولى. وهذا الذي وقع في هذه المسألة من الاضطراب مأخوذ توجيهه مما قدمناه فيما سلف من هذا الكتاب في كلامنا على من وجب عليه أن يصلي فذا فصقى بإمام. وقد مضى فيه كلام مقنع، ومما أشرنا إليه ها هنا من أحكام الزيادة إذا كانت مختلفًا فيها هل تكون كالمتفق عليها. وقول ابن كنانة بالسجود للسهو ينبني على هذا كما قدمنا الإشارة إليه وفصلنا القول فيه. فمن تأمل ما أحلناه عليه علم وجه ما قيل في هذه المسألة. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويستمر المسافر على القصر وإن عرضت له إقامة ما لم يبلغ بعزيمته أربعة أيام بلياليهن فإن (¬2) بلغته أتم. قال الفقيه الإمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن هذا القدر من الإقامة يبطل حكم السفر؟. 2 - وهل يحل غير هذا المقدار محله في قطع حكم السفر؟. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) فإذا -غ-.

3 - وما حكم الشك في الأسباب القاطعة لحكم السفر؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في هذه المسألة على أربعة عشر قولًا، فقالت عائشة رضي الله عنها: إذا وضع المسافر رحله سواء كان في البلد أو خارجًا مثله. وقال الحسن البصري: إذا دخل المسافر البلد أتم. وقال ربيعة: إذا عزم على إقامة يوم وليلة أتم. وعن ابن المسيب أربع روايات إحداها: إذا وطن نفسه على (¬1) أكثر من ثلاثة أتم. والرواية الثانية: إذا أقام ثلاثة أتم. *والرواية الرابعة: إن نوى إقامة خمسة عشر يومًا أتم* (¬2). والرواية الثالثة: إذا نوى إقامة أربعة أتم. وبه قال عمر وعثمان رضي الله عنهما ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال ابن حنبل: إن نوى إقامة مدة يفعل فيها أكثر من عشرين صلاة أتم. وهذا كنحو التحديد *بأربعة أيام* (¬3). وقال ابن المواز وسحنون من أصحابنا: إن نوى إقامة يصلي فيها عشرين صلاة أتم. *وروي عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما: إن نوى إقامة عشرة أيام أتم* (¬4) وعن ابن عمر رضي الله عنه ثلاث روايات يروي عنه إن نوى إقامة ثلاثة إثني عشر يومًا أتم وبه قال الأوزاعي - والرواية الثانية إن نوى إقامة ثلاثة عشر يومًا أتم. والرواية الثالثة (¬5) إن نوى إقامة خمسة عشر يومًا أتم. وروى ذلك عن عمر رضي الله عنه، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة. وهي الرواية الرابعة عن ابن المسيب وبها قال المزني. وقال ابن جبير إن نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يومًا أتم. وبه قال الليث. وروي عن ابن عباس إن نوى إقامة تسعة عشر يومًا أتم. وبه قال إسحاق. فأما التحديد بأربعة أيام فوجهه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يقيم المهاجر بمكة بعد ¬

_ (¬1) على = ساقطة -و-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و- وقدم الرواية الرابعة على الثالثة ليتأتى له أن يصله بقوله وبه قال الثوري وأبو حنيفة وهي الرواية الرابعة عن ابن المسيب. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬5) ما بين النجمين- ساقط -و-.

قضاء نسكه ثلاثاً (¬1). وقد كان المسلمون، لما هاجروا من مكة إلى المدينة حرم عليهم المقام بمكة لأنها دار شرك فلما صارت دار إسلام حرموا على أنفسهم المقام بها فأذن لهم - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أيام. فأشعر ذلك بكونها في حكم السفر. وأن ما زاد في حكم الإقامة، وجعل عمر رضي الله عنه لأهل الذمة لما أجلاهم من الحجاز إذا قدموا أن يقيموا ثلاثاً فدل على أن ما زاد على الثلاث في حكم الإقامة. وقد جعل الله الثلاثة قريبًا. قال {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} (¬2) فعقروها فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (¬3). وأما دخوله - صلى الله عليه وسلم - مكة صبيحة يوم الأحد الرابع من ذي الحجة وقد كان صلى الصبح قبل دخوله. فأقام بها بقية الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح بها في اليوم الثامن ثم خرج إلى مني وكان يقصر في هذه الأيام. وهذه المدة يصلى فيها عشرون صلاة (¬4)، فإنه دخل بعد أن أصبح. وإذا مضى بعض النهار لم يحتسب به. وسيأتي ذكره علَى أنه لم ينقل أنه نوى إقامة هذا المقدار ونحن إنما نجعل الأربعة مؤثرة من حق من عزم على إقامتها. ومن حد من أصحابنا بالعشرين صلاة. فهذا الحديث حجة عليه، إلا أن يتأول أنه لم ينو إقامة هذا المقدار حين دخوله. فإن تأول ذلك منع نفسه بأن يتعلق بهذا الحديث وطولب في تحديد العشرين صلاة بدليل آخر ولا يجد سوى ما قدمناه من الدلالة على اعتبار أربعة أيام. فلما كان المسافر لا بد له من إقامة تتخلل سفره سقط اعتداد قليل الإقامة وافتقر إلى حد فاصل بين القليل منها والكثير، فكان التحديد بالثلاث أولى لما قدمناه من الأدلة. وأما أبو حنيفة فانه رأى أن تحديد القليل بما دون الخمسة عشر إذ الأغلب أنه لا يقيم الخمسة عشر يومًا وهو عازم على السفر. ويحتج أبو حنيفة أيضًا بقول ابن عباس وابن عمر: إذا قدمت بلدًا وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يومًا فأكمل الصلاة. والظاهر أنهما لا يقولان ذلك إلا عن توقيف. وأجيب عن هذا بأن عثمان رضي الله عنه قال: من أجمع على إقامة أربعة ¬

_ (¬1) رواه مسلم بسنده إلى العلاء بن الحضرمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا. إكمال الأكمال ج 3 ص 448. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 64. (¬3) سورة هود، الآية: 65. (¬4) مرتبط بقوله وأما دخوله.

أيام أتم، وعثمان من الأئمة الراشدين. وقد خالف ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فيما قالاه. وقد خرج البخاري عن ابن عباس أنه قال: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر. فنحن إذا سافرنا تسعة عشر نقصر، وإن زدنا أَتْمَمْنا (¬1). وخرج عن أنس أنه قال: قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجع. قيل له أقمتم بمكة شيئًا؟ فقال: أقمنا عشرًا (¬2). وهذا الذي خرجه البخاري لم يذكر في هاتين المرتين (¬3) أنه نوى الإقامة فلا حجة فيه. وكذلك ححديث عمران بن الحصين أنه أقام بمكة عام الفتح ثمانية عشر يومًا يقصر (¬4) فليس فيه أيضًا أنه نوى الإقامة. وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬5). فعلق القصر بالضرب في الأرض. فإذا لم يوجد بقي على الأصل المستقر الذي هو الإتمام. وهذا قد يتعلق به من راعى حط رحله. أو دخول المدينة. ولما كان المسافر حكمه (¬6) القصر، فقد يتعلق باستصحاب هذه الحال من قال بأعلى هذه التحديدات، ويقول لا ينقله عن الحال الذي هو عليها من القصر إلا بدليل، وما زاد على أعلى المبالغ فقد قام دليل الاتفاق على الإتمام فيه. وعلى كثرة هذا الاختلاف الذي حكيناه فقد قال ابن القاسم إن نوى المسافر إقامة أربعة أيام ثم قصر أعاد أبدًا. وابن القاسم ربما يراعي من الخلاف ما هو أشد من هذا. وها هنا لم يعرج على هذا الاختلاف مع كثرته. ورأى أن ما زاد على أربعة أيام لم يتضح سقوط اعتباره على غموض الدليل الذي لأجله حددنا بأربعة أيام. وإذا ثبت من مذهبنا مراعاة أربعة أيام، فإذا دخل المسافر وقد مضى بعض النهار فهل يحتسب بأربعة أيام كوامل سوى يوم دخوله أم لا؟ أما القائلون من ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ولفظه: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر فنحن إذا مافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا. البخاري ج 3 ص 53. (¬2) رواه البخاري ج 3 ص 53. (¬3) المدتين -و-. (¬4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والطبراني وأبو شيبة وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف وحسنه الترمذي لشواهد. بلوغ الأماني ج 5 ص 112. (¬5) سورة النساه، الآية: 101. (¬6) في -و- حكمه حكم القصر.

أصحابنا بمراعاة عشرين صلاة فلا معنى عندهم لهذا السؤال. وأما القائلون بمراعاة الأيام فانهم اختلفوا في ذلك. فقال ابن القاسم لا يعتد بالنهار الذي دخل فيه إلا أن يدخل من أوله. وقال ابن نافع في كتاب ابن سحنون ينظر إلى مثل ذلك الوقت من النهار الرابع. وهذا أصل مختلف فيه في العُدد والأيمان وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. ومذهب الشافعي مراعاة أربعة أيام كوامل غير معتد فيها بيوم الدخول ويوم الخروج. وإذا كان مراعاة أربعة أيام أصلًا ثابتًا على ما أشار إليه ابن القاسم فيما حكيناه عنه من أن الصلاة المقصورة لا تجزي إذا نوى المسافر مقام أربعة أيام، فالأولى على هذا طريقة ابن نافع. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: ما يوجب الإتمام حلول المسافر بوطنه فقد قال مالك إذا من مسافر بقرية فيها أهله أو ولده فإنه يتم. ولو أقام عندهم صلاة واحدة. وإن لم يكن بها سوى عبيده وجواريه وبقره ولا أهل له بها ولا ولد فإنه يقصرُ. ولو هلك أهله دون ولده فإنما يعتبر أن يكون له مسكن. قال ابن حبيب إن كان له بها أم ولد أو سرية يسكن إليها أتم. ولو مر ببلد ليس بمسكن له فإنه لا يكون مسكنًا بعقد النكاح فيها وإنما يكون مسكنًا *إذا بني بأهله ولزمه السكنى. وإذا ثبت أن الحلول بالوطن يرفع حكم السفر* (¬1) فإنه يمنع حكم اتصاله أيضًا. فلو نوى المسافر أن يدخل في أثناء سفره قرية له فيها أهل فإنه يعتبر ما بينها وبين موضع خروجه هل هو مقدار ما تقصر فيه الصلاة أم لا؟ ويصير ما بعدها من بقية مسافته كأنه حكم سفر آخر يراعى أيضًا مبلغه. *ولو ابتدأ سفره بنية دخول هذه القرية وهي على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فلما حاذاها بدا له في دخولها، فإنه إنما يكون مسافرأ حينئذ، فيعتبر مبلغ بقية مسافته، فإن كان أربعة برد قصر إذا ظعن من مكانه ذلك، ولو كانت مسافة قريبة قصر وإن لم يظعن من مكانه كان في بقية سفره أربعة برد أو أقل، لأن سفره سَفَر قصر، وإنما يخاطب بالإتمام إذا دخل القرية. فإذا لم يدخلها بقي على ما كان عليه من القصر* (¬2) ولو مر بالقرية مارًّا ولم ينزلها لكان ذلك قاطعًا لاتصال سفره، فيعتبر بقية سفره هل فيه أربعة بُرد أم لا؟ وكذلك المسافر إذا نوى مقام أربعة أيام ¬

_ (¬1) ما بين النجمين هو في -و-. (¬2) هو وتقطيع في -و- اعتمدنا قل وفي الكلام غموض.

في بلد ليس به أهل فإنه يجري في الإتمام وقطع الاتصال مجرى ما ذكرناه في النازل بقريته. ولو كان الأهل مع الإنسان في حال سفره، لم يرفع ذلك حكم السفر. قال مالك يقصر النواتية وإن كان معهم الأهل والولد. وقالت الشافعية وعطاء وأيوب: ليس له القصر، ورأوه كالمقيم في بيته (¬1). وإذا خرج المسافر لقصر ثم انثنى راجعًا إلى بيته في حاجته قبل أن يسير ما تقصر فيه الصلاة، فقد اختلف في إتمامه في رجوعه. فقال مالك يتم في رجوعه. وفي الموازية أنه يقصر في رجوعه. فوجه الإتمام أن سيره راجعًا خلاف سيره متوجهًا فلا يضاف أحدهما إلى الآخر. وإذا لم يضف الرجوع إلى السير وجب أن يتم في الرجوع. ألا ترى أن من خرج لسفر مبلغه بريدان ونيته أن يعود من فوره فإنه لا يقصر لأجل أن حركات السير لا تضم إلى حركات الرجوع. ووجه القول بالقصر أن الرجوع ليس بإسقاط لحكم السفر، لأنه إنما رجع لحاجة لا رجوعًا عن السفر. وإذا ثبت حكم السفر ولم يحدث ما يكون رجوعًا عنه بقي على أصل السفر فيكون حكمه القصر. ولو كان رجوعه عن السفر بغير اختياره فقد قال مالك فيمن سافر في البحر أميالًا ثم ردته الريح أنه يتم الصلاة. فهذا حكم صلاة هذا الراجع عن سفره حال رجوعه. وأما حكم صلاته إذا دخل المكان الذي رجع إليه فإنه لا يخلو أن يكون له بها أهل أو لا أهل له بها. فإن كان له بها أهل فإنه يتم لأن موضع القرار والسكنى يرفع حكم السفر. وإن كان لا أهل له بها وكان قبل خروجه منها يقصر فيها، فإنه يقصر الآن في هذا الحلول الثاني بها، لأنه لم يحدث بعد قصره الأول حادث يوجب رجوعه إلى الإتمام. فإن كان يتم بها قبل خروجه عنها فهذا أصل مختلف فيه في المذهب. ففي الموازية فيمن نوى المقام بقرية أربعة أيام فاتم ثم خرج إلى بقية سفره وفيه أربعة برد فلما صار ميلين رجع في حاجة فإنه يقصر في رجوعه وفي دخوله حتى ¬

_ (¬1) فيمن كان مقيمًا في سفينة في أهله وماله يستحب له الإتمام ويجوز له القصر. وقال أحمد والحسن وعطاء. صح - تعليق بهامش -و-.

ينوي مقامًا يوجب الإتمام أو يكون له بها أهل. وهذا الذي أخذ به من اختلاف قول مالك في هذا، وبه أخذ ابن القاسم وأصبغ. وقد قال بعض المتأخرين إنما أشار ابن المواز لاختلاف قول مالك في مسألة من خرج من مكة ليعتمر ثم يعود إليها على ما سنذكره ها هنا. وقال بعض المتأخرين الفاصل في السفر شيئان (¬1) أحدهما مروره على موضع استيطانه. والثاني عزيمة مقام أربعة أيام في غير موضع الاستيطان فإنه فاصل بين الماضي والمستقبل من السفر. قال ابن المواز وهذا الذي أخذ به من اختلاف قول مالك في هذا وبه أخذ ابن القاسم وأصبغ وهذا يقتضي أن حكمه حكم من نوى سفر قصر على أن يقيم في أثنائه أربعة أيام في اختلاف قول مالك. ففهم هذا المتأول من كلام ابن المواز أن مراده الإشارة إلى كون السفر فاصلًا بين الإقامتين. وكلاهما أصل مختلف فيه. وقد كنا قدمنا نحن أن ناوي مقام أربعة أيام كالحال بموطنه (¬2) في كون ذلك قاطعًا لاتصال السفر. وأشاو هذا المتأخر ها هنا إلى تخريج ذلك على الاختلاف الذي ذكرناه عنه. فأما من قال: إن الراجع يقصر في الحلول الثاني بالقرية التي كان يتم بها قبل ذلك، فإنه قدّر أنه لقا خرج بنية ألا يعود إلى المكان صار رافضًا لحكم المقام. وإذا ارتفض حكم المقام قصر في عودته. ومن قال أنه يتم فإنه قدّر أن الرجوع أبطل حكم السفر، وإذا أبطل السفر عاد إلى ما كان عليه في الأصل فيتم في رجوعه وحلوله استصحابًا لما كان عليه بالإتمام. وأما الراجع إلى البلد بحكم الريح ففي المدونة روى ابن زياد عن مالك في الذي يركب البحر فيسير يومًا أو كثر من ذلك فقصز الصلاة فلقيته الريح فردته إلى المكان الذي خرج منه وحبسته فيه أيامًا فإنه يتم الصلاة ما حبسته الريح في المكان الذي خرج منه. وذهب سحنون إلى أنه لا يتم بالموضع. وإن كان يصلي فيه إتمامًا قبل ذلك، إلا أن يكون وطنه، أو ينوي الآن فيه مقام أربعة أيام، فإنه يتئم. واحتج بقول مالك فيمن خرج من مكة ليعتمر ثم يعود. قال بل مسألة المردود بالريح أحق بالقصر لأنه لما ركب البحر فقد رفض سكنى الموضع الذي ركب منه. والذي خرج من مكة كان في نيته الرجوع إليها. فلهذا ¬

_ (¬1) على ضربين - قل. (¬2) بوطنه - قل.

اختلف قول مالك فيها وأجرى مجراه بعض المتأخرين مسألة المردود بالريح على اختلاف قول مالك. وقد ذكرنا عن سحنون أن مسألة المردود بالريح آكد في القصر من المسألة التي خرّج عليها هذا المتأخر الاختلاف. وأشار بعض أشياخي إلى أن المردود بالريح لما كان على شك من أول سفره في رد الريح كان حكمه الإتمام لما لم يصح منه الرفض بالشك (¬1). والرفض إذا لم يصح بقي على الأصل. وهو الإتمام وصار كمن تقدم أصحابه لا يسير إلا بسيرهم. ولما رآه سحنون راجعًا بغير اختياره بل هو مكره على الرجوع أبقاه على حكم القصر، ولم يجعل لرجوعه تاثيرأ لما كان مكرهًا عليه. . المكره لا حكم لفعله. وهذا الذي قاله شيخنا يُلاحظ ما كنا قدمنا؟ عن ابن المواز من قوله: في مسافر يقطع البر ثم البحر أنه إن كان لا يبرح إلا بالريح لم تضم مسافة البرّ إلى مسافة البحر في إكمال مبلغ السفر، ورأى أن الريح لما كانت مشكوكًا في أمرها لم يتحقق السفر مع الشك فيه. ويلاحظ أيضًا قولنا في الجيش ببلد الحرب أنه يقصر ولو عزم على مقام أربعة أيام لأنه لا يملك المقام هناك، وليس على ثقة منه. فجعلوا عدم الثقة ها هنا يرفع الحكم. ومما يجري على هذا الإسلوب مسألة المدونة فيمن أقام بمكة بضعة عشر يومًا فأوطنها ثم خرج يعتمر من الجحفة ويعود إلى مكة فيقيم بها اليوم واليومين. فقال مالك يتم في هذا المقام الثاني بمكة ثم قال: يقصر. فهذا لما كان حكمه الإتمام بمكة في الحلول الأول، وفصل بينه وبين الحلول الثاني سفر قصر اختلف قوله في تلفيقا لحلولين بعضهما إلى بعض. فمرة لقهما ولم يقدر السفر فاصلأ لما وقع بنية العودة، ولم يتضمن رفض الحلول الأول فأتم. ومرة رآه فاصلًا فَقصر. ولم ير ذلك كعودته إلى الوطن لأن الوطن يتم فيه على كل حال، ومكة ها هنا إنما أتم فيها بإقامة ما، ونية لذلك. والوطن لا يفتقر لذلك. وكأنه مرة ألحق الحلول الثاني بالأول ومرة ألحقه بما يليه وهو سفر القصر. ولو اعتمر هذا من موضع لا يَقصر الصلاة لأتم من غير خلاف؛ لأنه لم يحدث ما يقتضي القصر فيستند هذا الحلول الثاني إليه. وإنما تصور هذا الخلاف في هذه ¬

_ (¬1) للشك - قل.

المسألة لخروجه بنية أن يعود. وأما لو خرج بنية أن لا يعود ثم بدا له (¬1) فعاد لجرى حكمه في العودة وفي الحلول الثاني على ما كنا قدمناه فيمن خرج في سفره ثم عاد لحاجة من قريب. وكذلك أيضًا إنما تُصور الخلاف في هذه المسألة في رجوعه بنية إقامة اليومين. وأما لو رجع بنية مقام أربعة أيام بين كل سيرين لا تقصر في أحدهما الصلاة إذا انفرد، فإنه اختلف في تلفيق السير بعضه إلى بعض. فقيل يتم الصلاة في جميع سيره كما يتمها في مقامه الأربعة أيام. لأن هذه الأربعة أيام فاصلة بين ما قبلها من السير وما بعدها، وكل سير بانفراده لا يبلغ مبلغ القصر. وقيل بل يقصر الصلاة في سيره خاصة لأنه لما قصر في مبدإ خروجه جميع السير كله، لم تكن الأربعة أيام فاصلة بين سير وسير. وهذه المسألة كنحو التي فرغنا منها. لأن هذا مقام فصل بين سيرين كما أن مسألة المعتمر من مكة سفر فصل بين مُقامين. وإنما يتصور أيضًا الخلاف في مسألتنا هذه إن كان نوى أن يفصل بين السيرين بمقام أربعة أيام. وأما لو نوى. أن يفصل بينهما بمقام أقل من ذلك لم يختلف في القصر. لأن حكم هذا القدر من المقام أن يقصر فيه. فإذا كان حكمه في نفسه القصر فأحرى ألا يكون مانعًا من قصر غيره، ويقدر مقامه وسيره وكأنه سير كله يقصر في جميع ذلك. وكذلك أيضًا إنما يتصور عندي الخلاف إذا فصل بين السيرين بمقام أربعة أيام وكان ناويًا لذلك في مبد! سفره. وأما لو نوى سفرًا لا يقصر في مثله الصلاة على أن يقيم عند فراغه منه أربعة أيام ثم يعود فحدثت له نية السفر بعد مُقام أربعة أيام فإنه لا يلفق السير الثاني إلى الأول من غير خلاف. واشتراط النية ها هنا في تصور الخلاف كاشتراط النية أيضًا في الخروج إلى العمرة بنية أن يعود. وقد قدمنا أن الخلاف إنما يتصور مع هذه النية. وكذلك أيضًا اشتراطنا ها هنا في تصور الخلاف أن يكون المقام أربعة أيام كاشتراطنا هناك في تصوره أن يكون سفر المعتمر سفر قصر حتى يكون قد فصل في السير (¬2) بين الأول والثاني ما له حكنم غير الأول والثاني. ومما يجري على ¬

_ (¬1) له = ساقطة -و-. (¬2) السؤالين -و-.

هذا الأسلوب أيضًا من قدم مكة ينوي المقام بها وهو يريد الحج وليس بينه وبين والخروج إلى مني إلا أقل من أربعة أيام. فقد اختلف فيه فقال مالك في مختصر ابن شعبان يتم الصلاة بمكة في هذا الحلول الأول. وقال محمَّد ابن مسلمة بل. يقْصُر فيه لأنه إنما قدم مختارًا يريد المقام بعد الرجعة. فهذا أيضًا لمّا حل هذا الحلول لم يكن له حكم الإقامة ولكنه عازم على مقام ثان بعد الخروج عن هذا الحلول الأول. واختلف في ضم الحلول الأول إلى الثاني فمن ضمه إليه أتم الصلاة فيه. ومن لم يضمه إليه، وعدّ الخروج عنه فاصلًا بينه وبين الثاني قصر الصلاة. لأن الحلول الأول لم يجب فيه الإتمام من قبل نفسه لقصوره على الأربعة أيام ولا يكتسب الإتمام من الحلول الثاني للفاصل الذي بينهما. وهذا الفاصل وإن لم يكن سفر أربعة بُرد فإنه ها هنا يُعد فاصلًا بخلاف الخروج للاعتمار من أميال يسيرة بنية العودة إلى مكة، فإنه لا يكون فاصلًا بغير خلاف. لأنه حكمه كحكم المقام. وها هنا لما كان الحلول الأول حكمه القصر ووقع الإشك الذي تلفيقه إلى حلول حكمه (¬1) الإتمام، فصل بينهما الخروج المذكور حسن فيه الخلاف. ومما يلحق بهذا الفصل ما كنا قدمناه من أن المكي يقصرُ بمنى وعرفة وإن لم تكن تلك مسافة قصر. وعللنا ذلك بعلتين: إحداهما أن عمل الحاج لا ينقضي إلا في أكثر من يوم وليلة مع التنقل اللازم فجرى ذلك مجرى السير الدائم مبلغ الأربعة برد. والثانية أن الخارج من مكة إلى عرفة يلزمه الرجوع إلى مكة بالشرع. وهو مقدار سفر القصر فصار كسير لا رجوع فيه. ولا يلزم على هذا التعليل العَرفي (¬2) إذا وقف وتوجه إلى مني فإنه لا يقصر لأن مسافته ليست مسافة قصر والرجوع لا يلزمه. وإذا كان قد روي عن ابن القاسم في العَرَفي (2) والمَنَوي (¬3) يُفيضان، يقصر العَرفي ويُتم المَنَوي إلى منى. ووجهه أن المنوي بعد الإفاضة يرجع إلى وطثه والعَرفي يرجع إلى مكة إلى غير وطنه لإتمام حجه فيقصر. فإذا فرع من مني إلى عرفة لم يقصرُ لانقضاء حجه. وقد قال مالك ¬

_ (¬1) حكم - قل. (¬2) نسبة إلى عرفة. (¬3) نسبة إلى مني.

فيمن قدم للحج فأتم بمكة الصلاة ثم خرج إلى مني قال يقصر بمنى. قيل ففي طريقه قبل أن يصل إلى مني قال: لا أدري. وما ذكرناه من التعليل يقتضي القصر في الطريق. وقد توقف مالك فيها. واختلف قول مالك في المكيين والمَنَويين إذا انصرفوا من مني إلى مكة فادركتهم الصلاة في المحصّب أو تأخروا بمنى لزحام ونحوه فقال يتمون. ثم رجع فقال يقصرون. واختلف فيه قول ابن القاسم أيضًا. قال بعض المتأخرين إنما اختلف القول في هذه المسألة للاختلاف في التحصيب، هل هو مشروع أم لا، فإن قيل إنه مشروع فالحكم الإتمام. وإن قيل أنه غير مشروع فالحكم القصر. وهذا التعليل الذي أشار إليه هذا المتأخر مقصور على صلاة المحصّب. وهو قد ذكر الخلاف في المكي المتأخر بمنى. وكذلك ذكر ابن المواز الاختلاف في المكي المتأخر بمنى تَحْضره الصلاة، أو في طريقه. وذكر الطريق مجملأويلزم على هذا أن يقصر المَنَوي في رجوعه إلى مني من مكة لأنه بقي عليه عمل من أعمال الحج. وإنما ألحقنا هذا الفصل ها هنا لكون رجوع المكي بين حالين مختلفين فإن مكة وطنه يوجب الإتمام ومنى كان فيها على القصر. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: الشك يعرض للمسافر في حقيقة سفره على ضروب: منها أن يبرز (¬1) للسفر وتماديه عليه معلق بسفر غيره. وقَد قدمنا جواب هذا لقسم. وفي الموازية في مسافر لم يبلغ مسافة القصر حتى رد رفيقه إلى الموضع الذي خرج منه، وهو لا يمضي على سفره حتى يرجع إليه رسوله، أنه يقصر. ورأى أنه لما بقي بنفسه فهو على حكم السفر. وإن شك هل يقيم رسوله أربعة أيام أم لا؟ فقد قدمنا حكم رجوعه بنفسه لحاجة. والقسم الثاني أن يشك في مبلغ السفر فإنه لا يقصر استصحابًا لحكم الإتمام. وقد قال مالك فيمن خرج لبيع سلعة وأمامه أسواق بين كل سوقين منها خمسة عشر ميلًا، وكذلك بينه وبين أولها، ففي أي سوق وجد البيع باع، أنه لا يقصر حتى يخرج مجمعًا على بلوغ غاية الإقصار. وكذلك في الموازية إذا خرج ينوي السوق الأقصى على أنه إن وجد البيع دونه باع، أو خرج لطلب آبق على ¬

_ (¬1) ينوي السفر = قبل.

مسيرة أيام على أنه إن وُجد دون ذلك رجع. وقد قدمنا أيضًا الإشارة إلى هذا. والقسم الثالث أن يعرض له شك في قدر الإقامة الرافعة لحكم السفر، فمن ذلك إمام الجيش ينوي الإقامة ببلد الحرب فإنه يقصر عندنا وعند أبي حنيفة ولا يرفع حكم القصر عزيمة مُقام أربعة أيام. قال أصحابنا لأنه لا يملك ذلك ملك الثقة حتى يجاوز الدروب ويصير بمحلة أمن. وعند الشافعي أنه إن أقام على تنجز الحرب فله القصر إلى ثمانية عشر يوماَ فإن زاد على ذلك فقولان: أحدهما منع القصر. والثاني جوازه إلى أن ينقضي الحرب. وإن نوى المقام أربعة أيام ففيه أيضًا قولان. قال في القديم: يقصر. وقال في الجديد: يُتم. وقد روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام في غزوة تبوك عشرين يومًا يقصر (¬1) الصلاة. وقال ابن عباس: "أقام - صلى الله عليه وسلم - لحرب هوازن ثمانية عشر يومًا يقصر الصلاة فمن أقام أكثر من ذلك فليتم الصلامه (¬2). وهذا الذي قاله ابن عباس من هذا الخبر عليه عوّلت الشافعية في التحديد بثمانية عشر يومًا. ويتأولون حديث جابر على أنه حسب يوم الورود ويوم الخروج. فبهذين اليومين كملت عشرين. ومن هذا النوع أيضًا مسافر البحر يحبسه الريح فقال ابن حبيب يقصر أبدًا ما أقام. وقد كنا قدمنا الكلام على هذا وذكرنا ما وقع في المدونة وغيرها. وينبغي عندي للمحبوسين بالريح يتحققون المُقام الطويل بعادة جرت عندهم في الرياح في بعض الأماكن أن يتموا ومن هذا النوع أيضًا أن يشك في قدر المقام لشكه في مقدار الشغل الحابس له فقد قال ابن حبيب: من حبسه في السفر علة دابته، أو ينتظر متاعاَ يُتم عمله، أو حاجة لا يدري متى نهاية ذلك فليقصر حتى يوقن أنه يقيم لذلك أربعة أيام. وبهذا قال أبو حنيفة وإن خالف في مدة الإقامة. وقال بعض الشافعية: ومن دخل بلدًا لينجز حاجة ونوى أنه متى تنجزت حاجته خرت، أو كان مريضًا ينوي أنه متى زال مرضه خرج، فله أن يقصر إلى سبعة ¬

_ (¬1) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وصححه ابن حزم والنووي. بلوغ الأماني، ج 5 ص 158. (¬2) رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمرو بن عثمان الكلامي وهو متروك مجمع الزوائد، ج 2 ص 158.

عشر يومًا أو ثمانية عشر يوماَ في أحد القولين في قول أكثر أصحابه (¬1). ومنهم من قال فيه قولًا آخر أنه يقصر أبدًا. وهذا حكم الشك ولمالك في المجموعة إذا خرج أهل الجشر إلى جشرهم فليتموا الصلاة كالرعاة يتبعون الكلأ لماشيتهم. وهذا الذي قاله محمله على أن شأنهم يسيرون أميالًا يسيرة ثم ينزلون فلا يقيمون إقامة توجب إتمام الصلاة ثم يرحلون فإنهم يقصرون. وإن أقاموا إقامة توجب إتمام الصلاة فإنه يختلف في تلفيق السير بعضه إلى بعض على ما تقدم قوله ها هنا إلى جشرهم. فالخيل المجشورة التي يترك ركوبها وتخرج للرعي. وهذا حكم الشك في إقامة أربعة أيام في بلد أثناء سفره. وأما لو كان البلد الذي دخله هو نهاية سفره ومقصوده حين ابتدأ السفر لأتم الصلاة. لأن غاية سفره قد تم وانقضى. والرجوع إحداث سفر ثان فيكون الحكم للإتمام لانقضاء السفر. قال مالك في المبسوط إلا أن يعلم أن حاجته تنقضي في اليومين أو الثلاثة فإنه يقصر. فإن شك أتم. فكانه رآه مع المقام اليسير على حكم السفر. وإذا شك فظاهر انقضاء السفر يوجب الإتمام فلا يزول عن هذا الظاهر بالشك. والقسم الرابع أن يتحقق إقامة توجب قضاء الصلاة ويشك في محلها. فقد قال مالك فيمن خرج إلى ضيعتين له بينه وبين الأولى منهما ثلاثون ميلًا وبين الأولى والثانية مثل ذلك ونوى إقامة عثرة أيام لا يدري كم يقيم بكل ضيعة أنه يقصر. وكأنه رأى أن السفر، لما كان جملته ستين ميلًا، ووقوع الفصل فيه مشكوك فيه، (¬2) لم يرتفع حكم السفر بفاصل مشكوك فيه. ولو أن هذا نوى مقام القصر في الثانية دون الأولى فإنه لا يختلف في قصره، وإن نواه في الأولى دون الثانية، فإنه يختلف في قصره في السيرين جميعًا على ما كنا قدمنا من ذكر الاختلاف في تلفيق السير بعضه إلى بعض إذا تخلله فاصل الإقامة، ولو وقع في هذه الرواية في تأويل الشيخ أبي محمَّد عليها لفظ فيه إشكال. وحقيقة القول فيه ما قلناه. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا يقصر حتى يفارق بلده ويُخلّفه وراء ¬

_ (¬1) أصحابنا - قل. (¬2) أي وقوع الفصل في السفر.

ظهره وفي عوده حتى ينتهي إلى الموضع الذي بدأ منه. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن يقال: 1 - ما حكم من سافر بعد دخول الوقت؟. 2 - وما حقيقة المكان الذي يصير به الحاضر مسافرًا أو المسافر حاضرًا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال. ابن حبيب من أراد سفرًا فأدركه الوقت في أهله فهو في سعة إن شاء صلاها في أهله صلاة مقيم وإن شاء خرج فقصرها في سفره. ومن أصحاب الشافعي من قال إذا سافر بعد دخول الوقت وقد بقي من وقت الصلاة قدر (¬1) الصلاة لم يكن له القصر. وقال المزني في أحد قوليه يجوز له القصر إلى أن يبقى من الوقت قدر تكبيرة. وقال ابن حنبل والمزني في أحد قوليه: لا يجوز له القصر إذا سافر بعد دخول الوقت. وكأنهما رأيا أن الوجوب معلق بأول الوقت، فيتعلق القصر (¬2) بحالة الوجوب كما لو سافر بعد خروج الوقت. ولنا عليهما أن الصلاة لم تستقر في ذمته تامة فكان له القصر كما لو سافر قبل دخول الوقت. وإنما أتم من سافر بعد خروج الوقت لكون الصلاة استقرت في ذمته تامة (¬3). والجواب عن السؤال الثاني: أن بقال: أما الموضع الذي يصير بالبلوغ إليه الخارج مسافرًا فقد قال (¬4) مالك في المدونة إنما يقصر إذا برز عن بيوت القرية. وفي الموازية يقصر إذا خلف قريته وراء ظهره لا يكون شيء منها عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه، وكذلك البحر. ولمالك في المجموعة في مسافر البحر إذا جاوز البيوت ودفع (¬5) فليقصر. وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه إن خرج من المدن التي يجمع فيها فمبتدأ القصر إذا جاوز بيوت ¬

_ (¬1) قبل -و-. (¬2) فتعلق الحدد -و-. (¬3) تامة: ساقطة -و-. (¬4) فقال -و-. (¬5) ورفع - ورقات.

العصر بثلاثة أميال. وأما إن خرج من قرى لا يجمع فيها فمبتدأه إذا جاوز بساتينها وبيوتها المتصلة بها عن يمينه وشماله، ولا اعتبار لمزارعها. وقالت الشافعية يقصر إذا فارق بنيان البلد. قال قتادة إذا جاوز الجسر أو الخندق. وحُكي عن الحرث بن ربيعة أنه أراد سفرأ فصلّى بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله. وقال عطاء إذا خرج الرجل حاجًا فلم يخرج من بيوت القرية فحضرت الصلاة، فإن شاء قصر وإن شاء أوفى. وقال مجاهد إن (¬1) خرج نهارًا لم يقصر إلى الليل، وإن خرج ليلًا لم يقصر إلى النهار. فأما نحن والشافعية، ومن نحا نحونا فإنا نحتج بأن المعتبر مفارقة موضع الاستيطان. ولا يتحقق مفارقة الاستيطان إلا بما قلناه من مجاوزة البيوت. وكان مجاوزة البيوت علم (¬2) عليه. وقد قال ابن حبيب وإذا جاوز بيوت قريته وانقطع منها انقطاعًا بتنا قصر، كانت مما يجمع أهلها أو لا يجمعون. فأشار إلى ما قلناه من الانقطاع من موضع الاستيطان. فأما الرواية التي راعى فيها ثلاثة أمي الذي بلد الجمع فإنما ذلك لأن هذا المقدار يلزم منه إتيان الجمعة وذلك يشعر بأن حكم ذلك حكم الوطن. وأما مجاهد فلست أعرف لقوله وجهاً إلا أن يكون قذر أن الليل وقت القرار والسكون. والنهار وقت الحركة والتصرف. فإذا خرج المسافر على حالة منها فلا يحصل مسافرًا إلا حتى يحصل على الحالة الأخرى فليلفها (¬3) مخالفة لعادته في الحضر. والرد عليه قول أنس: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين (¬4). فقد أتم (¬5) وقصر في نهار واحد وقد قال ابن حبيب كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من المدينة إلى مكة قصر بالعقيق وإذا خرج من مكة إلى المدينة (¬6) قصر بذي طِوى. والعقيق من المدينة وذو طِوى من مكة على نحو من ثلاثة أميال. ¬

_ (¬1) من -و-. (¬2) وكان مجاوزة البيوت علمًا -و-. (¬3) هكذا في جمبع النسخ ولعل الأقرب فيلفيها. (¬4) متفق عليه وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. بلوغ الأماني ج 5 ص 103. (¬5) أتم: سا تطة -و-. (¬6) إلى المدينة: ساقطة -و-.

وهذا وإن كان فيه ردّ على مجاهد فقد يتعلق به من حد من أصحابنا بثلاثة أميال من بلاد الجمع للجمعة. وأما من قصر في منزله، فإنه يحتج بأن المسافر إذا نوى الإقامة لزمه الإتمام فكذلك المقيم إذا نوى السفر جاز له القصر. وهذا على أنه قياس لم يجمع فيه بين الفرع والأصل بعلة، (¬1) قد يفرق بينهما بأن نية الإقامة وجد معها الفعل الملائم لها وهو اللبث والاستقرار، ونية السفر وهو بالمدينة لم يوجد معها ما يلائمها، لأن الذي يلائمها ويطابقها السير الذي يجاوز البنيان، لأن البنيان حكمه حكم الاستيطان والقرار كما بيناه (¬2). وإذا ثبت ما قلناه فالموضع التي ينقطع بالانتهاء إليه حكم السفر، قد قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله ها هنا أنه الموضع الذي بدا منه بالقصر فأحال النهاية على البداية. وقد ذكرنا مذهبنا في البداية. وهكذا روى مطرت وابن الماجشون أنه يقصر إلى الموضع الذي أمر بالقصر منه عند خروجه. وقد قال في المدونة إذا رجع من سفر، قصر الصلاة حتى يدخل بيوت القرية أو قربها ... وهكذا في الموطإ أنه يقصر حتى يدخل أول بيوت العصر أو يقارب ذلك. قال بعض المتأخرين قد جعل الإتمام ها هنا ثبت بما لم يثبت به التقصير في الخروج لأنه جعل القصر في الخروج بالخروج عن البيوت وأبطل حكمه في الرجوع بقرب البيوت قبل الدخول إليها. وإنما هذا لأن حكم الإتمام مغلّب. ألا ترى أن المسافر إذا نوى الإقامة أتم وانتقل عن السفر بمجرد النية، وإذا نوى المقيم السفر (¬3) لم ينتقل عن حكم الإقامة بالنية. وفي المجموعة يقصر حتى يدخل منزله. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا يقصر العاصي بالسفر. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان منها أن يقال: 1 - كم أقسام السفر؟. ¬

_ (¬1) لعله -وقد-. (¬2) بينه -و-. (¬3) وإذا نوى الدخول إليها -و-.

2 - ولِمَ لَمْ يقصر العاصي؟. والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: السفر على خمسة أقسام: واجب كالسفر لحجة الفريضة أو جهاد يتعين وما في معنى ذلك، ومندوب إليه كالسفر لصلة الرحم أو زيادة في الدين وما في معنى ذلك، ومباح وهو السفر للتجارة التي لا يقصد بها تحصيل الكفاية المندوب إلى تحصيلها، ومكروه كالسفر للصيد لهوًا ولعبًا، وحرام كالسفر لقطع الطريق أو قتل الأنفس وما في معنى ذلك. فأما السفر الواجب فإن الصلاة تقصر فيه من غير خلاف. وأما السفر المندوب إليه، فإن الصلاة تقصر فيه (¬1) أيضًا. وقال ابن مسعود: لا تقصر الصلاة إلا في السفر الواجب. وبه قال داود. واحتج لابن مسعود بأن الواجب لا يترك إلا بواجب، فلما كانت الركعتان واجبتين لم يتركا إلا لسفر واجب. ودليلنا في. له تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (¬2) فعتم الضرب الواجب والمستحب. وقد قال يعلى لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمِنّا قال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول لله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته (¬3). وهذه المراجعة والمباحثة عن الآية ظاهرها أنهما كانا يعتقدان أن القصر في السفر وإن يكن واجبًا (¬4) لأنهما لم يتعرضا لذكر وجوب السفر. وقد قال بعضهم ينتقض ما قال ابن مسعود بمن لا يجب عليه الجهاد إذا خرج إليه *وهذا الذي قاله يشير إلى أن ابن مسعود يسلمه. فإن كان كما تأول هذا المحتج عليه فلا معنى لانطلاق الحكاية عنه بأنه لا يرى القصر إلا في السفر الواجب إلا أن يكون معناه الواجب جنسه على سبيل الكناية* وأما السفر المباح فإنه يقصر فيه أيضًا خلافًا لعطاء في قوله لا يقصر ¬

_ (¬1) فيه: ساقطة -و-. (¬2) صورة النساء، الآية: 101. (¬3) رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حُميد وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم. الدر المنثور ج 2 ص 109. (¬4) وإن يكن واجبًا - و- وان لم يكن واجبًا - قل. ولعل الصواب إن كان السفر واجبًا.

إلا في سفر طاعة. وقد قدمنا مذهب ابن مسعود وداود في هذا. واحتج عطاء بأنه لم يقصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في سبيل الخير فلا يقصر إلا مثله (¬1). وهذا الذي قاله عطاء انفصل عنه بأنه يقتضي قصر القصر على المواضع التي سافر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا فإن العودة من هذه الأسفار مباحة والقصر فيها جائز. وفي هذا الانفصال نظر لأن الفعل لا يخص الأماكن وما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان لا يجب قصره على مكانه. لأن الظاهر أن المكان إنما كان بحكم الحاجة الطبيعية إليه. وهذا على مقتضى الأمور الاتفاقية، حتى ينضم إلى الفعل ما يشعر بتعيين المكان وكون السفر طاعة مما (¬2) يقصد إليه، ويبعث عليه، فيصح قصر الحكم على المقصود ولا يلزم أن يقاس عليه ما ليس بمقصود. وكذلك العودة من هذه الأسفار قد تكون طاعة لكون الباعث على العودة أمور دينية. والأولى عندي أن يحتج عليه بعموم الآية وما وقع فيها من المراجعة على حسب ما قدمناه. وأما السفر المكروه وسفر المعصية فقد اختلف في جواز القصر فيهما وما (¬3) نحن نتكلم عليه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما من خرج للسفر المكروه فقال في المدونة: من خرج للصيد للمعيشة على مسيرة أربعة برد قصر. قال ابن القاسم إن خرج متلذذًا فلم أره يستحب له القصر. وقال: أنا لا آمره بالخروج فكيف آمره بقصر الصلاة. قال ابن شعبان: إن قصر الصائد تلذذًا لم يُعد للاختلاف فيه لأن الصيد مباح. وقد أجاز ابن عبد الحكم الصيد للهو. وأما سفر المعصية، فالمشهور من مذهب مالك منع القصر فيه. وبه قال الشافعي حتى منعه الشافعي من رخص السفر كلها كأكل الميتة عند الضرورة وصلاة النافلة على الراحلة والمسح على الخفين ثلاثة أيام. وروي عن مالك جواز القصر، وبه قال أبو حنيفة. وأما مذهبنا في أكل الميتة فإن ابن حبيب قال: إنما يقصر في سفر جائز، فأما من خرج باغيًا أو عاديًا أو طالبًا لإثم فلا يجوز له القصر كما لا يجوز له الأكل من الميتة عثد الضرورة. قال ابن القصار: ¬

_ (¬1) إلا في سبيله -و-. (¬2) فيما -و-. (¬3) هكذا في النسختين ولعل الصواب وها نحن.

أجاز أصحابنا كل الميتة عند الضرورة. فأما المانعون للترخص برخص السفر، فأنهم يعتمدون على أن المفهوم من الشرع كون القصر تخفيفًا عن المسافر، وإعانة له على سفره. وإذا كان هذا مفهومًا عن الشرع حتى صار ملتحقًا بالنصوص، فإن المسافر لطلب معصية عاص بسفره، وسفره محظور. والمعونة على المحظور محظورة. ألا ترى أن القتل ظلمًا لا يحل العون عليه. وكذلك إباق العبد لما كان محظورًا لم تحل المعونة عليه، والإذن فيها والأمر بها يناقض النهي والحظر. والشيء لا يصح أن يتناوله والأمر مقصود والنهي مقصودًا (¬1) وإن صح عند بعضهم تعلق الأمر به قصدًا. وإن تعلق به عموم نهي غير مختص به. كما قيل في الصلاة في الدار المغصوبة. ويعضد هؤلاء هذه الطريقة بأن السكران يلزمه قضاء ما فاته حال سكره من الصلوات. وإن كان زوال عقله على صورة زوال العقل بالإكماء. لكن لما كان عاصيًا بشرب غلظ عليه (¬2) حتى ألحق بالصاحي. وإنّ خوف العدو عذر في إقامة صلاة الخوف. وقطاع الطريق الإِمام (¬3) العدل لا يبيح لهم صلاة الخوف. قال أبو المعالي لو طرأت المعصية على السفر فقد نص الشافعي على أن مبتدأ السفر إذا لم يكن معصية لم تنحسم الرخص بطروّ العصيان. وفي المسألة قول آخر. فلا يستقيم عندنا أن (¬4) القطع بالتسوية بين الطارئ والَمَقارن. ومن تافى هذا الاسلوب وفهم تناقض تحريم الشيء وإباحة الإعانة (¬5) عليه استبان أن الطارئ (¬6) في ذلك كالمقارن، فإن سئلنا عن الرامي نفسه من سطح حتى تنخلع رجله ويصلي قاعدًا فهل تلزمه إعادة الصلاة؟ قلنا المسألة وأمثالها مختلف فيها، والمختار عندنا أن القضاء لا يجب لأنه صلّى قاعدًا بعوإنقضاء المعصية. وهذا وإن اقتضى ظاهره وطرده نفي ¬

_ (¬1) هكذا في قل - وفي -و- لا يصح أن يتاوله الأمر مقصودًا. (¬2) لما كان يشرب ما أسكره غلا عليه -و-. (¬3) فالإمام -و-. (¬4) هكذا في -و- وفي قل إلا. ولعل الصواب إذن. (¬5) الإعانة المقصود عليه - قل. (¬6) استباق الطارئ -و-.

القضاء عن السكران فإن الفرق *أن السكر مطلوب للمجان وهو مما .. (¬1). طرق التخفيف فيه ومعصية المخلوع ليست مما تنسحب الطبيعة عليها بل النفوس ورعة في الغالب عنها* (¬2) فإن نظرنا إلى حقيقة الترخص ومعناه المقصود في الشرع ومن خالفنا نظر إلى صورة السفر وجعله مقتضيًا للترخص وأعرض عن معناه وحقيقته. ويعترض هؤلاء أيضًا بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} (¬3). فشرط في جواز أكل الميتة ألا يكون متجانفًا. وإذا ثبت هذا في الترخص بأكل الميتة قيس عليه بقية رخص السفر. وقد أشار بعض أصحابنا إلى أنا وإن منعنا القصر فإنا نجيز أكل الميتة ونمنع أبا حنيفة من قياسه جواز القصر على جواز أكل الميتة بأن الله سبحانه فرض على الإنسان إحياء نفسه وفرض على العاصي النزوع عن معصيته فيؤمر المسافر ها هنا بالفرضين جميعًا التربة والأكل. فإن أبى فعل أحدهما والقيام به فلا يمنعه من القيام بما عليه من الفرض الآخر. فإن لم يتب هذا المسافر وامتنع من القيام بفرض التربة فلا يمنع من القيام بفرض إحياء النفس كتارك الزنا شاربًا للخمر فإنه مذموم على ما فعل ممدوح على ما ترك لأجل فعله كما فعل. وهذا الذي مثل به هؤلاء من الشرب والزنا، فيه نظر. لأنه لم يصِر أحد إلى تعلق أحدهما بالآخر ولا كونه شرطًا فيه (¬4). والمانعون من أكل الميتة يرون التربة من شرط إباحة الأكل. وإذا لم يفعلها مع قدرته على الفعل لم تحصل الإباحة لفقدان شرطها ويكون ما ركب من المعصية مسقطًا لحُرمة نفسه. كما يكون زنا المحصن مسقطًا لحرمة نفسمعتى يكون حكمه القتل بالرجم. قال ابن القصار اْجاز أصحابنا أكل الميتة وهو عندي محتمل لأن عليه إحياء نفسه فامتناعه من ذلك يوجب دخوله في معصية أعظم من معصية (¬5) سفره. ونحن نأمره بالتوبة والأكل فإن لم يتب لم نأمره بمعصية أخرى يصنعها في سفره وهي قتل نفسه. ¬

_ (¬1) هو في -و- وعدم وضوح في قل. (¬2) ما بين النجمين هو في -و-. (¬3) سورة المائدة، الآية: 3. (¬4) ولكنه شرط فيه -و-. (¬5) معصية = ساقطة -و-.

فأما قوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} (¬1) فقيل غير باغ على الإِمام وقيل غير باغ في أكله فوق حاجته، ولم يحملها أحد من السلف على الجميع فليس لهم حملها على أحدهما إلا ولغيرهم خلافه. ويستدل أيضًا من منع القصر بأن الطاعة لها تأثير في القصر في مسافة لا يقصر فيها في غيرها من الأسفار كما قدمناه في قصر الخارج إلى مني وعرفة فيقتضي هذا كون المعصية مؤثرة حتى تمنع القصر في سفر يجوز فيه القصر لو تجرد عن المعصية. وأما المبيحون للترخص برخص السفر وإن كان معصية فيحتجون بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (¬2). فأطلق السفر ولم يقيده بكونه طاعة. وتقييده بعد إطلاقه في القرآن كالزيادة على النص. والزيادة على النص نسخ عند طائفة من أهل الأصول. والنسخ لا يكون في مثل هذا بالقياس، والاستدلال. وقد قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (¬3). فأشار في هذا إلى إباحة أكل الميتة عند الضرورة ولم يقيد بأن لا يكون المضطر عاصيًا بسفره. ويتأول هؤلاء قوله تعالى في الميتة *في الآي الآخر* (¬4): {فمن اضطر غير باغ ولا عاد}. أن المراد به ألا يطلب الميتة قصدًا إليها ولا ياكلها بحسب اقتضاء الشهوة بل بحسب اقتضاء الضرورة. ولا يعدو واجد ما يسد رمقه ولا يبغي فيتجاوز ذلك. ويكون هذا عندهم كالصفة للأكل في الضرورة لا صفة للمضطر. ألا ترى أنه قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كفور رحيم}. والمضطر لا يتحمل مع اضطراره ذنب (¬5) فيغفر وإنما الغفران في مقابلة ارتكاب المحظور وذلك في الأكل الذي يرتكبه ويكتسبه. لكن عُذر فيه لأن الضرورة دعته إليه.- وينفصل هؤلاء عما تمثل به هؤلاء الأولون بأن الرخص علقت *بالسفر للسفر يكون سفرا* (¬6) لا بنفس الخطى إذ لا يكون نفس الخطى سفرًا إلا إذا كانت على صفات ولا تأثير للمعصية في كون السفر سفرًا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 173. (¬2) سورة البقرة، الآية: 184. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 119. (¬4) ساقط من -و-. (¬5) هكذا في النسختين والصواب ذنبًا. (¬6) هكذا في -و- ولعل الصواب. علقت بالسفر والسفر لا يكون سفرًا بنفس الخطى.

ولا تعد من الصفات المصيّرة للخطى سفرًا لأن الخطى وإن كثرت لا تصير سفرًا إلا إذا وقعت على صفة ما وليست من هذه الصفة كونها طاعة أو معصية. فإذا انفصلت الطاعة أو المعصية عن حقيقة السفر وكانت الرخص معلقة بالسفر كان العاصي كالمطيع في جواز الترخص. وكذلك الصلاة في الدار المغصوبة لم يكن الغصب بالصلاة وإن كان موجودًا مع الصلاة فلما لم يكن الغصب بالصلاة أجزت الصلاة. وكذلك ضرورة الجوع لا تقع بسبب البغي والعدوان بل بالحلول بالمكان القفر عن الطعام، ولا تأثير للبغي في جعل المكان قفرًا ولا في إثارة الجوع. وهذا بخلاف زوال العقل بالسكر. لأن السكر حدث من شربه، وشربه ما يسكره حرام. وكذلك ما قالوه في إقامة صلاة الخوف *بأن الخوف* (¬1) إنما لحقه بسبب معصية في سفره لا بسفره؛ لأنه لم يخف الإِمام لكونه مسافرًا وإنما خافه بنفس معصيته في ذلك السفر (¬2). قال القاضي أبو محمَّد رحمة الله: وإذا فرغ من الصلاة مقصورة، ثم عزم على الإقامة لم تلزمة إعادة وإن عزم على ذلك في الصلاة جعلها نافلة وابتدأها (¬3) تامة. قال الفقيه الإِمام رض الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منهما أن يقال: 1 - ما حكم الرجوع عن نية الإقامة إلى السفر؟. 2 - وما حكم الرجوع عن نية السفر إلى الإقامة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما المقيم بوطنه فقد ذكرنا أنه لا يبطل حكم الإقامة بمجرد نية السفر. وقد ذكرنا اختلاف الناس في ذلك وسبب اختلافهم. وأما إذا كانت الإقامة ليست في موضع الاستيطان كمسافر من بمدينة، في أثناء سفره نوى أن يقيم بها مدة الإتمام، ثم انثنى رأيه عن الإقامة ¬

_ (¬1) ساقط من -و-. (¬2) ما جاء من التمثيل بصلاة الخوف - غامض. (¬3) وأعادها -و-.

وعزم على السفر بعد أن بلغ تلك المدة أو لم يبلغها. فقد اختلف المذهب فيه. فرأى ابن حبيب أنه ينتقل إلى حكم القصر برجوعه إلى نية السفر ويستأنف القصر حينئذ. ورأى سحنون أنه لا يقصر حتى يظعن من موضعه. فوجه قول ابن حبيب أنه كان على حكم السفر وإنما رجع عنه بنية المقام، فإذا نوى المسافر السفر رجع بمجرد النية إلى حكم الأصل، وتكون النية عاملة بمجردها في غير موضع الاستيطان، وإنما تفتقر إلى مقارنة العمل في موضع الاستيطان. ووجه ما قاله سحنون القياس على نية السفر في القرار والوطن. وعلى هذا يجري الأمر فيمن نوى دخول وطنه في أثناء سفره ثم انثنى رأيه عن دخوله، فهل يكون حكمه القصر في موضع تبدل نيته أو حين (¬1) يرحل عنه، فإنه جار على الاختلاف الذي ذكرناه إذا كان في ذلك المنهل على حكم المقيم ثم تبدلت نيته. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا نوى المسافر في أثناء صلاته الإقامة، فإن كان لم يعقد ركعة فيستحب أن يجعلها نافلة، فإن لم يفعل وتمادى على إحرامه وصلّى أربعأ أجزته صلاته قاله مالك. وقد ذكر ابن حبيب أنه يتمادى على إحرامه فيصلي أربعاً. وكأنه رأى أن نية السفر والحضر لا تختلف بدلالة صحة صلاة المقيم خلف المسافر. وإذا لم تختلف، وكان الاختلاف في العدد لا يؤثر، بني على إحرامه. وإن كان قد عقد ركعة فقال مالك في المدونة يشفعها بأخرى ويسلم وتكون نافلة. وذكر ابن حبيب أنه تجزيه صلاته إذا أضاف إليها أخرى، وكأنه رأى أن بعقد ركعة صارت صلاة السفر حاصلة لا تؤثر في حكمها النية. وقالت الشافعية: إذا نوى الإقامة في أثناء الصلاة انقطع سفره ولزمه الإتمام ولزم من خلفه متابعته (¬2) وكانهم رأوا أنها صلاة واحدة لا تختلف إلا من جهة العدد، فيصح إكمال الأربع بعد الافتتاح على اثنتين. ولو كان ناوي الإقامة بعد ركعة عقدها وقد يضيق الوقت كمسافر نسي العصر حتى بقي من ¬

_ (¬1) حتى -و-. (¬2) ساقطة -و-.

النهار مقدار ركعة فصلى الركعة وغربت الشمس فنوى الإقامة حينئذ. فإن صلاته تبطل على الطريقة التي قدمناها في تأثير النية بعد ركعة. واختلف هل يصليها حضرية أو سفرية. وقد تقدمت الإشارة إلى أصل هذا الاختلاف لما تكلمنا على الأوقات الضرورية. وذكرنا حكم من حاضت بعد الغروب وهي في أثناء صلاة العصر. ولو كان المسافر نوى الإقامة بعد أن فرغ من صلاته ففي المدونة ليست الإعادة عليه بواجبة وإن أعاد فحسن، وأحب إلى أن يعيد. قال لي شيخي رحمه الله: استحباب الإعادة ها هنا مع أن الصلاة تصرمت على الوجه المأمور به. لا أعلم له وجهاً، إلا أن يكون تحسسٌ إلى طريقة من قال إن الوجوب إنما يتحقق بآخر الوقت. إلى هذا المعنى كنت أراه يشير رحمه الله وهو مما يفتقر تحقيق القول فيه إلى الاطلاع على مذهب القائلين بأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت. وقد كنا قدمنا فيه قولاً مقنعًا في الأوقات (¬1). ¬

_ (¬1) في الكلام على الأوقات - قل.

باب الجمعة

باب الجمعة قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وهي فرض على الأعيان. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على كونها فرضًا على الجملة؟. 2 - وما الدليل على كونها على الأعيان؟. 3 - وهل فرضها أصلي أم لا؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الدليل على كونها فرضًا على الجملة فقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬1). فأمر بالسعي إليها. وظاهر الأمر الوجوب. وقد عقبه بما يدل على الوجوب فقال: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬2). وظاهر هذا التوبيخ على الخروج عنه - صلى الله عليه وسلم -وهو يخطب. وقد خرّج أصحاب الصحيح أن غيرًا أقبلت من الشام بطعام والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فانقلبوا (¬3) إليها حتى لم يبق معه - صلى الله عليه وسلم - إلا إثنا عشر رجلًا فأنزل الله تعالى الآية (¬4). وفي الصحيح قال - صلى الله عليه وسلم -: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على ¬

_ (¬1) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 11. (¬3) فالتفتوا. (¬4) البخاري عن جابر: أقبلت عير يوم الجمعة ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فثار الناس إلا إثنا عشر رجلًا فأنزل الله: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا}. فتح الباري ج 10ص 268.

قلوبهم ثم ليكونين من الغافلين* (¬1). فظاهر قوله ها هنا أقوام، إشارة إلى طائفة معينة. ويمكن أن يكونوا المنافقين. وفي النسائي قال - صلى الله عليه وسلم -: الرواح حق على كل محتلم (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاونًا طبع الله على قلبه (¬3). هكذا أخرجه الترمذي وخرّجه النسائي من غير ضروة. وروى جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: توبوا إلى الله قبل تموتوا وبادروا إليه بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلَوا وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية ترزقوا وتنصروا وتجبروا واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا وفي يومي هذا في شهري هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة. فمن تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها فلا جمع الله له شمله ولا بارك له في أمره. ألا ولا صلاة له، ولا زكاة له، ولا حج له، ولا صوم له، ولا برّ له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه. إلاَّ لا تَؤمن امرأة رجلًا، ولا يؤم أعرابي مهاجرًا، ولا يؤم فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه (¬4). فأنت ترى هذا التغليظ والتشديد منه - صلى الله عليه وسلم - في تركها وتهديده بما هدد به من الختم على القلب. وهذا من أعظم الأدلة على الوجوب. فإن قيل التهديد بالختم على القلب مقيد بتركها ثلاث مرات وأنتم توجبونها كل جمعة ولا تسقطون الوجوب في مرة ولا مرتين. قيل إن الواجب يتساوى كله في تعليق الإثم بتركه واستحقاق العقاب في الإخلال به، ولكن وإن تساوى في استحقاق العقاب على الجملة. فمقادير العقاب تتفاوت بتفاوت الأجرام (¬5). فتارك الجمعة مرة واحدة يستحق العقاب كما يستحقه تاركها ثلاثًا. ولكن الاثم في الثلاث أكثر من الاثم في الواحدة. فإن كان تاركها ثلاثًا أعظم جرمًا وأكثر إثمًا ¬

_ (¬1) رواه مسلم والدرامي والبيهقي عن معاوية بن سلام. الهداية ج 3 ص254 (¬2) لفظ النسائي: رواح الجمعة واجب على كل محتلم. شرح السيوطي. ج 3 ص 89. (¬3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم عن أبي الجعد. فيض القديرج 6 ص 102. (¬4) نص الحديث فيه هو كثير في - و. وضبطناه بلفظه من سنن ابن ماجة ج 1ص343 الحديث رقم 1081. (¬5) الجمعة -و-.

لم يبعد أن يكون البارئ سبحانه يجعل الختم على القلب في هذا المقدار من الجرم دون ما انحط عنه. ألا ترى أنه قيد في الترمذي بقوله تهاونًا ولو تركها غير متهاون لكنه مختار للترك لكان آثمًا. ولكن تركها تهاونًا أشد قبحًا. فلم يبعد تعليق هذا الوعيد به. وهكذا تقييده في حديث جابر بقوله: فمن تركها استخفافًا بحقها وتهاونًا بها إنما ذلك أيضًا لكون المستخف المتهاون أعظم جرمًا ممن لم تكن حاله كحاله. والذي خرجه النسائي من غير ضرورة أوسع من تقييد الذنب. لأن المختار الذي ليس بمتهاون تارك من غير ضرورة فإنما قيّد في النسائي بعدم الضرورة لا غير لما كان المضطر غير ملوم في كثير من الأمور. وقد قال ابن حبيب شهود الجمعة فريضة. ومن تركها مرارًا من غير عذر لم تجز شهادته. فأنت تراه كيف علّق سقوط الشهادة بتركها مرارًا مع إشارته إلى أن المرة الواحدة فرض لكن لما اختلف مقدار الجرم فكان في المراد أعظم من المرة الواحدة حسن تقييده به. واقتفى في هذا التقييد أثر الحديث المقيّد فيه بالثلاث، لاختلاف مقدارها من مقدار المرة الواحدة على ما بيناه. وقال ابن سحنون: أجمع المسلمون على إيجاب الجمعة وتنازعوا زوال فرضها إذا كان الإِمام غير عدل. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: صلاة الجمعة فرض على الأعيان. وما قدمنا من الظواهر الدالة على كونها فرضًا على الجملة دليل كونها على الأعيان. ألا ترى قوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. خطاب عام لسائر المؤمنين. وكذلك النهي عن البيع خطاب عتمَ جميعهم. فلو كان فرض الجمعة ساقطًا عن بعضهم لسقط تحريم البيع عليهم. وإن كان قد يجاب عن هذا بأنه قد يمكن ألا تجب الجمعة ويمنع البيع. والتعبد (¬1) بهذا غير ممتنع على ما نشير إليه في موضعه إن شاء الله. وكذلك أيضًا ما قدمناه من قوله- صلى الله عليه وسلم -: الرواح حق على ¬

_ (¬1) التقييد - قل.

كل محتلم (¬1). وقوله: من ترك الجمعة ثلاث مرات (¬2). الحديث. خطاب يعم سائر الأعيان. وكذلك قوله: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات (¬3). الحديث. فلو كانت الجمعة فرضًا على الكفاية لما توعّد أقوامًا تخلفوا عن فرض قد قام به غيرهم وسقط عنهم وجوبه. فإن تعلق المخالف بقوله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين (¬4). فأثبت كون الصلاة في الجماعة أفضل. وصلاة الجمعة من شرطها الجماعة فيجب *لحقِّ هذا الظاهر أفضل من صلاة الفذ وحده اقتضى ذلك كون صلاة الفذ فيها فضل ما* (¬5) وإن كان دون فضل الجماعة. وإذا ثبت أن في صلاة الفذ يوم الجمعة فضلًا ما، وهو لا يصلي إلا الظهر اقتضى ذلك كون الجمعة فرضًا على الكفاية. فالجواب عن هذا بأنا نقول محمل الحديث على صلاة الجماعة فيما سوى الجمعة. والغرض بالحديث بيان حكم الجماعة لا بيان فرض الصلاة ونفلها. والغرض من أحاديثنا بيان حكم صلاة الجمعة ووجوبها. فلا يترك أخذ الوجوب من الأحاديث المقصودة له، ويؤخذ عحكمه مما قصد به بيان معنى آخر. وكذلك إن تعلق المخالف بأنه - صلى الله عليه وسلم - أرخص التخلف (¬6). في الجمعة لمن شهد صلاة العيد من أهل القرى الخارجة عن المدينة (¬7) فإن ذلك لمعنى اقتضاه (¬8) وسنتكلم عليه إذا تكلمنا على الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) تقدم تخريجه قريبًا. (¬4) رواه مالك والبخاري ومسلم. الموطأ: كتاب صلاة الجماعة وبقية طرقه وألفاظه. الهداية ج 3 ص 164/ 165. (¬5) فيجب أن يكون هذا الظاهر أفضل من صلاة الفذ وحده - قل. والتعبير قلق. ولعل الصواب فيجب لحق هذا الظاهر كون صلاة الفذ فيها فضل ما. (¬6) ساقطة -و-. (¬7) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي والحاكم وأحمد. بلوغ الأماني ج 6 ص 32. (¬8) ساقطة -و-.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف العلماء في الفرض يوم الجمعة. فعندنا أن الواجب بالزوال صلاة الجمعة لا الظهر وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أن الواجب بالزوال الظهر، ويلزم إسقاطها بالجمعة. فالحجة للقول بأن الواجب الجمعة الاتفاق على أنه مأمور بفعلها. وأنه غير غير بين فعلها وفعل الظهر. وذلك يقتضي تعيين وجوبها وأن الوقت لها. ومحال أن يكون الوقت للظهر ويحرم فعل الظهر. في هذا تناقض لا يصح. وأما من قال: إن الواجب الظهر فإنه قاس يوم الجمعة على سائر الأيام. وأيضًا فإن من فاطه الجمعة انتقل إلى الظهر. فلو لم تكن الظهر فرض الوقت لما انتقل إليه. وإنما أمِر بفعل الجمعة إسقاطًا لفرض الوقت الذي هو الظهر كما يؤمر من رأى في وقت الظهر غريقًا أن يسعى لتخليصه ويترك الظهر، وإن كان الوقت لها. وهذا الاختلاف تظهر ثمرته فيمن صلّى الظهر قبل صلاة الإِمام الجمعة، وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. وكذلك أيضًا اختلف الناس في صلاة الجمعة. هل هي صلاة (¬1) الظهر مقصورة أوصلاة غير الظهر؟ فقال الشافعي هي الظهر مقصورة ورأى أن الجمعة ظهر قصرت لأجل الخطبة. ويستدل بأن الوقت الواحد في الشرع جعل سببًا لفرض معين في عموم الأوقات كما في سائر الصلوات. والزوال وقت اَلظهر فتكون الأيام كلها فيه متساوية. وقد تقصر الصلاة لأسباب. كصلاة السفر. فغير بعيد أن تقصر لأجل الخطبة، أو مشقة قطع إلى سافة إلى الجامع. ومذهب الحنفيين أن الجمعة صلاة غير الظهر. ويستدلون بأن للجمعة شروطًا ليست للظهر. والفرض الواحد لا يختلف باختلاف شروطه. لكن الشروط تختلف باختلاف الفروض، ألا ترى أن الأوقات اختلفت لما كانت شروطًا في أداء الصلوات، فتظهر ثمرة هذا الاختلاف في بناء فعل الظهر على تكبيرة الإحرام. وسنذكره في موضعه إن شاء الله. وعند ذكرنا له يظهر مذهبنا في هذا الأصل. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وشروط وجوبها ستة: البلوغ والعقل والذكورية والحرية. ¬

_ (¬1) ساقطة -و-.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منهما أن يقال: 1 - ما الدليل على اشتراط الذكررية؟. 2 - وما الدليل على اشتراط الحرية؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما سقوط الجمعة عن النساء فإذا قلنا إن قوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} خطاب ورد بصيغة التذكير ولا يدخل النساء في خطاب ورد بصيغة التذكير، لم يكن علينا دليل في إسقاط الجمعة عنهن؛ لأن الأصل عدم التكليف. وإن قلنا بأنهن يدخلن في مثل هذا الخطاب قلنا روى طارق بن شهاب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الجمعة حق على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبدأومملوكًا وامرأة وصبيًاومريضًا (¬1). وهذا وإن كان خبر واحد فالتخصيص لعموم القرآن بخبر واحد فيه خلاف بين أهل الأصول. فإن قلنا بالتخصيص به استقل الخبر (¬2) دليلأوإن لم نقل بالتخصيص به استدللنا بالإجماع على أن لا جمعة عليهن. وهذا الحديث فيه دلالة على ما ذكره القاضي أبو محمَّد من اعتبار البلوغ لقوله: البلوغ مع أن الصبي قد اشتهر في وضع الشرع سقوط التكليف عنه وعن المجنون. ولهذا لم نفردهما بالسؤال. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: جمهور العلماء وفقهاء الأمصار على سقوط الجمعة عن العبد. وقال داود بوجوبها عليه. وقال ابن حنبل في أحد قوليه وأضاف هذا القول الشيخ أبو الحسن اللخمي إلى المذهب وتعلق بقول ابن شعبان في مختصره: المشهور من قول مالك أنها غير واجبة. وبقوله أيضًا على من قدر من العبيد على إتيان الجمعة أن يأتيها، يلزمون ذلك ويقامون إليها من حوانيت ساداتهم. وفي موطي. ابن وهب سئل مالك عن العبيد هل عليهم جمعة؟ فقال أما من قدر عليها منهم فنعم. وقال رحمه الله إن قول ابن ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود والدارقطني والبيهقي والحاكم. الهداية ج 3 ص 254 (¬2) الخبر = ساقطة -و-.

شعبان المشهور من قول مالك: أنها غير واجبة، فيه إشارة إلى أنه اختلف قوله فيها مع ما حكاه من التصريح بالوجوب. وهذا الذي نقله الشيخ أبو الحسن عن مختصر ابن شعبان نصُّ قول ابن شعبان فيه. وقيل إن على من قدر من العبيد على إتيان الجمعة أتاها. وقيل إن العبيد يلزمون الجمعة ويقامون إليها من حوانيت ساداتهم لأنهم إذا لحقوا بها كانوا من أهلها. قال ابن وهب: ليس ذلك عليهم. قال أبو إسحاق: وهذا قول مالك المشهور عنه العمل به (¬1). وسياق كلام ابن شعبان يدل على أن المراد بقوله قيل قول مالك ولكن قد أحل الشيخ أبو الحسن في النقل بقوله. لأنهم إذا لحقوا بها كانوا من أهلها. وهذه الزيادة تشير إلى أنها غير واجبة في الأصل عليهم، ولو كانت واجبة في الأصل لما علل بهذه العلة. وبحذف هذه الزيادة في هذه الرواية التي نقلناها نحن وأسقطها الشيخ أبو الحسن يحصل له ما أراد من الاستدلال بهذه الرواية على الوجوب وقال الحسن وقتادة تجب على من يؤدي الضريبة والمكاتب. وروى أبو مصعب عن مالك أنه قال: لا أحب للمكاتب ترك الجمعة. فدليلنا على سقوطها عن العبيد ما ذكرنا في السؤال الذي قبل هذا من حديث طارق بن شهاب وفيه سقوطها عن العبد. وهذا إذا قلنا بدخول العبيد في الخطاب. وأما إن لم نقل به فلا حاجة للاستدلال على السقوط لفقد الأدلة على الوجوب. وأيضاً فإنها عبادة عن البدن تفعل في مكان مخصوص، فأشبهت الحج. ألا ترى أن الحج لا يصح إلا ببقعة مخصوصة كما أن الجمعة لا تصح إلا في الجامع، فإذا سقط الحج عن العبد سقط ما أشبهه وهو صلاة الجمعة. ألا ترى أيضًا أن الجهاد ساقط عن العبد لافتقاره إلى قطع مسافة، والجمعة مفتقرة إلى قطع مسافة فوجب أن تسقط عن العبد أيضًا. وأيضًا فإن الشرع راعى حق سيده فأسقط عنه بعض العبادات لئلا يُقطع عن شغل سيده وخدمته. ولولا مراعاة حق السيد لوجب عليه الحج والجهاد. وهذا يقتضي الجمعة (¬2) مراعاة لحق سيده *فإن قيل هذا ¬

_ (¬1) المعمول به - قل. (¬2) وهذا يقتضي فرض الجمعة في - قل. ولعل المواب وهذا يقتضى سقوط فرض الجمعة.

الاستدلال الآخر يقتضي وجوب الجمعة عليه. إذا أسقط سيدُه حقه. قيل قد ذكر ابن القصار في ذلك اختلافًا فقال إن أذن له سيده في حضورها فمن أصحابنا من قال هو مخاطب بها في الأصل وعذر في التأخر لحق السيد* (¬1) فإذا أذن له وجبت عليه. ومنهم من قال هو غير مخاطب بها. ولا يصح أن يكون غير مخاطب بها لأن ذلك يلزم في الحج وأن (¬2) يكون إذا أذن له سيده لزمه وأجزأه. وهذا لا يقوله مالك ولا أحد من أصحابه وإنما أجزأته الجمعة من الظهر لأنها بدل وليست بأصل في الوجوب والحج لا بدل له. ولا يصح (¬3) أن يقال إن العبد مخيّر في حضورها لأنه لا يملك التخيير. ولو أن مريضًا تكلف حضورها لأجزأته، ولم يدل ذلك على وجوبها عليه. وكذلك الحج يجزي من تكلفه وإن كان لا يجب عليه. وأما ما ذهب إليه الحسن وقتادة من إيجاب الجمعة على المكاتب ومن يؤدي الضريبة فإنهما لما رأياهما يستبدان بتصرفهما أشبها الحر. وهذا تشبيه غير صحيح. لأنهما لا يملكان تصرفهما ملكًا مطلقًا فلا يقاسان على الحر المالك جميع أمره. ومقتضى تعليل مذهبهما يقتضي إيجاب الجمعة على العبد إذا أذن له السيد كما حكيناه عن بعض أصحابنا، فإن لم يلتزما ذلك، بطل ما عللا به مذهبهما. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والإقامة وموضع يستوطن فيه. ويكون محلًا للإقامة (¬4) يمكن، الثواء به بلدًا كان أو قرية. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على اعتبار الإقامة؟. 2 - ولِمَ ذكر الاستيطان مع الإقامة؟. 3 - ولِمَ وصف الوطن بكونه يمكن الثواء فيه؟. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط من -و-. (¬2) بأن -قل- .. (¬3) ولا يصلح -قل-. (¬4) للإقامة به -غ- الغاني.

4 - ولمَ قال بلدأ كان، أو قرية؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أجمع الفقهاء على سقوط الجمعة على المسافر إلا داود، فإنه يوجبها عليه. وقال الزهري والنخعي: تجب عليه إذا سمع النداء. ودليلنا قول تميم الداري: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الجمعة واجبة إلا على خمسة امرأة وصبي ومريض ومسافر ومملوك (¬1). وقد أقام أنس بنيسابور سنة أو سنتين فكان لا يُجمّع. ولأن الله عَزَّ وَجَلَّ أسقط على المسافر بعض الصلاة مع كون الساقط عنه منها واجبًا في حق كل أحد. فالجمعة أولى بالسقوط. لأن السعي وانتظار الجمعة أشق من فعل أربع. وما كان أشق كان أولى بالسقوط. فإن احتج المخالف بقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬2). وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: الجمعة على من سمع النداء (¬3). قلنا: هذان عمومان، والخبر الذي استدللنا به يخصصهما مع ما عضده من القياس. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما ذكر الاستيطان مع الإقامة. لأن الاستيطان بالمقام بوطن بنية التأييد. والإقامة اعتقاد المقام بموضع يلزمه فيه إتمام الصلاة، هذا المقصد بهاتين العبارتين في إطلاقات الفقهاء في مثل هذا. فكل استيطان إقامة وليس كل إقامة استيطانًا. قال بعض المتأخرين: إن اعتبرنا الاستيطان فلا يجوز لجماعة مرت بقرية خالية من أهلها فرأوا أن يقيموا شهرًا أو شهرين أن يجمّعوا. لأنهم وإن أقاموا في المكان ليس بمكان استيطان لهم. وإن اعتبرنا الإقامة جاز لهم ذلك. وقد رواه ابن القاسم عن مالك. فأنت ترى كيف اختلف معنى الاستيطان ومعنى (¬4) الإقامة. وإن مجرد الإقامة لا تستقل بنفسها دون معنى يضامها وسنتكلم على المعنى الذي يعتبر فيها إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما وصف الوطن بكونه يمكن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬3) رواه أبو داود وفي إسناده مقال. مختصر المنذري ج 2 ص 7. (¬4) معناه -و-.

فيه الثواء لأن الجمعة أصل إقامتها في مصر استوطن، وصح الثواء فيه. فلا تقام إلا في ما شاركه (¬1) في معناه. ولكن في صفة المشارك له في معناه اختلف أهل العلم، فقال الحسن والنخعي وابن سيرين والثوري وأبو حنيفة لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع ويروي (¬2) ذلك عن علي. وأما مالك رضي الله عنه فإنما اعتبر أن يكون الموضع قرارًا لأهله ولم يحده في إحدى الروايات عنه سوى أنه قال: تقام في القرية المجتمعة التي قد اتصلت دورها وفيها الأسواق. وقال مرة المتصلة البنيان (¬3) ولم يذكر الأسواق. وقال أيضًا: إذا كانت القرية بيوتها متلاصقة وطريقها وسطها (¬4) ولها أسواق ومسجد يجمّعون فيه الصلاة فإنهم يجمّعون الجمعة (¬5). *وذكر ابن حبيب: عن مالك أن ثلاثين بيتًا وما قاربها جماعة* (¬6). قال ابن حبيب: وهو معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا اجتمع ثلاثون بيتاً، (¬7) والبيت مسكن الرجل الواحد. وفي مختصر ابن شعبان: إذا كانت قرية فيها خمسون رجلًا ومسجد يجمّعون فيه الصلوات فلا بأس أن يصلوا صلاة الخسوف وهي (¬8) إشارة في هذه الرواية إلى اعتبار الخمسين في صلاة الجمعة. لأن العدد اعتباره في صلاة الجمعة آكد منه في صلاة الخسوف. وقد كتب عمر بن عبد العزيز: أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلًا فلتصل الجمعة. وقال ابن القصار لا حد لهم غير أني رأيت لمالك أنها لا تقام بالثلاثة ولا بالأربعة. وقال القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا لا حد لهم إلا أن يكونوا عددًا يمكنهم الثواء وتتقرى بهم قرية. ¬

_ (¬1) مشاركه -و-. (¬2) إلا في مصر مع ماروي -و-. (¬3) بالبنيان -و-. (¬4) وطرقها في وسطها -قل-. (¬5) فإنهم جماعة -و-. (¬6) ما بين النجمين = ساقط من -و-. (¬7) لم أجده. قال البيهقي أنه لا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك شيء. نصب الراية ج 2 ص 195. (¬8) وهذه -قل-.

قال الشيخ أبو الحسن القابسي: ما علمت أحداً ذكر عن مالك عددًا حده تقوم به الجمعة إلا ابن حبيب فإنه قال الثلاثون وما قاربهم عندي جماعة. كذلك روى مطرف وابن الماجشون عن مالك. فأنت ترى هذه الرواية كيف اتفقت على أنا لا نشترط فيها المصر كما اشترطه أبو حنيفة وإن كان قد قال يحيى بن عمر الذي اجتمع عليه مالك وأصحابه: أن الجمعة لا تقام إلا بثلاثة: المصر والجماعة. والإمام الذي تخاف مخالفته، قال: وأتى قوم عمرو بن العاص فسألوه أن يأذن لهم في الجمعة فقال: هيهات لا يقيم الجمعة إلا من أخذ بالديون وأقام الحدود وأعطى الحقوق. فمتى عدم شيء من هؤلاء لم تكن جمعة. فإن كان أراد بالمصر مراد أبي حنيفة فليس الأمر كما قال من اجتماع مالك وأصحابه على اعتباره. بل وأريناك أن مالكًا وأصحابه قائلون بخلاف ذلك، وأنهم يعتبرون في القرار شرطًا ما، وذكرنا إشارتهم إلى مراعاة ما يمكن الثواء معه. وقد قال عمر بق العزيز إذا كانت قرية عليها أمير جمع بها. وقال مكحول إذا كانت قرية فيها جماعة صلوا الجمعة. وقال أبو ثور الجمعة كسائر الصلوات إلا أن فيها خطبة. وإذا حضر الإِمام وخطب أقيمت الجمعة. فأما أبو ثور هذا فالرد عليه ما قدمناه من اعتبار الشبه بالموضع الذي أقيمت فيه في الأصل، وأنها ليست كسائر الصلوات كما قال. وأما اعتبار عمر بن عبد العزيز الأمير، واعتبار مكحول الجماعة فإن مجرد كل واحد من هذين الوصفين لا تقع به المشابهة بموضع إقامتها في الأصل، فلهذا لم نعتبره. ومهما اتضح بُعْدُ المشابهة فإنا لا نقيم الجمعة. وقد سئل محمَّد بن سحنون عن القرى التي أحدثت فيها المنابر فأنكر ذلك، وقال ومن يجمّع فلا يعيد للاختلاف في ذلك. ولو كان ذلك واجبًا على أهل هذه القرى لأقامها سحنون إذ وُلي. كما أقامها لأهل قلشانة وسوسة وصفاقس فما أجاز ذلك فيها إلا زحفًا (¬1). وأنكر ابن سحنون إقامة ابن أبي طالب لها بأولج وفرفورة. وأشار ابن سحنون إلى أتى الأصل الظهر فلا ينتقل عن الأصل إلا عند تحقق الشبه بموضع إقامتها الأصلي. وقد ذكر عن سحنون أنه لم ير الجمعة على أهل حصن المنستير ولكن لم يكن ¬

_ (¬1) هكذا ومعناها غير واضح.

في أيامه غير حصن هرثمة (¬1) وهو المعروف الآن عندنا بالقصر الكبير. وقد اضطرب العلماء في الشبه. إذا حصل من ناحية القرار ولم يحصل من ناحية الصور والأشكال، فقال مالك في سماع ابن وهب. وقد سئل عن الحصون التي على السواحل: إنما هي على أهل القرى فإن كانوا أهل قرية جمّعوا. وأما غير أهك القرية فلا أدري. وقال ابن وهب في قوم على الساحل مقيمين الرباط وليسوا في حصن ولا قرية وهم فيها جماعة إن كانوا بموضع إقامة فلهم أن يجمعوا. وقال زيد بن بشير إذا كان الحصين على أكثر من فرسخ وفيه خمسون رجلًا فأكثر جمّعوا. وقال مالك في أهل الخصوص وهم جماعة واتصال الخصوص كاتصال البيوت: أنهم يجفعون الجمعة، وإن لم يكن لهم وال. ولم يقل إذا كان لهم مسجد. وسنتكلم على أحكام المسجد. وقال مالك في العتيبة ليس على أهل العمود جمعة وكأنه رآهم ليسوا بمكان قرار. وقال بعض أشياخي: واختلف في أهل الخصوص والقرى التي ليست شبيهة بالمدن. واختلف قول الشافعي في أهل الخيام إذا كانوا مستوطنين لا ينتجعون الخصب على قولين. أحدهما: تجب عليهم الجمعة لأنها موضع إقامة واستيطان. والثاني لا تجب عليهم لأنها ليست بأبنية. فأنت ترى هذا الاضطراب وحصول الشبه من ناحية القرار وفقده من ناحية الأبنية المشتبهة بالموضع الأصلي. وقد قدمنا تردد (¬2) بعض المتأخرين القول في فقدان الشبه من ناحية نية الإقامة المؤبدة. وقد قال مالك في قرية أو ثغر يرابط فيه قوم ستة أشهر، فإن كان فيها بيوت متصلة وسوق فليجمع أهلها، وإلا فلا. وأشار ها هنا إلى ترك اعتبار الاستيطان المؤبد وهو يضاهي ما نحن فيه من فقدان الشبه من جانب وحصوله من جانب. وإن كان هذا أحق بالشبه من ذلك، لحصوله الآن من كل الجهات. وما يحدث من الرحلة فقد لا يؤئر في حصول الشبه الآن. فإذا وضح مذهبنا في صفة المكان الذي تقام فيه الجمعة أن الاعتبار ¬

_ (¬1) قصر هرشمة -و-. (¬2) وقد قدمنا ترديد - قل.

بالشبه بالموضع الأصلي في إقامة الجمعة، فاعلم أن أبا ثور قد أفرط (¬1) لما قال إنها كسائر الصلوات على حسب ما قدمنا حكايته عنه. كما أن أبا حنيفة أفرط إذ لم يقمها إلا في الأمصار كما حكيناه عنه. فأما أبو ثور فإنا قدمنا الإشارة إلى الرد عليه وعلى من قرب (¬2) طريقته بما ذكرناه من أن الأصل صلاة الظهر، وأن الجمعة صلاة شرعت وخصت بشرائط وأوصاف بخلاف غيرها من الصلوات فوجب ألا تقام إلا حيث يتحقق وجود تلك الشروط والأوصاف. وأيضًا فقد قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬3). وهذه إشارة إلى إقامتها بموضع يمكن فيه التبايع وهذا لا يكون إلا في المواضع التي أشار مذهبنا إليها. وأما أبو حنيفة فإنا نستدل عليه بقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}. وهذا خطاب يتناول القرى التي أشرنا إليها كما يتناول الأمصار التي حُمل الخطاب عليها. وأيضًا فقد قال ابن عباس: إن أول جمعة جُمّعت بعد جمعة بالمدينة لجمعة جمعت بجؤاثى من البحرين من قرى عبد القيس. فإذا ثبت الجمع بجؤاثى ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - *أنكره والأظهر ظهر أنه يتصل به دل ذلك على صحة ما قلناه* (¬4). وأما أبو حنيفة فإنه يستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا جمعة ولا تشرين إلا في مصر جامع (¬5). وقد أجيب عن هذا بأنه موقوف على علي ابن أبي طالب رضي الله عنه. وأيضًا فإنه مرسل فإن الأعمش رواه عن سعيد ولم يصله. وأيضًا فإن كل قرية هي قرار، لأهلها مصر، كما أن كل مصر قرية *كلا وقد سمى الله مصر قرية* (¬6) لقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} (¬7). وتسمى مكة أم القرى. وليس على العرف الآن: على ترك تسمية القرية مصرًا ¬

_ (¬1) فرق -و- ولعل الصواب فرط. (¬2) قويت -و-. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬4) ما بين النجمين هو -و-. (¬5) رواه عبد الرزاق في مصنفه موقوفًا على علي كرم الله وجهه ولم يثبت رفعه. نصب الراية ج 2 ص 195. (¬6) ما بين النجمين = ساقط من -و-. (¬7) سورة يوسف، الآية: 82.

يوجب كون ذلك هو (¬1) عرف العرب أو لسانهم. ويستدل أبو حنيفة أيضًا بأن الصحابة فتحوا البلدان والقرى ولم يشتغلوابنصب المنابر في القرى ولا أمروا بإقامة الجمعات فيها، ولو كانت واجبة لما أعرضوا عنها وهي من أظهر شعار (¬2) الإِسلام. ولأن السلطان شرط في إقامتها. ومقام السلطان في الأمصار على غالب العادات ولأن أمر الجمعة مبني على العموم. ولهذا لا يحل لأحد من أهلها أن يتخلف عنها، ولا أن تقام الجماعات حتى (¬3) تصلى الجمعة. وهذا يشعر بأنها من شعار (2) الإِسلام العامة. فلهذا لا تقام بكل مكان كسائر الصلوات. وإذا كان هذا هكذا وجب أن تخص بمكان جامع للعامة ليتحقق معنى. الشعار للعموم بذلك الاختصاص. وهذا لا يحصل إلا في الأمصار الجامعة. والذي قدمناه من الجمع بجؤاثى يرد هذا الذي قاله. وأما ما أشرنا إليه من الاختلاف فيما كان فيه جماعة استقروا وفقد الشبه من ناحية الأبنية. فإن ما قدمناه من الإشارة يطلع منها على سبب الاختلاف. وأيضًا فإن قبائل العرب كانت حول المدينة ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بإقامة الجمعة. وهذا فيه أيضًا رد لمذهب أبي ثور ويرده أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة، وكان يوم جمعة، ولم يجمّع. وتعلقه بأن عمر كتب إلى أبي هريرة رضي الله عنهما أن جمّعوا حيث كنتم. محمله على المواضع التي تقام فيها الجمعة بدليل ما ذكرناه من الأدلة المتقدمة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: قد قدمنا مخالفة أبي حنيفة في إقامة الجمعة في القرى وقصره إقامتها على الأمصار. وذكرنا سبب الخلاف بيننا وبينه في ذلك. ولما علم القاضي أبو محمَّد مخالفته في ذلك نبه بهاتين اللفظتين على خلافه لنا. وإن كان قوله وأنها تقام في كل قرار يمكن الثواء فيه يغني عن هذا التنبيه على أن البلد مساو للقرية. ولكنه ذكره تصريحًا وإن كان قدمه تلويحًا لينبه به على اختلاف الناس في هذه المسألة وهذا لحذقه بالتأليف واطلاعه على المقالات. ¬

_ (¬1) يوجب كون البلد ذلك هذا هو عرف العرب -و-. (¬2) شرائع - قل. (¬3) حيث -و-.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وشروط أدائها ستة: الإِسلام وما يعتبر في (¬1) سائر الصلوات من الطهارة والستر وإمام، وجماعة (¬2). قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منهما أن يقال: 1 - لِمَ فرَّق بين هذه الشروط والشروط الستة المتقدمة؟. 2 - وما أوصاف الإِمام الذي تصح إمامته في الجمعة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما فصل بين الشروط لأن وجوب الفعل غير أدائه. وهذه عبارة يستعملها الفقهاء للتفرقة بين معاني الشروط. فقد يكون الشيء لا تتوجه (¬3) العبادة على المكلف إلا بحصوله فيسمونه شرطًا في الوجوب. وقد تجب العبادة ولكن يشترط في صحة فعلها ووقوعها موقع (¬4) الأجزاء حصول معنى يسمون ذلك المعنى شرطًا في الأداء. وقد كنا قدمنا في كتاب الطهارة شيئًا من هذا المعنى لما ذكرنا اختلاف المذهب فيمن لم يجد (¬5) ماء ولا ترابًا في جميع وقت الصلاة هل عليه قضاء الصلاة بعد خروجها أم لا؟ وقلنا من رأى أن الطهارة شرط في وجوب الصلاة، فإنه لا يوجب القضاء، لأن الصلاة لم تجب بفقدان شرط الوجوب. ومن يراها شرطًا في الأداء فقد يوجب القضاء، لكون الوجوب قد حصل والفعل لم يمتثل. وهكذا الأمر ها هنا لمّا كان البلوغ والعقل والذكررية والحرية والإقامة شرائط في وجوب صلاة الجمعة ميّزها القاضي أبو محمَّد عن الشرائط الأخرى التي هي شرط في الأداء في حق من وجبت عليه الجمعة. ولا خفاء أن العقل إنما اشترط (¬6) ليفهم الخطاب. ¬

_ (¬1) به -و- قل. (¬2) جماعة = ساقطة -و- قل. (¬3) توجيه- قل. (¬4) وقوعها بصفة الأجزاء -و-. (¬5) لا يجد -و-. (¬6) يشترط.

والوجوب إنما يتصور بعد فهم الخطاب. فوجب عنه من شرائط الوجوب. كما لا خفاء أيضًا في أن أهل المدينة التي بها الجامع إذا خوطبوا بالجمعة وقيل لهم إنما يقع موقع الصحة إذا أوقعتموها في الجامع. وأن إيقاعها في الجامع من شروط الأداء، لأن الوجوب قد تحقق. وإنما أمر المكلف أن يوقع الفعل على صفة دون صفة، والصفة الموقع عليها الفعل مما يكتسبه، فيجب عليه تحصيله. وكثير من شرائط الوجوب لا يجب تحصيلها. وقد تكلم أهل أصول الفقه على أحكام الشروط وما يجب أن يحصل منها، وما لا يجب بما ليس هذا موضع بسط قولهم فيه. وقد عذ القاضي أبو محمَّد ها هنا الإِسلام في شروط الأداء. وهذا إنما يتجه إذا قال إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهو مذهب حذاق الأئمة. وإن قال إنّهم غير مخاطبين بفروع الشريعة لم يحسن علّه للإسلام من شرائط الأداء. وقد أكثر المؤلفون في شرائط الجمعة. واختلفوا في عدد الشروط اختلافًا لا فائدة في نقله *لأن المطلع على التفصيل فروع هذا الباب يعلم يعلم حقائق شروطه* (¬1) وإنما نبهناك من كلامه في هذه الشروط على ما يمكن أن يخفى على من لم يطالع علم الأصول. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد ثبت أن صلاة الجمعة من شرطها الجماعة. والجماعة لا بدّ لها (¬2) من جامع وهو الإِمام، فهل من شرط الموضع الذي تقام فيه الجمعة أن يكون فيه إمام سلطنة أم لا؟ عندنا وعند الشافعي أنه ليس بشرط. وعند الحسن وأبي حنيفة والأوزاعي هو شرط. وقد قدمنا قول يحيى بن عمر الذي اجتمع عليه قول (¬3) مالك وأصحابه أن الجمعة لا تقام إلا بثلاثة: العصر والجماعة والإمام الذي تُخاف مخالفته. فقوله الذي تخاف مخالفته كالإشارة إلى مذهب أبي حنيفة لا سيما وقد قدمنا ما حكاه عن عمرو بن العاصي. وقال ابن مسلمة: من صلى بقوم صلاة في مسجد أو غيره أجزأتهم، إلا أن تكون الجمعة فإنه لا يصليها إلا بسلطان أو مأمور أو رجل ¬

_ (¬1) ما بين الجمين = ساقط -و-. (¬2) منها -و-. (¬3) قول = ساقطة -و-.

مجتمع عليه، حتى يختص بوصف لا ينبغي أن يصلي الجمعة إلا أحد هؤلاء. وهذه إشارة منه إلى أنه وإن لم يشترط السلطنة فيشترط كون الرجل مجتمعًا (¬1) عليه حتى يختص بوصف، بخلاف غيره من الأيمة. وإذا قلنا بمنع اشتراط إمام السلطنة فقد قال مالك إذا منع الناس الإمامُ من إقامتها وقدروا على إقامتها فعلوا. وفزق أشهب بين أن يمنعهم أو يكون ممن لا يمنع فصلوها بغير أمره. وفي قول أشهب إشكال أقي الطريقتين سلك؟ وأشار بعض أشياخي إلى أن المذهب لا يختلف في أن الأمير إذا حدث عليه وقد شرع في صلاة الجمعة ما نقض طهارته فذهب ولم يستخلف أن القوم يستخلفون، (¬2) لأن هذه ضرورة. فدليلنا على إسقاط اشتراط إمامة السلطنة مقيمًا لها أو اَذنًا فيها: قول الله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬3). ولم يشترط إمام سلطنة. وورود الشرع باشتراط أمور لم تتضمنها الآية، لا يجعل الآية مجملة لا يحتج بها بل يكون ذلك كالتخصيص. وأيضًا فإن عليًّا رضي الله عنه أقام صلاة العيد بالمدينة وعثمان محصور ولم ينكر عليه أحد. والاختلاف في اشتراط إمامة السلطنة في صلاة العيد كالاختلاف في اشتراطه في صلاة الجمعة. وقياسًا أيضًا على سائر الصلوات فإنه لا يشترط فيها السلطان ولا إذنه. وقد استدل أصحابنا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: سيليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها *فصلوا الصلاة في بيوتكم في وقتها واجعلوا صلاتكم معهم نافلة (¬4). والأظهر أن المراد بهذا صلاة الجمعة لأن ما سواها لا تحضره الأئمة في الغالب* (¬5). وقد أجيبوا عن هذا بأنه أمر بإقامتها في البيوت. والجمعة لا تقام في البيوت ولم يُرد - صلى الله عليه وسلم - أنهم يؤخرونها حتى يخرج الوقت المختار ولا عذر لهم ني ذلك فيفسقوا فتكره الصلاة وراءهم فتصلّى الظهر في البيوت ثم تصلى الجمعة معهم. ولم يُرد - صلى الله عليه وسلم - أن الجمعة تكون ¬

_ (¬1) مجمعًا -و-. (¬2) أن للقوم أن يستخلفوا - قل. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬4) أخرجه أحمد وأبو داود: بلوغ الأماني ج 2 ص 288 ومختصر المندري ج 1 ص 248 - 249 (¬5) ما بين النجمين ساقط -و-.

تطوعًا عند الله تعالى بل تكون هي الواجبة. وقيل أيضًا في صلاة علي رضي الله عنه أنها يمكن أن تكون عن إذن عثمان رضي الله عنه بل هو الظاهر. ويحتمل أن يكون صار عثمان كالمعزول بزوال قدرته فأقام الصلاة علي بإذن الناس ورضاهم حتى صار بذلك كالإمام لهم. وقيل أيضًا: لا يصح القياس على سائر الصلوات، لأن سائر الصلوات لا يشترط فيها الإِمام فلا يمكن تعرّف صفة الإِمام المشترط من صلاة لا إمام فيها يشترط، بل يجب التعرّف من الطريق الذي اشترط الإِمام لأجله. فإن أصل الإِمام إنما اشترط لتحقيق الشهرة بالحماعة، فصح أن يشترط صفة السلطنة *لأن الجمع الكبير لا يصح إلا بسلطان. ولهذا لم يكتف باشتراط الحرية. لأن اشتراط صفة السلطنة* (¬1) اشتراط صفة تناسب المعنى المراد من الموصوف. وأما أبو حنيفة فإنه يحتج على إقامة السلطان أو إذن السلطان بأن الصحابة فتحوا البلدان ولم يصنعوا (¬2) المنابر إلا بمواضع فيها السلطان. وأيضًا فإن الجمعة من الأمور العامة، وما يتعلق بعموم الناس كان السلطان فيه شرطاً. وتكون الولاية إليه دون غيره، كالحد الذي يرجع صلاحه إلى عموم الناس وأخذ الزكاة التي هي حق (¬3) لعامة الفقراء، وكذلك سائر أمور العامة. وهذا لأن العامة إذا اجتمعت وكثرت لم تصلح إلا بسائس يسوسها وليس إلا السلطان الذي له القهر بالسيف. والحجة لا تقهر العامة. وأيضاً فإنه قد استمر الأمر على إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم -. والخلفاء بعده والأئمة في سائر الأمصار على مرور الأعصار. وأجيب عن هذا بأن هذا اتفاق، لأن الجمعة واجبة على الجميع. فحضور من ذكر فيها لوجوبها عليه لا لكونه شرطًا في إقامتها. ألا ترى أن الحج إقامته للأئمة، ولم يزل (¬4) ذلك على اشتراطهم فيه. فأما الصفة الثانية بأن تشترط عدالة الإِمام فقد قدمنا في اشتراط العدالة في أئمة الصلوات على الجملة فيما تقدم من ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط -و-. (¬2) يمنعوا في جميع النسخ. ولعله يضعوا. (¬3) حق = ساقطة -و-. (¬4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب ولم يدل ذلك.

كتابنا هذا ما فيه كفاية. قال ابن حبيب: وتصلَّى الجمعة خلف الإِمام الجائر الفاسق بلغ فسقه وجوره ما بلغ. وكأنه رأى أن الإمامة وإن كان قد اشترط في صلاة الجمعة ما لم تشترط في غيرها فكانت في الجمعة آكد متى لم تصل وراء الإِمام الجائر أدى إلى الخروج عليه أو إثارة فتنة. فلهذا أباحه في الجمعة دون غيرها وإن كان القياس أن يكون اعتبار العدالة في الجمعة آكد لاشتراط الإِمام فيها *واشتراط صفات فيه* (¬1) لا تشترط في غير الجمعة من الصلوات. وقال القاضي أبو محمَّد القياس يقتضي ألا تصح إمامة الفاسق ولم يخص جمعة من غيرها. ومن صفات الإِمام أن يكون ذكرًا لأن المرأة لا تؤم في غير الجمعة، ففي الجمعة أولى أن لا تؤم. وليس اجتزاؤها بصلاة الجمعة إذا صلتها مأمومة * بالمصحح لإمامتها فيها* (¬2) لأنها ليست من أهل الإمامة. وأيضاً فإن هذه الصلاة ليست واجبة عليها. ومن صفات الإِمام أن يكون حرًا فلا يؤم العبد في صلاة الجمعة. فإن أم بهم أعاد وأعادوا وإن خرج الوقت. وقال أشهب بصحة إمامة العبد فيها، واعتل بأنها تجزيه مأمومًا وتصير فرضه بشهودها. والشافعي يجيز إمامة العبد في الجمعة إذا كان زائدًا على أربعين. وأبو حنيفة أيضًا يجيز إمامته. فيحتج من منع إمامته بأنه سقط عنه فرضها لنقصه فلا يمكن أن يؤم فيها، مع إشعار الشرع بنقصه، كما لا تؤم المرأة. وليس كون العبد يؤم فيما سواها من الصلوات والمرأة لا تؤم أصلًا بما يمنع قياسه عليها لاشتراكهما في النقص على الجملة الذي هو سبب سقوط فرض، الجمعة. وأما من يجيز إمامته فيحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي أجدع ما أقام فيكم الصلاة (¬3). وقد ذكرنا حجة (¬4) أشهب وإشارته أنها ساقطة لحق السيد، فإذا ¬

_ (¬1) هو -و-. (¬2) هو -و-. (¬3) رواه البخاري وأحمد وابن ماجة عن أنس بن مالك ورواه مسلم من حديث أم الحصين. فتح القدير ج 1ص 513 (¬4) قول -و-.

أسقط السيد حقه وجت. وقد ذكرنا ما حكاه ابن القصار من اختلاف أصحابنا في كونها مفروضة على العبد في الأصل، وإنما يسقطها حق السيد. وذلك الخلاف مما ينبني عليه الخلاف في إمامته. ومن صفته أن يكون مقيمًا ليس بمسافر. فإن قلنا بما قاله ابن الماجشون في ثُمانية (¬1). أبي زيد أنها لا تجزي المسافر إذا كان مأمومًا. وإن كان فرضه ركعتين لأنه صلاها على نية الجمعة فالمنع من إمامته فيها أولى، لأن المرأة تجزيها مأمومة ولا يصح أن تكون إمامًا فيها. وإن قلنا بقول مالك والمعروف من المذهب أنها تجزي المسافر إذا صلاها مأمومًا قياسًا على المرأة التي تجزيها، وإن كانت غير واجبة عليها وفرضها في الأصل أربع. فهل تصح إمامة المسافر فيها؟ اختلف في ذلك فقال مالك في العتبية: إذا أحدث الإِمام فاستخلف المسافر لم تجزهم ويعيدون الخطبة والصلاة ما لم يذهب الوقت. فإن ذهب الوقت أعادوا ظهرًا أربعًا. وقال ابن القاسم لا تجزيهم وإن استخلف بعد ركعة. وقال أشهب وسحنون تجزيهم إذا أم بهم ابتداء أو مستخلفًا. وقال مطرف وابن الماجشون تجزيهم إذا أم بهم مستخلفًا ولا تجزيهم إذا أم بهم مبتدئًا. فكانه في القول الأول لما رآها غير واجبة عليه لم تصح إمامته فيها كالمرأة وأمِر هو بالإعادة (¬2) أبدًا لأنه جهر فيها. وكأنه عند أشهب لما حضرها صار من أهلها. وقد قدمنا حجته في ذلك. وكأنه عند مطرف وابن الماجشون إذا عقد إلإحرام مع الإِمام لزمه حكم الجمعة وصار تمامها فرضًا عليه، فصحت إمامته فيها (¬3). وإذا لم يحرم معه فإنها لا تنعقد عليه فلا تصح إمامته فيها. وقال مالك في الإِمام المسافر: إذا مر بقرية يجمّع أهلها فجمع بهم أن الصلاة صحيحة. وعلل أبو الوليد الباجي هذا بأن واليها مستوطن فالجمعة واجبة عليه. فإذا وجبت عليه وجبت على المستنيب له وهو الإِمام. وأشار إلى أن الفرق بين صلاة الجمعة وقصر الإِمام الصلاة أنه لا يصح أن يصلي ¬

_ (¬1) رواية - قل. (¬2) وأمره بالأعادة فيها - قل. (¬3) فيها = ساقطة -و-.

من فرضه أربعًا خلف من يصلي الجمعة. ويصح أن يصلي المُتِمّ وراء المقصر. فكان أبا الوليد لما رأى اختلاف الفرض من ناحية العدد لا يمنع الاقتداء لم ينقل الإِمام عن حكم القصر (¬1) لصحة الاقتداء به وهو قاصر. ولما كان لا يصح الاقتداء به وفي إيجاب الجمعة عليه نظر وليس في نص الرواية ما يدل على وجوب ذلك وإنما نص المدونة قال مالك: في الأمير المؤمر على بلد من البلدان يخرج في عمله مسافرًا أنه إن مرّ بقرية من قراه (¬2) تجمع في مثلها الجمعة *جمع بهم الجمعة وكذلك إن من بمدينة من المدائن في عمله جمع بهم الجمعة* (¬3). ثم قال: وإنما كان للإمام أن يجمع في القرى التي تجمع الجمعةْ في مثلها إذا كان في عمله وإن كان مسافرًا، لأنه إمامهم. فيحتمل أن يكون قوله: جمع بهم الجمعة إن اختار صلاتها. ويكون إذا اختار ذلك لأولى بالإمامة. وقد قال أبو الوليد: المستحب أن يصلي بهم الإِمام دون الوالي فإن صلّى الوالي جازت الصلاة. وقال غيره معتلًا لما في المدونة أن الإِمام إذا وافق الجمعة لم ينبغ له أن يصليها خلف عامله. وقد جمّع عمر رضي الله عنه الجمعة بأهل مكة وهو مسافر. فأنت ترى المدونة ليس فيها نص صريح بالإيجاب. بل قوله في المدونة: وإنما كان للأمام أن يجمّع، ظاهره ما قلناه من نفي الإيجاب. لأن قول القائل لزيد أن يفعل كذا، ليس بنص في الإيجاب. وإنما لفظ الإيجاب أن يقول: عليه أن يفعل كذا. فلو أراد مالك الإيجاب لقال: وإنما كان على الإِمام أن يجمّع. وهكذا أورد مالك المسألة في موطئه بلفظ ليس بصريح في الإيجاب أيضًا. وإنما يتضح الإيجاب لو كان المكان قد صار بحلول الإِمام فيه وطنًا له، ولكنه لو صار كذلك لأتم الصلاة. ولما أحس أبو الوليد الباجي بالمناقضة بالقصر أشار إلى الفرق الذي ذكرناه عنه. وبالجملة فإن في إيجاب الجمعة على هذا الإِمام نظر عندي. وأما لو كانت هذه القرية مما لا يجمع فيها فجمّع الإِمام بهم لما حلّ فيها ¬

_ (¬1) القصر = ساقطة -و-. (¬2) قرى - قل. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-.

فإن المذهب اختلف في ذلك. ففي المدونة لا تصح صلاة الإِمام ولا من خلفه، وأشار الأبهري إلى أن ذلك لأجل جهره تعمدًا فيما يسر فيه. وإن القول باجزاء الإِمام صلاته، إنما ذلك لأنه فعل ذلك على جهة التأويل. ويمكن عندي * (¬1) أن يكون الإجزاء لأنه إنما غير بجهره سنة، وترك السنن عمدًا لا يفسد الصلاة في إحدى الطريقتين. وإن كان التارك غير متأول فإذا قلنا بأحد قولي مالك أن الصلاة تجزي الإِمام فقد قال مالك إن أتم أهل القرية صلاتهم أجزأتهم. وهكذا قال ابن القاسم ليصلوا على إثرها ركعتين، وهكذا قال ابن نافع تجزي الإِمام ومن معه من المسافرين. وأما أهل القرية فيتمون ركعتين وتجزيهم. ومن صفات الإِمام أن يكون بالغًا وقدمنا في باب الإمامة الدليل على اشتراط البلوغ. وأشرنا إلى ما قيل من الاختلاف في صلاة الصبي بالبالغين في غير صلاة الجمعة وصلاة الجمعة آكد مما كنا تكلمنا فيه. لأن الإِمام شرط في صحتها، وما أشرنا إلى ذكر الاختلاف فيه ليس الإِمام شرطًا في صحته. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وجماعة ولا حد لهذه الجماعة إلا أن يكون (¬2) عددًا تتقرى به قرية. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لِمَ اعتبرت الجماعة في صلاة الجمعة؟. 2 - وما مقدار الجماعة؟. 3 - وما صفتها؟. 4 - وهل تعتبر في جملة (¬3) الصلاة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا أن صلاة (¬4) الجمعة ¬

_ (¬1) ما بين النجمين هو -و-. قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم أتبين موضع النجمة الأخرى (¬2) في نسخة الغاني: إلا أن يكونوا عددًا تتقرى بهم. (¬3) في صفة - قل. (¬4) صلاة = ساقطة -و-.

أقيمت على صفات قُصد بتلك الصفات التي خصت بها الجمعة المباهاة وإظهار (¬1) معالم الشرع، وإذا كان الأمر كذلك ظهرت فائدة تخصيص الشرع لهذه الصلاة باشتراط الجماعة، إذ الواحد الفذ لا تحصل به المباهاة والإظهار (¬2). فلو صح أن يقيمها الواحد الفذ بنفسه لبطل المعنى المقصود بها. وهذا واضح في معنى اشتراط الشرع الجماعة فيها. ولهذا المعنى (¬3) خصت بالجهر دون صلوات النهار. لأن الجهر آكد في الإظهار والإشاعة والإسرار ضرب من الإخفاء، والإخفاء ينافي الموضوع الذي قصد بها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في عدد الجماعة التي تنعقد بهم الجمعة، هل هو محدود أم لا؟ والمشهور عندنا أنه ليس بمحدود وإنما المعتبر ما أشار إليه القاضي أبو محمَّد من كونهم عددًا تتقرى بهم قرية. وقيل إن الجماعة محدودة، واختلف الحادّون فيها. فذكر ابن حبيب عن مالك أن الثلاثين بيتًا وما قاربهم جماعة. قال ابن حبيب وهو مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا اجتمع ثلاثون بيتًا (¬4). والبيت مسكن الرجل الواحد. وفي مختصر ابن شعبان إذا كانت قرية فيها خمسون رجلًا ومسجد يجمّعون فيه الصلوات (¬5) فلا بأس أن يجمّعوا صلاة الخسوف. وهذا يتخرج منه مراعاة هذا العدد في الجمعة، لأن الجمعة أحق باشتراط الجماعة، وباعتبار هذا العدد قال عمر بن عبد العزيز، وقال زيد بن بشر في حصن بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ إن كان فيه خمسون رجلًا فأكثر فليكلموا الوالي ليأمر من يخطب بهم ويجمّع. قال الشيخ أبو الحسن بن القابسي: ما علمت أحدًا ذكر عن مالك عددًا حدّه تقوم به الجمعة إلا ابن حبيب، فإنه قال الثلاثون وما قاربهم عندي جماعة. كذلك روى مطرف وابن الماجشون عن مالك. وقال أبو حنيفة تنعقد الجمعة ¬

_ (¬1) إحضار -و-. (¬2) وإظهار معالم الشرع - قل. (¬3) المعنى = ساقطة -و-. (¬4) تقدم التعليق على هذا الحديث وأنه لم يصح شيء في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. (¬5) يجتمعوا فيه للصلوات.

بأربعة. وقال الشافعي بأربعين والإمام من جملتهم. وقال الليث والأوزاعي وأبو ثور وأبو يوسف (¬1) بثلاثة. وقال ربيعة بإثني عشر. وقال عكرمة بتسعة. وقال الحسن بن صالح بمائتين، وروي ذلك عن أبي هريرة. فخرج من مجموع ذلك أن المسألة اختلف فيها على عشرة أقوال. نفي التحديد. وآثنان، وثلاثة، وأربعة، وتسعة، وآثنا عشر، وما قارب الثلاثين، وأربعون، وخمسون، ومائتان. فأما نحن فإذا نفينا التحديد واعتبرنا ما أشرنا إليه من كون الجماعة على صفة ما، فإنا إنما عولنا في ذلك على الظاهر. وقد قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬2). وهذه إشارة إلى قوم لهم سوق للبيع والشراء، وهذا لا يحصر بعدد كما لم تحصره الآية. وقد يجب مع وجود عدد تارة إذا حصلت فيهم الصفة التي أشار إليها الظاهر، وتسقط مع وجود أكثر منه إذا لم يكن على الصفة التي اقتضاها الظاهر. وأما من اعتبر الثلاثين ونحوها فإنه يعتمد على ما رواه القاسم بن محمَّد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا اجتمع الثلاثون بيتاً فليقدموا رجلًا منهم في الجمعة (¬3). وأما من اعتبر أثني عشر رجلًا فيعتمد على ما روي أنه انفض الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو قائم يخطب حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلًا. وظاهر هذا جواز الاقتصار على هذا العدد لأنه لم يذكر أن من انفض عنه رجع إليه. وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مصعب بن عُمير قبل الهجرة وكان مصعب بالمدينة فأمره أن يصلي الجمعة بعد الزوال ركعتين وأن يخطب قبلها (¬4). فجمّع مصعب في بيت سعد بن خيثمه باثني عشر رجلًا. وقد روي أنهم كانوا أربعين رجلًا. ولكن من ذكرنا حجته في رواية من روي اثني عشر رجلًا ولكن لا تصح له حجته إلا أن تصح هذه الرواية دون ما سواها، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك فأقره. وأما من قال أربعين فيعتمد على قول جابر بن عبد الله مضت السنة على أنها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما من قال اثنان، قاس على ¬

_ (¬1) أبو يوسف = ساقطة من -و-. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬3) تقدم قريبًا. التعليق عليه. (¬4) روى الدارقطني قريبًا منه من طريق المغيرة. انظر إرواء الغليل ج 2 ص 68.

غيرها من الصلوات. وهذا قياس غير صحيح، لأن الجماعة شرط في الجمعة وليست شرطًا في غيرها من الصلوات. وأما من اعتبر الأربعة فإنه رأى أن الجماعة من شرط صحة الإِمام. وأكثرها لا نهاية له ووسطها أعداد كثيرة ليس بعضها أحق من بعض، فإذا بطل أكثر بعدم النهاية والأوسط لتقابل الأعداد، لم يبق إلا الأقل. وأقل الجمع ثلاثة عند هؤلاء. وأما من قال ثلاثة فيمكن أن يكون سلك هذه الطريقة ولكنه رأى أن أقل الجمع اثنان. أو يكون سلك طريقة الأولين في أن أقل الجمع ثلاثة ولكنه احتسب بالإمام في عدد الجمع. وأما من قال مائتان فإنه يرى أن الأصل وجوب الظهر وإنما نزل وجوب الجمعة بعد وجوب الظهر واتفق على أنه لا يجب إلا بصفة وعدد فلا ينتقل عن الأصل الذي هو الظهر إلا باتفاق أو دليل ولا يثبت دليل عنده على ما دون المائتين ولا يثبت دليل بالزيادة عليهما فوجب الاقتصار عليها. هذا جملة توجيه جميع الأقوال المذكررة. والقول العاشر الذي هو اعتبار التسع لا أعرف له الآن وجهًا. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما صفة الجماعة فاختلف الناس فيها فقال أشهب: إن هرب الرجال الأحرار عن الإِمام فلم يبق معه إلا عبيد ونساء لا رجل معهم فليصل بهم الجمعة ركعتين. قال سحنون: لا تقام الجمعة بالعبيد ولا بالنساء لأنها ليست عليهم. وألحق سحنون المسافرين بالنساء والعبيد في أن الجمعة لا تنعقد بهم. وألزم أشهب إلحاق المسافرين بهم لأن (¬1) الجمعة تنعقد بهم. ومذهب الشافعي أنها لا تنعقد بالعبيد ولا بالمسافرين. ومذهب أبي حنيفة انعقادها بهم. والظاهر أن مذهب أبي حنيفة أنها لا تنعقد بالنساء والصبيان. وفرّق أصحابه بينهم وبين العبيد والمسافرين: أن العبد والمسافر يصح أن يؤمّا في سائر الصلوات بخلاف المرأة. واحتجوا لانعقادها بالمسافرين والعبيد، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة ثمانية عشر يومًا وكان يقصر بهم الصلاة وكان إمامًا (¬2). ولا شك أنه صلى إمامًا في الجمعة مرات وإذا صلح ¬

_ (¬1) في أن - قل. (¬2) اثني عشر - قل. وقد اختلفت الروايات في مدة إقامته - صلى الله عليه وسلم - بمكة فروى البخاري عن ابن عباس أنه أقام تسعة عشر يومًا يقصر. فتح الباري ج 3 ص 215. وروى أبو داود =

المسافر إمامًا صلح مأمومًا ها هنا، بل صلاحه مأمومًا أولى. فإذا تأدت الصلاة مع كون العبد متبوعًا ففي حال كونه تابعًا أولى. وهكذا قال أبو حنيفة لو اجتمع أربعون مسافرون أو عبيد وعقدوا جمعة فإنها تنعقد بهم. وقال الشافعي لا تنعقد بهم. وقد أشار بعض المتأخرين إلى احتمال في قول أشهب ورأى أنه يمكن أن يكون إنما تكلم على هروبهم عنه بعد أن أحرم وثبت حكم الجمعة بالإحرام. وغيره من الأشياخ حمل الرواية على ظاهرها (¬1) ورأى أنها تنعقد بهم عنده على كل حال. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في الجماعة هل هي شرط في انعقاد الجمعة أو في أدائها؟ فقال ابن القاسم وسحنون: إذا هرب الناس عن الإِمام في صلاة الجمعة لم تصح جمعته (¬2). قال سحنون ولو تفرقوا عنه في التشهد. ورأى سحنون أن يجعلها نافلة. وهذه طريقة من رأى أن الجماعة شرط في جميع هذه الصلاة. وهذا مذهب زفر. وقال أشهب وأبو حنيفة إن هربوا عنه بعد أن عقد ركعة أتم صلاته جمعة. لكن أبا حنيفة رأى أن الجمعة تنعقد ها هنا بحصول ركعة وسجدة. وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد إذا هربوا عنه بعد الإحرام أتمها جمعة. وسبب هذا الاختلاف ما أشرنا إليه أولًا من اعتبار الجماعة في الانعقاد أو في الأداء. فإن قلنا أن الجماعة شرط في الأداء لم تصح الجمعة للإمام إلا أن تكملها الجماعة معه، لأن كل جزء من الصلاة يفتقر في تأديته إلى ما يفتقر إليه الآخر. ألا ترى أن الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة لما افتقر إليها في تادية الصلاة استوت جميع أجزاء الصلاة في افتقارها إلى ذلك. وكذلك اعتبار الجامع في هذه الصلاة لما كان شرطًا في صحة التأدية افتقر إليه في جميع أجزاء- هذه الصلاة. وقد كنا تكلمنا على رجوع الراعف إلى الجامع يوم الجمعة، وذكرنا ما قيل فيه. وسنتكلم على ¬

_ = سبعة عشر. وله أيضًا ثماني عشرة ليلة. وروى ابن اسحق عن الزهري أنه أقام خمسة عشر يومًا. الفتح ج 3 ص 219. وج 9 ص 53 وسيراة ابن هشام ج 4 ص 64. والسير الحلبية ج 3 ص 120/ 121. (¬1) إطلاقها -و-. (¬2) له جمعة - قل.

اعتبار (¬1) الوقت في جميع هذه الصلاة. وإن قلنا إن الجماعة شرط في الانعقاد صح ما قال أبو يوسف وصاحبه. وإن قلنا أنها تنعقد بتكبيرة الإحرام وتدرك الجمعة بها. وصح ما قاله أشهب وأبو حنيفة إن قلنا أنها لا تنعقد إلا بإدراك ركعة. وسنتكلم على ما تدرك به الجمعة لكنّ أبا حنيفة رأى أن الركوع مع السجدة هو معظم الركعة. وإذا حصل معظم الشيء فكان جميعه حصل. وأصلنا نحن المشهور عندنا أن الإدراك إنما يكون بتحصيل الركوع والسجدتين جميعًا، وإن كان أشهب قد حمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة (¬2) على أن المراد به الركوع دون السجود على ما كنا حكيناه عنه في الكلام في الأوقات. والذي حكاه عنه ابن سحنون ها هنا أنه قال: قال أشهب إذا تفرقوا عنه بعد ما صلّى بهم ركعة من الجمعة وبقي وحده فإنه يصلي ثانية وتكون (¬3) له جمعة. لقوله- صلى الله عليه وسلم -: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها (¬4). ويمكن عندي أن يكون أشهب يجعل الإِمام مدركًا للجمعة بالركوع خاصة لما قدمناه من مذهبه في تأويل الحديث الذي وقع في مثل هذا. وقد رأيت بعض من صنف مسائل الخلاف ذكر أن مالكًا يقول إذا انفضوا بعد ما صلّى ركعة بسجدتين أنها جمعة. وأورد هذا عن مالك بعد إيراده مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه. ولم أقف لمالك على هذا. ولعل هذا الحاكي وقف على مذهب أشهب فظن أنه مذهب مالك لكون أشهب من أصحابه. وعلم أن المشهور من أصلنا أن الادراك إنما يكون بالركعة والسجدتين فأضاف هذا المذهب إلى مالك. أو يكون وقف عليه حيث لم نطلع عليه نحن. وإنما طرقنا إلى حكايته هذا الوهم لما لم يكن من أصحابنا. وقد يُحتج لأبي حنيفة وأشهب بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى (¬5). وينفصل الآخرون عن هذا بأن يحملوا الحديث على المسبوق، ولكنهم إن حملوه على المسبوق لزمهم أن يفرقوا بينه وبين الإِمام إذا هرب الناس عنه. وقد أكثر الناس من الكلام ¬

_ (¬1) اعتبار القول في الوقت - قل. (¬2) من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. رواه الأربعة. فيض القدير ج 6 ص 44. (¬3) وتصح - قل. (¬4) مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص292 (¬5) حديث حسن الإسناد. رواه ابن ماجة والحاكم. فيض القدير ج 6 ص 45.

على هذا القياس لما اعتمد من اعتبر ركعة عليه وحرر (¬1) قياسه واستدلاله بأن قال: الجماعة شرط في الجمعة، وهي إنما تكون بالإمام والقوم. واحتياج القوم إلى الإِمام في تصحيح صلاتهم كحاجة الإِمام إليهم في ذلك. وحاجة الإِمام أشد لأن صلاة القوم تفسد بإفساد صلاته، ولا تفسد صلاة الإِمام بإفساد القوم صلاتهم في غير صلاة الجمعة. وإذا تساوى الاحتياج إلى التصحيح، أو كان (¬2) المأموم إليه أحوج، ووجدنا مدرك ركعة من الجمعة يقضي ركعة أخرى وحده. وإن كان مبتدىء الجمعة منفردًا لم تصح جمعته. كذا الإِمام يجب أن يبني على ركعته ركعة أخرى. وإن كان لو ابتدأ الجمعة وحده لم تصح صلاته. إلى هذا المعنى أشار أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة. قال بعض هؤلاء المسندلين بأن الجماعة شرط في الانعقاد ويكتفى بالمشاركة في تكبيرة الإحرام فكان يجب ألا يصح الشروع إلا بشرط المشاركة فيه ليصح الانعقاد. لكن لما كان شرع للمأموم إلاَّ يكبر مقارنًا لتكبيرة الإِمام صار الإِمام إذا كبر والقوم مستعدون للتكبير كان استعدادهم للتكبير كالتكبير حتى يقدر أنهم شاركوا فيه، وتكون المشاركة في القيام مشاركة في الشروع. وقد كثر المتكلمون على التفرقة بين بناء المأموم إذا أدركها وبين بناء الإِمام على ركعة إذا هربوا عنه. قال ابن عبدوس في المأموم: إنما يبني على جمعة قد أقامها المأموم بشروطها. وهكذا قال الشيخ أبو الحسن ابن القابسي أن الذي فاتته ركعة إنما أدرك ركعة من صلاة أكملت على حسب ما ابتدأت بالجماعة. وهذا الذي (¬3) صلى ركعة ثم هرب الناس عنه يكمل الصلاة (¬4) على غير ما ابتدأت عليه لأنها ابتدأت بالجماعة وتكمل بغير الجماعة. وهذا المعنى سلك غيرهما *وهكذا قال أصحاب الشافعي: أن المأموم أدرك ركعة من جمعة تمت بشرائطها. قال بعض البغداديين* (¬5) من أصحابنا: إن تفرقة هؤلاء بقولهم: إن المأموم يبني على جمعة حاصلة لإمامه ¬

_ (¬1) وجوز - قل. (¬2) وكان -و-. (¬3) الذي = سا قطة -و-. (¬4) ركعة -و- قل. (¬5) ما بين النجمن = ساقط -و-.

بغيره كما بني للركوع على قرأى الإِمام، ولو لم يقرأ الإِمام، لم يصح للمأموم ركوع. والإمام في الجمعة لم يبن علي جمعة حصلت لأجل، تفرقة (¬1) لا تصح. لأن الجمعة متعلقة بكل واحد من الإِمام، والمأموم، فإذا اشتركا في الركعة فقد حصل شرط الجمعة. وليس تقدم صلاة الإِمام على الكمال بمؤثر ها هنا لأن المأموم لم يحصل له معه إلا ركعة. ألا ترى أنه يقرأ فيها ولا يعتد بقراءة الإِمام. فهذه طريقة من الفرق، قد سلكها جماعة من أصحاب مالك والشافعي. وقد خرج فيها بعض أصحابنا بهذا الذي أريناك. وأشار بعض أصحاب أبي حنيفة إلى طريقة أخرى في التفرقة وهي أن المشاركة قد تقع للمأموم بحكم قصده للشروع في صلاة الإِمام وهي في حق الإِمام إنما تقع حكمًا بشروع القوم في صلاته. فما ثبت من المشاركة حكمًا ينبغي أن يحصل بأبلغ ما تثبت (¬2) به المشاركة التي تثبت بحكم القصد. لأن ما ثبت قصدًا إنما ثبت بنفسه. وإذا ثبت هذا هكذا صح أن يقال على هذه الطريقة إن المأموم يبني على ركعة ولا يبني (¬3) عليها الإِمام، لاختلافهما في طريق المشاركة كما بيناه. وهذه التفرقة أوردها هذا الرجل اعتذارًا عن أبي حنيفه في قوله: إن المأموم يدرك الجمعة بإدراك التكبير*على ما سنبينه من مذهبه* (¬4). والإمام لا يبني إذا هرب الناس عنه على التكبير *بل على ركعة. وأوضح هذا الرجل هذه الطريقة على أصلهم بأن يصلي الفرض إذا قام إلى النفل بعد فراغه من الفرض وقبل أن يعقد أنه شرع في النفل قصدًا إليه بتحريم له فسد فرضه بنفس الشروع وإن حصل في النفل حكمًا بالقيام إليه من غير تكبير لم يفسد الفرض* (2) حتى يعقد ركعة بسجدتيها. ولما رأينا هذا الرجل أورد هذا الفرق معتذرًا عن أبي حنيفة في تفرقته بين الإِمام والمأموم في المسألتين اللتين ذكرهما عنه ونقلناه نحن إلى التفرقة بين الإِمام والمأموم في المسالتين اللتين قصدنا إلى ¬

_ (¬1) خبر أن تفرقة. (¬2) يحصل -و- قل. (¬3) لا يبني -و-. (¬4) ما بين النجمين ممحو -و.

الكلام عليهما لتصور الفرق في الجميع تصورًا واحدًا. وقد أشار بعض أشياخي إلى أن سبب الخلاف أن أشهب رأى أن هروبهم عنه وإبطالهم المشاركة له لا تبطل عليهم ماقد صلى بهم ويبقى بركعته حكم الجماعة. كما أن مذهب أشهب أيضًا أن الإِمام إذا أبطل صلاته متعمداً أن صلاة المأمومين لا تفسد إذا لم يقتدوا به بعد القطع. وإذا ثبت لركعته حكم الجماعة صح أن يبني عليها إذا هربوا عنه. فكانه رأى أن سبب الخلاف استقرار حكم الجماعة موقوفًا فيهما حتى تكمل الصلاة. وهذا لعمري الذي أشار إليه تلويح وإن لم يصرح به لا يبعد الاختلاف فيه على حسب ما كنا قدمنا في كتاب الطهارة من تخريج الاختلاف في الوجه إذا غسل في الطهارة الصغرى، هل يقال ارتفع الحدث عنه أو ارتفاعه عنه موقوف على كمال الطهارة، وهذا المعنى الذي أشار إليه شيخنا قدْ لوَّح به ابن عبدوس لأنه قال في كلامه على هذه المسألة: الجمعة لا تقوم إلا بالجماعة، فلما هربت الجماعة فأبطلت ما قد مضى من صلاتها مع الإِمام صار الإِمام إنما أقام الجمعة وحده. وكذلك لو هرب الإِمام وبقيت الجماعة لبطلت ولم يجزهم أن يبنوا على ما مضى. وعليهم أن يستأنفوا الصلاة من أولها. وهذا الذي قال ابن عبدوس من هروب الإِمام أنه كهروبهم في إبطال الصلاة، لكونه أيضًا مقتضى قول أشهب أنه إذا هرب بعد ركعة لا يبطل عليهم كما لا يبطلون عليه إذا هربوا عنه بعد ركعة. وقد حكينا من مذهبه أن قطع الإِمام متعمدًا لا يفسد على من خلفه. فإذا كان هذا مذهبه تخرج على قوله أن هروبهم تعمدًا لا يبطل عليهم (¬1) على حسب ما ذكرناه. وقد قال بعض أصحابنا البغداديين إذا أحدث الإِمام بعد ركعة فأتموا وحدانًا فلا تجزيهم لقدرتهم على الجمع والإمام لا يقدر على ذلك إذا هربوا، كما لو صلوا في صلاة الخوف الجمعة لصقى بكل طائفة ركعة وبنوا وأتموا، لأنهم لا يقدرون إلا على ذلك. فأشار هذا إلى تفرقة بين هروب الإِمام عن الناس أو هروب الناس عنه. ورأى أنه مني قدر على الجمع بالاستخلاف لم تجز الجمعة إلا جمعًا. كما إذا لم يقدر على الجمع بأن أقام الإِمام صلاة الجمعة في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب عليه.

الحضر حيث تجب الجمعة وهو على خوف فإنه يسامح بإسقاط الجمع لعدم القدرة عليه لأجل ما شرع في صلاة الخوف. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومسجد. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على اشتراط المسجد؟. 2 - وما صفة المسجد الذي تقام فيه؟. 3 - وما حكم من صلى خارج المسجد؟ (¬1). 4 - وهل تقام في مساجد؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال بعض المتأخرين من أصحابنا لا خلاف في اشتراط الجامع إلا ما لا يعتد به مما نقله القزويني عن أبي بكر الصالحين وتأوله على رواية ابن القاسم عن مالك في قوله في المدونة: إن الجمعة تقام في القرية المتصلة البنيان التي فيها (¬2) الأسواق، وترك ذكر الأسواق مرة أخرى. قال الصالحين: لو كان من صفة القرية أن يكون فيها الجامع لذكره. وهذا عندي غير صحيح، لأنه إنما قصد من ذكر القرية إلى ما يختص من صفتها دون ما هو شرط منفرد عنها. ألا ترى أنه لم يذكر الإِمام وغيره من الشروط. على أن في المختصر الكبير: وفيها سوق ومسجد. فشرط المسجد. وهذا القول قد انعقد الإجماع على خلافه. ولا يعلم من بقي من العلماء من يقول به. والأصل فيه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل الأئمة بعده. وهذا الذي قاله هذا المتأخر وحكاه من تأويل من تأول الرواية وتعقبه عليه. قد قال مالك في أهل الخصوص وهم جماعة، واتصال تلك الخصوص كاتصال البيوت أنهم يجمعون وإن لم يكن لهم وال. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي لم يقل: إذا كان لهم مسجد. وهذه إشارة منه إلى ما تأوله الصالحين على مسألة المدونة. ولهذا المتعقب أن يعتذر عن هذه الرواية أيضًا بما اعتذر به عن رواية المدونة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قال بعض المتأخرين من أصحابنا: ¬

_ (¬1) الجامع -و-. (¬2) بها - قل.

من شرط ما تصلى فيه الجمعة البنيان المخصوص على صفة المساجد. والبراح الذي لا بنيان فيه أو فيه ما لا يقع عليه اسم مسجد لا تصح الجمعة فيه. لأن الشروط ها هنا متعلقة بالأسماء. ألا ترى أن الإِمام حكم له بحكم الجماعة في سائر الصلوات ولا يكتفي في الجمعة بما حكم له من ذلك حتى يوجد الإسم الإِمام إذا أقام الصلاة بمسجده وصلّى ولم يأته أحد *فإن لصلاته حكم* (¬1) الجماعة. والجمعة لم يُكتف فيها بمجرد هذا الحكم، وكون الجماعة مقدرة بل لا بد من كون الجماعة موجودة. فيمكن أن يقال إن الجماعة لو وجدت حسًا وهما اثنان أو ثلاثة لم يكتف بهم في إقامة الجمعة. وإن كانت الجماعة قد حصلت حسًا ووجودًا. إلا أن الجماعة في هذه الصلاة تقدر بمقدار ولا ينتهي الحكم في القوة (¬2) إلا أن يقدر بعدد أو مقدار. فلهذا لا يكتفي الإِمام في الجمعة بحكم الجماعة عن وجودهم. وسائر الصلوات لا تقدر فيها الجماعة. فإذا حصل حكم الجماعة على الجملة أكتفي بهم. اللهم إلا أن يقول كان يجب أن يكون للإمام في الجمعة حكم العدد المشترط (¬3) في الجمعة. وهذا يفتقر إلى دليل. والغرض إظهار طريقة ثانية يمكن أن يعلل بها فينبغي أن يعتمد في هذا الذي قاله من اشتراط البنيان المخصوص على أن الأصل فرض الظهر فلا يزال عنه إلا بدليل. وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأئمة بعده إنما أقاموا الجمعة في أبنية مخصوصة فيجب أن لا يتعدى مسلكهم في ذلك. قال هذا المتأخر وللجامع صفة تزيد على كونه مسجدًا، فكل جامع مسجد وليس كل مسجد جامعًا. وإنما وصف بالجامع لاجتماع الناس فيه لصلاة الجمعة فلا تقام في غيره حتى يحكم له بذلك على التأبيد دون أن ينتقل ذلك إليه في يوم بعينه. ولو أصاب الناس ما يمنعهم من الجامع يومًا ما، لم تصح لهم جمعة في غيره من المساجد ذلك اليوم إلا أن يحكم له الإِمام بحكم الجامع، وينقل أحكام الجامع الأول إليه فيبطل ¬

_ (¬1) هو -و- (¬2) في انفراده -و-. (¬3) المشروط.

حكم الجمعة في المسجد الأول وينتقل إلى الثاني. وكذلك في المدونة في الراعف يوم الجمعة، وهو جالس في التشهد، إذا غسل الدم رجع إلى الجامع وإن قضى الإِمام صلاته. لأن الجمعة لا تكون إلا في الجامع، ولو كانت المساجد تنوب عنه لقال يتمها في أقرب المساجد إليه. وقد حكى عن أبي حنيفة أنه أجاز أن تقام الجمعة خارج العصر إذا كان الموضعقريبًا منه نحو موضع صلاة العيد، وقاسها على صلاة العيد لما كانت الصلاتان شرع لهما الجماعة. وانفصل عن ذلك بأن صلاة العيد غير منقولة، وصلاة الجمعة منقولة من فرض إلى فرض، فاختلف فيها العصر وخارج العصر كصلاة السفر. وهذا الذي حكي عن أبي حنيفة من إجازة إقامتها خارج العصر *ظاهره إسقاط اشتراط الجامع إذا كان يحيى إقامتها خارج العصر* (¬1) في غير جامع ولست أحقق صفة مذهبه في هذا الذي حكي عنه. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قدمنا اشتراط (¬2) الجامع في صلاة الجمعة وأن الجمعة يشترط فيها مكان مخصوص، بخلاف غيرها من الصلوات. وقد كره الأحنف بن قيس والشعبي وأحمد وإسحاق وابن مُحيْريز الصلاة في المقصورة. وقال إسحاق تجزئ إن فعلت. وذكر عن ابن عمر أنه كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى المسجد فأنت ترى كراهة هؤلاء الصلاة (¬3) في المقصورة مع كونها من جملة المسجد. وقد قدمنا في اشتراط الجامع قولًا مقنعًا. وأما ظهر الجامع فهل يكون له حكم الجامع أم لا؟ فأما ما سوى الجمعة فقد تقدم الكلام عليه وذكرنا أن مالكًا أجازه ثم كرهه. وأما في صلاة الجمعة، فالمشهور من المذهب المنع من ذلك. قال مالك في المدونة لا يجوز ذلك لأن الجمعة لا تكون إلا في المسجد. وقال أصبغ: لا بأس بذلك. واحتج بصلاة الناس بمكة على باب زمزم وغيرها مثل قعيقعان وأبي قبيس بحضرة أهل الموسم وأهل الآفاق. وقال ابن الماجشون لا بأس أن يصلي المؤذن على ظهر المسجد؛ لأنه موضع أذانه إذا قعد الإِمام على المنبر. وفي ثمانية أبي زيد عن ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ساقط من -و-. (¬2) أنا نشترط - قل. (¬3) للصلاة - قل.

مالك ومطرف وابن الماجشون وأصبغ أن الصلاة جائزة ولا إعادة عليه. وهكذا مذهب أشهب أنه لا يعيد. وقال ابن القاسم في المدونة بل يعيد وإن ذهب الوقت. وقد حمل حمديس المنع على حالة الاختيار، فقال، معنى المسألة إذا كان في داخل المسجد سعة كمن صلى في خارجه الجمعة من غير ضرورة فعليه الإعادة احتياطًا. وأصل هذا الاختلاف على ظهر المسجد حكمه حكم باطنه أم حكمه حكم ما خرج عنه وجاوره من الديار وغيرها؟ وقد جعلوا الحالف أنه لا يدخل بيتاً أنه يحنث بقيامه على ظهرها. وأحلوا ظهر البيت محل داخلها. وهذا لأن الحنث يكون بالأقل فلا يعترض على الصلاة بهذا، لأن مبنى الصلاة على الاحتياط فهي تشبه (¬1) البرّ. فلو حلف ليدخلنّ بيتًا لم يبرّ بقيامه على ظهرها، ولم يجعل ظهرها في البرّ كباطنها (¬2). ولقد كتب إلى سلطان يسألني عن الصلاة بمقصورة في قصره الحائط مشترك بينها وبين الجامع: وأحب أن يصلي على أعلى الحائط المشترك مرتفعًا عن الناس محجوبًا عنهم. فأجبته بأن سر اشتراط الجامع والجماعة في الجمعة بخلاف غيرها من الصلوات أنها صلاة قصد بها المباهاة والاشادة والاعلان. ولهذا جهر بالقراءة فيها، وإن كانت صلاة نهار وجعل فيها الخطبة. فكل معنى تكمل المباهاة فيه ويزيد في بهاء الإِسلام كان أولى أن يسلك، والاخفاء والاستتار نقيض هذا الغرض الذي أشار إليه الشرع. وقد قدمنا كراهة من كره الصلاة في المقصورة وإن كانت في المسجد فكيف بهذه التي هي كالخارجة عنه؟ وقد اختلف المذهب في صلاة الجمعة على ظهر الجامع على حسب ما قدمناه. فمن منع هناك منع ها هنا بلا شك. ومن أجاز هناك ففي هذه المسألة على أصله إشكال لأن عرض الحائط الحامل لسقفه هل يقدر أنه معدود من جملة السطح أو لا يعد من جملته؟ وللعلماء المتقدمين كلام على (¬3) المصلي على حائط الجِجْرِ (¬4) هل يكون كلالمصلي في "خله أو ¬

_ (¬1) تسبب -و-. (¬2) كبطنها -و-. (¬3) في- قل-. (¬4) أي حجر إسماعيل الذي قصرت النفقة بقريش عن إدخاله في البيت.

كالمصلي خارجًا منه، فإن قدر كالمصلي في داخل الحجر فقد يقدر المصلي على سعة الحائط كالمصلي على ظهر الجامع. وإن قدر كالمصلي خارجًا من الحجر فقد يقدر هذا كالمصلي خارج الجامع. فإذا كان طائفة من أهل المذهب لا شك أنهم يمنعون وطائفة يتردد القول فيهم هذا التردد فالهروب من هذا أولى. فلما كتبت إليه بهذا امتنع من إحداثه. وبعثه الإيثار على الاعتزال عن الناس على أن حاول أن يخرج من قصره هذه المقصورة (¬1) إلى الهواء الذي يحيط به حيطان الجامع ليكون مصليًا في داخله فيرتفع ما رأيته من الإشكال فيما كتبت به إليه. فسألني عن هذا أيضًا فأشكل عليّ أمره لمعان عرضت فيه، فهربت (¬2) له من إباحته على أنه أولى بالأجزاء من الصلاة في عرض الحائط. لكون المصلي فيه مصليًا في داخل الجامع وباطنه. وسنذكر ما قاله سحنون في الصلاة في حُجَر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الآن يصلي في المقصورة التي بداخل الجامع غير مرتفعة عن الناس. وأما صلاة الجمعة في الأفنية المباحة التي يتصرف فيها بغير إذن فإنها جائزة إذا اتصلت الصفوف ودعت الضرورة إليها لأنه لا (¬3) مندوحة عن الصلاة فيها إلا بترك صلاة الجمعة. قال مالك: ولا بأس بالصلاة يوم الجمعة لضيق المسجد في حوانيت عمرو بن العاص ورآها كالأفنية. فأنت تراه كيف اعتبر الضيق والضرورة. وأما الصلاة فيها من غير ضرورة فقال ابن أبي زمنين من قول ابن القاسم أن من صلى في أفنية المسجد يوم الجمعة أو قضى ركعة كانت عليه من رعاف غسله وهو يجد موضعًا في المسجد يصلي فيه أن ذلك يجزيه. وخالفه سحنون وقال يعيد أبدًا لأن الصلاة في غير المسجد لا تجوز إلا لضيق المسجد. وقال في مختصر ابن شعبان من صلى في أفنية الحوانيت وبينه وبين المسجد عرض الطريق ولم تتصل الصفوف من غير ضيق المسجد أجزته صلاته. قال ابن شعبان رأى أبو هريرة أناسًا يصلون في حوانيت الرحبة فقال: لا جمعة لمن لم يصل في المسجد. وقاله قيس بن عبادة. وهذا الذي حكاه ابن شعبان عن أبي هريرة أن الصلاة لا تصح في الأفنية. وقد اشتد سحنون في النكير ¬

_ (¬1) أن يخرج من قصره هذا إلى المقصورة. (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب فقربت له إباحته. (¬3) لا = ساقطة من جميع النسخ.

لذلك. فكان يقول إذا من على الذين يجلسون للصلاة في الطريق فرع رجلك على عنقه وجرّه، ويامرهم بالدخول، ويقول إن صليتم ها هنا فصلاتكم باطلة. فكان سحنونًا رأى أن أصلنا في اشتراط الجامع يقتضي إبطال الصلاة في إيقاعها في غير الجامع اختيارًا. وكان مالكاً على مقتضى ظاهر ابن شعبان وابن القاسم رأى أن هذه الأفنية حكمها حكم الجامع لما كان الجامع المشروط موجودًا وقد صلّى فيه من صلى، فإن الآخرين المصلين في الأفنية يقدرون كالمصلين في الجامع. وقال مالك في المجموعة لا أحب أن يصلى في الطريق والأفنية الجمعة إلا مثل المرأة والضعفاء ومن لا يقدر على دخول المسجد، والرجل يصيبه ذلك المرة بعد المرة. وأما من يقعد في منزله يتنعم ويتلذذ. فإذا خاف الفوات جاء فصلّى حيث أدركه فلا أحب أن يلتزم (¬1) مثل هذا أحد. وأما الصلاة في الديار والحوانيت فإن مذهب مالك أن الصلاة فيها تجزي مؤتمًا إلا في الجمعة فلا تكون إلا في المسجد أو مواضع غير مملوكة متصلة به (¬2). وأبو حنيفة يجيزها في الجمعة وغيرها. والشافعي لا يجيزها في الجمعة ولا في غيرها إلا أن تتصل الصفوف ويشاهدها. وقد قدمنا ذكر مذهبه في ذلك لما تكلمنا على حكم الإمامة في الصلوات الخمس وحكم الجماعة. ومما يردّ مذهبه صلاة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حجرهن بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه-يخلى صلّى في بيته وصلى الناس بصلاته في المسجد (¬3) فلم ينكر ذلك عليهم. ولا يعارض هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (¬4). لأن الإِمام إذا كان في المسجد فالمقتدي به كأنه في المسجد. وقول عائشة رضي الله عنها لنسوة صلين (¬5) في حجرتها لا تصلين بصلاة الإِمام فإنكنّ دونه في حجاب. أشار بعض أصحابنا إلى حمله على حجاب يمنع الاقتداء. وأما الحجة فإنما فرقنا بينها وبين غيرها من ¬

_ (¬1) يلزم -و-. (¬2) أو موضع غير مملوك متصل به -قل-. (¬3) البخاري. فتح الباري ج 2 ص 355 وأحمد: بلوغ الأماني ج 3 ص 282 (¬4) رواه الدارقطني عن جابر ضعيف. وقال ابن الجوزي: هو موضوع. فيض القديرج 6 ص 431. (¬5) للنسوة اللائي صلين -قل-.

الصلوات في هذا لما قدمناه من ورود الشرع باشتراط مكان مخصوص فيها. قال بعض أصحابنا البغداديين: الإِمام لا يصلي الجمعة في هذا (¬1) المكان وكل ما لا يصلي فيه الإِمام لا يصلي فيه المأموم. وكل موضع صح أن يصلي فيه الإِمام صح أن يأتم به فيه المأموم. وإطلاق هذا طردًا وعكسًا يفتقر إلى تأمل. أما ما تصح صلاة الإِمام فيه فلا شك في صحة صلاة المأموم فيه. وأما عكس هذا فإنه إذا قلنا بصحة صلاة المأموم في الفناء اختيارًا فإن إطلاق ما قدمناه إباحة صلاة الإِمام في الفناء والناس بالجامع إذا تُصور ذلك. وهذا فيه نظر. ويفتقر هذا الإطلاق إلى تأمل. وأما صلاة النساء في حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد اعتذر الناس عن ذلك. فقال ابن القاسم إنما جازت صلاة الجمعة فيها لأنها لم تكن تُمنع من الناس. قال ابن مُزين: قلت لعيسى لِمَ كان الناس يصلون في حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. من ضيق المسجد؟ *فقال كانوا يدخلونها بغير إذن. وقال سحنون لما سأله ابنه عن صلاة الناس يوم الجمعة في هذه الحجر أنها كانت في المسجد* (¬2) وإنما كانت تلك الحجر من جريد قد قطعت بمسوح الشعر. وأخبرني من أدرك بعضها على ذلك فهي كالأخبية في المسجد. وأبوابها شارعة فيه وليست بمنزلة ما خرج من المسجد. وقد كنا قدمنا فيما سئلنا عنه من بناء مقصورة في هواء المسجد ما قدمناه. وقد يتعلق متعلق بصحة الصلاة فيه بظاهر كلام سحنون هذا وهو مما يفتقر إلى تأمل. وفي المبسوط قال ابن مسلمة إنما قال مالك في هذه الدور التي لا تُدخل إلا بإذن لا يصلى فيها بصلاة الإِمام إذا كان الذي فيها غير متصل بصفوف المسجد، فأولئك لا ينبغي لهم ذلك لأنهم ليسوا في المسجد ولا متصلين به. وأما لو امتلأ المسجد ورحابه وأفنيته حتى تتصل الصفوف من المسجد إلى تلك الدور فلا بأس بذلك. وتصير الدور والشوارع حينئذ بمنزلة حجر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأنت تراه كيف أشار إلى أن العذر في الحجر اتصالها بالصفوف. وأشار سحنون إلى التعليل بكونها من المسجد. وابن القاسم وعيسى إلى كونها تدخل بغير إذن. فإذا ثبت ¬

_ (¬1) إلا في هذا المكان - قل. (¬2) ما بين النجمين = ساقط من -و-.

المنع من صلاة الجمعة في الدور والحوانيت التي لا تدخل إلا بإذن. فإن إذن أهلها لا يبيح صلاة الجمعة فيها. *وإن إذن أهلها* (¬1) قاله في المدونة. لأنا لو أبحناه بالإذن لأبحنا الصلاة فيها لأهلها لأنه ماذون لهم فيها. وإذا قلنا بالمنع على الإطلاق في هذه المواضع التي لا تدخل إلا بإذن أو بالمنع بشرط أن لا تتصل الصفوف على ما أشار إليه ابن مسلمة. فإن خالف المصلي وركب النهي فهل تصح صلاته أم لا؟ ذكر ابن مزين عن ابن القاسم أنه يعيد الصلاة أبدًا. وعن ابن نافع أنه قال أكره تعمد ذلك وأرجو أن تجزيه صلاته. والجراب عن السؤال الرابع: أن يقال: لا تقام الجمعة عندنا في البلد الواحد إلا في جامع واحد. وبه قال الشافعي. وأجاز محمَّد بن الحسن أن تقام فيه جمعتان. وروي ثلاث جمع. وأما أبو يوسف فنقل عنه بعض من صنف الخلاف أنه إن كان للبلد جانبان بأن يكون في وسطه نهر جاز أن تقام فيه جمعتان. وإن كان جانبأواحدًا لم تُقم فيه إلا جمعة واحدة. ونقل عنه بعض أصحابنا أنه إذا كان العصر عظيمًا كبغداد جاز، وإن كان القياس لا يجوز. وأشار ابن القصار إلى أن هذا يُشبه أن يكون مذهب مالك. وذهب عطاء وداود إلى جواز إقامتها في كل مسجد. ودليلنا أنها صلاة غيّرت من فرض إلى فرض وخصت بشروط فيجب اقتفاء أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. ولم يقمها - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده إلا في مسجد واحد. ولو كانت إقامتها في مسجدين جائزة لفعله ولو مرة واحدة ليشعر بجوازه. وقد قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (¬2). وهذه إشارة إلى صلاة واحدة لا إلى صلوات. قال بعض أصحابنا البغداديين ولأنه إذا بني جامع لم يجز بناء غيره لأنه يؤدي إلى الافتراق والتباين وزوال الغرض في الاجتماع. وأيضاً فإن الجمعة إنما خصت بهذه التسمية *لأجل الاجتماع فلو جاز الاجتماع لها في مواضع لبطل فائدة هذا التخصيص بهذه التسمية* (¬3) وأما تعلق داود بأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي هريرة في البحرين أن ¬

_ (¬1) هكذا- ويظهر أنه مقحم-. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-.

اجمعوا (¬1) حيث كنتم فإن المراد به في أي بلد كنتم. وأما تعلق ابن الحسن بأن عليًا صلّى العيد واستخلف أبا مسعود البدري فصلّى بضَعَفَة الناس في المسجد فإنا سنتكلم على إقامته في الموضعين. فمن الناس من أجازه بخلاف الجمعة. فإذا ثبت منع إقامة الجمعة في جامعين على الجملة فهل يجوز ذلك عند الحاجة؟ قد قدمنا قول ابن القصار: إذا كانت المدينة ذات جامعين كبغداد فيشبه أن يجيء على المذهب أن يجمعوا في الجامعين. وقال أبو محمَّد في غير كتابه هذا لا يجمع في مصر وإن كثر أهله إلا في موضع واحد. وقال وكان شيخنا رحمه الله يقول هذا: إذا كان المصر على جانب واحد. ويجب على مذهبنا إذا كان له جانبان كبغداد وواسط ولم يكن بينهما جسر فإنه يجمع في الجانبين. فإن كان بينهما جسر (¬2) وقال محمَّد بن عبد الحكم لا بأس أن تقام الجمعة في موضعين كبغداد ومصر. وقال أحمد بن حنبل يجوز أن تقام جمعتان وثلاث وأكثر إذا دعت الحاجة إلى ذلك كبغداد والبصرة وغيرهما. وإذا وجبت إقامة الجمعة في جامع واحد وكان بالبلد جامعان فإنها تقام عندنا في الأقدم منهما. وإن أقيمت في الأحدث وحده أجزته. وإن أقيمت في الجامعين مع القدرة على الاكتفاء بواحد. ففي العتبية لمالك في الأمير يستخلف من يصلي بالعصبة الجمعة ويجمع هو بطائفة في طرف العصر الجمعة. قال: الجمعة لأهل العصبة. وفي مختصر ابن شعبان: لا أرى الصلاة إلا لأهل العصبة وإن كانوا يصلون مع خليفة الإِمام لا معه. فالصلاة مع خليفته جائزة. قال ابن شعبان يريد أن الصلاة لأهل المسجد العتيق. قال عبد الله بن عمر: لا جمعة إلا في المسجد الأكبر. وكان مالك (¬3) يتجوز المسجد المحدث إلى القديم. قال ابن الجلاب: لا تصلّى الجمعة في مقصورة في مصر واحد في مسجدين *والصلاة صلاة أهل المسجد العتيق. واعتبر بعض الناس السبق. فقال تجزي من أقامها أولًا. ويعيد من أقامها بعد. وقد اختلف المذهب ¬

_ (¬1) اجتمعوا -قل-. (¬2) هو -ولعله لم يجمّعوا إلا في جامع واحد-. (¬3) مجاهد -قل-.

في جمع من كان قرب مدائن الجمع. فقال ابن حبيب من كان من أهل القرى الحاضرة أو القرى التي يجمع فيها على أقل من بريد، فلا يجمع حتى يكونوا على* (¬1) بريد فأكثر. وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز وقال يحيى بن عمر: لا تجمعوا حتى تكونوا على ستة أميال. وقال زيد بن بشير (¬2) يجمعون وإن كانوا على أكثر من فرسخ. قال بعض المتأخرين هذا هو الصحيح لأن كل موضع لا يلزم أهله النزول إلى الجمعة لبعدهم وكملت فيهم شروط الجمعة فإنه تلزمهم إقامتها في موضعهم كأهل مصر. وأشار هذا المتأخر إلى أنه يجب أن يكون بين الجامع وبين جامع *أقدم منه مسافة لا يجب المضي منها إلى الجامع الأقدم* (¬3) وقد قال ابن القصار فيمن كان خارج المسجد تجب عليهم الجمعة. إذا كان لهم مسجد وسوق يقدمون من يصلي بهم، وإن كانوا من العصر على فرسخ. وهذا فيه جواز إقامتها بموضع يخاطب المنفرد به أن يأتي الجمعة في العصر. وسننقل نص كلامه في باب مقدار ما تجب منه الجمعة. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وخطبة. قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل الخطبة فرض أم لا؟. 2 - وما مقدارها؟. 3 - وما الصفات التي يؤمر الخطيب أن يكون عليها؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في خطبة الجمعة هل هي فرض أم لا؟ فعند مالك والشافعي أنها فرض وشرط في صحة الصلاة فلا تجزي الصلاة إلا بها. وقال الحسن وداود هي مستحبة. وإلى هذه الطريقة ذهب ابن الماجشون من أصحابنا فقال: الخطبة سنّة. ومن صلّى بغير خطبة أجزأه ولم يعد. وفي الثمانية لمالك أن الجمعة تجزيه. وقال ابن الجهم هي سنّة واجبة. ¬

_ (¬1) هو في -و- وخرم في الورقات بمقدار أربع أسطر. وقد حاولنا إقامة النص. (¬2) محمَّد بن بشير -و-. (¬3) أقرب منها إلى الجامع الأقدم.

ودليلنا على وجوبها أن الله سبحانه أمر بفعل الجمعة وبين - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر بفعله فكان يخطب ولم يترك الخطبة في حال من الأحوال. فدلّ على وجوبها. وأيضًا ققد قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬1). وأول الذكر في الجمعة الخطبة. فيجب حمل هذا الظاهر عليه ولا يعدل به إلى الذكر المفعول في الصلاة. إلا بدليل. وأيضًا فإن الله حرم البيع حين النداء. فلو كانت الخطبة غير واجبة لم يحرم البيع إلا عند الدخول في الصلاة. وأيضًا فإن الله سبحانه قال: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬2). معناه تخطب. وظاهر هذا التوبيخ على تركه وهو يخطب. والتوبيخ لا يكون إلا على ترك واجب. وأيضاً فإنها أقيمت مقام ركعتين. ألا ترى قول عمر رضي الله عنه: قصرت الصلاة لأجل الخطبة. وإذا كانت أقيمت مقام ركعتين وجب أن تكون فرضًا. ولهذا قال أصحابنا في الإِمام يخطب قبل الزوال ويصلي بعده أنه يعيد الخطبة والصلاة، لما رأوها مقام الركعتين. فراعوا الوقت فيها كما يراعى في الركعتين. وهذا يرد قياس من أنكر الوجوب قياسًا على غيرها من الخطب. لأن هذه الخطبة جعلت عوضاً عن واجب. وغيرها من الخطب لم تجعل عوضاً عن واجب. ولهذا قال سحنون إذا خطب الإِمام جنباً أعادوا الصلاة أبدًا. وسنتكلم على اشتراط الطهارة إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في المقدار الواجب من الخطبة. فذكر القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا أن في مقدار ما يجب من الخطبة روايتين. إحداهما: أنها لا تجزي إلا بما له بال، ويقع عليه اسم خطبة. والثانية أنه إن سبّح وهلل، أو سبّح فقط فليعد، ما لم يصل. فإن صلى أجزأه. وفي الثمانية عن مطرف إذا تكلم بما قل أو كثر فجمعته جمعة. وقال أبو حنيفة تجزي في الخطبة التحميدة والتسبيحة. وقال صاحباه والمعتبر قدر ما يتعارف أنها (¬3) خطبة. ويمتاز عن سائر أنواع الكلام. وقال ابن القاسم إن سبّح أو هلل ¬

_ (¬1) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 11. (¬3) أنها = سا قطة -و-.

لم يجزه إلا أن يأتي بكلام يكون عند العرب خطبة. وقال ابن عبد الحكم تجزيه لأنه لفظ فيه تعظيم وتكبير لله تعالى وقال الشافعي أقل ما يجزي أن يحمد الله تعالى ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويوصي بتقوى الله عَزَّ وَجَلَّ ويقرأ آية من القرآن. وفي الثانية يحمد الله تعالى ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويوصي بتقوى الله عَزَّ وَجَلَّ ويدعو للمؤمنين والمؤمنات. فأما أبو حنيفة فإنه يتعلق بقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬1). فإطلاق هذا يقتضي جواز الاقتصار على القول سبحان الله والحمد لله. والشافعي يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل نحوًا (¬2) مما قال فجعله بيانًا للأجزاء. ويقول أبو حنيفة بل هو بيان للكمال. ونقول نحن الخطبة يُشار بها في اللغة إلى كلام واقع على نظام مخصوص، فيجب ألا يكتفى إلا بما تقع عليه هذه التسمية. ولو كان كل كلام يسمى خطبة لكان كل أحد خطيبًا (¬3). ولا تعلق في أمره - صلى الله عليه وسلم - بتقصير الخطبة، فإن ذلك محمول على النهي عن التطويل والتكثير لا على تقصير يمنع من تسمية الكلام خطبة. وكذلك ما ذكر أن عثمان خطب فارتج عليه فقال: الحمد لله. فمحمول على خطبة البيعة. ثم لم يقتصر على هذا القدر حتى أضاف إليه ما قال من الكلام. ولو جاز الاقتصار على التسبيح لجاز الاقتصار على القول الله أكبر. ولا معنى لقولهم إن الخطبة مأخوذة من المخاطبة لأنا قدمنا أن هذه التسمية مقصورة على نظم ولا معنى لقولهم إن الخطبة الثانية من جنس الأولى فلا معنى لتكريرها لأن الركعات والسجدات مكررات، وإن كان قد تماثل ما تكرر منها. ولا معنى لقولهم لما لم يقيد بعدد دل على أن القصد إيراد ما فيه تعظيم لأن الجماعة معتبرة في هذه الصلاة. وترك تقييدها بعدد لم يسقط وجوب اعتبارها. وقد اختلف المذهب في الخطبة الثانية فذهب ابن القاسم في كتاب ابن حبيب إلى أنه إذا لم يخطب من الثانية ما له بال لم يجزهم. وحكى ابن حبيب عن بعض أصحابه أنه إن نسي الثانية أو أحصر عنها فالأولى تكفيهم. وقال ابن حبيب لا يلقق فيما تعاصم فيه من الخطبة. وأما ما يقرأ فيها من القرآن فلا بأس ¬

_ (¬1) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬2) نحو -و-. (¬3) لفظة واحدة ممحوة.

أن يلقن فيه. وعندي أنه إنما فرق (¬1) بين الأمرين لأن القرآن متعين لا يصح إبداله والخطبة يصح إبدالها. *فقد يورد إذا تعالى إبدال اللفظ* (¬2). وقال ابن حبيب: ويترك في تلجلجه وإحصاره في الخطبة وليخرج هو إلى ما تيسر عليه من الثناء على الله سبحانه وعلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فأنت تراه (¬3) كيف أشار إلى القدرة على الخروج والإبدال. على أن القرآن أيضًا (¬4) وإن لم يكن له أن يبدله من تلقاء نفسه ففي قدرته أن يقرأ سورة أخرى. وهذا مما يتأمل. وهذا الكلام في مقدار ما يجزي من الخطبة. وأما المستحب فيها فقال ابن حبيب ليققر الخطبتين، والثانية أقصرهما. وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير باصبعه إذا دعا أو وعظ. وكان لا يدع أن يقرأ في خطبته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا} (¬5). وينبغي أن يقرأ في الخطبة بسورة تامة من قصار المفصل. وكان عمر بن عبد العزيز يقرأ تارة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وتارة {وَالْعَصْرِ}. وقال أشهب في المجموعة نحوه. قال فإن لم يفعل أساء ولا شيء عليه. وفي المختصر يبدأ في الخطبة بالحمد دئه ويختم بأن يقول: أستغفر الله لي ولكم. وإن قال: اذكروا الله يذكركم فحسن. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: يُؤمر الخطيب في الجمعة أن يكون متطهرًا. وهل هذا الأمر على الاستحباب أو على الوجوب؟ المذهب على قولين: فذهب القاضي أبو محمَّد إلى أن الخطبة فرض والطهارة مستحبة. وقال ابن الجلاب: الاختيار أن يخطب على طهارة. فإن خطب على غير طهارة أساء، والخطبة صحيحة. وقال مالك في المختصر: من خطب غير متوضئ ثم ذكر أجزأه وبئس ما طبع. قال ابن المواز يعيد الخطبة. وقال سحنون إذا خطب جنبًا ¬

_ (¬1) وإنما فرق بين الأمرين -و-. (¬2) مع المحو في قل أثبتنا ما هو واضح في -و- وإن كان التركيب قلقًا. (¬3) ترى -قل-. (¬4) على أن القول أفضل -و-. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 71.

أعادوا الصلاة أبدًا. قال أبو محمَّد يريد وهو ذاكر. قال سحنون وإن ذكر في الخطبة أنه جنب نزل وانتظروه إن قرب، وبنى. قال: وقال بعض أصحابنا: فإن لم يفعل وتمادى في خطبته واستخلف للصلاة أجزأهم. وقال المغيرة: إن ذكر في الخطبة أنه غير متوضئ، فليأمرهم أن يمكثوا حتى يتوضأ، إن (¬1) كان اغتسل برواحه وإلا اغتسل ثم ابتدأ الخطبة، وكذلك من ينتقض وضؤوه. وإن ذكر صلاة نسيها صلاّها وبنى على خطبته. فأما ما حكيناه من الاستحباب للطهارة فقد نص عليه من حكيناه عنه. وأما ما حكيناه من أنها فرض فكذا قال بعض أشياخي، اختلف في الطهارة للخطبة على القول بأن الخطبة فرض هل هي فرض أو تجزي بغير طهارة؟ وهذا الذي نقلناه عن سحنون أشار بعض المتأخرين إلى أنه بناء على أن الطهارة فرض وليس عندي بنص جليّ. لأنه لم يذكر هل صلّى بهم أم لا؟ وإن كان لا شك في أن المفهوم منه أنه خطب جنباً وصقى متطهرًا. إذ لو كان معناه أنه صلّى جنباً لكان تعليق الأمر بالإعادة بذكر صلاته جنباً أولى من تعادى بذكر خطبته جنباً. لكن قوله أنه يبني إذا ذكر في خطبته أنه جنب فيه إشارة إلى الاعتداد بما فعله وهو جنب. وكذلك ما حكاه عن بعض أصحابنا أنه إن تمادى على الخطبة تجزيه إلا أن يتعسف متعسف فيتاول مذهبه من البناء على أنه يورد بعد الطهارة من الخطبة ما يجزي بمجرده على حسب ما تقدمت الإشارة إليه في القدر الكافي. فلا يتعلق بما ذكره من البناء. لكن ما حكاه عن بعض أصحابنا نص (¬2) في إجزاء الخطبة بغير طهارة. وهو مطابق لما قاله أبو محمَّد وابن الجلاب من كون الطهارة مستحبة وهو مذهب أبي حنيفة وإبن حنبل واحد قولي الشافعي وله قول آخر أن الطهارة من الحدث والنجس شرط في الخطبة. وسبب الاختلاف أن الأذان ذكر يتقدم الصلاة كما أن تكبيرة الإحرام ذكر في الصلاة. والأذان ذكر لا يشترط فيه الطهارة فتقاس الخطبة عليه وتكبيرة الإحرام ذكر في الصلاة ومن شرطها الطهارة فتقاس الخطبة أيضًا عليها. لا سيما أن الخطبة بدل من الركعتين فيتأكد إيجاب الطهارة لها لكون الطهارة شرطًا فيما هي ¬

_ (¬1) كان كان اغتسل برواحه. هكذا في -و- وفي ورقات. ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) يناقض -و-.

بدل منه وقد اشتمل ما قدمناه من الروايات على مراعاة الاتصال من عمل الخطبة، ولهذا قال سحنون يبني إن قرب فاشترط في البناء القرب لما كان القريب (¬1) في معنى المتصل. وقال أشهب إذا خطب في وقت الظهر وصلّى في وقت العصر في الغيم فأحب إلى أن يعيدوا إلا أن يكون ما بين الخطبة والصلاة قريبًا فتجزيهم. فأشار إلى كون الخطبة متصلة بالصلاة أو في حكم المتصل. وهذا يشير إلى أنها تحل محل الركعتين. فلما كانت الركعتان من حقهما الاتصال بالركعتين الأخريين كانت الخطبة كذلك. ومن الصفات التي يؤمر الخطيب أن يكون عليها أن يخطب قائمًا. قال ابن حبيب من السنّة أن يخطب قائمًا ويجلس شيئًا في أولها ووسطها. وكان معاوية لما أسنّ جلس في الخطبة الأولى كلها واستأذن الناس في ذلك، وقام في الثانية. ولا ينبغي ذلك. وليقم فيها كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون. وقال ابن القصار الذي يقوى عندي أن القيام والجلسة واجبان وجوب سنّه فقط. وقالت الشافعية القيام مع القدرة في الخطبة واجب. وقال أبو حنيفة وأحمد ليس بواجب. وسبب الاختلاف في ذلك كسبب الاختلاف في الطهارة. فمن رأى الخطبة ذكرًا كتكبيرة الإحرام أوجب القيام في الخطبة مع القدرة، كما تجب في تكبيرة الإحرام. ومن رآها ذكرًا لا يشترط فيها استقبال القبلة لم يوجب فيها القيام كالأذان. وأما الجلسة بين الخطبتين فقد ذكرنا قول ابن القصار: الذي يقوى عندي أن القيام والجلسة واجبان وجوب سنّة فقط. وذكرنا قول ابن حبيب من السنة أن يخطب قائمًا ويجلس شيئًا في أولها ووسطها. فأشار إلى كون الجلوس الأول والثاني من السنّة. وقال أبو حنيفة وأحمد في الجلوس بين الخطبتين أنه مستحب. وقال الشافعي هو واجب، ويعتمد في إيجابه على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس بين الخطبتين وخطب قائمًا. وقد قال تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (¬2). وأفعاله على سبيل القرب تقتضي الوجوب على قول من قال بذلك من أهل الأصول. ¬

_ (¬1) القرب - قل. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 10.

وإذا ثبت أن القيام مشروع. فقال مالك فليتوكأ على عصا. وقال ابن حبيب وكذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك ينبغي أن يتوكأ على عصا أو قوس غير عود المنبر الذي خطب عليه أو إلى جانبه. وفي العتبية قال مالك ولا يرقى المنبر عندنا (¬1). يقوم على يسار المنبر، ومنهم من يقوم عن يمينه. وكان عبد الله بن عبد الرحمن ابن القاسم بن محمَّد وغيره يقومون عن يمينه وكل واسع. وما أدركت من يعيب إمساك العصا في الخطبة. ويقال فيها شغل عن مس اللحية والعبث باليد. واختلف قول مالك في التوكؤ على القوس فروى عنه ابن وهب أنه مثل العصا وروى عنه أنه لا يتوكأ عليه إلا في السفر. ومن صفات الخطيب أن يخطب بحضرة الجماعة. قال ابن القصار: وليس لمالك نص في الإِمام يخطب وحده دون من تنعقد بهم الجمعة. وأصل مذهبه عندي يدل على أنها لا تصح إلا بحضور (¬2) الجماعة. وقال القاضي أبو محمَّد: هذا البخاري على المذهب ولم أجد فيه نصًا لمتقدمي المذهب. وقال بعض المتأخرين عندي أنه نص على هذا في المدونة بقوله: ولا يجمع بالجمعة إلا الجماعة والإمام بالخطبة. وهذا ليس بنص كما أشار إليه لإمكان أن فيكون إنما أراد التعرض لعدد الشروط على الجملة. لا سيما وهذا الكلام إنما أورده في المدونة عقيب مسألة الإِمام يخطب فيهرب عنه الناس فلا يبقى معه إلا الواحد والإثنان وهو (¬3) في خطبته أو بعد ما فرغ منها. فقال: إن لم يرجعوا إليه فيصلي بهم الجمعة صلى أربعاً. فأنت تراه كيف قال فيمن فرّوا عنه وهو في الخطبة أنهم يرجعون إليه فيصلي بهم الجمعة. وقد يكون فرارهم ولم يذهب من ¬

_ (¬1) نص العتبية. وسئل مالك عن قيام الخطيب على المنبر في الجمعة. لا يطلع على المنبر أعلى يمينه أم على شماله؟ قال إن جل من عندنا ليقومون على يسار المنبر. ولقد كان عبد الله بن عبد الرحمان ابن القاسم بن محمَّد وغيره ليقومون على يمينه. وأرى ذلك واسعًا. فقيل له فالعصا؟ قال ما أدركت أحداً ممن أدركته ولا ممن كان عندنا إلا وهو لا يعيبها. وإن قائلًا ليقول إن فيها لشغلًا عن مس اللحية والعبث. البيان والتحصيل ج 1 ص 40/ 341. (¬2) حصول -قل-. (¬3) وهو = ساقطة -و-.

الخطبة إلا ما لا يقع (¬1) به الأجزاء. وإذا فروا والحال كذلك وعادوا للصلاة خاصة صار ذلك إشارة إلى جواز الخطبة بغير حضرة الجماعة، إذا حمل لفظ المدونة على الإطلاق والتعميم. وهذا ضد ما زعم أنه نص فيها لكنه نقل عن المدونة إلا بالجماعة والإمام يخطب. فنقله قد يسعده على ما قال. ونقلنا أقرب في إمكان ما تأولناه وإلى اشتراط الجماعة ذهب الشافعي. وذهب أبو حنيفة إلى نفي اشتراطها. فدليلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب بحضرة الجماعة فوجب الاقتداء به. وأيضًا فإن الغرض بالخطبة الإعلام. والإعلام إنما يراد للناس لا للإمام. فإذا خطب وحده صار في معنى من لم يخطب أو في معنى من تحضره (¬2) الجماعة ولا يسمعه أحد. وإنما جاز الأذان بغير حضرة الجماعة لأنه ليس بشرط في صحة الصلاة. وأما أبو حنيفة فإنه يحتج بقوله: " {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} ". وظاهر هذا وجود الذكر قبل السعي. وأجيب عن هذا بأن القصد السعي لسماع الذكر، فلو سبق الذكر سعيهم لكانوا ساعين إلى السكوت. وهذا ضد لمراده. ويحتج بأنه كما صح أن ينفرد بالإحرام ثم يحرمون بعد ذلك (¬3) يصح انفراده بالخطبة. وأجيب عن هذا بأنه لا يُحرم إلا بحضرتهم وإن تأخر إحرامهم *عن إحرامه فكذلك الخطبة لا يوقعها بحضرتهم* (¬4). ومن صفات الخطيب أن يكون هو المصلي. وقد قال مالك فيمن قدم رجلًا فخطب وصقى هو بالناس الجمعة لم تجزهم الصلاة. ويلزم على طرد هذا إذا خطب الإِمام ثم قدم من يصلي بالناس اختيارًا الآ تجزي الجمعة، وإنما يباح له الاستخلاف إذا دعت الضرورة إليه مثل أن يحدث أو يرعف فإن له أن يستخلف من يصلي بالناس ويبني المستخلف على فعله إن عرض هذا في أثناء الخطبة أو في أثناء الصلاة بني الثاني على فعل الأول. وكذلك إن عرض بين الخطبة والصلاة فإن الثاني يصلي معتدًا بخطبة الأول. والحكم ها هنا ¬

_ (¬1) إلا ما يقع -و-. (¬2) في معنى من خطب بحضرة الجماعة - قل- (¬3) بعده كذلك -قل-. (¬4) ما بين النجمين هو في -و- والنص مأخوذ من قل إلا أنه لا يستقيم النص في نهايته إلا بزيادة -إلا- لا يوقعها إلا بخضرتهم.

الاستخلاف إذا كان الماء بعيدًا. واختلف المذهب إذا كان الماء قريبًا. فروي عن مالك أنه يستخلف. وقال ابن كنانة وابن أبي حازم ينتظر. وينبغي أن يكون المستخلف ممن شهد الخطبة. قال ابن القاسم في المدونة (¬1) في الإِمام يحدث يستخلف من يتم بالقوم بقية ما كان عليه من خطبة أو صلاة، فإن لم يستخلف قدّم القوم لأنفسهم ويقدمون من شهد الخطبة أحب إليّ. فإن قدموا من لم يشهدها (¬2) فصلّى بهم أجزت عنهم صلاتهم. ولا يعجبني أن يتعمدوا ذلك ولا يتقدم بهم. ولأشهب في المجموعة في إمام خطب ثم أحدث فقدم جنُبًا فقدم المقدم غيره ممن لم يشهد الخطبة فليعد الخطبة أحبّ إلى. فإن لم يعدها أجزأهم. وروى أشهب عن مالك في العتبية: لا بأس أن يستخلف ممن لم يحضر معه الخطبة لحدث أصابه أو مرض. وقال أبو حنيفة والثوري وأبو ثور: لا يجوز استخلاف من لم يسمع (¬3) الخطبة. وقال الشافعي لا يجوز استخلاف من لم يسمع الخطبة إلا أن يحدث الإِمام. وقد شرع في الصلاة فيجوز استخلاف من أحرم معه. وإن لم يكن سمع الخطبة. ورأى أنه بالإحرام أثبت له حكم الجمعة وإن كان لم يحرم ولم يسمع الخطبة لم يثبت له حكم الجمعة. فإذا سمعها ثبت له حكم الجمعة. ومن صفات الخطيب أن يكون ممن له الولاية على الصلاة. قال مالك في المدونة: وإن خطب بهم ثم قدم وال سواه لم يصل بهم بالخطبة الأولى وليبتدىء هذا القادم الخطبة. قال ابن المواز إن قدم الثاني وقد صلّى الأول بالقوم ركعة فإنه يتم بهم الركعة الثانية ويسلم ويعيد الخطبة والصلاة. لأن خطبة الأول باطلة. وفي العتبية لابن القاسم: إذا تمادى الأول فصلّى بهم عالمًا فليعيدوا، وإن ذهب الوقت. وإن صلى بإذن القادم أجزتهم إذا أعادوا الخطبة. ولا ينفع إذنه بعد الصلاة وليعيدوا ولا يصلي بهم القادم على خطبة الأول ¬

_ (¬1) في المدونة = ساقطة -و-. (¬2) فإن لم يقدموا من شهد الخطبة -قل-. (¬3) يحضر -قل-.

وليبتدئها. ولو قدمه القادم لأمر (¬1) بإعادتها. وقال سحنون إن صلى بهم القادم بخطبة الأول أعادوا أبدًا. وكذلك إن أذن للأول فصلّى بهم ولم يعد الخطبة. وفي كتاب ابن حبيب لا بأس أن يصلي الجمعة بالناس غير الذي خطب مثل أن يقدمه لرُعاف أو مرض، أو يقدم وال بعزل الذي خطب. وقد قدم أبو عبيدة على خالد بن الوليد بعزله فالفاه يخطب فلما فرغ تقدم أبو عبيدة للصلاة. وهكذا (¬2) رأيت لأشهب نحو ما حكاه ابن حبيب أنه إن ابتدأ الخطبة فحسن وإن صلى بتلك الخطبة أجزته، كما لو أحدث بعد الخطبة فقدم غيره. وهذه المسألة يخرج على هذا الاختلاف فيها بين ابن حبيب وبين ما قدمنا ذكره من أصحابنا على اختلاف أهل الأصول في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه؟ هل ببلوغه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ببلوغه المكلفين؟ وكذلك ما اختلف فيه أصحابنا من إمضاء تصرف الوكيل وقد عزل ولم يعلم بعزله (¬3). وما جرى في صلاة أهل قباء لما تحولوا في أثناء الصلاة إلى الكعبة جار على هذا الأصل. وقد أولع كل من شدا (¬4) طرفًا من الأصول بتخريج هذه المسائل على هذا. مع أنه لم يختلف في أنه لو قدم الثاني بعد أن فرغ الأول من الصلاة أن الصلاة ماضية لا تعاد. وطرد هذا الأصل يقتصي جريان الخلاف، ولو فرغ من الصلاة إذا كان الوقت باقيًا إلا أن يجعل الفراع يحل محل تقضي الوقت. فإن هذا مما قد ينظر فيه ولا يكاد يستقل فرقًا محققًا. وفي كتاب ابن سحنون. إذا ذكر الإِمام يوم الجمعة وقد أحرم صلاة نسيها فليكلمهم ويقضي ما عليه ثم يعيد الخطبة والصلاة. وإن لم يعد الخطبة والصلاة وصلّى أعاد ظهرًا أربعًا. وإن ذكر بعد ركعة استخلف. وإن ذكر بعد السلام أجزتهم. وقد اختلف فيه عن مالك، فأنت تراه كيف جعل الخطبة تحل محل الصلاة فلا تجزي إذا أوقعها، وعليه صلاة منسية. فلهذا قال يعيد الخطبة ¬

_ (¬1) أمر -و-. (¬2) وكذلك -قل-. (¬3) وهو لا يعلم بعزله -قل-. (¬4) ولو أولع كل من نظر طرفًا -و-.

والصلاة إلا أن يكون رأى فعل الصلاة المنسية قاطعًا لحكم الاتصال بين الخطبة والصلاة. فلهذا أعاد الخطبة. فيكون ذلك مسلكًا آخر. وإن كان أمر بإعادتها لأنها حلّت محل الصلاة باشتراط ألا تكون عليه صلاة، فتكون المسألة من هذا الأسلوب الذي نحن فيه، وهو اشتراط كون الخطيب (¬1) ممن له ولاية، ويكون الجهل ليس بعذر في المسالتين جميعًا. فلهذا لم تصح الخطبة فيهما. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وليس. من شرطها أن يقيمها السلطان ولا أن يكون العدد أربعين (¬2). قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: قد تقدم الكلام على هذين الفصلين وذكرنا اشتراط الوالي في الجمعة وما قاله المخالف ومن أشار إلى موافقته * من أصحابنا وأوردنا الأدلة للمذهبين وذكرنا من اشترط الأربعين وذكرنا* (¬3) ومن *اشترط عددًا سوى ذلك* (3) ووجهنا كل قول بما فيه كفاية. والمراد بقول القاضي أبي محمَّد ها هنا لافراده بالذكر تنبيه على ما فيه من الخلاف وهذا من حذقه بالتأليف. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويجب على من كان خارج المصر المجيء إليها من ثلاثة أميال أو ما يقاربها، (¬4) ووقتها وقت الظهر. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منها أن يقال: 1 - لم اعتبر في الوجوب ثلاثة أميال؟. 2 - وما وقت الجمعة *هل ينتظر الإِمام إذا أخرها*؟ (¬5). فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما من كان بداخل المصر فإنه ¬

_ (¬1) الإِمام -قل- (¬2) وليس من ذلك -غ - و - قل-. (¬3) هو -و-. (¬4) أو ما قاربها -غ-. (¬5) ما بين النجمين ساقط من -و- وقد فصل الجواب عن هذا السؤال في خاتمة بحثه في الإجابة عن السؤال الثاني.

تجب عليه الجمعة وإن لم يسمع النداء. وقد قال بعض أصحابنا أجمع العلماء على وجوب السعي على من كان من أهل العصر وإن لم يسمع النداء، ولا أمكن أن يسمعه. وأما من كان خارج العصر فتجب عليه الجمعة إذا سمع النداء أو أمكن أن يسمعه. وأشار الأبهري إلى أن ثلاثة أميال هي مقدار ما يسمع فيه الأذان. ولهذا قال أبو محمَّد ها هنا ثلاثة أميال وما قاربها. قال ابن القصار ومن (¬1) كان خارج المصر فعلى ثلاثة أضرب: ضرب تجب عليهم الجمعة بأنفسهم لا بغيرهم، وهم أهل القرى التي فيها السوق والمسجد يقدمون من يصلي بهم وإن كانوا من العصر على فرسخ. وضرب آخر لا تجب عليهم لا بأنفسهم ولا بغيرهم، وهم من كان على أكثر من ثلاثة أميال ولا سوق لهم ولا مسجد. وضرب آخر تجب عليهم بغيرهم وهم من كان خارج المصر ويسمع النداء. وقال أصحابنا إذا كان بينهم وبين العصر ثلاثة أميال وإن لم يسمعوا النداء. واختلف المذهب هل المعتبر في الثلاثة أميال من المنازل أو من آخر المصر؟ وقال محمَّد بن عبد الحكم إنما ينظر إلى ثلاثة أميال من العصر، وحيث يقصر الصلاة المسافر في خروجه ولا ينظر إلى المسجد. وقد يكون بين المسجد وآخر البلد أكثر من ثلاثة أميال. ومن أصعحابنا من اعتبر المنار وإليه ذهب القاضي أبو محمَّد وبه قالت الشافعية. وحكي عن عبد الله بن عمر وأنس بن. الك وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوأ: تجب الجمعة على من إذا حضرها أمكنه أن يبيت عند أهله. وقال عطاء: تجب على من كان على عشرة أميال. وقال الزهري: ستة أميال. وقال محمَّد بن المنكدر: أربعة (¬2) أميال. وحكي ذلك عن ربيعة أيضًا وحكي عنه أيضًا أنه قال: تجب الجمعة على من إذا نودي للصلاة وخرج من بيته ماشيًا أدرك الصلاة ... وقال مالك والليث: ¬

_ (¬1) وما -و-. (¬2) ستة -و-.

ثلاثة أميال. وقد قدمنا ذكر ذلك عن مذهبنا. وقال أبو حنيفة: لا تجب على من كان خارج المصر. ودليلنا على اعتبار استماع النداء *قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬1). وظاهر هذا ما قلناه من استماع النداء*. (¬2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (¬3) الجمعة على من سمع النداء (¬4). ولكن هذه الظواهر إنما تطابق مذهب من قال من أصحابنا باعتبار سماع النداء أو إمكان سماعه. وأما من قال تجب على من كان على فرسخ وإن لم يسمع فلا يمكنه التعلق بهذه الظواهر إلا أن يقول إنه وإن لم يسمع فإن السماع ممكن من هذا المقدار. وأما أبو حنيفة *فإن تعلق بقوله لا جمعة إلا في مصر وعلى أهل مصر فقد تقدم كلامنا معه على اعتبار العصر مع أن هؤلاء إنما يجب عليهم فعلها في العصر. ولا تعلق له* (¬5) أيضًا في إذن عثمان رضي الله عنه لأهل العوالي في الانصراف لما اجتمع العيد والجمعة. لما سنتكلم عليه في تأويل هذا الخبر. وقد ذكرنا فيما نقلناه من هذه المذاهب عن ربيعة أنه قال تجب الجمعة على من إذا نودي للصلاة وخرج من بيته ماشيًا أدرك الصلاة. وكنا قدمنا ما ذكره بعض أصحابنا من الإجماع على وجوب الجمعة على من كان بالمصر، وإن لم يسمع النداء. فإن كان أراد ربيعة بهذا من كان خارج العصر فهذا فيه نظر. والواجب على مثل هذا أن يسعى قبل النداء بمقدار ما يدرك فيه الفرض. وقد رأيت لأصحابنا اضطرابًا فيمن كان منزله من الجامع على بُعد، هل يتعين عليه الفرض بالزوال أو بتقدير الوصول؟ ذكروا هذا في وقت جواز السفر يوم الجمعة على ما سنورده في موضعه. ولعل هذا الاضطراب في جواز السعي لا في إيجاب السعي قبل الزوال لمن كان بعيد الدار. وقد ذكر القاضي أبو محمَّد أن وجوب السعي ¬

_ (¬1) سورة الجمعة، الآية: 9. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬3) وقال عليه السلام -قل-. (¬4) رواه أبو داود وصحح ابن القيم أنه موقوف وفي إسناده مقال. حديث 1015 ج 2 ص 7. وانظر حديث 593 في إرواء الغليل. (¬5) ما بين النجين = ساقط -و-.

إذا جلس الإِمام على المنبر. قال بعض المتأخرين إن قلنا إن حضور الخطبة واجب فيجب رواحه بمقدار ما يعلم أنه يصل ليحضر الخطبة. وإن قلنا إن حضورها غير واجب فيجب عليه الرواح بمقدار ما يدرك الصلاة. وهذا الذي أشار إليه هذا من إيجاب حضور الخطبة لعله أشار إلى ما قدمنا الكلام عليه من صحة خطبة الإِمام وحده دون الجماعة. وقد اشتمل هذا الفصل على تقسيم ابن القصار من كان خارج العصر على ثلاثة أضرب. وأشار في أحد الأقسام إلى جواز إقامة الجمعة لمن كان على فرسخ، وهو خلاف (¬1) المعروف من المذهب. وقد قدمنا قول ابن حبيب لا تُقام إلا على مسافة بريد. وقول يحيى بن عمر على ستة أميال. وقول زيد بن بشير على كثر من فرسخ. وقول ابن القصار هذا مخالف لهؤلاء. وقد نبهنا على ذلك في موضعه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما صلاة الجمعة فأول وقتها زوال الشمس. وقال ابن حنبل يجوز فعلها قبل الزوال، واختلف أصحابه في وقتها. فمنهم من قال أول وقتها صلاة العيد. ومنهم من قال يجوز فعلها في الساعة السادسة. وحكى بعض من صنّف الخلاف عن مالك أنه قال يجوز فعل الخطبة قبل الزوال ولا يجوز فعل الصلاة حينئذ. وما أرى هذا الناقل إلا وَهِم عن مالك. وقد قال مالك في كتاب ابن حبيب فيمن خطب قبل الزوال لا تجزئهم ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس، كما لو صلوا بغير خطبة، وبه قال ابن القاسم وأشهب. وقال ابن الماجشون يعيدون إلى وقت العصر فإن صلوا العصر أعادوها ظهرًا. وبه قال ابن عبد الحكم وأصبغ. وقال سحنون يعيدون الجمعة في الوقت ويعيدون أفذاذًا أبدًا ظهرًا. فأنت ترى إطباق مالك وهؤلاء من أصحابه على (¬2) منع الإجزاء والاعتداد بالخطبة قبل الزوال. وهذا يؤكد لك الظن بما قررناه من وَهَم هذا الناقل عن مالك. ودليلنا على ابن حنبل قول أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الجمعة إذا زالت ¬

_ (¬1) خلاف = ساقطة -و-. (¬2) في -و-.

الشمس (¬1). وهذا (¬2) يوجب الاقتصار على ما اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول وقتها وأيضاً فإن الجمعة والظهر آخر وقتهما واحد فكان أول وقتهما واحدًا كصلاة السفر والحضر. لأن الجمعة، إما أن تكون ظهرًا قصرت، أو بدلًا من الظهر. وكلا الأمرين يقتضي ألا تقدم قبل الزوال كالظهر. ولا تعلق لابن حنبل بقول وكيع الأسلمي: شهدت مع أبي بكر فكانت خطبته قبل نصف النهار (¬3) لجواز أن يكون ظن أن النهار لم ينتصف. وإن كانت الشمس زالت. وهذا مما لا يكاد أن يحقق (¬4) إلا بعد اعتبار الوقت. وقد أشار بعض أصحابنا إلى أنه لا يثبت هذا الخبر عن أبي بكر رضي الله عنه بأنه صلى قبل الزوال. فإن بعض رواته مجهول لا يعرف. ولا تعلق له أيضًا بقول أنس: كنا نقيل بعد الجمعة (¬5). فإن محمله على أنهم كانوا يجعلون النوم بعدها بدلًا من قائلة الضحى. وكذلك روي أيضًا من قوله كنا نرجع وليس للجدران ظل (¬6) لا تعلق فيه لأن الصيف يكون ذلك حال الظل نصف النهار في ذلك المكان. وقال مالك معناه ظل ممدود وقد زاغت الشمس. وأما آخر وقتها فقد اختلف المذهب في آخر وقتها ما لم يدخل وقت العصر. فمن أخرها حتى دخل وقت العصر صلى الظهر أربعًا. قال القاضي أبو محمَّد في إشرافه: قال الشيخ أبو بكر الأبهري إن صلى ركعة بسجدتيها قبل دخول وقت العصر فإنه يتمها جمعة. وإن صلى دون ذلك بنَى وأتمها ظهرًا. قال ابن عبدوس مذهب ابن القاسم في الإِمام إذا أخر الصلاة أنهم ينتظرونه إلى أن ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الأوسط عن جابر ص 184. (¬2) وهو -و-. (¬3) روى عبد الله بن زيدان السُلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار. رواه الدارقطني وأحمد وابن أبي شيبة. إرواء الغليل. (¬4) يلحق -و-. (¬5) أخرجه البخاري وأحمد. بلوغ الأماني ج 6 ص38 (¬6) روى البيهقي إلى سلمة ابن الأكوع عن أبيه وكان أبوه من أصحاب الشجرة. قال كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به - البيهقي ج 3 ص191.

يخافوا دخول وقت العصر. وهكذا قال أبو حنيفة والشافعي إن آخر وقت الجمعة الموسع آخر وقت الظهر. وقيل تصلّى الجمعة ما لم تصفر الشمس. قال ابن المواز: قال أصبغ عن ابن القاسم وإذا لم تصل الجمعة حتى اصفرت الشمس أنها تُصلى تلك الساعة جمعة. قال أصبغ لا يعجبني أن تصلّى جمعة إذا دنا الغروب. وقيل تصلّى الجمعة ما لم يبق بعد الجمعة إلى الغروب إلا مقدار أربع ركعات للعصر. قال سحنون: ربما تبين لي أن وقت الجمعة ما لم يبق من النهار إلا مقدار أربع ركعات للعصر. فذكر له قول من قال: وقتها ما لم تصفر الشمس فأنكره ولم يقل به. وقال ابن القاسم: تصقى ما لم يبق إلا قدر ركعة للعصر (¬1). وقد قدمنا ما حكاه ابن حبيب عن مطرّف فيمن صلى الجمعة بغير خطبة أنهم يعيدون الصلاة بالخطبة ما بينهم وبين غروب الشمس، وإن لم يصلوا العصر إلا بعد الغروب. وقول ابن الماجشون يعيدون ما بينهم وبين وقت العصر. ورأيت بعض أصحابنا حكي عن المذهب قولاً آخر وهو اعتبار خمس ركعات سوى الخطبة على الوسط مما تجزي الصلاة به. وقيل بل على إعادته في صلاته. قال ابن القصار: كان قولي وقول الشيخ أبي بكر قد اتفق على أنه ينبغي أن يراعى مقدار ثلاث ركعات قبل الغروب ركعتان للجمعة وركعة يدرك بها العصر. قال بعض الأشياخ: يريد بعد قدر الخطبة. وأشار ابن القصار إلى تأويل ما حكيناه عن مالك من أن الجمعة تصلّى وإن لم يفرغ منها إلا بعد الغروب، بأن صلاة الناس تختلف بالطول والقصر. فيعتبر كل واحد صلاة نفسه. وصلاة الجمعة لما كانت لا تصح إلا بالجماعة اعتبر الغالب من صلاة الناس، فإذا غلب على ظنه أنه بقي من النهار قدر ثلاث ركعات دخل في الجمعة. فإن اتفق له التطويل على حسب عادته فليصلها وإن لم تنقض صلاته إلا بعد الغروب. لأن التقدير صح في أولها. قال ويحتمل أن يكون حكم هذه الصلاة وحكم المنفرد واحدًا. ويكون المنفرد إذا قدر أنه بقي عليه من النهار ثلاث ركعات فأخطأ في تقديره فإن خطاه لا يضره إذا غربت الشمس وهو على اجتهاده فحكمه التمادي على ما دخل عليه، كمسافر سافر وعليه الظهر والعصر فأخطأ في اجتهاده فصلّى ¬

_ (¬1) للعصر = ساقطة -و-.

الظهر فغربت الشمس قبل أن يفرغ منها فهو على ما دخل عليه من صلاة السفر. وكأن هذا الذي أشار إليه ابن القصار من اختلاف العادة في الطول والقصر خلاف ما كنا قدمناه في باب الكلام في الأوقات من اعتبار قدر المفروض من الركعة خاصة على ما كنا بسطنا القول فيه هناك. وذكرنا تخريج الخلاف في اعتبار أتم القرآن على الخلاف في وجوب قراءتها وما ذكرناه هناك يغني عن مراعاة الطول والقصر. وسبب هذا الاضطراب في وقت الجمعة أن صلاة الجمعة فرض عين وجعلت ظهرًا مقصورة أو بدلًا من الظهر على ما مرّ الكلام عليه. ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها في وقت الضرورة بل لم يوقعها إلا في وقت الاختيار. فمن اقتفى أثر فعله فيها رأى أن بدخول وقت العصر خرج وقتها لأن إثبات وقتها بعد العصر يفتقر إلى دليل ولا دليل عنده يدل على إثبات ذلك فلم يجز فعلها فيه، كما لم يجز فعلها في الليل لما لم يرد الشرع به. ولم يسلك طريق الاقتفاء على ما هو عليه بل استعمل القياس. قال قد ثبت أن الجمعة ظهر مقصورة أو بدل من الظهر وقد قام الدليل على أن للظهر وقت ضرورة فكذلك الصلاة التي هي هي (¬1) أو بدلًا منها يجب أن يكون وقتها كوقتها قبل التغيير أو كوقت ما هو بدل منها ثم يختلف هؤلاء في وقت الضرورة هل يعتبر فيه أن يبقى أربع ركعات للعصر أو ركعة واحدة؛ فإن اعتبرنا مقدار أربع ركعات أثبتنا عليه ما حكيناه عن سحنون في اعتبار (¬2) ذلك في وقت الجمعة. وإن اعتبرنا مقدار ركعة للعصر أثبتنا عليه ما قال ابن القاسم ها هنا من اعتبار ركعة. وقد كنا قدمنا في باب الأوقات ذكر الاختلاف في هذا الأصل واستدلال أهل المذهبين فيه. وما حكاه بعض الأصحاب من اعتبار خمس ركعات، عندي أن وجهه أنه لما كان هذا المقدار هو المعتبر في أوقات الضرورة في غير يوم الجمعة اعتبره في يوم الجمعة وجعل اعتبار الركعتين ها هنا ينوب مناب اعتباره مقدار الخطبة *لكنه كان ينبغي أن يعتبر هذه الخمس من غير اعتبار لمقدار* (¬3) الخطبة. والناقل عنه ¬

_ (¬1) التي هي أو بدلًا -و-. (¬2) لاعتبار -و-. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-.

قد أشار لاعتبارها. فإذا وضح ما قلناه في آخر وقت صلاة الجمعة. فما الحكم إذا خرج وقتها وهو فيها؟ قد كنا قدمنا قول مالك يصليها وإن كان لا يفرغ منها إلا بعد المغيب. وقول الأبهري إن عقد ركعة بسجدتيها قبل خروج وقتها أتمها جمعة. وإن لم يعقد ذلك بني وأتمها ظهرًا. وقد كنا قدمنا الكلام علي بناء أربع ركعات على تحريمه ركعتين. وهل يعتبر العدد في النية (¬1) وذكرنا في مواضع من هذا الكتاب الكلام على هذه الجمل بما يغني عن إعادتها. وقد قال أبو حنيفة ها هنا إذا دخل وقت العصر وقد بقي عليه فرض من فروضها كالسجدة والركعة والجلسة بطلت. وقال الشافعي: يبني عليها ظهرًا. وقد استدل بعض أصحابنا على أبي حنيفة بأن الصلاة إذا افتتحت على شرائطها لم تنتقض بطريان ما يضادها كالمتيمم يطرأ عليه الماء *وقد تقدم كلامنا على اختلاف في بعض فروع هذا الأصل. وذكرنا حجتنا على أن المتيمم لا ينتقض تيممه بطريان الماء* (¬2) وهو في الصلاة. فإذا ثبت لنا (¬3) ذلك ناقضنا به أبا حنيفة. واستدل على الشافعي بأن صلاة الظهر والجمعة مختلفان فلا تبنى إحداهما على تحريم الأخرى كما لا تبنى العصر على تحريم الظهر. فإن ناقضونا بالمسافر يبني أربعًا على تحريمه ركعتين فإنه لا يجزيه عندنا. *وهذا الذي قاله من أنه لا يجزيه عندنا* (¬4) قد قدمنا نحن ذكر الاختلاف فيه. وما في المذهب من الاضطراب في اعتبار العدد في النية. وقد انفصل بعض أصحاب الشافعي عن القياس بأن الظهر والعصر صلاتا وقتين، فلاختلاف وقتيهما لم تبن إحداهما على الأخرى. بخلاف الظهر والجمعة فإن وقتهما واحد فيصح فيهما البناء. واحتج لإبطال الصلاة لأن الوقت شرط في ابتداء الجمعة بغير خلاف فيجب أن يكون شرطًا في استدامتها قياسًا على سائر شروط الصلاة كالطهارة وغيرها. ولا تقاس الجمعة في هذا على غيرها من الصلوات، فإن غيرها من ¬

_ (¬1) في البناء -قل-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬3) لنا = ساقطة -و-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -و-.

الصلوات يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت فلما جاز ابتداؤها بعد خروج الوقت، جاز استدامتها لأن الاستدامة كالابتداء. ولما كانت الجمعة لا يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت لم تجز استدامتها لما قدمناه من وجوب كون الاستدامة كالابتداء. وفي المدونة إذا كان الإِمام يؤخر صلاة الجمعة ويأتي من ذلك بما يستنكر فإن القوم يجمعون لأنفسهم إن قدروا على ذلك، فإن لم يقدروا صلّوا لأنفسهم أربعاً. ولم يذكر الوقت الذي يستنكر متى هو. ويجب أن يبني على ذلك ما ذكرناه من الخلاف في آخر وقت الجمعة. وأشار ابن حبيب إلى أن المخالفة إذا اشتدت حتى لا تمكنهم الصلاة، فإنهم يصيرون كالخائف من العدو لا يقدر أن يركع، فإن العلماء أجازوا له الصلاة إيماءًا. فكذلك هؤلاء يُومون (¬1) برؤوسهم. وإذا أبطأت الجماعة على الإِمام فقال ابن عبدوس مذهب ابن القاسم أنه ينتظرهم إلى وقت العصر، كالمتيمم يرجو الماء فإنه لا يكون إلا لمن لا يجد الماء. كما أن الظهر لا تكون إلا لمن لا يجد الجماعة. قال ابن عبدوس: إذا انتظروا الإِمام فلم يأت فصلوا لأنفسهم لم تقم الجمعة بهم لإمكان أن تكون صلاتهم معه نافلة فصاروا كإمام صلى في بيته ثم أتى الجماعة فإنه لا يؤمهم. ولو أن الإِمام كان معه ممن لم يصل الظهر من تقوم به جمعة فإنه يصليها بهم وإن كان وقت العصر قد دخل. ويقال لمن صلى إن شئتم فصلوا معه، ويجعل الله فرضكم أفي الصلاتين شاء. وحكى ابن سحنون عن بعض أصحابنا (¬2) في الإِمام إذا تأخر صلوا الظهر أفذاذًا إذا خافوا فوات الوقت، والوقت فيه ما لم تصفّر الشمس. وأنكره سحنون. وقال: بل حتى لا يبقى إلا ما يصلون فيه بعض العصر بعد الغروب. وأشار الشيخ أبو محمَّد إلى أن التأخير إذا رجوا إقامتها وأما إن أيقنوا أنه لا يأتى فلا تؤخر الظهر. وأشار بعض أشياخ صقلية إلى أن الإِمام إن لم يعتد التأخر انتظر إلى آخر وقت الظهر. وإن كان التأخر من عادته لم ينتظر وصليت الظهر في الوقت المستحب وهو ربع القامة إلا أن يكونوا اعتادوا التأخر إلى آخر الاختيار فينتظر. قال وهذا بخلاف من هرب ¬

_ (¬1) من الأيماء. (¬2) عن بعض أصحابنا = ساقطة -و-.

الناس عنه فطمع برجوعهم فإنه ينتظرهم حتى يبقى للغروب مقدار الخطبة والجمعة وركعة للعصر. وإذا اعتبرنا مقدار الخطبة ها هنا كان في فسحة إن لم يأتوا أدرك إن لم يصلوا الظهر أربعًا والعصر كذلك قبل غروب الشمس. لأن الخطبة ربما كان فيها مقدار ركعتين أو أكثر. وقد اختلف المذهب فيمن صلّى الجمعة ناسيًا لنجاسة أو صلاة (¬1) فقيل هي كغيرها من الصلوات (¬2). وقال أشهب وسحنون وقت الجمعة الفراغ منها. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولها أذانان عند الزوال وعند جلوس الإِمام على المنبر يؤذن بهما جميعًا على المنار لا (¬3) بين يدي الإِمام. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منهما أن يقال: 1 - لم قال للجمعة أذانان؟. 2 - وما معنى قوله لا بين يدي الإِمام؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال مالك: لا يؤذن للجمعة حتى تزول الشمس. قال ابن شهاب عن السائب بن يزيد: أن أول من زاد الأذان الذي يؤذن لها (¬4) قبل خروج الإِمام عثمان رضي الله عنه. ولم يكن يؤذن بعهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يخرج ويجلس على المنبر، فيؤذن مؤذن واحد على المنار. قال ابن حبيب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا- دخل إلمسجد رقى المنبر فجلس ثم أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة يؤذنون على المنار واحدًا بعد واحذ. فإذا فرغ الثالث قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب. وكذلك في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ثم أمر عثمان رضي الله عنه لما كثر الناس أن يؤذن بالزوراء عند الزوال. وهو موضع السوق ليرتفع منه الناس. فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على المنار. ثم إن هشام بن عبد الملك في إمارته نقل الأذان الذي كان في الزوراء إلى المسجد ¬

_ (¬1) هو -و-. (¬2) فقيل هي كغيرها -و-. (¬3) ويؤذن لهما على المنار لا جمعًا -غ- ويؤذن لها على المنارة لا جمعاً - الغاني. (¬4) به - قل.

فجعله مؤذنًا عند الزوال على المنار، فإذا خرج هشام جلس على المنبر وأذن المؤذنون كلهم بين يديه فإذا فرغوا خطب. قال ابن حبيب والذي مضى من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما نبّه بقوله جميعًا لا بين يدي الإِمام على أن المشروع عنده خلاف ما فعله هشام بما حكيناه عنه. وفي المجموعة قال مالك: وهشام الذي أحدث الأذان بين يديه. وإنما الأذان على المنار واحداً بعد واحد إذا جلس الإِمام على المنبر. فإذا فرغوا قام يخطب وهو الذي يحرم به البيع. ولا أحب أيضًا ما أحدثوا من الأذان على الشرفات حِذاء الإِمام ولا من الإقامة. كذلك، وليقفوا (¬1) بالأرض، وبعضهم على المنار (¬2) لإسماع الناس (¬3). وقال في مختصر ابن شعبان إذا صلى غير الإِمام الجمعة فلا يؤذنون بين يديه على أن الأذان بين يدي الإِمام ليس من الأمر الأول فلأجل ما ذكرناه ها هنا من قول مالك نبه القاضي أبو محمَّد على ذلك بقوله جميعًا لا بين يدي الإِمام (¬4). قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والخطبة فيها قبل الصلاة يجلس أولها وبعد الفراغ من الأولى. ويخطب متوكئًا عدى قوس أو عصا. ولا يسلم. والأفضل أن يكون متطهراً. قال الفقيه الأمام رحمه الله: قد تقدم الكلام على ما اشتمل عليه هذا الفصل لما تكلمنا على الجلوس في الخطبة. وكذلك تكلمنا على كون الإِمام يخطب متوكئًا (¬5). وقد أعرب ما أورده القاضي ها هنا عن حذقه بالتأليف واطلاعه لأنا كنا قدمنا ما وقع في المذهب من الاختلاف في الاتكاء على القوس، ولما اطلع القاضي أبو محمَّد على ما فيه من الخلاف خصه بالذكر لينبه ¬

_ (¬1) وليقيموا - قل. (¬2) المنابر -و-. (¬3) هكذا في جميع النسخ. (¬4) بين يديه (¬5) متكئًا -و-.

على ما قيل فيه، وكذلك تقدم كلامنا على حكم الطهارة في الخطبة وما وقع فيها من الاضطراب لكن اشتمل هذا الفصل على أن الإِمام لا يسقم، وهذا مما لم يتقدم كلامنا عليه. وقد ثبت أن السلام مشروع. فالأصل أن الإِمام إذا دخل على قوم سلم عليهم. وقد اختلف الناس في سلامه إذا صعد المنبر، فنهاه مالك عن السلام إذا صعد المنبر، وأنكر في العتبية سلام الإِمام على الناس إذا رقى المنبر وإذا قام ليخطب. وهكذا قال أبو حنيفة: أن الإِمام لا يسلم على الناس وقد صعد المنبر.*وقال الشافعي: إذا صعد المنبر* (¬1) واستقبل الناس بوجهه سلم عليهم. وروي ذلك عن ابن الزبير. وقد قال ابن حبيب: إذا جلس للخطبة فليسلم على الناس وليسمع من يليه ويرد عليه من سمعه. وهذا إذا كان لما دخل كان ممن يرقى المنبر أو يخطب إلى جانبه. ولو كان مع الفاس يركع أو لا يركع فلا يسلم إذا جلس للخطبة. وقد احتج الشافعي (¬2) على أنه يسلم بما روي من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عند منبره ثم يصعد. فإذا استقبل الناس سلم عليهم ثم جلس (¬3). قالوا: ولأنه (¬4) استدبر الناس عند طلوعه فأمر بالسلام إذا استقبل الناس. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وينصت له. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة: منها أن يقال: 1 - هل الانصات واجب والإمام يخطب؟. 2 - وهل يجب وإن لغا الإِمام؟. 3 - وهل يمنع الكلام وإن كان بالذكر؟. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) أصحاب الشافعي - قل. (¬3) رواه ابن عساكر وابن علي. منتخب كنز العمال ج 3 ص 295 (¬4) ولأنه - هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب حذف الواو.

4 - ومتى مبدأ الإنصاف ومنتهاه؟. 5 - وهل ينكر على المتكلم والإمام يخطب؟. 6 - وما يحل محل الكلام في المنع؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن بقال: الانصات عندنا للخطبة واجب، والكلام حينئذ محرم. وبه قال عثمان وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وأبو حنيفة والأوزاعي وابن حنبل، وبه قال الشافعي في القديم. ورأى الامساك عن الكلام مستحبًا وليس بواجب، وهو قول عروة بن الزبير والنخعي والشعبي والثوري. فدليلنا في وجوب الإنصاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قلت لصاحبك أنصت والأمام يخطب فقد لغوت (¬1). قيل معناه فعلت اللغو الذي هو الإثم. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (¬2). فإذا نهى عن مثل هذا الكلام الذي هو تغيير منكر فنهيه عما سواه من الكلام المباح جنسه أولى. ولا يصح أن يقال يحتمل أن يكون المراد لغوت إذا أمرت بالإنصات من لايحب عليه لأن الإنصاف مأمور به، ولو كان الكلام مباحًا والتشاغل به عن لايحب عليه لأن الإنصاف مأمور به، ولو كان الكلام مباحًا والتشاغل به عن الإِمام سائغًالأولم يكن للخطبة معنى. إذ لا فائدة في خطاب من لا يفهم ما يقال له. وقد استدل من قال: أن الإنصاف مستحب وليس بواجب، بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأومأ الناس إليه بالسكوت فلم يقبل وأعاد الكلام فلما كان في الثالثة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويحك ما أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله. فقال: أنت مع من أحببت. فلو كان الكلام محرمًا لأنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك أيضًا لم ينكر - صلى الله عليه وسلم - على سائله أن يستسقي (¬3). ولا يُسلم هؤلاء أن معنى لغوت أي أثمت أي لأنه قد لا يكون اللغو إثمًا. قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله بِاللَّغْوِ في ¬

_ (¬1) رواه الشيخان والأربعة والبيهقي وأحمد. حديث 619 إرواء الغليل ج 2 ص 80. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 3. (¬3) رواه البخاري: فتح الباري ج 3 ص 64.

أَيْمَانَكُمْ} (¬1). وقد أشار بعض أصحابنا إلى أنه إنما ترك الإنكار على المستسقى لأنها حالة (¬2) ضرورة دعته إلى طلب الاستسقاء فعذر في الكلام لأجل الضرورة. وأما حديث السائل عن الساعة فإن كان في خطبة الجمعة فلهم فيها تعلق وإن كان في غيرها من الخطب التي لم (¬3) يشرع فيها الإنصاف فلا تعلق به. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب في الإِمام إذا لغا، فقال مالك في المجموعة إذا شتم الإِمام الناس ولغا، فعلى الناس الإنصاف ولا يتكلمون. قال أشهب ولا يقطع ذلك خطبته. وقال ابن حبيب إذا خرج الإِمام من خطبته إلى اللغو وإلى ما لا يعني من لعن أحد فليس على الناس الإنصاف إليه والاقبال عليه. ولهم التحول عنه والحديث وقد فعله ابن المسيب. وقال مالك في العتبية في إمام يأخذ في قراءة الكتب: ليس من أمر الجمعة فليس على الناس الإنصاف. فوجه إباحة الكلام أن الإنصاف إنما شرع لتسمع الخطبة التي إيرادها مشروع، وشرعت لمنفعة الحاضرين. فإذا خرج منها إلى معنى آخر ليس معناه كمعناها لم يجب الإنصاف. ووجه النهي عن ذلك حماية الذريعة لئلا يعود إلى الخطبة والمتكلمون لم يقطعوا كلامهم. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: مذهب مالك وأبي حنيفة أن العاطس لا يشمّت، والإمام يخطب. وقال بعض أصحاب الشافعي رد السلام وتشميت العاطس مبنيان على القولين، فإن قلنا إن الكلام محزم لم يجب الرد ولا التشميت. وإن قلنا ليس بمحرم فيجوز الرد. قال ابن المسيب وقتادة لا يشمت العاطس. وحكي عن قتادة أنه قال يرد السلام ويُسمعه. وقد قدمنا نحن مذهبنا في تحرير الكلام واستدللنا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت (¬4). فإذا نُهي عن النطق بتغيير المنكر كان النهي عن تشميت العاطس ورد السلام أولى. قال بعض أصحابنا لأن الاستماع واجب والرد ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 225. (¬2) حال - قل. (¬3) لم = ساقطة -و-. (¬4) متفق عليه، تقدم تخريجه قريبًا.

والتشميت مسنونان، فلا يترك واجب لمسنون. وقال مالك إن عطس حمد الله في نفسه. قال ابن حبيب إن عطس فليحمد الله ولا يجهر كثيرًا. وقال مالك إذا ذكر الإِمام الجنة والنار فليستجيروا وليسالوا في أنفسهم. وكذلك في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه. قال أشهب: والإنصات أحبّ إليّ. فإن فعلوا فسرًا في أنفسهم. قال ابن حبيب ولا بأس أن يدعو الإِمام (¬1) في خطبته المرة بعد المرة، ويؤمن الناس ويجهروا بذلك جهرًا ليس بالعالي ولا يكثروا منه. وقال مالك إذا مرّ (¬2) في خطبته بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فليفعل ذلك الرجل في نفسه، وكذلك تأمينهم على دعائه. وقال أيضًا إذا قرأ الإِمام إن الله وملائكته يصلون على النبي، فليصلوا عليه في أنفسهم. قال بعض المتأخرين ما كان من الكلام ليس بعبادة منع وإن قلّ. وإن كان فيه عبادة منع كثيره؛ لأنه مشغلة عن الخطبة وهي لا تفوته، (¬3) وأما يسيره فإن كان يختص بالمتكلم كحمد الله تعالى عند العاطس والتعوذ من النار عند ذكرها فخفيف؛ لأنه لا يشغل عن الإصغاء. وقال أشهب: الانصات أحب إلينا وإن فعلوا فسرًا، وإن كان لا يختص به مثل التشميت للعاطس فممنوع. وذكر قول مالك في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفس عند قراءة الآية، وقول ابن حبيب في التأمين جهرًا. وقد قدمناه (¬4) ثم قال: الإِمام مستودع تأمينهم وهو بالآية مستودع للصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا الاختلاف في إباحته وإنما الخلاف في صفة النطق به من سر أو جهر. قال في مختصر ابن شعبان وإذا قرأ الإِمام يوم الجمعة: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬5). فلا بأس أن يصلي الناس عليه ويؤمنوا ولا يرفعوا بذلك أصواتهم. وقاله الليث ولم يذكر رفع الصوت. ويؤمن الناس على دعاء الإِمام يوم الجمعة في أنفسهم. قال ابن شعبان: وقال أبو حنيفة وأصحابه السكوت أفضل من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ¬

_ (¬1) أو يدعو للإمام -و-. (¬2) إذا أمر -و-. (¬3) وهي مما يعرف -قل- وكلاهما غير واضح المعنى. (¬4) وقد قدمنا - قل. (¬5) سورة الأحزاب، الآية: 56.

صلّى الإِمام عليه على المنبر. وقال ابن الزبير الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة ليس من السنّة. قال ابن شعبان معناه لا يقال مع الإِمام كما يقول على المنبر. وإذا وضح مذهب الشافعي أن الإِمام إذا قرأ إن الله وملائكته يصلون على النبي الآية جاز لمستمع الخطبة أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويرفع بها صوته. قال بعض أصحابه كما يستحب له أن يسأل الرحمة عند آية الرحمة ويستعيذ من العذاب عند آية العذاب، فينبغي أن تكون الصلاة مثل ذلك في حكم كلام السامعين ونطقهم بما فيه عبادة. فهل يجوز للإمام أيضًا أن يتكلم بما ليس من الخطبة حينئذ لأنه لا بأس أن يتكلم بما كان من أمر أو نهي ولا بأس أن يجاوبه من كلمه الإِمام؟ قال مالك في العتبية لا بأس أن يأمر في خطبته بالأمر الخفيف أو ينهى عنه. وقال في مختصر ابن شعبان لا بأس بكلام الإِمام يوم الجمعة على المنبر بغير الخطبة إذا كان كلامًا من الحق يعظ إنسانًا به ويأمر به وينهي عنه ويجهر به ليسمع وينصت له، وبلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تكلم بكلام كثير *يوم الجمعة. قال ابن شعبان وقاله الأوزاعي. وقد روى عن عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة فرأى ابن مسعود فقال يا ابن مسعود تعال. ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا في الشمس وهو يخطب فأمره أن يتحول إلى الظل. وقد أشار ها هنا ابن شعبان إلى استدلال مالك بأنه بلغه أن عمر رضي الله عنه تكلم بكلام كثير على المنبر* (¬1). والحديث المشهور من قول عمر رضي الله عنه لمن تأخر أيّ ساعة هذه؟ فأجابه ما زدت على أن توضأت يؤكد استدلال مالك بما بلغه عنه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما مبتدأ تحريم الكلام فعندنا وعند الشافعي أنه إذا بدأ في الخطبة. وقال أبو حنيفة: بل بخروج الإِمام يحرم الكلام. ولنا ما روي عن ثعلبة بن أبي مالك أنه قال: جلوس الإِمام على المنبر يقطع السجدة يعني التنفل. وكلامه يقطع الكلام ولقد كان الناس في زمن عمر يوم الجمعة يصلون حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط من -و-.

المؤذن جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذن وقام عمر سكتوا، فلم يتكلم أحد حتى يفرغ من الخطبتين كلتيهما، ويقيم المؤذن. ثم يتحدثون. وأما أبو حنيفة فيحتج بقوله في الحديث من اغتسل يوم الجمعة ثم ذكر الحديث إلى قوله ثم إذا خرج الإِمام أنصت (¬1) فعلق، الإنصاف بالخروج. وقد أجيب عن هذا بأن الرواية اختلفت. ففي بعضها وأنصت إذا خطب فيحمل قوله إذا خرج على أن المراد به خرج وخطب. وحكى بعض المصنفين عن الشعبي والنخعي ما ظاهره أن الإنصاف إنما يجب إذا قرأ الإِمام القرآن خاصة، وقد كنا نحن نقلنا عنهما استحباب الإنصاف على الجملة فإن كانا لا يحرّمانه إلا عند القراءة كان المبدأ عندهما خلاف ما حكيناه عنهما وعن أبي حنيفة. وأما منتهاه ففراغ الإِمام من الخطبتين *وبه قال الشافعي وكره أبو حنيفة والحكم الكلام بعد الفراغ من الخطبتين* (¬2). وبه قال ابن عباس. واختلفت الرواية عن ابن عمر. ودليلنا قول أنس كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، ينزل من المنبر فيقوم الرجل فيكلمه في الحاجة ثم ينتهي إلى مصلاه فيصلي (¬3). واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن الصلاة لما كرهت حينئذ كره الكلام. وانفصلا عن ذلك بأن الصلاة إنما نهي عنها حينئذ لكونها مانعة من الاشتغال بالفرض. والكلام لا يشغل عن الفرض. ولما كان الكلام والصلاة حال الخطبة يشغلان عنها استويا في النهي. ولما افترقا في الاشتغال بعد الفرك افترقا في النهي. وقد قال الحسن البصري لا بأس بالكلام بين الخطبتين. وإنما لم نعد مذهبه مذهبًا ثالثًا في المنتهى لأن هذه الإباحة لا تدوم. وكلامنا في منتهى التحريم والانتقال إلى إباحة تدوم ما لم يعرض عارض يمنعها. والردّ عليه أن الخطبتين أقيمتا مقام الركعتين، فلما لم يجز الكلام في الفصل بين الركعتين *لم يجز الفصل بين الخطبتين* (¬4). وإذا وضح ما قلناه في تحريم الكلام، مبدئه ومنتهاه فحكم من ¬

_ (¬1) البخاري فتح الباري ج 3 ص 43. وسنن البيهقي ج 3 ص 242 - 243 (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وفي إسناده مقال وقال الترمذي ورمى البخاري رواية جرير ابن حازم بالوهم. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -و-. ولعل الصواب لم يجز في الفصل بين.

لم يسمع الخطبة عندنا كحكم من سمعها فيما قلناه. وفي الواضحة ونحوه في المختصر يجب على الناس الإنصاف للإمام والتحول إليه إذا أخذ في الخطبة على من سمعه ومن لم يسمعه. وقال عروة بن الزبير وابن حنبل يجوز الكلام لمن لم يسمع الخطبة. وهو أحد قولي الشافعي هكذا في كتب بعض أصحابنا عنه. وفي كتب بعض أصحابه أن الكلام يمنع في حق من سمع ومن لم يسمع إلا من كان بعيدًا، هو بالخيار بين أن يسكت أو يقرأ القرآن، وإن سبّح فلا بأس. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال من كان قريبًا يسمع الخطبة وينصت، ومن كان بعيدًا ينصت فإن للمنصت الذي لا يسمع الخطبة مثل الذي يسمع. وروي عن عثمان رضي الله عنه نحو ذلك. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من كون من لا يسمع كمن يسمع. وأما أصحاب الشافعي فإنهم رأوا أن كونه لا يسمع يبيح التشاغل بالقرآن والذكر لأن القرآن والذكر أولى به من السكوت. والجواب عن السؤال الخاص: أن يقال: قال في المختصر لا يقول لمن لغا أنصت. وقال مالك أيضًا في المبسوط إذا تكلم رجلان فلا بأس أن يشير لهما بيده ينهاهما أو يغمزهما أو يسبّح بهمالأولا يرفع صوته بالتسبيح. وقال أيضًا في الاستغفار والتهليل والاستجارة من النار والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا مرّ الإِمام بذكر ذلك لا بأس به ما لم يرفع صوته أو يشتغل بذلك عن الاستماع. وأما ابن عمر فإنه رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب فحصبهما أن اصمتا. قال عيسى ابن دينار ليس العمل على التحصيب ولا بأس أن يشير إليه. قال بعض المتأخرين لعل ابن عمر حصبهما لينظرا إليه فيشير إليهما بالصمت" وأمن أن يؤدي أحداً. فإن كان ابن دينار خاف الأذى من التحصيب فإنما أنكر إطلاق اللفظ بذلك، وإن كان أنكره لكثرة العمل والاشتغال فهو مخالف للرواية عن ابن عمر. وبالجملة فمقتضى مذهب مالك: *أن لا يشير إليهما. وهو الصواب. لأن الإشارة كالنطق - وهذا الذي جعله هذا من مقتضى مذهب مالك:* (¬1). وقد قدمنا عن مالك في المبسوط خلافه. وفي مختصر ابن شعبان من رأى رجلًا يكلم غيره فلا يحصبه فإذا انقضت الصلاة وعظه. قال ابن شعبان نهى ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-.

النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحذف في المسجد. وقال بعض أصحاب الشافعي ليس للشافعي نص في الإشارة والذي يجيء على مذهبه أنه لا بأس بذلك ويكره الحصب بالحصباء. وكان ابن عمر يحصب من يتكلم بالحصاة. وربما أشار إليه. وقال طاوس: تكره الإشارة إليه، ودليل جواز الإشارة أن الصحابة أشارت (¬1) إلى الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة. وأما الحصب بالحصباء فإنما يكره (¬2) لما فيه من الأذى. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: يجوز الاحتباء عندنا والإمام يخطب. قال ابن حبيب ويلتفت يمينًا وشمالًا. ويمد رجليه. وقيد في مختصر ابن شعبان الالتفات فقال: لا بأس بالالتفات اليسير والإمام يخطب. وكره بعض أصحاب الحديث الاحتباء ورووا فيه حديثًا قد طعن في إسناده. وأما شرب الماء حينئذ فقال في مختصر ابن شعبان إذا جلس الإِمام على المنبر فلا يشرب ماء وإن لم يكن خطب. ولا ينبغي لمن فيه أن يفعل. وكذلك بعد الخطبة لا يشرب ماء. وقال مالك أيضًا في العتبية لا يشرب الماء والإمام يخطب. ولا يقوم حينئذ أحد بالماء. وقال الأوزاعي إن شرب بطلت جمعته وأجازت الشافعية الشرب للعطش والتبرد. ودليلنا أن ما يشغل عن استماع الخطبة يمنع منع كالكلام. وأما الأوزعي فإنه أفرط حتى قال بعض الناس فيه: أنه خالف الإجماع. وأما البيع فإنه يمنع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة لقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬3). وإنما تعلق منع البيع بالنداء في حق من كان إذا سعى عند النداء أدرك الخطبة والصلاة. وأما من كان بعيدًا الدار ممن يعلم أنه إذا أخر السعي إلى النداء فاتته الجمعة فإن السعي يجب عليه قبل ذلك بمقدار ما يعلم أنه لا يفوته ما توجه عليه السعي إليه؛ لأنه إن باع حينئذ شغله البيع عن السعي وإذا اشتغل عن السعي فاتته الجمعة. وقد كنا أشرنا إلى ميقات الوجوب ¬

_ (¬1) أشاروا -و-. (¬2) كره -و-. (¬3) سورة الجمعة، الآية: 9.

في حق بعيد الدار وذكرنا اضطراب أصحابنا في ميقات منع السفر في حق بعيد الدار. وسنعيد الكلام عليه بعد هذا. وإذا ثبت أن النداء يمنع البيع على الجملة فهو النداء الثاني الموقع والإمام على المنبر. قال مالك في العتبية النداء الذي يحرم به التبايع يوم الجمعة النداء والإمام على المنبر. وأنكر منع الناس البيع قبل ذلك. وقد جعل ابن عبد الحكم النداء الثاني واجبًا لما يتعلق به من الأحكام من وجوب السعي ومنع البيع. وقد ذكرنا أن بعيد الدار قد يحرم عليه البيع قبل هذا النداء. وقد يصادف النداء الأول وقت تحريم البيع في حق من كان بُعْد داره يوجب عليه السعي وقت الآذان الأول. وإذا ثبت ما قلناه من تحريم البيع، فالبيع قبل الوقت الذي حددناه سائغ. قال في مختصر ابن شعبان: ولا بأس بكينونة (¬1) الرجل في سوقه إلى أذان الجمعة. قال ابن شعبان يريد كما فعل عثمان رضي الله عنه. وهو الأمر الذي كان عليه الصدر الأول لا يجتنبون البيع يوم الجمعة بل يستحبون ذلك ويرغبون فيه خلافًا لليهود فيما يصنعون في سبتهم. وقد أذن الله سبحانه في ذلك إلى النداء لها (¬2) ثم أذن به بعد الفراغ منها كما قال جل ذكره. وأما ترك العمل يوم الجمعة فقد كرهه مالك وكان بعض الصحابة يكرهه. وقال ابن حبيب عن أصبغ من ترك من النساء العمل يوم الجمعة استراحة فلا بأس. ومن تركه منهن استنانًا فلا خير فيه. وإذا ثبت منع البيع يوم الجمعة فهل يفسخ إذا وقع أم لا؟ عن مالك في ذلك روايتان: قال في المدونة يفسخ. وقال في المجموعة البيع ماض وليستغفر الله. وفي الثمانية عن ابن الماجشون إن كان قوم اعتادوا البيع ذلك الوقت فسخت تلك البياعات كلها (¬3) وإن لم تكن عادة زجروا عن ذلك ولم يفسخ. فإن قلنا بأن البيع يفسخ فما حكمه إذا فات بتغير الأسواق وغير ذلك مما يفيت البيع؟ فيه قولان: أحدهما أنه يمضي بالثمن وهو قول المغيرة وسحنون. قال ابن عبدوس لأن فساده في عقده لا في ثمنه كالنكاح يفسد لعقده. والقول ¬

_ (¬1) بكينونته -و-. (¬2) لها = ساقطة -و-. (¬3) فسخت البياعات -و-.

الآخر، أنه يكون فيه (¬1) القيمة. فإن قلنا بهذا القول فمتى تكون القيمة؟ فيه قولان: أحدهما أنها تكون حين القبض، وهو قول ابن القاسم والثاني أنها تكون بعد الصلاة وحين يحل البيع. وهو قول أشهب. وإن قلنا بأن البيع لا يفسخ فهل يستباح الربح أم لا؟ قال مالك أرى الربح على المشتري حرامًا. قال ابن القاسم فإن باعها المبتاع بربح فلا يأكل الربح وأحبُ إقي أن يتصدق به. وعمدة من فسخ البيع أنه بيع منهي عنه، والنهي يدل على فساد المنهي عنه عند طائفة من أهل الأصول. وأما من لا يفسخه فقد لا يسلم دلالة النهي على الفساد على الإطلاق. وقد احتج ابن سحنون لهذا المذهب بأن من فرّط في صلاة الظهر والعصر حتى لم يبق من النهار إلا مقدار خمس ركعات فباع حينئذ فإن بيعه لا يفسخ. وهذا الذي احتج به ابن سحنون وقدّره متفقًا عليه قد خالف فيه إسماعيل القاضي. ورأى أن البيع يفسخ كالبيع وقت الجمعة. وإليه ذهب الشيخ أبو عمران. كان هذا البيع مما تدعو الضرورة إليه لإقامة الجمعة كمن انتقض وضوؤه وقت الجمعة ولم يجد ماء إلا بالثمن فهل يباح له أن يشتريه لأن البيع حينئذ إنما نهي عنه لكونه فيه شغل عن الصلاة، وهذا البيع بالعكس من ذلك إذ بفعله تحصل الصلاة وبتركه تفوت، أو يمنع من ذلك طردًا لحكم سائر البياعات؟ قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي يجوز شراؤه والبيع لا يفسخ فيه. وإذا تبين ما قلناه في البياعات فهل يقاس عليها غيرها من العقود أو لا؟ إذا قلنا بطريقة من ذهب إلى الفسخ، اختلف في النكاح. فقال أصبغ يفسخ. وقال الأبهري وهو مذهب أبي العباس الطيالسي وعبيد الله ابن المنتاب وهو الصواب. قال ابن الجلاب يفسخ النكاح والإجارة. وقال ابن القاسم لا يفسخ النكاح دخل أو لم يدخل، ولا ما عقد من هبة أو صدقة بخلاف البيع. وخزج القاضي أبو محمَّد *فسخ الهبة والصدقة على قول من فسخ النكاح. وقال محمَّد* (¬2) بن عبد الحكم في الإقالة والشركة والتولية والأخذ بالشفعة يفسخ لأنه بيع. ومما ¬

_ (¬1) فيه = ساقطة -و-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و-.

يشكل عندي تخريج العتق على ما أشار إليه القاضي أبو محمَّد من الاختلاف في الهبة والصدقة. فإنه قيل بإمضائهما فلا شك في إمضاء العتق وإن قيل بردهما ففي العتق نظر لأجل ما يتعلق به من الحرية (¬1). وكأن من يرى أن العلة الاشتغال عن الجمعة يجري كل ما يشغل من ذلك مجرى واحداً كالنكاح والإجارة والهبة والصدقة. ومن يرى أن البيع يتكرر ويشتد الحرص عليه ففسخه حسم لمادته، والنكاح وما في معناه لا يتكرر فلا يكون في إمضائه إغراء الناس به. يفرق بين البيع والنكاح (¬2) وما ذكر معه في الفسخ. وإلى هذا الفرق (¬3) أشار ابن بكير. ومما يحل محل الكلام تحريك ما له صوت كالحصباء والثوب الجديد. وقد خرّج مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - *من حرك الحصباء فقد لغا (¬4). ومما يحل محل الكلام* (¬5) في المنع (¬6) الصلاة حينئذ. وها نحن نتكلم عليها. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا يركع من دخل والإمام يخطب. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان منهما أن يقال: 1 - لِمَ منعت الصلاة والإمام يخطب؟. 2 - وهل يقطع الصلاة من تنفل والإمام يخطب؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الشروع في تحية المسجد فإنه يمنع عندنا إذا خرج الإِمام. وكذلك يمنع حينئذ الشروع في الصلاة من حضر المسجد. وبه قال الثوري وأبو حنيفة والليث. وقال الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق من دخل والإمام يخطب صلى ركعتين. وقال أبو مخلد (¬7) فيمن دخل ¬

_ (¬1) من الحرمة -و-. (¬2) فلا يكون في إمضائه عن اللباس به يفرق بين البيع والنكاح - قل. (¬3) الفرق = ساقطة -و-. (¬4) أخرج مسلم بسنده إلى أبي هريرة = ومن مس الحصى فقد لغى. إكمال الإكمال ج 3 ص 16. (¬5) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬6) منع -و-. (¬7) أبو مخدد = ساقطة من -و- وفي نسخة من -قل- أبو مجدز.

والامام يخطب إن شاء ركع وإن شاء جلس. قال الأوزاعي إن كان قد ركع في بيته لم يصل وإن لم يكن صَلَّى في بيته (¬1) ركع ركعتين. وقد استدل على الجواز بما خرّج في الصحيحين: أن رجلًا أتى والشعبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس ولم يركع فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما. ثم قال إذا جاء أحدكم المسجد والامام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما (¬2). وقد أجاب بعض أصحابنا عن هذا بأجوبة أحدها أن الرجل كان فقيرًا فأراد أن ينبه بقيامه على حاله ليُتصدق عليه. أو يحمل على أنه أمره بذلك بعد الفراغ من الخطبة، أو كان ذلك والشعبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبتدىء الخطبة وسكت له حتى ركع. أو دخل وهو في الخطبة فقطعها حتى ركع، وقد ذكر بعض الناس أنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمسك عن الخطبة. وهذه الرواية إن ثبتت تعين هذا التأويل دون ما سواه. وأما الاعتذار بأنه أراد أن ينبّه على حاله ليتصدق عليه فلا يعتمد عليه لأنه قد قال عقيب قوله = قم فاركع ركعتين وتجؤز فيهما = إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب الحديث. ولا شك في أن هذا اللفظ قد تعدى هذا الرجل وأريد به من سواه. وهو خطأ ب لجميع الحاضرين على القول بالعموم. وجميع الحاضرين ليسوا بمساكين تجوز لهم الصدقة. وقد أدى هذا اللفظ (¬3) العام ابن القصار إلى أن طلب تأويلًا آخر لهذا العموم فقال يحمل على أنه كان في غير خطبة الجمعة. وهذا تعسف منه. وقد ذكر في بعض طرق الحديث جاء سليك الغطفاني في يوم الجمعة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما (¬4). ثم قال إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين ويتجوز فيهما. وإذا أطلق لفظ الخطبة منسوبًا إلى يوم الجمعة إلى يوم فالسابق إلى فهم كل سامع حمله على الخطبة المعهودة فهيا. وقد قابل بعض أصحابنا هذا الحديث الذي اعتمد عليه هذا المخالف بما رواه ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا ¬

_ (¬1) في بيته = ساقطة -و-. (¬2) رواه مسلم والبيهقي. سنن البيهقي ج 3 ص 194. (¬3) اللفظ = ساقط -و-. (¬4) رواه مسلم وأبو داود وأحمد. الهداية ج 3 ص 282

دخل أحدكم المسجد والإمام على المنبر فلا صلاة له ولا كلام حتى يفرغ (¬1). وأيضاً فإن رجلًا دخل المسجد والشعبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له: أجلس فقد آنيت وآذيت (¬2). فأمره بالجلوس فدل على أنه المشروع. وهاذان الحديثان قوبل بهما حديثا المخالف: وما ذكرناه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب، وحديث *الأمر بتحية المسجد عمومًا. وعضد أصحابنا ما تعلقوا به (¬3) بأنه - صلى الله عليه وسلم -: قال إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت. فإذا كان تغيير المنكر حينئذ ممنوعًا لكونه شاغلًا كانت الصلاة حينئذ أولى لأنها أشد شغلًا. وقد أشار بعض أصحابنا إلى أنه إنما كان مبدأ منع الصلاة خروج الإِمام ولم يكن ذلك مبدأ منع الكلام. كما قال أبو حنيفة لأن الصلاة قد لا تنقضي إلا وقد شرع الإِمام في الخطبة فيكون حينئذ منشغلًا بالصلاة عن الخطبة. واعتضدوا أيضًا بأن الاستماع فرض والتحية نفل، فلا يترك فرض لنفل. وبهذا ردّوا قول المخالف أن التحية تخصه فقدمت على الاستماع الذي هو له ولغيره لأنه (¬4) إذا كان الاستماع فرضًا لم يوازن بالنفل مع أنه مخصوص بفرض الاستماع. وهذا التعليل يقتضي أن من ذكر صلاة الصبح حينئذ فإنه يصليها. وإلى هذا أشار بعض أصحابنا البغداديين وقال: لأنه (¬5) يترك أمرًا لما هو أوجب منه وقد ذكرنا أن مذهبنا تعليق منع الصلاة بخروج الإِمام، وذكرنا ما ذكر من الفرق بين ذلك وبين الكلام. وقد قال مالك في المختصر التنافل يوم الجمعة جائز للناس حتى يجلس الإِمام على المنبر، فإذا جلس فلا صلاة، ولا بأس بالكلام. فإذا تكلم فلا كلام. وينبغي أن يستقبل وينحرف إليه وينصت وذلك على من سمعه ومن لم يسمعه. وكذلك ذكر ابن حبيب وقال: ممن في المسجد أو خارجاً عنه. قاله مالك ورواه عن عثمان رضي الله عنه. ¬

_ (¬1) رواه الطبراني عن ابن عمر. جامع السيوطي حديث 2223. (¬2) رواه النسائي: اجلس فقد آذيت. ج 3 ص 103. شرح السيوطي. ورواه ابن ماجة كاملًا ج 1ص 345. حديث 115. (¬3) ما بين النجمين هو - و. (¬4) أنه -و-. (¬5) لأنه = ساقطة -و-.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا شرع في النافلة من نهيناه عنها يوم الجمعة فهل يقطع أم لا؟ اختلفت الرواية عن مالك رحمه الله. فقال في مختصر ابنِ شعبان: من دخل في النافلة بعد جلوس الإِمام قطعها. وقال سحنون في العتبية من دخل، والإمام جالس، والمؤذنون يؤذنون فأحرم بالصلاة جهلًا أو سهوًا فلم يفرغ حتى قام الإِمام يخطب أنه يمضي في صلاته ولا يقطع. وإنما يكره ذلك ابتداء. فإذا فعل ذلك أحد في صلاته مضى ولم يقطع. قال ورواه ابن وهب عن مالك. فكأن قائل هذا المذهب راعى الخلاف *في أصل المسألة. ومن أمر بقطع الصلاة لم يرل الخلاف* (¬1) في ذلك. وهذا الحكم لو ابتدأ النافلة حينئذ، فأما استدامتها حينئذ في حق من افتتحها وقت الجواز فلمالك في العتيبة، إذا خرج الإِمام وقد أحرم رجل بنافلة فليتمها ركعتين ومن لم يحرم حتى جلس الإِمام فلا يحرم. وإذا وضح أنه لا يقطعها من افتتحها حال الجواز فهل يستوفي أفعالها أم لا؟ اضطرب المذهب في ذلك. قال مالك في المجموعة إذا دخل الإِمام وقد بقي على رجل آيات في آخر الركعة فواسع أن يتمها ويركع. وعنه في العتبية، وإن كانت في تشهد النافلة فليسلم ولا يتربص ليدعو لقيام الإِمام. قال ابن حبيب لا بأس أن يطيل في دعائه ما أحب. وقال في مختصر ابن شعبان، إذا جلس الإِمام على المنبر بعد أن دخل داخل في النافلة فليتم ركعتين ويقرأ في كل ركعة بأم القرآن وحدها. ومن خرج عليه الإِمام يوم الجمعة وهو قائم في آخر ركعة من نافلة فواسع أن يتم ذلك أو يركع، فإن كان تشهد فليسلم ولا يمكث حتى يفرغ من دعائه. فأنت ترى كيف نقل ابن شعبان ما كنا نقلناه من التوسعة في قراءة الآيات *والنهي عن إكمال الدعاء والاقتصار على أم القرآن وحدها. فكان النهي عن قراءة السورة مع أم القرآن ينافي ما ذكره من التوسعة في قراءة* (¬2) الآيات. ومما ينهى عنه يوم الجمعة (¬3) التخطي. وإنما أوردناه في هذا الفصل ولم ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬3) يوم الجمعة = ساقط -و-.

نلحقه بما يحل محل الكلام في الفصل الذي قبل هذا، لأجل اختصاص النهي فيه بجلوس الإِمام كالصلاة. فالتخطي لغير فرجة بين يديه منهي عنه على الإطلاق لما فيه من الأضرار. وأما التخطي لفرجة فيباح قبل جلوس الإِمام وينهى عنه بعد جلوسه. قال مالك: إنما ينهى عن ذلك إذا خرج الإِمام وجلس على المنبر، فأما قبل ذلك فلا بأس إذا كان بين يديه فرج. قال بعض أصحابنا إذا جلس الإِمام فقد أبطل الداخل حقه في التخطي إلى الفرج، لأجل تأخره عن وقت وجوب السعي. وذكر مالك في موطئه عن أبي هريرة: لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإِمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس (¬1). قال بعضهم معناه أن الماثم عنده في تخطي رقاب الناس أكثر من الماثم في التخلف عن الجمعة. وقالت الشافعية يكره لمن دخل المسجد وقد ازدحم الناس أن يتخطى رقاب الناس وليصل حيث انتهى به المجلس إلا أن يجد موضعًا يصلي فيه فلا يكره له التخطي. وكذلك إذا كانت فرجة ولا يحتاج في الوصول إليها إلا أن يتخطى الواحد والاثنين فيجوز ذلك. فإن كانوا أكثر كره له، وكان قتادة يقول يتخطاهم إلى مجلسه. والأوزاعي يقول يتخاطاهم إلى السعة. وقال أبو بصرة يجوز أن يتخطاهم بإذنهم. وقد قدمنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: إجلس نقد آنيت وآذيت (¬2). وهذا الحديث قد تضمن الإشارة إلى معنى الأذى بالتخطي ونحن قد منعنا الأذى على الجملة. وقالت الشافعية لا معنى لتفرقتكم (¬3) بين خروج الإِمام وقبل خروجه في إباحة التخطي إلى الفُرج (¬4)؛ لأن المنع إذا رجع للأذى لم يعتبر فيه خروج الإِمام. وقد قدمنا ما أشار إليه من أصحابنا من الانفصال. فإنه قد أبطل حقه في التخطي لتأخره عن وقت وجوب السعي. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ثم يقام لها عند الفراغ من الخطبة ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطإ عن أبي هريرة. الموطأ ص 89. (¬2) تقدم تخريجه قريبا. (¬3) تفرقتهم -و-. (¬4) للفرج - قل.

الثانية وعدد (¬1) ركعاتها ركعتان يجهر (¬2) في كلتيهما ويقرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالأعلى أو بالمنافقين. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن يقال: 1 - لِمَ جهر فيهما بالقراءة؟. 2 - ولمَ استحب أن يقرأ فيهما بما قال؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الأصل في صلاة النهار الإسرار لكن الجمعة، لما كانت صلاة القصد بها المباهاة وإظهار معالم الإِسلام والإشاعة بها، شرع الجهر فيها. لأن السر أخفى والقصد بها الإشهار. والإجهار أبلغ في الإشاعة. فلهذا خالفت الأصل وشرع فيها الخطبة لما في الخطبة من الإشهار أيضًا، وغير ذلك من المعاني التي شرعت الخطبة لأجلها. وجعلت الخطبة فيها بدل الركعتين. ولما رأى القاضي أبو محمَّد مخالفة هذه الصلاة لما استقر الأمر عليه في صلوات النهار من العدد والإجهار، نبّه على ذلك بما ذكرناه ها هنا. والجواب عن السؤال الثاني: أن بقال: اختلف الناس في المستحب من القراءة في صلاة الجمعة، فعندنا وعند الشافعي أن الركعة الأولى يقرأ فيها بسورة الجمعة. وقال أبو حنيفة لا تتعين فيها سورة من السور المقروءة مع أم القرآن. وأما الركعة الثانية فعندنا أنها لا تتعين فيها بسورة بعينها. وبه قال أبو حنيفة. ولكن قال مالك في المدونة: أحب إليّ أن يقرأ فيها بسورة الجمعة وهل أتاك حديث الغاشية. وفي المجموعة قيل لمالك أقراءة سورة الجمعة في صلاة الجمعة سنّة؟ قال: ما أدري ما سنّة! ولكن منْ أدركنا، كان يقرأ بها في الأولى وفي الثانية {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}. وفي رواية أشهب بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وذلك أحب إلى وهم يقرؤون اليوم بالتي تلي سورة الجمعة. وفي مختصر ابن شعبان رأيت الأئمة عندنا يقرؤون بسبّح مع سورة الجمعة في ¬

_ (¬1) وعددها -غ- قل. (¬2) بجهره - الغاني.

صلاة الجمعة. وقال أبو مصعب عنه يقرأ بها. فهذه روايات أشير بها إلى استحباب سورة معينة في الثانية. والذي حكاه بعض أصحابنا أنها لا تختص بإحدى السورتين المشار إليهما بسبّح وهل أتاك حديث الغاشية. ولا تختص أيضًا بغيرهما من السور. وقال الشافعي تختص بسورة المنافقين، وقد اختلفت الآثار في ذلك. قال ابن حبيب روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيها بالجمعة وهل أتاك حديث الغاشية (¬1) وروى سمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ فيها بسبّح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية (¬2). واحتجت الشافعية بما روي أن أبا هريرة صلى الجمعة بالمدينة فقرأ بسورة الجمعة والمنافقين. فقال عبد الله بن أبي رافع لأبي هريرة قرأت سورتين كان علي يقرأ بهما في الكوفة فقال أبو هريرة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ بهما. قالوا ويرجح هذا الخبر بعمل هذين الصحابيين قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وتدرك بقدر ركعة من فعلها أو وقتها. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منهما أن يقال: 1 - لم لا تدرك الجمعة إلا بركعة من فعلها؟. 2 - وما حكم من غفل عن بعض أركانها؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس بماذا يكون إدراك الجمعة. فقال عطاء وطاوس ومجاهد ومكحول: لا تدرك الجمعة إلا بإدراك الخطبتين ومن لم يدركهما لم يدرك الجمعة. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه لا يكون مدركًا إلا بإدراك الخطبة. ومذهبنا أنه يدرك الجمعة بإدراك ركعة وبه قال الزهري (¬3) والثوري والأزاعي ومحمد بن الحسن والشافعي وأحمد وإسحاق. وروي عن ابن مسعود وبأن عمر وأنس رضي الله عنهم. وقال النخعي وأبو حنيفة وأبو يوسف إن أدرك التشهد فقد أدركها. قال أبو حنيفة وكذلك إن ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة. مختصر ابن داود حديث 1080 - 81. (¬2) رواه مسلم والبيهقي ج 3 ص200 (¬3) الزهري = سا قطة -قل-.

لم يدركه إلا في سجود السهو بعد السلام. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة (¬1). ومن أدركهم جلوسا صلى ظهرًا أربعًا. قال بعض أصحابنا والصحابة على القولين الذين ذكرنا عنهما. ومذهب أبي حنيفة إحداث قول خارج عنهما. وأيضًا فإنه وافق على أن هروب الناس عن الإِمام قبل عقد ركعة يمنع من انعقاد الجمعة، فكذلك المأموم إذا لم يدرك ركعة. لأن الجماعة شرط في حق الإِمام والمأموم. وقد كنا قدمنا ما أشار إليه أصحابه من الفرق بين الإِمام والمأموم في هذا. ولا تعلق لأبي حنيفة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا (¬2). لأن من أدرك ما بعد الركوع غير مدرك في الحقيقة؛ لأنه لا يعتد بما أدرك بل يقضيه. وإذا كان غير مدرك فقد فاتته الجمعة كلها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد كنا قدمنا الكلام في حكم الناعس والمزاحم عن الركوع والسجود *وذكرنا ما اتفق عليه من ذلك وما اختلف فيه* (¬3) وذكرنا تفرقة بعض أصحابنا بين المزاحم والناعس وما قيل في الفرق بينهما *وقد قيل في الفرق بينهما* (¬4) إنما كان المزاحم لا يتبع بخلاف غيره لأن المزاحم ذاكر فللذكر تأثير في لزوم الفريضة. ولذلك اتفق أصحابنا على أن المربوط يقضي بخلاف المغمى عليه. وإذا كان المزاحم في حكم الملزوم بالاتباع لذكره لم يعذر في الترك حتى يمكن من تلافي ما فات (¬5). وقد كنا قدمنا أيضًا اختلاف المذهب في السلام هل يكون ركنًا مانعًا من تلافي ما فات أم لا؟ فمن أدرك الأولى من الجمعة وزوحم عن سجود الثانية حتى سلم الإِمام، لم يأت بالسجود عن ابن القاسم بعد السلام وأتى به عند أشهب. لأنه في التشاغل (¬6) به بعد السلام لا يخالف الإِمام في ركن يجب أن يتبعه فيه بخلاف ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه عن منتخب - كنز العمال ج 3 ص 289 (¬2) تقدم تخريجه قريبًا - وفي قل فأتموا. (¬3) هو -و-. (¬4) هو -و-. (¬5) ما فات = ساقطة -و-. (¬6) بالتشاغل - قل.

الخائف أن يعقد ركعة ثانية عليه. ولو كان لم يدرك إلا الثانية من الجمعة وزوحم عن سجودها حتى سلم الإِمام، فقال ابن القاسم لا تجزئه الجمعة. وقال أشهب بل تجزئه ويسجد ثم يقضي الركعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة (¬1). فإن قلنا لا تجزئه (¬2). فعند عبد الملك يكمل عليها صلاة الظهر أربع ركعات وعند أصبغ يكملها ركعتين ثم يعيد أربعًا. وعند ابن المواز يسلم ويستأنف الأربع. ولو فاتته ركعة فقضاها بعد صلاة ما أدرك ثم شك في سجدة لا يدري من أي ركعة هي؟ فقال ابن القاسم يأتي بسجدة ثم ركعة ويسجد للسهو ثم يعيدها ظهرًا. وقال عبد الملك يأتي بالسجدة خاصة ويتشهد ثم يسجد بعد السلام ويعيدها ظهرًا. واعتل محمَّد لهذا بأنه إن كانت السجدة من الأخيرة. صحت الجمعة ولم يحتج إلى الركعة. فلهذا لم يؤمر أن يأتي بها. وأشار بعض أشياخي أنا إذا قلنا إن الركعة التي لا يعتد بها لا تمنع من إصلاح ما قبلها سجد هذا لإصلاح التي صلى مع الإِمام إذا لم يحل بينه وبينها حائل يُعتد به في صلاة الجمعة، ثم يأتي بركعة وتصح جمعته. وقد علمتَ فيما قدمناه من باب الناعس صفة (¬3) تلافي ما فات، لكن وقع بين الأشياخ تنازع فيمن نعس عن ركوع الأولى من الجمعة وخاف إن اشتغل بتلافي ما فات أن يعقد عليه الإِمام الثانية. هل يضرب عن الاشتغال بما فات ويعقد مع الإِمام ما هو فيه كما يفعل في سائر الصلوات أو تختص صلاة الجمعة بأنه لا يعقد مع الإِمام ما هو فيه إلا بعد القطع بسلام؟ فذهب الأبياني إلى أنه يقطع بسلام. وأنكره غيره من الأشياخ. وإذا لم يستطع المأمور السجود وزُوحم عليه فاصل مالك أنه يؤخر حتى يمكنه ذلك. لكنه مع هذا يكون حكمه أن يومئ إذا خشي ذوات الركوع مع الأمام *فإنه يومئ ليدرك معه الركوع* (¬4). وأصل أشهب أنه يومئ وليس عليه كثر مما في وسعه. ورأى أن الإيماء أولى من التأخير. وعند الشافعية أنه ¬

_ (¬1) رواه مالك في الموطإ. (¬2) فإن قلت لا تجزئه - قل. (¬3) صفة = ساقطة -و-. (¬4) ما بين النجمين = ساقط - قل.

يسجد على من بين يديه إن أمكنه ذلك فإن لم يمكنه صبر حتى يزول الزحام. وقال عطاء والزهري بالانتظار حتى يزول الزحام على حسب ما حكيناه عن مالك. وقال الحسن البصري هو بالخيار إن شاء سجد على ظهر إنسان وإن شاء وقف حتى يزول الزحام. واحتجت الشافعية بقول عمر رضي الله عنه: إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه. ولكنه أكثر ما فيه أنه يسجد على موضع عال، (¬1) فهو يشبه من كان في موضع منهبط فسجد على مرتفع. وأما مالك فإنه يحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ومكن من جبهتك على الأرض (¬2). وأما الحسن فإنه يحتج بأنه إذا تابع الإِمام أحل بكمال السجود وحصلت له المتابعة. وإذا آخره أتى بكمال السجود وأخل بالمتابعة. فلما تردد الأمر بين هذين خير بينهما. وقد نوقض بالمريض فإنه لا يخير بين الإيماء الآن والتأخير لحال الصحة ليأتي بالكمال. وللنظر في هذه المناقضة مجال. وإذا ثبت من أصلنا منع السجود على ظهر آخر فإنه متى منع السجود فسجد على ظهر إنسان أعاد عند مالك، وإن ذهب الوقت. وعند أشهب إنما يعيد في الوقت. وعند محمَّد بن عبد الحكم فيمن أدرك الأولى وزوحم عن سجود الثانية فسجد على ظهر أخيه فإنه يعيد السجود وإن سلم الإِمام إذا لم يسلم هو. وإذا قلنا بطريقة أشهب أن الفرض الإيماء فإن الساجد على الظهر يتنزل على هذه الطريقة منزلة من كان فرضه الإيماء فرفعت له وسادة فسجد عليها. وقد تقدم الكلام على ذلك. وقول القاضي أبي محمَّد في هذا الفصل أنه مُدرك للجمعة (¬3) بإدراك ركعة من وقتها وقد قدمنا الكلام عليه فيما مضى فلا معنى لإعادته. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تفالى: ويكره السفر قبل الزوال من يومها ويحرم بعده. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: لهذا الفصل سؤالان: منهما أن يقال: ¬

_ (¬1) ولأنه ما فيه أكثر - قل. (¬2) روى الأمام أحمد: وإذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض حتى تجد حجم الأرض. عن ابن عباس منتخب كنز العمال ج 3 ص 188. (¬3) أنه يكون مدركًا للأجر -و-.

أ- لِمَ كره السفر قبل الزوال؟. 2 - ولِمَ حرم بعده؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في السفر يوم الجمعة قبل الزوال، فعندنا فيه قولان: الجواز والكراهة. وروى ابن وهب عن مالك: أحبّ إلى ألا يسافر حتى يشهد الجمعة فإن لم يفعل فهو في سعة. وروى عنه ابن زياد: لا بأس بذلك ما لم تزغ الشمس فإذا زاغت فلا يخرج. وروى عنه ابن القاسم في العتبية: لا يعجبني أن يسافر يوم الجمعة إلا من عُذر. وقال مالك في المختصر: لا أحب أن يخرج حتى يصليها *فأما إن زاغت فواجب أن لا يخرج حتى يصليها* (¬1). وقال في مختصر ابن شعبان: من كان له عذر في السفر يوم الجمعة ضُحى فلا بأس. والعذر غير شيء واحد. قال ابن شعبان: وأبصر عمر رضي الله عنه رجلًا عليه أهبة السفر فقال لولا الجمعة لخرجت. قال عمر رضي الله عنه: إن الجمعة لا تحبس (¬2) مسافرًا. وأما الشافعي فاختلف قوله في السفر يوم الجمعة قبل الزوال، فقال في الحديث لا يجوز إذا لم يخف فوات الرفقة، وهو قول ابن عمر وعائشة. وبه قال ابن حنبل إلا أنه استثنى سفر الجهاد. وقال الشافعي في القديم بجواز ذلك قبل الزوال على الإطلاق، وهو مذهب عمر والزبير وأبي عبيدة بن الجراح والحسن وابن سيرين وأبي حنيفة. وقد ذكرنا أنه أحد قولي مالك. وقد اعتل أصحاب الشافعي للمنع بأنه قد يجب السعي قبل الزوال في حق بعض الناس إذا كان منزله بعيدًا فلم يجز السفر حينئذ، كما لو زالت الشمس. وقد يتعلق ابن حنبل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث زيد بن حارثة وجعفر ابن أبي طالب وعبد الله بن رواحة في جيش مؤتة (¬3) فتخلف عبد الله بن رواحة فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له ما خلفك؟ فقال: الجمعة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لروحة: أو غدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها (¬4). وقد ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) تمنع -و-. (¬3) في سرية - قل. (¬4) متفق عليه.

أجيب عن هذا بأنه يحتمل أن يكون بعثه قبل يوم الجمعة فتأخر للجمعة. وقد اضطرب المذهب عندنا فيمن كان بعيد الدار حتى يفتقر إلى أن يسعى (¬1) قبل الزوال بالساعتين والثلاث. فلأصحابنا فيه جوابان: أحدهما أن الفرض لا يتعين إلا بالزوال فيجوز لهذا السفر قبل ذلك. والآخر أن الفرض يتعلق بتقدير الوصول عند الزوال فعلى هذا يمنع هذا من السفر عند وقت تعين السعي. وقد قدمنا أن أصحاب الشافعي احتجوا في منع السفر على الإطلاق بأنه قد يجب السعي قبل الزو الذي حق بعض الأشخاص وهو البعيد الدار. وهذا الاضطراب الذي حكيناه عن أصحابنا لا يتصور في إيجاب السعي عليه لأن شروط الجمعة قد كملت فيه. وإنما تصور عندي فيما صوروه لأجل ما قد يقع فيه من الإشكال. وذلك أن السفر إنما منع بعد الزوال لأنه وقت وجوب الصلاة في حق كل واحد وإن كان قبل الزوال بالساعتين والثلاث فليس بوقت لوجوب الصلاة في حق آخر. لكن هذا تعين عليه السعي إلى الصلاة وذلك عبادة ثانية غير الصلاة، فهل يُعلق حكم السفر على حكم ما ينفرد هذا به من الوجوب، أو يعلق بالوجوب العام لسائر الأشخاص؟ والأظهر أن هذه الساعات التي قبل الزوال تكون في حقَ هذا كما بعد الزو الذي حق جميع الناس، لأن أحكام الصلاة يعتبر فيها صفات كل إنسان في نفسه وأحواله المختصة به لا الصفات التي تعم الجميع، إلا فيما ورد الشرع في مراعاة صفة الجميع فيه. وقد كنا قدمنا الإشارة إلى هذه المسألة فإذا أبحنا السفر قبل الزوال فسافر، فسمع النداء وبينه وبين موضع الجمعة من المسافة ما يلزم السعي منه إلى الجمعة على حسب ما قدمناه في اعتبار الثلاثة الأميال، فالظاهر من المذهب أنه يجب عليه الرجوع لأنه قد نودي للصلاة وهو من أهل الجمعة وبموضع يلزم منه إتيان الجمعة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما السفر إذا سمع النداء فلا شك في منعه لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (¬2). وهذا يعين وجوب السعي للذكر لا لغيره. وأما السفر بعد الزوال قبل ¬

_ (¬1) المشي -قل-. (¬2) سورة الجمعة، الآية: 9.

النداء فالمعروف من مذهبنا ما قال القاضي أبو محمَّد أنه محزم. وقد ذكرنا قول مالك في المختصر إذا زاغت الشمس فواجب ألا يخرج حتى يصليها. وقال بعض أشياخي اختلف فيه: فقيل بالكراهة وقيل بالمنع. وأشار بما وقع من الكراهية على الإطلاق كما حكيناه من قوله: أحب إلى أن لا يسافر يوم الجمعة حتى يشهد الجمعة فإن لم يفعل فهو في سعة. وهذا محمول على أن الشمس لم تزل. وقد رواه الراوي بذلك عنه مقيدًا بما قبل الزوال. وقال الشافعي بالمنع إذا لم يخف ذوات الرفقة. وقال أبو حنيفة بالجواز. وقال ابن حنبل بجواز سفر الجهاد. ومال بعض أشياخي إلى نفي الوجوب تعلقًا منه بما حكيناه عنه من التمسك بإطلاق الرواية. ورأى أنها لم تجب بعد الزوال. وقد احتج بعض أصحاب أبي حنيفة بأنها صلاة يجوز السفر بعدها، فجاز قبلها كسائر الصلوات. وأجيب عنه بأن سائر الصلوات لا يسقطها السفر والجمعة يسقطها السفر. وقد وجبت بالزوال فلا يجوز التشاغل بما يسقطها. وقد يقال عندي في هذا الانفصال أن السفر لا يسقطها أصلًا بل يجب عدد أكثر منها. وإنما ينتقل من فرض إلى فرض كما ينتقل المسافر من فرض إلى فرض فلا ينبغي الاعتماد إلا على النظر في وجوبها بالزوال أم لا؟. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومن سننها (¬1) المتأكدة (¬2) الغسل متصلًا بالرواح. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن الغسل سنّة؟. 2 - ومن يخاطب به؟. 3 - ومتى وقته؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في غسل الجمعة. ¬

_ (¬1) من سنتها -غ-. (¬2) المؤكدة - الغاني.

فالدهماء من العلماء على أنه سنّة وليس بواجب. وذهب الحسن وداود وأهل الظاهر إلى وجوبه. وذكر بعض أصحابنا أن أبي بن كعب ذهب إلى نحو هذا المذهب. وحكى بعضهم (¬1) عن أبي أنه قال: لو لم أجد يوم الجمعة إلا صاعًا بدينار لاشتريته واغتسلت به. فإن كان بعض أصحابنا أضاف إليه الوجوب من هذا القول ففيه نظر لأنه قد يقوله إشعارًا بتأكد هذه السنّة. وأشار بعض أشياخي إلى أن المذهب اختلف في وجوبه لقول أبي جعفر الأبهري اختلف أصحاب مالك فقال بعضهم: هو سنة مؤكدة لا يجوز تركها إلا لعذر. وقال بعضهم هو مستحب. فاستدل أصحابنا على نفي الوجوب بقوله عليه الصلاة والسلام: من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل (¬2). أخرجه النسائي وأبو داود. وهذا يشعر بنفي الوجوب لقوله في المقتصر على الوضوء: من توضأ فيها ونعمت. ولقوله في المغتسل: والغسل أفضل. فوصف الغسل بأنه أفضل ولم يصفه بالوجوب. قال ثعلب يقال: إن فعلت كذا فيها ونعمت. والعامة تقول ونعمه وتقف بالهاء. وقال بن درَستوَيُه ينبغَي أن يكون ذلك هو الصواب عند ثعلب وأن تكون الهاء خطأ لأن الكوفيين يزعمون أن نِعْم وبئس إسمان. والأسماء تدخل فيها هذه الهاء بدلاً من تاء التأنيث. والبصريون يقولون هما فعلان ماضيان (¬3). والأفعال تليها تاء التأنيث ولا تلحقها الهاء. قال الأصمعي في التأنيث ها هنا المراد به فبالسنّة أخذوا. وأراد بقوله ونعمت أي الخلة والفعلة. ثم حذف اختصارًا. وقد قيل إن هذه اللفظة يقال فيها ونعمت بكسر العين وإسكان الميم أي نعّمك الله. واستدل أصحابنا أيضًا بحديث عثمان لما دخل يوم الجمعة وعمر رضي الله عنه يخطب فقال له عمر ما قال. فقال: ما زدت على أن توضأت. فلم يأمره بالغسل، ولا أحد من الصحابة أمره بذلك. ولو كان واجبًا لأمروه به. فصار هذا كالإجماع. واستدل أصحابنا أيضًا بما خرج في الصحيح من قوله عليه الصلاة ¬

_ (¬1) غيره -و-. (¬2) رواه أحمد وأبو داود: الهداية 3 ص290 (¬3) ماضيان = ساقطة -و-.

والسلام: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصباء فقد لغا (¬1). فمدح ها هنا المقتصر على الوضوء ووعده بما وعده به، فلو كان الغسل واجبًا لما صح هذا الوعد المتضمن للثناء على المقتصر على الوضوء، إذ تارك الواجب لا يثنى عليه. وقد لاح ما في هذا الحديث: أن الاقتصار في الغفران على هذا المقدار من العدد لأجل ما تقرر في الشريعة أن الحسنة بعشر أمثالها. فكانت الطاعة يوم الجمعة تضاعف إلى عشر، والجمعة سبعة أيام. وتبقى من العشر ثلاث فزادها من جمعة أخرى. واستدل أصحابنا بحديث عائشة المذكور فيه: إن الناس كانوا عمال أنفسهم. وذكرت فوح الروائح منهم فقال عليه الصلاة والسلام: لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا (¬2). حديثها المشهور في ذلك. وفي بعض الطرق: ولو اغتسلتم. وهذا اللفظ لا يستعمل في الوجوب. وقد قال بعض أشياخي: الغسل لمن له رائحة واجب. واعتمد على النهي لأكل الثوم عن دخول المسجد. وحضور الجمعة واجب فيزالة الرائحة واجبة. واعتذر عن حديث عائشة بأن تلك الروائح ألفوها. فلهذا لم توجب الغسل، ولم تكن كغيرها من الروائح. واستدل أيضًا على نفي الوجوب بأن الطهارة إنما تتغلظ بالحدث لا بالصلاة. ألا ترى أن البول يوجب الطهارة الصغرى والمني والحيض يوجبان الطهارة الكبرى فإنما تغلظت الطهارة واختلفت باختلاف الأحداث ولا مدخل في ذلك للصلوات بدليل أن النفل والفرض مستويان في الطهارة، وأن الصلاة الواحدةِ والصلوات الكثيرة يفعل جميعها بطهارة واحدة. وإذا كان هذا هكذا فلا معنى لتغليظ الطهارة وإيجابها للصلاة لا لحدث. لكن الطهارة تستحب فيها تعظيمًا لها. كما تكون الطهارة عند الإحرام وغير ذلك مما استحبت الشريعة الطهارة فيه. وأما القائلون بالوجوب فإنهم يستدلون على الوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم (¬3). الحديث المشهور. وبقوله في الصحيح ¬

_ (¬1) رواه مسلم عن أبي هريرة. إكمال الإكمال ج 3 ص 16. (¬2) رواه مسلم وأبو داود والبيهقي من رواية يحيى بن سعيد. الهداية ج 3 ص 289. (¬3) عن أي سعيد الخدري: غسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم. الهداية ج 3 ص 93.

أيضًا: حق على كل مسلم أن يغسل في كل سبعة أيام رأسه وجسده (¬1). وهذا نص في الوجوب. ويؤكد هذا أبا هريرة رضي الله عنه روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى (¬2) الحديث وقد أجاب أصحابنا وغيرهم عن هذا بأنه محمول على وجوب السنن. وإشعار بتأكيد التحضيض. ويحمل حديث أبي هريرة عليه أو على أنه أراد التشبيه بغسل الجنابة في إيعاب الجسد. وقال بعض المتأخرين يحتمل أن يريد المغتسل للجنابة. وقد قيل أن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: من غسل واغتسل: أوجب على غير. الغسل بالجماع واغتسل هو منه. وقال مالك في هذا ليس كل ما جاء في الحديث يكون كذلك. وهذا الجواب غير كاف. كما أن جواب أصحابنا غير مقبول إلا بأن تعارض الأحاديث بعضها ببعض فيستعمل فيها البناء والتأويل، ويسلك طرق الترجيح في البناء والتأويل، والسند إلى غير ذلك مما يعرفه أهل الأصول فحينئذ يصفو لهم ما قالوه إن أدى العمل المشار إليه إلى ما قالوه. وقد يستدل الموجبون أيضًا بأن الصلاة فرضت لها الطهارة فلما كانت الجمعة أقوى (¬3) في الفرض وآكد من غيرها صح أن تختص بزيادة فرض في الطهارة، وقد قدمنا نحن من جهة الاعتبار ما يقابل اعتبارهم هذا أو يربي عليه. فإذا وضح ما قلناه في هذا. فالذي قدمناه عن شيخنا من إشارته إلى أن المذهب على القولين في الوجوب وتعلقه بما حكاه الأبهري، فيه نظر لأنا قدمنا في كتابنا هذا في غير موضع واحد (¬4) منه الكلام على ترك السنن وتعلق الإثم بتركها والتجريح والتأديب. وذكرنا ما قاله أهل الأصول في ذلك وما قاله أصحابنا. واعتذرنا بالروايات المخالفة (¬5) لأصولهم. فمن أحب حقيقة القول فليطالعه حيث أثبتناه ويعلم منه أن مثل هذا الذي حكاه الأبهري قد يجري على طريقة ¬

_ (¬1) روى مسلم عن جابر: على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة. (¬2) رواه مالك والشيخان والأربعة: الهداية ج 3 ص 298 (¬3) لقوم - قل. (¬4) واحد = ساقطة -و-. (¬5) المختلفة -و-.

بعض أصحابنا (¬1) في ترك السنن. والعبارات في تركها مختلفة وقد قدمنا ما يجمع أسبابها. وقد قال ابن حبيب الغسل للجمعة ستة مرغب فيها لا يؤثم تاركه. وهذا الذي قاله هو الأصل المشهور في ترك السنن. وما سواه طريقة قوم آخرين قد ذكرناها. وقد وقع في الأحاديث الواردة في الغسل ما يحتاج إلى تفسير. وهو ما خرّجه النسائي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غسّل واغتسل وبكّر وابتكر ودنا من الإِمام ولم يلغ كان له بكل خطوة عملُ سنة صيامها وقيامها (¬2). فقوله غسّل الأكثرون يحملونه على أنه (¬3) جامع أهله حتى أوجب عليها الغسل. فصار بذلك مغسّلًا لها ويكون التحضيض على ذلك ليؤمن عليه أن يرى في طريقه ما يحرّك (¬4) عليه شهوته. قال ابن حبيب معنى قوله غسّل أي ألمّ بأهله فألزمها (¬5) الغسل وهو أفضل، ممن لزمه الغسل للجمعة فقط. وذهب آخرون إلى أن المراد به الوضوء للصلاة لأنه إذا غسل أعضاء الوضوء فكرّر غسلها ثلاث مرات ثم اغتسل بعد ذلك غسل الجمعة صار هذا التكرار يعبر عنه بهذا الفعل فيقال فيه غسّل. وأما قوله بكر فقيل المراد به إتيان الصلاة لأول وقتها وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه، ومنه الحديث: لا تزال أمتي على سنتي ما بكروا بصلاة المغرب (¬6). وأما قوله وابتكر قيل المراد به إدراك الخطبة من أولها يقال ابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفاكهة ويقال ابتكر إذا نكح بكرًا. ويؤكد هذا التأويل ما عطف عليه من الأفعال المقاربة وقد وقع فيما قدمناه من الأحاديث. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: جمهور العلماء على أن الغسل لا يخاطب به من لا يحضر الجمعة وذهب أبو ثور إلى أنه يخاطب به من لم يحضر ومن حضر لقوله عليه الصلاة والسلام: الغسل يوم الجمعة واجب على كل ¬

_ (¬1) بعض أصحابنا = ساقطة -و-. (¬2) رواه الأربحة واللفظ للنسائي. سنن النسائي ج 3 ص 96. (¬3) على أن المراد جامع أهله - قل. (¬4) يجري - قل. (¬5) فألمها -و-. (¬6) لا تزال أمتي بخير وعلى الفطرة يا لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم. رواه الحاكم وابن ماجة وابن خزيمة. نيل الأوطار ج 1ص 403.

محتلم (¬1). فعمّ من حضر ومن لم يحضر. ودليل الجماعة ما رواه أصحاب الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل (¬2). فعلق الغسل بإتيان الجمعة. *وهذا يخصص حديثهم العام* (¬3) وأيضًا فإنه إذا كان أصل الغسل والسبب في أن يشرع ما ذكرناه من التأذي بالروائح عند الاجتماع، كان من لم يحضر الجمعة خارجًا عن هذا المعنى وسقط عنه الخطاب بالغسل. وأما من حضر الجمعة وقد خوطب بالحضور خطابًا تعين عليه فلا شك في كونه مأمورًا بالغسل. وأما إن لم يكن ممن تعين عليه الخطاب فقد قال في المدونة إذًا شهد النساء والصبيان والعبيد فليغتسلوا. وقال في المسافر إذا شهدها فليصلها ولم يقل فليغتسل. وقد أدى هذا بعض الناس إلى أن رأى أن المسافر لا يخاطب بالغسل وأنه في ذلك بخلاف المرأة والعبد لأجل أمره في المدونة العبد والمرأة بالغسل وإضرابه عن أمر المسافر بذلك. ورأى الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد أن إضرابه عن ذكر الغسل في المسافر لا يشير إلى سقوط الغسل عنه. وجمعه في مختصره في الأمر بالغسل مع العبد والمرأة. ولمالك في المختصر أن المسافر إنما يغتسل إذا أتاها للفضل. فإن شهدها للصلاة أو لغير ذلك فلا غسل عليه. وفي الواضحة من شهدها من مسافر أو عبد أو امرأة رغبة فيها فليغتسل. وإن شهدها المسافر لغير الفضل لكن للصلاة أو لغير ذلك فلا غسل عليه. وأما المرأة والعيد فلا يأتونها في الحواضر إلا للفضل. وذهب ابن حبيب إلى أن المرأة لا تخاطب بالغسل لأنها لا- تخالط الرجال. والدليل لنا عليه قوله عليه الصلاة والسلام: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل ولم يفرق. وقد قال بعض المتأخرين قوله في الحديث: الغسل واجب على كل محتلم: يقتضي تعلق هذا الحكم بالاحتلام دون الانبات، وسن الخمس عشرة سنّة. وفي هذا نظر لأنه إذا بلغ السنن المقطوع بأنه لا يبلغه إلا من ¬

_ (¬1) روى مالك: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. وأخرجه البخاري؟ مسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي. الهداية ج 3 ص 128. (¬2) رواه النسائي ولفظه عن ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل. سنن النسائي ج 3 ص93. (¬3) هو في -و-.

احتلم لزمته التكاليف *فلا معنى* (¬1) لقصر الغسل على الاحتلام خاصة إلا أن يكون أراد أن الإنبات وسن الخمس عشرة إنما يفيد ظنًا بالاحتلام، فتعلق عليه حكم دون حكم. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما غسل الجمعة فلا يوقع قبل الفجر خلافًا للأوزاعي في قوله إذا أوقعه قبل الفجر وراح عقبه أجزأه. وهذا غير صحيح لأن الشرع إنما ورد بغسل الجمعة. وما قبل الفجر ليس من يوم الجمعة فلا يصح إيقاع الغسل فيه كما لا يصح إيقاعه يوم الخميس. وأما إيقاعه بعد الفجر فاختلف (¬2) المذهب فيه. فقال ابن القاسم في كتاب محمَّد: من اغتسل للجمعة في الفجر لم يُجزه. وقال مالك أيضًا لا يعجبني أن يغتسل للجمعة صلاة الصبح ويقيم بعد صلاة الصبح في المسجد للجمعة، وكره الرواح تلك الساعة. وقال ابن وهب من اغتسل بعد الفجر للجمعة أجزأه أن يروح بذلك وأفضل له أن يكون غسله واصلًا برواحه. فأشار ابن وهب ها هنا إلى أنه ليس من شرط الغسل أن يتصل بالرواح خلافًا للمشهور من المذهب، وإن كان ابن وهب قد صرّح بأن الفضل باتصاله بالرواح، وقد استدل عليه بقوله عليه الصلاة والسلام: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل (¬3). فعلّق الغسل بإرادة إتيان الجمعة. وهذا يمنع من إيقاعه غير متصل بالرواح إليها. وقد أشار بعض المتأخرين إلى سبب هذا الاختلاف ورآه مبنيًا على النظر في تعليل غسل الجمعة. فإن علل بأن القصد به النظافة وتطييب الرائحة لم يشترط اتصاله بالرواح إذا كان معنى النظافة حاصلًا فيه، وإن لم يصله بالرواح. ويكون ما ذهب إليه ابن وهب والشافعي في ترك اشتراط اتصال الرواح هو المطرد على هذا التعليل، لان قلنا أنه غير معلل كان البخاري على هذا اشتراط اتصاله بالرواح على حسب ما اقتضته ظواهر الأحاديث. وعلى هذا البناء بني افتقار غسل الجمعة إلى نية، وجوازه بالماء المطيب كماء القرنفل والورد. وإن عللناه ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) فاضطرب - قل. (¬3) تقدم تخريجه قريبًا.

بالنظافة وتطييب الرائحة أجزناه بالماء المطيب ولم نشترط النية فيه. وإن قلنا أنه شَرْع غير معلل اشترطنا النية ولم نجزه بالماء المطيب كما لا نجيز الماء المطيب في طهارة الحدث، وكما نشترط النية فيها. وقد قال بعض المتأخرين من أصحابنا لما لزم تنظيف الجسد الذي أمنت فيه الرائحة صار هذا الحكم تعدى محل موجبه فلحق بالسنن التي يلزم فيها النية. ولا يمتنع أن يكون الفعل ثبت لمعنى ثم يتجاوز ذلك الموضوع فيجب مع فقده ويلحق بالعبادات والسنن كما قلناه في الرَّمَل، فإنه كان لأظهار الجَلدِ ثم ثبت مع عدم المشركين الذين يظهر عليهم الجَلَد. وقد تقدم كلامنا في كتاب الطهارة على حكم نيّة الغسل للجمعة وذكرنا ما يتعلق بأحكام النية هناك من اشتراك أو غيره، وقد قال مالك: من اغتسل للعيد ينوي به الجمعة فلا يجزئه. وإذا قلنا بالمشهور من اشتراط اتصال الغسل بالرواح فإنه إن كان بين الغسل وبين موضع الجمعة مسافة يذهب فيها أثر الغسل ومعناه الذي وُضع له كان عليه إعادة الغسل. وقد قال مالك فيمن أتى الجمعة من ثمانية أميال *رب دابة سريعة السير وأخرى* (¬1) المشي خير من ركوبها. فيعادة الغسل في مثل هذا أحب إلى وما هو بالبيّن *ونرجو فيه سعة* (6). وإذا راعينا الاتصال أيضًا فانه إن قطع اتصاله بأن نام أو تغدى أعاده. وإن انتقضت طهارته توضأ وأجزأه غسله. قال ابن القاسم يعيد الغسل للنوم من أراد النوم، وأما من يغلب عليه كنوم المحتبي فلا. وقال مالك أيضًا: إذا اغتسل ثم من بالسوق فاشترى بعض حاجته فلا بأس به إن كان خفيفًا. ولو نسي الغسل حتى أتى المسجد فقال مالك إن علم أنه يغتسل ويدرك الجمعة فليخرج لذلك، والأصلى ولا شيء عليه. قال ابن حبيب: ويستحب الطيب والزينة وحسن الهيئة يوم الجمعة. ويستحب له أن يعد لها ثوبين. ورُوي ذلك في اللباس والطيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستحب له أن يتفقد فيها قبل رواحه (¬2) فطرة جسده من قص شاربه وأظفاره ونتف الإبط والسواك وإن احتاج إلى الاستحداد فعل. وقد قدمنا فيما حكيناه عن مالك في تقدمة الغسل أنه كره الرواح صلاة ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو -و-. (¬2) قبل رواحه = ساقطة -و-.

الصبح. وحكى عنه أشهب أنه قال والتهجير للجمعة وليس هو الغدو. ولكن بقدر (¬1). ولم تكن الصحابة يغدون هكذا وأكره أن يفعل. وأخاف على فاعله أن يدخله شيء ويصير يُعرف بذلك ولا بأس أن يروح قبل الزوال ويهجّر بالرواح. قيل فمن يحب بقلبه (¬2) أن يرى في طريق المسجد قال هذا مما يقع في النفس ولا يملك. قال مالك في المختصر والمشي إلى الجمعة أفضل إلا أن يتعبه ذلك من ماء وطين أو بعد مكان. وقال مالك أيضًا معنى الحديث في الرواح. من راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة ثم ذكر إلى الخامسة فكأنما قرّب بيضة (¬3). قال الذي يقع في نفسي إنما أراد ساعة واحدة. ففيها هذا التقسيم لأنه لم يكن يراح في أول ساعات النهار. وذهب ابن حبيب إلى اختيار التبكير بالرواح، ورأى الرواح عند صلاة الصبح مختارًا خلاف ما حكيناه من كراهة مالك. وعنده وعثد الشافعي أن التقسيم المذكور في الحديث تقسيم الساعات المعلومات. وأفضل الأوقات من ذلك أول ساعات النهار. وقد استدل لمالك بأن الحديث لم يذكر فيه فضيلة من راح في الساعة السادسة ليست (¬4) بوقت قعود الإِمام على المنبر، ولا بوقت استماع الذكر منه. والحديث يقتضي ارتفاع فضيلة الرواح وحضور الملائكة للذكر عند إنقضاء الساعة الخامسة واتصال السادسة لها، وذلك ليس بوقت لحضور الملائكة للذكر. لكون الساعة السادسة فاصلة بين الخامسة وبين حضور الملائكة للذكر. وإذا كان ذلك كذلك وجب حمل الحديث على تجزئة الساعة السادسة (¬5). والساعة السادسة تصلح أن تجزّأ على خمسة أجزاء أو أقل، أو أكثر. ويؤكد هذا أنه قال من راح في الساعة الأولى والرواح لا يكون نصف النهار أو ما قرب منه. ¬

_ (¬1) هكذا في -و- وفي -قل ولكن يغدو- وكلاهما غير واضح. (¬2) بقلبه = ساقطة - قل. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الجمعة. (¬4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب وليست. (¬5) الخامسة -قل-.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا يُجمع إلا في موضع واحد ولا يصلي الظهر من فاتته في جماعة إلا أن يظهر عذره. قال الشيخ الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سوى ما قدمناه من الكلام على الجمع في غير موضع واحد ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - لِمَ لم يجمع من فاتته الجمعة؟. 2 - وما المقدار (¬1) المبيح للتخلف عنها؟. 3 - وما حكم من (¬2) تخلف عنها؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: لا يخلو تاركو الجمعة من أن يكونوا تركوها لعذر أو لغير عذر. فإن كانوا تخلفوا لعذر كالمرضى والمسجونين والمسافرين جاز لهم أن يجمعوا. وروي عن ابن القاسم أنه لا يجوز للمرضى والمسجونين الجمع في الجماعة. والمعروف عنه غير هذا. وفي الواضحة أن من تخلف لعذر مثل أن يخاف أن تؤخذ عليه البيعة فإنهم يجمعون. وذكر أن فيه اختلافًا لمنع ابن القاسم الجمع. وروى ابن وهب وأشهب عن مالك إجازته في (¬3) المستخرجة. قال ابن القاسم كنت مع ابن وهب في بيت بالاسكندرية فلم نحضر الجمعة *لأمر خفناه، ومعنا قوم. فقال ابن وهب نجمع وقلت أنا: لا نجمع. فلح ابن وهب فجمع بالقوم. وخرجت أنا عنهم فلما قدمنا على مالك سألناه عن ذلك فقال لا تجمعوا. ولا يجمع الصلاة من فاتته الجمعة* (¬4) إلا المرضى والمسافرون والمسجونون، وأما غيرهم فلا. وقال ابن القاسم فيمن خلفهم المطر يجمعون الظهر، إن كان أمرًا غالباً يعذرون به كالمرضى. وإن كان مطرًا ليس بمانع* (¬5) فجمعوا فليعيدوا. وعنه في المجموعة لا يعيدون. قال بعض أصحابنا الخائف يمكنه ألا يدركه ما خاف منه ¬

_ (¬1) القدر - قل. (¬2) وما حكم صلاة من تخلف عنها -و-. (¬3) وفي المستخرجة - قل. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬5) فجمّعوا = ساقطة -و-.

والمطر الذي لم يمكن السعي معه لو تحمل ضرره لأمكنته صلاة الجمعة *فلهذا رأى ابن القاسم أنه لا يجمع فيهما بخلاف من لا تمكنه الجمعة كالمحبوس والمريض والمسافر. وهذا الذي اعتل به هذا قد يُسلم له لولا إضافته المسافر للمريض والمحبوس. واستحب الشافعية للمعذورين أن يجمعوا وكرهه أبو حنيفة. وأما إن كان تخلف المتخلفون عن الجمعة لغير عذر وفاتهم إدراكها مع الإِمام فاختلف المذهب فيه أيضًا* (¬1) فقال مالك في المدونة لا، يجمعوا وليصلوا الظهر أفذاذًا. وقال أشهب أرى أن يجمعوا لفضل الجماعة على الفذ. وقال ابن سحنون عن ابن نافع يجمعون إن شاؤوا. وقال في مختصر ابن شعبان من فاتتهم الجمعة فلا بأس أن يجمعوا ظهرًا في غير المسجد. قال ابن شعبان وأكثر جواباته المذكورة في مختصر عبد الله، ورواه بشر بن عمر الزهداني (¬2) عنه. وكرهه الحسن وأبو قلابة والثوري وأبو حنيفة. فأما المجيزون للجمع أو المستحبون له على الجملة، فيتعلقون بالأحاديث الواردة في فضل الجماعة. وأما الناهون عنه على الجملة فيحتجون بأنه لم يخْلُ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المتأخر للعذر. ولم ينقل أنهم صلوا جماعة. وهذا قد لا يسلم وجوده. وقال بعضهم لا نسلم وجود هذا في زمنه عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا يصلون في دورهم لقرب المسجد وحرصهم على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن فرّق بين المعذور وغير المعذور فإنه يحمي الذريعة بمنع من لا عذر له لئلا يؤدي إباحة ذلك لهم إلى التهاون بحضور الجمعة. وإذا الأئمة (¬3) ومن ظهر عذره وأمن ذلك منه. ولو جمع المتخلفون لغير عذر قال أصبغ أساؤوا ولا يعيدون. وقال أيضًا في قرية يجمّع أهلها وحولها منازل على الميلين والثلاث أنهم لا يصلون الظهر جماعة إذا فأتت الجمعة فإن فعلوا أساؤوا ولم يعيدوا. وقيل لسحنون في من فاتتهم *الصلاة بعرفة أيصلون جماعة؟ قال* (¬4) ما علمت ولو فعلوا لأجزأهم. وقال في كتاب ¬

_ (¬1) ما بين النجمين ممحو بـ -و-. (¬2) الزهواني - قل. (¬3) هكذا في جميع النسخ والكلام فيه نقص وغير واضح. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -و-.

ابنه وكذلك يجمعون بالمزدلفة إذا فاتهم الإِمام. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: العاجز عن حضور الجمعة كالمريض، ومن في معناه كمقعد لا يجد مركوبًا أو أعمى لا يهتدي الطريق ولا يجد قائدًا، لا شك في سقوط الجمعة عنهم. لأن التكليف إنما يتوجه على القادر وهؤلاء غير قادرين. قال مالك ليس على المريض والشيخ الفاني جمعة. قال ابن حبيب ولا على الأعمى إلا أن يكون له قائد. وقاله مالك في مختصر ابن شعبان في الأعمى إذا لم يكن له قائد. وأما العذر الذي يمكن معه الحضور ولكن عن مشقة وركوب ضرورة، فهذا مما تكثر فروعه ويتسع تنويعه. وفي بعض فروعه اضطراب راجع إلى الموازنة بين تأكد وجوب الجمعة وبين مقدار العذر والضرورة. فمن ذلك الاختلاف في المطر الشديد، هل يكون عذرًا يحيى التأخر عن الجمعة؟ (¬1) وقد قيل لمالك هل يتخلف عنها في اليوم المطر؟ قال ما سمعت قبل في الحديث إلا صلوا في الرحال. قال ذلك في السفر. وأما التخلف في حق العروس فقال لا يتخلف العروس عن الجمعة ولا عن الصلوات الخمس في جماعة. وفي مختصر ابن شعبان لا يتخلف الداخل على زوجته ليلة الجمعة عن الجمعة ولا عن جميع الصلوات ولم يتخلف عنها محمَّد أمير المؤمنين وقد دخل ليلة الجمعة. قال ابن شعبان وهو المهدي. قال سحنون قال بعض الناس لا يخرج عنها. وذلك حق لها بالسنّة. قال بعض أشياخي اختلف في تخلف العروس، ولا تصح إباحة التخلف له إلا أن يقال صلاة الجمعة من فروض الكفايات. واختلف في المجذومين. فقال ابن حبيب على الجذمى الجمعة، من يمشي منهم. وليس للسلطان منعهم من دخول المسجد في الجمعة خاصة. وليس لهم مخالطة الناس فيه في غيرها من الصلوات. وقاله مطرف. وفي كتاب ابن سحنون في أهل البلاد ويكونون من العصر على الميل أو أقل أو أكثر، قال لا جمعة عليهم ولا أرى أن يصلوا الجمعة مع الناس في مصرهم ولهم أن يجمعوا ظهرًا، إقامة بغير أذان في موضعهم. فكان ابن حبيب، لما رأى صلاة الجمعة فرضًا على الأعيان قدم حقهم في هذه الصلاة المتعينة عليهم ¬

_ (¬1) الجمعة = ساقطة -و-.

على حق الناس في التأذي (¬1) بهم. ولما كان غير الجمعة من الصلوات لا يتعين عليهم حضوار المساجد للجماعات قدم حق الناس عليهم، فلم يجعل من حقهم المخالطة في غير الجمعة من الصلوات. وكأن القول الآخر قدم حق الناس في التأذي بهم (¬2) على حقهم في صلاة الجمعة. ورأى أن سقوط الفرض إلى بدل وهو الظهر أولى من حمل الناس على التأذي الذي لا بدل منه. لا سيما والحقوق إذا اجتمعت قدم أكثر على الأقل، والجمهور على الشذوذ. وأيضًا فإن حق الخلق مبني على المشاحة وحق الله تعالى مبني على المسامحة. فهذا القول أولى عندي من هذا الذي ذكرته إلا أن يقال إن المتأذي (¬3) بهم آحاد لقلتهم (¬4) فيسقط على ما ذكرناه من الترجيح بالكثرة، ويبقى النظر من الوجوه الأخرى التي أشرنا إليها *هذا على أنهم لا يجدون موضعًا يتميزون فيه مما تجزئ فيه صلاة الجمعة. وأما لو وجدوه لوجبت عليهم الجمعة ومنعت الخلطة لأنا يمكننا حينئذ إقامة الحقين جميعًا. حق الله تعالى. وحق الناس. ولا شك أن الجامع إذا ضاق بأهله وأتوا للصلاة متميزين عن الناس في الأقبية بموضع لا يلحق الناس ضررهم أن الجمعة* (¬5) واجبة عليهم إذا صلوا بمكان لا يلحق ضررهم الناس. وكان المكان مما تجزي فيه الجمعة. وفي مختصر ابن شعبان قال مالك من أكل ثومًا لا يدخل المسجد ولا رحابه يشهد فيها الجمعة. فأنت ترى كيف أشار إلى اجتناب الإضرار (¬6) بالثاس خاصة أو اجتناب هتك حرمة المسجد بالروائح المنتنة، دون أن يشير لسقوط الجمعة. وهذا هو المعنى الذي قلناه على أنه إنما يبقى النظر فيما قاله في أكل الثوم إذا مُنع من دخول المسجد ورحابه، هل تكون صلاته بالفناء مع اتساع الجامع لدخوله تجزيه عند من رأى أن الصلاة بالأفنية اختيارًا مع سعة الجامع لا تجزي في الجمعة، لكون ¬

_ (¬1) في تأذيتهم -و-. (¬2) تأذيهم -و-. (¬3) التأذي - قل. (¬4) لعذرهم - قل. (¬5) ما بين الجمين ممحو -و-. (¬6) الاضطرار -و-.

هذا ممنوعًا من الدخول إلى الجامع شرعًا؟ فأشبه من صلّى بالفناء وقد ضاق المسجد عنه. أو يكون عند هؤلاء في صلاته فساد لسعة الجامع إياه وإن كان قد طرده الشرع عنه. وهذا مما ينظر فيه. وأما الخائف من القتل إن حضر الجمعة فإن التأخر مباح له. وأما الخوف من طلب الغريم بدين فقال مالك لا أحب التخلف عنها لدين عليه يخاف فيه (¬1) من غريمه. قال سحنون إذا خاف من غرمائه الحبس فلا عذر له في التخلف، وإن كان عديمًا. وقد تعقب بعض أشياخي قوله وإن كان عديمًا. وكأنه رأى أن الملي قادر على التخلص من الحبس بقضاء الدين ولا يدفع بالتخلف ضررًا. فإذا كان عديمًا فالحبس لا يلزمه. ولو خاف غرماءه. فأطلق حال الخوف وحال العُدم. وقال أيضًا في مختصر ابن شعبان من خاف أن يؤخذ (¬2) بالبيعة فهو في سعة من التخلف عن الجمعة. وأما المتخلف لتمريض مريض أو تجهيز ميت. فأجاز مالك التخلف لجنازة أخ من إخوانه لينظر في أمره. قال مالك وكذلك إن كان له مريض يخشى عليه الموت. قال ابن حبيب قال بعض التابعين ولو بلغه وهو في الجامع أن أباه أصابه وجع يخشى عليه الموت منه (¬3). فله أن يخرج إليه والإمام يخطب. وقد استصرخ ابن عمر على سعد ابن زيد وقد تأهب للجمعة فتركها وخرج إليه إلى العقيق. وقال مالك في الرجل يكون مع أخيه فيمرض ويشتد مرضه لا يدع الجمعة إلا أن يكون في الموت. وروي عنه أيضًا أنه قال في رجل بلغه موت بعض أهله أيخرج لجنازته وهو قريب من المدينة ويدع الجمعة؟ قال لا. وأرى أن يؤثر الجمعة. وقال سحنون يحضر الجمعة إذا لم يخف تغير الميت. وفي مختصر ابن شعبان عن ابن شعبان قال بلغنا أن من مضى من أسلافنا كانوا يرخصون إلى أولياء الميت إذا مات يوم الجمعة في الصيف فاشفقوا من تغيره أن يحضروا (¬4) ثم يدفنوه وإن تركوا الجمعة. وعن ¬

_ (¬1) فيه = ساقطة -و-. (¬2) يطلب - قل. (¬3) منه = ساقطة -و-. (¬4) يعني تشييعه.

عطاء بن أبي رباح ولو بلغه أن أباه مريض والإمام يخطب لرخصت له أن يذهب إليه. وأجاز السلفَ من أهل المدينة ويحيى بن سعيد والليث التخلف للمريض. وعن يحيى بن أبي كثير والأوزاعي من العذر الجنازة تكون بحضرة القوم يتقون عليها إن أخروها أن تتغير. وقاله الليث. وقال لا أرى بأسًا أن يقيم (¬1) حتى يموت ويترك الجمعة. وعن يحيى بن سعيد حضور الجمعة واجب على كل مسلم إلا أن تكون جنازة لا بد له من حضورها. وإن تركت ضاعت. فذلك على أهلها ولا بد له منها. وقال الشافعي مثله وعن الوليد ابن أبي الوليد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي. أبلغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ترك الجمعة ثلاث مرات إلا أن يكون مريضًا أو في جهاز ميت طبع الله على قلبه (¬2). فقال هذا حديث معروف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحديث الذي ذكره ابن شعبان قد أشار فيه إلى أن الاشتغال بجهاز الميت عذر في ترك الجمعة. وجملة الأمر فإن الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة قد تتعلق بالنفس كالخوف من القتل وما في معناه أو بالأهل. وقد ذكرنا حكم فرضهم والاشتغال بدفنهم. أو بالدين. وقد ذكرنا حكم من خاف أن يدعى إلى بيعة لا تجوز، أو بالمال، فلو خاف أن يأخذ السلطان ماله أو يسرق اللص بيته لَعُذِر في التخلف. ويستعمل في جميع ذلك عند فقد الآثار والظواهر، المُوازنة بين تأكد وجوب الجمعة ومقدار ما ينال من الضرر لحضورها على حسب ما كنا قدمناه. فمن أحاط بهذا علماً رد إليه أكثر الخلاف في فروع هذا الباب. ومما ينخرط في هذا السلك كون صلاة العيد عذرًا في التخلف عن الجمعة. وقد اختلف المذهب فيه على الجملة. قال ابن حبيب: قد جاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرْخص في التخلف عن الجمعة لمن شهد صلاة الفطر والأضحى صبيحة ذلك اليوم من أهل القرى الخارجة عن المدينة لما في رجوعهم من المشقة على ما بهم من شغل العيد وقد فعله عثمان بإذنه لأهل العوالي ألا ¬

_ (¬1) أي يحضر حالة احتضاره. (¬2) الذي رواه أحمد بإسناد حسن من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع على قلبه. مجمع الزوائد ج 2 ص 192.

يرجعوا إليها (¬1). وروى مطرف وابن الماجشون نحوه عن مالك. وانفرد ابن القاسم بروايته عنه أنه لم يأخذ بإذن عثمان لأهل العوالي. وهذا الذي حكاه ابن حبيب من الاختلاف إنما هو. فيمن كان خارجًا عيق المدينة. ولكن ابن شعبان نقله في مختصره غير مقيد بمكان. فقال ولا تترك صلاة الجمعة يوم العيد. وروى ابن الماجشون ومطرف عن عبد الملك أن الجمعة تسقط عنهم. وروى هذا ابن وهب أيضًا عن مالك. قال ابن شعبان وفيه حديث مرفوع وقال به جماعة من أهل العلم. وروي عن عبد الله بن الزبير أنه صلّى العيد يوم الجمعة ثم صلى الجمعة فبلغ ذلك ابن عباس فقال أصاب. قال أبو حنيفة لا تسقط إحداهما الأخرى: الأولى سنة والثانية فرض. وحدثني أبو شيبة وذكر السند ثم قال اجتمع عيدان في يوم فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم (¬2) قال: إنكم قد أصبتم- خيرًا وذكرًا وإنا مجمعون. فمن أراد منكم أن يجمع فليجمع. ومن أراد أن يجلس فليجلس (¬3). ومما يلحق بهذا الفصل أن الحاج لا جمعة عليه. وقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة يوم الجمعة فلم يجمّع. والحاج أيضًا في الغالب مسافر. ومن كان منويًا أو عرفيًا فلا جمعة عليه ولو لم يكن حاجًا. لأنه ليس بقرار يجب في مثله الجمعة والأسواق فيها في ليلة الحج خاصة. وقد اختلف فيمن قدم مكة وأقام بها أربعة أيام قبل يوم التروية ثم حبسه كَرِيُّهُ يوم التروية بمكة. قال مالك عليه الجمعة؛ لأنه مقيم. وقال محمَّد بن عبد الحكم إن أدرك الظهر بمنى وإلا صلاها في الطريق. وذلك أفضل من أن يصلي الجمعة بمكة. فكأن ابن عبد الحكم رأى أن المشروع يومئذ صلاة الظهر بمنى. فصار ذلك كالعذر المسقط لفرض الجمعة. ولأجل عدّ ابن عبد الحكم لهذا عذرًا ألحقناه بهذا الفصل. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما من أبيح له التخلف حتى يعلم ¬

_ (¬1) هو -و-. (¬2) ثم = ساقطة -و-. (¬3) مجمع الزوائدج 2 ص 195. ولفظه في آخره. ومن أحب أن يرجع إلى أهله فليرجع. رواه الطبراني في الكبير. من رواية إسماعيل بن إبراهيم التركي عن زياد بن راشد ابن محمَّد السماك. قال الحافظ الهيثمي ولم أجد من ترجمهما.

أنه لا يمكنه إقامة الجمعة ففي أي وقت يصلي؟ قال مالك إذا تخلف المريض عن الجمعة فواسع أن يصلي الظهر في وقت الجمعة وأن يؤخر إلى وقت الظهر، وكذلك المرأة. فإذا صلى المعذور في أول الوقت فقال الشافعي يسقط عنه الفرض فإن سعى إلى الجمعة وصلاها كانت له نافلة. وقال في القديم يحتسب الله سبحانه له بايتهما شاء. وقال أبو حنيفة إن سعى إلى الجمعة بطلت صلاته. وقال صاحباه تبطل بالإحرام بالجمعة. قال بعض المتأخرين من أصحابنا إن علم المسافر أنه يدرك الجمعة بوطنه، إذا ورد عليه فليؤخر الصلاة حتى يصلي الجمعة. فإن عجل فصلى الظهر لم تجزه، لأن فرضه الجمعة. ولمالك رضي الله عنه وابن القاسم وابن الماجشون وأصبغ في المسافر إذا صلّى الظهر يوم الجمعة ثم دخل وطنه فإنه إن كان مضى إلى الجمعة أدرك ركعة فعليه أن يصليها. وقال مالك في المريض مثل ذلك. وقال سحنون إن صلى الظهر على ثلاثة أميال من وطنه فعليه أن يصلي الجمعة مع الناس. وإن كان على ستة أميال من وطنه فليس عليه ذلك. فإذا أوجبنا على المسافر الحضور على صفة ما قررناه فحضر وصلى الجمعة فإن صلاته الأولى انتقضت. فلو انتقضت طهارته في صلاة الجمعة لأعاد الظهر. ولو أحدث الإِمام فقدمه فصفى بهم أجزأهم. وقال أشهب إن صلى المسافر الظهر في جماعة فينبغي ألا يأتي الجمعة كما لا ينبغي في غير الجمعة إذا دخل الحضر أن يعيد ما صلى جماعة في جماعة أخرى. فإن فعل وصلّى الجمعة فالأولى فرضه. وإن كان إنما صلى فذًا كان له أن يعيدها جمعة أو ظهرًا في جماعة ثم الله تعالى أعلم بصلاته. وإذا أحرم هذا المسافر بالجمعة بعد رفع الإِمام رأسه من الثانية صلى على إحرامه ركعتين نافلة ولم يُعد. وهذا الذي حكيناه عن أشهب من أنه إذا صلى ظهرًا فذًا ثم صلى الجمعة فإن الأمر إلى الله سبحانه في صلاتيه هو الذي حكيناه من قول الشافعي في القديم. فكأن أشهب أجراه مجرى من صلّى إحدى الصلوات الخمس فذًا ثم أعاد في جماعة أخرى فإن الأمر في صلاته إلى الله سبحانه على حب ما كنا قدمنا ذكر المذاهب فيه في موضعه. فإن كان قد صلى الظهر جماعة كانت الأولى فرضه، إذ لا معنى للإعادة، لأن فضل الجماعة قد حصل في الصلاة

الأولى. وكلامه هذا يشير عندي إلى سقوط إيجاب صلاة الجمعة عنه على الإطلاق إذا كان فرضه الظهر خلاف ما حكيناه عن الجماعة من إيجاب الجمعة عليه بإدراك ركعة أو على التفصيل الذي ذكره سحنون. وأما صاحبا أبي حنيفة فإنهما رأيا أن صلاة الظهر إنما تنتقض بفعل الجمعة. والسعي خارج عن فعل الجمعة، وإنما هو كالشرط مثل الطهارة وما في معناها ولا يكون مجرده (¬1) مبطلًا لما تقدم من الصلاة. وأما أبو حنيفة، فلأنه لما رأى السعي واجبًا في هذه الصلاة الأولى دون غيرها من الصلوات صار ذلك من خصائصها. وإذا صار من خصائصها صار كفعل من أفعالها فتبطل به الصلاة الأولى كما تبطل بفعل الجمعة. وإذا وضح هذا الذي قلناه في صلاة المعذور قبل صلاة الإِمام. فلو صلّى غير المعذور الظهر قبل صلاة الإِمام فقد اختلف الناس في ذلك. فأكثر أصحابنا على أن من صلى الظهر قبل الإِمام يوم الجمعة فإنه يعيد صلاته وإن فاتته الجمعة. سواء فعل ذلك غفلة أو مجمعًا على ترك الجمعة إذا أوقع صلاته في وقت لو مضى لأدرك ركعة من الجمعة. وقال ابن نافع إذا صلى قبل الإِمام وهو لا يريد الرواح فلا يعيد. وكيف يعيدها أربعًا وكذلك صلّى؟ وقال ابن وهب فيمن صلى في بيته الظهر والإمام يخطب فليمض وليصل معه. فإن جاء وقد فرغ الإِمام أجزأته التي صلّى في بيته. واختلف قول الشافعي. فقال في الجديد: ما حكيناه عن أكثر أصحابنا أن صلاته لا تصح. وبه قال أحمد وإسحاق وزفر. وقال في القديم تصح صلاته ويجب عليه حضور الجمعة فإذا صلّى (¬2) احتسب الله له بايتهما شاء. فإن فاتته الجمعة أجزأته الظهر التي صلاها. قال أبو حنيفة تصح صلاته. فإن سعى إلى الجمعة بطلت، وإن لم يسْع إلى الجمعة أجزأته. وقال صاحباه تصح وتبطل بالإحرام للجمعة. وسبب هذا الاختلاف هل الفرض حينئذ الظهر ويلزم إسقاطها بالجمعة أو الفرض الجمعة. فإن فأتت انتقل الفرض إلى الظهر، فإن قلنا: الفرض الظهر. ويلزم إسقاطه بالجمعة صحت الصلاة ها هنا. وإن قلنا الفرض الجمعة لم تصح الصلاة ¬

_ (¬1) تحديده -قل-. (¬2) فإذا صلى الجمعة -قل-.

ها هنا (¬1). قمن يقول الفرض الظهر. على صفة ما ذكرنا يحتج بالقياس (¬2) على سائر الأيام، وبدليل أن الجمعة إذا فأتت انتقل إلى الظهر. فلو لم يكن الوقت للظهر لما انتقل إليه. ومن يقول الفرض الجمعة يحتج بالإجماع على أن المكلف غير غير نجين فعل الظهر والجمعة إذا تكاملت فيه شروط الجمعة. بل هو منهي عن فعل الظهر. ومن المحال أن يكون ما نُهي عنه واجبًا، فكيف يقال ما قاله أصحاب أبي حنيفة أن الزوال سبب لوجوبين الظهر والجمعة، إلا أنه مأمور بأن يختار فعل الجمعة وأن يرفع بها وجوب الظهر، فإن لم يفعل حتى فأتت الجمعة عاد إلى أصل وجوب الظهر. فإن صلى الظهر حينئذ لم يكن النهي عنها عائدًا لنفس الصلاة بل لاشتغاله بها عن الجمعة. وإذا لم يكن النهي عائدًا إليها بل لكونها مشغلة عن صلاة الجمعة لم يمنع الاعتداد بها. وهذا الذي قاله مبني على ما لا حقيقة له، لأنه إذا اجتمعت الأمة على أنه غير مخيّر بين الظهر والجمعة وكان فعل الظهر حينئذ منهيًا عنه استحال أن يقال إن الوقت جاء بوجوب فعل. لكن هذا الفعل منهى عنه ولا يجوز فعله. وهذا تناقض في الحقيقة. وفي هذا الذي أوردنا في أحكام الجمعة كفاية. ¬

_ (¬1) ها هنا = ساقطة -و-. (¬2) يحتج بالقياس = ساقطة -و-.

باب في صلاة الخوف

باب في صلاة الخوف قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله قولنا: صلاة الخوف عبارة عن صفة أداء الصلاة في حال الخوف. وهي الصلاة تحضر والمسلمون متصدون (¬1) لحرب العدو فيَقْسم الإِمام العسكر فريقين. فريق يصلي معه والآخر بإزاء العدو فيصليها بأذان وإقامة ويصلي بالطائفة التي معه نصف الصلاة (¬2) فإن كانوا في حضر وكانت ظهرًا أو عصرًا أو عشاء صلى بهم ركعتيين، فإذا فرغ من تشهده قام إلى الثالثة. وفي رواية يشير إليهم فيتمون لأنفسهم ما بقي عليهم من الصلاة. وإن كان في سفر فإذا رفع رأسه من سجود الركعة الأولى وقام إلى الثانية أخذوا في إتمام صلاتهم فإذا فرغوا مضوا فكانوا مكان (¬3) الفِرقة الأخرى ثم جاءت تلك فيصلي بهم باقي (¬4) تلك الصلاة من ركعة أو ركعتين ثم يسلم بهم، (¬5) ثم يتمون بقية صلاتهم وفي المغرب يصلي بالأولى ركعتين ثم يشير إليهم بعد فراغه من تشهده في إحدى الروايتين. وفي الأخرى يقوم إلى الثالثة ويصليها على (¬6) ما كان يصليها قبل ذلك من جهر أو إسرار، وهذا مع التمكن (¬7). فأما إن اشتد خوفهم ولم يمكّنهم العدو أو كانوا في حال المسايفة صلوا بحسب الإمكان. ¬

_ (¬1) يتصدون -غ-. (¬2) نصف الصلاة = ساقطة -و-. (¬3) كانوا مقام في نسخة الغاني. وفي -و- هو، والأقرب وقاموا مكان. (¬4) ما بقي في نسخة الغاني. (¬5) ساقطة من الغاني و -غ-. (¬6) على حسب في نسخة الغاني. (¬7) التمكين -غ-.

قال الفقيه الإِمام - رضي الله عنه -: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما معنى قول القاضي أبي محمَّد إنها عبارة عن صفة أداء الصلاة؟. 2 - وما الدليل على أن حكمها باق إلى الآن؟. 3 - وهل تصلّى في الحضر؟. 4 - وهل يتفق الإِمام والمأموم في الفرض؟. 5 - وما الدليل على اختيار الصفة التي ذكر؟. 6 - وما الحكم إن خولفت تلك الصفة؟. 7 - وما الحكم إن ارتفع الخوف في أثنائها؟. 8 - وما حكم صلاة الخوف بالمسايفة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما تنبيه القاضي أبي محمَّد على معنى هذه العبارة *فإنما ذلك لأن الغالب على إطلاقات عرف الشرع أن الصلاة إنما تضاف لسبب يوجبها لا لسبب يغير أداءها. ألا ترى* (¬1) أن المراد بقول المسلمين: صلاة الصبح أي الصلاة الواجبة بالصبح. وكذلك في الظهر إلى بقية الصلوات الخمس: فلما كانت هذه الإضافة تقع غالبًا نسبة إلى أسباب الوجوب وقد تقع نسبة إلى غير سبب الوجوب كما يقال صلاة المزدلفة وصلاة عرفة وصلاة المسافر. وهذه أوصاف إضافات تشعر بتغير وقع في أداء الصلاة لا في إثبات وجوب لم يكن، نبه القاضي أبو محمَّد على هذه الصلاة من أي النوعين هي لئلا يظن ظان أن هذه الإضافة إلى الخوف المراد بها صلاة وجبت لأجل الخوف وليس الأمر كذلك. لأن الخوف لم يوجب صلاة لم تكن وإنما هو سبب في تغيرها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: صلاة الخوف باق حكمها إلى الآن عند فقهاء الأمصار خلافًا للمزنى وأبي يوسف في مصيرهما إلى انقطاع حكمها. وإن اختلفت طريقتهما. فرأى المزني أنها منسوخة. ورأى أبو يوسف أنها كانت من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) هو -و-.

فأما المزني فاحتج بأنه عليه الصلاة والسلام أخّر يوم الخندق أربع صلوات ولم يصل صلاة الخوف. وأجيب عن هذا بأنها لم تكن نزلت يوم الخندق أو بأنه لم يتمكن من إقامتها على حسب ما سنذكره في صلاة المسايف. وأما أبو يوسف فاحتج بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (¬1). فشرط في إقامتها كونه عليه الصلاة والسلام موجودًا يقيم الصلاة. وهو الآن - صلى الله عليه وسلم - ليس بموجود يقيم الصلاة. فلم يصح أن تصلّى لفقدان الشرط. فأجيب عن هذا بأنه لم يقصد بالآية تخصيصه لهذا الحكم - صلى الله عليه وسلم - وإنما القصد بها تعليمه وتعليم أمته صفة هذه الصلاة. وقد قال تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}. وخاطب أمته بفعل صلاة، فلا يكون هذا تصريحًا بقصر (¬2) ذلك عليه الصلاة والسلام. وقد أنكرت الصحابة رضوان الله عليهم حجة من احتج من مانعي الزكاة لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬3). وإن هذا خطاب بالأخذ يخص النبي - صلى الله عليه وسلم - فليس لغيره أن يأخذها. ورأت الصحابة أن هذا لا يكون تخصيصًا. وأن من بعده يؤمر بمثل ما أمر به. ويرد قوليهما جميعًا، أن عليًا، رضي الله عنه صلى ليلة الهدير (¬4) صلاة الخوف. وصلّى أبو موسى بأصحابه. وكان سعيد بن العاصي على جيش حرب طبرستان، فقال: أيكم صلّى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة أنا. فقدمه فصلّى بهم صلاة الخوف، ولم يظهر (¬5) أحدٌ من الصحابة خلافًا في ذلك. فصار هذا كالإجماع على رأي بعض أهل الأصول. وأيضًا فإن من المصلحة الاجتماع على إمام واحد، وإظهار فضيلته بالاجتماع عليه. فإذا صلى طائفتان بإمامين، فصلى كل طائفة الصلاة التامة على مذهب أبي يوسف بطلت هذه الحكمة والمصلحة، التي في الاتفاق على إمام واحد. فإذا وضح ما قلناه في أن حكم صلاة الخوف باق إلى الآن، ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 102. (¬2) لقصر -و-. (¬3) سورة التوبة، الآية: 103. (¬4) هكذا في -و- وغير واضحة في قل. (¬5) يذكر - قل.

فأداؤها على الصفة المذكررة عند ابن المواز توسعة ورخصة. على أن الأحب إليه أن تصلّى كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: ولو صلوا بإمام واحد وبعضهم بإمام، وبعضهم أفذاذًا كانت صلاتهم جائزة. قال بعض أشياخي: ومقتضى هذا جواز صلاة طائفتين بإمامين لأنه لو كان علة اجتماع الكل على إمام واحد أن لا يخالف على الأئمة ما جاز أن يصلي بعضهم أفذاذًا. لأن ذلك غير جائز لمن جمعه مع الإِمام المسجد. وهذا الذي قاله شيخنا مخالف لما ذكرناه من تعليل بعض الناس (¬1) بثبوت صلاة الخوف إلى الآن لأن الاجتماع على إمام واحد هو المصلحة إلا أن يريد المعلل بذلك تعليل جواز إقامتها على الصفة المذكورة، أو تعليل استحباب ذلك فيكون غير مخالف لما قاله شيخنا لأنه إنما تكلم على ما يجوز لا على ما يستحب. على أن (¬2) في إلزامه لابن المواز ما ألزمه نظر. لأن افتراق الأئمة وإظهار جماعتين، وإمامة (¬3) إمامين ربما كان أثقل من تأخر بعض الناس عن الصلاة عن الإِمام وعدوله عن ذلك إلى أن يصلي وحده. وقد تقع صلاة الخوف على صفة يكون المصلي فذًا، بمكان لا يكون حاله فيه كحال من ضمّه المسجد مع الإِمام فقد (¬4) لا يلزم ابن المواز ما ألزمه شيخنا. وتقييد ابن المواز قوله بما ذكره، وإضرابه عن الصلاة بإمامين قد يشير إلى ما قلناه من أنه قد لا يرى الصلاة بإمامين كصلاة البعض بإمام، والبعض أفذاذًا. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما صلاة الخوف في الحضر فإن مالكًا رضي الله عنه أجازها كما يجيزها في السفر. ومنع صلاتها في الحضر عبد الملك بن الماجشون وقال إنما تأولها (¬5) أهل العلم في السفر لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (¬6). ورآها مقصورة على السفر لهذه الآية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها على هذه الصفة في السفر فصارت رخصة لا يقاس عليها. وقد ¬

_ (¬1) الناس = ساقطة -و-. (¬2) لأن في إلزامه لابن المواز- و-. (¬3) وإقامة -و-. (¬4) هذا -و-. (¬5) إنما تأولها = ساقطة -قل-. (¬6) سورة النساء، الآية: 101.

كنا قدمنا اختلاف المفسرين وأهل العلم في هذه الآية وذكرنا ما قيل في هذين الشرطين وهي قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ}. وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ}. ووسعنا الكلام هنالك على هذه الآية بما يغني عن إعادتها ها هنا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما المأموم فإنه والإمام في صلاة الخوف سيّان في عدد ركعات الصلاة. وقال الحسن وطاوس (¬1) ومجاهد يصلي الإِمام ركعتين وتصلي كل طائفة ركعة. وروي ذلك عن ابن عباس ودليلنا الأخبار الواردة في صلاة الخوف وسنورد نصوصها بعد هذا وقد تضمنت صلاة كل طائفة ركعتين. وأيضًا فإن الإِمام والمأموم لا يختلفان في شروط الصلاة فكذلك في عدد الركعات. وأما المخالف فإنه يحتج بقوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} (¬2). وظاهر هذا اقتصار المأموم على ركعة واحدة في صلاة الخوف لأنه أمر تعالى الطائفة الأولى أن تذهب للمدافعة عند سجودها ولم يوجب عليها أكثر من ذلك. فاقتضى الظاهر اقتصارها على ركعة واحدة في صلاة الخوف. وهذا غير مسلّم لأن قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}. فتأوله من يقول إن الطائفة الأولى تكمل صلاتها قبل الإنصراف على أن المراد به إذا صلوا الركعة الأخرى التي بقيت عليهم. وعبّر عنها بالسجود. لأنه قد يعبر عن الركعة بالسجود. ويعضد هذا التأويل قوله: {فَإِذَا سَجَدُوا}. فظاهره سجود ينفردون به. وهذا هو السجود الذي يكمّلون به أفذاذًا ما صلوه مع الإِمام. ويتأوله من يقول أنهم ينصرفون قبل الإكمال ثم بعد ذلك يكملون، على أن المراد به فليكونوا من ورائكم وهم في حكم الصلاة. ويحتج هؤلاء المتأولون لهذين التأويلين بما ورد في الآثار من صفة صلاة الخوف. وأما ما وقع في بعض الآثار فقد كنا قدمنا في صلاة المسافرين من أن صلاة الحضر أربع والسفر ركعتان والخوف ركعة. فالمراد (¬3) ركعة تفعل مع الإِمام على أنها جملة ما يصلّى. فإن قال المخالف بأن صلاة السفر لقا رُدّت ¬

_ (¬1) طاوس = ساقط -و-. (¬2) سورة النساء، الآية: 102. (¬3) فالمراد به - قل.

إلى النصف من صلاة الحضر لمشقة السفر، فكذلك صلاة الخوف تردّ إلى نصف صلاة المسافر لمشقة الخوف. فيكون المسافر يتشطر صلاته للخوف كما شطرت صلاة الحضر لمشقة السفر. قيل له قد أثبت الشرع لمشقة الخوف تخفيفأوهو تغيير الهيئة فلم تَعْرُ مشقة الخوف من إثبات تخفيف كما أثبت مشقة السفر تخفيفًا بسببها. وإذا كان هذا هكذا وجعل الشرع التخفيف لمشقة السفر في العدد، والتخفيف لمشقة الخوف في الهيئة، فليس لنا أن نقترح عليه في تعيين التخفيف، وهذا يرد ما قالوه. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في المختار في صلاة الخوف. فذهب مالك رضي الله عنه إلى أن الإِمام يصلي بطائفة شطر الصلاة ركعتين إن كانت حضرًا أو ركعة إن كانت سفرًا ويتم المأمومون لأنفسهم بقية صلاتهم ويكون الإِمام منتظرًا للطائفة الثانية. فإذا أتم من خلفه وانصرف للقتال أتت الطائفة الأخرى وصلّى بهم شطر الصلاة وهو الذي بقى عليه: ركعتين إن كانت حضرًا أو ركعة إن كانت سفرًا. واختلف قوله هل ينتظر الطائفة الثانية إذا فرغ من صلاته حتى تقضي ما فاتها فيسلم بهم أو يسلم هو منفردًا ثم يقضون بعد سلامه؟ وذهب أشهب إلى أن الطائفة الأولى إذا صلّى بهم الإِمام شطر صلاته فإنها لا تكمل بقية صلاتها. بل تنصرف للقتال ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها ما بقي عليه من الصلاة ثم تكمل صلاتها وتنصرف ثم تأتي الطائفة الأولى فتقضي. هكذا قال في مدونته، وإن كان قد نقل عنه خلاف هذا وأنه روى حديث ابن عمر، وفيه أن طائفة صلّت ركعة ثم تأخرت إلى جهة العدو من غير أن تسلم ثم أتت الأخرى فصلّي بهم الركعة الثانية وسلم. ثم قامت كل طائفة فأتمت. وإن أشهب أخذ بهذا الحديث. قال ابن حبيب: فإذا اشتغلت الطائفتان بالقضاء صار الإِمام وحده فيه لهما (¬1) فحمل ابن حبيب على أشهب أنه ذهب إلى أن الطائفتين يقضيان معًا. والذي نقلناه عنه أولى، وهو الذي في مدونته. وقد نقل بعض أصحابنا البغداديين عن أشهب أنه يقول بقول أبي حنيفة. ومذهب أبي حنيفة أن الطائفة الأولى إذا صلّت ركعة مع الإِمام ¬

_ (¬1) هكذا وهو غير واضح.

انصرفوا إلى جهة العدو وهم في الصلاة. وأتت الطائفة الأخرى فصلّي بهم ركعة وسلم ثم تنصرف *هذه الطائفة إلى العدو* (¬1) وتعود الطائفة الأولى *إلى موضع الإِمام فتصلي ركعة وتسلم* (1) ثم تنصرف إلى العدو. ثم تأتي الطائفة الثانية إلى موضع الإِمام وتصلي ركعة وتسلم *ورأيت في بعض كتب* (1) أصحابه أن الطائفة الأولى لا تقرأ فيما تكمل به صلاتها. والطائفة الثانية تقرأ فيه. فجعل أبو حنيفة قضاء الطائفتين مرتبًا على حسب السبق تكمل (¬2) الطائفة الأولى صلاتها أولًا (¬3). ثم تكمل الثانية بعدها (¬4) وهذا لم ينقل عن أشهب وإنما نقل عنه ما حكيناه عن مدونته من أن الطائفة الثانية تكمل صلاتها وتنصرف ثم تأتي الطائفة الأولى فتقضي ما بقي عليها. وما حكيناه مما أضافه ابن حبيب إليه. وكلاهما خلاف ما حكيناه عن أبي حنيفة من (¬5) رتبة الإكمال. وإنما الموافقة بينه وبين أبي حنيفة في أن الطائفة الأولى لا تكمل قبل فراغ الإِمام. وأما الشافعي فإنه اختلف قوله: فأخذ مرة في الطائفة الأولى بمذهب مالك في أنها تكمل صلاتها قبل فراغ الإِمام. وأخذ مرة أخرى بأنها لا تكمل إلا بعد الفراغ كطريقة أبي حنيفة وأشهب في ذلك على الجملة. وأخذ مرة أخرى بأنه يصلي في السفر بكل طائفة ركعتين. وسبب هذا الاختلاف اختلاف الأحاديث. فقد رويت في ذلك أحاديث كثيرة مشتملة على صفات مختلفة. وقد ذكر ابن القصار أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها (¬6) في عشرة مواضع. قال والذي استقر عند الفقهاء: بطن النخيل، وعُسفان وذات الرقاع. وقد أشار غير ابن القصّار أيضًا إلى كثرة الأحاديث ¬

_ (¬1) ما بين النجمين هو -و-. (¬2) بكمال -و-. (¬3) أولى -و-. (¬4) بعده -و-. (¬5) في -و-. (¬6) صلى -و-.

الواردة فيها. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الطائفة الأولى أتمت ثم انصرفت للقتال ثم أتت الطائفة الأخرى فصلّي بها. واختلفت الرواة هل سلم بهم أو سلّم وحده؟ وعلى هذا الأثر عوّل مالك رضي الله عنه. واختلف قوله في سلام الإِمام بالطائفة الثانية لاختلاف الرواة في ذلك. وقال ابن عمر صلّى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة. والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا مقام أصحابهم. وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة ثم سلّم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة (¬1). وبهذا الأثر أخذ أبو حنيفة وأشهب. قال أصحاب أبي حنيفة: ما وصفناه من صلاة الخوف رواه ابن مسعود وابن عمر. وأما القول الثالث الذي حكيناه عن الشافعي فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى بكل طائفة ركعتين. قال بعض أصحابنا إن ثبت الحديث حمل ذلك على أنه فعل ذلك في الحضر لأنه لم ينقل أنه سلّم من كل ركعتين. وقال بعض أصحاب الشافعي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى بذات الرقاع بكل طائفة ركعتين. والمراد به ركعة مع الإِمام وركعة في حكم صلاة الإِمام. فهؤلاء حملوه على السفر وتأولوه عليه. وما حكيناه من أصحابنا تأول الرواية مطلقة على صلاة الحضر. وقد رجح أصحابنا ما تعلقوا به من قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} (¬2). وظاهر هذا أنهم إنما يكونون من وراء الإِمام ومن معه إذا سجدوا سجودًا ينفردون به. ولا يتصور ذلك إلا بما قلناه من أنهم يكملون الصلاة قبل الانصراف. ولو كان المراد انصرافهم قبل الإكمال. كما قال أبو حنيفة، لقال فإذا سجدت بهم وإذا سجدوا معك فليكونوا من ورائكم. والعدول عن هذا إلى ما يقتضي ظاهره سجودًا ينفردون به يرجح ما تعلق به مالك من الآثار. وكذلك قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ}. يقتضي ظاهره ردّ قول من قال إن الطائفة الثانية تحرم مع الإِمام وهي في القتال لأنه وصف هذه الطائفة بأنها لم تُصل قبل أن تأتي. وقد جعله بعض الناس أيضًا ظاهرًا في أن ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي. بلفظ قريب من هذا. شرح السيوطي والسندي ج 3 ص 172. (¬2) سورة النساء، الآية: 102.

الطائفة الثانية تصلي *جميع صلاتها* (¬1) قبل الانصراف لقوله: فليصلوا معك. وهذا يقتضي أنهم يصلون جميع صلاتهم معه. وكونه ظاهرًا فيما أشرنا إليه في ردّ مقالة من قال: تحرم الطائفة الثانية وهي في القتال مع الإِمام، أظهر وأوضح. وقد رُجحّت طريقة أبي حنيفة وأشهب بأنه إذا كان لا بد من الخروج عن أصل معهود في الصلاة، إما المشي والسعي في الصلاة، وإما إكمال الصلاة وأداؤها قبل أداء الإِمام لها، كان تسهيل المشي وإلغاء حكمه أولى من إلغاء مخالفة الإِمام وأداء الصلاة قبل أدائه. لأن المشي في الصلاة له نظير في الشرع كمشي الراعف عند من رآه ومشي من عليه الحدث. وأداء الصلاة قبل الإِمام لا نظير له في الشرع. فكان ما له نظير أولى مما لا نظير له. وأجاب أصحابنا عن وهذا بأنه إذا كان لا بد من مفارقة الإِمام وترك اتباعه *فيما يفعل إما بالانصراف* (¬2) كما قال أبو حنيفة وأشهب *وإما بالإكمال كما* (2) قال مالك كان الإكمال أولى لأنه ليس فيه مفارقة إمام يلزم اتباعه فيما يفعل *وإذا لم يلزم اتباعه فيما يفعل* (¬3) فلا معنى لمنع المخالفة عليه *بالأداء قبله* (2) لأنه قد سقط حكم إمامته عن الطائفة الأولى حتى لو أحدث لم تفسد عليهم الصلاة *وإذا كنا نقول بأنهم* (¬4) خرجوا عن إمامته حتى لو أفسد صلاته ما أفسدها عليهم كان الإكمال أولى بأقرب موضع. وصلاة الخوف إنما وضعت للتحرز من العدو والاحتياط منه، ومقابلتهم العدو وهم في غير الصلاة أوثق وأحصن من تقسيم خاطرهم بين أمرين حفظًا للصلاة والتحفظ من العدو. وقد قال سحنون إذا صلّى ركعة من صلاة الخوف في السفر ثم أحدث قبل قيامه إلى الثانية فليُقدم من يقوم بهم ثم يثبت المستخلف. ويتم من خلفه ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويسلم. ولو أحدث بعد قيامه إلى الثانية فلا يستخلف لأن من خلفه خرجوا من إمامته حتى لو تعمد حينئذ الحدث أو الكلام لم تفسد عليهم. ¬

_ (¬1) ساقط -و-. (¬2) هو في -و-. (¬3) ساقط -و-. (¬4) هو -و-.

فأنت ترى سحنونًا لم يأمره بالاستخلاف ولا جعل إفساده إفسادًا عليهم، وإذا كان الأمر كما قال وخرجوا من إمامته فلا معنى لمنعهم الأداء قبل أدائه. وتد ذكرنا أنه اختلف قول مالك في انتظار الإِمام الطائفة الثانية ليسلم بهم. وما ذكرناه من هذا الترجيح يشعر بأن الأولى سلام الإِمام قبل إكمال الطائفة الثانية. لأنه لا داعي يدعو إلى قضائهم وهم في حكمه ومخالفتهم له في فعله. فكان الأولى لهم أن يقضوا بعد سلامه، والأصل أن لا ينتظر الإِمام من خلفه. ولم يختلف في أن الإِمام لو صلى فذا بعض صلاته أنه لا ينتظر المسبوق حتى يقضي فيسلم به. وإذا كان هذا الأصل في صلاة الأمن , فصلاة الخوف كذلك إذا لم يوجد ما يدعو إلى مخالفته الأصل فيها. وأما ما ذكره القاضي أبو محمَّد من الاختلاف في انتظار الإِمام الطائفة الثانية وهو جالس في جلوسه المشروع. أو ينتظرها إذا قام من جلوسه، فإن ابن حبيب ذكر أن مالكًا قال في صلاة المغرب يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ويثبت جالسًا. ثم رجع فقال يقوم حتى تتم هي وتأتي تلك. وإن شاء سكت أو دعا. قال وهذه لا يقرأ فيها في قيامه لأنه لا يقرأ فيها بغير أم القرآن فخالفت غيرها. قال بعض أشياخي في الإِمام إذا قلنا أنه لا ينتظر الطائفة الثانية إلا قائمًا وإن كان في جلوس مشروع اختلف فيه: فقيل يقرأ الحمد وقيل لا يقرأها حتى يأتي الآخرون. ولأشهب في مدونته ولبعض أصحابنا في المبسوط أيضًا أنه يستفتح القراءة بالطائفة الثانية بالحمد. قال وهو أصوب لأنه ذكر نى الحديث أن الطائفة أتت فصلّي بها ركعة (¬1). وظاهره أنه قرأ بهم ولو كان قرأ قبل مجيئهم لقال أتت الطائفة الثانية فركع بهم. وقال بعض أصحاب الشافعي إذا قام الإِمام إلى الثانية نوت الطائفة الأولى مفارقته وصلّوا ركعة أخرى لأنفسهم وانصرفوا. وتأتي الثانية فيصلي بهم ركعة. فإذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة قاموا فأتموا لأنفسهم في أصح القولين فيصلون ركعة لأنفسهم فإذا تشهدوا سلّم بهم. وإذا كان الحكم أن يقسم الإِمام صلاة الخوف شطرين بين الطائفتين فما ¬

_ (¬1) أتمت صلاتها - قل.

حكم ما لا يشطر كصلاة المغرب؟ عندنا (¬1) أنه يصلي بالطائفة الأولي ركعتين وبالثانية ركعة. وخيّرته الشافعية بين هذا الذي قلناه وبين عكسه يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين. وقال الحسن يصلي بكل طائفة ثلاث ركعات. والردّ عليه أن الآية ظاهرها يقتضي (¬2) أن تصلي الطائفتان معه صلاة واحدة. والحسن جعلهما يصليان معه صلاتين. وأيضًا فإن الذي قال بهذا يؤدي إلى تفضيل طائفة على طائفة بأن تصلي إحداهما خلفه وهو يصلي فرضًا، والأخرى تصلي خلفه وهو يصلي نفلًا، ولا سبيل إلى التفضيل إذا لم يدْع إليه داع كما دعا إليه في التفضيل في عدد الركعات إذ الثلاث لا تتشطر، وجعلناه *نحن يفضل الأولى حتى تكون الطائفة الثانية* (¬3) لا تجلس في غير موضع جلوس، وتجري صلاة الخوف بين الإِمام والمأموم على سنتها في الأفعال المعهودة إلا ما استثناه الشرع من مخالفة الهيئة المختصة بصلاة الخوف. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إذا جهل الإِمام فصلّى صلاة المغرب بكل طائفة ركعة فاختلف فيه. فحكى ابن حبيب أن صلاة الأولى فاسدة وصلاة الثانية والثالثة صحيحة. وقال سحنون: صلاة الإِمام وصلاة من خلفه فاسدة, لأن ترك سنتها. وكذلك إن صلّى بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين لوقوفه في غير موضع قيام. وكذلك قال سحنون فيمن صلّى صلاة الخوف في الحضر بكل طائفة ركعة، أن صلاة الإِمام، وجميع من خلفه فاسدة. وذكر ابنه عن بعض أصحابنا أن صلاة الإِمام، وصلاة الثانية والرابعة تامة *وصلاة الأولى والثالثة فاسدة. وعندي أن هؤلاء إنما أفسدوا صلاة الطائفة الأولى والثالثة لانفرادهم بفعل ما يلزمهم اتباع الإِمام فيه لأن الطائفة الأولى حقها أن تصلي معه ركعتين، فإذا صلت خلف الإِمام ركعة واحدة ثم خرجت عن إمامته في الثانية التي من حقها أن تتبعه فيها، فقد أفسدت صلاتها. وكذلك الطائفة الثالثة حقها أن تتبعه في الرابعة، فإذا لم تفعل فقد أفسدت صلاتها. وأما الطائفة ¬

_ (¬1) عندنا = ساقطة -و-. (¬2) يقتضي = ساقطة -و-. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-.

الثانية والرابعة فهم في حكم* (¬1) المسبوق ومن فاتته بعض الصلاة. لأن من صلى الركعة الثانية كأنه من الطائفة التي تصلي شطر الصلاة الأولى *وفاتهم* (1) ....... (¬2) بعض ما شأنهم أن يصلوه مع الإِمام فلا يفسد ذلك صلاتهم. وكذلك الطائفة الرابعة أيضًا حكمهم حكم من فاته بعض ما شأنه أن يصليه مع الإِمام فلا تفسد صلاتهم. وكذلك وجه ما حكاه ابن حبيب في صلاة المغرب من فساد صلاة الطائفة الأولى، إنما ذلك لما قلناه من أنها خرجت من إمامة من يلزمها اتباعه في الركعة الثانية. وأما الطائفة الثانية فهم في حكم المسبوق، فصلاتهم صحيحة على هذا الأصل. والطائفة الثالثة كأنها لم تخالف ما أمرت به الطائفة الثانية إذا قسم الإِمام الصلاة بينهم على ما قلناه وأقاموها على سنتها. وأما سحنون فإنه اعتل بقوله في إفساد صلاة الجميع لمخالفتهم سنة صلاة الخوف. وإذا وضُح ما قلناه من أن الطائفة الثانية تكون في حكم المسبوق فإنها إذا كانت كذلك فقد اجتمع عليه ابن اء وقضاء. وحكم ذلك إذا اجتمع (¬3) قد قدمناه فيما سلف من هذا الكتاب. ولابن القاسم في العتبية في مدرك الركعة الثانية من المغرب من الطائفة الأولى أنه إذا وقف الإِمام في الثالثة أتمّ القوم، ولا ينبغي لهذا أن يقضي الركعة إلا بعد سلام *الإِمام لأن الطائفة الأولى إنما* (¬4) تبنى ولا تقضى. قال عنه ابن سحنون: ويقف هذا مع الإِمام حتى تأتي الطائفة الثانية فيصلي معهم *ركعة ثم تقضي الأولى بعد سلام الإِمام. وقال سحنون في أحد قوليه: يصلي ركعتين قبل سلام الإِمام. ومن وقف على ما قدمناه من أحكام القضاء والبناء علم سبب هذا الاختلاف* (4). والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: قد تقرر بما قدمناه أن صلاة الخوف شرعت على تلك الهيئة للتحرز من العدو. فكل ما كان أحرز، رُجّح على غيره ما لم يمنع منه دليل. ولقد قال الشافعي في آخر قوليه، وداود: يجب حمل السلاح في صلاة الخوف لما كان ذلك أحوط. ولقوله تعالى: {فَلْتَقُمْ ¬

_ (¬1) ما بين النجمين هو -و-. (¬2) هو -و-. (¬3) هكذا ولعل الصواب اجتمعا. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -و-.

طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (¬1). فإذا علم أن القصد بهذه الهيئة لهذه الصلاة ما ذكرناه، لم تستعمل هذه الهيئة في صلاة الآمن (¬2). وقد خرّج مسلم أن العدو لما كان في القبلة صف النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس خلفه صفين فكبّر وكبروا معه ثم ركع وركعوا معه ثم سجد وسجد الصف الذي يليه خاصة، ثم قام وقام الصف الذي سجد معه. وانحدر الصف المؤخر فسجدوا ثم قاموا. وتقدم المؤخر وتأخر الصف المتقدم ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعوا معه ثم سجد الصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا. وقام الصف المؤخر في نحو العدو. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر فسجدوا ثم سلّم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم جميعًا (¬3). قال بعض أشياخي اختلف إذا كان العدو في القبلة. هل يصلي بهم جميعًا أو بالطائفتين؟ وهذا الذي ذكر من كتاب حديث مسلم صفة حسنة عند شيخنا هذا ولأشهب في المجموعة إذا كان العدو في القبلة وأمكنه أن يصلي بالناس جميعًا فلا يفعل (¬4) لأنه يتعرض أن يفتنه العدو ويشغله وليصل بطائفتين سنة صلاة الخوف. وقال في مدونته فإن صلى بهم طائفة واحدة أجزأهم. وقالت الشافعية إذا كانوا في السفر وكان العدو في غير جهة القبلة ولم يأمنوهم وكان في المسلمين كثرة، فرّقهم الإِمام فرقتين وذكروا صفة صلاة الخوف. وقالوا إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة قاموا فأتموا لأنفسهم في أصح القولين فيصلون ركعة لأنفسهم، والإمام ينتظرهم جالسًا. فإذا تشهدوا سلّم بهم. فأنت ترى ما ذكره في كتاب مسلم من صلاته - صلى الله عليه وسلم - على هذه الهيئة المذكورة طائفة واحدة لما كان العدو في جهة القبلة ولم تدع ضرورة إلى قسمتهم على طائفتين. وقال ابن عبد الحكم إذا كانوا طالبين وعدوهم منهزم مغلوب إلا أن طلبهم أثخن في قتلهم فصلاتهم بالأرض صلاة أمن أولى من الصلاة على الدواب. وقاله الأوزاعي. أما الطالب فينزل وأما المطلوب فيصلي على دابته إلا أن يخاف ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 102. (¬2) فإذا علم أن القصد بهذه الصلاة ما ذكرنا لم نستعمل هذه الآية في صلاة الآمن - قل. (¬3) الحديث المذكور مروي بالمعنى. انظر باب صلاة الخوف من كتاب صلاة المسافرين ح 307 - 308. (¬4) فلا يفعل = ساقطة -و-.

الطالب أن يكِرّ عليه. ابن حبيب وهو في سعة وإن كان طالبًا ألا ينزل ويصلي إيماء لأنه مع عدوه بعد، ولم يصر إلى حقيقة أمن وقاله مالك. وقال ابن المواز وابن حبيب إذا خاف المسلمون أن يخرج عليهم العدو ولم يروه فصلوها فهي تامة. ابن حبيب وتكون طائفة بإزاء (¬1) الموضع الذي خافوا مجيئهم منه. قال أشهب وكذلك لو رأوا شيئًا ظنوه العدو فصلوها ثم ظهر أنه ليس بعدو، فلا شيء عليهم. ابن المواز أحب إليّ أن يعيدوا وإذا صلّى بالطائفة الأولى ركعة فذهب الخوف *فليتم بمن معه وتصلي الأخرى بإمام آخر ولا يدخلون معه قاله ابن القاسم ثم رجع فقال لا بأس أن يدخلوا معه* (¬2)، وقال ابن مسلمة إذا صلى بطائفة ركعة فأتم بعضهم وانصرف *وبقي بعضهم* (2) لم يتم حتى ذهب الخوف *أجزت صلاة من أتم وانصرف* (2). وأما من لم يصلّ الركعة الثانية فلا يفارق الإِمام. ولا ينتظر الإِمام أحدًا. ويقرأ الإِمام ويتبعه من لم ينصرف فأمر ابن مسلمة ها هنا باتباع الإِمام في هذه الركعة من أحرم على أن يصليها فذًا. وحكم من وجبت عليه أن يصلي فذًا ألا يقضي في جماعة. ولكن هذا ليس بقضاء، ولكنه بني على أن يحرم على (¬3) أن يفعله فذًا لعلة ما. فإذا ذهبت العلة بقي على حكم الإِمام. ولو صلّى الإِمام بالناس طائفة واحدة , لأنه كان في أمن, فلما صلى ركعة حدث الخوف فينبغي أن يفارقه بعضهم ليكونوا وجاه العدو. فإذا صلى بمن معه عادت الطائفة التي فارقته فتصلي لأنفسها ركعة، بقية صلاة الإِمام. والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا اشتد الخوف صلّوا بحسب الطاقة. فإن كان إنما يخاف عند السجود خاصة، أومأ إليه، وإن خاف إذا ركع أومأ للركوع، وإن خاف أن يستقبل القبلة استدبرها. قال ابن حبيب إذا كانوا في القتال فليؤخروا إلى آخر الوقت. ثم يصلون حينئذ على خيولهم ويومئون وهم في قتالهم مقبلين ومدبرين وإن احتاجوا إلى الكلام في ذلك لم يقطع ذلك صلاتهم. ¬

_ (¬1) بإزاء = ساقط -و-. (¬2) ما بين النجمين هو في -و-. (¬3) ولكنه بني أحرم على أن يفعله -و-.

ابن المواز: إذا قاتلوا في البحر صلوا صلاة الخوف فإن لم يقدروا إلا وهم في القتال صلوا في القتال إذا خافوا فواتها. وإن لم يقاتلوهم حتى دخلوا في الصلاة فأتاهم العدو فرماه المسلمون بالنبل لم يقطع ذلك صلاتهم وكذلك لو انهزموا لم يقطعها ذلك. ابن حبيب: ولا بأس أن يصلوا صلاة الخوف في البحر في سفينة أو سفن (¬1). أشهب: لو بلغ بهم الخوف ما يؤدي إلى أن يصلوها (¬2) بطائفتين على الدواب لجاز. ولكن نظن إن قدروا على أن تكون الطائفة كافية للأخرى. كذلك أنهم يقدرون أن يصلوا بالأرض. وإذا خاف الراكب من العدو صلى على دابته قائمة إلى القبلة، فان خاف إن وقف بها، فحينئذ يصلي إيماء إلى حيث توجهت. ومراد أشهب أنه يومئ أيضًا، وإن صلى عليها مستقبل القبلة. وإذا خاف الإنسان أن يقف صلى جالسًا وسجد بالأرض. ويصلي المسايف والمقاتل بقدر طاقته ولا يضره العمل فيها كما لا يضره قتل العقرب. والخائف من اللصوص والسباع يؤخر إلى آخر الوقت ثم يصلي، فإن أمن في الوقت أعاد ولا يعيد بني خوف العدو. وقال المغيرة فيهما، وقالت الشافعية: إذا اشتد الخوف صلّوا رجالًا وركبانًا مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها ويومئون بالركوع والسجود، ويضربون الضربة والضربتين والطعنة والطعنتين إذا احتاجوا فإن والَوْا بين ثلاث ضربات أو ثلاث طعنات بطلت صلاتهم إلا أنهم يمضون فيها كي لا يخلو الوقت من الصلاة ويعيدون. وقال بعضهم لا تبطل صلاتهم، وإن كثر العمل. وقال أبو حنيفة: لا يصلوا في هذه الحالة ويؤخروا الصلاة. ويحتج بأنه - صلى الله عليه وسلم - أخر الصلاة يوم الخندق ولم يصل. وأجيب عن هذا بأن أبا سعيد الخدري قال كان ذلك قبل ¬

_ (¬1) أو سفينتين - قل. (¬2) أن يصلي - قل.

نزول صلاة الخوف: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (¬1). ومنع أبو حنيفة أيضًا صلاتهم ركبانًا جماعة لأجل أنه يصير بينهم حائل وهو الطريق. والطريق عنده يمنع من فعل الجماعة. وكذلك أيضًا منعت الشافعية ترك القيام في صلاة الخوف وهذا لا معنى له إذا منع منه الخوف. وقالت الشافعية إذا صلّى ركعة راكبًا لشدة الخوف. ثم أمن لم يتمها راكبًا. فإن ترك (¬2) ولم ينحرف عن القبلة بني عليها. وإن صلى ركعة على الأرض وهو آمن ثم لحقه شدة الخوف فركب استأنف على ظاهر مذهبهم. وقال أبو ثور يبني في حال النزول والركوب. وأجابوه عن ذلك بأن النزول عمل قليل يعفى عنه والركوب عمل كثير فلم يُعْفَ عنه. وقال مكحول إن صلى ركعة بهم ثم دهمهم العدو وقد بقيت على كل طائفه ركعة فليصلوا إيماء حسبما (¬3) كانت وجوههم. وقال سحنون يصلون سعيًا وركضًا كيفما قدروا. وقالت الشافعية إذا رأوا إبلًا فظنوا بها عدوًا وأخبرهم مُخبر بالعدو فصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان أنه لم يكن عدو لزمتهم الإعادة في أحد القولين وهو قول أبي حنيفة. ولا يلزمهم في القول الآخر أن يعيدوا وقد قدمنا نحن ما قاله أصحابنا في جميع هذه المسائل التي حكيناها هنا عن المخالفين. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 239 (¬2) نزل - قل. (¬3) حيثما - قل.

باب صلاة العيدين

باب صلاة (¬1) العيدين قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: صلاة العيدين سنّة مؤكدة (¬2). ووقتها إذا أشرقت الشمس. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن صلاة العيدين سنة مؤكدة؟. 2 - ومن الذي يخاطب بها؟. 3 - وما حكمها إذا فات وقتها؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: صلاة العيدين عندنا (¬3) ستّة. قال مالك في المختصر صلاة العيدين سنة لأهل الآفاق. وكذلك الظاهر من مذهب الشافعية أنها سنّة. ومنهم من قال: هي من فروض الكفايات. وبه قال ابن حنبل. وقال أبو حنيفة هي واجبة وليست بفرض. فدليلنا على كونها سنّة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، وإقامته إياها في الجم الغفير متكررة بتكرر الأعوام. ودليلنا على نفي الوجوب حديث الأعرابي وقوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر له الخمس صلوات. قال: هل علىّ غيرها؟ قال: إلا أن تطوع (¬4). وهذا يثبت نفي الوجوب عن الصلوات الخارجة عن الصلوات الخمس. وأيضًا فإنها صلاة ذات ركوع لم ¬

_ (¬1) صلاة = ساقطة -و-. (¬2) واجبة = الغاني. (¬3) عندنا = ساقطة -و-. (¬4) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. فتح الباري ج 1 ص 114.

يشرع لها أذان ولا إقامة بحال. فلم تكن واجبة بالشرع ابتداء كسائر النوافل. ولا ينتقض قياسنا هذا بصلاة الجنازة (¬1) لأنها ليس فيها ركوع، ولا بصلاة من لا تُسنّ له الإقامة والأذان كالمرأة تصلي الفرض منفردة لأنا قلنا بحال. وصلاة (¬2) المرأة لو أوقعتها في جماعة سن لها الأذان والإقامة، ولا بالنافلة المنذورة لأنها لم تجب ابتداء بالشرع. وأما ابن حنبل فإنه يحتج بأنها صلاة يتكرر فيها التكبير في حال القيام. فكانت من فروض الكفايات، كصلاة الجنازة. وهذا إن خولف في أصله وقلنا بأحد القولين عندنا أن صلاة الجنازة سنّة وليست بفرض لم يصح له القياس لممانعته في الأصل. وإن قلنا إن صلاة الجنازة فرض على الكفاية فليس تكرر التكبير علّة في (¬3) الفرضية فيقاس عليها، وإن نحا به ناحية الشبه. فأما الشافعية فناقضته بصلاة الاستسقاء لأنها ترى تكرير التكبير ومع هذا فليست بفرض. وأما نحن فإنا إن سلمنا قياس الشبه قابلناه بشبه آخر وهو ما قدمناه من أنها صلاة لا يؤذن لها ولا يقام، على نحو ما ذكرناه (¬4) في قياسنا من شبهها بالنوافل. بل شبهنا أحق. ويكاد أن يكون فيه تلويح مقصودنا (¬5) لأن الأذان دعاء الجماعة إلى الصلاة. والدعاء إلى الصلاة واقتضاء فعلها أشْعَرُ بالوجوب من ترك الأذان والإقامة. وأما أبو حنيفة فإنه قاسها على الجمعة لعلّة (¬6) أنها شرعت لها الخطبة وهذا غير مسلّم. لأنه يرى الجمعة فرضًا (¬7). وصلاة العيد عنده (¬8) ليست بفرض وان كانت واجبة فلم يطابق الفرع الأصل. وأيضًا فإن الخطبة بدل من الركعتين على ما حكيناه في باب صلاة الجمعة. ولهذا قدمت الخطبة على صلاة الجمعة. والخطبة في صلاة العيد ليست ببدل من ركعتين، وإنما القصد ¬

_ (¬1) الجنائز - قل. (¬2) ولا صلاة -و-. (¬3) في = ساقطة - قل. (¬4) قدمناه - قل. (¬5) بمقصودنا - قل. (¬6) بعلة - قل. (¬7) فرضًا = ساقطة -و-. (¬8) عنده = ساقطة -و-.

بها الوعظ والتعليم. فلما لم تكن الخطبة في معنى الخطبة لم تكن الصلاة (¬1) كحكم الصلاة. واختصاص الجمعة بالآذان والإقامة يشعر بالمخالفة (¬2) على حسب ما قدمناه وسنتكلم على الأذان لصلاة العيد إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الحواضر فإن الرجال المقيمين فيها يخاطبون بصلاة العيدين. واضطرب المذهب في أهل القرى الذين لا تجب عليهم جمعة. وفي المسافرين، والنساء والعبيد، والصبيان. فقال مالك في أهل القرى يصلون صلاة العيدين كما يصلي الإِمام يكبرون مثل تكبيره: يقوم إمامهم فيخطب بهم خطبتين. قال وأحب ذلك إلى أن يصلي أهل القرى صلاة العيدين. ولمالك في العتبية إنما يجمّع في صلاة العيدين من تلزمه الجمعة. قال ابن القاسم وإن شاء من لا تلزمه الجمعة أن يصلوها بإمام فعلوا ولكن لا خطبة عليهم فإن خطبوا فحسن. ولو تركوا الجمعة وهي عليهم فعليهم أن يصلوا العيدين بخطبة وجماعة. ولمالك في المجموعة في القرية فيها عشرون رجلًا أرى أن يصلوا العيدين. قال عنه ابن نافع ليس ذلك إلا من عليه الجمعة. قال أشهب أستحب ذلك لهم *وإن لم تلزمهم الجمعة* (¬3) قال أشهب عن مالك وينزل لها من ثلاثة *أميال وفي مختصر* (3) ابن شعبان وليس من أمر الناس أن يجمع *أهل القرى* (3) في الفطر والأضحى إذا لم تكن عليهم أئمة *فإن صلّوا فلا بأس* (3) وقد يصلي بهم رجل منهم ويخطب بهم. وقد قيل إذا كانت قرية فيها عدد وحضر يوم العيد *صلى بهم رجل منهم* (3) وخطب ولو كانوا قليلًا أجزأتهم صلاتهم من غير خطبة. وإذا كان في قرية نحو *من عشرين لم أر أن يصلوا صلاة العيدين* (¬4) ولا يصلي العيدين إلا من وجبت عليه صلاة الجمعة. ابن شعبان وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه *والزهري وأبو حنيفة وأصحابه وإسحق لا صلاة عيد إلا في مصر جامع. ¬

_ (¬1) الصلاة = ساقطة -و-. (¬2) المخاطبة -و-. (¬3) ما بين النجمين = بياض بـ -و-. (¬4) ما بين النجمين = هو في -و-.

وأما النساء ومن ذكرنا معهم من الصبيان والعبيد وفي المدونة سألت مالكًا* (¬1) عن العبيد والنساء والإماء هل يؤمرون بالخروج إلى العيدين؟ وهل يجب عليهم الخروج إلى العيدين؟ قال لا. قلنا له فمن شهدها من النساء والعبيد فلما صلوا أرادوا الانصراف لحاجتهم قال لا ينصرفوا إلا بانصراف الإِمام. والنساء إذا لم يشهدن العيد فإن صلّين فليصلين مثل صلاة الإِمام ويكّبرن مثل تكبيره. ولا يجمع بهن (¬2) الصلاة أحد وليس عليهن ذلك إلا أن يشأن ذلك. فإن صلين صلين أفذاذًا على سنة صلاة الإِمام يكبرن سبعًا وخمسًا. وإن أردن أن يتركن فليس ذلك عليهن بواجب وكان يستحب ذلك لهن. وقال مالك في المبسوط في الإِمام يكون في السفر فتحضر صلاة الفطر و (¬3) الأضحى. قال ليس ذلك عليه ولم أسمع أحدًا ممن مضى صلى الفطر والأضحى وهو مسافر. وقال أيضًا ليس ذلك عليهم لا جماعة ولا فرادى. ولم أسمع أحدًا ممن مضى منع ذلك. قال أشهب وللرجل منع عبيده من الخروج إليها ولا يمنعهم من صلاة الجمعة (¬4) إلا أن يُضِرّ به فيما يحتاجهم فيه. ولا أرى لأهل مني المقيمين بها ممن لم يحج أن يصلوا العيد في جماعة لبدعة ذلك بمنى. ولو صلاّها مصلٍ لنفسه لم أر به بأسًا. قال ابن حبيب: ومن فاتته صلاة العيد فلا بأس أن يجمعها مع نفر من أهله. وهي تجب على النساء والعبيد والمسافرين ويؤمر بها من يؤمر بالصلاة من الصبيان. وفي مختصر ابن شعبان: وليس على المسافر ولا البدوي صلاة العيد. ولا صلاة عيد بمنى. وليس على النساء أن يصلين صلاة العيد في منازلهن ولا يؤمرن بذلك. ولا يصلي من فاتته صلاة العيد في المصلّى. وقد ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = هو في -و-. (¬2) لهن -و-. (¬3) أو - قل. (¬4) الجماعة -و-.

قال بالمذكور في مختصر عبد الله وهو قول الليث بن سعد. وقال (¬1) ابن وهب عن مالك في النسوان يشهدن العيدين والعُبدان ثم ينصرفون قبل الخطبة لحوائج أزواجهن وساداتهم؟ قال ترك شهودهم أحب إليّ من انصرافهم قبل الخطبة. ومن دخل على عمل فليتمه. وحكى ابن شعبان عنه أيضًا أن من أتى يوم العيد فوجد الناس قد انصرفوا قبل الخطبة أتى هو إليها. وحكي أيضًا عن مالك وابن أبي ذئب والأوزاعي في الإِمام يدخل بالجيش في دار الحرب () (¬2) بها أنهم يخرجون في العيدين ولا يجمعون وليظهروا لُبْس السلاح. وفي المدونة فيمن فاتته صلاة مع الإِمام إن شاء صلى وإن شاء لم يصل. وإن صلّى فليصل مثل صلاة الإِمام ويكبر مثل تكبيره. وقد تضمنت الروايات عند (¬3) بعض أشياخي اختلاف في جواز التطوع بها لمن سقطت عنه، فقيل بالنهي عنه على كل حال. وقيل بجوازه على كل حال. وقيل بجوازه جماعة، والنهي عنه فذًا. وقد اختلف قول الشافعي أيضًا فقال يصليها المنفرد والمسافر والمرأة والعبد. وقال أيضًا لا تقام إلا حيث تقام الجمعة وهو قول أبي حنيفة. فمن أجاز فعلها للمنفرد والمسافر والمرأة قاسها على سائر النوافل. ومن منع احتج بأنها صلاة شرعت لها الخطبة فلا يفعلها المسافر والمنفرد كالجمعة. وأما ما ذكرناه عن ابن حبيب من الأمر بها لكل أحد ممن ذكرناه (¬4) عنه فإنه رأى أنها في الأمر بها كالصلوات الخمس. فكل من أمر بالصلوات الخمس أمِر بصلاة العيدين وإن كان الأمران يختلفان. ويحتج بقول أم عطية أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة العيد أن نخرج العواتق وذوات الخدور والحُيض، وأمر الحيَّض أن يعتزلن مصلّى المسلمين ويشهدن الخير ودعوة المسلين. قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب قال: تلبسها أختها من جلبابها (¬5). وقد قدمنا من مذهبنا أن من صلاها فذًا صلاها كما يصليها الإِمام. وقال أحمد يصلي أربعًا. وروي ذلك عن ابن مسعود وقال ¬

_ (¬1) وقول -و-. (¬2) فيسموا - قل. وكلمة غير واضحة في -و- ولعلها فتلبثوا. (¬3) عن - قل. (¬4) ذكرنا -و-. (¬5) رواه مسلم - كتاب صلاة العيدين.

الثوري إذا شاء *أن يصليها ركعتين أو أربعًا. وقال الأوزاعي يصلي ركعتين* (¬1) لا يجهر فيهما بالقراءة ولا يكبر كما يكبر الإِمام. وقال إن صلاها في الجبّان (¬2) صلّى ركعتين *كصلاة الإِمام. وإن لم يصلها في الجبّان صلى أربعًا* (¬3). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما وقت صلاة العيد. فهو إذا حلّت الصلاة. وذلك بأن ترتفع الشمس وتبيضّ وتذهب عنها العمرة. وهكذا في النسائي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقت إباحة النافلة أن تشرق الشمس وترتفع قيدَ رمح ويذهب شعاعها (¬4). والمراد بالرمح ها هنا رماح الأعراب. قال مالك وقت العيدين أن يخرج الإِمام من منزله قدر ما يبلغ. وقد حلت الصلاة، ويغدو الغادي حين تطلع الشمس. وحكى ابن شعبان في مختصره أن ابن أبي ذئب ومالكًا قالا: يعجل الإِمام الخروج في الأضحى ويخف ما لا يخف في الفطر (¬5) لشغل الناس في ذبائحهم وانصرافهم إلى أهليهم بالعوالي وذكر حديثًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عمرو بن حزم: أن عجل الأضحى وأخرّ الفطر شيئًا وذكّر الناس. وحكى عن مالك وابن أبي ذئب أيضًا: في الإِمام ينادي بعد ما صلّى (¬6) العشاء: عجلوا الغدو على اسم الله: أنه من فعل الناس. وهو قول أبي هريرة. وأما منتهى وقت صلاة العيد فزوال الشمس ذلك اليوم. قال مالك إذا لم يثبت عندهم أنه يوم العيد إلا بعد الزوال فلا يخرجوا لها ولا يصلوها ولا في الغد. وإن كان قبل الزوال فذلك عليهم. وقال الشافعي في آخر (¬7) قوليه تقضى في غد يوم العيد لما خرّجه النسائي أن قومًا رأوا الهلال فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأمرهم أن يفطروا وأن يخرجوا من الغد (¬8). وأجاب أصحابنا عن هذا بأنه يحتمل أن يكون ¬

_ (¬1) أن يصلي فله أن يصلي ركعتين كصلاة الإِمام -و-. (¬2) الجبّان: وهي الصحراء والمقبرة. (¬3) ركعتين وإن لم يصل في الجبّان صلى أربعًا -و-. (¬4) سنن النسائي. شرح السيوطي والسندي ج 1 ص 280 من حديث عمرو بن عنبسة. (¬5) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب يخفف. (¬6) صلوا - قل. (¬7) أحد - قل. (¬8) الحديث أخرجه أحمد بسنده إلى أنس عن عمومته من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جاء ركب =

أمرهم بالخروج وإظهار الزينة والمباهاة من غير صلاة. ولو كانت هذه الصلاة مما يُقضى في غد يومها لقضيت بعد زوال الشمس من يومها لأنه أقرب لوقتها، ولقضيت أيضًا في اليوم الثالث والرابع من يومها كما تقضى الصلوات الخمس في ذلك. هكذا احتج أصحابنا. ورأيت بعض أصحاب الشافعي قال إذا ثبت العيد بعد الزوال ففيه قولان: أحدهما لا يقضي وهو قول مالك وأبي ثور وداود والمزني. والثاني يقضي وهو قول أحمد. وقال (¬1) أبو حنيفة يقضي في الفطر في اليوم الثاني وفي الأضحى في اليوم الثالث والثاني. ولنا أيضًا أنها صلاة شرعت فيها الخطبة والجماعة فلم تقض في غد يومها كما لا تقضي صلاة الجمعة يوم السبت إذا فأتت. وأجيب عن هذا بأن الجمعة منقولة من الظهر بشرائط. فإذا فأتت الشرائط رجعت إلى الأصل. قال أصحاب الشافعي إن أمكن جمع الناس من وقت ثبوت العيد جمعهم وصلّى بهم حينئذ. قال أبو حنيفة يؤخر الصلاة (¬2) إلى الغد بكل حال لأن البينة لو قامت في الليل أخرّت إلى الغد. فأجيب عن هذا بأن الليل لا يمكن جمع الناس فيه فلهذا خالف النهار. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وسنتها المصلى دون المسجد إلا في حال العذر، ووقت الغدو إليها بحسب قرب المسافة من المصلى وبُعدها. ويستحب في الفطر الأكل قبل الغدو وفي الأضحى تأخيره إلى الرجوع من المصلى. ومن سنتها الغسل والطيب والزينة وإظهار التكبير في المشي والجلوس. والتكبير بتكبير الإِمام والرجوع من غير الطريق الذي مضى فيه. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة: منها أن يقال: أ- لِمَ استحب صلاتها في المصلّى؟. 2 - ولِمَ استحب أكل على صفة ما ذكر. ¬

_ = إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فشهدوا أنهم رأوه بالأمس يعنون الهلال فأمرهم أن يفطروا - وأن يخرجوا من الغد. قال شعبة أراه من آخر النهار. مسند الإِمام أحمد ج 5 ص 57. (¬1) وقول - قل. (¬2) الصلاة = ساقطة -و-.

3 - ولم استحب الغسل والطيب والزينة؟. 4 - ولِمَ استحب التكبير على صفة ما ذكر .. 5 - ولِمَ استحب في السير والانصراف طريقين؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال مالك: السنّة في العيد الخروج إلى المصلّى إلا لأهل مكة. فالسنّة صلاتهم إياها في المسجد. قال مالك لا تُصلى العيدان في موضعين. وقال سحنون في أهل مدينة حَضَرَهم العيد وأصابهم مطر شديد ولم يقدروا على الخروج فصلوا في المسجد فلم يحملهم ولا الأفنية لا أرى لمن بقي أن يجمّعوا الصلاة. وإن أحبوا صلّوا أفذاذًا. وقال بعض أشياخي إن كان الذين ضاق عنهم مصلّى الناس جمْع كثير فإنه يختلف في جمعهم في مسجد آخر على حسب ما تقدم من القول في إقامة الجمعة في جامعين، وإن بقي النفر اليسير فيختلف أيضًا فيهم ويكونون كأصحاب الأعذار في الجمعة. وقال مالك في المختصر من فاتته صلاة العيد فلا بأس أن يصليها في المصلّى أو في غيره. فإن صلّى في المصلى فليصبر إلى فرك الخطبة. وفي المبسوط قال مالك، فيمن تلقاه الناس منصرفين من صلاة العيد، إن شاء مضى فصلّى وإن شاء في بيته، وإن شاء ترك. وقال الشافعي الأفضل أن يصلي الناس صلاة العيد في المسجد إلا أن يضيق بهم فيخرجوا إلى الصحراء لأنها لا تضيق بالناس. وحجتنا عليهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في المصلى وداوم على ذلك ولا يداوم إلا على الأفضل. واحتجوا بأنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى في المسجد فيُحمل ذلك على أنه الأفضل، وفعله في المصلى على أنه ضاق بالناس المسجد. قالوا ولأنها صلاة راتبة بوقت فكان فعلها في المسجد أفضل من فعلها في المصلى كسائر الصلوات. وأما قول القاضي أبي محمَّد وقت الغدو إليها بحسب قرب المسافة فقد كنا قدمنا الكلام على وقتها. وقال مالك: لا بأس بالغدو إليها قبل طلوع

الشمس. وذكرنا قوله أيضًا ويغدو الغادي حين تطلع الشمس. وقال ابن حبيب: يخرجون عند طلوع الشمس أو قربه. وأما الإِمام فلا يخرج حتى ترتفع الشمس وتحل السبحة فوق ذلك قليلًا إن كان في ذلك رفق بالناس. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما استحب أن يأكل في الفطر قبل الغدو إلى المصلّى وفي الأضحى بعده لما جاء به الأثر من أنه - صلى الله عليه وسلم -: كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل ولا يطعم في الأضحى حتى يرجع (¬1). وفي مختصر ابن شعبان لا بأس أن يأكل في العيدين قبل الغدو ويترك إن شاء. ابن شعبان وقاله يحيى بن سعيد. ويمكن أن تكون المخالفة بين العيدين لأجل أن عيد الفطر كان أمسه الأكل فيه محرمًا، فصار الأكل في يومه محللًا فيؤذن بالأكل لتحقيق المخالفة بين اليومين فعلًا كما تحققت المخالفة حكمًا. وأما عيد الأضحى فلم يكن أكل في أمسه محرمًا فيبادر إلى المخالفة فعلًا، بل هو يوم يُراق فيه دم قربة ولا يراق إلا بعد الصلاة فاختير تأخير الأكل إلى بعد الصلاة ليكون أول طعمته من لحم قربته. هذا الذي يستلوح عندي في ذلك. وقال القاضي أبو محمَّد هما يومان للمساكين حق في ماله ينسب إليهما. فكان أكله مضافًا لإيصاله إليهم. فلما كان في الفطر يخرج الزكاة قبل الغدو كان (¬2) أكله في ذلك الوقت *وفي الأضحى لما كان لا يضحى إلا بعد الرجوع كان أكله في ذلك الوقت* (¬3). والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قال مالك في المختصر واستحب الغسل والزينة والطيب (¬4) في كل عيد، والغسل فيهما قبل الفجر واسع. وروى أشهب عنه أنه ينزل إليهما من ثلاثة أميال *وواسع أن يغتسل لها قبل الفجر. ولا يجوز أن ينوي به الجمعة. قال ابن حبيب: وأفضل أوقات الغسل لها ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد بسنده إلى بريدة عن أبيه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفطر لا يخرج حتى يطعم. ويوم النحر لا يطعم حتى يرجع. المسند ج 5 ص 532. (¬2) وكان -و-. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬4) وتستحب الزينة والطيب والغسل - قل.

بعد صلاة الصبح. وفي مختصر ابن شعبان من اغتسل* (¬1) لصلاة العيد في منزله قبل الفجر. ثم خرج لصلاة الصبح. فإن كان يريد الرجوع إلى منزله قبل صلاة العيد فليغتسل إذا انصرف إليه. وإن كان لا يعود إلى منزله فذلك يجزيه. وقال مالك في المدونة في غسل العيدين أراه حسنًا، ولا أوجبه كوجوب غسل الجمعة. قال بعض الأشياخ هذا لأنه ورد الأمر بغسل الجمعة في الأحاديث الصحاح المشهورة ولم يرد مثل ذلك في غسل العيدين. قال بعض الأشياخ قوله - صلى الله عليه وسلم - في الموطإ في الجمعة، إنما هذا اليوم جعله الله عيدًا للمسلمين. فاغتسلوا (¬2) يشير إلى المساواة بين غسل العيد والجمعة، لإشارته إلى سبب الغسل كونه عيدًا. فمن كانت به روائح وأحب شهود العيد وجب عليه الاغتسال لإزالتها. قال مالك في المختصر وتستحب الزينة والطيب في كل عيد. وفي الصحيح أن عمر وجد حلّة من استبرق في السوق، فأخذها وأتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ابتع هذه لتتجمل بها في العيدين وللوفد. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو لباس من لا خلاق له (¬3). والمشي للعيدين أفضل. قال مالك من استطاع فليمش إلى العيدين. وقال في المختصر ينزل إليها من على ثلاثة أميال. ويستحب المشي إليها. وروي عن علي أن من بَعُد فلا بأس أن يركب ونحن نمشي ومكاننا قريب. وذكر ابن حبيب أن مالكًا استحب المشي للعيدين والجمعة لمن قوي. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن السلف. قال بعض أشياخي استحباب المشي في الذهاب إلى الصلاة لكونه ساعيًا إلى قربة فينبغي أن يذهب راجلًا كما يأتي العبد مولاه بخلاف الرجوع. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) مالك بسنده إلى ابن السباق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في جمعة من الجمع: يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيدًا فاغتسلوا. ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه. وعليكم بالسواك ج 115 ص 64. الموطأ. (¬3) رواه البخاري في العيدين ولفظه. فقال يا رسول الله ابتع هذه تجمل بها للعيد والوفود. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما هذه لباس من لا خلاق له. البخاري ج 2 ص 20.

وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخرج إلى العيد (¬1) ماشيًا ويرجع راكبًا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: التكبير يوم الفطر مستحب عندنا وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين لا يستحب. وقال النخعي إنما ذلك عمل الحوّاكين. وقال داود هو واجب. ودليلنا أنه مأمور به قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (¬2). وقد قال الشافعي سمعت بعض أهل العلم بالقرآن يقول: ولتكملوا العدة، يعني صوم رمضان ولتكبروا عند كماله على ما هداكم. ولأجل هذا الظاهر أوجب داود التكبير لأنه أُمِر به. والأمر على الوجوب. وأجيب عن هذا بأن المراد به الاستحباب بدليل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬3). ودليلنا أيضًا ما رواه عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعًا صوته بالتكبير. واحتج أبو حنيفة بأن ابن عباس سمع التكبير يوم الفطر فقال ما شأن الناس؟ فقيل له يكبرون. فقال أمجانين الناس؟ وأجيب عن هذا (¬4) بأنه يعارضه ما روي أن عليًا وابن عمر وأبا أمامة وأبا رُهْم كانوا يكبرون. ولأن ابن عباس إنما يمنع التكبير منفردين ولا يمنع من التكبير مع الإِمام. وأما النخعي فقيل إن ما ذكره *عنه غير صحيح. فإنه روي عنه أنه كان يكبر* (¬5) وإذا ثبت ما قلناه من إثبات التكبير يوم الفطر على الجملة. وكذلك هو في الأضحى وقد تضمنه حديث ابن عمر الذي ذكرناه. وقد قدمنا مخالفته لنا في تكبير الفطر. فإنه يوافق مذهبنا في تكبير الأضحى وذلك مما نوقضوا به. وإذا وضح ما قلناه في التكبير فمتى مبدؤه؟ قال الشافعي تكبير الفطر مبدؤه بعد غروب الشمس من ليلة الفطر. ومذهبنا نحن أنه لا يكبر في الليل. وأما مبدؤه عندنا فروى علي عن مالك أنه لا بأس أن يغدو إلى العيد ¬

_ (¬1) العيدين - قل. (¬2) سورة البقرة، الآية: 185. (¬3) سورة البقرة، الآية: 185. (¬4) عن هذا = ساقط -و-. (¬5) محو -و-.

قبل (¬1) طلوع الشمس ولكن لا يكبّر حتى تطلع الشمس. ولا ينبغي للإمام أن يأتي المصلى حتى تحين الصلاة. قال عنه أشهب ويكبّر الرجال من حين يغدون إلى المصلّى إلى حين يرقى الإِمام المنبر. ثم إذا كبّر في خطبته كبّر معه. وقال مالك في العتبية من غدا إلى العيد فلا يكتر إلا عند طلوع الشمس، وعند الإسفار البين في طريقه وفي المصلّى (¬2) حتى يخرج الإِمام تكبيرًا وسطًا لا خَفْضَ ولا رَفْعَ. والخروج إليها بعد طلوع الشمس عمل الفقهاء عندنا. قال مالك في المختصر ويأتي الإِمام إلى العيدين ماشيًا مظهرًا للتكبير حتى يدخل قبلة مصلاه ويُحْرم للصلاة. قال ابن حبيب من السنة أن يجهر بالتكبير في طريقه إليها بالتكبير والتهليل والتحميد جهرًا يسمع من يليه وفوق ذلك شيئًا حتى يأتي الإِمام فيكبر فيكبرون بتكبيره تكبيرًا ظاهرًا دون الأول ويخرجون إليها عند طلوع الشمس أو قربه. وأما الإِمام فلا يخرج حتى ترتفع الشمس وتحل السُبحة، وفوق ذلك قليلًا إن كان في ذلك رفق بالناس. ومن اغتدى فلا يكبّر حتى يسفر. وأحب إليّ من التكبير: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد على ما هدانا. اللهم اجعلنا لك من الشاكرين لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)} (¬3). وكان أصبغ يزيد الله أكبر، الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ولا حول ولا قوة إلا بالله. وما زدّت أو نقّصت أو قلت غيره فلا حرج. وقال مالك في المدونة يكبّر إذا خرج عند طلوع الشَمس تكبيرًا يسمع نفسه ومن يليه، فإذا خرج الإِمام قطع. وقال مالك في المبسوط يكبّر تكبير العيدين بعد صلاة الصبح. قال عبد الملك ابن الماجشون وكذلك رأينا الآن (¬4) رمي الجمرة بعد ¬

_ (¬1) عند - قل. (¬2) وفي المصلى = ساقطة -و-. (¬3) سورة البقرة، الآية: 185. (¬4) رأينا الآن -و-.

الفجر. وقال محمَّد ابن مسلمة في المبسوط: التكبير من حين يغدو الإِمام يتحرى غدوّه فيكبر حتى يصلي فإذا كبّر في الخطبة كبّر الناس معه. وفي مختصر ابن شعبان وتكبير العيدين في الإسفار الأعلى. ابن شعبان. وقد قال في المذكور في مختصر عبد الله وقد تضمنت هذه الروايات أن (¬1) مبدأ التكبير صلاة الصبح في قول. والإسفار في قول. وطلوع الشمس في قول. وغروبها ليلة الفطر على حسب ما حكيناه عن الشافعي. وعلى صفة ما حكيناه من مذهب أصحابنا. وقد نقلنا رواية أشهب أن التكبير من حين يغدو، ولم يقيّد الغدّو بوقت. وأما وقت انقطاع التكبير في عيد الفطر فقد ذكرنا قول مالك في المدونة: أنه إذا خرج الإِمام انقطع. وحكى عن سحنون أن معناه إذا أتى المصلى يريد الصلاة. وأشار إلى أنه بأخذه في الصلاة ينقطع التكبير. وأشار في حكايته أخرى أنه ينقطع بأخذه في الخطبة. وقد ذكرنا رواية أشهب أنه يكبّر من حين يغدو إلى المصلى إلى أن يرقى الإِمام المنبر. وقال مالك يكبّر الإِمام إذا رقى المنبر في خطبته الثانية، وليس لذلك حدّ، وينصت له فيها، وفي الاستسقاء. قال ابن حبيب وليجلس أول خطبته ثم يفتتحها بسبع تكبيرات تباعًا ثم إذا مضت كلمات كبّر ثلاثًا. وكذلك في الثانية إلا أنه يفتتحها بتسع (¬2) تكبيرات ويجلس بين الخطبتين ويكبّر الناس كلما كبّر. وكان مالك يقول يفتتح بالتكبير ويكبّر بين أضعافها ولم يَحُدّه. وما ذكرناه مروي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وقال به مطرّف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ. وروي عن أبي هريرة أنه يفتتح الأولى بخمس عشرة تكبيرة والأول أحب إليّ. وإن كان الفطرَ أن يذكر في خطبته الفطرة وسنتها، ويحض الناس على الصدقة وإن كان الأضحى ذكر الأضحية وسنتها. وأمر بالزكاة وعلمهم فرضها وحذّرهم تضييعها. قال مالك في المدونة (¬3) ويُكبّر مع الإِمام ¬

_ (¬1) أن = ساقطة -و-. (¬2) بسبع - قل. (¬3) في المجموعة - قل.

كلما كبّر في خطبته وينصت له ويستقبل وليس من تكلم في ذلك كمن تكلم في الجمعة. وإذا أحدث في الخطبة أو في خطبة الاستسقاء تمادى لأنها بعد الصلاة. قال مالك في المبسوط يستفتح الإِمام الخطبة إذا صعد بالتكبير. قال ومن السنة أن يكبّر تكبيرًا كثيرًا (¬1). ثم في الثانية أكثر من الأولى. وقال المغيرة في المبسوط كنا نعد الإكثار من التكبير عيًّا. ويستراح إليه في الخطبة. ولم ير المغيرة أن يكبّر الناس بتكبير الإِمام فيها. وفي مختصر ابن شعبان وينصت للإمام في خطبة العيدين ولم يبلغنا في ذلك مثل الذي بلغنا في الجمعة. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما استحب أن يرجع في العيدين من غير الطريق التي أتى منها إلى العيد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. وقد تكلم الناس في تعليل فعله هذا، وإظهار الغرض الباعث عليه. فقيل إنما فعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأنه كان يتصدق في ذهابه. فقال بعض أصحاب هذه المقالة كانت صدقته تفرغ (¬2) فيعدل إلى طريق أخرى لئلا يعاود في المسألة. وقال بعضهم بل كان يعود من طريق آخر ليتصدق على من بها من المساكين أيضًا. وقيل إنما فعل ذلك ليتقسم الناس على الطريقين فتخف مضرة الزحام بهم. وقيل إنما فعل ذلك ليحصل الفضل للطريقين. وقيل ليتبرك به أهل الطريقين. وقيل ليكثر ثوابه بكثرة الخطى. وقيل مبالغة في المباهاة وإظهار كثرة الناس. وقيل لئلا يكمن له المنافقون في الطريق التي رأوه سلكها. وهذه كلها أسباب يمكن أن يكون كل واحد منها هو الغرض الباعث على ما فعل. وقد تجتمع منها أسباب يكون جميعها باعثًا على ذلك. ولكنها تتفاضل في القرب من الإمكان والبعد منه مع كون بعضها قد يعدم في بعض البلاد وبعض الأزمان. فقد يستلوح منه ارتفاع الاستحباب عند ارتفاع سببه، إذا قيل بزوال الحكم لزوال علته. وهذا مما لم ينقل عن أصحاب المذهب ولا عن هؤلاء المعللين. ولأجل هذا وكون هذه التعاليل لم يقم عليها دليل أشار القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا إلى ضعفها. فذكر أنه علل ذلك بتعاليل كلها دعاوى فارغة، وأن المعتمد عدى الاقتداء والإتباع. ¬

_ (¬1) كثير = ساقطة -و-. (¬2) صدقته = ساقطة -و-.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وهي ركعتان يُزاد في أولاهما ست تكبيرات بعد الإحرام وفي الثانية خمس بعد تكبيرة القيام وهي فيما عدا ذلك ركعتان كسائر الصلوات، يجهر فيهما بالقراءة بسبّح والغاشية ونحوهما ولا أذان فيهما ولا إقامة. والخطبة فيهما بعد الصلاة خطبتان كخطبتي الجمعة (¬1) من جلوس متقدم ومتوسط، وما يتكأ عليه. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما عدد التكبير المزيد في صلاة العيد؟. 2 - وما حكم من فاته التكبير؟. 3 - ولمَ نبّه على الجهر بالقراءة وأن الخطبة فيها كخطبة الجمعة، ونفي الأذان فيها؟. 4 - وهل يتنفل قبل صلاة العيد وبعدها؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في عدد التكبير المزيد في صلاة العيد. فعندنا أنه ست تكبيرات في الأولى وخمس تكبيرات في الثانية. فيكون التكبير في الأصل والمزيد في الأولى سبعًا، وفي الثانية ستًا لو قدّر أن تكبير القيام إلى الثانية من جملة الركعة الثانية. وقال الشافعي المزيد اثنتي عشرة تكبيرة، سبعًا في الأولى وخمسًا في الثانية. وذكر ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي هريرة وعائشة وابن عباس والخدري (¬2). وقال أبو حنيفة ستّ تكبيرات: ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية. وذكر ذلك عن ابن مسعود وأبي موسى وحذيفة. وقال ابن المسيب والنخعي تكبيرات العيد تسع تسع. وقد ذكر ذلك عن ابن عباس والمغيرة وأنس بن مالك رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس أنه قال في الفطر ثلاث عشرة تكبيرة يكبّرهن وهو قائم سبعًا في الركعة الأولى، منهن: تكبيرة الاستفتاح للصلاة ¬

_ (¬1) في الغاني بعد الجمعة: إلا أنه يكبر في تضاعيفهما ثم صفتها في الأداء كصفة خطبتي الجمعة ... (¬2) وأبي سعيد الخدري رضوان الله عليهم أجمعين - قل.

وتكبيرة الركوع. وفي الثانية ستّ تكبيرات منهن تكبيرة الركوع. وقال الحسن في الأولى خمس تكبيرات. وفي الثانية ثلاث سوى تكبيرة الركوع. وروي عن جابر بن عبد الله أنه قال في الأولى أربع تكبيرات سوى تكبيرة الصلاة وفي الآخرة ثلاث تكبيرات بعد القراءة سوى تكبيرة الصلاة. وروي عن الحسن رواية أخرى أن التكبير في الأضحى والفطر واحد يكبّر في الأولى ثلاثة غير تكبيرة الافتتاح وفي الثانية ثلاثة بعد القراءة، منها تكبيرة الركوع. وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبّر في الفطر إحدى عشرة تكبيرة يكبّر واحدة ثم يقرأ ثم يكبّر خمسًا ويركع بإحداهن ثم يقوم فيكبر ثم يكبر خمسًا يركع بإحداهن. وكان يكبر خمسًا في الأضحى تكبيرة واحدة التي يوجب بها الصلاة ثم يقرأ ثم يكبّر اثنتين يركع بإحداهما ثم يقوم فيقرأ. ثم يكبّر اثنتين يركع بإحداهما. وروي عنه أيضًا أنه كان يكبّر في الفطر اثنتي عشرة تكبيرة. وفي الأضحى خمسًا. قال يحيى بن يعمر في الأضحى يكبّر تكبيرتين في الأولى. ثم يقرأ وفي الأخرى مثل ذلك، وفي الفطر مثل قول ابن مسعود. وقال حماد (¬1) وابن أبي سليمان: ليس في تكبير العيد شيء مؤقت. وروي عن ابن عباس أيضًا أن التكبير يوم الفطر ويوم النحر تسع تكبيرات وإحدى عشرة وثلاث عشرة. كلٌ سُنّةٌ. فأما مالك والشافعي فأنهما يتعلقان برواية عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يكبّر في الفطر والإضحى *في الأولى سبع تكبيرات. وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرة الركوع (¬2). ويرى مالك أن تقييدها* (¬3) في الثانية بأن الخمس سوى تكبيرة الركوع يشعر بأن السبع الأول محسوب فيها تكبيرة الإحرام إذ لو لم تحسب فيها لنبّهت على ذلك بأن تقول سوى تكبيرة الإحرام. كما قالت في الثانية سوى تكبيرة الركوع. وقد أشار بعض البغداديين من أصحابنا إلى أن التكبير الأصلي في كل ركعة من ركعات العيد وغيرها من ركعات الصلوات ست تكبيرات: تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع وأربع في السجدتين والخفض فيهما، ¬

_ (¬1) أحمد وابن أبي سليمان - قل. (¬2) أخرجه أبو داود وابن ماجة وفي إسناده ابن لهيعة. مختصر المنذري ح 1109. (¬3) ما بين النجمين هو -و-.

فإذا كان العدد الأصلي المشروع في كل ركعة من ركعات الصلوات ست تكبيرات. كان ما ذهب إليه من أن المزيد في تكبيرات العيد ست أولى من غيره من المذاهب. لأن في الذي ذهبنا إليه مقابلة *المزيد بالأصلي. وكونهما في العدد جاريين إلى مبلغ واحد. وقد يعضد عندي هذا الذي قال* (¬1) بأن صلاة الكسوف كرر فيها الركوع أيضًا. وكان في تكريره لم يخالف عدد الأصل. لأن الركوع في التسليمة الواحدة ركوعان والمزيد في صلاة الكسوف ركوعان، ولعله إنما زيد بعض أعمال النافلة كالإشعار بأنها كنافلة أخرى وقعت بجميع أركانها وأعمالها فكرر الركوع في صلاة الكسوف كالإشعار بأن الركعتين كالأربع. وكرر التكبير في صلاة العيد كالإشعار بأن الركعتين كالأربع. هذا مما يمكن أن يكون هو المقصود. وكأنه كالمؤكِد لما حكيناه عن بعض أصحابنا. فبهذه الرواية عن عائشة وبهذا الاعتبار يتعلق مالك. وأما الشافعي فيتعلق أيضًا بما روي عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبّر في العيدين اثنتي عشرة تكبيرة سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الدخول في الركوع (¬2). وقد روي نحو ذلك عن عمر وابن عمر وكثير بن عبد الله وعمار بن ياسر. ويرى أن هذه الرواية التي فيها البيان والتنفيذ مصرحًا به أولى من عدد إنما أخذ من إشعار سياق اللفظ، كما قدمنا الإشارة إليه، من أن تقييدها بقولها سوى تكبيرة الركوع يشعر بأن إضرابها عن التقييد في السبع يقتضي أنه تكبيرة الإحرام معدودة فيها. وأما أبو حنيفة فإنه تعلق بما روي أن سعيد بن أبي العاصي سأل أبا موسى وحذيفة بن اليمان عن التكبير في صلاة العيد كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرّ (¬3)؟ فقال أبو موسى كان يكبّر أربع تكبيرات تكبيرَهُ على الجنائز (¬4). قال حذيفة ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) المصنف ح 5694. (¬3) يكبر = ساقطة -و-. (¬4) رواه أبو داود والبيهقي. انظر مختصرًا بي داود ج 2 ص 31 ح 1112. وسنن البيهقي ج 3 ص 289/ 290. والزيلعي ج 2 ص 215.

صدق ثم قال أبو موسى وهكذا كنت أكبّر بالبصرة حيث كنت عليها. وقد أجيب عن هذا بأن ما تعلق به من الآثار مالك والشافعي أزيد وأكثر فكانت أولى. فهذه المذاهب الثلاثة المشهورة قد ذكرنا وجوهها. وقد قدمنا اختلافًا كثيرًا في عدد التكبير. ومع كثرة ما حكيناه من الخلاف فقد حكى ابن المواز عن أشهب في الإِمام يكبّر أكثر من سبع في الأولى وخمس في الثانية فلا يتبع. قال وكذلك إن كبّر في الجنازة خامسة فليسكتوا حتى يسلم فيسلموا. ولم يعتبر أشهب ما ذكرنا من الاختلاف في عدد تكبير العيد ولم يراعه. بل رأى (¬1) أنه كالخطإ الذي لا يتبع الإِمام عليه. وإذا ثبت ما قلناه في عدد التكبير المزيد فإن القراءة في ركعتي العيد بعد التكبير. وقال أبو حنيفة التكبير في الركعة الأولى قبل القراءة وفي الركعة الثانية بعد القراءة، ودليلنا ما روي عن عبد الله ابن عمرو بن العاصي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبّر يوم الفطر سبعًا في الأولى ثم قرأ ثم كبّر في الأخرى خمسًا ثم قرأ (¬2). وأما أبو حنيفة فإنه يتعلق بحديث أبي موسى الأشعري وقد روي فيه: ووالى بين قراءتين. وأجيب عن هذا بأنه لم ينقل هذا اللفظ أحد من أهل الحديث. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة لما كان لا بد في افتتاح الصلاة من إحرام أضيف إليه المزيد من التكبير ليقع التكبير متواليًا. والركعة الثانية بخلاف ذلك إذ لا تكبير في ابتدائها يوجب الموالاة. وكأن هذا يرى أن التكبير لقيام الثانية محسوب من الأولى لا من الثانية فلم تدع ضرورة إلى أن يقدّم التكبير على القراءة في الركعة الثانية. وهذا الاحتجاج إنما يصح له لو ثبت أن الأصل تأخير التكبير عن القراءة فيعتذر عن ذلك بما اعتذر في تقديمه في الركعة الأولى دون الثانية. واختلف المذهب في رفع اليدين في التكبير المزيد. فقال مالك في المدونة يرفع في الأولى وروى مطرّف عن مالك أنه استحب رفع اليدين مع كل تكبيرة. وروى عنه علي وليس رفع اليدين فيهما مع كل تكبيرة سنة. ولا بأس على من فعله. وأحب إليّ في الأولى فقط. ¬

_ (¬1) يرى -و-. (¬2) نصب الراية ج 2 ص 217.

فحجة من استحب رفع اليدين في التكبيرات ما روي أن ابن عمر (¬1) رضي الله عنه كان يرفع يديه في صلاة الجنازة والفطر والأضحى. ولأنها تكبيرات لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود فأشبهت تكبيرة الافتتاح. واحتج من لم يستحب رفع اليدين بأنها تكبيرات في أثناء الصلاة فلم يستحب فيها رفع اليدين كسائر التكبيرات. وقال مالك في المختصر ليس بين التكبير صمت إلا قدر ما يكبّر الناس. وقال ابن حبيب يقف بين كل تكبيرتين هنيهة قدر ما يكبّر الناس. وليس بين التكبير دعاء. وقول ابن حبيب: وليس بين التكبير دعاء إشارة إلى ما في ذلك من الخلاف. فقد قالت الشافعية يستحب أن *يقف بين كل تكبيرتين قدر آية لا طويلة ولا قصيرة ويأتي بذكر. فمنهم من يقول* (¬2) سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ومنهم من يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. قالوا ولو قال ما اعتاده الناس الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا (¬3) وصلّى الله على سيدنا محمَّد، وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا. وقال عطاء يقف ما بين كل تكبيرتين ساعة يدعو الله ويذكره في نفسه، ولأجل هذا الخلاف كله أشار ابن حبيب بقوله: وليس بين التكبير دعاء. وأما أبو حنيفة فإنه قال: يأتي بالتكبيرات متواليات. وقد احتج أصحاب الشافعي بما روي عن ابن مسعود، أنه قال: وقد سأله الوليد بن عقبة يقول: الله أكبر، ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم -. قالوا: ولأنها تكبيرات متكررة في حال القيام، فتخللها ذكر كتكبيرات الجنازة. واحتج من نفى الدعاء بأنه لو كان بينهما دعاء مسنون لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالذكر في الركوع والسجود، وأجابهم الآخرون بأن قالوا: قد نقله ابن مسعود. وأيضًا فإنه إنما لم ينقل لأنه يخفى بخلاف المكتوبات، فلهذا لم ينقل النقلَ الذي أشرفم إليه. وقالت الشافعية على أصلهم في إثبات دعاء الافتتاح إذا كبّر ¬

_ (¬1) عمر -و-. (¬2) ما بين النجمين هو -و-. (¬3) وسبحان الله وصلّى الله ... -و-.

لصلاة العيد تكبيرة الافتتاح ثم يأتي بالتكبيرات السبع ثم يتعوذ بعدها قبل القراءة , لأن التعوذ إنما يراد للقراءة، فلا يكون بينهما فصل، خلافًا لأبي يوسف في قوله: يتعوذ عقيب دعاء الافتتاح , لأنه هكذا في سائر الصلوات. والفرق أن سائر الصلوات يؤتى فيها بالتعوذ عند القراءة من غير فصل. وقال الأوزاعي يأتي بدعاء الافتتاح بعد الفراغ من التكبيرات. وردّ عليه بأن دعاء الافتتاح في سائر الصلوات عقيب تكبيرة الافتتاح فكذلك يجب أن يكون في صلاة العيد. وإذا سها عن التكبيرات المزيدات، فذكر التكبير المزيد في الركعة قبل أن يركعها فإنه يعود إلى التكبير ويعيد القراءة إن كان قرأها. وقال أبو حنيفة لا يعود إلى التكبير بعد شروعه في القراءة. واختلف قول الشافعي في هذا فقال في القديم كقولنا لكنه لم يأمر بإعادة القراءة. والأوْلى عندهم أن تُعاد، وقال في الجديد كقول أبي حنيفة، واحتج أصحابه لهذا القول بأنه ذكر مشروع قبل القراءة، فسقط بالشروع في القراءة كدعاء الافتتاح. وحجتنا أن التكبير محله القيام. والقيام باق لم يفت، وإذا لم يفت محل الفعل أمر بالإتيان به. فإذا قلنا أنه يعود إلى التكبير ويعيد القراءة فهل عليه سجود السهو أم لا؟ قال مالك يسجد للسهو بعد السلام. وعندنا في هذا الأصل قول آخر: أن لا سجود عليه لأنه زيادة قرآن. قال بعض أصحاب الشافعي إذا نسي تكبيرة من تكبيرات العيد لم يسجد للسهو. وذكر أن مالكًا وأبا ثور قالا: يسجد. واحتج عليهما بأنه هيئة من هيئات الصلاة فلا يسجد لتركها كوضع اليمنى (¬1) على الشمال. وقال مالك في مختصر ابن شعبان من سها في العيدين. فزاد تكبيرة واحدة سجد بعد السلام ولم يراع مالك رضي الله عنه في هذه الرواية خفة هذا السهو وكونه نِزْرًا ولا كونه ذكرًا ولا ما في ذلك من الاختلاف الذي قدمناه. وكأنه رأى أن السهو يقتضي السجود. وهذا قد سها بزيادة فلا يعتبر خفتها ولا غير ذلك مما ذكرناه. ¬

_ (¬1) اليمين - قل.

فإن لم يذكر المصلي التكبير المزيد حتى ركع مضى على صلاته ويسجد بعد السلام، إلا أن يكون مأمومًا فلا يسجد. لأن الإِمام يحمل عنه ذلك. وأ ماجهر المأموم بالتكبير فقد قال ابن حبيب يجهر بالتكبير جهرًا يسمع من يليه. ولا بأس أن يزيد في جهره ليسمع من يقرب منه ممن لا يسمع الإِمام ويجهل بالتكبير. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما من فاته التكبير كله أو بعضه فاختلف المذهب فيه هل يقضيه أم لا؟ فقال ابن القاسم في العتبية، من سبقه الإِمام بالتكبير فليدخل معه ويكبّر سبعًا. وإن وجده راكعًا دخل معه وكبّر تكبيرة واحدة وركع ولا شيء عليه. وإن وجده قد رفع رأسه أو قام في الثانية فليقض ركعة ويكبر فيها سبعًا. قال وإن وجده قائمًا في الثانية فليكبر خمسًا. وقال ابن وهب لا يكبر إلا واحدة. ابن حبيب إن أدرك الإِمام وهو في قراءة الثانية فليكبر للإحرام ثم يكبر خمسًا، فإذا قضى كبّر ستًا والسابعة قد كبرها للإحرام. قال ولو كان التكبير لا يقضى كما قاله ابن الماجشون ما كان على من لم يسمع (¬1) تكبير الإِمام أن يتحرى التكبير فيكبر. وفي المجموعة قال مالك: ومن فاته بعض التكبير قضاه. قال عبد الملك إن (¬2) كان بين تكبير الإِمام فُرج يكبر فيها ما فاته منه قبل القراءة، فليس ذلك عليه كما لو جاء في القراءة فإنما عليه أن يحرم. قال ومن أدرك الركعة الأخيرة منها فلم يقل أحد أنه يكبر إذا قضى سبعًا فيصير مفتتحًا مرتين. والافتتاح لا يقضى. قال: وقال بعض أصحابنا يكبر ستًا ولا أقوله ولا علمت تكبيرًا يقضى ولا يكون فيما يقضى قبل قراءته تكبير. وإنما يقضى تكبير الجنازة لأنه بدل من عدد الركوع. وذكر ابن حبيب قول ابن الماجشون. وذكر عن ستة من أصحاب مالك أن التكبير يقضي. قال وبه أخذ أصبغ. وهو أحب إلينا.*وفي مختصر ابن شعبان روي ابن القاسم وعثمان بن عيسى* (¬3) وابن كنانة ومطرّف وابن نافع عن مالك فيمن أدرك الإِمام في بعض ¬

_ (¬1) لا يسمع - قل. (¬2) ساقطة -و-. (¬3) ما بين النجمين هو -و-.

تكبير العيد أنه يكبر ويدخل معه. فإذا فرغ الإِمام من التكبير وأخذ في القراءة أتم هو ما بقي عليه والإمام يقرأ. ولو أدركه وهو يقرأ كبّر سبعًا. وإن أدركه وهو راكع كبّر تكبيرة الإحرام، وركع معه. وقد اختلف قول الشافعي أيضًا فقال في القديم فيمن فاته بعض تكبيرات العيد، يقضي ما فاته *وكذلك إذا أدركه وهو يقرأ. وقال في الجديد لا يقضي. ووافقنا الشافعي على أنه لا يقضي* (¬1) إذا أدركه في حال الركوع. ولم يختلف قوله فيها. وإنما خالف في ذلك أبو حنيفة ومحمد فقالا: لا يكبّر في الركوع. فأما اختلاف أصحابنا في قضاء التكبير لمن أدرك الإِمام في القراءة. فمن قال لا يقضي رأي أن التكبير قول فلا (¬2) يقضيه المسبوق كما لا يقضي القراءة. ولأن الإِمام متبع فيها إذ لا يكبر إلا بعد تكبير الإِمام فلا يخالف عليه بأن يفعل المأموم غير فعله ويخرج عن حكم اتباعه. ومن قال إن التكبير يقضى، رأي أنه بخلاف القراءة لأن المأموم عند قراءة الإِمام صامت، والمأموم يكبّر عند تكبير الإِمام. وأما مخالفة أبي حنيفة في قضاء التكبير في الركوع، فإنه يحتج بأن الركوع محل التكبير لأن تكبيرة الركوع من تكبيرات العيد. وهذا لا يسلّم له. وقد قدمنا ما يدل على أن تكبيرة الركوع من تكبيرات العيد عند ذكرنا كون التكبير المزيد قبل القراءة. وهو يوافق على هذا في الأولى فلا معنى لهذا الذي قال. ويحتج أيضًا بأن الركوع كالقيام، بدليل أنه تدرك به الركعة. وهذا غير صحيح فإن الركوع يسقط القراءة والقنوت. ولا يسقطان في حال القيام، فكذا التكبير يسقط بالركوع وإن لم يسقط بالقيام. وإذا أدرك المأموم الإِمام جالسًا فأحرم (¬3) وجلس فسلم الإِمام ثم قام للقضاء فهل يسقط من عدد التكبير هذه التكبيرة التي دخل بها مع الإِمام؟ (¬4) ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) ولا -و-. (¬3) أحرم - قل. (¬4) التي دخل بها أم لا - قل.

اختلف المذهب في ذلك. فقال في المدونة يكبّر ويجلس ثم (¬1) يقضي بعد سلام الإِمام باقي التكبير. فهذا اعتداد منه بهذه التكبيرة، فيكبّر ستًا غيرها. وقال ابن القاسم في العتبية يكبّر في الأولى سبعًا. وفي الثانية خمسًا. قال عيسى وقد قال أيضًا يكبّر في الأولى ما بقي =ستا عليه= (¬2) قال ابن أبي زمنين: ولمالك في كتاب الحج فيمن أدرك الإِمام في تشهده في العيدين أنه يحرم، ويدخل مع الإِمام. فإذا فرغ صلى وكبّر سبعًا وخمسًا. هذه رواية ابن وضاح. وروى غيره: كبّر ستًا وخمسًا. قال أبو محمَّد عبد الحق إن قيل: قد قال في صلاة الفريضة إذا أدركه جالسًا وسلّم الإِمام يقوم بتكبير، ولم يجعله يعتدّ بالتكبير الذي كبّره حين جلس وجعله في هذه المسألة على ما في المدونة. وعلى أحد قوليه في غيرها أنه يعتد بالتكبير. قيل لعله إنما قال ذلك في الفرض إذ لا عوض له من التكبير (¬3) وهو كالمفتتح، فلا بد من تكبير. وفي العيدين إذا (¬4) قام فإنه يكبّر. فاكتفى بذلك عن التكرار. وخرّج بعض أشياخي اختلافًا في مدرك الثانية هل يكبّر خمسًا أو سبعًا؟ قال: فعلى القول أن ما أدرك آخرُ صلاته يكبر خمسًا ويقضي سبعًا، وعلى القول أن الذي أدرك أوَّلُها يكبّر سبعًا ويقضي خمسًا. وفي هذا الذي قاله عندي نظر. لأنه إذا أدرك الإِمام في أول تكبير الثانية (¬5) وكبّر معه خمسًا ثم أخذ في تكبير آخر زائد على تكبير الإِمام صار ذلك مخالفة على الإِمام. والمخالفة عليه لا تصح. وإنما تكون ثمرة هذا الخلاف (¬6) هل ما أدرك أوّلُ الصلاة أو آخرها فيما يفعله بعد تقضي فعل الإِمام، حيث لا توجد منه مخالفة على الإِمام. وأما فيما يفعله مع الإِمام، فإجراء (¬7) ثمرة هذا الاختلاف فيما يؤدي إلى مخالفة الإِمام فيه ¬

_ (¬1) ثم = ساقطة -و-. (¬2) ستًا = ساقطة -و-. (¬3) ولا غرض له في التكبير -و-. (¬4) فإذا قام -و-. (¬5) تكبيرة للثانية - قل. (¬6) ثمرة الاختلاف -و-. (¬7) فأجرى -و-.

نظر. وقد قال مالك في سجود السهو إذا اختلف فيه رأي الإِمام والمأموم اتّبِعْه، فإن الخلاف شرّ. ويلزم شيخنا هذا أن يأمر مدرك الركعتين الأخيرتين من الصلاة الرباعية أن يأمر المأموم أن يقرأ مع أم القرآن سورة إن كان الإِمام يتباطأ تباطؤًا يمكنه ذلك فيه على القول أن ما أدرك هو أول صلاته. ولعمري إن الذي قاله في (¬1) التكبير مقتضى الأصل الذي أجري عليه لولا ما عرض فيه من الوقوع في مخالفة الإِمام. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما نبّه على الجهر بالقراءة لما كان الأصل في صلوات النهار إسرار القراءة فيها، فنبّه أن هذه ليست بجارية على الأصل. وأيضًا فإنه روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: أسمع من يليك ولا ترفع صوتك. والدليل على الجهر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالقراءة. ونقل المسلمون الجهر بالقراءة فيها فعلًا (¬2) منهم بذلك في سائر الأمصار على مرور الأعصار. وأما السور التي يقرأ فيها، فقال مالك في المدونة: يقرأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {سَبِّحِ}، ونحوهما. وفي المجموعة يقرأ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ونحوها. قال مالك في مختصر ابن شعبان يقرأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وما أشبههما. واستحب الشافعي القراءة بـ {ق} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. وبه أخذ ابن حبيب. وحكى بعض من صنف الخلاف عن مالك وأبي ثور وأحمد في إحدى الروايتين عنه يقرأ في الأولي بـ {سَبِّحِ}، والثانية بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وذكره ابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال أبو حنيفة ليس في صلاة العيد قراءة معيّنة، وهي للرواية الأخرى عن أحمد. وروي عن ابن مسعود أنه قال: يقرأ بـ {فاتحة الكتاب}، وسورة من {المفصّل}. وكان أبان بن عثمان يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وفي الثانية بـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي ¬

_ (¬1) من - قل. (¬2) إن الجهر بالقراءة فيها عملًا.

خَلَقَ} وقد اختلفت الأ خ بار (¬1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر فروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر. فقال يقرأ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (¬2). وهو أحبّ إليّ. وذكر غير ابن حبيب أن النعمان بن بشير روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قرأ فيهما بـ (سبّح)، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وذكر ابن شعبان في مختصره بسنده عن ابن عباس أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وربما اجتمعا في يوم واحد فيقرأ بهما (¬3). قال ابن شعبان وهذا يؤيد ما رواه البصريون عن مالك أن الجمعة لا تترك لصلاة العيد إذا اجتمعتا. وأما تنبيهه على نفي الأذان فخلافًا (¬4). قال سعيد أول من أحدث الأذان والإقامة معاوية. وقال ابن سيرين: أول من أحدثه بنو أمية. وأخذ به الحجاج. ويقال أول من أحدثه زياد. وعن أبي قلابة أن أول من أحدثه ابن الزبير. ودليلنا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى (¬5) صلاة العيد ثم خطب وصلاها عمر ثم خطب وصلاها علي ثم خطب *بلا أذان ولا إقامة. وروى جابر بن سمرة قال صليت مع النبي ¬

_ (¬1) الروايات في ذلك - قل. (¬2) روى مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر. فقال كان يقرأ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}. إكمال الإكمال ج 3 ص 39. (¬3) حديث النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعًا. وعنه من طريق ثان كان يقرأ في صلاة الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}. فربما اجتمع العيد والجمعة فقرأ بهما ح 1614 حرز الأماني. وإكمال الإكمال ج 3 ص 31. وأبو داود والنسائي والترمذي والبيهقي. (¬4) هكذا. ولا يظهر له معنى. (¬5) ما بين النجمين = ساقط -و-.

عليه السلام والأمر بين* (¬1) بغير أذان ولا إقامة (¬2). قال القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا. وما ذكر فيه من الخلاف قوإنقطع. وتقرر الإجماع بعده. وإنما نبه على أن الخطبة فيهما بعد الصلاة بخلاف خطبتي الجمعة. لأجل ما روي من الخلاف في ذلك. فقد روى عثمان أنه خطب ثم صلى لما كثر الناس على عهده. وروي ذلك عن ابن الزبير ومروان بن الحكم. ودليلنا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من الخلفاء الراشدين. فقد روى مذهبنا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن مسعود البدري والمغيرة بن شعبة. وفي المبسوط أن أول من خطب قبل الصلاة عثمان. قال وإنما فعل ذلك ليدرك الناس الصلاة. والسنّة أن تقدم (¬3) الصلاة. قال وكذلك (¬4) عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعثمان صدرًا من خلافته. وفي الصحيحين أن أول من فعل ذلك مروان. فكلمه الخدري وجبذه لما أراد أن يصعد المنبر منبرًا من طين صنعه له كثير بن الصلت. ثم قال له أبو سعيد. فقال له: قد تُرك ما تعلم. فقال أبو سعيد ما أعلم خيرٌ مما لا أعلم. قال في موضع آخر إن الناس لم يكونوا ليجلسوا لنا (¬5). قيل: وإنما امتنعوا من الجلوس لأنه كان يؤدي في خطبته من لا يحل له أذاه. قال أشهب فإن بدأ بالخطبة أعادها بعد الصلاة. فإن لم يفعل فقد أساء وتجزيه. قال مالك إذا أحدث في الخطبة أو في الاستسقاء تمادى لأنها بعد الصلاة. ولا ينصرف أيضًا غيرُه يحدث، وهو يخطب. وعنه روايتان في الجلوس قبل الخطبة الأولى. فوجه إثباته قياسًا على الجمعة. وأن فيه استراحة من حركة صعود المنبر واستظهارًا لاستقرار الناس في ¬

_ (¬1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم العيد وأبي بكر وعمر وعثمان فكلهم صلّى الخطبة بغير أذان ولا إقامة. حرز الأماني ح 1642. والبيهقي ج 3 ص 132. متفق عليه. وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة. وزاد ابن أبي شيبة في رواية مع علي ح 5677. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والبيهقي. الفتح الرباني ج 6 ص 132. (¬3) أن يقدموا - قل. (¬4) وبذلك - قل. (¬5) أخرجه البخاري في كتاب اليدين باب الخروج إلى المصلى بغير منبر ج 2 ص 22.

أماكنهم. ووجه نفيه أن خطبة الجمعة إنما يجلس في ابتدائها انتظارًا لفراغ المؤذنين. وليس في خطبة العيد أذان ينتظر. فاستغنى عن الجلوس في ابتدائها. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا صُلّيت العيد بالمصلى لم يُتنفل قبلها ولا بعدها. وروي ذلك عن علي وابن مسعود وحذيفة وابن عمر وجابر بن عبد الله وابن أبي أوفى. وبه قال ابن القاسم والزهري وابن حنبل وغيرهم. وقال الشافعي إنما يكره ذلك للإمام. ويجوز لغير الأمام أن يتنفل قبل الصلاة وبعدها. *وروى ذلك عن أنس وأبي هريرة وجابر ورافع بن خديج. وقال أبو حنيفة يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها* (¬1). وروى ذلك عن أبي مسعود البدري، وبه قال الأسود وعلقمة ومجاهد وابن أبي ليلى والنخعي والثوري والأوزاعي. وفي مختصر ابن شعبان: وأحب له أن لا يتنفل قبل الصلاة ولا بأس (¬2) به بعدها وقاله ابن وهب ولا بأس بالصلاة بعد صلاة العيد في المصلى. وقد قال بالمذكور في مختصر عبد الله، وذكر ابن شعبان بسنده عن ابن مسعود أنه خرج يوم عيد إلى الناس في الجبّان فجعل يهتف بصوته ويقول: يا أيها الناس إنه لا صلاة في يومكم هذا حتى يصلي الإِمام. وذكر بسنده أيضًا أن عليًّا استخلف أبا مسعود على الناس فخرج يوم عيد، فقال يا أيها الناس إنه ليس من السنّة أن يصلى قبل الإِمام. وأما إذا صليت العيد بالمسجد فعندنا فيه اختلاف. قال مالك مرة يتنفل قبل الصلاة وبعدها. وقال في الواضحة: لا يتنفل قبلُ ويتنفل بعدُ. وقال في المبسوط إذا صلى الإِمام العيدين في المسجد فلا أرى أن يُصلي أحد قبل الصلاة ولا بعدها، بذلك مضت السنّة. وحجتنا على من منع التنفل قبل الصلاة وبعدها قول ابن عباس إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الفطر وصلّى ركعتين ولم يتنفل قبلها ولا بعدها (¬3)، فقصر الشافعي ذلك على الإِمام. والشعبي - صلى الله عليه وسلم - إمام. وعدّينا نحن هذا الفعل إلى من سواه - صلى الله عليه وسلم -. وقد أحتج من فرّق بين ما ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) بأس = ساقطة -و-. (¬3) رواه مسلم بسنده إلى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم أضحى أو فطر فصلّي ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما. إكمال الإكمال ج 3 ص 39.

قبل الصلاة وما بعدها بأن عليًا رضي الله عنه رأى قومًا يصلون قبل صلاة العيد. فقال ما كان يفعل هذا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا يعارضه ما رويناه عن الصحابة في *ذلك فيما تقدم. وقد روى أنه قيل لعلي رضي الله عنه ألا تنهى عن ذلك فقال أكره أن أنهى عبدًا إذا صلى* (¬1). قال القاضي أبو محمَّد في غير هذا الكتاب إنما بني المصلى لصلاة مخصوصة. فيجب أن يختص بتلك الصلاة. وأيضًا فإنه موضع لا تتكرر فيه الصلاة. فلا يتنفل فيه على ما قلناه بخلاف المساجد التي تتكرر فيها الصلاة. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويكبّر خلف الصلوات. يبدأ (¬2) بالظهر من يوم النحر ويقطع إذا كبّر عقيب الصبح من رابعه. وهي خمس عشرة صلاة ولفظه الله أكبر، الله أكبر ثلاثًا نسقًا واحدًا (¬3). قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على ما قال في مبدإ التكبير ومنتهاه؟. 2 - ولِمَ اختار فيه ما ذكر من اللفظ؟. 3 - ومن الذي يخاطب به؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في مبتدإ (¬4) التكبير ومنتهاه. ولم يختلف مذهبنا في مبدئه أنه من ظهر يوم النحر. واختلف في منتهاه. فالمشهور ما ذكره القاضي أبو محمَّد أنه الصبح من آخر أيام التشريق. وروي ذلك عن عثمان وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وابن عباس وأبي سعيد الخدري. وذكر سحنون عن بعض أصحابنا أنه يقطع التكبير في الظهر من اليوم ¬

_ (¬1) ما بين النجمين هو -و- الحديث رواه البزار قال الهيثمي فيه من لم أعرفه. مجمع الزوائد ج 2 ص 203. (¬2) بدءًا -غ-. (¬3) ولفظه الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وإن شاء الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثًا -غ-. (¬4) مبدأ - قل.

الرابع. وأما الشافعي فإن له في المنتهى أيضًا قولين: أحدهما الصبح من آخر أيام التشريق كالمشهور عندنا. واختلف قوله على هذه الطريقة في المبدإ. فقال مرة كقولنا إنه من الظهر من يوم النحر (¬1). وقال مرة المغرب من ليلة النحر. وله قول آخر خالفنا فيه في المبدإ والمنتهى. وهو أنه (¬2) من الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. وروي ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وأبي ثور وأبي يوسف ومحمد. فصار للشافعي في المبتدأ (¬3) ثلاثة أقوال وفي المنتهى قولان. وقال النخعي وعلقمة وأبو حنيفة يكبّر من صبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر. وروي ذلك عن ابن مسعود. وروي عن ابن مسعود رواية أخرى إلى الظهر من يوم النحر. وقال الأوزاعي والمزني ويحيى بن سعيد الأنصاري يكبّر من الظهر يوم النحر إلى الظهر من اليوم الثالث من أيام التشريق. وقال داوود يكبّر من الظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق. وهو قول الزهري وابن جبير، وروي ذلك عن ابن عباس (¬4). وقال الحسن يكبّر من الظهر يوم النحر إلى الظهر من النفر الأول. وقال ابن عيينة أهل مني يكبّرون من الظهر يوم النحر. وأهل الأمصار يكبّرون غداة عرفة. وإحدى الروايتين عن أبي وائل أنه يكبّر من الظهر يوم عرفة إلى الظهر من يوم النجر. فصار جملة هذه الأقوال عشرة. وقول الحسن قد يوافق بعضها. فلهذا لم نَعُده. فأما مذهبنا فإنه احتج له بأن الناس تبعٌ للحاج. والحاج يكبّرون مع الرمي. فأول صلاة بعد الرمي هي الظهر. وآخر صلاة يصلونها بمنى الصبح من آخر أيام التشريق. وقال ابن الجهم ليس فيه حديث يعتمد عليه، ولكن قال سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ} (¬5). وقضاء النسك المُخرج من الحج طواف الإفاضة يوم النحر. فأول صلاة بعد ذلك صلاة الظهر. وأجمعوا أن التكبير في صلاة الظهر من يوم النحر واجب. فلا نزول عن ذلك حتى يأتي ¬

_ (¬1) فقال مرة مثل قولنا أنه الظهر من يوم النحر - قل. (¬2) أنه يكبر من الصبح - قل. (¬3) المبدأ - قل. (¬4) ابن مسعود - قل. (¬5) سورة البقرة، الآية: 200.

دليل (¬1) يمنعه. وإنما قلنا يكبّر أيام التشريق لقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (¬2). وإنما قطع في الصبح لأن الناس بمنى آخر صلاتهم الصبح. وإذا زالت الشمس رموا ونفروا. وأيضًا فإنه عمل أهل المدينة. وقد احتج الشافعي لقوله: يكبّر بعد المغرب من ليلة النحر بأن التكبير يستحب ليلة الفطر، فكذلك ليلة الأضحى. وهذا الأصل لا نسلمه له نحن. واحتج لقوله الثالث بما روى جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال الله أكبر الله أكبر. ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق (¬3). وأما أبو حنيفة فإنه يحتج بقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} (¬4). والأيام المعلومات هي العشر من ذي الحجة. وقد ثبت أنه لا يكبّر قبل يوم عرفة فيجب أن يكون المراد به يوم عرفة ويوم النحر. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما صفة التكبير فقال مالك في المدونة الله أكبر، الله أكبر (¬5). وروى ابن زياد عنه: نحن نستحسن ثلاثًا. فمن زاد أو نقص فلا حرج. وروى ابن القاسم وأشهب عنه أنه لم يحدّ عنه (¬6) ثلاثًا. وقال في مختصر ابن شعبان يكبّر خلف الصلوات في أيام التشريق ما شاء. إن شاء ثلاثًا وإن شاء أربعًا وإن شاء خمسًا ليس في ذلك شيء موصوف. وفي المختصر عن مالك ضي صفة التكبير، الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر. الله أكبر ولله الحمد. وقاله أشهب (¬7). وقالت الشافعية التكبير ثلاث. وما زاد فحسن. وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق يقول الله أكبر، الله أكبر ولا إله إلا الله والله أكبر، ولله الحمد. وروي ذلك عن عمر وابن مسعود. وقال ابن عباس: الله أكبر الله أكبر كبيرا كثيرا. الله أكبر تكبيرا الله أكبر وأجل الله أكبر وله ¬

_ (¬1) بدليل -و-. (¬2) سورة البقرة , الآية: 203. (¬3) أخرجه الدرقطني ونقد الزيلعي سنده. ج 2 ص 223/ 224 نصب الراية. (¬4) سورة الحج، الآية: 28. (¬5) الله أكبر الله أكبر الله أكبر - قل. (¬6) فيه - قل. (¬7) الشافعي -و-.

الحمد (¬1). وقال ابن عمر الله أكبر , الله أكبر والحمد لله ولا إله إلا الله *وحده لا شريك له* (¬2) له الملك وله الحمد هو علي كل شيء قدير. وقال الحكم وحمّاد ليس فيه شيء مؤقت. وقد كنا قدمنا قبل هذا حديث جابر وفيه الله أكبر الله أكبر. وقد حمل عليه أنه لم يقصد التكبير (¬3)، وإنما قصد بيان وقته (¬4). وقد كبّر جابر بنفسه خلف الصلاة ثلاثًا. وقال القاضي أبو محمَّد إنما اخترنا ما ذكرناه من التكبير لأنه مروي عن السلف. وقد قال القاضي أبو محمَّد أيضًا في كتابه هذا في التكبير أنه بنسق واحد. وذكر أبو محمَّد عبد الحق قول ابن حبيب في تكبير صلاة العيد يقف بين كل تكبيرتين هنيهة قدر ما يكبّر الناس. قال وقال بعض شيوخنا من أهل بلدنا وأما تكبير أيام التشريق فلم استحسن (¬5) فيه شيئًا من التربص. وكأنه رأى أنه ليس مثل العيدين. وقال أبو محمَّد عبد الحق يريد أنه في العيدين متى تابع التكبير خَلَّط على القوم. وأما تكبير أيام التشريق، فكل إنسان يكبّر بنفسه (¬6). ألا ترى أنه لو تركه الإِمام لكبّر القوم. وأما تكبير العيدين فلا يكبّرون إلا بتكبيره. إذ لا يخالفونه في الصلاة. وقد أضاف العلماء هذا التكبير لأيام التشريق. وقد قال محمَّد ابن أبي زمنين التشريق صلاة العيد. وإنما سميّت بذلك لأن وقتها حين شروق الشمس. ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ذبح قبل التشريق أعاد. وسميت الأيام كلها أيام التشريق حين كانت تبعًا ليوم النحر. وكذلك قال أبو عبيد. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما من يخاطب بالتكبير فقد قال مالك التكبير أيام التشريق على الرجال والنساء وأهل البوادي والمسافرين وغيرهم. واختلف المذهب في التكبير في إثر النافلة. فالمشهور أنه لا يكبّر في ¬

_ (¬1) الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر كبيرا. الله أكبر تكبيرا. الله أكبر وأجل. الله أكبر ولله الحمد - قل. (¬2) ما بين النجمين هو - و. (¬3) وقد حمل عليه أنه لم يتم استيفاء التكبير - قل. (¬4) وقت -و-. (¬5) فاستحسن - قل. (¬6) وليس يعتبر فيه بالإمام - قل.

إثرها. وبه قال أبو حنيفة وأحمد والثوري والشافعي في أحد قوليه. وفي مختصر ابن شعبان قال الواقدي قال مالك التكبير (¬1) دبر النافلة والمكتوبة على الرجال والنساء. وفي غير الصلاة وفي الطريق وغير ذلك. وقد قدمنا قول مالك رضي الله عنه أن التكبير على النساء والمسافرين. وفي المختصر لا يكبّر النساء إلا أن يكن معهن رجل. وليس على المسافر تكبير (¬2). وقال أيضًا لا يكبّر المنفرد. وقد روي أن ابن عمر رضي الله عنه كان إذا صلّى منفردًا لم يكبّر. وقال ابن مسعود ليس على الواحد ولا على الاثنين تكبير. وهذا بناء على أن الاثنين ليس بجماعة. وقال أشهب لا يكبّر من سجد للسهو بعد السلام إلا بعد سجوده وسلامه. وكذلك من يقضي ما فاته، فبعد قضائه. وحكى ابن شعبان في مختصره في الإِمام يسهو في أيام التشريق فيكبّر قبل السلام ساهيًا يسجد لسهوه بعد السلام ثم يكبّر. وذكر عن الشعبي فيمن فاته شيء من الصلاة خلف الإِمام في أيام التشريق، أنه يقوم فيقضي ثم يكبّر. وعن عطاء فيمن تفوته الصلاة يكبّر مع الإِمام ثم يقضي. وعن الشعبي أيضًا يكبّر ثم يقضي. وقال ابن سحنون من قضى صلاة من أيام التشريق بعد زوالها فلا تكبير عليه. وقال ابن الجوهري في كتاب الإجماع من نسي صلاة من أيام (¬3) التشريق فذكرها في أيام التكبير قبل خروجها صلاّها وكبّر بعقبها. وفي بعض التعاليق عن أبي عمران لا يكبّر لأن وقت التكبير لها (¬4) قد فات وإن كانت أيام التشريق لم تخرج. ¬

_ (¬1) قال مالك ليس التكبير -و-. (¬2) وفي المختصر لا يكبر النساء دبر الصلوات. وقال أبو حنيفة ليس على المسافر تكبير ولا على النساء إلا أن يكون معهن رجل. وكذلك قال أيضًا - قل. ولعل الصواب. وفي المختصر لا يكبر النساء دبر الصلوات إلا أن يكون معهن رجل. وقال أبو حنيفة ليس على المسافر تكبير ولا على النساء إلا أن يكون معهن رجل. وكذلك قال أيضًا. (¬3) من صلوات أيام - قل. (¬4) لها = ساقطة -و-.

وأما إذا نسي التكبير فقال مالك إذا نسي الإِمام التكبير حتى قام وذهب، فإن كان قريبًا قعد وكبّر، وإن تباعد فلا شيء عليه. قال ابن القاسم: وإن ذهب الإِمام والقوم جلوس كبّروا. وفي المختصر من نسي التكبير بعد صلاة أيام التشريق فليكبر ما دام في مجلسه. فإذا قام فلا شيء عليه. وقالت الشافعية من نسي التكبير أتى به متى ذكره. وقال أبو حنيفة إن تكلم أو خرج من المسجد سقط التكبير. وأما التكبير أيام التشريق في غير أعقاب الصلوات فقال مالك في المدونة: رأيت الناس يفعلون ذلك. وأما الذين أدركتهم واقتدي بهم فلم يكونوا يكبّرون إلا دُبر الصلوات. وقال في مختصر ابن شعبان لا بأس بتكبير أهل الآفاق أيام (¬1) مني في غير الصلاة. فأما الذين أدركت وأقتدي بهم فلم أرهم يكبّرون إلا خلف الصلوات. فكأنه في هذا القول رأى أن التكبير إنما هو اقتداء بأهل مني وهم يكبّرون دُبُر الصلوات وغيرها. فلا معنى للاقتداء بهم في بعض التكبيرَ دون بعض. وقال ابن حبيب يكبّر أهل الآفاق دبر الصلوات وفي خلال ذلك ولا يجهرون. وأهل مني يجهرون في كل الساعات إلى الزوال من اليوم الرابع فيرمون ثم ينصرفون بالتكبير والتهليل حتى يصلّوا الظهر والعصر بالمحصّب، ثم ينقطع التكبير. وفي (¬2) مختصر ابن شعبان وتسمع المرأة نفسها التكبير خلف الصلوات أيام التشريق كانت في المسجد أو في بيتها. وقال مالك في العتبية والتكبير خلف الصلوات في أرض العدو محدث أحدثه المسوّدة وكذلك دبر المغرب والصبح في بعض البلدان. ومما يلحق بهذا الفصل وإن لم يكن منه، دعاء الناس عند التلاقي في العيد. فحكى ابن حبيب عن مالك أنه سئل عن قول الرجل لأخيه في ¬

_ (¬1) في أيام -قل-. (¬2) وقال في مختصر -قل-.

العيدين تقبل الله منا ومنك وغفر لنا ولك. فقال *ما أعرفه ولا أنكره. قال ابن حبيب لم يعرفه سنة ولم ينكره لأنه قول حسن ورأيت من أدركت من أصحابه لا يبدأون به ولا* (¬1) ينكرونه على من قاله لهم ويردون عليه مثله. وفي مختصر ابن شعبان قال الواقدي: لا بأس أن يقول الرجل تقبّل الله منّا ومنك. وقاله واثلة بن الأسقع وأبو أمامة الباهلي. وقال ابن أبي ذئب هو محدث. وقاله الأوزاعي والقاسم بن محمَّد. وحكى الشيخ أبو محمَّد في النوادر أن واثلة بن الأسقع ردّ مثله على من قاله له. وأن مكحولًا كرهه. وعن عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل اليهود (¬2). ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = هو -و-. (¬2) عن عبادة بن الصامت قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الناس في العيدين تقبل الله منا ومنكم. قال ذلك فعل أهل الكتابين وكرهه. وفي سنده خالد بن زيد. قال البخاري منكر الحديث. سنن البيهقي ج 2 ص 320 وفي باب التهنئة بالعيد عن حبيب بن عمر الأنصاري قال حدثني عن أبيه قال: لقيت واثلة يوم عيد فقلت تقبل الله منا ومنك. قال تقبّل الله منا ومنك. رواه الطبراني في الكبير وحبيب مجهول عند الذهبي وذكره ابن حبان في الثقات. قال الهيثمي وأبوه لم أعرفه. مجمع الزوائد ج 1 ص 206.

باب صلاة الكسوف

باب صلاة الكسوف قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: صلاة كسوف الشمس سنة مؤكدة. وصفتها أن يدخل المسجد بغير أذان ولا إقامة فيكبّر للإحرام. ثم يقرأ سرًّا بأم القرآن وسورة (¬1). ويستحب له إطالتها ما لم يضر بمن خلفه إن كان إمامًا. ثم يركع ويطيل ركوعه كنحو (¬2) قراءته ثم يرفع (¬3) قائلًا سمع الله لمن حمده. ثم يقرأ بأم القرآن وسورة طويلة دون ما تقدم في الطول ثم يركع بقدر (¬4) قراءته ثم يرفع قائلًا سمع الله لمن حمده ثم يسجد سجدتين كسائر الصلوات ثم يأتي في الثانية بمثل ما أتى به في الأولى ثم يتشهد ويسلم فيذكّر ويعظ ويخوّف من غير خطبة مرتبة. ولا اجتماع لخسوف القمر ويصلي له الناس أفذاذًا كسائر النوافل. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن صفة صلاة الكسوف ما ذكر؟. 2 - ومن المخاطب بالصلاة لها؟. 3 - ولِمَ لمْ يجمّع في خسوف القمر؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في صلاة الكسوف. فذهب مالك رضي الله عنه إلى أنها ركوعان في كل ركعة. وبه قال الشافعي. ¬

_ (¬1) الواو = ساقطة -و- (¬2) كنحو من - الغاني. (¬3) يرفع رأسه - الغاني. (¬4) بعد -غ-.

وقال الثوري والنخعي وأبو حنيفة يصلي ركعتين كصلاة الصبح. وروي عن ابن عباس وحذيفة أنهم صلّوا في صلاة الكسوف ست ركعات وأربع سجدات. وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي عن علي بن أبي طالب (¬1) رضي الله عنه قال: انكسفت الشمس فقام علي وركع خمس ركعات وسجد سجدتين ثم فعل في الركعة الثانية مثل ذلك وسلّم. ثم قال ما صلاّها أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيري (¬2). وروي عن العلاء بن زياد أنه قال في صلاة الكسوف يقوم فيكبر و (¬3) يركع. فإذا قال سمع الله لمن حمده نظر فإن كان *لم ينجل قرأ ثم ركع. فإذا قال سمع الله لمن حمده نظر فإن كان* (¬4) قد تجلى سجد ثم شفع إليها ركعة أخرى. وإن كان لم تنجل لم يسجد أبدًا حتى تنجلي. وكان إسحاق بن راهويه يقول بعد أن ذكر صلاة الكسوف أربع ركعات في كعتين وست ركعات في ركعتين، وثماني ركعات في ركعتين. كل ذلك مؤتلف يصدق بعضه بعضًا، إلا أنه إنما كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد تجلت. فإذا تجلت (¬5) الشمس سجد. فمن ها هنا صارت زيادته الركعات فلا يجاوز (¬6) بذلك أربع ركعات في كل ركعة , لأنه لم يأتنا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من ذلك. ومن الناس من قال إن الأخبار في صلاة الكسوف ثابتة. فإن صلّى المصلي في كل ركعة ركوعين أو صلّى في كل ركعة (¬7) أو صلى في كل ركعة أربع ركعات (7) جاز ذلك كله. لأن الأخبار ثابتة في ذلك. ويدل على أن ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ - ابن أبي طالب. وهو خطأ. (¬2) عن علي قال كسفت الشمس في عهد علي. صلّى علي بالناس فقرأ {يس} ونحوها ثم ركع نحوًا من قدر سورة يدعو ويكبر ثم ركع قدر قراءته أيضًا ثم قال سمع الله لمن حمده ثم قام أيضًا حتى صلى أربع ركعات ثم قال سمع الله لمن حمده ثم سجد ثم قام إلى الركعة الثانية ففعل كفعله في الركعة الأولى ثم جلس يدعو ويرغب حتى انجلت الشمس ثم حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل -رواه أحمد- مجمع الزوائد ج 2 ص 207. ووثق رواته. (¬3) ثم - قل. (¬4) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬5) انجلت -و-. (¬6) لا يجاوزه -و-. (¬7) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب ثلاثة ركوعات.

النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الكسوف مرات. وهذا الذي اختار ابن المنذر. ودليلنا ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى والناس معه. فقام قيامًا طويلًا نحوًا من سورة البقرة ثم ركع ركوعًا طويلًا ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول. ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم قام قيامًا طويلأوهو دون القيام الأول. ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول. ثم سجد وانصرف (¬1). وأجاب أصحابنا عما يتعلق به أبو حنيفة من الأحاديث التي ظاهرها أنه صلّى ركعتين على أن المراد بها ركعتين يكرر فيهما الركوع. وهكذا أيضًا ما رواه قبيصة من أن الشمس خسفت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلّي ركعتين وأطال فيهما فلما تجلّت الشمس وانصرف قال: إنما هذه آية يخوّف الله بها عباده فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة (¬2). وقد يحتمل أيضًا أن يكون المراد بها أنها كأحدث صلاة في الركوع والسجود على الجملة لا في نفي تكريرها. ونبّه على هذا لأن الصلوات في الشريعة منها ما لا ركوع فيه ولا سجود كصلاة الجنازة. ومنها ما فيه زيادة تكبير كصلاة العيدين. فنبّه على أن هذه الصلاة لم تخالف الصلاة المكتوبة كما خالفتها صلاة الجنازة وصلاة العيدين. وقد أجاب أصحاب أبي حنيفة عما تعلقنا به من الأحاديث المتضمنة لتكرير الركوع بما نفس استماعه (¬3) يغنيك عن نقضه ودفاعه. وذلك أنهم قالوا لما أطال - صلى الله عليه وسلم - الركوع رفع بعض الناس رؤوسهم ليشاهدوا ما هو عليه مخافة أن يكون حبسه عن الرفع عائق أو يكون رفع ولم يشعروا به *فلما رأوه باقيًا على ما كان عليه عادوا للركوع فظن من رآهم أن الركوع قصد إلى تكريره* (¬4). وهذا سوء ظن بالرواة. وإضافة الوهم والغلط إليهم من غير سبب اقتضى ذلك. ولو فتح هذا الباب ¬

_ (¬1) البخاري ج 2 ص 46. ومسلم ج 2 ص 626. (¬2) عن أبي قلابة عن قبيصة الهلالي قال كسفت الشمس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلّى بهم ركعتين أطال فيهما القيام. قال: وانجلت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما الآية تخويفًا يخوف الله بها عباده. فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها لا المكتوبة. السنن الكبرى ج 3 ص 334. (¬3) بما في متابعته يغنيك - قل. (¬4) ما بين النجمين = محو -و-.

لبطل كثير مما نقلوه من الشرائع. وكيف يظن عاقل هذا أبدًا ويقول ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول. فإذا كان القيام الأول بقدر سورة البقرة والثاني دونه، فكيف يكون قيام قُدّر بدون سورة البقرة أنه قيام اختياري. هذا لا خفاء في فساده. وأما ما ذكره القاضي أبو محمَّد من أن القراءة فيها سر (¬1) فهو المشهور من مذهبنا وبه قال الشافعي. ورَوَى الترمذي عن مالك أنه يجهر فيها بالقراءة. وذكر ابن شعبان في مختصره أن الواقدي ذكر أن مالكًا وابن أبي ذئب قال يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف (¬2). فذكر ابن شعبان أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جهر بالقراءة فيها وأن عبد العزيز بن الماجشون قال سمعت أبان بن عثمان يجهر فيها فقرأ: سأل سائل (¬3). وبالجهر قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد. وفعله عبد (¬4) بن يزيد. وبحضرته البَرَاء بن عازب وزيد بن أرقم وهو اختيار ابن المنذر. فوجه القول بالإسرار قول ابن عباس خسفت الشمس فصلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت إلى جنبه فما سمعت له حرفًا (¬5). وأيضًا فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: حزرت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيت قراءته في الركعة الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية بسورة آل عمران. وأيضًا فإنها صلاة نهار (¬6)، وصلاة النهار عجماء كما ورد الشرع به. ووجه القول القول بالإجهار وهو اختيار بعض أشياخي ما خرجه البخاري ومسلم (¬7) من أنه - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) تسر - قل. (¬2) الخسوف -و-. (¬3) سورة المعارج، الآية: 1. (¬4) عبد الله - قل. (¬5) قال صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخسوف فلم أسمع فيها منه حرفًا. رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط. وفي سنده ابن لهيعة. مجمع الزوائد ج 2 ص 207. وفي حديث بسرة بن جندب. قال فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا. مجمع الزوائد ج 2 ص 206 هو من رواية محمَّد بن إسحاق بإسناده إلى عائشة. نصب الراية ج 1 ص 233. (¬6) والأصل أن صلاة النهار - قل. (¬7) قل.

جهر فيها بالقراءة (¬1). والرواية عن عائشة رضي الله عنها اختلفت. فروي عنها ما قدمنا استدلال بعض العلماء به على أنه يقتضي الإسرار وإن كان فيه احتمال لأن تكون بعيدة منه. فلهذا حزرت قراءته. وروي عنها أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - جهر فيها بالقراءة. وأيضًا فإن السنن المقامة بالنهار كالعيدين والاستسقاء يجهر فيها بالقراءة. فكذلك هذه السنّة الأخرى. وأما ما ذكره القاضي أبو محمَّد من أن القيام يطال ما لم يلحق منه ضرر بمن كان خلف الإِمام، فإن ظاهره نفي التحديد. ولكن قال مالك في المختصر يدخل الإِمام المسجد بغير أذان ولا إقامة. ثم يكبّر تكبيرة واحدة ثم يقرأ سرًّا بأم القرآن بعدها قراءة طويلة بنحو سورة البقرة. ثم يركع طويلًا نحو قراءته ثم يركع فيقول سمع الله لمن حمده ثم يقرأ بأم القرآن ثم يقرأ قراءة طويلة بنحو سورة آل عمران ثم يركع نحو قراءته ثم يرفع فيقول سمع الله لمن حمده ثم يسجد سجدتين تامتين لا تطويل فيهما. ثم يقوم فيقرأ ويفعل كفعله في الأولى (¬2). إلا أن القراءة دوك ما قبلها، يقرأ للأولى بنحو النساء. وبعد رفع رأسه بنحو المائدة مع أم القرآن قبل كل سورة. ووصف الشافعي صلاة الكسوف فقال إذا أراد أن يصلي صلاة الكسوف كبّر ودعا دعاء الافتتاح. وتعوذ وقرأ فاتحة الكتاب وسورة البقرة إن كان يحسنها ويقرأ غيرها إن لم يحسنها (¬3). ثم يركع فيسبّح الله تعالى بقدر مائة آية من سورة البقرة ثم يرفع فيقرأ (¬4) بفاتحة الكتاب وبقدر مائتي آية من سورة البقرة ثم يركع بقدر ما يلي الركوع. وفي بعض النسخ بقدر ثلثي (¬5) ركوعه الأول ثم يسجد سجدتين يطيل السجود فيهما ثم يقوم إلى الركعة الثانية فيقرأ فيها بأم القرآن وبقدر مائة وخمسين آية من سورة البقرة. ثم يركع فيسبّح (¬6) ¬

_ (¬1) البخاري ج 1 ص 49 ومسلم ج 2 ص 620. حديث 5 - 901. (¬2) في الأول - قل. (¬3) أو بقدرها من غيرها إن لم يحسنها - قل. (¬4) ويقرأ - قل. (¬5) بقدر ركوعه التي تلي ركوعه -و-. (¬6) فيسبح الله بقدر - قل.

بقدر سبعين (¬1) آية من سورة البقرة، وفي القيام الثاني بسورة آل عمران. وفي القيام الأول من الثانية سورة النساء. وفي القيام الَثاني من الثانية سورة المائدة. ويكون ركوعه نحوًا من قيامه، وسجوده نحوًا من ركوعه إلى أن تنجلي الشمس (¬2). واختلفت الأحاديث في ذلك فلم يرد في أكثرها حدّ في القيام. وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في الأولى بنحو سورة البقرة ثم دون ذلك (¬3). وإذا كان قد ورد الأمر بالصلاة حتى تنجلي الشمس. ومعلوم أن مكث الكسوف يختلف فيقرب الإنجلاء مرة، ويبعد أخرى. فينبغي أن تكون الصلاة تطال وتقصر لحسب طوله وقصره. لكن المصلي إذا لحقه ضرر من الإطالة سقط عنه ما يضره ورجع إلى الدعاء. واختلف في إطالة السجود فقال ابن القاسم في المدونة يطال. وقال مالك في المختصر لا يطال. وقد خرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما سجدت سجودًا قط كان أطول منه (¬4). وهذا فيه حجة لما ذهب إليه ابن القاسم. واختلف المذهب أيضًا في افتتاح القيام الثاني من (¬5) كل ركعة بأم القرآن فقال مالك يستفتح كل ركعة بأم القرآن. وقال ابن مسلمة ليس ذلك عليه. فوجه قول مالك أن الركوع قد حال بين القراءتين فاقتضى الافتتاح بقراءة أم القرآن كما لو حال بين القراءتين ركوع وسجود. ووجه قول *ابن مسلمة ¬

_ (¬1) خمسين -و-. (¬2) في مختصر المزني ثم يكبر ويقرأ في القيام الأول بعد أم القرآن بسورة البقرة إن كان يحفظها أو قدرها من القرآن إن كان لا يحفظها. ثم يركع ويطيل ويجعل ركوعه قدر مائة آية من سورة البقرة. ثم يرفع فيقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. ثم يقرأ بأم القرآن وقدر مائة آية من البقرة. ثم يركع بقدر ما يلي ركوعه الأول. ثم يرفع فيسجد سجدتين. ثم يقوم في الركعة الثانية فيقرأ بأم القرآن وقدر مائة وخمسين آية من البقرة. ثم يركع بقدر سبعين آية من البقرة. ثم يرفع فيقرأ بأم القرآن وقدر مائة آية من البقرة. ثم يركع بقدر خمسين آية من البقرة ثم يرفع ثم يسجد وإن جاوز هذا أو قصّر عنه فإذا قرأ بأم القرآن أجزأه. مختصر المزني ج 1 ص 157 - 158. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) الحديث أخرجه النسائي ج 3 ص 136 - شرح السيوطي. (¬5) في - قل.

أن له ركوعين في كل ركعة مقدار ركعة واحدة. وإلركعة الواحدة لا تكون فيها قراءة* (¬1) أم القرآن. وبهذا التقدير كان من فاته الركوع الأول أو الركعة الأولى فأدرك الثاني ورعف في الثالث وأدرك الرابع لا يقضي شيئًا. لأنه بمثابة من لم يفته إلا قيام الركعة. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: ذكر ابن حبيب أن صلاة الكسوف سنة على الرجال والنساء ومن عقل الصلاة من الصبيان والمسافرين والعبيد. وقال في المدونة أنه يخاطب بها المقيم والمسافر والعبد. وقال أشهب من لم يقدر أن يصليها مع الإِمام من النساء والضعفاء فلهم أن يصلوها أفذاذًا أو بإمام، ومع الناس أحب إلى لمن قدر. ولمالك في العتبية إذا صلاها أهل البادية فلا بأس أن يؤمهم أحد منهم (¬2)، وفي المختصر ويصليها أهل البدو والحضر ومن في السفر يصلي بهم رجل منهم. ويصليها الرجل وحده. ومن فاتته مع الإِمام فليس عليه أن يصليها. فإن فعل ما دامت الشمس منكسفة فلا بأس. وقال في مختصر ابن شعبان إذا كانت قرية فيها خمسون رجلًا ومسجد يجمّعون فيه الصلوات فلا بأس أن يجمعوا صلاة الخسوف. وتصلي المرأة صلاة الخسوف (¬3) في بيتها. ومن أعجله السير في السفر فليس عليه صلاة الكسوف (¬4). فهذا الذي حكاه ابن شعبان من اعتبار خمسين رجلًا يقتضي أنها كصلاة الجمعة فيمن تجب عليه. هكذا قال بعض أشياخي والذي حكاه ابن شعبان من صلاة المرأة في بيتها واشتراطه عجلة المسافر في سقوط صلاة الكسوف (4) قد يشير إلى خلاف هذا التأويل. وقد قال أبو محمَّد عبد الحق في قوله في الكتاب تصلي المرأة في بيتها صلاة الكسوف. ولم يقل ذلك في العيدين إلا أن تشاء أن ذلك لعموم قوله: فافزعوا إلى الصلاة (¬5). ولأنها صلاة رهبة فأمر بها كل مكلف. وصلاة العيد صلاة شكر ومباهاة فطريقهما مختلفة. فاختلف الحكم فيهما بين الرجال ¬

_ (¬1) ما بين النجمين هو -و- هكذا في قل. (¬2) أحدهم - قل. (¬3) وتصليها المرأة في بيتها - قل. (¬4) هكذا في جميع النسخ. (¬5) أخرجه البخاري ومسلم - اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 176 حديث 521.

والنساء. وذهب الثوري ومحمد إلى أنه لا يجوز فعل صلاة الكسوف منفردًا قياسًا على الجمعة. وصلاة الكسوف إذا لم تصل في حينه فلا تصلّى بعو انجلائه. وإذا صلوها ففرغوا والشمس على حالها فليس عليهم أن يصلوا ثانية. ولكن الدعاء والنافلة إن أحب. قاله في مختصر ابن شعبان. ولو تجلت الشمس قبل فراغهم من الصلاة. فقال ابن حارث اتفقوا أن الشمس إذا تجلّت بعد أن صلى الإِمام ركعتين وسجدتين أنه لا يقطع الصلاة. واختلفوا كيف يصلي ما بقي. فقال أصبغ في المستخرجة يصلي على سنتها حتى يفرغ منها ولا ينصرف إلا على شفع. وروي عن سحنون أنه يصلي ركعة وسجدتين ثم ينصرف ولا يصلي باقي الصلاة على سنة صلاة الخسوف. واختلفوا في الوقت الذي تصلّى فيه. فقال في المدونة تصلي ما لم تزل الشمس ورآها كالعيدين في اعتبار هذا الوقت. وروى عنه ابن وهب أنها تُصلى في كل وقت صلاة وإن زالت الشمس. وفي كتاب ابن حبيب، ووقتها من حين تخسف الشمس إلى أن تحرم الصلاة بعد العصر. قاله مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ. ولم يروا قول ابن القاسم إلى الزوال. ولا تصلّى في طلوع الشمس قبل أن تبرز وتحل الصلاة. ولكن يدعون ويذكرون الله، فإن تمادت صلوها. فوجه التوقيت بما قبل الزوال القياس على العيدين. ووجه رواية ابن وهب تجوله: فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة (¬1). فعم الأوقات التي هي وقت الصلاة. ووجه قول مطرف أنها صلاة معلقة بسبب، فوجب أن تُصلى عند وجود (¬2) سببها ما لم يمنع من ذلك مانع. ويخصص عموم الحديث مخصص. وورُود النهي عن الصلاة في الوقت الذي أشار إليه مانع من صلاة الكسوف. ومخصص لعموم حديثها. قال أبو محمَّد عبد الحق وإذا اجتمع خسوف واستسقاء وعيد وجمعة في ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) وجوب -و-.

يوم واحد، فيبدأ بالخسوف لئلا تنجلي الشمس ثم بالعيد ثم بالجمعة. ويترك الاستسقاء ليوم آخر, لأن العيد يوم تجمّل ومباهاة. والاستسقاء ليس يوم تجمّل. وإنما هو رهبة وسكون فيؤخره. فلو فعل ذلك ما كان ضيقًا (¬1) في ذلك اليوم. هكذا صور هذا السؤال الشيخ أبو محمَّد عبد الحق ولم أزل أعجب من إغفاله فيه إذ لا يكون كسوف يوم عيد ولا يتفق ذلك. وإنما يكون كسوف الشمس في آخر الشهر وعند انسلاخه. فأما أصحاب علم الهيئة الذين لا يؤمنون بالشرائع فإنهم يحملون كون الكسوف في حين انسلاخ المشهور اجتماع الشمس والقمر. لأن علة كسوف الشمس عندهم ستر القمر لها عند اجتماعه معها. ولا يكون ذلك إلا في السرار. والعيد لا يكون إلا في أول يوم بعد الاستهلال أو في عشر بعده. فلا يجتمع العيد والكسوف. وأما نحن فنُجوّز أن يكسف الله سبحانه بالشمس في أي يوم شاء من أيام الشهر. ومن أنكر اقتدار الباري سبحانه على ذلك خرج عن الملة. ولكن العادة جرت بأن الكسوف لا يكون إلا عند السرار عادة مطردة لم نشاهد خلافها ولا نقل عن عصر من الأعصار خلاف هذا. وإن الكسوف (¬2) بهذا، فلا معنى لتصوير خوارق العادة. ولقد وقع الشافعي على عظيم شأنه في هذا التصوير. ورأيته قد صور اجتماع العيد والكسوف وتكلم على ذلك. وذكرنا ما تقدم منه. وهذا لا معنى له إلا أن يراد به معرفة فقه المسئلة لو خرقت العادة. فوقعت المسئلة. وأما الموضع الذي يصلي فيه فقال مالك في المختصر إذا خسفت الشمس خرج الإِمام إلى المسجد وخرج معه الناس فيدخل المسجد بغير أذان ولا إقامة ثم يكبر تكبيرة واحدة ويقرأ. وفي كتاب ابن حبيب للإمام أن يصلي في المسجد تحت سقفه أو في صحنه وإن شاء خارجًا في البَراز وقاله أصبغ. وهذا الذي حكاه ابن حبيب عن أصبغ حكى عنه ابن مزين خلافه فقال قال أصبغ: وتصلّى صلاة كسوف الشمس في المسجد ولا يبرز لها كما يبرز للعيدين والاستسقاء. ¬

_ (¬1) ما كان طائعًا -قل-. (¬2) نبه الناسخ على أن النسخة بها نقص. وقد أتممنا النقص من -قل- إلى قوله ويأمرهم بالتقرب.

فوجه الاقتصار على المسجد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه. وأيضًا فربما كان في خروجهم إلى البَراز ذهاب الكسوف أو ذهاب كله (¬1). ووجه إباحة صلاتها في البَراز قياسًا على غيرها من السنن التي يجمع لها. قال فالشأن إقامتها خارجًا في البَراز. وقد قدمنا قول مالك في المختصرًا ن الإِمام إذا فرغ من صلاة الكسوف يستقبل الناس فيذكرهم ويخوّفهم، ويأمرهم إذا رأوا ذلك أن يدعوا الله ويكبّروا وينصرفوا. وظاهر مذهبنا أنه لا خطبة بعد الكسوف. وبه قال الشافعي. وقال الشافعي بل يخطب ويحتج بحديث عائشة وفيه فلما تجلت الشمس انصرف فخطب الناس وحمد الله وأثنى عليه. وقال يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله. الحديث (¬2). ويحتج أصحابنا بأنه لو كان خطب لنقل كما نقلت خطبة العيد وغيرها. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما كسوف القمر فقال مالك في المدونة تصلى ركعتين كالنافلة ويدعون ولا يجمعون. وقال عنه علي يفزع الناس في خسوف القمر إلى الجامع فيصلون أفذاذًا ويكبّرون ويدعون. قال أشهب يفزع إلى الصلاة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والنافلة ركعتان. ومن أصل كتاب عبد العزيز بن أبي سلمة ذكر صلاة خسوف الشمس وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمّعهم فيها ولم يبلغنا أنه جمعهم لخسوف القمر. قال فنحن إذا كنا فرادى في خسوف القمر صلّينا هذه الصلاة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فافزعوا إلى الصلاة (¬3). وذهب الشافعي إلى أن الصلاة تسن في خسوف القمر كما تسن في كسوف الشمس. ودليلنا ما ذكر ابن حبيب عن ابن عباس أنه قال: خسف القمر بعهد النبي عليه السلام فلم يجمعنا إلى الصلاة معه كما فعل في خسوف الشمس فرأيته صلى ركعتين فأطالهما وما رأيته صلى نافلة بطولها ثم انصرف. ولأنها آية ليليّة ¬

_ (¬1) هكذا = ذهاب الكسوف أو ذهاب كله. ولعلها جله. (¬2) أخرجه البخاري ج 2 ص 44. وص 49 بلفظ خطب. ومسلم ج 2 ص 10 حديث 8901. (¬3) تقدم تخريجه.

قد تدرك الناس نيامًا فيشق اغتفارها (¬1) والخروج لها فلم تسنّ كما سُنّ كسوف الشمس. واحتجت الشافعية بما روى الحسن البصري قال: خسف القمر وابن عباس بالبصرة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلّي بنا ركعتين في كل ركعة ركعتين. فلما فرغ ذلك وخطبنا وقال إنما صليت لأني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي. وأما الموضع الذي تصلّى فيه فطاهر المذهب أن الناس يصلونها في بيوتهم ولا يكلّفون الخروج ليلًا لمشقة ذلك عليهم. وقد قدمنا ما رواه على أن الناس يفزعون إلى الجامع فيصلون أفذاذًا. وأما الجمع لها فقال مالك في المدونة والمجموعة لا يجمّعون. وأجاز أشهب الجمع. وأما الصلاة في غير كسوف النيّرين كالزلازل والظلمة والريح الشديدة وما في معنى ذلك مما يخاف أن يكون عقوبة من الله سبحانه. فقال أشهب في المجموعة الصلاة حسنة في الريح والظلمة فرادى أو جماعة إذا لم يجمعهم الإِمام ويحملهم عليه. ولكن يجتمع النفر يؤمهم أحدهم ويدعون ويؤمر في مثل هذه الإفزاع بالصلاة. وروي نحو ذلك عن النبي عليه السلام. وكره في المدونة السجود عند الزلازل وسجود الشكر. وروي عنه إجازة السجود عند النعمة والشكر. قال بعض أشياخي يتخرج على هذا جواز السجود عند الخوف من زلازل وغيرها يسجد هذا شكرًا وهذا خوفًا. وأما الصلاة حينئذ فتجوز قولًا واحدًا. وقالت الشافعية لا تُسنّ الصلاة لغير الشكر والآيات بل يكبّرون ويدعون فان صلوا منفردين لكي لا يكونوا غافلين لم يكن به بأس. وذهبت طائفة إلى أنه يصلي عند الزلازل وغيرها من الآيات كما تصلّى عند كسوف الشمس والقمر. وروي ذلك عن أحمد وإسحاق وأبي ثور. وقال أبو حنيفة الصلاة في ذلك حسنة وكذلك في الريح والظلمة الشديدة. فالدليل على أن الصلاة لا تسن حينئذ أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلّى لشيء من ذلك ولم يَخلُ عصره - صلى الله عليه وسلم - من أن يكون فيه شيء من ذلك. ¬

_ (¬1) هكذا. ولعل الصواب حضورها.

باب صلاة الاستسقاء

باب صلاة الاستسقاء قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: وصلاة الاستسقاء سنة. تفعل عند تأخر (¬1) المطر والحاجة إليه. ومن سننها (¬2) المصلى والخطبة ويخرج الإِمام والناس معه متخشعين متواضعين غير مظهري زينة. وتقدّم على الخطبة ولا يؤذن لها ولا يقام. وهي ركعتان كسائر الصلوات ويكبّر فيها التكبير المعهود ويجهر (¬3) بالقراعة بسبح ونحوه فإذا فرغ صعد المنبر متوكئًا على قوس أو عصا فيجلس فإذا أخذ الناس مجالسهم قام فخطب وأكثر من الاستغفار ثم يجلس ثم يقوم فيخطب الثانية. فإذا فرغ استقبل القبلة وحوّل رداءه فجعل ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه. ولا ينكسه ثم يدعو الله تعالى بما تيسر له وهو قائم والناس جلوس. وإن احتيج إلى تكرار الخروج لصلاة الاستسقاء لِتأخّر المطر، جاز. وفعل في كل مرة مثل ما ذكرناه. وليس من سننها (¬4) تقديم صوم أو صدقة على فعلها. ولا يمنع من تطوّع به. قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن الاستسقاء مشروع؟. 2 - وما الذي يفعل فيه؟. 3 - ومن يخرج إليها؟. ¬

_ (¬1) تأخير -غ-. (¬2) من سنتها -غ-. (¬3) ويجهر فيها -غ-. (¬4) سنتها -غ-.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد كان الاستسقاء في شرع من كان قبلنا. قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} (¬1). الآية. وأما شرعنا بالاستسقاء أيضًا (¬2). قال أنس جاء رجل والشعبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب يوم الجحعة فقال: يا رسول الله قحط المطر وهلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا. قال فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: اللهم اسقنا اللهم اللهم اسقنا. قال أنس لا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئًا. وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال فطلعت من ورائه سحابة. مثل الترس. فلما توسطت السماء انتشرف ثم أمطرت. قال: والله ما رأينا الشمس ستًا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبله قائمًا. فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والأجام والضراب والأودية ومنابت الشجر. قال فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس (¬3). وروى عباد بن تميم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فتوجه إلى القبلة قائمًا يدعو وقلب رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة وانصرف. وقد خرّج هذين الحديثين الموطأ والصحيحان. وإذا ثبت أن الاستسقاء مشروع فإنه مشروع عند الحاجة إليه. والحاجة إليه تكون عند المَحْل والجدب. فيستسقي بحياة الزرع وغيره. وأما (¬4) عند الحاجة لشرب الحيوان الإنساني أو البهائم كما يحتاج إلى ذلك من كان في صحراء أو سفينة أو أهل بلد آخر أو زرعهم ولكنهم عطاش. وفي العتبية أن برقة إذا كثر مطرهم زرعوا واديهم بما يشربون فأتاهم مطر فزرعوا عليه زرعًا كثيرًا ولم يقبل واديهم بما يشربون أيستسقون؟ قال نعم. قيل له قد قيل إنما الاستسقاء إذا لم يكن مطر ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 60. (¬2) هكذا. ولعله فالاستسقاء بالفاء. (¬3) النص منقول عن صحيح البخاري ص 34/ 35 ج 2 والنص الموجود في قل فيه كثير من النقص والتحريف. (¬4) هكذا ولعل الصواب وكذا.

وأنتم قد مطرتم وزرعتم عليه زرعًا كثيرًا. فقال ما قالوا شيئًا ولا بأس بذلك (¬1). وإذا جاء من الماء ما هو دون الكفاية لكان لهم الاستسقاء. والسؤال في الزيادة. قال مالك وكل قوم احتاجوا إلى زيادة ما عندهم فلا بأس أن يستسقوا. وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا استسقاء المخصبين للمجدبين. لأنه سبحانه قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (¬2). وقال عليه السلام في حديث الرقية: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (¬3). وقال دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة (¬4). وقد روى بعض أشياخي أن هذا مما يندب إليه. وأن الاستسقاء للتوسعة مباح ولحياة الزرع أو عطش الحيوان سنة. وفي استسقاء المخصبين للمجدبين عندي نظر. والظواهر التي ذكروها لا تتضمن إقامة صلاة الاستسقاء ليسقى قوم آخرون غير المصلين. وإنما تحمل الظواهر على الدعاء لهم والرغبة إلى الله سبحانه في رفع اللأواء عن سائر المسلمين. ولا شك أن دعاء المخصبين للمجدبين مندوب إليه. وأما إقامة سنّة صلاة الاستسقاء في مثل هذا فلم يقم عليه دليل. وليس كل ما أمر الشرع بالدعاء فيه والابتهال سن فيه الصلاة. ألا ترى أن المطر إذا أضر، دعا الناس بالاستصحاء وسألوا الله تعالى فيه ولم يقيموا له صلاة كما أقاموها للاستسقاء. ولم يستعمل في هذا القياس. وإن كان المطر إذا أفرط أضرّ كما يضرّ القحط وأفسد الزرع والربيع. وقد تقدم في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى ولم ينقل أنه صلى لذلك. فإذا ثبت ما قلناه في الاستسقاء وسنته فإنه يفعل لري نهر تأخر كما يفعل بنزول الغيث. قال ابن حبيب ولا بأس أن يستسقي أيامًا متوالية ولا بأس أن يستسقى في إبطاء النيل. قال أصبغ قد فعل ذلك عندنا بمصر خمسة وعشرين يومًا متوالية يستسقون على سنة الاستسقاء. وحضر ذلك ابن القاسم وابن وهب ورجال صالحون فلم ينكروه. وقد يحتج لجواز التكرير بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل. ¬

_ (¬1) البيان والتحصيل. كتاب الصلاة الثالث ج 1 ص 433. (¬2) سورة المائدة، الآية: 2 (¬3) إكمال الإكمال ج 6 ص 15. (¬4) مسلم. كتاب الذكر. إكمال الإكمال ج 7 ص 147.

الحديث (¬1). وخرّج فيه مسلم قيل يا رسول الله: ما الاستعجال؟ قال: يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي فيتحسر عند ذلك (¬2). والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: ينبغي للإمام أن يأمر الناس قبل الاستسقاء بالتوبة والخروج من المظالم إلى أهلها مخافة أن تكون معاصيهم سبب منع الغيث. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (¬3). وأيضًا فقد تمنع المظالم من إجابة الدعاء. وقد خرّج مسلم قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام. فأنّى يستجاب لذلك (¬4) ويأمرهم بالتقرب بالصدقات لعلهم إن أطعموا فقراءهم أطعمهم والجميع فقراء الله. واختلف في الصوم فقال مالك في المختصر ليس على الناس صيام قبل الاستسقاء فمن تطوع بخير فهو خير له. وحكى عنه ابن شعبان في مختصره ما سمعت أنه يُصام قبل الاستسقاء وأنكر فعل ذلك. وقد قال بالمذكور في مختصر عبد الله *واستحب ابن حبيب أن يقدموا صوم ثلاثة أيام آخرها اليوم الذي يستسقون فيه، (¬5). ويمكن أن يكون رأى ذلك رجاء أن يكون التجوع لله سبحانه سببًا للخصب الذي به يشبعون. وقال ابن الماجشون يؤمرون بما يرقهم (¬6) ويدخل عليهم سبب خشوع وأن يصوموا اليوم واليومين والثلاثة. وهذا قول مالك والمغيرة. ومن حضرناه استسقى من وُلاتنا. قال ابن حبيب وليأمرهم الإِمام أن يصبحوا صيامًا. وقد فعله عمر. وأمرهم بالصدقة. وصيام ثلاثة أيام كان أحب إليّ (¬7). وقد فعله موسى بن نصير بإفريقية وخرج بالناس، فجعل ¬

_ (¬1) رواه مسلم. إكمال الاكمال ج 7 ص 147. (¬2) رواه مسلم. إكمال الأكمال ج 7 ص 148. (¬3) سورة الشورى، الآية: 30. (¬4) إلى هنا تم النقص الذي نبه عليه في نسخه -و- والحديث أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 3 ص 151. (¬5) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬6) يذلهم - قل. (¬7) وقد فعله عمر. ولو أمرهم بالصلاة وصيام ثلاثة أيام كان أحب إلى - قل.

الصبيان على حدة والنساء على حدة. والإبل والبقر على حدة، وأهل الذمة على حدة، (¬1) وصلّى وخطب ولم يدع في خطبته لأمير المؤمنين. فقيل له، فقال ليس هذا يوم ذلك، ودعا، ودعا الناس إلى نصف النهار. واستحسن ذلك بعض علماء المدينة. وقال (¬2) أراد استجلاب رقة القلوب بما فعل. وقال ابن حبيب ومن سنتها أن يخرج الناس مُشاة في بذلتهم ولا يلبسون ثياب الجمعة، بسكينة ووقار متواضعين (¬3) متخشعين متورعين (¬4)، وجلين إلى مصلاهم. فإذا ارتفعت الشمس خرج الإِمام ماشيًا متواضعًا في بذلته متوكئًا على عصا أو غير متوكىء حتى يأتي المصلّى. وقال مالك في المختصر صلاة الاستسقاء سنة. فإذا خرج الإِمام إليها خرج من منزله ماشيًا متواضعًا، غير مظهر لعجز (¬5) ولا زينة، راجيًا لما عند الله لا يكبّر في ممشاه. وقال ابن عباس خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستسقاء متذللًا متواضعًا حتى أتى. فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في البكاء والتضرع وصلّى ركعتين كما يصلي في العيد (¬6). قال الترمذي وهذا حديث صحيح ذكره في مسنده. ومقتضى الحال يقتضي أن يكون خروج الناس على صفة التذلل والخشوع لأن العبد الجاني إذا رأى مخائل العقوبة المهلكة من سيده (¬7) لم يأت راغبًا في رفع العقوبة والصفح إلا وأمارات الذل بادية عليه، والخوف آخذ بناصيته. وإذا أتى الإِمام المصلّى. قال مالك في المختصر يتقدم بالناس بلا أذان ولا إقامة فيكبّر تكبيرة واحدة ثم يقرأ بأم القرآن وسورة جهرًا ثم يركع ويسجد ثم ¬

_ (¬1) وأهل الذمة = ساقط - قل. (¬2) وقد - قل. (¬3) متواضعين = ساقطة -و-. (¬4) لم يتضح لي الخروج في حالة تورع. (¬5) هكذا. (¬6) العارضة ج 3 ص 31. ونصب الراية ج 2 ص 238. (¬7) من مولاه - قل.

يصلي ركعة أخرى كذلك ويتشهد ويسلّم. ويستقبل الناس للخطبة يبدأ فيجلس فإذا اطمأن الناس قام متوكئًا على عصا أو قوس. وذكر ابن حبيب أن الشمس إذا ارتفعت خرج الإِمام إلى المصلى فصلّي ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وقصار المفصّل جهرًا، ثم يقوم فيجلس في مقام خطبته مستقبلًا للناس جلسة خفيفة ثم يقوم متوكئًا على عصا فيخطب خطبتين يجلس بينهما فيأمر بطاعة الله سبحانه ويحذّر عن المعصية (¬1) من بأسه ونقمته، ويحض على الصدقة، والاجتهاد في الدعاء أن يرفع عنهم المحل. حتى إذا لم يبق من الخطبة الأخيرة غير الدعاء والاستغفار استقبل القبلة ثم حوّل رداءه قائمًا ما على الأيمن على الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن. ويحوّل الناس أرديتهم جلوسًا ثم يرفع يديه ظهورهما إلى السماء تلقاء وجهه ويدعو (¬2) ويفعل الناس مثله جلوسًا ويبتهلون بالدعاء. وأكثر ذلك الاستغفار حتى يطول ذلك ويرتفع النهار. ثم إن شاء الإِمام انصرف على ذلك وإن شاء تحوّل إليهم فيكلمهم بكلمات ويركبهم في الدعاء والصدقة والتقرّب إلى الله سبحانه. وهذا الذي استحب أصبغ. وذهب أبو حنيفة إلى أن الاستسقاء دعاء بلا صلاة. واحتج بحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على المنبر ولم يصل (¬3). وأن عمر بن الخطاب استسقى (¬4) عام الرمادة ولم يصل. وأجيب عن هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشتغلًا بالجمعة ودعا حينئذ على المنبر مستسقيًا من الله سبحانه ولم يقصد إقامة سنّة صلاة الاستسقاء ولم تمكن إقامتها حينئذ. وكذلك عمر رضي الله عنه لم يقصد إلى إقامة الاستسقاء بكماله وفعل جميع ما شرع فيه. وذهب الشافعي إلى مثل (¬5) ما ذهبنا إليه من أن الصلاة مشروعة في الاستسقاء. لكنه يراها في التكبير كصلاة العيد. ويحتج بما قدمناه من الحديث ¬

_ (¬1) معصيته -و-. (¬2) ويدعو = ساقطة -و-. (¬3) اعتمادًا على حديث البخاري - انظر 992. (¬4) دعا عام الرمادة بالعباس ولم يصل -قل-. (¬5) إلى أن -و-.

الذي رواه الترمذي. فقد ذكر فيه أنه صلى ركعتين كما يصلي في العيد. وبما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبّرون فيها سبعًا وخمسًا (¬1). ويحتج مالك بما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الاستسقاء فصلّى ركعتين (¬2). وظاهر هذا أن الركعتين كالمعهود من النوافل التي لا يكون التكبير فيها. واختلف المذهب في الخطبة والصلاة أيهما يقدم. فقال في المدونة بتقديم (¬3) الصلاة على الخطبة. وقال أشهب في مدونته اختلف الناس في ذلك واختلف فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف فيه قول مالك فكان قوله الأول أن الخطبة قبلُ، كالجمعة ثم رجع إلى أنها بعدُ كالعيدين. وبأنها بعد قال الشافعي *وحكى عن ابن الزبير أنه خطب وصلى، وفي الناس البراء ابن عازب وزيد ابن أرقم. وحكي عن عمر بن عبد العزيز مثل ذلك. وإليه ذهب الليث بن سعد. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وما قدمناه (¬4) من حديث الترمذي وقوله صلى ركعتين كما يصلى في العيدين. وهذا قد يقتضي ظاهره (¬5) تأخير الخطبة عن الصلاة كما يفعل في العيد. وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المصلى يستسقي فصلّى ركعتين وخطب (¬6). والذي خرّج أصحاب الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قدّم الاستسقاء ثم صلى. وكان من اختار تَقْدمة الصلاة يرى أن ذلك أنجح وأقرب إلى استجابة الدعاء وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد حاجة توضأ وصلّى ثم ¬

_ (¬1) رواه الشافعي. إرواء الغليل ح 660 ج 3 ص 125. حديث ضعيف. رواه الحاكم والدارقطني والبيهقي. وضعّف الزيعلي هذا الحديث. انظرَ نصب الراية ج 2 ص 240. (¬2) تمامه: بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عَزَّ وَجَلَّ وحوّل وجهه نحو القبلة رافعًا يديه ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي. نيل الأوطار ج 4 ص 28 وبلوغ الأماني ج 6 ص 233. (¬3) بتقدمة - قل. (¬4) قدمنا -و-. (¬5) ظاهره = ساقطة -و-. (¬6) تقدم تخريجه أعلاه.

سأل (¬1). وقال - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء عند الاستخارة: إذا أهم أحدكم الأمر فليركع ركعتين ثم يقول: أللهم إني أستخيرك. الحديث (¬2). وإذا ثبت أن الخطبة مشروعة على الجملة فإن المشروع خطبتان يجلس بينهما. قال مالك إذا فرغ من خطبته الأولى جلس ثم قام فخطب. وهذا هو المشروع من مذهب العلماء القائلين بأن الخطبة مشروعة. وقال عبد الرحمن بن مهدي يخطب خطبة خفيفة يعظهم ويحثهم على الخير. وما قدمناه من قوله في كتاب الترمذي أنه صلى ركعتين كما يصلي في العيد *قد يشير* (¬3) ظاهر إطلاقه إلى أنه يخطب خطبتين كما يخطب في العيد على حسب ما قلناه (¬4) مع أن القياس على خطبة الجمعة والعيد يقتضي ما ذهبنا إليه أيضًا. ويخطب مستقبل الناس مستدبر القبلة ثم يحوّل وجهه ليستسقي مستقبل القبلة مستدبر الناس. والخطبة مقدمة على الاستسقاء يعظهم فيها ويذكرهم ويعلّمهم أن ذلك بذنوبهم ويكثر من الاستغفار إذا أخذ في الدعاء للاستسقاء. وتحويل الرداء عندنا في الاستسقاء مشروع. قال مالك إذا فرغ من خطبته استقبل القبلة فحوّل رداءه ما على ظهره منه يلي السماء. وما كان للسماء يجعله على ظهره ثم يستسقي الله ويدعو. وقال أبو حنيفة لا يحول رداءه ولا ينكسه. ودليلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - استسقى وَدَعا واستقبل ¬

_ (¬1) رواه المؤلف بالمعنى. وروى الحاكم عن عبد الله ابن أبي أوفى. قال خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقعد فقال: من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن وضوعه ثم ليصل ركعتين ثم يثني على الله ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم. سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين. أسألك عزائم مغفرتك والعصمة من كل ذنب والسلامة من كل إثم. وفي سنده فائد بن عبد الرحمن قال الحاكم مستقيم الحديث. وعلق عليه الذهبي في التلخيص. انظر المسندرك ج 1 ص 320. وأخرجه الإِمام الترمذي في الدعاء بلفظ قريب من هذا. وأكد ضعفه ابن العربي. انظر العارضة ج 2 ص 262. وانظر مجمع الزوائد ج 1 ص 278. (¬2) رواه البخاري في التهجد والدعوات والترمذي وابن ماجة وأحمد. فتح الباري ج 3 ص 294. (¬3) ما بين النجمين ممحو - و. (¬4) ما قدمنا - قل.

القبلة وحول رداءه (¬1). واحتج أبو حنيفة بأنه دعاء فلا يستخب فيه تحويل الرداء كسائر الأدعية. وهذا القياس لو سلمناه ولم نطالب فيه بشروط القياس لم يلزم العمل بموجبه. وترك الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأجله. وقد ذكر أصحاب المعاني أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما فعل ذلك تفاؤلًا فحوّل رداءه ليتفاءل بانقلاب الجدب خصبًا. وإذا ثبت أن التحويل مشروع فصفته عندنا ما قال (¬2) مالك: يحول رداءه ما على الأيمن على الأيسر وما على الأيسر على الأيمن، ولا يقلبه فيجعل الأعلى للأسفل والأسفل للأعلى. وقد ذكرنا قوله في المختصر يجعل ما على ظهره منه يلي السماء *وما كان يلي السماء* (¬3) يجعله على ظهره. وقال ابن الماجشون يحوّل رداءه من ورائه يأخذ ما على عاتقه الأيسر ويمر به من ورائه فيضعه على منكبه الأيمن، ويجعل ما على عاتقه الأيمن على الأيسر. ويبدأ بيمينه في العمل. وقالت الشافعية التحويل أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على الأيسر وما على الأيسر على الأيمن. والتنكيس أن يجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه. وقال في القديم يحول رداءه ولا ينكسه. وقال في الجديد يحوله وينكسه إن أمكنه. وروى الشافعي بإسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها، فلما ثقلت عليه جعل ما على عاتقه الأيسر على عاتقه الأيمن، وما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر (¬4). قال الشافعي فأحب أن يفعل ما فعل (¬5) النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أراد أن يفعله ولم يمكنه. قالوا: ووجه قوله في القديم وبه قال مالك وأحمد ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - استقبل القبلة وحوّل رداؤه (¬6). وإذا ثبت أن التحويل مشروع على الجملة فهل يخاطب به من خلف الإِمام أم لا؟ أما النساء فلا يحوّلن لئلا ينكشفن. وأما الرجال فقال مالك في المدونة يحوّل الناس ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. فيما رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي. نيل الأوطار ج 4 ص 28. (¬2) ما قاله - قل. (¬3) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬4) الشافعي في الأم ج 1ص 222. (¬5) مافعله - قل. (¬6) مالك في الموطأ. كتاب الاستسقاء ح 1. والبخاري فتح الباري ج 3 ص 151.

أرديتهم وهم قعود. وقال الليث لا يحول المأموم. وقيل (¬1) قال عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وأبو يوسف يستحب ذلك للإمام دون المأمومين. فوجه تحويل المأمومين الاقتداء بالإمام. وقد حوّل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما شرع له فالظاهر أنه شرع لغيره إلا ما خصه الدليل. ووجه نفي (¬2) تحويل المأمومين أن الأحاديث إنما ردت بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حوّل وحده. واختلف في الوقت الذي يحوّل فيه الرداء. فقال في المدونة إذا فرغ من الخطبة واستقبل الاستسقاء. وقال في المجموعة بين الخطبتين. وقال ابن الماجشون بعد صدر من الخطبة. وقد ذكرنا قول مالك أنه إذا فرغ من الخطبة استقبل القبلة فحوّل رداءه ثم يستسقي الله ويدعو. قال القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا: اختلف أصحابنا متى يحوّل الإِمام وجهه إلى القبلة فيدعو. فقال مالك إذا فرغ من خطبتيه جميعًا. وقال أصبغ إذا أشرف على الفراغ من خطبته الثانية استقبل القبلة للدعاء، فإذا فرغ أقبل على الناس بوجهه فأتم الخطبة ثم نزل. فوجه قول مالك أن من المكروه قطع الخطبة لغيرها والتشاغل بما سواها. ووجه قول أصبغ أن المسنون في الاستسقاء خطبتان لا زيادة عليهما. فإذا أتى بالدعاء بعد الفراغ منهما كان ذلك زيادة مستأنفة. فكان الأولى أن يؤتى بها في أثناء الخطبة. واختلف هل يخطب ويستسقي على المنبر؟ فمنع ذلك في المدونة لأنه يوم تظهر فيه الاستكانة والخضوع. والخطبة على الأرض أقرب إلى ذلك، وأجاز ذلك في المجموعة. فإذا فرغ من الاستسقاء فقال مالك في المختصر ينزل وينصرف. وقال ابن حبيب إذا حوّل رداءه يرفع يديه ظهورهما إلى السماء ويفعل الناس مثله وهم جلوس ويبتهلون بالدعاء، وأكثر ذلك الاستغفار حتى يطول ذلك ويرتفع النهار. ثم إن شاء الإِمام انصرف على ذلك، وإن شاء تحوّل إليهم فكلمهم بكلمات ورغبهم في الصدقات (¬3) والتقرب إلى الله العلي ثم ينصرف. وأما وقت صلاة الاستسقاء فقال مالك صلاة الاستسقاء ضحوة لا غير ¬

_ (¬1) ساقطة - قل. (¬2) نفي = ساقطة -و-. (¬3) الصدقة - قل.

ذلك من النهار. ولمالك في العتبية ولا بأس بالاستسقاء بعد المغرب والصبح. وقد فعل عندنا وما هو بالأمر القديم. وأما التنفل عند صلاة الاستسقاء فقال مالك لا بأس بالتنفل قبلها وبعدها. وكره ابن وهب التنفل قبلها وبعدها. وإذا فأتت صلاة الاستسقاء فقال مالك إن شاء صلاها وإن شاء ترك. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: يخرج للاستسقاء الرجال ومن يعقل الصلاة (¬1) من الصبيان ومن المتجالات من النساء. ومنع في المدونة من خروج من لا يعقل من الصبيان والحُيّض من النساء. وذكر عن الشيخ أبي محمَّد رحمه الله أنه حمل ذلك على أنها لا تخرج في حال جريان دمها لأنها ممنوعة من الصلاة. ألا تراه قال ولا صبي لا يعقل الصلاة. قال أبو محمَّد عبد الحق رحمه الله لم يرد أبو محمَّد إباحة خروجها إذا زال دمها بل منْعها حينئذ أشد لقدرتها على الاغتسال. وإنما قصد أن دمها وإن كان جاريًا فإنه يمنع من الخروج لمنعه من الصلاة لئلا يظن ظان أن إباحة القراءة لها (¬2) حينئذ تبيح الخروج. فإذا منعت الحائض كان النساء على ثلاث مراتب. حائض تمنع ومتجالة لا يكره خروجها وشابة طاهرة (¬3) يكره خروجها. فإن خرجت لم تمنع. قال بعض أشياخي اختلف في خروج من لا يعقل من الصبيان، والشواب من النساء، وأهل الذمة، والبهائم. وخُرّج على منع الحائض، ومن لا يعقل الصلاة، منع خروج البهائم. وذكر أن موسى بن نصير أجاز ذلك. وحكي ما قدمنا ذكره حين استسقى بأهل القيروان فأمر بالولدان على حدة والنساء على حدة والبقر والغنم على حدة. وأباح في المدنة خروج أهل الذمة. ومنع ذلك (¬4) أشهب في مدونته. وإذا أجزنا خروجهم فقال ابن حبيب يخرجون وقت خروج الناس يعتزلون ناحية ولا ¬

_ (¬1) الصلاة = ساقطة -و- (¬2) لها = ساقطة -و-. (¬3) طاهرة = ساقطة -و-. (¬4) ذلك = ساقطة -و-.

يخرجون قبل الناس ولا بعدهم لأنه يخشى إن استسقوا قبل أو بعد أن يوافقدا وقت نزول الغيث فيكون في ذلك فتنة للناس. وقال القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا: لا بأس أن يخرجوا بعد. وقال مكحول لا بأس بإخراج أهل الذمة للاستسقاء مع المسلمين. وقال الأوزاعي كتب يزيد بن عبد الملك إلى عماله أن يخرجوا أهل الذمة إلى الاستسقاء فلم يَعِبْ عليه أحد من أهل زمانه. وقال بعض الناس في إنكار إخراجهم: من أعظم العار أن يتوسل إليه أولياؤه بأعدائه. وهم وإن كانوا قد ضمن الله أرزاقهم، فإنا لا نمنعهم من الخروج. لذلك على القول المشهور عندنا. وبه قال الشافعي. ولكنهم يخرجون منعزلين عن الناس لأن اللعنة تنزل عليهم. ولو أرادوا في الاستسقاء التطوف بصلبهم *فقد قال ابن حبيب لا يمنع اليهود والنصارى من الاستسقاء والتطوف بصلبهم وشركهم* (¬1) إذا برزوا بذلك وتنحوا به عن الجماعة. ويمنعون من إظهار ذلك في أسواق المسلمين وجماعاتهم في الاستسقاء وغيره. كما يمنعون من إظهار الزنا (¬2) وشرب الخمر. ¬

_ (¬1) ما بين النجمين = ساقط -و-. (¬2) الربا - قل.

كتاب الجنانز*

كتاب الجنانز* (¬1) قال الفاضي أبو محمَّد رحمه الله: غسل الميت المسلم واجب وصفته كصفة غسل الجنابة. ويجتهد في تنظيفه وإزالة الأذى عنه على الميسور. ويستحب الوتر على قدر (¬2) ما يحتاج إليه، بماء وسدر. وفي الآخرة كافور. وتنزع ثيابه وتستر عورته. وإن احتيج إلى مباشرتها فبخرقة إلا أن يضطر إلى إخراج شيء بيده فيجوز. ويعصر بطنه (عصرًا خفيفًا) (¬3) ليخرج ما هنالك من أذى ويرفق به في كل ذلك (¬4) ولا يزال عنه شيء من خلقته من ظفر أو شعر من عانة أو غيرها. قال الفقيه الأمام رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة: منها أن يقال: 1 - لِمَ قال غسل الميت المسلم واجب؟. 2 - ولمَ أمر أن يجتهد في تنظيفه؟. 3 - ولمَ استحب الوتر على صفة ما ذكره؟. 4 - وما الحكم في تجريده؟. 5 - ولمَ لم تقلم أظفاره؟. 6 - وهل ينجس بالموت؟. ¬

_ (¬1) **** من هنا كان الاعتماد على نسخة المكتبة الوطنية المشار إليها بـ -و- لأننا لم نظفر بنسخة أخرى. (¬2) قدر = ساقطة -و-. (¬3) ما بين القوسين أثبته الغاني وساقط من نسخة -و-غ-. (¬4) ويرفق به في ذلك -و-

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في غسل الميت. فقال ابن أبي زيد هو ستة. وقال القاضي هو واجب. فدليل وجوب الغسل قوله - صلى الله عليه وسلم - (¬1). وهذا أمر مجرده يقتضي الوجوب عند جمهور الفقهاء. وقال أيضًا (في المحرم) (¬2) اغسلوه. وهذا أمر أيضًا بالغسل. لكن قوله: إن رأيتن في غسل ابنته قد نرى فيه إن هذا الشرط راجع إلى الغسل وأنه معلق بأن يريد ذلك. وهذا له تعلق بأصول الفقه. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: لما كان الغرض بهذا الغسل التنظيف والتأهب للقاء الملكين لتستشعر النفوس أمر المعاد ولقاء الملائكة وذلك مما يجب أن يتأهب له بالتطهر وجبت المبالغة فيه. ومن صفات الغسل أن يوضأ. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابدأن بميامينها ومواضع الوضوء منها (¬3). قال أشهب: وفي ترك الوضوء أيضًا سعة. وقال أيضًا إن وضىء فحسن. ووافقنا الشافعي على أن الوضوء مستحب. وخالف أبو حنيفة فلم يره مستحبًا. وما ذكرنا من قوله - صلى الله عليه وسلم -. ومواضع الوضوء منها يردّ ما قال. ويؤمر أن يخص بالانقاء الفم والأنف والإبطان وغيرها. قال ابن حبيب ويوضأ كما يوضأ الحي، ويدخل الماء في فمه ثلاثًا. واختلف في محل وضوئه وفي تكريره. فأما محله فقيل في الغسلة الأولى لأنها الفرض فينبغي أن يكون الوضوء من جملتها. وقيل في الثانية لأن الأولى فيها تنظيف فينبغي أن يكون الوضوء بعد حصول النظافة. فأما تكريره فاختلف فيه على القول بأن محله الغسلة الأولى. فقال أشهب يكرّره. وأنكره سحنون. قال بعض المتأخرين ينبغي على القول بالتكرير أن يكون الوضوء الأول غسلة واحدة حتى لا يرفع التكرار في العدد المنهي عنه. وإذا لم نقل بالتكرار كان الغُسل ثلاثًا. ¬

_ (¬1) هو- ولعله من غسل ابنته اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا. البخاري ج 2 ص 93. (¬2) كلام ممحو - ولعله المحرم. (¬3) البخاري ج 2 ص 93.

وقال أشهب إذا عصر بطنه فليأمر من يصب عليه الماء ولا يقطع ما دام ذلك. ويغسل ما أقبل منه وما أدبر، والخرقة على يده ثم يغسل تلك الخرقة ويغسل يده ويأخذ خرقة أخرى على يده للغسل فيدخلها في فمه لتنظيف أسنانه ويُنَقي أنفه. وقال الشافعي تستحب المضمضة والاستنشاق في حق الميت، وهو أن يمسح ظاهر أسنانه وباطن شفتيه بخرقة، ويدخل أصابعه في فمه وأنفه فيزيل ما هنالك. وقال أشهب لا بأس أن ينقي أنفه ويغسل فاه ويمضمض وتركه غير ضيق. وقال ابن جبير والثوري والنخعي وأبو حنيفة: لا تستحب المضمضة والاستنشاق في حق الميت. لأن المضمضة إدارة الماء ثم مجّه. والاستنشاق جذب الماء ثم نثره وذلك لا يصح من الميت. وأجيبوا عن هذا بأن ما ذكروه هيئة للمضمضة والاستنشاق وتعذّر الهيئة لا يوجب سقوط الفعل. وما ذكرناه من قوله - صلى الله عليه وسلم - مواضع الوضوء منها يؤكد ما قلناه. ومن صفات الغسل ما ذكره القاضي أبو محمَّد من عصر بطنه. وقد ذكرنا قول أشهب أنه يصب الماء حينئذ ولا يقطعه. وقالت الشافعية يمر يده على بطنه إمرارًا بليغًا في كل غسلة إلا الغسلة الأخيرة. وقال بعض الناس يمر يده على بطنه إمرارًا خفيفًا. وقال الثوري يمسح مسحًا رفيقًا بعد الغسلة الأولى. وقال أحمد يفعل ذلك بعد الغسلة الثانية. وروي عن الضحاك بن مزاحم أنه وصّى أن لا يُعْصر بطنُه (¬1). والذي ذهب إليه أولى. لأنه إذا فعل ذلك خرج ما في بطنه من النجاسة فيؤمن خروج شيء بعد الفراغ من غسله فإن جمهور الفقهاء على أن غسله لا يعاد وإنما يغسل ذلك الموضع. لأن الغسل قد صح فلا يبطل بما يحدث كغسل الحي من الجنابة. ومن الشافعية من قال يغسل ذلك الموضع ويوضا كالجنب إذا أحدث بعد الغسل. وهكذا قال أشهب أن الوضوء يعاد، ومنهم من قال يعيد الغسل وهو قول ابن حنبل. واحتجوا بأن المقصود في حق الميت أن يختم أمره بأكمل طهارة. وإذا غسل الفرج وهو ممن لا يحق له مسه، لفّ على يده خرقة كثيفة إلا أن يكون بالموضع أذى لا يزيله إلا مباشرة اليد. فاختلف في جواز المباشرة. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب أن يعصر بالإثبات بدليل التعليل الوارد بعده.

فأجازها مالك في المدونة للضرورة المقتضية ومنعها ابن حبيب لأن الحي إذا لم يستطع على (¬1) إزالتها فإنه لا يجوز له أن يوكل غيره على مس فرجه لإزالة النجاسة. بل يصلي على حاله. وإذا منع الحي من هذا ولم يسامح في مس عورته، فكذلك الميت بل الحي أحق بالمسامحة لأجل ما تكلفه من الصلاة. وفي كتاب ابن سحنون يوضع على أحد شقيه للغسل ويُقْلب كذلك. قال أشهب في المجموعة وإن وضع على شقه الأيمن أو الأيسر، فلا بأس وإن أسندته إلى صدرك أو أمسك لك ولم تُسنده فلا بأس. قال أشهب وواسع أن يسرّح رأسه أو لا يسرّح. وقالت الشافعية إذا كانت لحيته ملبدة فيستحب أن تسرح بمشط منفرج الأسنان. وقال أبو حنيفة يكره ذلك, لأنه يؤدي إلى نتف الشعر. وأجيب عن هذا بأنه إذا كان المشط واسع الأسنان (¬2). وأما الضفر فلا أعرّفه. وقال ابن حبيب لا بأس بضفره. قالت أم عطية ضفرنا شعر بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث ضفائر ناصيتها وقرنيها وألقينه من خلفها (¬3). وقال الشافعي بضفر شعر المرأة ثلاثة قرون ويلقى خلفها. وقال أبو حنيفة لا يضفر بل يلقى بين يديها. وقال الأوزاعي نحوه. فأما أبو حنيفة فاتقى من تسريحه للضفر أن ينتف. وقد تقدم مراعاته لذلك. قال بعضهم لما كانت المرأة تجعله ثلاثة قرون في حياتها، فكذلك بعد الموت. وقال ابن القاسم في المجدور ومن غمرته الجراح ومن إذا مس تسلخ فليصب عليه الماء صبًّا ويرفق به. قاله مالك. وقال مالك ومن وجد تحت الهدم قد تسلّخ رأسه وعظامه. والمجدور والمتسلخ فليغسلوا ما لم يتفاحش ذلك منهم. وإذا لم يوجد من الميت إلا مثل الرأس أو الرجل فلا يغسل. ولا يغسل إلا ما يُصلّى عليه. قاله مالك. وأما الذي يغسل به، فقال في المدونة يغسل بماء وسدر ويجعل في الآخرة ¬

_ (¬1) هكذا. وعلى- زائدة. (¬2) هو بمقدار سطر. (¬3) البخاري ومسلم. نيل الأوطار ج 4 ص 35/ 37.

كافور إن تيسر. وقال ابن حبيب يغسل في الأولى بالماء وحده. وفي الثانية بغسول بلده إن لم يوجد (¬1) فإن لم يوجد فبالماء وحده وإن لم يحتج إلى غسل رأسه بغسول لنقائه ترك ثم الثالثة بماء وكافور وجده. قال أشهب فإن اشتدت مؤنة الكافور ترك. قال وبالسدر يغسل رأسه ولحيته أحب إليّ. فإن لم يمكن فغسول أو غيره مما ينقى وواسع بالماء وحده سخنًا وباردًا. وكذلك لمالك في المختصر قال: ولا بأس بالحرَض والنطرون إن لم يتيسر السدر. وقالت الشافعية يغسل المرة الأولى بماء وسدر ويجعل في كل ماء قُراح كافورٌ. فإن لم يفعل وجعل في المرة الأخيرة أجزأه. وقال أبو حنيفة لا أعرف الكافور ولا السدر. ودليلنا عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - لأم عطية اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورًا (¬2). وإن كان غسل الميت الغرض به ما قلناه من التأهب للقاء الملكين لم يراع الماء القراح. وهو ظاهر الحديث. مع أن طهارة الحي بالماء المضاف اختلف الناس فيه، فكيف بطهارة الميت. وفي كتاب ابن شعبان لا يغسل الميت بماء زمزم ولا تغسل به نجاسة. وإنما يكره غسل الميت بماء الورد والقَرنفل من ناحية السرف. وإلا فهو جائز إذ لا يغسل ليطهر وهو إكرام للقاء الملكين. وقال ابن أبي زيد ما ذكره في ماء زمزم لا وجه له عند مالك وأصحابه. وإن كان يعني بقوله في ماء الورد والقرنفل أنه لا يغسل بغيره. من الماء القراح، فليس هذا قول أهل المدينة. وقال بعض أشياخي إنما نهى ابن شعبان عن غسل الميت بماء زمزم لأنه الميت نجسًا. وذلك الماء لا تزال به النجاسة. وأهل مكة يتقون الاستنجاء به. وذكر أن بعض الناس استنجى به فحدث به الباسور. وأما إذا قيل بطهارة الميت فإن الغسل به أولى من الغسل بغيره لما يرجى من بركته. وغسل ابن عمر سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فالأولى صب عليه الماء قراحًا. والثانية غسل رأسه ولحيته وجسده بالماء والسدر. بدأ برأسه ولحيته ثم بشقه الأيمن ثم ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب إن وجد. (¬2) البخاري ج 2 ص 94.

بالأيسر. ثم الثالثة بالماء وشيء من الكافور. قال مثله النخعي إلا أنه قال يبدأ فيوضأ. قال مالك ويوضأ الصبي إذا غسل. وقال مالك أيضًا يبدأ الغاسل بالميامن. وقد ذكرنا عن أشهب أنه قال واسع غسله بالماء وحده سخنًا أو باردًا. وقالت الشافعية يُكره تسخين الماء إذا لم يكن الزمان باردًا. وقال أبو حنيفة يستحب تسخينه لأنه أمكن في إزالة الوسخ. وأجيب عن هذا بأن الماء المسخّن يرخيه. والمراد ما يقويه ويصلبه. فلهذا جعل في الماء الكافور والماء البارد يقويّه ويصلبه. فلهذا كان البارد هو أولى. هكذا أجاب بعض أصحاب الشافعي. وفي كتاب ابن شعبان، ولا يؤخر غسل الميت بعد خروج نَفَسه. قال بعض هذا مخافة أن يتغير أو ينفجر. ولا حجة في تأخير غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ذلك مأمونًا (¬1) عليه. قال ابن حبيب: ولا ينبغي أن يغسل إلا أن يحمل بإثر ذلك. فإن تأخر حمله بعد الغسل إلى غد فلا يعاد غسله. وما خرج منه غسُل وما أصاب الكفن منه. قال أصبغ وغيره. وروى مثله علي عن مالك في المجموعة فيما يخرج منه بعد الغسل. قال ابن القاسم إذا غسل بالعشى وكفّن من الغد أجزاه ذلك الغسل. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: المستحب ما ذكره القاضي أبو محمَّد من كون الغسل وترًا. وأشار إلى تعليقه من العدد بقدر الحاجة. قال ابن حبيب السنّة أن يكون الغسل وترًا. قال النخعي غسله وتر وتجميره وتر وكفنه وتر. وقد تقدم ذكرنا لغسل ابن عمر رضي الله عنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ثلاثًا. قال ابن سيرين يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء غسل خمسًا. فان خرج منع شيء غسل سبعًا لا يُزاد. وقال ابن حنبل لا يُزاد على سبع. وقال ابن المسيب والحسن والنخعي يغسل ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا. وقالت الشافعية (¬2) وحكوا عن مالك أنه يعتبر الإنقاء ولا يعتبر العدد ولعلهم تعلقوا ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب مأمون. (¬2) هو بمقدار سطر في -و-.

بقول مالك في المدونة ليس لغسل الميت حدّ معلوم يغسلون وينقون، ولم يلتفتوا إلى ما حكاه عنه ابن وهب في آخر الباب من استحبابه ثلاثًا أو خمسًا. وقال أبو حنيفة إن زاد على الخمس لم يستحب الوتر تعلقًا منه بقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما زاد على الخمس أو أكثر إن رأيتن (¬1). ولم يقدر الأكثر بكونه وترًا. ومحمله عندنا على أن أكثر يكون وترًا على أسلوب ما تقدم ذكر عدد من الغسلات (¬2). ويؤكد ما قلناه أنه - صلى الله عليه وسلم - نقل من الثلاث إلى الخمس. فلو كان لا يعتبر الوتر لذكر الرابعة قبل الخامسة. وأيضًا فإنها طهارة متكررة. وما تكرر من الطهارات شرع فيه الوتر كالوضوء وغسل الإناء من ولوغ الكلب. وقوله أكثر من ذلك يقتضي الردّ على من قال: لا يزاد على السبع. لأنه لمّا قال اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ، ولم يقل ما لم يجاوز السبع، بل أطلق الأكثر. وإطلاقه يقتضي ألا يكون أكثر محدودًا. قال ابن حبيب: ولا بأس عند الوباء، وما اشتد على الناس من غسل الموتى لكثرتهم أن يجتزأ فيهم بغسلة واحدة بغير وضوء، ويصبّ الماء عليه صبًّا. ولو نزل الأمر الفظيع الذي يكثر فيه الموتى جدًا. وموت الغرباء. فلا بأس أن يقبروا بغير غسل إذا لم يوجد من يغسلهم. ويجعل منهم النفر في قبر واحد. وقاله أصبغ وغيره من أصحاب مالك. وروي عن الشعبي قال رمسوهم رمسًا. وهذا الذي قاله ابن حبيب صحيح إذا لم يوجد من يغسل. لأن الواجب المتفق عليه يسقط بالعجز عنه فكيف بهذا المختلف فيه الذي قدمنا قول الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد رضي الله عنه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: المشروع عندنا وعند أبي حنيفة تجريد الميت للغسل ولا يغسل في قميص قياسًا على الحيّ. وقال الشافعي بل المستحب أن يغسل في قميص لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل في قميص. وقال سعد ابن أبي وقاص إذا أنا متّ فاصنعوا بي ما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويفارق الحي لأن الحي يتولى غسله بنفسه. وها هنا يتولى غسله غيره، فغسله في القميص أستر ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه من البخاري. (¬2) هكذا. ولعله ذكره من عدد الغسلات.

له. وقال بعضهم إنما غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - على حسب ما نقل في الآثار (¬1). فلما خصت غسله بهذا تكريمًا له وتشريفًا صح أن يغسل في القميص وغسالة غيره نجسة على بعض المذاهب، فلا بدّ من التجريد فيها بخلافه - صلى الله عليه وسلم -. وفي كتاب ابن سحنون ينبغي إذا جرّد للغسل ألاّ يطّلع عليه إلا الغاسل ومن يليه وتستر عورته بمئزر. ويستحب أن يجعل على صدره ووجهه خرقة أخرى. ويوضع على أحد شقيه للغسل ويقلّب كذلك. وقد اختلف المذهب عندنا في غسل الرجل الرجل والمرأة المرأة فقيل في غسل الرجل الرجل يجرّد ما سوى العورة وهو قول مالك في المدونة. وحمله بعض أشياخي على أن المراد بالعورة السوءتان. وقال ابن حبيب يستر من السرّة إلى الركبة وهذا بناء على أن الفخذ عورة. وقد قدمنا قول ابن سحنون أنه يستحب أن يجعل على صدره خرقة. قال بعضهم هذا يحسن فيمن نحل جسمه لقبح منظره حينئذ. وإذا سترت العورة فليجمع ثوبًا ويجعله هناك ولا يبسطه لأنه يصف. وأما غسل المرأة المرأة فالظاهر من المذهب أنها تستر منها ما يستر من الرَجل، من السرة إلى الركبة. وعلى قول ابن سحنون تستر جميع جسدها. قال ابن شعبان اختلف في غسل الجنب الميتَ. وإجازته أحبّ إلينا. وليكثر الغاسل من ذكر الله تعالى. قال مالك: لا أحبّ للجنب أن يغسل الميت وذلك جائز للحائض. وأجاز محمَّد بن عبد الحكم للجنب أن يغسله. وقال ابن شعبان من اغتسل عند الموت لم يكتف بذلك الغسل إن مات. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما تقليم أظفار الميت وحلق عانته ونتف إبطه وقص شاربه فإن ذلك لا يستحب وهل يكره أم لا؟ عندنا وعند أبي حنيفة والشافعي في القديم أنه يكره. وقال الشافعي في الجديد لا يكره. ودليلنا على كراهته أنه جزء من الميت يكره إزالته كالختان. والختان في حال الحياة آكد مما ذكرناه. فإذا نهي عن فعله بعد الوفاة مع تأكد الأمر به. فالنهي ¬

_ (¬1) هكذا ولعل في الكلام نقصًا سقط من الناسخ. وتقديره. من طهارة غسالته.

عما انحطت رتبته عن رتبة الختان أولى. وأما الشافعي فإنه يحتج على الجواز بقوله - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا بميتكم ما تصنعون بعروسكم. وتأول أصحابنا هذا على أن المراد به ما يفعل بالعروس من الزينة والطيب لا ما يفعله العروس من الاستحداد وتقليم الأظفار, لأنا ما ذكرناه هو أخص بالعروس مما سواه. وإذا ثبت ما ذكرناه فقد قال أشهب أحب إليّ ألا تحلق له عانة ولا يقلم له ظفر ولينقّ ما بها من وسخ. وكذلك قال ابن حبيب عن ابن سيرين لا يؤخذ من شعره ولا تقلّم أظفاره إلا أن يكون عند نزول الموت به. فإذا مات فلا. وقال سحنون إن كان ذلك لما يتأذى به المريض فلا بأس به وإن كان ليهيّأ للموت فلا يفعل. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف المذهب في الميت هل هو نجس أم لا؟ واختلف فيه قول الشافعي أيضًا. وقد قال في كتاب الرضاع من المدونة أن ابن المرأة إذا ماتت نجس وهذا يقتضي نجاسة الميت. واستدل ابن القصار على طهارته بقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (¬1). وتكريمه يقتضي ألا يكون نجسًا لأن النجس مهان. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن لا ينجس (¬2). وعموم هذا يقتضي طهارته وإن كان ميتًا. وذكر البخاري عن ابن عباس أنه: قال لا ينجس المسلم حيًا ولا ميتًا (¬3). وقال سعد بن أبي وقاص: لو كان نجسًا ما مسسته. وقيل لعائشة رضي الله عنها أيغتسل غاسل الميّت؟ أوَ أنجاس موتاكم (¬4) وقبّل النبي - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن مظعون (¬5). ولو كان نجسًا لما قبّله. واستدل من قال بنجاسته بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (¬6). ولأن ¬

_ (¬1) سورة الإسراء، الآية: 70. (¬2) رواه البخاري. فتح الباري ج 1ص 406/ 407. (¬3) رواه البخاري ووقفه على ابن عباس. ووصله سعيد بن منصور. وأخرجه الدارقطني من رواية عبد الرحمن بن يحيى المخزومي وابن أبي شيبة. الفتح ج 1ص 369. (¬4) أي قالت: أي أوَ أنجاس موتاكم. (¬5) رواه البزار وإسناده حسن عن معاذ بن ربيعة. مجمع الزوائد ج 3 ص 20. (¬6) سورة المائدة، الآية: 3.

عدم الحياة يقتضي النجاسة. فأما الآية ففيها ثلاثة أجوبة. أحدها أنه لا يسلّم وقوع اسم الميتة على الإنسان. وإنما هي تسمية واقعة على ما مات من الحيوان البهيمي حتف أنفه. والثاني أنا لو سلمنا وقوع التسمية عليه لم يسلم كون التحريم يقتضي النجاسة لأن المراد بقوله حرمت عليكم الميتة أي أكلها. وأما النجاسة فلا تفهم من هذا اللفظ. والثالث أنا لو سلّمنا انطلاق التسمية على الإنسان. وكان التحريم يفيد النجاسة لخصصنا هذا الظاهر بما قدمناه من الأدلة. وأما استدلالهم بعدم الحياة فإن مجرّد عدم الحياة لا يقتضي النجاسة. ألا ترى أن الشاة المذكاة طاهرة مع عدم الحياة، والخشاش طاهر وإن مات حتف أنفه. وإنما يكون الموت يقتضي النجاسة إذا كان على صفة وشرط. فإذا كانت العلة ذات أوصاف فلا يثبت الحكم عند انفراد أحد أوصافها. والإنسان وإن منع أكله حال حياته فإن ذلك لحرمته لا لنجاسته. وكونه حيًّا يقتضي كونه طاهرًا. وإذا مات يقتضي هذه الحرمة وأنزل منزلة الحي. ألا ترى ورود الخبر بأن كسر عظمه ميتًا ككسره حيًّا (¬1)، وهذا تنبيه على بقاء حرمته بعد الموت. وقد مال بعض أصحابنا البغداديين إلى أنه لو قطع من الميت عضو لكان ذلك العضو طاهرًا لمكان الجملة التي هذا العضو جزء منها. ظاهره بخلاف لو قطع من الحي عضو فإن ذلك العضو نجس لأن الحي ذو نفس سائلة. وحياته سبب طهارته فإذا فارق هذا العضو الحياة فارق حكم الطهارة. والعضو المقطوع من الميت لم يتبّدل حاله ولا فقد ما هو سبب للطهارة فيكون نجسًا. ورأيت بعض المتأخرين من أصحابنا ساوى بين الكافر الميّت والمسلم الميت في الطهارة لاستوائهما في كثير من الأحكام المناسبة لهذا المعنى. وأنت إن تأملت ما استدللنا به على طهارة الميت تجد بعضًا يختص بالمسلم كقوله - صلى الله عليه وسلم -: المؤمن من لا ينجس (¬2). وما حكيناه عن ابن عباس من قوله: لا ينجس المسلم حيًا ولا ميتًا. فقيد كلامه بالمسلم. وهذا يشير إلى كون الكافر بخلاف ذلك. فإذا وضح هذا الاختلاف في نجاسة الميت فقد قال أشهب إذا فرغت من ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق عن عائشة ح 6256/ 6257. (¬2) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد والأربعة.

غسله ونشفته في ثوب. وقد أمرت قبل ذلك بإجمار ثيابه فقد اختلف في نجاسة هذا الثوب. فقال سحنون لا ينجس. وقال محمَّد ابن عبد الحكم ينجس. وهذا الاختلاف مبني على ما قدمناه من الاختلاف في نجاسته. وقال ابن شعبان لا يصلي بهذا الثوب حتى يغسل ولا بالماء الذي يصيبه من مائه. وقال مالك في المختصر يغتسل من غسل ميتًا أحب إليّ. وقال ابن حبيب لا غسل عليه. ولا وضوء. قاله جماعة من الصحابة والتابعين. وذكر حديث أسماء (¬1). وقاله مالك وقال: فإن اغتسل من غير إيجاب فحسن. وقيل إنما يستحب له أن يغتسل لئلا يتوقى ما يصيبه منه فلا يكاد يبالغ في أمره. فإذا وطن نفسه على الغسل بالغ فيه. وقال أشهب أحب إليّ أن يغتسل غاسل الميت توقيًا لما عسى أن يصيبه من أذى الميت، فإن لم يفعل ورأى أنه لم يصبه شيء فذلك. قال ومن أصابه شيء من الماء الذي غسّل به الميت فغسل ذلك واجب من الأول فإن لم يفعل وصلّى ولم يعلم أن ذلك الماء أصابه شيء من أذى الميت فلا شيء عليه. قال مالك ولا وضوء على من أفضى بيده إلى جسد الميت أو حنّطه أو حمله. وإن أصاب يده شيء مما يخرج منه غسل ما أصابه فقط. ومما ينبني على الاختلاف في طهارة الميت الصلاة عليه في المسجد. فاختلف المذهب عندنا. فقال مالك في المدونة بالكراهة. وبه قال أبو حنيفة. وقال ابن حبيب لو صلّى على الجنازة في المسجد ما كان ضيقًا لما روي من الصلاة على سهيل فيه (¬2). وفي مختصر ابن شعبان يكره أن توضع الجنازة في المسجد وينتظر بالصلاة عليها لحاق الناس. وقال ابن شعبان قال أبو حنيفة لا يصلّى عليها في المسجد. وإنما كره مالك وأبو حنيفة إدخال الميت المسجد لأنه ميتة توضع في المسجد. وهذا التعليل الذي علل به ابن شعبان هو باقتضاء المنع أولى منه باقتضاء الكراهة. وذهب الشافعي إلى أنه لا تكره الصلاة على الجنازة في المسجد وحجته أنه لما مات سعد بن أبي وقاص قالت عائشة ¬

_ (¬1) قال الحاكم في تاريخه لي في من غسل ميتًا فليغتسل. حديث ثابت. (¬2) رواه مسلم والبيهقي وأحمد وابن أبي شيبة بلوغ الأماني ج 7 ص 248.

رضي الله عنها: ادخلوه في المسجد لأصلي عليه فأنكروا ذلك. فقالت: ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء سهيل وأخيه إلا في المسجد (¬1). وهكذا رأي غير عائشة رضي الله عنها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد خرج مسلم أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسلن أن يمروا عليهن بجنازة سعد في المسجد فيصلين عليه ففعلوا ووقفوا على حجرهن فصلين عليه فأنكر ذلك بعض الناس فقالت عائشة رضي الله عنها: ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد. واعتذر ابن سحنون عن هذا فقال صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر قد تركه وفعل غيره، حين خرج في النجاشي إلى المصلى، فهذا أخف مع أن حديث سهل منقطع. قال غيره، وقد قيل كثر الناس في جنازته فضاق بهم الموضع ثم لم يفعله بعد ذلك واستدام الصلاة في المصلى حتى أنكر الناس على عائشة رضي الله عنها ما أمرت به في جنازة سعد. ومع ذلك فهو ذريعة إلى صرف المسجد إلى غير ما جعل له من الصلاة. وقد ينفجر فيه الميت أو يخرج منه شيء فترك ذلك أولى من غير وجه، كما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال إسماعيل في مبسوطه لا بأس بالصلاة على الجنازة في المسجد إذا احتيج إلى ذلك. وإنكار الناس قصة سعد يدل على أن الفعل الدائم الصلاة في موضع الجنائز بقرب المسجد. ولعل الصلاة على سهيل كانت قبل أن يتخذ ذلك الموضع، ولعلهم إنما صلوا على عمر رضي الله عنه في المسجد لأنه أوسع عليهم لكثرة من صلى عليه. وهذا كله واسع إذا احتيج إليه. وأما ما حدثنا به عاصم بن علي عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التؤمة عن أبي هريرة قال. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من صلّى على الجنازة في المسجد فلا شيء له (¬2). فهذا إسناد ضعيف ولا بأس بذلك إذا احتيج إليه. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويغسّل كل واحد من الزوجين صاحبه ولا يغسّل من لا رجعة له عليها. وفي الرجعة روايتان. ويغسل الرجل أمته التي ¬

_ (¬1) رواه مسلم والبيهقي وأحمد وابن أبي شيبة. بلوغ الأماني ج 7 ص 248. (¬2) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة. بلوغ الاماني ج 7 ص 248.

يحل له وطؤها ومدبرّته، وأم ولده. وكل من كان يستبيحه (¬1) إلى حين موته. ويغسل ذوو المحارم بعضهم بعضًا من الرجال والنساء *الرجل للرجل والمرأة. وكذلك المرأة للمرأة والرجل* (¬2). إذا لم يكن من يلي ذلك من الأجانب يغسل الرجل المرأة منهن في ثيابها ولا يغسل الرجل الأجنبية ولا المرأة الأجنبي. فإن كانوا في سفر ولم يجدوا من يغسل يُمم الرجل وجهه ويداه إلى مرفقيه والمرأة إلى كفيها. ويستحب الاغتسال من غسل الميت ومن مات له نسيب كافر خلى بينه وبين أهل دينه فإن لم يجد من يكفيه (¬3) لفه في شيء وواراه ولا يغسله ولا يصلي عليه. قال الفقيه الإِمام: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة: منها أن يقال: 1 - لِمَ قال يغسل كل واحد من الزوجين صاحبه؟. 2 - ولمَ اختلف في الرجعية؟. 3 - ولمَ أجاز غسل أمته ومن ذُكر معها؟. 4 - ولمَ أجاز غسل ذوي المحارم بعضهم بعضًا على صفة ما ذكر؟. 5 - ولمَ لَمْ يغسل المسلم نسيبه الكافر؟. فَالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما غسل المرأة زوجها فجائز من غير خلاف إلا رواية عن ابن حنبل. ودليل الجماعة ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وصّى أن تغسله أسماء بنت عميس. وقالت عائشة رضي الله عنها: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير نسائه. فأما غسل الزوج زوجته فيجوز عندنا وعند الشافعي. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة لا يجوز أن يغسل الرجل زوجته. فدليلنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أشتكي فقال: وا رأساه! فقلت بل أنا وا رأساه! فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما عليك لو متّ ¬

_ (¬1) يستبيحها -غ-. (¬2) الرجل الرجل -والمرأة المرأة والرجل -و-. (¬3) يكفنه -و-.

لغسلتك وكفنتك وصليت عليك (¬1). فلولا أنه جائز لما أخبر أنه يفعله. وأيضًا فقياسًا على غسل الزوجة زوجها. وأما أبو حنيفة فإنه يحتج بأنها فرقة تبيح له نكاح أختها فحرم النظر إليها كالمطلقة قبل الدخول. وقد اختلفت طريقة أصحابنا وأصحاب الشافعي في الانفصال عن هذا. فانفصل أصحاب الشافعي بأن المطلقة قبل الدخول لا يجوز لها غسله فكذلك لا يجوز له. وفي مسألتنا يجوز لها غسله فجاز له. وأصحابنا لا يرون هذا الانفصال لأن أشهب قال: تغسله زوجته وإن لم يبن بها. قال سحنون وكذلك يغسلها هو. والتعويل في الانفصال على أصلنا أن أحكام الزوجية باقية بعد الموت بدليل التوارث. والتوارث في مقتضى حكم الزوجية. فإذا أشعر التوارث ببقاء حكم الزوجية أجزنا غسل أحدهما صاحبه. فأما الجمع بين الأختين فإنما يمنع فيما طريقه التلذذ. فمن نكح امرأة حرم عليه التلذذ بأختها. والغسل لا تلذذ فيه وإنما بابه باب العبادات. والنظر فيه إلى المغسول يثمر الاعتبار لا اللذة. فلهذا أجزنا الغسل لمّا كان ليس موضوعه وموضوع حكم الجمع بين الأختين موضوعًا واحدًا. وقد كان يجوز له غسلها حال الحياة فانسحب حكمه على ما بعد الموت على ما ذكرناه. ولهذا قلنا إن لها أن تغسله ولو تزوجت غيره إذا وضعت قبل غسله. قال ابن حبيب ورآه كجواز غسله لها. وإن تزوج أختها. وقد كان قال أحب إليّ ألا يغسلها إذا تزوج أختها. وليس بحرام. وقاله أشهب وكرهه ابن القاسم أيضًا في أحد قوليه. ولو كان الزوج مسلمًا والزوجة نصرانية فليس له غسلها , ولا تغسله هي إلا بحضرة المسلمين إذ لا يوثق بها إذا خلت به. ولو كان الزوجان عبدين لجاز أن يغسل أحدهما صاحبه. وإذا ظهر بعد الموت ما يمنع من صحة النكاح فإن كان فاسدًا لا يقرَّان عليه كنكاح المَحْرم والشغار، فلا يغسل أحدهما صاحبه. وكذلك نكاح المريض والمريضة. ولا يتوارثان فيه لأنه قد قيل عندنا يفسخ النكاح وإن صحّا. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجة حديث 1465.

وإن كان النكاح الفاسد مما يفوت بالدخول بأن يكون فساده في صداقة غسلها بعد البناء لا قبله. وأما ما صح من النكاح ولكن ثبت فيه خيار كوجود عيب بأحدهما يوجب الردّ وما في معنى ذلك فإن ذلك لا يمنع من الغسل. قاله سحنون. وأشار بعض الأشياخ إلى تخريج هذا على الاختلاف في القيام بالعيب بعد الموت. فمن مكّن من أصحابنا من القيام به بعد الموت وكان حكم الغسل موقوفًا على خيار من له الخيار. فإن اختار ردّ العصمة بالعيب لم يجز له الغسل. وإن اختار الاستمساك بها لما يكون له في ذلك من فائدة ميراث أو غيره جاز الغسل. وفي هذا التخريج عندي نظر. لأن الخيار إذا وقع بردّ العصمة بعد الموت فهل يكون رافعًا لها من حين العقد؟ هذا أصل مختلف فيه. فيتخرج على هذه الطريقة الاختلاف في هذا الأصل. إلا أن يحتاط للغسل فيرفع منه الخلاف فلا يباح. والظاهر من منصوص أصحاب هذه الطريقة أنهم يرون الاختيار إذا وقع بالردّ، فكأن العصمة لم تكن في منع الميراث، وما في معناه من حقوق الزوجية. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا وقع الطلاق البائن ثم حدث الموت بعده، فإن غسل أحدهما صاحبه لا يباح، كالأجانب. ولو كان الطلاق رجعيًا ثم حدث الموتُ ففي المدونة المنع من الغسل. وفي المبسوط إجازة الغسل. وفي كتاب أبي الفرج روى ابن نافع عن مالك في المطلقة واحدة يموت زوجها قبل الرجعة أنها تغسله، وبالمنع قال الشافعي في الطلاق، ولم يبح للزوج غسلها فيه. فمن أجاز اعتل بالتوارث وهو يشعر ببقاء حكم الزوجية كما كنا قدمنا. وأشار أبو إسحاق إلى هذا وأن التوارث أباح من (¬1) الرؤية في حال الحياة. وقد أجبنا عن هذا بأن المطلقة في المرض ترث، وإن كان الطلاق بائنًا. ثم الغسل لا يجوز. فلا اعتبار بالتوارث. وإنما الاعتبار بإباحة الوطء. وانسحاب إباحته. والمطلقة الرجعية محرّمة الوطء وسنتكلم على الخلاف في تحريم الطلاق للوطء في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) هكذا. ولعل الصواب حذف من.

فإذا وضح ما قلنا في حكم الزوجين فإنا إذا أجزنا غسل أحدهما صاحبه فإنه يستر عورة المغسول. وأجاز ابن حبيب أن يغسل أحد الزوجين صاحبه والمغسول منهما عريان من غير ضرورة. وفي كتاب ابن سحنون قال أشهب ويغسل أحد الزوجين صاحبه مجرّدًا. قال سحنون يعني ستر عورته. وهو قول أصحابنا. وإذا أجزنا للمرأة غسل زوجها فقال ابن الماجشون لها أن تجففه وتكفنه ولا تحنطه إذ هي حادّ، إلا أن تضع حملها قبل ذلك إن كانت حاملًا، أو يكون بموضع ليس فيه من يحنطه فلتفعل ولا تمس بالطيب إلا الميت. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما غسل السيد أمته ومن في معناها كأم الولد والمدبرة فإنه جائز. وقال أبو حنيفة لا يجوز، ويعتل بما قدمناه من جواز وطء الأخت. والتفرقة بين حكم جمع الأختين ها هنا وبين جواز الغسل، قد تقدم الكلام عليه. ولا يغسل مكاتبته ولا المعتق بعضها ولا المعتقة إلى أجل. ومن له فيها شرك ولا كل من لا يحل له وطؤها. وأما غسل الأمة سيدها فإنه يجوز عندنا وكذلك أم ولده ومدبّرته. قال الشافعي: أم الولد على أحد الوجهين عنده. وقال في الوجه الآخر لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة. ويعتل لهذا القول بأنها تعتق بموته، فصارت أجنبية منه. وقد قدمنا نحن الانفصال عن مثل هذا. وإذا وضح ما قلناه في غسل مَن الوطءُ بينهما مباح، فهل يقضي بذلك لمن طلبه منهما؟ قال سحنون يقضى للزوج بغسل زوجته ولا يقضى لها على أوليائه. وللامة غسل زوجها العبد وإن ولدت منه وللعبد غسل زوجته حرّة ويأذن له السيد في غسلها فيقضي له بذلك. وإنما فرق سحنون بين القضاء للزوج بغسل زوجته وبين القضاء لها لمعنى نبه عليه في لفظ روايته. وذلك لأن الرجل له أولياء يغسلونه. فلو قضينا لزوجته لأسقطنا حق الأولياء في ذلك. وأما المرأة فلا يغسلها أولياؤها. وإذا كان غسلها موكولًا إلى النساء لم يكن في القضاء للزوج بغسلها إسقاط حق أحد. فلهذا قُضي له. وهذا معنى قول سحنون لا يقضى لها على أوليائه. وهذا تنبيه منه على أن الزوج لو لم يكن له ولي لوجب

القضاء لها بغسله. كما يقضى له بغسلها لاستوائه ها هنا, لأنه ليس هناك حق أحد يسقط. ولهذا قال أيضًا بأنه يقضى للزوج إذا كان عبدًا. وأذن له سيده وكانت زوجته حرة لأن القضاء ها هنا على النساء لا على الأولياء. فلو كانت زوجته أمة لم يقض له لأن القضاء بذلك ها هنا على الولي الذي هو السيد. ومال بعض أشياخنا إلى كون الزوج أحق من السيد استثقالًا لاطلاع سيدها عليها لمّا ماتت وهي في عصمة زوج. وكذلك أيضًا ما ذكرنا من أن سحنون لم يقض للأمة بغسل زوجها العبد، فإنما ذلك لحق سيده. ولو كان مالك العبد امرأة قدّم أولياؤه كابنه وأخيه على زوجته. فإن لم يكن له أولياء قضي ها هنا لزوجته إذ ليس في القضاء ها هنا إسقاط حق لأحد. وهذه طريقة سحنون. وذكر ابن المواز عن ابن القاسم أن كل واحد من الزوجين أولى بغسل صاحبه. قال أبو محمَّد هو أولى من قول سحنون. وقال بعض أشياخنا لكونها أستر لزوجها. وقد تنكشف عورته للولي إذا غسله فكان الأولى تقدمة الزوجة على الأولياء. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا مات الميت ولم يوجد رجل يغسله ولكن وجدت امرأة، أو ماتت امرأة ولم توجد امرأة تغسلها ولكن وجد رجل، فلا يخلو الموجود: إما أن يكون لا رحم بينه وبين الميت أو بينهما رحم. فإن كان لا رحم بينهما، فعندنا أن حكم الميت أن يُيمم. فإن كان رجلًا يُمم إلى المرفقين. وإن كانت امرأة يُممت إلى كوعيها. وبالتيمم على الجملة، قال ابن المسيب وأبو حنيفة وابن حنبل. وقال قتادة والزهري والنخعي يُجعل عليها ثوب ويصبّ الماء من تحت الثوب ويمرّ الغاسل يده عليها بخرقة. وقال الحسن وإسحاق يصب عليها الماء من فوق الثوب. وقال الأوزاعي لا تُيمم ولا تُغسل. وروي ذلك عند ابن عمر. وللشافعية وجهان: أحدهما ما قاله ابن المسيب. والثاني ما قاله قتادة. واختار بعضهم مذهب الأوزاعي واحتج له بأن التيمم مباشرة من ليس بمحرم له. والغسل يتعذر لأنه يحتاج فيه إلى النظر إلى المواضع التي لا يصل إليها الماء. ولو وجد من جنس من يغسل من هو كافر، فهل يمكن من الغسل أم لا؟ فقيل يعلّم الكافر الغسل ليغسل الرجل. وتعلّم الكافرة الغسل لتغسل المرأة.

قاله مالك. وقال أشهب لا يلي ذلك كافر ولا كافرة، وإن وُصف لهما. ولا يؤتمن على ذلك كافر. وقال سحنون يدَعوا (¬1) الكافر يغسل وكذلك الكافرة، ثم يحتاطون بالتيمم فيهما. وإن كان بين الميت والغاسل رحم فاختلف في ذلك. ففي المدونة في المرأة يغسلها من فِوق الثوب. وفي الرجل يغسلنه ويسترنه. واختلف قول ابن القاسم فقال يغسلنه من فوق الثوب. وقال يسترن عورته. وظاهر هذا تجريده للغسل. وهكذا قال عيسى بن دينار ينزع ثوبه وتستر عورته. وفي المختصر إذا مات وليس معه إلا أمه أو ابنته أو أخته فلا بأس أن يغسلنه ما لم يطلعن علي عورته. فإن كانت امرأة معها أبوها أو أخوها أو ابنها ولا نساء معها فلا بأس أن يغسلها في درعها. ولا يطلع على عورتها. وقال أشهب في كتاب ابن سحنون أحب إليّ في أمه وأخته أن ييممها وكذلك المرأة في ابنها. قال سحنون لا أعلم من يقوله غيره من أصحابنا. وقول مالك: أحب إليّ ولو فعل ذلك لرجوت أن يكون واسعًا. وذكر في المجموعة أن المرأة يغسلها ذو المحارم منها من فوق الثوب وأن مالكًا أنكر ذلك في رواية ابن غانم. واحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للسائل عن الاستئذان على أمّه: أتحب أن تراها عريانة (¬2). قال أشهب فإن غسلها من فوق الثوب فواسع. قاله مالك ولكن أكرهه للتعرض أن يضع يده على ما لا يصح مسه من جسدها وعورتها. ولكن ييممها إلى المرفقين. وكذلك المرأة تكون في ذوي محرم منها فتيممه أحب إليّ، وإن غسلته رجوت سعته. وكذلك ذكر ابن حبيب أن ذا المحرم إذا لم يجد الماء يممها إلى المرافق وإنما يُمم إلى الكوعين الأجنبي وجد الماء أو لم يجد. وأن ذا المحرم إذا غسلها صبّ الماء من تحت الثوب ولا يلصقه بجسدها فيصف إذا ابتلت عورتها ولكن يجافيه ما قَدَر. وسبب هذا الخلاف الموازنة بين الاطلاع على ما الأصلُ منع الاطلاع عليه، وبين ترك ما تُعبدنا به من غسل الميت. فلما اتضح عندنا شدة المنع من الاطلاع على الأجنبية كان الحكم التيمم. ولما كان ذو المحرم يؤمن تلذذه ¬

_ (¬1) هكذا وصوابه يدَعُون. (¬2) رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار كتاب الاستئذان ج 1ص 597.

بالنظر كان أخفض رتبة للأمن عليه. فجعلنا له الغسل على صفة ما ذكرنا من الغسل للمرأة من فوق الثوب. وللرجل على القولين عندنا هل من فوق ثوب أو مجردًا مستور العورة؟ وقد قال مالك لا أرى أن يغسل الرجل أم امرأته ولكن ييممها، ففرق ها هنا بين التحريم تحريم نسب أو تحريم صهر. لأن النفوس قد يوجد في بعضها منازعة إلى التلذذ بالصهر، ولا يوجد ذلك فيها في النسب المحرم. وكان قد قال أشهب في المبسوط رأيًا أنه لا يكاد ينفك مع الغسل من الاطلاع على ما لا يجوز الاطلاع عليه. فقالا بالتيمم ورأيا (¬1) أن مباشرة ما لا يباشر بالتيمم (¬2) من تركه الغسل (2). ولأجل هذا الذي نبهنا عليه أجزنا غسل من لا يستلذها. يقول مالك لا بأس أن تغسل المرأة الصبي ابن ست سنين وابن سبع. ويغسل الرجل الصبية الصغيرة إذا احتاج إلى ذلك. قال ابن حبيب تغسل المرأة الصبي ابن سبع ونحوه إلا الصغيرة (¬3) جدًا. قاله مالك وأصحابه. وقال أشهب إذا كان يشتهى مثلها فلا يغسلها الرجل. وذلك (¬4) يتقي منها مثل ما يتقى من الصبي. قال ابن مزين قال ابن القاسم لا يغسلوها (¬5) وإن صغرت جدًا. وروي عن مالك إجازة غسل المرأة لابن تسع سنين. وقال الشافعي يجوز للمرأة غسل الصغير. ولم يُحدّ السنن, وقاله أصحابه. والذي يجيء على هذا المذهب أن لا يكون مميّزًا. وقال الحسن إذا كان فطيمًا أو فوقه شيئًا. وقال الأوزاعي أربع سنين أو خمس. وقال إسحاق ثلاث إلى خمس. وقال أبو حنيفة ما لم يتكلم. وحكم الصبية عند الشافعي، حكم الصبي. قال أصحابه فيما حكيناه من الأقوال أنه كمذهبهم إلا قول مالك (¬6). وإن كان أبو حنيفة أراد بالكلام الزمن المعتاد فهو أيضًا موافق لما ذهب إليه. وإن أراد به على الإطلاق فليس بصحيح, لأن الكلام قد يتأخر. ¬

_ (¬1) عود الضمير مثنى يدل على أن معطوفًا على أشهب سقط من الناسخ. (¬2) كلمة ممحوة عسر علينا قراءتها ولعلها أحسن. (¬3) هكذا في الأصل. ولعل الصواب لا يغسل الرجل الصبية إلا الصغيرة جدًا. (¬4) هكذا في الأصل ولعل الصواب ومع ذلك. (¬5) هكذا. والكلام على الحكاية لا على الأمر. فلا وجه لحذف النون. (¬6) هكذا في الأصل.

وأنت ترى إجازة العلماء غسل المرأة الصبي والرجل الصبية وإن لم يكن بينهما رحم. وما ذاك إلا للأمن من الشهوة. وقد نبه بعض أصحابنا كما ذكرناه، وهو يؤكد عندك ما اعتللنا به. وأنه مقصد المختلفين في ذلك. ولو اقتصر على التيمم حيث ذكرنا الاقتصار عليه ثم وجدنا الغاسل فذكر سحنون في نساء يممن رجلًا إلى المرفقين وصفين عليه صفًا واحدًا أفذاذًا ثم جاء رجل قبل أن يدفن قال لا يغسل ولا يصلى عليه ثانية. وقد أجزنا ما فعل النساء في وقت يجوز لهن ذلك. ولو غُسل ودُفن بلا صلاة لم أرَ بذلك بأسًا والأول أحبّ إليّ. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما المشرك إذا لم يكن له قريب مشرك يتولى أمره وله قريب من المسلمين فلا خفاء بأنه لا يصلي عليه لقول الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1). وأما غسله إياه فمنعه مالك، وأجازه الشافعي. فأما مالك فإنه قاسه على الصلاة. فإذا كان لا يصلي عليه فلا يغسله. وأما الشافعي فإنه يرى أن المقصود من الصلاة الدعاء بالمغفرة والرحمة. وذلك لا يحصل للكافرين. فلا فائدة في طلب ما يعلم أنه لا يحصل. وأما الغسل فالمقصود منه التنظيف، وذلك يحصل. فلهذا فُعِل. ويحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليًّا بأن يغسل أباه أبا طالب وأمره بدفنه. وكان مات كافرًا (¬2). وقال مالك في ذمّي مات وليس معه أحد من أهل دينه أنه يوارى فإن له ذمة. وقال في المسلم يموت أبوه الكافر لا يغسله ولا يتبعه ولا يدفنه إلا أن يخشى أن يضيع فيواريه. قال أشهب ولا يستقبل به متعمدًا قبلة أحد. وقال ربيعة في المدونة في كافر بين مسلمين يوارونه ولا يستقبلون به القبلة ولا قبلتهم. قال ابن القاسم وأشهب إن مات المسلم فلا يوكل إلى ابنه الكافر في شيء من أمره من غسل ولا غيره. قال أشهب: فأما مسيره معه ودعاؤه له فلا يمنع منه. قال مالك ولا يعزّى المسلم بأبيه الكافر لقوله تعالى: {مَا لَكُمْ ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 84. (¬2) لم أجده.

مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (¬1). فمنعهم الميراث وقد أسلموا حتى يهاجروا. وقال ابن حبيب لا يحمل المسلم نعش الكافر ولا يحمل الكافر نعش المسلم. ولا بأس أن يقوم على قبره وأن يحفره وأن يطرح عليه التراب. ولو مات لمسلم كافر يلزمه أمره مثل الأبوين والأخ وشبه ذلك فلا بأس أن يحضره ويلي أمره ويكفنه حتى يخرجه ويبرأ به إلى أهل ذمته. فإن كفي دفنه وأمن الضيعة عليه فلا يتبعه فإن خشي ذلك فليتقدمهم إلى قبره. وإن لم يخش ضيعته وأحب أن يحضر دفنه فليتقدم أمام جنازته معتزلًا منه، وممن يحمله. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذِن في ذلك أن يتقدم أمام جنازته (¬2). قال مالك إذا خشي عليها الضيعة تقدمها ولا يدخلها قبرها إلا ألا يجد من يكفيه ذلك. وفي كتاب ابن سحنون يعزى الذمي في وليه إن كان له جوار. يقال له أخلف الله لك المصيبة وجزاه أفضل ما جوزي أحد من أهل دينه. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والكفن والحنوط من رأس المال ويستحب في الكفن الوتر والبياض. ويجوز فيه اللبيس. ويجوز في الحنوط المسك والكافور وكل الطيب. ويُعتمد به مفاصله ومواضع السجود (¬3) منه. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما حكم الكفن؟. 2 - وما قدره؟. 3 - وما المختار منه؟. 4 - ومن يلزمه التكفين؟. 5 - وما حكم الحنوط؟. 6 - وهل يحنّط المحرم؟. ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية: 72. (¬2) لم أجده. (¬3) سجوده -غ- الغاني.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: التكفين عندنا واجب. وقد اشتهر في الشرع العمل به، ومضى المسلمون عليه. ولأن ستر العورة واجب في حق الحي. وحرمة الميت كحرمة الحي. فإذا لم يمكنه سترها سترناها نحن. وإذا ثبت وجوبه فإنه يقدم على حق الوارث وعلى حق الغريم أيضًا. قال مالك في المختصر وغيره: والكفن والحنوط من رأس المال. قال والرّهن أولى من الكفن والكفن أولى من الدين. قال طاوس في مؤنة الميت إن كان له مال كثير، فمن رأس ماله. وإن كان قليلًا فمن ثلثه. قال .. (¬1). الدليل على أن الكفن من رأس المال أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك إلا نمرة فكفن فيها (¬2). وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي وقص به بعيره: كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما (¬3) ولم يسأل عن قلته (¬4). وقياسًا على المفلس الحيّ فإنه تقدم كسوته على ديونه. وقال المخالف ما زاد على ستر العورة ليس بواجب. فكان من الثلث. ينتقض بالحي. وأما تقدمة حق المرتهن فلأن الميت، وإن تعلق له حق بأن يكفن من ماله، فإن ما رهنه من ثيابه قد تعلق به حق المرتهن قبل تعلق حق الميت بالتكفين. ورضي الراهن بإسقاط حقه فيما رهنه حتى يفتكه. فلهذا قدّم المرتهن. وأما تقدمة الكفن على الغريم فلأن الحي إذا فُلّس لم يكن للغرماء نزع ثيابه عنه التي لا بدّ له منها. فإذا كان من حقه بقاء لباسه في حال الحياة، وإن أفلس فكذلك في حال الموت. فإذا ثبت وجوب التكفين فهل يتكرر وجوبه إذا تكررت الحاجة إليه بأن ينبش فيسرق كفنه؟ فاختلف في ذلك. فقال مالك في المبسوط يتجدد له كفن. وقال ابن القاسم في العتبية على ورثته أن يكفنوه من بقية تركته. فإن كان عليه ¬

_ (¬1) هو بمقدار سطر. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي من حديث خباب بن الأرت. الهداية ج 4 ص 314. (¬3) رواه البخاري. فتح الباري ج 3 ص 379 - 381. ورواه مسلم. إكمال الإكمال ج 3 ص 319 - 320. (¬4) هكذا ولعل الصواب تركته.

دين محيط فالكفن الثاني أولى. قال أصبغ: لا يلزم ورثته أن يكفنوه ثانية في بقية ماله إلا أن يشاؤوا ويحتسب فيه محتسب. قال سحنون إذا كان بحِدْثان دفنه ولم يقسم ماله فليكفن ثانية من رأس ماله. وإن كان قسم ماله فليس ذلك على ورثته، وإن كان أوصى بثلثه لم يجدّد كفنه من ثلثه ولا غيره. قال سحنون أيضًا ليس على الورثة أن يكفنوه. قال الشيخ أبو الحسن: لا بد من ستر عورته. وإذا خيف نبشه كانت حراسته من رأس المال. قال أبو العلاء البصري لو نبش فأكله السبع وبقي كفنه لكان للورثة. وإذا كان لهم ها هنا كان عليهم أن يعيدوا الكفن إذا سرق. فوجه القول بإعادة التكفين أن الكفن من حقوق الميت متعلق بماله وإنما حق الورثة فيما فضل عن ذلك .. (¬1). كان حق الميت في التكفين مقدمًا على حق الوارث ولم يتعين حقه في كفن بعينه بل من حقه الستر من ماله وجب إعادة التكفين. لأن حقه لم يكن معلقًا بذلك الكفن المسروق خاصة، حتى تكون مصيبته منه. ووجه القول بسقوط إعادة التكفين أن حقه يقوم على الوارث بقدر الكفن. فإذا كُفن فقد وصل إليه حقه وصار ما فضل عن ذلك يخلص للوارث، فلا يلزم أن يكفنه من حق قد خلص إليه. وقد كان الميت قبض حقه منه فجائحته بعد القبض منه. ووجه القول الثالث أن قسمة المال تمييز حق الوارث من حق الميت. فإذا يتميز الحقان لم يلزم الوارث أن يكفن الميت من حق قد يتميز. ولو كان قد أوصى بالثلث لم يلزم أيضًا إعادة كفنه. وإن كان الثلث على ملك الميت لم يخرج لأنه بالقسمة قد خلص للموصى لهم وتميّز فلا يلزم التكفين منه بعد خلوصه لأهله. وإذا كفن الميّت ثانية ثم وجد الكفن الأول فهو ميراث. قال محمَّد بن عبد الحكم إلا أن يكون على الميت دين فيكون للغرماء. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما عدد ما يكفن فيه فقد قال عيسى في شرح ابن مزين يجبر الغرماء والورثة على ثلاثة أثواب من مال الميت. وإن قالوا تكون غليظة لم يكن ذلك لهم إذا كانت لا تشبهه. وهذا الذي قاله ¬

_ (¬1) كلمة ممحوة في الأصل. ولعلها وإذا.

عيسى في جبر الغرماء على ثلاثة أثواب لا يقتضيه النظر إلا أن تجري بذلك عادة يعلم أن الغرماء دخلوا عليها. فلعله رأى أن العادة اطردت بذلك ففرضه له. ولم يفرض له ما يترك حال الحياة في الفلس. وفي المدونة أحبُّ إليّ أن يكفن الميت في ثلاثة أثواب إلا أن لا يوجد ذلك. ويستحب أن يكون الكفن وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا. قال بعض أشياخنا لا أرى أن يجاوز السبع لأنه في معنى السرف. قال مالك ليس في كفن الميت حدّ. والوتر أحب إلينا ولا بأس أن يكفن الميت في غير ثوب. وهكذا عنه في المختصر والمجموعة. وروى أيضًا عنه ثوبان أحبّ إلينا من ثوب. يعني أن الواحد وإن كان وترًا فإنه يصف. والاثنان إذا كان شفعًا فهما أستر. وقال في المختصر كفّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب. وكفّن النبي - صلى الله عليه وسلم - الشهداء يوم أُحد اثنين في ثوب. وكفّن ابن عمر ابنه في خمسة أثواب. وكفّن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ثوب فيه مشْق. وذكر أشهب أن أبا بكر رضي الله عنه كفّن في ثوبين. وروى ابن القاسم عن مالك أنه كفّن في ثلاثة. وقال أشهب لا يكفن رجلان في ثوب إلا من ضرورة وقال لا بأس بالكفن في ثوب الرجل للمرأة. ولا أحبّ أن يقصر في (¬1) ثوبين للرجل لمن وجد. لأن الثوب الواحد يصف ما تحته قال ابن القاسم الوتر أحبّ إلى مالك في الكفن وإن لم يوجد للمرأة إلا ثوبان لفّت فيهما. وكذلك من لم يبلغ من صبي أو صبية فالوتر أحب إلى مالك فيه. قال أشهب وسحنون هذا فيمن راهق. وأما الصغير فالخرقة تكفيه. وإذا أوصى أن يكفّن في سرف أو أوصى بمثل ذلك في حنوطه وإقباره فلا يجوز في رأس المال إلا ما يجوز مثله لو لم يوص. قاله أشهب وابن القاسم. قال مالك لا يجوز من ذلك إلا ما يكفّن فيه مثله. قال سحنون في الموصي أن يكفّن في سرف يجعل قدر القصد في رأس ماله، والزائد في الثلث. قال ابن شعبان وقد قيل الزائد على قدر .. (¬2). رأس المال وهو ممنوع من إخراجها منه. فهل يخرج الثلث أم لا إذا كانت الوصية مما تجوز؛ وهذا فيه من التنازع ما يذكر في ¬

_ (¬1) هكذا. ولعل الصواب عن. (¬2) هو بمقدار سطر.

موضعه إن شاء الله تعالى. قال سحنون فيمن أوصى أن يكفّن في ثوب واحد فزاد بعض الورثة ثوبًا آخر فذلك له ويجعل إذا كان في التركة محمل ذلك. قال ابن شعبان إذا أوصى بشيء يسير في كفنه وحنوطه لم يكن لبعض الورثة الزيادة بغير ممالاة من جميعهم. قال سحنون في غريب لا يعرف له أهل مات عن دينار أو دينارين لا بأس في مثل هذا اليسير أن يجعل كله في كفنه وحنوطه وقبره. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: خرّج مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمران يحسّن كفن الميّت (¬1). قال ابن حنبل القصد في الكفن أحبّ إليّ من المغالاة فيه. ورُوي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. قال أشهب في (¬2) الخلَق والجديد سواء. وليس على أحد غسله إذا لم يخف نجاسة، وواسع في البرود. والبياض أحب إلينا. قال ابن حبيب أحب إلى مالك في التكفين خمسة أثواب تعد فيها العمامة والمئزر والقميص ويلف في ثوبين. وذلك في المرأة ألزم لأنها تحتاج إلى مئزر وتشد بعصايب تشد من حقويها إلى ركبتيها ودرع وخمار وثوبين تدرج فيهما. قال ابن حبيب وثوبان أحب إلينا من ثوب يعني لأنهما أستر. وثلاثة أحب إلينا من أربعة يعني لكونها وترًا. قال ابن شعبان والمرأة في عدة أثواب الكفن أكثر من الرجال. وأقله لها خمسة وأكثره سبعة. ولا ينقص الرجل الذي يجد من ثلاثة. ويكفن في مثل هيئته في حياته إن تشاح الورثة. وهذا الذي أشار ابن شعبان من اعتبار حال هيئته عند تشاح الورثة ظاهره خلاف ما كنا قدمناه في السؤال الذي قدمنا قبل هذا عن عيسى من إجباره الورثة على ثلاثة أبواب. قال ابن حبيب: ويستحب للرجل أن يوصى أن يكفن في أثوابه التي شهد فيها الجماعات والصلوات. وثوبي إحرامه إن حج رجاء بركة ذلك فقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنته حقوه (¬3). وقال أشعرنها إياه. وأعطى ثوبه الذي يلي جلده إلى ولد عبد الله بن أبي بن سلول يكفّن فيه ¬

_ (¬1) رواه مسلم. إكمال الأكمال ج 3 ص 82. (¬2) هكذا في النسخة ولعل الصواب حذفها. (¬3) أخرجه البخاري ومسلم. وتقدم تخريجه.

أباه (¬1). وأوصى سعد بن أبي وقاص أن يكفّن في جبة صوف شهد فيها بدرًا. والعلماء يحبون البياض في الكفن والحَبَر مستحب لمن قوي عليه. ورُوي نحوه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ورُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب فقيل إنها بيض. وقيل إن أحدها حبرة. والمستحب في لون الكفن البياض. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: البسوا البياض وكفنوا فيه موتاكم فإنها من خير ثيابكم (¬2). واختلف المذهب في المعصفر فكرهه في المدونة لأنه تغيير لون بما ليس بطيب. قال عنه ابن وهب: كره التكفين في الخزّ والمعصفر إلا أن لا يوجد غيره. قال عنه ابن القاسم في الرجل والمرأة قال عنه علي لا بأس بالمعصفر والمزعفر للرجال والنساء. وقد كُفن أبو بكر رضي الله عنه في ثوب مصبوغ أمرهم بغسله. فإما أن يكون أراد بغسله تطهيره أو ذهاب لونه. وأما الكفن في الحرير فكرهه في المدونة في الأكفان. وظاهره أنه كرهه للرجال والنساء. وكأنه رأى، أنه وإن كان جائزًا للنساء حال الحياة، فإنه إنما جاز لموضع الزينة. وذلك المعنى معدوم حال الموت ويصير من ناحية السرف لأن مصيره إلى المهنة والصديد. وفي سماع ابن وهب قيل لمالك فالرجل الميت يكفن في الثوب فيه الحرير قال ما يعجبني فإن فعل فأرجو أن يكون في سعة. فكأنه أشارها هنا إلى خفة الكراهة للرجال حال الموت لمّا كانت العبادة ساقطة بالموت. وفرّق ابن حبيب بين الرجال والنساء. فأجازه للنساء خاصة. ولا بأس أن تكفّن المرأة في الحرير والخزّ والمعصفر المفدم، (¬3) وما جاز لها لبسه. وللرجل لبسه في الحياة، فالكفن له أولها فيه مباح ما لم يُرد بذلك السمعة والنفخ (¬4) لأنه ليس في محل ذلك. قال ابن القاسم في العتبية تكفّن المرأة في الورس والزعفران. وكره مالك المعصفر إن وجد غيره. وأما العلم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ومسلم. فتح الباري ج 9 ص 403. وأخرجه أحمد والترمذي والنسائي والحاكم. فتح القدير ج 2 ص 155. (¬2) رواه ابن ماجة وأحمد. (¬3) الثوب المصبوغ بالأحمر صبغًا مُشبعًا. (¬4) الكبر: لسان العرب ج 3 ص 64.

الحرير ففي المجموعة لا يكره العلم الحرير في الكفن. قال أصبغ في العتبية لا يكفن في الحرير رجل ولا إمرأة إلا أن لا يوجد غيره ولا يلبس الرجل ما سداه حرير، وإن كان قلنسوة. ويحنث بلباسها الحالف ألا يلبس حريرًا. وقال ابن حبيب لا بأس في كفن الرجل بالعلم الحرير. وأما الخزّ فقال مالك في المدونة يكره في أكفان الرجال والنساء الخزّ والمعصفر. وقد سمعت عنه أنه يَكره الحرير محضًا في الأكفان. قال ابن القاسم وكذلك الخزّ لأن سداه الحرير. فقال مالك لا يكفّن فيه إلا أن يضطر إليه. وعنه في المجموعة أنه كره التكفين فيه إلا أن يوجد غيره. قال عنه ابن القاسم في الرجل والمرأة. قال بعض أشياخنا الخزّ الذي يعمل الآن بالأندلس داخل في جملة الحرير لأن سداه وطعمته حرير وليس كالذي يعمل بالمشرق. وقال عبد الوهاب يجوز لباس الخز وقد لبسه السلف وكرهه مالك لأجل السرف. وأما تعميم الميت فقال في المدونة: والرجل أحب إليّ أن يُعمم. قال فقلت له كيف يعمم أكما يعمم الحي؟ قال: لا أدري. إلا أنه من شأن الميت عندنا أن يعمم. وحكى عنه ابن شعبان في مختصره: ويعمم الميت من الرجال، والنساء يخمرن. وهكذا قال ابن حبيب استحب مالك أن يعمم الميت وتخمر الميتة. قال مطرف ... (¬1) ويكون منها قدر ذراع يغطي بها وجهه. وكذلك يترك من خمار الميتة لذلك. وقيل لابن القاسم في العتبية أيجعل في الكفن عمامة أو قميص ويؤزر الميت؟ قال أحب إليّ في كفن الميت ثلاثة أثواب لا يُجعل فيها قميص ولا عمامة ولا مئزر. ولكن يدرج فيهن إدراجًا. وكذلك كفن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما تقميص الميت فقد استحب مالك في هذا الذي نقلناه عنه أن لا يقمص. وفي الواضحة أنه يقمص. وقد قدمنا قول ابن حبيب أحب إلى مالك في الكفن خمسة أثواب تُعد فيها العمامة والمئزر والقميص. وباستحباب تقميصه قال أبو حنيفة. وحكى ابن القصار عن مالك والشافعي أنه مكروه. ورأيت بعض أصحاب الشافعي يعبّر عن مذهبهم بأنه لا يستحب القميص ولا العمامة للميت. وهذه العبارة إنما تتضمن نفي الاستحباب لا الكراهة. فدليل الكراهة قول عائشة ¬

_ (¬1) ممحو بمقدار ثماني كلمات.

رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كفّن في ثلاثة أثواب سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة (¬1). ولأن أفضل أحوال الحي حالة الإحرام لا يلبس المخيط فينبغي أن يشته الميت به في اللباس. ولأن القميص إنما يُراد للزينة والحرمة والميت ليس من أهل ذلك فليس في تقميصه فائدة. واحتج من يستحب بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في قميصه (¬2). وانفصل عنه الآخرون بأن رواية عائشة رضي الله عنها أولى لأنها أعلم بهذا. وأيضًا فيمكن أن يكون قد فتق القميص حتى صار كالرداء. قال بعض أشياخنا لا يقتصر في الكفن على قميص دون المدرج. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا كان الميت لا مال له ولا لهُ من تلزمه نفقته فكفنه في بيت المال. وإن تعذر الوصول إلى بيت المال فكفنه على جميع المسلمين. وإن كان الميت مليًّا فكفنه من ماله إذ لا يلزم أحد أن ينفق عليه إذا كان ذا مال، إلا أن يكون الميت زوجة فإن المذهب اختلف فيها. فإن كان تلزم الزوج نفقتها في ملئها فقال مالك يقضي على الزوج بتكفينها وإن كانت ملية. ورُوي عنه أيضًا أنها إن كانت مليّة. فذلك في مالها، وأن يلزم الزوج إذا كانت فقيرة. وقيل ليس على زوجها تكفينها وإن كانت فقيرة قاله سحنون. وروي عنه أيضًا أنه استحسن أن يكفنها الزوج إن كانت فقيرة. واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فقال بعضهم كفن المرأة في مالها وبه قال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال بعضهم بل في مال الزوج فيحتج من أسقط الكفن عن الزوج بأن النفقة في مقابلة التمكين من الاستمتاع وذلك يزول بالموت. وأما العبد فإنه يلزم سيده أن يكفنه، وإن كان قد سقط الملك بالموت. لأن ذلك من الحقوق التابعة للملك وقد كان الملك، فوجب الإنفاق. فهذا الحكم ينسحب على العبد حال الموت حتى تنقضي المؤن اللازمة في الميت. وبهذا المعنى يقدح فيما قدمنا بتعليل من علل سقوط الكفن عن الزوج بسقوط التمكين من الاستمتاع. ¬

_ (¬1) البخاري ج 2 ص 95/ 96 ومسلم ح رقم 941 ج 2 ص 649. (¬2) أخرجه أبو داود وابن ماجة وفي إسناده يزيد بن أبي زياد. أخرجه مسلم في المتابعات. وقال غير واحد من الأئمة إنه لا يحتج بحديثه. نصب الراية ج 1 ص 261.ومختصر المنذري ح 3024.

لأن النفقة تجب للعبد بحق الملك ثم الملك يزول بالموت. ومع هذا لم تزل عن السيد المطالبة بالكفن. وأما من يلزم الإنفاق من الأقارب كالولد والأب فاختلف المذهب في تكفينهم هل يتْبع وجوب الانفاق عليهم أو لا؟ فقيل ذلك تابع للانفاق. وإلى هذا ذهب ابن الماجشون. وإليه نحا ابن القاسم. وقيل لا يتبع ذلك الانفاق. وقال أصبغ لا يلزمه ذلك إلا في عبيده. وصوّب ابن حبيب القول الأول. واعتل بأنه كما لا ينقطع حقه بموته من ماله في كفن نفسه، فكذلك في حق من تلزمه نفقته إذا ماتوا. وقال سحنون لا يلزم التكفين إلا في عبيده وإن كانوا كُفارًا. هذا في القياس. وأما في الاستحسان فيلزمه في الولد الصغار وللبنات الأبكار، وأما الزوجة والأبوان فلا. وجميع ما قدمناه في الكفن بحكم الإنفاق في محل الدفن حتى يوارى كحكمه. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: ذكر ابن حبيب في الواضحة ونحوه لأشهب في المجموعة أن الميت عند فراغ غسده ينشّف بدنه في ثوب وعورته مستورة. وقد أجمرت ثيابه قبل ذلك وترًا. فإن أجمرت شفعًا فلا حرج (¬1) ثم يبسط الثوب الأعلى. فقال أشهب اللفافة التي هي أوسع أكفانه ثم الأوسع فالأوسع من باقيها. قال ابن حبيب فيُذرّ على الأول من الحنوط ثم على الذي يليه. هكذا إلى أن يلي جسده فيُذّر عليه أيضًا. قال أشهب وإن جعل الحنوط في لحيته ورأسه والكافور فواسع. قال ابن حبيب ثم يجعل الكافور على مساجده من وجهه وكفيه وركبتيه وقدميه ويجعل منه في عينيه وفي فمه وأذنيه ومرفقيه وإبطيه ورفغيه. وعلى القطن الذي يجعل بين فخذيه لئلا يسيل منه شيء ويشد بخرقة إلى حجزة مئزره. وهذا الذي قاله ابن حبيب من جعل الكافور على مساجده لعله خصها بذلك إكرامًا لها لما كانت هي الأعضاء المتقرب بها إلى الله سبحانه. فمواضع الحنوط خمسة على ظاهر جسد الميت، وفيما بين أكفانه لا فوق كفنه وعلى مساجده السبع الجبهة والأنف والركبتين وأطراف أصابع الرجلين ذكره في شرح ابن مزين. وفي منافذ الوجه التسعة العينين والأذنين والفم والمنخرين وفي المغابن وفي الأرفاغ وهو كل موضع ¬

_ (¬1) كلمة ممحوة والأقرب للصواب ما أثبتناه.

يجتمع فيه نحو الإبطين ومراجع الركبتين وهي المغابن. وهو قول عطاء. فإن لم يحمل جميع هذه المواضع الخمس، فالبداية عند ابن القاسم بالمساجد السبع ذكره عنه ابن مزين. فان كثر فعلى جسده وبين الأكفان. ولم يزد على ذلك. قال سحنون ويسدّ دبره بقطنة فيها ذريرة ويبالغ فيه برفق. قال ابن حبيب وتسد مسام رأسه بقطن عليه كافور نحو أذنيه ومنخريه، ثم يعطف بالثوب الذي يلي جسده بضم الأيمن إلى الأيسر ثم الأيمن عليه. كما يلتحف في حياته. وقاله أشهب في المجموعة. قال وإن عطف الأيمن أو لا فلا بأس ويفعل هكذا في كل ثوب. ويجعل عليه الحنوط إلا الثوب الأخير فلا يجعل على ظاهر كفنه حنوط ثم يشد الثوب عند رأسه وعند رجليه. فإذا ألحدته في القبر حللته. قال أشهب إن تركت عقده فلا بأس ما لم تنبتر أكفانه. وفي كتاب ابن شعبان ويخاط الكفن على الميت ولا يترك بغير خياطة. قال أشهب في المجموعة: وتكفن المرأة نحو ذلك وليُغط رأسها كما يُغطّى بالدفن. قال مالك ولا بأس أن يحنّط بالمسك والعنبر، وما يتطيب الحي. ولْيَل تحنيط المحرم وغيره محرم (¬1). وليغط رأسه كما يغطى بالدفن. قال ابن شعبان في مختصره: أجمع الناس أنه لا بأس أن يعني بالمسك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يم حنط به. وأوصى به علي ابن أبي طالب في حنوطه (¬2) ولم يكرهه أحد غير الحسن وعطاء ومجاهد. وأجازه للمحرم من أجاز تحنيطه. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: مذهبنا ومذهب أبي حنيفة والأوزاعي أن الموت يقطع حكم الإحرام فيخمر رأس الميت ويطيب وبه قال ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما. وقال الشافعي لا ينقطع حكم الإحرام بالموت فلا يلبس المخيط ولا تشد عليه أكفانه ولا يخمّر رأسه ولا يطيب. روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم. فدليلنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: خمّروا وجوه ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب غير محرم. (¬2) عن أبي وائل قال كان عند علي رضي الله عنه مسك فأوصى أن يحنّط به. وقال هو فضل حنوط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الحاكم وابن أبي شيبة والبيهقي. قال النووي حسن. نصب الراية ج 1ص 259.

موتاكم ولا تشبهوا باليهود (¬1). وهذا على عمومه. ولأن الميت انقطع التكليف عنه وتكليفه لا يصح فلا معنى لبقاء حكم الإحرام لانقطاع التكليف. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا مات الميت انقطع عمله إلا من ثلاث (¬2). ذكرها ولم يذكر فيها الإحرام. وهذا تنبيه على صحة ما قال من انقطاع حكم العمل. مع أن ظاهر الحديث يوجب انقطاع حكم الإحرام بعموم ما ذكر فيه من الانقطاع سوى ما استثناه. ألا ترى أن المحرم إذا مات لا يطاف به ولا يفعل بجسده مناسك الحج. وإنما ذلك لاستحالة تكليفه وانقطاع العبادة عنه. فإذا لم يفعل به مناسك الحج دل ذلك على سقوط حكم الإحرام. وقد نبهت عائشة رضي الله عنها على ذلك فقالت: إنما هو جسد فاصنعوا بالمحرم كما تصنعون بموتاكم. فأما المخالف فإنه يستدل بما روي أن محرمًا خرّ من بعير فوقص فمات. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تمسوه طيبًا ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا (¬3). وأجيب عن هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في هذا معنى أشار به إلى أنه هو العلة في أن لا يطيب ولا يخمر رأسه. وهذا المعنى هو من الغيوب التي لا نعلمها نحن فيما سوى هذا المحرم فنقيس سائر المحرمين عليه. وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوحى إليه بأن هذا المحرم يبعث ملبيًا. فمن أين نعلم نحن أن غيره من المحرمين يبعث كذلك. ولا يمكن جزم القول بأن مراده - صلى الله عليه وسلم - أنه يبعث ملبيًا لأجل إحرامه. فيكون كل محرم يبعث ملبيًا لمشاركته هذا في الإحرام. لأنه يمكن أن يكون خص هذا المحرم بذلك إكرامًا له وتشريفًا. وإذا احتمل ذلك، لم يكن جعل الإحرام علمًا على البعثة ملبيًا في حق كل محرم. وقد اعتمدت الشافعية على أن الإحرام لما كان من العبادات التي يدخل الإنسان فيها بفعله وبفعل غيره لم تبطل بالموت كالإيمان. ألا ترى أن الإيمان يحكم به للولد بإيمان أبيه. فلا ينقطع حكم ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الكبير بسنده لابن عباس ورجال ثقاة. مجمع الزوائد ج 3 ص 25. (¬2) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. إكمال الإكمال ج 4 ص 154 ومختصر المنذري ج 4 ص 216. (¬3) رواه البخاري في باب الصيد ح 20/ 21. وفي الجنائز 19/ 20. ورواه مسلم في باب الحج ح 93/ 94. كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد.

الإيمان عن الصبي بموته. فكذلك الإحرام لما كان يدخل الصبي فيه بإحرام وليه لم ينقطع بالموت. ولا يُقاس الإحرام على غيره من العبادات. وهذا الذي قالوه يرده ما قدمنا الإشارة إليه من أن حكم الإحرام لو بقي بعد الموت ولم ينقطع لأجل كونه عبادة يدخل فيها بفعل غيره، لوجب أن يطاف بالميت ويسعى كما يطاف بالصبي ويسعى. فلما أجمع على أن الميت لا يفعل به ذلك دلّ على انقطاع حكم الإحرام، وأشعر بفساد ما قالوه. وأما الأحكام المتعلقة بالصبي بعد الموت فإنما هي عبادات تعبدنا نحن بها أن نفعل به ما كنا نفعل بأبيه. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: الصلاة على الميت واجبة وهي من فروض الكفايات لا تجزي إلا بطهارة كسائر الصلوات. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: وهما أن يقال: 1 - ما الدليل على أنها واجبة من فروض الكفايات؟. 2 - ولمَ نبّه على افتقارها إلى الطهارة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما مالك فقد قال الشيخ أبو الحسن بن القابسي رحمه الله لم أجد له فيها نصًا. وحكى ابن الجلاب أن مالكًا قال: انها واحمة وأما ................. (¬1). وقد قال الشيخ أبو الحسن ابن القابسي قوله فيمن تيمم لمكتوبة فصلاها أنه يتنفل بذلك التيمم ويصلي به على الجنازة يقتضي أن صلاة الجنازة غير واجبة. لأن مالكًا والجماعة لم يروا الجمع بين فريضتين بتيمم واحد. وقال غيره من المتأخرين قوله في المدونة في باب سجود القرآن: ألا ترى أن الجنازة يُصلى عليها بعد العصر ما لم تصفر الشمس، يقتضي أنها ليست بواجبة لإلحاقه إياها بسجود القرآن. وأنكر بعض الأشياخ هذا الاستنباط. وتال إن القائلين بوجوب صلاة الجنازة لا يرونها فرضًا على الأعيان وإنما يرونها فرضًا على الكفاية فليست بواجبة في حق كل أحد. فلما صارت ساقطة في حق كل أحد إذا قام بها من يكفي ألحقت بالنوافل في جواز صلاتها بتيمم الفريضة وجوازها في الوقت المشار إليه. وهذا يمنع من ¬

_ (¬1) هو بمقدار سطر ونصف.

استنباط ما يستنبطه الآخرون. لا سيما وقد قيل في المذهب بجواز الجمع بين صلاتين بتيمم واحد. وهذا الكلام على ما يضاف إلى مالك نصًا واستنباطًا. وأما أصحابه فإنهم اختلفوا فقال أشهب واجب على الناس الصلاة على موتاهم. وحكى ابن المواز عن ابن عبد الحكم أنه قال: هي فرض وتلا قول الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (¬1). وقال سحنون يعني فرضًا يحملها بعضهم عن بعض، فمن حضرها قام به فإن لم يحضروا جميعًا كانوا تاركين للفرض. وقال أصبغ الصلاة على الموتى سنة واجبة. ونقل بعض المتأخرين في تصنيفه عن أصبغ أنه قال: إنها سنة ولم ينقل عنه واجبة. وقد استدل ابن عبد الحكم على الوجوب بما حكيناه عنه من إشارته إلى الاعتماد على قوله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية. وتعقب عليه الاستدلال أبو الحسن اللخمي فقال هذا: النهي عن الشيء أمر بضده إن كان له أضداد. فضد المنع من الصلاة على المنافقين إباحة الصلاة على المؤمنين والندبُ والوجوب، فليس لنا أن تحمل الآية على الوجوب دون الإباحة والندب، إلا أنه لم تختلف الأمة أن الناس مأخوذون بالصلاة على موتاهم وأنهم لا يسعهم ترك ذلك. وهذا الذي قاله رحمه الله هفوة لا يقع فيها حاذق بعلم الأصول. وإن كان رحمه الله ليس بخائض في علم الأصول. ولكن تعلق بحفظه منها ألفاظ ربما صرفها في غير مواضعها. ولقد كنت خاطبته على مواضع منها رأيته انحرف فيها عن أغراض أهلها فربما أظهر قبولًا لذلك، وربما استثقله. ولقد جمع في هذا الكلام بين حقائق مختلفة ساقها مساق الحقيقة الواحدة. فقال النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان ضدًا واحدًا وليس كذلك إذا كان ذا أضداد. وقد صدق فيما قال لأنه إذا كان ضد واحد، وكان الخطاب أمرًا، كان ذلك نهيًا تعين الأمر في الضد الواحد وإن كان ذا أضداد كان الأمر بواحد منها لا بعينه. ولكنه مثل الضد الواحد بالفطر والصوم. فلما كان الفطر والصوم ضدين كان الأمر بأحدهما نهيًا عن الآخر والنهي عن أحدهما هو الأمر بالآخر. ومثل ذي الأضداد يكون النهي عن الشيء ضده الإباحة، لذلك الشيء أو الندب إليه أو ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 84.

الوجوب له. فأنت تراه كيف مثل الأضداد مرة بالأفعال المأمور بها، ومرة بنفس الأوامر والنواهي. وليس هو سياقة الحاذق بالأصول ولكن مقصده مفهوم. وتحقيق العبارة عنه أن تقول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان ذا ضد واحد وعن سائر أضداده إذا كان ذا أضداد. والنهي عن الشيء أمر بضده إذا كان ذا ضد واحد. وبأحد أضداده إذا كان ذا أضداد. فالنهي عن الصلاة على الكفار أمر بأحد التروك المضادة للصلاة عليهم لأن الصلاة عليهم ترك لأمور كثيرة تكون كلها أضدادًا للصلاة عليهم. واحد هذه الأضداد الصلاة على المؤمنين لأنا إنما نجعل النهي عن الشيء أمرًا بأحد أضداده لا بعينه. فلا يمكن مع هذا تعيين الأمر بالصلاة على المؤمنين لأجل هذا النهي. فأنت ترى كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده لا مدخل له في الاستدلال على هذه المسألة، ولكن إنما سلك فيها إجراءها على باب دليل الخطاب، وهكذا افتتح الشيخ أبو محمَّد في نوادره باب وجوب الصلاة على الجنازة. فقال اختلف في الصلاة على الجنازة. فقيل فريضة يحملها من قام بها لقول الله تعالى،: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}. فدل ذلك أنه مأمور بالصلاة على غيرهم. وقاله غير واحد من أصحابنا البغداديين. وهذا الذي قاله الشيخ أبو محمَّد. وأشار إلى أنه قول جماعة من البغداديين طريقة يحسن أن تسلك. ولكن أيضًا تفتقر إلى تحرير. والذي أشار إليه أبو الحسن اللخمي ولكن لم يسقه مساقه ولم تبلغه نهايته. وبيانه أن الله سبحانه إذا قال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (¬1). فهذا الخطاب يدل على أن المؤمنين بخلاف الكافرين لأنه إذا قال: لا تصلّ على الكافرين لكفرهم دل على أن المؤمنين بخلافهم لا ينهى عن الصلاة عليهم ولكن إذا لم ينه عن الصلاة عليهم فما يكون حكم الصلاة عليهم؟ يمكن أن تكون الصلاة عليهم مباحة أو مندوبة أو واجبة. لأن هذه الثلاثة أحكام كل واحد منها مخالف للنهي ويحصل بإثباته دليل الخطاب فلا يتعين في الدليل الأمر كما أشار إليه الشيخ أبو محمَّد والبغداديون أيضًا. وهذا الذي أشار إليه أبو الحسن أن ينبه عليه ولكنه ساقه ¬

_ (¬1) سورة التربة، الآية: 84.

مساقًا متنافرًا كما نبهنا عليه، ولكن للشيخ أبي محمَّد أن يقول الإباحة، وإن كانت أحد أضداد النهي. ويصح حمل دليل الخطاب عليها فإن الإجماع قد منع من ذلك إذ لم يقل أحدٌ أن الصلاة على المؤمنين مباحة. فإذا امتنع تقدير هذا القسم بالاتفاق انحصر دليل الخطاب في الندب والوجوب وكلاهما مأمور به فاسْتَتَبَّ المراد. وهذا نهاية ما يقال في هذه الآية. وتحرير كلام من تكلم عليها من المتأخرين مع أنا لا نُخْلي كلام الشيخ أبي محمَّد من تعقب عليه. وذلك لأن الإباحة إذا ارتفعت بالاتفاق لم تحسن الإشارة إلى أنها ارتفعت بحكم دليل على حسب ما اقتضاه كلامه. وأيضًا فإن مراده أن دليل الخطاب يقتضي وجوبها. وقد قدمنا أن الدليل متردد بين الوجوب والندب، إلا أن يقول بأن النهي لا دليل له إلا الأمر خاصة ولا يكون دليله الإباحة، كما أراد الشيخ أبو الحسن ونبه عليه. وقد ثبت أن النهي ها هنا على التحريم فليكن دليله أمرًا على الوجوب. وهذا يفتقر إلى نظر آخر في أحكام دليل الخطاب وحقيقته عند مثبته وأحكام الإباحة والنواهي وغير ذلك مما لا يمكن بسطه. ولكن قد أوردنا ما يتعلق بكلام هذين الرجلين وكررنا عليهما ما قالاه. وقد يستدل على الوجوب بما وقع في ذلك من أوامر وأفعال على القول بإفادة ظواهر هذه الأشياء للوجوب. وقد استدل بعض أصحابنا على نفي الوجوب بأن صلاة الجنازة ركن من أركان الصلاة فليس ما انفرد، واجبًا قياسًا على سجود التلاوة (¬1). والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال أيضًا: نبّه على افتقار صلاة الجنازة إلى طهارة لما في ذلك من الخلاف. فقد ذهب الشافعي والطبري إلى أنها لا تفتقر إلى طهارة لما رأياها لا ركوع فيها ولا سجود. فكأنهما استشعرا من عدم الركوع والسجود كونها خارجة عن الصلاة، وإذا خرجت عن الصلاة لم تفتقر إلى طهارة. لأن الشرع إنما جاء باشتراط الطهارة في الصلوات، والمقصود من صلاة الجنازة الدعاء. ولأجله شرعت، والدعاء لا يفتقر إلى طهارة. ودليل أئمة الأمصار على افتقارها إلى طهارة أن الشرع أمر بالطهارة للصلاة. قال الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا ¬

_ (¬1) هكذا والكلام غير واضح. (¬2) سورة المائدة، الآية: 6.

صلاة إلا بطهور (¬1). وصلاة الجنازة لا شك في تسميتها صلاة وذلك في الشرع أكثر من أن يحتاج إلى الاستشهاد. قال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (¬2). ووقع في الآثار من إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم الصلاة عليها ما لا يخفى. وكذلك يقول الصحابة صلّى على فلان وصَلِّ على فلان. وإذا ثبت تسميتها صلاة دخلت فيما قدمناه من العمومات والظواهر. وأيضًا فإنها تفتقر إلى تكبير وتسليم واستقبال قبلة. فلو كان لها حكم الدعاء المحض لم تفتقر إلى تكبيروتسليم، واستقبال قبلة. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: يكبّر فيها أربع تكبيرات يدعو بين التكبيرات من غير قراءة بأم (¬3) القرآن ولا غيرها , وليس فيها إلا الاجتهاد في الدعاء (¬4). قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن التكبير أربع؟. 2 - وهل يُتابَع الإِمام إذا زاد عليه؟. 3 - وهل يقرأ بأم القرآن أم لا؟. 4 - وهل الدعاء محدود أم لا؟. 5 - وهل ينتظر من فاته تكبير الإِمام أم لا؟. 6 - وكيف صفة نقل الميت إلى الصلاة؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في عدد التكبيرات لصلاة الجنازة. فالمشهور من مذاهب العلماء أربع تكبيرات. وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب، وابنه، وزيد بن ثابت، وجابر، وأبو هريرة والبراء وغيرهم رضي الله عنهم. وقال ابن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهما يكبّر ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) سورة التوبة، الآية: 84. (¬3) أم -و-. (¬4) بالدعاء - الغاني.

ثلاثًا وهو قول جابر بن زيد وابن سيرين. قال ابن سيرين: إنما كان التكبير ثلاثًا فزادوا واحدة. وقال ابن مسعود كبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعًا وسبعًا وخمسًا وأربعًا فكبّروا ما كبّر الإِمام (¬1). وقال الحسن ما كبّر الإِمام ولا يزاد على سبع. وقال زيد بن أرقم وحذيفة بن اليمان يكبّر خمسًا. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كبّر على أبي قتادة سبعًا وكان بدريًا وكبّر على سهل بن حنيف ستًا وكان بدريًا ورُوي عنه أنه يكبر على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعلى سائر الناس أربعًا. وقال أحمد لا ينقص من أربع ولا يزاد على سبع. وقال بكر بن عبد الله لا يزاد على سبع ولا ينقص من ثلاث ودليلنا الحديث الثابت في صلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي قال: فخرج والناس معه إلى المصلى فصف بهم وكبّر عليه أربع تكبيرات (¬2). وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه كبّر على عثمان بن مظعون أربع تكبيرات (¬3). وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الملائكة صلّت على آدم فكبّرت أربعًا وقالت هذه سنتكم يا بني آدم (¬4)؟. والتعلق بما رواه مسلم عن زيد بن أرقم أنه كبّر على جنازة خمسًا (¬5). فقيل له! فقال: كان - صلى الله عليه وسلم - يكبّرها لكثرة رواتها وأنها متأخرة. وقد قال عبد العزيز ابن أبي سلمة كل تكبيرة من صلاة الجنازة كركعة من الصلاة وأكبر الفرائض أربع ركعات فاختار على الجنازة أربع تكبيرات. وقال ابن حبيب وغيره قد كبّر النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي أربعًا. وكذلك على قبر ¬

_ (¬1) روى ابن عبد البر في الاستذكار عن أبي خيثم عن أبيه قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكبّر على الجنائز أربعًا وخمسًا وستًا وسعًا. وعن عبد الله بن الحارث قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة فكبّر عليه تسعًا ثم جيء بالأخرى فكبّر عليها سبعًا. ثم جيء بالأخرى فكبّر عليها خمسًا حتى فرغ منهن. غير أنهن كنّ وترًا. ابن أبي شيبة ج 2 ص 497. (¬2) أخرجه البخاري ومسلم. الهداية ج 4 ص 328. وأخرجه أحمد. الفتح الرباني ج 6 ص 229. (¬3) أخرجه الحاكم بسنده إلى ابن عباس. وكذلك الدارقطني. وفي سنده ابن السائب متروك. نصب الراية ج 2 ص 267. (¬4). (¬5) أخرجه مسلم والبيهقي والأربعة. بلوغ الأماني ج 7 ص 230. وعارضة الأحوذي ج 4 ص 239.

السوداء (¬1) ثم استقر فعله على أربع ومضى به عمل الصحابة رضي الله عنهم. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الإِمام فإنه إذا نقص من الأربع تكبيرات لم تصح صلاته. فإذا انفصل عن الصلاة على ثلاث تكبيرات، وبَعُد ذلك أعاد الصلاة. وكان ما ذكرناه من الخلاف في كون التكبير ثلاثًا شاذ لا يراعى. قال ابن حبيب: إذا ترك بعض التكبير جهلًا أو نسيانًا، فإن كان بقرب ما رفعت أنزلت فأتم ببقية التكبير مع الناس ثم سلم. وإن تطاول ذلك لم تدفن (¬2) ابتدأ عليها الصلاة. وإذا دفنت تركت ولم تكشف. ولا تعاد الصلاة عليها. ولمالك في العتبية نحوه. وأما إن زاد الإِمام في التكبير فكبّر خمسًا فإنه وإن أخطأ، فالصلاة جائزة ولكن لا يتابعه المأموم في الزيادة لأنها ليست بصواب. وقال أحمد وإسحاق يتابعه إلى سبع. فإذا ثبت أنه لا يتابعه لما قلناه فهل يقطع المأموم أو ينتظره حتى يسقم فيسلم بسلامه؟ اختلف قول مالك في ذلك فقال يقطع المأموم بعد الرابعة واختاره ابن القاسم. وقال أيضًا: يسكت فإذا كبّر الخامسة سلّم بسلامه واختاره أشهب ومطرف وابن الماجشون. وبالقول الأول قال أبو حنيفة. وبالثاني قال الشافعي. فوجه القول بالقطع أن الإِمام إذا خرج من الرابعة إلى الخامسة فقد خرج من الصواب إلى الخطإ. فإذا لم تجب متابعته على الخطإ أشعر ذلك بخروجه عن حكم الإمامة لأن المأموم إنما يُراد ليتابع، وإذا خرج عن حكم الإمامة لم يلزم المأموم انتظار من ليس بإمام له. ووجه القول بأنه ينتظره أنه بقي من هذه الصلاة ركن من أركانها وهو التسليم. والإمام مصيب فيه، وعلى المأموم اتباعه إذا لم يخطئ. فإذا أخطأ لم تلهمه متابعته في الخطإ. ولزمه أن ينتظره ليتابعه فيما هو مصيب فيه وهو السلام. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم إكمال الإكمال ج 2 ص. ف. وبلفظ امرأة ابن أبي شيبة وأحمد وابن ماجة وأبو نعيم في الحلية. الهداية ج 4 ص 351. (¬2) لم تدفن هكذا ولعل الصواب ولم تدفن.

ولو أن المأموم فاته بعض التكبير فهل يتبع الإِمام في هذه الخامسة معتدًا بها قضاء ما فاته؟ اختلف المذهب في ذلك. فقال أصبغ إذا فاته تكبيرتان، والإمام يكئر خمسًا فليكبّر معه الثالثة ويحتسب بالخامسة، فإذا سلّم الإِمام كبّر واحدة. وقال أشهب لا يكبّر معه الخامسة وإن كبّرها معه فلا يعتدّ بها وليقض كل ما فاته. وعندي أن سبب هذا الخلاف أن المأموم إنما ينهى عن اتباعه في الخامسة لئلا يكون مخطئًا كخطإ الإِمام. فإذا كان المأموم قد بقيت عليه تكبيرة حتى تكون خامسته رابعة، فإن إيقاع هذه التكبيرة الإِمام فيها مخطئ، والمأموم مصيب ولكن القصد فيها مختلف. الإِمام يقصد بها خامسة وهي خطأ. والمأموم يقصد بها رابعة وهي صواب. واختلاف المقصود مع التساوي في سورة الاتباع، هل يمنع من الاتباع أم لا؟ كنا قدمنا في كتاب الصلاة بسط الخلاف في هذا الأصل، وسبب الخلاف فيه. وتكلمنا على الشاك هلى صلى ثلاثًا أم أربعًا. وأتى بركعة ليكمل على اليقين، هل يأتم به فيها من دخل معه في الصلاة أم لا؛ وهذا من ذلك. إلا أن الخامسة يعد الإِمام فيها مخطئًا ولا يعد في ركعة الإكمال مخطئًا. فمن هذه الجهة قد يقع الافتراق. وإذا وضح ما قلناه في عدد التكبير، وفي حكم الزيادة عليه والنقص منه، فهل يرفع المصلي يديه في تكبير الجنازة أم لا؟ اختلف المذهب في ذلك. فرُوي عن مالك استحباب الرفع في كل تكبيرة. وبه قال الشافعي ورُوي عنه الاقتصار على الرفع في التكبيرة الأولى. وبه قال أبو حنيفة. وحكى ابن شعبان في مختصره عن ابن القاسم أنه قال: "حضرت مالكًا غير مرة لا يرفع يديه على الجنازة في أول تكبيرة ولا غيرها. ولا ترفع اليدان في التكبير على الجنازة. وقال بالمذكور في مختصر عبد الله. قال ابن شعبان وممن قال برفع الأيدي في كل تكبيرة، عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان عبد الله ابنه يفعله. وقاله القاسم بن محمَّد وعمر بن عبد العزيز وعروة وعطاء وموسى بن نعيم والزهري، ويحيى بن سعيد وربيعة والشافعي، وأحمد بن حنبل، وحدثنا محمَّد بن أحمد. وذكر السند عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى على الجنازة يكبّر

أربعًا ويرفع في أول تكبيرة ولا يرفعهما حتى يخرج من صلاته (¬1). وذكر أيضًا حديثًا أسنده عن ابن عمر أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كبّر على الجنازة رفع يديه في كل تكبيرة، وكبّر أربعًا (¬2). وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه لم يكن يرفع للأولى. قال أبو محمَّد والمعروف عن ابن القاسم أنه يرفع يديه في الأولى بخلاف ما ذكر عنه ابن حبيب. وإذا ثبت ما قلناه في عدد التكبير والرفع فيه. فما حكم التسليم؟ قال مالك في الأمام يسلم واحدة ويسمع نفسه ومن يليه ويسلّم من خلفه في أنفسهم فإن أسمعوا من يليهم فلا بأس. ومحمل قوله في أنفسهم على أنهم ناطقون بذلك. وروي عنه أيضًا أن الإِمام يُسِرّ. وروي عن مالك أنه يردّ على الإِمام من سمع سلامه. وقال ابن حبيب عنه ليس عليهم ردّ السلام على الإِمام. وقال أشهب في مدونته يسلّم الإِمام تسليمتين عن يمينه وعن شماله. ويسلّم القوم كذلك. وقال بعض أشياخنا الأولى أن يكون السلام ها هنا كما يكون في غير هذه الصلاة فيردّ المأموم على الإِمام، وعلى من على شماله. لأن ردّ التحية فرض يردّ عليهما بعد التسليمة التي يخرج بها من الصلاة. فوجه القول بجهر سلامه وهو ظاهر مذهب ابن عمر قياسًا على غيرها من الصلوات. ووجه القول بإحفائه أن صلاة الجنازة ركن جرّد من الصلاة المعهودة فلم يجهر فيه بالسلام كسجود التلاوة. وعلى هذه الطريقة يعرف المأمومون انقضاء الصلاة بانصراف الإِمام. ووجه القول بردّ المأموم على الإِمام القياس على الصلاة المعهودة. ووجه القول بنفي الرد أن الإِمام لا يثبت بعد انقضاء الصلاة ليردّ عليه بخلاف الصلاة المعهودة. وأشار بعض المتأخرين إلى أنه يمكن أن يجري هذا الخلاف على الاختلاف في إجهار الإِمام وإسراره. فإن قلنا بإجهاره اقتضى ذلك ردّ السلام عليه. وإن قلنا بإسراره لم يردّ عليه. وبما قيل من أن الإِمام يسلّم قال جماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم. وقال الشافعي يسلم تسليمتين واحدة عن يمينه وأخرى عن يساره قياسًا على الصلوات ¬

_ (¬1) رواه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة. الهداية ج 4 ص 337. وفي إسناده مقال. (¬2) رواه الطبراني في الأوسط. وفي إسناده مقال. الهداية ج 2 ص 333.

المعهودة. وقد قدمنا نحن في كتاب الصلاة أن المشهور عندنا في سائر الصلوات اقتصار الإِمام على تسليمة واحدة. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في القراءة على الجنازة. فعندنا أنه لا قراءة فيها وبه قال أبو حنيفة. وروي عن عمر رضي الله عنه وعن ابنه وعن علي وجابر وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقال الشافعي: قراءة أم القرآن واجبة في صلاة الجنازة. ولكنه لم يوجب القراءة سوى مرة واحدة. وحكى أبو الوليد الباجي أن أشهب يقول بما قاله الشافعي من قراءة أم القرآن مرة واحدة في صلاة الجنازة. وقال الحسن بن علي يقرأ فيها فاتحة الكتاب ثلاث مرات. وبه قال ابن سيرين. وقال الحسن البصري يقرأ بها في كل تكبيرة. وروي أن المسور بن مخرمة صلى على جنازة فقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة، ورفع بها صوته. فأما نحن فنستدل بقول ابن مسعود لم يوقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولأولا قراءة. وأيضًا فإنها ركن من أركان الصلاة المعهودة فلم تجب فيها قراءة كسجود التلاوة. وأما الشافعي فإنه يستدل بالظواهر الواردة بإيجاب فاتحة الكتاب في الصلاة كقوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وصلاة الجنازة داخلة في هذا العموم. وقد أجيب عن هذا بأنه لا نسلّم لهم إطلاق اسم الصلاة من غير إضافة إلا على الصلاة المعهودة الركوع والسجود. وأما هذه فإنما يطلق اسم الصلاة بالإضافة فيقال صلاة الجنازة. والحديث إنما اشتمل على ذكر صلاة مطلقة. وفي هذا الجواب عندي نظر. وقد قال تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (¬1). فأطلق اسم الصلاة، وكذلك وقع مثل هذا في الأخبار. والإضافة ها هنا ليست إضافة تحقيق للتسمية المطلقة، وإنما هي إضافة تخصيص وتعريف، كما يقال صلاة الجمعة وصلاة الظهر وصلاة النافلة. ولم تُخرج هذه الإضافة هذه الصلوات عن استحقاق إطلاق التسمية. وقد اعتمدت الشافعية على ما روي عن ابن عباس (¬2) أنه جهر ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 84. (¬2) أتي بجنازة جابر بن عتيك أو سهل بن عتيك. فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبّر فقرأ بأم القرآن فجهر بها. مجمع الزوائد ج 3 ص 32. حديث ضعيف. كما أخرجه البيهقي بالسنن ج 4 ص 39.

بفاتحة الكتاب. قال وإنما فعلت هذا لتعلموا أنها سنّة. وقد أجاب أصحابنا عن هذا بأجوبة أحدها أن الضمير في قوله أنها عائد على صلاة الجنازة لا على القراءة. فكأنه قال: إن ماجهرت لتستدلوا بجهري على أن الصلاة سنّة إذ لو كانت فرضًا لم أجهر بالقراءة من غير ورود أمر بذلك. والثاني أنه لم يرد سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه أراد سنّة أدى الاجتهاد إليها. وهذا قد لا يسلمه بعض أهل الأصول القائلين بأن الصاحب إذا أطلق ذكر السنّة فإنما يريد سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأجيب عن هذا الأمر بغير هذين الجوابين. ولكن أضربنا عنه لما فيه من الاستكراه والتعسف. وقد يعتمد أصحاب الشافعي على أنها صلاة تشتمل على افتتاح وتسليم ووجوب قبلة فاشبهت الصلاة المعهودة في افتقارها إلى قراءة. وهذا الاستدلال قد يقابل بما قدمناه من استدلالنا على أنها ركن من أركان الصلاة المعهودة فلا تفتقر إلى قراءة كسجود التلاوة. وقد أنكر بعض أصحاب الشافعي قول من قال يقرأ في كل تكبيرة لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة. قال: والإجماع على خلافه. وأما من قال يقرأ فيها ثلاث مرات فلا أعرف له وجهًا أنه يسلك مسلكنا نحن في وجوب القراءة في جل الصلاة في المعروف من مذهبنا. ألا ترى أنا لا نفسد صلاة الظهر بترك القراءة في ركعة ونفسدها بترك القراءة في ركعتين أو ثلاث. وإذا كانت الأربع تكبيرات أقيمت مقام أربع ركعات روعيت القراءة في جل هذه الصلاة وجلها ثلاث تكبيرات. وقد اختلف أصحاب الشافعي في دعاء الافتتاح والتعوذ. هل يؤتى به بعد التكبيرة الأولى قبل الفاتحة أم لا؟ وقال الثوري وإسحاق يستحب أن يقال بعد التكبيرة الأولى سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. فوجه إثبات الذكر بعد الفاتحة قياسًا على غيرها من الصلوات على أصلهم، وقياسًا على التأمين. ووجه نفيه أنها صلاة مبنية على الحذف بدليل حذف الركوع والسجود فوجب أن يحذف منها الذكر المشار إليه وليس كالتامين لأن التأمين لا إطالة فيه. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الدعاء فليس بمحدود لأنه لم يرد الشرع بتحديد فيه. والقصد من هذه الصلاة الدعاء للميت. ومعاني الأدعية

وصيغها لم يضبطها الشرع في هذا. وكأن الغرض في الشرع الدعاء له بما يعود بصلاح المعاد إذ لا حاجة له في الدعاء بسواه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخلصوا بالدعاء (¬1). قال ابن حبيب: أحب إليّ أن يخص الميت بالدعاء. قال روي في الدعاء للميت روايات يقرب بعضها من بعض. وكل ما دعي به من ذلك حسن مجزىء. فقيل لابن القاسم هل وقت مالك ثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين فقال: ما علمت أنه قال إلا الدعاء للميت فقط. واعتقد بعض الناس أن المذهب على قولين في التحميد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدهما: سقوطه على مقتضى ظاهر قول ابن القاسم هذا. والثاني: إثباته لأن مالكًا يستحسن ما ذكره أبو هريرة. وفيه الثناء على الله والحمد، والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فوجه إسقاطه أن الأحاديث لم ترد إلا بالدعاء خاصة. وقد خرّج مسلم حديث عوف بن مالك وليس فيه إلا الدعاء خاصة (¬2). ووجه إثباته أن الشرع ورد بأنه يبدأ كل ذي بال بالتحميد وفي الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر من يريد الدعاء أن يبتدىء بالحمد لله عَزَّ وَجَلَّ والثناء عليه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو (¬3). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى يصلّى على النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). فإذا قلنا بالبداية بالتحميد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأشار بعض المتأخرين إلى أنه لا يقتصر فيه على التكبيرة الأولى. فقال بعضهم واسع أن يقتصر عليه بعد التكبيرة الأولى أو يعاد بعد كل تكبيرة. وقد قال ابن حبيب يُثني على الله عَزَّ وَجَلَّ ويُصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في التكبيرة الأولى ثم يدعو للميت ثم يدعو له في الثانية. وإذا كبرت الثالثة: قلت اللهم اغفر لحينا وميتنا. وذكر ما بعده ثم قال: الله أكبر الرابعة ثم أسلم تسليمة تلقاء وجهي أتيَامَن بها قليلًا أسمع بها نفسي ومن يليني (¬5). وكان ابن مسعود يذكر الدعاء للميت في ¬

_ (¬1) البيهقي ج 4 ص 40. (¬2) إكمال الإكمال ج 3 ص 93. (¬3) أبو داود والترمذي والنسائي. نصب الراية ج 2 ص 272. (¬4) عارضة الأحوذي ج 2 ص 271/ 272. (¬5) ملاحظة الضمائر في قول ابن حبيب غير متحدة.

كل تكبيرة. وكان ابن عمر يدعو لنفسه ولوالديه بعد الرابعة. وظاهر هذا الذي نقلناه عن ابن حبيب أيضًا في الدعاء للطفل يكبّر في الأولى فيقول ما ذكرناه من الحمد لله والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقط ثم يكبّر الثانية ويقول: اللهم إنه عبدك وابن عبدك، أنت خلقته، وأنت قبضته إليك وأنت أعلم بما كان عاملًا به وصائرًا إليه. اللهم جاف الأرض عن جنبيه. وافسح له في قبره وافتح أبواب السماء لروحه وأبدل له دارًا خيرًا من داره وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار وصيّره إلى رحمتك وجنتك وألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفاله إبراهيم واجعله لنا ولوالديه سلفًا وذخرًا وفرطًا وأجرًا. وأضيف إلى هذا وثقّل به موازينهم، وأعظم به أجورهم. ولا تحرمنا وإياهم أجره ولا تفتنا بعده. وظاهر هذا أيضًا أن التحميد لا يعاد بعد التكبيرة الأولى فقد اشتمل على التعوذ للطفل من عذاب النار. وهكذا قال مالك في المجموعة أنه يسأل له الجنة ويستعاذ له من النار. وقال بعض أشياخنا إذا كان لا يعذب إلا من كلّف فلا معنى للاستعاذة له من النار. وعلى طرد هذا الذي قاله شيخنا لا معنى أيضًا في أن يسأل له الجنة. لأن الشيخ أبا محمَّد بن أبي زيد قال: لم يختلف العلماء في أن أطفال المؤمنين في الجنة. وأما أطفال الكفّار فاختلف فيه (¬1). فرُوي الله أعلم بما كانوا به عاملين وروي أنهم خدَم لأهل الجنة. وروي أنهم مع آبائهم. ولا يقطع هذا إلا بالأخبار المستفيضة. وهكذا حكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في غير كتابه هذا أنه أجمع أن أولاد المؤمنين في الجنة. فعلى هذا الذي أشار إليه الشيخ أبو محمَّد وغيره من العلماء أن الاتفاق على كونهم في الجنّة يستغني مع ذلك عن السؤال لهم فيها. لكن القاضي أبا بكر بن الطيب لم يثبت عنده الإجماع، فوقف في أولاد المؤمنين. وحكى أن من أهل الحق من ذهب إلى ردّ أمرهم إلى الله سبحانه على حسب ما ذهب إليه. ولكن ذكر حصول الإجماع على عادتهم. فعلى مذهب هؤلاء يحسن السؤال لهم في الجنة. وهذا فيمن سوى أولاد النبيين وأما أولاد النبيين، فلا شك فيهم ولا توقف في أمرهم بل الإجماع على كونهم في الجنة. ¬

_ (¬1) هكذا ولا يصح على ضرب من التقدير كحكمهم أو مصيرهم.

واختلف المذهب هل يدعى بعد التكبيرة الرابعة. فكثير من أصحابنا على أنه لا يدعى بعد الرابعة. قال الشيخ أبو محمَّد قال سحنون يدعو بعد الرابعة كما يدعو بين كل تكبيرتين ثم يسلم. وفي غير موضع لأصحابنا إذا كبّر الرابعة سلّم. وكذلك في كتاب ابن حبيب وغيره. قال ابن حبيب: وروي أن عمر كان يدعو بعد الرابعة لنفسه ولوالديه. فوجه القول بأنه لا يدعو بعد الرابعة أن التكبيرات الأربع أنزلت منزلة الركعات الأربع، وأنزل الدعاء في الصلاة منزلة القراءة. وجعل فرضًا فيها كما جعلت القراءة في الصلاة فرضًا. فكما لا يقرأ بعد الركعة الرابعة في الصلاة فكذلك لا يُدعى بعد التكبيرة الرابعة في الصلاة على الجنازة. ووجه القول بأنه يدعو أن التكبيرة وإن أنزلت منزلة الركعة فإنه لا يصح أن يليها التسليم الذي هو التحليل من الصلاة كما لا يصح أن يلي التسليم الذي هو التحليل من الصلاة المعهودة الركوع. فإذا لم يصح أن يلي التسليم التكبير وكان لا بد من فصل بينهما اقتضى ذلك ثبوت الدعاء بعد الرابعة. ولما قدمنا أن قصد الشرع الدعاء للميت بما يصلح معاده وكانت أنواع الدعاء بذلك شتّى والعبارة عن ذلك كثيرة، كان الواجب ترك المصلي واجتهاده في الدعاء. لكن نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك دعاء رواه أصحابه يحسن نقله ليُقتفى أثره - صلى الله عليه وسلم -. فروى عرف بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله (¬1). الخبر كما وقع الحديث. وقال أبو هريرة رضي الله عنه إذا وُضعت كبّرتُ. وحمدت الله تعالى وصليت على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم أقول: اللهم عبدك وابن أمتك كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدًا عبدك ورسولك وأنت أعلم به. اللهم إن كان محسنًا فزد في إحسانه وإن كان مسيئًا فتجاوز عن سيئاته اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده (¬2). قال مالك: هذا أحسن ما سمعت، ودعاء ابن مسعود: فقال: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك. أنت ¬

_ (¬1) مسلم. إكمال الإكمال ج 3 ص 93. (¬2) حديث أبي هريرة أخرجه مالك في الموطأ والبيهقي ج 4 ص 42/ 41. وأحمد بلوغ الأماني ج4 ص 234.

خلقته وأنت هديته للإسلام وأنت قبضت روحه. الحديث. قال بعض المتأخرين أستحسن بعد التكبيرة الأولى أن يحمد الله تعالى. ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد التكبيرة الثانية كما فعل في الأولى ثم يدعو بدعاء أبي هريرة بعد التكبيرة الثالثة يذكر من التحميد والصلاة مثل ما تقدم ويدعو بدعاء ابن مسعود. ثم إذا كبر الرابعة قال مثل ما تقدم من التحميد والصلاة. ويقول اللهم اغفر لحينا وميتنا وحاضرنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذَكَرنا وأنثانا إنك تعلم تقلبنا ومثوانا ولوالدينا ولمن سبقنا بالإيمان. اللهم من أحييته منا فاحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإِسلام واسعدنا بلقائك وطيبنا للموت. واجعل فيه راحتنا. وقد جمع الشيخ أبو محمَّد دعاءًا جمع فيه ألفاظ هذه الأحاديث وأدخل بعض ألفاظها في بعض وزاد ألفاظًا يسيرة فيها من غيرها، وافتتح التحميد (¬1) والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالألفاظ المعهودة فيه وذكر أن ما اختاره من التحميد استحسان ابن حبيب وغيره. وقال لا يقال في المرأة أبدل لها زوجًا خيرًا من زوجها. إذ قد تكون زوجًا لزوجها في الجنّة مقصورة عليه. وقد ذكرنا ما قيل في دعاء الطفل فإذا قيل ذلك فيه دعا بعد الرابعة أيضًا على أحد القولين. وذكر بعض المتأخرين ما ذكرنا أيضًا في الدعاء للطفل. وقال بعد الرابعة بما قلناة في الدعاء للرجل. وإذا قلنا بأنه لا يدعو بعد الرابعة. فذكر ابن حبيب في تعليله لما يقال على الجنازة، أنه إذا كبّر الثالثة وقال اللهم اغفر لحيّنا وميتنا الدعاء ... إلى آخره كما ذكرناه: أنه لا يجهر الإِمام ولا من خلفه بشيء من الدعاء. وأن يسمع ذلك من إلى جنبه فلا بأس. قال ابن حبيب قال ابن القاسم إذا وإلى الإِمام بين التكبير ولم يَدعُ فليعد الصلاة. قال ابن حبيب إلا أن يكون بينهما دعاء وإن قل فلا تعاد. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما من فاته بعض تكبير الجنازة فعن مالك فيه روايتان. إحداهما أنه ينتظر الإِمام حتى يكبّر ويكبّر معه. وبه قال أبو حنيفة ومحمد صاحبه. والثانية أنه يكبّر الآن. وبه قال الشافعي وأبو ¬

_ (¬1) لعله بالتحميد.

يوسف. وعن ابن حنبل الروايتان أيضًا. واختار الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله أن يكبّر إذا أدرك بعد التكبيرة تحميد الله عزّ وجل والصلاة على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - والدعاء بما تيسر قبل أن يكبّر الإِمام. وإن لم يمكنه ذلك، ولو خفف فيه، لم يكبر وانتظر الإِمام. واعتل بأنه إذا لم يمكنه ذلك فإنه لم يجعل له سوى التكبير من غير دعاء مقصود وهو إذا آخره أتى به بعد فراغ الإِمام من غير دعاء. فإذا استوت كان التأخير أولى ليقع القضاء بعد فراغ الإِمام. وتعقب الشيخ أبو الحسن اللخمي هذا بأن قال لا يجري هذا على أصل المدونة لأنه يقول إن فاته بعض التكبير يقضيه بعد سلام الإِمام متواليًا من غير دعاء. فإذا كان ذلك، كان التكبير وإدراك شيء من الدعاء الآن أولى. قال: وأما على القول بأنه يصلي على الغائب فإنه يصح أن يمهل حتى يكبّر الإِمام فيكبّر بتكبيره. فإذا سلم الإِمام قضى ما فاته ويدعو فيما بين ذلك وإن غابت الجنازة. وتعقبُ الشيخ أبي الحسن ابن القابسي في هذا متعقبٌ من وجهين: أحدهما أنه أشار إلى أن الإتيان بالدعاء ليس يقتضي المبادرة إلى التكبير قياسًا على قولهم إن التكبير بعد الفراغ تباعًا. وهذا لا يلزم لأن المتابعة إنما أمروا بها ها هنا لئلا يدْعى للجنازة بعد رفعها كما يدعى لها وهي موضوعة، فتكون كصلاة على غائب كما أشار إليه. أو صلاة على جنازة مرَّتين، فاما الآتي والإمام قد سبقه ببعض التكبير فإن الشيخ أبا الحسن إنما اختار إيقاع التكبير إذا أدرك بعده التحميد والصلاة وكثيرًا من الدعاء. لأنه حينئذ أتى بالمقصود من صلاة الجنازة كلها. وكأنه كالمقالى للإمام المتأخر بالمتابعة للأمر اليسير. فكأنه خرج عن الأصل بحصول المقصود في صلاة الجنازة إذا كان لا يدرك من الدعاء إلا ما ليس له بال فليس بمقصود في صلاة الجنازة صار أن أمره حينئذ بإيقاع التكبير، فكأنه أمره بمخالفة الأصل لغير مقصود يحصل ولا ضرورة دعت إلى ذلك، والأصل أن لا يقضي إلا بعد فراغ الإِمام. وأما التعقب الثاني فإنه أشار إلى تخريج دعاء من فاته بعض التكبير على القول بالصلاة على الغائب وهذا لا يلزم أولئك أن يقولوا به لأنهم إنما أجازوا صلاة تفتتح على غائب وهذه صلاة افتتحها الإِمام على حاضر فحق المأموم أن يحذوَ حَذوَ إمامه ويقص أثره. ولما كان الدعاء كالقراءة لا يقضى لم يؤمر

المأموم بإيقاعه، ولا يصح أن يأمره باستئناف دعاء كأنه يوقعه إيقاع المنفرد، فيصير كالصلاة على غائب قد صُلي عليه مع مخالفة الإِمام والخروج عن حقيقة فعله. وسبب الاختلاف في هذه المسألة، هل التكبيرة الأولى تتنزل منزلة تكبيرة الافتتاح أو إنما تتنزل منزلة الركعة؟ فإن قلنا إنها تتنزل منزلة تكبيرة الافتتاح لأنها صلاة لها افتتاح وتسليم فوجب أن يكون افتتاحها تحريمًا كالصلاة المعهودة أمرْنا المأموم أن يكبّر ولا ينتظر كما يكبّر للإحرام في سائر أثناء صلاة الإِمام. وإن قلنا أنها تحل محل الركعة لأن هذه الأربع تكبيرات أقيمت مقام أربع ركعات لم يكبّر، بل ينتظر. لأن من فاتته ركعة لا يقضيها حتى يفرغ الإِمام. وقد قال ابن مزَيْن منتصرًا للقول بأنه ينتظر أنا إذا أمرناه بالتكبير لم نخل (¬1) أنا نأمره به قضاء عما فات. وهذا لا يمكن إذ لا يقضي ما فات إلا بعد الفراغ، أو نأمره به اتباعًا دمًا يستقبل، وهذا فيه سبق للإمام وسبقه لا يصح. وصلاة الجنازة ليس التكبير فيها بإحرام فيؤمر هذا به. فأنت تراه كيف نبّه على ما قلناه. وروى أشهب في العتبية يكبّر الآن واحدة ثم يقف عما سبق به كما يحرم بالمكتوبة وقد سبق بتكبير سوى تكبيرة الإحرام فلا يكبّر غيرها. فإذا سلم الإِمام قضى ما عليه من التكبير تباعًا. فأنت تراه أيضًا كيف أشار إلى إنزالها منزلة تكبيرة الإحرام خلاف ما أشار إليه ابن مزين. وإنما قلنا أنه ينتظر ولا يكبّر فقد قال مالك في المجموعة يدعو ولا يكبّر حتى يكبّر الإِمام فيكبّر معه. وقال في مختصر ابن عبد الحكم: من فاته بعض التكبير فوجد الإِمام قائمًا يدعو فليدخل معه بغير تكبير أحبّ إليّ ثم يكبّر تكبيرة. فإذا سلّم قضى ما فاته. وقد قيل يدخل بتكبير. والأول أحب إلينا. وحمل بعض أشياخنا هذه الرواية على أنه يدخل بالنية من غير تكبير. وفي هذانظر. لأن الدخول في الصلوات بعقد القلب دون فعل يصاحبه لا أصل له، إلا أن يرى الدعاء ها هنا حالًا محلّ التكبير في صحة الدخول به. وهذا يُطلب تدليل عليه. وإذا قلنا أنه لا يكبّر بل ينتظر لم يحتج إلى تفصيل. وإن قلنا أنه يكبّر ولا ينتظر فقد أشار الشيخ أبو الحسن ابن القابسي رحمه الله إلى أنه إذا أتى بعد الرابعة فإنه لا يكبّر إذا لم يدرك ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل. ولعل الصواب لم نقل.

من الصلاة شيئًا. وإنما يكبّر في إحدى الروايتين إذا أتى قبل الرابعة. واحتج بأن مالكًا لما سئل عمّن فاته التكبير كله. هل يكبّر؟ قال: لا أعلمه. وبأن التكبيرة الرابعة إذا وقعت فإن الصلاة كملت. فلا معنى لتكبيره بعد الكمال. فإذا وضح ما قلناه في التكبير والانتظار. فإنه إذا فرغ قضى ما بقي عليه من التكبير تباعًا. قال مالك: ولا يدعو. قال ابن حبيب وإن دعا فبدعاء خفيف إلا أن يتأخر رفعها فيسهل في دعائه إذا قضى التكبير اجتزاء بالتكبيرة التي أحرم بها. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إنما يقضي إذا لم ترفع فإن رفعت بطلت صلاته. وقال الحسن وأيوب السختياني لا يقضي ما فاته من التكبير. وروي ذلك عن ابن عمر. قال الأوزاعي يجزئه ما أتى به مع الإِمام. ودليلنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا (¬1). وقياسًا على غيرها من الصلوات. وإن احتج الحسن بأنها تكبيرات متواليات، فإن فأتت لم تقض كتكبيرات العيد، قيل له التكبير في الجنازة فرض وقد أقيم مقام الركعة. وفي العيد هيئة وسنّة. فلهذا لم يقض. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما حمل النعش فاختلف الناس. فقال مالك في المدونة ليس في ذلك شيء مؤقت، احمل إن شئت بعض الجوانب ودع بعضها. وإن شئت فاحمل وإن شئت فدَع. وقال ابن حبيب يستحب أن يحمل الرجل الجنازة من جوانب السرير الأربع. ثم إن شاء حمل أو ترك. ويبدأ بمقدّم السرير الأيسر وهو يمين الميت فيضعه على منكبه الأيمن ثم يختم بمقدّمة الأيمن وهو يسار الميت. روي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين. وكان مالك يوسع ذلك أن يبدأ بما شاء ويحمل كيف شاء أو لا يحمل. ويحمل بعض جوانبه ويدع بعضًا والفضل فيما ذكرت لك. قال مالك في المختصر لا بأس يحمل سريره من داخله وخارجه ويبدأ بأي جوانبه شاء. وقال أشهب في مدونته يبدأ بالمقدم الأيمن من الجانب الأيمن ثم المؤخر يريد الأيمن. ثم المقدم الأيمن (¬2) ثم المؤخر الأيسر. وقالت الشافعية في التقدمة بما حكينا عن أصحابنا ثم يبدأ اليسار مقدمة السرير فيجعله على عاتقه الأيمن ثم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) هكذا ولعل الصواب الأيسر.

يأخذ يسار مؤخره فيجعله على عاتقه الأيمن ثم يأخذ بيمين مقدمة السرير فيجعله على عاتقه الأيسر ثم يأخذ يسار مؤخره فيجعله على عاتقه الأيسر. وهذا يوافق ظاهر ما حكيناه عن أشهب. وقال سعيد بن جبير والثوري وأحمد وإسحاق وأيوب السختياني يبدأ بيسار مقدمه ثم بيسار مؤخره ثم بيمين مؤخره ثم بيمين مقدّمه. وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود. وهذا يوافق ظاهر ما حكيناه عن ابن حبيب. وقال الأوزاعي يبدأ بأيهما شاء. فكأن من ذكرناه من العلماء استحب البداية بما ذكر لأن يمين الميت أفضل من بقية أجزائه. فلهذا قدمت. وعلى هذا يليه الرجل اليمين على الشمال. ثم اختلفوا ها هنا فيما بعد ذلك. وهو الجانب الأيسر هل يبدأ بمقدمه أو بمؤخره. فمن اختار البداية بمؤخره، فكأنه أقرب إلى ما هو حائل (¬1) له. ومن اختار البداية بمقدمه فلأنها في محاذاة ما ثبت له البداية به وهو اليد اليمنى. فالأول راعى عن الأقرب والأسهل. والثاني راعى المقابل. فإن قيل لِمَ استحب للإنسان أن يحمل الجنازة من الأربع جوانب على ما ذكره ابن حبيب. قيل اعتل بعض الأشياخ لذلك بأنه لإحراز الأجر يحمل الجوانب الأربع كما (¬2) بالصلاة والمواراة. وقد قال أشهب أحبّ إليّ أن يحفن الرجل ثلاث حفنات بيده في قبر الميت عند دفنه. وإنما ذهب إلى هذا ليحصل له أجر المواراة. وقد قال ابن مسعود في المدونة احملوا الجنازة من جوانبها الأربع فإنها السنّة. وإنما تكلم على ما كانت عليه الصحابة رضي الله عنهم من حمل موتاهم بأنفسهم تواضعًا وابتغاءًا للأجر. فقد حمل سعد بن أبي وقاص جنازة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. وحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسيد بن الحصين رحمهما الله. وحمل ابن عمر جنازة أبي هريرة رحمهما الله ورضي عنهما. فأشار هذا الذي حكينا كلامه من الأشياخ إلى أن ابن مسعود أشار إلى حمل الإنسان من سائر الجوانب لأجل ما قلناه. وقد قدمنا إجازة مالك حمل السرير من داخله وخارجه والبداية بأي الجوانب وأنه لا يحد في ذلك حدًا. وقالت الشافعية الأفضل في حمل الجنازة أن يجمع بين التربيع والحمل ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب حائز. (¬2) هكذا ولعل الصواب كما يحرز.

بين العمودين. فإن اقتصر على أحدهما فالحمل بين العمودين أفضل من التربيع. وقال ابن حنبل التربيع أفضل. وقال الحسن والنخعي والثوري. وأبو حنيفة يكره العمل بين العمودين. وذكر ابن حبيب أن .... (¬1) قال أحسن من يحمل الجنازة الذي يمشي بين عمودي النعش. والذي يقول استغفروا له غفر الله لكم. والذي يقول ارفقوا على نسائكم والذي يمسك النعش من خلفه. وقال مطرت وابن الماجشون أما الذي يمشي بين يدي عمودي السرير فلا بأس به للغريب والخاص. ويكره للعامة. واحتجا يحمل سعد جنازة ابن عوف رضي الله عنهما بين العمودين، وعثمان وزيد بن ثابت لأمهما وعمر لأسيد وابن عمر لأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين. وأما الذي خلف النعش، فإن كان من أهل الميت واحد الأربعة الراتبين (¬2) تحت النعش فذلك له وإلا فلا. والدليل على أن العمل بين العمودين لا يكره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمل في جنازة سعد بن معاذ بين العمودين وحمل عثمان رضي الله عنه سرير أمه بين العمودين. وكذلك فعل أبو هريرة بسرير سعد. وسعد بن أبي وقاص بسرير عبد الرحمن بن عوف. وهذا يقتضي الجواز. ورأت الشافعية حجة في الفضل. واحتج المخالفون بقول ابن مسعود إن أَتبع أحدكم الجنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع وليطوع بعد أو ليذر فإنه من السنّة. وأجيب عن هذا بان المراد به. .. (¬3) الإخبار بجوازه لا كراهة ما سواه. ورآه ابن حنبل حجة في فضل التربيع. كما ذكرناه عنه. وما ذكرناه عن مطرت وابن حبيبَ من التفرقة بين العامة والخاصة إن أراد به العمل. فهو خلاف ظاهر ما حكيناه عن مالك. فإذا وضح ما ذكرنا في صفة العمل. فقد اختلف قول مالك فيمن ليس على وضوء يحمل الجنازة. فقال ابن القاسم كره له أن يحمل الجنازة لينصرف ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة. (¬2) هكذا. (¬3) كلمة غير واضحة ولعلها سارت.

إذا بلغت. ولم ير به في رواية أشهب بأسًا. قال أشهب: وحمل جنازة الصبي على الأيدي أحب إليّ من الدابة والنعش. فإن حمل على الدابة لم أرَ به بأسًا. وكره مالك التحسر على الجنازة. وقال أيضًا ليس العمل على نزع الأردية في الجنازة. قال ابن حبيب: وقد استخف ذلك للغريب الخاص. وقد يفعل في العالم والفاضل الخاص من أصحابه. وقد رُؤي عبد الله بن عون في جنازة محمَّد بن سيرين في قميص. وتحسر مصعب وهو أمين في جنازة الأحنف. وأما صفة المماشاة في الجنازة فإنه قد كره الصحابة أن يتبع الميت بمجمرة. قال ابن حبيب إنما كره ذلك لئلا يكون تفاؤلًا بالنار. وقال ويكره الإنذار بالجنازة إذا كان من يقوم بالحمل والدفن. ونهى عنه ابن مسعود. فأما خواص أهل الرجل ومن يحزنهم أمره فليؤذنهم. وإنما يكره إنذار العامة. وفي العتبية كره مالك أن يؤذن بالجنازة على أبواب الجنازة أو يصاح خلفه أو يستغفر له. واستحب أن يؤذن بها في الحلق من غير رفع صوت. وقيل له في أهل البادية يبعثون إلى أهل المحال حولهم ينذرونهم بجنازتهم. قال إنه ليفعل ذلك في البادية والحاضرة ما لم يكن بعيدًا. وأما ما يقرب من إنذار الجيران ومن لعله أن يعزيه فلا بأس به. وسمع ابن جبير قائلًا يقول استغفروا له. فقال لا غفر الله لك. ولا يمشي بالجنازة الهوينا. ولكن مشية الرجل الشاب في حاجته. قال النخعي كانوا يقولون انشطوا بها ولا تدبوا بها دبيب اليهود. قال مالك ... (¬1) الناس الازدحام على حمل جنازة الصالح. ولقد انكسرت تحت سالم بن عبد الله نعشان وتحت عائشة ثلاثة وذلك حسن ما لم يكن فيه أذى. ويكره أن يسار راكبًا تقدم عنها أو تأخر عنها. قال النخعي كانوا يكرهونه. قال ابن حبيب لا بأس أن يرجع راكبًا بعد الدفن. وقال ابن عباس إن سايرها راكبًا تقدمها أو تأخر عنها. قال النخعي كانوا يكرهونه. قال ابن حبيب ¬

_ (¬1) هو بمقدار كلمتين ولعله ولو أن شأن.

لا بأس أن يرجع راكبًا بعد الدفن. وقال ابن عباس الراكب مع الجنازة كالجالس في أهله. قال الشعبي هذا يدل على أنه لا ثواب له. وقال عبد الله بن رباح الأنصاري للماشي خلف الجنازة قيراطان وللراكب قيراط. وقد احتج الناس على هؤلاء بأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء (¬1). ففرق بينهما في السير ولم يفرق بينهما في الثواب. وهذا الحديث إن احتججنا به فقد سلمنا للثوري ما حكيناه عنه إلا أن يخرج عن هذا الحديث بدليل آخر. وأما المتقدم أمام الجنازة والتأخر عنها. فاختلف الناس فيه. فعندنا أن المشي أمامها للرجال أفضل إذا لم يكونوا ركبانًا، وبه قال الشافعي وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم. وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق المشي خلف الجنازة أفضل. وقال الثوري الراكب خلفها والماشي حيث شاء. وقال أنس بن مالك أنتم متّبعون فكونوا بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها. وروي ذلك عن ابن جبير. وهو قول معاوية بن قرة. فدليلنا على أن المتقدم أفضل أنه مذهب جماعة من الصحابة. وذكر مالك في موطئه عن ابن شهاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يمشون أمام الجنازة (¬2). وهذا الحديث وإن أرسله مالك فقد أسنده سفيان. ورواه ابن شهاب عن سالم عن أبيه. وذكر أبو داود هذا الحديث في سننه فزاد فيه ويقولون هو أفضل. وهذه الزيادة تمنع حمل ذلك على الإباحة مع أن قوله كانوا يشعر بالمداومة ولا يداومون إلا على الأفضل. والاعتماد على هذا أولى من قول بعض المتأخرين من أصحابنا: إن الإجماع على أن المشي أمامها ليس بمباح يمنع من حمل الخبر على الإباحة. لأنا قدمنا من قول أنس والثوري وابن جبير وابن قرة يقتضي الإباحة ظاهره. فلهذا أثرنا الاعتماد على ما زاده أبو داود. وعلى ما تشعر به المداومة. واحتج المخالف بقول أبي سعيد الخدري سالت عليّا فقلت ¬

_ (¬1) رواه البيهقي عن المغيرة بن شعبة الراكب يمشي خلف الجنازة والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يسارها وميامنها. رواه البيهقي بالسنن ج 3 ص 25. (¬2) الموطأ ص 156. قال ابن عبد البر هو مرسل وأخرجه أبو داود موصولًا عن ابن عمر. وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجة.

أخبرني عن المشي مع الجنازة يا أبا الحسن. فقال فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل المكتوبة على التطوع (¬1). فقلت أتقول هذا برأيك أم سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأجيب بأن الحديث غير ثابت أو محمول على أن تقدمها إلى موضع الدفن أو بقدر ما لا يكون مصاحبًا لها أيضًا. وكذلك أيضًا أجيب عن تعلقهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - الجنازة متبوعة ليست متابعة (¬2) بأنه لم يثبت. وقد قال فيه أبو داود أنه لا يصح. فإن قالوا المشي خلفها أشد اعتبارًا لبصره والمشي أمامها تنبيه لمن يقرون عليه. مع أنهم شفعاء والشفيع يتقدم. وفيه أيضًا مسارعة إلى الخير. وأما الراكب فإنه يتأخر عندنا خلفها. وقالت الشافعية وترك الركوب أولى. فإن ركب كان أمام الجنازة. واحتجوا بأن عمر ربي على بغل أمام الجنازة. قال ابن شعبان: المشاة أمامها والركبان من خلفها والنساء من وراء ذلك. ولا بأس أن يشهدنها ما لم يكثرن التردد. ولا توضع على الرقاب حتى يتكامل من يشيّعها. وقال أيضًا في مختصره لا بأس بشهود النساء الجنائز ما لم يكثرن ركبانًا أو مشاة وقد كنّ يخرجن في حوائجهن يريد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده. وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه تخرج تقود فرس الزبير وهي حامل حتى عوتب في ذلك. وقد قال بالمذكور في مختصر عبد الله ونحو هذا في العتبية ولم يشترط الإكثار. إلا أنه قال ما أرى بأسًا في الأمر المستنكر. وقيل يكره خروجهن ولو على الخاص من قرابتهن. وينبغي للإمام منعهن من ذلك. وقيل يجوز خروجهن على مثل الزوج والأخ وشبههما. وبكراهة خروجهن. قال ابن عمر وابن مسعود وعائشة. وقد قالت أم عطية نهينا أن نتبع الجنائز ولم يعزم ¬

_ (¬1) روى البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أن أبا بكر وعمر كانا يمشيان أمام الجنازة وكان علي رضي الله عنه يمشي خلفها. فقيل لعلي رضي الله عنه أنهما يمشيان أمامها فقال إنهما يعلمان أن المشي خلفها أفضل من المشي أمامها. كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذا. ولكنها سهلان يسهلان للناس. السنن ج 3 ص 25. (¬2) رواه البيهقي الجنازة متبوعة ولا تتبع ليس معها من يتقدمها. رواه البيهقي ووهن سنده. السنن ج 3 ص 25.

علينا (¬1). وهذا الذي قلناه في الشواب منهن. وأما المتجالات فلا معنى لمنعهن. ولا بأس أن يجلس الماشي قبل أن توضع الجنازة ولا ينزل الراكب حتى توضمع. وقال مالك لا يكون. ........ (¬2) الجنازة في أعقاب النساء لأن حامليها خلفهم رجال. وقال مالك لا ينصرف في الصلاة عليها إلا لحاجة أو لعلية. قال ابن القاسم ذلك واسع لحاجة أو لغير حاجة وليست بفريضة. قال الشيخ أبو محمَّد فريضة تتعين عليه. قال ابن حبيب لا بأس أن يمشي مع الجنازة ما أحب وينصرف إن شاء قبل أن يصلي عليها. وقاله جابر بن عبد الله. والمشهور من مذاهب العلماء أن من مرت به الجنازة لم يؤمر بالقيام إليها. وروي عن ابن مسعود البدري وأبي سعيد الخدري وقيس بن سعد وسهل بن حنيف وسالم بن عبد الله وجوب القيام إليها. قال ابن حنبل إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس. وتعلق المخالفون بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم الجنازة فقدموا ومن تبعها فلا يقعد حتى توضع (¬3). وأجيبوا عن هذا بأنه منسوخ وسنذكر ناسخه إذا تكلمنا على الجلوس عند الإقبار إن شاء الله. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والصلاة على الجنازة جائزة (¬4) في كل الأوقات وبعد العصر ما لم تصفر الشمس. ولا تصلّى عند طلوع الشمس ولا غروبها إلا أن يخشى (¬5) تغيّرها. قال الفقيه الإِمام: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: وهما أن يقال: 1 - لِمَ كره الصلاة في الوقت الذي ذكر؟. 2 - وإذا حضرت المكتوبة والجنازة ما الذي يقدّم منهما؟. ¬

_ (¬1) رواه البخاري ومسلم. فتح الباري ج 3 ص 387. (¬2) كلمة غير واضحة. (¬3) رواه البخاري ومسلم. فتح الباري ج 3 ص 423. والبيهقي بالسنن ج 2 ص 26. (¬4) وهي جائزة -غ- والغاني. (¬5) يخاف -غ- الغاني.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: تجوز الصلاة على الجنازة ليلًا ونهارًا إلا في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. فإن فيها اختلافًا: هل يستثنى من ذلك الجواز أم لا؟ فأطلق أبو مصعب الجواز ولم يستثن. وقال تجوز الصلاة على الجنازة في الساعات كلها: وبه قال الشافعي. وقد روي أن أبا هريرة رضي الله عنه صلى على جنازة والشمس على أطراف الجدران. وقد صلّى على عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه عند الاصفرار. وهذا المذهب يظهر مع القول بوجوب صلاة الجنازة. والظاهر من المذهب استثناء أوقات. ولكن اختلف المستثنون. فاستثنى مالك في المدونة ما بعد العصر إذا اصفرت الشمس إلى أن تغرب وما بعد الصبح إلى أن تطلع. واستثنى ابن الجلاب حين الغروب والطلوع فأجازها في كل وقت إلا عند طلوع الشمس وغروبها. وفي المختصر لا يصلي عليها عندما تهم الشمس أن تطلع وعندما تهم أن تغرب ويصفر أثرها بالأرض إلا أن يخاف عليها التغيير. واستثني أبو حنيفة والثوري والحسن الطلوع وعند الاستواء وعند اصفرار الشمس. وسبب الاختلاف ما بسطناه في كتاب الصلاة لما تكلمنا هنالك على إيقاع الصلوات في هذه الأوقات. ومما يختص بهذا الموضع حجة لأبي حنيفة. حديث عقبة بن عامر. قال ثلاث ساعات نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى فيهن وأن يقبر فيهن ميت. وذكر حين الطلوع حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تضيف الشمس للغروب (¬1). خرجه مسلم. قال بعضهم فإذا نهانا أن تفسير في هذه الأوقات فالصلاة أولى بالنهي مع عموم الحديث فإنه نهى أن يصلي فيهن وأطلق. قال أشهب: لا أكراه الصلاة عليها نصف النهار كما لا أكره التنفل حينئذ ولم يثبت النهي عن الصلاة حينئذ. وثبت النهي عند الطلوع وعند الغروب. وأما استثناؤه مخافة التغيّر لأن ذلك ضرورة تقضي الدفن من غير صلاة. والصلاة حينئذ أولى. قال مالك في المختصر: وفي سماع ابن وهب لا يُصلي عليها عند الغروب فإن صلّى عليها من غير مخافة التغير عند الطلوع أو عند الغروب فقال أشهب: لا إعادة عليهم. قال ابن القاسم: إذا دفنت فلا يعيدوا. ¬

_ (¬1) مسلم. إكمال الإكمال ج 3 ص 437.

وقد أرخص مالك أن يصلي عليها في هذه الأوقات إن خيف عليها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا حضرت الصلاة المكتوبة وصلاة الجنازة فأما صلاة المغرب فقال مالك: تقدمة صلاة المغرب أصوب فإن قدموها على المغرب فلا بأس. وأما إن كانت الصلاة الظهر أو العشاء فليبدؤوا بما شاؤوا لكون وقت هاتين الصلاتين واسعًا. فإذا لم يخرج وقت الاختيار فيهما فلا معنى للنهي عن تقدمة الجنازة. وأما إذا حضرت الجنازة، والصلاة الصبح أو العصر فليبدؤوا بها قبل الصبح والعصر, لأن التنفل بعدهما مكروه، وهذا كله مع تساوي الأحوال. فأما إن خيف ذوات وقت الصلاة المكتوبة فإنها تُقدم. وكذلك تقدم الجنازة إذا خيف فسادها في الموضع الذي خيّرنا بين تقدمتها وتقدمة المكتوبة، وجعلنا تقدمة كل واحدة على صاحبتها جائزة لأن الضرورة ها هنا تقتضي تقدمة الجنازة. ولا مانع يمنع من تقدمتها. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا تترك الصلاة على مسلم إلا أن أهل الفضل يجتنبون (¬1) الصلاة على المبتدعة والبغاة. ويجتنب الإِمام خاصة (¬2) الصلاة على من قتله في حد. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما الدليل على صحة ما قال أن المسلم لا تترك الصلاة عليه؟. 2 - ولمَ تجتنب على المبتدعة والبغاة؟. 3 - ولمَ لا يصلي الإِمام على من قتله في حد؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الدليل على الصلاة على كل مسلم فقد ذكر ابن شعبان في مختصره بسنده عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من قال لا إله إلا الله (¬3). وذكر ¬

_ (¬1) يتجنبون -غ-. (¬2) خاصة = ساقطة -و-. (¬3) رواه الدارقطني وأبو نعيم في أخبار أصبهان سنده واه جدًا وروي بطرق أخرى كلها ضعيفة. إرواء الغليل ج 2 ص305.

أيضًا بسنده عن الحسن بن أبي الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله فصل عليه واستغفر له وحسابه على الله. وقد قيل لعطاء امرأة زنت فحملت ثم استسقطت فماتت. ورجل شرب خمرًا فغرق فمات. أيصلي عليهما؟ قال نعم قلت لِمَ ولمْ يستحدثا توبة؟ قال: أذ إليهما حقهما بشهادة أن لا إله إلا الله وحسابهما على الله. وفي المجموعة عن مالك يصلّى على كل مسلم، ولا يخرجه من حق الإِسلام حدث أحدثه ولا جُرْم أجرمه. قال ابن حبيب ويصلّى على كل موحّد وإن أسرف على نفسه بالكبائر. وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على امرأة ماتت من النفاس من الزنا (¬1) وفعله ابن عمر. وقال ابن حبيب وإنما يشفع للمسيء. قال ابن سيرين ما حزم الله سبحانه على أحد من أهل القبلة إلا ثمانية عشر رجلًا من المنافقين. قال ابن حبيب وإنما ذلك ليعلم أن الصلاة عليهم لا تترك لجرمهم. وذكر ابن شعبان في مختصره أنه لا يصلي على من يذكر بالفسق والشرّ. وإنما يرغب في الصلاة على من يذكر بخير. وروى بعض المدنيين عنه أنه قال من ترك الجمعة لم أرغب في الصلاة عليه إذا مات. وقد قال بالمذكور في مختصر عبد الله، لا تترك الصلاة على أحد من المصلين للقِبلة. وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي. وهذا الذي قاله ابن شعبان عن مالك من النهي عن الصلاة على من يذكر بالفسوق والشر، ظاهر إطلاقه خلاف ما حكيناه من مذاهب الأئمة من الصلاة على كل مسلم. وإن كان المراد بهذه الرواية نهي الإنسان عن الرغبة في الصلاة على مثل هؤلاء إذا قام بفرض الصلاة عليهم غيره، فذلك غير خارج عن أصل المذهب. وقد روى ابن وهب عن مالك في الميت يكون معروفًا بالفسق والشر قال لا تُصل عليه واتركه لغيرك. قال وإنما يرغب في الصلاة على الرجل الذي يذكر عنه الخير. فعلى هذا يجب أن يحمل ما حكيناه عن ابن شعبان. ألا ترى قوله وإنما يرغب في الصلاة على من يذكر فيه خير. وهذه إشارة إلى مطابقة رواية ابن وهب. وأما إن ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الكبير. قال ابن أبي شيبة في محمَّد بن زياد صاحب نافع ولم أجد من ترجمه. مجمع الزوائد ج 3 ص 41.

كان المراد بهذه الرواية نهي الكل عن الصلاة على هؤلاء فهذا خلاف مذاهب الأئمة فلا تحمل هذه الرواية عليه، وإن كان ابن شعبان قد روى في مختصره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات وعنده جارية مغنيّة فلا تصلوا عليه (¬1). وظاهر هذا الحديث إطلاق الرواية التي حسماها ابن شعبان عن مالك في أنه لا يصلي على من يذكر بالفسق والشرّ. ولكن الحديث يحتمل من التأويل ما تأولنا عليه الرواية. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما المبتدعة كالمعتزلة والخوارج. فالخلاف بين أهل الأصول في تكفيرهم مشهور. واختلف فيه قول القاضي ابن الطيب وقد قدمنا في كتاب الصلاة الخلاف في تكفيرهم فلا معنى لإعادته. فإذا قلنا بتكفيرهم فلا شك في منع الصلاة عليهم. وإذا قلنا بفسقهم لا بكفرهم جرى الأمر في الصلاة عليهم على ما قدمناه من الصلاة على أهل الشرِّ. بل هؤلاء أشد للاختلاف في كفرهم، والاتفاق على إيمان أولىك. وإذا فسقوا بمذهبهم ولم يكفروا حسن ما قاله القاضي من اجتناب أهل الفضل الصلاة عليهم وحسن أن لا يرغب المصلي في الصلاة عليهم إذا أمكنه ترك الصلاة عليهم لغيره. وقال مالك في المدونة في القدرية والإباضية لا يصلي على موتاهم ولا تُعاد مرضاهم. وذكر سحنون أن ترك الصلاة على جهة الأدب لهم، وإذا خيف أن يضيّعوا غُسّلوا وصُلى عليهم. وهذه الطريقة سلكها القاضي ها هنا. وأما إن تُرك قول مالك في المدونة على ظاهرة أفاده تكفيرهم. وغير بعيد إجراؤه على ظاهره. فقد قال مالك في مختصر ابن شعبان فيمن يقول: القرآن مخلوق هو كافر. وقال في رجل خطب إليه رجل من القدرية: لا يزوجّه. قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (¬2). وهذا يطابق إطلاق قوله في المدونة. ولكنه قال أيضًا فيمن قال بخلق القرآن يضرب ويسجن حتى يموت. القاسم في طائفتين من الخوارج الحروريْة والقدرية يقع بينهم قتل فعلى من قرب منهم أن ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في التاريخ والديلمي وفي إسناده سليمان الخواص قال الأسدي ضعيف جدًا. الجامع الكبير للسيوطي ج 6 حديث 23138 (¬2) سورة البقرة، الآية: 221.

يواريهم ويغسلهم ويصلي عليهم وذلك استحسان، وليس بواجب. وكأن هذه الطريقة طريقة من تردّد بين المذهبين، فلم يحزم الصلاة ولم يُوجبها ولكنه استحسنها. وقد يعتضد من منع الصلاة عليهم بناء على تكفيرهم بظواهر السمع. فروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: القدرية مجوس هذه الأمة. فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم (¬1). وذكر لابن عمر الذين يكذّبون بالقدر فقال ابن عمر: أنا منهم بريء فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلّوا على موتاهم. وأما الصلاة على البغاة فاختلف الناس فيها. فعندنا وعند الشافعية أن أهل العدل إذا قتلوا أهل البغي فان أهل البغي يغسلون ويصلّى عليهم. وقال أبو حنيفة لا يغسلون ولا يصلّي عليهم. ولنا ما قدمناه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلّوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله (¬2). وأما أبو حنيفة فيقيسهم على الكفار لعلة أنهم باينوا أهل الحق حربًا ودارًا ولا يسلّم له ما قال. وليست العلّة البينونة بالدار والحرب. وإنما العلة الكفر. ويستدل أيضًا بقوله تعالى في المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (¬3). ومن أخبر الباري تعالى بخزيه فلا يكّرم بالصلاة عليهم. وغيرهم من أصحاب الكبائر لم يخبر بخزيهم فلا تمنع الصلاة عليهم. ولا يسلّم لهم هذا الاستدلال لأن المقصد بالآية الزجر والردع. والصلاة على الميت سؤال في الرحمة والغفران له، وبالإِسلام تُمكن الرحمة والمغفرة. وهذا مسلم، وهو أولى السؤال (¬4) في المغفرة والرحمة أحوج من غيره. ويستدل أيضًا بترك علي رضي الله عنه الصلاة على أهل صفيق. وهذا لا يسلم له لمخالفة من رأى رأية ¬

_ (¬1) رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. قال المناوي نقلًا عن ابن المنذر هو حديث منقطع ولذلك لما أدخله الحاكم قال إن صح لأبي حازم سماع من ابن عمر. وقال في مهذب منقطع ابن أبي حازم وابن عمر. وقال ابن الجوزي لا يصح. فيض القديرج 4 ص 534. (¬2) رواه الدارقطني وأبو نعيم سنده واه جدًا. إرواء الغليل ج 2 ص305. (¬3) سورة المائدة، الآية: 33. (¬4) هكذا. ولعله وبالسؤال.

في الحرب في ذلك. وقد ترك الصلاة على من قتل معه. وسنتكلم على حكم من قتل من أهل العدل. وكذلك عندنا ميتّان اقتتلا ظلمًا فإنه يصلّى على جميعهم. قال ابن القاسم في قوم ثاروا على خارجي فقُتل أصحاب الخارجي والقائمون عليهم وليس فيهم من أراد نصرة في دين وإنما طلبوا الدنيا، أو فئتين من المسلمين يقع بينهم قتال فإنهم يغسلون ويُصلى عليهم، الظالم منهم والمظلوم، ويدفنون. وليفعل ذلك بهم الإِمام، ولا يكره عليه أحد. ومن قتل نفسه غسل وصلّي عليه خلافًا للأوزاعي لقوله: لا يغسل ولا يصلّى عليه. ركره عمر بن عبد العزيز الصلاة عليه. ولنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله (¬1). وبهذا الحديث أيضًا نردّ على الزهري في قوله أن المرجوم لا يغسل ولا يُصلي عليه. وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الغامدية. فقال له عمر رضي الله عنه تصلي عليها فقال: نعم لقد ثابت توبة لو قُسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم (¬2). ولا معنى لقول قتادة أن ولد الزنا لا يغسل ولا يُصلى عليه. لأن ما قدمناه من عمومات الظواهر حجة عليه، ولأنه كسائر المسلمين ولا ذنب له بزنا أمّه. وهذا حكم الصلاة على سائر المسلمين وعلى أهل الكبائر منهم وأهل البدع فيهم. أما من يشك في مذهبه - فذكر ابن حبيب في غريب طرأ إلى بلد ولا يعرف مذهبه أنه لا يُصلى عليه إذا كان بالموضع مسلمون ونصارى لا يغسل ولا يوارى (¬3) ولا يُستقبل به قبلتنا ولا قبلة غيرنا إلا أن يوجد بمدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ... (¬4) بهيئة المسلمين فليدفن مع المسلمين لأنه لا يكون بها غير مسلم. فرأى ابن حبيب أن الشك في الاعتقاد لا يمنع الصلاة على من يكون ظاهرًا يغلب على الظن منه الإِسلام. فالختان لا دلالة فيه لاشتراكه. ومدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا كانت لا يسكنها إلا المسلمون، صار ذلك ظاهرًا يدل على إسلام من وجد بها فيدفن مع المسلمين كما قال ويصلّى عليه. وقد رأى ابن وهب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) رواه مسلم. إكمال الاكمال ج 4 ص 458. والعارضة ج 6 ص 212 (¬3) ثلاث كلمات غير واضحة. وما أثبتناه يستقيم به المعنى. (¬4) كلمة ممحوة.

الختان علمَا على الإِسلام. فقال فيمن وجد ميتاً أنه يجسن على ذكره من فوق الثوب فإن كان مختونًا غسل وصُلي عليه. وظاهر هذا خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من ترك الاستدلال بالختان لاشتراكه. فإن قيل إن ابن حبيب إنما لم يستدل في بلد فيه نصارى يختتنون. وابن وهب استدل ..... (¬1) بفلاة لا أحد بها، قيل إذا علم أصل المشاركة بين أهل المذهبين فلا معنى لوجود المشارك وتجويزه وجوده. وقد حكى ابن سحنون فيمن لفظه البحر أنه ينظر إلى العلامات. فإن لم تكن نظر إلى غالب السفّار فإن كان مسلمون صلي عليه ونوي بالدعاء مسلماً فعوّل على العلامة ولم يذكر هل هي ختان أو غيره. فإن فقدها نظر إلى غالب السفار لإفادة الغالب من الظن ما تفيده العلامة. والتعويل ها هنا على الغالب كتأويل سحنون عن ابن القاسم في قوله فيمن وجد بفلاة لا يدري مذهبه أنه لا يوارى ولا يصلى عليه. قال سحنون هذا بفلوات المشركين. وأما بفلوات المسلمين فإنه يُغسل ويُصلى عليه. فأنت ترى كيف أشار سحنون إلى اعتبار الغالب كما أشار إليه ابن وهب وإن كان ابن وهب لم يُراع السلكين فيما حكيناه عنه بل أطلق جوابه. ومراعاة الغالب ها هنا كمراعاة الغالب فيمن وجد ميتاً من المسلمين. وقد اختلط بغيره من اليهود، فإن أصحابنا اختلفوا في ذلك. فقال سحنون يغسل جميعهم ويصلّى عليهم وينوي بالدعاء المسلم. وبهذا قالت الشافعية. وقال أشهب لا يُصلى عليهم حتى يعرف المسلم بعينه بخلاف أن يكون الغالبَ المسلمون. وهكذا قال ابن القاسم: إذا كان الغالب المسلمين فإنه يُصلي عليهم وينوي بالصلاة المسلمون، وبمراعاة الغالب أيضًا، قال أبو حنيفة، وقال سحنون إذا مات رجلان تحت هدم، أحدهما يهودي والآخر مسلم. ¬

_ (¬1) هو مقدار كلمة. **** هذه الصفحة إلى نهاية النسخة تسربت الرطوبة إلى بقية الأوراق. وكلما تقدمنا كان انتثار المحو كثر. فاجتهدنا قدر المستطاع إلى صفحة 322 في استكمال النص حسب أقرب فرض للكلمات الممحوة اعتمادًا على السياق وعلى ما بقي من حرف أو حرفين في الكلمة. ولكن في السبع صفحات الأخيرة اشتد تخريب الرطوبة وسرى حبر الكتابة فاختلطت الكلمات مما تعذر معه المضي في التحقيق. ولذلك اكتفينا بتثبيت نص القاضي عبد الوهاب في التلقين وبه يتم كتاب الصلاة.

ولأحدهما مال لم يعرف المسلم ولا ذو المال. قال يغسّلان ويكفّنان في ذلك المال. ويصلّى عليهما والنية للمسلم ويبقى المال موقوفًا. فأفادت هذه الروايات اضطرابًا في التعويل على الأغلب كما أفادت اضطرابًا في الختان. لكن الاضطراب فيه يمكن أن يصرف إلى اختلاف في حال. وهل وجد وجودًا يفيد ظنًا أم لا؟ وأما الاختلاف في الغالب فكأنه تقابل فيه أصلان: أحدهما للمسلم حقًا في الصلاة عليه فلا يسقط مع القدرة عليها. فإن قلنا بهذا صلي عليهما ونوي المسلم. والثاني أن مراعاة الأغلب وتعليق الأحكام عليه له أصول في الشريعة. وقد ثبت الإجماع على أنهم لو كانوا كلهم كفرة لم يصلّ عليهم. فإن كان جلّهم كذلك أجري الجلّ مجرى الكل. والخلاف في مراعاة الغالب ها هنا أوقع منه في مراعاة غالب سكان البلد والفلاة والسُفار على ما أشرنا إليه في الروايات. لأن ها هنا: من يُقطع بتحريم الصلاة عليه اختلط بمن تجب الصلاة عليه، فقد يلحق بباب اختلاط الحلال بالحرام على ما عرف في أصول الفقه. وإن كان قد قال بعض الناس أن القصد للمسلمين يرفع الحظر. وتخرج المسألة عن باب اختلاط الحلال بالحرام. وليس في تلك المسائل قطع بتحريم الصلاة. لكن فيها تردد بين تحليل وتحريم فيجب أن يرجع إلى الأصل الثابت، قبل حالة الشك. وإنما نبهنا على هذا لئلا يختلط أصل بأصل. وقد أفادت الروايات أيضًا اختلافًا في مواراة المشكوك فيه ولا معنى للمنع من ذلك إذا احتيج إليه ولم يقصد به قصدَ العبادة المسلوكة في المسلم. فأما قول سحنون في المال المشكوك فيه بانهما يكفّنان فيه وتبقى بقية المال موقوفة. فإن في إطلاق الجواب نظراً. فإن المال إذا علم أنه لم يخرج عن أيديهما وشك في عين المستحق منهما فنحن نعلم أن أحدهما لا يستحق التكفين منه قطعًا، ونشك في عينه. فكيف أبيح التكفين فيه لهما، إلا أن ينزله منزلة مال يتداعاه رجلان فحكمه القسمة بينهما. فينبغي لمن سلك هذا المسلك أن يشترط تساوي الكفنين، ولا يكفن أحدهما على ما يليق به فيقع التفاضل في القسمة، ويجري ورثتهما في الباقي على حكم التداعي فيه. هكذا مقتضى هذه الطريقة إن كان قصدها.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: مذهبنا أن الإِمام لا يصلي على من قتله في حدّ أو قصاص. وسواء قتلهم الإِمام أو كانوا لصوصًا كابروا قومًا فقتلوهم لأنهم لو رفعوا إلى الإِمام لقتلهم. وأما من ضربه الإِمام في حدّ فمات من ذلك الضرب فإن الإِمام يصلي عليه لأنه لم يكن حدّه الموت. وقد يتخرج من الروايات التي حكيناها أن الصلاة على أهل الشرِّ تجتنب ترك الصلاة على هذا. وقال ابن نافع لا بأس بصلاة الإِمام على من قتله في حد. وقال ابن حنبل لا يصلي الإِمام ..... (¬1) على الغالّ من الغنيمة. وظاهر مذهب الشافعي جواز الصلاة عليهم. وقال محمَّد بن عبد الحكم يصلي الإِمام على المرجوم إن شاء. واحتج من ذهب إلى جواز صلاة الأئمة على هؤلاء بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغامدية بعد أن رجمها في الزنا (¬2). واحتج ابن عبد الحكم لما حكيناه عنه. بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى على ماعز والغامدية. وألزمه بعض أشياخنا أن يقول بصلاة الإِمام على من قتله بقوَد أو غيره. وقد لا يلزمه ذلك إذا كان إنما اقتفى فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على المرجوم ولم يقس عليه. وأما مالك فإن مذهبه يعلل بأن الحدود إنما تقام زجرًا وردعًا للعصاة. وإقامتها للأئمة. فترك الأئمة الصلاة عليهم أشد تحقيقًا لمباينتهم وإنكارًا لفعلهم. فلهذا خصّ الإِمام بالنهي دون غيره. فقد اعترف رجل من أسلم بالزنا والإحصان فرُجم ولم يصل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومن لم تعلم حياته من الأجنة بصراخ أو ما يقوم مقامه من طول المكث (¬4) لم يغسّل ولم يصلّ عليه. ولا أعتبار بحركته إذا لم يقارنها طول إقامة. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: أحدهما أن يقال: ¬

_ (¬1) هو مقدار ثلاث كلمات ولعله على من قتله في حد - ولا. (¬2) رواه مسلم إكمال الإكمال ج 4 ص 458. والترمذي. العارضة ج 6 ص212 (¬3) لم أجده. (¬4) مكث -غ- مكثه - الغاني.

1 - لِمَ قال: لا يصلي على السقط حتى يستهل صارخًا؟. 2 - ولمَ لم يجعل الحركة دليلًا على الحياة؟. الجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلف الناس بماذا يكون المولود من المسلمين يستحق الصلاة؟ فقال مالك بأن يستهل صارخًا. وروي عن الشافعي إذا سقط بعد أربعة أشهر من زمن العمل صلّى عليه. ومن الناس من قال يُصلي عليه (¬1). وقال ابن جبير لا يصلى على من لم يبلغ. فأما مالك فيستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا استهل السِقط صلي عليه (¬2). وروي أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يصلى على المولود ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة (¬3). ولأنه إذا ظهر دليل حياته وقطع بأنه حي لحق بالبالغين. وأجري حكم البالغين عليه في الصلاة كما يجري حكم البالغين عليه في كثير من الأحكام. فأما المخالف فإنه يستدل بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلّ على ابنه إبراهيم (¬4). قيل قد روى عبد بن أبي أوفى أنه قد صلى عليه (¬5) فيمكن أن تحمل روايتهم على أنه لم يصل عليه بنفسه وأمر غيره أن يصلي عليه. ولا معنى لقوله: أن من لا يبلغ لا ذنب له فاستغني عن الصلاة عليه. فإن هذا يبطل بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا فإنها عبادة فيؤمر بها فيمن أذنب ومن لم يذنب. وأما ذهاب الشافعي إلى اشتراط مضي أربعة أشهر في زمن العمل فيمكن أن يكون تعلقًا منه بظاهر الخبر الوارد بأن الروح ينفخ فيه في هذا المقدار فيلحق حينئذ بالأحياء. وإذا ثبتت الصلاة عليه، فإن مالكًا سئل عن الصلاة على المنفوس في المنزل فقال: ما علمت ذلك. قال مطرف كرهه مالك وقد صلى ابن عمر رضي الله عنهما على صبي في جوف داره ثم أرسله إلى المقبرة ولم يتبعه. قال ابن حبيب أرى ذلك ¬

_ (¬1) ولعله أنه يصلي عليه وإن لم يبلغ أربعة أشهر وهو قول أبي موسى. انظر الشرح الكبير على متن المقنع ج 2 ص 337. (¬2) المصنف لابن أبي شيبة الباب 115 ج 3 ص 15 - 11. (¬3) رواه ابن أبي شيبة. وعلق عليه. قال يونس وأهل زياد يرفععونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا لا أحفظه. ج 3 ص 10ح 11589. (¬4) أخرجه أبو داود بسنده إلى عائشة رضي الله عنها وكذلك أحمد والبزار وأبو يعلي. نصب الراية ج 2 ص 280 والهداية ج 370 (¬5) لم أجده.

من عذر لأنه كبُر وضعف بصره. ولا يغسل السقط إذا لم يصل عليه ولا يحنّط ولا بأس أن يغسل عنه الدم لا كغسل الميت. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الصراخ فلا شك في دلالته على الحياة، لاطراد العادة التي لا يصرُخ إلا الحي. وهذا مقطوع به. وقد اضطرب المذهب في الحركة والرضاع والعطاس. فقيل لا يكون ذلك دليلًا على الحياة يقتضي حكم الحي. فإن (¬1) أقام يتنفس ويفتح عينيه ويتحرك حتى يسمع له صوت. وإن كان خفيفًا. واستدل إسماعيل القاضي على نفي دلالة الحركة التي ليست ببينة بأنه قد كان يتحرك في البطن. واستدل القاضي على ذلك بأن المقتول يتحرك. وأما العطاس فإن من جعله دلالة على الحياة أجراه مجرى الاستهلال، وزعم أن العادة أطردت بأن ذلك لا يكون إلا من الحي. ومن أنكر ذلك قال: يمكن أن يكون ريحًا. وأما الرضاع فلا معنى لإنكار دلالته على الحياة لأنا نعلم علمًا يقينًا أنه محال في العادة أن يرضع الميت، وليس الرضاع من الأفعال التي تكون مترددة بين الطبيعة والاختيار كما قال ابن الماجشون: إن العطاس يكون من الريح والبول من استرخاء المواسك، لأن الرضاع لا يكون إلا مع القصد إليه. والتشكك في دلالته على الحياة تطرق إلى هدم قواعد علوم ضرورية. والصواب ما قاله ابن وهب وغيره أنه كالاستهلال، وما أظن من خالفه من أصحابنا يهجم على إنكار دلالة ذلك على الحياة. لكنه قد يزعم أن هذا الحكم معلق في الشرع بالاستهلال دون ما ضاهاه من الدلالة على الحياة. وقد يتعلق بما قدمناه من قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا استهل السقط صُلي عليه (¬2). دليل هذا الخطاب أنه إذا لم يستهل لم يصل عليه. وهذا يخرج المسألة من النظر الأول إلى نظر آخر. وأما إن كان المعتمد على ما يقوم مقام الصراخ في الدلالة على الحياة كما أشار إليه عبد الوهاب ها هنا. فلا شك في كون الرضاع دلالة على الحياة. وأما إذا لم ينفصل الجنين من البطن لم يعتبر حكمه في الصلاة. قاله مالك في أم ولد المسلم النصرانية تموت حاملًا منه. فإن أهل دينها يلونها إذ لا ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: إلاَّ إن أقام لعدم وجود جواب الشرط في كلامه. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا.

حرمة لجنينها حتى يُولد. وإذا وُضح أن الجنين لا حكم له قبل الولادة وإنما له الحكم بعد الولادة إذا استهل فهل ذلك ........... (¬1) وقد تقدم الكلام على القطع لهم بالجنة. وأما أولاد الكافرين الذين لهم ذمة. فلا شك أن ....... (¬2) من صلى عليه. وقيل إن لم يكن معه أبواه ولم يبلغ إلى أن يتدين فإن المسلم إذا اشتراه كان له حكم المسلمين في الصلاة عليه والموارثة والقود والمعاقلة. وقيل إذا ملكه المسلم وليس معه أبواه إن مات بحدثان ذلك لم يصل عليه وإن كان قد طال زمان ملكه وقد تشرعّ بشريعة الإِسلام وتزيى بزي أهله فله حكم الإِسلام في الصلاة والموارثة. والقود والمعاقلة. وقيل أما من ولد من أهل الكتاب في ملك مسلم فهو على حكم الإِسلام بخلاف المولود في ملك كافر. وقيل بعكس هذا. وسبب هذا الاضطراب أن من لا يعقل لا يتصور فيه إعتقاد الإيمان والكفر (¬3) كما لا يتصور ذلك فيه استحال إجراء الإيمان أو الكفر من ناحية الاعتقاد. وإذا استحال ذلك لم يبق إلا تصور الإيمان الحكمي فأي هذين الحكمين يضاف إليه؟ هذا موضع الإشكال فمن استصحب حال التناسل أجراه على حكم الكفر. .... (¬4) بالاتفاق على أولاد أهل الذمة وإن كان للآخر أن يمنعهم من هذا القياس بالمنازعة في التعليل فيرى أن ذلك إنما ثبت لأبناء أهل الذمة بحكم الذمة لا بحكم التناسل والسبي أو المولود عند من لم يعقد له ولا لأبويه ذمة يمنع من إجراء أحكام الإِسلام عليه. وقد أشار ابن عبدوس إلى هذه الطريقة فقال رواية ابن القاسم أولى لأن لهم حكم الكفر وهو الأكثر والغالب، لأنه قد ولد في دار الكفر مع أبويه فلا ينتقل عنه إلا بالإِسلام من أبيه أو يجيب إلى الإِسلام وقد عقله. فإن قيل فأنت لا تبيعهم من أهل الذمة ولا تفاديهم بالمال: قلت لا أفعل لأني أجبرهم على الإِسلام إذا لم يكن معهم أحد أبويهم. وقد قال سحنون يفادون بالمسلم ولا يفادون بالمال. وقد قال مالك يجبر على ¬

_ (¬1) نصف سطر غير واضح. فهل ذلك في كل ولد استهل أم لا: أما أولاد المسلمين فلا خلاف في الصلاة عليهم. (¬2) سطران غامضان بسبب المحو الناتج عن الرطوبة في أعلى الصفحة. (¬3) هكذا ولعل الصواب فلمَّا لم. (¬4) كلام ممحو والأقرب أنه: وقد يعتمد هذا.

الإِسلام صغار الكتابيين وكفار المجوس. فأنت ترى ابن عبدوس كيف أشار إلى ما قلناه من استصحاب حكم التناسل غير أنه في أثناء كلامه أشار إلى استصحاب حكم الدار، فإن حكم الدار هو عمدة تعليله، فإنها طريقة من قدمنا قوله من أصحاينا في تفرقة المولود في ملك المسلم أو الكافر. إلا أن يكون أولئك إنما يعتبرون ملك الكافر حيث كان، وإن كان دار الإِسلام فإن هذا يكون بمعنى آخر، وإنما كان استصحاب حكم التناسل والدار يقتضي جواز بيعهم من أهل الذمة، اعتذر عنه ابن عبدوس بأن منعه بمعنى آخر. وهو جبرهم على الإِسلام، وبيعهم يمنع من جبرهم إذا عقلوا. ومن استصحب حال الفطرة الأولى التي أشار الشرع إلى أن أصل الخلق ومبدأه بني عليها. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (¬1) الآية. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه (¬2). فأشار إلى أن الأبوين ينقلانه. ولكن طرد هذا التعليل يقتضي أن لا يعتبر وجود أبويه في حال لا يعقل فيها. لاستحالة النقل حينئذ إلا أن يتأول أصحاب هذه الطريقة قوله يهودّانه على معنى أنهما يحكمان بمصيره يهوديًا لا على أنهما يعلمانه اليهودية فتصح طريقتهم حينئذ. ولكن في حمل الحديث على هذا نظر يطول. وإذا تقرر حكم دين من لم يبلغ، فما حكم انتقال من لم يبلغ عن دينه؟ هذا عندنا فيه قولان. هل يعتبر انتقاله فاختلف في ولد المسلم يرتد قبل البلوغ فيموت. هل يصلى عليه أم لا؟ وكذلك ولد الكافر يُسلم قبل البلوغ اختلف هل يعتد بإسلامه أم لا، وهذا فيمن يعقل ما انتقل إليه. وقد اعتمد من رأى الانتقال مؤثرًا بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس رحمه الله كانا معدودين في المسلمين قبل بلوغهما. ولو أسلم ولد الكافر قبل البلوغ ثم ارتدّ قبل أن يبلغ جبر على الرجوع عن ارتداده، ولم يقتل، ولو بلغ على ذلك. لأن إسلامه لم يكن بالمجمع عليه. وقال المغيرة يقتل قبل بلوغه إذا تمادى على ردته. وقال ابن عبدوس: لم يختلف أصحابنا في قتل أولاد المسلمين إذا ارتدوا وتمادوا على الردة بعد البلوغ. ¬

_ (¬1) سورة الأعراف، الآية: 172. (¬2) رواه البخاري. فتح الباري ج 3 ص 496/ 494.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا يغسّل الشهيد في المعترك ولا يصلّى عليه. ويدفن في ثيابه. وكذلك إن حمل جريحًا فمات (¬1) في الغَمرة. ويصلّى على كل الشهداء سواه. قال الفقيه الأمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة: منها أن يقال: 1 - ما المانع من الصلاة على الميت الشهيد؟. 2 - وما الدليل على أن الشهيد لا يغسل ولا يصلّى عليه؟. 3 - ولمَ قيد قوله بالمعترك؟. 4 - وما معنى تنبيهه على دفنه في ثيابه؟. فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: المانع من الصلاة على الميت نوعان: نقيصة وفضيلة (¬2). فأما النقيصة فالكفر وقد تكلمنا عليه. ... (¬3). وعدم الاستهلال وقد تكلمنا عليه. ووجود بعض البدن. فإن هذا يلحق بباب النقائص وإن لم يكن نقصًا على الحقيقة. فأما الصلاة على بعض البدن فاختلف الناس فيه فالمشهور عندنا أنه لا يصلى على نصف البدن فدون. وإنما يصلى على أكثره. وبه قال أبو حنيفة وقال ابن حبيب يصلّى على عضد يوجد من الميت وينوى به. وبه قال ابن أبي سلمة والشافعي. فوجه القول الأول أنه لا يُصلى إلا على أكثر البدن قياسًا على السنّ والظفر ويد السارق. وأجاب أصحاب الشافعي عن القياس على السنن والظفر بأن الصلاة على ذلك لهم فيها وجهان: وأما يد السارق فإنها منفصلة من حي والحي لا يصلى عليه. وقد دفن عروة رجله بعد أن غسلها وكفّنها ولم يصل عليها لأنها من حي. ومن أجل الصلاة على عضو يشترط في النية إن كان صاحب العضو ميتاً. وقد قال بعض أهل النظر أن سببب الاختلاف في الصلاة على أقل البدن جواز إعادة الصلاة على الميت. فكانه يرى أنه إذا كان الموجود أقل البدن أمكن أن يكون كثره قد صلى عليه من وجده. ¬

_ (¬1) ثم مات -غ- الغاني. (¬2) كلمة ممحوة. وقد تكون فضيلة. (¬3) هو مقدار عن كلمات.

وإذا أمكن ذلك لم يصل على الأقل لأنه يوقع الصلاة في ممنوع وهو الصلاة على الميت مرتين. ومن أجاز الصلاة على الميت مرتين فلا معنى لمنعه من الصلاة على أقل البدن. وهذا التخريج عندي للنظر فيه مجال. لأن هذا الممكن المتوقع إيقاعه في ممنوع يوقع في ممنوع آخر وهو ترك الصلاة على الميت أصلًا لجواز أن يكون لم يصل على الأكثر البدن. إلا أن يكون هؤلاء رأوا أن الصلاة على الغائب لا تجوز فترتفع معارضة ارتقاب الوقوع في هذا الممنوع الثاني. ولكن لان قالوا هذا فإنه كالخروج عن التخريج الأول. ووجه القول بأنه يغسل العضو ويصلي عليه ما رواه عيسى ابن دينار في كتاب ابن مزين بأن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه صلى على رؤوس بالشام. وألقى الطائر يدًا بمكة فعرفت بالخاتم أنها يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فصقى عليها أهل مكة بمحضر من الصحابة. وأيضًا فإن الصلاة على الغائب إذا ثبتت بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي على ما سنتكلم عليه وهو غائب كله. كان من غاب أكثره ووجد أقله أحّقَ بالصلاة. فإذا وضح ما قلناه في الصلاة على بعض البدن، وذهبنا إلى المشهور عندنا في منع الصلاة إلا على الأكثر، فهل يشترط أن يكون الأكثر على بنيته أو لا يشترط ذلك؟ أما إذا كان علي بنيته فلا شك فيه. وإن كان هذا الأكثر متقطعًا فاختلف قول مالك في غسله والصلاة. فالإثبات لمَا قدمناه من الأدلة وهو يعمّ المقطع، والصحيح. ووجه النفي أن غسله لا يمكن لأن فيه زيادة في التمثيل به. وإذا امتنع الغسل امتنعت الصلاة. لاذا راعينا الأكثر فما هذا الأكثر؟ قال أشهب في المجموعة في مدونته: إذا وجد البدن بلا رأس ولا أطراف صلى عليه ولا يصلى على الرأس والأطراف قط (¬1). ولو وجب هذا لوجب أن يُصلى على أصابعه وأسنانه وأنفه. وإني مع ذلك لا أدري لعل صاحبه حي. ولو علمت بموته لم أصل على ذلك. ولو وجد أحد شقيه طولًا مع رأسه أو نصفه عرضًا مع رأسه لم يُصل عليه. وهكذا قال إذا وجد نصف البدن ومعه الرأس لم يغسل ولم يُكفن ولم يُصل عليه حتى يوجد كثر بدنه. فظاهر كلام أشهب، هذا أنه لم يعتبر جميع بنية الإنسان، وإنما اعتبر الأكثر في بنية بدنه دون رأسه. ولا يكاد يتحرر ¬

_ (¬1) قد تكون فقط.

لهذا وجه في النظر. وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر في مسألة الصلاة على الغائب الذي تحققنا أنه لم يصل عليه فإن المشهور عندنا لا يصلى عليه. وإذا لم يصل على عضو لغيبة أكثر البدن فاحرى ألا يصلّى على البدن الذي غاب كله. وأجاز ابن حبيب الصلاة على الغائب ورأى أن غيبته لا تؤثر في إسقاط الصلاة المشروعة. وبه قال الشافعي فحجة المذهب المشهور عندنا أن الصلاة إنما شرعت على ميت مسلم، وهذا يقتضي وجود الصورة الموصوفة بهذا. والعضو الواحد والغائب لا يتحقق فيه هذا المعنى. فلهذا لم يصل عليه. وقياسًا على من كان بالبلد فإنّ الشرع على إحضاره عند الصلاة. وقوإنفصل عن هذا بأن من في البلد لا مشقة في إحضاره بخلاف الغائب. وحجة ابن حبيب والشافعي صلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي. وقوإنفصل عن هذا أيضًا بانفصالات منها: أن ذلك من خواص النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ضعيف مع القول بتعدي أفعاله. ومنها أنه يمكن أن يكون رفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رآه فصار كحاضر صلى عليه. ومنها إنما صلّى عليه حين موته وقبل أن يصلي عليه أحد من قومه بوحي أوحي إليه. وهذا مفقدد فيمن سواه. ولهذا لم يصل لما تطاول زمن موته. وقد قال بعض المتأخرين يمكن أن يكون ابن حبيب إنما رأى الصلاة على الغائب .... (¬1) وعلى هذا الأسلوب أيضًا يجري الأمر في الصلاة على القبر. إذا دفن الميت بغير صلاة اختلف المذهب في ذلك على قولين: هل يصلى عليه أم لا؟ واختلف قول مالك فيه. فإذا قلنا بالنهي عن الصلاة على القبر. فهل يخرج ليصلى عليه. .... (¬2) أما إذا لم يقع شيء من الدفن فإنه يصلى عليه كما لو كان باقيًا على نعشه. وأما أذا شرع في دفنه فاختلف فيه على ثلاثة أقوال. فقيل يمنع إذا هالوا التراب ولا يمنع ...... (2) وإهالة التراب من هيئة الدفن. وقيل لا يمنع وإن أهالوا التراب ما لم يسووا التراب عليه. وإذا سوي عليه التراب فأتت الصلاة عليه. وأما إذا كان قد صلي عليه فإن من صلّى ¬

_ (¬1) كلام ممحو. (¬2) أعلى الورقة تسربت إليه الرطوبة فكانت الكلمات متداخلة غير واضحة وأمكن بصعوبة قراءتها على ما أثبتناه. وليس ذلك يقينيًا.

عليه لا تعاد الصلاة عليه. هذا هو المشهور عن العلماء وأئمة الأمصار. وحكى أصحاب الشافعي أن لهم فيه وجهين: الجواز والمنع. وأما من صلى عليه فالمعروف من مذهبنا أنه لا تعاد الصلاة عليه. قوما تقدم من صلاة من صلى عليه يمنع من إيقاع صلاة أخرى. وقال الشافعي بل تجوز إعادة الصلاة عليه ممن لم يصل عليه. وحكى ابن القصار ذلك عن مالك. وعند الشافعي اضطراب في تحرير هذا المذهب. هل يجوز ذلك أيضًا أو يجوز لمن لم يصل من أهل الصلاة حين موته. أو يجوز إذا تُيقن أنه بقي في القبر منه شيء. أو إنما يجوز إلى شهر. وأصحاب أبي حنيفة مختلفون أيضًا فيمن دفن بغير صلاة. فمنهم من يعتبر جواز الصلاة على القبر ثلاثة أيام. ومنهم من يعتبر أن لا يشك في تغير الميت. فإن شك في تغيره لم يصل على القبر. وسبب هذا الاضطراب ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلي ... ولم يوقضوه. فذكر أنه لما أصبح صلى على قبرها وصفّ بهم فاقتضى ظاهر هذا جواز الصلاة على القبر على الجملة. وإن كان القوم لم يصلوا عليها فهي مسألة اختلاف عندنا. وإن كانوا قد صلوا عليها فهي مسألة الشافعي والمعروف من مذهبنا فيها ... وكان من أنكر الصلاة على القبر ينفصل عن هذا بأن الصلاة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ... بموتها ليصلي عليها. فلما لم يعلم بذلك وصلي عليها دونه صارت الصلاة كأنها ... وقد نقل الشافعي حديثًا يتضمن أمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يختص بالصلاة على الموتى دونهم لكون صلاته رحمة. وقد قيل أنه - صلى الله عليه وسلم - علل صلاته على القبر يكون القبور مملوءة ظلمة على أهلها وأن الله تعالى ينورها بصلاته. وهذا التعليل إحالة على غيب فلا يطرد في غيره. وهو يشبه تعليله في النهي عن تطييب المحرم الذي مات وتعليله في شهداء أحد. وهذا الجواب شديد (¬1) يمنع من الاحتجاج بالحديث. وقد اعتمد على أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُصل على قبره. فلو جازت الصلاة على القبر لما تركه السلف مع شدة عنايتهم بالخير. وأجيب عن هذا بأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اتخاذ قبره مسجداً. فامتنعوا من الصلاة على قبره لذلك. وقد أشار سحنون إلى قريب من هذا التعليل فيمن دفن بغير صلاة. فقال لا يُصلى ¬

_ (¬1) هكذا.

عليه لئلا يكون ذريعة إلى الصلاة على القبور. وقد قيل إن الناس صلوا عليه متفرقين قوماً بعد قوم. وتوفى - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ودفن يوم الأربعاء. وهذا التأخير لا يجوز في غيره من الموتى. وإنما فعل به ذلك - صلى الله عليه وسلم - لما كان الخطاب متوجهًا عليهم بالصلاة عليه على الخصوص لم يجعل أصلًا في صلاتنا. وقد أنكر بعض أصحابنا قولهم لم تجمع الصلاة. ورأى أنها قد جمعت عليه. وقد اعتل من منع الصلاة على القبر إذا صلّي على من فيه بأن الصلاة الأولى فرض والإعادة نفل. ولا يتنفل بصلاة الجنائز بدليل أن من صلى عليها لا يعيد الصلاة عليها. وأجيب عن هذا بأن صلاة الفذّ لا يعيدها من فعلها ولم يمنع ذلك من أن يجيء المسجد الواحد بعد الواحد. واعتل من يمنع الصلاة على القبر بأنها صلاة مفعولة لحق الميت وحقه ينقضي بالصلاة الأولى. فإذا سقط الحق الذي شرعت العبادة من أجله لم يصح فعل ما شرع لأجل أمر قد سقط. ولهذا لا يعاد سجود التلاوة لكونها مفعولة لأجل التلاوة. ولا يُخاطب بالطهارة من لا صلاة عليه. وأجيب عن هذا بأنه إنما سقط المكتفى به خاصة. ألا ترى أن المحدث إذا تطهير للصلاة فإنه لا صلاة عليه لأن فَعَل الحق المكتفى به. وإن كان تجديد الطهارة غير ممنوع بل مشروع (¬1). وقد خرج بعض أصحاب الشافعي منع الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على اختلافهم في شرط جواز الصلاة على الأربعة الأوجه التي ذكرناها وقالوا إن شترطنا أنه لا يصلي على القبر إلا أن يبقى من الميت شيء في القبر. فإنا لا نجيز الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لإمكان أن يكون رفع من قبره. ففي بعض الأخبار أن الأنبياء يرفعون منأ قبورهم أو ما هذا معناه ... قالوا وإن قلنا إنه يصلى على قبر كل من كان من أهل الصلاة بعد الموت فإن في الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطرابًا عندي ... وقيل بل إن طرد الاشتراط في هذا المذهب ... أو يمنع للنهي عن اتخاذ قبره مسجدًا ... كالشهادة. وها نحن نتكلم عليها. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في الشهيد الذي قتله العدو في المعترك هل يغسل ويصلّى عليه أم لا؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا ويغسّل ولا يصلى عليه. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري إلى أنه يغسّل ¬

_ (¬1) هكذا. والصواب مشروعًا.

ويصلى عليه. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يغسّل لكن يصلّى عليه. فدليلنا عدى نفي الغسل والصلاة حديث شهداء أحد فإنهم لم يغسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا صلّى عليهم ولم تحتفل الرواة ... ويذكره الصحابة رضوان الله عليهم إلا تنبيهًا على مخالفة الشهيد لغيره من الموتى. ولا يمكن أن يغسل وسبعون شهيدًا ويخفى غسلهم والصلاة عليهم وما تعلق به المخالف من رواية من روى أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى عليهم فإن الأئمة ضعفوه لا سيما وقد ذكر فيه أنه كان يؤتى بعشرة فيصلي عليهم ومعهم حمزة رضي الله عنهم. فكانت صلاته على حمزة سبعين صلاة. وهذا حساب يوهن الخبر لأن الشهداء سبعون. وإنما يحصل لحمزة سبعون صلاة إذا صلى عليه مع كل عشرة لو كان الشهداء سبعمائة. وقد قيل لمالك أبَلَغك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر على حمزة رضي الله عنه سبعين تكبيرة. فقال لم يبلغني ذلك ولا أنه صلى على أحد من الشهداء. فإن تعسفوا وحملوا روايتنا على أنه لم يصل عليهم أفرادًا حملنا روايتهم على أنه صلى عليهم بمعنى دعا لهم. وتأويلنا لخبرهم أقرب من تاويلهم لخبرنا. فإن رجحوا خبرهم بأنه مثبت، وخبرنا ناف فيمكن أن يكون راويه لم يعلم الصلاة. أجبنا بأنه محال أن تخفى الصلاة على قتلى أحد مع اشتهار قصتهم وكثرة عددهم. على أنا أيضًا نُوجه خبرنا بسلامته عن الطعن في راويه. فإن تعلقوا بما رواه شدّاد بن الهاد أن رجلًا من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما هذا يا محمَّد؟ فقال قسمت لك. فقال ما على هذا تبعتك ولكن أتبعك على أن أرمَى بسهم ها هنا. وأشار إلى عنقه فأموت فأدخل الجنة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن تصدق الله يصدقك. فلبثوا قليلًا ثم نهضوا إلى العدو فحمل ذلك الأعرابي. وقد أصابه سهم حيث أشار بيده. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أهو هو؟ قالوا نعم يا رسول الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق الله فصدقه. فكفّنه النبي- صلى الله عليه وسلم - وصلى عليه. وجوابنا عن هذا أن نقول يحتمل أن يكون معنى قوله صلى عليه - صلى الله عليه وسلم - دعا له. ويحتمل أن يكون مات بعد أن تقضي (¬1) الحرب على صفة لا تمنع من الصلاة عليه على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. ومما يستدل به أيضًا قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (¬2). ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب تقضت. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 169.

فأثبت الله تعالى لهم حكم الحياة. والحي لا يغسل ولا يصلى عليه. وبهذا استدل أصحابنا وأصحاب الشافعي. وفيه نظر لأن طرده يقتضي أن الشهيد لا يورث كما أن الحي لا يورث. ولما أجمع على توريث الشهيد دل ذلك على أن المراد بالآية حياة الآخرة، لا حياة الدنيا. والقصد بها تعظيم الشهادة المثمرة دوام الحياة عند الله سبحانه. ومما يستدل به أيضًا على أبي حنيفة دون الحسن وابن المسيب موافقته لنا على سقوط الغسل. وسقوط الغسل يشعر بسقوط الصلاة. ألا ترى أن الحائض ما لم تغتسل لم تصل. ومن لم يجد ماءًا ولا تُرابًا لم يُصل على أحد الأقوال عندنا. وهذا الاستدلال إنما يصفو بعد البيان عن علة ترك الغسل. واعلم أن للناس فيه ثلاث طرق ذهب بعض الحذاق إلى أنه غير معلل. وذهب بعضهم إلى أنه معلل. واختلف هؤلاء في العلة. فقال. بعضهم الدماء أثر الشهادة. وإزالة أثر العبادة لا يحسن. قالوا وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى بانهم يحشرون بدمائهم. وفي هذا إشارة خفيّة إلى أنه يتنرل ذلك عند الله يوم القيامة منزلة الشهادة على القاتل ظلمًا. ألا ترى أن في الحياة نستدل بتحريك الثوب. وآثار الضرب بين يدي الحكام على أن المفعول به ذلك مظلوم فكان الدم يوم المحشر مشعر لأهل الجهاد يكون الشهيد قتل مظلومًا. وقد طعن في هذا التعليل بأنه يقتضي أن يُغسّل من مات في المعترك بالخنق أو بما في معناه من الأسباب التي لا يبقى لها أثر أبدًا أو طعن فيه أيضًا بأنه كان ينبغي أن ينقل إلى التيمم كالميت الذي لا يوجد له ماء، فإنه ييمم. وقد ينفصل أصحاب هذا التعليل. عن هذه المطاعن، بأنه لما كان الغالب في الحروب القتل بسفك الدماء لا بغيره من أنواع القتل حكم في الشهيد بهذا الحكم، وغير ملتفت إلى ما يحدث نادرَا. وهذا كثير في أصول الشريعة. وقد طعن في هذا التعليل أيضًا، لأنه لم يقصد بذكر دمائهم يوم القيامة إلا قطع وهم من ظن أن غسلهم متعين لما بهم من أذى. ولم يرد به جعل ذلك علة تمنع من الصلاة. وقال بعضهم أن العلة كون الشهادة في الشريعة تطهير. والمطهر يستغني عن التطهير. وقد يطعن في هذا التعلل أن الصبي مطهر وهو مع ذلك يغسل. وقد ينفصل عن هذا بأن الصغير وإن كان يطهر من الآثام، فإنه يجوز هنا في هذا

الحكم كما أجرى على حكمه في أحكام كثيرة في الشرع ... يرثه المسلم. وإن كان في سن من لا يتعقل الإِسلام، وما ذاك إلا أنه جرى عليه حكم أبويه. وقد يطعن في هذا التعليل أيضًا بأن النبوءة من أعظم المراتب. وقد غُسّل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد تبين من هذا بأن الشهادة لما كانت مما يكتسب كانت سببًا في ترك الطهارة: والصلاة إشعارًا بعظم مرتبتها عند الله تعالى. وأنها تغني عما سواها يطلبها المسلمون. والشهادة مما لا يطلب ولا يكتسب (¬1). فجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - مجرى امتداد هذا الحكم ليتحقق هذا الحكم ويتأكد بإجرائه فيه. وأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم يفرقون بين الطهارة والصلاة بأنه لا معنى لغسله بالماء سوى تطهيره. والشهادة تغني الميت عن هذا التطهير بالماء. وأما الصلاة فإنها شفاعة وسؤال في الذمة. ورحمة الله تعالى لا نهاية لها. فطلب المزيد منها مرغوب فيه. فالشهيد وإن كان مرحومًا فلا غناء له عن السؤال له في زيادة الرحمة. وأما ابن المسيب والحسن القائلان بأن الشهيد يغسل ويصلى عليه، يمكن أن يكونا رأيا حديث قتلى أحد مضطربًا لما قدمناه من اختلاف الرواة فيه. فعدلا عن القول به. ويمكن أن يكونا رأياه ثابتًا. ولكنه مختص بقتلى أحد إما لأن الأصل قصد هذه الأفعال عندهم تاولًا بأنها معللة بعلة تفسد لا يعلم تعديها إلى من سوى قتلى أحد. لأنه أخبر أنهم يحشرون بدمائهم. فلا يعدل لهما إلى القطع بأن غيرهم من الشهداء كذلك. وقد تكلمنا على مثل العلة في غسل المحرم أوتطييبه. على أنه قد ذكر في بعض الطرق أنه قال فإنه لا يكلم أحد في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة الحديث. فأشار إلى تعدي الحكم. ويمكن أن يكونا سلكا طريقة رابعة بأن رأيا حديث ترك الصلاة على قتلى أحد منسوخًا. لأن البخاري روى في كتابه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل موته صلى على قتلى أحد صلاته على الموتى. فاقتضى ذلك- (¬2) ترك الصلاة على الشهداء. فإذا وضح ذلك فقد اتضح ما قدمناه من الاضطراب في التعليل اختلاف الناس في غسل الشهيد الذي لم. يبلغ الحلم. فعنده أن حكمه حكم الشهيد الكبير في ترك الغسل والصلاة. وعند أبي حنيفة أنه ¬

_ (¬1) هكذا بالنفي ولعله والنبوة مما لا يطلب ولا يكتسب. (¬2) هكذا ولعل الصواب عدم.

لا أثر للشهادة فيه يوجب سقوط غسله والصلاة عليه. وأجراه مجرى من لم يستشهد. كما قدمنا أن أصحابه رأوا أن سقوط الغسل إنما كان لأنه طهارة. وطهارة الشهادة تغني. فإذا كان الشهيد ليس من أهل التطهير بقي على حكم الأصل. ونحن قدمنا الجواب عن هذا فيما قدمناه. وذكرنا بأن الشرع جاء بإلحاق الصغار بالكبار في كثير من الأحكام. وقد ذكر في بعض الطرق زملوهم بدمائهم فإنه لا يكلم أحد في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة بدم اللون (¬1) لون الدم وريحه ريح المسك. أو كما قال يعم كل من يكلم في سبيل الله من الكبار والصغار. وقد اختلف أصحابنا في الشهيد إذا قتل جنبًا هل يغسل أم لا. فقال أشهب وابن الماجشون لا يغسل. وقال أحمد إنه يغسل. وذكر بعض أصحابنا أن الشافعي اختلف قوله كذلك. ورأيت في كتب أصحابه أن الخلاف في ذلك بين أصحابه. وأكثرهم على أنه لا يغسل. وقد احتج من قال بغسله بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله. فقالت زوجته إنه جامع فسمع هيعة فخرج إلى القتال. وقد ذكر خبر حنظلة على وجه آخر. وذلك أنه علل المبادرة إلى غسل سعد بن معاذ بأن قال لئلا تسبقنا الملائكة إلى غسله كما سبقتنا إلى غسل حنظلة. ومن أنكر غسل الشهيد إذا كان جنبًا يجيب عن هذا بأن غسل الملائكة لا يسقط ما تعبدنا نحن به من الغسل. فلو كان غسله واجبًا لأمرنا به ... كأن الشهادة تغني عن الغسل جملة. وكأنها تنافيه فلا يثبت الغسل كما لا تغتسل الحائض إذا احتلمت وكما لا يطهر الشهيد للشهادة الطهارة الصغرى. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما قيد قوله بالمعترك لما وقع من الاضطراب فيمن مات بعد تقضي الحرب. وتحصيل مذهبنا أنه إن تحقق الموت في المعترك لم يغسل ولم يصل عليه. وإن كان قد عاش بعد تقضي الحرب مسألة لا إشك الذيها غسل وصلي عليه. وإن كان فيها إشكال فظاهر المذهب على قولين. فقال أشهب الشهيد الذي لا يغسل ولا يصلى عليه من مات في المعركة قطعًا. فأما من حمل إلى أهله فمات فيهم أو حمل فمات في ¬

_ (¬1) النسائي ج 6 ص 28 وأحمدج 5 ص 431.

أيدي الرجال أو بقي في المعركة حتى مات فإنه يغسل ويصلى عليه. وقال مالك إن عاش يومًا أو أكثر فأكل وشرب أو عاش حياة بينة غسل وصلي عليه. وقال ابن القصار وإذا عاشر يومًا أو أكثر يأكل، غسل وصلي عليه. قال سحنون إذا كانت له حياة بينة حتى لا يقل قاتله إلا بقسامة غسل وصلي عليه. فنخلص من هذا أن في أشكال الحياة اختلافًا. فاشهب اعتبرها وأخرجه بها من حكم الشهداء. وسحنون لم يعتبرها. وما حكيناه عن مالك وابن القصار يذهب إلى الانتظار به. لكن ابن القصار لم يجعل مجرد الأكل والشرب علمًا على الحياة ها هنا كما جعله مالك ... ويمكن أن يكون مالك رأى مجرد الأكل والشرب كافيًا في إثبات حكم الحياة ها هنا. ولم يره ابن القصار حتى ... الزمن الذي ذكره. فلعل مالكًا وابن القصار اختلفا في صفة تحقق الإشكال. وظاهر مذهب الشافعي كظاهر مذهب أشهب. قال أصحابه إذا مات بعد تقضي الحرب فليس له حكم الشهادة وإن لم يأكل ولم يشرب وصى أو لم يوص. وقال أبو حنيفة إن خرج من صفة القتلى إلى صفة أهل الدنيا بأن يأكل ويشرب أو أوصى لم يثبت له حكم الشهادة كما ذهب إليه أشهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل على قتلى أحد وهم سبعون. والظاهر أن سبعين قتيلًا لا يكون موتهم على أسلوب واحد بل يتفاوت زمنه ويختلف حاله. وهذا يشعر بأنه لا يعتبر الموت قطعًا كما ذكر. وهذا الاختلاف الذي ذكرناه هو فائدة تقييد القاضي أبي محمَّد بالمعترك وله فائدة ثانية أيضًا وهو ما وقع في المذهب من الاضطراب فيمن قتله العدو في غير معترك. فقال ابن القاسم إذا أغار أهل الحرب على قرية للمسلمين فدفع المسلمون عن أنفسهم فهم كالشهداء. وقال في العتبية إن قتلوهم في منازلهم من غير ملاقاة ولا معترك غسلوا وصلي عليهم. وقال ابن وهب هم كالشهداء في المعترك. وقال أصبغ سواء ناصبوهم أو قتلوهم مقافصة أو نيامًا كشهداء المعترك قتلوا بسلاح أو غيره. والصبي والمرأة كالذكر البالغ. وقال ابن شعبان الشهيد من قتل بأرض الحرب خاصة من الرجال والنساء والصبيان. فأنت ترى هذا الاضطراب إذا قتلوهم من غير ملاقاة. فلهذا الاضطراب قيد قوله القاضي

_ (1) الإصابة ج 1ص 361.

أبو محمَّد بالمعترك. وظاهر قول ابن شعبان أصل حكم الشهادة على القتيل بأرض الحرب. وقد كان قتلى أحد بأرض الإِسلام وكانت الجاهلية هي الزاحفة إليهم. فإن كان أراد ابن شعبان أرض الحرب التي بها سكنى الكفار. فحديث قتلى أحد ردّ عليه. وإن كان أراد موضع المحاربة فليس في الحديث ردّ عليه. لكنه يكون مذهبه أنه لا يراعي الشهادة في قتلى القرية. وقد قدمنا الاختلاف فيهم إذا لم يدفعوا عن فنفسهم. وقد صلي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان القاتل كافرًا. فظاهر هذا حجة لمن قال من أصحابنا أن المقتول إذا لم يدفع عن نفسه فليس له حكم الشهيد. وللآخرين أن يجيبوا على هذا بأن يقولوا أنه رضي الله عنه وإن كان قد أنفدت مقاتله. فيمكن أن يكون أكل وشرب. وقد قدمنا أن مالكًا رأى أن الأكل والشرب يرفع حكم الشهادة. وقد كنا قدمنا اعتذارًا عن ابن المسيب في قوله إن الشهيد في المعترك يغسل ويصلى عليه. وقلنا لعله رأى حديث قتلى أحد كالمنسوخ لما حكاه البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى قتلى أحد قبل موته فصلى عليهم صلاته على الميت. فإن كان هذا التأويل صحيحًا كانت الصلاة على عمر رضي الله عنه محققة عمل النسخ الذي ظنّه ابن المسيب. وقد سئل ابن عمر رحمه الله عن غسل الشهيد فقال قد غسل عمر وكفن وحنط وصلي عليه وكان شهيدًا. فلم يتأول ابن عمر الصلاة على أبيه ولم يعتذر عنها بما اعتذرنا به نحن من أنه يمكن أن يكون لما قتل بالمدينة لم يكن له حكم الشهيد وأنه أكل وشرب. بلَ أضرب عن هذين التأويلين. وقال ما حكيناه عنه. وظاهر كلامه يشير إلى النسخ أو إلى تخصيص قتلى أحد بذلك الحكم على حسب مقتضى مذهب ابن المسيب. وقد قدمنا قول ... أو من قتل في غير المعترك كالشهيد. وإن كان امرأة أو صبيًا. وقال أشهب فيمن قتل من النساء والولدان في المعترك ممن يقاتل ويدفع عن نفسه فهو كالشهيد. وأما من قتل من الرجال والنساء والولدان ليس على وجه القت الذيغسلون ويصلى عليهم. فقوله فيمن قتل على غير وجه القتال هو إحدى الطريقتين اللتين قدمنا تقييد قوله في النساء والولدان بأنهم ممن يدافع عن نفسه. وقد قال سحنون كل من قتله العدو من صغير أو كبير في معترك أو غير معترك فله حكم الشهداء. فلم يقيد الصغير بكونه ممن يدافع عن نفسه. وكذلك المرأة لم يقيدها بذلك. وقد كنا قدمنا

مذهب أبي حنيفة وأنه لا يرى الشهادة تثبت به. ولكن ميّز البالغ. وتكلمنا على سبب الاختلاف في ذلك هناك. وإذا وضح ما قلناه في الحكم في الشك في حياة الشهيد ... وقال أشهب في القوم بأرض العدو يجدون شهيدًا فلا يدرون من قتله يغسل ويصلى عليه. وقال سحنون إذا رموهم بأحجار أو نار فوجدوا في المعترك من قد مات ... حتى يظهر خلاف إن كان وقع بينهم لقاء أو حرب أو مراماة. فإن كان أشهب قصد الذي حكيناه عنه أنه يصلى على من لم يدر قاتله. وإن كان هناك لقاء أو مراماة فهو خلاف لما حكيناه عن سحنون. وقد كان أشهب رأى أن الأصل ثبوت الصلاة على الشهيد. ونحن على شك في هذه القتلة هل هي مما يسقط الصلاة أم لا؟ بل استصحب الأصل في وجوب الصلاة عليه. ورأى سحنون أن الغالب أن الإنسان لا يقتله قومه ومن يقاتل معه. بل الغالب أنه إنما يقتله العدو ... القتلة بحكم قاتلها غالبًا. وأجرى الظن مجرى اليقين في تحقق الشهادة. هذا إن قصد أشهب أن ما ذكرناه كان اختلافًا محققًا وإن كان لم يتكلم على قتيل واحد وجد من غير ملاقاة ولا مراماة. فليس بمخالف لقول سحنون. وقد قال أصحاب الشافعي إذا انكشف الصفان عن رجل مقتول لم يغسل ولم يصل عليه سواء كان به أثر أو لم يكن. وظاهر هذا كظاهر ما حكيناه عن سحنون. وقال أبو حنيفة وابن حنبل إن لم يكن له أثر غسل وصلي عليه. وإن خرج منه دم فإن كان من عينيه أو من أذنيه أو من رقبته لم يغسل. وان خرج من أنفه أو دبره أو ذكره غسل وصلي عليه. فكأنهما رأيا مع وجود الأثر يتحقق كونه مقتولًا ومع عدمه يمكن أن يكون مات حتف أنفه فلم تتحقق له الشهادة. لكن الذي ذكر من تفصيل مخارج الدم لا يظهر لي الآن فيه وجه محقق .. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما نبه على قوله في ثيابه لاختلاف الناس في ذلك. فنحن وأبو حنيفة لا نرى أنه تبدل ثيابه. وقالت الشافعية إنه بالخيار إن شاء دفنه في ثيابه وإن شاء دفنه في غيرها تعلقًا منهم بأن صفية بنت عبد المطلب بعثت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوبين يكفن فيهما حمزة رضي الله عنه. فكفنه في أحدهما وكفن في الآخر رجلًا آخر. ونحن ننفصل عن هذا بأن

هذه قضية في عين ولم تتضمن إزالة ما عليه. وهو الوجه الذي منعناه. وأما الزيادة على ما عليه وتكفينه إذا لم يكن عليه شيء فسنذكر حكمه. ونستدل لما قدمناه بحديث قتلى أحد. وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بأن يدفنوا على هيئتهم. فأما الشهيد الذي يوجد عريانًا فإنه يكفن. قاله أصبغ. وإن كان عليه ما لا يستر جميع جسده ستر بقية جسده. والدليل على هذا أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك سوى نمرة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه. وإن غطي رجلاه بدا رأسه. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر" (¬1). وإذا لم يوجد إلا ما يستر به بعض جسمه يخص به من سرته إلى ركبتيه لكون هذا الموضع عورة. والعورة أحق بالستر. فإن كان في السترة فضل عن ذلك ميل بالفضل إلى ناحية صدره. وأما إن أراد وليه أن يزيد على ما عليه. وقد حصل عليه ما يجزئ في الكفن. ففيه قولان. فقال مالك لا يزاد عليه شيء. وقال أشهب وأصبغ لا يؤمر بذلك. فكان مالكا رأى أن ظاهر حديث قتلى أحد يمنع من الزيادة لكونه أمران يدفنوا على هيئتهم. فظاهر هذا يقتضي منع التغيير. كما قال في المحرم لا تخمروا رأسه ولا تمسوه بطيب وكفنوه في ثوبيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا (¬2). فأشار إلى بقائه على حاله ومنع تغييره لما مات في قربة. وهذا على مذهب من رأى أن القصد أن لا تغير هيئة الشهيد التي لقي الله عليها. والزيادة عليها تغيير لها. وأما نزع بعض ما على الشهيد فإنه تنزع عنه آلة الحرب كالدرع والرمح والسيف ولا تنزع المنطقة إلا أن يكون لها خطب. وفي مختصر ابن شعبان قال: الشهيد يدفن في الثوب الجديد الذي يلبسه الشباب والمنطقة. ويتخرج على هذا أن لا تنزع عنه الفائحة (¬3) فإن السيف والرمح ما لم يكونا من جملة ما يلبس نزعا. وأما الدرع ففي كتاب ابن شعبان كأنه لما رآه ملبوسًا ألحقه بجملة اللباس. فكان من قال من أصحابنا ينزعه رأى أنه من آلة الحرب. وإنما يلبس لها فلحق بالسيف والرمح. وقال ابن القاسم لا تنزع عنه الخاتم إلا أن يكون ¬

_ (¬1) متفق عليه. (¬2) متفق عليه. (¬3) هكذا.

نفيس الفص. وأما القلنسوة والخفان والفرو فلا ينزع عنه ذلك. وقال أشهب في مدونته تنزع عنه الخفان والقلنسوة و ... وكان أشهب رأى أن ذلك خارج عن جنس الكفن فالحقه بآلة الحرب ورآه غيره من أصحابنا من جنس اللباس المعتاد فلم ينزعه. وقالت الشافعية ينزع عنه ما لا يلبسه عامة الناس. وقد يتعلق من منع نزع ما ذكرنا بأنه منعه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادفنوهم بثيابهم". ولكن روى ابن عباس أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأمران يدفنوهم بثيابهم وأموالهم ودمائهم فكأنما أشار إلى اختصاص الثياب بالدفن وبنزع ما سواها. وما ذكره يقاس عليه ما كان في معناه. وأما قول القاضي ويصلى على كل الشهداء ... على أن اسم الشهيد ... على الإطلاق بل بتقييد. وهو أن يقتله العدو على صفة ما ذكرناه. وقدمنا ... أن الحسن قال ... فكأن الحسن اعتقد أنها بحكم الشهداء. فنبه ... قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والصلاة إلى الأئمة ثم إلى (¬1) العصبة. ولا ولاية فيها للزوج، ولا لذي رحم من غير عصبة (¬2). وأولاهم: الابن ثم ابنه. ثم الأب ثم الأخ الشقيق ثم الأخ للأب ثم أبناؤهم (¬3) على هذا الترتيب ثم الجد ثم العمومة ثم بنوهم على ترتيب الإخوة. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا أربعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لِمَ قدم الوالي؟ 2 - (¬4) المقدم؟ 3 - ولِمَ كان الزوج لا ولاية له؟ 4 - ومَا دليل الترتيب الذي قال به؟ فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: ... الصلاة على الجنازة إمارة وتعصيب وصلاح. فإن ... الابن ... أحد هذه الأشياء الثلاثة فلا شك في ¬

_ (¬1) إلى = سا قطة - الغاني. (¬2) ولذي رحم غير عصبته وأولادهم. (¬3) أبناؤها -غ-. (¬4) كلام مطموس - ولعله ومن هو الوالي المقدم.

تقدمه. فالأمير إذا انفرد بالحضور دون هذين قدم والعاصب إذا انفرد قدم والصالح إذا انفرد قدم. فإن اجتمعوا فعندنا أن الوالي أولى من الولي. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي في أحد قوليه الولي أولى من الوالي قياسًا على تقدمة الولي على الوالي في عقد النكاح وفي القيام بالدم. ودليلنا أن الحسن بن علي رضي الله عنهما لما مات، قدم الحسين رضي الله عنه سعيد بن العاصي وهو أمير المدينة ودفع في قفاه وقال لولا السنة في تسكين الفتنة ما قدمتك. فيه خروج عن الظاهر. وقد اعتل في هذا بأن الميت قد كان رضي بإمامة هذا الوالي وقدمه أيام حياته. فكان ذلك مزية تقتضي التقدمة بعد الوفاة. وقياسهم على عقد النكاح والقيام بالدم لا معنى له. وهذه أصول متباينة. فطريق النكاح نفي المعرفة عن الأولياء بتزويج غير الكفء. وصلاة الجنازة لا مدخل لها في هذا. والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الوالي الذي إليه الصلاة فإن الأمير الأعلى لا خلاف في استحقاقه الصلاة. وأما من سواه ممن لا ولاية له، فإن المذهب قد اختلف فيه فنفى بعض أصحاب مالك استحقاقه الصلاة وقصر استحقاقها على الأمير الأعلى وجعلها مالك في المدونة لأمير العصر والقاضي وصاحب الشرطة إذا كانت إليهم الصلاة. قال مالك في المجموعة فإن كان القاضي لا يصلي بالناس فليس بأحق. قال سحنون ومن وكله أمير الجند على الصلاة وليس للذي وكله صاحب الشرطة ... أجر ولا صلاة. فلا حكم لهذا في الصلاة وإنما يكون صاحب المنبر والصلاة أحق من الأولياء. ذلك أن ... سلطان الحكم أو قضاء أو شرطة. وإلا فهو كسائر الناس في ذلك. وقال ابن وهب الحاكم القاضي هو أحق من الولي وليس كصاحب الشرطة في هذا. وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن ذلك إن كانت إليه ... يجوز قصر هذا لاستحقاق على الوالي أو تعديه إلى من سواه على الاختلاف في الولي القريب ذا قدم ... دون الأجنبي أحق من ولي بعيد لكونه حل محل الولي القريب. أو لا يكون أحق فالسلطان الأعلى أحق بالتقدمة في الصلاة فأعطى حكمها إلى قاضيه صار ذلك كولي قريب ينقل إلى أجنبي. وأما ما ذهب إليه مالك ... عن سحنون فإنه ينبغي اعتبار أن تكون الصلاة إليه. ويكون بيده مع هذا أمر من أمور

السلطنة. فكأنه ... هذين الموضعين يضاهي الإِمام المتفق على استحقاقه الصلاة. وظاهر ما حكيناه عن ابن وهب يذهب به إلى أن القاضي أحق لا يقتضي اشتراط انضمام الصلاة إلى أمور السلطنة. لكنه لم يراع أيضًا أمور السلطنة بانفرادها لقوله ويعتبر هو كصاحب الشرطة. ويمكن عندي أن يكون خص القاضي لما رآه مولى على الأمور الشرعية، لم يقم إلا للنظر فيها والصلاة من مكانه أقيم لها. فكذلك ما حكيناه عن ابن القاسم أنه رأى أن من أقيم للخطبة أقيم لها بالصلاة. لكونها تصلى جماعة. فأشبه الجمعة والعيدين. وقال مالك صلى صهيب على عمر رضي الله عنه. وأظن ذلك لأنه قال يصلي لكم صهيب ثلاثًا. فلم ينكر مالك إلى أن إقامته للصلاة تقتضي تقدمته. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في الزوج. فعندنا أنه لا ولاية له في الصلاة. وذهب علىء وسعيد وعمر بن عبد العزيز إلى أنه أحق من القريب. وذهب الحسن والأوزاعي إلى أنه مقدم على الابن ... وذهب أبو حنيفة إلى ما ذهبنا إليه. لكنه اشترط أن لا يكون الولي ابنًا له. وإن كان ابنًا له كان الزوج مقدمًا لكراهة أن يتقدم الابن بين يدي أبيه. وقال بعض أشياخنا يندب لابن الميت أن يقدم جده الذي هو أبو الميت. لأنه لا ينبغي أن يتقدمه في هذا كما لا يتقدمه في صلاة الفريضة إلا أن يكون الابن ممن له الصلاة والفضل. والجد ليس كذلك. وهذا كنحو ما رآه أبو حنيفة. لكن الجد له مدخل في هذه الصلاة واستحقاق لها. فهو آكد من الزوج. ولكن أسلوب ... في المسألتين يجريهما مجرى واحدًا. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما قدمنا الابن وابن الابن علي الأب لأنه أقوى تعصيبًا منه. وهذا معلوم في المواريث. ولم يرل الشافعي هذا فقدم الأب لاعتقاده أن المراد في الصلاة الاجتهاد في الدعاء. والأب أرحم وأرأف من الابن. فهو أقرب إلى الاجتهاد في الدعاء. وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر في تقدمة الأخ وولده على الجد. فقدمناهما على الجد لقوة تعصيبهما. وقدمت الشافعية الجد للمعنى الذي ذكرناه عنهم. فهذا وجه ما أشار إليه القاضي أبو محمَّد من ترتيب الأولياء وجميعهم أولى من مولى النعمة. لأن الولاء مشبّه بالنسب. والمشبه بالشيء أخفض منه رتبة. وينبغي للولي إذا حضر

رجل له فضل أن يقدمه. قاله ابن حبيب. قال مالك وينبغي أن يفعل ذلك من سواه. وإذا كان الولي غير بالغ كان كالعدم ليس إليه صلاة ولا استخلاف. قال مالك في العتبية في مولى لامرأة ماتت يتقدم إليها ابن عم له. فقال ابن أخي المرأة أنا أحق ممن قدمت وأنت صبي لا أمر لك. قال هو لابن أخي المرأة وذلك له. وقد كنا قدمنا الاختلاف في الولي القريب إذا أراد أن يقدم ... على الولي البعيد، هل يمكن من ذلك. وفي السليمانية في الأب العبد أنه لا حق له في التقدمة إلا أن يكون من شقيق عبد. وكذلك في المساجد والأذان. وذهب بعض الأشياخ إلى أنه يكون أحق كما يكون أحق بالإمامة في منزله لكونه مختصاً به. فكذلك اختصاصه بالولاية في الجنازة يقتضي كونه أحق. وإذا ثبت ما قلناه في الولاية فهل للميت نقلها من القاضي بالوصية لمن يصلي عليه أم لا؟ فقال مالك إذا أوصى إلى خير ولم يكن لعداوة بينه وبين وليه فذلك نافذ. وإن كان لعداوة بينهما لم يجز. والولي أحق. وعنه في العتبية الموصى إليه أحق. وما زال الناس يختارون لجنائزهم أهل الفضل من الصحابة والتابعين. وكان الناس يتبعون أبا هريرة وابن عمر رحمهما الله ورضي عنهما لذلك. وقال مالك في الموصى إليه أحق من الأولياء. وقاله ابن حبيب. وذهب الشافعي إلى أن الولي أحق من الوصي قياسًا على تقدمته في النكاح. ونحن لا نسلم هذا في النكاح في المشهور عندنا. وإن سلمناه في القول الشاذ. فإنا قدمنا أن أصل الولاية في النكاح نفي المعرفة. وفي الصلاة المعنى الباعث على الاجتهاد في الدعاء. فهما أصلان مختلفان. واختلف المذهب إذا اجتمعت جنائز. واختلف أولياؤهما فقال مالك في جنازة رجل وامرأة أحق بالصلاة من أوليائهما من له الفضل والسن، كان وليًا للرجل أو للمرأة. وقال ابن الماجشون ولي الرجل أحق وقد فعل ذلك يوم ماتت أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما ومات ابنها زيد ماتا جميعًا. وحضر ابن عمر والحسين رضي الله عنهما فقدّم ابن عمر لأنه ولي ابنها زيد. قال القاضي رحمه الله: ولا تعاد الصلاة على ميت إذا سقط فرضها لا قبل الدفن ولا بعده.

قال الفقيه الإِمام رحمه الله: قد كنا قدمنا الكلام على هذه المسألة في فصل تعلقت به. وقدمنا اختلاف المذهب في الصلاة على من أقبل بغير صلاة. وأشرنا إلى أن المذهب قد قيل فيه إن الفراغ من الدفن يمنع من إخراج الميت. واختلف هؤلاء هل فاتت الصلاة عليه أو لم تفت. فقال بعضهم فاتت فلا يصلى عليه. وقال بعضهم لم تفت ويصلى على القبر. وقد كنا قدمنا أن صلاته - صلى الله عليه وسلم - على القبر بها تعلق من أجاز الصلاة على القبر. وذكر بعض أصحابنا إن كان هو الولي والإمام المتعين إمامته صار من صلى دونه عليها كأنه لم يصل. وقالوا على هذا إذا صلى قوم على جنازة دون وليها لم يسقط فرض الصلاة. وقال بعض أصحابنا بل يسقط. ولكن إنما صلى - صلى الله عليه وسلم - لأنه أمرهم أن لا يدفنوها حتى يستأذنوه. فلما دفنوها دون إعلامه - صلى الله عليه وسلم - صلى عليها. واضطراب أصحابنا في سقوط الفرض ها هنا بصلاة غير الولي يشبه اضطرابهم في النكاح إذا عقده غير ولي هل يفسخ أم لا. يضاهي القول بالفسخ القول بأن فرض الصلاة لم يسقط. ويضاهي القول بإمضاء العقد القول بأن الفرض قد سقط. أما قول القاضي إن الصلاة لا تعاد، فإنا أيضًا أشبعنا الكلام على ما فيه من اختلاف وأدلة. وقد وقع في المدونة إذا لم يحضر الجنازة سوى النساء وأنهن يصلين ... (¬1) ... قالوا وكذلك قبور المهاجرين والأنصار بالمدينة مسطحة. وأما البناء عليها فروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ترفع القبور أو يبنى عليها أو يكتب فيها أن تجصص. ويروى تقص. وأمر بهدمها وتسويتها بالأرض. وفعله عمر رضي الله عنه. قال ابن حبيب تقصص وتجصص بمعنى تبيض بالجير أو بالتراب الأبيض والقصة الجير وهو الجنة. وينبغي أن يسوى تسنيمه وكره مالك أن يرصص على القبر بالحجارة ويبنى عليها بطوب أو بحجارة، وكره هذه المساجد المتخذة على القبور. فأما مقبرة دائرة بني فيها مسجد يصلى فيه فلا بأس به. وكره ابن القاسم أن يجعل على القبر بلاطة ... ¬

_ (¬1) نقص. إذ سقط من النسخة شرح الإِمام المارزي لقول القاضي. وإذا اجتمعت جنائز رجال ونساء صلى عليها صلاة واحدة. كما سقط الشرح للسؤالين الأولين ببيان قول القاضي واللحد أفضل من الشق.

فيها. ولم ير بالحجر والعود والخشبة بأسًا يعرف الرجل به قبر وليه ما لم يكتب فيه. (وقول عمر رضي الله عنه: لا تجعلوا على قبري حجرًا. مراده ما لم يكتب فيه) (¬1) وقول عمر رضي الله عنه: لا تجعلوا على قبري حجرًا. مراده من فوقه بمعنى البناء. قال ابن حبيب لا بأس أن يوضع على طرف القبر الحجر الواحد لئلا يخفى موضعه إذا عما أثره. وقال أشهب في مدونته تسنيم القبور أحب إليه، فإن رفع فلا بأس. وقال بعض أشياخي مراده إن زيد على التسنيم. وقد قال خارجة بن زيد في البخاري رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان وإن أشدنا وثبة الذي يُنسب قبر عثمان بن مظعون. وهذا الذي نحا إليه أشهب. وقد قيل لمحمد بن عبد الحكم في الرجل يوصي أن يبنى عليه. قال لا ولا كرامة. قيل أراد بذلك بناء البيوت ولا بأس بالحائط اليسير الارتفاع ليكون حائزًا بين القبور لئلا تختلط على الناس قبورهم. وأجاز أبو حنيفة البناء على القبور. وأشار ابن القصار إلى أن البناء المكروه عليها أو حولها إنما في المواضع المباحة لئلا يضيق على الناس ما أبيح لهم التصرت فيه. وأما البناء في ملكه أو ملك غيره بإذنه، فذلك جائز. وهذا الذي حكيناه عن ابن القصار ظاهره خلاف المشهور من المذهب. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: عندنا أن الجلوس على القبر جائز. وكره الشافعي الجلوس على القبر أو يطأه أو يتكئ عليه. وقال ابن حنبل يكره الدخول إلى المقابر بالنعل ولا يكره بالخفاف والشمشكاة. وحجة الشافعي قوله - صلى الله عليه وسلم -: لأن يجلس أحدكم على جمر فيحترق ثوبه وتصل النار إلى بدنه أحب إليه من أن يجلس على قبر. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن أجلس على جمرة فيحترق ردائي ثم قميصي ثم تفضي إلى بدني أحب إليّ من أن أجلس على قبر امرئ مسلم (¬2). ونحن نتأول النهي عن ذلك على أن المراد به الجلوس للغائط والبول. قال ابن حبيب كذلك فسره مالك وخارجة بن زيد. وقد روي ذلك ... للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتوسدها ويجلس عليها. قال فلا بأس بالمشي على القبر إذا عما. وأما وهو مسنم والطريق دونه ¬

_ (¬1) هكذا والظاهر أنه كلام مقحم لاَ معنى له. (¬2) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد.

فلا أحب ذلك. لأن في هذا تكسير تسنيمه وإباحته طريقًا. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ذلك. والجواب عن السؤال الرابع: إنما قال يستقبل بوجهه القبلة لأنها أشرف المواضع وإليها كان يصلي أيام حياته ويتوجه. قال ابن حبيب يلحد على شقّه الأيمن ... القبلة اليمنى على جسده ويعدل رأسه بالثرى لئلا يتصوب وتعدل رجلاه ويرفق في ذلك ويحل عقد كفنه إن عقد وقد اختلف الناس في الجهة التي يدخل منها قبره. فقال ابن حبيب إدخاله من ناحية القبلة أحب إلى. وقال أشهب أحب إلى أن أدخل من القبلة أو ... من ناحية رأسه من الشق الأيسر منك وأنت في القبر فواسع. ومذهب أبي حنيفة كمذهب ابن حبيب أن يؤخذ من قبل القبلة. ومذهب الشافعي أن المختار أن يؤخذ من يمين القبر. فإن كان مراده أن النازل في القبر إذا استقبل القبلة أخذ الميت من جهة يمينه ومن ناحية رجلي الميت. وكان أشهب مراده إن أخذه من جهة القبلة أو من جهة يسار النازل في القبر ومن ناحية رأس الميت وهي المقابلة للجهة التي قال الشافعي إن ذلك واسع بمعنى أن غيره أفضل. فكانه موافق لمذهب الشافعي. وسبب الاختلاف في هذا اختلاف الأحاديث. فقد روى ابن عباس قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلّ سلًا من اليمين. وروى الطحاوي عن ابن عباس أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: ادخل القبر من قبل القبلة. وروي إنما دخل أبو دجانة من قبل القبلة. وقال النخعي حدثني من رأى سلف أهل المدينة يأخذون الميت من قبل (¬1) ... أخبروه أربعة دل ذلك على أنه مقدار الوتر كما قاله الشافعي. والمطلوب ها هنا ما تمس الحاجة إليه. وهذا المعنى لا يقف على شفع ولا وتر. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إذا مات ميت في البحر فإن طمعوا في البر من يومهم وشبه ذلك حبسوه حتى يدفنوه في البر. فإن أيسوا من ذلك غسل وكفن وحنط وصلي عليه وألقي في البحر مستقبل القبلة محرفُ اعلى شقه الأيمن. قال ابن حبيب ولا تثقل رجلاه بشيء ليغرق كما يفعل من لا ¬

_ (¬1) أعلى الصفحة بياض بمقدار عشرة أسطر.

يعرف. فإن ألقاه البحر على ضفته فحق على من وجده أن يدفنه. قال سحنود يصلى عليه إلى القبلة وإن دار المركب داروا. وإن غلبوا صلوا بقدر طاقتهم فيثقل بشيء إن قدروا على تثقيله. قاله عطاء وابن حنبل. ورد هذا المذهب بأنه ربما ألقاه البحر إلى ساحل فيدفنه المسلمون وفي تثقيله قطع لما يرجى له من الدفن ومما ينخرط في سلك هذا نقل الميت من بلد إلى بلد. وظاهر مذهبنا جوازه. قال بعضهم لا بأس أن يحمل الميت إلى العصر إن كان مكانًا قريبًا. قال ابن حبيب لا بأس أن يحمل من البادية إلى الحاضرة ومن موضع إلى موضع آخر يدفن فيه. وقد مات سعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص بالعقيق فحملا إلى المدينة. وأصيب طلبة رضي الله عنه يوم الجمل فدفن. فرأى إنسان في المنام أن انقلوه فنقل فدفن في مكان آخر. قال بعض أصحاب الشافعي ليس في هذا نص. والذي يشبه عندي أنه يكره ذلك. وروي مثل هذا عن عائشة رضي الله عنها. واحتج الشافعي بأن النبي ي أمر بتعجيل دفن الميت. وفي نقله تأخير لدفنه. وانفصل عن نقل سعد وسعيد بأن ذلك ليس ببعيد. فأشبه نقل الميت في بلد كبير من طرف إلى طرف آخر في المقبرة. فأما ابن عمر فإنما أوصى أن ينقل لأنه كان من المهاجرين. ويكره للمهاجرين أن يدفنوا بمكة لأنه كره لهم المقام فيها. وهذا الذي أشار إليه الشافعي في تأويل سعد وسعيد. وقد اشترط مالك في جواز النقل أن يكون قريبًا. وأطلق ابن حبيب من غير اشتراط. فاشتراط مالك يقرب من تأويل الشافعي. فقد روي في البخاري أن جابر بن عبد الله قتل أبوه يوم أحد فدفنه جابر مع رجل آخر فلم تطب نفسه أن يتركه مع آخر في قبره فاستخرجه بعد ستة أشهر. وهذا الحديث قد أدخل حجة جواز النقل. ولكنه يتضمن جواز النقل بعد الإقبار. وإنما تكلمنا على النقل قبل الإقبار. وللميت حرمة تمنع من إخراجه من قبره إلا لضرورة كما ذكرناه من نسي الصلاة عليه على الاختلاف المذكور فيه وإلحاق دفن آخر معه بأبواب الضرورة المبيحة لإخراجه يفتقر إلى نظر آخر وبسط طويل (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي. شرح السيوطي ج 4 ص 84.

نجز كتاب الجنائز وبتمامه تم السفر الأول من شرح التلقين للإمام المازري رضي الله عنه ونفع به يتلوه بحول الله وقوته السفر الثاني كتاب الزكاة. والحمد لله حمدًا يدوم بدوامه والصلاة الدائمة كذلك على سيدنا محمَّد خاتم أنبيائه ومبلغ أنبائه وعلى آله وصحبه ذوي الشرف وأنصاره وسلم تسليمًا كثيرًا.

شرح التلقين للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري 453 - 356 1061 - 1141 الجزء الثاني المجلد الأول تحقيق سماحة الشيخ محمَّد المختار السّلامي دار الغرب الإِسلامي تونس

دار الغرب الإِسلامي جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى- 2008 م دار الغرب الإِسلامي العنوان: ص. ب.: 200 تونس 1015 جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأى شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

شرح التلقين للأمام أبي عبد محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري الجزء الثاني المجلد الأول

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إلى الله العلي الأعلى أرفع آيات الحمد الخالص كما يحق لجلاله وعظيم سلطانه، وأستمنحه التفضل بقبول شكري، على جليل نعمه وموصول مدده وحسن عونه، وعلى ما فتح من أبواب التيسير والتوفيق، وهو الولي الحميد، العزيز المجيد. وأصلي وأسلم على إمامنا وشفيعنا المختص بالمكانة العظمى، والمرتبة الأسمى، والمقام الأسنى، سيدنا محمَّد، الصلاة التي ترضيك ربنا وترضيه فترضى بها عنا، والسلام الطيب كطيب عرفه، والزكي الأنقى نقاء روحه وطهارة نفسه. فإنه بعد أن أتممت بعون الله وفضله تحقيق الأجزاء الثلاثة (كتاب الصلاة) من شرح الإِمام أبي عبد الله محمَّد المازري على كتاب التلقين للقاضي أبي محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر وطبعت سنة 1997، محضت عنايتي لإتمام هذا الكتاب الفرد في المذهب المالكي، وتيسيره للدارسين. وقد حوت الأجزاء الثلاثة السابقة كتاب الطهارة -كتاب الصلاة- كتاب الجنائز. وقال الناسخ في نهاية المخطوط كما ذكرت ذلك في المقدمة: انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني، وأوله كتاب الزكاة. وحسب الترتيب الذي عليه كتاب التلقين فإن الأبواب التالية لكتاب الجنائز هي -كتاب الزكاة - كتاب الصيام - كتاب الاعتكاف - كتاب المناسك - كتاب الجهاد - كتاب الإيمان والنذور - كتاب الضحايا والعقيقة - كتاب النكاح وما يتصل به - وهذه الكتب الثمانية لم أتمكن

من التحصيل عليها ولا معرفة أين توجد، والظن أن المازري قد شرحها جميعها أو بعضًا منها، إذ هو يحيل ويشير لبعض ما جاء فيها أثناء بحوثه في كتاب البيوع. ولذا فإني أكرر في هذه المقدمة الرَّجاء من السادة العلماء والباحثين، ممن يضفر بواحد أو أكثر من هذه الكتب أن يدلني على مكان وجوده. فإني له، مقدمًا، شاكر ودل الله الكريم المتفضل أن يتولى جزاءه، فإنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا. وبناء على ذلك فقد اعتنيت في هذه الأجزاء الثلاثة بتحقيق ما وجدته من قسم المعاملات، الذي يتميز عمله فيه بطريقة تختلف عن منهجه في الأجزاء الثلاثة السابقة. ذلك أنه فيما مضى كان مرتبطً ابن ص التلقين، يثير حول القضايا المذكورة فيه أسئلة تكثر أو تقل يهدف منها إلى الكشف عن الآفاق الرحبة من المعارف الفقهية، ويتوسع في متابعة ما تقتضيه الإجابة عنها فيذكر الخلاف في المذهب والخلاف بين أئمة المذاهب السنية ويربط الأقوال بأدلتها، ويرجح حسب ما يهدي إليه الدليل. ويجد فيه المتفقه في التشريع الإِسلامي متعة قلما يجد نظيرها في غيره من الكتب، بعمق أنظاره، وسعة علمه، وذكاء فهمه، وإنصافه، الإنصاف الذي يسير به الناظر في كتابه مع رجل سما عن التعصب للمذهب والتزم ما يقتضيه الدليل ويهدي إليه العقل الراشد. أما في هذه الأجزاء الثلاثة فيضيف إنى طريقته تلك ارتباطه بالمدونة الارتباط الشديد. فكلما رأى أن القاضي لم يعرج على ما ذكر في المدونة فإنه ينقطع عن متابعة نص التلقين، ويعقد فصلًا يذكر فيه ما جاء فيها، وقد يطول هذا الفصل فيبلغ صفحات عديدة، وقد يصرح بأنه قصد إلى ذلك إم ابن اء على اختياره أو استجابة لطلب المتلقين عنه. وهو معني بضبط أفهام الفقهاء للمدونة، يذكرهم تارة بأسمائهم، وتارة بقوله: وذكر بعض الشيوخ، وتارة إذا كان التخريج أو التوجيه ذكيًا يدل على نباهة صاحبه فيقول: وقال بعض الحذاق.

ويظهر بهذا تفرد شرح التلقين بجمعه بين طريقة البغدادين والمشارقة من أتباع مذهب مالك الذين عنوا بالاستدلال له وبيان الضوابط المرعية، وإبراز طرق ترجيحه، وبين طريقة القيروانيين ومن تبعهم الذين عنوا بالمدونة أتم عناية، فضبطوا نصوصها، وتعمقوا في فهمها. ومن مظاهر هذا الجمع عنايته بكتاب محمَّد بن المواز فقد أكثر النقل عنه. هذا الكتاب الذي يقول فيه القاضي عياض: ولابن المواز كتاب أي (الموازية) - أجل كتاب ألفه قدماء المالكيين، وأصحه مسائل، وأبسطه كلامًا وأوعبه، وذكره أبو الحسن القابسي ورجحه على سائر الأمهات، وقال: لأن صاحبه قصد إلى بناء فروع أصحاب المذهب على أصولهم في تصنيفه، وغيره إنما قصد لجمع الروايات، ونقل منصوص السماعات. (ترتيب المدارك ج 4 ص 169) كما أنه في هذه الأجزاء الثلاثة روى عن الأسدية مما يدل على أنها لم تترك، وبقيت بين أيدي أهل العلم خلافًا لما ذكره القاضي عياض: قال الشيرازي: الأسدية مر فوضة إلى اليوم. (المدارك ج 2 ص299). ولما كانت هذه الأجزاء الثلاثة تتناول المعاملات المالية، فإن الناظر فيها يجد فيها إجابات عن كثير من القضايا الاقتصادية المعاصرة، بل قد يجد المازري رحمه الله قد سبق عصره حتى في إطلاق بعض المصطلحات التي يظن أنها لم تشغل الفكر الفقهي للمتقدمين. وذلك كالمرابحة للآمر بالشراء، والمواعدة من الطرفين في الصرف، والبيع بأجرة يتقاضاها المالك مدة حياته (vente viagere). والمازري بمنهجه المعتمد على إعمال العقل فيما ورد عن الشارع من نصوص لتوليد الأحكام، ورعاية مقاصده، يمكن الدارس لكتابه من ملكة فقهية تفتح له مغالق كثيرة. وتمكنه من الحلول للقضايا المستعصية في النظر الأول. النسخ المعتمدة: ينقسم هذا القسم من الشرح إلى قسمين: القسم الأول: من شروط أخذ طعام عن طعام السلم الصحيح إلى كتاب

بيوع لآجال، اعتمدت فيه ثلاث نسخ: النسخة الأولى: نسخة المكتبة الوطنية التي حبسها المشير محمَّد الصادق بأي سنة 1291 على كل متأهل للانتفاع بها جاعلًا مقرها الخزائن العلمية التي عمر بها صدر جامع الزيتونة تحت عدد 3026 ثم انتقلت إلى المكتبة الوطنية وسجلت تحت رقم اشتملت على 197 ورقة خطبها تونسي وتداول نسخها أكثر من واحد كما يدل عليه اختلاف الخطوط تبدًا بكتاب السلم وتنتهي بكتاب العرية والجائحة. يقول الناسخ في خاتمتها نجز كتاب العرية وفصل الجائحة يتلوه كتاب بيوع الآجال وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وسلم. وتتوالى أبواب المعاملات فتشمل السلم والوكالة على السلم والرهن وصلح الكفيل والمعاوضة على تحويل السلم وما يجري مجرى البيع احتياطًا والمزابنة والربا إلى الورقة رقم 58. وبعد ذلك تأني أبواب القضاء وما يتصل به. فاعتمدت هذه النسخة إلى ورقة 58. وأرجأت باب القضاء وما يتصل به إلى الأجزاء القياستتلو بعون الله هذه الأجزاء الثلاثة. ورمزت لها بحرف " و" إشارة إلى الوطنية. النسخة الثانية: هي النسخة المصورة عن الجزء الثاني من مكتبة المدينة المنورة المحبسة من العالم النظار الشيخ محمَّد العزيز الوزير رحمه الله بتاريخ 1320 خطبها تونسي جميل تبدًا بكتاب الاستبراء، ثم بكتاب الشهادات والقضاء وما يتصل به إلى ص 223 - ومن ص 224 إلى آخر الكتاب ص 388 تتابع أبواب العاملات من السلم إلى بيوع الآجال. فاعتمدت في المقابلة على القسم الأخير، ذلك أن أبواب القضاء في التلقين تتلو في الترتيب التأليفي أبواب المعاملات المالية ولواحقها. ورمزت لها بحرف "م" والكتب الأولى سأحققها بعون الله في الأجزاء الثلاثة الأخيرة. ملاحظة: هاتان النسختان وإن تباعد مكان وجودهما، فإني أكاد أجزم

أنهما منقولتان عن أصل واحد أو إن إحداهما منقولة عن الأخرى. ذلك أن التحريف الموجود في إحداهما موجود في الأخرى. وإذا ترك الناسخ بياضًا في إحداهما تركه الثاني بياضًا أيضًا. النسخة الثالثة: هي نسخة مصورة بمكتبة المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام عن نسخة ابن يوسف بمراكش رقمها 490 محبسة على جامع الحرة والدة الخليفة المنصور في فاتح المحرم سنة 1027. وهي مستنسخة من النسخة التي اشتريت من تركة الطالب أبي زيد السراج رحمه الله. بها 187 ورقة. الصفحة الأولى بقية كتاب الوكالة. ومن الصفحة الثانية يبدأ كتاب الرهن في السلم وينتهي الرجوع إليها في الورقة 52 كتاب المزابنة. والكتب التالية في القضاء والشهادات ورمزت إليها بحرف "ش" والنسخة بخط مغربي رديء جدًا قراءته عسيرة، قوإنتشرف فيها التحريفات، وقد صور بعض الكلمات تصويرًا يدل على أن الناسخ لا يفهم ما يكتبه. القسم الثاني: من كتاب بيوع الآجال إلى كتاب الوديعة أعتمدت في هذا القسم نسختين. النسخة الأولى: نسحة المكتبة الوطنية رقمها 12209 أصلها من خزائن جامع الزيتونة. لا يوجد اسم المحبس ولا تاريخ التحبيس. وذلك أن النسخة الأصلية أضاعها مستعيرها، تبين ذلك من مراجعة محتويات المكتبة عام 1328، فتم تعويضها بهذا المخطوط الذي نظر فيه شيخ الإِسلام وباش مفتي شيخ الجامع وقررا قبوله بدل المفقدد. وعرض ذلك على الباي محمَّد الناصر فختمه بطابعه لتنفيذ رأي الشيخين وذلك في سنة 1330/ 1912 وشمل كتاب بيوع الآجال. بيع الدين بالدين. الممنوعات الراجعة إلى صفة العقد. بيع الثنيا. أحكام القرض والمديان والاقتضاء والمقاصة. حكم المعادن. بيع الخيار. الرد بالعيب. الوكالات. بيع الغائب والغرر. التجارة إلى أرض الحرب. الصلح.

الوديعة. استغرقت هذه الكتب والفصول 221 أو رقة ومن الورقة 222 إلى نهاية الكتاب ورقة 256 كتاب القضاء والشهادات ولم يتم نسخ جميع ما جاء فيه. نسخت بخط تونسي جميل. وهي من أولها إلى أخرها بخط واحد. تخللها كثير من الأخطاء، والنقصلبعض الجمل. وكذلك بعض الصفحات وما أمكنني تداركه تداركته ونبهت عليه، وما لم أتمكن نبهت عليه. وقد رمزت لهذه النسخة بحرف "م". النسخة الثانية: هي النسخة المصورة عن مكتبة المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، المحبسة من العالم النظار الشيخ العزيز الوزير رحمه الله أوقفها على مكتبة المدينة عام 1320. وعلى أول ورقة منها أنه ملكها الشيخ محمَّد الطاهر بن سلامة بالشراء من تركة والده الذي اشتراها من تركة القاضي المالكي الشيخ محمَّد البحري. أثبت ناسخها أبو بكر الورتاني في خاتمتها أنه كتبها لخزانة الشيخ القاضي أبي عبد الله محمَّد البحري بن عبد الستار المذكور. ولم يذكر تاريخ الانتهاء منها. وقد وثق الشيخ مخلوف أنه توفي رحمه الله في شهر ربيع الأول عام 1254. (شجرة النور الزكية ص 385). تشتمل هذه النسخة على جميع الأبواب والفصول التي ذكرتها في نسخة المكتبة الوطنية. وتتحد النسختان في المواضع التي تركت بياضًا. كما أن معظم التحريفات التي وقعت فيها لا تختلف إلا قليلًا جدًا عن نسخة المكتبة الوطنية. ومن ناحية أخرى فقد قابلت نص التلقين بما هو مثبت في النسخ المذكورة وبالمطبوع منه: التلقين طبع وزارة الأوقاف المغربية عام 1413/ 1993 وذكرت في التعليق إشارة لها "المغربية". التلقين بتحقيق محمَّد ثالث سعيد الغاني نشر المكتبة التجارية نزار مصطفى الباز عام 1415/ 1995وذكرت في التعليق إشارة لها: "الغاني".

الطريقة التي اتبعناها في تحقيق هذا النص النفيس الذي كتبه الإِمام أبي عبد الله المازري رحمه الله وأجزل مثوبته. وجهنا اهتمامنا أولًا إلى تصحيح النص. وبذلنا في ذلك أقصى الجهد في فهمه وما يقتضيه التعبير عن الحكم الفقهي فحاولنا إصلاح الأخطاء وإتمام النقص إذا لم يتجاوز كلمتين ليستقيم تطابق اللفظ والمعنى، ولم يكن ذلك بالأمر الهين. فالنسخ التي عرفنا بها سابقًا كلها نسخ حديثة وغير مقابلة. وقد كثرت فيها التحريفات. وكنا نقف عند التأمل في بعض الفقرات وقتًا غير قليل نفترض الافتراضات التي يمكن أن يكون عليها الكلام عند المؤلف ليصح التعبير وينسجم، معرضين عما في التعبير من ضعف تارة، وذلك أن المازري رحمه الله لم يعتن بكتابة نصه، وأرجح أنه كان يلقي دروسًا تدون عنه. وفرق بين أن يوجه المؤلف عنايته للتحرير الكتابي، فيتخير الصيغ التي تكون أبلغ وضوحًا، وأفضل نسجًا، وأتم حبكًا، ويسود ويبيض. وبين أن يكون مربيًا لحاملي العلم عنه من الطلبة. يقتضيه تسلسل إبلاغ المفاهيم أن لا يتوقف للاختيار والتجويد. ولذا لا يجد الناظر في كلامه في شرح التلقين من جمال الأسلوب ما يجده مثلًا في شرحه لكتاب البرهان، وإن صرح أنه أملاه. والمازري الرجل الذي يتميز بجودة قريحته وذكائه الحاد وذاكرته الوفية المسعفة، وسعة اطلاعه، وعنايته الشديدة بالضبط، تصور هذه الأجزاء الثلاثة تلكم الميزات تصويرًا معبرًا وشاهدًا ناطقًا بما رزقه الله من علم وحكمة. وهو يمثل عصره فلا يضجر المستفيد من هذه الأجزاء الثلاثة من كثرة تمثيله ومن عنايته بأحكام الرقيق، ذلك أن العبيد كانوا يمثلون وحدة من وحدات المجتمع، ويختصون بأحكام لا غنى عن بيانها. ومع ذلك فإنه يمكن أن يستفاد منها، فتطبق تلك الأحكام التي لا اختصاص لها بالإنسان، على ما يجري التعامل به في الحالات المشابهة. وتمثل هذه الأجزاء الثلاثة ميدانًا لاشتغال طلبة العلم في الجامعات

الإِسلامية. ذلك أني أعتقد أنه لا يوجد كتاب كشرح التلقين يربي طالب الفقه على التفقه في الدين، وربط العقل بالنقل، وعلى الالتزام بالحق وعدم التعصب للقائلين ولأصحاب المذاهب. إنهم يجدون بين أيديهم النص وقد عملنا على إخراجه في سورة أقرب ما تكون للصحة. وتم تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب. وبقي مقابلته بما نقل عن المازري في شروح خليل وحواشيها، ومقابلة نقوله عن المدونة بما ورد فيها. والرجوع للتنبيهات للقاضي عياض. وقيل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون. وإني في خاتمة هذه المقدمة أريد أنوه بِما ساعدني به العلامة النابه الدكتور إبراهيم شبوح، فبفضل عنايته وعونه حصلت على سورة من الأجزاء الأربعة لشرح التلقين من المكتبة الوطنية. وهي التي كان عليها معظم المعول في إخراج الكتاب. كما أقدم شكري وتقديري لكل من ساعدني على إخراجه وتيسير وصوله بين أيدي من يرغب في الانتفاع به، فجازاهم الله عني خيرًا. وختامًا أسأل الله العلي القدير، الرحيم الكريم، أن يتقبل عملي هذا وأن يكتب لي ثواب المخلصين، وأن ينفع به، ورجائي من كل منتفع به أن يترحم على الإمامين القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب وأبي عبد الله محمَّد المازري، وأن يذكرني، مع كل من أسهم في هذا العمل في دعائه،- هم القوم لا يشقى بهم جليسهم. والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات. اللهم صل وسلم على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. وكتب بمدينة تونس ليلة الجمعة 28 ذو القعدة 1426 - 30 ديسمبر 2005. محمَّد المختار السلامي مفتي الجمهورية التونسية سابقًا

صور من مخطوط المكتبة الوطنية القسم الأول رمزها -و-

صور من مخطوط مكتبة المدينة القسم الأول رمزها -م-

صور من مخطوط مكتبة ابن يوسف مراكش القسم الأول رمزها -ش-

صور من مخطوط المكتبة الوطنية القسم الثاني رمزها -و-

صور من مخطوط المدينة المنورة القسم الثاني رمزها -م-

شرح التلقين للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري 453 - 356 1061 - 1141 الجزءالثاني المجلد الأول تحقيق سماحة الشيخ محمَّد المختار السّلامي مُفتي الجمهورية التونسيَّة

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب السلم

اعلم أنا جرينا في هذا الاملاء على الخروج عن نظم كتاب التلقين لسؤال الأصحاب في ذلك. وقد ذكرنا ما يتضمن كتاب السلم الأول من المدونة. وتلطفنا بأن نورد كلام القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب ونشرحه ثم نضيف إليه ما يتعلق به. وربما أضفنا إلى هذا ما يتعلق بما تعلق به. وقد قدمنا في ذكره المنع من بيع الطّعام بالطعام إلى أجل ما يتعلق به من الذرائع أو ما هو ذريعة للذرائع. وذكرنا هناك الأخذ عما في الذمة من الطعام طعامًا إذا كان السلم صحيحًا. ولعلنا أن نلحق هناك (¬1) الأخذ عن الطعام طعامًا إذا كان السلم فاسدًا. فأجزناه لما توخيناه من الجري على مسائل المدونة ما أمكن. فاعلم أن السلم إذا كان صحيحًا وحلّ أجله وتراضى المتعاقدان أن يتعاوضا من الطعام الذي في الذمة بطعام آخر، وذكرنا الشروط التي تبيح ذلك فمنها أن لا يقعا في هذه المعاوضة في بيع الطعام قبل قبضه، وأن يكون المأخوذ عما في الذمة: يجوز أن يسلم فيه (¬2) رأس المال. فإذا كان السلم في طعام عقد عقدًا فاسدًا فأراد أن يأخذ عن ذلك الطعام طعامًا، فإن الأصل في هذا أني لا يعتبر فيه تقدير بيع الطعام قبل قبضه كما اعتبر في السلم الصحيح؛ لأن من أسلم في حنطة سَلمًا فاسدًا يجب فسخه ثم تراضيا بأن يأخذ عن ذلك تمرًا فإن التمر ها هنا ليس بعوض عن الحنطة فيتصور فيه بيع الطعام قبل قبضه، لكون الذمة خالية من الحنطة لفساد ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النّسخ ولعل الصواب هنا. (¬2) (فيه) ساقطة في و.

العقد عليها، وإذا كانت خالية من الحنطة فالواجب رد رأس المال كما يحكم في البياعات الفاسدة، فإن التمر المأخوذ ها هنا عن رأس المال الذي هو دنانير ودراهم، وبيع الدنانير والدراهم قبل قبضها بتمر دين. هذا هو الأصل المعتمد عليه، وعليه وقع جواب ابن القاسم في المدونة من غير اشتراط وقوع حكم القاضي بالفسخ. وأجاز لمن أسلم في حنطة سلمًا فاسدًا أن يأخذ تمرًا. وهذا طرد مذهبه؛ لأن السلم إذا فسد عقده لم يستحق المسلم في ذمة المسلَم إليه سوى رأس ماله الذي دفع إليه. لكن أشهب التفت في هذا إلى اختلاف العلماء في هذا العقد الذي أفسدناه نحن وأمضاه غيرنا، فنهى عن أخذ التمر عن الحنطة حتى يقضي القاضي بفسخ العقد فيرتفع الخلاف. أو يكون الفساد مجمعًا عليه فيكون عُرُوُّ الذمة متفقًا عليه ولا مخالف فيه يمحسَّس إليه، وهذه مُراعاة منه لاختلاف العلماء، واحتياطًا من الوقوع في المحرم. لأنه إذا كان بعض العلماء يرى عقد هذا السلم صحيحًا وقد يرفع إلى قاضٍ يحكم بصحته، صارت المعاوضة عند هؤلاء كبيع الطعام قبل قبضه. ولكن أشار بعض الأشياخ إلى أن المتعاقدين لو وقعا في هذه المعاوضة ما أُحسِّن أن تفسخ عليهما مع كون هذه المعاوضة عندنا جائزة، ولا يحسن بالفقيه أْن يفسخ عقدًا وهو عنده جائز ماض لأجل أن غيره ذهب إلى فساده. لكن يحسن النهي عن الوقوع في هذا ابتداءً احتياطًا من الخلاف. ومال بعض الأشياخ إلى أنهما لو حكّمًا رجلًا فحكم بالفسخ لحل ذلك محل حكم القاضي. وأشار أيضًا إلى أن أحدهما لو حكّم صاحبه فاجتهد فم بالفسخ أو اجتهدا جميعًا ففسخاه لأجزأهما ذلك. وهذا الّذي قاله في حكم أحدهما أو حكمهما جميعًا فيه نظر؛ لأن الحاكم لا يحكم لنفسه. لكن الاختلاف في تراضيهما فالإشهاد على الفسخ هل يحل ذلك محل الحكم بالفسخ؟ مشهور بين أشهب وابن المواز (¬1) ومراعاة الخلاف ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. وفي الكلام شيء من الاضطراب.

وكون العقد الفاسد عقدًا يفتقر إلى حل، فيه اضطراب في المذهب سنتكلم عليه في كتاب البيع الفاسد إن شاء الله تعالى. فإذا راعينا الخلاف وجعلنا العقد الفاسد له شبهة العقود، افتقر إلى حله بقضية قاض. وإن لم يراع الخلاف ولا جعلنا العقد الفاسد عقدًا، فإنه لا يجب الافتقار إلى قضية قاض. فإذا تقرر عندك هذا الاضطراب في افتقار العقد إلى حل إذا كان مختلفًا في فساده، فإنه إذا كان العقد مجتمعًا على فساده أو مختلفا لم فيه فقضى بنقضه قاض لم يختلف في ترك مراعاة بيع الطعام قبل قبضه، إذ لا طعام ها هنا في الذمة يباع قبل القبض. لكن لو أراد (¬1) بعد الحكم بالفسخ أن يأخذ مثل ما عقدا عليه من الطعام في المقدار والصفة، فإن ظاهر المذهب على قولين: أحدهما إجازة ذلك، لكون المأخوذ الآن إنما أخذ معاوضة عن دنانير، لا عن مثل ما كان في الذمة على اعتقادهما ومقتضى عقدهما. وإلى هذا ذهب ابن حبيب. وظاهر كلام ابن المواز المنع منه، لئلا يكون لم يقصد بهذه المعاوضة الثانية إلا إمضاء الأولى التي فسخت عليهما، فيكون الفسخ لم يفد، ومتى أبحنا له، وقد أسلم في مائة قفيز سمراء سلمًا فاسدًا ففسخ عليهما ووجب رد رأس المال أن يأخذ عنه مائة قفيز سمراء، فإنّ هذا الذي فعلاه صورة ما عقدا عليه والفسخ لم يفد شيئًا. وقد وقع لمالك رضي الله عنه فيمن [قال من طعام أسلم فيه سلمًا صحيحاَ وأخّر المناجزة في رأس المال، أنّ الإقالة تفسخ لما دخلها وما تصور فيها من فسخ الدين. لكنه أباح لهما أن يرجعا إلى إقالة صحيحة يتناجزان فيهالأولم يتهمهما على إمضاء الإقاله الأولى التي فسخت عليهما ولم يقدر أنهما رجعا إليها. وهذا ينظر لأحد القولين في إجازة أخذ مثل الطعام سواءً بعد الحكم بفسخه. لكن الإقالة الأولى تصور فيها سورة التأخير وتقدير اتّهامهما على فسخ الدين في الدين، وهذه الثانية لم يتصور فيها ذلك لأنهما يتناجزان فيها. وهكذا وقع لابن القاسم فيمن قارض رجلًا بمائة على أن يحمل ¬

_ (¬1) في النسختين: أراه (بالهاء).

له مائة أخرى إلى بلدة أخرى، أن القراض فاسد ويقضي فيه، على أصله، بإجارة المثل، لأجل ما فيه من زيادة منفعة انفرد بها رب المال، وهي حمل المائة الأخرى. لكون ابن القاسم أجاز لهما أن يتراضيا على ما حصل من الربح. وهذا وإن وقع بعد معرفتهما بمقدار ما يجب للعامل من الإجارة وفسخ العقد بأنه. رجوع إلى ما فسخناه عليهما أولًا. وكذلك قال أشهب في غاصب غصب قمحًا جُزافُ اثم تراضيا على مكيلة معلومة بعد الحكم بالقيمة، أنّ ذلك جائز. ورأى أنّ الحكم بالقيمة يمنع من كون الطعام مأخوذًا عن الطعام الجزاف من غير قيمة وجبت فيه لم يجز (¬1) لجواز التفاضل بين الطعامين والشك في الوقوع فيه. وهكذأ قال فيمن صرف دنانير بدراهم فوجد الدناني رنا قصة حتى وجب الرد، فإنه لا بأس أن يصرفها منه، وإذا أبحنا له أن يصرفها بدراهم بعد أن نقضنا الصرف الأول لما فيه من النقصِ لم يمنع أيضًا أخذ مثل الطعام المسلم فيه بعد أن نقض العقد فيه. لكن إن كان المراد بهذا يصرفها صرفُ اثانيًا ليس مثلَ الأول فقد يباح هذا لأجل ما في العقد الثاني من المخالفة الأولى (¬2). وهكذا اضطراب أصحابنا في جواز الأخذ عن القفح شعيرًا أو سُلْتا. فكان الشيخ أبو محمَّد اللؤلئي يرى أن ذلك مثل أخذ القمح بعينه الذي أسلم فيه، لكون الشعير والسلت في الزكاة والبيع حكمهما حكم القمح. وذهب ابن أبي زمنين إلى أن ذلك ليس كأخذ المسلم فيه بعينه بعد الفسخ، لكون هذا المأخوذ ليس هو عين الأول الذي فسخ. وقد أجاز ابن حبيب أن يأخذ بعد الفسخ سمراء عن محمولة لما دخل في العقد الثاني من التغيير عن العقد الأول. وإذا جاز أخذ السمراء عن المحمولة فَأَخْذُ السلت والشعير أولى بالجواز. لكن لو أخذ عن سمراء جيدة سمراء دنيّة، لكان هذا أقرب إلى الإشكال من أخذ الشعير والسلت. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. وفي الكلام نقص ظاهر. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للأولى.

ومن الأشياخ من يراه كأَخْذِ الشيء بعينه لكون النوع واحدًا، وإنما اختلف بالجودة والدّناءة (¬1). ومنهم من يشير إلى ارتفاع التهمة بالعودة إلى العقد الأول لأجل ما دخلَ في هذا من التغيير، وقد وقع في المدونة لفظان يشيران إلى ما قدمناه من الاختلاف في أخذ الشعير والسلت عن القمح. وذلك أنه قال في الباب: لا بأس أن يأخذ من الطعام ما شاء غير الحنطة التي أسلم فيها. والشعير والسلت لا يسميان حنطة. فاقتضى ظاهر هذا اللفظ جواز أخذ الشعير عن القمح. وقال أيضًا في الباب بعينه: لا بأس أن يأخذ ما شاء من الطعام سوى الصنف الذي أسلم فيه. والشعير والسلت يعدهما أهل المذهب مع القمح صنفًا واحدًا، لكن ربما كان دلالة قوله: غير الحنطة، على جواز أخذ الشعير أوضحَ من دلالة قوله: سوى الصنف الذي أسلم فيه؛ لأنه قد يريد بالصنف المثلَ. وأجاز أخذ القمح الدنيّ عن الجيد. هذا حكم أحد الشروط التي ذكرنا اعتبارها في المعاوضة عن السلم الصحيح، ذكرنا إجراهما (¬2) ها هنا في السلم الفاسد على حسب ما فصّلنا القول حيه. وأما الشرط (¬3) الآخر وهو اعتبار أن يكون المأخوذ مما يجوز، أن يسلم فيه رأس المال، وإجراء هذا الشرط في السلم الفاسد مجراه في السلم الصحيح ... (¬4) أجاز ابن حبيب في السلم الفاسد المحكوم بنسخه أن يأخذ دراهم عن رأس المال وهو دنانير رأى أن الحكم أوجب بطلان ما في الذمة من الطعام الذي فيه أسلم رآس المال، وأوجب الحكم كون رأس المال دينًا ¬

_ (¬1) (والرّداءة) في م (¬2) هكَذا في النسختين (¬3) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب الشّرط. (¬4) هكذا في جميع النسخ ش لعلّ الصواب فأجاز.

على المسلم إليه، فلا يمنع مستحقه من المصارفة فيه، ويبعد أن يعقدا عقدًا فاسدًا تحيلًا به على الرجوع إلى عقد فاسد آخر؛ لأنه لما سهل عليه الوقوع في الفساد في العقد الأول يسهل عليهما أن يجعلا هذا العقد الثاني الفاسد في أول أمرهما. وقد وقع في المستخرجة ما يدل على جواز أخذ الدراهم عن الدنانير إذا كانت رأس مال السلم الفاسد. وحاول الشيخ أبو القاسم ابن الكاتب أن يضيف هذا المذهب إلى المدونة فقال: قد وقع في كتاب الصلح من المدونة، فيمن ابتاع عبدًا فاطلع فيه على عيب بعد أن فات في يديه وقد دفع ثمنه وهو دنانير، أنه يرجع بقيمة العيب من الدنانير التي دفع، ويجوز له أن يأخذ عما يجب له منها دراهم. ودافعه غيره من الأشياخ من تعلقه بهذا، بأن السلم الفاسد دخلا فيه مدخلًا واحدًا فتتطرق التهمة للمتعاقدين أنهما أرادا جميعًاا لتحيل على الصرف المستأخر، ومسألة العيب لا مدخل للمشتري فيها ولا سبب له فيه. ولا علم له به حين العقد وإنما العيب من جهة أحد المتعاقدين وهو البائع، فلا تتطرق التهمة بأنهما يتراضيان على التحيل على ما لا يجوز إلا فيما دخلا فيه مدخلًا واحدًا، وأمكن أن يشتركا في القصد إليه. فالعيب إذا لم يكن عند المشتري منه علم، ولا له فيه سبب، يستحيل أن يواطىء على التحيل به في أصل العقد لأن التحيل به إنما يكون بعد العلم به، ومن لا يعلم الشيء كيف يتحيل به؟. وقد وقع في الحاوي لأبي الفرج رواية عن مالك أنه أجاز لمن أسلم دنانير في عروض أن يأخذ من الدنانير دراهم. فإن جاز هذا في سلم صحيح تقايلا فيه، ففي الفاسد المحكوم بفسخه أحرى أن يجوز. لكن المعروف من المذهب أن التقايل تعتبر فيه التهم، ويمنع أن يأخذ عن رأس المال وَرِقًا لما وقع حل العقد باختيار منهما. ولو انحل العقد بسبب لا مدخل فيه لواحد منهما، كاكتراء دار بدنانير فانهدمت الدار وجب (¬1) رد الدنانير، فإنه يجوز أن يأخذ عنها وَرِقًا، إذ لا سبب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ووجب.

لواحد منهما في حل هذا العقد، فيتهمان على التحيل فيه على الصرف المستأخر. وكذلك لو كان السلم في ثمار بعينها فاجتيحت على حسب ما تقدم بيانه في جائحة الثمار المسلم فيها، فجاز أن يأخذ عن رأس المال الذي هو ذهب ورقا، لمّا كانت الجائحة لا مدخل لواحد منهما فيها. وكذلك الرد بالعيب به ألحق بهذا النوع لكون أحدهما، وهو البائع، انفرد بالسبب الموجب لحل العقد. والبيع الفاسد وقع فيه الاضطراب هل هو من هذا النوع لأجل أن القاضي فسخ العقد عليَهما بغير اختيارهما. وقد صورنا وجه بَعد التهمة عنهما في هذا. ويجري ذلك مجرى الإقالة التي فعلاها باختيارهما لما كانا مشتركين ها هنا في العقد الفاسد. وكذلك قال مالك، فيمن أسلم إلى صاحب حائط في ثمرة، فعدمت الثمرة، إنه لا بأس أن يأخذ عن رأس المال، وهو ذهب، ورقًا ورأى انقطاعها كالجائحة، وانهدام الدار. وإن أمكن أن يقدر ها هنا أنهما تعمدا التأخير في الاقتضاء حتى يذهب إبان الثمرة، تحيلًا منهما على الصرف المستأخر وهذه التهمة دعت ابن القإسم إلى أن قال، فيمن أسلم في ثمر حائط بعينه فانقطعت الثمرة بعد أن أخذ بعضها: إنه يأخذ بقية رأس ماله ما شاء، ما لم يأخذ أكثر من المكيلة التي عقد السلم عليها. واتهمهما على تعمد التأخير لأجل ما زاد على المكيلة التي استحق عليه. فأنت ترى مراتب هذه المسائل في قوة التهمة وضعفها فاتضح فيما لا سبب لواحد منهما فيه كالجائحة وانهدام الدار بُعْدُ التهمة، فأجيز الأخذ عن الدنانير دراهم، واتضح في الإقالة في السلم الصحيح قوة تطرق التهمة، فمنع ذلك في المشهور المعروف من المذهب سوى ما حكيناه مما هو شاذ عن المعروف من المذهب. وتزاحمت الظنون في قوة التهمة وضعفها في السلم الفاسد فكان فيه من الاضطراب ما حكيناه. وعلى هذا جرى الأمر في انقطاع الثمرة على حسب ما حكيته أيضًا. فهذه النكتة التي تدور عليها مسائل هذا الباب.

وقد ألحق في المدونة بهذا الباب مسألة من باع دارًا على أن ينفق مشتريها عليه حياته، فذكر أنّ هذا عقد فاسد لا يجوز، وأنه يجب فسخه ورد الدار لبائعها، ويرجع مشتريها عليه بقيمة ما أنفق عليه. وإيراد هذا السؤ الذي هذا الباب قد يفتقر إلى اعتذار لكونه في الظاهر خارجًا عما ترجم الباب به. والعذر عن ذلك أنه قدر أن بائع الدار أسلمها في طعام يطعمه أجلًا مجهولًا، وهذا سلم فاسد، يجب فسبخه، ورد دار البائج عليه، ورد البائع على المشتري ما أنفق عليه. فلهذا أدخل هذا السؤال ها هنالأولا خفاء بفساد هذا العقد. لأن أمد حياة هذا البائع مجهول. فقد يحيى بعد العقد. يومًا وقد يحيى ألف يوم أو أكثر منها. وهذا اختلاف عظيم في مقدار الثمن لا يعلم ضبطه ولا حقيقته لا البائع ولا المشتري. ولكن هذا مع وضوح فساده قد وقع لأشهب إمضاء هذا العقد، واختلف المتأخرون في العذر عنه، فقيل: إنما أجاز ذلك لأنه أعمر البائع أمرًا والنفقة في هذا الأمر في حكم المعلوم يطلب بها ذمة المشتري مات أو عاش. فصار العقد وقع على ثمن معلوم .. وهذا العذر لو صورت المسألة عليه وأن بيع الدار وقع بثمن معلوم لا غرر فيه أصلًا لم يخالف ابن القاسم فيه أشهب. كما أن أشهب لو صورت المسألة عنده بانعقاد البيع على ثمن مجهول لم يمضه. واعتذر بعض أشياخنا عنه بأنه قد يريد وقوع هذا العقد على جهة المكارمة، كما يفعل الأب مع ابنه، بأن يقول: أنفقْ عليَّ، وداري لك. والقصد ها هنا المكارمة من الأب لولده، ولم يقصد الأب وولده بمثل هذا العقد المعاوضة على جهة المكايسة والمتاجرة. فلهذا جاز. والتأويل الأول هو أولى لكونه عامًا في سائر المتبايعين على تعمير يصير معه الثمن معلومًا. وأما فعل الآباء وأمثالهم مع بنيهم وأقاربهم فهذا يتسع القول فيه، ولا يكون الجواب عامًا في سائر الناس.

وإذا أوجبنا للمشتري أن يرجع على البائع بما أنفق، فإنه إذا كان لا تتحصل النفقة، مثل أن يكون مضافُ العياله أو ينفق عليه نفقة لا يتحصل مثلها، فإن الواجب الرجوع بقيمة النفقة. ولو كان يدفع إليه طعامًا مكيلًا لكان الواجب الرجوع بمثله سواء اشتراه دافعه أو أخرجه من عنده. بخلاف الكفيل إذا قضى الطعام عن الغريم فإنه إن دفعه من عنده رجع بمثله، وإن اشتراه رجع بمثل الثمن. لأن الكفيل إذا تكفل عن الغريم بإذنه فكأنه كالآمر له أن يُسْلِفَه ما يقضي به عنه دينه. فإذا اشترى طعامًا بثمن فقضاه عنه صار كأنه إنما أسلف للغريم الثمن الذي اشترى به عنه دينه. فإذا أشترى طعامًا بثمن فقفعاه عنه صار كأنه إنما أسلف للغريم الثمن الذي اشترى به وبيع (¬1) الدار ها هنا إنما له نفقة في ذمة مشتريها. فإذا وجب نقض ما كان بينهما رجع عليه بما أعطاه. واختلف المتأخرون لو أنفق المشتري على البائع نفقة واسعة فيها زيادة عما يُقْضَى عليه به مما وقع في العقد عليه، هل يرجع بهذه الزيادة إذا وقع الفسخ لأنها هبة لأجل البيع، فيكون حكمها في الرد حكم الثمن، أَوْ لاَ يرجع بها؛ لأنه متطوع بدفعها متبرع بإنفاق ما لا يلزمه إنفاقه على حكم ما عقداه، فقد سلّط دفع (¬2) هذه الزيادة آكلها على أكلها وأذن له في ذلك من غير اشتراط عوض. ولعلنا أن نبسط الكلام على هذا الأصل فيمن أثاب من صدقة ظن أنه لا يلزمه الثواب عنها، فأكل هذا ما دفع إليه عوضا عن صدقته. وأما كون مشتري الدار أحق بها إذا وقع الفلس ففيه الاختلاف الذي سيذكر في كتاب التفليس إن شاء الله تعالى. بيع الجزاف قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: وبيع الطعام وسائر المكيلات جزافًا جائز في الغرائر، وصَبَّا على الأرض. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. ولعلّ الصواب: وبائع الدّار. (¬2) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: دافع.

وكذلك سائر العروض المكيلة والموزونة كالجص والنَّوْرة والقطن وغير ذلك. ولا يجوز فيما يعظم الغرر فيه كالعبيد والحيوان والثياب والجواهر. ومِن شرْط جواز بيع الجزاف تساوي المتعاقدين في الجهل بمقداره، ولا يجوز مع علم بائعه، ويكون للمشتري الخيار. ولو دخل على الرضا بذلك لم يجز. قال الشيخ رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة، منها أن يقال: 1) ما معنى الجزاف؟ 2) وما الوجه في إجازة بيع الجزاف؟ 3) وما الجنس الذي يباع جزافًا؟ 4) وهل من شرط ما بيع جزافًا أن يكون مرئيًا؟ 5) وهل يشترط كون المتعاقدين متساويين في عدم العلم بمقدار المبيع؟ 6) وهل يجوز أن ينضاف إلى المبيع جزافًا مبيعًا (¬1) غيره؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: المجازفة لا تكون إلا من إثنين جزافًا (¬2)، على أسلوب باب المفاعلة، كقولهم المقاتلة والمضاربة والمشاتمة والملاعنة، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده. فلهذا قلنا إذا علم أحد المتبايعين قيل الصبرة وجهلها الآخر، فإن البيع غير منعقد، كما سيرد بيانه، لكون المجازفة التي هي المفاعلة والمراد بها كونهما جميعًا يرجعان إلى حزر وتخمين، لم يحصل منهما جميعًا إذا علم قيل الصبرُ أحدهمالأولا يسمى جزافًا لعدم الكيل بل للجهل به. لأنهما لو علمًا جميعًا قيل الصبرة وتصادقا على البيع فيها على غير إحداث قيل بعد العقد، لم يكن هذا بيع جزاف. فثبت أن المراد بهذه اللفظة كونهما غير عالمين بالمبلغ يقينًا بل بالظن والتخمين. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد ورد الشرع بالنهي عن بيع الغرر. والمراد به كل ما كان فيه تغرير وخطر. لكن الشرع قد عما عن عقود فيها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: مبيعٌ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تجازفا.

غَررٌ كما عما عن عقد إجارة الدار شهراً مع إمكان كون الشهر تسعة وعشرين يومًا أو ثلاثين يومًا، وعن الشرب من السفَّاء مع كون السقاء لا يقف على الحد الذي ينتهي إليه شارب الماء منه. ولم يعف عن بيع الطير في الهواء والسمك في الماء، وما ذاك إلا أن الغرر إذا كان يسيرًا غير مقصود فإنه يعفى عنه. وكذلك إذا كان القصد به الارتفاق ورفع المشاق فعفي عن ذكر الدار لأجل أن زيادة يوم على تسعة وعشرين يومًا أو عدمه لا يلتفت إليه المتعاقدان. وكذلك أجزنا بيع البرنامج لما في ذلك من الارتفاق ورفع المشاق بنشره وحله وطيه. وقد قال ابن الجهم من أصحابنا: لو قال له: بعني قطن جبتك أو جنين أمتك، لم يجز. ولو قال له: بعني الجبة بقطنها والأمة بجنينها لجاز ذلك. وأشار إلى ما قررناه من أن القصد التخاطر إذا عقدا البيع على أمر مغيّب كجنين الأمة وقطن الجبة. وإذا عقدا على الأمة نفسها والجبة بجملتها، صار المُغَتبُ من ذلك غير مقصود إلى التخاطر فيه، فجاز هذا العقد. وهكذا العقد على صبرة طعام عفي عن الغرر في العلم بمبلغها وسومح في الرجوع إلى الحزر والتخمين فيها لأجل أن العارفين بالحزر في هذا والتخمين يقل غلطهم فيه يكثر (¬1) مقدار ما بين غلطهم فيه إذا وقع الكيل، مع ما في ذلك من الارتفاق ورفع المشاق لتكلف الكيل وطلب المكيال، وهذا من طريق الاعتبار. وأمّا من جهة الآثار فقد خرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "كان الناس يبتاعون الطعام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزافًا (¬2). وخرج عنه أيضًا: كانت الصحابة يبتاعون الثمار جزافًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، وهذا وإن وردت الآثار بالجواز فيه مطلقًا، وإباحة العلماء من غير تقييد، فإنه يجب أن يشترط في ذلك كون المتعاقدين ممن لهما دربة في هذا الحزر والتخمين وشاهدا منه ما يقيسان عليه ما يتبايعانه جزافًا. وأما إن كان المتعاقدان بعيدين من معرفة هذا ويقعان في الغلط الفاحش فيه ¬

_ (¬1) هكذا. ولعل الصواب: ولا يكثر. (¬2) نص حديث البخاري: لقد رأيت النّاس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافًا -يعني الطّعام. يضربون أن يبيعوه في مكانه حتى يؤووه إلى رحالهم. فتح الباري ج 5 ص 254.

الذي له مقدار كثير من الثمن والمثمون، فإنه لا يبيح لهما أن يتعاقدا بيعًا جزافًا، وهما يعلمان من أنفسهما أن غلطهما يتفاحش ويعظم حتى يقعا في الغرر والتخاطر. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: تحقيق مقادير المبيعات يكون بثلاث صور: أحدها الكيل والآخر الوزن والآخر العدد. فأما المكيلات فالحنطة والشعير والقطاني وغيرها من ضروب المكيلات فإنه لا يختلف في جواز بيعها جزافًا على الجملة. وكذلك الموزونات أيضًا كاللحم وشبهه. وأما المعدودات فقد وقع في المذهب روايات تشير إلى الاضطراب في هذا. فوقع لمالك رضي الله عنه في الموطأ أنه قال، في بيع الإبل والغنم والخيل والرقيق جزافًا: إن ذلك لا يجوز. ولا يجوز الجزاف فيما يعد عدًّا (¬1). وهذا الإطلاقال في وقع في الموطأ يقتضي ظاهره منع بيع المعدود جزافًا، بخلاف المكيل والموزون. وإن ترك على ظاهره كانت التفرقة بينه وبين المكيل والموزون أن المكيال والميزان التي لا يمكن العلم بالمبلغ في الحنطة واللحم إلا بحضورهما، وقد لا يوجدان أو يشق إحضارهما، فرخص في ذلك لأجل هذه المشقة. والعدد لا يفتقر فيه العاد إلى آلة قد يتعذر إحضارها. فلم يكن في تكليفه العدد مشقة. فلهذا عفي (¬2) عنه. لكن الحذاق من المتأخرين يشيرون إلى أن قول مالك رضي الله عنه هذا متأول فيما يكون المراد منه أعيان آحاده لا العلم بمبلغه. فلهذا مثل في الموطأ لما ذكر هذا بالإبل والغنم والخيل والرقيق. وهذه الأصناف التي ذكرها المراد أعيان آحادها والإحاطة بصفاتها، كل شيء منها على حياله، ليعلم بذلك قدر ثمن كل واحد على انفراده، فيحصل له من ذلك كونه غابنا أو مغبونا. فلو بيعت الجمال أو الجواري عددًا من غير اطلاع على صفات كل واحد منها على انفراده، لعظم في ذلك الغرر واتضح الخطر. فيحمل قول مالك: ولا يباع جزافًا ما يعد عذاة على هذه الأجناس ¬

_ (¬1) الموطأ: 2/ 219: "2002". (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب لم يعف عنه

المراوإلاطلاع على عين آحادها. وأمّا ما تتساوى آحاده والمراد منه معرفة المبلغ كالمراد من صبرة الحنطة معرفة مبلغها لا عين كل بُرَّةٍ منها، فإنه يجوز بيعه، وإن كان معدودًا، جزافًا، فإن اعترض هذا ما أشرنا إليه من التفرقة التي ذكرناها آنفُ ابين المعدود والمكيل قيل قد يكثر الشيء حتى يشق عدده كما يشق كيله ووزنه. وهكذا عند القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب هذا الباب لتمييز ما المراد منه أعيان آحاده؟ أو ما المراد منه معرفة مبلغه لا أعيان آحاده؟ لكن هذا الذي ذكرناه في المعدود يقتضي أنه لو كان قليلًا لا كلفة في عدده، والعادة أن يباع بالعدد لم يسامح ببيعه جزافًا. وقد قال مالك رضي الله عنه: لا بأس أن تباع العصافير والحيتان الصغار جزافًا. وأما الكبير منها فلا يباع جزافًا، وإنما يعد عددًا. وفي الموازية أنه إذا علم أحد المتعاقدين العدد فكتمه عن الآخر وتبايعا على الجزاف، أن ذلك عيب يوجب الرد. فأشار ها هنا إلى جواز بيع المعدود جزافًا. فتحمل هذه الروايات التي اختلفت ظوأهرها على ما قلناه من كون المعدود لا تُرادُ آحاده. فيجوز فيه الجزاف كالجوز والبيض، على حسب ما مثل به القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب المعدود الذي يجوز بيعه جزافًا. لكن وقع في كتاب ابن حبيب جواز بيع الأترجّ والبطيخ جزافًا، وإن اختلفت أجرام آحاده في الكبر والصغر. وهذه الرواية لا تصح على ما أصلناه، إلا أن يكون الثمن لا يختلف عند المتعاقديق باختلاف صغر البطيخ وكبره. وقد ذكرنا عن مالك أنه أجاز بيع العصافير جزافًا. لكن ابن القاسم تأوّل ذلك على أنها مذبوحة، وأما إن كانت حية فلا يجوز بيعها جزافًا لأنها يموج بعضها في بعض. وهذه إشارة إلى أن الحية لا يتأتى حزرها لما يحدث فيها من حركات وبسط أجنحة يستر بعضها بعضا. وهذا مسلم إن ثبت أن الحزر لا يوثق به فيما كان حيًا منها؛ لأنا شرطنا في جواز بيع الجزاف أن يكون مما لا يعظم الغلط فيه ويتفاحش، فقدر ابن القاسم أن الحي من العصافير يعظم الغلط فيه ويتفاحش، فلهذا منعه.

ومن هذا الأسلوب بيع الذهب والفضة جزافًا. فأمّا ما كان منها تبرًا أو مصوغًا فإن بيعه عندنا جزافا غير ممنوع، ولو كان العلي محش وَا لم يمنع ذلك من بيعه جزافًا إذا اختبر مقدار الحشو من الساتر من ذهب أو فضة، بأن يعلم غلظ هذا الساتر من الذهب أو الفضة فيمكن حزره. وإذا لم يعلم مقدار غلظه من رقته لم يمكنه أن يحزر وزنه حزرًا موثوقًا به. وأما إن كان الذهب أو الفضة مسكوكين دنانير أو دراهم، فإنه في المدونة لم يُجز بيع ذلك جزافًا. واختلف البغداديون في هذا المنع هل هو منع كراهة أو منع تحريم؟ فقال ابن القصار: إنّه منع كراهة. وأشار إلى هذا محمَّد بن عبد الحكم في قوله: لم أر أحدًا من أصحابنا يجترىء على فسخ بيع الدنانير والدراهم جزافًا. وذهب أبو بكر الأبهري وأبو محمَّد عبد الوهاب إلى حمل هذا المنع على التحريم. فمقتضى مذهب ابن القصّار لا يفسخ البيع لكونه مكروهًا لا محرمًا. ومقتضى قول الأبهري وأبي محمَّد عبد الوهاب الفسخ، إذا لم يراعيا الخلاف في هذا. واختلف أيضًا في تعليل منع هذا، فأشار محمَّد بن مسلمة إلى أن الجزاف إنما جاز لكون الغلط فيه إنما يقع بيسير محتقر يزيد ذلك على حزر الحازر العارف أو ينقص. واليسير من الذهب والفضة له مقدار، وتشح النفوس عليه ما لا تشح على اليسير من غيره .. فلهذا منع بيع الدنانير والدراهم جزافًا. وهذا الذي قاله، وإن كان يستمر على القاعدة التي قدمناها في اعتبار كون الغرر مقصودًا أو غير مقصود، فإنه ينتقض على أصل المذهب لإجازة أهل المذهب بيع التبر والذهب والفضة المصوغين جزافًا. ويتصور من نفاسة مقدار الغلط فيها ما يتصور في الذهب والفضة المسكوكين وكذلك اللؤلؤ يتصور من نفاسة الغلط بقليله ما يتصور في الدنانير والدراهم المسكوكين. وهذا في لؤلؤ تتسَاوى آحاده، والقصد فيه مبلغه لا الاطلاع على كل واحدة على حيالها، فإن بيع ذلك لا يجوز عندي جزافًا، وهو كبيع الرقيق والخيل. وذكر القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب ها هنا المنع من بيع الجوهر جزافًا

ولم يفصّل بين كبيرها وصغيرها. والمرجع في هذا إلى العادة فيما المقصود آحاده، أو المقصود مبلغه. وعلل المنع من هذا الشيخ أبو بكر الأبهري والقاضي أبو محمَّد عبد الوهاب بأن الدنانير والدراهم ما خفّ منهما أنفقُ مما ثقل. فصار الغرر فيها إذا بيعت جزافًا من وجهين: الجهلَ بمقدار الخفيف منها من الثقيل، والجهلَ بالمبلغ. والغررُ إذا صار من جهتين صار مقصودًا. والقمح واللحم إنما المقصود فيهما العلم بمبلغ قيل القمح ووزن اللحم، فصار الغرر من جهة واحدة فخف وأجيز. والحق أن هذا التعليل الذي وقع للأبهري إنما ذكره في بيع الدنانير والدراهم المعدودة. هكذا قال محمَّد بن عبد الحكم في المختصر. ولما شرح الأبهري كلامه في هذا أشار إلى ما قلناه من التعليل. وهكذا في الموطّأ قال مالك رضي الله عنه: لا تباع الدنانير والدراهم المعدودة جزافًا، والعدول إلى الجزاف فيها غرر (¬1). فقيد المنع يكون الدنانير والدراهم معدودة، كما ذكر ابن عبد الحكم في المختصر. وقد كنا نحن قدمنا ما وقع لمالك رضي الله عنه في الموطأ من بيع المعدود جزافًا ونقلنا فيما تقدم كلامه في هذا، وتأولناه بأن المراد به ما كان من المعدود يُقصد منه إلى الاطلاع على عين آحاده دون ما كان يقصد منه الاطلاع على المبلغ خاصة. وذكرنا أنه إن تُرك قول مالك هذا على ظاهره عمومًا في كل معدود، فإنما ذلك لكون المكيل والموزون قد يتعذّر عن بيعهما وجود المكيال والميزان" والعدد لا يتعذر لأنه علم لا يفارق المتعاقدين ولا يستعينان فيه بآلة كالمكيال والميزان. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: الجزاف يجوز العقد عليه سواء كان المبيع موضوعًا على الأرض أو ¬

_ (¬1) المو طأ: 2: 161 - ر قم 1854 (بتصرف).

موضوعًا في ظرف. فالقمح والتمر يجوز العقد عليهما (¬1) وإن كانت الصبرة المصبرة من كل واحد منهما موضوعة على الأرض يحيط البصر بجميع جوانبها. وكذلك يجوز بيعهما ولو كانا في غرارة أو شبهها؛ لأن المعتمد في هذا على الحزر الذي يحرره العارف. ولا تختلف معرفة العارف بهذا يكون القمح موضوعًا في الأرض أو في غرارة أو في جَفنةٍ. لكن ابن المواز لما أجاز هذه، قال: لو عقد البيع على أن يملأ له غرارة فارغة قمحًا موصوفًا أو مشاهدًا ما جاز ذلك. وكذلك قال في الزيت: إنه يجوز بيع قارورة منه مملوءة زيتًا يعقد البيع على زيتهالأولو كانت فارغة ما جاز له أن يشتري ملأها من الزيت. وكذلك لو اشتراها مملوءة جزافًا ما جاز له أن يعقد على ملئها ثانية. وهذا قد يهجس في النفس استبعاد الفرق بين ما أجاز وما منع. إذ لا يختلف حزر الحازر لزيت في قارورة أو حزره لمقدار ملئهلالكن قصارى ما يفرق بينهما (¬2) به، أن المقصود تغير أحكام العقود على حسب ما قدمناه مرارًا. وإذا كانت القارورة مملوءة زيتًا والغرارة مملوءة قمحًا، صار المبيع جزافًا مرئيًا مشاهدًا. فالقصد العقد على مرئي مشاهد فتطلب معرفة مبلغه بالحزر والتخمين حتى إذا كانت القارورة فارغة فالمشترَى جزافا غير مرئي ولا مشاهد، فالقصد العقد على قمح مكيل بمكيال غير معلوم مقداره في المكيال الذي اعتادا به التبايع. فصار ها هنا القصد إلى التغارر لكون المبيع غير مرئي ولا مشاهد، حتى إذا كان مشاهدًا مرئيًا صار العقد على ما شاهد ورأى، لا العقد بمكيال مجهول. لكنه استثنى في المدونة، لما منع البيع بمكيال مجهول، بمكيال غير معروف من الأعراب لكون المكيال عندهم يتعذر وجوده، فعفي عن ذلك للارتفاق ورفع المشاق، مع كون هذا مجهولًا في نفسه. واختلف المذهب لو وقع التبايع بمكيال مجهول المقدار، هل يفسخ البيع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب حذف الواو. (¬2) في نسخة ب: ما بينهما.

أم لا؟ فذهب أشهب إلى أنه لا يفسخ، تقريبًا منه حكم هذا من أحكام الجزاف، والجزاف جائز كما قدمناه. ورأى غيره أنه يفسخ؛ لأن العدول عن المعتاد من المكيال إلى المجهول منها قَصْدٌ إلى الغرر والمخاطرة. وقد حاول بعض المتأخرين أن يجعل فيما حكيناه عن ابن المواز اضطرابًا في المذهب. هل منع شراء ملء قارورة وحل (¬1) غرارة لكونه جزافًا غير مرئي، أو لكونه تبايعاه بمكيال مجهول المقدار؟ وذكر الرواية الواردة يمنع أن يبيع منه قمحًا مكيلَ هذه الصبرة. وأجاز ذلك في سلة عنب أن تشتري سلة عنب مملوءة ويملأها له ثانية، وما ذلك إلا لكون العنب مما لا يكال. فلم يقصدا في اشتراطهما ملأها ثانية إلى البيع بمكيلة مجهولة، والقمح مما يكال. فإذا اشترى كيلًا مثل الصبرة المعقود عليها، صار (¬2) هذا كالعقد بمكيال مجهول. وهذا الذي قاله في الصبرة يفتقر إلى بسط، ولعلنا أن نبسطه في أحكام الصبر إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا استوى المتعاقدان في العلم بكيل المبيع لم يكونا عقَدا على جزاف. وإن استويا في الجهل بكيله كانا عقدا على الجزاف وإن انفرد أحدهما بعلم كيله فإنهما ليسا بمتجازفين فلا يجوز العقد على هذا عندنا. وأجازه أبو حنيفة والشافعي. ولا يخلو انفراد أحدهما بعلم ذلك: إما أن يشترط على المشتري أنه لا يخبره بما علم من مبلغ الكيل ويَكِله إلى حزْر نفسه أو يكتم أنه يعلم. ذلك ثم يطلع على ذلك بعد العقد. فأما إن اشترط عليه في أصل العقد أنه يعلم بالكيل ولا يعلمه بذلك، فإن البيع فاسد لأجل أنهما عقدا على مخاطرة وغرر. وقد نبهنا عليه فيما تقدم من كون المشتري إنما ينشط خاطره للشراء، ويعتقد أنه لم يغبن إذا علم أن البائع ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: وملىء غرارة. (¬2) في م: جاز.

منه إنما يعوّل على الحزر والتخمين كما عول هو عليه. حتى إذا علم أن البائع يعلم بالكيل حقيقة لم يجبر على العقد ولم يتق بحزره وتخمينه ويسبق إلى نفسه أن البائع لما علم أنه أخطأ في حزره على نفسه أنعم له بالبيع. وأما إذا لم يشترط العلم بذلك وكتمانَه، ولكنه اطلع على علم البائع بذلك بعد العقد، فإنه عندنا عيب في المبيع يكون للمشتري الخيار. إن شاء التزم البيع وإن شاء رده، لما نبهنا عليه من كون المشتري لم يدخل إلا على أن البائع معول على الحزر مثل ما عول هو عليه. وانفرد الأبهري ولم يَرَ هذا كالعيوب التي يكون للمشتري الخيار في الرد بها إذا اطلع عليها بل جعل ذلك مفسدًا للعقد كما يفسده اشتراط العلم وكتمانه. وأشار إلى أنه خطر وغرَرٌ بخلاف العيوب. والمعروف من المذهب أن هذا الحكم عندنا جار في انفراد علم المشتري بالكيل لجريانه في انفراد علم البائع به، وأن للبائع الخيار أيضًا إذا اطلع على انفراد المشتري بعلم ذلك. ورأيت بعض أصحابنا حكى فيه عن بعض أهل المذهب خلافًا. ورأى أن البائع لا خيار له؛ لأن الانفراد بالعلم كعيب يوجب الخيار كما قدمناه، لكون البائع أيضًا إنما دخل مع المشتري على أنه يساويه في الجهالة بمبلغ المبيع. وذكر القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب أن القاضي كان يعارض هذا ويراه كالممتنع في المذهب، لأجل قولهم: إن البيع يفسد إذا اشترط البائع أنه لا يذكر للمشتري ما علم، مع قولهم: إنه إذا اطلع على علمه بعد العقد كان بالخيار في الرد والإمضاء. وإذا قدروا انفراد البائع بعلم عيب يوجب للمشتري الخيار إذا اطلع عليه فإذا اشترطه في أصل العقد فينبغي أن لا يكون للمشتري مقال في صحة هذا البيع ولا في رده. كما إذا بين البائع العيب في أصل العقد. وأجاب القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب عن هذا بأنه غير ممتنع أن يكون الشيء يفسد العقد إذا قارنه ولا يفسده إذا اطلع عليه بعد العقد. كما قيل في بيع أمة مغنيّة: إنه إن اشترط كونها مغنية في أصل العقد فسد البيع، وإن لم يشترط ذلك ثم اطلع المشتري بعد العقد على كونها مغنية كان بالخيار في إمضاء العقد

أو رده بهذا العيب الذي هو كونها مغنية. وكذلك لو غصب سلعة وباعها مِمّن يَظُن أنها مِلْكُه، ثم اطلع على أنها مغصوبة، فإن البيع لا يفسد ويثبت فيه الخيار الذي نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. ولو شرط البائع كونها مغصوبة، ودخل المشتري على ذلك لفسد البيع. فأنت ترى كيف كان الاطلاع على هذه الأمور بعد العقد لا يؤثر في صحته. [والاطلاع (¬1) عليها في أصل العقد يؤثر في صحته]. وهذا الذي ذكره رحمه الله في شراء السلعة المغصوبة وشراء المغنية. نبسط الكلام فيه في موضعه، ونكتة الأمر فيه أن اشتراط هذا بها عددًا أو وزنًا، فقد علم من علم عددها مقدار ما يحصل بها من الأعواض. وعلمْه بذلك ربّما أغنى عن علمه بالوزن، ولم يفده العلم بالوزن شيئًا، فإذا انفرد العلم بهذا، صار المشتري أيضًا لم يدخل معه على أنه يعلم عددها فيعلم بذلك مقدار ما يحصل له من الأعواض، وإنما يدخل على أنه لا يعلم هو ولا البائع مقدار ما يحصل بها من الأعواض. فهذا مما ينظر فيه. كتمان ما علم من قيل الصبرة في أصل العقد يوقع في التخاطر والغرر الذي نبهنا عليه، والاطلاع على ذلك بعد العقد يدفع كون العقد وقع على غرر. وقد قال بعض المتأخرين: إن البيع لو كان له مبلغان يباع عليهما فعلم البائع أحد المبلغين دون المشتري وبايَعه على المبلغ الآخر جزافًا، فإن ذلك يجوز، ولا مقال فيه للمشتري. ومثَل هذا بدراهم تباع ببلد وزنًا وعددًا فباعها على الوزن مجازفة وهو منفرد نعلم العدد، ورأى أن المتبايعين لما استويا ها هنا في الجهل بالمبلغ الذي تجازفا فيه لم يكن في العقد قدح ولأ خيار. وهذا الذي قاله فيه نظر على التعليل الذي قدمناه. لأن الدراهم إذا كانت يتبايع بها عددًا أو وزنًا، فقد علم من علم عددها مقدار ما يحصل بها من الأعواض. وعلمه بذلك ربما أغنى عن علمه بالوزن، ولم يفده العلم بالوزن شيئًا. فإذا انفرد العلم بهذا صار المشتري أيضًا لم يدخل معه على. أنه يعلم ¬

_ (¬1) ما بين المعقفين ساقط من نسخة م.

عددها، فيعلم بذلك مقدار ما يحصل له من الأعواض. فهذا مما ينظر فيه. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: قد قدمنا أن البيع مجازفة فيه غرر رخص فيه للارتفاق ورفع المشاق. وما جرى على هذا الأسلوب يجب أن لا يوسع الغرر فيه إلا بمقدار مسيس الحاجة إليه. فإذا باع صبرة قمح منفردة أو صبرة قمح وصبرة تمر في عقد واحد وثمن متفق أو مختلف، جاز ذلك لما لّمس الحاجة إليه للمجازفة في هذين المكيلين القمح والتمر. فلو أضاف إلى صبرة القمح جنسًا آخر أو نوعًا منها، مكيلًا أو موزونًا، فإن هذا فيه اختلاف في المذهب، هل يجوز ذلك أم لا؟ فمن أجازه رأى أن الغرر لم يكثر بإضافة هذا المكيل إلى هذا الجزاف. ومن منع من هذا رأى أن المكيل معلوم مبلغه قطعًا، والجبزاف يظن مبلغه بالحزر. واجتماع معلوم ومظنون في عقد واحد يصير في المظنون تخاطرًا لم يكن فيه إذا انفرد، مع كونهما كحكمين مختلفين. وكذلك لو أضيف إلى المكيل ثوبًا أو عرضًا، فإن المذهب يختلف على دولين فيه أيضًا، كإضافة المكيل إلى الجزاف. وقد كنا قدمنا في كتاب السلم الأول التنبيه على إجازة ذلك في المدونة في مسألة من أسلم في شعير وثوب، وأنه أجاز في هذه المسألة اجتماع مكيل وعرض. وهذا قد وقع في كتاب ابن المواز المنع منه. وقد وقع لابن القاسم، فيمن باع صبرة على الكيل ومعها ثوب، أن ذلك لا يجوز إذا كان يأخذ جميع الصبرة على الكيل، لكونه لا يعلم مبلغها. فصار إضافة الثوب إليها يؤكد الغرر في هذا العقد. وأجاز ذلك أشهب، وهذا ليس ببيع صبرة على الجزاف ولكنها على الكيل. لكن الوقوف على مبلغ المكيلة (¬1) لم يتحصل فصار ذلك يثبت في العقد غررًا لما انضاف إليه ما سواه. وقد قال أبو حامد الإسفراييني: لا يجوز بيع صبرة قمح على الكيل، كل قفيز بدرهم على أن يزيده قفيزًا، إلا أن القفيز المشترط زيادته مقسط على سائر الأقفزة، وهو لا يعلم مبلغها؛ فصار كأنه اشترى قفيزًا ومعه شيء لا يوقف على ¬

_ (¬1) الكميّة في نسخة م.

حقيقته من القفيز المشترط زيادته. فتضمن هذا جهلًا بالمبيع فمنع. وقد أشرنا نحن إلى ما قاله ابن القاسم في بيع صبرة على الكيل ومعها ثوب وهو من هذا الأسلوب. لكن أبا حامد قال: وكذلك لو باع صبرة على الكيل، كل قفيز بدرهم واستثنى منها قفيزًا لم يجز ذلك. وأجرى النقص ها هنا مجرى الزيادة. فأما الزيادة فالذي علل به يتصور، وقد ذكرنا ما وقع في المذهب من هذا الأسلوب. وأما النقص فيفتقر إلى بسط. فإن قيل: إن المستثنى كالمشترى فإنه قد يتصور ما قال كما تصوره في الزيادة. وهذا إنما يتضح عند الكلام على المستثنى هل هو مبقى أو مشترى؟ قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويجوز تصديق المشتري للبائع في كيله إذا كان ينقد ويكره في النّساء. قال الشيخ رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة، منها أن يقال: 1) لم جاز التصديق في النقد؟ 2) ولم كُرِهَ في النساء؟ 3) وهل يجوز التصديق في السلم؟ 4) وهل يجوز التصديق في بيع الطعام بالطعام؟ 5) وهل تصديق البائع للمشتري كتصديق المشتري للبائع؟ 6) وإذا اختلفا في قدر المكيلة بعد التصديق القول قول من يكون منهما؟ 7) وإذا حَضَرَ المشتري الكيلَ هل له أن يطالب به البائع؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: إذا اشترى الطعام كيلًا بثمن نقد، فأراد المشتري أن يقبله بقول البائع: فيه من المكيلة كذا وكذا، فإن ذلك سائغ له. وذكر ابن حبيب أن القاسم بن محمَّد وغيره استثقل هذا، وأن كثيرًا من التابعين أجازوه. والظاهر عندي من مذهب الشافعية أنهم يمنعونه. وكان الشيخ أبو الحسن المعروف باللخمي رحمه الله يكره ذلك وإن كان الثمن نقدًا، ويرى أن الزمان فسد، وإباحة التصديق في هذا توقع المتبايعين في النزاع والمخاصمة والأيْمان،

وقد أمر الله سبحانه بالإشهاد في التبايع رفعًا للخصام والأيمان. وهذا الذي اعتل به يمكن أن يكون إليه نحا القاسم بن محمَّد. على أن مالكا رضي الله عنه ذكر في الموطأ أن هذا جائز في بياعات النقد. ثم أشار إلى أن المنع من ذلك في بياعات النساء حماية للذريعة فيما يتخوف من الربا (¬1). ثم قال: والذريعة في بيع النساء أبين. وهذا اللفظ ربما اقتضى أن في بيع النقد ذريعة ولكنها لا تَبيَّنُ كبيانها في بيع النساء. والذي نذكره من التعليل في بيع النساء قد يصلح إجراؤه في بيع النقد. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد ذكرنا في السؤال الأول ما أشار. إليه مالك رضي الله عنه في تعليل النهي عن التصديق في المكيلة في بيع النساء. وبسط كلامه أن الطعام إذا بيع نسيئة ربما اطلع المشتري على نقص في الكيل فيقف على ذكره والخصام فيه لئلا يسترد البائع طعامه، ويسيء اقتضاعه الثمن عند حلول الأجل، لأجل ما قدم المشتري من طلب حقه في النقص، فيتجافى المشتري عنه رجاء: في مسامحة البائع في الاقتضاء والتأخير في الأجل. فيكون تجافيه عن طلب هذا كهدية المديان وهي زيادة منه يرجو بها التأخير. فضارع ذلك ربا الجاهلية، وهو قولهم: تقضي أو تُرْبِي. مع أنه أيضًا أخذ مكيلة مجهولة المقدار عنده في حكم اليقين والقطع، ويمكن أن يكون أقل مما اشترى من الكيل أو أكثر، فيصير أخذ طعامًا في أكثر من الطعام الذي اشترى أو أقل. فضارع ذلك ربا الفضل (¬2). وهكذا رأيت أصحاب الشافعي عللوا أخذ الطعام من الغريم على التصديق بأن قالوا: أخذ ما لا يَدري هل هو مثل حقه أو أقل؟ فنهي عن ذلك لأجل هذا. وهذا التعليل يشير إلى ما قدمناه عنهم من أن هذا يجري في بيع النقد. ويكون هذا تعليلًا أيضًا لما حكيناه عن القاسم بن محمَّد وغيره. ¬

_ (¬1) الموطأ: 1971 ص، 20 ج 2. (¬2) والنِّساء في م.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: اختلف في التصديق في الطعام المسلم فيه. فأجازه في المدونة ومنعه في الموازية. فإذا عللنا، لما أشرنا إليه وبسطناه من تعليل مالك رضي الله عنه في بيع النساء، فإنه قد يجد نقصًا فيصفح عنه رجاء أن يؤخره بالثمن المؤجل، لم يطرد هذا في السلم لقوله: لا دين يبقى بينهما بعد قبض الطعام المسلم فيه. وأمّا إن عللنا برفع الخصام والأيْمان، فإنه يحسن النهي عن هذا في السلم وفي بياعات النقود (¬1) -على حسب ما قدمنا. ولكن بياعات النقود (1) - لم يختلف فيها من تقدم من أصحابنا كما اختلفوا في السلم. فيطلب في السلم معنى آخر، وما ظهر فيه وجه سوى أن الطعام المشترى فيه غير معين كما يكون في بياعات النقود (1) - وإنما يعطيه طعامًا من ذمته يطابق الصفة التي تواصفاها في أصل عقد السلم: فقد يعطيه أجود من الصفة التي يقضى بها عليه عند المشاحة. فإذا اطلع على النقص تجافى عنه لئلا يسترد الطعام الذي هو أجود مما له في ذمته فيقعان بذلك في الربا لأن الأخذ في السلم طعامًا أجود وأقل كيلًا لا يجوز. هذا حكم التصديق فيما في الذمة .. وأما التصديق في رأس مال السلم فاختلف الأشياخ فيه. فذكر عن الشيخين أبي محمَّد بن أبي زيد وأبي الحسن القابسي رضي الله عنهما أنهما أجازا دفع دينار في طعام على تصديق قابض الدين دافعه في وزنه. وإنما ينهى عن دفع الدينار بغيبر وزن ولا يعرفان وزنه، فيكون هذا جهالة في الثمن. أو كبيع الدنانير جزافا. وخالفهما غيرهما ونهى عن ذلك. وما أراه إلا أنه قدر أن قابض الدنانير قد يطلع على نقص فيه (¬2) فيتجافى عن طلبه رجاء أن يؤخره بالسلم. وقد قال الشيخ أبو القاسم بن الكاتب في الطعام المسلم فيه: إنه لو قدمه قبل الأجل لنهي عن التصديق فيه لئلا يقعا في: ضع وتعجل. فإذا اطلع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: النقد. (¬2) الملاحظ: عدم التوافق بين الضمير المفرد ومعاده: الدنانير؛ جمعًا.

على نقص صفح عنه لأجل تعجيل الدين قبل أجله. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: اختلف في المذهب في جواز التصديق في قيل الطعام إذا بيع بطعام آخر أو بودل به. فقال مالك: لا يجوز. وبه قال ابن كنانة. واختاره سحنون. وقال ابن القاسم وابن الماجشون: بل يجوز. واختاره أصبغ. وسبب الخلاف في هذا أنك قد علمت ما قدمناه في كتاب السلم الأول. أن من شرط بيع الطعام بالطعام المناجزة - قبل الافتراق. وهذان إذا تراضيا على أخذ الطعام بما يقوله البائع، فإن المشتري إذا اختبره بعوإلافتراق فاطلع على نقص خاصم فيه وطلب البائع به، فيكمله له، إن ثبت النقص، طعامًا، أو يرتجعه ثمنًا. فقد حصل الافتراق ولم ينقطع التعلق بين البائع والمشتري، فلم يحصل التناجز عند مالك. وحصل عند ابن القاسم، لأجل أنه لو لم يفارقه حتى اكتال الطعام لصح البيع باتفاق ولم يكن قدح. فكذلك إذا صدق المشتري البائع في الكيل، فإن ذلك يحل محل مشاهدة الكيل. ولهذا لم يصدق في دعواه النقص بعد الافتراق. وعلى هذا الأسلوب من التعليل جرى اختلاف المذهب في التصديق في الصرف في مبايعة الدنانير بالدراهم. ومن هذا المعنى ما وقع من الاختلاف في الطعام إذا قبضه المشتري على تصديق البائع في كيله ثم أراد أن يبيعه في الحال قبل أن يغيب عليه، فإن مالكا رضي الله عنه منع من ذلك حتى يغيب عليه، وأجازه ابن القاسم. جَرْيًا من مالك على التعليل الذي ذكرناه من كون التصديق لا يقطع التعلقال في بين البائع والمشتري في هذا المبيع، لكونه يذهب به فيختبره فإذا وجد نقصًا طلب به فلم يحصل القبض على التمام. ورأى ابن القاسم أن التصديق يحل محل مشاهدة الكيل، ولو شاهد الكيل وقبضه بعد أن اكتيل عليه لم يُمنع من البيع وإن لم يغب

عليه، فكذلك إذا قبضه على التصديق وإن لم يغب عليه. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا دفع البائع الطعام، ووكل كيله للمشتري، وصدقه فيما يزعم أنه وجده فيه من الكيل، فإنه لا يخلو ذلك أن يكون يتأخر فيه الكيل المدة الطويلة، أو إلى غاية بعيدة يبلغها، أو يكتاله المشتري بعد مضي زمن قريب من العقد. فإن اشترط تأخير الكيل زمنًا طويلًا فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الطعام في ضمان بائعه حتى يكتال. وبيع المعينَّ بشرط أن يبقى في ضمان البائع أمدًا طويلًا لا يجوز. وقد قدمنا ذلك فيما مضى وأشرنا إلى علته. [وإذا اشترط الكيل إلى أمد قريب من العقد، ارتفعت هذه العلة فلم يمنع (¬1)]. وإن اشترط الكيل إلى أمد قريب فلا يخلو أن يشترط المشتري أنه إن وجد نقصًا رجع بمقداره من المبيع، أو بمقداره من الثمن .. فإن شرط الرجوع بمقداره من المبيع، وكان ما يرجع به حاضرًا عند البائع، وهو من الجملة التي باع ما قبضه المشتري منها، فإن ذلك جائز. إذ لا مانع يمنع من هذا حتى إذا لم يكن ذلك عند البائع، صار ذلك من بيع ما ليس عندك. وإن شرط المشتري أنه ينحط عنه مقدار النقص من الثمن، فإن كان لم ينقد البائعَ جاز ذلك، إذ لا مانع أيضًا يمنع من هذا الاشتراط. وإن كان قد نقد البائع، وعقدا البيع على هذا، فإن ذلك لا يجوز، لجواز أن يجد نقصًا فيسترد بعض ما نقد من الثمن، ويكون ذلك بيعًا وسلفا. إلا أن ينقد من الثمن ما يُومَنُ معه رد شيء منه، للعلم بأن ما قبض يقابل ما دفع من الثمن ويربي عليه. وقد وقع في المدونة لابن كنانة النهي عن هذا من غير تفصيل، وأشار إلى أنه يكتب عليه ذكر الحق بما لم يتحصل عليه يقينًا. قال: وفيه وجه آخر وأبواب من الفساد. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط في (م) وهو أقرب للصواب.

وتعليله بأنه يكتب ما يمكن أن يسقط عنه بعضه ليس من العلل اللازمة؛ لأنهما قادران أن لا يكتباها وثيقة بهذا الثمن، أو يكتباها ويشيرا فيها إلى أن الثمن لم يتحقق وجوب جميعه. لكن قوله وأبواب من الفساد [أن] (¬1) أشرنا نحن إليه في هذه التفاصيل الممنوعة فهو مما بيَّنّا. ولكن لا يحسن إطلاق الجواب في مواضع يجب فيها التفصيل. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا قبض المشتري الطعام على تصديق البائع في كيله، ثم زعم أنه وجده ناقصًا، فإن شهدت بينة تصديقه (¬2) رجع بالقبض مكيلة، إن كان المقبوض طعامًا في الذمة أو طعامًا معينًا من صبرة قد بقي بعضها. وإن كان طعامًا قبض جميعه، فإنه يرجع بمقدار النقص ثمنًا. وإن لم تشهد بينة بصدقه فإن القول قول البائع. ومذهب الشافعي أن القابض إذا صدق غريمه ثم ادعى نقصًا أن القول قول القابض، لأجل أن الطعام في ذمة البائع، وحق عليه يجب أن يوفيه. ونحن على شك: هل صدق في التوفية أو كذب، فلا يبرأ من حق وجب عليه بالشك. ونحن نقول: إذا صدّق البائعَ في كيله فقد أقر بخلو ذمة البائع من حقه فليس له تعميرها بعد إقراره بخلوها من حقه. لكن رأيت أبا حامد الاسفراييني ذكر أنه إذا كانت لزيد على عمرو عشرة فوزنها له، فلما انصرف بها زيد زعم أنه وجدها تسعة، فحكى عن مالك أن القول قول القابض. وعن أبي حنيفة أن القول قول البائع. وحكى عن مذهبهم قولين، وقال: إن الصحيح منهما أن القول قول الدافع. قال: وبه أُفْتِي. وهذا الذي ذكره عن مالك بعيد من أصوله. وما حكاه (عنه (¬3) أحد) من أهل المذهب. ويعتل لأحد القولين عندهم في تصديق القابض بما قدمناه من ¬

_ (¬1) ساقطة من م. ولعلّه أولى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بتصديقه. (¬3) في الأصل وفي. م: عنه أدّته. وصوّبناه: عنه أحد.

كون ذمة الدافع عامرة فلا يصدّق في خلوها إلا ببيان. ولم يختلف القول عندهم في العيب فيما قبض أنه لا يصدق، وفي كونه وجد الدراهم زيوفا؛ لأن هذا دعوى عيب في المقبوض والظن (¬1) السلامة منه. وذكر أيضًا أنهم يمنعون بيع الطعام المقبوض على التصديق، واعتل بما عللنا به مذهب مالك رضي الله عنه من كون المعلق لم ينقطع، فصار القبض لأجل هذا قبضًا ليس بتمام. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: ذكر أصبغ: أن من اشترى طعاما ذكر له البائع كيله أن هذا لا يدفع عن البائع ما وجب عليه من كيله للمشتري، وأن العقد على ما ذكر من هذا ليس بتصديق من المشتري للبائع. لكن لو صدق المشتري البائع والتزم أخذه على التصديق للبائع، فإنه قد سقط حقه في وجوب الكيل على البائع. ولو حضر المشتري قيل هذا الطعام على البائع منه، لكان من حقه أن يطالب البائع بأن يكيله عليه لأجل حقه أنه يضمنه له حتى يكتال، ولأنه قد يكون البائع سامح من المُشْتَرِي منه مسامحة لا يرضى بها هذا المشتري الذي حضر الكيل، فإذا صدق البائع والتزم أخذه على التصديق، لم يُمَكَّنْ من الرجوع عن ذلك لما يتعلق للبائع من فائدة في هذا التصديق وهو سقوط الضمان عنه، ومنع المشتري أن يشاحّه في الكيل ويطلبه بالنقص. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله. وإذا اختلف المتبايعان فلا يخلو اختلافهما أن يكون إلى (¬2) ما يؤدي إلى فساد في العقد أو إلى نَفْي لزومه أو إلى سقوط بعض حقوقه. فإن كان ¬

_ (¬1) والظّاهر في م. (¬2) فيما في الغاني: فيما.

اختلافهما (مما) (¬1) يؤدي إلى فساد العقد مثل أن يقول أحدهما (¬2) بعت لك هذه السلعة ولم ترها ولم أصفها لك أو بثمن إلى أجل مجهول (¬3) وما أشبه ذلك، ويدعي الآخر أنه قد رآها ووصفت له وأن الأجل في الثمن معلوم، فالقول قول مدعي الصحة منهما مع يمينه. وإن كان اختلافهما فيما ينفي اللزوم مثل أن يدعي أحدهما أنه شرط الخيار لنفسه وينكر إلآخر ذلك، فالقول قوْل من ينكر، وعلى مدعي اشتراطه البينة. وإن كان ذلك في حق من حقوق العقد فإن كان ذلك في عين الثمن وجنسه تحالفا وتفاسخا. وإن كان في مقداره فالأظهر من المذهب أنه إن كان قبل القبض تحالفا وتفاسخا. وإن كان بعده فالقول قول المشتري مع يمينه (¬4). وإن كان الاختلاف في قبض الثمن رُجِع إلى العرف في موضعهما وحلف من يشهد له العرف منهما. وإن لم يكن عرف فالقول قول البائع مع يمينه. قال الشيخ رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة منها أن يقال (¬5): 1) الاختلاف في الأعواض يكون في الماهية والكمية والكيفية والزمان والمكان والايصال والأحكام، 2) فالماهية اختلاف المتبايعين في جنسين، مثل أن يقول البائع: بعتك بمائة دينار مائة قفيز تمرًا، ويقول المشتري: بل اشتريت منك بها مائة قفيز قمحًا. 3) والاختلاف في الكمية أن يقول البائع: بعتك ثوبي هذا بعشرة دراهم، ويقول المشتري: بل بعته منّي بثمانية دراهم. ¬

_ (¬1) في الغاني: فيما. (¬2) ساقطة في الغاني. (¬3) أو في الغاني: أو. (¬4) مثبتة في الغاني ساقطة من الأصل ومن م. (¬5) لم يذكر النص الأسئلة على عادته. وكذلك دخل في الجواب عن السؤال الأول. دون ذكر ما اعتاده من قوله: والجواب عن السؤال الأول.

4) والاختلاف في الكيفية أن يقول اليائع: أسلمت إليَّ عشرة دنانير في عشرة أقفزة محمولة، ويقول المشتري: بل بعته منّي إلى شهرين، أو يقول البائع: بعته منك بثمن حالٍّ، ويقول المشتري: بل إلى شهر. 5) والاختلاف في المكان، مثل أن يقول البائع: أسلمت إليّ في عشرة أقفزة قمحًا نأخذها بمكة، ويقول المشتري: بل بالمدينة. 6) والاختلاف في الأيصال أن يقول المشتري: دفعت الثمن، ويقول البائع: لَم أقبضه، أو يقول البائع: سلمت لك السلعة، ويقول المشتري: لم تسلمها إليّ. 7) والاختلاف في الأحكام أن يقول المشتري: عقدنا حلال ويقول البائع: بل حرام. فكان مقتضى هذا الترتيب أن نبدأ بالكلام على اختلافهما في الماهية، وهي قوله: ما الشيء، قبل الكلام في الكمية وهي قولنا (...) (¬1) كيف الشيء؟ وللسؤال عن الماهية قبل الكمية والكيفيّة، وهو قد بدأ فيها بالكلام في الاختلاف في الكمية. واعلم أنّ اختلاف المتبايعين (¬2) لا يخلو أن يختلفا في ذلك والسلعة بيد البائع (¬3) أو قبضها وانصرف بهالأولم تتغير في نفسها ولا سوقها أو تغيرت (¬4) أو سوقها. فهذه الأربعة أقسام في كل قسم في المذهب عندنا قولان، هل يجب (¬5) أو يصدق فيه المشتري سوى اختلافهما (¬6) والسلعة في يد البائع فإنه لا خلاف عندنا وعند فقهاء الأمصار أن الحكم التحالف والتفاسخ. وذهب أبو ثور إلى أن القول ¬

_ (¬1) بياض في الأصل وفي م. ولعلّ تقديره: ما هو الشّيء. (¬2) بياض في الأصل وفي م. (¬3) بياض في الأصل وفي م. ولعل الساقط: أو بيد المشتري. (¬4) بياض بمقدار كلمة في النسختينء ولعلّ الساقط: في نفسها. (¬5) بياض في النسختين، ولعله: أن يصدق فيه البائع. (¬6) هكذا في النسختين.

قول المشتري في مقدار الثمن. وهذا نوع يضبط به الخلاف في هذه المسألة. وإن شئت أن تقول: في المذهب خمسة أقوالذي هذه المسألة: أحدها: أنهما يتحالفان ويتفاسخان فا لم يقبضها المشتري. وإذا قبضها صُدق في الثمن. والقول الثاني: أنهما يتحالفان ويتفاسخان إلا أن يَبِينَ بها المشتري فيصدق. وهذه الرواية مذكررة عن مالك في كتاب المكاتب من المدونة. ويشير بعض الأشياخ إلى أن قوله في كتاب الرواحل والدواب حكايته عن قول غير ابن القاسم إذا قال: بعت منك بهذه المائة التي قبضتها مائة إردبّ إلى سنة. وقال المشتري: أكثر من ذلك. أن قوله: بهذه المائة، يشير إلى أنهما لم يفترقا حتى اختلفا؛ ولم يجعلهما يتحالفان ويتفاسخان. وهذا التعليل إن كان هو الذي أراد بما أشار إليه في كلامه فإن فيه احتمالًا وقد يكون افترقا ثم عاد القابض فأشار إلى المائة وخالف في المشتري بها. والقول الثالث: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبضها المشتري وبأن بهما، إلا أن يفوت بتغير سوق أو بدن فيكون القول قول المشتري. هذه رواية ابن القاسم عن مالك، وبها أخذ ابن القاسم، وهي مذهب أبي حنيفة وتبعه تلميذه القاضي أبو يوسف. والقول الرابع: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن فاتت. روى هذا أشهب عن مالك، وبه أخذ أشهب، وهو مذهب الشافعي، وتابعه محمَّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة. وهذا المذهب الذي كان يفتي به شيخنا رحمه الله، وأنا أمَّتي به أيضًا. والقول الخامس: أنهما يتحالفان ويتفاسخان إذا كانت السلعة قائمة وادعيا جميعًا ما يشبه. فأما إن ادعى أحدهما ما لا يشبه وادعى الآخر ما يشبه، فإن الذي ادعى ما يشبه هو المصدق فصار هذا قولًا خامسًا إذا ادعى أحدهما ما يشبه والآخر ما لا يشبه. فأما إذا ادعيا جميعًا ما يشبه فليس في المذهب سوى

الأربعة أقوال التي ذكرنا. وسبب هذا الخلاف تعارض آثار وطرق أعيان. فأمّا الآثار فإنه عليه السلام قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" (¬1) وهذا وإن لم يرد فيما نحن فيه من هذه المسألة فإن عمومه يحسن أن ينطبق عليها، فيقول مالك في أحد أقواله، والشافعي الموافق له على هذا القول: كل واحد من هذين المتبايعين مدع ومدعى عليه، فالمشتري يدعي البائع عليه زيادة في الثمن، فإذا قال البائع: بعتك هذه السلعة بمائة، وقال. المشتري: بل بخمسين فلا شك أن المشتري مدعى عليه بخمسين وهو ينكرها، فعلى البائع البينة لكونه هو المدعي لها، وعلى المشتري اليمين في إنكارها. وكذلك حال البائع فإنه مدعى عليه أنه باع سلعة بخمسين، ونقل ملكه عنها بهذا المقدار، وهو يقول: لم أبعها إلا. بمائة، وإنما نصفها هو المبيع بخمسين، والملك قد ثبت في الأصل له، فهو مدعى عليه فيه فيكون القول قوله فيما أنكر من ذلك، وعلى المشتري المدعي (¬2) أن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه. وقد ورد هذا الحديث (¬3) هذا تحليفهما جميعًا على ما أنكراه وتبقى كل منكر مصدقًا فيما أنكره (¬4) يقتضي الفسخ. وهذا التصوير واضح معقول المعنى وواضح دخوله (¬5) عند من قال بالعموم. وإذا تقرر هذا التصوير واشتمال الحديث عليه، فهذا في حال فوت السلعة على حسب ما تصور في قيامها من غير فرق بينهما (¬6) التحالف والتفاسخ وإن فاتت السلعة. ويعضد هذا الاستدلال الاتفاق على أن رجلًا إذا قال لآخر: بعت منك سلعتك بكذا وكذا، ¬

_ (¬1) فتح القدير: 3/ 225 حديث: 3226. (¬2) بياض في النسختين مقدار ست كلمات. (¬3) بياض في النسختين مقدار ست كلمات. (¬4) بياض في النسختين مقدار ست كلمات. (¬5) بياض في النسختين مقدار ست كلمات. (¬6) بياض في النسختين مقدار ست كلمات.

وقال صاحب السلعة: لم أبعها منك أصلًا، فإن القول قول صاحبها في إنكار بيعها جملة، فكذلك إنكاره في بيعها، إلا على الصفة التي ذكرها. وأيضًا فإنهما لو اختلفا في جنسين لتحالفا لأن البائع إذا قال: بعت منك تمرًا، وقال المشتري: ما اشتريت منك إلا قمحًا، وكل واحد منهما ينكر صاحبه فيحلف على ما أنكر، فكذلك اختلافهما في الثمن لأن البيع بمائة غير البع بخمسين، فصار ذلك كعقدين مفترقين اختلفا فيهما، فلابد من تحالفهما، فيحلف كل واحد منهما على ما أنكر من العقد الذي ادعى عليه به. على أن هذا قد يجاب عنه بأن يقال: هما متفقان على أن لم يكن بينهما سوى عقد واحد، فلم يتضمن اختلافهما (سواه عزى) (¬1) البائع على المشتري عمارة ذمته بدراهم لم يقر بهما فيجب تصديق المشتري المدعى عليه وهذا المعنى الذي قاد أبا ثور إلى أن جعل القول قول المشتري بمجرد اتفاقهما على أن العقد قد وقع، ويزعم أنهما متفقان على أن الملك انتقل للمشتري وما اتفقا عليه لا يقدر فيه تحالف بينهما. وإذا علم من ناحية العقل، عند تتبع أصول الشرع، أن اليمين إنما يكون فيما اختلفا فيه لا فيما اتفقا عليه، وعُلم ها هنا أنهما متفقان على انتقال الملك لم يتصور بينهما الاختلاف إلا في تعمير ذمة المشتري بدراهم، وهو ينكرها، فيصدق في إنكاره. وكذلك أيضًا يجاب عن استبعاد حال الفسخ مع القيام، وإسقاطه مع الفوت؛ لأن المطلع على عيب فيما اشتراه له الفسخ مع قيام السلعة، ولا فسخ له مع فوتها، وإنما له الأرش. وينفصل عن هذا بأن العيب الغرض منه استدراك المشتري ظلامة ظلم بها، فمنع (¬2) القيام يتجه استدراكها بالفسخ، ورد المبيع، ومع الفوت يتجه استدراكها بأخذ قيمة العيب، إذ لا يتصور استدراك ظلامة في رد قيمة السالم من هذه السلعة، بل ربما كان في هذا ضرر عليه، والتحالف في اختلاف المتبايعين في اليمين ليس طريقه طريق ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: سوى ما ادّعى. (¬2) هكدا في النسختين، ولعل الصواب: فَمَعَ.

استدراك الظلامة، ولا يعرف مَن الظالم منهما فلا ترتفع الظلامة إلا بأن تراث (¬1) العقد ويفسخاه. هذه طريقة من رأى الفسخ وإن فاتت السلعة قد أبّنا وجه الحجة فيه من جهة الأثر وطرق العِبر، وأدرجنا في ذلك قول أبي ثور وهو طرف نقيض مع هذا المذهب؛ وما سوى هذين من أهل المذاهب المذكورة يتعلقون أيضًا بأثر آخر وهو ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه باع من الأشعث شيئًا فاختلفا في ثمنه فحكم المشتري ابن مسعود في المسألة، فقال ابن مسعود: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان" (¬2). وفي بعض الروايات في هذا الخبر تقييد بقوله: والسلعة قائمة. ودليل هذا الخطاب يقتضي أنهما لا يتحالفان مع فوتها، مع القول بإثبات دليل الخطاب، ويكون هذا المستفاد من دليل الخطاب مخصصًا لعموم قوله "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" (¬3). وهذا ينظر فيه من جهة أصول الفقه، من القول بدليل الخطاب. وفي تخصيص العموم بدليل الخطاب اضطراب. وهذا مبسوط في كتب أصول الفقه. على أن الحديث قدح في سنده، وذكر أنه مرسل. لكن قد روي أنهما إذا كانت السلعة قائمة؛ وإن فاتت فالقول قول المشتري. وروي إذًا اختلف المتبايعان أستُحلف البائع، فلو ثبت قوله: فإن استهلكت فالقول قول المشتري، لم يكن هذا تخصيصًا بدليل الخطاب. وروي أنه عليه السلام قال: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار" (3) ولم يذكر في هذه الرواية أنهما يترادان. وأما الرواية التي فيها "ويترادان" فإنها أيضًا تؤكد الرواية المشترط فيها قيام السلعة؛ لأن الترادّ تفاعل إنما يكون بين إثنين، وهذا لا يتصور إلا مع كون السلعة قائمة يتأتى ردها ويرد الآخر الثمن، فيكون ترادًا. وأمّا إذا فاتت فإنما يرد المشتري القيمة، وليست القيمة هي عين السلعة، فينطلق ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأن يترادَّا. (¬2) البيهقي ح 5 ص 233/ 333. (¬3) نصب الرية ح 4 ص 95 وإرواء الغليل ج 6 ص257

عليها حقيقة قوله "ويترادان". فهذا طريقة من منع من التحالف مع الفوت. لكن ما قيل عندنا: إن قبض المشتري يوجب تصديقه وإن لم ينصرف بالسلعة، إنما صار إلى ذلك من قال به، لأجل أنه ترجحت عنده جهة المشتري بالقبض؛ لأنها لو هلكت في يديه بعد قبضها لضمنها، وضمانه إياها يوجب قوة جهته في هذا الاختلاف. كما قيل: إن من باع سلعة من واحد ثم من آخر، أن الآخر أحق بها إذا قبضهلالأجل ضمانه لها أيضًا، فإن تسليمها للمشتري كالائتمان له على الثمن، لكن القول الآخر أنه إنما يصدق إذا بأن بها، قدر حقيقة الائتمان في الثمن إنما يتصور إذا ترك البائعُ المشتريَ ينصرف بها، ثم يطلبه بالثمن، ولعل اشتراط الانصراف بها التفاتٌ لقول من قال: المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا. فكأن البيع لم ينعقد إلا بالافتراق. وأما من ذهب إلى تصديق من ادعى ما يشبه مع قيام السلعة، وهو مذهب مطرف وابن الماجشون واختاره أصبغ، وحكى ابن المواز عن أشهب في اختلافهما في المقدار والجنس: أنه إن عرف صدق أحدهما وكذب الآخر كان القول قول من عرف صدقه. وهذا موافقة لما حكيناه عن هؤلاء، وهو الذي يسبق إلى النفس عند اعتبار أصخول المذهب؛ لأن المذهب مبني على تصديق من شهد بصدقه العرف والعاهة (¬1)، كما قالوا في اختلاف الزوجين في متاع البيت: إن ما يعرف بالرجال دون النساء يكون للرجل، وما يعرف للنساء دون الرجال يكون للمرأة. واستدل على ملك الحائط الفاصل بين دارين بما تدل عليه العوائد من شواهد القُمُط وغيره (¬2)؛ فكذلك إذا اختلفا في الثمن يجب أن يصدق من ادعى الثمن الذي الغالبُ التبايع به، دون من ادعى ما لا يتبايع به غالبًا في تلك السلعة. ومن خالف هذا المذهب من أصحابنا يرى أن العوائد إنما تجعل أدلة على التصديق عند التنازع إذا لم يترجح أحد المتنازعين على صاحبه بدلالة ينفرد بها؛ والبائع ها هنا قد ترجح جانبه، فإن مِلْك السلعة سابق لهْ وهو يُدَّعَى عليه أنه انتقل عنه بثمن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والعادة. (¬2) هكذا في النسختين، والأوْلى: وغيرها.

ينكر البيعَ به، فصار دلالة سبق ملكه وحيازته أَرجَحَ من دلالة العرف، لا سيما إن ثبت الحديث بإيجاب التحالف عند التنازع، على حسب ما قدمناه عند ذكرنا الأحاديث. فإنه إن ثبت لم يعدَل عنه، ولم يردّ شواهد أصول قد أُرسِيَ وجة القدح في التعلق بها. وبعض أشياخنا يشير إلى أن هذا الاختلاف في تصديق من ادعى ما يشبه إنما يتصور إذا كانت دعوى من ادعى ما يشبه مما يمكن، لكن الغالِبَ خلافها. وأما إذا كانتْ من الوضوح في الاستبعاد تكاد تلحق بالمحال، فإنه لا يختلف ها هنا أن من ادعى ما لا يمكن، لا يصدق، بل يصدق صاحبه، كمن زعم أنه اشترى سلعة قيمتها ألف دينار بدينار، وهو والبائع عارفان بالقيمة، فإن هذا يكاد يلحق بما لا يمكن، بل يلحق بمن أقر بالبيع والشراء وكتم الثمن، فإنه يصدق من ادعى معرفة الثمن، ويختلف في استحلافه. وقد أشار بعض الشيوخ إلى أن الذي تقرر من الروايات عن مالَك ثلاث روايات: 1) تصديق المشتري إذا قبض السلعة وبأن بها. وأن هذه رواية ابن وهب. 2) وتصديقه إذا فاتت بحوالة سوق أو تغيُّر بدنٍ .. 3) والتحالف وإن فاتت. وهذه الثلاث روايات رواها اين القاسم بن مالك. وغيرُه يشير إلى أنها أربع روايات، وأن ابن وهب روى عنه: أن المشتري إذا قبضها صدّق. فهذا ضبط الخلاف والكشف عن الطرق التي من أجلها وقع الخلاف. وإذا وضح لك الحكم في الاختلاف في مقدار الثمن المقصود منه النزاع فيما يجب على المشتري فلنذكر الاختلاف في الثَّمن المقصود منه ما يجب على البائع رده. وذلك يكون بثلاثة وجوه: أحدها أن يكون بفساد عقدهما ورد الثمن المقبوض، فيقول البائع: إنما كان الثمن ثمانية دنانير وهي التي قبضتُ. ويقول المشتري: بل عشرة، وهي التي دفعتُ إليك. فها هنا يصدق البائع لأن العقد منحلّ، فصار محصول هذا التنازع أن المشتري يدعي على البائع دينًا يستحق أخذه منه، والبائع ينكر ذلك، والمنكر هو المصدق مع يمينه.

والثاني: أن يختلفا في الثمن فيتحالفان ويتفاسخان، ويدعي المشتري على البائع أنه دفع إليه أكثر مما أقر به البائع، فيصدق البائع ها هنا أيضًا، لكون المشتري يدعي دينًا عليه وهو ينكره. والوجه الثالث: أن يتقايلا في بيع صحيح، ويختلفا في الثمن، فها هنا قال في المدونة: إذا تناقضا السلم واختلفا في رأس المال، فالقول قول البائع. وهذه مسألة تنازع الأشياخ في تأويلها، فقال بعضهم: محمل هذا الذي ذكر في المدونة على أنهما تناقضا البيع لكونه منقوضا في الشرع لأجل فساده، فيكون القول قول البائع، لما قدمناه في القسم الأول، ولا يكون في المسألة تعقّب؛ لأن العقد منتقض وردّ ما نقض واجب، والقول قول غارمه. وأشار بعضهم إلى أن قوله: تناقضا السلم؛ ظاهره أنها إقالة وقعت باختيارهما؛ لأن قوله: تفاعلا، يقتضي أن كل واحد مثهما دخل في العقد كما دخل فيه الآخر باختياره، كما يقال: تضاربا وتقاتلا. لكن حمل المسألة على أنها إقالة يكون قوله: تناقضا السلم، يشير إلى كونها إقالة تتعقب، لقول سحنون: إذا أسلم إليه في طعام فتقايلا واختلفا في رأس المال أن الإقالة منفسخة. وقال بعض الأشياخ إنما ذكر سحنون كونها منفسخة لأجل النزاع في الثمن الذي وقع به العقد (¬1) بحكم التقايل بل رده يفتقر فيه إلى خصام وترافع إلى الأحكام (¬2)، ومن شرط الإقالة في السلم أن يتناجزا في رأس المال، ولا يجوز تأخيره ولا تأجيله لئلا يقع في فسخ دين في دين، وهذا التعليل الذي عللوا به ما قاله سحنون إنما يطرد حيث لا يحضر الخصمين الحكام؛ فلو صورت المسألة في مختلفين في رأس المال وقد تقايلا، والحاكم حاضر يقضي بينهما في الحال من غير تأخير، لبطل هذا التعليل، ومن حق التعليل أن يكون متصورًا في سائر فروع المسألة وأحوالها. فإذا وضح ارتفاع هذه العلة حيث يحضر الحكام لا سيما أن التأخير ها هنا بغلبة أحدهما وجحوده الحق، فيصير الآخر مغلوبًا ¬

_ (¬1) فراغ بالنسختين مقدار كلمة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحكام.

على ترك التناجز. وسنذكر الغلبة على المناجزة في الصرف في موضعه إن شاء الله. تطلبنا النظر في وجه آخر قد تُعقَّب به المسألة. وذلك أن الإقالة في الطعام على أقل من رأس المال لا تجوز لكونها بيع الطعام قبل قبضه، والشرع إنما رخص في الإقالة لكون الثمن إذا رُدّ على ما هو عليه صار ذلك حَلاّ للعقد الأول، فإذا رد أقل من ذلك أو أكثر، صار ذلك ابتداء بيع الطعام قبل قبضه، فلم يجز ذلك. فيقتضي هذا كون الإقالة فاسدة على مقتضى دعوى المشتري؛ لأنه يقول: أسلمت عشرة دنانير في طعام، ثم أقلْتُ منه، ومن شرط إقالتي وجوازها كوني لا آخذ أقل من رأس المال، (فإذن قضيتم عليّ بإمضاء الفساد وإِتمام ما لا يجوز على مقتضى قولي) (¬1). وهذا التعقب دعا بعض الأشياخ إلى أن قال: يمكن أن يكون ما وقع في المدونة المراد به أن السلم وقع في عروض، والعروض يجوز بيعها قبل قبضها، والإقالة على أقل من رأس المال. فلهذا لم يشر في المدونة إلى تعقب المسألة من جهة دعوى المشتري، ويتضمن دعواه كون فعلهما فاسدًا. ويشير أيضًا إلى أن الإقالة وقعت على الصحة والجواز، وإنما تعاقدا على لأرأس المال لا أكثر ولا أقل. فبعد فردت (¬2) الإقالة الصحيحة جحد البائع بعض الثمن فلا يؤثر ذلك في صحة الإقالة. وهذا قد يجاب عنه بأن الإقالة ها هنا يعتبر مع صحة عقدها صحة التقابض فيهلالما قدمناه من منع تأخير رد رأس المال وإن لم يشترط في أصل الإقالة تأخيره. وإذا كان القبض فيها معتبرًا والعقد موقوفًا على صحته اقتضى ذلك تعقب هذه الإقالة من جهة دعوى المشتري، لكونها تتضمن أن كونه فاسدًا لا يجوز العقد عليه، لكن لا يجب تصديقه في الفساد مع دعوى البائع ¬

_ (¬1) في الكلام اضطراب، ولعل الصواب: فإذا قضيتم عليّ على مقتضى قولي فقد قضيتم بإمضاء الفساد وإتمام ما لا يجوز. (¬2) هكذا في النسختين.

صحة الإقالة، إذ المختلفان في صحة العقد وفساده لا يصدق مدعي الحرام ويكذب مدعي الحلال، على ما سيرد بيانه. وإذا لم يجب تصديق المشتري على البائع وجب أخذ كل واحد منهما بمقتضى قوله، فيترك البائع وما هو عليه لكونه لم يقرّ على نفسه بفساد. ويقال للمشتري: أنت أقررت على نفسك بفساد الإقالة، وإذا فسدت وجب ردّكما إلى انعقاد السلم على ما كان عليه، فيوقف المقبوض من الثمن حتى يحل الأجل فيشتري له مثل مالَه في ذمة البائع من السلم، فإن وفَّى فلا مطالبة له ولا عليه، وإن قصر ما قبض على ثمن ما لَه في الذمة من السلم، كان ذلك جائحة عليه لكونه لا يصدق على البائع لما قدمناه. وإن فضلت فضلة مما قبض، بعد أن اشتريت له المكيلة التي له في الذمة، كانت تلك الفضلة على قوله للبائع توقف له حتى يرجع إلى تصديق المشتري، فيأخذها أو يتصدق بها. وقد أشار بعض الشيوخ إلى ما قدمناه من حمل مسألة المدونة على أن الإقالة كانت صحيحة لقوله: تناقضا السلم؛ وأنه قد يمكن أن يكون ذلك في العروض فلا يكون في المسألة تعقب، أو في الطعام فيعتبر يكون الإقالة انعقدت على الصحة، ووقع الجحود بعد ذلك. لكنه بعد هذا أشار إلى أنهما في الإقالة الصحيحة يتحالفان ويتفاسخان. وأشار بعض أشياخي إلى أن التحالف والتفاسخ هو البخاري على أصل ابن القاسم، على حسب ما يراه في اختلاف المتبايعين في الثمن، وأن القول قول البائع، كما ذكر في المدونة على رواية من يرى أن القبض فوت؛ لأن البائع قابض لرأس المال ولما عليه من السلم. وهذا عندي يستند إلى أن الإقالة كابتداء بيع فيجري فيهما من الخلاف ما قدمناه، أو الإقالة حلّ بيع فيصدَّق الغارم، وهذا مما ينظر فيه.

وإذا تقررت أحكام الاختلاف في الثمن فإن الاختلاف في المثمون جار عليه، إذ لا فرق ها هنا بين ثمن ومثمون، بل كل واحد منهما ثمن لصاحبه ومثمونًا له، لكن العرف بتسمية الدنانير والدراهم ثمنًا، والعروض والمكيلات والموزونات مثمونات. ومع هذه فإن البيع في هذه المثمونات ربما كان نقدأوربما كان نساء. فأما إذا كان نقدًا فمثال إجرائه على ما قدمناه من الاختلاف في التنازع في الثمن أنه لو باع ثيابًا معينة من رجل وهي عشرة، فقال البائع: بعتك منها تسعة بمائة دينار، وهذا العاشر باق على ملكي. وقال المشتري: بل اشتريت العشرة كلها بالمائة دينار. فإن الثوب العاشر، الذي لم يقر البائع ببيعه ولا انتقال ملكه عنه، هو مصدق فيه، والمشتري مدع عليه أنه باعه منه. ومن ادعى على رجل أنه باع منه ثوبه فإن القول قول صاحب الثوب: إني لم أبعه، باتفاقٍ. وهذا الحكم لا يتغير في هذا العاشر بكونه مضافُ اإلى التسعة أثواب أخر. وأما التسعة أثواب فإنها إذا كانت قائمة في يد البائع، لم يقبضها المشتري، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان، لكونهما مختلفين في ثمنها، فالمشتري يقول: إنا نحب أن ندفع في السلعة تسعين دينارًا؛ لأني اشتريت عشرة بمائة، فكل ثوب ثمنه عشرة. والبائع يقول: بل ثمن السلعة مائة دينار. فهما مختلفان في ثمن السلعة فيتحالفان ويتفاسخان. فإن قبض المشتري الثياب ولم يبِنْ بها صدّق، على رواية ابن وهب، إن بأن بها صدق على الرواية التي وقعت في كتاب المكاتَب. وإن حال سوقها أو تغيرت في نفسها، على حسب ما بيناه في الرواية المتقدمة. وأما الثوب العاشر فيردّ إلى بائعه، وإن تغير أو حال سوقه، وينظر في أحكام تغييره، ومَن غيّره، على حسب ما يبين في كتاب الاستحقاق. وهذا الذي مثلنا به الاختلاف في المثمون، وصورناه في اختلافهما في عدد ثياب بيعت جار في سائر العروض والمكيلات والموزونات على حسب ما نص عليه في الموازية وغيرها. لكن ذكر ابن حبيب عن مطرف عن مالك أنه قال، في رجلين تبايعا طعامًا، فقال البائع: بعتك ثلاثة أرادب بدينارة وقال المشتري: بل أربعة بدينار، إن البائع لا يؤخذ منه من الطعام بأكثر مما أقرّ به، فيؤدي في الثلاثة

أرادب ثلاثة أرباع دينار. وهذا اختلاف في المثمون لم يوجب فيه التحالف والتفاسخ مع القيام، وعدم القبض، على ظاهر هذه الرواية. وهذا مذهب من ذكرنا أن فقهاء الأمصار على التحالف والتفاسخ إذا لم تفت السلعة ولا قبضت، إلا أبا ثور فإنه يذهب إلى أن القول قول المشتري وإن كانت السلعة في يد البائع. ودعا بعضَ المتأخرين شذوذُ هذه الرواية إلى أن رأى أن العذر عنها كون الاختلاف بين المتبايعين وقع في مكيل، والمكيل والموزون عنده بخلاف العروض؛ لأنه مما يعرف بعينه. واستند في هذا التأويل إلى قوله في المدونة في اختلاف المتبايعين في السلم، هل وقع السلم في ثمانية أرادب أو في عشرة: إن القول قول البائع إذا حل الأجل؛ مع كون هذا الطعام المسلم فيه لم يقبض، لكنه لما كان مما يعرف بعينه لم يرل القبض. وكذلك عقده لو كان الاختلاف في عروض في الذمة لجرت مجرى المكيل والموزون. ولما كان ما في الذمة لا يتعين وهذا الذي استند إليه غير صحيح لأنه ذكر في المدونة في هذه المسألة أن اختلافهما إذا وقع بقرب العقد أو بعد أيام. يسيرة فإنهما يتحالفان ويتفاسخان. وطرْد ما اعتذر به يقتضي أن يكون القول قول البائع، وإن اختلفا بقرب العقد أو بعده، إذ المسلّم فيه لا يختلف كونه غير معين بقرب العقد أو بعده. وهذا واضح. على أن هذا الرجل أشار إلى أن البائع إنما صدق إذا حل الأجل لكون القبض مستحقًا إذا حل الأجل. وهكذا المعينات لما كان القبض مستحقًا فيها في بياعات النقود جعل استحقاق القبض كالقبض. وهذا يشير إلى اعتذار آخر عما حكيناه من رواية ابن حبيب لكن هذا أيضًا ينتقض بقوله في الرواية: إن الأجل إذا طال أو حل فإن القول قول البائع، وإذا طال ولم يحل الأجل فالقبض غير مستحق. وسننبه الآن على وجه التفرقة بين القرب والبعد. فهذا القول في الاختلاف في المثمونات إذا بيعت نقدًا. وأما إذا بيعت نساء فإنها أيضًا تجرى على ما قدمناه من الاختلاف في اختلاف المتبايعين في مقدار الثمن. فرواية ابن حبيب أن قبض السلعة فوت يوجب تصديق المشتري في مقدار الثمن، يقتضي أيضًا تصديقال في عليه السلم في مقدار ما عليه إذا

قبض رأس مال السلم وإن لم يَبِنْ به. وعلى الرواية الأخرى إنما يصدق إذا قبضه وبأن به. وعلى رواية ابن القاسم لا يصدق وإن بأن به حتى يقع الفوت. فرأى ها هنا أن المسلم إليه إذا قبض رأس مال السلم، وطالت الأيام، فإنه قد حصل لديه انتفاع من تَجْرٍ به، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع، فصار انتفاعه به كالفوت في السلعة المقبوضة؛ لأن السوق إذا ح الذي السلعة المعينة صدق المشتري، لما يقع من الضرر بالفسخ عند التحالف. وكذلك ها هنا إذا أوجبنا التحالف والتفاسخ لَحِق المسلم ضرر لكون مالِه انتفع به زمنًا طويلًا، ثم رُدَّ عليه من غير عوض، والمسلم إنما يعجل النقد ليحصل للمسلم إليه الانتفاع به، ولهذا يبيعه ما عليه من الطعام نسيئة برخص. وقد قدمنا أن هذا المعنى هو العلة في جواز السلم، فوجب اعتبار طول الانتفاع برأس المال (وأن نقد وذلك فوتًا) (¬1). وكان بعض أشياخنا يرى هذا التعليل صحيحًالأولكنه يقل (¬2) الأمر إلى المسلم، فإن شاء أسقط حقه في هذا الضرر، وطلب أن يحكم بينهما بالتحالف والتفاسخ، ويرد إليه رأس ماله بعوإلانتفاع به. وإن شاء لا يسقط حقه في الضرر فيه، وطلب أحكام الفوت، فيصدق البائع ويدفع من العوض ما أقرّ به. وهذا ينظر إلى أحد القولين فيمن اشترى سلعة فاطلع فيها على عيب، وقد حدث عنده عيب آخر، أنه بالخيار من أن يأخذ قيمة العيب لأجل ما يناله من ضرر بغرامة قيمة ما حدث عنده، أو يرد ويرد ما نقص. فإذا قال البائع: أنا أرفع عنك غرامة ما نقص فيزول عنك الضرر الموجب لك أخذ قيمة العيب مني. فإنه لا يمكن من أخذ قيمة العيب. وفي قول آخر عندنا أنه يمكن. فأنت تراه في أحد القولين كيف أوجب له خيارًا لأجل الضرر، فإذا ارتفع الضرر زال تخييره. فهذا فيه ملاحظة لهذا الذي اختاره بعض أشياخنا. ولو كان رأس مال السلم ثوبًا وتغير سوقه من غير انتفاع لكان ذلك فوتًا يوجب تصديق البائع فيما عليه من السلم. وهكذا لو حال سوق السلعة في بيع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. والكلام بين القوسين غير واضح. ولعله وأن يعد ذلك فوتًا. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: ينقل.

النقد، واختلف في الثمن، لكان ذلك فوتًا. لكن قد يقال ها هنا أيضًا: هلا جعلت الخيار لمن عليه الضرر في فوت السلعة! فإن حال سوقهم ابن قص كان من حق البائع أن يقول: إنما أتحمل الضرر بنقص السوق، ولا يلزمني بيع سلعتي بأقل مما أقررت به، فنتحالف ونتفاسخ. وشيخنا هذا لم يطرد مقاله في هذا الذي اعترضنا به وهذا مما ينظر فيه. وأما على رواية أشهب الذي يوجب التحالف والتفاسخ وإن فات المبيع، فإن شيخنا هذا كان يرى أن الأجل إذا حل ووقع الانتفاع برأس المال، فإنهما يُحمَلان على الوسط من سلم الناس في عقدهما، لئلا يظلم المسلم برد رأس المال عليه بعد التحالف، على حسب ما قدمناه عنه. وهذا أيضًا مما ينظر فيه على أصل أشهب. وقد قال بعض الأشياخ: لا معنى للتفرقة التي وقعت في المدونة بين قرب زمن العقد أو بعده. وذكرنا عن غيره أن الأجل إذا حل استحق القبض، بخلاف كونه لم يحل. وذكرنا هذه الطريقة الثانية من اعتبار الانتفاع برأس المال وتقدير ذلك فوتا. فعلى هذه الطريقة قد يحسن ما قاله هذا الشيخ من حملها على أصل أشهب على الوسط من سلم الناس في عقدهما. وقد قررنا اختلاف الروايات عن مالك وكون ابن القاسم اختار منها تصديق المشتري مع فوت السلعة في يديه بتغير سوق أو ذات، فيبقى النظر في هذا الفوت لو وقع، والسلعة في يد البائع، هل يكون هذا الفوت في يد البائع يوجب تصديق المشتري أم لا؟ هذا مما أخرجه أصحابنا على اختلاف قول مالك في المحبوسة بالثمن هل ضمانها من البائع أو من المشتري؟ إذ لا غرامة عليه فيما حدث بها فيكون عليه ضرر في إلزامه القيمة فيبقى الحكم على ما هو عليه من التحالف والتفاسخ. ولو كان هذا التغيير (¬1) بعيب حدث لكان للمشتري الرد به من غير تحالف لكون البائع ضامنًا لهذا العيب الحادث في حال احتباسه إياها بالثمن. وإن لم يقم المشتري بهذا العيب ورضي به، وقام بالاختلاف في الثمن، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان. وإن قلنا: إن ضمانها من المشتري، وهي في يد البائع ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: التغيّر.

كالرهن بالثمن، فإن التغيير (6) ها هنا في سوقها أو ذاتها يوجب تصديق المشتري في الثمن، كما لو فاتت في يده. لكن يعرض في هذه المسألة حكم آخر، وهو كون المشتري، الذي صار ها هنا راهنًا، لا يصدق في مبلغ الدين إذا ادعى منه دون قيمة الرهن، والمرتهن لا يعمر ذمة الراهن بما لم يقر له به، وإنما له حبس الثمن حتى يُفتك منه بقيمته التي ادعاها وزعم أنها دين له على المشتري والسلعة رهينة بها، ويكون الرهن شاهدًا على نفسه لا على الذمة، على إحدى الطريقتين؛ فإذا كان المبيع جارية، وحدث بها في أيام احتباسها بالثمن عور، وهو في التقدير ربع قيمتها، صار هذا الربع قد فات في يد المشتري، فيصدق في مقدار ثمنه، كما يصدق في ثمن سلعة فات جميعها في يديه. وقد قررنا على هذه الطريقة التي يحكم فيه (¬1) بكونه ضامنًا لما حدث من عيوب أن هذا الحادث في يد البائع يقدر أنه حدث في يده، وما فات في يديه صدق في ثمنه، ويبقى ما يقدر أنه ثلاثة أرباع هذه الجارية في القيمة، يقِع فيه التحالف والتفاسخ، فيحلف المشتري لينفي عن ذمته ما يطلب البائع أن يقضى له به عليه، ويحلف البائع لئلا يؤخذ من يده الرهن بما لم يقر به مما هو مصدق في كون الرهن ليس برهن فيما هو أقل منه، على ما سنوضح هذه الإشارات في كتاب الرهن إذا تكلمنا على اختلاف الراهن والمرتهن إن شاء الله تعالى. وهذه الطريقة القياسلك ابن عبدوس في هذه المسألة من تصديق المشتري في ثمن ما فات، والتحالف فيما لم يفت. وقد ذكر بعض البغداديين من أصحابنا في مرافعته للخلاف من تأويل الحديث الذي تقدم ذكره، واشترط فيه كون السلعة قائمة، لما قال المخالف: إنما اشترط أنها إذا فاتت في يد البائع لم يكن تحالف لكونه ضامنًا لهما. فهذا فائت ذكر اشتراط قيام السلعة الواقع في هذا الخبر. فقال هذا الرجل من أصحابنا، وأظنه ابن القصار: ضمانها عندنا من المشتري، وفوتها في يد البائع كفوتها في يد ¬

_ (¬1) هكذا، في النسختين، ولعل الصواب: فيها.

المشتري، فيصدق المشتري في فوتها، كان (¬1) هذا الفوت في يد البائع. ورأيت القاضي إسماعيل ذكر ما يشير إلى خلاف هذا، فقال: إذا اختلفا في الثمن فإن للبائع حبسها حتى يأخذ الثمن، ولا يلزمه تسليمها بما لم يقر به، ولا يصدق على الشزي في تعمير ذمته بما لم يقر به، وفوتهما في يد البائع الحكم فيه التحالف والتفاسخ. فلم يصدق المشتري ها هنا بهذا الفوت الواقع في يد البائع، فيمكن أن يكون بناء ذلك على أحد القولين في كون البائع ضامنًا لها، على حسب ما بيناه لما خرجنا الخلاف المذكور. وإذا جعلنا الفوت في يد المشتري يوجب تصديقه، على ما اختاره ابن القاسم، فإن ذلك إذا ادعى ما يشبه أن يكون ثمنًا للسلعة التي فاتت في يديه. فإن ادعى ما لا يشبه صدق البائع فيما يدعيه من الثمن إذا ادعى ما يشبه. فإن ادعيا جميعًا ما لا يشبه رد إلى قيمة السلعة، وصار دفع قيمتها كدفع عينها. وقد كنا قدمنا أن اختلافهما مع قيام السلعة يقتضي التحالف والتفاسخ جميعًا، لكون كل واحد منهما لا مزية له على صاحبه. وكذلك إذا ادعيا ما لا يشبه تحالفُ اوتفاسخًا أيضًا لكونهما لا مزية لأحدهما على صاحبه. فإذا انفرد أحدهما بدعوى ما يشبه دون الآخر كان فيه الخلاف الذي ذكرناه عن عبد الملك وغيره، والأشهر أنه لا يراعيَ دعوى الشبه مع القيام. وقد ذكرنا وجه ذلك فيما تقدم. فإذا فاتت السلعة فلم يقع نص خلاف عندنا في مراعاة دعوى الشبه، فيصدق من ادعاه دون صاحبه المدعي ما لا يشبه، لكون الحديث ورد فيه اشتراط قيام السلعة في التحالف والتفاسخ على الإطلاق من غير مراعاة دعوى شبه، ولكون السلعة قائمة يمكن ردها بعينها إلى مالكها، حتى إذا وقع الفوت صارت المنازعة في غرامة مال من الذمة، فلا يصدق فيه من إدعى ما لا يشبه. وأما لو كان الاختلاف في بيع نَساء كاختلاف المسلم والمسلم إليه في مقدار المكيلة التي عقد السلم عليها، فإنهما إذًا ادعيا ما يشبه جرى ذلك على الخلاف المتقدم الذي بينّاه. وإن ادعيا ما لا يشبه فإن ابن القاسم اختلف قوله في هذا، والمشهور عنه أنهما على الوسط من سلم الناس من يوم تعاقدا السلم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإن كان.

ولكن في الأسدية أنه اختلف قوله. فقال مرة بهذا، وقال مرة أخرى: بل يتحالفان ويتفاسخان. ورأى بعض الإشياخ أن هذا القول هو البخاري على أصلهم، لقولهم، في اختلاف المسلم والمسلم إليه في مكان قضاء السلم فادعى كل واحد منهما أنه شرط القضاء في بلد غير البلد الذي وقع فيه العقد، ولكنهما ادعيا بلادًا بعيدة لا يشبه أن يشترط قضاء السلم فيها لبعدها، أو لمعنى آخر يستنكر معه دعوى كل واحد منهما ما لا يشبه. وهذا عندي لا يشبه اختلافهما في المكيلة وقد ادعى كل واحد منهما ما لا يشبه لأن مقدار المكيلة ربما ضبط من جهة العوائد، فيسأل أهل المعرفة بهذا السلم، ومقتضى العادة في كم يسلم مائة دينار في قمح يوجد عند حلول سنة من يوم العقد؟. فإذا قالوا: قول البائع: أسلمت إليه في قفيز واحد، مستنكر لا يشبه، وقول المسلم: في ألف قفيز، مستنكر لا يشبه، وإنما يشبه في العوائد أن تسلم المائة في مائة قفيز من القمح. فهذا مما يضبطه التجار. وأما تعيين بلد لقضاء السلم مع كثرة البلاد وتقاربها في المسافة، مشرقة عن بلدهما أو مغربة، فإن هذا مما يضبط (¬1) فيه تعيين بلد فلهذا قالوا فيه بالتحالف. وألحق بعض الأشياخ بهذا الذي استشهد به من اختلافهما في البلد اختلافَهما في أجل السلم، وسنتكلم على اختلافهما في أجل السلم في موضعه إن شاء الله تعالى. وإن ادعى أحدهما ما يشبه، والآخر ما لا يشبه، فإن كان من ادعى ما لا يشبه هو الذي عليه السلم فالقول قوله إذا حل الأجل، على الاختلاف الذي قدمنا بيانه وذكرناه في كونهما جميعًا ادعيا ما يشبه فكيف إذا كان الغارم هو الذي ادعى ما يشبه والآخر ادعى ما لا يشبه. وأما إن كان المدعي ما لا يشبه هو الذي عليه السلم، والمسلم ادعى ما يشبه، فإنه ذكر في كتاب السلم من المدونة أن المسلم مصدق ويقضى على المسلم إليه بالمكيلة التي ادعاها المسلم، مع كون المسلم إليه لم يقرّ ببيع المقدار الذي ادعاه المسلم؛ خلاف ما صنع في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمَّا لا.

كتاب الأكرية في اختلاف المكري والمكتري في المسافة التي وقع العقد عليها، فقال المكرَى منه: اكتريت بمائة دينار إلى برقة. وقال المكتري: بل إلى إفريقية. وكانت دعوى المكري لا تشبه، فإنه لم يقض على المكري بأن يبلغ المكتري إلى إفريقية لما كانت المسافة التي زادت على برقة لم يقر بيعهالأولا يقضى على رجل ببيع سلعة لم يقر بأنه باعها. وكان بعض أشياخي يشير إلى أنه لا يتجه بين السؤالين فرق محقق، وبعضهم يشير إلى فرق ليس بالواضح، فيقول: إن أجزاء المسافة كسلع منفردة ادعى رجل شراء جميعها، ووهم (¬1) مالكها أنه لم يبع منه إلا بعضها، فإنه لا يصدق على المالك في دعواه. وإن كان مقدار الثمن الذي اتفقا عليه لا تشبه معه دعوى البائع، مثل أن يقول المشتري: بعت منّي ثوبك هذا، وعبدك، بمائة دينار. ويقول البائع: لم أبع منك بالمائة دينار سوى الثوب. ويقول أهل المعرفة: لا يشبه أن تكون المائة دينار ثمنًا للثوب خاصة، ويشبه أن تكون ثمنًا للثوب والعبد. فإنه لا ينفع المشتري كونُ البائع ادعى ما لا يشبه، في تصديقه عليه في إخراج ملكه الذي لم يقرّ ببيعه. وكذلك الزائد من المسافة على برقة، وهو كسلعة أخرى لا يقضى على المكري بأنه باعها لكون الثمن الذي وقع به الكراء لا يشبه أن يَكون ثمنًا لمسافة نهايتها برقة، وإنما ينفع المشتريَ كونُ البائع ادعى ما لا يشبه في تصديقه في غرامة ما يغرم من الثمن في إيصاله إلى برقة، وبعض ثمن الكراء على دعوى المكتري، فيلزمه منه ما ينوب إيصاله إلى برقة، على أن نهاية المسافة إفريقية. ورأى أن اختلافهما في مقدار المكيلة المسلم فيها اختلاف في عقد واحد عقد على ما في الذمة، وما في الذمة شيء متحد، وهو المعقود عليه، فمن ادعى في هذا المتحد ما لا يشبه لم يقبل قوله. وهذا تخييل فيه بعد، وعدد الأقفزة يمكن أن يتصور فيه أنه كسلع مختلفة، كما صور في أجزاء المسافة، فلهذا أشار بعض أشياخي إلى أنه لا يتجه بين السؤالين فرق. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب وزعم.

وقال غيرهم من الأشياخ: يمكن أن يكون توقّى في السلم، إذا لم يغرم المسلم إليه ما ادعاه المسلم من المكيلة، وقضى عليه برد بعض رأس المال، أن يوقع هذين المتعاقدين في بيع وسلف، وقد علم أنه لا يجيز الإقالة من بعض رأس مال السلم، على ما يرد بيانه في موضعه، مخافة أن يكونا أظهرا كون الثمن سلما، وأبطنا كون بعضه سلفًا يرد عند أمر اتفقا عليه في الباطن، وهو وقت إظهار هذا الخلاف بينهما ليتوصلا به إلى بيع وسلف. وهذا الذي أشار إليه الشيخ أبو إسحاق التونسي، ولكنه ذكر أنه ليس بالبيّن، وكيف جرت الحال فهو أبين من الفرقال في حكيته عن بعض الأشياخ. وأنت إذا علمت جميع ما قدمناه من حكم اختلاف المتبايعين في مقدار الثمن، وأحكمت إجراء ما شذّ عنه من فروع هذا الباب على الروايات المذكورة أمكن أن يعرف منه الحكم في نقد بعض الثمن أو بعض المثمون أو نقد البعض من هذا وهذا. فلنذكر مثالًا لنقد بعض الثمن أو بعض المثمون يعرف منه حكم نقد بعض أحدهما دون الآخر: فذكر ابن المواز اختلاف رجلين في بيع طعام، فقال البائع: بعتك صاعين بدينار؛ وقال المشتري: بل اشتريت منك ثلاثة آصع بدينار. وقد قبض المشتري صاعًا وقبض البائع نصف دينار، فقال ابن المواز: عليهما اليمين ويُعطي البائع بربع دينار نصف صاع. وهذا جواب فيه إجحاف، ونحن نبينه، ونقدم لك أن هذا الجواب الذي ذكر، إنما يجري على أحد الروايات، وهو تصديق القابض، وكون النقد المقبوض فوتا. وأمّا من لم ير القبض فوتا فإن الحكم عنده التحالف والتفاسخ ورد ما قبض هذا وهذا. لكن من يرى النقد المقبوض فوتا يقول: إن نصف دينار المقبوضَ مقبوضٌ على ما قبض من الطعام وما لم يقبض، فالذي ينوب الصالح المقبوضَ من النصف دينار المقبوضِ، ربعُ دينار، على مقتضى دعوى البائع؛ لأن البائع يقول: سلمت نصف الطعام على نصف ما قبضت من الذهب.

وينوب الصاعَ المقبوضَ عن دعوى المشتري سدسُ دينار؛ لأنه يقول: النصف دينار، الذي سلمتُ، يُفَضقُ على ثلاثة آصع، فينوب الصاعَ الذي قبضتُ نصفُ دينار. وهو يحاول أن يسترد من البائع قيراطين من الربع دينار الذي ناب الصالح، على قول البائع، والبائع قد حافي هذا الربع دينار وقبضه، والنقد المقبوض فوت فيصدق القابض. لكن يقول البائع: يبقى لي من حق الصالح الذي دفعتُ ربعُ دينار آخرُ، ويقول المشتري: لا يبقى لك سوى سدس دينار على فضّ النصف دينار، على دعوى (¬1) والمشتري حائز لما في ذمته، فلا يلزمه أن يغرم الزيادة على سدس دينار، وهو لم يقرّ يكون ذلك في ذمته. فلا يقال ها هنا: هلا قلتم: لا يغرم المشتري سوى قيراطين، وهي نصف سدس، لكون البائع ظلمه في قيراطين من الربع دينار الذي صدقنا البائع فيه، على مقتضى الفض على دعوى المشتري. قيل: لو أسقطنا على المشتري، فيما يغرم، هذين القيراطين، لم ينفع البائع كونه حائزأ للربع دينار، الذي صدقناه في كونه استحقه؛ والمسألة إنم ابن بن علي كون القابض مصدقًا فيما قبض، فلو عدنا إلى محاسبة المشتري بما يقول: إن البائع ظلمني، بجحوده له، مع اعترافه بأنه يستحق ذلك في ذمته، ودعواه أنه ظلمه البائع لبطل هذا الذي أصلناه. وإذا اتضح حكم هذا الصالح المقبوض، فإن الصالح الذي لم يقبض ينوبه مما قبض البائع ربع دينار، فيصدق البائع في مقدار. ما يُستحقَ عليه به الطعام، والذي يستحق عليه به من الطعام، على مقتضى دعوى (¬2) نصفُ صاع، فيقضى عليه بربع نصف صاع للمشتري، فيحصل للمشتري من هذه الصفقة صاع ونصف، ويحصل للبائع ثلثا دينار. فهذا بسط ما أشار إليه ابن المواز من جواب هذه المسألة. ولِمَا يجرُّ القول في اختلاف المتبايعين في الثمن والمثمون، مشتملًا (¬3) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دعواه (أي المشتري). (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دعواه. (¬3) هكذا في النسختين.

على فروع كثيرة تكرر في أجوبتها أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وجب أن نبين حكم هذا التحالف والتفاسخ. والكلام فيه من خمسة أوجه: أحدها: صفة هذا التحالف، والثاني: من يبدأ فيه. والثالث: حكم النكول عن هذه اليمين. والرابع: متى يقع الفسخ. والخامس: هل يقع الفسخ ظاهرًا أو (¬1) باطنًا أو ظاهرًا خاصة. أمّا الوجه الأول، وهو صفة التحالف، فإنا قد قررنا لك أوّلًا أن هذين المتبايعين كل واحد منهما مدع ومدعىً عليه، وبهذا علل مالك رضي الله عنه في موطئه كونهما يتحالفان ويتفاسخان، بأن قال: وذلك أن كل واحد منهما مدع على صاحبه. فإذا وضح لك قول مالك: إن كل واحد مدع، ومدعىً عليه؛ وتقرر في أصل السماع بالحديث المشهور واتفاق العلماء أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والمدعى عليه منكر، فهو الذي يكون عليه اليمين، والمدعي مثبت، والمثبت عليه البينة. ولا يكتفى بيمينه في مجرد دعواه دون عرض اليمين على المدعى عليه. فإذا تقرر هذا الأصل فقد صار كل واحد من المتبايعين المختلفين في الثمن مدعيًا، فيكون الحكم من هذه الجهة استحلافَه، فقد صارت دعواه تتضمن نفيًا، وهو أنه لم يبع سلعته من المشتري بعشرة دنانير، كما زعم، ويتضمن إثباتًا، وهو أنه باعها منه بإثنى عشر دينارًا فوجب أن يستحلف على ما أنكر، دون ما أثبت، على ما قررناه من أصل الشرع الوارد في هذا الكتاب، لكن لما كان ها هنا مطلوب أبي مين من جهة إنكار حسن أن يضيف إليه اليمينَ على ما أثبت، لئلا ينكل صاحبه فيفتقر إلى يمين أخرى على ما أثبت، وتكرير اليمين مما يشق، والأصول تقتضي تقليل الأيمان ما أمكن. وهذا المعنى هو الذي ننفصل به عن اعتراض من اعترض علينا في هذا فقال: لو ادعى رجل على رجل بعشرة دنانير لم يستحلفوا إلا المدعى عليه، فإنْ طلبكم المدعي المثبتُ أن تستحلفوه قبل نكول المدعى عليه لم تفعلوا، فلم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَ.

استحلفتم أحد المتبايعين على ما أثبت وهو فيه مدع قبل نكول المدعى عليه؟! وذلك أن المدعي والمدعى عليه شخصان انفرد هذا بإثبات محض، وانفرد الآخر بنفي محض، فلم يحسن، على ما قررناه من أصل الشرع، أن يستحلفه على ما أثبته أوَّلًا، وحسن ذلك في المتبايعين لما كان من إثبات قوإنضاف إلى إثباته إنكار ونفي، وهو المبدَّأُ فيه باليمين، فحسن أن يُسْنَدَ إلى هذه التبدئة وجه آخر ليس من حقه أن يبدّأ به ليرفع عن نفسه الضرر بتكرير اليمين. وهذا فرق واضح لا إشك الذيه. وعلى هذه الطريقة جرى أهل المذهب في تحليف من بيده الرهن على ما ادعاه من الدين، فإن كان ما ادعاه أكثر من قيمة الرهن، وهو لا يصدق فيما زاد على قيمة الرهن، وإنما يصدق في قدر قيمته مع يمينه، فلما توجهت عليه هذه اليمين على قيمة الرهن، التي هو مبدَّأ فيها على الراهن، حسن أن نضيف إليها ما ادعاه من الزيادة على قيمة الرهن، لئلا ينكل الراهن عن اليمين فيحتاج إلى يمين أخرى على ما زاد على قيمة الرهن. وقد حكى شيخنا أبو الحسن اللخمي اختلافًا في صفة اليمين: هل يحلف على النفي أو على الإثبات؟ واختار هو أن يخير هذا المستحلَف، فإن شاء حلف على النفي، وهي اليمين التي يقضى بها عليه، ويؤخر يمينه على الإثبات إلى أن ينكل صاحبه، فيحلف حينئذ يمينًا أخرى. فقضى عليه باليمين التي هي الواجبة في الأصل، وخيّره في اليمين التي لا تجب عليه. وإنما مُكِّن منها لإزالة الضرر بتكرير اليمين عليه. وهذا هو من حقوقه، فإن شاء التزم هذا الضرر، وقدم يمين الإثبات مع النفي، وحلف عليهما جميعًا. وهذا الذي اختاره لم يبعد فيه على ما قدمناه لك من تأصيل الشرع. لكن هذا الخلاف الذي حكاه لا أحفظ الآن نص أحدٍ من أصحابنا عليه، لكن أحفظ عن الشافعية فيه اختلافًا، فمنهم من يرى أن مذهب الشافعي أنه يحلف يمينًا واحدة على النفي والإثبات، قول واحد. ومنهم من يخرّج له قولًا آخر، أنه يحلف يمينين: على النفي يمين، ويمين أخرى على الإثبات. واستقراء ذلك من قوله، في رجلين أيديهما جميعًا على دار، فزعم كل واحد منهما أن جميع الدار له، فقال: يحلف على نصفها الذي حازه أنه لا حقَّ

للآخر فيه. فإن نكل الآخر عن اليمين على النصف الذي في يده حلف الأول يمينًا أخرى: أنه لهه، بعد نكول الحائز. ومنهم من منع هذا التخريج والاستقراء، وقال بأن كل واحد حائز لما في يديه، فلا يحسن أن يحلف أحدهما على النصف الذي في يد الآخر قبل نكول الآخر عن اليمين عليه، والمتبايعان إنما يحلفان في صفة عقد، وهما متساويان في كون كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فحسن ها هنا أن يُلزم يمينًا واحدة على النفي والإثبات، على حسب ما قدمناه. فأنت ترى اختلاف الشافعية هل يحلف يمينًا واحدة يجمع فيها بين نفي وإثبات، أو يحلف يمينين: الأولى منهما على النفي، فإذا نكل صاحبه عن اليمين حلف يمينًا أخرى على ما أثبت. فيقول أوَّلًا: بالله ما بعتك بعشرة. لأنه هو الذي نفى من قول صاحبه، ويَقتصر على هذا. ثم يقال لصاحبه: احلفْ أنت أيضًا على أنه ما باعك بإثني عشر. فإن حلف، قيل للبائع: احلفْ على أنك بعت بإثني عشر، ثم يقال للمشتري: احلفْ على أنك اشتريت بعشرة؛ ويتفاسخان. ومن نكل منهفا عن اليمين عاد صاحبه إلى اليمين على ما نكل هذا عنه. وشيخنا أبو الحسن لم يورد هذا الخلاف الذي أشار إلى إسناده إلى أصحابنا، على مقتضى عادته، على هذه الصفة التي أوردناها عن أصحاب الشافعي، وإنما قال: واختلف هل يحلف أحدهما على النفي أو على الإثبات؟ وبيْن أصحاب الشافعي أيضًا اختلاف فيما تقدم في اليمين مرة واحدة، واليمينين: هل اليمين على النفي أو على الإثبات؟ فانفروإلاصطخري منهم بأن قال: يبدّأ بيمين الإثبات؛ لأن الله تعالى بدأ في اللعان بها، وهو عندنا أيْمان الزوج، وهو المثبت للزنا على زوجته. وقال أكثر أصحاب الشافعي: بل يبدأ بيمين النفي؛ لأنها هي التي يقضى بها في الأصل لورود الشرع بتحليف المنكر، وتكليف المثبت البينة. وهذا عندي أولى على ما فرضته من التعليل من كون يمينه على الإثبات

خارجةً عن الأصول؛ واعتذرنا عنها بأنها. إنما حسن إخراجها عن الأصول لإسنادها إلى يمين النفي، لئلا يلحقه ضرر بتكرير اليمين، فاقتضى هذا كون اليمين على الإثبات تبعًا، ومستندةً إلى تمييز النفي، ومن المستنكر أن يبدأ بالتابع على المتبوع. وأمّا ما احتج به الاصطخري من بداية الله سبحانه في اللعان بالزوج فقد ينفصل عنه عندي بأن اللعان فيه اختلاف: هل هو قائم مقام الشهادات، ولهذا كرر أربع مرات حتى يكون كأربعة شهود على الزنا، أو قائم مقام الأيمان؟ وإن قلنا: إنه قائم مقام الأيمان، فقد يقال في هذا: إن اللعان إنما ورد به الشرع لحفظ الإنساب، وكون الزوج لا يلحق به ولد ليس من ظهره. وإذا كان لهذا شُرعَ، وهو مقصود الشرع، فالزوجة كالمدعية على الزوج إلحاق نسب به، وهو ينكره، فلهذا بُدِّىء لكونه مدعىً عليه في النسب. فلم تخرج هذه المسألة عن الأصول. هذا الذي يظهر لي، وللنظر في هذا مجال، ولعلنا أن نبسط هذا عند كلامنا على قذف الزوج، ولعانه لنفي الحد لا لنفي النسب، فإن هذا الوجه إذا قيل بأحد القولين فيه تطلبنا انفصالًا آخر عمّا قاله الاصطخري. أو يقال: إن المقصود في الشرع ما ذكرناه من نفي النسب، وهذا الوجه الذي هو نفي الحد تبع له. وأما الوجه الثاني وهو الكلام على من يبدأ باليمين من هذين المتبايعين المختلفين، فإن المذهب عندنا على قولين: بدّأ في المدونة البائع باليمين: وفي كتاب تضمين الصناع من المدونة تبدية ورثة المشتري باليمين إذا تجاهلا هم ورثة (¬1) البائع الثمن. وهكذا بدّأ في المستخرجة باليمين إذا اختلف هو والبائع في الثمن. وبتبدئة المشتري قال أبو حنيفة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: (هم وورثة البائع) كما يدل عليه كلام المدونة. انظر المدونة: ج 4 ص 393.

والمشهور عن الشافعي تبدية البائع، وهكذا ذكر الشافعي في اختلاف المسلم والمسلم إليه في مقدار السلم أن البائع، وهو المسلم إليه، يبدأ. وهكذا ذكر في اختلاف السيد مع عبده في الكتابة أن السيد يبدأ باليمين. لكن ذكر في اختلاف الزوجين في مقدار الصداق أن الزوج يبدأ. فبعض أصحابه أضاف إليه قولًا آخر في اختلاف المتبايعين أن المشتري يبدأ باليمين، كما حكينا ذلك على أحد القولين في المذهب عندناة وبعضهم منع من هذا الاستقراء وقال: بأن الشافعي إنما بدأ البائع لأنهما إذا تحالفا رجعت سلعته إليه، فكان أوْلى بالتبدية لرجوع المبيع إليه، والزوجان إذا اختلفا في مقدار الصداق وتحالفا فإن الزوج يقضى عليه بصداق المثل ويبقى البضع له كما بقيت السلعة للبائع بعد التحالف. وهذا فرق يصح على أصلهم، ولو كانوا يقولون بمذهبنا أنهما إذا اختلفا في مقدار الصداق قبل الدخول تحالفا وتفاسخا النكاحَ، ويبقى البضع على ملك المرأة، على حسب ما كان قبل عقد النكاح، لكان هذا الاستقراء صحيحًا. وقد وقع للشافعي كلام ذهب بعض أصحابه إلى أنه قول ثالث في هذه المسألة وهو قوله: إن استحلف الحاكم البائع قيل للمشتري: أتقبل منه أم تحلف؟ وإن بدأ بالمشتري قيل للبائع: أتقبل منه أم تحلف؟ وقال بعض أصحابه: هذا لا ينبغي أن يكون يجعل له قولًا ثالثًا؛ لأنه يمكن أن يكون أراد أن يحكم (¬1) الحاكم بتبدية البائع، وهو مذهبه، قيل للمشتري؛ كذا. أو حكم بتبدية المشتري، لما كان ذلك مذهبه، قيل للبائع: كذا. فأنت ترى أن الشافعي ينسب إليه بعض أصحابه ثلاثة أقوال: تبدية البائع، وتبدية المشتري، وتخيير الحاكم فيمن يبدأ به منهما. وبعض أصحابه ينكر أن يكون له إلا قول واحد، وهو تبدية البائع. وهذا الذي ينسب إليه بعض أصحابه من تخيير الحاكم يضارع ما ذهب إليه أشياخي من أن الصحيح في هذا أن يقرع بينهما مَن الذي يبدأ منهما؛ لأن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إِنْ حَكَم.

الشافعي إنما ذهب إلى تخيير الحاكم، على ما نسب إليه بعض أصحابه، لكون البائع والمشتري لا مزية لأحدهما على الآخر توجب تبديته. وكذلك رأى أشياخي أن كل واحد من هذين المتبايعين مدع ومدعى عليه، وليس أحدهما أحق بالتبدية من الآخر، فوجب تخيير الحاكم فيمن يبدأ به منهما. ورأى أشياخي أن صرف ذلك إلى القرعة أطيب لنفوسهما، وأقرب إلى ما ورد به الشرع في مثل هذا من القرعة في العتق، لما عتق أحد الصحابة ستة أعبد له. الحديثَ المشهور (¬1). فتلخص من هذا أن في المسألة أربعة أقوال: تبدية البائع، وتبدية المشتري، والتخيير، على رأي من ذكرناه، والقرعة على رأي أشياخي. فأمّا من ذهب إلى التعبدية بالبائع فإنه يرتجح جَنْبة البائع بظاهر الحديث وهو قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع، أو يترادان" (¬2) وظاهر الحديث قبول قول البائع من غير يمين، ومن كان قوله هو المقبول هو المبدأ. وإنما أثبتنا اليمين بظواهر أُخَر في هذا الخبر وغيره. وأيضًا فلأن البائع أقدم ملكًا، ومن كان ملكه أقدم وأسبق كان جانبه أوضح. وأيضًا فإنهما إذا تحالفا رجعت السلعة إلى يد البائع، على حسب ما كانت عليه قبل البيع، ورجوعها إليه بعد التحالف: يشعر بأن جانبه أقوى من جانب المشتري لرجوعها إليه دونه. وأما من ذهب إلى تبدية المشتري فإنه يرى أن الأصل قبول قوله لكونه مدعى عليه زيادة ثمن بعد إقرار البائع له بانتقال الملك إليه، وإذا اتفقا على انتقال الملك إليه واختلفا في المستحق في ذمة المشتري، فقال البائع: بعتك بعشرة. وقال المشتري: بل بخمسة. صارت الخمسة الزائدة كمال انفرد بالدعوى فيه البائع دون المشتري، فيصدق المدعى عليه. ولهذا ذهب أبو ثور ¬

_ (¬1) الموطأ: رقم 2244، كتاب العتق: باب 3 - وانظر التمهيد: ج 23/ 414. (¬2) ابن ماجة: باب 19 البيّعان يختلفان: حد. 2186.

إلى تصديق المشتري على حسب ما كنا قدمناه (¬1) لذكره عنه. لكن فقهاء الأمصار لم يساعدوه على هذا المذهب لأجل ورود الخبر الذي قدمناه. وإذا كان الأصل قبول قول المشتري أشعر ذلك بأنه أقوى جنبة من البائع، فاستحق لأجل هذا الترجيح أن يقدم على البائع. ويجيب هؤلاء عن ترجيح جنبة البائع يكون ما له أسبق، بأن المشتري متفق على انتقال الملك إليه، فكان أيضًا أرجح من هذه الجهة. ويجيبون، عن ترجيح البائع يكون السلعة ترجع إلى ملكه، بإن المشتري أيضًا يبقى الثمن عن (¬2) ملكه. فإذا كانت الترجيحات قد تعارضت على ما أريناك استوت (¬3) مزية البائع والمشتري، فلم يكن أحدهما أحق بالتبدية من صاحبه، فوجب تخيير الحاكم أو القرعة، كما ذهب إليه أشياخي. فهذا تلخيص المذاهب في هذه المسألة وضبطها وبيان منشأ الخلاف فيها. وأمّا الوجه الثالث، وهو حكم النكول فلا يخلو من أن ينفرد البائع بالنكول، أو ينفرد المشتري، أو يجتمعان عليه، والسلعة في جميع هذه الأقسام قائمة أو فائتة. فأمّا انفراد أحدهما بالنكول فإنه يوجب تصديق الحالف، والقضاء له بما حلف عليه بائِعًا كان أو مشتريًا. وأما اجتماعهما على النكول، والسلغة قائمة، فإن ابن القاسم ذهب إلى أن البيع يفسخ، كما يفسخ إذا تحالفا، إذ لا فرق بين أن يتحالفا فيستويان لأجل اليمين، أو ينكلا فيستويان لأجل النكول، وقد شرع الشرع بأن تساويهما يوجب رجوعهما إلى ما كانا عليه قبل العقد، لكونهما إذا تحالفا تفاسخا، فهكذا يكون حكمهما إذا تناكلا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بذكره. (¬2) هكذا، والأوضح: على. (¬3) في النسختين: استهوت.

وإلى هذا ذهب شريح. وذكر ابن حبيب أنهما إذا تناكلا كان القول قول البائع؛ ورأى أنه لما كان مقدما على المشتري باليمين عاد الأمر عند نكولهما جميعًا إلى تصديق من بدئ باليمين، كرجل ادعى على رجل بمال، فإن المدعى عليه المبدأُ باليمين على نفي دعوى المدعي، فإن حلف برىء من دعوى المدير، وإن نكل وحلف المدعي استحق ما ادعاه. وإن لم يحلف المدعي سقطت دعواه، وبرىء منها المدعى عليه، كما يبرأ لو حلف اليمين التي بدّأناه فيها. وهذا لا يلزم. وليس هذه القاعدة تطرب إلا إذا كانت اليمين التي بدأت بها أحد الخصمين يفيده إيقاعها بطلان دعوى صاحبه واستحقاقه لما حلف عليه. والمدعى عليه بمال إذا حلف فقد استقر بيمينه الحكم له ببراءته مما ادعاه عليه الآخر، ولا قدرة للآخر على مقاومة هذه اليمين وردها. والبائع إذا خالف المشتري في الثمن، وبدأناه باليمين، فإنه لا يستحق بيمينه على المشتري ما ادعاه وحلف عليه؛ لأن للمشتري أن يقاوم يمينَه ويردها، بأن يحلف على صحة ما يقول فتسقط يمين البائع التي يحاول بها استحقاق شيء عليه، فلهذا كان المدعى عليه بمال إذا نكل ونكل المدعي عاد التصديق إليه في كونه بريئًا من الدعوى؛ لأنه لو حلف لاستحق براءته من الدعوى، ولم يقدر المدعي على مدافعته عن هذه البراءة. فإذا نكل هو والمدعي عاد الحكم إلى ما يحكم به لو حلف اليمين التي بدأنا به فيها. وكذلك من أقام شاهدًا بمال له على رجل، ونكل عن اليمين مع شاهده، وطلب يمين المشهود عليه، فنكل أيضًا عن اليمين، فإن الطالب يستحق هذا المال من غير مطالبته بيمين؛ لأنه لو حلف أوَّلًا مع شاهده لاستقر له هذا الم الذي ذمة المطلوب، فإذا نكل ونكل المطلوب استحق الحق، وحكم له بالحكم الذي حكم له به لو حلف اليمين التي بدّأناه بهما. فقد اتضح مخالفة تبدية البائع المخالفِ للمشتري في الثمن باليمين، وهو الذي حكيناه من رواية ابن حبيب من كون البائع يقبل قوله، هل مراده أنه يقبل قوله ويأخذ ما ادعاه من الثمن من غير أن يحلف، أو لا يأخذه إلا بعد اليمين عليه؟ الذي يشير إليه أشياخنا أجمعون: أنه يأخذ الثمن من غير يمين.

وقال أبو الوليد الباجي: لا بد من يمينه؛ جنوحًا منه إلى الطريقة التي ردَدْنا بها ما حكاه ابن حبيب لأجل أن اليمين التي عرضت على البائع أوَّلًا لو أوقعها لم يستحق بها على المشتري الثمن الذي يدعيه، بل أمرها مترقَّب هل يحلف المشتري فلا تفيده يمينه شيئًا، ولأجل ترقب عدم هذه الفائدة (¬1) يقع التشاح في من يبدأ باليمين؛ لأن كل واحد من المتبايعين قد يريد أن يؤخر رجاءَ أن ينكل صاحبه فيحلف هو يمينًا تفيده تصديقه والقضاءَ له بمضمون ما يدعيه. وإذا كانت هذه اليمين يترقب رفع حكمها بيمين المشتري لم يلحق باليمين التي يستقر الحكم بإيقاعها ولا يترقب ارتفاعه. وإذا كانت لو أُوقعت لم توجب على المشتري غرامة ما يدعيه موقعها، فكذلك إذا نكل عنها ذلك أَوَّلًا لا توجب على المشتري غرامة ما يدعيه الناكل؛ لأن إيقاعها آكد في تصديقه من النكول عنها، فإذا لم يستفد لإيقاعها غرامة المشتري ما يدعيه لم يستفد بالنكول عنها. وهذه الطريقة التي سلك أبو الوليد الباجي مقتضية (¬2) من الطريق الذي رددنا به قول ابن حبيب. فإذا حمل على ابن حبيب مخالفة هذه الطريقة التي نبهنا عليها، وحمل عليه أنه يُجري الدعاوي كلها مجرى واحدًا فيحكم بتصديق المبدّأ باليمين، ولا فرق بين يمين توقع يترقب رفع حكمها، أو يمين توقع لا يترقب رفع حكمها، اقتضى هذا أن يصذق البائع إذا تناكلا جميعًا، من غير أن يطلب منه يمين، على حسب ما صورناه في مدع ومدعى عليه تناكلا، أو رجل قام له شاهد فنكل عن اليمين هو والمطلوب. ولو لم يسلك هذه الطريقة ويُجري هذه الدعاوى مجرى واحدًا في حكم النكول لوجب عليه أن يقول بما قاله ابن القاسم: إن البيع يرد، لأجل ما نبهنا عليه من الفرق بين هذه الدعوى وغيرها من الدعاوي. وقد كنا ذكرنا لك قبل هذا اختلاف أصحاب الشافعي في ¬

_ (¬1) بياض في النسختين بمقدار كلمة. (¬2) هكذا في النسختين.

يمين البائع والمشتري، هل يطلب من كل واحد منهما يمين على النفي إذا نكلا عنها جميعًا طلب من كل واحد منهما يمين على الإثبات، على حسب ما بيناه فيما تقدم. فعلى هذه الطريقة يصح ما قاله أبو الوليد الباجي، ولكن تكون صورة اليمين الأولى أن يحلف كل واحد فنهما على النفي فإذا تناكلا استُحلفا بعد ذلك على الإثبات، على حسب بيناه فيما تقدم. وما أحد من أهل المذهب يقول ها هنا بتكرير اليمين على البائع، وقد قدمنا أن البائع إنما أضاف إلى يمين النفي يمين الإثبات لأجل ما يتوقعه من الضرر بتكرير اليمين إذا نكل المشتري. فإذا كانت العلة عند أهل المذهب في استحلافه على الإثبات قبل نكول المدعى عليه رفع الضرر عنه بتكرير اليمين عليه من الحرص على تقليل الأيمان ما أمكن، كانت هذه العلة تنقض على أبي الوليد قولَه؛ لأنه إذا طلبه باليمين بعد تناكلهما جميعًا صار تكرير اليمين على الإثبات بعد أن قدمها مخافة ألا يتكرر عليه، وهذا كالمناقض، وإن ما لاح لأبي الوليد ما قدمناه من كون هذه اليمين مترقب ارتفاعها فلا توجب غرامة لو أوقعت فأحرى أن لا توجب غرامة إذا لي توقع ونكل عنها. وقد بينا عزْوَ أهل المذهب في تقدمتهم هذه اليمين، وأن العلة عندهم خوف التكرار، وأن الحالف لما وجب أن يقدم في يمين النفي أُسند إليه يمين الإثبات فصار ذلك كجزء من يمين النفي وصار بمعنى واحد. وإذا كانت يمين النفي تفيده البراءة، وهذه اليمين التي أسندت إليها تفيده الإثبات، واستحقاق الطلب بحكم إسنادها إلى يمين النفي، وجب أن يجري مجرى الأيمان التي لو أوقعت لم يقدر على رفعها بيمين أخرى. وهذا الذي قلناه في رد ما ذهب إليه أبو الوليد الباجي واضح لمن تأمله. وقد قدمنا أن مراعاة الأشبه مع قيام السلعة فيه الاختلاف الذي ذكرناه. وأمّا مع فوتها فإنه لا خلاف فيه عندنا أنه يراعَى دعوى الأشبه، فإذا فاتت السلعة في يد المشتري صُدق في مقدار الثمن إن ادعى ما يشبه، فإن ادعى ما لا يشبه صُدق البائع في مبلغ الثمن الذي ادعى، إن ادعى أيضًا ما يشبه. فإن ادعيا جميعًا، البائع والمشتري، ما لا يشبه، تحالفا وقضي على المشتري بالقيمة، وتكون

القيمة بدلًا من العين يجب ردها إذا كانت قائمة وادعيا ما لا يشبه، وقد تحالفا وتناكلا. ولو ادعيا جميعًا ما لا يشبه، مع فوت السلعة، ونكل أحدهما عن اليمين ولم ينكل الآخر، يقضى للحالف منهما بما ادعاه وإن كان ذلك مِمَّا لا يشبه، ذكر ذلك ابن مزين عن مالك. ووجهه أن الناكل قَدَر أن يحلف، وينفي عن نفسه طلب الآخر، فلما نكل عن اليمين ومكّن الآخر منها صار كالراضي بما ادعاه الحالف، وإن كانت دعوى الحالف لا تشبه. ولو نكلا جميعًا عن اليمين، مع فوت السلعة في يد المشتري، وقد ادعيا ما لا يشبه، فإن الواجب على مقتضى الأصول التي قررناها القضاء بقيمتها. ورأى ابن أبي زمنين أنه يتخرج في ذلك من الخلاف بما كنا قدمناه من تناكل المتبايعين، والسلعة قائمة، أن ابن القاسم يقضي بنقض البيع، وابن حبيب ذكر عن مالك أن البائع يصدق لكونه قد استحق أن يبدّأ به قياسًا على سائر الدعاوي في تصديق المبدّأ باليمين على حسب ما كنا بسطنا القول فيه، ودفعنا ابن حبيب عن قياسه على سائر الدعاوي لكون اليمين ها هنا التي بدَّأنا بها يترقب دفعها بيمين الآخر، فكذلك يجب ها هنا إذا تناكلا مع فوت السلعة وقد ادعيا ما لا يشبه أن يكون الواجب ردَّ القيمة بدل العين، على مذهب ابن القاسم، ويكون الواجب تصديق المشتري المبدإ باليمين مع فوت السلعة ها هنا، على ما حكاه ابن حبيب. وهذا التخريج مما يفتقر إلى بسط؛ لأنه إذا ادّعيا ما يشبه، والسلعة قائمة، استحق البائع أن يبدّأ باليمين، لظاهر الحديث على حسب ما قدمناه. فإن ادعى ما لا يشبه فقد صارت دعواه مدفوعة بكونه ادعى ما لا يشبه، ولم يستحق أن يحلف على هذه الدعوى التي لا تشبه، وهذا مما يفتقر إلى بسط. وأما الوجه الرابع وهو بيان زمن الفسخ إذا تحالفا، فإنه اختلف فيه عندنا: هل يقع الفسخ بنفس التحالف، كما ذهب إليه سحنون، أوْ لاَ يقع إلا بحكم، لقول ابن القاسم: إذا تحالفالأولم يحكم بالفسخ فللمشتري قبولها بما ادعاه البائع. وبعض أشياخي يحكي قولًا ثالثًا وهو وقوع الفسخ بتراضيهما عليه.

وفائدة هذا الاختلاف تمكين أحد المتبايعين من الرجوع إلى تصديق صاحبه، وإلزامه موجب ما ادعاه. فإذا قيل: إن الفسخ يقع بنفس التحالف لم يكن للمشتري أن يقبل السلعة بما قال البائع، ولا للبائع أن يُلزِم المشتري السلعَة بما قال المشتري. وإن قلنا: إن الفسخ لا يقع إلا بحكم، كان للبائع أن يرجع إلى تصديق المشتري، وللمشتري أن يرجع إلى تصديق البائع ما لم يقع الحكم بالفسخ، أو يتراضيا به على القول الثالث الذي أشار إليه بعض أشياخي. وقد أشار بعض المتأخرين في مقتضى ظاهر كلامه على هذه المسألة التي أبقى كل رواية على ظاهرها، فقال: إذا تحالفا كان للمشتري أن يقبل بما قال البائع قبل وقوع الحكم على مذهب ابن القاسم. وأشار إلى أن المشتري إنما كان له ذلك لقوة جنبته، ولظاهر الخبر الذي نذكره. وحكى عن محمَّد بن عبد الحكم أنه يقول: للبائع بعد التحالف أن يرجع إلى تصديق المشتري، على حسب ما حكاه عنه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد في نوادره، وأشار إلى أن البائع كان له الخيار، قبل أن يحلف، في إلزام المشتري البيع بما ادعاه، فلا يسقط هذا الخيار الثابت له بتحالفهما. والذي عليه الحذاق من أصحابنا وأصحاب الشافعي أن هذه الفائدة التي أشرنا إليها تطّرد في البائع والمشتري. فإن قلنا: إن الفسخ يقع بنفس التحالف كان ذلك في حق البائع والمشتري، وإن قلنا: لا يقع حتى يقع بحكم الحاكم به، كان ذلك في حق البائع والمشتري أيضًا، ووجه هذا: أن الاختلاف للتنازع في ظاهر الخبر وطرق العبرة فأما الخبر فإنه قال عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان ولا بينة لكل واحد منهما والسلعة قائمة تحالفا وترادا" (¬1) فأمر بالترادد، وأمْره بذلك يقتضي الوجوب، والرد هو النقض للعقد، فلولا أنه منتقض بنفس التحالف لما أوجب النقض. ويجيب الآخرون عن هذا بأن المراد به أنهما يستأنفان بعد التحالف والفسخِ ردَّ السلعة وردَّ الثمن، ويستدلون على ما ¬

_ (¬1) انظر نيل الأوطار: ج 5 ص 339 - 342.

يقولون بالرواية الأخرى: "إذا اختلف المتبايعان تحالفا وللمبتاع الخيار" (¬1) فقد جعل المشتري بالخيار بعد التحالف. وهكذا نص الشافعي فقال: "إذا تحالفا فللمبتاع أن يقبل بما قال البائع. ولعل هذا الذي (¬2) عن بعض المتأخرين الذي أشرنا به حتى قال ما ظاهره يقع الفسخ بعد التحالف على البائع دون المشتري. وبعض أصحاب الشافعي يذهب إلى أنه لا يقع الفسخ إلا بحكم؛ لأن المسألة مسألة اجتهاد فتفتقر إلى حكم، كالطلاق بالعنة، وعدم النفقة. وبعضهم يرى أنه يقع الفسخ بعد التحالف بفسخ أحدهما، كابرد بالعيب؛ لأن هذا العقد دخل فيه نقض، لكون البائع ممنوعًا من الثمن، وكون المشتري ممنوعًا من البيع، فصار ذلك كالعيب الموجود فيما حصل في يد كل واحد من المتبايعين، (والعيب إذا وقع على صفة ما ذكرناه بل يكتفي في نقض بالبيع بفسخ من يده السلعة المعينة) (¬3). ومن ذهب من أصحابنا إلى وقوع الفسخ بنفس التحالف قاس على اللعان الذي يقع بنفس تلاعن الزوجين، وهو أيمان كهذه الإيمان الواقعة بين المتبايعين. ويحتج أيضًا بأن البائع لما حلف فقد حقق صدقه بيمينه، فكذلك المشتري حقق صدقه بيمينه، فصار من (¬4) الثمن مجهولأوجهالة الثمن توجب فسخ البيع. وهذا الاستدلال لا يصح لأن كل واحد منهما لو أقام البينة على صحة ما يدعيه لتحقق صدقه بما يقيم من البينة، ثم مع هذا لا تكون إقامة البينة المقتضية صدقه توجب جهل الثمن المقتضي فسخ البيع، وهذا واضح. وكان شيخي أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يشير إلى رفع الخلاف الواقع عندنا ويقول: لو قام (¬5) ¬

_ (¬1) بالرجوع إلى "معرفة السنن والآثار" عن الإِمام الشافعي، تصنيف البيهقي ج: 4: 369 - 371. لم نجد نص هذا الحديث. وروي بمعناه (حرز الأماني ح 15 ص 66). (¬2) نقص، ولعله: رُوي. (¬3) ما بين القوسين هكذا نصه في النسختين، وهو غير واضح. (¬4) هكذا في النسختين؛ ولعل الصواب حذف (من). (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قال.

المشتري والبائع قبل يمينهما إنا إنما نحلف لتنتفي الريبة عن أنفسنا، ونزيل الشك في صدقنا؛ فإنه لا ينفسخ الييع بنفس التحالف الواقع على هذا. ولو قدما أنهما يتحالفان لينفسخ البيع لا نفسخ بنفس التحالف (¬1) (فعلى كل واحد من المذهبين صرف كل منهما إلى ما لا يليق بمذهبه) (¬2). وأمّا الوجه الخامس، وهو بيان حكم الفسخ إذا وقع ها هنا، هل يقع ظاهرًا وباطنًا أو ظاهرًا خاصة، ففيه اختلاف. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي فيه أيضًا. وزاد بعضهم مذهبًا ثالثًا فيه وهو أن البائع إن كان ظالمًا وقع الفسخ في الظاهر دون الباطن، لأجل أنه يعتقد أن السلعة التي رجعت إليه بعد التحالف هو في إمساكها عن مشتريها منه ظالم غاصب، لكون المشتري ممكن (¬3) له من الثمن الذي يعلم أنه باع به، فلم يقبله منه، ومسك سلعته غصبًا وتعديًا، والغاصب لا يحل له التصرف فيما غصب. وإن كان البائع مظلومًا انفسخ البيع في الظاهر والباطن لكون البائع قد مُنع من الثمن، ولا يلزمه تسليم سلعته بغير ثمن، وقد ردها المشترى عليه، فصار بردها كناقض حقه في عقدها، فتعود إلى ملك البائع ظاهرًا وباطنا. وفائدة هذا الخلاف أن الفسخ إن وقع في الظاهر والباطن حل للبائع التصرف فيها بما شاء من وطء وعتق وبيع وغير ذلك. وإن وقع في الظاهر خاصة لم يحل للبائع التصرف فيها بعتق ولا وطء؛ لأنه وطء لملك غيره، وعتق لملك غيره، وهو يقول: لي قِبَل المشتري دين منعني منه، وقد عثرت له على سلعة، فلا يمكّن من أخذها عوض دينه، لكن يمكن من بيعها في الدين الذي له عليه. فإن سَوِيَتْ مثلَ الثمن الذي له عليه فلا كلام، وإن سويت أقل من ذلك ففي (¬4) بقية الثمن دينًا له عليه، وإن سويت أكثر من ذلك رد الفضلة عليه. ¬

_ (¬1) فراغ بمقدار كلمة. (¬2) كلام غير واضح. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: ممكنًا. (¬4) هكذا، ولعل الصواب: تبْقَى.

وبين أصحاب الشافعي اختلاف: هل يبيع ذلك بنفسه، لأجل تعذر الرفع للحكام في مثل هذا، أو يتولى الحاكم البيع عليه؟ والأشبه بظاهر مذهبنا نحن أن نرفع للحاكم فيتولى البيع عليه. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد أشرنا إلى العذر في تقدمة الكلام على حكم الاختلاف في الكمية قبل الكلام على الاختلاف في الماهية. فاعلم أن المتبايعين إذا اختلفا في ماهية المبيع، فقال المسلم: أسلمت إليك في بُرّ، وقال المسلم إليه: بل أسلمت في تمرْ أو قال المسلم: أسلمت إليك في حنطة، وقال المسلم إليه: بل في شعير، فإن مالكا رضي الله عنه ذهب إلى أنهما يتحالفان ويتفاسخان، ولو كان اختلافهما عند حلول أجل السلم. وذكر أبو الفرج في الحاوي عن مالك رضي الله عنه مثل ما ذكرناه ها هنا. وذكر أن عبد الملك قال: إنهما لا يتحالفان لأنهما اتفقا على جنس واحد، إذا كان اختلافهما ما بين حنطة وشعير. وتقييده نقل الخلاف عن عبد الملك في أحد المثالين اللذين مثلنا بهما بقوله: وقال عبد الملك إذا اختلفا، فقال المسلم: أسلمت إليك في حنطة، وقال المسلم إليه: بل في شعير. ولم يحك ذلك عنه إذا اختلفا في تمر وحنطة، مع تعليله ما ذهب إليه: بأن اختلافهما في قمح أو شعير اتفاق منهما على جنس واحد يقتضي أنه لا يخالف مالكًا رحمه الله فيما ذهب إليه إذا اختلفا في جنسين متباينين كبُرّ وتمرْ. والتحالف والتفاسخ في اختلافهما في جنسين لم يختلف فيه أحد من أصحاب مالك رضي الله عنه لكن شيخنا أبا محمَّد عبد الحميد يخرج في هذا اختلافًا من قوله في المدونة، في صبّاغ صبغ لرجل ثوبًا أسود، فقال صاحب الثوب: إنما أمرتك أن تصبغه أحمر أن القول قول الصباغ، ولم يقل: يتحالفان ويتفاسخان، مع كون محصول اختلافهما أن الصباغ يقول: إنما بعتك نيلا، وهو الذي صبغتُ به ثوبك، ويقول صاحب الثوب: إنما اشتريت منك عُصفُرًا أمرتك أن تصبغ به ثوبي.

وهذا الذي ذكره في المدونة، في مسألة الصباغ، يوجب أن يكون اختلاف المسلم والمسلم إليه في برّ أو تمر، يصدّق المسلم إليه فيما ذكر أنه عليه. وهذا الذي خرجه رحمه الله فيه نظر، وذلك أن الصباغ لما أسلم إليه الثوب وأمر بصبغه صار مؤتمنًا على ما يفعل فيه، مصدق فيما ادعاه من الصِّباغ، كما صدق في أحد القولين مالك المشتريَ في مبلغ ثمن السلعة، إذا سلمها البائع إليه. وعلّل ذلك بأنه اؤتمن على ما دفع إليه، مع كون صاحب الثوب يدعي على الصباغ تعديًا قد يوجب عليه غرامة قيمة الثوب، والأصل براءة ذمته، فلم يقبل قول صاحب الثوب في دعواه دينًا في ذمة المشتري كما لم تقبل دعواه، على الرواية المشهورة، إذا فاتت السلعة ووجب على المشتري غرامة الثمن في إلزام المشتري غرامة ما يدعيه عليه؛ وكما قيل، في الوكيل إذا قال: أمرتني أن أشتري لك تمرًا، وقد فعلت. وقال الموكل: بل برّا ... إنه لا يصدف الموكِّل لأنه يدعي إيجاب غرامة على الوكيل، والأصل براءة ذمته، على ما سيرد بيانه في كتاب الوكالات. وأما عبد الملك فإنه إنما استلوح ما ذهب إليه، في اختلاف المتبايعين، في هل كان السلم في قمح أو شعير؛ فإنما صار إلى ذلك لأنه لما رأى أن التفاضل بين القمح والشعير لا يجوز، استشعر من ذلك أنهما كصنف واحد اختلف المسلم والمسلم إليه هل عقد السلم على جيد ذلك الصنف أو رديئه، ولا معنى لاعتبار حكم الربا ها هنا لأن عِلل الربا غيرُ علل التداعي. وإنما وجب التحالف والتفاسخ في الجنسين لأن المتبايعين لم يقر أحدهما بما ادعاه عليه الآخر من انتقال الملك فإذا قال المسلم: أسلمت إليك في برّ، وقال المسلم إليه: بل في تمر. وقال: بعتك هذه الجارية بمائة دينار. وقال الآخر: بل اشتريتها بمائة قفيز بر. فصاحب الجارية يدعي أن ثمنها دنانير أو عَرْض غير البر، والمشتري لم يقرّ له بذلك، فصار بمنزلة رجل قال لآخر: بعت منّي ثوبك، ويقول صاحبه: لم أبعه، فإن القول قول المدعَى عليه البيعُ

إجماعًا. فقوله في مسألتنا: وكذلك المشتري يدعي على البائع ما لم يقر له به، فإذا قال البائع: بعت جاريتي منك بثوبك، وقال المشتري: بل بعبد. وهكذا فإن البائع لم يقز له بانتقال الملك عن الجارية إلا بشرط أن يعطيه ثوبه عوضها، فلا يلزم نقل ملكه بجنس أمر (¬1) غير الجنس الذي أقر بأنه إنما باع به. وإذا اختلف الجنسان فلم (¬2) يقع اتفاق في نقل الملك، ولا على انعقاد البيع؛ بخلاف الاختلاف في مقدار الثمن فإنهما اتفقا على جنسه وعلى مبلني مّا منه، وانفرد البائع بطلب غرامة المشتري زيادة على المبلغ الذي اتفقا على جنسه واستحقاق البائع له. وكذلك في السلم إذا قال المسلم: أسلمت إليك في تمر. فإنه يدعي على المسلم إليه أنه باع منه تمرًا، فلا تقبل دعواه، ويدعي المسلم إليه أنه اشترى منه برًّا فلا تقبل دعواه. وإذا تقرر أن المذهب التحالف والتفاسخ في هذا، فسواء قيام السلعة فيه وفوتهما، لأجل ما بيناه من كون هذين المتبايعين لم يتفقا على جنس، ولا على انتقال ملك، لبهن يجب رد القيمة ها هنا مع فوت السلعة المقبوضة. وقد قال في المدونة: إذا قال بعتك جاريتي بمائة دينار، وقال المشتري: بل اشتريتها منك بخمسين دينارًا أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن فاتت الجارية قضي على المشتري بقيمتها يوم قبضها. وتنازع الأشياخ في هذه اللفظة هل هي متأولة أم لا؟ فذهب ابن شبلون إلى إبقائها على ظاهرها، ورأى أن القيمة التي يقضى بها، في هذا الاختلاف، يعتبر فيها يوم القبض، سواء كان التنازع في جارية أو عرض آخر سواها. ورأى الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد أن القيمة إنما تعتبر يوم العقد، لكن الجارية لما كانت فيها المواضعة أشار فيها إلى يوم القبض، وهو خروجها من المواضعة، وإن تقدم العقد أيامًا. وإلى هذا التأويل ذهب الشيخ أبو بكر ابن عبد الرحمن، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: آخَرَ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمْ.

وذكر أنه ناظره الشيخ أبو القاسم بن الكاتب في مجلس الشيخ أبي الحسن بن القابسي رضي الله عنهم في هذه المسألة. وسبب هذا التنازع الذي وقع بين هؤلاء الأشياخ أنه قد تقرر أن البيع الصحيح إذا وجب رد العرض فيه، وقد فات، فإنما تعتبر فيه القيمة يوم العقد؛ لأن يوم العقد تحقق انتقال الملك، فيطلب قيمة الملك الذي انتقل إليه إذا لم يقدر على رده لفوته. وتقرر أيضًا أن البيع الفاسد لما كان لا يجب إمضاؤه بل يجب نقضه ورده، ولم يتقرر فيه انتقال الملك انتقالًا محققًا، فاعتبر فيه يوم القبض ووضع اليد عليه، فاعتبر فيه قيمة ما وضَع عليه يده يوم وضعه يدَه وقبضه له. فقد رأى الشيخ أبو القاسم بن شبلون أن هذين المتبايعين لما اختلفا في جنسين تضمن ذلك كون الملك لم ينتقل على حسب ما صورناه أو لا، وإذا لم يتحقق انتقاله اعتبر فيه يوم القبض كالبيع الفاسد. ورأى الشيخ أبو محمَّد أنه لما كان عقدًا لا فساد فيه، ولو رجع أحدهما إلى تصديق الآخر لم يمنع من ذلك ونفذ البيع بينهما، اعتبرَ في القيمة يوم العقد كما يعتير في العقد الصحيح. وإذا تقرر أن الحكم في اختلاف المتبايعين في جنسين التحالفُ والتفاسخ، فإنه لو حلف أحدهما ونكل الآخر، لكان الحالف يقضى له بما حلف عليه. لكن اعتبر الأشياخ ها هنا حق الله سبحانه فيما نهى عنه من أحكام الربا، وبيع الطعام قبل قبضه وما كان في معنى ذلك، فأَمَروا المقضيَّ عليه أن يتحيَّل على تخليصه (¬1) من الربا وما في معناه مما حرم. وإذا (¬2) اختلفا في قمح وشعير، والمكيلة فيهما سواء، وقد حل الأجل، فإنه إذا كان الحالف مَن له السلم قضي له بما حلف عليه، وحلّ للآخر أن يعطيه أن (¬3) يقول: إنه لا يستحقه لأن المبادلة في مثل هذا، قمحًا بشعير كيلًا واحدًا، سائغ. ولو كان ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تخلُّصه. (¬2) الأوْلى: فإذا ... (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما.

اختلافهما في هذين الجنسين، والمكيلة مختلفة، فزعم المسلم أنه أسلم في مائة قفيز قمحًا-. وقال المسلم إليه: بل في مائتي قفيز شعيرًا، فإنه إذا حلف المسلم كان على المسلم إليه أن يخرج من ذمته الشعير، الذي يزعم أنه هو الذي له عليه، ويبيعَه ويشتري بثمنه قمحًا فيسلّمه للمخالف عليه. فإن تخلص، فيما باع، من خسارة أو ربح فلا كلام، وإن لم يوفّ ثمنُ الشعير الذي باعه بالقمح الذي يزعم أنه عليه أُمر أن يُكمل للحالف ما بقي له من القمح. وإن باع الشعير بزيادة على ما يشترى له به القمح، وُوقِفَتْ هذه الزيادة حتى يطلبها مستحقها، فإن لم يطلبها، وسلمها (¬1) تُصدِّق بها عنه. وقد قدمنا في كتاب السلم الأول ما يجوز أخذه عن الأطعمة المسلم فيها إذا حل الأجل، وإذا لم يحل، فمن هناك تعلم ما يجوز له أن يدفعه للحالف وما لا يجوز له أن يدفعه فيؤمر ببيعه، على حسب ما فصلناه. وراعى الأشياخ في هذا حق الله سبحانه في التخليص (¬2) من الربا وغيره مما يحرم في هذه المعاوضات وَالمبادلات، ولم يلتفتوا إلى النظر في العهدة، وكون ما علم المسلم إليه إذا بيع فقد يضيع الثمن فيتكلف خسارة أخرى، وكذلك إذا حلف المسلم إليه ونكل المسلم أمر المسلم أيضًا يأن لا يأخذ ما حلف عليه المسلم إليه بل يبيعه ليتخلص من الربا، ويشتري بثمنه ما يدعيه، على حسب ما فصلناه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: المعروف من المذهب أن اختلاف المتبايعين في كيفية المسلم فيه، بأن يقول المسلم: أسلمت إليك في مائة قفيز قمحًا طيبًا من جنس كذا. ويقول المسلم إليه: بل دنيئًا. وقد اتفقا في جنس القمح، أنهما يجري أمرهما على ما قدمناه من اختلافهما في الكمية، بأن يقول أحدهما: بعتك ثوبي هذا بعشرة ¬

_ (¬1) أي: تركها. (¬2) أي: التخلُّص.

دراهم. ويقول الآخر: بل بتسعة دراهم. وجميع ما جرى من اختلاف الروايات عن مالك مما بيناه هناك، يجري ها هنا. لكن ربما وقع إشك الذي بعض المسائل: هل يعود اختلافهما إلى جنسين، أو إلى صفة الجنس الواحد، كما كنا قدمنا مذهب مالك وعبد الملك، في اختلافها في قمح وشعير، أن مالكا ذهب إلى التحالف والتفاسخ، لكون الشعير (¬1) ها هنا جنسين. وذهب عبد الملك إلى أنهما كجنس واحد، واختلفا في جودته أو دناءته. وكذلك اختلف أصحابنا أيضًا في اختلاف المتبايعين في سمراء ومحمولة، فذهب ابن حبيب إلى أن هذا الاختلاف يعود إلى اختلاف في صفة المسلم فيه فكأن من قال: أسلمت في سمراء، قال: أسلمت في قمح جيّد؛ ومن قال: إِنما السلمَ على محمولة؛ قال: إنما أسلم إليّ في قمح دنيء. وقد كنا قدمنا عنه أنه يقول في السلم الفاسد إذا فسخ: لا بأس أن يأخذ محمولة من سمراء. وهذا قد يشير به إلى أنهما كصنفين، إن كان يمنع بعد الفسخ أخذ الصنف بعينه الذي وقع الفسخ فيه. وذهب فضل بن سلمة إلى أنهما يتحالفان ويتفاسخان. وحمل بعض الأشياخ عليه أنه يرى هذا الاختلاف كاختلاف في جنسين، ويمكن أن يكون سلك في هذا طريقة من يرى التحالف والتفاسخ في الاختلاف في مقدار الثمن، وإن فات المبيع. ونقل هذا عن فضل بن سلمة بكلام يوهم أنه كذلك يقول: لو كان اختلافهما: هل وقع السلم في سمراء جيدة أو وَسَطة؛ وهذا النقل إنما يصح على ما أشرنا إليه بأنه سلك طريقة من يرى التحالف والتفاسخ في مقدار الثمن وإن فات المبيع. ولو كان اختلاف المتبايعين، وقد وقع السلم في الخيل، هل وقع عقد السلم على ذُكْرانِها أو إناثهلالكان هذا اختلافًا في جنسين، لكون الأنثى تراد للنسل، والذكر لا يراد له. ولو كان هذا الاختلاف في بغال، لكان اختلافهما ¬

_ (¬1) أي: والقمح.

في الذكررية والأنوثية اختلافًا في الصفة والجودة والدناءة؛ لأن الأنثى لا تراد للنسل. وهذا ينحصر الفقه فيه إلى مقتضى العوائد، وما يتعارف الناس في مثل هذا. وإنما ذكرنا هذا لأنه أنموذج لهذه المسائل. وبالله التوفيق. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا أن كل معنى يؤدي إلى الاختلاف في المثمن حكمه حكم الاختلاف في الثمن. قال: وذلك كاختلاف المتبايعين في الأجل، واشتراط. رهن، أو حميل، أو يقول: أحدهما اشترطت الخيار، ويقول الآخر: أنا اشترطت الخيار دونك، أو عقدنا البيع بتْلا. وهذا الذي مثل به فيما (¬1) يؤدي إلى الاختلاف في الثمن الصحيح. لكن قوله: في اختلافهما في شرط الخيار، ووقوع البيع بتلا، مما يفتقر إلى تحقيق، وهو النظر فيما يختاره مدعي الخيار، هل الإمضاء؟ فيوافق دعوى من يدعي البتل، فلا يفتقر إلى يمين، أو يختار رد البيع، فيختلف هل يكون القول قولَه، أو قولَ من يدعي البتل، على ما يدعي. سيبسط الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى. واعلم أن اختلاف المتبايعين في الأجل، لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتفقا على أن البيع وقع إلى أجل محدود، واختلف في هذا الأجل، هل تقضّى أم لا؟ و (¬2) يختلفان في مقدار الأجل، هل شهر أو شهران؟ أو يختلفان في نَفيه أصلًا، أو ثبوته، فيقول البائع: بعت على أن آخذ الثمن حالًا. ويقول المشتري: بل إلى شهر. فأمّا القسم الأول، وهو اتفاقهما على مدة الأجل واختلافهما هل تقضّى أم لا؛ فإن القول فيه قول من أنكر تقضّيَه؛ لأنا نعلم أن هذا الاختلاف بينهما يرجع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مما. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: أو.

إلى الاختلاف في زمن العقد متى كان؟ ولو اتفقا على زمن العقد؛ لأنكرت العقول عليهما اختلافهما في تقضيه؛ فإذا قال البائع: وقع العقد في أول يوم من شهر شعبان، والثمن يحل إلى شهرين. وقال المشتري: بل إني أدفع إليك الثمن بعوإنقضاء شوال. مع موافقته له على أن البيع انعقد إلى شهرين. عُلِم أنه كَذَب في قوله: إن الأجل لم ينقضِ إذا استهل هلال شوال. وإن قال البائع: وقع العقد في أول شعبان والأجل شهران. وقال المشتري: بل في أول رمضان والأجل شهران. كان القول قولَ المشتري؛ لأن الأصل أن لا معاملة .. بينهما فيما مضى من غيرهما (¬1)، فهما باقيان على هذا الأصل مستصحبان له، حتى يثبت أنهما تعاقدا هذا البيع في زمن معلوم، ببينة، أو بإقرار، فيزول حكم استصحاب الحال. وأما القسم الثاني، وهو أن يختلفا في مقدار الأجل مع اتفاقهما على ثبوته واشتراطه في أصل العقد على الجملة؛ فإن هذا الحكمُ فيه كالحكم في الاختلاف في الثمن، يجري فيه من الاختلاف ما قدمناه من الروايات عن مالك وأصحابه رضي الله عنهم. فيتحالفان إذا كانت السلعة في يد البائع، وإن فاتت بالقبض جرى ذلك على الاختلاف هل القبض فوت فيصدّق المشتري، كما روى ابن وهب في هذه المسألة بعينها في اختلافهما في الثمن؛ ويراعى في الفوت مع القبض أن يَبِينَ بالسلعة، أو يتغير سوقها أو ذاتها، على ما مضى بيانه، فيصدق المشتري في مقدار الأجل مع حصول الفوت، على الاختلاف المذكور فيه، أن ادعى ما يشبه. وهذا لم يختلف فيه المذهب، وكذلك مذهب الشافعي أجرى هذه المسألة على حكم الاختلاف في الثمن. وخالف في ذلك أبو حنيفة: أن التحالف والتفاسخ مختص بالاختلاف في الثمن، وأما هذه الصفات الملحقة بالعقد التي لا تثبت فيه إلا باشتراط القول، فالقول قول من نفاها لكون حقيقة البيع لغةً وشرعًا تحصل، وإن لم يشترط أجل ¬

_ (¬1) أي: الشهرين.

أو ضمين أو رهن، فمن ادعى تغير هذه الحقيقة وإضافة شرط إليها لم يقبل قوله، وكان الأصل أن يصدق المشتري في مقدار الثمن، على حسب ما كنا قدمناه. لكن ورد الخبر المتقدم ذكره وبيانه، فنقلنا عن مقتضى هذا الأصل والقياس، فلا يبعد ما اقتضاه الخبر. نجيب عن هذا بأن قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع وللمبتاع الخيار" (¬1) يقتضي عمومه إجراء هذا الحكم في سائر الاختلافات، على اختلاف أنواعها، إلا ما خصه دليل. وإن زعموا أن هذا اللفظ مجمل لا يحتج به، قلنا: بل هو عموم. فإن قالوا: هو عموم من جهة المعنى لا من جهة الصيغة؛ لأنه لم يقل: كل مختلفين في أمر أو في حكم، أو في شيء، فيدعَى العموم في هذه اللفظة التي هي: أمر أو شيء أو حكم؛ ولكنه لما قال: "إذا اختلف المتبايعان" ولم يذكر ما اختلفا فيه نصًّا ولا عمومًا، صار من ناحية العموم في المعاني. قيل لهم: جماعةٌ من الفقهاء يقولون بالعموم في المعنى كما يقولون به في الصيغ. فإن قالوا: مرور الزمن ليس بثمن ولا في معنى الثمن، فلا يجب إلحاقه بالاختلاف في الثمن. قيل لهم: الصبر على المشتري حتى ينقضي الأجل هو الذي له رخصة (¬2) من الثمن. فالاختلاف في الأجل اختلاف في هذه الحصة، فجرى الحكم على الاختلاف في الثمن. وإن قالوا: لو ادعى البائع شرط البراءة من العيوب حين العقد، لم يتحالفا، وكان البائع مدعيًا؛ فكذلك الأجل، إذا ادعاه المشتري. فأما بعض أصحابنا فأشار إلى الفرق أن الأصل في الشرع القيام بالعيوب، وهو من مقتضى العقد، فمن ادعى خلاف هذا الأصل وخلاف مقتضى العقد، كان عليه الإثبات. ¬

_ (¬1) لم أجد إلا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة لفظ ابن ماجة: إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه، فالقول كما قال البائع، أو يترادان البيع ابن ماجة ج 2 ص 737 ح 2186. وأخرجه الحاكم ج 2 ص 45. وانظر تهذيب ابن القيم ج 5 ص 163 وروي بمعناه عند الإِمام أحمد ج 15 ص 66. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: حِصّة.

وبعض أصحاب الشافعي يرى أن دعوى الشرط بالبراءة من العيوب الباطنة في الحيوان التي يجوز اشتراط البراءة منهلالو اختلفا فيه لتحالفا كما يتحالفان في الاختلاف في الأجل. وأما القسم الثالث، وهو دعوى البائع انعقاد البيع على كون الثمن حالًا، ودعوى المشتري أنه إلى شهر. فإنه ذكر في تضمين الصناع من المدونة أنهما يتحالفان مع قيام السلعة؛ وإن فاتت صدق البائع في دعواه الحلول. وفي رواية غير يحيى تصديق المشتري مع الفوت. وذكر في كتاب الوكالات وكتاب الرهن من المدونة تصديق المشتري مع الفوت، إذا ادعى حدًا قريبًا لا يتهم فيه. وهكذا قال ابن القاسم في كتاب الرهن: إنه يقبل قول البائع في دعوى الحلول. وقد قدمنا لك اختلاف المذهب في مراعاة دعوى الشبه إذا اختلفا في الثمن، والسلعة قائمة. وأما مع الفوت فيراعى دعوى الشبه، فكأن من صدق البائع في الحلول رأى أن من ادعى الحلول هو الذي ادعى ما يشبه فيصدّق، ومن لم يصدق رأى أن البيع يكون حالأوإلى أجل فيجري الأمر فيه على الاختلاف في الثمن مع فوت السلعة. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد قدمنا أن اشتراط تعيين المكان الذي يقبض فيه السلم ليس بشرط في صحة عقد السلم. فإن اتفق المتبايعان على أنه اشترط في العقد القبض في بلد بعينه، فإنه يقضى على من عليه السلم بتسليمه في البلد الذي وقع فيه (¬1) العقد، على ما قدمنا بيانه. وإن اتفقا على أن العقد وقع على شرط تعيين بلد، واختلفا في البلد المشترط، فلا يخلو أن يدعي أحدهما اشتراط البلد الذي وقع فيه العقد، أو يدعي كل واحد منهما اشتراط بلد غير البلد الذي وقع فيه العقد. وإن ادعى أحدهما اشتراط البلد الذي وقع فيه العقد، وكان ذلك بقرب زمن العقد، تحالفا وتفاسخا؛ لأن (الاختلاف في مقدار الأجل) (¬2) على حسب ما بيناه. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: عليه. (¬2) هكذا في النسختين؛ ولعل المعنى: (كالاختلاف ...).

ويجري في ذلك من الخلاف جميع ما قدمناه في أنواع الفوت، ومراعاة دعوى الشبه مع عدم الفوت؛ والاختلاف في ذلك لأجل أن مدعي موضع العقد ادعى ما يشبه، فإن وقع الفوت بطول الزمن، على المذهب المشهور المذكور في المدونة، صُدّق من ادعى موضع العقد، إن كان هو المسلم إليه، من غير خلاف عندنا. وإن كان مدعى موضع العقد المسلم، ففيه قولان: ففي المدونة أنه يصدَّق. وذهبَ سحنون إلى أنه إنما يصدق الغارم، وهو الذي عليه السلم، وإن كان مدعيًا لغير بلد العقد. وسبب هذا الاختلاف في هذا الوجه دون ما قبله، أنه إذا ادعى المسلم إليه موضع العقد، وهو الغارم، فقد قوي جانبه من وجهين: أحدهما: كونه غارمًا، والغارم هو المدعى عليه. والثاني: كونه ادعى ما يشبه، ودعوى ما يشبه توجب تصديق من ادعاه ها هنا. فصار له ترجيحان، حتى إذا كان مدعي بلد العقد المسلمَ افترق هذان الترجيحان، فترجح جنبة المسلم إليه بكونه غارمًا، وتترجح جنبة المسلم بكونه ادعى ما يشبه وهو موضع العقد، فحسن ها هنا الخلاف؛ فرجح في المدونة المسلم لأجل انفراده بدعوى الشبه، ورجح سحنون المسلم إليه بكونه غارمًا. وإن ادعى كل واحد منهما انعقاد السلم على القبض ببلد غير بلد العقد فإن المشهور من المذهب أن القول قول الغارم إذا ادعيا جميعًا من البلاد ما يشبه أن يُشترط قبض المسلم فيه. وذهب أبو الفرج في الحاوي إلى أنهما يتحالفان ويتفاسخان. فمن ذهب إلى أن القول قول الغارم رجح جانبه بكونه غارمًا، ومع الفوت يصدق الغارم. وأما أبو الفرج فيمكن، عندي، أن يكون ذهب في هذا إلى طريقة أشهب، وهي التحالف والتفاسخ مع فوت المبيع، وهذا إذا ادعى كل واحد منهما بلدًا يشبه أن يشترط قبض السلم فيه، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان. ولا يمكن أن يقال ها هنا ما قلناه في اختلافهما في مقدار المكيلة المسلم فيها، إذا ادعيا جميعًا ما لا يشبه فيها: إنهما يحملان على الوسط من سلم الناس،

على أحد القولين، كما قدمنا ذكر هذا، وذكْرَ الخلاف فيه لأجل أن البلاد كثيرةٌ، وكلُ بلد منها حكمه في نفسه يشبه اشتراط قبض المسلم فيه، كحكم بلد آخر في محاذاته، أو قريبًا منه. والمكيلة مقدار الأسعار فيها معلوم، فإذا رُدَّ إلى الوسط من أسعارها حُملا على أمر معلوم. وقد تقدم بيان هذا. وقد قيل في الآجال: إذا تداعيا فيها ما لا يشبه، كما قيل في اختلاف الأمكنة التي لا يشبه القبض فيهالأولكن المعروف في اختلافهما في الأجل أن يحملا على الوسط من الأجل، لكون الأثمان يستدل بها من جهة الأسعار على مقدار الأجل، ويعرف الوسط منها. ولو اتفقا على أنهما اشترطا بلدًا معينًا، وتراضيا عند حلول الأجل على قبض الطعام ببلد آخر تلاقيا به، فإن اشترط قابض الطعام أن يأخذ مع المكيلة التي له على الذي عليه السلم زيادةَ دراهم أو عرض، فإن ذلك لا يجوز، لكونه بيعَ الطعام قبل قبضه لما باع المكيلة التي له في الذمة بمثلها وزيادة دراهم، أو عرض عليها، مع التفاضل بين الطعامين، مع تقدير النساء في بيع هذين الطعامين، وهو مسافة ما بين البلدين. وإن تراضيا على المكيلة مجردة من زيادة عليها، فإن ابن المواز وابن حبيب ذكرا إجازة ذلك. وذكر أبو القاسم بن الكاتب أن الأشبه أنه لا يجوز، لكون اختلاف مسافة البلدين، وأسعارهما كزيادة مقبوضة مع الطعام الذي أخذ ببلد غير البلد الذي تعاقدا على القبض فيه، فلهذا امتنع في اشتراط قرض الطعام أن يدفعه مسلفه في غير البلد الذي قبضه فيه، لما تقرر من كون العمل في المسافة التي بين البلدين كزيادة مشترطة في السلف. وإن لم يحل الأجل فلا يجوز التراضي بأخذ ذلك ببلد آخر، لكون التهمة ها هنا في حصول الزيادة متأكدة لكون الأجل لم يحل، ولم يلزم المسلم إليه أن يدفع السلم، فكأنه إنما يطوع لأجل حمل مؤونة المسافة. وذكر بعض الأشياخ أنه لا فرق بين حلول الأجل وكونه قد حل، وقد نبهنا على الفرق بتأكد التهمة إذا لم يحل الأجل، وضعفها إذا حل.

ومما يلحق بالكلام على اختلاف المتبايعين في مكان القبض اختلافهما في جنس المكيلة. فقد ذكر ابن حبيب أنهما إذا اتفقا على أن العقد وقع على مائة قفيز قمحًالأولم يشترط كل واحد منهما عيار بلد بعينه، إنهما يحملان على المكيلة التي يُكتال بها بالبلد الذي وقع العقد به. وإن قال المسلم: بل شرطت مكيلة بلدي، وقال المسلم إليه: بل مكيلة بلدي. فإن القول قول الغارم وهو الذي عليه السلم، وهذا لأجل أن هذا، الاختلاف يفضي بهما إلى اختلاف في مقدار المسلم فيه، هل هو مائة قفيز أو تسعون قفيزًا. وقد قدمنا أن القول قول الذي عليه السلم إذا وقع الاختلاف بعد زمن العقد. وكان بعض أشياخي يرى حملها على مكيلة البلد الذي اشترط قبض الطعام فيه، وهذا لأجل أنه يراه مقتضى العرف والعادة، وبالجملة فالمسألة راجعة إلى ما بسطنا القول فيه في اختلافهما في مقدار المسلم فيه. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: اختلاف المتبايعين في التسليم على وجهين: أحدهما: أن يختلفا من الذي يبدأ بتسليم ما عنده. والثاني: أن يختلفا: هل وقع التسليم أو لم يقع. فأمّا الوجه الأول، وهو تشاحهما فيمن يبدأ بالتسليم فإن هذه المسألة لا أعرف فيها نصًّا جليًّا لمالك ولا لمن تقدم من أصحابه. لكن أبا حنيفة ذهب إلى أن المشتري يُجبر أن يبدأ بتسليم الثمن، فبعد تسليمه إياه يستحق قبض السلعة المبيعة. وذهب الشافعي في الأظهر من كلامه إلى أن البائع يجبر على أن يبدأ بتسليم السلعة، فإذا أسلمها استحق قبض الثمن .. ومن أصحاب الشافعي من يضيف إليه قولين آخرين: أحدهما أنه لا يرى جبر هذا ولا هذالأولكن يُعرِض الحاكم عن النظر بينهما، كأنهما لم يتبايعا، ويمنعهما من التشاجر والتخاصم.

حتى إذا تطوع أحدهما بأن يبدأ بالتسليم وسلّم ما عنده قضى على الآخر بتسليم ما عنده. والثاني: أن الحاكم يقبض الثمن والمثمون، ثم يسلم لكل واحد منهما ما يستحقه، ولا يبالي بمن يبدأ به منهما. وأبو حامد الإسفراييني تردد في هذا النقل: هل ثبتت عن الشافعي هذه الثلاثة مذاهب أو لا يثبت عنه إلا البداية بجبر البائع على التسليم؟ وتردد في هذا الاحتمال كلام الشافعي. فقد صار الخلاف بين هذين الإمامين هل يبدأ بالمشتري ويجبر على التسليم كما قاله أبو حنيفة، أو يبدأ بالبائع فيجبر على التسليم كما قال الشافعي في المذهب الذي اتُّفق على إضافته إليه؟ وأما مذهبنا نحن فإن ابن القصار قال: الذي يقْوَى في نفسي جبر المشتري على البداية بتسليم الثمن أو إعراض الحاكم عنهما، كما قال الشافعي في أحد أقواله، ومال إلى أن البداية بجبر المشتري، كما قاله أبو حنيفة أقوى. وأما شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله، فإنه كان يرى أن المذهب عندنا على قولين: أحدهما: البداية بجبر المشتري على التسليم، كما قاله أبو حنيفة. ويخرج هذا من كون الزوج مجبورًا عندنا على دفع الصداق قبل أن تمكنه المرأة من نفسها، وهو المشتري لمنافع البضع. ويخرج ما قاله الشافعي من البداية بجبر البائع على التسليم، من قوله في المدونة: إذا اختلف المكتري وصاحب الدابة في تعجيل الكراء وتأخيره ولم يكن بينهما شرط ولا عادة، فإنه يقضى على المكتري أن يدفع لصاحب الدابة بقدر ما سار. وهذا يقتضي البداية بالبائع في دفع السلعة، قبل أن يقبض الثمن الذي هو الكراء. ونازع في هذا شيخنا أبو الحسن اللخمي فقال: إن المكتري ها هنا إنما لم يلزم بتعجيل الكراء قبل أن يركب، لأجل أنه لا يمكن أن يقسط الكراء على كل خطوة، لما في ذلك من الحرج والجهل بحقيقة التقسيط وأقل ما يقسط

الكراء على يوم يوم، يلزم المكتري أن يدفع نقدًا عند طلوع الشمس ويتأخر قبض العوض عنه إلى آخر النهار. بخلاف إذا كان العقد على سلعة معينة يمكن تسليمها، وقبض الثمن بعد تسليمها في الحال، من غير تراخ، فإنا إذا أجبرنا المشتري على البداية بالنقد، على مذهب من ذهب إلى هذا، لم يكن في ذلك ضرر ولا إسقاط للمساواة بين البائع والمبتاع. بخلاف جبر المكتري على دفع كراءٍ وعوضُه يتأخر قبضه. وهذا هو مدافعة لشيخنا أبي محمَّد عن استقرائه (¬1)، فيه نظر. ولشيخنا أن يقول: إذا جعلت في هذه المسألة خصوصًا دون غيرها من عقود البياعات، لأجل أن المشتري إذا أجبرناه على الوزن تأخر قبض عوض ما يوزن، وهذا لا سبيل إليه، فهلا عكستم هذا؟ وقيل أيضًا: لا يلزم ربَّ الدابة أن يقطع بالمكتري مسافة يوم، وما قطعه في أول النهار يتأخر قصد عوضه، فهذا التعليل - لما وقع في المدونة، ينقلب كما بيناه، وإذا انقلب عدل عنه إلى أن العلة في هذا كون البائع يبدأ بالتسليم في هذا وفي غيره، لأجل العلل التي نذكرها في توجيه هذا المذهب. ويذكر هذا أنه قد تقرر أن من باع سلعة بثمن إلى أجل فإنه ليس له حبس السلعة حتى يحِلَّ الأجل ويَقبض الثمن؛ لأنه لم يدخل على ذلك، لأجل (¬2) ما رضي به من التأجيل وقد أخذ عوض الصبر، فالثمن فيه زيادة على بيع النقود، فكذلك ها هنا المكتري قد علم أن ما اشتراه من المنافع لا يقبض دفعة واحدة بل يقبض شيئًا فشيئًا، فليس من حقه قبض الكراء حتى يفرغ آجال المشتري من المنافع. وهذا يولد ضعف الاعتماد على ما أشار إليه شيخنا أبو الحسن من الفرق لما أريناك من كون النظر يقتضي البداية بتقديم المشتري في دفع الكراء قياسًا على بيع سلعة بثمن إلى أجل، فإن المؤجل يتأخر والمنقود يبدأ بتسليمه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَفيه نظر. (¬2) هكذا في النسختين.

وقد أشار أبو الحسن المعروف باللخمي إلى طريقة أخرى فقال: إن المحتبسة بالثمن، إنما وقع الخلاف في ضمان البائع لها، وأن المبيع مما لا يغاب عليه، كعبد أو دابة، لأجل أن البيع يختلف فيه، هل هو مجرد العقد، أو البيعُ التقابضُ بعد العقد؛ فإن قلنا: إن البيع مجرد العقد كان الضمان من المشتري، لكونه (لم يقبض) (¬1). وإن قلنا: إنه التقابض لم يضمن المشتري ما احتبسه البائع من الثمن، لكونه لم يقبضه. فمتى قلنا: إن البيع هو مجرد العقد جبر البائع على تسليم السلعة، لحصول حقيقة البيع فيها، ثم يجبر المشتري على إخراج الثمن الذي وقع العقد عليه في ذمته. وإن قلنا: إن العقد هو التقابض حسن في ذلك ما قدمناه من الاختلاف بمن يبدأ بالتسليم، ويرى أن المتبايعين لا مزية لأحدهما على الآخر، وإذا لم يترجح أحدهما على الآخر ولم يكن له عليه مزية لم يتقدم أحدهما على صاحبه، ويؤمران بأن يخرج المشتري الثمن العين من ذمته فينقد ويوزن، ثم يمد يده به إلى البائع، ويمد البائع سلعته ويتقابضان معًا. وهذا الذي ذكره هو النظر الصحيح إذا لم يكن لأحدهما على الآخر مزية ولا ترجيح، لكن يبعد تصور ذلك وخروجه إلى الوجود؛ لأنهما إذا تلاقت أيديهما فقد لا تمكن المساواة في التقابض في أضيق زمن، وقد يقول أحدهما: أزل يدك عن ثوبك قبل أن أزيل يدي عن كيسي. ويقول الآخر: بل أنت تزيل يدك عن كيسك قبلُ. وتصوّر تقابضهما معًا من غير سبق بحركة من الحركات في التسليم يبعد. ولكن إذا بعُد هذا ولم يتصور، وثبت الأمر به لأحدهما على الآخر، كانت القرعة أَوْلى، كما قدمناه في اقتراع المختلفين في اليمين: من يبدأ منهما؟ ولكنه مع هذا قال: ولو كان المبيع عقارًا فأخلاه من شواغله بائعه، ورفع يده عنه، لكان برفع يده يستحق قبض الثمن. وهذا أيضًا فيه نظر؛ لأن رفع يده عنه تمكينَ المشتري من قبضه، فإن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عقد.

لم يمكنه فإنه لم يرفع يده، وإن مكّنه فقد برأ (¬1) بالتسليم، وهو غاية المقدور عليه في تسليم العقار وما لا ينتقل. واختار أنه لو كان التعاقد على سلعة بسلعة لم يكن بدّ من تقابضهما معًا، إذ لا مزية لأحدهما على الآخر. وقد أشار أبو حامد الإسفراييني إلى هذا الذي أشار إليه شيخنا من التفرقة بين أن يكون بيع السلعة بعين أو بسلعة أخرى، فقال: إذا كان المبيع سلعة بسلعة فإنه لا يتصور فيه ما حكيناه عن الشافعي من البداية بالبائع؛ لأن كل واحد من هذين بائع، لكن إنما يتصور فيه القولان الآخران، وهما إعراض الحاكم عن النظر ليهما، أو قبض العوضين منهما، على حسب ما بيناه من مذهب الشافعي. واعلم أن مدار الخلاف في هذه المسألة على اعتبار ترجيح أحد المتبايعين على الآخر، فإن لم يكن ترجيح فليس إلا التقابض معًا كما قاله شيخنا أبو الحسن إن أمكن ذلك، على بعد إمكانه، أو القرعة بينهما. وإن ترجّح أحدهما على الآخر قضي له على الآخر، فمن ذهب إلى ترجيح جنبة البائع وقضى له على المشتري بأن يبدأ المشتري بالدفع إليه يقول بأن البائع يقول: من حقنا أن تساويَ بيننا، وسلعتي المبيعة قد تعينت، وها أنا أسلمها، وما في الذمة من الثمن لم يتعين، وإن عينه في يده فله إبداله فلا يتعين إلا بتسليمه إليّ. وهذا يقتضي ما ذهب إليه أبو حنيفة من البداية بالمشتري في التسليم. ومن رجّح جنبة المشتري جبر البائع على التسليم أوَّلًا، ويقول: إن المشتري يزعم أن السلعة التي اشترى قد ملكها، وتعين حقه في عَينٍ معينة، وحق البائع عليه شيء في الذمة لم يتعين، فلا يؤخر عنه قبض ما تعين حقه فيه، فإذا لم يؤخر عنه قبض ما تعين حقه، وجب أن يبدَّأ بالبائع، ويقضَى على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَرِئَ.

المشتري بالثمن الذي لم يتعين حين العقد. وأما من ذهب إلى إعراض الحاكم عنهما، فإنه يرى أنه لما لم يترجح جانب أحدهما على الآخر لم يصح القضاء لهذا على هذا، فأبقاهما على المشاركة، ومنعهما من المشاجرة، كما لو ادعى رجل على آخر بدين فنكل المدعَى عليه عن اليمين، وردها على المدعي فنكل، فإنهما يتشاركان، ويمنعهما الحاكم من المشاجرة والخصام (¬1). وعلى هذا الأسلوب جرى من ذهب إلى قبض الحاكم منهما الأعواض، ثم تولّي الدفع أوَّلًا لمن شاء منهما، لكون أحدهما لا مزية له على الآخر. فصرف الخيار إلى الحاكم بعد قبضه ما في أيديهما جميعًا حتى يتساويا في الدفع إليه، ثم يخير هو فيمن يبدأ به. هذا بيان اختلافهما فيمن يبدأ بالتسليم منهما. وأما لو اختلفا: هل وقع التسليم والقبض أو لم يقعا، فإنه لا يخلو من قسمين: أحدهما: أن ينكر المشتري تسليم البائع السلعة المبيعة إليه؛ أو ينكر البائع قبض ثمن ما باعه. فأما إن أنكر المشتري قبض السلعة المبيعة، فإن القول قوله، إذا لم يقع إشهاد بينهما على كون الثمن في ذمة المشتري؛ لأن على البائع التمكين من المبيع وتسليمه لمشتريه. والأصل كونه غيرَ فاعل لهذا، فإذا زعم أنه قد فعله فعليه إثباتٌ. وأما إن وقع الإشهاد على المشتري بالثمن، فإن في ذلك قولين: المشهور منهما أن البائع مصدق في دفع السلعة. وذهب محمَّد بن عبد الحكم إلى أن البائع لا يصدق في دفع السلعة. وهو ظاهر مذهب ابن أبي ليلى. وهذا الذي قاله محمَّد بن عبد الحكم هو طرف التعليل الذي قدمناه؛ لأنا ذكرنا أن على البائع التمكينَ من المبيع والتسليم له. وإن ادعى أنه فعله فعليه ¬

_ (¬1) هذ ابن اء على عدم مراعاة: مقابلة النكول بالنكول تصديق للناكل الأول.

إثبات ذلك. وهذا التعليل جار في كون المشتري قد أُشهد عليه الثمنُ، على حسب ما هو جار في (¬1) إذا لم يشهد عليه بالثمن. ومن ذهب إلى تصديق البائع يعتلُّ بأن الظاهر في العادة أن المشتري لا يسامِح بالإشهاد على عمارة ذمته بالثمن، وكونه مطلوبًا به، إلا وقد قبض السلعة التي هي عوض ما أشهد به على نفسه. فأصحاب هذا المذهب إنما انتقلوا على هذا الأصل الذي قررناه لأجل اعتقادهم كون العادة ما ذكرناه، ولم تثبت عند الآخرين هذه العادة، فأبقوا الحكم على الأصل الذي قدمناه. وإذا قرر هؤلاء أن التسليم يصدَّق فيه البائع ها هنا، إذا وقع الإشهاد على المشتري بالثمن، لدلالة العادة على صدقه، فإن في المستخرجة تصديقَه في ذلك، ويحلف على أنه سلم السلعة، إذا كان هذا التنازع بفور البيع. وأما إن أخر المشتري طلب السلعة حتى طال، أو حلّ أجل الثمن، فإنه لا يمين على البائع، وقدّر أن المشتري إذا لم يطلب السلعة المبيعة، إلا بعد طول زمن وقت (¬2) العقد، فإنه تبين كذبه في أنه لم يقبضها واتضحت العادة الدالة على كذبه فوق اتضاحها إذا أشهد على نفسه بالثمن وطلب السلعة بفور البيع. وهكذا ذكر ابن حبيب عن مالك وأصحابه في إشهاد البائع على نفسه بقبض الثمن، ثم عاد يطلبه، واعتذر عن الإشهاد على نفسه بقبض الثمن؛ لأنه وثق بالمشتري أنه لا يمنعه إياه ولا يجحده، أنه لا يمين على المشتري لكون البائع ادعى ما أكذبته فيه البينة التي شهدت على إقراره بقبض الثمن. لكن ابن حبيب رأى اليمين على المشتري إذا ظهر سبب أو تهمة، وإن كان البائع قد أشهد على نفسه بقبض الثمن، لإمكان صحة ما اعتذر به عن ثقته بالمشتري مع وجود سبب أو تهمة تؤكد صحة اعتذاره. وفي الموازية وإلزام المشتري اليمين على دعوة البائع؛ وكأنه قدر اعتذاره يشبه ويليق. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما. (¬2) هكذا في النسختين، والمعنى: طول زمن من وقت ...

هذا حكم إنكار المشتري قبض السلعة المبيعة. وأما إنكار البائع قبض الثمن، فإن الأصل في هذا المعتمد عليه ما كنا أشرنا إليه من استصحاب الحال، وكون ذمة المشتري عامرة بدين وهو الثمن، والأصل أنه لم يدفعه، ولا خلت ذمته منه، فإن ادعى أنه قد دفعه فعليه إثبات ذلك. لكن أيضًا اتفق المذهب ها هنا على اعتبار حكم العادة، فصدق المشتري فيما العادة التبايع فيه بالنقد في الأسواق، كالخبز والزيت والبقل، وغير ذلك مما يباع على النقد. فإذا تسلم المشتري المبيع، وبأن به، صدق في دفع الثمن بشهادة العادة له بصدقه، وأنه لا يمكّنه البائع من فراقه بعد القبض للمبيع إلا وقد دفع إليه الثمن. وهذا لم يختلف فيه المذهب لاتضاح العادة الدالة عليه. لكن اختلف ابن أبي زمنين ويحيى بن عمر في هذا الجنس الذي يباع فيه قليله بالنقد، لو اشترى منه الكثير هل يصدق المشتري في دفع الثمن، كما صدق في القليل أم لا؟ فذهب ابن أبي زمنين إلى تصديقه. وذهب يبيح ابن عمر إلى أنه لا يصدق. وهذا منهما اختلاف في شهادة بعادة فلو اتضحت العادة، بأن الكثير من الخبز والزيت والبقل لا يباع إلا بالنقد، كما يباع القليل من ذلك، لما اختلفا فيه. وأمّا ما سوى هذا مما يباع على غير النقد، فإن القول قول البائع أنه لم يقبض الثمن، لما قدمناه من كون ذمة المشتري عامرة بالثمن، ولا بينة له على البراءة، ولا عادة تشهد وتصدقه، فوجب مطالبته بإثبات ما ادعاه من البراءة من الثمن المتقرر في ذمته، وهذا ما لم يطل الزمن بعد العقد طولًا تشهد العادة بكذب البائع في أنه لم يقبض الثمن، فيصدق حينئذ المشتري لشهادة العادة له. والتحقيق أن هذا الطول غير محدود ولا مقدر إلا بحسب ما تجري به العادة في سائر الجهات، ومن اختلاف أجناس التجارات. وإن كان ابن حبيب ذكر عن مالك أن الحيوان والعقار بخلاف البَزّ وغيره مما يباع على التقاضي.

فرأى أن العام والعامين في الحيوان والرقيق طول يشهد بصدق المشتري في دفع الثمن. وذكر عن ابن القاسم أنه ساوى بين العقار والحيوان والبز، ورأى أن البائع مصدق في أنه لم يقبض الثمن وإن طال الزمان، إلا أن يطول طولًا كثيرًا لا يجوز البيع إليه، فإنه لا يصدق البائع حينئذ. وهذا كله مداره على ما قدمناه من اعتبار العوائد فلا معنى للرجوع إلى هذه الروايات فيه إذا كانت العادة في بعض البلاد بخلاف مقتضى هذه الروايات لأنها مبنية على شهادة بعادة وهذا واضح. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: لها (¬1) اختلاف المتبايعين في الأحكام بأن يدعي أحد المتبايعين صحة العقد، ويدير الآخر فساده. فإنه ذكر في المدونة أن القول قول مدعي الصحة على الإطلاق. ولم يفرق بين كون هذا الاختلاف يتضمن اختلافًا في الثمن أوْ لا يتضمنه، بل ذكر، في اختلافهما في السلم هل ضربا له أجلًا أم لا؟ وهل تأخر قبض رأس المال أو تقدم بشرط أم لا؟ أن القول قول مدعي الصحة. وحمل الأشياخ ما وقع في المدونة على أن هذا الاختلاف لم يتضمن اختلافًا في الثمن، وإنما وقع بينهما اختلاف في صحة العقد أو فساده خاصة، مثل أن يقول أحدهما: عقدنا البيع يوم الجمعة والإمام يخطب، أو ما في معنى ذلك مما لا ينصرف الاختلاف فيه إلى الثمن. ونوقضوا في هذا بأنه ذكر في المدونة أن القول قول مدعي الصحة وإن اختلفا: هل تأخر رأس مال السلم بشرط أو لا؛ وهذا يتضمن كونهما مختلفين في الثمن لأن اشتراط تأخير رأس المال يخالف اشتراط انتقاده في مقدار الثمن. وأجاب بعضهم عن هذا بأن هذه المسألة تحمل على أن اختلافهما في هذا وقع بعد أن فاتت السلعة، ونحن إنما قلنا أن القول قول مدعي الصحة لأنه ادعى ¬

_ (¬1) كذا في النسختين. ولا معنى لكلمة: لها. في هذا الموضع.

الأشبه؛ لأن الغالب في بياعات المسلمين الصحة، ومن ادعى الأشبه من المتبايعين صدّق مع فوت السلعة من غير خلاف، كما قدمناه قبل هذا في موضعه. وإنما اختلف المذهب في تصديق مدعي الأشبه مع قيام السلعة، فالأكثر على أنه لا يصدق، بل يتحالفان ويتفاسخان. وقال عبد الملك بن الماجشون: بل يصدق من ادعى الأشبه. واختلف هذان (¬1) هل اشترطا في عقد السلم تأخير رأس المال أو لم يشترطاه، وإنما وقع عند حلول الأجل، وحلول الأجل في المسلم جرى مجرى الفوت في السلع المعينة، كما قدمناه. وأما لو كان اختلافهما في هذا في فور عقد السلم لتحالفا وتفاسخا، على حسب ما قدمناه من إيجاب التحالف والتفاسخ مع قيام السلعة عند من لا يراعي الأشبه. وأمّا من يراعيه فسواء عنده قيام السلعة وفوتها. وهذا الذي ذكروه هو مقتضى أصل المذهب في الاختلاف في الثمن تصريحًا أو ضمنًا، على حسب ما قدمناه في موضعه، ونبهنا عليه من كون مراعاة دعوى الأشبه تجب مع فوت السلعة من غير خلاف. واختلف فيها مع قيام السلعة. وإذا اتضح أن العلة في تصديق مدعي الصحة كونه ادعى الأشبه، لأجل أن البياعات الصحيحة هي الغالب في بياعات المسلمين فقد كان شيخنا رحمه الله يذهب في هذا إلى أن بعض أجناس البياعات لو غلب على المتعاملين فيها الفساد لصدق مدعيه. ونستشهد على هذا بأنه قد صدق الزوجة، إذا أرخى الزوج عليها الستر، أنه وطئهالأولو كان ذلك في نهار رمضان الذي لا يحل الوطء فيه، لمّا كان الغالب كون الستر لا يرخى على الزوجة إلا وهو مبادر إليها وإلى جماعها. وهكذا قيل في المغارسة إذا غلب على أهلها التعاقد على الفساد أنه ¬

_ (¬1) هكذا؟

يصدق من ادعاه. وهذا الذي قاله صحيح على مقتضى أصل المذهب الذي قررناه مرارًا من الاستشهاد بالعوائد. وقد نص ابن المواز على أنهما إذا اختلفا في الصحة والفساد، وفي مقدار الثمن، أنهما يتحالفان ويتفاسخان. وهذا هو الذي قدمناه عن المشهور من المذهب أنه لا يراعي دعوى الأشبه في الاختلاف في الثمن مع قيام السلعة، فأجراهما ابن المواز ها هنا على حكم الاختلاف في مقدار الثمن خاصة، مع اتفاقهما على صحة العقد، مع كون دعوى الأشبه لا تعتبر كما بيناه. وقد وقع بين الأشياخ تنازع في هذا الذي قاله ابن المواز، فبعضهم رأى أنه مذهب صحيح، وهو البخاري على أصل المذهب، وهو الذي يدل على صحة عموم الحديث، وهو قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع" الحديث الذي تقدم ذكره مرارًا. ولم يفرق في هذا الحديث بين كون أحدهما ادعى مع هذا صحة أو فسادًا بل ذكر البداية بالبائع عمومًا. وخالفه غيره في هذا، ورأى أن أصول الشرع تقتضي الطرد عن الأيمان عند التخاصم والتحاكم، ما أمكن، لئلا يكون من ألزمناه اليمين كاذبًا، فيحمله على الإثم. فإذا كان البائع المخالف من الثمن هو مدعي الفساد وجب أن يبدأ به، أخذًا بعموم الحديث. فإن حلف استحلف المشتري وانفسخ البيع بتحالفهما، وإن بدّأ بالبائع المدعي للفساد، على ظاهر الحديث، فنكل، حلف المشتري وصح البيع بالثمن الذي ذكر، ولم يفسخ. وإن نكلا جميعًا فسخ البيع على حسب ما قدمناه في بيان حكم تناكلهما جميعًا. وأمّا إذا كان البائع هو مدعي الصحة والمشتري هو مدعي الفساد، فإنا نبدأ ها هنا بالمشتري لأنه إن حلف فسخ البيع بمجرد يمينه من غير مطالبة للبائع باليمين؛ لأنه لو طلبناه بها فحلف فلم يفده إلا فسخ البيع، وفسخ البيع قد ثبت بيمين المشتري عليه، فلا يحسن إذا حلف المشتري المدعي للفساد أن يطالب البائع بيمين لا تفيد شيئًا، ويدعى إلى ما هو لغو غير مفيد، وقد يكون فيه آثمًا إن كان كاذبًا. فلما تصور ها هنا أن البداية بمدعى الفساد، بائعًا كان أو مشتريًا،

يقتضي ألا يحلف سواه، إذا كان ذلك أولى من البداية بيمين من ادعى، استحلفنا غيره. وهذا الذي نصره الشيخ أبو إسحاق. ورأى غيره أن الأولى البداية بمدعي الصحة؛ لأنه قد ينكل عن اليمين فلا يحلف، فينفسخ البيع، حلف مدعي الفساد أو نكل، فيكون نكول مدعي الصحة مقتضيًا إسقاط اليمين عن الآخر، يحصل من هذا تقليل الأيمان كما قدمناه. ولكن قدرها الشيخ أبو إسحاق من جهة وقوع اليمين مِمَنْ بدأنا به. وقدرها غيره بنكول من بدأنا به، فحصل التقليل من الأيمان، ولكن هل بيمين أحدهما أو بنكوله؟ هذا الذي وقع فيه التنازع. فصل ألحقناه لأجل ما توخيناه من الجري على ترتيب المدونة، وهو الكلام على الوكالة على السلم. ثم الكلام على تعدي الوكيل. وكانت الرتبة تقتضي تأخير هذا الكلام إلى كتاب الوكالات حق ذكرنا عذرنا في تقدمته ها هنا. والكلام في الوكالات على السلم يشتمل على ستة أسئلة منها أن يقال: 1) من المطلوب برأس مال السلم: الوكيل أم الموكل؟ 2) وهل يصح عقد السلم على كون الثمن مترددًا بين ذمة الوكيل والموكل؟ 3) وهل يجوز توكيل من ليس بمسلم؟ 4) وهل يباح للوكيل أن يسلم لنفسه أو لمن يتهم فيه؟ 5) وهل يتقيد مطلق الوكالة بالعادة؟ 6) وهل للوكيل أن يوكل غيره؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: الوكالة على السلم جائزة، كما تجوز في سائر عقود المعاوضات ثم لا يخلو الوكيل من أن يصرح بأنه وكيل على العقد خاصة والثمن مطلوب به الموكِّل، أو يصرح بأن الثمن عليه، أوْ لا يصرّح بأحد الوجهين. فإن صرح بأحد الوجهين قضي بموجب تصريحه من براءته من الثمن أن اشترط البراءة منه، أو إلزامه إياه إن اشترط التزامه. كذلك المسلم فيه الذي

وكِّل على عقْدِه. هكذا ينقسم الأمر في الوكالة على المعاملة بالنقد، فإنه إن وكل على بيع سلعة كان له قبض ثمنها، وإن وكل على شرائها، وأخبر البائع أنه وكيل لغيره، فإن ابن المواز رأى أن مجرد إخباره بأنه وكيل لغيره، أو أنه اشترى السلعة لغيره لا تسقط عنه المطالبة بالثمن. وذكر أنه إذا قال البائع (¬1): فلان بعثني لأشتري له هذه السلعة منك. فإن هذا لا يبرىء الوكيل من الثمن. قال: لأنه يقول له البائع: أنت مشترٍ منّي، ولا أبالي هل شراؤك لنفسك أو لغيرك. وذكر في المبسوط عن مالك: أنه إذا وجد البائع الدراهم زيوفا أنه لا يلزمه بدَلُها، وإنما يطالب بالمال الموكّلَ، إذا كان قد أخبر الوكيلُ البائعَ أنه إنما اشترى لغيره. وهذا يقتضي عند بعض أشياخنا أن المذهب على قولين في مطالبة الوكيل بالثمن إذا لم يصرح بالتزامه ولا بالبراءة منه. ورأى أن هذا الاختلاف ينبني على الاختلاف في البيع هل هو العقد بمجرده أو هو التقابضُ العِوَضِيُّ. وعلى هذا أجرى اختلاف قول مالك في ضمان العبد المحتبس بالثمن، هل يضمنه المشتري؛ لأن البيع هو العقد، وقد حصل، أو لا يضمنه؛ لأن البيع هو القبض، وهو لم يحصل. فكذلك يختلف في مطالبة الوكيل بالثمن. فإذا قيل: إن البيع هو العقد، فقد نجز ما وكِّل عليه، وفرغ منه؛ لأنه إنما وكّل على البيع، وقد حصل. وإن قلنا: إن البيع هو التقابض، فإن الوكيل يُطلب بالثمن؛ لأنه لا يحصل ما وكل عليه وعَقَده إلا بالتقابض. وهو (¬2) الذي أسند إليه هذا الاختلاف في المحتبسة بالثمن في هذه المسألة لا يستقيم، إذا اعتبر بحقائق الأصول. وسنبسط الكلام على هذا عند كلامنا على المحتبسة بالثمن، وذكرنا لما ذكره الشيخ أبو الحسن بن القابسي رحمه الله من كون الخلاف فيها مبنيًا على ضمان الحيوان، وما لا يغاب عليه في الرهبان، ولما ذكره غيره من الأشياخ من كون الخلاف في ذلك مبنيًا على مراعاة مضي قدر التسليم بعد زمن العقد. ولكن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للبائع. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: هذا.

الضابط: الحقيقة في هذا أن الأصل براءة الذمة، ولا تعمر إلا بدليل يوجب تعميرها. وقد علمت أن الطرفين اللذين ذكرناهما، وهما اشتراط الوكيل البراءة من الثمن أو التزامه له، متفق عليهما، ويبقى النظر فيما بين هذين الطرفين، فإن كانت العبارة الصادرة من الوكيل: بعثني إليك فلان لتبيع منه، فإن هذا يقتضي أنه غير مطلوب بالثمن، لكونه قد (¬1) أسند البيع إلى الموكِّل. وإن عبر عن هذا بأنه قال: بعثني لأشتري منك. كان مطلوبًا بالثمن؛ لأنه قد يراد بهذه العبارة أنه دلّنِي على الشراء منك لنفسي. فلا يسقط عنه ما يوجبه مقتضى العقد من مطالبة المشتري بالثمن. وإن كانت العبارة: لأشتري له؛ أو ما في معنى هذا، كان هذا على القولين المذكررين عن كتاب ابن المواز، وعن المبسوط. على أنا إذا قلنا: إن الخلاف في هذا يستند إلى النظر في البيع، هل هو التعاقد أو التقابض، كان ما وقع في المبسوط خلافًا لما وقع في الموازية. وإن قلنا: إنّه يلتفت في هذا إلى العرف والمقاصد، أمكن أن يقال: إنه إذا وكِّل على شراء بالنقد، فقد دفع إليه النقد على مقتضى غالب العادة، فلا يصدق في أنه لم يدفع إليه. وإذا دفع النقد، وظهر فيه زيوف يمكن أن لا يكون علم بها، فإنه قد ادعى من هذا ما يمكن والبدل لم يقتضه حكم العقد في غالب العادة. ولو أنكر المسلم قبض الثمن والعقدَ، فإنه يحلف ويبرأ، ويسقط عنه السلم. واختلف في غرامة الوكيل الثمنَ الذي دفعه بغير إشهاد حتى جحده القابض، فقيل: يغرم؛ لأنه كمتلف رأس المال على من وكله. وقيل: لا غرامة عليه. وقد علم أنه لو شرط له أن لا يدفع إلا ببينة، فدفع بغير بينة، أنه ضامن، لتعَدِّيه ما أَذِن له فيه. ولو شرط أنه يدفع بغير إشهاد لم يضمن لرِضا رَبِّ المال له بذلك. فإذا لم يشترط أحدَ الوجهين فعلى ماذا يحمل أمر الوكيل منهما، هذا منشأ الخلاف. ¬

_ (¬1) بياض بالأصل، قدرنا أنه: (قد أسند).

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا شرط المسلم في العقد أن الموكّل إن لم يُقرّ بالوكالة. فالوكيل ضامن المسلّم فيه، ومطلوب به .. فإن هذا أجازه ابن القاسم في المدونة، ومنعه سحنون ورآه غررًا، ومنعه أشهب ورآه دينًا بدين. وقد علم أن الغرر في العقود ممنوع. وكذلك الدين بالدين. ولكن وقع النزاع في تصور الغرر في هذا العقد. فرأى ابن القاسم أنه لا غرر فيه فأجازه، وإن كان المسلم فيه مترددًا بين. ذمتين لا يدري المسلم من يطلب منهما، كما أجيز البيع على الحميل والبائع يجهل مَن المطلوب بالثمن هل المشتري إن كان حين الطلب غنيًا أو الحميل إن كان المشتري حين الطلب فقيرًا. ورأى سحنون أن هذا غرر وتخاطر في العقد، لكون دافع رأس مال السلم لا يدري أيّ الذمتين يطلب: أذمة الوكيل أم الموكل؟ ويعلم أن المسلّم فيه لم يستقر حين العقد في ذمة معلومة بل يتردد استقراره ما بين ذمتين، وهذا غرر ظاهر. ولا يُنقض هذا بإجازة البيع على الحميل، لأجل أن المشتري مطلوب بالثمن، وهو مستقر في ذمته، وإن طرأ عليه فقر فإن ذلك لا يسقط الطلب عن ذمته متى أَيْسر. ولا يبرىء فقرُه ذمتَه من الثمن. لكن أخذ الحميل تقوية لذمة المشتري أو زيادة في الثقة بها. والثمن لم يتردد في استقراره في ذمة المشتري في كل الأحوال، حين العقد وبعده، بخلاف البيع باشتراط حميل. ومن الأشياخ من يشير إلى طريقة أخرى وهي المساواة بين تردد الثمن بين ذمتين كما صورناه في مسألتنا، وفي مسألة اشتراط الحميل. فإن مسألتنا هذه ذكر في الكتاب أن المأمور قال: إن فلانا أمرني. وكلامه محمول على الصدق، وأكد تصديقه بالتزام المبيع في ذمته إن جحد الآمر، وجحود الآمر بعد إقراره أم رنا در، والنوادر لا تراعى في العقود، وإمكان جحوده بعد إقراره كإمكان فقر الغريم بعد ملائه حتى يفتقر إلى طلب الحميل، والعقود لا يراعى فيها من الغرر

ما ليس بمقصود. وما صور من غرر في مسألة الحميل، وتردد الثمن بين ذمتين. الغرر في المسألتين غير مقصود، وإنما القصد، بما اشترط فيهما، التوثقة، فلم يمنع ذلك كما لم يمنع الرهبان. وأمّا ما أشار إليه أشهب في تعليله من منع تردد الثمن بين ذمتين، فإن ذلك دين بدين، فإنه يقدِّر أن المبيع استقر في ذمة الآمر على مقتضى قول الوكيل، وتصديقه فيما قال، فيكون بجحوده يقتضي نقل ما في ذمته إلى ذمة الوكيل، وبيع الدين الذي عليه بدين يصير على الوكيل. وهذا أيضًا قد يجاب عنه بما قدمناه من كون القصد ها هنا التوثقة وتأكيد ما في الذمة، لا التخاطر، ولا بيع ذمة بذمة. قد استقر الدين في الأولى ثم عاوض عنها ذمة أخرى. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد تقرر في الشرع جواز التوكيل والاستنابة فيما يجوز النيابة فيه. لكن قد يعرض عارض يمنع من الاستنابة التي هي جائزة في الأصل على الإطلاق، وذلك بأن تتضمن الوكالة الوقوع في فعل حرام، أو كونَ الغالب الوقوع فيه، ولهذا يصح الرجوع. ولهذا يمنع من أن يوكل المسلم النصراني على بيع أو شراء يغيب عليه، لكون النصراني وغيره من الكفار يستحلون في شرائهم ما لا يستحله المسلم الموكل لهم. ولهذا ينهى المسلم أن يقارض ذميًا، لكونه يُتخوف منه أن يعامل بالربا، وما لا تحل المعاوضة به. وقد قال ابن المواز: إن نزل هذا تصدّق المسلم بالربح. وهذا الذي قاله ابن المواز إنما يخلّص فيما يتخوف من الحرام أن يكون فعله النصراني من الربا، (إلا من رأى نقض ما فعل وإن لم يعلم من عامله تصدق بالربح لكون الربح هو الحرام) (¬1) قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (¬2)، وأما لو وقع الوكيل الذمي أو المقارض الذمي في المعاوضة ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هو نصّ النسختين، وهو كلام غير واضح. (¬2) سورة البقرة: الآية 279.

بخمر أو خنزير وأتى الموكِّلَ بأثمان ذلك فإنه يتصدق بجميع ما أتى به؛ لأن العوض كله ثمن خمر وخنزير وذلك حرام. وفي الربا إنما الحرام الزيادة، وهي التي تسمى ربا، فإذا تصدق بها ارتفع حقيقة الربا. لكن لو كان الذمي عاوض بهذا عن علم بتحريمه على المسلم، وأن المسلم الذي وكّله لم يرد ذلك منه ولا أذن له فيه، فإنه يكون متعديًا على مال حلال أعطاه إياه المسلم، فأتلفه عليه بمال حرام، تجب الصدقة به، فيغرم للمسلم ما أتلف عليه من ذلك. وقد منع في المدونة من توكيل الذمي على تقاضي الديون. وما ذاك إلا أنه قد يُغلظ على المسلمين الذين وُكِّل عليهم في التقاضى، ويستعلي عليهم، قصدًا لإذلالهم، ولا يجوز للمسلم أن يُعينه على ذلك. وقد ذكر في المدونة أنه ليس لسيد العبد الذمي أن يمنعه من شرب الخمر، وبيعها، والذهاب إلى الكنيسة؛ لأن ذلك من دينه، وقد أقره على دينه، فيقره على أحكامه لما أقره عليه. وقد عارض الأشياخ ما وقع في الكتاب من قوله: لا يمنع عبده بيع الخمر وشراءها بأن السيد له أن يمنع عبده النصراني والمسلم عن التجارة في المباحات، وأن يبيعها أو يشتريها، ويحجِّر عليه ذلك، فكيف به إذا أراد التحجير عليه في المحرمات كبيع الخمر وشرائها. وقد اعتذر بعضهم عن هذا بأن المراد بالعبد ها هنا المكاتب؛ لأن المكاتب لا يقدر سيده على منعه من التَّجْر في ماله، ولا التحجير عليه، ما دام مكاتبًا، فالمباح والمحرم في حق المكاتب النصراني سواءٌ في كون سيده ليس له أن يحجِّر عليه في ذلك. وقال بعضهم: بل المراد، بما وقع في الكتاب، في المال اليسير الذي يعطيه سيده إياه لقوله: وليرفّه به نفسه. فإن هذا يصير في حكم ما لا حق للسيد فيه، وما لا حق للسيد فيه ليس له أن يحجّر عليه فيه .. وهذا الاعتذار والاعتذار الأول يرجعان إلى معنى واحد وهو حمل المسألة على مال ليس من حق السيد أن يحجر عليه فيه. لكن اختلفوا في التمثيل

فبعضهم مثل بالمكاتب لما كان ليس لسيده الحجر عليه، وبعضهم مثل بما يعطيه لقُوته لما كان ليس له أن يحجر عليه أيضًا فيه. وصار بعضهم إلى اعتذار آخر سلك فيه طريقة أخرى، فقال: المراد بما وقع في الكتاب من هذا أن السيد لا يجب عليه أن يمنعه من هذا لكونه في حكمه. وقد حاول فعلًا حرامًا، لأجل أن السيد لما رضي له بالمقام على دينه صار كالراضي له بالجري على أحكامه. فأشار بهذا إلى نفي وجوب تغيير هذا المنكر على السيد، كما يجب ذلك عليه لو حاوله عبد له مسلم. وهذا تأويل وإن لم يبعد في معناه فقد بعد عن مقتضى لفظ الكتاب؛ لأنه قال: ولا ينبغي للمسلم أن يمنع عبده النصراني من شرب الخمر وبيعها وشرائها. وقوله: "لا ينبغي" كالنهي له عن أن يفعل. وهؤلاء حملوا ذلك على أن المراد به: لا يجب عليه أن يفعل، وإن كان مباحًا له أن يفعل. وهذا يبعد حمل هذا اللفظ عليه. وقد اختلف القول عندنا في منع الزوج المسلم زوجته النصرانية من شرب الخمر، وأكل الخنزير، والخروج إلى الكنيسة. فقيل: ليس له منعها من أحكام دينها وما هو من شرائعها؛ لأنه إنما نكحها على ذلك، وعلى ذلك تزوجته. وقيل: له منعها من ذلك، ومن إتيان الكنيسة إلا في الفرض والأمر النادر. وقد أجاز في الكتاب وكالة العبد. ولكن لو وُكِّل عبد أجنبي والعبد الوكيل محجور عليه، لكان لسيده طلب إجارته فيما تولى من سعي في العقد، لكون سعيه ومنافعه يملكها عليه، فليس لغيره أن يتملكها ولا ينتفع بها دون إذن سيده، ولو كان العبد مأذونًا له في التجارة والسعي في مثل هذا، والنيابة فيه من مصالح تجارته ومن جملة ما تضمنه إذن السيد له فيه، فإنه لا أجرة على من وكله. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إنه قد تقرر أنه ليس لأحد أن

يتصرف في مال أحد إلا على حسب ما أذن له فيه الشرع، وإن أذن له فيه المالك. وهذا يقتضي نص الوكيل على مقدار ما أذن له فيه. فإذا وكِّل على أن يُسْلِم في طعام، فأسلم إلى نفسه، أو من في معنى نفسه، فإن هذا مما يتعقب عليه، لتطرق التهمة إليه. فأمّا إسلامه إلى نفسه، فالمعروف من المذهب عندنا منعه من ذلك، لاتضاح التهمة فيه، وكون الموكل يستشعر منه أنه إنما وكله على إسلام ماله لمن يَستقْصِي في الاجتهاد في مماكسته، واستصلاح ما يعقد منه، ولا يمكن في العادة أن يؤثر أحد على (¬1) أحد على نفسه. وقد اتفق على أن رب المال لو صرح حين الوكالة بأني إنما أوكلك على أن تُسْلم إلى من سواك، فإنه ممنوع أن يسلم إلى نفسه، ومتعدٍّ في ذلك إن فعله. ولو صرَّح له، بأني وكلتك أن تسلم إلى من شئتَ حتى نفسك؛ لكان له أن يسلم إلى نفسه، ويكون الموكّل كالواهب له بعض ماله، إن نَقَصَ في الاجتهاد وحابى نفسه. وإن لم يصرح بهذا ولا هذا وأطلق القول فَعلى ماذا يحمل؟ ها هنا يحسن الخلاف، فالمعروف من المذهب المنع كما قدمناه. وقال أبو محمَّد عبد الوهاب في الوكيل إذا باع واشترى بأثمان لا محاباة فيها فإن ذلك جائز. فلعلّه قدر أن إتيانه بثمن يُستدل به على أنه لو لم يبالغ في الاجتهاد لم يأت إلا بأقل منه يرفع عنه التهمة، وتطيب نفس الموكل عليه. فلهذا أمضاه. وقد وقع في المذهب ما يدل على اضطراب في هذا الأصل إذا فعل ذلك الموكل، هل هو يجري على أحكام الغاصب في فعله، أو على أحكام من فعل شيئًا بوجه شبهة؟ وضبط المذهب في هذا أنه إذا لم تفت السلعة التي باعها من نفسه، ولا تغيرت في ذاتهالأولا في سوقها، فإنه من حق الموكل أن يستردها، ويفسخ عقده فيها، إلا ما ذكرناه عن القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب من إمضاء ذلك، على التفصيل الذي حكيناه عنه. وإن لم يشعر بذلك الموكّل حتى فاتت ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أحدٌ أحدًا ...

السلعة وعُدِمت عينها فإنه يكون لربها الأكثرُ من الثمن الذي أتى به، أو قيمتُها. وإن فاتت بتغير سوقها، أو ذاتها، ففي المذهب قولان: هل لصاحبها استرجاعها، وفسخ البيع فيها، كما له أن يسترجع سلعته من يد غاصب لها، وأن تغيرت ذاتها وأسواقها. أو يمضي ذلك ولا يكون له أخذ عينها بل له الأكثر من الثمن أو القيمة؛ لأنه ليس كالغاصب. والمتعدي فيما فعل من البيع من نفسه، لأجل ما في ذلك من الشبهة والتأويل. وقد ذكر في كتاب القراض من المدونة، فيمن اشترى سلعة بدنانير، ثم بعد شرائها ذهب لرجل أخذ منه مالًا قراضًا، وأراد أن ينقده في تلك السلعة التي اشتراها: إنه يُنهى عن ذلك؛ لأنه يُخاف أن يكون استقلالها (¬1) بعد اشترائها، فأراد أن يصرف ما وقع من غبن فيها إلى مال القراض. وهذا إشارة منه إلى أنه ليس كالمعزول عن البيع من نفسه، ولا كالغاصب الذي لا تأويل له ولا شبهة؛ لأنه إنما علل بتهمته فيما فعل، فإذا ارتفعت التهمة مضى فعله، على مقتضى ما حكيناه عن القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب. وقال أيضًا غير ابن القاسم في كتاب القراض: كل من وكِّل على بيع فباعه من نفسه، وأعتق العبد الذي اشتراه من نفسه، فإن عتقه مردود، إلاَّ المقارض إذا (¬2) كان له فيما أعتق شركة من ناحية الربح، فلم ير عتق الوكيل الذي اشترى من نفسه ماضيًا ولا أمضى العتق بحِرمته، بل جعله كالغاصب يعتق ما غصب، فإن عتقه غي رنا فذ إذا رده مالك العبد. ولو أراد مالك العبد إلزام الغاصب قيمة العبد، لأجل عتقه إياه، فإن ابن شعبان ذكر في هذا قولين: أحدهما أن ذلك ليس من حقه، لكون العبد لم يتغير في نفسه ولا سوقه، ولم يُحدث الغاصب سوى كلام لا تأثير له في عين العبد المغصوب. والقول الآخر أن ذلك من حقه، وما هذا إلا أنه قدر أن الغاصب لما أعتقه فكأنه التزم قيمته لربه، فلرب العبد أن يطلبه بما التزم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استغلاها. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذ.

وذكر ابن حبيب أن الوكيل على بيع سلعة فاشتراها وباعها بربح، أن الربح للموكِّل، وكذلك الوصي إذا اشترى لنفسه من مال الأيتام الذين في ولأنه شيئًا وباعه بربح، فإن الربح لهم. وهذا الذي ذكره قد يهجس في النفس أنه أمضى شراءه من نفسه، فلهذا لم يقل: إن للموكل أن ينقض ما فعل، ويشتري ما باعه الوكيل بعد أن اشتراه لنفسه. لكن يمكن أن يكون إنما لم يقل ذلك لأنه رأى أن بيعه من نفسه غير واقع ولا لازم وهو كالعدم، فبيعه بعد ذلك نافذ بحكم ما تقدم من وكالة رب السلعة، ولم تعتبر نيته وقصده فيما باع أنه إنما باعه على ملك نفسه لا على ملك من وكله. فأنت ترى هذا الاضطراب المشعر بما ذكرناه من رد المسألة إلى كون الوكيل معزولًا عن البيع من نفسمعتى يكون متعديًا في ذلك إن فعل، أو ليس كالمعزول لأجل تأويله، وللشبهة التي يتعلق بها في هذا من الإذن له في البيع عمومًا، مع كون الموكل إنما غَرَضُه تحصيل الثمن لا النظر في أعيان من يشتري سلعته. وإذا كان البيع وقع عن ملك أو شبهة الملك نُفِّذ كما ينفذ بيع من اشترى سلعة شراء فاسدًا ثم باعها بيعًا صحيحًا، على ما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما بيعه مِمن تتطرق التهمة إليه في البيع منه، كبيعه من ولده الصغير الذي في ولايته أو يتيم في ولايته، فإنه منع ذلك في المدونة، ورأى ذلك يتنزل منزلة نفسه في تطرق التهمة إليه، وأجاز ذلك سحنون لما كانت العهدة في مال ابنه ويتيمه لا في مال نفسه، فلم يمنع من ذلك كما لم يمنع من بيعه من ولده الكبير ومن زوجته. والنكتة التي تعتبر في هذا ما قدمناه من تطرق التهمة إليه وقربها منه أو بعدها عنه. هذا سبب الاضطراب في بيع الوكيل ممن في ولايته. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: اعلم أن هذا السؤال جوابه يدور على ما قدمناه من اعتبار ما صرح به الموكّل، أو قام مقام التصريح بدلالة قرائن الأحوال أو العادة. فإنا نقيد مطلق

الأقوال بقرائن الأحوال، فإذا وكل رجل رجلًا على شراء ثوب أو خادم، فاشترى له من الثياب أو الخدم ما يصلح للباسه وخدمتهء فإنه يلزمه ذلك. وإن اشترى له ما لا يصلح له ولا يليق به من ذلك، فالمذهب على قولين: لم يُلزمه ابن القاسم ذلك. وألزمه إياه أشهب. وخلافهما راجع إلى ما قدمناه، فقد علمت أن قوله: اشتر لي ثوبًا؛ عموم ينطلق على كل ما يسمى ثوبًا، كان الثوب مما يصلح للموكِّل أو لا يصلح له. لكن ربما اقتضت العوائد دلالة على قصده أنه أراد شراء ثوب يصلح للباسه. فمن اعتبر عموم المقال، ولم يخصصه بالعوائد، قال بمذهب أشهب. وبين الأصوليين خلاف في تخصيص العموم بالعادة. والموكّل على شراء سلعة لا يخلو أن يكون يُقيِّد المثمون والثمن، أوْ لا يقيدهما جميعًا، أو يقيد المثمون دون الثمن، أو الثمن دون المثمون. فإن قيدهما فخالف الوكيل ما قيّد له، كان متعديًا من غير خلاف، مثل أن يقول له: اشتر لي ثوبًا يصلح للباسي بأربعين دينارًا. فاشترى له ثوبًا لا يصلح للباسه بخمسين دينارًا. فإنه لا يلزم الموكل لكونه خالف ما قيد له في الثمن والمثمون. وهذا لا خلاف فيه. وإن أطلقهما جميعًا فقال: اشتر لي ثوبا. فإنه إن اشترى ثوبًا يصلح للبالس الموكل بقيمة مثلِه، فإنه يلزم الموكِّلَ ذلك. وإن اشترى له ثوبًا بثمن فاحش خارج عن العادة لم يلزم ذلك الموكلَ؛ لأنه كمُتْلِف مالِه عليه، ولم يوكّله على إضاعة ماله وإتلافه. وسواء في هذا اشتري له ما يصلح للباسه، أو لا يصلح للباسه. وإن قيد المثمون دون الثمن، فقال: اشتر لي ثوبا. يصلح للباسي، فإنه إن اشتراه بقيمته لزم ذلك الموكلَ، وإن اشتراه بزيادة خارجة عن المعتاد على قيمته، لم يلزم ذلك الموكلَ. وإن قيد الثمن دون المثمون، بأن يقول له: اشتر لي ثوبًا بأربعين دينارًا.

فها هنا. اختلاف بين الأشياخ، ما الذي يقتضيه مذهب ابن القاسم ها هنا؟ فرأى بعضهم أن التقييد بالثمن يرفع التقييد في المثمون، وأنه إذا اشترى له بأربعين دينارًا ثوبًا يصلح للباسه أوْ لا يصلح للباسه، فإنه يلزمه؛ وإن كان ابن القاسم يرى أن الإطلاق في المثمون يتقيد بحكم العادة، ويُقصَر الوكيل على شراء ما يصلح للباس الموكِّل، لأجل أنه إذًا قيد الثمن ها هنا أشعر بأنه لم يقصد إلا (¬1) إلى تحصيل ما يساوي أربعين دينارًا على أي حال كان مما يصلح للباس الموكل أوْ لا يصلح. ورأى بعضهم أن هذا التقييد في الثمن لا يدفع التقييد في المثمون الذي اقتضته العادة مما يصلح للباس الموكل. واعلم أن التقييد في الثمن لا يوجب المنع من زيادة يسيرة عليه؛ لأنه قد علم في العادة أنه لا يتفق غالبًا شراء سلعة بما يحدَّد في شرائها من الثمن، ولا بدَّ عند المماكسة فيها من زيادة على ما حَدَّ من الثمن أو نقصان منه. فأما النقصان منه فلا اعتبار به وإن كثر؛ لأن ذلك أبلغ في الاجتهاد للموكل وأنفع له. وأما الزيادة الكثيرة فإنه لا يلزم الموكلَ الاستغناء (¬2) عنها. وأما الزيادة اليسيرة كمن حد له أربعون دينارًا، فاشترى بأحد وأربعين، فإن ذلك يلزم الموكل للحاجة إلى مثل هذه الزيادة، وأنه لا يستغنى عنه. فإن وقع الوكيل في زيادة كثيرة لم يلزم ذلك الموكل لكونه خارجًا عما حَدَّ له، وعما هو في حكم ما حد له، وإن زاد زيادة كبيرة كان الموكل بالخيار، إن شاء قبل ذلك منه ورضي به، وإن شاء ألزمَه غرامة الثمن الذي حَدّ له ودفعه إليه. وأما الزيادة اليسيرة فإنها تلزم الموكل، على حسب ما قلناه، وبيّنا وجهه. لكن هل يصدق الوكيل في أنه زادها، ويطلب ذمةَ الموكل بها؟ وإن هلكت السلعة التي اشتراها له هل يجري على قولين، وهما: من أمران يُخرج ما في ذمته إلى أمانته، هل يُقبل قوله، في أنه أخرج ذلك إلى أمانة، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف إلا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للاستغناء. كما يدل عليه قوله بعدُ في مقابل هذه الصورة: (وأنه لا يستغنى، عنه).

حتى يكون مصدقًا في ضياعه، أو لا يصدق في إخراجه من ذمته؟ وسنبسط الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا وكل رجل رجلًا على أن يبيع له أو يشتري، فليس للوكيل أن يوكل غيره، لما قدمناه من كون أملاك المالكين لا يُتصرف فيها إلا على حسب ما أذنوا فيه، وهو إنما أذن لهذا الوكيل بعينه في التصرف في ماله، ورضي بأمانته دون أمانة غيره، فهو متعد إذا خالف ما رَسَم له مالك المال. فإذا وكله على أن يُسلِم له في طعام، فوكّل الوكيل غيرَه على ذلك، فإنه لا يلزم الموكِّلَ ما فعله الوكيل الثاني، لكونه لم يُلْزَم ما عُقِدَ عليه إلا إذا فعله من أذن له فيه، وهو لم يأذن لوكيل الوكيل. وذكر ابن حبيب أنه قد قيل: إن الوكيل الثاني إذا اجتهد، وتوثّق، وفعل ما يفعله الأول، فإن الموكل ليس له نقض هذا الفعل. وهذا لا يصح إلا على اعتبار المفاسد، وأن رب المال قصده تحصيل عقدٍ على طعام بولغ في الاجتهاد فيه، وفي التوثق في عقده. والمعروف من المذهب ما قدمناه، وأن ذلك لا يلزم الموكِّل الأولَ على الإطلاق. فإذا قلنا بالمعروف من المذهب، فلا يخلو من أن يكون شعَر بذلك مالك المال، وهو لم يدفع إلى من عُقِد السلمُ عليه، أو أُسلِم إليه وهو قائم العين في يديه، أو أسلم إليه وقد ذهب الثمن من يديه وغاب عليه، أو لم يشعر بذلك إلا بعد أن حل أجل السلم وقبض المسلم فيه. فإن شعر بذلك قبل أن يدفع الوكيل رأس المال كان رب المال بالخيار بين أن يجيز فعل هذا الوكيل الثاني، ويمضي عقده ويأمره بدفع الثمن، أو يرد عنه ويسترجع الثمن. وكذلك إذا شعر بهذا بعد دفع الوكيل الثاني الثمن ولم يغب عليه من هو في يديه ممن أسلم إليه. وأما إن غاب عليه فإنه صار دينًا على الوكيل الأول لتعدّيه ما أُذِن له فيه، فلرب المال، ها هنا، أن يرد فعله، ويطالبه بغرامة المال الذي دفع إليه. وهل له أن يجيز فعله ويمضيه؟ منع ذلك في الكتاب، ورآه كفسخ دين في دين، لأجل أن هذا الثمن

كمًا (¬1) تعدّى فيه الوكيلُ الأول صار دينًا عليه لرب المال، له المطالبة به، فإذا عزل (¬2) عن المطالبة بهذا المال الذي صار له دينًا على الوكيل إلى الرضا بأخذ ما أسلم فيه، فإنه فسخ دينًا وهو رأس المال الذي استحقه على الوكيل المتعدي في طعام يقبضه إلى أجل من ذمة المسلم إليه. وقيل: ذلك جائز له ولا يكون هذا فسخ دين في دين؛ لأنه لا يكون الثمن دينًا على الوكيل إلا إذا رضي رب المال بإغرامه إياه ولم يرض بإمضاء عقده، فحينئذ يكون دينًا على الوكيل فيمنع من فسخه في دين آخر. وأما إذا لم يختر تضمين الوكيل، واختار إمضاء ما فعله، فلم يملك دينًا على الوكيل يقدَّر فيه الفسخ، فلا يمنع من الرضا بإمضاء ما فعله؛ لأنه لم يتحقق فسخُ الدين في الدين. وهذا جَار على أصل تدور عليه فروع كثيرة تذكر في مواضعها، وهو من خُيِّر بين شيئين، وملك أن يملك، هل يُعدّ في اختياره أحد القسمين منتقلًا عن الآخر أم لا؟. وهل يقدر فيمن ملك أن يملك كأنه استقر ملكه عليه حتى يَصير منتقلًا عنه إلى ما سواه، أم لا؟ يقدر أنه قد استقر ملكه عليه فلا يتصور فيه النقل من وجه إلى وجه؛ وهذا يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى (¬3) وأما إن لم يشعر بذلك حتى حل الأجل، وقُبض المسلم فيه، فإنه يكون بالخيار بين أن يطلب الوكيل برأس المال الذي تعدى فيه، أو يرضى بإمضاء فعله، ويكون الطعام له، ولا يتصور في هذا فسخ دين في دين، ولا يختلف فيه، لكون ما خير فيه قد حضر جميعُه وحل. وقد قدمنا أن المعروف من المذهب منع الوكيل من أن يوكل غيره، لكن لو صورت المسألة في وكالة رجل مشهور بعلوّ المرتبة، وجلالة المقدار، ويعلم أنه لا يتولى مثل ما وكِّل عليه بنفسه، بل يستنيب فيه، فإنه إذا كان من وكله عالمًا بحالته هذه، فإنه لا يكون متعديًا بوكالة غيره، من غير خلاف؛ لأن الموكل لما علم حاله، وأنه لا يباشر هذه الأمور بنفسه، بل يستنيب فيها، صار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمَّا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عَدَلَ. (¬3) انظر "الفروق" للقرافي: الفرق 121 ج 3 ص 20.

المقصود من وكالته أن يوكل على ما وكل عليه. لكن لو كان الوكيل مشهورًا بهذا الحال من الجلالة المانعة من كونه مباشرًا لهذه الأمور بنفسه، ولم يعلم بذلك رب المال، فإن هذا مما تردد فيه كلام الشيخ أبي إسحاق، وقال: إن الأشبه ألا يضمن هذا الوكيل؛ لأنه يقول: ليس جهلُ من وكلني بالموجب عليَّ الخروجَ عن عادتي، فإنه (¬1) غير متعدٍّ بجرياني على عادتي. ثم أشار إلى أن الوكيل لا يصدّق في أنه لم يعلم حاله لكونه ادعى ما يكذبه فيه العرف غالبًا. وهذه إشارة إلى التعليل يكون الموكل عالمًا بحال الوكيل ونحن لو صورنا المسألة في علم الموكل بحالته لارتفع الإشكال. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإني.

فصل في تعدي الوكيل إذا خالف الموكَل، فلا تخلو مخالفته له من أربعة أقسام: أحدها: أن يخالف في الجنسية أو في النقدية أو فيهما جميعًا، أو يخالف في العددية خاصة، مثل أن يأمره بأن يبيع له سلعة بدنانير، فباعها بطعام أو عرض، أو يأمره أن يبيعها بدنانير أو عرض نقدًا، فباعها بذلك إلى أجل، أو يأمره أن يبيع بعشرة فباعها بثمانية. فأما إذا خالفه فيما أمره أن يبيع به من الأجناس، فإن الموكل لا يلزمه ما فعل الوكيل، وسلعته باقية على ملكه؛ لأنه لم يأذن بأن ينقل عن ملكه إلا على صفة شرطها على الوكيل، وإذا فعلها على صفة أخرى لم ينتقل ملك الموكل عنها، وأن شاء الموكِّل أجاز تعدِّيَهُ، وقَبِل الثمن الذي عقد الوكيل به وإن لم يكن تقدم إذنه فيه. هذا هو الأصل لأن من تعدى له على سلعة، فبيعت بغير إذنه، فإن الخيار في إمضاء ما فعل المتعدي، من بيعها، أو نقض فعله، وإبقاه (¬1) على ملك نفسه، على حسب ما كانت عليه قبل الوكالة. وقد ذكر في المدونة: أن من وُكِّل على بيع عرض أو طعام، فباعه بعرض أو طعام، فإن الوكيل ضامن، إلا أن يشاء الموكل أن يجيز فعله ومضيَّه (¬2)، ويأخذ ما عقد به من الثمن. ولكن أكثر القول في تعقيب هذا الجواب الذي ذكر في المدونة لأجل أنه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إبقائها. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُمضيَه.

ذكر في السؤال أنه وكل على بيع طعام أو عرض فباعه بطعام أو عرض، ثم أجاب عن هذا بأن الوكيل (¬1) غير بين أن يرد ما فعل الموكِل (¬2) أو يمضيه، ويأخذ الثمن الذي باع به. وقد اشتمل السؤال على وكالته على بيع طعام، فباعه بطعام وإذا كان بيعه بطعام لا يلزم الموكلَ لأنه وإن أطلق له الإذن فالعادة البيع بالدنانير والدراهم، فالمخالفة له فيما أطلق من هذا على مقتضى العادة كمخالفته فيما شرطه وأمران يباع به، نُطقًا، كان مشتري هذا الطعام من الوكيل اشترى طعامًا فيه خيار لمالك بطعام يدفعه لوكيله، ولا يجوز فيما من شرط صحة عقده التناجز أن يعقد على خيار. وهذا يجاب عنه بأن يقال: أما لو علم المشتري بأن الوكيل متعد في هذا البيع وعقده معه على أن لمالك الطعام خيارًا في هذا العقد، إن شاء استرد طعامه من يد المشتري وإن شاء أبقاه له، وأخذ الطعام الن في دفعه المشتري ثمنًا عن طعام هذا الموكل. فإن هذا العقد فاسد. لأجل عدم التناجز. وأن عقده على الخيار مانع من حصول التناجز. وأمّا إن لم يعلم المشتري بتعدي هذا الوكيل، واعتقد أنه (عقدًا جائزًا له لازمًا) (¬3)، فإن هذا جار على القولين المشهورين في هذا الأصل. وابن القاسم يمنع هذا، وأشهب يجيزه. وسبب هذا الاختلاف أن من قدّر أن العقد لم يزل منبرمًا جائزًا لما أجازه الموكل حين علم به، لم يتعقب هذا العقد، ورأى أن إجازة الموكل لفعل الوكيل يتضمن كون الوكيل لم يعقد إلا عقدًا ماضيًا جائزًا. ومن قدر أن هذا العقد لم يُبرم ويَلزَمْ إلا الآن حين علم الموكل فأجاز، أبطل هذا العقد لأنه لم يحصل فيه التناجز حين عقده، وإنما حصل فيه التناجز حين أمضاه الموكل وأجازه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الموكَل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الوكيل. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنه [عقد] عقدا.

وعلى هذا الأصل جرى الاختلاف في نكاح، حكم الولي فيه بالخيار في رده أو إمضائه، فأمضاه بعد أن وطيء الزوج زوجته، ثم زنت، فإن قدّرنا أنه لم يزل ماضيًا حين العقد لمّا أمضاه الولي الآن، كانت الزوجة بالوطء الذي تقدم إجازة الولي محصنة لأن الوطء وقع بعد عقد ماضٍ منبرم. ومن لم يقدر ذلك، ورأى أنه إنما انعقد وانبرم حين أمضاه الولي، لم تكن بالوطء المتقدم (¬1) إجازته للولي محصنة؛ لأنه وطءُ "ليس بواقع في نكاح منعقد". إلى غير ذلك من المسائل التي يكثر جريانها على هذا الأصل. فهذا بيان القول فيما تعقب من الجواب الواقع في المدونة في هذه المسألة متى بقيت دلالة ألفاظها على ظواهرها. وأشار بعضهم إلى حملها على وجه يغني عن هذا الاعتذار، وأجراها على الخلاف، فقال: إن ما ذكر في المدونة في السؤال أنه وكل رجلًا على بيع عرض أو طعام، فباعه الوكيل بعرض أو طعام، فيمكن أن يكون لم يُرد أن البيع وقع بكل واحد من الجنسين المذكررين، في الجواب على أحد الجنسين المذكررين في السؤال، وإنما أراد به باع ما وكل عليه من العروض بطعام أو باع ما وكل عليه من طعام بعرض، فذكر هذا على جهة المقابلة، لكون نوع في الجواب لنوع خلافه وقع في السؤال. فإذا كان المراد هذا لم يتصور في المسألة تعقب من ناحية بيع الطعام بطعام. وقد ذكر في رواية الدباغ في المدونة جواب هذا السؤال، وقال: يباع العرض الذي أخذه الوكيل ثمنًا وإن كانت السلعة الموكَّل على بيعها قائمة. فإن كان ثمن هذا العرض يفي بقيمة العرض الذي وكَّل الموكل على بيعه لم يبق للوكيل والموكل مطالبة، وإن زاد ثمن هذا العرض عن قيمة العرض الموكَّل على بيعه كانت هذه الزيادة للموكِّل؛ لأنها ثمن عرض يعتقد من هو في يديه أنه إنما اشتراه للموكل، وعاوض عنه بمال الموكل، فلا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المتقدم.

يكون ربحه له مع تعديه أيضًا، وحرمان المتعدي الأرباحَ والفوائدَ قد يحسم مادة التعدي والغصب. وقد طرح سحنون هذه الرواية لأجل أن الأصل ما قدمناه من كون المتعدي على سلعة رجل لا يضمنها ويغرم قيمتها مع قيام عينها وكونها لم تتغير في ذاتها ولا سوقها. ولا معنى لتضمينه مع كون مِلك المالك لم يتغير بوجه من وجوه التغييه. وقد وقع لابن القاسم في المستخرجة فيمن تعدى على طعام فباعه بعرض إلى أجل، أن هذا العرض الموكَّل لا يباع، فيأخذ صاحب الطعام ربحه. وقال الشيخ أبو القاسم بن الكاتب إنما قال هذا لما كان الطعام مضمونًا بمثله، وما كان مضمونًا بمثله فعينه كالموجودة وإن ذهبت، لكون مثله يسد مسده وينوب منابه، وقدر الطعام ها هنا كالعين إذا تعدى فيه. وذكر في كتاب ابن المواز، فيمن أودع دراهم فصارفها لربها بدنانير، فذكر أن الدنانير تباع ويشترى بها مثل الدراهم المودعة، فإن كان في الدنانير فضل كان ذلك لربها الذي أودعها، وإن قصرت الدنانير عن الدراهم غرم المودَع ما نقص من الدراهم. وهذا أيضًا لأجل اعتقاد المودع أن الدنانير إنما صرفها لتكون ملكًا لرب الدراهم فلا يستبد بربح ما ليس بملكه، ولا يعطى ربحًا ولا فائدة مع تعديه، على حسب ما قدمناه. وقد تعقب هذا بأنه إذا كان ممنوعًا من أخذ الدنانير التي صرفها المودع فكيف أبيح له ربحها؟ وكيف يسوغ له أخذ ربح ما يحرم عليه أخذ عينه؛ وهذا التعقب إنما ينبني على أحد القولين، وهو منع رب الدراهم المودعة إجازة صرفها له، وقد ذكرنا الخلافَ في هذا الأصل. وسببَ الخلاف فيه. على أنه يمكن أن يكون العذر عن هذا التعقب كونَ التحريم ليس بواضح، لأجل اختلاف أهل المذهب فيه، مع كون سبب التحريم على أحد القولين، الاحتياطَ من إمضاء عقد فضة بذهب لم يحصل فيه التناجز. فإذا عُدِل برب المال عن قبض الدنانير التي صرفها المودَع له، وبيعت، ورد إليه رأس ماله

وهي الدراهم، فإنه لم يحصل في يديه عوض وقع فيه صرف مستأخر، وإنما أعطي ما زاد على رأس ماله لئلا يربح المتعدي، وقد بيّنا وجه منعه من الربح فيما تعدي فيه. وقد قيل: إن قوله فيمن دفع إلى وكيلٍ دراهم ليُسْلمها له في سلعة، فصرفها بدنانير، ثم أسلم الدنانير، وكان فعله في الصرف مما لم يؤذن له فيه، لكونه غيرَ محتاج إليه، أنه إذا قبض المسلمَ فيه كان لرب رأس المال أن يقبض المسلم فيه. وإن كان ممنوعًا من إجازة ما فعله الوكيل من الصرف له، لمنع من أخذ عوضه وهو المسلم فيه؛ لأنه إذا أسقط حقه في العوض عنه فكيف يقدّر أنه لا يباح له ملك شيء ويباح له ملك العوض عن ذلك الشيء؛ وهذا لا يصح فيه ما وقع من هذا الجواب إلا بعد أن يكون يباح له أخذ ما صرف له. وهذا العذر عنه ما قدمناه من صرف الدراهم المودعة لربها من غير إذنه، والذي ذكرناه من رواية الدباغ من بيع العرض الذي باع به الوكيل، وأخذ الموكل ثمنه في القيمة التي وجبت له على الوكيل بتعديه. وقد ذكره ابن المواز في كتابه وذهب إلى أن العرض الذي باع به الوكيل يباع به ليقضي ثمنه في قيمة العرض الذي تعدى الوكيل في بيعه بما لم يؤمر به، فإن كان ربح كان للموكل، وإن كانت خسارة ونقصٌ من القيمة كان ذلك على الوكيل، ورأى أن هذا هو الحكم. وإن كانت سلعة الموكل قائمة بيد مشتريها لم تفت ولم تتغير في ذاتها ولا في سوقها فهذا الذي ذكرنا أن سحنونا أمر بطرحه في أكثر الروايات عنه، لخروجه عن الأصول هو الذي ذهب إليه ابن المواز. وقد نص غير ابن القاسم في كتاب الوكالات من المدونة على أن الوكيل لا يضمن مع قيام الطعام الذي وكل على بيعه فباعه بغير ما أذن له فيه. ولما رأى بعض الأشياخ أن هذا الذي ذهب إليه غير ابن القاسم في كتاب الوكالات من المدونة. والذي اختاره سحنون، وأمر بطرح ما سواه، هو البخاري على الأصل، اعتذر عما وقع من القول الآخر من تضمين الوكيل وإن كانت السلعة التي باعها قائمة لم تتغير في سوقها ولا بدنها، فإن هذه الرواية محمولة على أن المشتري نازع في كون هذه

السلعة المبيعة للموكل، وزعم أن الوكيل مدع لها، وأنها للوكيل الذي باعها. والحكم في هذا ألا يصدق الموكل أنها له إلا بإثبات، فإذا لم يمكنه الإثبات، ومنعه المشتري من استرجاعها، فقد صار الوكيل أفاتها عليه لتعديه، فلزمه قيمتها لفوتها. وهذا التأويل إن صح حمل الرواية عليه وأن قصد من ذهب إلى هذا المذهب كون المسألة مبنية على أن الوكيل أتلفها على ربها، فإنه لا يختلف في تضمين الوكيل. ولا يكون المذهب في هذا إلا على قول واحد، وهو سقوط تضمين الوكيل مع كون السلعة التي تعدى عليها قائمة لم تفت ولم تتغير. هذا حكم تعدّيه في مخالفة الجنس فيما أمران يبيعه. وأما ما أمران يشتريه فخالف في جنس الثمن، فإنه ذكر في المدونة أنه إذا أمره أن يشتري له سلعة فاشتراها بغير العين، من عرض أو مكيل أو موزون، فإن الموكل لا يلزمه ما عقد عليه من هذا، لكون الوكيل عقد عليه بخلاف ما أذن له فيه. لكن للموكل أن يجيز فعله، أو يضمّنه (¬1) ويدفع إليه مثل ما أداه من الثمن. وهذا ظاهره أن الموكل إذا أجاز فعله يعطيه مثل ما أدى من الثمن ولو كان عرضًا لا يكال ولا يوزن؛ لأنه ذكر في السؤال أنه خالف فاشترى بعرض أو بمكيل أو موزون. فأجاب عن السؤال بقوله: إذا أجاز فعله دفع إليه مثل ما دفع ثمنًا. ولم يفرق بين دفع الوكيل لعرض أو لمكيل أو موزون. وقد ذكر في الأسدية عن ابن القاسم أنه إذا أجاز فعله، وقد دفع عرضًا، فإنما يدفع إليه قيمة العرض. وقد ذكر في المدونة في كفيل صالَحَ عن دنانير بعرض، أن الذي عليه الدين إذا أجاز فعله فإنه يعطيه قيمة العرض. وقد تردد بعض الأشياخ في هذا هل يتخرج من هذا الجواب كون الموكل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وهو لا يتلاءم مع سابقه ولاحقه.

إنما تلزمه قيمة العرض الذي أداه الوكيل ثمنًا أم لا؛ وهذا التردد لأجل أن الموكل أمره أن يشتري له ويسلفه عينًا فاشترى له وأسلفه عرضًا. فإذا أجاز فعله لزمه مثل العرض كما يلزم في السلف ردّ مثل العرض، وأجراها في السلف مجرى المكيل والموزون. وأما الكفيل فإنه إذا صالح بغير علم مَن عليه الدين فإنه يقدر كبائع للعرض الذي دفعه عوضًا عن الدين وكأنه اشترى الدين به وإذا كان بائعًا لم يلزم من عليه الدين إلا قيمة العرض. وقد يقدر أن العروض يقضى فيها في السلف بالمثل وفي التعدي والاستهلاك بالقيمة. ووقع هذا الاختلاف في وكيل تعدى فاشترى بها، هل يقضى له بمثلها أو بقيمتها إذا أجاز فعله من وكله؛ وهذا ينبني على الاختلاف في المترقبات، فإن قلنا: إن الموكل إذا أجاز ما خُيِّر فيه لَمّا علم بتعدي الوكيل فإنه يقدر أنه لم يُلزَم جائزًا ولم يقع العقد إلا على إجازة الموكل ورضاه، فإنه يقضى ها هنا للموكل بمثل عرضه لأنه تحقق فيه أنه دفعه، وعقد عليه بإذن الموكل له في عقده به سلفًا له. وإن قلنا: إنه إذا أجاز ما خُيِّر فيه، وما يترقب فيه أن يجيزه أو يردّه، فإنه إنما يقدر انبرام العقد وإجازته حين وقعت الإجازة منه، صار العرض المدفوع حين العقد. لم يدفع عن إذن الموكل ولا رضاه، بأن يكون سلفًا عِنْدَهُ، فيكون لدافعه قيمته لا مثله. ولو كان تعدي الوكيل في الجنسية في بيعه نسيئة، كمن يدفع إليه ذهبًا ليسلمه في ثوب فأسلمه في بساط. فإنه لا يخلو هذا من أن يكون الموكل علم بمخالفة الوكيل له، ودنانيره بعينها قائمة في يد المسلم إليه، أو ليست بقائمة ولا معلومة العين. فأما إن كانت قائمة بعينها، وثبت ذلك بالبينة، أو على إقرار الوكيل عند دفعها، بأنها للموكل، فإن من حق مالكها أن يسترجعها من يد المسلم إليه. وقد ذكر في المدونة أنه لا طلب للموكل على المسلم إليه. وهذا إنما يصح على أن الدنانير لم يثبت كونها هي عين ما دفعه الموكل، فإذا لم يثبت ذلك للموكل صارت في معْنَى ما فات عينه. فإذا فات عين الدنانير لم يكن للموكل رجوع بها على المسلم إليه، وإنما يرجع بذلك على الوكيل الذي تعدى فيها عليه.

إلى هذا التأويل أشار فضل بن سلمة وقدر أن الموكل إذا استحق عين الدنانير فلا وجه لصرفه عن عين ماله، وإذا كان لا يستحق إلا مثلها في ذمةٍ، فذمة المتعدي عليه أولى بالطلب من المسلم إليه. ولو كان دفع الموكل إليه ثوبًا ليسلمه. له فيما ذكرناه فأسلمه في غير ذلك من الأجناس، لأخذه الموكل إن شاء، ولو غاب عليه المسلم إليه؛ لأن الغيبة عليه لا تمنع من العلم بعينه، بخلاف الدنانير وما لا يعرف بعينه. هذا حكم رجوع الموكل مع قيام رأس المال عينًا كان أو عرضًا، وما يعرف بعينه لتعلق الأغراض فلا يلزم إمضاء العقد مع ذهاب الغرض الذي وقع العقد لأجله. وأما إن كان رأس المال مما لا يعرف بعينه كالدنانير وما في معناها فإنه إذا ارتجعها من يد المسلم إليه لم ينفسخ العقد وأُلزِم الوكيل المتعدي غرامتَها للمسلم إليه لأنه مطلوب بالثمن، وقد استُحق ما دفعه منه. وإذا استحق الثمن وهو عينٌ فإن العقد لا ينفسخ، ويلزم العاقدَ غرامةُ مثله، والعاقد ها هنا الدافع لهذه الدنانير المستحقة، وهو الوكيل. لكن لو عقد السلم على وجه لا يكون عليه فيه - تباعة بالثمن، فإنْ بَيَّن أنه وكيل أو رسول الموكِّل، ليباع منه المسلَم فيه، فإنه ها هنا لا يطالب بغرامة ما استحق من الثمن. وإذا لم يطالب بغرامة، انفسخ العقد في السلم، لكون المسلم إليه لا يجد من يطالبه برأس المال. هذا لو ضاع رأس المال وحكم فسخ (¬1) العقد. وأما لو أراد الموكل ألا يرتجع رأس المال بل يمضي العقد ويجيزه، فإنه إذن لم تَجبْ له غرامة على أحد، وإنما استحق أخذ رأس المال من يد المسلم إليه، عينا كان أو عرضًا، فإن له أن يجيز تعدي الوكيل، ويمضي العقد، ويصير قد ملك استرجاع عين رأس المال وفسْخَ العقد في حق نفسه، فلا يحرم عليه أن يستأنف عقدًا برأس المال الذي ملك استرجاعه، دنانير كان أو عرضًا. وأما إن وجبت له غرامة مثل رأس المال أو قيمته إن كان عرضًا، قيل: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بفسخ.

يمكّن من إجازة هذا العقد وإبقائه على ملك نفسه. هذا فيه قولان: منعه في المدونة، وأجازه مالك في كتاب ابن حبيب - وسبب هذا الاختلاف أنه قد تقرر أنه لا يجوز بيع دين بدين، والغرر (¬1) أنه يجوز استئناف عقد سلم بمال يدفعه المسلم. فمن رأى أن الموكل كان بالخيار في إمضاء العقد أو ردّه وأنه إذا اختار أحد الأمرين، وهو إمضاء العقد، فكأنه لم يقع العقد إلا على رضاه، وارتفع عن العقد حكم التعدي. وإذا قدرنا أن ما يُترقب من إجازة العقد إذا أوقعه، كأن العقد لم يزل ماضيًا جائزًا، فإنه لا يتصور ها هنا بيع دين بدين، وإن قدرنا أنه وقع ما توقيناه (¬2) منه من الإجازة فإن العقد لم يثبت له حكم الإمضاء في أصله، وإنما ثبت له الآن، فإن هذا يمنع لأن هذا بالعقد الذي تعدى فيه الوكيل استحق أن يغرمه رأس المال فانتقل عن هذا الذي استحق من الدفع للموكل رأسُ المال إلى أن أخذ عوضًا عنه المسلَمَ فيه، فمنع من ذلك، لكونه دينًا بدين. وأيضًا فإنه قد ملك أن يردّ العقد؛ لأنه لم يقع عن إذنه، ومَلَكَ أن يجيزه لأن الوكيل مقر أنه إنما عقده لموكله لا لنفسه. فإذا قلنا: من ملك أن يملك إنه كالمالك، جاز ذلك؛ لأنه لم ينتقل عن الرضا بالسلم فيه عن مال تحقق له، وإن لم ينظر الموكل في ذلك إلا بعد أن حل أجل السلم، وقبض المسلم فيه، فإن له إجازة العقد من غير خلاف، لارتفاع ما صورناه في هذا القسم من أن يُتصور فيه بيع دين بدين. وقصارى ما يتصور فيه أنه باع ما يستحق أن يغرمه الوكيل من رأس المال بعرض يأخذه في الحال، وصارت المسألة على ثلاثة أقسام: إما إجازة الموكل، وقد استحق أخذ عين رأس المال، فإنه جائز: وإما إجازة ذلك وقد قبض السلم بعد حلوله، وهو عرض، فإنه جائز له ذلك أيضًا. وإما إجازته ذلك، ولم يستحق أخذ عين رأس المال، ولم يحضر المسلم فيه، فيأخذه، وقد وجبت له غرامة رأس المال على الوكيل أو على المسلم إليه، فإن في تمكينه من إجازة هذا العقد قولين، ووجههما ما بيّناه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وتقرر. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: توقعناه.

ولو كان الوكيل تعدى فأسلم في طعام، فإنه لا يمكَّن الموكل من إجازة العقد وأخذ الطعام وإن أخذه بالفور؛ لأنه بيع الطعام قبل قبضه، على أحد القولين المذكررين وهو تقدير كون الطعام على ملك الوكيل المتعدي فدفعه قبل كيله عوضًا عما وجب عليه من غرامة رأس المال الذي ثبت في ذمة الموكل. وقد ذكر فضل بن سلمة أن أصل ابن القاسم وأشهب في هذا أن الموكل له أن يغرم الوكيل رأس المال الذي تعدى عليه ولا طلب له بأكثر من ذلك، أو ترك طلبه بغرامة ذلك ويباع له العرض المسلم فيه، فإن وفّى بما وجب له من رأس المال أو زاد ثمن العرض على رأس المال، فإن ذلك للموكل، وإن قبض عين العرض المسلم فيه عما وجب للموكل من رأس المال غرم الوكيل ما قبض عن ذلك لكونه ضامنًا لجملة رأس المال بتصرفه فيه. وإن شاء الموكل أغرم الوكيل رأس المال وانتظر حلول الأجل وقبَض المسلم فيه، فإذا قبض بيع، فإن كان فيه ربح أخذه، وإن كانت خسارة كانت على الوكيل لأجل تعدّيه. وذكر أن أشهب ذكر هذا في ديوانه وأشار إليه الدمياطي في كتبه عن ابن القاسم. وقال الأشياخ إنما يصح بيع هذا العرض الدين إذا ظُن أن فيه ربحًا يأخذه الموكل؛ وأما إن كان لا ربح فيه يأخذه الموكل أو فيه خسارة يفتقر الوكيل إلى غرامتها فلا معنى لبيعه إذا دفع الوكيل للموكل رأس ماله، وإلزام بيع العرض الدين بخسارة يغرمها الوكيل مع كونه وفَّى الموكل حقه إضرارٌ لا فائدة فيه. وهذا الذي قالوه هو مقتضى الأصول. ولكن عبارة أصحاب الروايات قد تشير إلى خلافه لأنهم قالوا: يباع، فإن كانت فيه خسارة غرمها الوكيل. والعبارة السديدة على طريقة هؤلاء الأشياخ أن يقال: يباع إن ظُن أن فيه ربحًا. لا (¬1) أن يكون المراد بما وقع في الروايات أنه ظن أن فيه ربحًا فبيع لأجل ذلك فانكشف من حال بيعه أن فيه خسارة فلا تكون عبارتهم منافرة لما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلاّ.

تأوله الأشياخ عليهم. وقد وقع في كلام بعض الأشياخ ما يشير إلى أن العرض المتعدَّى في بيعه بغير ما أَذِن فيه الموكل هو الذي يباع للدين الذي يبيع به إن كان ربح. وأما لو كان المتعدَّى في بيعه طعامًا أو عينًا فإن ابن القاسم لا يرى بيع العرض الدين الذي هو ثمنه لأن غرامة مثله يصيِّره كأنه لم يفت، وكأن عينه باقية، فلا معنى لتضمين الوكيل غرامة والمتعدَّى فيه قائم أو في حكم القائم. وإنما تَرَكَ بيعَ العرض الذي كان فيه ربح أشهبُ، ولم يعتبر كون المتعدَّى فيه عرضًا أو عينًا. وقد قدمنا نحن ذكر الخلاف في تضمين الوكيل مع قيام عين العرض المتعدى فيه، وذكرنا تأويل ما وقع من الخلاف في ذلك، ولا معنى لإعادته. ومما ينخرط في هذا الأسلوب الذي ذكرناه من تفرقة ابن القاسم بين التعدي على العرض فيكون الحكم فيه غرامة الوكيل المتعدِّي (فيه الغرض) (¬1) الذي أتلف بتعديه. والتعدِّي على مكيل أو موزون فيباع بعرض مؤجل أنه لا يباع العرض المؤجل، على ما كنّا قدمنا حكايته عن ابن القاسم لكون المكيل والموزون، المتعدّي في بيعه، إنما يوجب الحكمُ على المتعدي غرامةَ مثله، فكأنه لم تذهب عينه إذا غرم المتعدِّي مثلَه. فالمتعدي إنما يضمن مع إتلافه العين الذي تعدى فيها، والمكيل والموزون كأنه لم يتلفه إذا غرم مثله. ما ذكره ابن القاسم في المستخرجة فيمن دفع عرضًا لمن يبيعه له بمكيلة من القمح نقدًا، فباعه بدنانير نقدًا، أن الوكيل يُلزَم تضمينَ تلك المكيلة التي أمره أن يبيع بها ويشتري بالدنانير التي تعدى فباع بها قمحًا، فإن كان فيه وفاءً بما حدَّ له الموكل أو زيادة على تلك المكيلة المحدودة كان ذلك للموكل، وإن قصرت الدنانير عن أن تشترى بها مثلُ المكيلة التي حدّ له فإن الوكيل مطالب بأن يكمل المكيلة ويشتري من ماله ما يكمل به المقدار الذي حد له. قال: وإن كان أمَره أن يبيع هذا العرض بعرض سماه له، فباعه بدنانير، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في العَرْض.

فإنه لا يلزمه أن (يقوم له بمثل) (¬1) العرض الذي أمره أن يبيع به ولا بقيمته وإنما تلزمه قيمة العرض الذي دفع إليه ببيعه (¬2). والفرق بينهما أن من استهلك مكيلًا أو موزونًا فإنما عليه مثله، ومن استهلك عرضًا فإنما عليه قيمته. وبسط هذا الذي أشار إليه ابن القاسم من التفرقة، أن الموكل على بيع سلعة له بقمح محدود المبلغ، قد حرم الوكيل الموكل أن يأخذ هذا المبلغ في سلعته، ومنعه منه بإفاتة سلعته عليه، فضمِّن ما منع منه. ونحن إذا ضمناه ما منع منه، وصلنا المتعدَّى عليه إلى ما أراد من ثمن سلعته، فدفعنا الجنس الذي أمران تباع سلعته به. فإذا كان الموكل إنما أمر الوكيل أن يبيع سلعته بعرض فإن العرض لا يقضى بمثله، وإنما يقضى بقيمته على من أتلفه بعينه، فكيف بمن لم يتلفه وإنما منع من التوصل إليه وإذا كان الحكم أن يقضى عليه بالقيمة لأجل أنه منع الوكيل (¬3) من عرضه فإن القيمة التي تضمنه (¬4) على العرض المرسوم له البيع به ليست هي مرادَ الموكِلْ، ولا مطابقة لغرضه، وما رسَم في سلعته، فلا يحصل على مطابقة ما رسم في سلعته في البيع بعرض إذا أغرمنا الوكيل قيمة العرض الذي رسم الموكِّل، وإذا لم يقدر على مطابقة غرض الموكل، وكان لا بد من العدول عنه إلى أعدم (¬5) قيمة العرض، فالعرض الذي أتلفه عليه أولى أن يضمن قيمته من عرض لم يتلفه عليه وإنما يقدَّر أنه منعه منه. هذا وجه التفرقة التي أشار إليها ابن القاسم، وقال: إن الموكل الذي أمر أن تباع سلعته بقمح محدود لا يباح له أن يأخذ من الوكيل غير القمح ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يغرم له مثل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ليبيعه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الموكِّل. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تضمن. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إغرام.

الذي أغرمناه إياه، لكونه حرمه له (¬1) ومنعه حقه. فالمعتبر عنده في هذا المعنى أن يكون الوكيل أمر ببيع عرض بمكيل أو موزون نقدًا فخالف في ذلك. وإنما يشترط كون المبيع المتعدَّى فيه عرضًا لما قدمناه من أنه لو كان مكيلًا أو موزونًا لكان تضمين الوكيل مثله يصيِّر عينه كأنها لم تذهب لكون مثله يسد مسده، والعرض لا يقضى بمثله ولا قيمة مثلٍ له فيسد مسده، فوجب لأجل هذا اعتبار كون المبيع الذي وكِّل الوكيلُ على بيعه عرضًا لا مكيلًا وموزونًا. وكذلك اعتبر أن يرسم له ببيعه بمكيل أو موزون محدود المبلغ دون أن يرسم له أن يبيعه بعرض لأجل ما قدمناه من تفرقة ابن القاسم التي بسطنا بيانها. وبعض الأشياخ يتعقب هذا ويرى أنه ينبغي أن يُلزِمه قيمة العرض الذي حدّ له أن يبيع به لأنه حرمه إياه ومنعه منه بإتلافٍ، فوجب أن يضمن قيمته. وقد ذكر في المدونة أنه إذا أمره أن يبيع سلعة بعشرين دينارًا إلى أجل، فباعها بأقل من ذلك نقدًا، أن الوكيل يضمن قيمة تلك السلعة. وهذا لكون الثمن المرسوم ها هنا مكيلًا أو موزونًا مؤجلًا، ونحن قد أخبرنا أنه يعتبر في إغرام الوكيل إياه كونُه مأمورًا أن يبيع به نقدًا. ورأى هؤلاء المتعقبون أنه ينبغي أن تلزمه هذه الدنانير المؤجلة التي حد له البيع بهلالكونه أتلفها عليه، ومنعه منها بتعديه على سلعته، طردًا لما قاله في مخالفة الوكيل المأمور بأن يبيع السلعة بقمح نقدًا فباعها بدنانير؛ لأن جميع هذه الأنواع يتصور فيها حرمان الموكل ما سمَّى ورسم أن تباع به سلعته، لكن ينبغي إن سلك في هذا طريقة أخرى فينظر في هذا الذي سماه الموكل، فإن كان مما لا يتأتى البيع به غالبًالأولا يمكن أن يحصل له في سلعته، فإن الوكيل لا يغرمه لأجل تسميته لأنه سمّى له ما لا يصح له، كمن أمره أن يبيع سلعة، قيمتها مائة، بألف، فإنه لا يحسن ها هنا أن يقال يضمن الوكيل له ألف دينار، لأجل أنه قد سمّى له البيع بها، فكذلك إذا أمره أن يبيع سلعته بعرض لا يباع به غالبًالأولا يتأتى البيع به في غالب الأمر، فإنه لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه.

يحسن أن يلزم الوكيل غرامة قيمة ما لا يتأتى البيع به غالبًالأولا يتحصل مقدار قيمة العرض الذي يباع به. ولعله لهذا فرق بين أن يأمره بأن يبيع سلعته بقمح أو بعرض، لكون العرض لا يتأتى البيع به غالبًالأولا يَنضبط أسْعارُ البيع به، وقد ينضبط بالقمح إذا كانت عادتهم التبايع به. وهكذا ما ذكر في المدونة من أمره أن يبيع سلعته بدنانير إلى أجل محدود لا يتأتى غالبًا، لكن إن سمّى له ما يبيع به مما يتأتى غالبًا، ويمكن أن يحصّله البائع لسلعته ثمنًا لها، فإنه قد يجري هذا على القولين في تضمين المتعدي ما منع منه لا ما أتلفه. كمن أتلف سلعة وقفت على ثمن معلوم، فإن فيها قولين: أحدهما أنه يضمن قيمتها لإتلافه إياها. والثاني أنه يضمن الثمن الذي وقفت عليه. من ذلك تضمينه السلعة التي حال سوقها (¬1). ¬

_ (¬1) في مخطوطة (و) تنبيه في نهاية الورقة (27 ظ) نصّه: هنا نقص في النسخ الأصول. وفي مخطوطة (م) النقص واضح ولم ينبه عليه.

فصل آخر في الرهن في السلم اعلم أن النكتة المعتبرة في هذا الفصل هي المعنى المعتبر في بيوع الآجال التي ينبني الحكم فيها عندنا على حماية الذرائع واعتبار ما خرج عن اليد وصار إليه على جهة المعاوضة هل يجوز به التعاوض أم لا؟ وهل تتطرق التهمة فيه إلى المتعاوضين بأنهما قصدا لإظهار فعل يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز أم لا؟ هذا هو المعتبر على الجملة، وبسطه على التفصيل: أنا إذا فرضنا كون رجل أسلم إلى رجل آخر في شيء وأخذ المسلم من المسلم إليه رهنًا بما (¬1) فإنك قد علمت أن ها هنا ثلاثة أنواع مالية: رأس مال السلم، والمسلم فيه، والرهن بالسلم، فيعتبر عندي دعوى المسلم قابض الرهن عوضًا عن رأس مال السلم. وهل يجوز أن يؤخذ عن غير المسلم فيه؛ فإن امتنعا جميعًا أو منع أحدهما منعت المقاصصة بالرهن والمشاركة على إسقاط السلم عوضًا عن الرهن المدعى تلفه. وإن جازا جميعًا عدت إلى النظر في قيمة الرهن هل يجوز المعاوضة به عن المسلم فيه أم لا؟ وهل يعتبر جواز المعاوضة بقيمة الرهن من رأس المال أم لا؟ المذهب على قولين: ظاهر المدونة أن ذلك لا يعتبر. وذهب ابن ميسر إلى أنه يعتبر، كما اعتبر ذلك في المعاوضة عن المسلم فيه، وتطرق التهمة ها هنا قد يقوى فيقوع. المنع وقد يَضعف فيضعف المنع. وإنما تتطرق التهمة إذا كان ما أظهراه من المقاصصة قد تكون طريقًا إلى التحيل على فعل ما لا يجوز إلا (¬2) بإظهار هذا الجائز. وبيان هذا كله بالمال أنا إذا فرضنا كون رجل أسلم دنانير وحيوانًا أو عروضًا، وأخذ من المسلم إليه دراهم ¬

_ (¬1) نقص، ولعله: بما هو دين في ذمته. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف إلا.

بالسلم الذي له عليه، ثم أتى بعد ذلك فادعى ضياع الدراهم، وأراد أن يتشاركا ولا يغرم المسلم إليه بما عليه من حيوان أو عرض، فإن المذهب المنع من ذلك. وأنت إذا عرضته على الأصل الذي قررناه لك علمت وجه المنع لأن رأس المال الذي هو دنانير لا يجوز أن يؤخذ عنه دراهم مؤخرة لكون الصرف المستأخر لا يجوز. فقد تقرر من هذا أنهما أبطنا العقد على بيع دنانير بدراهم إلى أجل ولم يظهرا ذلك لئلا يفسخ عليهما ويُعاقبان عليه، فتشهرا بأن سميا هذا الذي أظهراه سلمًا ورهنًا. وهذا اعتبارًا لمعاوضة عن أحد الطرفين وهي رأس المال. ولكن هذه التهمة إنما تتصور إذا أخذت الدراهم رهنًا بعوإنقضاء مجلس السلم؛ لأن مجلس السلم إذا انقضى وأقر بأن الدنانير المدفوعة إنما هذا على أن عوضها دراهم لا ما أظهراه من السلم فيه مُنِعا من ذلك وعوقبا عليه إذا أَتياه عن علم بتحريمه، فلو صورت المسألة على أن الدراهم أُحضِرت حين عقد السلم، وحين دفع الدنانير، وقبضت في الحال رهنًا، فإن التهمة ها هنا مرتفعة، ولا حاجة بهما إلى التحيل بهذا على ما لا يجوز لأنهما لو شاءا لجعلا التقابض للدنانير والدراهم صرفُ ا. فإذا كان ذلك جائزًا لهما، أظهراه أو أبطناه، فلا حاجة بهما إلى فعل آخر يكون ظاهره خلاف باطنه. ويجري على هذا الأسلوب لو كان الرهن دنانير ورأس المال دنانير، هل بهما حاجة إلى هذا التحيل لكون المعاوض يتضمن تفاضلًا بين ذهبين أو نوعًا من أنواع الربا فيمنع من المقاصّصة، كان ارتهان الدنانير في مجلس السلم أو بعده، أو لا يقعان في محرم إذا أظهرا ما أبطنا أم لا؛ وهذا يعرف من مسائل كتاب الصرف وأحكام المراطلة. وأما اعتبار الطرف الآخر وهو المعاوضة عن المسلم فيه، فإنا لو فرضنا أن الرهن ثوب كتان والمسلم فيه ثوب كتان من جنس الرهن، فإنه إن أراد المقاصصة والمشاركة عند دعوى ضياع الرهن، وكان ذلك قبل حلول أجل السلم فإنه يجوز إذا كان الثوب المرتهن مثل الثوب المسلم فيه. وأما إن كان أجودَ منه أو أدنى فإن ذلك يمنع لأن من عليه ثوب كتان إلى أجل يمنع من تعجيل ما هو أدنى منه قبل حلول الأجل لأنه حط من صفة ما عليه عوض ما

عجل ويمنع من تعجيل ما هو أجود لأنه حط عنه الضمان لأجل ما زاد من الجودة وإذا كان هذا ممنوعًا منه في السلم الذي لم يؤخذ به رهن منع في هذا السلم الذي أخذ فيه هذا الرهن لئلا يكونا إنما أظهرا تسمية الثوب المأخوذ رهنًا على أن يدعيا ضياعه ويتقابضاه. ولو كان الثوب المرتهن مثل الثوب المسلم فيه، ليس بأجود ولا بأدنى، فإن المقاصة ها هنا جائزة كما يجوز تعجيل مثل ما عليه من الثياب قبل الأجل من غير أن يكون أدنى ولا أجود. لكن لو حل الأجل ها هنا لم يمنعا من المقاصة لارتفاع ما صورناه من التحيل على الوقوع في: ضع وتعجل، أو حط الضمان وأزيدك. لأن الأجل إذا حل وجب التعجيل فلا يفتقر الطالب إلى أن يسقط من حقه شيئًا ليعجل له حقه، وقَدَر المسلم على البراءة مما عليه فلا يفتقر إلى أن يزيد شيئًا فيحط عنه الضمان. ورأى بعض أشياخي إنما يتضح فيه ارتفاع التهمة مع حلول الأجل إذا كان ارتهان الثوب مقارنًا للعقد، وأما إن كان بعد تراخي العقد فإنه قد تتطرق إليه التهمة بأن يدفعه، وهو أدنى أو هو أعلى مما عليه، عوضًا عن الثوب المسلم فيه إليه، وأخرا ذكر المقاصة إلى حلول الأجل؛ لأنهما لو حاولاها قبل حلول الأجل لمنعا من ذلك ما قدمناه (¬1). وهذا الذي قاله مما ينظر فيه هل تقوى فيه التهمنة أم لا؟ هذا اعتبار المعاوضة بعين الرهن عن رأس المال وعن المسلم فيه قد ذكرنا مُثُلَه. وأما اعتبار المعاوضة بما لزم عن غرامة في الرهن، وأنا إذا فرضنا أن رجلًا باع ثوبًا بدنانير إلى أجل وأخذ ثوبًا رهنًا بالدنانير ثم ادعى بعد ذلك ضياعه، وهو مما يقوم بالدنانير، فإنما يمنع ها هنا من المقاصة والمشاركة؛ لأن الواجب لصاحب الرهن على قابضه دراهم وهي قيمة الرهن فتركها له، وقد وجب له أخذها عاجلًا، بشرط أن يضع رهنًا بدلها، وإن لم يجد رهنًا طبع عليها ووقعت رهنًا فإذا تتاركا صار ذلك صرفُ امستأخرًا لأنه ترك دنانير له مؤجلة بدراهم وجب عليه أداؤها معجلة. هذا على المذهب المشهور في منع مصارفة العين المؤجل في ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: على ما قدمناه.

الذمم. وأما اعتبار أخذ قيمة الرهن على رأس المال على أحد القولين المقدم ذكرهما، فإنا لَوْ فرضنا أن هذا الثوب يقوّم بالدراهم لا بالدنانير، وقيمته أكثر من مقدار رأس السلم، فإن ذلك لا يجوز على مذهب ابن ميسر، كما لا يجوز لمن أسلم دنانير في سلعة أن يقيل منها على دنانير هي أكثر من رأس المال، لأجل كونهما يتهمان على سلف بزيادة، بأن يدفع دنانير ويأخذ بعد حين أكثر منها. وهذا القول غير مرضيّ عند بعض أشياخنا. وقد أشار ابن المواز إلى ما يقتضي ضعف هذا الاعتبار وإن كان أوردهُ في غير هذا السؤال، وذكر أنه لا يخلو أن يكون من بيده الرهن قد علم الله سبحانه صدقه في الضياع فلا تجب عليه غرامة حتى يعتبر ما يحل ويحرم في هذه الغرامة، وإن كان كذب فعين الرهن باقية نفسها، ينظر هل تجوز المعاوضة بها أم لا؟ ومعنى النظر في قيمتها (¬1). وأما اعتبار قيمتها في المعاوضة عن المسلم فيه، على حسب ما حكيناه عن المذهب، فإنما ذلك لأجل أن المسلم فيه دين مستقر في الذمة سبق استقراره المعاوضةَ والمشاركة، فتجري المشاركة فيه مجرى المبايعة، ومن باع دينًا له في ذمة آخر نظر في العوض الذي يأخذ عنه هل يجوز أن يؤخذ عنه عوض أم لا؟ والذي بيده الرهن مقر على نفسه أن المعاوضة إنما كانت منه على القيمة الواجبة عليه. وإن كان السلم في طعام وأخذ به ثوبًا رهنًا، فادعى المرتهن ضياعه، لم تجز المعاوضة لإمكان أن يكون الرهن باقيًا لم يذهب فيكون أخذه عوضًا عن الطعام الذي في الذمة بيعًا. وإن كان قد ذهب. ووجبت فيه القيمة وهي خلاف رأس المال فلا يجوز أيضًا لكون ذلك بيعًا للطعام قبل قبضه .. إن كانت مثل رأس المال لمنعا من ذلك، لجواز أن يكون كذب المرتهن في دعوى ضياعه، فيكون إقالة منهما على غير رأس المال. وهذا إذا كان الطعام من بيع. ولو كان من قرض لم يعتبر فيه هنا المعنى المعتبر في العروض، لكون بيع الطعام القرضِ جائزًا قبل قبضه. ¬

_ (¬1) هكذا.

ولو كان الرهن المأخوذ بطعام السلم دنانير مثل رأس المال، فإن ارتهانها إن وقع بعد العقد ثم ادعى من هي بيده الضياعَ فإن المعاوضة لا يعتبر فيها ها هنا بيع الطعام قبل قبضه، لكون الإقالة في ذلك على مثل رأس المال سرًّا غير ممنوعة. لكن لو كانت الدنانير المأخوذة رهنًا قد اشترط أخذها، مطبوعًا عليها، رهنًا في أصل العقد، فإن هذا مما تنازع فيه الأشياخ، فمنعه منهم قوم، وتأول التهمة يتطرق ها هنا إلى أصل صحة العقد لا إلى نفس المشاركة، لأجل أن اشتراط تأخر رأس المال السلم لا يجوز، على حسب ما قدمناه في موضعه. وإذا دفع إليه مائة دينار في عروض، أسلم إليه فيها، وأخذها منه مطبوعًا عليها، فكأنه لم ينقد رأس المال. وأشار الشيخ أبو القاسم بن الكاتب إلى جواز ذلك. وقد يحتج بقوله في المدونة: إذا أسلم في طعام وأخذ منه طعامًا رهنًا مطبوعًا عليه فإن ذلك جائز كما يجوز ارتهان الدنانير المطبوع عليها. وقد أجبت عن هذا بأن قوله في المدونة: وأخذ طعامًا رهنًا؛ يمكن أن يريد به أنه ليس ما وقع فيه السلم، حتى لا يكون أسلم في شيء وأخذه معينًا مطبوعًا عليه على أن لا يملكه إلا إلى أجل، وإنما شبهه بالدنانير المطبوع تشبيهًا على الجملة لكون الدنانير لا تعرف بعينها كما لا يعرف الطعام بعينه، وإنما لم يتهمهما أيضًا في ارتهان الطعام المطبوع عليه بخلاف اشتراط ارتهان مثل رأس الم الذي دنانير مطبوع عليها لأجل أن هذا الطعام المرتهن مضمون بالغيبة عليه ضمان الرهبان، وبيع المعين بشرط القبض إلى أجل إنما يمنع لأجل أن الضمان من المشتري بحكم الشرع، فإذا شرطه على البائع فقد زاد في الثمن لأجل هذا الشرط فصار بيعًا للضمان، وبيع الضمان لا يجوز. وأما اشتراط ارتهان دنانير مثل رأس المال فإن ذلك يصير العقد في صورة سلم شرط فيه تأخير رأس المال. ولما ذكرنا ما تعلق به بعض الأشياخ من لفظ المدونة ها هنا، وكنا قدمنا في هذا الفصل أن ظاهر المدونة كون قيمة الرهن لا يعتبر مع رأس المال، فاعلم

أن اللفظ الذي يشير أيضًا إلى هذا المعنى الآخر هو قوله في الكتاب: إذا أسلم في عروض أو حيوان وأخذ رهنًا فادعى ضياعه وأراد المقاصة فإن ذلك يجوز إذا لم يكن رأس المال ذهبًا أو ورقًا. فأطلق الجواز من غير اعتبار لقيمة الرهن وقد قدمنا إشارات ابن المواز إلى تصحيح هذا المذهب.

فصل في صلح الكفيل: اعلم أنه ينبغي أن يقدم ها هنا الكلام على ما يجوز شراؤه من الديون الثابتة في الذمة وما لا يجوز. والدين يكون على رجل حي أو على رجل مات. فأمّا الدين الذي على رجل حي فإنه لا يخلو أن يريد شراءَهُ رجل لا مطالبة عليه بهذا الدين ليكفله به وضمانه عليه. فأما أن (¬1) الشراء رجل لا مطالبة عليه. بهذا الدين على حال، أو رجل قد يطالب بهذا الدين على حال، فإنه يعتبرها هنا وجهان أحدهما كون الثمن الذي يشتري به هذا الدين مما يجوز أن يُسلَم في الدين المشترَى أو لا يجوز أن يسلم فيه. والوجه الثاني كون هذا العقد لا غرر فيه ولا خطر .. فأمّا الوجه الأول، وهو اعتبار جواز سلم الثمن ها هنا في المثمون، فمثاله أن يسلم رجل إلى رجل في ثياب معدودة موصوفة إلى أجل معلوم فإنه إذا أراد أن يبيعها بعرض نظرت في هذا العرض فإن كان مخالفًا لجنس الثياب التي أسلم فيها كبيعه الثياب بأكسية أو بحيوان فإن هذا لا يمنع؛ وإن كانت الثياب التي يأخذها ثمنًا عن الثياب المسلم فيها أقل (¬2) أو أدنى في الجودة فإن هذا ممنوع، إذ لا يجوز سلم قليل في كثير من جنسه أو أدنى في جيّد من جنسه لأن ذلك يكون سلفًا جر منفعة. وكذلك لو أراد أن يشتريها بثياب هي أكثر عددًا أو أعلى في الجودة فإن ذلك يمنع؛ لأنه ضمن له الثياب التي أجّلها لِمَا ازداد من عدد أو جودة وهذا لا يجوز في بيع ما في الذمم وما يتأخر قبضه، وإنما ¬

_ (¬1) فرك: بمقدار كلمة في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقل عددًا.

يجوز فيما كان يقبض على الفور كالمعينات. وكذلك لو باع رجل من رجل ثوبًا بدنانير إلى أجل معلوم ثم أراد رجل آخر شراء هذه الدنانير منه بدراهم، فإن ذلك لا يجوز، لكونه صرفا فيه تأخير، وبيع دنانير بدراهم ليست يدًا بيد. ونحن وإن اعتبرنا في هذه القاعدة كون الثمن ها هنا يجوز سلمه في المثمون فإنما يعتبر ذلك من ناحية الجنسية لا من ناحية الأجل، فإن الأجل معتبر في صحة السلم، على ما تقدم بيانه في كتاب السلم الأول، وها هنا لا يعتبر الأجل ولو وقع الشراء لقرب حلول أجل السلم أو عند حلوله لم يمنع ذلك؛ لأنه مشترًى قد حصل في الذمة، وحصوله في الذمة دين لم يقع عليه بهذا العقد الثاني، وإنما وقع بالعقد الأول، والعقد الأول هو الذي يراعى فيه حصول الارتفاق بضرب الآجال كما تقدم بيانه في موضعه وأمّا إذا حصل السلم دينًا في الذمة جرى بيعه مجرى المعيَّنات التي لا يشترط في صحة عقدها ضرب الأجل. فهذا مثال الوجه الأول، وهو اعتبار جواز السلم في المثمون ها هنا. وأما الوجه الثاني وهو اعتبار ارتفاع الغرر، فإن الغرر يتصور ها هنا في كون هذا الجميع مترددًا بين الحصول والانتفاء، فيقتضي هذا اعتبار معرفة ذمة الغريم المبيع ما عليه من دين هل هو مليء الذمة أو فقير؛ لأنه إن كان مليئًا بدين فإنه يفي بما عليه تصورت الرغبة في شراء ما عليه، وإن كان فقيرًا لا يرجى أخذ ما عليه لم يُقدم أحد على شراء ما عليه فاحتيج هذا إلى الاطلاع على مقدار ما في يديه على الجملة، حتى يقع العقد على صفة لا تخاطر فيها ولا غرر، وهذا يقتضي إمكان المعرفة بملائه من فقره، وهذا يمكن مع حضوره. وأما إن كان غائبًا بمكان بعيد فإن المعرفة بذلك لا تمكن للجهل بحال الغائب. ولو أتى من أخبر عنه بأنه غادره مليئًا، مكن أن يكون يتلف ما بيده أو يكثر عليه الديون حتى لا يحصّل المشترى (ما عليه شيء) (¬1) أو يحصل له ما لا يعرف مبلغه إذا ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: مِمّا عليه شيئًا.

وقع الحصاص. وأما إن كان قريب الغيبة، ولا بينة عليه، فإنه يمنع أيضًا لأجل ألا يحوز جحوده (¬1) للدين فلا يحصل للمشترى المثمون الذي بذل فيه الثمن. وإن كان عليه بينة فإن ابن المواز اختار ها هنا الشراء، وقدر أن الخطر ها هنا والغرر يبعد. وتعقب هذا بعض أشياخنا من جهة إمكان دعواه قضاء الدين الذي ثبت عليه، أو تجريحه للشهود فيصير المشتري غير موثوق بحصوله إذا جرح الشهود. أو أقام بينة بالقضاء وحلف عليه إذا ردت اليمين عليه. لكنه سلم ارتفاع التعقيب إذا ثبت أنه حين غاب كان مقرًا بالدين. وهذا عندي أيضًا قد يتوجه فيه القدح الذي أشار إليه لجواز أن يجرح البينة الشاهدة بإقراره حين غيبته. وأما إن كان الذي عليه الدين قد مات، فإنه ذكر ابن المواز أنه لا يجوز شراء ما عليه، ولو مات مليًّا، لأجل أنه قد يطرأ عليه غريم أو غرماء يستحقون ما ترك فيضمن (¬2) هذا العقد غررًا لأجل هذا الإمكان الذي قررناه. وأشار بعض أشياخنا إلى أنه إذا كان قد مات مليًّا وهو غير معروف بمداينة الناس فإن الشراء لا يمنع. وأشار إلى التعلق بما وقع في المدونة في كتاب المديان من قسمة ماله بين غرمائه إذا لم يعرف بمداينة الناس. وهذا الذي أشار إلى التعلق به من مسألة المدونة قد يقدح فيه: فإن الغرماء قد استحقوا ماله بالمعاملة التي تقدمت بينهم وبينه في حياته وقد حل حقه (¬3) فلا وجه لإضرارهم بتأخير حقهم الذي قد حل، ويطالبهم بما وجب لهم، فدعت الضرورة من اعتبار إزاحة الضرر عنهم إلى قسمة ماله بين من استحقه، ولا ضرورة تلجىء هذا إلى شرءا دين على ميت، فاعتبر في أمر هذا الإمكانُ والتجوّز (¬4) لتطرق غرماء إذ ليس في اعتبار إلحاق ضرر بآخر. ¬

_ (¬1) هكذا؟ والكلام غير واضح. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيتضمّن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَقُهم. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والتجوير.

هذا حكم شراء الديون إذا اشتراها من لا مطالبة عليه بها. وأما إذا اشتراها من قد يطالب بها لِحَق كفالته وضمانه لها فإنه ذكر في المدونة، فيمن أسلم دنانير في ثياب إلى أجل وأخذ بها كفيلًا (¬1) وللكفيل شراؤها بما يحل له أن يشتري به إذا كان الذي عليه الدّين حاضرًا مقرًا. فأمّا اشتراط حضوره فإنه ثابت عند رواة المدونة. وأما اشتراط إقراره فإن الرواة اختلفوا فيه: فأثبته العسال، وأسقطه غيره من الرواة. وذكر بعد هذا في المدونة في هذا الباب فيمن له على رجل دراهم أخذ بها كفيلًا، أنه يجوز للكفيل أن يشتريها لنفسه بقرض، ولم يشترط في هذه المسألة شرطًا كما اشترطه، في المسألة الأولى التي ذكرناها. وكما اختلفت الرواة في لفظ الإقرار في المسألة الأولى المذكورة اختلف اختيار المتأخرين فيما صنعه الرواة من إسقاط لهذه اللفظة أو إثباتٍ، فكان أبو محمَّد اللؤلؤي وغيره يرى أنه لا حاجة إلى إثبات لفظة الإقرار لكون الكفيل ها هنا مطلوبًا بهذا (أبدا لدين الذي يكون) (¬2) الكفيل: إنّ من تكفلتُ عنه ظالم في جحوده كاذب في إنكاره. وإذا كان هذا الدين لا يسقط ملك بائعه عنه على حال، لم يعتبر ها هنا إقرار من هو عليه، بخلاف ما لو اشتراه من ليس بكفيل به لأن جحود من هو عليه لا يوجب مطالبة على مشتريه، فيصير المبيع ها هنا لا يوثق بحصوله ولا بكونه ملكًا للبائع، فلم يجز العقد إلا مع الإقرار بخلاف الكفيل: وهذا إذا وقعت الكفاله على وجه يوجب مطالبة الكفيل بالدين وإن جحده من هو عليه. وأما لو كانت كفالته به بعد معاقدة طالب الدين والمطلوب به والكفيلُ لا علم عنده يكون الطالب مستحقًا للطلب، فإن الكفيل ها هنا كغيره يشترط في صحة شرائه الإقرارُ لأن من حقه مطالبة من له الدين الذي تكفل به بإثبات دينه على من زعم أنه يستحقه عليه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فللكفيل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الدين الذي يقول.

وهذا الذي أشار إليه هؤلاء من الفرق طريق صحيح في التفرقة بين حصول الغرر في شراء من لم يتكفل بالدين وشراء من تكفل به لكن المسألة عندي على طريقة هؤلاء يلاحظ مسألة أخرى، قدمنا ذكرها في كتاب السلم الأول، وهي إذا عقد السلم بوكالة على أن الموكِّل إن جحد لزم الوكيل المطالبة بالسلم، وقد قدمنا هناك أن كون هذا المبيع مترددًا بين ذمتين يقتضي فيه غررًا فيمنعه سحنون، ويجيزه ابن القاسم؛ لأنه يرى هذا التردد بين الذمتين غررًا، كما قدمنا بيان القول فيه. وكذلك ها هنا تعليل هؤلاء يقتضي كون بائع الدين باع ما لا يدري هل يستحقه ويقبضه من ذمة المديان أو من ذمة الكفيل فإن كان يقول: إني أستحقه في الذمتين جميعًا لكن أحدهما ظالم، فإنه لا يقضى له على هذا (¬1) جحد بأن يسلم إليه ما ادعى به عليه. وبعض من سلك هذه الطريقة يشير إلى أن الأصل ما ذكره في المدونة في المسألة الثانية إذا اشترى الكفيل ما تكفل به من دراهم بعرض لنفسه فإن ما اشترطه في المسألة الأولى من الإقرار يستغنَى عنه. ومنهم من سلك خلاف هذه الطريقة، ورأى أن الكفيل يفتقر فيه إلى شرط كما يفتقر في ذلك إذا اشترى هذا الدين من لم يتكفل به، ويعتل بأنه لا يقصر الغرر على الجحود خاصة بل كل إمكان تحصل الثقة بحصول المبيع يوجب المنع إذا وقع التحرير بين الحصول والانتفاء على وجه واحد. وها هنا يمكن أن يكون الغريم الذي عليه السلم يدعي القضاء ويقيم عليه بينة، فيسقط الطلب بالدين عنه وعن الكفيل، وينصرف الح الذي اليمين فلا يبدل الكفيل من الثمن وهو يقدر أن المشتري لا يحصل له ما يبدله وهو يعلم أن المشتري حاصل له واختلاف الثمن ها هنا يتضمن غررًا في العقد فوجب المنع إذا لم يقع إقرار. وهؤلاء يشيرون إلى أن الأصل ثبوت الإقرار وإنما حذف الثانية اختصارًا واكتفاءًا بما تقدم. ومنهم من يريد إبقاء كل مسألة من هاتين على ما هما عليه ويرى أن المسألة الأولى الدينُ المشترَى فيها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

عروض، والعروض قد يتنازع فيها في صفتها ويكثر الخصام فيها، فلهذا اشترط الإقرار فيها. والمسألة الثانية إنما لم يشترط الإقرار فيها لكون المتكفل به دراهم، والدراهم لا يتنازع في صفتها فيعدل عن الغرر. وهذه الطريقة ليست سديدة ولا واضحة، وقد تُحصر العروض حصرًا لا يقع فيها تنازع ولا خصام، وتشهد البينة بذلك، فلا يكون بينها وبين الدراهم فرق، وإنما للنظر مج الذي اعتبار الغريم القضاء فيبطل الدين المبيع إذا حكم بصحة القضاء ويصير كتجويز الجحود، أوْ لا يعتبر هذا لكون دعوى القضاء في دعوى (¬1) النادر، وما يندر لا يوجب في العقد غررًا .. ومن الأشياخ من سلك طريقة أخرى وتوسط فيها بين هاتين الطريقتين، فرأى أن الأجل إذا كان لم يحل احتيج في شراء الكفيل إلى إقرار الغريم، لكون الكفيل لم يتوجه عليه طلب، وإذا حل الأجل لم يفتقر في شراء الكفيل إلى إقرار الغريم، لكون الطلب متوجهًا عليه. وبعضهم يتردد في هذا التفصيل ويقول: قد لا يطلب الحميل وإن حل الأجل، وإذا أمكن أن لا يطلب إذا حل الأجل صار ذلك كشرائه قبل حلول الأجل. وبعضهم يشير إلى أنّا إن قلنا بأحد قولي مالك من كون مستحق الدين مخيّرًا بين طلب الغريم أو الكفيل اتضح كون الكفيل كغريم اشترى ما عليه. وإن قلنا: إنه لا يطالب إلا بعد تقرُّر أخذ الدين ممن هو عليه، أمكن ها هنا أن يعتبر الإقرار ليطلع على ملائه من فقره لما ذكرناه من التجويز المتطرق إلى غريب غائب، وأيضًا فإن الطلب يتوجه على الكفيل في عينه. وأما مع حضوره وملائه ففيه الخلاف الذي ذكرناه. وقد قال ابن المواز أنه لا يفتقر (¬2) شراء الكفيل من شراء غيره إلا في وجه واحد وهو أن الكفيل لا يجوز له أن يشتري الدين الذي تكفل به إلا بما يجوز لمن هو عليه أن يشتريه. فإذا أسلم رجل دنانير في ثياب فإن الغريم الذي عليه الثياب لا يجوز أن يقضي ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: حكم. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يفترق.

عنها دراهم أو ذهبًا أكثر مما قبض لئلا يكون قد قبض دنانير ورد أكثر منها فيكون سلفًا بفائدة، أو قبض دنانير وردّ دراهم فيكون صرفًا مؤخرًا، فكذلك الكفيل يمنع من الشراء بهذا لأنه كغريم ثانٍ. هذا الذي أشار إليه ابن المواز. وظاهره يقتضي أنه يفتقر في إجازة شرائه إلى إقرار الغريم كما يفتقر إلى ذلك في شراء هذا الدين من لم يتكفل به، لقوله: إنهما لا يفترقان إلا في وجه واحد. وذكر ما حكيناه أنه أشار إليه. وقد قال بعض الأشياخ: إن هذا الذي ذكره من منع الكفيل أن يشتري بما لا يجوز أن يُقِيل أحدهما من جميع ما عليه، وقدر أنه وإن أقاله من جميع ما عليه فإن ما سوى ذلك مما يحلّ كأنه عليه وهو غريم مطلوب به، فمتى أقاله من كل ما عليه فكأنه أقاله من بعض ما عليه، والإقالة من بعض ما عليه لا تجوز. وهذا يشير إلى ما قال ابن المواز من أن ما يطلب به الكفيل بحق الحمالة هو كما يطلب به بحق المعاملة التي عامل لنفسه. وبعض الأشياخ يشير إلى أن هذا إنما يحسن إذا كانت الكفاله وقعت مقارنة للعقد، فيحسن حينئذ كون الكفيل يقدّر غريمًا، وأما لو كانت الكفاله بعد العقد فإنه لا يعتبر ها هنا ما يشتري به الكفيل من دراهم أو ذهب أكثر من رأس المال، لكون العقد عليها وقع قبل كفاله الكفيل. وبعض الأشياخ يشير إلى أنه لا يجب بمقتضى القياس اعتبار هذا في حق الكفيل لأن الغريم هو قابض الدنانير فيُتَّهَم على أنه رد أكثر منها وجعل الزيادة عوضًا لانتفاعه، والكفيل ها هنا لم يقبض ذهبًا ولا انتفع بشيء يقدر إنما زاد منه على رأس المال عوض الانتفاع. وهذا الذي قاله له وجه على مقتضى تعليل أهل المذهب في منع الغريم أن يقضي ها هنا عمَّا عليه من ثياب ذهبًا أكثر من رأس المال الذي أخذه. هذا حكم شراء الوكيل ما يكفل به لنفسه. وأما لو اشتراه لغريمه فإنه لا

يلزم الغريم شراء الوكيل له بغير إذنه لكونه، عقد على جائز الأمر ما لم يوكله عليه. ولكن من عقد بيعًا على جائز الأمر كان الخيار في إمضاء العقد أو رده للمعقود عليه، ما لم يمنع مانع من إمضاء العقد لفساد العقد فيبقى النظر ها هنا في صحة عقد الكفيل، على أن الخيار للغريم في إمضاء العقد أو ردّه. فاعلم أنه لا يخلو أن يكون صالح الكفيل عن الغريم بجنس آخر خلاف ما على الغريم، هذا الذي صالح به إنما وقع عن دين ليس بعين دنانير أو دراهم، أو وقع الصلح عن دنانير أو دراهم ثبتت في ذمة، فصالح الكفيل عنها بما يقضى فيها بالمثل أو بما يقضى فيه بالقيمة. فأما إذا وقع الصلح عن دين في ذمة الغريم ليس بعين، فإن كل ما صالح به الكفيل من الأجناس المخالفة لما على الغريم فيه اختلاف: هل يمكن الغريم من الرضا بما عقده الوكيل عليه لكون ما عقده عليه جائزًا؟ أو لا يمكن من ذلك لكون ما عقده الكفيل وقع فاسدًا؟ فمنع من هذا العقد في كتاب السلم من المدونة وأجازه في كتاب الحمالة. وسبب هذا الاختلاف أنك قد علمت أن الشرع ورد بمنع العقود الواقعة على غرر وخطر، وسامح فيما طريقه المعروف والرفق والإحسان ما لم يسامح به فيما طريقه المكايسة والمتاجرة، كمنعه بيع المجهول وما لا يحاط به، وإجازته ما أعراه من تمر نخلة وإن اشتراه بخرص، على ما يرد بيانه في كتاب العراياة وما ذاك إلا لكون شراء العرايا المقصود به الرفق والإحسان" فخالف ما قصد به من العقود المكايسة والمغابنة. وها هنا إذا تكفل الغريم بثياب في ذمة رجل ثم اشتراها من يستحقها بثياب مخالِفة أو بطعام أو حيوان أو دنانير ودراهم فإنك قد علمت أن هذه المعاوضة لا تلزم الغريم، وإذا كانت لا تلزمه، وله الخيار في إمضائها عليه وردها، (فقد صار الكفيل عوضًا) (¬1) لا يدري ما يأخذ عنه، إما الثياب التي على الغريم إن لم يرض بعقده عليه، أو مثل ما دفعه للكفيل إن كان له مثلٌ، فيكون ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب فقد صار للكفيل عوض.

الكفيل كأنه أسلف شيئًا ورجع إليه مثله؛ وإذا كان العقد مترددًا بين أن يقع بيعًا أو سلفًا كان ذلك فاسدًا؛ لأنه في معنى سلف جر منفعة، إذ لا يسمح يكون هذا سلفًا إلا لرجائه أن يكون بيعًا فيربح فيه، وإذا تردد عقده بين هذين الأمرين وجب منعه وإفساده. لكنا كنا قدمنا أن الشرع عَفَا عن (بعض الغَريم) (¬1) إذا قصد به الرفق والإحسان" على حسب ما قدمناه، والقصد هنا من الكفيل في غالب الأمر "الإحسان للغريم، ومثل هذا القصد يخرج العقد عن كونه عقد مكايسة ومخاطرة، فحسن إمضاؤه. فهذا سبب اختلاف القول فيه. وأيضًا فإن العقد إذا التفت فيه إلى هذا الوجه كان صحيحًا ما بين المتعاقدين، وهما طالب الدين الذي باعه والوكيل الذي اشتراه، ولا مرجع لطالب الدين في دينه، ولا خيار له في العقد، لكن إنما يتصور القدح الذي فرضنا في هذا البيع من ناحية رجل ثالث غير هذين المتعاقدين، وهو الغريم الذي عليه الدين. فإنا ذكرنا أن له الخيار في إمضاء عقد الوكيل أو رده، فاختص هذا الغرر والفساد بفعل الكفيل فيما بينه وبين الغريم، لا فيما بينه وبين مستحق الدين الذي باعه منه. فصار هذا كفساد طرأ على أحد المتبايعين لا مدخل لآخر (¬2) فيه. وعندنا اختلاف (¬3) وعلم أحد المتبايعين بالفساد، فهذا أيضًا الوجه مما ينظر فيه. وأما إن صالح الكفيل عن دنانير ودراهم بشيء يقضى فيه بالمثل فإن فيه الاختلاف، الذي ذكرناه، إذا كان ما صالح به جنسًا غير العين. وما عللنا به الاختلاف المذكور متوجه ها هنا. وإن صالح بعرض فرجع إلى القيمة فإن المعروف عند الأشياخ من المذهب لم يختلف في جواز هذاة لكن الشيخ أبا القاسم بن الكاتب اعترض هذا، وأشار إلى أنه ينبغي أن يجري على الاختلاف الذي قدمناه لكون الكفيل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للآخر. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في.

ها هنا بذل في هذا الصلح ثوبًا لا يدري هل يمضي الغريم ما عقده عليه فيعطيه قيمة الثوب أو لا يرضى بما عقده عليه فيعطيه ما عليه من الدين، والكفيل لا يدري أيهما أكثر، فصار ما دفعه وقع على وجه فيه هذا الوجه من الغرر والخطر فيجب منعه، أو إمضاؤه لكون القصد به المكارمة، كما قدمناه. واعتضد في هذا بأن ابن المواز ذكر في كتابه في من تحمل بدنانير وصالح عن الغريم على عرض يقضي فيه بالقيمة أن ذلك أجازه أشهب وإليه رجع ابن القاسم قال: ولم أر بين أصحابهما فيه اختلافًا. فقوله: إن ابن القاسم رجع إلى هذا، وهو الإجازة، يقتضي أنه كان يقول بالمنع. وهذا وإن كان ظاهر هذا اللفظ مما يشير إلى الخلاف الذي رأى أنه ينبغي أن يجري في هذه المسألة فإن ظاهر المدونة يمنع منه؛ لأنه فرق في كتاب السلم فمنع الصلح في هذه المسألة بعرض يقضى فيه بالمثل، وأجازه بعرض يقضى فيه بالقيمة. فلو كان النوعان عنده يجريان مجرى واحدًا لم يكن لهذه التفرقة في الجواب معنى. ولا شك أن هذه التفرقة التي وقعت في المدونة تشير إلى أن هذين النوعين لا يكون حكمهما واحدًا، فلا وجه لتقويّهم المساواة بين ما فرقوا فيه. واعتذر بعض الحذاق. عن الذي أشار إليه الشيخ أبو القاسم بن الكاتب من الاعترَاض، وصوره من الغرر، بأن الكفيل إذا دفع هذا العرض فالغالب أنه لا يدفعه إلا وقد عرف قيمته، وعلم أيضًا أن الغريم لا يحتاج إلا غرامة أقل المقدارين، إما الدين الذي عليه، أو قيمة العرض الذي صالح به عنه الكفيل، فيكون إذا قدرنا أنه علم مبلغ الدين ومبلغ قيمة العرض الذي دفع، وعلم أن الغريم لا يختار أن يدفع له إلا أقل المقدارين، صار كالمتطوع بزيادة قيمة عرضه على الدين، أو كالمتطوع بزيادة قيمته على الدين، وهذا يمنع تصور الغرر. وهذا أيضًا إذا كان العرض الذي صالح به الكفيل يقوّم من العين بجنس الدين، إن كان الدين دنانير قوّم بها في المعتاد عندهم، أو كان الدين دراهم والعادة عندهم تقويمه بالدراهم. وأما إن كان يقوم من العين بجنس آخر خلاف الدين مثل أن يكون الدين دنانير وصالح بعرض يقوم بالدراهم، فإن هذا خارج مما

نحن فيه، وراجع إلى ما قدمناه من جريه على الخلاف في أن الصلح الواقع بجنس خلاف جنس الدين كما قدمناهُ. وكذلك اختلف القول عندنا في صلح الكفيل عن دنانير تحمل بها بدراهم، لأجل ما في هذا الصلح من تخيير الغريم بين دفع الدنانير التي عليه أو جنسًا آخر وهي الدراهم التي دفعها الكفيل عنه. وهذا إذا حل الأجل، وأما قبل حلوله فيتصور فيه الصرف المؤخر؛ لأنا نمنع أخذ دنانير عن دراهم لم يحل أجلها، وتأخيره إذا حل الأجل، هذا هو الأشهر في تعليل الخلاف في هذا. وقد اعتذر ابن حبيب عن كون هذا صرفا بأن قال: من أقرض طعامًا فإن للكفيل أن يصالح عن الغريم بطعام خالفه، ولا يكون هذا بيع طعام بطعام ليس بدَنانير، كما يجوز له أن يصالح عن دنانير تكفل بها بدراهم ولا يكون هذا صرفًا مستأخرًا؛ لأنه إنما يكون صرفًا أو بيعًا لطعام بطعام عند إمضاء الغريم فعل الكفيل والتزامه أن يؤدي ما أُدي عنه، فحينئذ يؤمر بالتناجز، وأما قبل أن يخيّر فيختار إمضاء فعله، فإن الذي في ذمته باق عليه، ومعاملة الكفيل ومستحق الدين (تأخير في طعام) ولا (¬1) في مصارفة. وذكر أن هذا مذهب ابن كنانة، وأشار إلى اختلاف قول ابن القاسم فيه. وقد قيل في هذا إن الغريم إذا رضي بإمضاء فعل الكفيل فإنه يخرج من ذمته الدنانير ويشتري بها الدراهم، فإن قصرت عن مبلغ الدراهم لم يلزم الغريم زيادة، وإن فضل من الدنانير فضلة كانت للغريم، ولا تكون للكفيل لأنه لا يربح فيما اشتراه لغيره، وهذا احتياط للخروج عن صرف فيه خيار. وقد ذكرنا لك أن شراء الكفيل الدين لنفسه بخلاف شرائه (¬2) فإن وقع الشراء بجنس واحد غير الدين جاز ذلك إذا اشتراه الكفيل لنفسه على صفة ما بيناه واشترطناه، وإن اشتراه الغريم (¬3) كان فيه الخلاف الذي قررناه ونوعناه. ¬

_ (¬1) الكلام على الإثبات، والسياق يقتضي النفي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للغريم. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للغريم.

وإن كان الشراء بجنس الدين، فإن كان الثمن والمثمون متساويين، عددًا وصفة ونوعًا، جاز ذلك قبل الأجل وبعد الأجل، سواء اشتراه الكفيل لنفسه أو للغريم، مثل أن يتكفل بثياب يشتريها بثياب مثلها، نوعًا وعددًا وصفة، فإن ذلك يكون قضاءً للدين لا مبايعة فيه؛ وقضاء الدين على ما هو عليه جائز. وإن كان ما يشتري به الثياب المسلم فيها أدنى من الثياب التي في ذمة من عليه السلم أو أقل عددًا فإن ذلك لا يجوز إذا لم يحل الأجل لأنه إن اشترى ذلك لنفسه كان كمن أسلم ثوبًا في ثوبين وقد أسلف في زيادة. وإن اشترى ذلك بثياب أكثر عددًا أو أعلى صفة فإن ذلك لا يجوز كان ذلك داخلًا في أسلوب حط الضمان وأزيدك وأما إذا حل الأجل فإن الشراء لهذه الثياب التي في الذمة بثياب أدنى منها في الصفة أو أقل في العدد أو أجود في الصفة وأكثر في العدد لا يجوز إذا اشترى ذلك لنفسه؛ لأنه شراء ثياب في الذمة، وبيع الثياب بثياب مخالفة لها في الصفة لا يجوز إلا إذا كان لا تأخير فيه. وقال بعض أشياخنا إن جواز شراء الكفيل هذا لنفسه إذا حل الأجل واشترى بما هو أفضل من الصفة أو أكثر في العدد؛ لأن هذا يكون قضاء من الكفيل لما وجب عليه، وحسن القضاء مأمور به في الشريعة. وهذا الذي انفرد به ظاهر المذهب خلافه، ولا يسلّم أهل المذهب أن هذا القصدُ به حسنُ القضاء؛ لأنا فرضنا السؤ الذيما قصد به المبايعة والمتاجرة، فخرج بهذا القصد عن حسن القضاء، كما لو اشترى الثياب التي في الذمة بأدنى منها فإنه يسلَّم منعُ ذلك لكون القصد بهذا العقد المبايعة، وصار كسلف يطلب به الزيادة والمنفعة. لكنه لو جبر الكفيل بعد حلول الأجل على القضاء فقضى ما هو أدنى وقبل منه ذلك من له الدين، فيما عما من الجودة هل أراد بذلك الهبة لمن عليه الدين أو للكفيل فيمضي الأمر فيه على ما قصد إليه من هذا؟ وأما لو صالح الكفيل بعد حلول الأجل على ثياب من أدنى الثياب التي في ذمة الغريم، أو أجود فإن ذلك يجوز إذا صالح بهذا عن الغريم لما كنا قدمنا الإشارة إليه من كون من عليه الدين لا يختار أن يقضي إلا ما هو أخفّ عليه، وأقل في المقدار، فصار الكفيل

المصالح كأنه عاوض عنه، وهو يعلم ما يصير إليه من قبله، وإذا علم ذلك ارتفع الخيار الموجب للخطر على أحد القولين المتقدمين. هذا حكم العروض المتكفل بها إذا وقع الصلح عنها من الكفيل لنفسه، أو عن الغريم قبل الأجل وبعده. وأما لو كان المتكفَّل به طعامًا من سلم فإن الصلح قبل الأجل لا يجوز بسمراء عن محمولة، ولا محمولة عن سمراء؛ لأنه إن وقع الصلح عن الغريم تضمن هذا العقد ما قدمناه من الوقوع في: ضع وتعجل، أو حط عنّي الضمان وأزيدك. وإن صالح لنفسه فذلك أحرى في المنع لأنه عقد بطعام على طعام مؤخر ووقع العقد على بيع الطعام قبل قبضه. وأما إن حل الأجل فلا يجوز ذلك عن نفسه لما قدمناه، ولا عن الغريم لكون الغريم مخيرًا لما يدفع للكفيل المصالح، وقد يعتقد أن المحمولة أفضل من السمراء، لاختلاف حال منهما، أو اختلاف حال الأغراض عندهما. وإذا صارا كالجنسين منع من ذلك، بخلاف ما لو دفع الغريم من مال نفسه بعد الأجل محمولة عن سمراء أو سمراء عن محمولة، فإن هذا جائز لأنه كالمبادلة ولا بيع فيه، وإذ كان الدفع من الكفيل على وجه فيه خيار للغريم، ولا يدري الكفيل ما يحصل له هل ما دفع أو ما اشترى؟ صار هذا يتصور حكم المبايعة فيه وثبوت الخيار الذي إنما يتصور غالبًا في البياعات لَلَحِق هذا العقد من الكفيل بالوجه الممنوع لأجل أنه دفع ما فيه خيار لغيره عليه. ولو كان الدين سمراء فقضى الكفيل الغريمَ أدنى منها -من السمراء- أو كان الدين محمولة فقضى الكفيل عن الغريم محمولة أدنى منها، فإن ابن القاسم منع من ذلك إذا كان الدين من سلَم. والوجه للمنع ها هنا على مقتضى ما أصلناه لأنه يعلم حين الصلح أن الغريم لا يختار إلا ما هو أرفق به. ولا يتصور ها هنا أن يعتقد أحد أن السمراء الجيدة تكون أدنى من السمراء الدنيئة. بخلاف ما قررناه في السمراء إذا أخذ عنها محمولة. وقد أجاز في كتاب الحمالة

هذا إذا كان الطعام قرضًا، لكون طعام القرض يجوز بيعه قبل قبضه، فلم يحتط لبيع الطعام قبل قبضه في طعام القرض كما احتاط في طعام السلم، ولكنه في كتاب الحمالة شرط في القرض أن يكون الأجل قد حل، وهذا إنما شرطه لأنه ذكر في السؤال أنه دفع عن طعام سمراء عن محمولة أو محمولة عن سمراء، ودفع محمولة عن سمراء في طعام القرض المؤجل لا يجوز قبل الأجل؛ لأنه بمعنى: ضع وتعجل. وإما حطّ عني الضمان وأزيدك، فلا يتصور في القرض لأن من هو عليه له تعجيله بغير اختيار من هو له. فلما اشتمل السؤال على وجهين يمنع أحدهما قبل الأجل، ويجوز الآخر اشترط حلول الأجل لكون الأجل إذا حل استوى الوجهان في الجواز. وإذا وضح ما يجوز الصلح عليه وما. لا يجوز فلنذكر حكم طلب الكفيل براءة ساحته ما يكفل به (¬1) بأن يقضي المسلم ما يقدر عليه، فاعلم أن الأجل إذا حل كان من حق الغريم الذي عليه الدين أن يطالب من له الدين بقبضه منه ليبرأ من الطلب، وهذا لأنه لا يلزمه أن يبقي ذمته عامرة بعوإنقضاء الأجل الذي تعاقدا عليه. وأما طلب الكفيل أن يبرأ من كفالته فإنه إذا حل الأجل وكان من له الدين حاضرًا كان من حق الكفيل أن يطلب براءته من الكفاله إما بمخاطبة من عليه الدين أن يقضيه أو بمخاطبة من له الدين أن يقبضه أو يُبرىء الحميلَ إن اختار تأخيره على من هو عليه، لكون الحميل يتضرر ببقاء المطالبة بالحمالة عليه بعد ذهاب المدة التي التزم الحمالة فيها. وأما إن كان من له الدين غائبًا ومن عليه الدين يُخشى أن يعجز عن قضاء الدين إن تأخر قبضه، أو يَلِدّ عن القضاء، فإن من حق الحميل ها هنا أن يطالب القاضي بإخراج الدين الذي يجب للغائب. ويوقفه على يد من يأمنه عليه، ليبرأ الحميل من حمالته إذا أخرج الدين من الذمة التي تحمل عليها. وأما إن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفي ش: له.

كان الذي عليه الدين ظاهر الملأ لا يخشى منه لَدَدٌ فإن الأظهر من أقوال مشائخنا أن من حق الحميل أن يطلب من القاضي إخراج هذا الدين ليبرأ من الحمالة، لما قدمناه من كونه يتضرر ببقاء الحمالة عليه أَمَدًا آخر زائدًا على الأمد الذي التزم الحمالة له فيه. ولم يَلتفت ها هنا إلى حق الغائب قد يضيع فتكون مصيبته منه، وقَدَّم مراعاة ضرر الحميل على مراعاة ضرر الغائب لأجل أن المعاقدة إنما كانت على أن الحميل لا مطالبة عليه إلا إلى أجل محدود، وقد سبق حقه في نفي الضرر عنه حق الغائب في اعتبار إخراج دينه من ذمة إلى أمانة، وأصّلنا في الضررين إذا تقابلا أن يعتبر أحدهما فيقدم اعتباره والنظر في إزاحته. وقد ذكر ابن حبيب في هذا أن من عليه الدين إذا كان مليئًا فإنه لا مقال للحميل؛ وهذا لأنه رأى أن الحميل إنما كان له مدخال (¬1) في المطالبة بإخراج هذا الدين من ذمة إلى أمانة، لأجل ما يلحقه من الضرر من تخوف عُدْم الغريم، فتتوجه المطالبة عليه. وإذا كان الغريم لا يُتخوف جانبه في هذا لم يحسن إلحاق الضرر بالغائب بإخراج دينه إلى أمانة مع كون الحميل [لا يظهر وجه تصوره بترك خروج الدين من الذمة، وهذا عندي قد يحسن مع القول: إن الحميل] (¬2) لا يطالب إلا عند تعذر أخذ الدين من الغزيم. وإذا كان الغريم مليئًا غير مُلِدٍّ فكان (¬3) الحميل آمنًا من توجه المطالبة عليه. وأما إذا قلنا بأحد قولي مالك: إن من له الدين من حقه أن يطالب الحميل مع حضور الغريم وملائه، قد يحسن الطريقة الأخرى وهي تمكينه من طلب براءة ذمته حتى لا يبقى لمن له الدين مطالبة عليه. وإذا تقرر هذا وعلم حقيقة توجه طلبه بإخراج الدين من ذمة المدين فإنه إن قبضه من الغريم لم يخل من ثلاثة أقسام: أحدها أن يقبضه برسالة من له الدين ووكالته على ذلك أو برسالة من عليه الدين ووكالته على إيصاله لمستحقه، أو يقبضه على جهة الرسالة ممن له ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: مدخل. (¬2) ما بين المعقّفين زيادة من (ش). (¬3) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب كان.

الدين أو ممن عليه الدين، فإنه غير ضامن له إن ضاع في يديه لكونه أمينًا لمن وكله، إما مَن له الدين وإما من هو عليه. والوكيل لا يضمن لأنه مؤتمن كالمودع. وأما إن قبضه على جهة الاقتضاء فإنه يضمن، وإن ضاع في يديه من غير تفريط منه. وبالغ في المدونة في هذا فقال: يضمنه، كان هذا الدين المقبوض مما يغاب عليه أو لا يغاب عليه، ضاع ببينة أو بغير ببينة، قضاه الغريم متبرعًا أو غير متبرع بقضاء من سلطان أو بغير قضاء منه. وأنكر سحنون هذه اللفظة التي وقعت ها هنا وهي قوله "بقضاء من السلطان" لكون السلطان لا مدخل له ها هنا، ونقلها ابن المواز وزاد في النقل أن السلطان إن قضى بذلك فقد أخطأ. وأشار فضل بن سلمة إلى طريقة أخرى في الاعتذار عنها، فذكر ما حكيناه عن ابن حبيب أن الحميل إذا طلب براءة من الحمالة، وكان الغريم ممن يتخوف ألا يؤخذ منه الدين، فإن من حق الحميل أن يطالب القاضي بإخراجه من ذمة الغريم ويوقفه على يدَ من يشق به، إما هذا الحميل أو غيره. وإشارة فضل بن سلمة ها هنا تقتضي ضمان الحميل إياه وإن كان وقفه عنده القاضي لما طلبه بالإبراء من الحمالة، وكأنه قدر أنه إنما قبضه وقبله من القاضي لمنفعة نفسه، وطلبًا لبراءة ساحته وهو السبب في إخراجه من الذمة، فضمنه بوضع يده عليه مع كونه طلب ذلك لمنفعة نفسه. ولو وقفه القاضي عند غير الحميل، وحكم ببراءة من عليه الدين، لكان ذلك، إن ضاع، في ضمان الغائب. وأشار بعض الأشياخ إلى أن الحميل إنما يضمين هذا إذا قبضه على جهة الاقتضاء؛ لأن معنى الاقتضاء أنه طالب الغريم بأن يسلِّم إليه الدين الذي علية ليبرأ منه، ويكون هذا المطالَب به دونه. وهذا الالتزام ودفع الدين على هذا الشرط يوجب ضمانه على كل حال. وقوله في المدونة في هذا الجواب "دفعه متبرعًا أو غير متبرع" يعني أنه دفعه بقضية السلطان أو بغير قضية السلطان؛ لأن مطالبة الحميل له به وأخذه منه على جهة الاقتضاء. ولو تعدى هذا الحميل القابض لهذا الدين على ما قبضه من طعام من سلم تحمل له، فباعه بعد أن أُسلِم إليه تعديًا، فإن المتعدي على سلعة غيره إذا أفاتها

بالبيع، ولم يمكن استرجاعها، فإن صاحبها بالخيار بين مطالبة قيمتها أو مثلها إن كان لها مثل. فإذا تقرر هذا اعتبرت بعده نكتة أخرى وهي أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز. وإذا تقررت هذه النكتة اعتبرت بعدها نكتة أخرى أيضًا، وهي أن هذا الطعام إذا قبضه الحميل بوكالة من له الدين، فكأن من له الدين قبضه بيده وبرئت ساحة الغريم، وإذا قبضه برسالة من عليه الدين فإن هذا المقبوض من الطعام تعلق به حقان لمن عليه الدين وهو مرسله لكونه لا يبرأ من طلب منه الدين إلا بوصوله إليه. وتعلق به أيضًا حق من له الدين لأن باعثه قد ملكه إياه بهذه الرسالة إن شاء ذلك وقبل هذا وصار الرسول كأنه من قبله، ولهذا لم يكن للرسول أن يمنع من له الدين قبضه إذا شاء، ولا أن يبدله عليه. ولو فلس باعثه لكان المبعوث إليه الذي له الدين أولى به من الغرماء لكونه بعث إليه ليتملكه إذا شاء. وإذا تقررت هذه النكتة علمت منها أن هذا الحميل إذا باع الطعام لمن يتعلق به مطالبة من الغريم إذا كان إنما قبضه منه بوكالة من له الدين لأنه قد برىء بدفعه لهذا الوكيل، لكن يتوجه إلى الموكل الذي له الدين فيغرم الوكيل بائعُ الطعام تعديًا إن شاء مكيلة الطعام، وإن شاء أجاز بيعه على مقتضى ما قدمنا ذكره في هاته النكتة. وأما إن قبضه هذا الحميل برسالة ممن هو عليه فإن المطالبة ها هنا تقع بأحد أمرين: إما بمثل الطعام المبيع وإما بثمنه. فأما المطالبة بمثل الطعام فإن ذلك متوجه لمن له الدين لكونه قد تملك هذا الطعام المبعوث إليه إذا شاء، وهو الآن يقول: قد شئت، ويتوجه أيضًا للذي عليه الدين لكونه مطلوبًا بغرامته، لكون من له الدين قد لا يرضى بطلب رسوله ولا يطلب إلا غريمه. فلهذا كان طلب هذا البائع المتعدي بمثل الطعام الذي باعه حقًا للرجلين جميعًا من له الدين ومن عليه الدين. وأما المطالبة بالثمن فإنه يمنع منها من له الدين ويمكن منها من عليه الدين. أما من له الدين فإنما منعناه من هذا لأنا لو مكناه من أخذ ثمن الطعام بالطعام المبيع تعديًا، وهو لم يضمنه ولا صار إلى يديه، لكنا أبحنا له بيع الطعام قبل قبضه، وأما تمكين مَن

عليه الدين من طلب الثمن فإنا مكنّاه من ذلك لأن الطعام الذي في ذمته لم يبرأ منه، وعليه أداؤه لمن له الدين إذا طلبه منه. وإذا كان باقيًا على ملكه أو في حكم الباقي على ملكه لم يمنع من قبض ثمن ما بيع عليه من ملكه بغير إذنه. وأما إن قبضه هذا الحميل على جهة الاقتصار (¬1) وباعه فإنه لا مطالبة عليه بالثمن، لكونه إنما باع ما صار إلى ملكه، وهو المطلوب به بثمنه لا مقال فيه [لأنه لم يقبضه بوكالته، ولا لمن عليه الدين لأنه سلّمه إليه كقرض يكون له عليه يقضيه عنه لمن له الدين] (¬2). فإن طلب من له الدين الكفيل بالطعام فأخذه منه، فقد بريء هو والغريم. وإن طلب الغريم وأخذه منه (¬3)، ورجع الغريم على الحميل المقتضى منه ثمن ما أعطاه. وأما إن كان الحميل قبض هذا برسالة ممن عليه الدين فإنّا ذكرنا أنه قد تعلق من الرجلين جميعًا من له الدين ومن عليه الدين، فطلب هذا الحميل المتعدي بمثل الطعام الذي باعه تعديًا، فإن اختار من له الدين أن يطالب بالطعام الكفيلَ بحق تعديه لا بحق الكفالة مُكّن من ذلك لما قدمناه من وجه تعلق حقه به. لكنه في المدونة ذكر أنه لا يمكّن من ذلك إن قبضه الحميل على غير جهة الاقتضاء، ولا ضمان عليه فيه. وأنكر يحيى بن عمر هذا الاشتراط، ورأى أنه إذا قبضه هذا الحميل على جهة الاقتضاء كان تمكين من له الدين من طلبه بما قبض أوضحَ من تمكينه من طلب به إذا قبضه على جهة الرسالة؛ لأنه إذا قبضه على جهة الاقتضاء فقد أخذه ملتزمًا براءة ذمة الغريم، واستقرار طلب من له الدين على ذمته، فذلك أحرى أن يمكن من له الدين من طلبه به إذا تعدى فباعه، لما صورناه من كون باعث الطعام ملكه لمن له الدين إن شاء، فلذلك أنكر يحيى بن عمر هذا الاشتراط، ورآه مُوَهّنا أن قبضه على جهة الاقتضاء يمنع من تمكين رب الدين من طلبه به، فيكون هذا كعكس الأصول. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: الاقتضاء. (¬2) ما بين المعقوفين مثبت في (ش) فقط. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب حذف الواو.

واعتذر عن هذا بعض الأشياخ وقال: إنما قصد بهذا التنبيه على موضع الإشكال، وهو قبضه إياه على جهة الرسالة. وأما قبضه إياه على جهة الاقتضاء فحكم (¬1) ذلك واضح، فكأنه أراد يمكن من هذا، وإن قبضه على جهة الرسالة، لكون قبضه على جهة الرسالة فيه من الإشكال ما ليس في قبضه على جهة الاقتضاء. وينبغي أن يعلم ها هنا أن من حق رب الدين أن يطلب الكفيل بحكم التعدي، فإن تمكنه من ذلك مع حضور الغريم وملائه يجري على القولين المشهورين، ويمكن من له الدين من طلب الكفيل مع حضور الغريم وملائه. وأما إن اختار من له الدين طلب الغريم لا الكفيل فإنه يمكن من ذلك، فإذا دفع إليه الغريم الطعام الذي كان من حقه أن يخير بين إغرام رسوله مثل الطعام الذي تعدى له عليه، أو يجبر تعديه ويغرّمه الثمن لأن طلب مثل الطعام حق لمن له الدين ومن عليه الدين، كما قدمناه. وأما طلب ثمنه فإنما منع منه من له الدين لئلا يكون بائعًا للطعام قبل قبضه. ولو اختار من له الدين طلب الكفيل المتعدي على البيع فأغرمه مثل الطعام لكان من حق الغريم باعث الطعام أن يأخذ منه ثمن الطعام الذي بعثه معه ويعطيه مثل الطعام الذي أغرمه من له الدين. وقد يهجس في النفس أن هذا مناقض لما قدمناه من كون تعدي هذا الرسول يوجب حقًا لمن له الدين ومن عليه الدين. فإذا اختار من له الدين طلب الكفيل بغرامة مثل ما تعدى فيه صار إنما باع ما هو على ملكه، لكونه أغرم مثله. لكن بعض حذاق الأشياخ أشار إلى الاعتذار عن هذا بأن باعث الطعام يقول لرسوله: أنت بعت الطعام الذي أنفذتُ معك، وهو في يدك على حكم الوديعة مني لك، فتعلق لي حق عليك في غرامة مثل ما بعثه (¬2) أو ثمنه، فلا يُسقط حق في ذلك غرامة من له الدين مثل الطعام، وقد تقرر لي حق في إجازة ¬

_ (¬1) في ش: وحكم. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بعته.

بيعك، وأخذ ثمن الطعام، ولا سبيل إلى هذا إلا بأن يعطيك مثل الطعام الذي أغرمك من له الدين. وأما قبضه على جهة الاقتضاء فإنه لا يطالب الحميل بثمن ما باع، لا من جهة من له الدين لأنه وإن مكناه من ذلك كان بيعًا للطعام قبل قبضه؛ ولا من جهة من عليه الدين لأن قبضه منه كقرض أقرضه إياه ليَقضيه عنه، فإذا طلب من له الدين الغريم لم يرجع عليه الغريم إلا بمثل الطعام الذي أخذه منه على جهة الاقتضاء، كما لا يرجع عليه بطعام أقرضه إياه إلا بمثل الطعام لا بثمنه إن باعه. وإذا تقررت أحكام هذه الفصول الثلاثة وهي قبضه بوكالة أو رسالة أو اقتضاء، فإنه لو اختلف الحميل قابض الطعام والغريم دافعه على أي وجه قبض، فقال من عليه الطعام: على جهة الاقتضاء؛ ليضمن القابض الطعام. وقال قابضه: على جهة الرسالة، ليسقط الضمان عنه. فإن هذا يجري على القولين في المسألة المشهورة إذا قال قابض الدنانير: قبضها (¬1) وديعة وقد ضاعت؛ وقال دافعها: بل دفعتها إليك سلفًا. فإن الاختلاف في هذا مشهور، فمن ذهب إلى أنه لا يؤخذ المقر بأكثر مما أقرّ به صدّق القابض ها هنا: أي ما قبضته إلا على جهة الأمانة. ومن ذهب إلى أن القابض مقرّ بالملك للدافع مدع عليه ما سقط (¬2) الضمان عنه صدق ها هنا الغريم دافع الطعام. وينبغي أن يعلم أنه متى طلب من له الدين الكفيل بأداء ما تكفل به فغرمه له، فإنه يعتبر في ذلك هل اشتراه بثمن فيرجع به؛ لأنه كالمأذون له في هذا لما تكفل عمن عليه الثمن (¬3) الدّين، ويقدر كأن من عليه الدين أذن له في أن يسلفه ما يشتري به ما يغرمه عنه. وإن كان أدى ذلك من ماله من غير شراء فإنه يرجع بمثله على الغريم وإن كان عرضًا؛ لأنه كالقرض هذا للغريم (¬4)، والقرض إنما ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: قبضتها. (¬2) هكذا في النسختين والأولى بسقط. (¬3) ساقطة في (ش) وهو الأولى. (¬4) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: لهذا الغريم.

يرجع فيه بالمثل ولو كان عرضًا. ولو أدى عنه طعامًا هو عليه من سلم لجاز للكفيل أن يأخذ منه من الغريم إذا تراضيا بذلك، ولا يتهم في هذا، [لكونه إنما يأخذ ثمن طعام أقرضه الغريمَ، وبيع القرض قبل قبضه جائز. هذه المعاملة التي تراضيا عليها أمر حادث بعد القرض، فلا يتهمان في هذا] (¬1) بخلاف اتهامهما في معاملة الكفيل لمن له الدين. لكنا ذكرنا عن ابن المواز أنه يمنع الكفيل من أن يشتري الثياب التي تكفل بها بدنانير أكثر من رأَس مالها أو بدراهم، وأحلّه في هذا محل الغريم التي هي عليه لما كان يتوجه لمن له الدين طلبُه بهذا الذي اشتراه، فصار كأنه هو الغريم، وقد قدمنا ما قيل في هذا. وكذلك لو تكفل بثمن طعام عمن اشتراه فأدىَ الثمن عنه، فإنه يجوز له أن يأخذ عن ذلك الطعام ثمنًا، لما كان، قبل هذا، معاملةٌ بينه وبين من يحمل عنه حادثة بعد أن أقرضه الثمن الذي أدى عنه على حسب ما قدمناه. ولو اشترى الكفيل ألف درهم من رجل تكفل له بها مائة درهم واشترى ذلك لنفسه فإن ذلك لا يحل لكونه بيع دراهم بدراهم متفاضلة نساء. لكن إذا نقضنا هذه المعاملة بينهما وألفينا الكفيل عليه ديون استدانها بعد الكفاله، فهل يكون من له الدين أحق بما قبض من الكفيل من غير بابه، ويرد ذلك إليهم، ويحاصّهم بما توجه له على الكفيل؟ حاول بعض الأشياخ أن يجري هذا على الخلاف فيمن اشترى سلعة شراءً فاسدًا ونقد ثمنها ففسخ، وطلب الثمن فألفى على قابضه غُرَماء، فإن ابن القاسم لا يراه أحق بالسلعة دونهم، لكون الشرع نقض بيعه، وأمره بإزالة يده عنها، فكأنه لم يَحُزها دونهم. ورأى عبد الملك ابن الماجشون أنه أحق بالسلعة حتى يقبض ثمنها الذي دفع، لما كانت له شبهة في هذه السلعة المقبوضة، لكونها إن حال سوقها أقرّت في يده، ولكونه ضامنًا لها. ¬

_ (¬1) ما بين المعقّفين ساقط من (و)، (م).

وأشار بعض الحذاق إلى أنه لا خلاف في مسألة الحميل، لكونه دفع دفعًا فاسدًا يجب نقضه عن دين مستقر في الذمة، فكأنهما أمران لا علاقة لأحدهما بالآخر. ولو تحمل الكفيل لمن أسلم في طعام رأس المال خاصة، لاعتُبر هذا هل أراد به أنه مَن طلبه بالضمان أعطاه رأس المال وانحلّ العقد، أو يعطيه رأس المال يشتري به من الطعام السلم ما بلغ فيه رأس المال. فإن كان المراد بضمان رأس المال أنه ينتقض السلم إذا طلب الخميل ويعطيه رأس المال، فإن هذا يفسد العقد إذا وقع عليه، لكونه تارة بيعًا إن لم يطلبه بالضمان، وتارة سلفًا إن طلب به. ولو كان هذا بعد النقد لم ينفسخ العقد وفسخت الحمالة خاصة. وإذا كان هذا مقارنًا للعقد وأفسد الحمالة، فهل يطالب الحميل أم لا؟ هذا جارٍ على ما يرد بيانه في كتاب الحمالة إن شاء الله من اختلاف ابن القاسم وغيره في الحمالة الفاسدة إذا قارنت العقد هل يطلب الحميل بما ضمن لكون ضمانها هو سببًا لدفع رأس المال أو لا يطلب بذلك؟ فعند ابن القاسم لا يطلب، وعند غيره يطلب بما أتلف، على ما سيرد بسطه في موضعه إن شاء الله. وأما لو كان المراد يتحمل برأس المال ليشتري به من له الدين من الطعام ما بلغ إليه ما دفعه الحميل ويبقى بقية الطعام في ذمة الغريم، فإن هذا يجوز إذا كان بعد العقد. وأما إن كان (¬1) العقد فإنه حاول بعض الأشياخ أخرى (¬2)، ورأى أن الحمالة ها هنا بأمر معلوم لا غرر فيه، وإنما يجهل ما يشتري من الطعام المسلم فيه، فلا وجه لمنع هذه الحمالة، وأجراها على الخلاف، كما لا يمنع أن يرتهن رهنًا بما أسلم فيه وإن كان لا يعلم هل بقي ثمن الرهن إذا بيع المسلم فيه لتغير أسواقه أو لتغير عينه أشد مما يرقب من اختلاف سعر الطعام المضمون ثمنه مقدار رأس المال. ¬

_ (¬1) نقص في الأصل ولعل الصواب وإن كان بعد. (¬2) هكذا.

فصل في المعاوضة على تحويل السلم اعلم أنا كنا قدمنا في كتاب السلم الأول نكتةً معتبرة في المعاوضة عن السلم. وهذا الفصل ملحق بها ويجري فيه بعض ما قدمناه من تلك النتكة. فإذا أسلم دنانير في ثوب إلى أجل فعلوم، فلما حل الأجل أراد من له السلم أن يزيد دينارًا لتغير (¬1) السلم فيأخذ عنه صنفًا آخر عما أسلف فيه، أو الصنف بعينه ولكن صفة مختلفة أو متفقة. فأما إذا أراد أن يُعَاوِضَ على تبديل الصنف، بأن يعطيه لما حل الأجل عوض الثوب طعامًا أو حيوانًا، فإن ذلك جائز، جريًا على ما أصلناه في كتاب السلم الأول من كون الطعام أو الحيوان يحوز أن تسلم فيه الدنانير التي هي رأس المال، وأن يؤخذ ذلك عوضًا عن الثوب المسلم فيه، على حسب ما قدمناه من اعتبار هذين الوجهين. ولكن من شرط هذا تعجيل المأخوذ عن السلم، وأن يتناجزا فيه ولا يتأخر قبضه لئلا يكون تأخير قبضه معاقدة على فسخ دين في دين. ولو أراد أن يأخذ عن السلم ما هو من صنفه وقد حل الأجل لجاز ذلك أيضًا، ويعتبر فيه ما اعتبرناه فيه إذا أخذ فيه من غير صنفه من تعجيل وجواز المعاوضة به عن رأس مال السلم وعن المسلم فيه لكن إن تأخر العوض عن السلم، وهو من غير صنف السلم، كان دينًا بدين، وإن تأخر، وهو من صنفه، لكنه أزيد مقدارًا منه، كمن أسلم في ثوب شطاط عشرين ذراعًا، فإن هذا إن ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: لتغيير.

دخله تأخير كان بيعًا وسلفًا، الزيادة على المقدار الذي عقد عليه السلم بيعُ، وتأخير المقدار المسلم فيه سلفٌ. هذا إذا تراضيا بتحويل السلم بعد حلول الأجل. وأما إن تراضيا بذلك قبل حلول الأجل فتعاقدا على أن زاد من له السلم دينارًا على أن يأخذ عوض ما عقد السلم صنفًا غير ما أسلم فيه، فإن ذلك لا يجوز، بغير خلاف؛ لأنه دين بدين، فكأنه أسلم دينارًا في ثوب إلى شهر، فزاده بعد العقد وقبل حلول الأجل دينارًا على أن يأخذ منه إذا حل الأجل طعامًا أو دابة موصوفة، فإن هذا معاوضة عن دين مؤجل وهو الثوب الذي تعاقدا عليه السلمَ أوَّلا بطعام إلى أجل، رهنًا حقيقة الدين بالدين. وكذلك إذا زاده دينارًا على أن يأخذ عوض الثوب المسلم فيه ثوبًا أرقّ منه (¬1) وأصفق وأعرض منه، فإن ذلك يمنع، كما يمنع تعاقدهما على أخذ صنف آخر، لما يتصور فيه أيضًا من دين بدين، فيقدر أن المسلم باع ثوبًا خشنًا مؤجلًا ودينارًا معجلًا، بثوب رقيق يأخذه مؤجلًا أيضًا، وهذا دين بدين فوجب أن يمنع. وأما إن لم يكن اختلاف الثوبين لا من ناحية الطول فزاد من له السلم دينارًا قبل الأجل على أن يأخذ ثوبًا عند الأجل على صفة الثوب الذي تعاقدا عليه، لكن الثوب الذي رجع إليه أطول بذراع، فإن هذا يمنعه سحنون ويراه يتصور فيه الدين بالدين، كما صورناه فيما قبل، وكأنه باع منه ثوبًا مقداره عشرون ذراعًا مؤجلًا ودينار نقدًا بثوب مؤجل مقداره أحد وعشرون ذراعًا، على حسب ما صورناه فيهما إذا اختلفا بالرقة والخشانة، وأجاز في المدونة هذا الوجه خاصة، ورأى أن الثوب الذي تعاقدا عليه إذا لم يتغير شيء من صفاته فإن الأذرع التي تعاقدا عليها السلم حاصلة بعينها في المعاوضة الثانية، وإنما أفادت المعاوضة الثانية عقد صفقة أخرى كأنها لا تعلق لها بالأولى، وكأن هذه الزيادة لا تغيّر حكم المزيد (¬2) عليه وتُعلْقه (¬3) بصنف آخر، كما تغيّره صفة الرقة والصفاقة، فلم يكن في الانتقال إلى ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: أو. (¬2) هكذا في (ش)، وفي م، و: الدين. (¬3) هكنا في (ش)، وفي م، و: تعلقه.

هذه المعاوضة الثانية بيع دين بدين. ولكن يعتبر ابن القاسم في هذا ما يعتبر في أصل السلم من تعجيل رأس المال، ولهذا قال في المدونة: يجوز ذلك لأنهما صنفان. والمعتبر أيضًا أن تكون المعاوضة الثانية إلى أجل من آجال السلم، فإن كان يبقى من أجَل السلم الأول مثل ما يجوز عقد السلم إليه، جازت هذه المعاوضة الثانية. ويعتبر أيضًا ألاّ يقدّم المسلم الأول عن أجله ولا يؤخر؛ لأن تقديمه على أجله أو تأخيره عنه يتضمن كون هذه المعاوضة بيعًا وسلفًا لأن الدينار المزيد في رأس المال عوض الذراع المزيد في الثوب إذا تعاقدا فيها على تقديم مثل الأجل أو تأخير صار ما وقع من زيادة تبايعًا قارنه سلف وهو التعجيل أو التأخير. وقد أشير إلى الانتصار لمذهب سحنون في منع المعاوضة على زيادة في الطول، بأن ابن القاسم منع من ذلك إذا وقعت المعاوضة بعد طول الأجل مع تأخير الثوب المسلم فيه، وقدّر ذلك يكون البائع باع ثوبًا ودرهمًا بثوب أطول منه من غير تناجز. وهذا يتصور إذا وقعت هذه المعاوضة قبل الأجل. ويفيد أيضًا أن من له السلم باع ثوبًا مقداره أحد وعشرون بشرط التأخير. واعتذر عن هذا الذي تناقض به ابن القاسم بأن الأجل إذا حل فقد ملك من له السلم تعجيله، فإذا عاوض معاوضة فيها تأخير تحقق تصور البيع والسلف، لكون ما يقدر سلفًا فقد ملك تعجيله فأخره. وإذا لم يحل الأجل لم يملك تعجيل السلم فيه، ولا يقدر أنه باعه وهو لا يملك قبضه ولا تعجيله. لكن إن تحقق أن الزيادة في مقدار الأذرع بغير (¬1) ثمن الثوب الذي تعاقدا عليه على غير نسبة زيادة الأذرع حسن ما قاله سحنون، وأن يلحق بالدين بالدين. وإن لم تغير هذه الزيادة ثمن الأذرع الذي تعاقدا عليها أوَّلًا حسن ما قاله ابن القاسم، وكان المعقود عليه أَوَّلًا لم يتحول. وهكذا يحسّن ابن القاسم مثل هذا في الإجارة، مثل أن يستأجره على ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: تُغيّر.

أن ينسج له أذرعًا معلومة، فزاده شيئًا على أن يزيده غزلًا يزيد به أذرعًا؛ لأنهما صفقتان. وسحنون يوافقه في الإجارة، ويعتل بأنها معاقدة على شيء بعينه، بخلاف السلم المضمون. وسنتكلم نحن في كتاب الإجارة إن شاء الله تعالى على تحويل الإجارة المضمونة في الذمة من عمل صنف إلى عمل جنس خلافه أنه منع، ولو كان غير مضمون لاختلف فيه اختلافًا نبينه في موضعه إن شاء الله. هذا حكم تحويل السلم بزيادة في رأس المال. وأما تحويله بانتقاص في رأس المال على معنى الإقالة مثل أن يسلم إليه في مائة ثوب مائة دينار فيقيله من خمسين ثوبًا على أن يرد له خمسين دينارًا، فإن هذا لا يجوز إذا كان رأس المال مما لا يعرف بعينه، وغاب عليه قابضه لأنه يقدر أن ما ردّ من رأس المال إنما أبطنا قبضه على جهة السلف، وما لم يتقايلا فيه هو الذي أبطنا البيع فيه، فيكونان تعاقدا على بيع وسلف. وأجاز هذا أبو حنيفة والشافعي، وقدر أن الخمسين دينارًا والمعاقدة وقعت الإقالة عليها وعلى ما كان من المنفعة بها، فلم يمنعا ذلك. ونحن إذا قدرنا أن هذا كالمشترط في أصل العقد ظهر وجه. وأما لو كان رأس المال ها هنا مما يعرف بعينه وإن غيب عليه جازت الإقالة التي صورناها على الجملة، لارتفاع ما عللنا به من تقدير البيع والسلف، للعلم بأن رأس المال ثيابًا أو رقيقًا أو حيوانًا أو صوفًا، فأقال من بعضه، فإن ذلك جائز وقال فضل بن سلمة: قوله: "أو صوفًا" (¬1) هو يشير بهذا إلى أن الصوف لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه فهو كالدنانير. واعتذر بعض الأشياخ عن هذا بأنه يمكن أنه أراد الصوف المنسوج، والصوف المنسوج يعرف بعينه. وبالجملة فإن مثل هذا اللفظ يقع كأنه غير مقصود بيان الحكم فيه، وإنما هو كالتمثيل، فإذا وجد له تخريج لم يتعقب. وأما لو كان تحويل المسلم فيه إنما وقع بزيادة في مقداره مع بقائه على صفاته من غير عوض يؤخذ عن ذلك، فإنه قد ذكر في المدونة جواز ذلك فيمن ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في (و). محذوفة في (م)، (ش) والكلام مفهوم بدونه.

أسلم في مائة إِرْدَبٍ قمحًا فلقيه المسلم إليه بعد ذلك فقال له من له السلم: زدني زدني في السلم، فزاده مائة قفيز أدنى يأخذها إذا حل الأجل، أن ذلك جائز. وذكر سحنون عنه أنه كان (¬1) يضطرب فيها فيجيزها تارة ويمنعها أخرى. وقد أكثر الأشياخ الاعتذار عن هذه المسألة، لأجل أنه قد تقرر أن هبة المديان لا تجوز، لكونها قد تضارع ربا الجاهلية في قولهم: تقضي أو تربي. فإذا وهب من عليه السلم لمن له السلم هبة فقد يظن بهما أنهما تعاملا على ذلك ليؤخر الدين عن أجله، وقصد المديان ما وهب أن يؤخره من له عليه الدين بما له عليه لأجل ما كارمه به من هبة، وتأخير الدين عن عوض لا يجوز، كما قدمناه. لكن اعتذر بعض الأشياخ عن هذا في هذه المسألة بأن قال: ذكر في المدونة أن السلم عقد على مائة قفيز، ثم زاده مائة أخرى وهذه الزيادة كثيرة تخرج عن حد ما توهب للتأخير، ولا يهب من عليه الدين مثل الدين الذي عليه ليؤخره به. هذا هو الظاهر في حكم العادة فإذا ظهر من كثرة هذه الهبة ما يدل على أنها لم تجعل عوض التأخير لم يكن للمنع وجه إذا ثبت أنها لم يقصد بها التأخير بالدين. ومنهم من اعتذر عن هذا بأن من له الدين سأل في الزيادة لأجل أنه اطلع على أنه عين (¬2) فسمح له المديان بها لأجل سؤاله فيها، وما وقع عن سؤال من الموهوب لم يظن بالواهب أنه إنما وهبه له رجاء التأخير. وهذا الاعتذار يقتضي جواز هذه الهبة قليلة كانت أو كثيرة. والاعتذار الأول يقتضي التفرقة بين قليل الهبة وكثيرها. ومنهم من يشير إلى أن الهبة لما علقت بحلول الأجل لم يمنع، لكون من عليه الدين لم يجب عليه قضاء ما عليه من دين، فلا يفتقر إلى معاوضة على ¬

_ (¬1) كلمة مثبتة في (ش) ساقطة من (و)، (م). (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: غُبِنَ.

التأخير لأجل استغنائه عن ذلك يكون من له (¬1) الدين لم يجب عليه طلب لوقوع هذه المكارمة قبل الأجل معلقًا قبضها بالأجل. وهذا الاعتذار يقتضي جواز هذه الهبة إذا عجلت قبل الأجل، لكونها وقت تعجيلها لم يجب على دافعها طلب. وقد ذكر في كتاب ابن المواز اختلافًا فيمن له سلم مائة قفيز محمولة فسأل من عليه أن يحولها سمراء يأخذها عند الأجل. واعتذر بعضهم عن هذا بأن المكارمة ها هنا إنما وقعت في تحسين صفة ما يقضى، والشعبي عليه السلام قد ندب إلى ذلك وقال: بأن (خياركم أحسن قضاء) (¬2)، والقرض يباح أن يقضى على صفة هي خير مما قبض، ويمنع في المشهور أن يقضى على عدد أكثر مما قبض، لكون الزيادة في الصفة حُسْنَ قضاءٍ، بخلاف زيادة العدد. ومنهم من يشير إلى ما ذكرناه من كون الهبة معلق قبضها بالأجل قبل استحقاق الطلب فلم يمنع. ولو وقعت الإقالة على رد رأس المال كله أو ردّ بعضه مع بقاء السلم على حاله إلى أجله، فإن ذلك ممنوع أنه لا يتصور فيه ما قدمناه من أن المردود من رأس السلم إنما قبض على جهة السلف، وتعاقدا على أن عوض المنفعة بالسلف ما أبقياه في الذمة برسم السلم، فيصير ما دفعه على أنه برسم السلم عوض الانتفاع لما رده من جميع رأس المال أو من بعضه. ورأى عيسى بن دينار أن هذا إنما يمنع فيمن يتهم على القصد إليه، وأما إذا كان المتعاملان من أهل الصحة والبعد من التهمة فإنهما لا يمنعان من هذالأولا يتهمان على إبقاء جميع السلم في الذمة، وجعل ما سمياه رأس مال السلم قصدا به السلف. وإذا تقرر أن الإقالة من بعض رأس المال، الذي هو دنانير أو دراهم وما في معناهما لا يجوز، لما صورناه من التحيل على البيع والسلف، فإن رأس مال ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: عليه. (¬2) فتح الباري: كتاب الوكالة. ج 5 ص 389.

السلم لما (¬1) نقد بعضه ولم ينقد بعضه فإن ابن المواز ذكر أن الإقالة تجوز في المنقود كله لا في بعضه ويجوز في كل ما (¬2) لم ينقد وفي بعضه. ويجوز فيما نقد وما لم ينقد وقد عارضه الشيخ أبو إسحاق في أحد هذه الأقسام الخمسة بأن قال: إذا أجاز الإقالة من جميع المنقود خاصة فإنه يتصور من التهمة فيها ما يتصور في الإقالة من بعض المنقود وهو قد منع منه، وقدر أن ما ارتجع من المنقود سلفًا (¬3) وما أمضاه منه بيعًا (3)، فكذلك تصور الإقالة من جميع المنقود؛ لأنه يقدر فيه أن المنقود إذا رد كله بالإقالة فيما قايله كان ما أمضاه من الصفقة مما لم ينقد بيعًا مستقرًا لا يعاد فيه، فبَعُد أنه (¬4) قارنه السلف، وهو الانتفاع بالمردود الذي نقد. وهذا الذي قاله صحيح على أصل المذهب في القول بحماية الذرائع والتهمة تتصور في رد المنقود كله كما تصورت في بعضه ولا يقدر أن المنقود كأنه عقد منقود (¬5) لأنا لو قدرنا ذلك لصح ما قاله ابن المواز، لأجل ما قدمناه من أن العقد الواجب إذا وقع المنقود فيه جازت الإقالة من كله لا بعضه، وهذا ها هنا المنقود هو بعض المعقود عليه، يجب أن يمنع الإقالة في المنقود كله لأنه بعض العقد كما منعت الإقالة في بعض المنقود. ولو اعتذرنا عن هذا بأنه إذا أقال ها هنا من جميع المنقود لمن يمنع لأنه لا يسترجع المنقود بل يقاصّه به فيما لم ينقد، مثل أن يكون أسلم إليه مائة دينار في مائة ثوب فنقد خمسين دينارًا ثم أقال منها، فإنه إن طالب برد الخمسين دينارًا بحكم الإقالة طالبه من عليه السلم بإمساكها في الخمسين الدينار التي بقيت عليه ولم ينقدها، فتصير الإقالة كأنها وقعت فيما لم ينقد، والإقالة فيما لم ¬

_ (¬1) في ش: لو. (¬2) في و، م: من. والإصلاح من ش. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: سلفٌ؛ بيعٌ. (¬4) في و، م: بعد أن. والإصلاح من ش. (¬5) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب: منفرد.

ينقد جائزة في كله أو بعضه على ما قدمناه فإن هذا القدر يتصور في الإقالة من بعض المنقود؛ لأنه إذا طالبه بارتجاعه طالبه بأن يقاصه به فيما بقي له عليه ما (¬1) لم ينقد، فتوجه ما عارض الشيخ أبو إسحاق، ولم يصح العذر عنه بأنه يقدّر المنقود وغير المنقود كالصفقتين، لكون العقد عقدًا واحدًا يشتمل عن الجميع، ولم يصح العذر عنه أيضًا بتقدير المقاصة التي صورناها لكونها تتصور في كل المنقود وفي بعضه تصورًا متساويًا وهذا اضح. ومن هذا الأسلوب ما ذكر في المدونة في سلم أسلمه رجل (¬2) إلى رجل فأقال أحد الرجلين المسلم من جميع مالَه عليه فإنه في المدونة أجاز هذا وأجرى عقدهما مجرى عقدين منقودين (¬3)، فيمنع أن يقيل أحدهما من بعض ماله ولا يمنع أن يقيله من كل ماله كما قدمناه في العقد الواحد المنقود (3) به رجل واحد. وأنكر هذا الجواب سحنون ومنع من هذه الإقالة لما كان الشريك من حقه أن يدخل على شريكه فيما اقتضاه من دين بينهما، وإذا وجب دخوله عليه فيما اقتضاه من دين بينهما لم تجز هذه الإقالة لأجل أنه يكون مقيلًا من بعض ماله لا من كله. وقد اختلف اعتذار الأشياخ عن هذه المسألة، فمنهم من يشير إلى أن هذا الجواب إنما يصح على ما أشار إليه غير ابن القاسم في المدونة من أن أحد الوليين إذا صالح عن نصيبه في دم عبد بعبد، أن شريكه في طلب هذا الدم لا حل عليه في العبد الذي أخذه. ويقتضي هذا أن لا يدخل شريك على شريك فيما اقتضاه من سائر الديون من إثبات المشاركة فيما اقتضاه أحد الشريكين [من دين بينه وبين شريكه] (¬4)، وأيضًا فإن الذي ألزم غير ابن القاسم أن يقول به في سائر الديون المشتركة لا يلزمه لأن هذا الدم ليس بمال، وإنما الحكم في قتل العمد القصاص أو ما تراضيا عليه من مال. فإذا كان المال لا ¬

_ (¬1) هكذا في كل النسخ، ولعل الصواب: مما. (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب أسلمه رجلان. (¬3) هكذا في النسختين ولعل الصواب منفودين. المنفود. (¬4) ما بين القوسين ساقط من (و)، (م).

يثبت في دم العمد إلا بتراضي ولي الدم والقاتل، فقد صار هذا العقد المأخوذ، وليس بمال مشترك بين وليّي الدم، ولا عوضًا عما لم يشترك. ولو قلنا بمذهب أشهب أن لولي الدم أن يجبر على الدية وله أن يقتل، لكان في هذا أيضًانظر. ويمكن أن يقال بأنه لا يكون مالًا حتى يختار الطالب بالدية، فكيف جرت الحال فإن الدين المستقر في الذمة عن معاملة رجلين شريكين في المعاملة، بخلاف مال لا يستحقه أحد الشريكين إلا برضاه ورضا القاتل، أو يستحقه ولكن بعد أن يختاره على ما سواه مما خير فيه وهو القصاص. ولما لم يتضح هذا العذر قال بعض الأشياخ: إنما نفرض المسألة التي وقعت في المدونة على أن هذين الرجلين اللذين لهما السلم تقاسما الدين الذي على المسلم إليه، ورضي كل واحد أن ينفرد بنصيبه. فإذا تقاسماه وتراضيا على ذلك لم يكن لأحدهما دخول على الآخر فيما اقتضاه، كما ذكر في المدونة أنه إذا اعتذر لشريكه فلم يقبض معه أنه لا يدخل معه فيما اقتضاه. ورأى بعضهم أن هذا تعسف فعدل عنه، وقدر أن هذه الإقالة والشركة والتولية (¬1)، وما ذلك إلا لكون الإقالة في هذا السلم وطريقها المعروف لم يجر مجرى سائر الديون المشتركة، ولم يدخل الشريك الذي لم يقل على شريكه المقيل. وذكر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد أن العذر في هذا أن الإقالة ها هنا إذا وجبت المشاركة فيها فسدت، فمنع من المشاركة فيها، فكأنها (¬2) يشير إلى أنه إذا كان دخول أحد الشريكين على شريكه في هذه الإقالة لأجل فقد ما يدخل عليه لفساد الإقالة وردها (فصار كفرع - يبطلان أصله وإذا كان الفرع يبطلان أصله كان هو الباطل دون أصله) (¬3)، فدخول الشريك على شريكه في هذه الإقالة فرع عن ثبوتها، وإثبات دخوله عليه يمنع من ثبوتها فقد صار الفرع كرّ ببطلان أصله فوجب أن يبطل هذا القدر الذي أشار إليه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد. ولكن لم ينص على وجه الفساد، وقد ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل في الكلام نقصًا. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: فكأنه. (¬3) هكذا في جميع النسخ.

نص عليه فضل بن سلمة لما قدمنا الإشارة إليه، وهو أن دخول الشريك الذي لم يقل على المقيل يصيّر المقيل مقيلًا على بعض ما أسلم فيه، وقد قدمنا أن الإقالة إنما تجوز على كل السلم لا على بعضه. وأشار الشيخ أبو عمران إلى طريق أخرى في فساد الإقالة: إنما تجوز على كل (¬1) ها هنا يقتضي خيار الشريك الذي لم يقل بين أن يمضي الإقالة أو يشارك فيها، والإقالة على خيار لا تجوز لما تضمنته من التأخير، والتأخير في الإقالة ممنوع، وكلا الوجهين إذا فسدت لهما الإقالة كان عذر فيما قدح به سحنون في جواز الإقالة. ونحا الشيخ أبو الحسن ابن القابسي إلى ناحية أخرى في الاعتذار، وسلكها بعده الشيخ أبو القاسم بن الكاتب، وهي أن الإقالة ها هنا كأنها سائغة لمن عليه السلم، فيصير من عليه السلم شريكًا لمن كان المقيل شريكه، فحل في ذلك محل بيع أحد الشريكين نصيبه من الدين من أجنبي لم يدخل عليه شريكه، لكون الذمة التي عوملت بالسلم إليها بقيت على حالها، بخلاف الاقتضاء فإن أحد الشريكين إذا اقتضى نصيبه فإنه قد أوهن ذمة الغريم المشتركة بينه وبين شريكه، وأخلاها مما أعطاه، فكان لشريكه في ذلك مقال مع كون الإقالة طريقها المعروف. ولا ينتقض هذا بصلح أحد الشريكين عن نصيبه من الدين، فإنه ذكر في المدونة أنه إذا صالح على نصيبه من الدين كان لشريكه أن يدخل عليه فيما صالح به لكون الصلح ها هنا يحل محل الاقتضاء، وكان القصد به الاقتضاء لا المبالغة. وهذه الطريقة قد لا يصح فيها وجه التفرقة بين صلح أحد الشريكين وبين إقالته؛ لأن الصلح يتصور أيضًا كون الشريك كبائع نصيبه من الدين من أجنبي. (على أن ابن المواز ذهب إلى أن أحد الشريكين إذا باع نصيبه من الدين من أجنبي) (¬2) فإن لشريكه أن يدخل عليه ويشاركه في الثمن الذي باع به، مع كونه لم يخل ذمة غريمه ولا أوهنها، وإنما باع جزءًا منها ممن يحل محله. فهذه طرق شتّى في الاعتذار عما وقع في هذا السؤال. ¬

_ (¬1) بياض بمقدار كلمة في جميع النسخ. (¬2) ما بين القوسين ساقط من و، م.

وعندي أنه لو سلك فيه طريقة أخرى لكانت سالمة من القدح، وهو أن يقال: قد علم من المذهب الاختلاف في الإقالة، هل هي حل بيع أو ابتداء بيع؛ فإن قلنا: إنها حل بيع اتضح ما قاله ابن القاسم؛ لأن الشريك المقيل قد حل ما عقد على نفسه، وكأنه لم يكن شريكًا في هذا الدين قط. وإذا لم يشارك فيه لم يستحق الآخر الدخول عليه. وإن قلنا: إن الإقالة ابتداء بيع، اعبترتَ أصلًا آخر وهو إلحاق دخول الشريك على شريكه فيما اقتضاه لكونه أوهن الذمة المشتركة بما أخذ منها، وإذا وجب دخوله عليه صار الشريك المقيل كأنه [قال من بعض نصيبه هي ما وقع عند الإقالة، وعند الإقالة ها هنا إنما وقع على نصيب الشريك كله لا على بعضه. لكن الأحكام علمته وأوجبت دخول شريكه، وهذا حكم توجه عليه بعوإنعقاد إقالته على وجه صحيح في ظاهره مما يوجبه الأحكام، هل يقدر كأنه كالمشترط في العقد أو لا يقدر أنه كالمشترط؟. وهذا أصل اضطرب فيه المذهب، ألا ترى أنْ الوليّ الأبْعدَ إذا عقد، فإنه قد قيل: إن العقد يفسد لأجل ما أوجب الشرع من الخيار للولي الأقرب، فكأنه كالخيار المشترط في أصل العقدة وقيل: لا يفسد، إلى غير ذلك من المسائل المبنية على هذا الأصل. فهذه طريقة إذا سلكت بعد منها القدح. وقد ذكر في آخر كتاب السلم الثاني مسألة من أسلم في ثوب بذراع رجل بعينه فأجاز ذلك إذا أراه الذراع، ويؤمر أن يأخذ قياسه بعصاة على أنه عدل، أو يأخذه كل واحد منهما عنده. ولو عقد السلم على ذراع مطلق لكان العقد جائزًا، ويقضى عليهما بالذراع الوسطى. هكذا ذكر أصبغ عن ابن القاسم. وقال أصبغ: هذا استحسان، والقياس الفسخ. ولو وقع العقد على ويبة وحفنة فإنه في المدونة قال: ذلك جائز إذا أراه الحفنة. فاشترط ها هنا رؤية الحفنة، ومقتضى ما حكيناه عن ابن القاسم يقضى بحفنة وسطٍ. وهنا عقد يقدح فيه بأنه اشتمل على مكيل وهو الويبة، وجزاف وهو الحفنة، وفي اشتمال العقد الواحد على مكيل وجزاف خلاف. لكن هذا الاختلاف في جزاف مرئي وها هنا إنما

استُخِفَّ هذا، وإن كان غير مرئي، لكون المسألة شرط فيها أن العقد وقع على ويبة وحفنة، ولو وقع على ويبات كثيرة وحفنات كثيرة لفسد العقد لكثرة الغرر فيه بكثرة الجزاف الغير مرئي. وقد رأينا أن نؤخر الكلام على الإقالة من أحد ثوبين أسلما في طعام، والكلام على تلف ثوب قبل قبضه أسلم في طعام، ونشرع في كتاب السلم الثالث، ونبدأ بالكلام على بيع الطعام قبل قبضه، ثم نجمع أحكام الإقالة، ونتكلم فيها على هاتين المسألتين من إقالة وقع فيها تلف الثوب أو إقالة على أحد ثوبين.

كتاب السلم الثالث

فصل قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: الأعيان المبيعة ضربان: طعام وغير طعام. فغير الطعام (¬1) من سائر المبيعات (¬2) هي العروض والعبيد والحيوان والعقار وما ينقل ويحوّل أو لا ينقل ولا يحوَّل، فبيعه جائز قبل قبضه (¬3)، على الجملة، ما لم يعرض فيه ما يمنع منه. وأما الطعام فلا يجوز فيما (¬4) يتعلق به حق توفية، من وزن أو قيل أو عدد، أن يباع قبل قبضه أو يعاوض عليه، إلا أن يكون على غير وجه المعاوضة، كالهبة والصدقة، أو على وجه المعروف، كالقرض والبدل، فيجوز. ثم لا يجوز لمن صار إليه ذلك أن يعاوض به (¬5) قبل قبضه. وتجوز فيه الإقالة والشركة والتولية قبل قبضه. وما بيع منه جزافًا أو مُصْبَرا فبيعه جائز قبل نقله أو أخذه (¬6) البائع بينه وبينه. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة فصول: أحدها: القول في بيع الطعام قبل قبضه. والثاني: القول في صفة الملك للطعام الممنوع من بيعه قبل قبضه. ¬

_ (¬1) في المغربية: فغير الطعام والشراب. (¬2) في المغربية: من. (¬3) في المغربية والغاني: في. (¬4) في المغربية والغاني: فغلق. (¬5) في المغربية والغاني، عليه. (¬6) في المغربية والغاني: إذا خلّى.

والثالث: القول في الشركة والإقالة والتولية فيه. فأما الفصل الأول فيتعلق به أربعة أسئلة منها أن يقال: 1) ما الذي يمنع بيعه قبل قبضه؟ 2) وما سبب الاختلاف فيه؟ 3) وإلى أي شيء خص الطعام بالمنع؟ 4) وهل هذا المنع في سائر أنواع الأطعمة أم لا؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: الذي يمنع بيعه قبل قبضه فذكر عن عثمان البتّي أنه أجاز بيع كل شيء قبل قبضه. وذكر أبو الفرج من أصحابنا، يشير إلى التردد في هذا المذهب، فقال: يمنع من بيع الطعام قبل قبضه لأجل العينة، وهكذا كل شيء من السلع إذا قصد بها العينة منعت لها بمنع الطعام. لكن العينة إن ارتفعت منع الطعام خاصة لأجل الحديث، وجاز ما سواه من السلع. فجعل الطعام ممنوعًا للمعنى وهو العينة تارة، وتارة أخرى للخبر. ثم قال: ووجه آخر أن استعمال العينة إنما يكثر في مبايعة الأطعمة. ويقول، والله أعلم: لو سلم البيع فيه من العينة لجاز إذا بيع بنقد. وهذا القول منه يشير إلى قريب من قول عثمان البتي. والقاضي أبو محمَّد عبد الوهاب يعلل بيع الطعام قبل قبضه بالعينة ولم يجعله شرعًا غير معلل. ومن ذهب من الناس إلى عكس هذا المذهب، فمنع من بيع كل شيء قبل قبضه، طعامًا كان أو غيره، مما ينقل ويحول كالعروض، أو مما لا ينقل كالعقار إلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله عنه. وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة. ومن الناس من قصر المنع على كل مكيل وموزون طعامًا كان أو غيره. ذهب إلى هذا عثمان بن عفان رضي الله عنه وابن المسيب والحسن البصري وربيعة ويحيى بن سعيد وبه قال ابن حنبل. وذهب مالك رضي الله عنه إلى قصر المنع على الطعام خاصة دون ما

سواه من سائر الأجناس. وذهب أبو حنيفة إلى المنع في كل جنس كما قاله الشافعي لكنه انفرد فاستثنى منه ما لا ينقل ولا يحول. فهذه خمسة مذاهب. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلفت الأحاديث الواردة في هذا الباب، فروي في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا (قبل النعمة) (¬1) حتى يستوفيه" وروى عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن ربح ما لم يضمن" (¬2) وروي عن حكيم بن حزام أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "بيّن لي ما يحل ويحرم" فقال: "إذا ابتعت بيعًا فلا تبعه حتى تستوفيه" (¬3) وذكر ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ابتعت زيتًا فلقيني رجل بالسوق فأعطاني فيه ربحًا حسنًا فمشيت وأنا آخذ بيده فإذا رجل أخذ بذراعي من وراء فالتفت فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه قال لي: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع السلع، حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" (¬4). فأما عثمان البتي فإنه يترك النظر في هذا، ويتعلق بقوله تعالى: {وأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ} (¬5). وبقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬6) فعم كل بيع، وكذلك عمّ كل تجارة عن تراض. وأما من سواه، فإن مالكًا رضي الله عنه يتعلق بقوله: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" دليل الخطاب أن ما عدا الطعام يباع قبل أن يقبض. وأما ابن حنبل ومن ذكرنا معه فإنه يقيس على الطعام كل مكيل أو موزون لمشاركته الطعام في الكيل أو الوزن، ويرى أن تخصيص الطعام هنا بالذكر تنبيه ¬

_ (¬1) نص الحديث: فلا يبعْه. المعلم: ج 2: 165. (¬2) ابن ماجة: ج 2 ص 737 - أحمد: ح 2: 175. (¬3) نصب الراية: ج 4: 32. (¬4) نصب الراية: ج 4: 32. (¬5) سورة البقرة، الآية 275. (¬6) سورة النساء، الآية 22.

على كل مكيل وموزون، ولم يرد به قصر الحكم على الطعام خاصة، ونفيه عما سواه، كما لم يرد بذكر الربا في البر والشعير وما ذكر معهما قصر الربا على ما سمي من هذه الأصناف، بل ذكرها لينبه على ما شاركها في علة الربا. وكذلك ها هنا إنما ذكر الطعام لينبه به على ما شاركه في قيل أو وزن، وقد وقع في بعض طرق الحديث "من ابتاع طعامًا مكيلًا" فتقييده بالكيل تنبيه على أنه عليه الحكم. وأما الشافعي ومن تعلق معه فإنه يتعلق بعموم نهيه عليه السلام عن ربح ما لم يضمن بعد (¬1) سائر أجناس المبيعات. وكذلك يتعلق أبو حنيفة بعموم هذا الحديث، ولكنه خص العقار وما لا ينقل بوجه من النظر سنذكره إذا خضنا في طريق النظر إن شاء الله تعالى. وأما اختلاف هذه الظواهر فإن مالكًا رضي الله عنه يتأول النهي عن ربح ما لم يضمن على أن المراد به بيع ما ليس عندك فيجعل هذا الحديث مطابقًا للآخر. وكذلك ذكر ابن المواز. ومن ساوم إنسانًا في سلعة وذهب بها فباعها بأكثر مما ساومه أن ذلك لا يجوز إذا لم يعلم صاحبها بذلك وهو من ربح ما لم يضمن. وكذلك لو اشترى سلعة بالخيار فباعها بربح قبل أن يختار، فإن الربح لربها لأنه يتحرك في سلك ما لم يضمن. هذا اعتذار أهل المذهب عما تعلق به الشافعي. وأما اعتذار أصحاب الشافعي عما تعلق به أهل المذهب من النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى، فإنهم لا يسلم أكثرهم (دون هذا الخطاب دليل) (¬2) لكونه إنما علق الحكم فيه باسم، ودليل الخطاب، عند تبنيه، إنما يتضح في ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: من. (¬2) هكذا في جميع النسخ. وهو غير واضح.

تعليقه بالأوصاف والشروط والعدد، وأما تعليقه بالاسم فإن أكثر مثبتيه ينكرونه، لكن الدقّاق من أصحاب الشافعي قال به. وأضيف أيضًا هذا المذهب إلى مالك رضي الله عنه. فإن قلنا بإنكاره إذا علّق بالأسماء لم يكن اعتذار عنه، وإن الأسماء إذا علقت بها الأحكام كان ما عدا الأسماء بخلافها ها هنا (¬1) ويصل الخطاب مع عموم قول الراوي "نهى عن ربح ما لم يضمن" فينظر في الذي تقدم منهما. هذا إن سلم أن القصد به ها هنا نفي الحكم عما عداه. وإن لم يسلم ذلك، وقيل: إن الدليل إنما يستعمل إذا لم يكن الخطاب خرج مخرج التنبيه قدم تنبيه الخطاب ومفهومه على دليله، ألا ترى قوله سبحانه {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬2) دليل هذا الخطاب يقتضي أن يقال لهما ما فيه سبّ لهما أولى وأحرى. وموضع التنبيه في هذا الخطاب أن الطعام تمس الحاجة إليه، وإلى المبادرة لنفعه، وابتياعه للقوت به، وحفظ الحياة بأكله، ما لم تمس الحاجة إلى المبادرة إلى شرائه منه وبيعه له، كان نهيه عن بيع ما سواه من السلع قبل أن يقبضها أولى وأحق. هذا طريق الكلام على اختلاف ظواهر هذه الأحاديث. وأما الكلام عليها من جهة الاعتبار فإن أصحابنا يقولون: لما جاز التصرف في الأثمان قبل قبضها جاز ذلك في المثمونات. وإذا جاز بيع ما لم يقبض مما وهب أو تصدق به أو ورث فكذلك يجوز بيع ما اشتُري قبل أن يقبض، (فكذلك يجوز التصرف فيه بالبيع) (¬3). وأما أصحاب الشافعي فإنهم يجيبون عن هذا بأن المذهب عندهم على قولين في بيع ما في الذمة من ثمن سلعة باعوها. فإن قيل بالمنع فلا تعلق به، وإن قيل بالجواز فالفرق أن الأثمان في الذمم ملكها قد استقر ولا يحسن بطلان الملك، فلهذا جاز البيع قبل القبض. وأيضًا فإن المالكية تمنع بيع الطعام قبل قبضه (إذا كان دنانير أو دراهم أو ما يجوز بيعه قبل قبضه. وأما العين فإن منهم ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة. (¬2) سورة الإسراء: الآية 23. (¬3) ما بين القوسين، مساوٍ في المعنى للجملة التي تقدمت قريبا.

منع منه قبل القبض. والمشهور عندهم جوازه لكون العين له حرمة) (¬1) ألا ترى أن الشريك يقوّم عليه بنصيب (¬2) شريكه إذا أعتقه، ولا يقوم عليه نصيبه إذا لم يعتق بل باعه. وأيضًا فإن بإعتاق العبد سقط الملك عنه وسقط الضمان فلم يكن للمنع وجه. وأما الهبة والصدقة والميراث فإنما جاز البيع في ذلك قبل القبض لأن ذلك في ضمان الوارث بنفس الوراثة، وكذلك في ضمان الموهوب له بنفس الهبة. ويتعلقون من جهة الاعتبار في صحة ما (¬3) لأنه إذا باع ما لم يقبضه فقد باع ما لا يقدر على تسليمه حين العقد. وأيضًا فإن الملك في المشتري الذي لم يقبض منك ناقص لكونه معرضًا للبطلان فهو غرر، والغرر في عقود البياعات نهى الشرع عنه؛ ولأنه (¬4). هذا بالاستحسان فإنه يجوز، وإذا وقع الاستحقاق بطل البيع وسقط الملك، ثم مع هذا لا يمنع تجويز الاستحقاق من صحة البيع بإجماع؛ لأن هذا وإن كان فيه غرر فهو غرر لا قدرة على دفعه على حال إلا بمنع البيع أصلًا، وهذا فيه ضرر بالناس فعفي عنه. وأما (¬5) الصالح السلع قبل قبضها فإنه غرر ويقدر على رفعه بأن ينهى المشتري عن البيع حتى يقبض السلعة؛ ولا يكون في عقده تعرض للبطلان على حال. وهذا الذي قالوه إنمانظر الجواب عندي بأن يقال: اختلف المذهب هل ينتقل الضمان إلى المشتري في غير ما فيه حق توفية بنفس العقد أَوْ لا ينتقل حتى يذهب زمان يمكن فيه التسليم؛ فإن قلنا: إن الضمان ينتقل للمشتري من نفس العقد لم يصح لهم ما تعلقوا به من كون البائع غرضه البطلان بجواز هذه السلعة المبيعة. وإن قلنا: إنه لا يضمنه المشتري إلا بالقبض أو التمكين، وأن طرُوَّ الهلاك في ضياع السلع ¬

_ (¬1) ما بين القوسين في جميع النسخ، فيه نقص واضطراب. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب إسقاط حرف الجرّ. (¬3) كلمة غير واضحة في جميع النسخ. (¬4) كلمة غير واضحة في جميع النسخ. (¬5) كلمة غير واضحة بجميع النسخ.

نادر، والنوادر لا يلتفت إليهالأولا يكون تجويزها من العذر المانع لعقد البيع. وهذه النكتة التي أشرنا إليها توضّح ذلك. وجه تفرقة ابن حنبل وغيره بين المكيلات والموزونات وبين غيرها من المكيلات والموزونات قد اتفق أن ضمانها لم ينتقل للمشتري قبل الكيل والوزن فحسن دخولها في النهي عن ربح ما لم يضمن ولا يحسن دخول ما سواها من المبيعات لكونها يضمنها المشتري بالعقد على أحد القولين عندنا. ولأجل هذه النكتة التي نبهنا عليها ذهب أبو حنيفة إلى (¬1) ما لا ينقل ولا يحول كالعقار يجوز بيعه قبل قبضه، بخلاف غيره من السلع؛ لأن العقار لا يمكن ضياعه وعدم عينه، فيبطل العقد بعدم العين، وإنما يجوز عيبه، والعيب لا يبطل الملك ولا يلحق العين بالعلم. فأنت ترى أبا حنيفة إنما فرق أيضًا بين العقار وغيره اعتبارًا بهذه النكتة التي نبهنا عليها، وجعل ابن حنبل ومن ذكرنا معه إنما فرقوا بين المكيل والموزون لأجلها. ولكن هذه النكتة عليها يدور أكثر الخلاف. قال بعض أصحاب الشافعي: القبض على ثلاثة أنواع: قبض ينقل الملك وذلك في الهبات. وقبض يصحح العقد وذلك في الرهبان. وقبض يصحح الملك ويحققه وذلك في المبيعات. والقبض يتنوع بتنوع المبيعات بحسب مقتضى العادات فيها، فالمكيل والموزون يعتبر فيه الكيل والوزن، واعتبار قدر المناولة في انتقال الضمان كالمكيال للزيت إذا انصرف عند (¬2) أحدهما قبل إمكان مناولته وتفريغه، فإن فيه في المذهب اختلافًا عندنا: هل ضمانه من البائع أو من المشتري؟ فلو تصور عقد البيع في هذه النكتة، التي اختلف فيها في الضمان، يجري جواز البيع على القولين في جواز بيع الطعام الجزاف قبل أن ينتقل إلى ضمان المشتري، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. وأمّا ما سوى الطعام فإنه يجوز بيعه قبل قبضه فلا فائدة في تنوع القبض ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصّواب إضافة: أَنَّ. (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب حذف عند.

عندنا. وأصحاب الشافعي ينوعونه فيرون أن الحيوان الناطق إذا بيع فقبضه أن يستدعَى فينتقل من مكانه إلى المشتري الذي استدعاه. والحيوان البهيم أن يقاد من مكانه، إلى غير ذلك مما تعتبر فيه العادة في قبضه. وأبو حنيفة يرى أن التخلية والتمكين من المبيع قبض. ويحتج أصحاب الشافعي بالحديث الذي قدمناه، وهو قوله "نهى عن بيع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" ويقول ابن عمر: كانوا يضربون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوا الطعام الذي اشتروه جزافًا قبل أن ينقلوه (¬1). وهذا الظاهر يمنع من الاقتصار في القبض على التخلية والتمكين، وإن كان ظاهر الحديث يقتضي أن لا يكتفي بتحويل المبيع عن مكانه حتى يصل إلى منزل المشتري، فإن اعتبار وصوله إلى منزله وما قبله من النقل عن المكان خاصة يُمنع لظاهر الحديث. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: اختلف أهل المذهب في منع بيع الطعام قبل قبضه: هل الحديث الوارد في ذلك شرع غير معلل أو معلل يكون العِينة يستعمل فيه؟. ومذهب القاضي أبي الفرج والقاضي أبي محمَّد عبد الوهاب أنه معلل بالعِينة. وقد ذكرنا كلام أبي الفرج وتردده في ذلك، وإشارته إلى أنه يحرم تارة لأجل العينة وتارة للخبر، ثم مال إلى اعتبار العينة وتعليل الحديث بها، ورأى أنها إذا ارتفعت ارتفع حكمهالأولكنه شرط في هذا أن يكون البيع بالنقد. وقد أشار ابن مزين إلى اعتبار النقد أيضًا في هذا. وكنا قدمنا نحن عن بعض أصحاب الشافعي أنه أشار إلى أنه إنما أشار بالذكر لكونه تمس الحاجة إليه لحفظ الحياة بأكله، فإذا منع بيعه قبل قبضه مع هذه الحاجة إليه فأحرى أن يمنع ما سواه. ويمكن عندي على أصلنا إنما خص بالذكر لشرفه كما يخص بتحريم الربا على رواية ابن وهب؛ لأنه لا يمنع بيع ما لا ربا فيه من الطعام قبل قبضه. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: ما يمنع التفاضل فيه من الأطعمة ¬

_ (¬1) إكمال الإكمال: ج 4: 193.

المبيعة على قيل أو وزن أو عدد فلا خلاف عندنا، وعند فقهاء الأمصار، في المنع منه على ما مضى بيانه. وأمّا ما لا ربا فيه من الأطعمة فالمشهور عندنا من المذهب المنع من بيعه قبل قبضه أيضًا. وروى ابن وهب عن مالك جواز بيعه قبل قبضه. فأما المذهب المشهور فحجته قوله عليه السلام "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" (¬1) تعم سائر الأطعمة. وأما رواية ابن وهب فقد أشرنا إلى وجهها، وكأنه رأى الطعام لما خصّ بالعبات (¬2) منه ويدخر فتحريم الربا فيه لشرفه وكونه حافظًا للحياة، وكذلك يخص بالمنع من بيعه قبل قبضه. وهذا المسلك بعيد، على مقتضى حقائق الأصول؛ لأنه يختص (¬3) للعموم بهذا الضرب من الاستدلال المأخوذ منه، فكأنه تعليل للخبر (لما يقتضي عمومَه) (¬4) فصار كالفرع إذا عاد ببطلان أصله. فإذا قلنا بالمذهب المشهور من تعميم المنع من (¬5) سائر الأطعمة فإن الزرارع منها ما لا يجري مجرى ما ينبت منها، إذا لم تكن مأكولة في نفسها في غالب الأمر، فلهذا أبحنا زريعة الفجل الأبيض وزريعة الكراث والقثاء والبطيخ وشبه ذلك. فهو، وإن كان ينبت منه الطعام المأكول، فليس هو الآن بالطعام الذي اعتيد أكله، لكن لو كان زريعة الفجل الأحمر لمنع من بيعها قبل قبضها لكونها يعتصر منها الزيت، ولهذا تُراد، وأعطيت حكم الزيت لما كانت لا تراد إلا له. وكذلك قيل في حب العصفر أنه يمنع قبل قبضه لأجل أنه إنما يراد منه الزيت الذي يعصر منه. والخردل أُلْحق بالطعام لأنه يؤكل في نفسه فلحق بالأطعمة. بخلاف ¬

_ (¬1) الهداية ج 7 ص 229. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: بما يُقتاب. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: تخصيص. (¬4) هكذا، ولعل الصواب: لما يقتضي تخصيص عمومه. (¬5) هكذا، ولعل الصواب: في.

زريعة الحرْف وهي زريعة الرشاد لكونه لا يؤكل في نفسه ولا يراد للزيت. وقال ابن سحنون: اتفق العلماء على أن الزعفران ليس بطعام وأنه يباع قبل قبضه. وأما الماء فخرج فيه بعض أصحابنا اختلافًا في بيعه قبل قبضه سنبينه في كلامنا على الربا فيه وفي غيره إن شاء الله. وأما الأبزارُ المطيبة للأطعمة كالفلفل والكروي وشبه ذلك فإن المشهور من المذهب المنع من بيعها قبل قبضها. وذكر ابن شعبان في مختصره جواز بيعها قبل قبضها. والكمون الأسود وهو الشونيز، المشهور عندنا أنه يمنع من بيعه قبل قبضه. وقيل إن الكمونين جميعًا، الأبيض والأسود، لا يمنع من بيعهما قبل قبضهما. وأما الشَّمَار، وهو زريعة البسباس، والأنيسون وهي الحبة الحلو (¬1) فإن في بيعهما قبل قبضهما اختلافًا أيضًا في كونهما وكون الكمونين أصنافًا شتّى أو صنفًا واحدًا اختلافًا أيضًا نبينه في أحكام الربا إن شاء الله. واختلف في الحلبة فقيل: إنها طعام، وقيل: ليست بطعام؛ وقيل: اليابس منها ليس بطعام. هذا دليل جنس الطعام الذي يمنع بيعه قبل قبضه. وأما بيان الصفة التي يباع عليها، فإنا قدمنا أنه إذا بيع على الكيل أو الوزن أو العدد فإنه لا يختلف في المنع من بيعه قبل قبضه. وأما إذا بيع جزافُ الأولكن الضمان لم ينتقل إلى المشتري فإن المذهب في بيعه قبل قبضه على قولين: الجواز والمنع، كمشتري لبن غنم بعينها شهرًا، فإنه اختلف فيها ابن القاسم وأشهب في جواز بيعه لهذا اللبن قبل قبضه. وكذلك يختلف في هذا في بيع صبرة للطعام قبل أن تقبض، إذا كانت محبوسة بالثمن، على أحد القولين في ¬

_ (¬1) هكذا.

كون المحبوس بالثمن ضمانه من بائعه لا من مشتريه. وأما إذا قيل: إن ضمان المحبوس بالثمن من مشتريه، فإن هذا لا يختلف فيه بناء على هذا الأصل. وكذلك اختلف فيمن اشترى جزءًا من ثمرة فأراد أن يبيع ذلك الجزء قبل قبضه، وكذلك اختلف فيمن باع ثمر نخلة أو صبرة طعام واستثنى منها ما يجوز له استثناؤه من المكيلة، وهو الثلث فأقل منه، وأراد أن يبيع هذا المكيل الذي استثناه قبل قبضه فإن فيه روايتين: الجواز والمنع؛ ولكن هذا مبني على أصل آخر وهو الخلاف في المستثنى هل هو مبقى على الملك فيجوز لمستثنيه أن يبيعه قبل قبضه كسائر ما يريد أن يبيعه من أملاكه، أو يقدِّر أن المستثنى مشترى فيكون البائع لما استثنى هذه المكيلة فكأنه باع الصبرة بدنانير وهذه المكيلة التي استثناها، فيكون مشتريًا لها، ومن اشترى طعامًا على الكيل منع من بيعه قبل قبضه. وأما لو مكن بائع الصبرة مشتريها منها ولم يحلها بالثمن فإن مالكًا أجاز شراءها قبل أن تنقل. وروي عنه أنه استحب ألا تباع حتى تُنقل. وبالمنع من بيعها قبل قبضها قال أبو حنيفة والشافعي لما روي عن ابن عمر في الصحيح أنه قال: كانوا يُضْربون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطعام إذا اشتروه جزافًا، لا يبيعونه حتى ينقلوه إلى رحالهم (¬1). وروى مالك في الموطأ هذا الحديث ولم يقل فيه: "جزافًا" بل أورده مطلقًا (¬2). وأما الفصل الثاني فهو الكلام في الإقالة على الطعام والشركة والتولية وبأن الترتيب ينبغي أن يتكلم على الفصل الثاني وهو صفة الملك للطعام الممنوع من بيعه قبل قبضه، اتباعًا لرتبة الكتاب الذي شرحناه، وأيضًا فإن الكلام في صفة الملك قبل الكلام فيما استثنى من الممنوع فيه، ولأنا قدمنا في كتاب السلم الأول العذر في ذلك، وهو أن الأصحاب رغبوا في توخي ترتيب المدونة في كتاب السلم، فجرينا على ذلك فيها، ولكن دعت الضرورة إلى أن تقدم الكلام على منع بيع الطعام قبل قبضه، ثم نعطف عليه الكلام في الرخصة ¬

_ (¬1) فتح الباري: ج 5 ص 254. (¬2) الموطأ: ج 2 ص 168 حديث 1865.

فيه كفرع منه. واعلم أنه يتعلق بهذا الفصل أحد عشر سؤالًا، منها أن يقال: 1 - ما الإقالة؟. 2 - وهل يسوغ تبديل لفظها؟. 3 - وما حكم تأخير الحكم فيها؟ 4 - وهل تقدير التأخير فيها يغير حكم الضمان فيها؟ 5 - وما حكم تغير رأس المال فيها حِسًّا؟ 6 - وما حكم تغيره تقديرًا؟ 7 - وهل يمنع استغلال رأس المال من الإقالة أم لا؟ 8 - وهل يغيَّر حكم الإقالة إذا صار المقال فيه لجماعة بعد أن كان لواحد؟ 9 - وما حكم إقالة واحد من جماعة يحمل بعضهم عن بعض؟ 10 - وما حكم الإقالة في العروض على أمثالها؟ 11 - وما حكم التأخير الاختياري في الإقالة؟ والجواب عن السؤال الأول أن يقال: أما الإقالة فإنه اختلف في اشتقاقها. فقيل: إنها مأخوذة من الشبه. ومنه قولهم: فلان يقيل مسجد أبيه، بمعنى أشبهه في المجد، ومنه القَيْل في حِمْيَر وهو شبه المَلِكِ فيهم. ومبدأ الإقالة في البيع لأنها معاقدة ثانية في البيع لشبه المعاقدة الأولى، أو حل بيع وحله يشبه عقدَه لكون الثمن والمثمون في الإقالة (وقد يبدل فيما يبدل في المبيع) (¬1). ورأيت في بعض شروحات أبي الفتح بن جني أنه حكى أن من الناس من ذهب إلى أنها مشتقة من القول؛ وكأن القول الأول الذي وقع فيه التبايع أعيد مرة أخرى، فعله بانعقاده على صفة أخرى. وذكر أن شيخنا أبا علي الفارسي أنكر هذا الاشتقاق الثاني، وقال بأن أبا زيد حكى أنه يقال: قلت الرجل، وأقلته، وأنا أقيله فيهما، ولو كانت الإقالة في البيع مشتقة من إعادة القول لكان المستقبل منه: أقوله. ثم أخذ ابن جني يعتذر عن هذا بما يتعلق من أحكام التصريف بما ليس هذا موضعه. ¬

_ (¬1) هكذا، والكلام غير واضح.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: ذكر في المدونة فيمن قال: ولّني الطعام الذي لك عليّ: ذلك جائز. وليس بتولية، وإنما هو إقالة، وإنما جاز تبديلها ها هنا بلفظ التولية لكون التولية رخصة معها، ومنعها بلفظ البيع لكون الحديث ورد بالمنع من بيع الطعام قبل قبضه، مع أن موضوع البيع المكايسة، والإقالة موضوعها المعروف. ولا ينتقض هذا بقوله في الكتاب: إذا قال له: خذ مثل رأس المال من الدنانير فاشتر به طعامًا. أن ذلك جائز لأنهما لو شاءا التقايل (¬1). لأنه لم يرد بهذا بيان العبارة الجائزة عنها وإنما أراد (¬2) الفعل لا تهمة فيه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: أما الإقالة فإنها إذا وقع تأخير التقابض فيها بشرطٍ فإنها باطلة. ومن حكمها التناجز، لأن الشرع ورد بمنع فسخ الدين في الدين، وهي إذا وقع تأخير التقابض فيها خرجت إلى معنى الدين بالدين، والشرع استثناها في الطعام رخصة، لما كان طريقها الإحسان والمعروف. فإذا دخلها التأخير انصرفت الأغراض إلى المكايسة والمناجزة في التأخير، فمنعت. لكن لو وقع التأخير حكمًا مغلوبيْن عليه، فإنه قد ذكر في المدونة، في إقالة المريض: إذا أقال المريض من طعام أسلم فيه مائة درهم، وهو يساوي مائتين، ولا مال له غيره، فإن ورثته إن أجازوا إقالته مضت، وإن ردوها قطعوا للمسلم إليه بثلث ما عليه من الطعام، وأخذوا ثلثيه؛ وإن حمل الثلث جميع الطعام تمت وصيته. ولو كانت الإقالة لا محاباة فيها لمضت على الورثة. فاعلم أن المريض غير ممنوع من البيع والشراء بالقيمة، لأن الورثة إنما يملكون الحجر عليه في مقدار ما في يديه سوى الثلث الذي جعل له صرفه ¬

_ (¬1) جواب (لو) غير مذكور، ولعله: لفعلاه. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: وإنما أراد "أنّ" الفعل.

عنهم، (كانت مناجزة، وطلب له الذي يرجو أن يفيق من مرضه فيتوفر لورثته) (¬1). فإذا حابى في معاملته فقد صار ما جاء (¬2) به كهبة لمن عامله، وهبته مقصورة على ثلث ماله وصى بها أن تنفذ بعد موته، أو مثلها (¬3) في مرضه. وإنما بيعه بالقيمة، فإن بتّله في مرضه نفِّذ لأجل ما قلناه، ولكونه طالبًا نماء ماله لنفسه أو لورثته. وإن وصى به أن يفعل بعد موته، فإن قال: بيعوا داري من فلان، فإن جميعها يجعل في الثلث، لأنه إذا مات ملك الورثة عين ماله، فليس له أن يلزمهم بيع عين ما ملكوه بغير اختيارهم. لكن إذا حمل جميعَه الثلثُ مضى ذلك عليهم، لكونهم لا حقّ لهم في ثلث ماله. وإذا تعذر هذا فإن الأشياخ اختلفوا في هذه المسألة المذكورة. في المدونة، هل ذلك من الميت على معنى الوصية، أو على معنى التبتيل للإقالة في المرض؟ وقد أخبرناك بحكم الوجهين. وأما الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله، فإنه تأول مسألة الكتاب على أنها وصية من الميت، ويتعلق بقوله في الكتاب: إذا حمل جميعَه الثلث جاز ذلك وتمت وصيته. فسماها وصية واعتبر كون الثلث يحمل جميعها، وهذا إنما يعتبر في الوصايا في المرض لا في التبتيل فيه، كما قدمناه. وقال غيره من المتأخرين: بل المسألة محمولة على أنها إقالة بتّلها في مرضه. وتعلق بقوله في الكتاب: ولو كانت الإقالة لا محاباة فيها لنفذت. وقد قدمنا أن الوصية لا بد أن يعتبر كونها يحملها الثلث، كانت لا محاباة فيها أو فيها محاباة. وإنما لا يعتبر الثلث فيما لا محاباة فيه إذا قوّل (¬4) في المرض هذه المعاملة. وينفصل صاحب هذا المذهب عما يتعلق به للتأويل الأول أن تسميته إياه وصية تجوّز في العبارة، لأنها موقوفة على الاعتبار بعد موت الميت فاستحقت لأجل هذا تسميتها وصية. وهذا اعتبار سهل المرام، ولكن الوجه الآخر وهو اعتبار ¬

_ (¬1) كلام مضطرب غير واضح في النسختين. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: حابى. (¬3) هكذا ولعل الصواب: بتّلها. (¬4) هكذا في النسختين ولعل بتَّلَ.

كون جميعها يحمله الثلث وهو صعب المرام، فافتقر فيه إلى عذر من طريقة أخرى. وذلك أنه تقرر فيما تقدم أن الإقالة على بعض رأس المال لا تجوز للتهمة على بيع وسلف. وأن الإقالة على رد رأس المال كله ودفع بعض السلم، وكله لا يجوز لكونه سلفًا جر منفعة. وكذلك (سنبين أن لغير رأس المال يمنع من الإقالة في الطعام على الجملة. قالوا: فلو اعتبرها هنا في هذه الإقالة المسألة في المرض القيمة من غير محاباة فأنفدت الإقالة فيه) (¬1)، وأعطى ما يستحقه من رأس المال من ما يحمله من الثلث، لكان قد رجع إليه رأس ماله، وأعطى زيادة عليه ما حمل الثلث من المحاباة التي حابى المريض بها؛ وهذا سلف جر نفعًا، مع كونه قد تغير رأس المال، فوجب المنع لكونه بيعا للطعام قبل قبضه. (فلا حمل أن أمضى هذه الإقالة على الأصل الذي قدمناه يؤدي إلى فسادها ونقضها، والمريض قصد إمضائها ونفوذها وجب أن بعدت عن الأصل إلى ما يجوز) (¬2). هذا اختلاف الأشياخ في مسألة الكتاب والمراد بها. وأما اختلافهم في الاعتذار عما وقع بها من إجازة الإقالة فإن الشيخ أبا بكر بن اللباد قال: إن المسألة إنما تصح على أن المريض مات بفور الإقالة فصار التأخير ضرورة. وقال أحمد بن نصر: إن قبض رأس المال بفور الإقالة صح ما قال ابن القاسم، وإن تأخر قبضه لرأس المال إلى أن مات صح ما قاله سحنون من فور (¬3) هذه الإقالة التي ذكرها في الكتاب فاسدة لما وقع فيها من تأخير. وطعن الشيخ أبو القاسم ابن الكاتب في هذه الطريقة من الاعتذار، بأن سحنونًا يرى فساد هذه الإقالة، سواء قبض رأس المال أو لم يقبض، وبأن ظاهر المدونة ابن القاسم أجازها وإن لم يقبض رأس المال، لقوله في الكتاب: إن شاء الورثة أجازوا الإقالة وأخذوا رأس المال. فدل هذا القول على أن المريض لم يكن أخذه. واعتذر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد بأن هذا التأخير لم يُقصد، وإنما ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) هكذا. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: كون.

أوجبته الأحكام، لا يتهمان على القصد إليه. وهذا النوع من الاعتذار كنا سلكناه نحن في المسألة المتقدمة، وهي إقالة أحد الشريكين في سلَم من جميع نصيبه، وذكرنا تعقب سحنون أيضًا لهذا، لأجل أن الحكم يقتضي مشاركة شريكه فيما قبض من الإقالة، وأشرنا هناك إلى أن ما توجبه الأحكام اضطرب المذهب فيه: هل هو كالمشترط لأنهما لما عملا ما توجبه الأحكام فكأنهما عليه دخلا، وما دخلا عليه كأنّهما اشترطاه؟ أو لا يقدر الحكم ها هنا كالشرط لكونهما مغلوبين عليه كما قيل في الإقالة إذا هرب أحدهما أنها لا تفسد لكون الآخر مغلوبًا على التأخير؟ ولهذا بسط هذا الوجه بعض أشياخي فقال: إن كانا جاهلين بالحكم معتقدين أن التأخير يصح والفعل (¬1) للورثة فيه، فإن الإقالة ماضية لأنهما عقداها على وجه جائز، ثم غلبا على التأخير. وكذلك لو كانا عالمين بالحكم، ولكنهما قصدا الافتيات على الورثة وغَلَبَتَهم على حقهم في ذلك، فإن الإقالة تمضي أحوالهما (¬2) لم يتعاقدا على تأخير. ولو كانت الوصية لورثته لأن يقبلوه بعد موته، لصحت. ولو وقعت منه إيجابًا على نفسه في المرض لا رجوع له عنه وهو يعلم أنها تؤخر فإنها تفسد. ولو كان وقع ذلك منه في المرض على أنه بالخيار ما بينه وبين الموت لكان ذلك جاريًا على القولين في عقد النكاح على خيار أحدهما أو عقد الصرف على خيار أيضًا، لكن لم يختلف في إمضاء بيع المريض وإن كان بمحاباة، مع كون المحاباة إنما تعتبر في ثلثه بعد موته ولا يدري متى يموت، ولا ما يحصل من المحاباة، فصار الثمن مجهولًا لأجَلِه ومقداره. ولكنهم لم يختلفوا في هذه المسألة لكون هذه جهالة أوجبت الأخذ. وهذا يؤكد صحة العذر الذي أشرنا إليه في مسألة الكتاب. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: والفضل. (¬2) هكذا.

هذا حكم الإقالة إذا وقعت من المسلم في الطعام وهو مريض. ولو وقعت من المسلم إليه وهو مريض، فأقال من هذا الطعام الذي رأس الم الذيه مائة درهم، وهو يساوي خمسين درهما، لكان أيضًا من حق الورثة فيه ما ذكرناه من حقهم في الإقالة الواقعة ممن له السلم لأجل المحاباة؛ لكن الأشهر من قول أصحابنا ها هنا أن يدفع الطعام كلّه إلى من له السلم، وينظر فيما فضل عن ما اشترى به هذا الطعام من الدراهم التي وقعت الإقالة عليها، فيعطى الثلث من هذه الدراهم الفاضلة بمنزلة السلم، وكان ما وصفه له بدراهم يعطاها بعد قضاء؛ ولا يتصور ها هنا بيع الطعام قبل قبضه لأن جميعه وصل إلى من له السلم ولم يبع منه شيئًا. وقال الشيخ أبو سعيد بن أخي هشام: بل يشترى له بالثلث الباقي من الدراهم طعامًا، ولا يرد إليه درهمًا، لئلا يكون رجع إليه بعض رأس ماله وهي الدراهم التي وصى له بها، فيكون هذا المنع لما تضمنه من سلف جر منفعة، على حسب، ما يكون (¬1) بيانه فيما تقدم. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: ذكر في المدونة أنه إذا أسلم إليه ثوبًا في طعام فأقاله على الثوب، وضاع الثوب قبل أن يعود إلى ربه، فإن الإقالة تبطل. وهذا لأنه لم يقدر أن الضمان انتقل إلى دافع الثوب أوّلًا. وقد ينازع بعض الأشياخ في تأويل هذه المسألة، فمنهم من أقرها على حكم الضمان وغيرها من عقود البياعات، ورأى أن الذي ذكره في الكتاب محمول على أن الثوب لم يعد (¬2) بينته بضياعه، فإنه لا ينقل الضمان عمّن هو في يده، على ما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد تقدمت الإشارة إليه فيما سلف. ومنهم من رأى أن هذا الاختلاف كما اختلف فيمن احتبس بالثمن، لأن تأخير التقابض فيما احتبس بالثمن لا يفسد العقد والمعاملة التي تعاقدا عليه، ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: تَمَّ. (¬2) كلمة غير واضحة ولعلها: لم يُقم.

والتأخير ها هنا لقبض الثوب يفسد الإقالة ويبطلها، ويعود الثوب باقيًا على ملك من هو في يديه، فيكون ضمانه منه إذا عاد باقيًا على ملكه، من غير اختلاف في هذا. وقدر من سلك هذه الطريقة أن صحة الإقالة، لما كان التأخير فيها لا يجوز، موقوفة على التناجز والتقابض، كمنع الذهب بالوزن، فإن صحة عقده موقوفة على صحة قبضه، بخلاف غيره من العقود التي يحل فيها التأخير. فإذا كانت الإقالة موقوفة على (¬1) صحة عقدها على التناجز فيها، فهلك الثوب قبل التناجز، صار بأنه (¬2) هلك قبل عقد هذه المعاملة فيه التي هي الإقالة. وهكذا لو صرف دراهم بدنانير فوزن الصيرفي الدنانير، وأخذ في وزن الدراهم فضاع الدينار، فإن العقد ها هنا صحة (¬3). ولكن بعض الأشياخ قال: إن ضمان الدينار من الصيرفي. ورأى أنه لما وزنه صار كالمقبوض، والمقبوض مضمون ولو كان العقد فاسدًا، فكيف به إذا كان صحيحًا. وهذا يتعلق بالقول في انتقال الضمان بمجرد العقد، من غير اعتبار قدر المناولة، أوْ لا يتعلق الضمان إلا بعد مضي زمن المناولة بعد العقد. وسنبسط القول في هذه المسألة في كتاب الصرف إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: أما الإقالة على عين رأس المال ولم يقع فيه يعتبر (¬4) على حال قد صح جوازها. وأما إن ذهب عين رأس المال، وأقال على مثله، والسلم في طعام، فإنه إن كان رأس المال عوضًا مما يقضى به في القيمة في الاستهلاك، فإنه لا تجوز الإقالة على حال، لأنه إيقال (¬5) على قيمته، وقيمته جنس آخر خلاف عينه، وهذا ليس بإقالة وإنما هو بيع مستأنف. وإن أقال على مثله، فالأغراض ¬

_ (¬1) هكذا، والأولى في. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: كأنه. (¬3) هكذا. (¬4) هكذا، ولعل الصواب: تغيير. (¬5) هكذا، ولعل الصواب: إقالة.

تختلف فيه لا على قيمته ولا على مثله، لما قدمناه من خروجها عن كونها إقالة إلى كونها مبايعة، وبيع الطعام قبل قبضه لا يجوز. وأما إن كان رأس المال مما يكال أو يوزن، وهو لا يراد لعينه، ولا يعرف إذا غيب عليه، كالدنانير والدراهم، فإن الإقالة جائزة، لكون مثل الدنانير كأنه هو عين الدنانير التي كانت رأس المال. وأما أن كان ليس بدنانير ولا دراهم، كالحديد والرَّصاص والقطن والكتان، وغير ذلك من المكيلات والموزونات مما ينخرط في سلك هذا، فإن المذهب على قولين: اختلف في جواز الإقالة على هذا ابن القاسم وأشهب، فمنعه ابن القاسم وأجازه أشهب إذا كان المثل عنده حاضرًا. فمن أجاز رأى أن المثل يسد مسد المثل، كالدينار الذي يسد مسد دينار آخر من سكتة. ومن منع رأى أن الأغراض ربما اختلفت في أعيانها، فوجب الخلاف فيها بالعروض التي تمنع الإقالة على أمثالها (هذا حكم يعتبر المعين عوضها) (¬1). والجواب عن السؤال السادس أن يقال: أما (نفس) (¬2) رأس المال تقديرًا فإنه يكون على ضروب، أحدها: من أسلم ثوبين في قفيزين طعام، فأقاله من أحد الثوبين، وهما متكافئان، على إسقاط أحد القفيزين عنه، فإن ابن القاسم أجاز ذلك. وأشار سحنون إلى منعه والمناقضة فيه بقوله في المدونة: إذا اشترى ثوبين متكافئين فإنه لا يبيع أحدهما مرابحة بنصف رأس المال حتى يبين، لِجواز أن يكون غلط في التقويم، واعتقد أنهما متكافئان وليسا بذلك، إذا أقال من أحدهما فإنه قد يعلمان تقديره، فإن الذي ينوبه نصف الطعام، وإنما ينوبه في الحقيقة أقل أو أكثر، فيمنع من الإحالة لئلا يكون قد أحال على أكثر من رأس المال أو أقل، منع إذا كانت محسوسة، فكذلك إذا كانت مقدرة. وقد وقع في كتاب محمَّد، فيمن أسلم في أصناف من الثمر، فإنه يجوز أن يقيل من أحدها لما ينوبه. وكذلك وقع فيمن أسلم في قمح ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) كلمة ساقطة في ش.

أو شعير وعدس، فإنه يجوز له أن يقيل من أحد هذه الأصناف. وهذا أيضًا يجب أن يمنع على طريقة سحنون، لأنه قد يغلط في التقويم الذي يتوصل به إلى معرفة ما ينوب هذا الصنف المقال فيه. وقد اعتذر الشيخ أبو إسحاق عن مسألة الإقالة من أحد الثوبين، فإنه لا يقدر أنه إنما ينوب القفيز المقال منه، ونصفه الآخر معاوضة عن نصف الثوب الذي لم يقل منه، وهو الذي يقابل هذا القفيز المقال منه، فإن هذا إنما يكون التقدير فيه أن الثوب المقال منه يقابله نصف كل واحد من القفيزين، فإذا أقاله عن قفيز واحد فكأنه إنما أقاله عن نصف القفيزين، وجميعهما، في النظر، في الإقالة، فلا يمنع هذا، كما إذا كان له عليه نصف دينار، أو (¬1) باعه بيعً ابن صف دينار آخر، أنه يقضى عليه بدينار كامل، لكون الحكم يوجب جميع النصفين. وهذا الذي قاله فيه نظر لأنه ليس له أن يقول بأن التقدير ما ذكره أولى بأن يقول الآخر العكس ما بدأنا به أولى من أن الثوب المقال منه نصفه يقابل القفيز المقال منه ونصفه عوض عن نصف الثوب الآخر. وهكذا قدر الشيخ أبو القاسم ابن القاسم (¬2) وذلك أنه عارض مسألة المدونة إذا أسلم إليه ثيابًا في قمح وأقاله على نصف الثياب أن ذلك جائز. فقال: إن أقاله على أن تكون الثياب شركة بينهما نصفين، فالشركة في الثياب عيب، والعيب في الثوب يمنع من الإقالة عليه إذا كان رأس المال الطعام، وإن قدر أنهما يقتسمان الثياب نصفين فيتميز نصيب كل واحد من نصيب صاحبه، فإن الثياب المقسومة لا يقدر أن ما استبد به كل واحد منهما هو الذي يقابل به نصف الطعام المقال منه، بل إنما يقابله نصف الثياب التي استبد بها ونصفها الآخر أخذها عوضًا عن نصف الثياب التي صارت لصاحبه، وهو النصف الذي يقابل ما أقال فيه من الطعام. وأشار إلى أنه إذا جاز أن يقيل (على مثل هذا النصف لزم أن يقيل) (¬3) على ثوب مثل الثوب الذي هو رأس المال. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: و. (¬2) هكذا ولعل الصواب ابن الكاتب. (¬3) ساقط من الوطنية.

وكذلك عارض بعض الأشياخ من أسلم ثوبًا واحدًا في طعام فأقال من نصف، بأن قال هذه شركة، وهي تعيب الثوب، والعيب ها هنا يمنع من الإقالة. والذي عندي أنّا إذا قلنا: إن القسمة لتمييز حق؛ لم يتوجه ما عارض به الشيخ أبو القاسم ابن الكاتب، لأنه (إنما) (¬1) وقعت القسمة (أن) (1) الثياب التي استبدّ بها كل واحد هي التي يقابل ما وقعت الإقالة عليه، (وما لم يقل فيه) (¬2) وإن قلنا: إنها بيع من البيوع يوجه ما عارض به، ولا يلزم ما ألزمه في جواز الإقالة على مثل الثوب لكون الإقالة على مثل الثوب لا يخاف (¬3) أنها ليست إقالة على عين (¬4) رأس المال. وأمّا ما وقع في القسمة فإن فيه من الخلاف ما ذكرناه في القسمة هل هي تمييز حق أو مبايعة، وإنما يتوجه المعاوضة على أحد القولين. وأما المعاوضة فإن الشركة في الثوب عيب، فإنه قد يقال في العذر عن هذا: إن هذا العيب لم يستبن الإقالة (¬5) بل إنما حدث بحدوث الإقالة، وقد تعلق بالإقالة حل البيع وحدوث العيب. وقد اضطرب المذهب في مثل هذا، إذا كان الأمر يتعلق به حكمان متدافعان، ما الذي يقدر السابق منهما، كقوله: إن لقيك فأنت حر. فإن قدرنا ها هنا أن الإقالة حل البيع، كالسابق لحدوث عيب الشركة، لم يكن في الإقالة قدح؛ لأنه إنما يمنع إذا حدث العيب قبلها، وها هنا قد تقرر أنه كالحادث بعدها، فلا يقدح في صحتها. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: إذا ..... فإن. (¬2) هكذا، والصواب حذفها. (¬3) في (ش): لا يخالف. (¬4) في (ش): غير. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالإقالة.

ومن هذا الأسلوب الإقالة من الطعام على رأس المال وقد يُعتبر عيبه كعيب أثر في دابة، كغرر في العقد أو خرق في الثوب، فإن هذا يمنع الإقالة. وإن كان ما يتغير (¬1) في القدر المبيع منه سالمًا فإنه في حكم المتغير لانتقاص ثمنه لأجل العيب. وأما التغير الذي لا يرجع إلى عين رأس المال، فإنه إن كان تغيّرًا في سوق السلعة التي هي رأس المال، فإنه لا يمنع الإقالة تغير السوق بنقص أو زيادة. وأما إن كان تغيرًا مختصًا برأس المال وإن لم يؤثر في عينه، كعبد أسلم في طعام فأذن له من عليه السلّم في التجارة، فاستدان، ثم تقايلا وعلى العبد دين، فإن ذلك يمنع من الإقالة، وإن كان هذا التغيّر لا تأثير له في البدن لكنه يختص به دون ما سواه من العبيد، بخلاف تغير السوق الذي يعم جميع ذلك النوع. لكن لو كان الدين تافهًا يسيرًا لا مقدار له، كالدرهم ونحوه، فإنه كالعدم لا يمنع الإقالة. وإن كان خارجًا عن هذا المقدار منع الإقالة وإن لم يوسف بأنه كبير. بخلاف من اشترى عبدًا، فأذن له في التجارة فاستدان العبد ربها، فإن هذا الدين وإن نقص ثمنَ العبد لا يمنع المشتريَ الرد بالعيب، ولا يوجب عليه قيمة هذا النقص، لأن العيوب اليسيرة الحادثة عند المشتري غير مطلوب بعوضها إذا رد بالعيب، لكون العيب من جهة البائع، فكأنه كالعافي له عن هذا المقدار اليسير الحادث عنده. لكن هذا الدين الذي استدانه العبد لو سقط عنه قبل الإقالة لم يمنع الإقالة لكون رأس المال عاد على ما كان عليه فصار ما حدث في خلال عقد السلم والإقالة منه (¬2) بالعلم. ولو كان حدث بهذا العبد عيب أثر في بدنه ثم ذهب، فإن المتأخرين مختلفون في هذا: هل تجوز الإقالة؛ لأنه يقدر لما ذهب كأنه لم يحدث، أو يمنع من ذلك لأنه قد تأثر جسمه تأثير المنع من الإقالة حينئذ فلا يزول هذا المنع بزوال المانع. بخلاف لو كان هذا العيب بياضًا في العين حدث بالعبد ثم ¬

_ (¬1) في (ش): يستوي. (¬2) هكذالأولعل الصواب: كالعدم.

ذهب، فإنه لا تمنع الإقالة لأن البياض (قد يعذر كالسائر بقيت العين على ما كانت عليه أوّلًا ولم يتخلل ذلك بعد حدث في ذاتها) (¬1). والذي سلمه صاحب هذا المذهب من كون سقوط الدين وذهاب بياض العين لا يمنع الإقالة لا يتحقق بينه وبين العيوب المؤثرة في البدن فرق واضح. وقد ذكر في الرواية أن العبد إذا أسلم، وفي عينه بياض، فذهب عند المشتري، أن ذهابه كالنّماء المانع من الإقالة. ولو كان العبد استدان دينًا بغير إذن سيده لكان سقوط هذا الدين لا يحيى الإقالة، لكون هذا الافتيات على سيده عيبًا فيه ينقص ثمنه لأجله. وكذلك لو أنفق ما استدان في فساد فإنه أيضًا لا يحيى الإقالة سقوط الدين لأنه يخاف منه أن يقتضيه العوائد في الانفاق في الفساد. ولو كان التغير في البدن مما تتلون فيه الحال كالسمن والهزال، فإنه يمنع من الإقالة هذا التغير إذا كان رأس مال الطعام من الحيوان البهيم، لأن هذا معتبر فيه. ولو كان في الحيوان الإنسان، فإن الظاهر من المذهب أنه لا يمنع من الإقالة، لكون السمن والهزال لا يزيد عند التجار في الرقيق تأثيرًا مثل ما يؤثر في الحيوان البهيمي. قال يحيى بن عمر: هذا التفسير في الإماء يمنع أيضًا من الإقالة. وذكر ابن حبيب أن الهزال البيّن والسمن البيّن فوت في المبيع المعيب من الجواري بالهزال البيّن أو السمن. وكذلك اختلف القول في المدونة في مضي الشهر والشهرين والثلاثة على الحيوان الذي هو رأس مال الطعام: هل يمنع ذلك من الإقالة وإن لم يتغير الحيوان في بدنه، فلم ير المنع منه في كتاب السلم، ولم ير المنع منه في كتاب البيوع الفاسدة. وهذا كله العقد فيه ينحصر إلى الالتفات إلى مقتضى العوائد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

فيه، فما علم أنه يؤثر في الأثمان بزيادة أو نقصان منع منه، وما لم يؤثر لا يمنع منه، ومضي هذا المقدار من الأشهر لا يحسن القول بأنه يمنع من الإقالة إلا أن يقدر أنه لا يمكن في العادة أن يمضي هذا المقدار من الزمن ولا يتغير البدن، فكأنه لم يسلم قول السائل: إنه لم يتغير في هذا الزمن. وأما التغير في الجواري بالولادة فإنه يمنع من الإقالة إذا حدث الولد عند من عليه السلم؛ لأنه إن أقال ورد الولد صار زيادة على رأس المال، وإن أمسكه كان نقصًا من رأس المال، والنقص والزيادة من رأس المال يمنعان من الإقالة، مع كونه إذا أمسك الولد وقع في التفرقة بينه وبين أمه، ولكن هذا المنع من جهة أخرى غير ما نحن فيه. ولو مات الولد قبل الإقالة، وقد حدث عند المشتري من تزويج أو من زنا، فإن ذلك يمنع من الإقالة، لكون ما أحدث من عليه السلم في الجارية من تزويج، أو ما أحدثت من زنا يعيبها عنها (¬1) لا يرجع إلى الولد الذي مات، فوجب المنع. لكن لو كان حين عقد السلم ذاتُ زوج فولدت عند الذي عليه السلم، ومات ولدها، وحالت من نفسها، فإن هذا لا يمنع من الإقالة لكون التزويج كان عند من باعها، ثم رجعت إليه بالإقالة، وكون الولد قد ذهب فلا يقال بنفيه أوْ ردّه. ولو كانت حاملًا حين عقد السلم فولدت ومات الولد، لنظر في ذلك من جهة أخرى: هل العمل عيب، فيكون العمل قد ذهب بالولادة الولد فيه، فيجري الأمر على ما قدمناه من ذهاب العيب فهل الإقالة أَوْلا يكون عيبًا؟ وسيرد بيان هذا في أحكام العيوب إن شاء الله تعالى لا رب غيره. ومما ينخرط في هذا الأسلوب أن من قبض بعض الطعام المسلم فيه فإنه لا يجوز أن يقيل مما لم يقبض، لِما يتضمن ذلك من بيع، وهو المقبوض، وسلف، وهو ما قابل من الثمن الطعام المقال فيه. ولو أقاله مما قبض وما لم يقبض، والمقبوض له قدر وبال، فإن ذلك يجوز لكون المقبوض أكثر ثمنًا مما لم يقبض، فيقدر رأس المال تقديرًا ولو كان لا قدر له كعشر أرادب من المائة. ¬

_ (¬1) هكذا ولعلها عيبًا.

فإن مالكًا استخفه وابن المنكدر كرهه. والجواب عن السؤال السابع: أما إذا كان رأس الم الذي الطعام دارًا، فسكنت، وأكريت أو فرغ عقد الكراء، أو غنمًا فحلبت، أو عبدًا فاستخدم. فإن هذا النوع من الانتفاع لا يمنع من الإقالة، إذا كانت الأعيان المقيلة باقية على حالها لم تتغير. وأما إن كان الاغتلال في الغنم من ناحية صوفها، فإنه إن اشتراها وعليها صوف فجزّها، وأقال منها على ردها دون صوفها، فإن ذلك لا يجوز، لكونه إقالة على أقل من رأس المال، كمن أسلم سلعتين وطعامًا، فإنه لا يجوز له أن يسلم بله (¬1) على أحدهما. وإن أمسك الصوف، وأقال عليها مجردة منه (¬2) فما ينوبها من الطعام، فإن هذا يجري على ما قدمناه من الإقالة على ما ينوب المقال بالتقويم. وإن أقال على ردها وردّ صوفها معها فإن ذلك جائز. وينبغي عندي أن يعتبر (هل يتخذ إجارة فيكون كالإقالة حتى استوحده) (¬3) فإن هذا أمر طويل، والغالب أنها تتغير فيه وتغيرها يمنع من الإقالة. وأما إن كان رأس المال شجرًا لا ثمر فيها حين عقد السلم، فأثمر وجدّ الثمرة، فإن الإقالة لا تمنع، لكون رأس المال لم يتغير عنه. وأما إن لم يجد الثمرة فالإقالة تمنع لأجل أن الثمرة وقت الإقالة، إن كانت لم تؤبّر ورد الشجرة بعد (¬4) الثمرة التي لم تؤبر، فقد رد رأس المال، وهو الشجرة المجدودة، وزاد عليها ما بها من ثمر لم يؤبر، وإن استثناه واشترط بقاءه إلى زمن الجداد، فإنه استثناء لا يجوز، لأنا نمنع من باع شجرًا فيها ثمر لم يؤبر من استثنائه على ما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وإن كانت قد أبرت، وأقال على رد الشجر بثمرها، فكذلك أيضًا هو زيادة على رأس المال يمنع من جواز الإقالة. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: بما. (¬3) كلام غير واضح في النسختين. (¬4) هكذا ولعل الصواب مع.

وإن استثناها من عليه السلم واشترط بقاءها إلى الجداد، فإن ذلك أيضًا يمنع، لكون رأس المال الذي هو الشجر لم يسلّمه إلى من أسلم إليه، بل يتأخر قبضه له إلى جداد الثمرة، وتأخير رأس المال والإقالة ممنوع. وإن وقعت الإقالة مطلقة فها هنا تنازع الأشياخ: فبعض أشياخي يرى جواز الإقالة لكون سلم الشجر المقيل عليها يطالب بجدّ ما بها من ثمر حتى يتمكن من تسليم رأس المال إلى ربه من غير تأخير، لكون التأخير يفسد الإقالة، والتعاقد إنما يحمل على ما يجوز في الشرع، وأيضًا فإن لفظ الإقالة يشعر برد رأس المال على ما كان عليه، ولا يمكن رده على ما كان عليه إلا بجد الثمرة في الحال. ومن تقدم هؤلاء من الأشياخ يرى فساد الإقالة لكون بائع شجر فيها ثمر مؤبر من حقه أن يبقي الثمر إلى الجداد، وإن لم يشترط ذلك، وإذا كان من حقه هذا، في البيع وإن لم يشترطه، كان ذلك من حقه في الإقالة، وإذا كان ذلك من حقه في الإقالة فقد دخل على إقالة فيها تأخير رد رأس المال. وينفصل من حكيت عنه من أشياخي عن جواز هذا بأن الأصل فيه أنه لا يمكن بائع الشجر من بقاء الثمر المؤبر فيه، لأنه إذا أزال الشجر من ملكه لم يملك أن يحمل له ثمرته، كمن باع مخزنًا له فيه قمح، فإنه ليس من حقه أن يتمادى على الخزن فيه، لكن جرت العادة في التبايع بإبقاء الثمرة إلى الجداد وإن لم يشترط ذلك أيضًا، ولم يجدْ هذه العادة في الإقالة فأبقيت على الأصل الذي قررناه، مع كون لفظة الإقالة تقتضي رد الشجرة فارغة كما أخذها. هذا حكم الشجر إذا أسلمت ولا ثمر فيها فأثمرت عند قابضها ثم تقايلا فيها. وأمّا إن كانت حين السلم، فيها ثمر، فإنه لا يجوز إسلامها في طعام، كان ثمرها مؤبرًا أو غير مؤبر. وإن كان على حال لا يصلح إلا لعلف، فإنه ينتقل إلى ما يكون قوتًا للإنسان وطعاما له، فيكون حينئذ قد أسلف طعامًا في طعام، ولم يقدر ما بالشجر من ثمر ملغىً لا حصة له من الثمر. وذهب ابن

مسلمة إلى أنه إنما يقدر أنه مُلغى ما لم تَزْهُ الثمرة لكونه قبل الزهُوّ لا يحل بيعه، وإذا لم يحل بيعه على التبقية، (وهو إذا بيع على الجداد لم يكن له ثمر له مقدار يوجب أن يلقى (¬1)، فإذا أزهى لم يكن بيعًا لجواز بيعه حينئذ على الإطلاق فيكون ثمنه له مقدار). وذهب سحنون إلى أنه ملغى ولو أزهى، كحلية السيف، ومال العبد، فإن حلية السيف بفضة هي بيع للنصل لا يحرم ذلك بذهب إلى أجل، لكون الذهب الذي هو ثمن مؤجل أنه (¬2) ربا عوضًا عن النصل، دون ما فيه من فضة. وكذلك مال العبد إذا كان دنانير، واشترى العبد، واستثنى ماله، بدنانير مؤجلة، فإن ذلك يجوز لكون مال العبد لا حصة له من الثمن الذي اشتري به العبد، لا سيما على مذهبنا أن العبد مالك ماله لم يعاوَض على المال، وإنما عاوض عن عبد ذي مال. فإن قلنا بمذهب ابن مسلمة وأسلم الشجر وفيها ثمر مؤبر، فانتقل إلى الزهو، أو قلنا بمذهب سحنون فأسلم شجرًا فيها ثمر قد أزهى فانتقل إلى اليبس، فإن الإقالة لا تجوز، لأنه إن أبقى الثمر لنفسه وأقال على الشجر مجردة، فإنه قد استمسك ببعض رأس المال الذي أسلم إليه، وهي الثمرة التي كانت مأبورة أو مزهية، والاستمساك ببعض رأس المال يمنع من الإقالة. وإن أقال على الشجر وسلم ما فيها من ثمر، فقد سلم الثمر وهي على حالة أفضل مما أخذها عليه، ونمت في يديه، وصارت الإقالة على أكثر من رأس المال، وقد تقدم أن الزيادة على رأس المال أو النقص منه يمنع من الإقالة. وإن وقعت الإقالة على الشجر بما ينوبها من طعام السلم، فإنا قدمنا الاضطراب في الإقالة في الطعام على بعض رأس المال، لما ينوبه في التقويم. فإن قلنا يجوز ذلك فإنه يعرض ها هنا معنى. آخر يمنع الإقالة، وهو أن الثمرة إذا أمسكها لما ينوبها من الطعام الذي أسلم إليه فيه أتُّهِما على أن يكونا تعاقدا على ذلك، والتعاقد على بيع ثمرة مؤبرة بشرط التبقية إلى الجداد بطعام مؤجل يمنع، لكونه بيعًا للثمر قبل زهوه، وعلى بيع سحنون يمنع لكونها إذا أزهت كانت ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب يلغى. (¬2) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.

طعامًا من غير خلاف، فيتّهمان على أن يكونا تعاقدا على إسلام طعام في طعام إلى أجل وهذا ممنوع. ولما قدرنا امتناع الإقالة لتغير رأس المال وذكرناها. هذا عن أصل سحنون (علة الامتناع لعلة أخرى غير تغير رأس المال) (¬1) لكون إسلام طعام في طعام إلى أجل يتصور ها هنا من جهة التهمة وحماية الذريعة، فكذلك أيضًا لو اشترى طعامًا غائبًا ثم أقال منه فإنه يمنع لكون ثمن الطعام عليه دينًا، فدفع عنه طعامًا غائبًا، ودفع سلعة غائبة عن دين في الذمة لا يجوز، لأنه يقدر فيه فسخ دين في دين، على ما وقع في المذهب من الاضطراب. وهذا الأصل للإشكال الذي عرض فيه وذلك أنه لا إشك الذي أنه إذا فسخ دينًا في الذمة في دين آخر يتأخر قبضه، فإن ذلك ممنوع، وإن أخذ عنه سلعة بعينها قبضها في الحال فإن ذلك يجوز، إذا لم يمنع مانع، وقد قدمنا الموانع في المعاوضة عن الديون. وإن أخذ سلعة بعينها غائبة فإنها تشبه فسخ الدين في الدين، لما في قبضها من تأخير، وشبه السلعة المقبوضة في الحال لما فيها من تعيين الخلاف، لكنها تخالف السلعة المقبوضة بالتأخير، وتخالف فسخ الدين في الدين لما في قبضها من تأخير، وتخالف فسخ الدين في الدين بالتعيين. فوقع الاضطراب فيهالأولأجل هذا منع في المشهور من المذهب الإقالة من سلعة غائبة. وإن كانت عرضًا لا طعامًا لم يتصور فيها من تقدير فسخ دين في دين، وكأنه دفع العرض الغائب الذي اشتراه عما وجب عليه من ثمنه، وإن كان أشهب أجاز الإقالة من العروض الغائبة، ووافقه يبيح، وقال بأن الذمتين ها هنا تبرأ (¬2) بهذه الإقالة من هذه المعاملة ولا ينعقد، بخلاف فسخ دين في دين الذي لم تبرأ منه الذمة بل انعقد الدين فيها. ورأى بعض أشياخي أن هذا التعليل يقتضي جواز الإقالة في الطعام الغائب، لكون الإقالة فيه تحل به المعاملة، وتبرأ به الذمم، فكأن الدين الذي هو ثمن الطعام الغائب لم يقدر حصوله في الذمة لكون المعاملة عليه قوإنحلت، لا سيما على القول: إن الإقالة حلّ للبيع لا ابتداء بيع. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) هكذا في كل النسخ، ولعل الصواب: تبرآن.

ومما ينخرط في سلك الإقالة، وقد تغير رأس المال: من أسلم في طعام فقبض بعضه لما حلّ أجله ثم أقال فيما بقي، فإن ذلك لا يجوز، لأنه يقدر أن المقبوض انعقد به (البيع) والمقال فيه الذي لم يقبض قد ردّ رأس ماله فقدر سلفًا، فصارت هذه الإقالة كبيع وسلف. ولو أقال من الجميع، ما قبض وما لم يقبض، وكان المقبوض كثيرًا، فإنه يمنع؛ لأنه لما قبض صارت الإقالة مانعة لما اكتاله وقبضه، وانتقل ضمانه إليه، ولكنه لم يفعل هذه المبايعة إلا بشرط أن يقال في المال، والإقالة بشرط بيع سلعة أخرى تمنع. بخلاف لو أقاله من جميع السلم، ولم يقبض منه شيئًا، فإنّ ذلك جائز، لكونه لا يتصور فيه ما قررناه من تغير رأس الم الذي الإقالة. لكن لو كان المقبوض يسيرًا كعشرة أرادب من مائة إردبّ، فإن مالكًا استخفه ليسارة المقبوض، وبُعد التهمة فيه لنزارته، وكرهه ابن القاسم لما يتصور فيه من إقالة بشرط سابق والله المستعان. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: إذا أسلم رجلان إلى رجل فولّى أحدهما نصيبه إلى رجل، فورثه عن ذلك الرجل جماعة؛ أو ولاه لِجماعة، فإن كل واحد من هذه الجماعة يجوز له أن يقيل من جميع نصيبه الذي صار إليه بالتولية وبالميراث، ولا يجوز له أن يقيل من بعضه. وقدر في هذه الرواية أن أحد الورثة إذا ورث نصيبًا من ذلك السلم فإنه يحل في نفسه محل من كان له أصل السلم. وقد قدمنا أن من كان له أصل السلم يجوز له أن يقيل من جميع السلم لا من بعضه، وكذلك الوارث يحل محل الموروث منه فتباح له الإقالة من جميع نصيبه لا من بعضه. وقد عرضنا المنع من إقالته لبعض نصيبه بأن من كان له السلم في الأصل وتولى عقده، إنما منع أن يقيل من بعض السلم حماية للذريعة لئلا يكون أظهر عقدًا صحيحًا وأبطن أنه يسلف من رأس المال (أقال فيه بشرط منه المسلم إليه المبيع بقي الباقي الذي لم يقل منه) (¬1). وهذه المواطأة إنما تتصور في عاقد السلم، ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ.

وأمّا من ورثه عنه فلا يتصور فيه أنه واطأ المسلم إليه على بيع وسلف إذا (¬1) لم يكن له حين العقد حق في العقد ولا في الملك. وهذه المعارضة صحيحة إذا اعتبرنا علة عاقد السلم من الإقالة من بعضه لإمكان المواطأة على ما لا يحل بينه وبين المسلم إليه. وهذه المواطأة لا تمكن في وارثه. لكن أصل المذهب لا يعتبر هذا، ألا ترى أن علة المنع من اقتضاء طعام من ثمن طعام التهمة أن يكون المتعاملان أبطنا العقد على طعام مؤخر وأظهرا أن العقد بدنانير، ثم حدث لهما رأي في أخذ طعام غير هذه. ولو أحال بائع الطعام على ثمنه من له عليه دنانير مثل ثمنه فإن المحال يمنع ها هنا من أنْ يأخذ إلا ما كان يجوز لمحيله أن يأخذه، وقد كان محيله ممنوعًا من أن يأخذ من ثمن طعامه وكذلك يمنع من ينسب له إلى هذا الثمن أن يأخذ لها ما يكون يد هذا المحال محل يد هذا المحيل، مع كون هذا المحال بالثمن لا يتصور فيه المواطأة (المشتري الطعام) (¬2) على بيع طعام بطعام، إذ البيع انعقد ولا حقّ له في هذا الثمن ولا في الطعام المبيع. ولم يعارضوا هذا لأجل ما أشرنا إليه من كون من نُسب لشخص حل محله في المال الذي ينسب (له) (¬3) إليه. وعارض بعض الأشياخ أيضًا إجازة إقالة الوارث من جميع نصيبه الذي ورث، وقال: إن الميت الذي ورث عنه هذا الطعام كان ممنوعًا من أن يقيل من بعض الطعام، ونصيب أحد الورثة هو بعض الطعام الموروث منع من الإقالة في جميع نصيبه، كما كان يمنع من ورث هذا عنه من (الرواة) (¬4) من بعض هذا الطعام. وهذا أيضًا يقال فيه: إن من عقد السلم وأقال من بعضه كان (¬5) أحسن الإقالة لما سواها، أقال فيه فتطرقت التهمة إليه لما قدر على الإقالة في الكل ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: إذ. (¬2) هكذا في جميع النسخ. (¬3) هكذا في جميع النسخ. (¬4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: الإقالة. (¬5) بياض في جميع النسخ، بمقدار كلمة.

فأقال في البعض، وهذا الوارث لا يملك سوى نصيبه على الإقالة، ولا قدرة له من نصيب من الشركة في الميراث، فلما لم يقدر على الإقالة من أكثر من نصيبه أبيح له ذلك، بخلاف من ورث هذا النصيب عنه. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: إذا أسلم رجل إلى رجلين في طعام أو غيره، جاز لِمن له السلم أن يقيل أحد الرجلين المسلم إليهما من جميع ماله إليه، لأنه، وإن اشتمل العقد على المسلم إليهما جميعًا، فكل واحد منهما كمن انفرد بالعقد دون صاحبه وإقالة منفردة لمنفرد جائزة من كل السلم لا من بعضه. لكنه ذكر في المدونة أنه إذا كان كل واحد من الرجلين المسلم إليهما حاملًا لِما على صاحبه أيهما شاء أخذ بحقه فإنه يمنع من له السلم بإقالة أحدهما. ولو أقاله من جميع ما عليه فاختلفت طرق الأشياخ في هذا، فأما أبو القاسم بن الكاتب فإنه علق المنع من الإقالة لأجل الحمالة يكون المسلم مستحقًا لطلب العمل ها هنا بالحمالة كما يستحق طلابها بحكم المعاملة والمبايعة، ويرى أن اشتراطه في المدونة أيهما شاء أخذ بحقه (¬1) على أن المنع إنما يتعلق إذا وقعت الإقالة وقد استحق طلب المقال بالحمالة لأجل أنه إذا استحق طلبه بما عليه بحكم المبايعة وما عليه بحكم الحمالة صار مستحقًا لجميع السلم على رجل واحد، وقد قررنا أن الإقالة من بعض السلم لا تجوز، فإذا استحق طلب الجميع على هذا المقال منع من أن يقيله مما بايعه فيه، لأنه بعضٌ لما استحقه عليه ولو سقط من الرواية هذه اللفظة وهي قوله: أيهما شاء أخذ بحقه؛ لم تمنع الإقالة إذا كان من لم يقل حاضرًا موسرًا، حتى لا يتوجه على هذا المقال الأداء عنه بالحمالة. وهذا أيضًا على أحد قولي مالك: لا يستحق طلب الحميل إلا مع تعذر أخذه من الغريم؛ فتكون هذه اللفظة إنما قيد بها في المدونة لهذه الإفادة التي أشرنا إليها. ولو قيل بإحدى الروايتين أن لمن ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.

له البينة طلب الحميل وإن كان المتحمل عنه حاضرًا موسرًا، فإنه لا يفتقر إلى التقييد بقوله: أيهما شاء أخذ بحقه؛ لكون التخيير على هذه الرواية يجعل لمن له الطلب وإن لم يقل هذه اللفظة بشرط التخيير في طلب من شاء منهما. ومن الأشياخ من رأى أنه يمنع من هذه الإقالة ولو قلنا بإحدى الروايتين وهي منعه من طلب الحميل مع قدرته على الأخذ من الغريم، لأنه من الممكن إفلاس غريمه قبل أن يصل منه إلى حقه، فعود الطلب على الحميل (¬1) الحميل وفي هذا الطلب غير موثوق بها بل (¬2). والمذهب ها هنا كالمتحقق من توجه الطلب ذكر عن الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد والشيخ أبي الحسن القابسي رحمهما الله أنهما منعا من هذه الإقالة، وإن لم يتصور فيها العلة التي من أجلها منع من أداء السلم من الإقالة في بعض السلم، وهي التهمة على التعاقد في الباطن على البيع والسلف، فرأى أن من له السلم يمنع من هذه الإقالة، وإن لي يغب أحد من المسلم إليهما على رأس المال. ونحن نجيز الإقالة من بعض السلم إذا لم يغب على بعض (¬3) رأس المال المسلم على ما قبض من الدنانير، لأنه إذا لم يغب على رأس المال لم يتصور فيه السلف. وإذا لم يتصور السلم لم تمكن في الإقالة التهمة على البيع والسلف. وسلكا مسلكًا آخر غير ما قدمناه عما سواهما من الأشياخ، وقدرا أن هذا المقيل إن أقال على أن يبقى المقال حميلًا فقد تغير رأس المال فصار في حكم من أقال على بعضه؛ لأن رأس المال ها هنا دنانير وحمالة، وقد قدمنا أن الإقالة على بعض رأس المال لا تجوز. وإن أقال على سقوط الحمالة فإنه بايع المقال على إسقاط وضمان عنه، والبيع على ثبوت الضمان أو إسقاطه لا يجوز. فأمّا ما يعتل به من وقوع الإقالة على الحمالة فهو اعتلال صحيح لأنه يتصور فيه الإقالة على بعض رأس المال. وأما ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ. (¬2) كلمة غير واضحة في جميع النسخ. (¬3) في (ش): قبض.

الإقالة من جملة ما احتمل (¬1) العقد عليه من طعام وحمالة فإنه يبعد تصور المنع فيه؛ لأن هذا الضمان والحمالة من نفس هذا المقال، أو جزء من أجزاء المعقود عليه، وإذا وقعت الإقالة في العقد على ما هو عليه، وكانت الإقالة فيه كالبيع للطعام المعقود عليه، والطعام الذي هو مقصود قد سقط، فقد سقطت توابعه بسقوطه، كما سقطت الحمالة أيضًا عن هذا الذي لم يقل وبصاحبه المقال، لكون ما تحمل به عنه سقط بالإقالة، لا سيما إذا قلنا: إن الإقالة حل للعقد من أصله، وإذا حلّ العقد من أصله فكأنه لم يكن ولم يعقد. وهذا يلخص ما يشار إليه من كون الإقالة وقعت على إسقاط ضمان، لأن المبايعة على إسقاط ضمان المال لا تعلق له بالعقد المقال فيه يتصور الغرر فيه في المعاوضة على ثبوت ضمان أو إسقاطه. ولما ذكر في المدونة الحمالة لكل واحد من الرجلين لصاحبه فلننبِهك على أن هذه الحمالة إنما جازت لكون كل واحد إنما يتحمل عن صاحبه بمثل ما تحمل عنه في عقد واحد مشترك بينهما، فلا غرر في هذه الحمالة، بخلاف أن يبيع كل واحد منهما سلعة، ينفرد بملكها، على أن يتحمل كل واحد منهما عن صاحبه بدرك سلعته، لأن هذا يتصور فيه الغرر والخطر، لجواز أن يستحق سلعة أحدهما فيخسر الآخر الذي تحمل عنه، ولا يخسر هو، وكل واحد منهما قد يقدر في نفسه أن صاحبه يخسر دونه، فكأنهما تخاطرا في هذه الحمالة، مع كون المتحمل له يزيد في الثمن لأجل الحمالة، فيكون (رادًا لمعنى) (¬2) منهما في ثمن سلعته ليتحمل به عن (الفقر) (1) وهذه المبايعة للضمان ولا .. يجوز. فإذا كانت السلعة مشتركة بينهما نصفين، فكل واحد منهما يأخذ نصف الزيادة التي زيدت لأجل الضمان، فلا يكون في هذا ضمان بجُعل ولا تخاطر بينهما. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: إذا أسلم ثوبين في فرسين: أن الإقالة على أعيان الثوبين من جميع السلم ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: اشتمل. (¬2) هكذا في جميع النسخ.

أو من بعضه جائزة تغير الثوبان أو لم يتغيرا، لأن يبيع الفرسين بالثوبين نقدًا أو إلى أجل جائز. فكذلك لو أقال على أعيان الثوبين وزاد معهما سلعة أخرى فإن ذلك جائز، ما لم تكن هذه الزيادة من جنس المسلم فيه، مثل أن يقيله على أعيان الثوبين، ويزيده مثل أحد الفرسين، فإن ذلك لا يجوز، إلا أن يشترط أخذ هذه الزيادة عند محل أجل السلم، فإنه إذا اشترط أخذها عند محل أجل السلم، صارت الإقالة إنما انعقدت على أحد الفرسين بالثوبين، وقد قدمنا أن الإقالة على أعيانهما تجوز عن السلم كله وعن بعضه، فإذا اشترط تعجيل هذه الزيادة صارت هذه الإقالة معاوضة عن التعجيل، وكأنهما قصدا المعاملة بالثوبين على إسقاط أحد الفرسين وتعجيل الفرس الآخر، والمعاوضة على التعجيل لا تجوز لما قررناه فيما تقدم من سلف جر منفعة، ومن معنى حطَّ الطعامين (¬1) وأزيدك، وضع وتعجّل؛ والبيع والسلف في مثل هذه المعاني. (وإن كانت الإقالة على مثلي الثوبين، والمقال عليهما حاضران، جازت الإقالة ها هنا على مثلي الثوبين وزيادة معهما؛ فإن هذا أيضًا يمنع لكون هذه الزيادة تشعر بأنهما قصدا إلى سلف ثوبين ليرى مثلهما وزيادة معهما وتكون عوض الانتفاع بالسلف) (¬2) وإن كان ابن المواز قد ذكر في كتابه أن كل ما خرج من يدك على وجه المتاجرة مما له مثل، فإنه لا يجوز لك أن تأخذ عوضه إلا ما يجوز أن يسلمه فيه إلى أجل، لأن الثياب وما في معناها مما يقضى فيه بالقيمة لاختلاف الأغراض فيها، وكونُ القضاء بالقيمة يشعر باختلاف الأغراض فيها. وسنبسط الكلام على هذا في كتاب بيوع الآجال إن شاء الله تعالى. وهكذا أيضًا ذكر ابن المواز عن ابن القاسم أنه يجيز ما قدمنا نحن المنع منه وذلك أنه أجاز الإقالة على أن يعجل أحد الفرسين قبل أجله، ولم يقدر هذا التعجيل سلفًا ممن ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، والصواب: الضمان. (¬2) ما بين القوسين من قوله: وإن كانت الإقالة على مثلي ... إلى: عوض الانتفاع بالسلف ... هكذا نصه في جميع النسخ.

عليه السلم يسلفه لمن له السلم ليقبض هذا السلف من نفسه وإذا (¬1) حل الأجل فيكون هذا إذا قدر سلفًا ممنوعًا، لكونه انعقد على بيع وسلف: فالبيع سقوط أحد الفرسين عمن عليه السلم، والسلف تعجيل الفرس الثاني سلفًا لمن له السلم ليأخذه عند أجله مما يجب له عليه حينئذ. وكأن ابن القاسم لم يقدر في هذه الإقالة هذا التقدير ورأى أن الفرس المعجل هو حق عجله قبل وقته، ولا يكون سلفًا يقبضه من نفسه إذا حل الأجل، لأن هذا لو كان كذلك لوجب، إذا حل الأجل وعلى من له السلم غرماء ولا وفاء عنده بديونهم، أن يكلف من عليه السلف إخراج الفرس الباقي في ذمته إلى الأجل، تحاص فيه غرماء؛ لأنه لم يعجل غرماء عليه، وإنما عجل سلفًا يأخذه مما عليه، والذي عليه قد استحقه غرماء المتسلف وهو أحدهم فيجب الحصاص فيه. وهذا الذي احتج له به قد يجاب عنه لأنه إنما قدرها هنا كالسلف من باب حماية الذرائع، والاحتياط من النظر، وإلى ما لا يجوز في بياعات الآجال وليس بسلف محقق يشترط كونه سلفًا، وإنما خيف أن يكونا قصدا لكونه سلفًا منه مع تجاوزٍ، هذا لو قدر سلفًا لكان قد انحال هذا بما أسلف على ذمة نفسه هو حائز قابض لما في ذمة نفسه حين الإقالة، وأخذ الغرماء إذا قبض دينه قبل أن يفلس غريمه مضى قضاؤه. وكذلك لو أحيل عليه قبل قيام الغرماء فكذلك ها هنا. وطريقة بعض أشياخي في هذا أن الاختلاف الواقع في هذا السؤال إنما ينبني على اعتبار ما في الذمم مؤجلًا هل يقدر عند المعاملة والمعاوضة فيه كالحال أم لا؟ وعلى هذا انبنى الخلاف فيمن له دنانير مؤجلة في ذمة رجل فأراد أن يأخذ عنها دراهم مؤجلة، فإن المشهور من المذهب منع ذلك، لأنه يقدر فيه أنه عجل هذه الدراهم ليأخذ صرفها من نفسه إذا حل الأجل، ووجب أن يقضى ما عليه من الدنانير، والصرفُ المستأخر حرام، وهذا منه. (والقول له آخر السائد) (¬2) عندنا أن ذلك يجوز، لأنه يقدر فيه أن الدراهم لما تعاملاها عوضًا ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب حذف الواو. (¬2) هكذا في جميع النسخ.

عن الذهب قدّر أن الذهب كالحالّ ووقعت المصارفة عنه وهو كالحال، وعندنا أنه يجوز أن يؤخذ عن الدنانير الحالة في الذمة دراهم معجلة، وهذا منه. وربما دلنا هذا الخلاف في تقدير ما في الذمة من المؤجل هل هو كالحال أم لا؟ على ما عرف من اضطراب أهل المذهب في العقد إذا التزم متضمنًا بحكمين هما كالمتدافعين، ما الذي يقدّر سابقا منهما، مثل قول السيد لعبده: إن بعتك فأنت حر، فباعه، فالمشهور أنه يعتق عليه، وقدر أن انعقاد بيعه كالمتأخر عما يقتضيه بيعه من الحرية. ومن ذهب إلى أنه لا يعتق قدّر أن انعقاد البيع سابق لما تضمنه البيع من حريته، فصار ملكًا للمشتري، والبائع لا ينفذ عتقه فيما باعه إذا أحدث عتقه بعد البيع. وكذلك ها هنا هذه المعاملة تقتضي براءة ذمة من عليه السلم أو عليه الدنانير المؤجلة، فهل يقدر انبرام البيع كالمتأخر عن براءة من عليه الدين، فتكون المعاوضة كأنها وقعت عن أمر قد حل، أو يقدر انعقاد البيع وانبرامه كالسابق على براءة ذمة الغريم، لكون ما عليه كالحالّ فمنع. وهذا يبسط إذا تكلمنا على المسائل المبنية عليه. وأمّا ما ذكره في هذه المسألة فإنا أوردناه لكون هذه المسألة فيها ملاحظة لهذا الأصل. وقد ذكرنا عن ابن القاسم إجازته للإقالة بشرط تعجيل أحد الفرسين، وذكرنا أن الزيادة على الثوبين إذا كانت مثل أحد الفرسين معجلًا فإن ذلك لا يجوز. وعلى مقتضى ما حكمنا (¬1) عن ابن القاسم في إجازته اشتراط تعجيل أحد الفرسين المسلم فيهما، فإنما اشترط تعجيل حق نفسه فلا يكون ذلك سلفًا وأنه اشترط في الزيادة تعجيل بملك، أشعرت هذه العبارة يكون سلفًا. وأما إذا وقعت له إقالة على أحد مثلي الثوبين أو مثلي أحدهما خاصة أو مثل أحدهما وعين الثوب الآخر فإن الإقالة على هذه الأوجه الثلاثة تجوز إذا انعقدت في جميع السلم. وأمّا إن كانت في بعض السلم فإنها تمنع لما تضمنته من سلف جر منفعة. فإذا كانت الإقالة على مثل الثوبين عن كل السلم جازت، وإن كانت عن بعضه صار ما بقي من السلم مما لم يقع فيه إقالة عوضًا لانتفاعه بالثوبين اللذين رد مثلهما. وإذا كانت الإقالة في كل ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: حكينا.

السلم لم يتصور ها هنا سلف جر منفعة، إلا أن يشترط زيادة على الثوبين فيمنع ذلك، سواء وقعت الإقالة على كل السلم أو على بعضه، لأن هذه الزيادة إذا ردت مع مثلي الثوبين كانت عوض انتفاع بهما. وكذلك إذا كانت الإقالة على مثل أحدهما وعين الآخر، وانعقدت على بعض السلم، فإن الثوب المردود بعينه لم يقع عليه سلم، والثوب المردود مثله سلف، وعوض المنفعة ما بقي في ذمة المسلم إليه. ولو كانت الإقالة على عين أحدهما جازت عن كل السلم وعن بعضه، إذ ليس ها هنا رد مثلٍ يقدر سلفًا، ولا وجه آخر يمنع من ذلك. وكذلك في الكتاب إذا باع عبدًا بمائة دينار إلى سنة فأقاله بخمسين دينارًا: إن ذلك جائز إذا أخرت الخمسون الأخرى إلى أجلها، وأما إن شرط تعجيلها فإنه يعلم مما قدمناه أن هذا ممنوع، وينقض هذا العقد، ويُرد بهذا العبدُ إن فات في يديه، أو قيمتُه وإن كانت أقل من الثمن، ولا يكون هذا كما قيل في بياعات الآجال: إن السلعة إذا فأتت فلا ترد قيمتها إن كانت أقل من الثمن؛ لأن بياعات الآجال البيعة الثانية إنما تعتبر لتعلقها بالأولى، وهذه المسألة لا تعلق البيعة الأولى بالثانية فلا يمنع، والله المستعان. والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: ذكر في المدونة أن من أقال من طعام أو عروض أو ولّى أو باع من ذلك دينًا على آخر، فإنه لا يجوز أن يؤخر ذلك ساعة، ولا يكون إلا يدًا بيد، لأنه إن تأخر صار دينًا بدين، وكذلك الصرف لا يحل أن يفترقا قبل القبض فكذلك هذا. وهذا الكلام الذي وقع في المدونة اختلفت عبارة المتأخرين في معناه، فأمّا الشيخ أبو الحسن القابسي، رحمه الله، فإنه أشار إلى أنه لم يرد بهذا الكلام كون هذه العقود تجري على أسلوب واحد في التضمين (¬1) والتأخير، وإنما مراده أنه يجب ألا يتعدى حكم الصرف في التناجز. وجرى بعض الأشياخ على هذا المعنى الذي أشار الشيخ أبو الحسن لتأويله بهذا الكلام فقال: الصرف أضيق ¬

_ (¬1) في (ش): في.

هذه العقود، لأنه لا يجوز فيه الافتراق قبل التقابض، وأوسع منه الإقالة في الطعام والتولية فيه، ثم أوسع من ذلك الإقالة في العروض، وفسخ الدين في الدين، ثم أوسع من ذلك بيع الدين المستقر في ذمة، ثم أوسع من ذلك رأس مال السلم. فهذه سبعة عقود، والشركة عقد ثامن، (ولكن ينوب عنه في هذا الموضع التولية عبارة عن تولية كل الطعام) (¬1) والشركة عبارة عن تولية جزء منه، وحكم تولية الكل أو النعم (¬2) متساوية في حكم التعجيل. وبعض أشياخي يشير إلى أن الإقالة في الطعام والعروض تجري مجرى واحدًا في حكم التعجيل، وهذا ظاهر كتاب ابن المواز لأنه ذكر أن الإقالة في الطعام إنما يجوز فيها التأخير بمقدار ما يدخل إلى البيت ليُخرج رأس المال. وهكذا ذكر في الإحالة (¬3) في العروض أنه إنما يجوز فيها مقدار ما يذهب إلى البيت أو إلى السوق، وإنما بدأنا بالصرف، وذكرنا أنه أضيق هذه العقود لأن الافتراق فيه ممنوع، والافتراق في الإقالة ليدخل بيته فيخرج رأس المال وشبه ذلك يسوغ. وأمّا التولية فإنها إذا كانت في طعام كانت كالإقالة فيه، وإن كانت في عروض فإنها مختلف فيها هل يسوغ اشتراط تأخير دفع رأس المال اليومين ونحوهما؟ فيه الاختلاف الذي ذكرناه. ولم يختلف في أن الإقالة لا يجوز فيها تأخير رد رأس المال ولا يومًا واحدًا، فلهذا كانت أضيق من التولية وما ذكر بعدها، لأن تأخير الثمن فيها يُلحقها بفسخ الدين في الدين، وهو ممنوع، ولهذا جعلناها في مرتبة واحدة مع فسخ الدين في الدين إذا كانت إقالة من عروض. وأما إن كانت إقالة من طعام انضاف إلى فسخ الدين في الدين لغير رأس المال باشتراط التأخير، ونحن نشترط في جواز الإقالة في الطعام ألا يغيَّر رأس المال فيه، لا حسًا ولا تقديرًا؛ فلهذا كانت الإقالة فيه أشد مما عددناه تضييقًا في المراتب التي بعدها. وأما بيع دين مستقر في الذمة، فإنه لما وقع التعاقد على دين مستقر في ¬

_ (¬1) هكذا في كل النسخ، إضافة إلى أن في (ش) عوض ينوب: يثوب. (¬2) هكذا في كل النسخ، ولعل الصواب: أو البعض. (¬3) هكذا في كل النسخ، ولعل الصواب: الإقالة.

الذمة، كان أضيق من تعاقد على أن ذمة المتعاقدين غير مشغولة به، على مذهب المدونة، وعلى ما في الموازية لا فرق بين كون الذمتين مشغولتين في عقد السلم أو كون إحداهما مشغولة بدين مستقر فيها، فوقع البيع بهذا الدين المستقر في الذمة، ولو عقد السلم بشرط تأخير رأس المال اليوم اليومين وقعت الإقالة من هذا العقد، فإن رأس المال تعجل، وليس من حق من عليه السلم أن يؤخره مثل الأيام التي اشترط من له السلم تأخيرها، لأن الإقالة حل للعقد الأول، والمقصود بها إسقاط حق كل واحد من المتعاقدين فيما له من الحق في العقد المقال منه، وهذا يقتضي تعجيل ثمن الإقالة، ولا يجوز ها هنا اشتراط تأخيرها كما أجزناه في العقد المقال منه. ولا يعترض عن هذا بأنه إذا عجل رد رأس المال، وقد أخر عنه أيامًا، فإنه كالمقيل في اليومين رأس المال؛ لأنا إنما نعتبر رأس المال حين قبضه. هذا حكم ما يجوز من اشتراط التأخير ويمنع. وأما لو تأخر رأس المال بغير شرط فإن فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الإقالة تفسد. وقيل: إن الإقالة تصح. وأشار ابن المواز إلى شذوذ هذه الرواية عن مالك وأنه لم يقل بها أحد من أصحابه. وقيل: إنما تفسد بهذا التأخير إذا وقع ذلك من أهل العينة، وأما إذا وقع (من لا يضربه) (¬1) أنه قصد في أصل العقد إلى ذلك، فإن الإقالة لا تفسد. وأصل المذهب مبني على حماية الذريعة، ومقتضى هذا فساد الإقالة، واعتبار من يتهم ومن لا يتهم خلافُ قاعدة المذهب فيم ابن ي على الذرائع. وذكر في المدونة إجازة الحوالة برأس المال على رجل آخر له عنده مثل رأس المال، أن هذا كالإقالة بعرض ورأس المال عين، لأن هذه الحوالة تقتضى على الحلول. ولو أن من عليه السلم وكل وكيلًا ليدفع عنه رأس المال الذي أقيل عليه لجاز ذلك أيضًا، (ولكنه يجوز ومن له السلم من عليه السلم قبل أن يقبض من ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: ممّن لا يظن به.

وكيله رأس المال لأن وكيله على محله) (¬1) ولا يبرأ من عليه السلم إلا بعد أن يدفع وكيله رأس المال. وفي الحوالة لا يفارق من له السلم من عليه السلم حتى يقبض ممن أُحيل عليه رأسَ المال؛ لأن الحوالة يَبرأ من عليه السلم من الطالب برأس المال، فصار مفارقًا له قبل أن يبرأ من رأس المال، وهذا تأخير في الإقالة. ولو اشترى طعامًا وأقاله على مثله، وهما بغير البلد الذي وقع فيه قبض الطعام، (فإن ذلك لا يجوز لأنه إن دفعه بالبلد الذي سميا به ووقعت الإقالة فيه، فذلك بيع الطعام) (¬2) قبل قبضه، لاختلاف أسعار البلدان، وقد قدمنا أن تغير الأثمان في الإقالة في الطعام يمنعها. وإن شرط تأخيره إلى البلد الذي وقع فيه قبض الطعام، فإن ذلك تأخير في الإقالة، وهو ممنوع كما قدمناه. ولو كانت هذه الإقالة في عروض لمنع أيضًا، من شرط تأخير أمثالها بالبلد الذي وقع فيه القبض، لها (¬3) في ذلك من التأخير في الإقالة وفسخ الدين في الدين. لكن لو شرط ها هنا قبض أمثالها بالبلد الذي تقايلا به لجاز ذلك، لأن تغير رأس المال لا يمنع من الإقالة في العروض. وهذا إذا كانت العروض المقال عليها حاضرة عندهما وقت الإقالة، وأما إن لم تكن موجودة عند من يغرمها فإن ذلك يجري على القولين في السلم الحال؛ وقد ذكر في كتاب المرابحة اختلافًا فيمن اشترى بعروض وباع على أمثالها بربح في جواز ذلك. وقد قدح بعض الأشياخ في الإقالة في الطعام قبل قبضه إذا احتيج إلى أداء أجرة في نقله، لأجل ما يتضمن هذا من الإقالة وقد تغير فيها رأس المال وعد ما يؤدي من هذه الإجارة كبعض ثمن الطعام. ولما ذكرنا ها هنا مَا لا بد من ذكره فيما يتعلق بالإقالة في الطعام لأجل ما نبهنا عليه من حكم هذه الإجارة المغيرة للثمن، على ما ذكرناه عن بعض الأشياخ، فلنذكر على من تكون إجارة النقل، ورد المبيع إلى مكانه في الإقالة ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) ما بين القوسين ساقط من (ش). (¬3) هكذا، ولعل الصواب: لما.

ورغب إلى صاحبه فيها، وكأنه استدل من عد أحدهما في الإقالة على أنه كالراضي بأخذها حيث هي، والمكان الذي وقعت فيه الإقالة القياسأل فيها صاحبه ورغب إليه فيها. ومال إلى هذا الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد وأبو الحسن بن القابسي، رحمهما الله؛ وقد قدمنا لك الاختلاف في الإقالة هل هي فسخ للبيع أو حل له أو ابتداء بيع؟. فإن قلنا: إنها ابتداء بيع كان الأظهر أن النقل على من عادت إلى ملكه حكم (¬1) الإقالة لأنه كالمشتري السلعة يريد نقلها إلى مكان آخر، فإنه لا يلزم البائع أن ينقلها له، وإنما عليه تمكينها له وتسليمها له بحسب ما تقتضيه العادة في تسليم أمثالها. وإن قلنا: إن الإقالة حل بيع، فها هنا يقع النظر فيها على من قبضها وصارت إليه بالبيع أن يردها إلى مكانها. فهذا موضع النظر ولو كانت سلعة بيعت بخيار لكان مشتريها بالخيار أن يردها إلى مكانها الذي أخذها منه واشترط فيه الخيار لمنفعة نفسه. ولو ردها بعيب وقد عقد البيع فيها بغير خيار فإن البائع إذا كان مدلسًا عليه بالعيب فإنه لا يلزم المشتريَ أجرةُ نقلها؛ لأنه لو لزمه ذلك لوجب على البائع أن يغرمه له؛ لأنه غره غررًا يؤدي إلى تلف ماله، لا سيما، أيضًا، إن قلنا: إن الرد بالعيب كابتداء بيع، فذلك آكد في أن لا يلزم المشتريَ أجرة النقل. وإذا كان البائع لم يدلس بهذا البيع فإن أجرة النقل إلى مكان القبض على المشتري، إلا أن يؤدي في ذلك ثمنًا يلحقه بأدائه ضرر، فيكون هذا مما يوجب له أخذ القيمة للعيب إن شاء على ما سيرد بيانه في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى. وقد أشرناها هنا إلى الالتفات إلى النظر بالرد بالعيب، هل هو ابتداء بيع أو فسخ بيع؟ فتجري فيه على ما نبهناك عليه في الإقالة. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بحكم.

ومما قد يجري على هذا الأصل الذي نبهناك عليه (¬1) ما ذكر في المدونة فيمن أسلم دراهم في طعام فأقاله على ردهالأولم يغب عليها قابضها، فإن ابن القاسم رأى أن لقابضها أن يرد مثلها ويمسكهالأولو شرط عليه أن يردها بعينها. ورأى سحنون أن من حق دافعها أن ترجع إليه بعينها. فاعلم أيضًا أن تغير (¬2) الدنانير والدراهم فيه اختلاف في المذهب سيرد بسطه في كتاب الصرف. فإذا قلنا: إنها لا تتغير (¬3)، ولا ينفع فيها اشتراط التعيين، وأن الإقالة ابتداء بيع اقتضى هذا ما قاله ابن القاسم من أن لمن هي في يديه أن يعطي مثلها. وإن قلنا: إنها تتغير (3) وأن الإقالة حل بيع اقتضى هذا ما قاله سحنون، لكون العقد قوإنحل فصارت هذه الدراهم كأنها بيد رجل لرجل آخر لم يقع عليها تعاقد، فمن حق صاحبها أن يأخذها بعينها. هذه الفروع المتعلقة بأحكام الإقالة، وقد كنا ذكرنا أنها رخصة، وكذلك الشركة والتولية في الطعام رخصتان أيضًا. فلنذكر الآن حكم التولية. ¬

_ (¬1) بقية الصحيفة 42/ ظ/ وبياض ووقع إتمام النص من المدنية وش. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب تَعَيُّن (¬3) هكذا في النسختين ولعل الصواب تتعين.

فصل في التولية

فصل في التولية يتعلق بهذا الفصل سؤالان منهما أن يقال: 1) ما الدليل على جواز التولية في الطعام؟ 2) وما حكم تغيّر رأس الم الذيها؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: روى ابن القاسم عن سليمان بن بلال عن ربيعة عن سعيد بن المسيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما كان من إقالة أو شركة أو تولية" (¬1). وقد قدمنا نحن الكلام على الإقالة، ولا نعلم في جوازها خلافًا إذا وقعت برأس المال قبل قبض الطعام. وإن لم يقبض الطعام، فإن قلنا: إن الإقالة حل بيع، وليس بابتداء بيع، كان هذا الاستثناء الواقع في الحديث كأنه استثناء من غير جنس، والاستثناء من غير جنس قد ورد في الشرع واللغة. وإن قلنا: إنها بيع، كان استثناء من الجنس ولكن خصت بالجواز، لكونها معروفُ ا، وفي الحديث "كل معروف صدقة" (¬2) وقد ندب الشرع إلى إحسان المسلمين بعضهم لبعض، وهذا من "الإحسان والمعروف، والشرع يندب إليه فاقتضى ذلك أن يعير (¬3) عليه بهذه الرخصة في الطعام. وأعلاه الأوزاعي حتى قال، فيمن قال لعامله: أقلني من هذا الطعام ولك كذا: فإن ذلك لا يمنع. وهذا شرود وخروج ¬

_ (¬1) انظر المدونة ج 4 ص 8 أو المصنف لابن أبي شيبة ح 4 ص 386 ح 2138. (¬2) فيض القدير ج 5 ص 32 حد: 6351. (¬3) هكذا في الأصل.

عن أقوال العلماء سواء أن الربح والوضيعة يشعران بطلب المكايسة والمغابنة وإذا وقعت الإقالة عليها خرجت من المعنى الذي لأجله رخص فيها. وأما التولية فإنها جائزة عندنا في الطعام وإن لم يقبض، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، ورأيا أن الإقالة إنما جازت عندنا في الطعام لكونها حلَّ بيع وفسخَ عقدة والتولية لا ينكر (¬1) أن يتصور فيها هذا مِنْ أنّ مَن اشترى طعامًا فولاه لغيره فإن العقد الذي وقع بينه وبين بائع الطعام منه الفسخ (¬2) باتفاق. (وإن اتفقا على أنه لم ينفسخ لم يتصور وبه بعد بر) (¬3) حله ولا فسخه. ونحن نحتج بالحديث المتقدم، وليس ذلك على الإقالة لأن مشتري الطعام إذا لم يربح ولا خسر ويسمح بأن يولي (ما السنن) (¬4) أشعر ذلك بقصده إلى "الإحسان والمعروف لمن ولاه الطعام الذي اشتراه، فصارت التولية بمعنى الإقالة فأجيزت. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إن ولّى ما اشترى له) (¬5) من الطعام أو أسلم فيه قبل قبضه، وشرط زيادة على الثمن الذي اشتراه به، أو نقصانًا منه، فإن ذلك يمنع، لما قدمناه من كون هذا الاشتراط يشعر بأنه لم يقصد المعروف والإحسان. وإن تقدر الثمن بقدر "الإحسان مثل ما قدمناه أيضًا في الإقالة يمنع أيضًا، كمن أسلم دنانير في طعام وأخذ به رهنًا أو حميلًا لرجل آخر يشترط أن يسقط الحميل والرهن، فإن ذلك لا يجوز لما فيه من تغير الثمن من جهة التقدير؛ لأن ثمن الطعام المشترى على أن يأخذ رهنًا أو حميلًا ثمنه إذا اشتُري بغير رهن ولا حميل بشرط إسقاط الرهن والحميل في التولية يغيّر الثمن، كما بيّنّاه. لكن إن أسقط الرهن والحميل قبل أن يولّي هذا الطعام وولاه بعد ذلك، وبيّن لمن ولاه أنه أسقط الرهن والحميل ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل ولعل الصواب: لا يمكن. (¬2) هكذا في الأصل. ولعل الصواب: لم ينفسخ. (¬3) هكذا في الأصل ولعل الصواب: وإن اتّفِق ... لم يَعتذرْ ربه بعُذْر. (¬4) هكذا في الأصل. (¬5) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: إن ولاه ما اشترى.

بعد أن عقد عليه، فإن ذلك على ما ذكره ابن المواز، وعورض فيه بأن الثمن لم (¬1) عن تغيير في هذه التولية، فإن إسقاط الحميل والرهن قبلها، كما لو أُسقط في حين العقد لها، وكذلك لو أسلم عشرة دنانير في طعام، ثم زاد من عليه السلم في ثمنه دينارًا، قد قيل: لا يجوز في هذه التوليةُ على حال؛ لأنه إن وقعت على العشرة دنانير التي عليها ولم يطالب من ولاه الزيادة التي زادها بعد العقد لأجل العقد، وهي كبعض الثمن، فإن ذلك يمنع لما فيه من تغير الثمن. وإن عقدت التولية على أحد عشر دينارًا فإن ذلك أيضًا يغير الثمن؛ لأن الدينار الزائد على العشرة بقوله (¬2) وتطوع، وهو على من ولاه واجب في عقد التولية، ولهذا تغيّر الثمن. وقيل: بل تجوز التولية إذا ولاه بجملة الثمن وما زاد عليه، وأخبره أن الزيادة تطوعَ بها بعد العقد. كذلك اختلف فيمن اشترى طعامًا بثمن مؤجل هل يجوز له أن يوليه بمثل الثمن إلى مثل الأجل؟ فأجازه مالك ومنعه ابن القاسم وأشهب. وسبب هذا الاختلاف النظر في اختلاف الذمم هل يغير الثمن أم لا؟ فقال مالك: إن الثمن لا يختلف باختلاف ذمة (الثمن المبيع به) (¬3) المولي والمولى فلم يمنع الإقالة. ورأى ابن القاسم وأشهب أن الدين يختلف باختلاف الذمم؛ لأن الثمن المبيع به إذا كان مؤجلًا على غنيّ تثق النفس بأنه لا يعتبر (¬4) بالثمن إذا حل الأجل، فسامح فيه البائع. وإذا بيع بثمن مؤجل على فقير تتخوف النفس منه ألا يجد ما يقتضي منه عند الأجل، يستظهر عليه بالثمن، لأجل ما يترقب من فقره. فصار الثمن مختلفًا في هذه التولية في التقدير ملحقًا بما ذكرناه مما صورنا فيه اختلاف الثمن تقديرًا لا حسًا. وأيضًا فإن العين المؤجل كالعدم. وقد قدمنا أنه لا يفيد التولية على مثل العرض في الرهبان، وأن لما بينا في هذا الثمن المؤجل كتماثل العرضين، وقد ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الأصل. (¬2) هكذا. (¬3) هكذا، والكلام بدونه أوضح. (¬4) هكذا، والأقرب: لا يتعَثَّر.

انتصر بعض الأشياخ لمذهب مالك في هذه المسألة، بأن الإقالة تجوز في الطعام وإن تغيرت ذمة المقال، وتبدلت بالوسع والعسر؛ فاقتضى هذا أن اختلاف الذمم لا يعتبر ها هنا. وهذا لا يلزم ابن القاسم وأشهب؛ لأن الذمة ها هنا ذمة واحدة، وقد وقعت المعاملة عليها، وعقد السلم مع تجوّز اختلاف حالها، وتبدل شأنها بالوسع والعسر، والثمن الذي عقد به السلم قد اعتبر دافعه حال هذه الذمة وما يتخوف، فزاد في الثمن، أو نقص، بمقتضى ما يظهر من حال هذه الذمة في المستقبل. فإذا وقعت الإقالة بعد تغيير الثمن، يكون في الثمن المقال عليه تغير لأجل أن هذا التغير عليه وقع العقد. بخلاف من ولى رجلًا آخر طعامًا اشتراه بثمن مؤجل عليه، فإن هذا لم يقتض العقد بينه وبين من عليه السلم اعتبارَ ذمة المولَّى، كما اقتضى العقد ذمة المقال. وكذلك اختلف أيضًا فيمن أسلم في طعام فلما حل الأجل قبض بعض السلم، ثم أراد أن يولي ما لي يقبض، فإن الخلاف في هذا أيضًا مبني على ما أشرنا إليه من كون الثمن يختلف اختلافًا مفيدًا (¬1) لا اختلافًا محسوسًا؛ لأن السلم إذا عقد على مائة قفيز، فقبض منها خمسين، ثم ولى الخمسين التي لم يقبض بنصف الثمن، فإنها لا يقابلها من الثمن الذي وقع العقد بنصفه ولأن (¬2) المقبوض قد استقبل فيه على التقاضي والطلب، وثمنه إذا بيع معينًا يمكن قبضه في الحال أكثر من ثمن ما لم يقبض، لما يتخوف المولي من مَسعد (¬3) الطلب له وكلفة التقاضي، والثمن إذا اختلفَ مُنِعَتْ التولية. ومن أجاز التولية ها هنا رأى أن العقد إنما وقع من (¬4) وقوعه على أن هذين النصفين من الطعام المتساويين في الثمن، فإذا وقعت التولية على التساوي لم يُتصور اختلاف في الثمن الذي وقع عليه العقد. ولولا ولَّى ها هنا جميع الطعام، ما قبض وما لم يقبض، لمنع؛ لأن المقبوض يكون العقد فيه ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: مقدرًا. (¬2) هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذف الواو. (¬3) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: مَسْعَى. (¬4) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: حين.

بيع (¬1) يحل فيه ويحرم ما يحل ويحرم في العقود على طعام معينٍ، وما في الذمة بخلافه، يعتبر فيه الثمن الذي وقع عليه العقد. فصارت التولية ها هنا إنما وقعت فيما لم يقبض بشرط أن يبيع منه طعامًا آخر، وهكذا يمنع من توليته بشرط تولية آخر مثل أن يقول لرجل: وإلى (¬2) ما أسلمت فيه من طعام على أن أوليك ما أسلمت فيه من طعام. لأن دخول هذا الاشتراط في التولية يشعر بالقصد إلى المكايسة والمتاجرة، والتولية إنما جازت لكونها غالبًا إقالة؛ لأن ما وقع على جهة التبايع طُلب المعاين (¬3) فيه من الطرفين جميعًا غالبًا، فالبائع يحرص على أن يغبن المشتري ويستظهر عليه والمشتري يحرص على أن يغبن البائع فيه والإقالة في غالب العادة إنما يقصد بها رفق أحدهما، وكذلك التولية، فإذا وقع مع العقد فيها مثلُ هذا الاشتراط المشر بقصد المكايسة مُنِعَتْ. وهذا إذا اختلف رأس مال الطعامين واختلف الطعامان في أنفسهما. وأما إذا تماثل الطعامان فهذا ينصرف إلى الحوالة. وسنتكلم على طعام أسلم فيه إن شاء الله تعالى. ومما يمنع أيضًا لما تقدر فيه من اختلاف الثمن في التولية أن من أسلم في طعام بشرط تأخير رأس المال ثلاثة أيام، ثم ولاّه رجلًا آخر فإنه لا يجوز أن يوليه إياه بشرط تعجيل النقد؛ لأن اشتراط تعجيل النقد، وهو قد اشترط تأخيره في العقد الذي وقع بينه وبين من باع منه، يقتضي اختلاف الثمن، واختلاف الثمن في الطعام ممنوع، لكن لو وقعت ها هنا بفور العقد على أن يؤخر المولّى الأيام التي يشترط تأخيرها لنفسه، لمنع ذلك أيضًا على مذهب المدونة في أن بيع الدين المستقرّ في الذمة لا يجوز بشرط تأخيره اليوم واليومين، بخلاف شرط تأخير رأس المال على ما قدمنا بيانه في التولية ها هنا لهذا الطعام (¬4) دين مستقر ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: عقد بيع. (¬2) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ولِّه. (¬3) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: التغابن. (¬4) كلمة غير واضحة.

في الذمة فوجب أن يمنع. وقد حاول بعض الأشياخ إجراء هذه المسألة على الخلاف فيمن اشترى شقصًا بثمن مؤجل، فلم يقم الشفيع بطلب الشفعة إلا بعد حلول الأجل، هل يولّى الشفيع مثل ما أُجِّل المشتري من الأجل الذي يقضى أم لا؟. فإذا قلنا: لا يؤجل، فكذلك التولية ها هنا محمولة على تعجيل الثمن، وشرط تأخيرها يفسدها. وإذا قيل: إن الشفيع يؤجل، أُجل هذا أيضًا على مقتضى إطلاق التولية. وهذا الذي أشار إليه قد لا يصح (يكون يعتبر الأثمان في الشفعة بالتراضي وبالتولية في الطعام يمنع) (¬1). وقد أشرنا إلى كون هذا التأجيل يقتضي اختلاف الثمن، وإذا أقضاه (¬2) منع. ولا تمنع الشفعة ولا تسقط لاختلاف الثمن، ألا ترى أن من اشترى شقصًا بعرض كان الشفيع يأخذه بقيمة العرض، وقيمة العرض خمس فخالف العرض. وقد أشرنا إلى اعتبار اختلاف الذمم في التولية مع كون الشفيع أيضًا قد استحق الشفعة في الزمن الذي انبرم فيه عقد المشتري المنتقض قبل ذهاب الأجل، واستحق أن يأخذ الشفعة بالثمن على ما هو عليه، وهذه التولية ها هنا لم يستحق له العدد انقضاء هذه الأيام المشترط تأخير النقد فيها وهي إنما وقعت بتراضي المولي والمولى، والشفعة لا يفتقر فيها إلى رضي من لا (¬3) يؤخذ من يده. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا نصه في الأصل. (¬2) هكذا في الأصل ولعل الصواب: اقتضاه. (¬3) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: حذف (لا).

فصل في الشركة

فصل في الشركة وقد ذكرنا فيما قدمنا أن مذهبنا أن التولية والشركة رخصتان قد استثنيتا من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه كالإقالة، وذكرنا مذهب من قصر الرخصة على الإقالة خاصة. لكن ذكر أبو الفرج عن مالك أنه يمنع من الشركة في الطعام الذي يقبض (¬1). وهذه الرواية مشابهة لمذهب أبي حنيفة والشافعي في قصر الرخصة على الإقالة، لكنه (¬2) قصر هذه الرواية التي حسماها على الشركة لم يكن عن هذا عندي (من له اعتذار سوى) الشركة (¬3) إنما تكون في بعض المبيع فيسلم لشريكه جزءًا منه ويبيع الجزء بما كان مخالفًا للبيع الجملة، بخلاف التولية التي هي كبيع للجميع بجملة الثمن. وهذا لا يتصور فيه تقدير اختلاف الثمن. ولكن مع هذا أشرنا إليه، وقدمنا بيانه مبسوطًا. يتعلق بالشركة ثلاث مسائل منها أن يقال: 1) هل على الشريك أن يكتال ما اشترك فيه ويضمنه؟ 2) وهل يحمل إطلاق لفظ الشركة على المساواة؟ 3) وهل تجوز الشركة بلفظ السلف؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا في الأصل ولعل الصواب: لم يقبض. (¬2) هكذا في الأصل ولعل الصواب: لكن. (¬3) هكذا في النسختين ولعل الصواب: (من اعتذار سوى أنّ).

ذكر في المدونة فيمن اشترى طعامًا في سفينته فاكتاله ثم أشْرك فيه رجلًا فغرقت السفينة: أن مصيبة الطعام جميعًا منهما، مشتريه ومن شاركه فيه. وهذا يشعر بأنه لا يوجب على الذي اشترك في طعامه كيلًا، إذ لو وجب عليه الكيل لكان ضمانه منه حتى يكتال الشريك ما اشترك فيه، كما يجب على البائع للطعام ضمان ما باعه حتى يكتاله لمشتريه. وإلى هذا ذهب ابن حبيب. وأشار سحنون إلى خلاف هذا، وكتب على المسألة (¬1). وقال فضل بن سلمة: ينبغي أن يكون للطعام (¬2) من مشتري الطعام حتى يكتال لمن أشركه ما أشركه فيه. وأشار بعض الأشياخ إلى أنه ينبغي أن يُجرى في التولية والإقالة والمقبوض (¬3) والهبة هذا المجرى في إسقاط الكيل، بخلاف البيع، لأجل أن هذه المعاني كلها طريقها المعروف، وإذا كان طريقها المعروف والإحسان لم يكلف من قصد "الإحسان شططًا بإيجاب الكيل وأداء أجرته. وأشار إلى أنه قد تختلف هذه المعاني التي ذكرناها كما اختلف في المذهب فيمن وهب لرجل أقساطًا من زيت جلجلان، هل يجب على الواهب عصر هذا الجلجلان حتى يتوصل الموهوب إلى ما وهب له أم لا؟ وفرق ابن حبيب بين هذه المعاني، فسلك في الشركة مسلك المدونة كما حكيناه، وأوجب في التولية والإقالة الكيل على المقيل والمولي إذا غابا على الطعام، فإن لم يغيبا عليه فإن الكيل لا يجب على المقيل ويجب على المولّي. وهذه التفرقة التي فرق فيها بين الإقالة والتولية (إذا لم يقع عليه على الطعام) (3) لا يتضح لها وجه محقق؛ لأن المولي والمقيل إنما عقدا على أنفسهما ما عقداه في هذا الطعام على أن يكون المقال والمولَّى لهما زيادة الكيل في هذا الطعام أو نقصانه والتزمَا قَبُولَ أخذ الطعام على حسب ما رضي به المقيل والمولي في الكيل، وهو لم يغب على الطعام، فيتهم بالخيانة، والبيع الذي طريقه المكايسة يكون للبائع مَقال في زيادة الكيل ونقصانه، على ما سيرد بيانه ¬

_ (¬1) كلمتان غير واضحتين. (¬2) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: الضمان. (¬3) هكذا في الأصل.

إن شاء الله في موضعه. وقد اختلف تأويل الأشياخ لهذه المسألة المذكورة في المدونة، فرأى بعضهم أن هذا الطعام الذي غَرِقَتْ به السفينة شهدت بينة بتلفه، فلهذا أطلق القول بأنه لا يضمنه الذي أشرك فيه، بل يكون الضمان عليهما جميعًا. وإذا لم تقم بيّنة بتلفه فإنه لا ضمان على من أشرك فيه إذا كان ذلك محبوسًا بالثمن، على ما سيرد بيانه في ضمان المحتبس بالثمن إن شاء الله. ومن الأشياخ من رأى أن هذه المسألة وأمثالها يجب أن تخرج عن هذا الأصل، لأجل أن الشركة في الطعام قبل أن يقبض إنما جازت لكونها يقصد بها المعروف فخالفت البيوع بهذا، فكذلك ينبغي أن يخالف أحكام البيوع في الضمان أيضًا. ولو اكتال المشترك الطعامَ الذي اشترك فيه فضاع بقية الطعام قبل أن يكتال، إن ضمان الذي ذهب قبل كيله منهما جميعًا، والذي اكتيل بينهما يكون جميعًا لأجل ما صار في يديه مما اكتيل إنما يعلم استحقاقه لجميعه بعد قيل ما بقي، فإذا ضاع ما بقي قبل أن يستحق هو ما في يديه وجب أن يبقيا على حكم الشركة فيما ضاع وفيما بقي. هكذا ذكر أشهب في كتاب ابن المواز، لكن لو تلف الذي اكتيل في يد من اكتاله لكان ضامنًا لنصيبه الذي قبضه لنفسه ليستبد به؛ لأنه بقي عليه حق التوفية لصاحبه مثل ما صار إليه هو، فهذا رجع إليه صاحبه إذا ضاع ما لم يكتل، ويضمن هو ما اكتيل لأجل أنه قد وفّى لصاحبه ما عليه من قيل. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: هذه اللفظة التي هي الشركة يصلح استعمالها في الشريك يجد من المال كل ذلك الجزء أو أكثر. لكن هذا الجزء إذا نصّ عليه ارتفع الاحتمال، مثل أن يقول: أشاركك بربع هذا المال. فإن لم ينص على هذا الجزء بل ذكر لفظ الشركة مطلقًا فقد قال (¬1) في المدونة في رجلين اشتريا عبدًا شركة بينهما، ¬

_ (¬1) بداية صفحة 43/ ومن الوطنية حيث انتهى النقص الواقع فيها قبل.

فلقيهما رجل فقال: أشركاني معكما ... إنه يكون شريكًا بالثلث، لأنه إنما أراد أن يكون كأحدهما. وهذا الجواب لا يعول عليه في إطلاق لفظ الشركة على ماذا يحمل من الأجزاء، لأنه ذكر في الكتاب أنهما أرادا أن يكون العبد بينهم على المساواة، والمساواة لا يكون له بأن يكون بينهما العبد وقد (¬1) ... أن الشركة إذا قدمت بذكر جزء صِير إليه. وهذا إن أراد أن يكون كأحدهما صار ذلك كالنطق بالجزء، ولهذا قال بعض الأشياخ: إن المسألة محمولة على أنه لقيهما مجتمعين فخاطبهما جميعًا فأجابا جميعًا. لأن هذه الصورة الظاهر أن الخطاب لما كان لهما معًا حمل جوابهما على قصدهما إلى أن يساوي كل واحد منهما. فلو لقي كل واحد على انفراده فسأله في الشركة فأجابه بالإِنعام لاستحق بذلك نصف ما ملكه من هذا العبد وهو الربع فإذا لقي بعد ذلك الشريك الآخر فسأله في الشركة فأنعم له فإنه يستحق أيضًا نصف ما في يديه وهو الربع، فيكون لهذا المنفرد بالسؤال نصفه، والآخريْن نصفه. ولو كانت شركة المشتريين العبدَ على أجزاء مختلفة فسألهما هذا في الشركة فأنْعَمَا لهُ بها، فإنه يكون له نصف العبد لأن كل واحد منهما قد أشركه فيما يملكه، والشركة تقتضي المساواة، فإذا ساوى كل واحد منهما جاز له نصف ما في يديه، فقد ملك نصف العبد. وهذه الطريقة التي سلكها الأشياخ تقتضي حمل لفظ الشركة على المشاركة بالنصف والمشاركة فيما اشتركا فيه، وإنما استدلوا باختلاف الأجزاء أو بالتقاء في مجلسين على أنهما لم يقصدا الخروج على ظاهر لفظ الشركة الذي قدرنا أنه يقتضي المساواة، وعولوا على قوله في الكتاب؛ لأنهما رهنا (¬2) فأشاروا إلى أن اختلاف الأجزاء، وافتراق المجالس لا يظهر معه أنهما أرادا ما ذكر عنهما. وقد قيل في مسألة الكتاب: إن هذا السائل في الشركة يكون له نصف العبد. وهذا الجواب الذي وقع مطلقًا هو مطابق لما ذكرناه عن الأشياخ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قدر. (¬2) مقدار كلمتين غير واضحتين.

من وجوه حمل لفظ الشركة على المساواة إذا لم يقتدو (¬1). وعلى هذا الأسلوب يجري ما ذكرنا عن سحنون في مسألة من أقر بأن هذا العبد الذي في يديه فيه شركة لرجل آخر سماه، أو قال: هو لي، وأراد هو مني (¬2). فإنه ذكر اختلافًا في المذهب في هذا، فقيل: يحمل إطلاق هذا على المساواة في المال. وهذا هو الذي سلكه بعض الأشياخ في مسألة الكتاب. وذكر قولًا ثانيًا وهو أنه يسأل في هذا، فما فسّر به رُجع إليه، وحمل اللفظ عليه، ثلثًا قال، أو ربعا، أو غير ذلك. وذكر قولًا ثالثا أن هذا الإطلاق لقوله فيه شركة، يقتضي المساواة، ما لم يقل: هذا العبد فيه شركة لفلان معي. فإنه إذا قال: معي، حمل على المساواة. واستدلال شهادة اللفظ على قصد المساواة لا يتضح إلا أن يكون صاحب هذا المذهب تكلم على قوم لا يستعملون هذه اللفظة، وهي قوله: معي، إلا مع المساواة، فيصح الاستدلال بها. وهذا الخلاف الذي ذكرناه في إطلاق هذه اللفظة إنما يتصور إذا أطلقها ثم بعد حين قيّدها بثلث أو ربع. فإن كان لا يقبل منه على أحد الأقوال التي ذكرها ابن سحنون، لكونه عند هؤلاء ادعاءَ خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظة. وأما لو وقع المقيّد متصلًا بلفظ الشركة فإنه لا يختلف في كونه لا يطلب بأكثر مما قيده في إقراره. لكنهم (¬3) التقييد في قولهم: لفلان عليّ حق في هذا المال. قبل ذلك الحق بحدّه تقييدًا متصلًا بالكلام أو متراخيا عنه. وكأنهم رأوا أن هذه اللفظة لا تشعر بالمساواة لا من جهة كونها نصًّا فيه ولا ظاهرًا، بخلاف الشركة فإنها إن لم تشعر بالمساواة نصًّا أشعرت به ظاهرًا. فإزالة الخطاب عن ظاهره إنما تقبل إذا كان متصلًا به وأما إذا كان منفصلًا فإنه لا يقبل في ألفاظ المقرّين بالحقوق. وهذا فيما وقع في القرآن أو السنة التفرقة فيه بين متصل ومنفصل يفتقر ¬

_ (¬1) هكذا ولعله إذا لم يعينوا. (¬2) هكذا والكلمة غير واضحة. (¬3) فراغ في جميع النسخ بمقدار كلمة.

إلى تفصيل ذكرناه فيما أمليناه من أصول الفقه. وما ذكرنا من الخلاف في هذا إنما هو في مقتضى لفظ المقرّ إذ أطلق وكان المقَرُّ له لا علم عنده، لكونه وارثًا أو شبه ذلك. فأما إن كان عالمًا بما لَه من الحق في المال المقَرّ بالشركة فيه، فإنه ينتقل الجواب فيه إلى أصل آخر وهو النظر في التداعي في المال المشتركِ. فعلى أصل ابن القاسم يكون ما أقر به كل واحد منهما لصاحبه يُسلَّم إليه، وما اختلف فيه يقسم نصفين. فإذا فسَّر المقر بالشركة ما أراد، وقال: إنما أردت أنه شريكي في هذا العبد بالربع. وقال المقرُّ له: بل بالنصف. فالربع لهذا أو (¬1) النصف لهذا، اتفقا عليه. وبقي الربع المتنازع فيه يتحالفان ويقتسمانه نصفين. ولأجل أن المقرّ بالشركة في عبد في يديه قد تضمن إقراره كون المقَرّ له يده معه على العبد حكمًا لإقراره له بملك جزء منه، فيجري له أمر (¬2) فيه على ما أشرنا إليه من أحكام التداعي في هذا. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد تقرر في الشرع منع البيع والسلف. فإذا شرط المشارك في سلعة على من أشركهُ فيها أن ينقد عنه ثمن نصيبه، فإن ذلك ممنوع، لأنه إذا اشترى سلعة لنفسه، ثم سأل شركة فأنعم له بشرط أن ينقدَ جميع الثمن، فإن ذلك بيع وسلف في النصف الذي سلمه إليه، وسماه شركة بيع باعه منه، واشترط في عقد هذا البيع على أن ينقد عنه البائع ثمن نصيبه الآخر المختص به. وهذا اشتراط سلف، فإن البيع يوجب أن يُمنع. وأمّا إن كان اشتراط السلف من السائل في الشركة، فإنه لا يخلو أن يشترط ذلك في أصل المعاقدة على الشركة، أو يسأل فيه بعد المعاقدة عليها. فإن اشترطه في أصل الشركة لم يخل من أن يكون إنما وقع الشراء على الشركة، مثل أن يقول رجل لرجل: اشترِ سلعة كذا، وأشركني فيها، وانقد عني الثمن. أو يقول له: اشتر السلعة شركة بيني وبينك. فلما ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: (و). (¬2) هكذا في جميع النسخ.

اشتراها قال له: انقد عني. فإن هذا إذا وقع الشراء عليه فإن المتولي للعقد كالوكيل للآخر على شراء النصف. والوكيل يجوز أن يوكل على العقد، وعلى أن يدفع الثمن من عنده سلفًا، إذا لم يقصد بهذا السلف منفعة نفسه. فإذا وقع عقد الشراء على أن السلعة التي اشتريت شركة بينهما جاز اشتراط الموكّل على الوكيل أن ينقد عنه. ولم ينفذ (¬1) هذا في عقد من العقود حتى الصرف، لأجل أن العقد إنما وقع على أن متولّيه لا يملك له نصف ما اشتراه بالنصف الآخر ليس هو بائع له فيقدر فيه البيع والسلف، أو تأخير في مناجزة فيما يجب التناجز فيه. وأما إذا لم يعقد البيع على الشركة بل عقَد متولي العقد لنفسه ثم بعد ذلك أشركَ فيها لمن سأله في الشركة، فإنه لا يجوز ها هنا اشتراط السائل في الشركة النقد حين سؤاله في الشركة، ولا بعد أن أنعم له بها، لأن ذلك يكون صرفا مستأخرًا، لأن الدنانير التي تطوّع مشتريها بها يشارك هذا فيها، ومن وجب عليه دفع ثمنها من الدراهم فصار جميعها له، فإذا أشرك فيها فإنه يكون بائعًا لنصفها بدراهم من الذي أنعم له بالشركة، فإذا لم ينقد له هذا السائل في الشركة ثمن النصيب الذي أشرك به صار باع منه دنانير بدراهم مؤخرة وذلك ممنوع. وأمّا إن كانت هذه الشركة وقعت في عروض معينة حاضرة، فإنه يجوز للسائل اشتراط النقد عنه حين سؤاله في الشركة والإنعام له بها، وبعد أن ينعم له بها فيسأل في النقد عنه؛ لأن ذلك بيع العروض الحَاضرة بثمن مؤخر، وبيع عروض حاضرة بثمن مؤجل لا بأس بذلك. فلهذا أجيز هذا على الإطلاق، ومنع الصرف على الإطلاق في هذا الوجه الذي ذكرناه. وأما إن كانت العروض سلما في الذمة فإنه لا يجوز أن يسلم في الشركة بشرط أن ينقد عنه؛ لأنا قد قررنا أن الجزء الذي أنعم له بالشركة به بيع من هذا المشارك الذي أنعم بالشركة. وقد قدمنا أن بيع دين مستقر في الذمة لا يجوز تأخير ثمنه، على ما ذكره في المدونة. وذكرنا عن كتاب ابن المواز أنه يجيز اشتراط تأخيره اليوم واليومين، كما يجوز في رأس مال ¬

_ (¬1) هكذا في و. يتقد في ش.

السلم. وكذلك الحكم ها هنا في هذه الشركة لما قدّمناه من تجويز من له السلم بائعًا نصفه، فيعتبر في هذا ثمن (¬1) الدين المبيع ما ذكرناه. وأما إن سأل له (¬2) في الشركة، فأنعم له بها المسؤول ثم بعد ذلك سأله أن ينقد عنه، فإن هذا ينبغي أيضًا أن يمنع لما أشرنا إليه من كون ثمن الدين المبيع لا يجوز تأخيره بشرط أو غير شرط، وقع في أصل العقد. ومن شرطه صحة المناجزة كما قدمناه وبيّنا رتبته في تضمين المناجزة مع غيره فيما يشترط فيه التناجز. لكن ذكر ابن المواز فيمن أسلم في طعام فسأله رجل أن يشرك فيه فأنعم له، من بعد ذلك سأله أن ينقد عنه، فإنه يمنع من ذلك إذا كان قد نقد جميع الثمن. وأما إذا لم ينقد الثمن فإنه ذكر المنع من السؤال في النقد. وذكر في موضع آخر من كتابه (من ذلك) (¬3) جواز ذلك، وقدر أن هذا الذي تولى العقد إذا تولاه لنفسه، ولم ينقد ثمنه حتى سأله آخر في الشركة فأنعم له بها، فإن النقد صار عليه وكل من شركهُ. فكأنه تطوّع بعقد وجب عليه للبائع، فلم يمنع من ذلك، كما لو عقد السلم شركة بينه وبين هذا حتى يصير كالوكيل به، فإنا قدمنا جواز النقد عن هذا الموكل، وكذلك ها هنا يقدر أنه إنما نقد عنه ما وجب لبائع الطعام عليه، وهذا النقد لا يتضح لأن الثمن إنما وجب لبائع الطعام على مشتريه الذي أسلم فيه، ولا يستحق مطالبة هذا الذي سأل في الشركة فيه بحكم مقتضى العقد. ولو كانت هذه الشركة في طعام معين حاضر اشترط حين سؤاله في الشركة أن ينقد عنه، لكان هذا ممنوعًا، لكون الثمن المؤخر أقل في القيمة من الثمن المنقود، فصارت الشركة انعقدت على خلاف رأس المال. ولو سأله في الشركة فأنعم له بها ثم سأله بعد ذلك في أن ينقد عنه، لجاز ذلك؛ لأن تطوعه بالشركة إحسان ومعروف واتبع هذا "الإحسان بإحسان آخر ¬

_ (¬1) في (ش): الثمن. (¬2) ساقطة في (ش). (¬3) بين القوسين ساقط في (ش).

وهو النقد عنه. وقد قيل: إنه لا يجوز. وهذا إن كان قد نقد جميع الثمن، وكأنهما اتهما في هذا القول على أن يكونا أبطنا عقد الشركة على شرط النقد وأظهرا خلاف ذلك. وإذ قد نجز القول في الممنوع من بيعه قبل قبضه من الأطعمة، وفي المرخص فيه، فليعلم أن البيع للطعام قبل قبضه لما نهى الشرع عنه وقع العقد فيه فاسدًا لمخالفة الشرع. فإذا فسد وجب ردّه. فإذا كان الطعام المبيع قبل قبضه حاضرًا ونقض البيع فيه رد بعينه إلى يد بائعه إن كان قبضه منه المشتري أو أبقاه في يديه إن لم يقبضه منه المشتري، وسقط الثمن عن المشتري إن لم يدفعه أو يرد إليه إن كان قد دفعه. وإن كان الطعام المبيع قبل قبضه غاب مشتريه بهذا الطعام ولم يمكن ردّه من يديه فإنا إذا نقضنا البيع بإخراج الثمن واشترينا به طعامًا مثل الذي بيع قبل القبض (¬1) ذلك لبائع الطعام عروض طعامه الذي وجب رده عليه. فإن كان ما اشترى (¬2) باعه فقد تحقق الفسخ، ولا تراجع بين هذا المشتري والبائع. فإن نقص الثمن المأخوذ منه عن الطعام الذي نقصان ردّه عليه كان ما نقص من المكيل دينًا على المشتري يطلب به إذا وجد. وإن كان الثمن المأخوذ يزيد على ما يشتريه من الطعام للبائع لم يشتر له من الثمن إلا مقدارَ ما باعه، ومما بقي من الثمن يوقف للمشتري الغائب. هكذا ذكر ابن المواز في كتابه، واقتصر على رد هذا الطعام إلى يد بائعه قبل أن يقبضه وهو (¬3) ممن باعه منه أيضًا، وقدّر أن هذا الكيل الذي رددنا له عليه الطعام المبيع يكتفي به عن قيل البائع له هذا الطعام الذي باعه منه؛ لأن البائع لم ينقد في بيعه، وإنما بقي عليه التوفية بالكيل ليتميز المبيع من ملكه، وينتقل إلى ضمان المشتري منه. وهذا الكيل الذي (أكيل قضى من مشتريه الغائب يقبض) (¬4) فيه بالكيل على ¬

_ (¬1) فراغ مقدار كلمة، ولعلها: رُدَّ. (¬2) كلمتان غير مقرؤتين ولعلهما: مساويًا لِمَا. (¬3) هكذا في النسخ، ولعل الصواب حذف الواو. (¬4) هكذا في النسخ.

رده إلى يد البائع الثاني الذي باعه قبل قبضه، لكون هذا الكيل قد ميّز له هذا الطعام من ملك البائع، وعلم به أنه قد استوفى جميع ما باعه منه البائع. (ولو رددناه إلى يد البائع الأول لم يقرّ في يده حل لغيره إلى هذا البائع الثاني الذي اشتراه منه) (¬1)، فلم يكن في هذه الإعادة إلى يد البائع الأول، فسقط اعتبارها ولم يأمر بها. لكن أمر بها في السليمانية على جهة الاستحسان، ورأى أن هذا الطعام، الذي يشترى بحكم القاضي على الغائب، إنما اكتيل بحق البائع الثاني حتى يرد إليه ما باعه بيعًا فاسدًا، ويتحقق النقض فيه والفسخ له. فإذا صار في يديه بقي ما كان على البائع الأول من التوفية، فيجب أن يرد ذلك إليه حتى يسلم إلى مشتريه فيكون حينئذ مشتريه كالبائع له بعد أن قبضه، وقدّر في هذا القول أنا إذا رددناه إلى يد هذا البائع الثاني، وهو مشتريه الأول، وسلطناه على بيعه والتصرف فيه من قبل أن يصيّره إلى يد البائع الأول، صرنا كالممكنين له من التصرف في الطعام وبيعه قبل قبضه. وقد روي في الحديث أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يَجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري (¬2). وهذا يقتضي ظاهره ألا يمكن المشتري الطعامَ من بيعه حتى يكتاله عليه البائع، ويجري صاع البائع فيه، ثم من بعد ذلك يَجري صاع المشتري فيه إذا باعه من آخر مكيل له عليه. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) نيل الأوطار ج 5 ص 260.

فصل فيما يجري مجرى البيع احتياطا وحماية للذريعة

فصل فيما يجري مجرى البيع احتياطًا وحماية للذريعة (فاعلم أنا بينّا ما سلف أحكام بالعقد من البياعات في الأطعمة قبل قبضه إذا ذكر الآن ما ألحق بذلك بسببها له بالبيع) (¬1) فمن ذلك: المواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، فإنا نهينا عنه. وقد اختلف في المواعدة على الصرف، فأجيزت في قول، ومنعت في قول، وكرهت في قول ثالث. وبعض أشياخي يذكر إجراء المواعدة على بيع الطعام قبل قبضه على هذا الاختلاف في المواعدة في الصرف، لأن المواعدة على الصرف ليست بعقد له، ولكنها يُتطرق بها إلى العقد، وكذلك المواعدة على بيع الطعام قبل قبضه ليست بعقد ولكنها يتطرق بها إلى عقد منهي عنه، كما نهي عن الصرف المستأخر. وكذلك أيضًا من اشترى طعامًا ثم عقد على نفسه بيع طعام آخر ينوي أن يقبضه من هذا الذي اشتراهُ، فإن ابن المسيب نهى عن ذلك، وقدر أنه (¬2) عقد على نفسه بيع طعام يوفيه من هذا الطعام الذي اشتراه، صار كأنه بهذا الذي نواه وأضمره كبائع هذا الطعام قبل قبضه لما عقد على نفسه ما عقد، وبأنه أن يدفع هذا الطعام الذي اشتراه ولم يُكَل له، وهذا المشهور عندنا في المذهب. لكن أشهب أجاز ذلك، ورأى أن القصة (¬3) لا تأثير لها ولا يتهمان على أن هذا العقد إنما وقع على هذا الطعام الذي اشترى ولم يُكَل، واحتج على ذلك بأن من عليه الطعام فطُلِب به فاشترى بنية أن يقضيه من الطعام الذي طلب، فإن ذلك لا يمنع منه ولا ينهى عنه، لكون النية ها هنا لا تأثير لها. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) هكذا، ولعل الصواب إضافة: لمّا؛ ليستقيم النص. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: النيّة.

وأشار أيضًا إلى أن من أخذ سلمًا على تمر ونيته أن يقضيه من تمر عنده لم يزه، فإنه لا ينهى عن ذلك؛ ولا يكون بنيته هذه كبائع تمر قبل الزهوّ. فكذلك لا يكون من اشترى طعامًا ثم عقد على نفسه بيع طعام ينوي أن يقضيه من هذا الذي اشتراه، فإنه لا يكون بهذه النية بائعًا له قبل قبضه. واحتجاجه ها هنا يكون المطلوب بالطعام يباح له أن يشتري طعامًا ينوي أن يقضيه فيما عليه من طعام، فإنه لا يلزم؛ لأنه ها هنا يضطر إلى هذه النية إذا طلب بطعام وجب عليه أداؤه وهو لا يملكه، فإنه لو نهي ها هنا عن هذه النية لكان كالمنهي عن أن يقضي شيئًا ترتب عليه، وهذا لا يصح النهي عنه، بل ورد الشرع بالأمر بقضاء الحقوق. وأيضًا فإن هذا إنما نوى أن يقضي، والقضاء ليس بعقد بيع، ومن اشترى طعامًا فلم يكتله حتى عقد على نفسه بيع طعام آخر، فإنه في مندوحة عن هذا العقد وغير مضطر إليه. وأيضًا فإنه يتصور فيه أنهما تعاقدا في الباطن على أن مرادهما بالعقد على طعام غير معين هذا الطعامُ المعينُ، فيكون أبطن بيعه قبل قبضه، والبيع ها هنا بخلاف القضاء لطعام وجب عليه. وأمّا ما أشار إليه من الاحتجاج بالثمرة التي لم تزه، وكون من أخذ سلمًا على ثمر ونيته أن يقضيه من ثمر عنده لم تزه، فإنه لا يمنع من ذلك، ولا يقدّر بهذه النية أنه باع الثمرة قبل زهوّها، فإن هذا أيضًا قد ينفصل عنه بأن ما في الذمة من الثمن جنس نوع مخالف لما في شجره من بلح أو طلع فلم ينو القضاء من النوع الذي هو آت. (ولو مات رجل، ما عليه من الثمن لم يدفع فيه هذا البلح الذي كان حين العقد، ومن اشترى طعامًا ثم باع طعامًا في ذمته ونوى أن يقضيه من الطعام الذي اشتراه، فإنما اشتراه ما يقتضيه مثلان، ولرجل عليه في ذمته من الطعام ويدفع الطعام الذي كان في ملكه وقت العقد على ما في ذمته وهذا الذي صار في ذمته) (¬1) وقد كنا قدمنا في تعليل النهي عن ربح ما لم يضمن أن ما كان في ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ.

ضمان البائع يبطل العقد بتلفه، فكأن بائعه باع ما لم يستقر ملكه عليه، ولا ينفذ بإمضاء العقد فيه. وذكرنا أن الطعام خص بذلك عند مالك لما أشرنا إليه من التعليل. وهذا لا يتصور فيمن عقد على ذمته تمرًا ونوى أن يقضيه من تمر عنده، وهو بلح أو طلع، إذا صار تمرًا؛ لأن تلف هذا الذي في الشجر لا يبطل العقد في الثمن (¬1). وإذا وضح هذه الطريقة في التعليل كان الأوْلى ما ذهب إليه أشهب من كون النية غير مؤثرة، لكن احتجاجه بما ذكرناه قد ينفصل عنه بما أشرنا إليه. واحتجاج أشهب بمن عليه طعام فطلب به لا يمنع أن يشتري طعامًا ينوي أن يقضيه مما عليه، يشير إلى أن هذا عنده مما لا يخالف فيه. لكن أشار إلى ذكر خلاف فيه. وذكر ابن حبيب أن الطالب لهذا الطعام الذي في الذمة لا يعين المطلوب على الشراء، ولا يدُلُّه على ما يشتريه، ولا يبقى (¬2) له فيه. وهذا أيضًا احتياط؛ لأنه يجتمع مع نية المطلوب أن يقضي من هذا للطالب له على الشراء، فكأنهما تواطآ على بيع الطعام قبل قبضه بأن يكون المطلوب إنما اشتراه لهذا الطالب وملّكه إياه قبل أن يكتاله. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب: التمر. (¬2) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.

فصل فيما يعد من الأطعمة كالبيع لها قبل أن تقبض. اعلم أن هذا أصل اضطربت فيه الرواية. الحديث إنما ورد بالنهي عن بيع الطعام قبل قبضه، ولم يرد بالنهي عن قضائه. وهكذا قدمنا عن بعض أشياخنا أنه يرى أن حقيقة البيع يختلف فيها هل هي التعاقد أو التقابض؟. فإن قلنا: إنها التقابض حسن ها هنا إجراء القضاء مجرى البيع. فإذا كان أسلم زيد لعمرو في عشرة أقفزة قمحًا، وأسلم عمرو لزيد في مثلها، فأرادا أن يتقاصّا ويتباريا فإن اختلف رأس المال لم تجز المقاصة، وإن اتفق رأس المال ففي ذلك قولان: منعه ابن (¬1) وأجازه أشهب. وسبب هذا الاختلاف أن بيع الطعام قبل قبضه قد قررنا منعه، والإقالة من الطعام على رأس المال قدمنا جوازه، وعلى أقل من رأس المال أو أكثر قررنا منعه، لأنه إن أقال على أكثر من رأس المال ظُن بهما أنهما أبطنا دفع دنانير في أكثر منها، وذُكِر الطعام محللًا، وتعاقدهما في الباطن سلف بزيادة؛ وإن أقال على أقل من رأس المال يكتب (¬2) هذه إقالة لما قدمناه مما تشعر به هذه اللفظة، ولما ذكرناها وذكرنا اشتقاقها، وإذا لم تكن إقالة فهي بيع، وبيع الطعام قبل قبضه ممنوع، فإذا وقعت المقاصة ها هنا ورأس المال مختلف فيه، وأجرَيْناهَا على مقتضى هذه العبارة، وهي بيع طعام بطعام قبل أن يقع فيهما قبض، وأن ذلك ممنوع، وإذا عدلنا بهما على مقتضى هذه اللفظة إلى ما قد يؤول إليه معناها وهي التقايل على رأس المال فإن رأس المال مختلف، والإقالة عليه لا تجوز، كما قدمناه. وإن اتفق رأس المال فابن القاسم أجراهما على مقتضى هذه اللفظة وهي إسقاط طعام بإسقاط طعام مثله، وهذه مبايعة ¬

_ (¬1) فراغ في جميع النسخ، والأقرب أن يكون: ابن القاسم، لِما سيأتي قريبًا. (¬2) هكذا في الجميع والكلمة غير واضحة.

لطعام بطعام قبل القبض. وإن أجرينا على أن هذه المتاركة تؤول إلى الإقالة وكأن كل واحد منهما أقال صاحبه على ردّ رأس المال، فقد صار هذا التعاقد بينهما له مصرفان: أحدهما وهي مبايعة طعام بطعام قبل أن يقبض. والثاني: يجوز، وهي تقايل طعام لم يقبض، فهل يصرف ذلك إلى مقتضى اللفظ، وإلى الوجه المحرم، واحتياطًا للعقود، ويعدل (¬1) عن مقتضى اللفظ إلى ما يصل إليه معناه مما هو مباح. هذا أصل مضطرب فيه، وقد اختلف لفظ المدونة في بيع ثوب بمثله إلى أجل، مُنع ذلك تارة اتباعًا لمقتضى اللفظ، ومقتضاه يشعر بالمكايسة وطلب المنفعة، وقال في موضع آخر: إن قصد بذلك مسلف الثوب منفعة نفسه لم يجز، وإن قصد منفعة المسلَف جاز ذلك. فاعتبر المعنى والقصد دون اللفظ. وقد أتبع هذه المسألة في المقاصة بلفظ مشكل فقال: تمنع المقاصة. كما لو كان ذلك على رجلين، هل مراده بذلك أن يكون لزيد على عمرو، ولخالد على بكر، طعام، فيتقايلون جميعًا، بأن يأخذ هذا ما على غريم هذا؟ وهذا يتضح فساده لكونه بائعًا للطعام قبل قبضه، ولا تتصور ها هنا إقالة، فيحسن الخلاف فيه. وقيل: مراده بهذا أن يكون مَن عليه طعام أُسلم إليه فيه، أحال المسلَم إليه على طعام له في ذمة رجل، فإن هذا البيع (¬2)، لكون هذه الحوالة بيع (¬3)، وبيع الطعام قبل قبضه يمنع. لكن هذا فيه اختلاف، فابن القاسم يمنعه، ويرى أن تحول من له السلم إلى ذمة أخرى أُحيل عليها ليأخذ طعامه منها بيع لما أسلم فيه قبل قبضه. ويرى أشهب أن ذلك لا يجوز إذا تساوت رؤوس الأمو الذي هذين الطعامين. وأشار بعض الأشياخ إلى معارضة اشتراط تساوي رأس المال ها هنا، لأنا إنما اشترطناه على مذهب أشهب، في المقاصة التي قدمناها، ليكون كل واحد من المتقاصَّيْن له على صاحبه مثل ما لصاحبه عليه، فيقدّر أنهما تقايلا، والإقالة ¬

_ (¬1) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: أو. (¬2) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: بيع. (¬3) هكذا في الجميع، ولعل الصواب بيعا.

لا بد فيها من اعتبار رد رأس المال من غير زيادة ولا نقصان، وها هنا الذي عليه السلم دفع إليه رأس المال رجل غير الرجل الذي دفع إليه من عليه السلم رأس الم الذي الطعام الذي أحال عليه به، فلا يُتصور ها هنا أن يكون رجل دفع دنانير ورجع إليه أكثر منها، لكنه يزيد في هذا الاعتراض لكون المحال يحيل على من أحاله، والذي أحاله ها هنا لا يجوز له أن يقيل إلا على رأس المال، وكذلك المحال من جهته. وقد ذكر أن أشهب يرى هذا كالتولية في هذه المسألة التي ذكرنا الاعتراض فيها، والتولية أيضًا لا تكون إلا على مثل رأس المال. ورأيت بعض أصحاب الشافعي ذكر أن بعضهم في هذه المسألة مثل الذي حكيناه عن ابن القاسم .. واحتج للمنع بأن النبي عليه السلام نهى أن يباع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري فيه (¬1) فوجب المنع منه. لكنه ذكر أن المسلم إليه في الطعام لو قبضه من غريمه بمكيال، وسلم إلى من له عليه السلم بذلك المكيال قبل أن يفرغه، فإن فيه عندهم وجهين: أحدهما المنع قال: وهو المذهب المشهور. والثاني: الجواز. فالمنع لكونه طعامًا لم تجر فيه الصاعان. والجواز لأنه إذا أسلمه في مكيال له صار ذلك كابتداء الكيل، واستدامة الكيل ها هنا كابتدائه. كما يجوز لمن له طعام في ذمة آخر أن يقبض منه وقد ملأ المكيال من عليه الطعام قبل أن يطلبه هذا به، ولا فائدة في تفريجِ هذا المكيال وإعادته على حسب ما كان من غير زيادة ولا نقصان ومقتضى أصل مذهبنا نحن الاكتفاءُ بهذا، ولا يكلف تفريغَ المكيال وإعادتَه على حسب ما كان. وقد أجاز في المدونة إذا اكتال طعامًا بحضرة رجل أن يبيعه من ذلك الرجل المشاهِد لكيله إذا لم يكن بينهما في ذلك -وأْي (¬2) ولا عادة. وهذا يشعر بأنه (لا يوجب أن يشعر) (¬3) في صبّ الطعام في المكيال بعد عقد البيع. ومما يجري على هذا الأسلوب أن من عليه طعام أسلم إليه فأحال المسلم ¬

_ (¬1) البيهقي: السنن الكبرى: 5/ 315، 316. (¬2) أي: وَعْدٌ. (¬3) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: لا يجب أن يشرع.

إليه على طعام له في ذمة رجل، فإن ابن القاسم يمنع من هذا، كما حكيناه عنه، ويجوّز أن يدفع من عليه السلم لمن أسلم إليه مثل رأس المال يشتري به طعامًا، فيقبضه مما عليه، لما كانا قادرين على أن يجعلا هذا الدفع لرأس المال إقالة من الطعام، ولا يمنعان من ذلك. وهذا كالموافقة لأشهب في ذهابه إلى جواز المقاصة التي ذكرناها لما كانا قادرين على أن يجعلاه إقالة، إذا تساوت رؤوس الأموال بصرفها عما ظاهره بيع الطعام قبل قبضه، لما تقاصّا فيه، إلى الإباحة لما كانا قادرين (على أن يعتبرا عن ما فعلاه) (¬1) بلفظ يفيد معناه ما هو مباح لهما، وهو الإقالة. لكنه عورض ابن القاسم في هذا بأنه ينبغي أن يجيز الحوالة بطعام السلم على طعام المحيل في ذمة آخر، على حسب ما ذكرناه، لأنه إذا أجاز أن يشتري برأس المال طعامًا يكون وكيلًا على شرائه لمن عليه السلم لم يقبضه نيابة عنه، فيكون قضاء مما له عليه، فذلك ينبغي أن يجيز الحوالة بماله من طعام على طعام في ذمة آخر، على حسب ما ذكرناه عن أشهب. وهذا الإلزام مما ينظر فيه، كما نبهنا عليه من كونهما قادرين على أن يجعلا هذا المدفوع من رأس المال إقالة، فلا يتهمان على القصد إلى محرم، وهو بيع الطعام قبل قبضه. ومن أُحيل بطعام له في ذمة على طعام في ذمة آخر غير قادر على تحصيل هذا الفعل من طريق أخرى مباحة على حسب ما قدمناه. فلو كانت هذه الوكالة على شراء بأكثر من رأس المال لمنِعت، لأنهما غير قادرين على الإقالة بأكثر من رأس المال. فلما لم يكن لهما في هذا الوجه مصرف إلى المباح اتُّهِما على قصد الحرام. لكنه لو ثبت أن الوكيل ها هنا اشترى الطعام بأكثر من رأس المال الذي دُفع إليه بحق وكالته عليه، وقبضه بعد أن اكتاله نيابة عمن له عليه السلم، لنفذ ذلك، ولم يردّ. ولو دفع إليه أقل من رأس المال فإن ابن القاسم لمنع من هذا، كما يمنع أكثر من دفْع رأس المال، لكن لكون الإقالة أقل من رأس المال لا تجوز في الطعام. وأشهب يمضي ذلك ولا يفسخه، لأن التهمة تتضح إذا دفع إليه أكثر من ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ.

رأس المال، لتصوّر قصدهما إلى سلف وزيادة: دفع إليه مائة دينار في طعام ثم أعطاه عند الأجل مائة وخمسين ليشتري له بها طعامًا، ويقبضه مما له عليه. صورة الفعل يقتضي المنع. وإذا دفع إليه مثل رأس المال لم تتطرق التهمة ها هنا، وهي (كبيعه بعد) (¬1) لا يتهم فيها جميع الناس، لأن التهمة ها هنا إنما تتصور في أن يكونا قصدا إلى بيع الطعام قبل قبضه، لما دفعا أقل من رأس المال. وإذا دفع أكثر من رأس المال تطرقت التهمة إلى بيعة أجلٍ، وهي أن تكون المائة دينار المدفوعة عند عقد السلم المقبوض إلى أجل أعيد عوضها مائة وخمسين (¬2)، وبيعة الأجل متهم فيها كسائر الناس عندنا. هكذا يرى بعض أشياخي أنهما لو تقايلا على مثل رأس المال سواء، ثم دفع إليه عوضه عرضا، فإنه يمنع عند ابن القاسم، لئلا يكونا تقايلا على هذا العرْض المدفوع، فيقعان في بيع الطعام قبل قبضه. ويجوز على أصل أشهب؛ لأن هذه التهمة في معاملة نقدية ومعاملة النقد لا يتهم فيها ما بين الناس. وهذا أيضًا مما ينظر فيه لأن العوض مما تختلف الأغراض فيه مع الطعام اختلافًا ظاهرًا، فيُتَّهمان على القصد إلى بيع الطعام قبل قبضه، وإذا دفع أفل من رأس الم الذي المقدار، فلا تختلف في هذا الأغراض اختلافًا ظاهرًا، مثل ما يختلف ما بين العرض والطعام. ولو كانت هذه الوكالة ممن له السلم، بأن يقول لمن عليه السلم: بيع مالي عليك، وجئني بثمنه. فإن هذا لا يجوز، وإن جاءه برأس المال؛ لأن قصارى ما يتصور فيها من الوجه المباح أن يكونا تقايلا على رأس المال الذي جاءه، وهو إنما جاء به بعد افتراقهما، وبعد حين من زمان الوكالة، والإقالة لا يجوز فيها التأخير، والإقالة وإن كانت مباحة عرَض ها هنا ما أفسده (¬3) فمنعت. بخلاف إذا كانت الوكالة ممن عليه السلم لمن له السلم بأن يشتري له بما أعطاه من رأس المال طعامًا، ويقضيه من نفسه. لأن هذه الإقالة إذا تصورت لم يقع فيها تأخير يفسدها. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: مائة وخمسون. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: أفسدها.

فصل اعتبار الملك للطعام الممنوع بيعه قبل قبضه.

فصل اعتبار الملك للطعام الممنوع بيعه قبل قبضه. اعلم أن الطعام يملك من طرق مختلفة. وليست كل الطرق يمنع فيها من بيع الطعام قبل قبضه، ولا كلُّها يباح له ذلك فيها. فوجه اتباع لفظ صاحب الشرع في هذا وهو - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" (¬1) فاقتضى هذا أن من ملكه، بوراثة أو هبة أو اقتراض أو من مغنم أو من صدقة، فإنه لا يمنع من بيعه قبل قبضه، إذ لو كان ذلك ممنوعًا لقال "من ملك طعامًا" ولم يقل "من ابتاع طعامًا" وتقييد التحريم بالبيع. وهذا يتضح الاستدلال به مع القول بدليل الخطاب، مع أنا كنّا قدمنا أن الشافعي منع من بيع كل شيء قبل قبضه، للحديث الوارد بالنهي عن ربح ما لم يضمن (¬2). ونحن خصصنا بهذا الطعام خاصة وقد تقرر أن من وهب طعامًا أو ورثه فإنه غير ضامن له، والحديث يشير إلى التعليل في منع البيع بالضمان، وبسطنا هذه العلة، وقلنا: إن الطعام إذا اشتُري ولم يكتل فإنه معرض للتلف، وإذا تلف انفسخ العقد، وانفساخه يتضمن أن العقد لم يحصل فصار البيع قبل الكيل فيه غرر بكونه باع ما لا يدري هل يستقر عقده عليه أم لا، ومن ورث طعامًا أو وهب له فإنه لم يحصل ذلك بعد معاوضة فيكون معتبرًا به الغرر في حصول الملك، مع كون التهمة في كون هذا الطعام المبيع يتحيّل فيه على سلف بزيادة لا يتصور في الهبة والميراث، فروعي الغرر في عقد البياعات، ولم يراع في الهبات، وأمكن التحيّل على ما لا يحل ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) جزء من حديث - أخرجه أحمد: 2/ 174 والترمذي: حد: 1234. وأبو داود: 3504.

في البياعات، ولم يمكن في المواريث والهبات، افترق الحكم في ذلك. لكن ربما منع الوارث والموهوب من جهة أخرى، وهو كونه يحلّ محل من صار ذلك إليه من جهته. فإذا ورث طعامًا أسلم فيه أبوه، ولم يقبضه فإن الوارث يمنع من بيعه قبل قبضه؛ لأنه إنما يورث المال على ما هو عليه، وقد كان هذا المال ممنوعٌ بيعه قبل قبضه على أبيه، فسرى هذا الحكم إلى الولد الوارث. وكذلك من وهب طعامًا أسلم فيه أو تصدق به فإن الموهوب له هذا الطعام والمتصدق عليه يمنعان من بيعه قبل قبضه، لكون من كان ذلك الطعام له ممنوعًا من بيعه قبل قبضه. لكن ذكر مالك في كتاب ابن حبيب أن الصدقة والهبة أخف، وقدر أن يد الواهب قد زالت عن هذا الطعام بالهبة ولم يبق له به تعلق، ومن صار الطعام إليه ليس بمبتاع، فلم يتأكد عنده منعه من البيع. كما فيمن اقترض هذا الطعام لأن يد المقرض باقية على هذا الطعام حتى يصير لمن اقترضه، ولو هلك قبل أن يقبضه المقترض، أو لو قبضه المقرض ثم أراد (¬1) لم يكن على المقرض شيء ولا مطالبة به. (فأشعر ذلك بأن يد المقرض باقية عليه حتى يقبضه المقترض، فإن قبضه المقرض ثم أراد المقرض أن يبيعه قبل قبضه لمنع من ذلك) (¬2)، لكونه بائعًا لطعام ملك أصله من بيع ولم يقبضه هو ولا وكيله، فلا يسوغ البيع له. ووقع في الموازية (¬3) جاء هذا في قليل من كثير، ورأى أن القليل من هذا السلم لا يمنع مقرضه من بيعه قبل قبضه إذا كان أكثر لم يبعه حتى قبضه، لا سيما أن المقرض قد يتصور فيه أنه كالوكيل للمقترض على القبض، لأنه إنما يصير في ذمته بعد قبضه له وتمكنه منه، فصار في القبض كالنائب عن المقرض. وقد ذكر في الموطأ بيع صكوك الجار، والمراد أنهم كانوا يكتب لهم ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) ما بين القوسين هكذا في جميع النسخ. (¬3) فراغ بمقدار كلمة في جميع النسخ.

أَعطياتٌ في صحائف، وهي الصكوك، فيبيعونها، فنهى عن بيعها قبل قبضها لمن أعطيت له صلة (¬1). وهكذا رأى مالك الأرزاق التي كانت تفرض لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجوز بيعها قبل قبضها. لكن ما فرض للقضاة والمؤذنين فإنه يمنع من بيعه قبل قبضه لأنه في معنى عقود المعاوضة. وهذا الكلام في الأطعمة المملوكة بعقد معاوضة مالية على الحقيقة، كمن اشترى طعامًا بعين أو بعرض، فإن العرض والعين مال على الحقيقة. فأمّا النكاح على الطعام فإن الزوجة أيضًا تمنع من بيعه قبل قبضه، وإن لم يتضح كون الانتفاع ببضعها مالًا على الحقيقة، لأن الزوج لا يمكن من بيعه كما يمكن من بيع ما ليس له من منافع الرباع والعبيد وغيرهالأولكن لما منع الشرع النكاح إلا بمال أُلحق بالعقود المالية. وأما الخلع فإنه أيضًا يمنع فيه من بيع الطعام قبل قبضه الذي خالع عليه الزوج؛ لأنه أخرج عن ملكه منافع البضع بالطعام الذي أخذ، كما ملكته هي منافع البضع بالطعام الذي أخذت، وإن كان النكاح أوضح لكونه لا يجوز بالغرر، ويجوز الخلع بالغرر على أحد القولين. وأما دم العمد فإذا صولح فيه على طعام فإنه يمنع أيضًا من بيعه قبل قبضه. وهذا يتضح إذا قيل إن لولي القتيل أن يجبر القاتل على الدية إن لم يرض بدفعها للقاتل (¬2)، لأنه يكون على هذه الطريقة كمن أخذ طعامًا عن مال وجب له على رجل. وأما الكتابة على طعام فإنه لا يجوز للسيد أن يبيعه، قبل قبضه له، من غير عبده؛ لأن الطعام ها هنا كالعوض عن رقبة العبد فهي معاوضة مالية، فلحقت بالبيوع والعقود المالية. وأما بيعه قبل قبضه من المكاتب إن عجل عتقه بهذا البيع جاز ذلك، كما يجوز غير هذا مما يحرم في المعاوضات، إذا عجل للسيد مما أخذ عن الكتابة عتق عبده، لأجل حرمة العتق ومعرفة (¬3) السيد على ¬

_ (¬1) الموطأ: 2/ 168 حد: 1867. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَعُونة.

تحرير رقبته، والعبد على التخلص من أسر الرق، فبعُد ها هنا تصور المكايسة من السيد وعبده. وإذا كان القصد الرفق والمعروف تغيرت الأحكام في العقود، كالعرايا التي رخصت فيها، واستثنيت من الأصل المحرم لما كان القصد فيه الإحسان والمعروف، على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله. وأما لو باع نجمًا واحدًا من الطعام وبقي العبد مطلوبًا ببقية النجوم فإن في هذا اختلافًا: هل يمنع لفقد الدلالة على أنهما لم يقصدا المكايسة أو يجوز لكون الكتابة ليست بدين ثابت فيصير في ذمة المكاتب، على ما سيرد بيانه في كتاب المكاتب إن شاء الله. ويلحق بما نحن فيه من تفصيل حال المالك تفصيل حال المالكين فإنه قد منع في كتاب الصلاة من المدونة أن يشتري المسلم من النصراني طعامًا اشتراه النصراني وأراد بيعه قبل قبضه، ورأى أن قوله عليه السلام "من ابتاع طعامًا ... " الحديث، يخاطب به النصراني، كما يخاطب به المسلم، بناء على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ومعاقبون في الآخرة على معصية الأوامر التي توجهت على المسلمين، وتوجهت عليهم ولكن بشرط أن يقدموا الإيمان. وإذا كان النصراني عاصيًا في هذا الفصل لم ينبغ لمسلم أن يعينه على معصية، فلهذا نهى مالك رضي الله عنه أن يشتري من النصراني طعامًا لم يقبضه. وقد عورض هذا بأن أم الولد النصراني إذا أسلمت بيعت عليه، مع كونه مخاطبًا بأن لا يبيع أم ولده على هذه الطريقة، وإذا بيعت عليه فقد أعين على معصية في أخذ ثمنها. وقد يعتذر عن هذا بأن بقاءها في ملكه محرم أيضًا فعدل عنه إلى ما هو أخف منه وهو بيعها لأجل الضرورة الداعية، ولا ضرورة بالمسلم في شراء طعام من نصراني لم يقبضه. ولعلنا أن نبسط الكلام في بيعها إذا أسلمت في موضعه إن شاء الله تعالى.

فصل

فصل يلحق بالحق فيه بذكره لأجل ذكره في المدونة وهو أن من باع طعامًا على الكيل والوزن فإن ضمانه منه حتى يكيله لمشتريه أو يزنه له. وإنما كان ضمانه من البائع حتى يكال أو يوزن، لأجل أن على البائع تمييز البائع (¬1) عن ملكه وتمكين المشتري من قبضه. ولا يتأتى هذا إلا أن يميز هذا الطعام المبيع ويعلم مبلغه، ولا يعلم ذلك إلا بأن يكال أو يوزن. فلهذا كان على البائع ضمان ما بيع على الكيل أو الوزن أو العدد، حتى يوفيه من ذلك ما عوقد عليه من قيل أو وزن أو عدد. فإذا باع صبرة طعام على الكيل، وتبين أن عليه ضمانها وكيْلَها، فإنه إذا لم يفعل ذلك حتى هلكت فإنه لا يخلو أن يكون هلاكها بأمر من الله سبحانه لا صنع لأحد من الناس فيه أو يكون هلاكها من جهة الناس، إما البائع أو المشتري أو أجنبي. فإن كان هلاكها من الله سبحانه من غير صنع الإنسان فيها، فإن البيع ينفسخ لأنه إنما باع طعامًا معينًا، وليس عليه أن يخلفه إذا هلك؛ لأن خلفه ليس هو العين المبيعة فلا يلزمه، وقد يكون في غير (¬2) ذلك الطعام غرض لا يوجد فيما سواه فيكون العقد مقصورًا على عينه، فإذا ذهبت العين بطل العقد. وإن كان تلفها من عند إنسان، وكيلها قد عرف، فإن على متلفها غرامة مثلها، إن كان أجنبيًا أو هو البائع لها، وإن كان مشتريا عند (¬3) ذلك كالقبض لما أتلف. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المبيع. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: عين. (¬3) في جميع النسخ: عِنْدَ، ولعل الصواب: عُدَّ.

وإذا وجب غرم المثل على البائع أو على أجنبي أتلفها فالبيع منعقد. وإنما بقي منعقدًا ها هنا، بخلاف تلفها من قبل الله سبحانه، لأن الأجنبي إذا غرمناه مثلها وجبرناه عليه بحكم الشرع صارت الصبرة المتلفة كأنها لم تتلف، لكوننا قد جبرنا متلفها ها هنا على رد مثلها مكانها، فلا مضرة على البائع في بقاء العقد على ما هو عليه. والمشتري إذا اجتهدنا في القضاء على متلفها في إحضار مثلها على حسب ما كانت عليه فكأنه لا ضرر عليه في إلزامه أخذ هذا عن المتلَف (¬1). ولهذا ألزمنا متلف طعام عرف كيله غرامة مثله، ولم يكن مقال لصاحب الطعام إذا أخذ مثل طعامه، لأنّا بالغنا في الاجتهاد في نفي الضرر عنه، لا سيما وهذا الذي أتلف صبرة مبيعة قد علم كيلها قد أبطل حقًا على البائع، وهو حل عقدته، وإبطال صفقته، وحقَّا على المشتري تعلق بعين الطعام الذي اشتراه. فإذا أغرمنا المتلف مثل المكيلة فقد قام بما عليه من الحقين: حقّ البائع في أن لا يُحل عقدُه، وحق المشتري أيضًا في ذلك. وإذا تلفت بأمر من الله سبحانه، وطلبنا البائع بغرامة مثلها أضررنا به لإمكان أن لا يكون عنده ما يشتري به صبرة أخرى، وإذا لم يوجب عليه ذلك أشعر ذلك بانحلال العقد، فلا يلزم المشتري أيضًا قبول مثلها، وإن تطوع البائع بغرامة مثلها. هذا قصارى ما يمكن أن يذكر من وجه التفرقة بين التلف من قبل الله سبحانه أو التلف من جهة الأجنبي لأجل أن السّابق إلى النفس أن الطعام إن كان يراد لعينه كالعروض فإن العقد ينفسخ بتلف المبيع، كان تلفه من قبل الله سبحانه أو من قبل رجل أتلفه؛ وإن كان لا يراد لعينه كان القضاء بمثله هو الأصل كما يقضى في الدنانير والدراهم. لكن ما ذكرناه هو العذر عن التفرقة بين التلف من قبل الله سبحانه أو من قبل أحد من الناس .. وإن لم تتقدم معرفة بكيل الطعام فتلفه من قبل الله سبحانه يحلّ العقد أيضًا كما قدمناه. فإن كان تلفه من قبل المشتري فإنه يعدّ ماضيًا لما يتحرى فيه من المكيلة. ¬

_ (¬1) في (ش): هكذا.

وإن كان تلفه من البائع أو أجنبي افترق الحكم: فأما تلفه من قبل البائع فإنه يتحرى مثل الطعام في الكيل فيغرمه البائع ويَقضيه المشتريَ ويتم العقد بينهما بقبضِه لذلك: وأما إن أتلفه أجنبي فإنه لا يتحرى المكيلة ها هنا بل تلزمه القيمة. وقد تكلم الأشياخ على الفرق بين هذين لأجل أن البائع عليه غرامة ما أتلف، فتعلق حق المشتري به. وكذلك على الأجنبي لتعلق حق صاحب الطعام عليه في المطالبة بغرامة ما أتلف. فإما أن يكون التحري واجبًا فيهما كما يجب رد مكيل ما علم من المكيلة فيهما جميعًا إذا أتلفاه، أوْ لا يكون التحري ها هنا يقوم مقام العلم بالمكيلة، فيكون الواجب القيمة كما يجب في إتلاف العروض التي ليست بمكيلة ولا موزونة. وقد اعتذر عن هذين (¬1) منها: أن البائع يمكن أن يعلم قيل الصبرة التي باع، ويكتم ذلك حتى تلزمه القيمة إذا أتلفها، ليشتري بالقيمة طعاما أقل مما كان في الصبرة من الكيل، ينصر فإن (¬2) هذا الضرر عن المشتري بأن يُتحرى ما فيها فإذا كلف غيره التحريَ مما (¬3) لا يتهم ارتفع الضرر عن المشتري. وهذا الاعتذار مبناه على التهمة، وهي ها هنا لا تتضح. واعتذر بعض الأشياخ بعذر آخر، وهو أن الأجنبي إذا أتلف هذه الصبرة فألزمناه مثلها تحريًا، فإنا لا نأمن أن يغلط في التحري، فيَلزمه أكثر مما أتلف أو أقل، فيكون هذا يوقع في إباحة التفاضل بين طعامين مثليَّيْن مما فيهما الربا. واعتذر بعض الأشياخ عن هذا أيضًا، بأن الغلط في التحري لا يظهر فيه كبير ضرر بالبائع؛ لأنه يأخذ ثمن ما أغرمناه تحريًا، فإن نقص أو زاد عن تلك الصبرة علة (¬4) لم يذهب من ماله شيء بغير عوض. والأجنبي إذا غلطنا عليه في ¬

_ (¬1) فراغ في جميع النسخ بمقدار كلمة، ولعلها: بوجوه. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: ينصرف. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: ممّن. (¬4) هكذا في جميع النسخ.

التحري أضرّ به؛ لأنه قد يذهب ماله بغير عوض إذا رددنا عليه مقدار ما أتلف. وإذا تقررت هذه الفروق المذكررة بين البائع والمشتري، وكان الواجب أن يقضى على الأجنبي بالقيمة فماذا يصنع بهذا؟ أما ابن القاسم فإنه ذهب إلى أنه يشتري بهذه القيمة طعامًا (هل المنع) (¬1) المتلف فيقبضه المشتري على حسب ما ذكر في المدونة. وروي في غير المدونة عن أشهب مثل هذا. لكن ينبغي أن يعلم إذا ثبت على هذا المذهب أن هذه القيمة إذا أردنا أن نشتري به طعامًا فوجدنا السعر قد تغير فإنه إن كانت هذه القيمة يشترى بها أكثر من المكيلة التي وقع التعاقد عليها، فإنا لا نشتري إلا مقدار المكيلة، ويبقى ما فضل من القيمة لبائع الصبرة، لأن ضمانها كان منه فربحها له، وإن اشترى بها أقل من المكيلة التي وقع التعاقد عليها، فإن ذلك يجري مجرى الاستحقاق، والاستحقاق في الطعام إذا كان في اليسير منه لم يكن للمشتري فسخ العقد، لأجل ما استحق، وإن كان في الكثير كان له فسخ العقد. فكذلك العاجز ها هنا عن مقدار المكيلة التي تعاقدا عليها، ينظر فيه هل هو كثير فيكون للمشتري فسخ العقد، أو يسير فلا يكون له فسخ، وإنما يكون له أن يحط من الثمن مقدار ما عجز عن ما وقع التعاقد عليه؟ ولا يغير هذا الحكم كون هذا العاجز (¬2) ليس من قبل البائع بل هو من قبل الله سبحانه، فيجب ألا يكون للمشتري مقال في فسخ العقد لأجل العاجز (1) قلّ أو كثر، كما لا يكون له مقال في الثمرة إذا أُجيحت جائحةً أتت على أكثرها. بل تُوبعَب له مقال ها هنا في هذا العاجز (1) عن مقدار ما تعاقدا عليه من الكيل إذا كثر. كما لو اكترى دارًا فانهدم الكثير منها، أو اشترى جاريتين فماتت في المواضعة أرفعهما، فإن للمشتري مقالًا، وإن كان الموت والهدم من قبل الله سبحانه. وسنتكلم على أصول هذه المسائل إن شاء الله عند كلامنا في الاستحقاق وحكمه. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: العجز.

ولو كان هذا الأجنبي المتلف لهذه الصبرة معسِرًا لكان من حق المشتري أن يفسخ العقد، ولا يلزمه انتظار يسر هذا المتلف، بل يكون هذا مما له الخيار فيه إن شاء صبر، وإن شاء فسخ، كعيب يجده المشتري، إن شاء رضي وإن شاء فسخ العقد. ولو تطوع ها هنا البائع بأن يشتري طعامًا بالقيمة لارتفاع (¬1) خيار المشتري في هذا لارْتفاع الضرر به، لوجود المبيع يقبضه في الحال. وذكر ابن المواز عن أشهب أن هذا المتلف إذا أغرمناه القيمة انفسخ عقد المشتري، إلا أن يقر هذا المتلفُ بمكيله لكونه قد علم مقدار ما أتلف، فإن بائع الصبرة بالخيار إن شاء كذبه وأخذ منه القيمة، وإن شاء صدقه وأخذ منه المكيلة بعد أن يستحلفه عليها. ثم يكون للمشتري الخيار في أخذ المكيلة أو المطالبة بالقيمة وبأن يشتري له بها طعامًا، أو يفسخ البيع عنه. وما ذكرناه عن أشهب من وجوب انفساخ البيع إذا ألزمنا المتلف القيمة فإنما ذلك لِما تقدمت الإشارة إليه من كون إلزامنا متلف ما عُلِمت مكيلته على المكيلة يقدر فيه أن المكيلة التي وقع التبايع فيها كأنها لم تتلف. وإذا ألزمناه القيمة فلا شك أن القيمة ليست مثل المكيلة المبيعة وإذا لم تكن مثلها فقد تلف المبيع ولم يحضر ما يسد مسدّه، فوجب فسخ العقد هنا مع كون البائع إذا ألزمناه الشراء بالقيمة وحَلِفه ذلك (¬2)، ألحقنا به ضررًا لم يلزمه في عقد البيع، فيمنع من تكلف الشراء بالقيمة لما عليه في ذلك من مشقة، فكان له فسخ البيع لأجل هذه المشقة. كما قيل فيمن اشترى طعامًا واطلع على عيب بعد أن أتلفه: إن شاء أخذ القيمة فيه للعيب، لأجل ما يتكلفه من المشقة في شراء الطعام المعيب، وإن شاء يكلفه شراءه ورد مثله. وكأن ابن القاسم يرى أن الضرر بالمشتري في فسخ عقده أشد من الضرر في إلزام البائع تكلف الشراء، فكان من حقه المطالبة بتمام العقد. وقد ذكرنا اختلاف أقسام هذه الأحكام وذلك (إذا ثبت كل قسم) (2). ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: لارتفع. (¬2) هكذا في جميع النسخ.

فأما إن ثبتت دعوى تلف (الفسخ إلا) (¬1) بقول البائع: إنه تلف، فإن المنصوص من ابن القاسم في المستخرجة أنه يكلف إحضار قمح مثل ما تحريناه في المبيع، ويكال للمشتري. ومقتضى ما ذكره في هذا الأصل في كتاب السلم من المدونة أن يحلف على إتلافه من قبل الله سبحانه، وينفسخ البيع. فوجه تكليف غرامة مثله لتطرق التهمة إليه في أنه قدم على عقد البيع فيه فأخفاه، وادعى ضياعه، لينفسخ البيع وهو مضمون في الأصل عليه، فلم يسقط الضمان بدعوى أمر يتهم فيه. ووجه فسخ البيع إذا حلف أن ما ادعاه من الضياع لو ثبت لانفسخ البيع ودعواه لذلك ممكن صدقه فيها، ولا دليل يثبت هذه التهمة التي أشار إليها للآخرين، فلم يلزم بيع شيء لم يبعه بإمكان كونه كاذبًا في خبره. فذكرنا أيضًا حكم تلف هذا القمح المبيع على الكيل من قبل البائع وأوجبنا عليه غرامته. فلو كان باعه لم يجز لربه أن يجيز بيعه ويأخذ الثمن، لأنه يكون بيعًا للطعام قبل قبضه. وكذلك لو أكله لم يكن له أخذ عوض عليه سوى مثله؛ لأنه لو أُبيح له ذلك لكان بائعًا للطعام قبل قبضه، وذلك ممنوع. هذا حكم الطعام إذا بيع على الكيل. وأما إذا بيع جزافًا فإنه إن مكّن بائعه مشتريه من هذا الطعام سقط الضمان على البائع، وانتقل إلى المشتري، فيكون التعدي عليه تعديًا على مال المشتري، فيطلب بالقيمة من أتلفه، بائعًا كان أو أجنبيا. وإن احتبسه البائع بالثمن فإن ذلك جار على اختلاف قول مالك في المحتبسة بالثمن، هل يبقى الضمان على البائع لأنه لم يمكّن للمشتري من المبيع، أو لا يبقى عليه ويكون احتباسه كارتهان المشتري له؟ فإن قلنا: إن ضمانه من مشتريه، كان الحكم فيه ما قدمناه من الحكم فيه لو مكن بائعه مشتريه منه، سوى أن يكون التلف من جهة البائع وتعديه، فإنه قال ابن القاسم ها هنا: إن لمشتريه أن يفسخ البيع عن نفسه لما كان المنع من هذا البيع من جهة البائع، وله أن يطالبه بالقيمة. وذكر ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ.

في مثل هذا أيضًا أن قائلًا لو قال: تلزمه القيمة، قلّت أو كثرت، لم (¬1) مجرى القول في كون المشتري مستحق المطالبة للبائع بالقيمة. ورد القول في هذه الرواية الثانية في كونه لا يستحق الفسخ. ولو أتلفه البائع ها هنا ببيْعه له لكان للمشتري أن يجيز بيعه، ويأخذ الثمن؛ لأنه لم يبع على قيل أو وزن قد انتقل ضمانه إلى مشتريه، فأشبه العروض. وإن قلنا: إن ضمان هذا الطعام المحتبس بالثمن من البائع إن فسخ البيع، كان التلف من قبل الله سبحانه أو من أجنبي أو من بائعه، لكنه إن كان التلف من بائعه بأن باعه فإن تمكين المشتري من إجازة البيع وأخذ الثمن على هذا المذهب يختلف فيه ابن القاسم وأشهب، على حسب ما قدمناه من اختلافهما في الطعام الذي لم ينتقل عن ضمان بائعه وبيع على حدّ قيل أو وزن، كما بيناه من اختلافهما في بيع اللبن المشترى أمدًا معلومًا وهو غير موجود بل يؤخذ من ضروع الغنم. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ ولعلها يجري.

فصل في المداينة المشترط فيها القبض ببلد غير بلد المعاقد.

فصل في المداينة المشترط فيها القبض ببلد غير بلد المعاقد. اعلم أن اشتراط القبض [ببلد بعينه يوجب الوفاء به إذا كان لمشترطه فائدة فيه. ولما أن اتضح أن الدنانير والدراهم يتفق فيها أسعار البلاد وأغراض أهاليها] (¬1) لم يجب عند أهل المذهب الوفاء بهذا الشرط، بل قصر على من باع سلعته بدنانير أو دراهم وشرط قبضها ببلد سماه، وضرب لذلك أجلًا، أنه يحكم على المشتري بدفعها إذا حلّ الأجل حيث ما كان من البلاد، إذ لا فائدة له في التأخير إلى البلد المشترط حين العقد. ولهذا أيضًا احتيج في صحة هذا البيع اشتراط الأجل؛ لأن ذكر البلد لما كان ملغىً مطَّرحًا لا يقضى به، صار ذكره كالعدم. فإذا لم يذكر الأجل فسد البيع، لكون البيع على ثمن مؤخر إلى أجل غير معلوم، ولم يجعلوا مسافة البلد كأجل معلوم، لما كان ذكره لا يقضى به، فصار مشترطه كأنه لم يشترط بلدًا، وباع بثمن مؤخر إلى أجل غير معلوم. ولو كانت الدنانير المبيع بها هذه السلعة معينة غائبة ببلد معلوم، عقد البيع عليها، لصحّ ذلك إن اشترط حلفها (¬2)، وصار كبيع بدنانير في الذمة لما اشترط حلفها (2). وإن لم يشترط حلفها (2) ففي صحة البيع قولان. وقد استحب ابن المواز ها هنا ذكر الأجل، ولم يوجبه كما أوجبناه في العقد على دنانير في الذمة، لأجل أن البيع وقع ها هنا على ثمن معين (من حق مشترط تعينه ألا يلزم غيره) (¬3) يقدَّر ها هنا مسافة البلد كذكر الأجل لما تعلقت المعاوضة بأمر معين غائب، بخلاف ما كان في الذمة. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (و). (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: خلفها. (¬3) هكذا في جميع النسخ.

وقد عورض في هذا الاستحباب بأنه لا فائدة فيه، لأن الأجل إذا حلّ قبل الوصول لم يجب إخراج مال من الذمة بوقوع العقد على معين، وإن لم يحلّ وقد وصل ولا فائدة في تأخير هذا المعين ومنْع مستحقه من القبض، فصار استحباب الأجل ها هنا لا معنى له. وقد يعتذر عن هذا بأنه لما ذهب بعض أصحاب مالك إلى أن الحكم الخلف لهذه الدنانير وإن لم يشترط ذلك حين العقد، صار عب (¬1) ما عقد عليه من دنانير في الذمة ولكنها لم يكن حكمها الأجل المعين (ما قبض) (¬2) على الاستحباب. ولعلنا أن (نشترط) (¬3) الكلام على هذا في موضعه إن شاء الله. وأما إن لم تكن هذه المعاملة على دنانير أو دراهم في الذمة أو معينة غائبة، بل كانت على سلع اشترط قبضها ببلد آخر، ولكنها في الذمة، فإن هذه السلع إن كانت مما لها حمل ومؤونة وجب الوفاء بهذا الشرط، وأن لا يلزم مشترطَها القضاءُ بغير البلد المشترط. وإن كانت لا حمل لها ولا مؤونة، كاللؤلؤ والعنبر، وما يخف حمله، فإن الظاهر من المذهب أيضًا أن الحكم فيها كالحكم فيما يقتضى إلى حمل (¬4). وذكر في كتاب ابن المواز أنه لا يعتبر حكم البلد إذا تلاقى المتبايعان ببلد سعر اللؤلؤ والعنبر فيه أرخص من سعره في البلد المشترط، فإن من حق المطالب لهذا الدين أخذه حيث تلاقيا، لأن ذلك أرفق بالمطلوب، وأهون عليه. وإذا كان المذهب القضاء بالوفاء بالشرط ببلد معين، فإن البيع ينعقد ها هنا ويصح، وإن لم يضربا أجلًا، لما (¬5) ذكره للبلد ها هنا مفيدًا، ويجب القضاء به، ولم يكن ملغى في المعاملة. وإذا وقعت بدنانير أو بدراهم، واكتفي بذكر المسافة عن ذكر الأجل، فذكر ابن القاسم في سماعه أن ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. ولعلها: عين. (¬2) هكذا في جميع النسخ. (¬3) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: أن نبسط. (¬4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: الحملَ. (¬5) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: إضافة: كان، فيصير: لما كان ذكره.

مالكًا سئل عن هذا فقال: أَحَالُّ هو؟ قيل: نعم. فأجازه. فكأنه أشار إلى أن الاكتفاء بذكر المسافة عن الأجل إذا عقد البيع على الحلول، وهذا لا يحسن الخلاف فيه؛ لأنه لو عقد على التأخير المجهول لم يصح، وإنما يصح إذا عقد على أنه يبتدىء في الخروج إلى البلد بفور العقد. وقد قال فضل بن سلمة في العروض أنها مثل الدنانير، لا بد من ذكر الأجل فيها وأن يكتفي بذكر البلد. ولعله قدّر أن تعجيله للخروج لا يقتضيه القضاء (¬1) ولا العادة، فالمسافة حينئذ لا تغني عن ذكر الأجل، بل يكون الاقتصار عليها يتضمن غررًا وجهالة في الثمن، إذ لا يدري متى يختار المشتري الخروج. وقد ذكر ابن أبي زمنين أن الاقتصار على المسافة إنما يصح إذا كان السفر إلى البلد المشترط القضاء به في البرّ، وأما إن كان في البحر لا يصح ذلك فيه، ولا ترتفع الجهالة بذكر المسافة، إذ هو بحكم الريح، ولا يدري المدة التي يصل فيها. وإذا تقرر عندك أن النكتة التي تدور عليها هذه المسائل اعتبار العوائد في الشروط فإنه قد يتّفق الدنانير والدراهم أغراض في البلد المشترط، فيجب حينئذ الاقتصار عليه كالعروض. وهذه الأغراض ذكرها على الجملة أَوْلى من تفاصيلها؛ لأنها قد تنضبط البواعث على هذه الأغراض. وإذا وجب الاقتصار على البلد المشترط فحالَ دونه مخالف، وانقطعت سبله، فإن هذا قد يجري على ما قدمناه لك فيمن أسلم في ثمرة فانقطع إبّانها هل له الفسخ أم لا؟ ولو ثبت الدّين في الذمة، وحل أجله، وتعين مكانه، فبذله من هو عليه، فقال الطالب: لا آخذ، لأني إن أخذته أخذ مني بالبلد العالية (¬2). وقال من هو عليه: وأنا أتخوّف أيضًا إن أخذته (¬3) أن تأخذه منّي يدٌ عادية. فإن هذا حق من هو عليه أن يبرأ منه، ولا يلزمه صيانة مال مسلم بإتلاف ذلك المال من مال نفسه. لكن ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: اللفظ. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: العادية. (¬3) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب إن لم تأخذه.

لو لم يتخوف من عليه الدّين من أن يطلبه اليد العالية (¬1)، فإن بعض أشياخي مال إلى أنه من حقه التعجيل. وهذا فيه نظر، لأنه إذا لم تكن عليه مضرة في تأخير قضائه صار (¬2) بذلك المطالبة مع كونه يؤخذ منه ظلمًا، كإتلاف مال مسلم مع القدرة صيانة (¬3). لكن لو لحقته في هذه مضرة كان هذا في موضع الترجيح. وقد ذكر في المدونة الحميل بالوجه إذا سلمه من تحمل به في موضع لا تأخذه الأحكام أنه لا يبرأ لكونه تسليمًا لا يفيد. وإذا تعين القضاء بالبلد المشترط، فإنه يكلف من عليه الطلب الخروج لقضاء ما عليه، إذا بقي من الأجل مقدار ما يصل إلى البلد فيه. ولا يمكّن من ترك الخروج إلى زمن لو خرج فيه لم يدرك البلد إلا بعد الأجل. ولكنه لو أراد أن يوكل وكيلًا فخرج للقضاء عنه فإن ابن القاسم أجاز هذا، ومنعه سحنون، وأشار إلى أنه كالحوالة على ذمة آخر بدين لم يحل. وهذا لا يتّجه لأن الوكيل إنما يخرج على أن الدين باق في ذمة موكله، على حسب ما كان عليه الأمر حين التعاقد، ويكلف موكله أن يعطيه من الثمن ما بقي لقضاء ما عليه، إذا وصل إلى البلد المشترط، أو يتحمل ذلك الوكيل، فإن الحمالة تصح بما لم يحل من الدين، لكون المتحمل عنه لا تبرأ ذمته بالحمالة، بخلاف الحوالة بما لم يحل. وقد ذكر في الكتاب أن من عليه دين مؤجل وأراد سفرًا، فإنه يعتبر سفره: فإن كان إلى مسافة يعود من سفره قبل حلول الأجل مكّن من ذلك، وإن لم يمْكن أن يعود إلا بعد الأجل لم يمكّن من ذلك. وذكر ابن القاسم في غير المدونة أنه يحلف أن يعود قبل الأجل. واشترط بعض الأشياخ أن يكون من أهل التّهم حتى يتجه تعلق هذه اليمين به، وهذا فصل كنا أمليناه فيما تقدم، ولم نذكر ذلك حتى فرغنا من إملائه. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: العادية. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: جازت. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: على صيانته.

فصل

فصل ذكر القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى فصلًا في المزابنة وعدّدها، وذكر فيما عدّد فيها الحيَّ الذي يراد للحم كالكبش باللحم من جنسه. قال الإِمام رضي الله عنه (¬1). يتعلق بهذا الفصل أربع مسائل منها أن يقال: 1) ما جملة مذاهب الناس في هذه المسألة؟ 2) وما الظواهر الواردة فيها؟ 3) وما علة المنع؟ 4) وما الشروط المذكورة في المنع؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلف الناس في جواز بيع اللحم بالحيوان؛ فأجازه أبو حنيفة وأبو يوسف على الإطلاق. ومنعه الشافعي والليث على الإطلاق. ومنعه مالك إذا بيع اللحم بحيّ من جنس أصله، وإن بيع بغير جنس أصله أجازه. ومنعه محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة إذا كان اللحم المعاوض له مثل مقدار ما في الحي من اللحم فأقل، وإن كان مقدار اللحم أكثر من مقدار لحم الحي حتى تكون هذه الزيادة عوض (¬2) وغيره جاز ذلك. ¬

_ (¬1) في (و) زيادة نصها: ونفعنا به وبأمثاله. (¬2) كلمة غير واضحة في النسخ، ولعلها: الجلد.

وهذه المذاهب التي ذكرناها في حيوان يجوز أكل لحمه، فأمّا ما لا يجوز أكل لحمه، كالحمير والخيل والبغال، فإن مالكًا لم يمنع بيعه باللحم إذا كان من جنسها كالخيل والبغال والحمير. وذكر (¬1) أكل لحمه كالهر والثعلب والضبع فإن مالكًا كره بيعها باللحم إذا كان من جنسها. فبعض المتأخرين يرى أن نفي التحريم في هذه القوة (¬2) الاختلاف فيها، ولكنه قدح في هذا التعليل بأن مالكًا أجاز بيع الفرس بلحم من جنسها، مع ما في الفرس من الاختلاف. وبعضهم يرى أن الهر والثعلب والضبع مما تأكله الأعراب، فصارت مما تراد للأكل فمنع بيع الحي منه باللحم من جنسه مع كونه (¬3) منفعة فيه، والخيل والبغال والحمير لم تجر العادة بأكلها مع أبي فيها منافع، وهي المقصودة منها كالحمل عليها وغير ذلك من ضروب الانتفاع بها. وقد ذكرنا مذهب أبي حنيفة. وذكر بعض المتأخرين عن أشهب أنه مال إلى مذهب أبي حنيفة، قال: وأحسب أن هذا المذهب رواه عنه البرقي، والمعروف عنه خلافه. وأشار بعض الأشياخ إلى تخريج مذهب أبي حنيفة من بعض الروايات عندنا، وذلك أن ابن المواز ذكر عن مالك أنه كره بيع الشاة الشارف والكسير باللحم، ثم أجازه بعد ذلك. وقال ابن المواز: بل لا خير فيه، وبيعها باللحم أحرم من بيعها بالحية، وكل لا خير فيه. وقد علم أن بيع اللحم باللحم لا يجوز إلا متماثلًا. وقد اختلف قوله في هذه الشاة الموصوفة وما ذاك إلا لكونه رآها كالصحيحة، ولو رآها كاللحم لم يختلف قوله في المنع منها، ولكنه تردد في هذا الترجيح، وقال: يمكن أن ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وما كُرِهَ. (¬2) في (و): لقلة. (¬3) فراغ في (و) بمقدار كلمة، ولعلها: (لا).

يكون بين الفضل ما بين لحم الشاة واللحم الآخر (¬1) ارتفعت فيه المزابنة فلهذا أجازها، ويمكن أن يكون أراد لحم شاة اللحم تحريًا، فتارة رأى أن التحري لا يوثق به فمنع، وتارة رأى أن التحري ها هنا يوثق به فأجازه. هذا ضابط المذهب على طريقة المغاربة. وأما على طريقة البغداديين فإنهم يرون أن المنع من بيع اللحم بالحيوان إنما يتوجه إلى حيوان إنما يراد للحم، كالشاة المعلوفة التي تراد للذبح، والمدقوقة العنق والشارف. فأما إذا كان الحي لا يراد للذبح فإنه يجوز بيعه باللحم الذي من جنسه. ذهب إلى هذا منهم أبو بكر الأبهري، ورأيته يشير في كلامه هذا إلى أن العلة في النهي الوارد عن هذا، المزابنةُ، وهي إنما تتصور إذا كان الحي لا يراد إلا للذبح حتى يصير في حكم اللحم، فتتصور في ذلك المزابنة (وهي بيع مجهول بمجهول من جنس واحد) (¬2). وهذا مسلك القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب في الكلام الذي نقلنا عنه؛ لأنه أورده في فصل ذكر فيه المزابنة وعدّ فيها اللحم بالحيوان وهكذا وقفت لإسماعيل القاضي على كلام يشير فيه إلى هذا، فقال: إذا كان الحيوان شارفُ اأو مدقوق العنق صار بيعه باللحم من الخطر والغرر؛ لأنه أخذ الحي على أنه إن نقص عن مقدار اللحم الآخر عليه، وإن زاد فله. وإن كانت الشاة لا تراد للذبح بَعُدَتْ التهمة إلى القصد في المزابنة ووكل الناس إلى أمانتهم فيها، فإن قصدوا المزابنة في ذلك منعوا. وهكذا ذكر ابن القصار، فقال: إنما منع شيوخنا بيع اللحم بالحيوان إذا كان الحيوان إنما يراد للذبح، كالشاة المعلوفة للهراس (¬3) والجزار؛ لأنها إذا كانت كذلك فبيعت صار ذلك في معنى بيع الرطب بالتمر. وأنكر بعض الأشياخ هذه الطريقة القياسلكها البغداديون أن تكون هي ¬

_ (¬1) كلمة مهملة غير واضحة في النسخ. (¬2) ما بين القوسين هكذا في جميع النسخ .. مع أن المزابنة: بيع معلوم بمجهول أو بيع مجهول بمجهول من جنس واحد .. والجزء الذي ذكره من هذا التعريف لا يتلاءم مع الصورة السابقة. انظر حدود ابن عرفة 251 .. (¬3) هكذا في النسختين، بالمهملة، ولعل الصواب: للهراش.

طريقة المذهب، واحتجوا بما ذكرناه عن كتاب ابن المواز من اختلاف قول مالك في الشاة الكسير إذا بيعت باللحم، ولو كانت صحيحة مِمّا يبقى لم يختلف قوله في تحريم بيعها باللحم، فاقتضى ذلك أن التحريم فيما يبقى آكد منه في مثل هذه التي هي كسير وشارف. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما الظواهر الواردة في هذا فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) وقوله {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2) فإن قلنا: إنه يتصور الربا في بيع شاة بلحم من جنسها صار قوله تعالى: "وحرم الربا" يخصَّص بقوله: "وأحل الله البيع" وإن قلنا: لا يتصور في هذا الربا لكون الحي الذي يبقى كالعروض، ولجواز بيع شاة بشاتين ولا يقدر ذلك من الربا الممنوع، واحتجنا إلى تخصيص هذا العموم إما بأثر وإما بقياس: فأما الأثر فإن مالكًا روى في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سعيد ابن المسيب "أن النبي عليه السلام نهى عن بيع الحيوان باللحم" (¬3) وذكر مالك أيضًا عن داود بن الحصين أن ابن المسيب قال: ذلك مَيْسِر الجاهلية (¬4)؛ ورواية غير مالك: ذلك ربا الجاهلية وذكر عن أبي الزناد أنه قال: كان من أدركت من الناس ينهون عن ذلك، ويكتب في عهود العمال كأبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل (¬5)، فإن قيل: هذا الحديث مرسل؛ لأن ابن المسيب تابعي لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلنا: أبو حنيفة يقول بالمراسيل، فهذا الحديث حجة عليه على أصله، وإن كان مرسلًا. لكنه يبقى ها هنانظر آخر وهو تخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد، وذلك فيه خلاف بين أهل الأصول، فإن لم يقل بالمراسيل، ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية 275. (¬2) سورة النساء، الآية 29. (¬3) الموطأ: باب بيع الحيوان ج: 2 ص 183 حد 1912. (¬4) الموطأ: باب بيع الحيوان ج 2 ص 184. حد 1913. (¬5) الموطأ: باب بيع الحيوان ج 2 ص 184. حد. 1914.

وقلنا بها ولم نقل بتخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد، فإن هذا الحديث لا حجة لنا فيه، وإن قلنا بقبول المراسيل وتخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد كان في هذا الحديث حجة على أبي حنيفة. وقد احتج الشافعي فقال: أنا مالك عن زيد بن أسلم، وساق الحديث. وقد اعترض عليه بأنه لا يقول بالمراسيل، واعتذر عنه بأن الصدّيق رضي الله عنه منع من بيع اللحم بالحيوان. وقال الشافعي: لم يختلف حينئذ. وأشار (إلى بقوله) (¬1) بما روي عن الصديق، وعلى أن الذي روي عن الصديق قدح في التعلق به أيضًا، لأن المروي عنه، رضي الله عنه، أنه قسم جزورًا عشرة أجزاء، فأتى رجل بشاة، فقال: يباع مني جزء بهذه فقال الصديق: لا يصلح ذلك. فقيل: يمكن أن يكون هذا الجزور من إبل الصدقة، وقسمها قسمة الصدقة، والصدقة لا يحل بيعها، فلهذا قال: لا يصلح ذلك. وهذا وإن قيل: إن الظاهر غيره، فإنه تأويل ممكن. واعتذر عن الشافعي أيضًا (بأنه رأى أن طرق الاعتبار تمنع من هذا بقوي المراسيل عندَهُ فلهذا قبله) (1). وقيل أيضًا: إنما احتج بهذا في الزمن الذي يقول فيه بقبول مراسيل سعيد بن المسيب. وأما أصحابنا وأصحابه ما في التعلق بالحديث المرسل من الاختلاف، ذكروا أيضًا أن الحديث من طريق آخر. فقال: إن ابن المسيب رواه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أيضًا في بعض الطرق أن مالكًا رواه عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكن قال بعض المتأخرين: لا أعلمه متصلًا من طريق ثابت. واستنكروا ما روي من طريق مالك عن سهل بن سعد الساعدي. فإن ثبت هذا الاتصال عوِّل عليه، وإن لم يثبت فقد ذكرنا وجه التعلق برواية مالك في الموطأ على مذهب الأصوليين. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: ذكر ابن القاسم معنى الحديث الوارد في هذا، وعلته المزابنة. ولكنه لم يطرد هذا التعليل فيجيز بيع اللحم بالحيوان إذا تبيّن الفضْل، كما ذكر بعض الأشياخ أن مَن علّل بالمزابنة يقتضي تعليلُه جواز بيع اللحم بالحيوان إذا تبين ¬

_ (¬1) ما بين القوسين كلام غير واضح وفي معظم ما ورد في هذا الجواب غموض واضطرابٌ.

الفضل، وسلم العقد من المخاطرة والقمار. وقد حكينا كلامهم في هذا. وقد اختلف عندنا فيما لا ربا فيه هل يجوز بيع رطبه بيابسه إذا تبين الفضل (¬1)، الرطب باليابس وعين (1) الرطب باليابس. فمن أجاز ذلك رأى أن علة النهي عن بيع الرطب باليابس المزابنة والمخاطرة في مقدار أحدهما من الآخر. فإذا تبين مقدار زيادة أحدهما على الآخر زيادة لا شك فيها، ارتفع الخطر، وذهب الغرر، ولم تتصور المزابنة، فوجب الجواز. وإن قلنا: إن النهي عن ذلك غير معلل منع ذلك، ولو تبين الفضل. فأمّا من حكينا عنه أنه يجيز بيع اللحم بالحيوان إذا تبين الفضْل فإنه قد حكى عموم النهي عن بيع اللحم بالحيوان بشواهد الأصول ومفهوم قواعد الشرع من النهي عن الغرر والمزابنة. وقد تصور ذلك في بيع اللحم بالحيوان، فيجب أن يجري مع هذه العلة، فمتى ارتفعت ولم تتصور ارتفع حكمها. (وكان ابن القاسم حين عقده هذا التعليل، ولكنه لم يبسط عن الخروج عن عموم لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الضرب من الاستدلال، ولا يعلل الحديث فعله يرتفع حكم عمومه، ولكنه ما تصورت فيه العلة وهي المزابنة معه حديثًا وقياسًا، وما لم يتصور فيه منعه لأجل عموم الحديث) (¬2). ولا يستبعد من ابن القاسم هذا، فإن المذهب متفق على أن بيع اللحم بالحيوان من غير جنسه جائز .. وإنما يمنعه الشافعي .. وعموم النهي عن اللحم بالحيوان يقتضي المنع، سواء كان اللحم من جنس الحيوان أو من غير جنسه. لكن المزابنة إنما تتصور مع التجانس في العوضين حتى ينصرف للأعواض إلى الحرس (¬3) على المقادير، فيكون ذلك مزابنة. وإذا كان العوضَان من جنسين مختلفين اختلفت الأغراض. فأنت ترى أهل المذهب كيف اتفقوا على تخصيص هذا العموم بهذا النوع من الاستدلال، فلا يستنكر ما قاله ابن القاسم على أصل المذهب. ¬

_ (¬1) كلام غير واضح. (¬2) هكذا في جميع النسخ، والكلام بين القوسين غير واضح. (¬3) كلمة غير واضحة، ولعلها: الحدس.

وقد سلك أصحاب الشافعي قريبًا من هذا المسلك في التعليل، ولكنهم أتوه من طريقة أخرى، فقالوا: إن اللحم فيه الربا، والحيّ أصل هذا اللحم، واللحم كالبعض من الحي، وما كان فيه الربا فلا يباع بأصله، كما لا يباع السمسم بدهنه. وهذه الطريقة إن لم ترجع إلى ما قلناه نحن، وإلا فهي منفعته، لأن الحي المقتنى (¬1) لا ربا فيه، ولهذا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا. وإذا كان لا ربا فيه فلا معنى للالتفات إلى كون ما يعاوض به عنه وهو اللحم فيه الربا، كما لا يلتفت إلى كون اللحم فيه الربا إذا بيع بثياب لما كانت لا ربا فيها. وقد اختلف عندنا في جواز بيع الحي باللحم من جنسه مطبوخًا إلى أجل. فكرهه ابن القاسم، وأجازه أشهب، وعموم الحديث يقتضي النهي عنه، واعتبار التعليل يقتضي الجواز. لكن اللحم المطبوخ بالأبازير وغيرها يخرجه الطبخ عن اعتبار الربا بينه وبين اللحم الغير المطبوخ، ويصيره جنسًا آخر. وقد ذكرنا أن المزابنة أو الربا إنما يتصور مع كون العوضين من جنس واحد، وقد (¬2) الشيخ أبو إسحاق التونشي هذا المسألة على أن المراد بيع الحي بالمطبوخ إلى أجل، فيكون هذا كبيع كتان بثوب إلى أجل يمكن أن يصنع الثوب من الكتان. وقد تقدم وجه المنع وأما (لو كذلك) (¬3) فهذا لم يختلف فيه لكون الطبخ صيره جنسا آخر. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: أما الشروط المعتبرة في منع اللحم بالحيوان، فقد كثر الاضطراب فيها. وقد قدمنا الكلام على ما بيْن (¬4) الفضل فيه ما بين الحي واللحم. وأما اعتبار الجنسية فقد أشرنا إليه، ومذهبنا أن النهي عن بيع اللحم ¬

_ (¬1) كلمة غير معجمة في جميع النسخ، ولعلها: مُقْتنى. (¬2) فراغ: مقدار كلمة في جميع النسخ، ولعلها: قرّر. (¬3) هكذا كلمة في جميع النسخ. (¬4) هكذا ولعل الصواب تبين.

بالحيوان إنما يتصور مع اتحاد الجنس. وأما اختلافه فإن الأغراض تختلف ما بين الجنسين اختلافًا يخرج المتعاقدين على القصد إلى المزابنة، وذكرنا أن الشافعي يمنع من ذلك، وإن كان الحي من غير جنس اللحم، فمنع بيع لحم الدجاج والطير بالشاة والبعير. وأشرنا إلى سبب هذا الخلاف. وأما اعتبار كون اللحم والحيوان مما يؤكلان، ويحل أكلهما، فقد قدمنا أن مذهبنا جواز بيع الخيل والبغال، فإنا وإن كرهنا أكل لحومها، فلا يمنع من بيعها، وهي حية، بالحيوان الذريعة (¬1) من جنسها لما كثر فيها الاختلاف واشتهر. وللشافعي في هذا الذي لا يؤكل لحمه قولان: أحدهما: المنع، لعموم الحديث، والثاني: الجواز؛ لأن العلة الربا، على ما ذكرناه عنهم. وهذه اللحوم (ليست بما فيها للربا) (1) لكونها لا تؤكل، أو العلة المزابنة، والمزابنة إنما تتصور مع تساوي الأغراض في الأغراض، وما لا يجوز أكله الغرض فيه مخالف للغرض في لحم ما يؤكل. وإذا علمت أنّا نشترط تجانس العَرْضين: الحيوان واللحم، فإن الأجناس عندنا ثلاثة: فكل ما يمشي على أربع فهو جنس واحد، سواء كان وحشيًا أو إنسيًا. وكل ما كان من ذوات الأجنحة فهو صنف آخر. وكل ما كان من سمك البحر وطعامه فهو صنف ثالث. وأما الجراد فقد حكي عن مالك أنه صنف رابع، والمعروف عندنا أنه مما لا ربا فيه، وسنتكلم عليه في الربويات من الطعام إن شاء الله. فأنت تعلم متى كثرت هذه الأجناس أن بيع الشاة والبعير والبقر بلحم الأرْنب والغزال لا يجوز، لأنه بيع لحم حيوان بجنسه حيًا، ويجوز بيع الشاة والبعير بلحم السمك أو لحم الطير، ويجوز بيع حي الطير بالسمك، فإنما يعتبر في هذا الجنسية على ما عددناه فيها. وأمّا الوصف الذي يلحق منه الحي بالحيوان المنهي عن بيعه باللحم. فاعلم أن ما طالت حياته وادخر للانتفاع به (¬2) لذلك، فإنه مراد بالحديث في ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ. (¬2) كلمة غير واضحة في جميع النسخ، ولعلها: وربِّي ..

المعروف من المذهب. لكن البغداديين يخالفون في هذا، على ما حكيناه عنهنم، ويرون المزابنة إنما تتصور في كسير أو شارفٍ شارفَ الموت، يقصرون النهي على ذلك، ويجوّزون بيع ما تطول حياته، ويقتنى للمنفعة باللحم من جنسه. وقد ذكرنا ما وقع في المذهب من هذا بما يغني عن إعادته. والمنفعة المعتبرة ها هنا ما جرت العادة باقتناء ذلك الجنس من الحيوان لأجله، فالشاة والناقة والبقرة يدّخرون للدَّر والنسل، وهي منفعة مقصودة عند الجمهور في هذا الجنس من الحيوان. وأما الاقتناء من النسل كالكبش يقتنى لفحله فإن ذلك مقصود أيضًا، وهي المطلوبة في هذا الجنس، وأما لو كان كبشًا خصيًا، ولا يقتنى لصوفه، فإنه خارج عن هذا النوع الذي ذكرنا. وأما إن اقتني لصوفه فبعض الأشياخ أن ظاهر المذهب على قولين هل مجرد الاقتناء للصوف، ونماؤه لا يكون إلا مع الحياة، فلما اختص هذا بالحياة وكانت الحياة شرطًا فيه وجب أن يلحق ما يقتنى لأجل هذا بالحيوان المدخر للمنفعة المقصودة منه. وأما لو كان تيسًا خصيًّا فإنه يخرج عن هذا النوع. لكن بعض الأشياخ رأى أنه قد يقتنى لشعره ولجلده، وهذه منافع مقصودة في مثله، فألحق بهذا النوع. وأمّا ما يقتنى للحم والسمن فظاهر المذهب أيضًا أنه على قولين، وجه ذلك ما أشرنا إليه في كون مثل هذه المنفعة مقصودة في هذا الجنس أو غير مقصودة. وأمّا ما طالت حياته ولا منفعة فيه ففيه قولان: هل يلحق بها التفاتًا للمنفعة، أو لا يلحق بها لأجل كونه لا يدخر ويقتنى لمنفعته. وأما ما كانت حياته لا تطول ولا منفعة فيه فإن الأكثر من المذهب على إخراجه عن هذا النوع. لكن أشهب ألحقه بهذا النوع الذي يقتنى للمنفعة، ورآه مما يشتمل عليه عموم النهي عن بيع اللحم بالحيوان، فلم يكن لإخراجه عن جملة الحيوان وجه. وأما ابن القاسم فإنه أخذ لهذا النوع بالاحتياط، فجعل ما لا تطول حياته، ولا يدخر لمنفعة فيه، حكمه كحكم اللحم، فيمنع من بيعه بطعام (¬1) ويمنع من بيعه بحيوان يقتنى للمنفعة. وإذا كان غرضه اللحم اعتبر فيه مذهب أشهب، وألحقه بجملة. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة.

الحيوان، وألحقه بعموم الحديث احتياطًا في التحريم في الوجهين جميعًا. وأنت إذا علمت هذه الأقاويل، وصرفتها في فروعها صرفتها أيضًا في بيع الحيوان بعضه ببعض، إذا كان أحد العوضين لا تطول حياته ولا منفعة فيه، أوْ لا تطول حياته وفيه منفعة، فيجري ذلك على هذا الاختلاف الذي رسمناه. ويلتفت في هذا إذا قدرت أنهما في حكم اللحم للحي (¬1) إلى جواز بيع اللحم باللحم تحريًا. وسنتكلم على جواز بيع اللحم باللحم تحريًا، وهما في جلودهما، وقد سلخا عنهما، وسبب الاختلاف في ذلك إن شاء الله. وقد أشار بعض الأشياخ إلى مقتضى حكمنا يكون الجنس كالجنس أَلا يجوز في التعاوض بهما للمتأخرين (¬2) كما لا يجوز في الطعام بالطعام، لكنهما لما اشتركا في الحياة لم يعتبر ما يقصد منهما في حكم (¬3) - كما لا يعتبر في بيع الزيتون بالزيتون يتفاضل ما فيها من زيت، ولو بيع الزيتون بزيته لمنع واعتبر ذلك فيه. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: بيع الربا غير جائز. والربا ضربان: تفاضل ونساء. والتفاضل على وجهين: تفاضل في العين وتفاضل في القيمة. فالتفاضل في العين يحرم من جهتين: إحداهما الجنس الواحد من المقتات المدخر، وما في معناه مما يصلح الأقوات، وذلك في المسميات الأربع التي نصّ عليها الرسول عليه السلام وهي: الحنطة والشعير والتمر والملح. ويلحق بها ما في معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم والقطاني كالفول والعدس واللوبيا والحمص. وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب والزيتون. واختلف في التين، ويلحق بها العسل والسكر. ولا يحرم التفاضل في الماء كله، ولا في رَطب الفواكه التي لا تبقى كالرمان والتفاح والكمثرى والبطيخ والخيار والباذنجان والقثاء وغير ذلك ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: الحي. (¬2) هكذا في (و)، وفي (ش): للتأخير، ولعل الصواب: التأخير. (¬3) فراغ: بمقدار كلمتين في جميع النسخ.

من الخضروات، ولا فيما يدخر من الفواكه للأدوية كالمشمش والأجاص، أو على وجه الخصوص والندور كالخوخ وغيره. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة منها أن يقال: 1) ما الربا؟ 2) وما أقسامه؟ 3) وما الدليل على منعه على الجملة؟ 4) وما الدليل على تحريم ربا الفضل في النقد؟ 5) وما سبب الخلاف في علة ربا النقد؟ (¬1) والله المستعان. فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلف الناس في المراد بهذه التسمية، فقال بعضهم: هي الزيادة. واختلف هؤلاء في هذه الزيادة، فقال بعضهم: هي الزيادة في نفس الشيء لا فيما يقابله من العوض. وم الآخر ون إلى كون هذه اللفظة تنطلق على الزيادة حقيقة، سواء كانت الزيادة في نفس الشيء أو في عوضه المقابل له. ورأيت ابن داود ذهب إلى أن حقيقة هذه اللفظة الزيادةُ في نفس الشيء خاصة، واحتج بقوله: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (¬2) والأرض إنما تربو في نفسها لا في شيء يقابلها. وأجاب الآخرون عن تعلقهم بقوله عليه السلام في الذهب بالذهب وما ذكر معه "مثلًا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى" (¬3) فإنه أراد أنه فعل ما يشبه الربا أو ما قارب فعل الربا، فأشبه فعله "للربا" فأشار إلى أن الحقيقة في هذه التسمية الزيادة في نفس الشيء: وأما الزيادة فيما يقابله فإنما سمي ربا مجازًا. ورأيت ابن سريج من أصحاب الشافغي، رحمه الله، سلك قريبًا من هذا المسلك، فأشار إلى أن هذه التسمية، وإن وضعت للزيادة في نفس الشيء، ¬

_ (¬1) السؤالان السادس والسابع ساقطان في جميع النسخ. انظرها ص 462 وص 372. (¬2) الحج: 5. (¬3) أخرجه مسلم والأربعة والدارمي وأحمد. الهداية: 7/ 180.

فإنها تنطلق على الزيادة فيما يقابله بحكم العرف، ويكون من الأسماء العرفية، كالصلاة التي هي في اللغة موضوعة للدعاء، وهي في الشرع كناية عن الصلاة المعهودة التي فيها ركوع وسجود (¬1) ابن داود في أن أصلها في اللغة هو الزيادة في أصل الشيء، وأقرب للطرق بعد ذلك فاعتقد ابن داود في أن تسمية الزيادة فيما يقابل الشيء ربا مجازٌ. واعتقد ابن سريج أن هذا من الأسماء العرفية في الشرع. ونحن قد كشفنا في كتابنا في الأصول المترجم بالمحمول من برهان الأصول على حقيقة هذا المذهب في تسمية الركوع والسجود صلاة وبيناه هنالك بيانًا شافيًا. ومال آخرون إلى انطلاق التسمية على الزيادة في نفس الشيء وفيما يقابله انطلاقًا متساويًا. ويحتج هؤلاء بعموم قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (¬2) وربا عوض الصدقة من الأجور ليس هو نفس الصدقة بل هو زيادة فيما يقابلها، وما هو كالعوض عنها. واحتجوا بما وقع في الحديث من قوله عليه السلام للذي باع صاع بر بصاعين: عين الربا (¬3). فنصَّ على أن الزيادة فيما يقابل الشيء عين الربا. وثمرة هذا الاختلاف أن ابن داود نفى الربا عما سوى هذه المذكورات في الحديث من العين والطعام، واحتججنا عليه بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬4) أجاب بأن الربا المذكور في القرآن ربا الجاهلية، وهو كالزيادة في نفس الشيء، لأنهما إذا حل عليهما المطالبة بعين، فقال الطالب: تقضي أو تربي بمعنى تزيد بمقدار ما في ذمتك، صار هذا كالزيادة في نفس الشيء. وقد ذهبت طائفة إلى حمل هذه الآية على ربا الجاهلية، وجعلت الألف والسلام في قوله تعالى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} للعهد، لأن الجاهلية قالت: إذا حل لنا البيع الأول حل لنا ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ. (¬2) سورة البقرة، الآية 276. (¬3) فتح الباري: كتاب الوكالة، 6/ 396. (¬4) البقرة: 275.

البيع الثاني. وهو فسخ الشيء في أكثر منه. وأنكر ذلك عليهم سبحانه بقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1) وأخبرهم أنه أحل لهم هذا وحرم عليهم هذا، فانصرف الألف والسلام إلى ما تقدم ذكره مما أخبر الباري سبحانه به عنهم. ويؤكد هؤلاء هذا التأويل بقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (¬2) وبيع شيء بأكثر منه نقدًا لا يتصور فيه {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) وإنما يتصور فيمن فسخ دينه في أكثر منه يقال له: ذَرْ ما يُبْرِئك في الذمة من زيادة اشترطتها عوض التأخير. فإذا ذهبنا إلى أن الربا ينطلق على الزيادة في نفس الشيء وعلى الزيادة فيما يقابله، وقلنا: إن العموم إذا خرج على سبب ويقدّر دخول الجاهلية وجب أن يُقضى بحكم اللفظ في العموم لا بحكم تخصيص السبب، صح الرد على داود على هذا المذهب، ولعل ابنه إنما ذهب إلى ما حكيناه عنه في حقيقة اسم الربا، فسُدّ باب الاحتجاج على ابنه بهذه الآية. وقد ذكرنا مذهب ابن سريج ورأيته اتفصل عن هذا التعلق بقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) فإنه قد يكون ما بيع متفاضلًا نقدًا لم يقبض العوض الذي فيه الزيادة، فيتصور أن يقال {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) بمعنى: لا تقبضوا الزيادة، وسمّوا (¬3) العقد الفاسد. ومن الناس من ذهب إلى أن التسمية تنطلق على كل بيع محرم، وأُضيف هذا المذهب إلى عائشة رضي الله عنها لأجل قولها: لما أنزلت آية الربا قام النبي عليه السلام فحرم التجارة في الخمر (¬4). وهذا منه إشارة إلى أن بيع الخمر لما كان محرمًا كان ربًا، فلهذا حرمت عقيب نزول آية الربا. وأُضيف أيضًا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأجل قوله: إن من الربا بيع الثمر وهي معصية (¬5) قبل أن تطيب. فأطلق على بيع الثمر قبل الزهو اسم الربا ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية 276. (¬2) سورة البقرة، الآية 278. (¬3) في ش: ويتمّ. (¬4) المزي: تحفة الأشراف. 11/ 736 حد. 17636. (¬5) هكذا في جميع النسخ.

لما كان محرمًا. ويحتج هؤلاء بقوله عليه السلام: "الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء" (¬1) والتفاضل بين الذهب والورق جائز، وإنما يسمى (¬2) ها هنا بربا لكونها محرمة. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد قسم القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله الربا على قسمين: ربا نقد وربا نسيئة. وربا النساء لهما (¬3) يتصور وقوع هذه التسمية عليه على هذه الطريقة التي سماها لها الجواب، وهي تسمية كل بيع محرم للربا (¬4). وقد تكلمنا نحن على ربا النساء في كتاب السلم الأول فيما يحرم التفاضل (في ربا) (¬5) وفيما لا يحرم، وبسطناه هنالك بسطًا لا وجه لإعادته ها هنا. لكن ربا النساء متفق على تحريمه، ومتفق على أنه مراد بالآية التي ذكرناها. وقد يتصور في الذهب بالذهب متفاضلًا نساء، وفي القمح بالقمح متفاضلًا نساء، ويمتنع ذلك لأجل التفاضل ولأجل النساء والتأخير. وأمّا ما (¬6) وعقد على تفاضل نساء، ولكنه لا ربا في نقده، ففيه من الاختلاف الأمصار (¬7) وما قدمناه في كتاب السلم الأول في سلم ثوب في ثوبين. وأمّا ما اختلف جنسه ولا ربا في نقده فإنه يجوز النساء، كسلم عقد في ثوبين أو في ثوب واحد. وأمّا ما كان في هذه الربا (¬8) فإنك تنظر: هل يجتمع العرضان (¬9) جميعًا في علة واحدة لأجلها منع ربا الفضل بينهما أو لا يجتمعان في علة؛ فإن اجتمعا في علة واحدة كالقمح والثمر ¬

_ (¬1) الموطأ: 2/ 162. (¬2) فراغ في جميع النسخ بمقدار كلمة. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: مما. (¬4) هكذا، ولعل الصواب: بالربا. (¬5) هكذا، ولعل الصواب: فيه للربا. (¬6) كلمة غير واضحة في جميع النسخ، ولعلها: تَجانَس. (¬7) هكذا في جميع النسخ. ولعلها: من اختلاف علماء الأمصار. (¬8) هكذا. (¬9) هكذا، ولعل الصواب: العوضان.

فإن علة المنع من بيع القمح بالقمح متفاضلًا كونه مقتاتًا، والعلة في منع الثمر بالثمر متفاضلًا كونه مقتاتًا، وإن كان فيه معنى التفكه، على ما سيرد بيانه، فبيع أحدهما بالآخر نساء لا يجوز لاشتراكهما في علة ربا الفضل. وأما بيع الثمر أو القمح بدنانير أو دراهم إلى أجل فإن ذلك جائز، لأن علة ربا الفضل في الذهب كونه لما (¬1)، وفي الثمر أو القمح مقتاتًا، فقد افترقا في علة ربا الفضل فجاز بيع أحدهما بالآخر تساويًا (¬2) .. وأما ربا الفضل مع النقد فسنتكلم عليه بعد هذا. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: الربا محرم على الجملة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬3) فأنكرت (¬4) الجاهلية الاعتقاد أنها بيع مثل البيع الأول فإذا حل بها أن يسلم دينارًا في حمل إلى أجل فكذلك يحل لها إذا حل الأجل أن يفسخ العمل في حملين إلى أجل آخر، فيكون بايَعه حملًا بحملين، وأنكر الله تعالى قولهم فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) فنص تعالى على تحريمه فقال: {اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} (¬5) وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬6) وقال تعالى: {يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (¬7) وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ في أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ} (¬8) لكن هذه الآية ذهب بعض الناس إلى أنها نزلت في الهدايا. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسم، ولعل الصواب: ثمنًا. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: تساويا أو تفاضَلا. (¬3) سورة البقرة، الآية 275. (¬4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: فأنكر على. (¬5) سورة البقرة: الآية 278. (¬6) سورة آل عمران: الآية 130. (¬7) سورة البقرة: 276. (¬8) سورة الروم: الآية 39.

وأما الأحاديث (¬1) فقد غلظ النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعضها فقال: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه" (¬2) فعم باللعنة فاعله ومن أعان عليه بكتبة أو شهادة، وقال: "لا تبيعوا الذهب إلا مثلًا بمثل ... " (¬3) الحديث الوارد من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة. وأما الإجماع فإنه انعقد على تحريم الربا في النسيئة. وإن كان ربا النقد فيه خلاف سنذكره. والمعاملة بالربا في النسيئة أكثر تكرارًا لمسيس الحاجة إلى المعاملة نسيئة بزيادة، فلهذا لم يقع فيها اختلاف، وفي كون الآية في البقرة مراد بها ربا النسيئة بدليل قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (¬4) وأشعر هذا بأنه ربا في الذمة. وقد تقدم الكلام على هذا وما فيه من الخلاف مبسوطًا مبينًا بيانًا شافيًا. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: قال الله سبحانه: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (¬5) وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬6) فمن الناس من ذهب إلى أن جميع البياعات الممنوعة في الشرع غير خارجة عن هاتين الآيتين. وهذا المذهب يحسن إذا قيل: إن الربا تسمية لكل عقد محرم. أو قيل: إنه تسمية لبيع وقعت فيه زيادة في أحد العوضين. وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (6) يشتمل على بيع الغرر وما في معناه لأنه من إضاعة المال. واختلف الناس في ربا الفضل في النقد: فالمشهور المعروف عن جمهور الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم المنع منه على الجملة التي نفصلها فيما بعد ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ، ولعلها: الكثيرة. (¬2) أبو داود: اختصار المنذري، 5/ 9 حد 3193. (¬3) الموطأ: 2/ 157 حد: 1845. (¬4) سورة البقرة: الآية 278. (¬5) آل عمران: 130. (¬6) النساء: 29.

إن شاء الله. وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه جوازه. وعن عبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم (يكون الأكثر في النقد إضافتهم هذا الآن ابن عباس مع أصحابه للرجوع عن هذا المذهب إليه (¬1) فقال بعضهم رأيت ابن عباس يبيح ربا الفضل: الدينار بالدينارين فلما مضيت إلى العراق افتيت به الناس فأتاني من ذكر لي أن ابن عباس رجع عن هذا المذهب، فعدت إليه وسألته فقال: أبو سعيد الخدري يخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمنع منه. وذكر أبو سعيد الخدري قال له: هذا رأي رأيته أو سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له: إنما حدثني به أسامة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال. "إنما الربا في النسيئة" وأبيح (¬2). وإن ثبت أن هذا مما اختلف فيه الصحابة وثبت أن مَن بعدهم أجمعوا على تحريم الربا في النسيئة المذكررة في الحديث، فارتفع حكم الخلاف المتقدم بإجماع من تأخر على مذاهب الأصوليين، ولم يرتفع حكم الخلاف في قول بعضهم على ما ذكرناه في كتابنا الذي أمليناه في أصول الفقه. فأخبر ابن عباس بالوجه الذي أداه إلى مخالفة مذهب الجمهور، وهو حديث أسامة. وحديث أسامة هذا ورد بألفاظ مختلفة منها "الربا في النسيئة" (¬3) وهذا ليس بنص في نفي الربا في النقد، لكن من ناحية دليل الخطاب على أن هذه اللفظة التي تشعر بالحصر وهي قوله "إنما" من آكد دليل الخطاب. لكن روي بلفظ آخر أنه عليه السلام قال "لا ربا فيمن كان يدًا بيد" (¬4) وهو نص عمومه في نفي الربا في النقد، لكنه مقابل بما ورد من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة من قوله عليه السلام "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا ولا يزد بعضه على بعض" وفي آخر: "ولا تبيعوا غائبًا منها بناجز" وفي بعض الطرق أنه قال "الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح سواء بسواء ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، وفي الكلام اضطراب. (¬2) في ش: وأبيح النقد. والله أعلم. (¬3) إرواء الغليل: 5/ 188. (¬4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: فيما.

غير (¬1) يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم" (¬2) الحديث كما وقع هذا وغيره مما يكثر تعداده فنهي فيه عن التفاضل بين هذه المذكورات، مع اشتراطه كونها يدًا بيد وعينًا بعين. وقوله "لا تبيعوا غائبًا منها بناجز" (¬3) وفي بعض الطرق "ومن زاد أو استزاد فقد أربى" (3) وقد تكلمنا على هذه الأحاديث في كتابنا المترجم بالمعلم (3). وقد ذكر الشافعي رحمه الله في تأويلها وبناء بعضها على بعض وجواز أحدهما أنه قال: يمكن أن يكون سائلًا (¬4) سأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن التفاضل فيما بين جنسين من هذه فقال له "إنّما الربا في النسيئة" يعني أمر هذه الأجناس أنها إذا اختلفت فالفاضل بينهما حل الذي النقد وحرام في النساء إذا اجتمعا في علة واحدة كما قدمنا بيانه، فيكون الألف والسلام ها هنا ليست للجنس ولكنما المراد بها الذي وقع السؤال عنه وهو نوع من أنواع الربا. والوجه الثاني أن قوله: "لا ربا فيما كان يدًا بيد" وقوله: "إنما الربا في النسيئة" عموم في سائر هذه البياعات تجانست أو اختلفت. ولكن هذا العموم يخَص بقوله: "من الذهب بالذهب مثلًا بمثل يدًا بيد" إلى غير ذلك من الألفاظ التي ذكرناها (¬5) الأحاديث فيحتمل (¬6) قوله "إنما الربا في النسيئة" على ما اختلفت أجناسه من هذه الأنواع المذكورة بدليل منعه لربا الفضل فيما تجانس وكان يدًا بيد. وقد تأول في هذا أن قوله "إنما الربا في النسيئة" يريد العروض التي لا ربا في نقدها إذا تماثلت لكي يكون الربا فيها إذا تماثلت ووقع البيع نساء، البيع ثوب بثوبين مثله نقدًا، فإنا نجيزه، ونمنع منه إذا كان ذلك نساء لما تقدم بيانه وذكر المذاهب فيه في كتاب السلم الأول. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، والصواب حذفها. (¬2) إرواء الغليل: 5/ 189. (¬3) المعلم: 2/ 195 - 201. (¬4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: سائل. (¬5) فراغ: بمقدار كلمة في جميع النسخ، ولعلها: في. (¬6) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: يحمل.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد قدمنا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نص على تحريم الربا في ستة أنواع، وهي: الذهب والورق والبر والشعير والتمر والملح. فأمّا داود وغيره من أهل الظاهر فإنهم قصروا التحريم على هذه الستة المذكورة في الحديث، وأباحوا النقد فيما سواها من سائر الأنواع، بناء منهم على مذهبهم في نفي القياس، بأنه ليس بدليل في أحكام الشرع، وإنما أحكام الشرع مقصورة على ظواهر الكتاب والسنة. وهؤلاء إن نشأ رددنا عليهم بالطريق التي سلموا بكونها دليلًا وهو لفظ الشارع فيما رواه عمران أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" (¬1) فقوله "الطعام بالطعام" (1) يشتمل على البرّ والشعير والتمر والملح، والمنصوص على عينها في الحديث، وعلى ما سواها من سائر الأطعمة. وإن شئنا رددنا عليهم بإثبات القياس في كونه دليلًا في الشرع يجب الرجوع إليه. وأما من سواهم مِمّن يقول بالقياس، وهم أئمة الأعصار وفقهاء الأمصار فإنهم لا يقصرون تحريم الربا على هذه الستة المنصوص عليها في الحديث، بل يستنبطون من هذه الستة علة، ويقيسون عليها ما سوى الستة مما يشاركها في هذه العلة المستنبطة. واختلفوا في هذه العلة المستنبطة، فنقل بعض النقلة عن ابن الماجشون أنه يقول: العلة: المالية. وأنكر بعضهم هذا النقل والتعليل يكون الشيء مالًا، وأضاف الغلط والوهم لناقله، وأشار إلى الاتفاق. وعلل ابن حبيب ذلك بتفاوت المنفعة. وعلل ابن سيرين بالتجانس. ¬

_ (¬1) إرواء الغليل: 5/ 191.

وعلل ربيعة بوجوب الزكاة. وعلل أبو حنيفة الذهب والفضة بالوزن، والبرّ والشعير والتمر والملح بالكيل. واتفق مالك والشافعي رحمهما الله على تعليل الذهب والفضة بالثمنية، واختلفا في تعليل المطعومات الأربعة، فقال الشافعي في القديم: العلة كونها جنسٌ مأكولُهُ مكيلةٌ، وقال في الجديد، وهو المذهب الذي عليه أصحابه: العلة كونها مطعومة. وأما نحن فأكثر عندنا اختلاف العبارات عن هذه العلة في هذه المطعومات. فقال مالك رضي الله عنه في الموازية: كل ما كان من الطعام والشراب كالحبوب والأوْدُك والأدم والفواكه، رطبها ويابسها مما يدخر، وهو جنس واحد، فإن الربا فيه حرام بشرط الجنسية والادخار. وذِكْر أنواعها فيه أشارة لما يقتات ويؤتدم به وما يتفكه، واقتضى هذا أن العلة كون الشيء، قوتا أو إداما أو تفكها، مدخرًا. وأما اشتراط الجنسية فلا يفيد ذكره لأنه مشترط عند مالك والشافعي وأبي حنيفة فلا خلاف عندهم لقوله عليه السلام: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬1) وقال بعض أصحابنا كل واحد من هذه الأربعة لعلة: فالبرّيقتات حال السعة والاختيار، والشعير حال الفاقة والاضطرار، والتمر يتفكه به، والملح يصلح الأقوات، وهو أيضًا كاللحم فيها لأن الخبز واللحم إذا لم يكن فيهما ملح نافرتهما الطباع. فصارت علة القوت الاختياري أو التفكه أو المصلح للقوت. وذكر أبو بكر الأبهري من أصحابنا من علل هذه بثلاثة أوصاف فالملح والشعير العلة فيهما القوتية، والعلة في التمر التفكه، وفيه معنى القوت، والعلة في الملح كونه مصلحًا في القوت. قال: ومنهم من علل ذلك بالقوتية. وذكر ابن القصار والقاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في غير كتابه هذا أن العلة الادخار للعيش غالبًا. وأنكر بعض أشياخنا هذا، وقال: إنما يحسن هذا التعليل لوجوب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الزكاة، فإن الزكاة متعلقة بما هو في أصل العيش غالبًا، ولهذا لم يوجبها في الجوز واللوز، وإن كنا نحرم فيهما الربا لأنهما، وإن ادّخرا، فلا يدخران لأنهما أصل في العيش غالبًا. وأنكر أيضًا تعليل التمر لكونه متفكهًا به، لأجل أنه (¬1) أن كان قوتًا في زمن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. فأما هذه العبارات التي أوردناها عن أهل المذهب فإنها تتضمن الاتفاق على تحريم الربا في أنواع لم ينص عليها كالذرة والدخن والأرز والسلت وما أشبه ذلك لكون ذلك قوتًا مدخرًا اختيارًا واضطرارًا. ويتضمن الاتفاق على نفي الربا عن أنواع فيما لم ينص عليها، كالبقول مثل الخضر والهندبا والقطن وما أشبه ذلك. ويقع الإشك الذي أنواع أخر نفرضها (¬2) على هذه الحدود كالرمان فإن فيه قولين: هل يحرم فيه التفاضل أم لا؟ لأجل أنه لا يدخر للعيش غالبًا، وأنه أيضًا ليس بقوت ولكنه يدخر تفكها. وكذلك الخوخ وغيره مما سنذكر الخلاف فيه، إنما تصور الخلاف فيه لفرضه (2) على هذه العبارات، واختلاف الفقهاء فيه، في حكم العوائد فيه، فربما كان الشيء قوتا أو تفكها عند قوم، وكان بخلاف ذلك عند آخرين، على ما سنقف على تفصيله إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: أمّا ما ذهب إليه ابن (¬3) واعتبار تقارب المنفعة، وما ذهب إليه ابن سيرين من اعتبار المجانسة، وما ذهب إليه ربيعة من اعتبار تعلق الزكاة فإنه يرد على هؤلاء بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اشترى عبدا بعبدين" (¬4) وبأنه "أمر عبد الله بن عمر بأن يأخذ القلوص بالقلوصين إلى إبل الصدقة" (¬5). ومعلوم أن القلوص بالقلوصين تتقارب منفعتهما (¬6) ويتجانسان أيضًا، وكلك العبد بالعبدين، والإبل فيها ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب حذفها. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب نعرضها. (¬3) فراغ بمقدار كلمة في جميع النسخ. ولعله: ابن حبيب. (¬4) نيل الأوطار: 5/ 314. (¬5) نيل الأوطار: 5/ 315. قارن الهداية 7/ 193. (¬6) هكذا، ولعل الصواب: تتفاوت.

الزكاة، وقد أباح منها القلوص بالقلوصين. فهذا ينتظر (¬1) الرد على هذه الثلاث مذاهب المذكورة. وأما اختلاف فقهاء الأمصار فرأى (¬2) التعليل. فإنا نتكلم ها هنا على اختلافهم في تعليل الأربع المطعومات وهي البرّ والشعير والتمر والملح، ويؤخر الكلام على اختلافهم في تعليل الذهب والفضة إلى كتاب الصرف. فأما أبو حنيفة والشافعي فإنهما قد يتعلقان بظاهرٍ حسن يغنيهما عن التعليل والقياس أو يجعلانه ترجيحًا لتعلقها وقياسها. فالشافعي منهما يقول: روى معمر بن عبد الله عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" (¬3) وهذا يقتضي تحريم الربا في سائر المطعومات على حسب مقتضى تعليل الشافعي رحمه الله بالطعم. وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأنه لما أنكر النبيّ - صلى الله عليه وسلم - على عامل خيبر بيع الصالح بالصاعين، ذكر في آخر الحديث أنه قال في الميزان مثل ذلك (¬4). وهذا معلوم أنه لم يرد نفس الميزان، وإنما عبّر عن الموزون بالميزان، وعموم القول أن الموزون فيه الربا يقتضي استيعاب كل ما يوزن، وإذا ثبت تعلق الربا بكل ما يوزن ثبت تعلقه بكل مكيل؛ لأن ذكر الموزون تنبيه على المكيل ها هنا. (والآخر أيضًا تعلق الربا بكل موزون عمومًا بل تعلقه ببعض المكيلات خصوصًا) (¬5). وأما نحن فلا ظاهر عندنا من الكتاب والسنة نتعلق به في تصحيح التعليل بالقوت. لكنا إن سلمنا للشافعي هذا الحديث تأولناه على أن المراد به الأطعمة المقتاتة. ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعلها: في. (¬3) الهداية: 7/ 185. (¬4) فتح الباري: 5/ 304 - 305. (¬5) هكذا في جميع النسخ.

وقيل: خصوصيته (¬1) - صلى الله عليه وسلم - البر والشعير والتمر والملح بالذكر فلو كان سرعة (¬2) تحريم الربا في كل مطعوم لم يحسن الاقتصار على أربع منها على أكثر المطعومات. ولا يمكن أن يقال في هذا: إن الطعام في العرف عندهم لم يكن في عرف التخاطب في سائر أنواع الأطعمة بل كان على صنف أو أصناف مخصوصة، فيحمل الحديث عليها. وأمّا ما تعلق به أبو حنيفة فإنا لا نسلم له هذه الزيادة، ولا كونها من لفظ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بل يجوز أن يكون من كلام الراوي وتأويله. فإن قال الشافعي: إن لم يمكن من التعلق بعموم قوله "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" فإنه يجب أن يمكن من كونه منبّها على صحة العلة التي أخرجت، لأنّ الحكم إذا علق باسم مشتق قإن معنى ذلك الاشتقاق علة الحكم. وحكم الربا ها هنا معلق بلفظ الطعام والطعام مشتق من الطعم، فيجب أن يكون الطعم علة فيه. ألا ترى قوله سبحانه {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (¬3) {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (¬4) لما علق حكم الضرب والقطع على لفظ الزاني والسارق، وكان ذلك مشتقًا من الزنا والسرقة، كان الزنا والسرقة علّة في الحكم. وهذا لا نسلمه أيضًا لأن الأسماء إنما وضعت للدلالة على الذات وليتعارف بها الذوات المرادة بالنطق في نفي أو إثبات. ولكنها إذا حملنا الزنا والسرقة على الضرب والقطع ليس من ناحية مجرد الاشتقاق، ويكون مناسبتهما في الفعل بهذا الحكم على مقتضى أصول الشرع وتأثيرهما فيه، وللتأثير الدال على صحة التعليل هو أن تكون العلة تحمل مناسبة لما ربط بها من الحكم إذا ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، والأوْلى: تخصيصه. (¬2) هكذا في جميع النسخ. (¬3) النور: 2. (¬4) المائدة: 38.

عرضت على أصول غير معهودة في الشرع قوّت الظن بصحتها. ومعلوم أن الزنا والسرقة جنايتان عظيمتان على الأموال والإنساب، وأن الجاني إن لم يزجر عن جنايته، ويعاقب عليها. لم يكفّ عنها، فكان الزنا موجبًا الحد، لكونه جناية عظيمة (يخرج للركب) (¬1) هذا الجاني عنها بعقوبته. وكذلك السرقة إذا أخذت من غير حرز لم يجب القطع، لأن من لم يصن ماله فهو الذي أضاعه، ولا يحتاج إلى صيانة الشرع فيه، فإذا تحرز وأغلق على ماله ثم احتيل عليه وسرق له احتيج إلى إسناد الشرع في حصانة ماله بقطع اليد الجانية المتناولة ثم الرِّجْل الساعية إليه. وهذه معان مناسبة للحكم فلهذا سلمنا كونها عللا، ولم نسلم ذلك بمجرد الاشتقاق. وهاهنا أيضًا ظواهر أخر منع فيها الشارع، فتجاذبها المختلفون، وهي قوله عليه السلام: "لا تبعيوا البر بالبر إلا مثلًا بمثل" الأحاديث الواردة في هذا على اختلاف ألفاظها. وقد افتتحها بالنهي عن بيع البر بالبر عمرمًا، ثم استثنى من هذا النهي ما تساوى فيه الكيل. فيقول المخالف لأبي حنيفة: قد عمّ قوله "لا تبيعوا البر بالبر" بأقل من البر أو أكثر، وما لا يمكن كيله لقلّته، وما أمكن كيله لكثرته، وأنه حكم ما جرى التفاضل فيما قل من الطعام، فلم يمكن كيله لقلته، وعموم الحديث يقتضي المنع منه، وتعليل الحديث بما ينافي عمومه لا يقبل، كتفريع على أصل يعود التفريع بإبطال الأصل. ويجيب أبو حنيفة عن هذا بأن المراد بقوله "لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلًا بمثل" ما كان من البر يصح كيله لأن قوله "كيلًا بكيل" بيان لما تقدم، وإشارة إلى أن المراد به ما يصح كيله، والاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى فقدله "إلا كيلًا بكيل" استثناء مما يصح كيله، هذا حقيقة الاستثناء. وإذا دل الاستثناء على أنه مجانس لما استثنى منه تضمن ذلك كون المستثنى فيه (¬2) مما ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: منه.

تصح فيه المساواة في الكيل والمفاضلة. ويرى أصحاب أبي حنيفة أن هذا المراد (¬1) بهذا الحديث ويقولون: قد روي الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل وفي رواية "مثل بمثل" فمن نصب "مثلًا" أضمر فعل أمر فكان التقدير بيعوا الحنطة مثلًا بمثل. ومن رفع أضمر مصدرًا فكان التقدير: مثل بمثل. فيكون هذا بمعنى المبتدأ والخبر. فلم يأت في هذه الرواية لفظ آخر يعم ما يمكن كيله مما لا يمكن. قيل لهم: ورد فيها إيجاب المساواة بين البرين إذا بيع أحدهما بالآخر، فيحمل ما سواه من الألفاظ الواردة في الطرق الأخرى على هذا، ويكون القصد بالأحاديث إيجاب التسوية. قالوا: وإذا كان المراد إيجاب التسوية فالتسوية تكون من ناحية الذوات، ومن ناحية المقدار، فإيجاب التسوية من ناحية الذوات هو اشتراط الجنس، وهو أحد وصفي العلة، واشتراط إيجاب المساواة أيضًا يقتضي المساواة في المقدار، ولا تكون المساواة وتتحقق وتعرف إلا من ناحية الكيل، فقد تضمن هذا كون الجنس والكيل عُلقة بتحريم الربا بواسطة إيجاب التسوية، ولا معنى لمناقضتها في قولنا: إن الكيل علة، فإنه يكون علمًا على التحليل إذا تساوى وعلمًا على التحريم إذا تفاضل. ولا يكون الوصف الواحد علة التحليل والتحريم لأنا قد بيّنا أن المطلوب إيجاب التسوية لا أكثر، وإنما يتوصل إلى التسوية بالكيل، والتساوي .. بسب الخلاص من التحريم. وهو المطلوب في الشرع، وليس هو علة في التحريم والتحليل، وإنما هو علم على المساواة التي أوجبها الشرع. ولا يناقض أيضًا بجواز صاع برّجيّد بصاع بر ردىء، لأن الشرع إنما طلب المساواة من جهة التشابه كيلًا ومقدارًا، لا مساواة تعم سائر الأوصاف لأنه لو شرع هذا كان من الحرجِ العظيم، وانقطعت المعاوضات ها هنا، مع كون هذا الوصف غير منفرد عن الذات، ولا متميز، والاختلاف في المقدار متميز ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: هذا هو المراد.

محسوس بحس قدر أحدهما بالآخر. فإن المقابلة تشاهد، فإن (طالت أحدى) (¬1) على الأخرى في المقدار صارت تلك الزيادة لا مقابل لها، وإذا كانت المقابلة لم تتأتّ فيها حقيقة المساواة مع هذه الزيادة المحسوسة، ومعلوم أن البر إذا بيع بالبر هما متساويان قطعًا، فإذا بيع صاع بصاع (¬2) صار الصالح الثاني لا مقابل له، وإذا لم يكن له مقابل استح الذيه حقيقة المعاوضة، لأن حقيقة البيع نقل الملك بعوض، والمقابلة في المعاوضة إنما تصح مع المساواة في التقابل، فإذا لم يكن التقابل نافر ذلك حقيقة (ذلك فاسد) (¬3)، وهذا الصالح الزائد لا مقابل له فعروّه عن مقابلته بشيء يسلبه حقيقة البيع وقضيته وما أستُلِب منه حقيقة البيع وقضيته فسد. فلهذا المعنى حرم الربا فيما تجانس، وصار المقابل له خرج من الملك بغير معاوضة، فلحق بأكل المال بالباطل. والمقابلة مع الاختلاف في الجودة والدناءة يتصور، ولا يتبين عدم المقابلة فيها كما تتبين في زيادة المقدار، كما قدمنا. وأجيب عن هذا بأن المقابلة في المعاوضة إنما تحمل (¬4) بقصد المتبايعين، وهما إذا جعلا قصد الصالح عوض (الصاعين) قد قابلا أحد العوضين لقصدهما إلى مقابلة هذا بهذا في التعاوض، ألا ترى أن العدديات من المطعومات لا ربا فيها عند أبي حنيفة، وإن لم يتقابل، كبيع بيضة ببيضتين، وجوزة بجوزتين، وما ذلك إلا لقصد المتعاوضين جعل الواحد ها هنا عوض الاثنين، ولو لم يعتبر القصد لوجب المنع، لكون البيضة الثانية والجوزة الثانية لا مقابل لها، فخرجت عن حقيقة البيع. وأجيب عن هذا بأن هذه العدديات وما اختلفت أجناسه إنما يكون التقابل فيهما بالقيمة، ولهذا كان على متلفها القيمة في المثل، كما يكون عليه إذا أتلف ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: زادت إحداهما. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بصاعين. (¬3) هكذا في جميع النسخ. (¬4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: يحصل.

مكيلة من البر مكيلة من البرّ وإذا كانت المقابلة إنما تعتبر بالقيمة، والشرع لم يطالب بالتقويم والمقابلة، لأنه أمر خارج عن الذاتين بالتعاوض (¬1) بهما، فلهذا صح العقد مع المفاضلة والزيادة في العددية، وفي الجنسين المختلفين. وهاهنا أيضًا طريق في الاعتبار يتجاذبها المختلفون في هذا التعليل، وهي أن الشافعية تقول: الإنسان شريف في نفسه، له في الوجود مزية على غيره، فما حفظه وقامت حياته به وجب أن يكون شريفًا وله مزية على غيره فالمطعومات بها قوامه فيجب أن لا يمتهن ويبتذل بلا بيعٍ ولا إباحةٍ له على الإطلاق، كما يكون الأمر في غيرها من الأموال التي لا شرف لها. ولا يحسن أيضًا أن يحظر بيعها، فيكون في ذلك حرج وإضرار بالناس، فخصت باعتبار شروط لم تعتبر في غيرها حتى تكون لها مزية على غيرها في تضييق العقد عليها، فمنع فيها المفاضلة والنساء، كما اشترط في النكاح الصداق والولي لشرفه على غيره من المتملكات، لأجل ما فيه من تحصين الإنساب. وهذا للمالكية أن يقول أيضًا فيه. حفظ حياة الإنسان بالأقوات لا يساوي المطعومات، فيجب أن يختص هذا الشرف وهذه المزية بالأقوات خاصة دون غيرها من الأطعمة. وأصحاب الشافعي لا يمكنهم مدافعتهم عن هذا بالمناكرة لكنهم يدفعونهم عن هذا بنصه عليه السلام على الملح، والملح ليس بقوت ولكنه مطعوم، فلهذا لم يخص الشرف على المطعومات التي هي أقوات، بل يخص به سائر المطعومات عمومًا، لأجل التنبيه بذكر الملح على الطعام على القوت. والمالكية تجيب عن هذا بأن الملح وإن لم يكن قوتًا فإنه يصلح القوت، فلا يستطاب اللحم والخبر. وغيرهما من الأقوات إلا إذا أصلح به، فكأنه مقوّم للقوت، والمقوم للشيء يعدّ من جملته. وأصحاب أبي حنيفة يدافعون هذه الطريقة بأن الحاجة إلى القوت تقتضي ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: المتعاوَض.

السعة من الإباحة والإطلاق، لأن أصل البياعات إنما شرعت لأجل الحاجة إليها، فكلما كانت الحاجة إليها أمسّ كان أحق بإطلاق الإباحة واجتناب التقييد، وبيع الشيء بجنسه يشعر أن ذلك الجنس يحتاج إليه المتعاوضان، ولهذا لم يعدل أحد ما عن جنس ما في يديه، بخلاف المعاوضة بجنسين مختلفين، فإن ذلك يشعر باستغناء كل واحد منهما عن الجنس الذي باعه. وإذا وضح مسيس الحاجة إلى الجنس الواحد وجب أن توسع الإباحة فيه، خلاف ما أشار إليه أصحاب الشافعي من كونه يجب أن يختص لأجل شرفه بنصين (¬1) في الإباحة. ويجاب عن هذا بأن مسيس الحاجة إليه تقتضي المنع من بذله وامتهانه بمعاوضة وجنسه (¬2) على صاحبه لأجل حاجته إليه، فضيق عليه طرق الإباحة في العقود ليحفظ عليه، ويصان له. وإذا كان نظر التعليل اعتبار الشرف، على حسب ما بيناه، كان الطعم والقوت مجرد علة، ويكون اشتراط الجنس، الذي اتفق الجميع من فقهاء الأمصار، شرطًا أو محلًا، لأجل أنه لا يظهر في اشتراطه معنى مؤثر على حسب ما أظهرناه في اعتبار الطعم والقوت. وقد ذكرنا عن أصحابنا المالكية عبارات مختلفة في التعليل، فمن لم يقتصر منهم على ذكر القوت خاصة قال: إن القوت يفتقر إلى متهمم وهو الأدُم والدهون وهو (¬3) الملح، وإن كمل (¬4) الشيء المتمم له والمقوم له والمصلح يكون كبعض أجزائه، فلهذا عددوًا مع القوت ما ذكرنا من تلك العبارات. ويرون أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر البرّ لأنه يقتات في حال الاختيار والسعة. فقد نظّر الشارع القوت الاختياري فذكر الشعير لأنه قوت في حال الاضطرار، ثم ذكر التمر لأنه وإن كان مما يتفكه به ففيه معنى القوت، ثم ذكر الملح لأنه مصلح ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بنصّ. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: حبسه. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب خذف: هو. (¬4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: والمكمل.

للقوت، فالأربع المذكورة تشترك في كونها مأكولة ومكيلة ومدخرة ومقتاتة فكونها مكيلة لا يصلح أن يكون علة، للكيل (¬1) فيها واقع على وجه واحد لا يختلف، فلم يكن للتعديد والاقتصار على أربع فائدة، مع أن الكيل والوزن فإن (¬2) أريد به ما يصلح أن يكال ويوزن ويمكن ذلك فيه، فقد يمكن الوزن فيما لا ربا فيه كالثياب، وإن أريد به ما جرى فيه الكيل والوزن في معيار الشرع، فقد توجد مكيلات وموزونات لم يكن لها وجود في عصر الصحابة، فإن أريد المعيار المتعارف فأهل البلاد يختلفون في الاصطلاح على معيار، فقدم يكتالون الشيء وقوم يزنونه وقوم يعدّونه وقوم يجازفون فيه. وهذا يؤدي إلى اختلاف الربا باختلاف أهل البلاد. فلا ينتقض هذا بأن القول يختلف أيضًا باختلاف أهل البلاد، لأن ما يحفظ حياة الناس يحفظها في كل مكان، لكنه في بعض الأمكنة ربما عزّ وجوده فلم يجدوه قوتا، ولكنه في نفسه مهيأ لكونه قوتا، فإذا بطل التعليل بالكيل، والتعليل بالطعم، لأن المقصود منه على الأكثر كونه حافظًا للحياة أو متممًا لما يحفظها أو هو مالكها (¬3)، وبطل التعليل بمجرد الادخار، لأن الادخار إنما الغرض منه في أكثر القوت، وقد رفق الله سبحانه بعباده فجعل أقواتهم مما يبقى حتى يدخروها لوقت الحاجة إليها، فصار الحاصل من نقد هذه الأوصاف اعتبار القوت والغرض المقصود في أكثر في الأطعمة المخلوقة للإنسان وقد سلك بعض أصحاب الشافعي قريبًا من هذا المسلك، فقال (قدحا من الأربعة يمنع الدين) (3) فيما تجانس وإباحته فيما اختلف، وما ذلك إلا لكون المتجانس الغرض فيه واحد، وإذا كان مطلوب الشرع إيجاد الغرض، طلبنا نحن الكشف عن الغرض ما هو؟ فوجدناه للطعم لأن المطعومات ما خلقت لتكال أو توزن، لكن لتؤكل، فنقول نحن: بل لتكون قوتا حافظًا لحياة، على حسبما بسطناه. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: لأن الكيل. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: إن. (¬3) هكذا في جميع النسخ.

واعلم أن أصحاب أبي حنيفة إن عورضوا في التعليل للذهب (والوزن) (¬1) بالوزن، وكون المصوغات من الذهب والفضة فيها الربا وإن لم توزن، اعتذروا عن هذا بأنه عليه السلام قال "الذهب بالذهب مثلًا بمثل" فاحتمل عمومه على ما يوزن وما لا يوزن، فمنع ما لا يوزن منه بحق العموم لا بحق التعليل، وكذلك إذا عورضوا بأن أحد الوصفين يستقلّ علة في الربا، ربا بالنساء، وقد تقرّر ومنع بيع الذهب بالفضة لاشتراكهما في أحد وصفي العلة وهي الوزن، وجاز بيع الزعفران بالدنانير نساء، وإن اشتركا في أحد وصفي العلة وهو الوزن، اعتذروا بأن هذا الاشتراط إنما يؤثر إذا كانا جميعًا ثمنين أو مثمونين، فإذا كان أحدهما ثمنا والآخر مثمونا كالدنانير بالزعفران جاز ذلك إجماعًا وصار هذا الإجماع مخصصًا لهذا التعليل، أو يعتذر عنه بأن الوزن في الأثمان كالكيل في غيرها من المثمونات، فلم يشتركا في علة واحدة لكون الوزن في الدناير التي هي أثمان كالكيل في المثمونات، والوزن في الزعفران على حقيقته لا ينقل عنه إلى التشبيه بغيره. ولعلنا أن نبسط ما تعلق بهذا الاعتراض من أصول الفقه في كتاب الصرف إن شاء الله، ونتكلم على التخصيص وقصرها. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: اختلف المذهب في ثبوت الربا في بعض الثمار، كالرمان، فقال مالك رحمه الله: لا ربا فيه (عند مالك) (¬2) ولا في التفاح. وقال ابن نافع بإثبات الربا أيضًا في التفاح (والعين) (¬3) والإجاص والموز. وذكر أن ذلك مما ييبس ويدخر. وحكى ابن المواز أنه لا ربا فيه، وذكر أيضًا مما يشير إلى كراهية التفاضل فيه، فقال: وقد قال: لا يعجبني، وغير (¬4) منه قال ابن المواز: يريد ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعله زائدة والأولى حذفه. (¬2) هكذا في الجميع، وهي زيادة. (¬3) هكذا في الجميع، ولعل الصواب والعين الإجاص. انظر ص 276. (¬4) كلمة غير واضحة، ولعلها: ما يَبْيَسُ.

الرطب منه بالنضيج. فأما سبب الاختلاف في ثبوت الربا في الرمان، ففرضه، على ما تقدم من عبارات أصحابنا عن علة الربا في المطعومات الأربع المذكورة في الحديث. فمن علّل بالادخار للعيش غالبًا لم ير في الرمان ربا، لأنه لا يدخر للعيمثل غالبًا. ومن أثبت فيه الربا رآه مما يدخر للتفكّه ويكون أُدما، وقد قدمنا أن الأدم للقوت فحكمه حكمه. وكذلك يرى الخلاف في الخوخ وغيره مما ذكرنا الخلاف فيه، فإنه إذا عرض على ما قدمناه من التعليل ظهر فيه وجه الصواب. وربما كان سبب الخلاف منازعة في المختلف فيه هل هو ما يدخر أو لا يدخر؟ ولماذا يدخر، هل للدواء وما في معناه، أو للأكل، أو للعيش، والائتدام؟ فمن اعتقد فيه أحد الأمرين أعطاه حكم مقتضى ما اعتقد فيه. وأما اللوز فقد ذكرنا عن ابن المواز حكايته الخلاف فيه وتأويله لكراهة للتفاضل فيه، على أن المراد رطبه بيابسه. وهذا منه إشارة إلى أنه ليس من جنس ما يدخر للعيش والائتدام وتكون الكراهية محمولة على وجه آخر وهو بيع الرطب باليابس، وبيع الرطب باليابس إذا كانا هما للربا فلا يختلف عندنا في المنع من ذلك، كبيع الرطب بالتمر متماثلًا. وإن كانا مما لا ربا فيهما ففيه اختلاف في المذهب إذا لم يتبين فضل أحدهما على الآخر، هل يمنع لأجل ما يتصور فيه من المزابنة أو لا يمنع؟ فإذا كان الموز مما لا يدخر من المقتات، ولا هو من مصلحات الأقوات، على حسب ما قدمناه لم يكن فيه مطلب ابن المواز، لأجل أن هذا وجه آخر للكراهة فأخرجها عن هذا الباب إلى باب النهي عن المزابنة. هذه طريقة بعض الأشياخ، ومنهم من رأى أن الكراهية إنما وقعت لأجل أنه لا ينقطع شتاء ولا صيفًا فصار اتصال وجوده ودوامه على جهةٍ ما، ذَهَبَ كالادخار. وهذا النهي الذي أشار إليه ليس هو حقيقة الادخار إنما هو الادخار في الذات الواحدة المعتبر حصول وصف الربا (بية لا فيها) (¬1) على جهة التعاقد ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، والمعنى حصول البقاء في الذات لا في الجنس.

وخلف ذات أخرى. ولأجل ما في هذه الطريقة من التعقب الذي ذكرناه عن (¬1) ابن المواز إلى طريقة أخرى وهي إلحاق ذلك بحكم المزابنة. وقد أشار مالك رحمه الله إلى هذه الطريقة فقال: إن في البصل والثوم الربا لأنهما مما يدخران. واختلف المذهب عندنا على قولين في التأويل (¬2) كالفلفل والكمُّون والكَرَوْيا هل هذه الأصناف مما يدخر في الربويات أم لا؟ على ما كنا قدمنا ذكره في بيع الطعام قبل أن يستوفى، فالاختلاف في هذا ينصرف أيضًا إلى ما قدمناه وهو النظر في هذه التأويل (2) هل هي مصلحة للقوت كالملح المنصوص عليه، ولهذا يراد في الاستعمال، أو إنما يستعمل في الغالب دواء. وأما الزفيزف (¬3) فلا ربا فيه، لأنه وإن جفف رطبه وادخر فلا يدخر غالبًا للإدام أو التفكه، وإنما يدخر للتداوي. وكذلك الفريك (3) وما في هذا المعنى مما يجفف ويطول بقاؤه فلا يفسد، مما لا يقصد بادخاره إلا التداوي به، وكذلك الحلبة، واختلف هل هي طعام؟ فقيل: هي طعام، وقيل: ليست بطعام، وقيل: أما الخضراء أو المبلولة فهي طعام. وهذا أيضًا يعرض على ما قدمناه على القصد بها التداوي والعلاج، أو أكل. ومن شرط في كونها طعامًا أن تكون خضراء فلأجل أن اليابسة لا تؤكل، ولا تدخر لتيبس (¬4)، بخلاف الترمس الذي يدخر لييبس (4). واختلف أيضًا في البيض فالمشهور أن فيه الربا لأنه مما يؤكل ويحفظ الحياة ويكون بمعنى القوت، ويدخر أيضًا مدة طويلة. وإنما يفسد إذا مرّ عليها الصيف لأجل حرارة الصيف. وذكر ابن شعبان قولًا آخر بإجازة التفاضل فيه. وذكر حماد أنه سمع أن محمَّد بن عبد الحكم يذكر أنه لا ربا فيه كالفاكهة. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: مال. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب. التوابل. (¬3) هكذا، والظاهر أنهما نباتان يتداوى بهما. (¬4) كلمة غير واضحة.

فقلت: أرأيت لو رطبه (¬1) محرم أليس عليه الجزاء والفاكهة لا جزاء فيها؟ قال: فسكت. وذكر ابن حارث عقيب هذا الذي نقل عن حماد أن ما ناقضه به لا يلزم؛ لأن الحيوان في الجزاء إذا قتله المحرم وإن كان مما لا ربا فيه. وأما الزفيزف فإنه لا ربا فيه. واعتل ابن المواز لهذا بأنه إن كان جفف ويبس فإنه لا يُفعل ذلك للعيش والأكل لكن للعلاج. وهذا تنبيه على صحة ما قدمناه من ذكر الثلاثة التي يدور عليها فرض هذا الباب، وهي اعتبار الغرض في مقتضى العادة في الطعام هل يدخر ذلك وارى (¬2) العلاج أو الاقتيات والأدم وإصلاح القوت على حسب ما تقدم بسط القول فيه. والعين الذي هو الإجاص اختار بعض أشياخي كونه مما لا ربا فيه، لأنه إنما يجفف ويدخر للعلاج والتداوي لا اقتياتًا ولا تفكها. وأما الألبان واللحوم فإنها يمنع الربا فيها، وإن كانت للغالب أنها لا تدخر لأجل أنها إنما تقتات غالبًا حال رطوبتها، وهو الغرض المقصود منها. وكذلك اللُّحمان، وإن كان الغالب أنها لا تدخر، فالغرض المقصود منها هو المستعمل في الاقتيات. وقد نبهنا على الاقتيات، وهو المعتمد عليه في التعليل على أنه قد تجفف اللحمان فتدخر. وكذلك الألبان يصنع منها غالبًا ما يدخر كالجبن والأقِط والسمن، فأعطيت حال رطوبتها حكم ما نص عليه بالصنعة من الادخار والاقتيات. لكن المخيض بالجبن وقع فيه قولان: هل يجوز ذلك لكون المخيض لا يكون منه جبن فلا يدخل في نوع بيع الرطب باليابس المنهي عنه، كما تقدم. أو يمكن أن يعمل من المخيض أقِطًا فيكره بيع المخيض بالجبن، لأجل أنه يتكون منه بالصنعة الأقط، والأقط والجبن مُنع فيهما الربا. وقد قال في المدونة: لا بأس ببيع المضروب بالسمن. وقال بعض الأشياخ: هذا يشير إلى أنه لا يحرم في المخيض والمضروب التفاضل، إذا بيع بمثله، لكون ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وَطِئَهُ. (¬2) كلمة غير واضحة، ويصح الكلام بدونها.

المضروب لا يدخر ولا يصنع منه ما يدخر، بخلاف الحليب الذي يصنع منه ما يدخر كالجبن والسمن والأقط، وأجرى في جواز التفاضل في المخيض والمضروب اختلافًا في إثبات الربا، لكونهما نوعًا من جنسٍ الغالبُ ادخاره، أو يجوز فيهما الربا لكونهما في أنفسهما لا يدخران، فكذلك يكون حكم المخيض. وقد ذكر القاضي أبو محمَّد رحمه الله في الكتاب الذي هذا شرحه وهو التلقين، اختلافًا في التين. وذكر ذلك مطلقًا من غير تقييد شتوي ولا صيفي، ويبعد نفي الربا عن التين المدخر لكونه مما يقتات كالزبيب. وإذا اتفق المذهب على منع الربا من الزبيب لكونه مقيسًا على الثمن (¬1) المنصوص عليه في الحديث. فالتين كالزبيب في هذا المعنى. وأما الزيوت فإنها مما منع فيها الربا، لكونها تدخر ويؤتدم بها. لكنها تتنوع أنواعًا، فما تحقق فيها ادخاره للائتدام ويكمّل القوت، فإنه يتضح على أصلنا إثبات الربا فيه، وعلى أصل الشافعي الذي يراعي الطعْم، وعلى أصل أبي حنيفة. لكن بعض أصحاب الشافعي قسمه على أربعة أنواع: أحدها: ما يدخر للائتدام كزيت الزيتون، وزيت الفجل وما أشبههما. والثاني: ما يدخر للتداوي كدهن الخروع، والخوخ، فإنه يثبت فيه الربا عندهم لكونه مطعومًا، والمطعومات خلقت لحفظ الحياة، على ما تقدم، فما كان منها مطعومًا لكنه لا يستعمل إلا تداويًا، فإنه يثبت فيه الربا، لأن الدواء والصحة على البدن السقيم، كما أن الغذاء والقوت يحفظ الصحة على البدن الصحيح، فقد استويا في كونهما قوتين لكن أحدهما اختياري، والآخر ضروري. وهكذا الهليلج (¬2) والبليلج يثبت فيهما الربا لكونهما من جملة الطعام ويَرُدّان الصحة على البدن السقيم، فكانا كما يحفظهما على البدن الصحيح. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: التمر. (¬2) في القاموس: إِهْلِيلج.

ومن الادهان قسم ثالث، وهو ما يستعمل طيبًا كدهن الورد والبنفسج والزنبق فإن فيها لكونها تؤكل، وليس إمساكها لما هو أعلى، وهو التطيُّب، بالذي يخرجها عن كونها مطعومة. ومنها قسم رابع وهو مما لا يؤتدم به، ولا يتداوى، ولا يكون طيبًا، كزيت البذر فإنه لا ربا فيه. وهكذا اتفقوا الربا في الطين الأرميني لكونه مطعومًا يتداوي به. ونَفَوْه عن الطين الخراساني وشبهه لكونه لا يتداوى به، وإنما يكون لشهوة فاسدة كما يؤكل سفها وعيبًا، وقد قال عليه السلام لعائشة رضي الله عنها: "لا تأكلي الطين فإنه يصفر اللون" (¬1). وعندنا نحن اختلاف في جواز أكل الطَّفل سنذكره في موضعه إن شاء الله. وأما الماء، فإنه لا ربا فيه عندنا، هذا المعروف من مذهبنا. وذكر القاضي أبو محمَّد أن (¬2) ابن نافع في الماء بالطعام إلى أجل لا يجوز، ليخرّج منها إثبات الربا فيه. وفي هذا التخريج نظر لأن من المطعومات ما يحرم بيعه بالطعام إلى أجل، ويمنع بيعه قبل قبضه، كالفاكهة التي لا تقتات ولا تدخر، ومع هذا المنع يجوز الربا فيها إلا على رواية ابن وهب التي قدمنا ذكرها، من اعتبار منع بيع الطعام قبل أن يسْتوفى، أن يكون الطعام مما يمنع فيه الربا. وأما أصحاب الشافعي فإنهم ذكروا أن من مذهبهم قولين في إثبات الربا في الماء، نفاه بعض أصحاب الشافعي وأثبته غيره من أصحاب الشافعي وهو الصحيح عند أبي حامد الإسفراييني، لكن أبا حامد خرّج من هذا الاختلاف اختلافًا في مسألة أخرى، وهو بيع دار بدار فيها بئران، وقلنا: إن الماء لا يملك، وإنما يمنع صاحبه منه لحيازته إياه، وكونه مستحقًّا للمنع من التطرق في داره، فإن بيع دار بدار جائز، لكون الماءين اللذين بهما غير مملوكين، فلم يقع عقد عليهما. ¬

_ (¬1) انظر: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة لابن عراق الكناني: 257. (¬2) كلمة غير واضحة، ولعلها: رواية - انظر المعونة: 2/ 963.

قال: وإن قلنا: إن الماء مملوك، وقلنا: إن الماء يثبت فيه الربا، منع من بيع دار بدار فيها بئران، لأجل اجتناب (¬1) هذا العقد على التعاوض بأمرين فيهما الربا وبأمرين لا ربا فيهما، وهذه أحجار الدار قبض هذا، كمن باع ثيابًا ودنانير بثياب ودنانير وهو الذي خرجه في بيع دار بدار فيهما ذهبنا نحن إلى الصحيح، فخرج القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب إخراج الربا فيه من الرواية التي ذكرناها عنه، وقلنا: الانتفاع مقصوده في العقود وجب منع بيع - دار بدار فيهما بئران حلوان، أو عينان كما قال أبو حامد. وإن قلنا: إن الأتباع لا حصة لها من الثمن، وغير مقصودة في العقود جاز البيع، وإن كان الماء فيه الربا، لكن الماءين تَبع في الدارين. وسنتكلم على هذا في بيع السيف المحلَّى بذهب يسير، أو بيع الشجر المثمر بشجر مثمر مثله. وقد تقدمت إشارتنا إلى هذا في بيع الشجر المثمر بطعام إلى أجل، وذكرنا ما في ذلك من الخلاف. فوجه قول من نفى الربا في الماء كونه خلق للامتهان والبذلة حتى ورد في الشرع النهي عنه عند بعض العلماء، وما ذلك إلا تنبيهًا على المسامحة به وبذله. وقد قدمنا أن علة الربا مبنية على اكتساب الأقوات حرمة وشرفًا يجب أن يصان عن الامتهان إلا على خفة. فلو قلنا: إن الماء فيه الربا لكان هذا. مخالفًا لموضوع الأصل الذي قررناه وعللنا به الربا، ووجه القول بإثبات الربا فيه بأنه طعام قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (¬2) فسماه طعامًا، وإذا كان طعامًا فهو أيضًا مما يحفظ الحياة، والصبر عنه أقل من الصبر عن القوت، وفيه تكملة وتتميم القوت، فوجب أن يثبت فيه الربا. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: فكل مسمى مما يحرم التفاضل فيه فإنه صنف مفرد بنفسه لا يضم إليه ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في الجميع، ولعلها: اشتمال. (¬2) البقرة: 249.

سوى أنواعه، إلا الحنطة والشعير والسلت فإنها كصنف واحد، واختلف قوله في القطنية. قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة، منها أن يقال: 1) ما الدليل على كون القمح والشعير نوعًا واحدًا؟ (¬1) 2) وهل القمح والشعير جنسان؟ (¬2) 3) وهل يضاف إلى القمح والشعير والسلت غيرها أم لا؟ 4) وما حكم ما مسته النار مما تفرع من هذه الحبوب؟ 5) وما حكم ما يستخرج مما فيه الربا؟ 6) وما حكم ثمر النخيل؟ 7) وما حكم اللحوم؟ 8) وما حكم ما صُنع منها؟ 9) وما حكم ثمنَ (¬3) صنع منها؟ 10) وما حكم ما تولد عنها؟ (¬4) وما حكم المراتبة؟ (¬5) والله المستعان. فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلف الناس في القمح والشعير هل هما جنس واحد أو جنسان؟ فذهب مالك إلى أنهما جنس واحد. ¬

_ (¬1) لَمْ يَرِدْ الجواب عن هذا السؤال. (¬2) جواب هذا السؤال هو الأول في الشرح. (¬3) فراغ: بمقدار كلمة ولم يرد جواب عن هذا السؤال بالشرح. (¬4) لم يرد الجواب عنهما في الشرح. (¬5) لم يرد الجواب عنهما في الشرح.

ورُوي أن معمر بن عبد الله بعث غلامًا له بصاع قمح، وأمره أن يبيعه ويشتري به شعيرًا، فأتاه بصاع ونصف، فقال له: ردّه، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطعام بالطعام مثلًا بمثل" وطعامنا يومئذ الشعير (¬1). فهذا صاحب روى الحديث، وحمله على كونه يقتضي منع التفاضل بين القمح والشعير. وأجاب المخالف عن هذا بأن لفظ الحديث لا يقتضيه؛ لأنه إن أراد بقوله "الطعام بالطعام" أي الشعير بالشعير لكونه طعامهم حينئذ، كما قال الراوي، فلا يختلف في تحريم التفاضل بين الشعير والشعير، وإن أراد الطعام بالطعام عمومًا، جنسًا كان أو جنسين، فإن هذا متفق على منع الذهاب إليه لكون التفاضل بين الجنسين جائزًا باتفاق إذا بيعا يدًا بيد. وإذا كان هذا متفقًا عليه في الجنس الواحد أنه ممنوع التفاضل، افتقر إلى نظر آخر، هل القمح والشعير جنس واحد أو جنسان؟ على أنه قد روي في هذا الحديث أنه قيل لمعمر: إنه ليس مثله قال: أخاف أن يضارع (¬2). وهذه إشارة إلى توفي التفاضل استحبابًا لا إيجابًا. وكذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى عن التفاضل بين القمح والشعير، يمكن أن يكون ذلك استحبابًا لا إيجابًا. وسعد بن أبي وقاص أنه ذهب إلى المنع من ذلك أيضًا فإن مذهبه وحده لا يكون كالإجماع، ويستدل مالك أيضًا على منع التفاضل بين القمح والشعير بأن ما تجانس من هذه الأطعمة منع التفاضل فيه وما اختلف جنسه جاز التفاضل فيه. والمعتبر في الجنسية ها هنا تجانس المنفعة وتقاربها لأنه المطلوب من هذه الذوات ومراد الخلق بها والمقصود بملكها؛ وأما نفس الذات فمالكها على الحقيقة الله سبحانه وحده القادر على إيجادها وإعدامها، وإنما يملك الخلق على الحقيقة الانتفاع ¬

_ (¬1) البيهقي: 5/ 283. (¬2) نفس المرجع السابق.

بها فاقتضى هذا اعتبار تساوي المنفعة وتقاربها لا اختلاف الصور والأشكال. والقمح والشعير قوتان متقاربان في القوتية، فوجب أن يكونا جنسًا واحدًا. وأجيب عن هذا بأنهما غير متقاربين في القوتية لأنهما لا يقتاتان في بلد واحد على حد سواء، وإنما يقتاتان على جهات مختلفة، إما لعزة القمح وعدمه، فيرجع إلى الشعير، أو لاعتياد التقوت بأحدهما. وقد أكد الشافعي هذا بأن قال: التمر والزبيب جنسان مع كونهما قوتين حلوين يخرصان، فكذلك القمح والشعير. ومما يعتمد عليه من قال: هما جنسان، قوله عليه السلام "البر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر" الحديث المذكور فيه "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (¬1) فأفرد كل واحد من هذه بتسمية، وإفراده بها يدل على أنه جنس خارج عما سمى قبله وبعده من الأجناس، وأيضًا ففي بعض طرق الحديث "وبيعوا البر بالشعير والشعير بالبر كيف شئتم يدًا بيد" (¬2) الحديث كما وقع. ولا يعترض بأن القمح الجيد بينه وبين القمح الرديئ من التفاوت مثل ما بين دنيئ القمح وجيد الشعير، ثم مع هذا لا يحل التفاضل بين جيد القمح ودنيئه. ولا يتأول تسمية البر والشعير لأجل ما ذكرناه من دلالة هذا الحديث من كون اختلاف اسمائهما يشعر باختلاف أجناسهما. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلف الناس في بيع ما فيه الربا من الحبوب بدقيقه، فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى منع بيع البر بدقيقه. واختلف الرواة عن مالك، فذكر ابن القصار أنه روي عنه المنع إذا بيع أحدهما بالآخر كيلًا. ورواية الجواز على أنه إذا بيع أحدهما بالآخر وزنًا. ومن أصحابنا من ذهب إلى حمل رواية الجواز على ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) البيهقي: 5/ 283.

مكيال الدقيق وزنًا، ولا يكون ربا. ومن أصحابنا من ذهب إلى أن الروايتين معمولتان على إطلاقهما. وفي كتاب ابن حبيب أن الجواز فيما يكلفنا (¬1) بفعله الجيران على جهة المعروف، وأما ما كثر فلا يجوز، وقد قال رجل من أصحاب الشافعي: إن أبا عبد الله روي عنه أيضًا الجواز، فقال رجل من أصحابه: إنما أراد هذا الناقل بأن أبا عبد الله الشافعي فيكون على هذا أيضًا اختلاف قولٍ للشافعي. وأنكر أصحاب الشافعي هذا التأويل، وقالوا: إنما أراد هذا الناقل أبا عبد الله مالكا أو أبا عبد الله أحمد بن حنبل. وقد نقل عن ابن حنبل أنه يشترط في إجازة ذلك أن يكون التبايع وزنًا. وذهب عبد العزيز بن أبي سلمة إلى أنهما جنسان يحل التفاضل بينهما. فمن ذهب إلى أنهما جنسان يستدل بخلاف التسمية والصورة، كما تقدم الاستدلال بهذا على كون القمح والشعير جنسين مع اختلاف الغرض أيضًا في ادخار القمح والدقيق. ومن ذهب إلى المنع يرى أن التفاضل بينهما ممنوع لكونهما نوعًا واحدًا. لكن أحدهما تفرقت أجزاؤه وهو الدقيق، والآخر بقي على صورته وليس بين جوهريهما اختلاف، ولا في المراد منهما، وبيعهما من غير تفاضل يمنع لأن كل ما أريد (¬2) بصنعة آدمي عن أصله في صفة الادخار والغرض فإنه لا يجوز بيعه بأصله إذا كان مما فيه الربا، كبيع التمر بالنخل، والحيوان باللحم، كما قدمناه في هذا. وأما من يشترط في إجازته المماثلة من جهة الوزن، كما حكيناه عن ابن حبيب، وذكرنا أن ابن القصار تأوله على ذلك في رواية الجواز على الإطلاق، فإنه يقتضي تقدير أصل يستند هذا إليه، وهو أن ما حرم فيه الربا وطلبت فيه المماثلة، ويوجب (¬3) فيها اعتبارها بالمعيار المعتاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحمل ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: يطلبنا. (¬2) هكذا في جميع النسخ، والمعنى يقتضي: تغيّر. (¬3) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف الواو.

خطاب أهل زمانه في أمرهم بالمساواة على ما كانوا يعرفون المساواة من وزن أو قيل، فذكر بعض الناس أن ما كان أصله حينئذ الوزن فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلا باتفاق، لأن الوزن أخص من الكيل، فإذا عدل عما هو أضبط للمساواة إلى ما هو دونه في ضبطها منع من ذلك. وأما بيع ما كان أصله حينئذ الكيل وزنًا فإن بعض الناس ذهب إلى جوازه اعتلالًا منه بأن غرض الشرع المساواة بين الطعامين المبيعين فبأي الأمرين اتفقت المساواة من قيل أو وزن فيما كان أصله حينئذ الكيل فإنه جائز. وأجيب هؤلاء عن هذا بأن مطلوب الشرع حينئذ المساواة بالمعيار المعتاد حينئذ، ألا تراه قال في الحديث "كيلا بكيل" فإذا كان مطلوب الشرع المساواة بالمعيار المعتاد حينئذ وجب الاقتصار عليه وأن لا يعدل عنه إلى ما سواه، لأنهما لما عدل عنه أمكن أن يقعا في التفاضل والربا (لو تغير الطعامين بالمعيار المعتاد فيهما) (¬1). ومال ابن القصار إلى جواز بيع ما اعتبر فيه الكيل حينئذ بالوزن، لحصول المساواة به وكونه أضبط للمماثلة والمساواة من المكيال، وذكر أن القمح بالقمح لا يمنع من بيعه وزنًا بوزن، وإن كان مذكورًا في الحديث الكيل لأن مقصود صاحب الشرع المساواة. وأنكر هذا بعض الأشياخ، وقال: المعروف من المذهب خلاف هذا، وأنه لا يجوز بيع القمح بالقمح وزنًا، لأنهما وإن تساويا في الوزن فقد يختلفان في المساواة إذا كِيلا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان أهل مكة" (¬2) ولم يرد بهذا أنه ليس في العالم سوى ميزان أهل مكة ومكيال أهل المدينة، وإنما أراد الرجوع إلى مكيال أهل المدينة وميزان أهل مكة. وهذا يشير إلى منع تبديل ما كانوا عليه. وأما ما لا أصل له في المجاز (¬3) فإن من الناس من ذهب إلى أنه يعتبر فيه عادة المتبايعين به في بلادهم. فهذا فيه ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، والمعنى على: لو غُيّر الطعامان بالمعيار غير المعتاد فيهما. (¬2) مختصر سنن أبي داود: 5/ 12 - 15 حد. 3199. (¬3) هكذا في النسختين.

مأخذ الخلاف في بيع القمح بالدقيق هل هما جنسان يحل التفاضل بينهما، أو جنس واحد يمكن المساواة أو لا يمكن. وقد اعتل من ذهب إلى إمكانها ويطول (¬1) المساواة أن الدقيق فقد عين القمح، لكون أجزائه تفرقت وأجزاء القمح لم تتفرق، والتفرق والانضمام لا يخالف بين الشيئين. وأجيب عن هذا بأن هذا التفرق في الأجزاء يوقع في التفاضل لكون الأجزاء التي هي ملء صاع أكثر من الأجزاء التي في الدقيقال في هو ملء صاع، فإذا تفاضلت الأجزاء وشوهد التماثل في المعيار عيانًا، فإن ذلك يمنع منه لتحقق الربا، كما منع التمر بالرطب، وإن تساويًا في المكيال، لما يحدث من تفاضل الأجزاء إذا جف الرطب، على ما سيرد بيانه بعد هذا، وذكر ما قيل فيه. وقد أجرى بعض أشياخي هذا الاختلاف من بيع الدقيق بالقمح في بيع السميد بالدقيق لأن السميد إذا طحن زاد على مقدار الدقيق، فيختلف مذهبنا فيه على حسب ما اختلف المذهب في بيع القمح بالدقيق. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: لم يختلف أهل المذهب في كون القمح والشعير والسلت صنفًا واحدًا لا يحل التفاضل بين أحدهما وبين الآخر. وقد قدمنا مخالفة أبي حنيفة والشافعي في هذا. وأما العكس ففيه اختلاف في المذهب هل هو مما يضاف إلى القمح والشعير والسلت أيضًا، أو هو جنس خارج عنهما. كما أن المعروف من المذهب كون الأرز والذرة والدُّخن لا يضاف أحد الثلاثة إلى القمح والشعير والسلت. لكن ابن وهب من أصحاب مالك نقل عنه إضافة هذه الثلاثة إلى القمح والشعير والسلت. وهو مذهب الليث بن سعد. وإذا تقرر أن المذهب المشهور عندنا. أن الأرز والذرة والدخن لا يضاف واحد منها إلى القمح والشعير والسلت، فإن المشهور أن كل واحد منهما أيضًا ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: يقول:

صنف على حياله، لا يضاف أحدهما إلى الآخر. وعلى ما ذكر عن ابن وهب والليث يجب إضافة هذه الثلاثة بعضها إلى بعض. وأما القطنية كالفول والعدس والحمّص وما في معنى ذلك، فإن الخلاف في إضافة بعضها إلى بعض مشهور في المذهب. ففي ذلك روايتان في إضافة بعضها إلى بعض على الجملة. وقيل: إن الحمص واللوبيا يضاف أحدهما إلى الآخر. وأما الجلبان والسلت فيضاف أحدهما إلى الآخر أيضًا. وما سوى هذين لا يضاف فيه أحدهما إلى الآخر من بقية القطنية. واعلم أن منشأ الخلاف في هذا كله على أصل المذهب حسب الغرض والمنفعة بالشيئين فما تباينت فيه الأغراض وتباعدت فيه المنافع عدَّا جنسين وما تشابهت فيه الأغراض وتقاربت فيه المنافع عد جنسًا واحدًا. فاتضح عند أهل المذهب تقارب الأغراض والمنافع في القمح والشعير والسلت فعدوا ذلك جنسًا واحدًا. واختلفت آراؤهم فيما ذكرنا عنهم الاختلاف فيه، فمن اعتقد في الشيئين أنهما تتباعد الأغراض فيهما وتختلف المنافع فيهما لم يضف أحدهما إلى الآخر. ومن اعتقد تشابه الأغراض والمنافع عد الشيئين جنسًا واحدًا. وقد يستدل على صحة الاعتقاد في هذا تساوي الشيئين في المنبت (¬1) وكونهما يقتاتان في البلد الواحد عمومًا، كما اتفق ذلك في القمح والشعير عند أهل المذهب ... والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: قد تقرر أن مما يغير صورة من جهة الصنعة طحنه. وقد تكلمنا على بيع الدقيق بالقمح. ومما يغير الدقيق أيضًا عجنه. وليس العجين صنعة تخرج العجين عن أصله. كما أن الطحن ليس بصنعة تخرج الدقيق عن أصله، كما تقدم. فلا يجوز التفاضل بين دقيق وقمح، ولا بين دقيق وعجين، ولا بين عجين (¬2). ومن شرط جواز بيع أحدهما بمثله أو بأصله المماثلة في المقدار. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ رجحنا أنها المنبت. (¬2) هكذا، ولعله: وعجين.

ولكن المماثلة في المقدار لا يمكن فيما بين عجينين ودقيق وعجين. لكن يختلف المذهب في جواز بيع أحدهما بالآخر تحريًا. فيتحرى في العجينين أصل كل واحد منهما من دقيق، وما بين العجين والدقيق أصل العجين من دقيق. فمن رأى التحري لا يوثق به، وأن كثيرًا ما يقع الغلط فيه منع من ذلك لأن الشك في الوقوع في الربا بمعنى تحقق الوقوع فيه. ومن رأى أن التحري ها هنا يوثق به، والغلط فيه مما يندر، والضرورة تدعو إلى الرجوع إليه، أجاز التحري ها هنا. وأمّا إذا كان المصنوع مسّته النار، فإن ذلك يكون بقلي القمح. فبيع القمح النبي بالمقلو رأى مالك أن فيه معمرًا (¬1) حتى يطحن وأجازه ابن القاسم. وأما إن طحن المقلو حتى صار سويقًا فإن السويق يجوز التفاضل بينه وبين أصله وبينه وبين دقيق أصله. فسويق القمح يجوز التفاضل فيما بينه وبين القمح النبي وما بين دقيق القمح، لأن المنفعة فيه والغرض مخالف للقمح والدقيق والمنفعة مختلفة فوجب أيضًا أن يكونا جنسين بناء على ما تقدم تأصيله من اعتبار تشابه المنفعة والغرض أو اختلافهما. والشافعي يمنع بيع السويق، ويرى أن ما صنع مما أصله الربا لا يجوز بيعه بأصله، ولا بيع المصنوعات منه بعضها ببعض، لاختلاف أجزاء الأصل فيها. وكذلك يمنع بيع الدقيق. وأجازه أبو حنيفة في الخشونة والنعومة. والحديدة بالسويق صنف واحد لتقارب المنفعة والغرض وقال الأبهري: حليل السويق. وأشار بعض أشياخي إلى إجراء هذا على ما كنا قدمناه من تخريج الخلاف في بيع السميد بالدقيق لكون السميد إذا طحن زاد مقداره إذا قيل على مقدار ما ساواه في الكيل من الدقيق، فكذلك الحديدة إذا طحنت زاد مقدارها على مقدار السويقال في كان مساويًا له في المقدار. وسويق كل حب ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعلها: مغْمَزًا.

لا يجوز التفاضل بين حب هذا وحب هذا. لكن سويق القطنية لم يختلف المذهب في أن سويقها جنس واحد، لا يحل التفاضل ما بين سويق أحدها وسويق الآخر، لاعتقاد أهل المذهب أن المنفعة بسويق جميعها يتشابه والغرض فيها يتقارب. وأما الخبز فإنه جنس مخالف للحب الذي صنع منه، والدقيق الذي عجن منه، لأن المنفعة والغرض قد اختلفا، بينه وبين أصله، فوجب أن يكون جنسًا مخالفًا لأصله أيضًا، متماثل (¬1) للخبز الذي صنع من أصله، فلا يحل التعامل (¬2) فيهما. وإن اختلفت التسميات، مع تساوي المنفعة والغرض، لم ير ذلك، كالكعك والخبر فإنه لا يحل التفاضل بينهما إلا أن يكون في الكعك أَبزار أخرجته عن الغرض المطلوب من الخبز، والمنفعة المقصودة منه، فيجوز حينئذ التفاضل كما يجوز بين الخبز والأسفنجة لكون الغرض والمنفعة بينها وبين الخبز مختلفًا. واختلف المذهب في خبز القطنية مع القول، فإن حبها أجناس مختلفة، هل يكون خبزها أيضًا أجناسًا تابعًا إلى حبها، أو يكون جنسًا واحدًا بخلاف أصوله، لكون الغرض والمنفعة متساوية، فأشبهت السويق الذي اتفق المذهب على أنه جنس واحد إذا صنع من القطنية على اختلاف أنواعها، وإن كان في أنواع حبها من الخلاف ما قدمنا. فذهب أشهب إلى كون خبزها صنفًا واحدًا كالسويق. وابن القاسم يذهب إلى إلحاق أخبازها بحبوبهما، وإذا وجب التماثل بين الخبزين إذا بيع أحدهما بالآخر فإنه يعتبر في ذلك كون النار أخذت منها أخذًا واحدًا لتحصل الثقة، إذا بيعا جميعًا وزنًا بوزن، أنهما متماثلان في المقدار. وإذا كان أحد الخبزين رطبًا والآخر يابسًا لم يحصل التماثل، وإن ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: مماثلا. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: التفاضل.

تماثلا في الوزن، لكون الرطب إذا جف نقص عن مقدار وزن اليابس، والتفاضل في المآل يعتبر كبيع الرطب. والتحري ها هنا يجري فيه من الخلاف ما قدمناه وما سنذكره بعدها. وقد حمل بعض الأشياخ على المذهب على أن المماثلة ما بين الخبزين في المقدار يعتبر فيها الأصل الذي خُبِزا منه، فإن كان الأصلان مما لا يحل التفاضل بينهما، كخبز شعير وخبز قمح، فإنه يتحرى ها هنا الدقيق الذي عجن منه، ولا يعتبر الاتفاق في وزن الخبز، لأنهما قد يتفقان في ذلك، ويختلفان في أصل حبهما، أو دقيقهما. كان (¬1) ما عجنا منه يجوز التفاضل فيه اعتبر تساويهما في الوزن. وقد ذهب اْشهب إلى أن خبز الأرز والذرة (¬2) لا يحل التفاضل فيه بخلاف جمعه. وقال أصحابنا: الخبز تابع للأصل، فإذا كانت الأصول أجناسًا كانت الأخباز أجناسًا. ومقتضى قول ابن القاسم عند بعض الأشياخ كون خبز هذه الثلاثة مختلفًا كاختلاف أصولها. فعلى رأي بعض الأشياخ يجري اعتبار المماثلة في هذه الأخباز وزنًا وتحريًا، على ما قدمنا ذكره من الخلاف في أصولها. وقال بعض الأشياخ: إن اعتبار الوزن من غير التفات لحكم أصل الخبز لكون الخبز قد حكم بأنه جنس مخالف لأصله، فلا معنى بعد هذا للالتفات لتحري أصله. وأما السلق للحب فإن بعض الأشياخ رأى أن القول إذا سلق صار بالسلق جنسًا آخر مخالفًا للنيء منه، فيجوز التفاضل بينهما. ورأى بعض أشياخي أنهما صنف واحد، ولكنه لا يتضح هذا عنده اتضاح كون الترمس المسلوق جنسًا آخر مخالفًا لما لم يسلق، فيحل التفاضل بينهما لأجل السلق، لكون الترمس يطول ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وإن كان. (¬2) في ش: والدُّخْن.

أمره إذا سلق، وتقصر المدة في سلق القول. وأمّا السلق للحب من غير أن تمسه النار فلا يكون بذلك جنسًا مخالفًا للنيء، ولا يباع بالنيء، وإن تساويا في الكيل، لأنه ينقص الرطب إذا جف، ولا يباع مبلول بمبلول لاختلاف البلل، والشرع جاء بطلب المساواة في الحال، واعتبرها أيضًا في المآل، على ما سيرد بسط القول فيه في بيع الرطب بالتمر إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ، لا رب غيره ولا خير إلا من لدُنه. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: أما الأدهان المستخرجة من أنواع فيها الربا، فإن منها ما يختص باسم الزيت، ومنها ما يختص باسم النبيذ. ومنها ما يختص باسم النحل. فأما الزيوت فأنواع كثيرة كزيت الزيتون أو حبّ الفجل أو حبّ القُرطم أو الجلجلان أو الخس، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده. فما خرج منها من أصل واحد لم يحل فيه التفاضل كما لا يحل في أصله، كزيت الزيتون على اختلاف أنواعه وألوانه كما لا يحل التفاضل بين الزيتون بعضه ببعض، وإن اختلفت أنواعه. واختلف قول الشافعي فروي عنه أن زيت الزيتون وزيت الفجل أصناف، كما قلناه؛ وروى عنه أنه صنف واحد. وقد قدمنا أن ما يُصلح القوت أو يكون إداما للقوت فحكمه حكم القوت في تحريم الربا. وأكثر هذه الزيوت يؤتدم بها لكن زيت زريعة الكتان ذكر ابن القاسم أنه لا ربا فيه لأنه لا يؤكل. وذكر أشهب أنه لا يباع قبل أن يُستوفى؛ وهذا يقتضي عنده أنه مما يؤكل لأنه ما ليس بطعام لا يمنع من بيعه قبل قبضه في مذهبنا. وأشار بعض المصنفين في نقله لهذه الرواية عن أشهب إلى أن مقتضى مذهبه إثبات الربا فيه مما يشير إلى سياق نقله للروايات، وقول أشهب: لا يباع قبل أن يستوفى، لا يتضمن كونه مما يمنع فيه الربا، إلا على رواية ابن وهب التي قدمناها، من أنه لا يمنع من بيع الطعام قبل استيفائه إلا أن يكون مما فيه الربا.

وبعض أشياخي مال إلى أن دهن اللوز لا يثبت فيه الربا لكونه عندنا لا يستعمل غالبًا إلا تداويًا. وهذا بعيد عندي على أصل المذهب لأنه ربما كان الشيء قوتًا وإداما، ويترك في بعض البلاد الاقتيات به أو الائتدام لغلائه وعزّه، وإن كان مما يصلح عندهم قوتًا وإداما لو وجدوه، بل يؤثرونه على غيره. وأما ما يختص باسم الدهن، في المعروف عندنا، كدهن الورد والبنفسج والياسمين، فإنها عندنا لا تتخذ للإدام بل للتداوي والعلاج، فتخرج بهذا عن حكم الأطعمة، عند بعض أشياخي، فيحل فيها التفاضل والنساء. وللشافعية قولان: أحدهما: نفي الربا، والثاني: ثبوته، لأنه زيت (¬1) الجلجلان ولا تَعْلُق به سوى رائحة الورد أو البنفسج أو الياسمين، فلا يحل إلا مثلًا بمثل [على أن منهم من قال: لا تحل زيت الجلجلان مثلًا بمثل] (¬2) لأنه يستخرج بالملح فصار كجنسين مختلفين من طعام بيعا بمثلهما. وأنكر أبو حامد الإسفراييني وقال: أن الملح يَبقى في الشرج. وأما الدهن الذي ويتَدَاوى به ولا يكون طيبًا فمذهبهم أن الربا فيه لأجل رده الأجسام إلى الصحة من (¬3) الأقوات، كما تقدم في ذكر مذهبهم، كدهن الخروج ودهن اللوز المر. وصنف واحد من الأدهان لا ربا فيه، لكونه ليس إداما ولا داوء، ولا طيبا، كدهن السمك. هذا حكم الزيوت. وأمّا حكم الأنبذة، كنبيذ التمر أو العنب، فإنه لا يحل التفاضل بين نبيذين أصلهما واحد، كنبيذي تمر أو نبيذي عنب. وأمّا ما أصله مختلف، كنبيذ تمر ونبيذ عنب، ففيه عندنا قولان: المشهور أن ذلك صنف واحد. وقال أبو الفرج: بل هما صنفان. ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: كزيت. (¬2) ما بين المعقوفين زيادة من (ش). والظاهر أن (لا) زائدة والمعنى على الإثبات: يحل. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: كالأقوات.

وأما الخلول فإنها صنف واحد عندنا، وأن اختلفت أصولها، كخل العنب أو التمر أو الزبيب، فلا يحل التفاضل إذا بيع بعضها ببعض، ويجوز بيعها مثلًا بمئل. ووافقت الشافعية على جواز بيع خل الكُشْنَة (¬1) بمثله كيلًا بكيل مثله. ومنعت من ذلك في خل التمر بالتمر (¬2) لكون خل التمر يصنع بالماء، فيختلف أحد التمر (¬3) باختلاف قلة الماء وكثرته. والتفاضل في التمر حرام وكذلك التفاضل في الماء، على أحد القولين عندهم في إثبات الربا في الماء، وأما خل التمر بخل العنب فإنهما عندهم صنفان، كما أن أصوله صنفان. وأما خل العنب بخل الغريث (¬4) فلا يباع أحدهما بالآخر: لكونهما تفرعا من أصل واحد، وكل ما فيه الربا فلا يجوز عندهم ما صنع بأصله، ولا المصنوعات بعضها ببعض، لاختلاف أجزاء الأصل. وقد قال ابن القاسم في العتبية: إن النحل بالنبيذ صنف واحد لتقارب أمرهما؛ وأجرى النبيذ مع النحل مجرى الخلول، هذا مع أن النحل يطول أمره، ولهذا كان المشهور من المذهب جواز بيعه بالأصل الذي عمل منه، فيباع خل التمر بالتمر، ويباع خل العنب بالعنب، ولا يباع نبيذ العنب بالعنب ولا نبيذ التمر بالتمر. وقد قال بعض الأشياخ منتصرًا لما حكيناه عن أبي الفرج في كون الأنبذة أصنافًا بخلاف الخلول، وعنده إذا كان النبي لا يجوز بيعه بأصله لقرب عهده، فكان حكمه حكم أصله، فكما لا (¬5) يجوز التفاضل بين العنب والتمر فيجوز التفاضل بين نبيذيهما. وقد ذكر في ثمانية أبي زيد: لا يجوز بيع خل التمر بالتمر، ولا خل العنب بالعنب. وأجرى ذلك مجرى نبيذ التمر، ولم يجعل الطول في الأزمنة يخرج النحل عن حكم أصله في منع بيعه به، بل يمنع ¬

_ (¬1) انظر تاج العروس 36/ 53. (¬2) المعنى: خل التمر بخل التمر. (¬3) المعنى يقتضي: أحد الخلين. (¬4) كذا. (¬5) هكذا، ولعل الصواب حذف: لا.

ذلك للمزابنة. وهكذا ذكره في المدونة أن النبيذ والخل ليسا كزيت الزيتون وزيت الفجل، لأن هذه مختلفة ومنافعها شتى. وقال بعض الأشياخ يحتمل أن يريد هذا كون النبيذ والخل صنفًا واحدًا، كما قدمناه عن ابن القاسم. ويمكن أن يريد أن الأنبذة وإن اختلفت أصولها صنف واحد، وكذلك الخلول، وإن اختلفت أصولها فإنها صنف واحد، ولم يرد أن النبيذ والخل صنف واحد. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: لثمرة النخيل حالات: يكون طلعًا، وبلحًا صغيرًا، وبلحًا كبيرًا، أو زهوًّا، أو بُسْرا، أو رطبًا، أو تمرًا. فأمّا الطلع فإن الشيخ أبا إسحاق التونسي ذكر أن في المدونة ما يفهم منه أن الطلع ليس بطعام. وفي هذا [ما] (¬1) يفهم منه أنه طعام يمنع الربا فيه. وأما البلح الصغير فإنه ليس بطعام، بل هو صنف لا ربا فيه. ولا يستبعد كون الطلع طعامًا، ثم ينتقل إلى كونه بلحًا صغيرًا فلا يكون طعامًا لاختلاف ما يركب الباري سبحانه من طعم ومنفعة. وأما البلح الكبير فالمعروف من المذهب أن فيه الربا. ووقع في مختصر ابن شعبان في بيع البلح الكبير بالبسر أو الرطب: تركُه أحبُّ إلى (¬2) أن يجوز. ومال بعض أشياخي إلى هذا، لكونه لا يدّخر، فخرج بكونه غير مدخر عما فيه الربا. وخرج الخلاف فيه من الاختلاف في إثبات الربا في العنب الشتوي، والبر (¬3) الشتوي، فمن نفى الربا فيهما فلكونهما لا يدخران، ومن أثبت الربا فيهما ألحقهما بالغالب من جنسهما وهو. ما جد في الصيف فإنه يدخر وهو الغالب في هذه الثمرة. وقد اختلف أيضًا في بيع الزيتون الذي لا يخرج منه الزيت بزيت الزيتون، ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب زيادة: ما. (¬2) بياض بمقدار كلمة في جميع النسخ، ويتضح الكلام بتقدير: والظاهر. (¬3) هكذا ولعلها التين.

فالمشهور المنع، وأجازه ابن نافع. وهذا أيضًا بناء على ما قدمناه من (¬1) لغالبه، وغالب الزيتون كون الزيت يخرج منه، ولا يجوز بيع الزيت بأصله الذي استخرج منه لما قدمناه. وكذا يجري الأمر في بيع التين الشتوي بالصيفي، هل يراعى حكم نفسه، لكونه غير مدخر، أو يجري عليه حكم غالبه فيمنع التفاضل بسببه؟ ومن الغالب منه. وأما الزيتون الذي لا زيت له فإنه يمنع فيه التفاضلَ كونُه مدخرًا، بخلاف التين الشتوي الذي لا يدخر. وأما الرطب والبسر والتمر فإن التفاضل ممنوع في بيع شيء منها بنوعه. فيمنع بيع البسر بالبسر متفاضلًا. وكذلك الرطب بالرطب، والتمر بالتمر، وأما بيع الرطب بالتمر فقد اختلف الناس فيه. مذهب مالك والشافعي المنع منه وإنما (¬2) تماثلا في الكيل. ومذهب أبي حنيفة جواز البيع إذا تماثلا في الكيل. وسبب هذا الاختلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس" قالوا: نعم. قال: "فلا، إذن" (¬3) فنبّه - صلى الله عليه وسلم - على أنه قدم إليهم منع الربا في التمر في الحال، فكذلك ينبغي أن يعتبر في المآل. وقد علموا أن الرطب بالتمر، إذا بيع أحدهما بالآخر مثلًا بمثل، فإن الرطب إذا جفّ نقص عن مقدار التمر في الكيل، ونقصه في المكيل الحادث بعد النقد كأنه نقص موجود في حال العقد. والمخالف يقول: قد قال عليه السلام: التمر بالتمر كيلًا بكيل. وثمرة النخل تسمى تمرًا في اختلاف أحوالها، وإن خصت بعض الحالات باسم رطب أو بسر، كما أن الصبى والشاب والكهل والشيخ إنسانٌ، وإن اختص بعض شيء من عمره باسم شاب وكهل. ويبين هذا أن الرطب بالتمر بينهما تفاضل في جنس العقد لا يجوز باتفاق إذا تحقق الفضل في ¬

_ (¬1) مقدار كلمتين غير واضحتين في جميع النسخ، والمعنى: من إلحاق النادر بالغالب. (¬2) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: وإنْ. (¬3) الموطأ: 2/ 147 حد: 1826.

الحال. والمآل أن الرطب يسمى تمرًا لما منع التفاضل بينه وبين التمر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أجناسًا فيها البر والشعير والتمر، وقال في آخر الحديث المتقدم ذكره فلولا أن الرطب تمر لم يمنع التفاضل بينه وبين التمر، كما لا يمنع التفاضل بين التمر والبر، لكونه عليه السلام خص كل واحد منهما باسمه. ويدفعون عن التعلق بحديث "أينقص الرطب إذا يبس"؟ بأن يقولوا: الحديث الصادر بإباحة بيع التمر بالتمر كيلًا بكيل معلوم صحته لكثرة رواته، لأن الأمة تلقته بالقبول، وعملت بموجبه لأجله، والحديثُ المذكور فيه نقص الرطب إذا جفّ، خبرُ واحدٍ يظن صحته ظنًا، فلا يوازن بصحة الحديث المقطوع بصحته. وأيضًا فإنه زيادةٌ على قوله "التمر بالتمر كيلًا بكيل"، والزيادة على النص نسخ، ولا ينسخ مقطوع به بمظنون. وندافعهم نحن عن هذا بأن هذا ليس بنسخ، إذ لا منافاة بينه وبين قوله في التمر بالتمر كيلًا بكيل، بل هو بيان حكم واحد، وهو اعتبار المساواة التي علق الإباحة بها في المآل، كما يعتبر في الحال، لا سيما إذا قلنا بالطريقة التي قدمناها في كلامنا على علة الربا، أن قوله: "لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلًا بمثل" الحديثَ إنه نَهْيٌ عامّ على سائر أحوال بيع البر بالبر، إلا ما ثبت فيه المساواة التي جعلها سببًا للتخلص مما حرم، فيكون الأصلُ المنعَ إلا ما استثناه دليل، ولم يستثن الدليل إلا ما تساوى في الحال والمآل، على ما أفاده تنبيهه عليه السلام "أينقص الرطب إذا جفّ" وقد علمنا على هذا أن التحليل عند المساواة هنا رخصة؛ لأن العلة الطعم أو القوت، وهما موجودان حال المساواة، فصارت الإباحة المعلقة كالرخصة، لأجل الحاجة إليها، والحاجة إنما تعلق عند الجفاف وإمكان الإدخار وتكامل الصنعة، فوجب تعليق المساواة بحالة الكمال التي تكمل بها المنافع، وتتحقق الحاجة حينئذ إلى الرخصة. وهم يقابلون هذا بأن يقولوا: علّق التحليل بالمساواة، وإنما تمكن

الإنسان (¬1) المساواة ها هنا حال العقد، وبحال العقد تتعلق الأحكام ويتوجه الخطاب. وأما اعتبار المساواة بين الرطب والتمر إذا جف الرطب فلا يتصور لأنه إذا جف صار تمرأولم يكن رطبًا، وإذا لم يكن رطبًا استحالت المساواة حينئذ بين التمر والرطب. ولا يُنقَضُ هذا بمعنى بيع القمح بالدقيق كيلًا، لأنا لم نمنع ذلك اعتبارًا بما يحدث في المآل من زيادة في الكيل، لكن لكون الإنسان مخاطبًا في بيع الحنطة بالحنطة بالمساواة قبل أن يطحن، فإذا طحن فقد منع نفسه من إمكان المساواة، فصار هو الذي جنى على نفسه في منع قدرته على المساواة، فلم يرخص له في هذا. والرطب بالتمر لا اكتساب له في نقص أو زيادة ولا جناية وقعت منه، فحسن الترخيص له، مع أنا قدمنا أن الرطب يُسمّى تمرًا، فدخل في عموم قوله عليه السلام في البرّ "كيلًا بكيل" والدقيق لا يسمّى برًا، فلم يدخل في عموم قوله "البر بالبر كيلًا بكيل" مع كون الدقيق هو أجزاء الحنطة التي تعلق بها الربا، ولكنها مفترقة، وأجزاء البر الذي لم يطحن مجتمعة، قبل حكم الربا فيهما على ما كانا عليه قبل الطحن. وأما بيع الرطب بالرطب فإن المشهور عندنا جوازه. ومنع منه عبد الملك بن الماجشون والشافعي، ذهابًا إلى أن الرطب إذا بيع برطب اختلف بعضها عند الجفاف، وقد ورد الشرع باعتبار المماثلة. وكذلك المذهب عندنا على قولين في بيع جديد التمر بقديمه. ومال بعض أشياخي إلى المنع من بيع الرطب بالرطب لاختلاف نقصه في المال، إذا كان جُني من صنفين من أنواع التمر. وأما إن كان جني من صنف واحد فإن النقص فيه يتماثل. وهذا المعنى الذي أشار إليه صحيح إن سلم له أن مَا جني من صنف واحد تساوَى نقصه، ولا يختلف لاختلاف ما باشرفه الشمس وكادت أن تنضجه، وما لم تباشره فتبقى رطوبته على الكمال. وقد أشار بعض الأشياخ إلى أن الرطب فيه أجزاء تمرية مازجها أجزاء من الرطوبة الحلوة، فصار هذا ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: حذفها.

تعاوضًا بجنسين عن جنس قبلها، لكون هذه الأجزاء التي انضافت إلى الأجزاء التمرية لما كانت هي المرادة والمقصودة في حال رطوبة هذه التمرة، وجب أن يكون للرطب حكم الجنس. وكذلك يمنع عندنا بيع قصب السكر بعسله أو برُبّه الذي لم يدخله ابزار. ويمنع من بيع عسله بربه لأجل المزابنة التي قدّرناها في بيع الرطب باليابس. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: اللحم فيه الربا، لأنه مما يقتات ويحفظ الحياة ويؤتدم به، ومما يمكن ادخاره بالتجفيف. لكن المقصود في عادة الاستعمال أكله طريًا، اقتياتًا وائتدامًا، إيثارًا لما هو أشهى وأعذب في الطباع، مع كونه في نفسه صالحًا للإدخار. وما تساوى جنسه حَرم فيه التفاضل. فاللحوم عندنا ثلاثة أصناف، فتعلق به (¬1) الربا. وقد قدمنا أن ما اختلفت أجناسه من الربويات حل فيه التفاضل. فذوات الأربع صنف واحد، وحشيّها وإنسيّها، صغيرها وكبيرها، لا يجوز فيها التفاضل، فيمنع بيع شيء من لحمها بلحم الإبل أو الغنم أو الظباء أو الأرانب، متفاضلًا، ولا يجوز إلا مثلًا بمثل. والصنف الثاني: ذوات الريش، وهي صنف واحد، داجنها وشاردها، صغيرها وكبيرها. فيمنع من بيع شيء من لحم الدجاج بأكثر منه من لحم الحمام أو العصافير أو الإوز أو غير ذلك من سائر أنواع الطير. والصنف الثالث: داوب الماء فيمنع بيع شيء من أصناف الحوت بأكثر منه من صنف آخر، تساويا في الجرْم أو الطعم، أو اختلفا، فيمنع بيع المتن أو القلقط، بالصند أو اللجمي (¬2)، متفاضلًا. ¬

_ (¬1) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: بها. (¬2) أسماء عرفية غير واضحة كتابتها.

وأما الجراد فإنه صنف رابع والمعروف من المذهب أن بيع بعضه ببعض متفاضلًا جائز، وهكذا ذكر ابن المواز عن أشهب، وذكر ابن حارث عن سحنون أنه يمنع بيع بعضه ببعض متفاضلًا، وإلى هذا مال بعض أشياخي، ورأى أنه مما يدخر. واختلف قول الشافعي فذهب إلى أن جميع اللحوم على اختلاف أنواعها صنف واحد، وذهب أيضًا إلى أنها أصناف شتى، فلحم الإبل صنف، ولحم البقر صنف، ولحم الضأن صنف، يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومنع ابن حنبل من بيع اللحم الطبري بمثله، واشترط في جواز البيع أن يكونا جميعًا جافين، فيجوز البيع حينئذٍ، مثلًا بمثل لا تفاضل بينهما. وكأنه رأى اللحم إن كان طريًّا كالرطب. وقد نبهنا نحن فيما مضى على أن المقصود في اللحم طراءته، والمقصود منه (إذا بيع التمر أو بيع بمثله على القول بالمنع من بيع رطب برطب بمثله) (¬1). واعلم أنا قدمنا أن المعتبر في الجنسية تقارب المنفعة والأغراض. ومن اعتقد خلاف ذلك في لحم البقر مع لحم الضأن أو البقر (¬2) عدهما جنسًا، كأحد قولي الشافعي، ومن رأى تقاربهما في المنفعة والغرض عدهما جنسًا واحدًا، كما ذهب إليه مالك. وأما أحد قولي الشافعي فإن اللحوم كلها صنف واحد (¬3) في الاختلاف، فإنه اعتبر اشتراكها في تسمية لحم اسم خاص بجميعها يتناول جميع أنواعهما. بخلاف تسمية أجزاء الثمر ثمرًا لأن لكل ثمر اسمًا يخصها كعنب وتسعين ورمان وتفاح، وليس لكل نوع من اللُّحمان اسم يخصه، وإنما يميَّز بإضافته هذه التسمية إلى تسمية أخرى، فيقال: لحم بقر أو لحم إبل. وأما الجراد فإن فيه اختلافًا في الموازية أن التفاضل في بيع بعضه ببعض ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا نصه. هكذا في الجميع، ولعل الصواب: لا يجب أن يشرع، (¬2) هكذا في جميع النسخ، والأوْلى حذف: أو البقر. (¬3) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.

جائز. ومنع سحنون بيع بعضه ببعض متفاضلًا، ورآه مما يدّخر، فيكون على هذه الطريقة لاحقًا باللحمان، ولكنه صنف رابع. فأحطت (¬1) علمًا بهذه الأجناس، فبيع لحم بلحم مما يعد من جنسه متفاضلًا لا يجوز كلحم بقر بلحم الضأن أو لحم إبل بلحم بقر أو لحم حيوان من ذوات الأربع الوحشي بلحم إنسي، وعلى هذا الأسلوب يجري في بقية الأجناس والله المستعان لا ربّ سواه ولا خير إلا منه. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: إن اللحم إذا شوي أو قدّد من غير أبزار خالطته فإنه لا ينتقل عن حكم اللحم الطبري، ولا يجوز فيه التفاضل. وأما التماثل في بيع الطبري بالقديد فيعْسر الوقوف على حقيقته وزنًا. وهل يجوز الاقتصار في التماثل على تحري المساواة؟ هذا مما اختلف فيه المذهب، وهو اختلاف في صفة، فمن منع المبايعة على المساواة تحرّيًا رأى أن التحري لا يوثق به، وقد يغلط المتحري تارة، ويصيب أخرى، وقد قدمنا أن الشك في التفاضل في الربويات كاليقين به في المنع. ومن أجاز ها هنا الاقتصار على التحري، وقدره بما يُبعد الغلط فيه غالبًا إذا كان من يتحرى عارفًا بالمقدار في هذا صحيحَ الحدس والتخمين فيها. وكذلك بيع اللحم الطبري بالطري إذا بعد العهد بذبح أحدهما أو قرب عهد الذبح باللحم الآخر، لأن اللحم الأقدم ذبحًا أكثر جفافًا. وكذلك رأى ابن حبيب في القديد بالقديد والمشوي بالمشوي أنه لا يجوز فيه المبايعة لاختلاف تجفيف الشمس في القديد وتجفيف النار في الشواء، وإن كان المشهور من المذهب جواز بيع القديد بالقديد بناء على أن ذلك يكاد لا يختلف غالبًا اختلافًا محسوسًا واختلافًا مقصودًا. وبيع الطبري بالقديد ممنوع كما يمنع الرطب بالتمر وهو من المزابنة. وأما إن صنع القديد بأبزار عظّمت فيه النفقة فإنه ينتقل حكمه عن حكم ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: فإذا أحطت.

اللحم الطبري، وعن حكم القديد الذي لا أبزار فيه، ويصير كجنس آخر من اللحمان يحل التفاضل بينه وبين ما ليس من جنسه. وأما إن طبخ بالماء صِرفًا وبالملح، فإن هذا الطبخ لا ينقله عن حكم أصله فلا يجوز بيع اللحم المصلوق باللحم الذي تمسه النار ولا الشمس متفاضلًا، ولا يجوز متماثلًا بالوزن لكونه بيعَ الرطْب باليابس. وأمّا ما ثبت فيه المساواة بالتحري فعلى القولين اللذين قدمناهما. وأما ما طبخ بشيء من المياه المعتصرة كالخل، وماء الحصرم، وماء الليمون، فإنه ينتقل عن حكم اللحم الطبري الذي لم تمسه النار فيصير كجنس آخر يحل فيه التفاضل، فيجوز بيع السِّكباج والحصرمية والليمونية والسماقية والإجاصية بلحم لم تمسه النار ومتفاضلًا. وكذلك غير هذا من الأنواع التي يكثر تعدادها. لكن هذه الألوان التي ذكرنا بعضها كلها صنف واحد، وإن اختلفت المياه التي طبخت بها، فلا يجوز التفاضل بين حصرمية وليمونية وسماقية إلى غير ذلك من ضروب الألوان التي في هذا المعنى، لأن المطبوخات في هذه الأصناف تتقارب الأغراض فيها، وكأن المراد منها الائتدام، وهي من ناحية كونها إدامًا متقاربة في الأغراض والمقصود. ومال بعض أشياخي إلى أن اختلاف هذه الألوان يصيّرها أجناسًا إذا تفاوت الغرض فيها، فليس الغرض في الإسفندباج كالغرض في السماقية والحصرمية. وقد ذكر في الموازية أنه لا يحل التفاضل بين الأرز المطبوخ والهريسة. فإن كان مراده الهريسة المصنوعة من الأرز ولكن خالطها اللحم وضرب معها الأرز، فإن هذا مبني على أن مخالطة اللحم الأرز، هذا النحو من المخالطة لا ينقله عن حكم الأرز المطبوخ بغير لحم. فقدر أنهما جميعًا أرز ولحم مطبوخان، فلا يحل التفاضل بينهما. وإن أراد بالفريسة ها هنا ما صنع من القمح واللحم، فكأنه رأى أن الطبخ للأرز والقمح ينقل كل واحد منهما عن أصله، فيجوز التفاضل بينه وبين أصله؛ ولكن لا يجوز التفاضل بين هذين المطبوخين من هذين الأصلين المختلفين، كما ذهب إليه أشهب في أن خبز الأرز وخبز القمح صنف واحد لا يحل التفاضل بين هذين الخبزين، وإن

كان أصلهما مختلفًا يحل التفاضل فيه. وحكي هذا عن ابن القاسم، لكن مقتضى أصل ابن القاسم أن يكون أخبازهما صنفين، كما كانت أصولهما؛ كما وقفنا لك في أخباز القطنية أنها مختلفة لأجل اختلاف أصولها. وأما بيع الخبز بالهريسة، فبعض أشياخنا يراه جائزًا متفاضلًا، وهما صنفان لاختلاف الغرض فيهما، وبعض الأشياخ يتردد في هذا إذا بني على الرواية التي ذكرنا عن الموازية في بيع الأرز المطبوخ بالهريسة وقدر بأن اللحم لم ينقل الأرز أو اللحم عن أصلهما مطبوخين والهريسة كذلك. وإذا وضح أن المذهب إجراء المطبوخات مجرى واحدًا، لتقارب الأغراض فيها على حسب ما قدمناه، فإن التفاضل لا يحل فيها، والمساواة بالوزن، يصير موجب الرجوع إلى طلب المساواة بالتحري. وتنازع المتأخرون في صفة هذا التحري، فقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد: تجري المساواة في اللحوم وامْراقها، لأن حكم مرقها كحكم لحمها، وكذلك يكون التحري في الهريسة إذا بيعت بالهريسة. ورأى غيره من الأشياخ أن التحري إنما يكون في اللحم خاصة، دون الأمراق. فكيف جرت الحال على هذا الاختلاف فإن المسألة تتعلق بمسألة أخرى نذكرها بعد هذا إن شاء الله تعالى، وهي بيع صاع قمح وصاع دقيق بصاع قمح وصاع دقيق، فإن المرق وإن عدّ حكمه كحكم أن الدقيق ليس هو صورة القمح وإن كان هو أجزاء القمح، كما قدمناه قبل هذا. وإن قلنا: إن الأمراق، وإن كانت تبعًا، فلا بدّ أن ترعى (¬1) حكم الربا فيها في نفسها، جرت على ما ذكرناه من بيع قمح ودقيق بمثلهما. ولا يكون بين المسألتين فرق إذا قيل: إن الاتباع تُراعى في نفسها في أحكام الربا. وإذا علمت الحكم في التحري وما فيه من الاختلاف في بعض المسائل، فإن اللحم إذا بيع باللحم، طريًا بطري، تتحرى المساواة بين اللحمين على ما هما عليه. وذهب ابن شعبان من أصحابنا إلى أن التحري إنما يكون بين ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: يُرَاعَى.

اللحمين على أنهما مجردان من العظم، ورأى أن الربا معلل بالقوت أو الإدام للقوت، وهذا المعنى مختص باللحم دون عظامه، وعظامه تختلف بالكبر والصغر والخشانة والرقة فيؤدي إختلافهما في هذا إلى عدم المساواة بين اللحمين. ويجاب عن هذا بأن بيع التمر بالتمر جائز كيلًا بكيل، مع كون نَوَى كل واحد من التمر يختلف بوجوده في الوزن، واختلافهما أيضًا يتضمن اختلاف وزن التمر لوجود نواه، ولكن عُفي عن هذا الاختلاف للضرورة، وشدة الحاجة إليه، وكون هذا النوع خلق هذا من مصلحته، فلم يعتبر حكمه على حياله. فكذلك العظام مع اللحم. فلو أراد التبايع بشاتين مذبوحتين، وهما في جلدهما، فإن هذا فيه اختلافًا: قيل: إنه يجوز إذا تحرى المتبايعان المساواة بين اللحم. وقيل: هذا لا يجوز إذ لا يقدر على تحري ما تُجِنّه الجلود مما لم يدركه البصر، وهو شراء اللحم المغيب ولا تعرف صفته. وقيل: يجوز ذلك إذا استثنى صاحب كل شاة جلدها بموضع يجوز فيه استثناء الجلد، ولما كان الجلد ها هنا لا بدّ من سلخه ونزعه على اللحم لم يجر مجرى النوى في التمر، وكان له تأثير في بيع ما تحته من لحم على الخلاف فيه. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: يخرج من الحيوان لبن وسمن. فأما اللبن إذا بيع بلبن مثله في كل واحد منهما زبد فإن المعروف أن ذلك جائز، لحصول التماثل. وروى أبو الفرج رواية أخرى وهي المنع فيهما لأجل ما فيهما من الزبد المجهول. وهذا يحتمل أن يكون أراد أن الزبد مقصود، وهو مغيب لا يدرى مقداره، فبيْعه بزبد آخر أيضًا مغيّب لا يدرى مقداره من لبنه، غرر في عقد البيع، فوجب أن يمنع لأجل الغرر. ويمكن أن يكون اعتبارًا بقوله: إن الزبدين مجهولان إلى الشك في حصول التماثل، والشك في حصول التماثل فيما فيه الربا ممنوع، كما يتحقق التفاضل فيه. وإذا كان هذا الحليب وما فيه من الزبد في حكم التبع، وجب أن يعفى عن الغرر فيه، لتعذر الاطلاع على مقدار ذلك في حَالِ العقد، فأشبه

في قطن الجبة و (¬1) المَبيعة التي لا تعرف إلا بعد فتحها مع كونها في حكم التبع، وكذلك الزبد. وإن حملنا قوله على أنه من (1) أشار إلى الشك في المماثلة، وقلنا: إنه بيع للحليب، والأتْباع تراعى في حكم الربا، فإنه يجب المنع منه لأنه قد يؤدي استخراجه من الحليب إلى عدم المماثلة بعد الاستخراج فأشبه بيع الرطب بالرطب على أحد القولين عندنا في عدمِه (¬2) لما يترقب من عدم المماثلة إذا جف الرطبان، ولم يعف عن هذا كما عفي عن نوى التمر. ومعلوم أنه إذا نزع فقد يؤدّي إلى عدم المساواة في التمر نفسه، لكون النوى من مصلحة التمر، وكذلك يدخر بخلاف الزبد. وأما ما يستخرج من الحليب من زبد، فلا بد من اعتبار التماثل فيه، والتماثل فيه يصح في المآل وكذلك إذا سير الزبد سمنا، فإن التماثل في السمن بالسمن يشترط في صحة العقد أيضًا، وكذلك الجبن بالجبن. وأما الحليب إذا استخرج زبده وبقي مخيضًا لا يدخر ولا يصنع منه ما يدخر، فإن الباب فيه على قولين، أحدهما: أن التفاضل فيه ممنوع لكونه، ملحقًا بالغالب من جنسه والقول الآخر اعتباره في نفسه، وكونه مما لا يدخر، فلم يكن مما يمنع فيه الربا، كأحد القولين في التين الشتوي أيضًا. وإن أمكن أن يصنع منه ما يدخر مثل الأقط وما في معناه، فإنه يحسن إثبات الربا فيه إذا كان هذا مما يقصد إليه (فيه شيء) (¬3) كثير من الأحوال. وقد أجاز في المدونة بيع الحليب المضروب بالسمن. وهذا يشير عند بعض أشياخي إلى أنه مما لا ربا فيه عنده، وأنه يعتبر فيه حكم نفسه في كونه غير مدخر. وأما لو لحق بغالبه، وكان فيه الربالمنع بيع المخيض بالسمن، لأنهما جميعًا مما فيه الربا، وما كان فيه الربا لا يباع منه رطب بيابس، كما لا يباع السمن بالزبد. وقد منع في المدونة من بيع السمن بحليب لم يستخرج زبده، ورأى أن الزبد الذي ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب حذف: في، والواو، و (من). (¬2) هكذا، ولعل الصواب: حِرمته. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: حذفها.

لم يستخرج كالمقصود، فيقتضي هذا البيع بيع الرطب باليابس، لأن الزبد كالرطب والسمن كاليابس. وقد اختلف في بيع الحليب المضروب بالجبن، فمن أجازه رأى أنه مما لا يدخر، ولا مما يصنع منه ما يدخر، فلم يلحق بما فيه الربا. ومن كرهه رأى أنه قد يصنع منه الأقِط، وبيع الأقط بالجبن لا يجوز، فكذلك بيع الحليب المضروب بالجبن، لكونه يتأتى منه أقط، والأقط لا يجوز التفاضل بينه وبين الجبن، وأما الجبن بالأقط والسمن فإن هذه مدخرات، والتماثل في بيعها واجب، وهو لا يتأتى معرفته فيها فلا يباع بعضها ببعض. وأما البيض فقد قدمنا أنه فيه الربا، في المذهب المشهور عندنا. وإذا أثبتنا فيه الربا، فكله صنف واحد. فبيض الدجاج والإوز وغيرهما نوع واحد، لا يحل بعضه ببعض متفاضلًا، وإنما يجوز بشرط التحري في المساواة، وأن يكون قدرًا واحدًا. وإذا اقتضى هذا التحري مساواة بيضة واحدة ببيضتين قال ابن المواز: وذلك بعد أن يستثني صاحب بيض النعام قشره لأنه له ثمن، فإذا اشتمل عليه عقد صار كبيع عرض وطعام بطعام. وهذا الذي اشترطه ابن المواز لم يشترطه غيره، فيمكن أن يكون إنما أطلق الجواب لأنه لا يرى له ثمنًا مقصودًا، أو يراه من مصلحة هذا النوع، فأشبه النوى في التمر. وقد قدمنا الكلام عليه. وقد قال بعض الشافعية: لا يباع العسل بالعسل حتى يصفّيا من شمعهما، لئلا يتفاضل العسلان بعد تصفيتهما من شمعهما، ورأى أن الشمعين كعرضين بيعا معًا بعسلين، ولم يرهما كالنوى في التمر، لأن العسل إنما يدخر مصفّى غالبا، والتمر إنما يدخر بنواه. والله المستعان. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله. والجنس الآخر مما يحرم التفاضل في عينه هو الذهب والفضة، على اختلاف صفتيهما، من تبر ومضروب ومهمل ومصوغ، فلا يجوز التفاضل في

الجنس الواحد منه بجنسه. وما غيرته الصنعة من المأكول صار كجنس آخر، فيجوز التفاضل بينه وبين ما بقي على صفته. وذلك كالحنطة والدقيق والعجين بخبزهما، واللحم النيّىء بمطبوخه، والرطب والتمر والزبيب بخلّها. وأما التفاضل في المعنى فمثل صاع مَعقِليّ وصاع دَقَل بصاعين برْنيٍّ لأن المعْقلى أعْلى من البرني، والدقل أجود منه، والبرني وسط بينهما. وكل ما حرم التفاضل فيه جاز البيع فيه مع التماثل. والجهل بالتماثل في المنع كتحقق التفاضل (¬1). قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى: هذا الفصل تكلمنا عليه، وإنما أوردناه ها هنا لأجل أنه افتتحه بالكلام على الربا في الذهب والفضة، ورأينا تأخير الكلام على الربا في الذهب والفضة إلى أن نتكلم على كتاب الصرف، كما رأينا الكلام على ما يمنع فيه الربا مضافًا إلى ما أضفناه إليه، ولا (¬2) لأنه مقتضى ما رتبناه نحن. وقد تكلم ها هنا على الربا وجعله نوعين: تفاضل في العين وتفاضل في القيمة. والتفاضل في العين قد تكلمنا عليه. والتفاضل في القيمة رأينا تأخير الكلام عليه إلى كتاب الصرف، لأنه لما ذكر منه ها هنا هذه المسألة، وهي بيع صاع (¬3) بصعين من التمر من جنس واحد بصاعين مختلفين من التمر، وقد وجدنا في المدونة الكلام على مسألة بيع مدّ قمح ومدّ دقيق بمد قمح ومد دقيق في كتاب السلم. رأينا أن نتكلم ها هنا (على ما في كتاب السلم من هذا المعنى خاصة في كتاب الصرف مبسوطًا) (¬4) إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) التلقين. تحقيق الغاني: ص 367 - 368. (¬2) كلمة لا معنى لها والأولى حذفها. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب بعد حذف: بصعين: وهي بيع صاعين. (¬4) في الكلام نقص.

فاعلم أن كل جنس فيه الربا فإنه لا يباع شيء منه بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما جنس آخر مثل أن يبيع صاع تمر بدينار وبصَاعَيْ تمر من جنسه. وكذلك لا يباع قفيز قمح وقفيز دقيق بقفيز قمح أو قفيزي دقيق، ولا قفيزًا قمح بقفيز قمح وبقفيز دقيق. وكذلك لو كان بدل الدقيق شعيرًا أو جنسًا آخر من الأطعمة، أو عَرْضًا من العروض. وقد منع في كتاب السلم الثالث من المدونة بيع قفيز قمح وقفيز دقيق بقفيز قمح وقفيز دقيق. وأجاز ذلك ابن المواز لأنه قال بجواز بيع قفيزي قمح وقفيز دقيق إذا كان قفيز القمح مثل القمح والدقيق أو أدنى منهما، أو مثل أحدهما أو أعلى من الآخر وأدنى، على حسب ما نجيزه في المراطلة ما بين ذهبين مختلفين بذهب واحد منفرد. فلما قيل لابن المواز: إن مالكًا يمنع من بيع قفيز قمح وقفيز دقيق بقفيز قمح وقفيز دقيق، قال: إنما منعه للذريعة ولا بأس به عندي. وقال ابن ميسر: لا يعجبني ما قال ابن المواز. فصارت المسألة عندنا على قولين، والمشهور المنع، إذا انضاف جنس مع أحد العوضين، أو انضاف مع كل واحد منهما جنس آخر. وبالمنع قال الشافعي: وبالجواز قال أبو حنيفة. وأشار بعض أشياخي إلى أن هذه المسألة خارجة عن أحكام المراطلة بين الذهوب؛ لأن الذهب مما يتساوى ما كان منه من سكة واحدة قطعًا. والتساوي في الأطعمة طريقه الاجتهاد، ولهذا عدل ابن القاسم في التمثيل في المدونة عن المراطلة إلى مثل بيع دينار ودرهم بدينار ودرهم، لكون الدراهم المقابلة للدنانير إنما يعرف مقدارها منها بالتقويم، والتقويم طريقه الاجتهاد، وما طريقه الاجتهاد يغلط فيه ويضاف. وقد خرج في الصحيح أنه عليه السلام أتي في خيبر بقلادة فيها خرز وذهب فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة فنزع، ثم قال عليه السلام: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن" وفي بعض طرق هذا الحديث أنه قال: "اشتريت قلادة فيها خرز وذهب باثنى عشيا دينارًا، ففصلتها فوجدت فيها أكثر

من اثنى عشر دينارًا فقال عليه السلام: "لا يباع حتى يفصل" (¬1) وظاهر هذا يقتضي المنع من بيع الذهب مع جنس آخر بذهب منفرد، لأنه نهى عن ذلك وعن (¬2) الإباحة بالتفصيل وقال: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن" (¬3). وهذه إشارة إلى الرجوع إلى المساواة قطعًا ويقينًا، ولا يكون ذلك إلا بالميزان. وأبو حنيفة يشترط في جواز هذا أن يكون الذهب الذي أضيف إليه غيره من الذهب المنفرد عوضًا عن الجنس المضاف إلى الذهب، وتغالى في ذلك حتى يجيز درهمًا في قرطاس بمائة درهم، ويجعل درهمًا من المائة مقابلة الدرهم الذي في القرطاس، والتسعة وتسعون درهمًا في مقابلة القرطاس وعوض عنه. وقد ذكر عنه في هذا الحديث: أنها لما فصلت وجد فيها أكثر من اثني عشر دينارًا. فيتعلق أبو حنيفة بهذه الرواية، ويقول: إني مشترط في الجواز أن يكون الذهب المنفرد أكثر من الذهب المضاف إليه جنس آخر لتحصل المساواة بين الذهبين، ويكون ما زاد من المنفرد عوض الجنس المضاف إلى الذهب حتى يقدّر العقد الواحد كعقدين منفردين. وها هنا قد ذكر أن الذهب الذي في القلادة أكثر من المنفرد، وإنما يمنع من هذا البيع إلا بشرط كون الذهب المنفرد أكثر من المضاف إليه غيره. ويجاب عن هذا بأنه عليه السلام أشار إلى علة المنع وقال: الذهب بالذهب وزنًا بوزن، وإذا بيع ذهب منفرد بذهب وسلعة أخرى فإن الذهب المنفرد لم يبع بالذهب وزنًا بوزن، لأنه إنما قابل الذهب المنفرد شيئان يفترقان إلى أن يعلم فيه كل واحد منهما بالنسبة إلى صاحبه. فإذا احتيج إلى ذلك، ونظر في التقويم، والنص على الذهب المنفرد، فقد يقابل الذهب المنفرد من الذهب المضاف إليه غيره ما هو أكثر أو أقل أو ما يساويه والخروج عن المساواة بين الذهبين أو الجهل في المساواة يمنع من صحة البيع. وإلى هذا أشار مالك ¬

_ (¬1) إكمال الإكمال: 4/ 272. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: علّق. (¬3) إكمال الإكمال: 4/ 273.

رضي الله عنه بقوله: قد يترك فضل شيء على غيره لما أخذ عن فضيلته في الأخذ. وبهذا علل الشافعي أيضًا، وقال: إن كل معاوضة تفتقر للتقويم لا تتحقق فيها المقابلة للمفرد إلا بعد النظر والتقويم، والنظر والتقويم قد يخرج إلى التفاضل، أو يمنع تيقن المساواة، فوجب المنع. ألا ترى أن من باع شِقصًا بدابة وثوب فإنه لا يدري ما يقابل الشقص من الثوب والدابة إلا بعد التقويم، فإذا قوم ذلك بقي عليه ما يستحق من شفعة أو رجوع بثمن مغيَّب أو ثمن مستحق وهذا يؤكد ما قلناه من الوقوع (¬1) والتفاضل أو الجهل بالمساواة. وأبو حنيفة يجيب عن هذا بأن الحديث ذكر في بعض طرقه أنه وجد في القلادة على حسب ما ذكرنا عنه. وقد قال الطحاوي إن حديث فضالة بن عبيد فيه اضطراب، وقد روي موقوفًا عليه، فإن صح أن الحديث مَرْفوع، فإنما نهى عن ذلك لئلا يغبن أهل المغنم فيما يبيع لهم. وقد كشف الغيب وجه الغبن لأنه وجد في القلادة من الذهب أكثر من وزنها. عندي أنه إنما أشار بوقف هذا الحديث على فضالة بن عبيد بما خرجه مسلم عن عمر (¬2) أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفة، واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذنّ إلا مثلًا بمثل، سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلًا بمثل" (¬3). ويجيب أصحاب أبي حنيفة عما ذكرناه من طرق الاعتبار، بأن ها هنا العقد لا بدّ من اعتبار أنواع الاقتسام فيه، فاعتبرتم أنتم الاقتسام من ناحية التوزيع والفصل، ليحصل لكم التفاضل من ناحية التقويم بين الذهبين أو الطعامين. واعتبرنا نحن التقسيم من جهة أخرى، وهو أن العقد إن قصد فيه إلى مقابلة الفرد بالفرد، بأن يجعل صاع التمر قبالة أحد الصاعين، والدينار الذي مع ¬

_ (¬1) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: في. (¬2) هكذا في جميع النسخ، والصواب: حَنَش. إكمال الإكمال: 4/ 273. (¬3) الإحالة السابقة.

صاع التمر قبالة الدينار، صحّ التعاوض على هذه الصفة، والجمع إذا قوبل بالجمع قوبل الفرد بالفرد، كما يقال: ركب القوم دوابهم، ولبسوا ثيابهم. فالمراد مقابلة الفرد بالفرد، وهو أن كل رجل ركب دابته ولبس ثوبه، وإن صرفنا هذا الانقسام إلى مقابلة الجمع بالجمع على التوزيع والشياع، اقتضى ذلك فساد العقد، كما قلتم، وإذا احتمل العقد وجهين جهة صحة وفساد، صرفت عقود المسلمين إلى الوجه الصحيح الذي يتدينون به. ألا ترى أن من باع سلعة بدنانير ولم بسم سكتها، وفي ذلك العقد سكك مختلفة، لكن العرف تبايعهم بسكة معينة، وبكون البلد لا سكة فيه سوى سكة واحدة، فإن لفظ الدنانير يحمل عليها، وما ذلك إلا لأجل وجوب حمل عقود المسلمين على الوجه الجائز. وأما وجوب التوزيع والفصل فيمن باع شِقصًا وسبعًا بدابة وثوب، فإنما ذلك لأنه ليس له وجهًا صحة وفساد يجب حمله على أحد الوجهين، وهو وجه الصحة. فلا مرَجِّحَ يقع بين احتمال واحتم الذي نفس أحد العوضين للشقص. (ولو فرضنا فيه مقابلة الفرد بالفرد لم يجز فرقًا بين حملنا كون الشقص في مقابلة الثوب حملنا له على أن يكون في مقابلة الدابة لا صحة وفساد ها هنا يتقابلان يقع الترجيح بينهما ولهذا استغنى إلى موافقتهم ها هنا على وجوب التوزيع والقصر) (¬1). ولا ينقض هذا علينا بأنا نمنع من بيع دينار بدينارين مع احتمال أن يكون أحد الدينارين مقابل الدينار الفرد، والدينار الثاني هبة، لأن هذا خلاف نص اللفظ لأنهما جعلا الدينارين جميعًا بيعا وعوضا، فصرف أحدهما إلى كونه هبة إبطال عقد المتعاقدين. وإذا باع دينارًا وصاعًا من تمر بصاعين من تمر، هما جنس التمر، لما صاف (¬2) إلى الدينار، فإن مقابلة الفرد ها هنا وصرف المعاوضة إلى مقابلة الصالح بالصاع ومقابلة الصالح الآخر بالدينار وليس فيه ¬

_ (¬1) ما بين القوسين كلام فيه اضطراب. (¬2) هكذا، ولعلها: لأضاف.

إبطال النص الذي تعاقدا عليه. وكذلك أيضًا إذا نوقض مخالف أبي حنيفة بإيجازهم (¬1) بيع درهمين جيدين بدرهمين رديئين، مع إمكان العض (¬2) ها هنا أجابوا عن هذا بأن هذا لا يتصور فيه الفضل من جهة التقويم والعض (2) ولأنه معلوم أن الدرهمين الرديئين دون الدرهمين الجيدين في القيمة، ولكن كل درهم من الجيدين أو الرديئين مثل صاحبة فلا يقع اختلاف ها هنا من جهة التقويم والعصر (2) لتساوي الدرهمين في كل واحد من الجانبين وإنما يقع الاختلاف والتفاضل من ناحية التقويم وإذا (¬3) اختلف العوضان المقومان، وكانا في حكم الجنسين، ألا ترى أن من باع قمحًا بمثله فاستُحِق بعضه فإنه يرجع فيما باع فصعد أن (¬4) المستحق بنسبة التجزئة لا بنسبة التقويم. وكذلك أيضًا يجاب أصحاب أبي حنيفة عن استشهادهم في وجوب حمل العقد على الصحة إذا تقابلت الاحتمالات في العقد، بإن كل سكة يجوز العقد بها، فما تردد هذا العقد إلا من وجوه كلها صحيحة ولكن إنما يحمل العقد على نقد البلد لأجل العرف والعادة التي تقوم مقام النطق والاشتراط. ولعلنا أن نعيد الكلام على هذه المسألة في كتاب الصرف ونصف به ما تعلق به منه. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصو اب: إجازتهم. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: النقص أو الغض. (¬3) هكذا، ولعل الصواب حذف الواو. (¬4) كلمة غير واضحة، ولعلها: بفقدان.

فصل

فصل قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في المزابنة: والمزابنة يجمعها بيع معلوم بمجهول من جنسه، كالرطب بالتمر والعنب بالزبيب ورطْب كل تمرة بيابسها، أو حَبَّ كالحنطة المبلولة باليابسة، والدقيق بالعجين؛ والحي الذي يراد للحم، كالكبش، باللحم من جنسه، والمشوي (¬1) (فلا يجوز) (1) والمالح بالطري والسمسم بالشيرج (¬2). وهذا فيما بعده (¬3) الربا ومنع (¬4) مجهول بمجهول من جنسه كصبرة بصبرة أو جزاف بجزاف، وثمرة نخلة بثمرة نخلة أخرى. وأمّا فيما يجوز التفاضل في بعده (3) فإن تحققت الزيادة جاز أو إن لم تتحقق دخله الحَظر. ويجوز الرطب بالرطب متماثلًا وكذلك البر بالبر (¬5) وقسمة اللحم والسمن (¬6) على التحري (¬7). قال الفقيه الإِمام رحمه الله: هذا فصل قد تكلمنا على أكثر المسائل التي ذكرها القاضي أبو محمَّد في هذا الفصل للقدر الذي قدمنا من أنا توخينا ترتيب المدونة. ولكنه تكلم ها هنا على المزابنة. ¬

_ (¬1) في الغاني: والمشوي بالنِّيّىء. (¬2) في الغاني: وما أشبه ذلك. (¬3) في الغاني: نقده. والمعْنى: فيما يجري في عينه الربا. (¬4) في الغاني: ومنها. (¬5) في الغاني: اللبن باللبن. (¬6) في الغاني: البيض. (¬7) في الغاني: جائز.

فاعلم أن أصل هذه اللفظة مأخوذة من الدفع، يقال: ناقة زبون، إذا منعت من حِلابها. وقال معاوية: ربما زبنت، يعني الناقة، فكسرت أنف حالبها. ويقال للحرب: زبون لأنها تدفع بنيها للموت، ومنه سمي ملائكة العذاب زبانية لأنهم يدفعون الكفرة إلى النار. ومنه سمي الرجل المغبون زبونًا لأنه كالمدفوع عن وجه الصلاح له في البيع. وقد ثبّت عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - النهي عن المزابنة. فذكر في الصحيح أنه عليه السلام نهى عن المزابنة. قال: والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلًا، وبيع العنب بالزبيب كيلًا، وبيع القمح بالزرع كيلًا (¬1). وهذا لأجل أن هذه الأجناس إذا بيعَ بمثله كيلًا لم تستحق (¬2) المساواة إلا مع كَيْلِهِمَا جميعًا، وإذا كان أحدهما جزافًا أو هما جميعًا جزافان أمكن أن يكون بينهما تفاضل. وقد قدمنا أن تحقق الربا في المنع مثل الشك فيه. فإذا كان التعاوض بما فيه الربا منع لأجل الشك في الربا، ومنع أيضًا لأجل الغرر والتدافع الذي هو المزابنة، وكل واحد من المتعاقدين يقدّر أنه غبن صاحبه. وهذا من الغرر والتخاطر. فإن كان هذا التعاوض مما لا ربا فيه منع أيضًا لأجل التخاطر والغرر، حتى يتبين الفضل في أحد العوضين فيرتفع الخطر والغرر ها هنا عند تبين الفضل يكون أحدهما أكثر من الآخر. فإذا كان التعاوض بجنسين مختلفين انتقلت الأغراض إلى اختلاف منافع الأعْواض فلم يقع التخاطر. فإذا كان العوضان من جنس واحد لم ينصرف الغرض إلا إلى القلة والكثرة. وقد قال في المدونة في آخر كتاب السلم الشاك: كل شيء لا يجوز أن يباع منهما (¬3) مجهول بمجهول ولا مجهول بمعلوم حتى يتبين الفضل، ولو كان ذلك ترابًا. وقد عارض بعض الأشياخ هذا الذي وقع ها هنا فقال: إن بيع، ما فيه الربا محرم، يجوز إذا كان مما يكال. وهذا المنصوص عليه في المذهب، وإنما كان ذلك كذلك لأجل أن الميزان قد يتعذر في كثير من الأماكن فتدعو ¬

_ (¬1) الموطأ: 2/ 148 - 149. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: تتحقق. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: منه.

الضرورة إلى العدول عنه إلى غيره، وما ذلك إلا بأن يتحرى أن يكون الشيئان يتقابلان في الوزن، وأما المكيال فلا يتعذر وجوده أو وجود ما ينوب (¬1)، ولو أن يكتال (¬2) أحدهما أو بجفنة فالعدول عن المساواة (لا من يشاهد إلى التحرز غررًا) (¬3). من غير ضرورة تدعو إليه. ولكن هذا إنما يجوز في القليل لا الكثير، لأنه لا يضبطه التحري ضبطًا يوثق به. ويشترط أيضًا في جواز القليل أن يكون المتعاقدان بحيث يتعذر عليهما الميزان حتى يضطر إلى التحري. لكن ذكر في كتاب السلم من المدونة أنه أجاز السلم في اللحم تحريًا، وقد بينّا هناك معنى هذا التَحري، والسلم إنما يقبض إلى أجل يتأخر عن العقد، ولا يعلم المتعاقدان حينئذٍ هل يتعذر الميزان عند حلول الأجل أم لا، إلا أن يريد إذا أمكن تصوره عند الأجل سومح باشتراط العدول عنه حين العقد، لأجل هذه الضرورة التي تُتَرقَّبُ. ومن الناس من أبقى هذه المسألة على ظاهرها وقال: لا يجوز الاقتصار على التحري إذا تبايعا ما يجوز فيه الربا، لأنهما لا يتحفّظان في التحري لاعتقادهما أنه لا إثم عليهما (¬4) في التفاضل. ولم يتكلم ها هنا إلا على ما يجوز التفاضل فيه، ويتكلم في إباحة التحري فيما يوزن من لحم أو خبز فيما فيه الربا، فلا تعارض بين الجوابين، وهذا ضعيف لأنهما يؤمران بالتحري ها هنا، لئلا يقعا في الغرر الذي نهى عنه بطاعتهما للأمر باجتناب الغرر لإطاعتهما للأمر باجتناب الربا. ومن الأشياخ من قال: لم يقصد بهذه المسألة التي ذكرها في آخر كتاب السلم الثالث منع بيع مجهول بمجهول إذا تحريا ذلك كما يجب، وإنما يتكلم على بيع الجزاف بالجزاف لم يقصدا فيه إلى تحري المساواة. وقد ذكرنا أن المزابنة والغرر إنما يتصور بتجانس العوضين، وإذا اختلفا انصرفت الأغراض لاختلاف الأعواض، على حسب ما بيناه، وقد حكموا ببيع المصنوع بالأصل ¬

_ (¬1) أي: عنه. (¬2) بياض بمقدار كلمة. (¬3) كلام غير واضح. (¬4) بياض بمقدار كلمة.

الذي صنع منه، بأنهما جنسان إذا كان المصنوع لا يمكن أن يعود إلى أصله، كبيع غزل بثوب منسوج، فإن ذلك يجوز، وإن لم يتبين الفضل، إلا أن يكون الثوب من خزّ فلا يباع بخز، لأن ثوب الخز قد ينفش فيرجع خزًا كما كان، وإذا كان المصنوع يعود إلى أصله اعتبر فيه تبين الفضل، وجرت فيه أحكام المزابنة، كبيع طست نحاس، لأنه قد يسبك الطست فيعود نحاسًا كما كان. وأجاز في المدونة بيع المصنوع بالمصنوع وإن تجانس أصلاهما وأمكن أن يعودا لأصلهما، كطست من نحاس بمنارة من نحاس، ورأى أن المقصود اختلاف الصنائع، وكذلك العُروض المختلفة. وأجاز في المدونة التفاضل ما بين الفلوس والنحاس، وإن كان النحاس أصلًا للفلوس، ولم يُجْر النحاس مجرى التبر الذي يصنع منه الدنانير، لكون الربا في الدنانير محرمًا باتفاق، والربا في الفلوس غير متفق عليه على ما سنبينه في كتاب الصرف إن شاء الله. وأما القسمة إذا وقعت بالتحري تجري على ما قلناه، ويتضح هذا فيها إذا قيل: إنها بيع من البيوع. ويتكلم على هذا في موضعه إن شاء الله، ونذكر الخلاف فيه: هل القسمة بيع من البيوع أو تمييز الحقوق؟ وبالله التوفيق.

كتاب بيوع الآجال

كتاب بيوع الآجال

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كتاب بيوع الآجال. قال الشيخ الإِمام، رضي الله عنه: لما لم يشتمل كتاب التلقين للقاضي أبي محمَّد، رحمه الله، على تنصيص في مسائل بيوع الآجال المذكورة في المدونة وغيرها، رأينا أن نملي فيه فصولًا تشتمل على نكت يعتمد عليها ورتبنا ذلك فصولًا: الفصل الأول يشتمل على أربعة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما معنى حماية الذريعة التي بني عليها مسائل هذا الكتاب؟ 2 - وما الدليل على اعتبارها في البيوع؟ 3 - وما يجتنب فيها؟ 4 - وما تقاسيم أنواع البيع المعتبر فيه؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: أما حقيقة الذريعة عند الفقهاء، فإنها منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا يجوز. وأصل هذا عند العرب أن الناقة الشاردة إذا استوحشت نصب لها ما تألفه من الحيوان لتحن إليه فيمكن حينئذٍ ضبطها، فنقل هذا المعنى إلى ما فسرناه من مرادهم، لأن ما لا يجوز من البياعات ويحرم العقد عليه قد يتحيل عليه بإظهار صورة يجوز في الشرع العقد عليها حتى تكون وُصْلة إلى نيل ذلك المحرم.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلف الناس في اعتبار حماية الذريعة في بياعات الآجال، فأثبته مالك وأبو حنيفة، وأنكره الشافعي تعلقًا منه بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1). وعموم هذا يقتضي جواز ما منعه مالك وأبو حنيفة في بياعات الآجال التي بني المنع فيها على حماية الذريعة. وهكذا استدل بعموم قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2). وهذه البياعات المشار إليها هي تجارة عن تراض من المتبايعين. ويستدل أيضًا بأن مالكًا وأبا حنيفة وغيرهما من المانعين لهذه البياعات، التي يأتي التفصيل عليها، إنما اعتمدوا على تهمة المتبايعين وأن ما أظهراه من بياعات جائزة وأخبرا أنهما عقدا في الباطن على ما اقتضاه الظاهر لم يصدقا في خبرهما يقينًا، وقد يظن بهما أنهما تحيلا، بما أظهرا، على عقد بيع لا يجوز في الشرع، وهذا سوء ظن بالمسلمين وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (¬3) والشرع إنما أمر بتحسين الظن بالمسلمين لا بسوء الظن بهم. وأما مالك وأبو حنيفة وغيرهما، فإنهم يستدلون بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْ وَا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (¬4) فنهى عن سبّ أصنامهم وغيرها مما يعبدونها مما لا حرمة له لئلا يدعوهم ذلك إلى سب الله سبحانه. فهذا كالتنبيه على منع الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز. ويستدلون أيضًا بقوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (¬5) ومعنى ذلك أن هذا الضرب، وإن كان في نفسه جائزًا، فإنه نهي ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 257. (¬2) سورة النساء: 29. (¬3) سورة الحجرات: 12. (¬4) سورة الأنعام: 108. (¬5) سورة النور: 31.

عنه لئلا يكون سببًا في تشوّف الرجال إلى امرأة أجنبية وتلفّتهم إليها. ويستدلون أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصف المرأة المرأة لزوجها ... " (¬1) الحديث المخرج في الصحيح. والعلة فيه أن الوصف لمحاسن امرأة أجنبية يتخوف على من سمعه من الرجال التشوف إليها، وتستنزله الشهوة إليها، فيوقعه ذلك فيما لا يحل. ويستدلون أيضًا بأن مجرد البيع إذا وقع على شروطه الشرعية جائز بالإجماع. والسلف إذا انفرد أيضًا ولم يقصد المسلف منفعة نفسه، بل الرفق بالمسلف والإحسان إليه، جائز بالإجماع. وإذا اجتمعا ووقعا في بيع بشرط سلف فإن الشرع ورد بمنع ذلك. وما ذلك إلا لكون السلف إذا قارن البيع تخوّف منه أن يكون سلفًا بزيادة، فقد يزيد في قيمة السلعة والمراد في الباطن أن تكون تلك الزيادة على القيمة عوض السلف، والسلف بزيادة محرم باتفاق. فهذا مفردان يجوزان، وهو البيع أو السلف، فإذا اقترنا مُنعا حماية للذريعة كما بيناه. وقد اضطرب المذهب في تعليل المنع فأشار أبو الفرج إلى أن علة المنع اعتياد كثير من الناس التحيل بهذه البياعات الجائز ظاهرها على العقد على ما لا يحل مما يُمنعان منه لو أظهراه، ويفسخ عليهما. ومقتضى هذا التعليل أن المعتادين لفعل الحلال ومن هو من أهل الدين والعدالة بحيث لا يتهم على التحيل على الحرام لا يُمنعون من هذه البياعات. وأشار ابن مسلمة إلى أن العلة في ذلك حماية الذريعة، على ما قدمناه، وإذا كانت العلة هذه وجب، على هذه الطريقة، أن يمنع من هذه البياعات من يتهم ومن لا يتهم. ومما يقوي هذه الطريقة، التي هي التعليل بحماية الذريعة، ويكون استدلالًا أيضًا في أصل المسألة، حديث عائشة لما قالت لها أم محبة، وهي أم ¬

_ (¬1) مختصر حديث. انظر نصه في البخاري: الفتح: 11/ 252.

ولد لزيد بن أرقم: أتعرفين، يا أم المؤمنين، زيد بن أرقم؟ قالت أم محبة: إني بعت منه عبدًا إلى العطاء بثمانمائة درهم، ثم اشتريته منه بستمائة درهم. فقالت لها عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب. فقالت لها أم محبة: أرأيت إن تركت له مائتي درهم وأخذت منه ستمائة؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (¬1) " (¬2). وهذا كالنص منها، رضي الله عنها، على منع هذه المسألة وما في معناها مما أجازه الشافعي. وقد استدل أصحابنا عليه بهذا الحديث، وذكروا أن إبطال الجهاد مع عظم شأنه في الشرع وإحباط الأعمال لا يؤخذ قياسًا ولا يؤخذ إلا توقيفًا من صاحب الشرع، فلولا أن عائشة، رضي الله عنها، سمعت هذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَا أوردته، إذ لا يمكن هذا بالقياس، ولا يليق بها، رضي الله عنها، أن تقطع في الشرع بأمر مغيب من غير وحي. فإن قالوا: ذكر في هذا الخبر أن البيع وقع إلى العطاء، والعطاء أجل مجهول، والبيع إلى أجل مجهول لا يجوز. قيل: بل هو في حكم المعلوم، على أحد القولين، وما كان في حكم المعلوم من الآجال جاز أن يكون ميقاتًا لدفع الثمن. مع أنها قالت: بئس ما شريت. وظاهر هذا أنها ذمت بيعها الأول إلى العطاء وشراءها بعد ذلك بثمن هو أقل مما باعت، ولا جهالة في الثمن الثاني فيمنع منه، وإنما يمنع على طريقتنا وهي حماية الذريعة لئلا يتطرق بالحلال إلى الحرام. ومعلوم أن زيد بن أرقم لا يليق به التعمد إلى التحايُل على الحرام، ولا يظن به ذلك، لفضله وجلالة قدره في الصحابة، رضي الله عنهم. ولكن إذا كان علة المنع حماية الذريعة وجب أن يمنع من لا يتهم لئلا يكون ترك منعه داعية إلى أن يقع فيها من يتهم. وهذا أيضًا يمنع ما قدمناه في الاحتجاج لمذهب الشافعي من كون الشرع ورد بأن بعض الظن إثم؛ لأن هذا ليس من جهة تلك الظنون المنهي عنها، وإنما هو احتياط في الدين، وتحفظ على المسلمين ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 275. (¬2) انظر تخريجه والتعليق عليه في الهداية 7: 224 - 228 ح: 1367.

من أن يقعوا في حرام، وذَبٌّ عن قواعد الشرع، ومثل هذا لا يستنكر ورود الشرع (¬1). والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد تقرر، فيما تقدم من كتاب البيوع، ما يحل ويحرم، من ذلك تحريم السلف الذي يجر المنفعة، إلى غير ذلك من منع الدين بالدين وما في معناه. فأنت إذا سئلت عن شيء من مسائل هذا الكتاب، وكان المبيع ثوبًا مثلًا أو غيره، فاجعل الثوب ملغى كأنه لم يقع فيه عقد أوّلًا ولا آخرًا، ولا تبدل فيه الملك، واعتبرْ ما خرج من اليد خروجًا مستقرًا انتقل الملك به، وما عاد إليها، وقابلْ أحدهما بالآخر، فإن وجدت في ذلك وجهًا محرمًا في الشرع لو (¬2) أقر (¬3) بأنهما عقدا عليه لفسخت عقدهما. فإنك تمنع من هذا البيع لأجل ما قدمناه من وجوب حماية الذريعة وإن لم تجد ذلك أجزت البياعات. هذه النكتة المعتبرة في هذا الباب. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: لا تخلو هذه البياعات من أن تكون البيعة الأولى نقدًا والثانية نقدًا، أو تكون الأولى والثانية مؤجلتين، أو تكون الأولى مؤجلة والثانية نقدًا، أو تكون الأولى نقدًا والثانية مؤجلة. فإن كانا جميعًا نقدين، أولى وثانية، فإن ذلك مما لا تقدّر فيه التهم والتحيل على ما لا يجوز. إلاّ أن يكون المتبايعان من أهل العينة. فإنهما تتطرق إليهما التهمة لاعتيادهما في هذا التحيل على ما لا يجوز. وكذلك إن كان أحدهما من أهل العينة والآخر ليس من أهلها فإن التهمة تتطرق إلى هذا العقد لأجل كون أحدهما ممن يتهم. فأما كونهما جميعًا يتهمان فما وقع في المذهب في منع أهل العينة فصحيح، على أصل المذهب. ¬

_ (¬1) أي: به. (¬2) في الوطنية: أو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقرا.

وأما كون أحدهما من أهل العينة والآخر ليس من أهلها ففيه نظر، إذا كان الذي ليس من أهل العينة من ظهور الورع والدين بحيث لا يواطيء الآخر على فعل ما لا يحل. ولعل الذي وقع في المذهب في هذا المرادُ به من يشكل أمره ويلتبس حاله فتتسلط عليه التهمة من قبل الآخر. وأما إن كانتا مؤجلتين جميعًا، فإن ذلك يتهم فيه سائر الناس لأن بياعات النقود يقل فيها الاضطرار إلى التحيل على ما لا يحل، وبياعات الآجال يكثر ذلك فيها لشدة الحاجة إلى شراء المبيع نسيئة لعدم الأثمان عند مشتريه. وكذلك إن كانت البيعة الأولى لأجل والثانية نقدًا فإن التهمة تتطرق فيها، وتحمى الذريعة عمومًا لما قدمناه ... وأما إن كانت الأولى نقدًا والثانية إلى أجل فإن في ذلك اختلافًا في المذهب: فمن حمى الذريعة فيه عمومًا جعل الحكم للبيعة الثانية لحاجة الناس إلى الشراء نسيئة وشدة الضرورة إلى ذلك تسهّل التحيل على فعل الحرام. ومن لا يتهم الناس عمومًا جعل للثانية المؤجلة حكم الأولى التي هي بيعة نقد. وقدمنا أن البيعتين إذا كانتا نقدًا فلا يتهم فيهما إلا أهل العينة. فصل يشتمل على خمسمة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما مثال الزيادة في السلف المعتبرة ها هنا؟ 2 - وما مثال ما هو [في] (¬1) حكم الزيادة؟ 3 - وما حكم التهمة على الصرف المستأخر؟ 4 - وما حكم التهمة فيما يقتضي التفاضل؟ 5 - وما حكم الممنوع من هذا إذا وقع؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: إذا باع رجل من رجل ثوبا أو عبدًا، أو غيرهما مما يعرف بعينه، بثمن من العين إلى أجل، ثم أراد أن يشتريه بائعه ممن اشتراه منه بثمن من جنس الثمن الذي باع فإنه لا يخلو أن يشتريه بمقدار ما ¬

_ (¬1) زيادة يقتضيها الكلام، ساقطة في النسختين.

باعه به أو بأكثر أو بأقل. ثم هذه الثلاثة أقسام لا تخلو من أن يكون الشراء بها نقدًا أو إلى أجل. وإذا كان إلى أجل فلا يخلو الأجل من ثلاثة أقسام أيضًا. 1 - أن يكون الأجل الثاني أقرب من الأجل الأول، 2 - أو يكون الأجل مثله، 3 - أو أكثر منه. فصار جملة الأقسام على التفصيل في العدد اثني عشر قسمًا. وهي: كون البائع للثوب يشتريه نقدًا بمثل الثمن أو أكثر منه أو أقل أو إلى أجل أقرب من الأجل الأول فيشتريه أيضًا بمثل الثمن أو أكثر منه أو أقل، أو إلى الأجل نفسه بمثل الثمن الأول أو أقل أو أكثر أو إلى أبعد من الأجل بمثل الثمن أيضًا أَو أقل أو أكثر. فجميع هذه الأقسام لا يمنع منها شيء إلا ثلاثة أقسام، وهي: 1 - أن يشتريها بأقل من الثمن نقدًا، 2 - أو إلى أجل أقرب من الأجل الأول، 3 - أو يشتريها بأكثر من الثمن إلى أبعد من الأجل على غير جهة المقاصة بالثمنين. وإذا علمت ما قدمناه من النكتة التي تدور عليها مسائل هذا الكتاب وهي اعتبار العوض الذي أخذه عما دفع من الثمن أو لأجل يجوز أن يقابل أحدهما الآخر أم لا. فإذا تدبرت هذا علمت جواز هذه الأقسام كلها إلا ما استثنيناه. وذلك أنه إذا باع ثوبًا بمائة درهم نقدًا فالثوب إذا باعه ثم استرده بشراء قُدّر كأنه لم يخرج عن ملكه ولا زال من يده وصار كالمشترط رجوعه إليه حين باعه فتحصل المعاوضة عن دراهم بدراهم، فإذا اشتراه بائعه بمائة درهم نقدًا فإنه إنما يأخذ عند حلول الأجل الذي أجلاه في العقد الأول مائة درهم، ومن أسلف مائة درهم على أن يأخذ مثلها إلى شهر فذلك جائز. وكذلك لو اشتراه بمائتين لأن من أسلف مائتي درهم وأخذ بعد شهر مائة فقد تضاعف إحسانه للتأخير بالخسارة والنقص فيما أعطاه وأسلفه. وإذا اشتراه بخمسين نقدًا فإنه إذا أخذ عند الأجل مائة درهم على حسب ما تعاقدا عليه أوّلًا صار مسلفًا لخمسين درهمًا على أن يأخذ بها مائة درهم، وهذا سلف بزيادة. وهذا التصوير الذي صورناه يغنيك عن إعادته في القسم الآخر، وهو أن يشتريه بثمن إلى نصف شهر؛ لأنه إذا دخل نصف الشهر وطلب البائع الأصل بما اشترى به الثوب الذي

كان باعه فإذا دفع الثمن الذي عقد به لما حل عليه في نصف الشهر صار ما يأخذه عند تمام الشهر عوضًا عنه فيعتبر فيه ما قدمناه. وكذلك إذا اشتراه بائعه إلى أجل مثل الأجل الأول فإنه جائز سواء كان ثمن البيع الثاني مثل ثمن الأول أو أكثر أو أقل لأجل أن أحدهما لا يدفع إلى الآخر ذهبًا ثم يأخذ بعد حين أكثر منه أو أقل. وإنما الحكم إذا حل الأجل وتساوى الثمن أن يتقاصا مائة بمائة ويعطي أحدهما الآخر ما أبقته عند المقاصة إذا زاد أحد الثمنين على الآخر. وكذلك إذا اشتراه إلى أجل أبعد من الأجل الأول فإنه إنما يمنع منه قسم واحد وهو أن يشتريه بأكثر من الثمن الأول لأن المشتري أوّلًا يعود إذا حل الأجل ووزن الثمن سلفًا لما دفع من الثمن فإذا أخذ بعد أجل آخر أكثر منه صار سلفًا بزيادة كما بيناه، وإن كانا اشترطا المقاصة جاز هذا الذي منعناه لارتفاع العلة بالمقاصة، لأن المشتري لا يدفع عند الأجل الأول ثمنًا فيأخذ أكثر منه بعد ذلك، وإنما يحسب ما حل للبائع عليه فيما سيحل له على البائع ثم يأخذ بعد ذلك من البائع ما فضل عنده. ولم يتعرض أحد في نصوص الروايات إلى تقدم الانتفاع بالثوب المبيع أو العبد المبيع ها هنا فيجعل الانتفاع عوضًا للسلف فيمنع من شراء هذا الثوب بمثل هذا الثمن إلى أبعد من الأجل، لما يتصور فيه من كون المشتري إذا حل الأجل ودفع مائة درهم ثم يأخذها بعد حين، فمن دفعها إليه أن يكون كالمسلف مائة درهم يأخذها بعد أجل، ويقدر الانتفاع بالثوب من لباس أو غيره عوضًا من سلفه هذه المائة، إلى غير ذلك مما يتصور فيه مثل هذا في بعض الأقسام التي ذكرناها. وقد قال بعض الأشياخ: إن القياس يقتضي منع هذا وما في معناه لما يتصور فيه من سلف جر منفعة. وسنبسط هذا في الفصل الذي نتكلم فيه فيما تقرر فيه معنى الزيادة إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد تقرر أن محض الزيادة المحسوسة في السلف ممنوعة. وقد يعرض إشك الذي مسائل: هل فيها معنى الزيادة في

السلف أم لا، مثل أن يبيع رجل سلعة بعشرة دنانير إلى شهر ثم يشتريها ممن اشتراها منه بخمسة دنانير نقدًا، وخمسة دنانير إلى شهرين، فإن هذا البائع الأول قد خرج من يده الثوب، ثم رجع إليه ودفع خمسة دنانير، فإذا حلّ الشهر أخذ من المشتري عشرة دنانير بخمسة منها قضاء عن الخمسة التي أسلفها البائع لما ارتجع ثوبه، وخمسة منها يكون المشتري مسلفًا لها يأخذها منه بعد شهر آخر. فتصور من هذا أن الثوب لما بيع ثم ارتجع صار لغ وَا مطرحًا وصار البائع دفع خمسة سلفًا للمشتري يأخذها منه إذا حل الشهر، ويأخذ منه خمسة أخرى تكون سلفًا عنده أيضًا إلى شهر عوض السلف الذي أسلفه إياه المشتري. فكأنه إنما أسلف البائع خمسة دنانير إلى شهر على أن يسلفه المشتري خمسة دنانير أخرى أيضًا إلى شهر، فقد تساوى مقدار السلف ولم تكن فيه زيادة توجب المنع، لكن منفعة كل واحد من المتسلفين قد نال مثلها من صاحبه الذي أسلفه أيضًا، فإذا استوت المنفعة لم يتصور كون أحد المتسلفين أسلف لينتفع، فلم يمنع ذلك عند ابن القاسم، وكرهه ابن الماجشون واثقًا أن يكون معنى الزيادة حصل ها هنا، لأن كل واحد منهما ما أسلف إلا لعِوَض وغَرَضٍ له في السلف يعود بمنفعة، ولولا ذلك ما أسلف، والسلف بشرط أن سلف المسلفة (¬1) مثل ما أسلف، ظاهر هذا الشرط يقتضي أن السلف إنما وقع لمنفعة السلف، وسلف يجر منفعة ممنوع. وكذلك لو اشترى البائع هذه السلعة بأربعة دنانير نقدًا وستة دنانير إلى أجل شهرين أو اشتراها بستة نقدًا وأربعة دنانير إلى شهرين فإن ذلك جار على القولين، لأن الأجل إذا حل دفع المشتري عشرة دنانير يكون بعضها، وهي الستة أو الأربعة، قضاء عما أخذ من البائع وبقيتها سلفًا منه للبائع. لكن لو اختلف العدد ها هنا فاشتراها البائع بأربعة نقدًا وخمسة إلى شهرين أو بخمسة نقدًا وأربعة إلى شهرين لمنع ذلك على المذهبين جميعًا؛ لأن الزيادة ها هنا موجودة لما اختلف العدد، فإذا حل الأجل ودفع المشتري العشرة دنانير التي اشتراها كانت خمسة منها قضاء عن الأربعة التي أسلفه البائع، فالزيادة في السلف متصورة على ما بيّناه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُسَلَّف.

ومما ينخرط في هذا السلك أن يكون الثمن الأول بعضه مؤجلًا وبعضه منتقدًا، مثل أن يبيع رجل سلعة بخمسة دنانير نقدًا وخمسة إلى أجل، ثم اشتراها البائع بثمن هو مقدار الثمن الأول ولكن البائع ينقده كله، مثل أن يشتري هذه السلعة التي باعها بخمسة نقدًا وخمسة إلى شهر بثمن جملته عشرة دنانير فأكثر ينقدها، أو خمسة دنانير فأقل ينقدها أيضًا، أو ستة دنانير فأكثر إلى تسعة دنانير، فإن شراءه إياها بعشرة دنانير جائز لا تتصور فيه منفعة وزيادة محسوسة أو مقدرة لأنه دفع عشرة دنانير أو أكثر منها بخمسة منها قضاء عن الخمسة التي نقده المشتري وخمسة فأكثر نقدها ليأخذها إلى أجل، فهو قد خسر التأجيل خاصة أو التأجيل والزيادة، ولا يمنع من سلف جر خسرانًا. وإن اشتراها بخمسة دنانير فأقل فإنه لا يتصور في هذا تهمة، لأن المشتري نقد أولًا خمسة دنانير فرجعت إليه أو رجع إليه أقل منها فلم يمنع من ذلك. وإن اشتراها البائع بستة دنانير فأكثر إلى تسعة فلن يمنع (¬1)، لأنه يقدر فيه أن الخمسة التي قبضها البائع ردها على مشتريها وزاده دينارًا أو دينارين أو ثلاثة أو أربعة نقدًا في خمسة دنانير يأخذها منه إلى أجل، فلا يجوز هذا لأنه زيادة في السلف. ولو اشتراها بستة دنانير نقدًا وخمسة إلى أجل، فإن ما علق بالأجل من جهة البائع والمشتري لا فساد فيه، لكن إنما تتصور التهمة بقصد الفساد فيما وقع فيه الانتقاد إلا في أهل العينة خاصة فيقدر أنه أسلف خمسة لترجع إليه ستة من غير تأجيل، وإذا لم يكن المتعاقدان من أهل العينة لم يتهما في هذا. ومما يشكل أيضًا فيه قصد المنفعة في السلف، واختلف فيه قول مالك، فيمن اشترى دابة بثمن إلى أجل فأصابها عَوَر، أو ما في معناه من العيوب، هل لبائعها أن يشتريها بأقل من الثمن الذي باعها وينقد الثمن؟ فأجاز ذلك في أحد قوليه لأجل أنه إذا باعها بمائة إلى شهر، وهي سالمة من العيوب، ثم اشتراها بخمسين نقدًا، وقد أصابها هزال، فإن الحطيطة ها هنا مصروفة في الظاهر إلى أنها لأجل العيب الذي حدث لا إلى القصد إلى الزيادة في السلف، وبخلاف أن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب فإنه يمنع.

يشتريها بخمسين نقدًا، وهي سالمة، فإنه تقوى التهمة أن الحطيطة قصد الزيادة في السلف، وتضعف التهمة إذا حدث بها العيب لوجود سبب تصرف هذه الحطيطة إليه. ولم يجز ذلك مالك أيضًا في إحدى الروايتين عنه مبالغة منه في حماية الذريعة لئلا يقال فيما فيه تهمة قوية: هذا تبعد فيه التهمة. ولهذا اختلف القول أيضًا عندنا فيمن أسلف في فاكهة لها إبّان انقطعت، فتراضيا على الإقالة فيما بقي منها، فقيل: هذا جائز لأجل ظهور سبب غير مكتسب وهو انقطاع الثمرة، وقيل لا يجوز مبالغة في الاحتياط ولإمكان أن يكونا عقدا على ما يعلمان أن بائع الثمرة لا يوفي به وأنه سيرد بعض الثمن ويأخذه سلفًا عنده. ومن هذا المعنى أيضًا تعدي البائع على سلعة باعها بثمن إلى أجل فلزمته القيمة بتعديه عليها، والقيمة أقل من الثمن الذي باعها به. فقيل: للمشتري أن يغرمه القيمة ويدفع الثمن الذي عليه إذا حل الأجل وإن كان الثمن أكثر من القيمة، ولا يتهمان ها هنا على القصد إلى سلف بزيادة لما كان هذا الثمن الذي هو أقل من الثمن لأجل إنما وجب للمشتري في ذمة البائع بسبب لا طواعية فيه للمشتري ولا اختيار، وإنما أخذ ما هو أقل ودفع بعد حين ما هو أكثر بحكم الشرع والاضطرار، فبعدت التهمة إلى قصد سلف بزيادة لما لم يشترط المتبايعان في السبب الذي أوجب أخذ هذا المقدار القليل من الثمن، وقيل: إذا أخذ القيمة وهي الأقل لا يعطي عند الأجل إلا مثلها، ويسقط عنه من الثمن الذي عليه ما زاد على مقدار ما أخذ من القيمة مبالغة في الاحتياط وحماية للذريعة، فيمنع من دفع أكثر مما أخذ لئلا يقعا في سلف بزيادة. ولم يلتفت من قال بهذا المذهب إلى ضرر البائع وإسقاط بعض الثمن المؤجل الذي عقد البيع عليه ولأجله سمح بالتأجيل، ورأى أن التعدي لما كان من جهته، وقد تعلق بهذا حق البارئ سبحانه وهو منع الزيادة في السلف، وحق له وهو استيفاء الثمن الذي إنما باع نسيئة لأجل ما استوفى من الثمن، وجب أن يسقط حقه ويحمل عليه احتياطًا لحق الله تعالى، مع كون التهمة تبعد إذا أتلف السلعة تلفًا لم يأخذ فيه عوضًا. لكنه لو أتلفها ببيع لكانت التهمة تتطرق إليه وإلى المشتري

منه، لكن المذهب على قولين في تعدي البائع على سلعة بإفاتتها ببيع أو غيره. ومما قد يشكل ها هنا مما هو في معنى الانتفاع لأجل السلف ما قدمنا الإشارة إليه من كون أهل المذهب لم يقدّروا في هذا انتفاع المشتري بالسلعة منفعة تكون عوضًا، لما يتصور في هذه المسألة من التهمة على السلف، مثل أن يشتري البائع ثوبًا أو عبدًا بثمن إلى أجل بمثل الثمن المؤجل نقدًا أو إلى أجل أبعد من الأجل، فإنهم أجازوا ذلك مع كون المشتري انتفع بالعبد أو الثوب على أن يسلف صاحب العبد أو الثوب مائة دينار إذا حل الأجل يأخذها منه بعد حين، ولم يقدروا أن هذا سلفًا من المشتري أسلفه البائعَ عوض ما انتفع بسلعته، لكون الانتفاع إنما يقدر مجرد تهمة في أهل العينة خاصة. وقد أشار ابن المواز إلى هذا فقال: إن الانتفاع قبل العقد الثاني لا يتهم فيه إلا أهل العينة، لكنه ذكر الانتفاع مطلقًا دون تقييد بانتفاع المثمون. وقد قال بعض المتأخرين: إن القياس يقتضي منع شراء هذه السلعة بمثل الثمن إلى أبعد من الأجل لما صوَّرته فيها من تقدير سلف جر منفعة. وأشار إلى أن أبا الفرج حكى عن عبد الملك منع شراء هذه السلعة بمثل الثمن إلى أبعد من الأجل. ولم أقف لأبي الفرج في الحاوي لما ذكر هذه المسائل في باب العينة، على هذا. وإنما ذكر أبو الفرج عن عبد الملك أنه يمنع أن يبيع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم يشتريها وسلعة أخرى بذلك الثمن أو بأكثر منه إلى أبعد من ذلك الأجل. وذكر سلعة أخرى تشترى مع تلك السلعة تخرج المسألة إلى معنى آخر غير ما نحن فيه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد قدمنا أن المعتبر في مسائل هذا الكتاب قوة التهمة على التحيل على ما لا يحل، وقد علم أن الصرف المستأخر محرم. فإذا باع منه ثوبًا بمائة درهم إلى أجل، ثم اشتراه البائع بدنانير نقدًا، فإن الثوب لما بيع ثم رد بعد البيع صار كالمطّرح الملغى، وصار محصول أمرهما على ما قدمناه مرارًا: أن بائع الثوب الأول قد رجع إليه ثوبه وأخرج دنانير نقدًا ليأخذ عوضها دراهم إلى أجل، وهما لو صرحا بأنهما إنما تعاقدا على ذلك لم يجز، فكذلك إذا لم يصرحا ولكنهما اتهما أن يكونا أرادا ذلك، فإنهما يمنعان

منه. لكن لا يخلو أن تكون الدنانير المنقودة أكثر من قيمة الدراهم المؤجلة بأمر بيّن للتفاوت، مثل أن يشتري الثوب بمائة دينار وقد باعه بمائة درهم، فإن هذا يتضح فيه ضعف التهمة؛ لأن دافع الدنانير يخسر خسارة بينة، وينضاف إلى ذلك التأجيل فيما يخسر فيه خسارة بينة بمثل هذا، غير أن ابن القاسم [أجاز] (¬1)، إذا علم من ناحية القيمة التي تصورناها أو ما في معناها مما هو دونها مما يرفع التهمة: أن دافع الدنانير لا يمكن أن يكون قصد المتاجرة في الصرف المستأخر. ومنع ذلك أشهب مبالغة في الاحتياط، ولأنه قد يكون لدافع الدنانير في هذا أغراض خفية قصد بها المتاجرة والمكايسة في الصرف المستأخر، كحماية الحماية. وكما تجعل للحرام حماية يحيى بها جانبه فيجب أن يبالغ في هذه الحماية وتحمى أيضًا حتى لا يسري الأمر إلى هتك حرمة الحرام، فيقول قائل: هذا لا تهمة فيه، ويقول آخر: هذا فيه التهمة. ويتخرج على قول آخر ستراه في السؤال الذي هو جواز هذا وإن (¬2) كانت الدنانير مثل قيمة الدراهم وتحققنا أن الدافع الدنانيرَ لم يربح بل خسر الصبر والتأجيل. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: قد علم أن المبادلة سكة بسكة منها ما يجوز ومنها ما يمنع، على ما تقدم بيان ذلك في كتاب الصرف لما تكلمنا على أحكام أخذ السكك بعضها عن بعض وأحكام المراطلة، فإذا باع منه ثوبًا بمائة دينار إلى أجل، وكانت الدنانير بسكة، ثم أراد أن يشتري هذا الثوب ممن باعه منه بدنانير هي مثل مقدار الدنانير الأولى لكنها من سكة أخرى، فإنه قد اختلف في هذا عندنا: فقال في المدونة، فيمن باع ثوبًا بمائة درهم محمدية إلى أجل ثم اشتراه بمائة درهم يزيدية إلى الأجل بعينه: إن ذلك لا يجوز. واختلفت طريقة الأشياخ في علة المنع، هل هي كون الذمتين مشغولتين بسكتين مختلفتين فيمنع ذلك؛ لأنه باع ذهبًا نسيئة بذهب مخالف له نسيئة، والتبايع بذهبين مختلفين نسيئة لا يحل. فعلى طريقة هؤلاء يمنع ذلك ولو كانت السكة التي ¬

_ (¬1) لفظة يقتضيها النص، ساقطة من النسختين. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب، إن كانت.

اشترى بها البائع الأول هي خيرًا من السكة التي باع ثوبه بها لما تصوّر في ذلك من بيع بذهب آخر مخالف له إلى أجل. فيمنع هؤلاء المسألة سواء كان بيع هذا الثوب بمحمدية إلى أجل ثم اشتراه بيزيدية إلى أجل، وإن كانت اليزيدية أدنى من ناحية السكة وإن تساوت في المقدار وفي الوزن مع المحمدية لما قدمناه من التعليل. وسلك بعض الأشياخ طريقة أخرى في التعليل لما في المدونة فقال: إنما منع ذلك لأن اليزيدية دون المحمدية، وقد قدمنا أن من باع ثوبًا بدراهم ثم اشتراه بأقل من تلك الدراهم أنه يمنع لأجل ما في ذلك من التحيل على الربح في السلف. فهؤلاء يجيزون أن يبيع هذا الثوب بمائة درهم يزيدية إلى شهر ثم يشتريه بمائة محمدية إلى شهر لأنه إنما اشترى البائع الأول بثمن هو أكثر مما باع، وقد قدمنا أن هذين المتبايعين يتهمان على قصد التحيل على الربح في السلف لا على الخسارة فيه. وقد وقع لابن القاسم وعبد الملك في هذا الأصل اعتبار نفي التهمة بأن لا يتصور في المسألة ربح في السلف فأجازا أن يبيع بسكة إلى أجل ثم يشتري السلعة بسكّة ينقدها هي مثل السكّة التي باع بها أو أعلى منها؛ لأنه إذا باع بأعلى منها خسر فضل زيادة السكّة التي دفع والتأجيل. وإذا كانت السكّة التي اشترى بها مثل الأولى، فلا ربح له وإن ساوتها في القيمة. وإذا لم يتصوّر الرّبح فلا وجه للمنع. ولو كانت السكة التي يشتري بها البائع الأوّل لها فضل على تلك بزيادة عدد، لكن لتلك التي باع بها فضيلة تساوي فضيلة ما اشترى به، فإنّ ذلك يجوز لارتفاع التهمة. واعلم أنّ مدار هذه المسئلة والتي قبلها على النّظر في الباب حماية لهذه الحماية التي بني عليها مسائل هذا الكتاب. فمن رأى أنّ الأصل تحليل كلّ بيع لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1)، فإذا ضعفت التهمة أو أشكلت أُبقيتْ المسئلة على هذا الأصل الشرعي، قال بالجواز في مثل هذه المعاني. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 275.

ومن بالغ في الاحتياط وجعل للحماية حماية بني هذا الأصل على محاذرته. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد تقرّر ما يمنع من بياعات الآجال إذا وقعت بالعين، ثمّ اشترى البائع ما باعه بأقلّ أو أكثر على ما اقتضاه التفصيل الذي قدّمناه. فإن وقع هذا الممنوع، فإنّه يجب فيه الفسخ، وهاهنا بيعتان واحدة بعد أخرى. فأمّا البيعة الأخيرة، فإنّها تفسخ إذا كانت السلعة قائمة لم تفت من غير خلاف منصوص في المذهب. لكن بعض أشياخي أشار إلى أن ابن عبدوس لا يوجب الفسخ وردّ السلعة من يد مشتريها الأخير الذي كان هو البائع الأول. والذي كان ينقله غيره عن هذا المذهب الّذي حكاه ابن عبدوس عن غيره أنّه إنّما منع من ردّ السلعة من يد قابضها وهو المشتري الأخير بشرط أن تفوت. وأمّا إذا فاتت السلعة في يد مشتريها الأخير الّذي هو البائع الأوّل فإنّ المعروف من المذهب فسخ البيعة الثّانية، إلاّ ابن مسلمة فإنّه أمضاها على ما هي عليه، ورأى أن الفسخ احتياطًا (¬1) مخافة أن يكونا أبطنا فسادًا خلاف ما أظهراه من الصحّة. والتّهمة في هذا لا تجري مجرى اليقين. وقد ذهب إلى جواز البياعات الّتي منعناها. فحسن عند ابن مسلمة الفسخ إذا كانت السلعة قائمة بعينها احتياطًا. فإذا فاتت مضت هذه البيعة مراعاة للخلاف في أصل جوازها ولما يقتضيه الفسخ من غرامة قيمة، فيلحق الضّرر لأجل غرامة هذه القيمة. وأمّا البيعة الأولى، فالمعروف من المذهب فسخها أيضًا مع الثانية إذا فاتت السلعة، وقد قال ابن الماجشون: تفسخ البيعتان سواء كانت السلعة قائمة أو فائتة. وقال ابن القاسم: تفسخ البيعة الثّانية خاصة إلاّ أن تفوت السلعة فتفسخ البيعتان. وذكر ابن أبي زمنين في هذا تفصيلًا فاعتبر القيمة الواجبة على البائع الأوّل الّذي قبض السلعة في البيعة الثّانية، فإن كانت قيمتها الواجبة عليه أقلّ من الثّمن المؤصّل، فسخت البيعتان جميعًا، لأنّا إنّما منعنا هذه البياعات ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: احتياطٌ.

لما تضمّنته من التّهمة على سلف بزيادة. فإذا كان هذا المشتري الأخير وهو البائع الأول تلزمه قيمة السلعة، وهي خمسة دراهم، وقد باعها بعشرة دراهم إلى أجل عدنا إلى الوقوع فيما منه هربنا، وألزمناه أن يدفع الآن خمسة دراهم ينقدها وهي قيمة السلعة الّتي فاتت عنده ويأخذ من صاحبه عشرة دراهم إلى أجل، وهذه صورة السلف بزيادة. فإذا كان الفسخ يختص بالبيعة الثّانية وهو يتضمّن دفع قليل في كثير، على حسب ما صوّرناه، وجب أن يُعدل عن هذا إلى فسخ البيعتين جميعًا. فإذا كانت القيمة الواجبة على قابض السلعة، وهو المشتري الأخير، عشرين درهمًا، وجب أن يختص الفسخ بالبيعة الثانية فترد السلعة من يد هذا الّذي قبضها آخرًا. فإذا لم يقدر على ردّها لفواتها ووجب ردّ قيمتها وكانت قيمتها عشرين درهمًا، غرمنا قابضها الّذي هو المشتري الآخر عشرين درهمًا عوض عينها، ويحاسبه المشتري الأوّل من هذه العشرين درهمًا بالخمسة دراهم الّتي قبض منه ثمن السلعة الّتي ردّها إليه. فتلخص من هذا أنّ المذهب مع قيام السلعة لم يختلف في فسخ البيعة الأخيرة إلاّ على طريقة ما حكيناه عن بعض أشياخنا. ومع الفوات تفسخ البيعة الأخيرة إلاَّ على مذهب ابن مسلمة. وأمّا الأولى فثلاثة أقوال: 1 - الفسخ على الإطلاق، 2 - والإمضاء على الإطلاق، 3 - والتّفصيل الّذي حكيناه. فإن تضمّن اختصاص الفسخ بالبيعة الثانية دفْعَ قليل في كثير سرى الفسخ إلى الأول، وإن لم يتضمّن ذلك اختصّ الفسخ بالثّانية، على ما حكيناه عن ابن أبي زمنين. وأضافه ابن أبي زمنين إلى ابن القاسم. وطريقة أصحاب هذا التفصيل: أنّ القيمة إذا تضمّنت دفع قليل في كثير قضي بهذه القيمة، لكن لا يأخذ غارمها من المشتري الأوّل عند حلول الأجل أكثر من القيمة الّتي غرم، ويسقط الزّائد على المشتري الأوّل. لأنّا إن (¬1) لم ¬

_ (¬1) النص يقتضي إثبات: إنْ، وهي ساقطة في النسختين.

نسقط عنه، عادت المسئلة إلى الأصل الممنوع، وهو دفع قليل في كثير. وهذا إن تحقّق فيه صورة الفسخ الثّانية لأجل أنّا غرمنا قابض السلعة قيمتها، فإن إبطال ما زاد على القيمة عن المشتري إذا حلّ الأجل، يقتضي أيضًا فسخ العقد الأوّل. لكن أصحاب هذه الطّريقة رأوا أنّ السلعة لمّا قبضها المشتري الآخر الّذي هو البائع الأوّل وجب في مقتضى القياس أن لا تنزع من يده، لأنهما إن لم يبطنا فسادًا، فالبيعة الأولى والثّانية صحيحتان، ولا معنى لفسخ العقد الصحيح. وإن أبطنا فسادًا وقصدا دفع قليل في كثير، فلا بيع بينهما، فيجب أن تبقى السلعة في يد بائعها الأوّل كأنّه لم يبعها. ولهذا مال بعض أشياخي إلى اختيار إبقائها (¬1) في يده مع قيام السلعة، فإذا فاتت وكانت القيمة الّتي تلزمه أقلّ مِمّا باع به وأغرمناه إيّاها، صار ما زاد عليها من الثّمن المؤجّل إذا أسقطناه ذهبت علة الفساد وارتفع ما صوّرناه من التّهمة، فكان إصلاح العقد بإذهاب هذه الزّيادة خاصة، ويبقى العقد على ما هو عليه أولى من التعرّض إلى فسخ العقدين. لكنّا إذا سلكنا هذا المسلك، فأغرمنا البائع قيمة السلعة وهي خمسة دراهم، ولم تعد عليه هذه الخمسة دراهم إلاّ بعد أجل، صار مظلومًا بإسقاط حقّه بالزّيادة، فقدّم هؤلاء حقّ الله تعالى في إصلاح هذا العقد بإسقاط الزّيادة على حقّ المشتري الآخر في إسقاط ما استحقّه من زيادة بحكم الثّمن. وتكاد هذه المسئلة تلاحظ بياعات الشّروط. وفيها الخلاف المشهور: هل يصحّ البيع بإسقاط الشرط، وإن كان فيه حقّ لمشترطه تقدمة لحقّ الله سبحانه على حقّ هذا المشترط أو يفسد العقد كلّه، إذ لا يتبعّض العقد الواحد؟ وهكذا يعتلّ من خص الفسخ بالبيعة الثانية بأنّها هي الّتي أدخلت الفساد وأوقعت التّهمة، فإذا فسخناها خاصة ارتفعت الشّبهة من العقد الأوّل. أو يقال: إنّ المنع مبنيّ على أنهما قصدا دفع قليل عن كثير، ولا يتصوّر ها هنا إلاّ بارتباط أحد العقدين بالآخر، وإذا ارتبط أحدهما بالآخر، صارا في معنى العقد الواحد، والعقد الواحد لا يتبعّض، بل يفسخ جميعه. فهذه النّكتة الّتي يدور عليها هذا الخلاف ¬

_ (¬1) في النسختين: إلغائها. والنص يقتضي ما أثبتناه.

مطلقًا ومفصّلًا. وقد نقلنا عن المذهب فسخ البيعتين جميعًا نقلًا مطلقًا. وقيد النّقل في بعض الرّوايات أنّ الفسخ تسلط على البيعتين جميعًا إلاّ أن يظهر أنهما لم يقصدا العينة، مثل أن يجدها في السوق تباع فيشتريها، فإنّ الفسخ يختصّ بالبيعة الأخيرة. وهذا لا يستقرّ على القاعدة التي قدّمناها، لأن التّهمة إذا تحقّق ارتفاعها اقتضى الحال إمضاء البيعتين جميعًا، وإذا لم يتحقّق، فسخت الثّانية، لأنّ بفسخها ترتفع التّهمة، أو تفسخ البيعتان جميعًا لما بينهما من الارتباط كما قدّمناه. لكن من قيّد هذه الرّواية بما قدّمناه، رأى فسخ البيعتين. فإذا تبيّن ارتفاع التهمة، حسن الاحتياط بقصر الفسخ على الثّانية خاصّة. وإذا لم يتبيّن، فسخ البيعتان جميعًا لأنّهما في معنى العقد الواحد. فإذا تقرّر حكم الفسخ مع الفوت فما المفيت ها هنا؟ أمّا ذهاب عينها أو تغيّرها في نفسها، فإنّه يفيتها من غير خلاف على حسب ما يأتي بيانه في تغيّر الأعيان. وأمّا بقاء عينها على حالتها لكن أسواقها اختلفت، فقد اضطرب المذهب فيه. فقيل: إنّه فوت. وقيل: ليس بفوت. وحكى ابن عبدوس أنّ رجلًا سأل سحنونًا عن فوت هذه السلعة، فقال له: لا تفيتها حوالة الأسواق، بل تغيّرُها أو ذهابُ عينها. فإذا تغيّرت في نفسها حتّى وجبت القيمة، هل هي أقل من الثقن فتسقط الزّيادة الّتي زاد الثمن على هذه القيمة؟ أو هي أكثر فيغرم القيمة على الإطلاق على حسب ما قدّمناه من التفسير الّذي ذكرناه؟ فقال له السائل: هكذا سمعنا عن ابن كنانة. قال ابن عبدوس: قال لنا سحنون: أُرْوُوها عن الشيخ ابن كنانة. وسبب هذا الاضطراب الذي نقلناه عن المذهب: أنّا قرّرنا (¬1) أنّ هذه العقود زُورٌ وأنّ المِلك لم ينتقل، اقتضى هذا كون تغير الأسواق لا يفيتها. وإن لم نقدّر أن هذه التّهمة تجري مجرى اليقين، وإنّما المنع حماية والفسخ مبالغة في الاحتياط لهذه الحماية، وجب أن تفيتها حوالة الأسواق. وسنوضّح هذا الأصل عند كلامنا على الاختلاف في حوالة الأسواق في مثل هذه المعاني إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّا إن قدرنا.

وقد يجري أيضًا على هذا الأسلوب ما اضطرب فيه الأشياخ في هذه السلعة إذا باعها مالكها بعشرة دراهم إلى شهر، ثمّ اشتراها بخمسة دراهم إلى شهر، ثمّ أراد أن يعجّل هذه الخمسة دراهم، فإنّ من الأشياخ من أجاز ذلك لأنّ أصل العقد الأوّل والعقد الثاني وقع على الجواز لا تهمة تتطرّق إليه. فإذا تطوّع مشتريها بخمسة دراهم إلى الأجل بأن ينقد هذه الخمسة دراهم، لم يمنع من ذلك لسلامة العقدين في الأصل من تطرّق التّهمة إليهما. واستشهد هؤلاء بما نصّ عليه أهل المذهب من منع شراء سلعة غائبة أو سلعة على الخيار بشرط نقد الثّمن. فإذا تعاقدا عليها من غير شرط تعجيل، فإنّ من عليه الثمن لا يمنع من أن يتطوّع بنقده لمّا لم (¬1) يكن مشترطًا في أصل العقد. ومن الأشياخ من يمنع هذا ورأى أنّ الصورة الّتي منعنا من العقد عليها إذا أظهراه عاد إليها بعد العقد، وأن التّهمة تجري في هذا مجرى اليقين في كونهما قصدا إلى سلف بزيادة، وقد تصوّر هذا ها هنا فيما تطوّع به هذا المتطوّع بالتّعجيل، فوجب أن يمنع. ومن لم يجر هذا مجرى اليقين وإنّما منعه احتياطًا، رأى أنّ البيع الأوّل ماض لو انفرد، باتّفاق، والبيع الثّاني هو سبب تطرّق التهمة، فحسن منعه. والتطوّع بالنقد فعل ثالث، فلا يحسن أن تمتدّ التّهم إلى هذه الأفعال كلّها مع تعدّدها وتباين أوقاتها. وقد كنّا قدّمنا الإشارة إلى اضطراب المذهب في حماية الحماية. وهذه المسئلة ربّما خُرِّجَتْ عليه. ¬

_ (¬1) (لم) ساقطة من النسختين، والنص يقتضيها.

فصل في اعتبار التفاضل في غير العين

فصل في اعتبار التفاضل في غير العين قال الشّيخ رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل سؤال واحد، ما حكم التفاضل ها هنا في العروض؟ فالجواب أن يقال: قد قدّمنا أحكام ما يمنع بالتّهمة على سلف بزيادة إذا كان الثّمن عينًا. فأمّا إن كان ليس بعين وهو عروض، مثل أن يبيع منه سلعة بعشرة ثياب مضمونة إلى أجل، ثمّ يشتريها بثياب من جنسها، فإنّ هذا يتصوّر فيه الاثنا عشر قسمًا الّتي صوّرناها في الثّمن إذا كان عينًا، وقد قدّمنا بيانها هناك وذكرنا أنّ الممنوع منها قسمان، وهما أن يبيع سلعة بدراهم إلى أجل ثمّ يشتريها بأقلّ من الثّمن إلى ما قبل الأجل (¬1)، أو يشتريها بأكثر من الثّمن إلى أبعد من الأجل على ما مضى تفصيله وبيانه. وها هنا يمنع هذان القسمان، ويختلف في قسمين آخرين يضافان إليهما. فإذا باع هذه السلعة بعشرة ثياب مضمونة إلى شهر، ثمّ اشتراها بخمسة ثياب من جنسها نقدًا، فإنّ هذا يمنع لما يتصوّر فيه من سلف بزيادة، مثل ما يتصوّر في العين، ويتّهم على أن يكون قد (¬2) أسلف خمسة ثياب ليأخذ عشرة. وكذلك إذا اشتراها بخمسة عشر ثوبًا إلى شهرين، فإنّه يتّهم أيضًا على أن يكون المشتري يدفع عند الأجل عشرة ليأخذ خمسة عشر. وأمّا الوجهان الآخران، وهو أن يشتريها بخمسة عشر ثوبًا نقدًا أو بخمسة ثياب إلى شهرين، فإنّ هذا يتضمّن سلفًا بخسارة لا سلفًا بزيادة، ولا يتّهم أحد ¬

_ (¬1) في النسختين: الأقلّ، والنص يقتضي ما أثبتناه. (¬2) في النسختين: قصد، والنص يقتضي: قد.

على أن يسلف ليخسر، وإنّما يتّهم أن يسلف ليربح. لكن تتطرّق التّهمة هنا من جهة أخرى وهي ضمان بعوض، فإذا باع السلعة بعشرة ثياب إلى شهر ثمّ اشتراها بخمسة عشر ثوبًا، فقد تطرّقت التّهمة إليهما في أن يكون أسلفه عشرة ثياب وأعطاه خمسة ثياب معها ليضمن له العشرة إلى أجل، وكذلك إذا اشتراها بأقلّ إلى أبعد من الأجل، يتصوّر أيضًا أَن يكون المشتري الأوّل لمّا حلّ الأجل دفع خمسة عشر ثوبًا ليأخذ بعد شهرين عشرة ثياب وتكون الخمسة عوض ضمان العشرة. ولكن التحيّل على ضمان بِجُعْل لا تقوى التّهمة فيه كما تقوى التّهمة على التحيّل على سلف بزيادة. لكن قدّمنا في كتاب السلم، لمّا تكلّمنا على ربا النساء في العروض، اختلاف النّاس فيه، وما وقع في المذهب عندنا من اضطراب فيه، هل يمنع التفاضل في العروض إذا بيعت نسيئة بجنسها لأجل أنّه ربا، والرّبا محرّم في نفسه، وإنّما منع حماية للذريعة لئلاّ يقصد من أسلم ثوبًا في ثوبين من جنسه إلى السلف بزيادة. فمن سلك من أصحابنا طريقة من يرى أنّ التّفاضل في العروض إذا بيعت نسيئة ربا، كالرّبا في العين، منع هذين القسمين ولأجل ما يحصل فيهما من صورة التّفاضل وإجراءِ التّفاضل في الثّياب في بياعات الآجال مجرى العين. ومن منع ذلك حماية للذّريعة لئلاّ يكونا قصدا إلى التحيّل على سلف بزيادة، فإنّ هذه الثّياب إذا بيع بعضها ببعض متفاضلًا تصوّر فيها صورة الرّبا. وإذا كانت ثمنًا للسلعة ثمّ اشتريت تلك السلعة بثياب من جنسها، فإنّ التّفاضل بين الثّياب لم يكن متصوّرًا في عقد واحد، ولكن إنّما يتصوّر لوقوع عقد بعد عقد، وقد قدّمنا أنّ وقوع عقد بعد عقد يوجب كون العقد الثّاني مَطرَق التّهمة إلى العقد الأوّل، فمنع حماية للذّريعة. فالدّنانير والدّراهم لا يتصوّر فيها ضمان بجُعل لبعد التّهمة فيها، فاتّفق المذهب على جواز أن يشتري ثوبًا باعه بعشرة دراهم إلى أجل بعشرين درهمًا نقدًا. فيتصوّر في الثّياب القصد إلى ضمان بجعل، فهل يحسن أن تحمى الذّريعة في هذا الوجه؟ هذا مِمّا اضطرب فيه المتأخّرون لأنه كحماية مبنيّة على ضمان بجعل لحماية ملحقة بالحماية الأولى. وقد اختلف المتأخّرون فيمن باع ثوبًا بقفيز قمح

إلى شهر، ثمّ اشتراه بقفيزين قمحًا نقدًا، هل يجوز في ذلك ما يجوز في العين باتّفاق لارتفاع التّهمة على التحيّل على سلف بزيادة؟ أم يمنع ذلك لما يتصوّر فيه من ضمان بجعل؟ وأشار بعضهم إلى تخريج هذا على اختلاف في الحماية، هل تكون لها حماية أخرى؟ أم لا يحسن ذلك لئلاّ يتسلسل الأمر ويكثر؟ وبالجملة فإنّ هذا عندي إنّما يعتبر فيه قوّة التّهمة وضعفها. وأمّا السلف بزيادة فتقوى فيه التّهمة فيتّفق عندنا على المنع. وأمّا الضّمان بجعل فتضعف فيه التّهمة، فيحسن فيه الخلاف. فمن بالغ في الاحتياط منع من هذا، ومن لم يبالغ في هذا لم يمنع منه لضعف التّهمة فيه. وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّ شراء الثّوب المبيع بقفيز قمح إلى أجل بقفيزين نقدًا يجوز على أصل ابن القاسم. كما أجاز لمن باع ثوبًا بأربعين درهمًا إلى أجل أن يشتريه بعشرين دينارًا نقدًا، وإن تصوّر في هذا التحيّل على الصرف المستأخر لأجل ارتفاع التّهمة لكثرة الخسارة في هذا المنقود من الطّعام. ويمنع على أصل أشهب، كما منع شراء هذه الدّراهم بالذهب الّذي ذكرناه وإن ارتفعت التّهمة فيه.

فصل في حماية الذريعة في البيع والسلف

فصل في حماية الذّريعة في البيع والسلف قال الشّيخ رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما حكم شراء المبيع ببعض الثّمن؟ 2 - وما حكم شرائه بمثل الثّمن فأكثر منه؟ 3 - وما حكم شراء المبيع ببعض الثّمن وزيادة عليه من غير جنسه؟ 4 - وما حكم شراء كلّ المبيع ببعض الثّمن وزيادة في الثّمن من جنس آخر؟ 5 - وما حكم شراء كلّ المبيع وزيادة عليه؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: قد قدّمنا أنّ ظاهر بياعات الآجال الّتي منعها مالك وأجازها الشّافعي، الأصل فيها الجواز. لكن مالكا رأى في البياعات أنواعًا إذا قارنت العقد أفسدته. فكلّ عقد ظاهره السلامة من هذه المفسدات، ولكنّه اعتبر فيه إبطان هذه المفسدات وسترها، فإنّه يمنع، أو يمنع منها حماية للذّريعة ومخافة أن يكون المتعاقدان تحيّلا بها على المحرّم. كما قدّمنا الاضطراب في تعليل المنع لما منعناه من بياعات الآجال. وقد تقرّر أنّ الرّبا ممنوع والسلف الّذي يجرّ منفعة ممنوع، ومثّلنا ذلك بالمسائل المتقدّمة، وقد علم أنّ من المحرّمات البيع بشرط السلف. وهذا الفصل يشتمل على مسائل هي كالمثال له فيما يحيى منه. فذكر في المدوّنة إذا باع رجل من رجل عبدين بمائة دينار إلى شهر، ثمّ اشترى البائع أحدهما بخمسين دينارًا أو تسعة وتسعين دينارًا أو بدينار واحد على النقد لذلك، أنّ ذلك لا يجوز، لما يتصوّر فيه من التحيّل بما أظهراه من الفعل الجائز على بيع بشرط السلف. وذلك أنّا قرّرنا أنّ الاعتبار في بياعات الآجال أنّ ما استقرَّ الملك عليه، وما بيع ثمّ ارتجع، فكأنّه

لم يبع. فإذا علم هذا، واحد العبدين الّذي (¬1) بيع ثمّ ارتجع بالشّراء كأنّه لم يعقد عليه بيْع، بل هو باق على ملك بائعه الأوّل لم يخرج من يده، وإنّما خرج من يده العبد الباقي بيد المشتري الّذي لم يرتجعه بالشَّراء وخمسون دينارًا، ويأخذ عوض ذلك إذا حلّ الأجل مائة دينار. فخمسون منها قضاء عن الخمسين الّتي خرجت من يد البائع، وخمسون منها ثمن العبد الباقي بيد المشتري الّذي لم يرتجع منه. صار هذا محصول أمرهما. فقد تصوّر فيه صورة البيع والسلف لأنّ العبد الباقي فرضنا أنّه مبيع بخمسين تؤخذ عند الأجل، وقارن ذلك خمسون دينارًا أسلفها البائع نقدًا، ثمّ تعود إليه إذا حلّ الأجل. وهما لو صرّحا حين العقد، بأنّه يبيع منه عبدًا بخمسين دينارًا على أن يسلفه خمسين، لمنع ذلك باتّفاق. فإذا ظنّ بهما أنّ هذا قصدهما، وإن لم يصرّحا به، جعل حكمه حكم ما صرّح به من البيع والسلف. لكنّه أغلى فيما ذكره في المدوّنة في هذا التّمثيل لما قال: إنّه اشترى العبد بتسعة وتسعين نقدًا، أو اشتراه بدينار نقدًا، لأجل أنّ هذا التعليل في السلف أو الثّمن تبعد فيه التّهمة، ولا يشبه أن يبيع أحد العبدين بدينار ويسلفه تسعة وتسعين، فإنّ في هذا غبنًا ظاهرًا. وكذلك لا يشبه أن يبيع العبد الّذي أبقاه في ملك المشتري بتسعة وتسعين على أن يسلف المشتري دينارًا واحدًا. لكنّ هذا التّمثيل بهذه المبالغة يصحّ على أصل أشهب المانع من شراء ثوب باعه بأربعين درهمًا إلى أجل ثمّ اشتراه بعشرين دينارًا نقدًا. وإن كانت التّهمة على الصّرف المستأخر في هذا بعيدة. وابن القاسم أجاز هذا، فينبغي على أصله أن يجيز ما ذكرناه من التّمثيل الّذي بالغ فيه في مسئلة العبدين. إلاَّ أن يرى أنّ البيع والسلف يتكرّر القصد إليه والتحيّل عليه بخلاف الصرف المستأخر. فإذا تقرّر منع هذه المسئلة لما تصوّر فيها من صورة البيع والسلف، فإنّ المتعاقدين لو اعترفا أنّهما قصدا ما ظنناه بهما من البيع والسلف لجَرَى مجرى الحكم في هذه المسئلة على حكم من باع بشرط أن يسلف أو يسلف. لكنّهما ها هنا إذا أنكرا قصدهما لما ظنّ بهما من التحيّل على ما لا يجوز، فإنّ ¬

_ (¬1) في النسختين: اللذين، والنص يقتضى ما أثبتناه.

بعض أشياخي رأى أنّ هذه المسئلة تجري على ما تقدّم من أحكام بياعات الآجال الممنوعة من فسخ الأولى والثّانية على مذهب عبد الملك. ويشير إلى إجراء الخلاف فيها على حسب ما قدّمناه من الكلام في فسخ ما منع من بياعات الآجال مع القيام والفوت. وقد اختلف الأشياخ في فسخ العقد في البيع (¬1) الباقي الّذي لم يرتجعه بائعه. واختلافهم في هذا جار على ما قدّمناه من طريقة بعض أشياخي في إجراء هذه المسئلة على حكم أخواتها الّتي تقدّم ذكرها، وذكر الخلاف فيها. لكن إذا وقع البيع بشرط السلف تصريحًا، فإنّ المشهور من المذهب أنّ السلف إذا أسقطه مشترطه صحّ البيع. فبعض الأشياخ تشير طريقته في هذه المسألة إلى أنّ هذه المسألة الّتي هي ارتجاع أحد العبدين تخالف مسألة اشتراط السلف في حين عقد البيع لأجل إنكار هذين المتعاقدين أن يكونا قصدا إليه. فبمقتضى إنكارهما، أن يكونا قصدا ذلك، أن تكون القيمة في العبد الفائت مطلقًا بالغًا ما بلغت، ولكن يعتبر فيها أن تكون مثل الثّمن فأقلّ فإن كانت أكثر من الثّمن، رجع إلى الثّمن على حسب ما ذكرناه في المدوّنة فيمن اشترط في عقد البيع سلفًا. ومنهم من يوافق على هذا, ولكن سلك في تعليله طريقة أخرى، فيقول: إنّما يعتبر كون القيمة أكثر من الثّمن أو أقلّ إذا كان الثّمن عنها نقدًا. وأمّا إن كان دينًا أو عرضًا، فالقيمة يقضي بها على الإطلاق، والثّمن ها هنا دين. وغير هؤلاء من الأشياخ يرى أنّ الواجب إذا فات هذا العبد أن يحطّ من الثّمن المؤجّل مقدار ما ينوبه منه، ولا يقضي فيه بالقيمة على الإطلاق منفردًا. وهذا جنوح من هؤلاء إلى اعتبار الثّمن. وقد كنّا قدّمنا الكلام على الواجب في هذا إذا فاتت السلعة، وذكرنا مذهب من فصل فاعتبر كون ما يغرم من القيمة المطلقة أقلّ مِمّا يأخذ عند الأجل أو أكثر. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أمّا شراء أحد هذين العبدين بمثل الثّمن فأكثر نقدًا، فإنّه جائز, لأنّا قدّمنا أنّ المعتبر في بياعات الآجال ما خرج من يد البائع خروجًا لم يرتجعه وما يرجع إليه من العوض. فوجدنا بيع العبدين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المبيع.

بمائة دينار إلى سنة، ثمّ اشترى أحدهما بمائة دينار نقدًا أو بمائتي دينار نقدًا لا منفعة له في هذا [حتّى] (¬1) يتهم على القصد إلى ما لا يجوز لأجلها بل يخسر في هذا. وذلك أنّ العبد الّذي باعه ثمّ ارتجعه كأنَّه لم يبعه ولا خرج من يده، وإنّما استقرّ الأمر على أنّه خرج من يده العبد الباقي في ذمّة المشتري الّذي لم يرتجعه ومائة دينار أو أكثر منها نقدًا، ويأخذ إذا حلّ الأجل مائة دينار. فإنّما يعود إليه عند الأجل من الدّنانير مثل ما خرج من يده أو أقلّ منه، ويزيد على ذلك عبدًا وهو الباقي في يد المشتري. وهذا لا يتّهم فيه أحد. لكن الشيخ أبو إسحاق التّونسي حاول تخريج خلاف في هذا، فقال: إنّ من باع ثوبًا بعشرة دراهم إلى شهر ثمّ اشتراه بثوب نقدأوعشرة دراهم، فإنّ هذا يمنعه عبد الملك, ويجيزه ابن القاسم، لأجل أنّه لا يرى فيه منفعة ولا ربحًا يتحيّل عليه, لأنّ الثّوب المبيع قد رجع إلى بائعه ودفع إلى المشتري ثوبًا آخر وعشرة دراهم يأخذها منه إذا حلّ الأجل، فقد اتّضح ها هنا خسارته لا ربحه. لكن عبد الملك منع هذا وإن لم تكن فيه منفعة ظاهرة، وقدّر أنّ الثّوب الّذي ارتجعه إنّما ارتجعه من معاوضة ثانية وهي في دفع ثوب آخر، وهذه مبايعة قارنها سلف عشرة دراهم يأخذها إذا حلّ الأجل. قال: ولا سيما إن كان الثّوب المدفوع آخرًا أدنى من الثّوب الأوّل. وأشار بقوله: لا سيما إذا كان أدنى، إلى اتّضاح التّهمة ها هنا. وهذا الّذي أشار إليه قد يكون انفصالًا عمّا لزمه الشيخ أبو إسحاق أن يقول به في المسئلة الّتي ذكرناها, لأنّ ها هنا مبايعة ثانية وهي عرض بعرض، والأعراض تختلف فيها الأغراض، ولا سيما مع اختلاف القيم، فصحّ ها هنا انصراف الغرض إلى التحيّل على البيع والسلف، ومسئلتنا المتقدّمة إنّما ارتجع أحد العبدين بدنانير من جنس الثّمن الّذي له في الذّمّة، والأغراض ها هنا [لا] (¬2) تتصوّر كما تصوّر في شراء هذا الثّوب بثوب آخر غيره. وابن القاسم قدّر أنّ هذا رجع كأنّه لم يخرج من يده لا بعوض ولا بغير عوض، وإنّما صار محصول أمرهما أنّ البائع ¬

_ (¬1) ساقطة من النسختين والنص يقتضيها. (¬2) ساقطة من النسختين والنص يقتضيها.

خرج من يده ثوب وعشرة دراهم، ويأخذ إذا حلّ الأجل عشرة دراهم. وابن القاسم قد قدّمنا أنّ من أصله أن يجيز بياعات الآجال إذا اتّضح ارتفاع التّهمة. وأشهب يمنعها وإن ارتفعت التّهمة. وعبد الملك يجيزها حتّى يتّضح تصوّر التّهمة فيها، على ما قدّمناه عنه في مسئلة المبادلة سكّة بسكّة في بياعات الآجال. وقد ألزم بعض الأشياخ عبد الملك أن يمنع ما اتّفق المذهب على جوازه, لأنّه اعتلّ في منع شراء الثّوب الّذي باعه بعشرة دراهم إلى شهر، ثمّ اشتراه بثوب وعشرة دراهم نقدًا، فإنّ ذلك يتصوّر فيه البيع والسلف على ما قدّمناه. فقال بعض الأشياخ: يلزمه على هذا أن يمنع من شراء هذا الثّوب الّذي باعه بعشرة إلى أجل بعشرة دراهم نقدًا أو بعشرين درهمًا نقدًا, لأنّه يتصوّر أيضًا فيه أن تكون العشرة دراهم الّتي نقدها سلفًا يأخذها إذا حلّ الأجل، والثّوب الّذي ارتجع بعد أن باعه منفعة حصل عليها لأجل هذا السلف. وكذلك لو اشتراه بعشرين نقدًا فإنّه يتصوّر فيه البيع والسلف، فتكون عشرة من العشرين سلفًا، والعشرة الباقية من العشرين ثمن الثّوب الّذي اشتراه. ولم يختلف المذهب في أنّ هذا غير ممنوع لأنّه إنّما منع ما ذكرناه من بياعات الآجال لأجل التّهمة الّتي تتطرّق إلى المتعاقدين من التحيّل على فعل ما لا يجوز في البياعات. ولا يتّهم أحد أن يسلف عشرين ليأخذ عشرة إلى أجل، ولا في أن يسلف عشرين فيأخذ عشرة إلى أجل (¬1). وإنّما لم يختلف في جواز هذا لأجل ارتفاع التّهمة فيه. وقد تقرّر أنّ العشرة المؤجّلة استقرّت في ذمّة مشتري الثّوب ثمنًا له، فكيف يتصوّر أنّها ثمن للثّوب وإنّما يدفعها عند الأجل بحكم كونها ثمن الثّوب الّذي باعه آخرًا وقد اشتراه أوّلًا؟ ويتصوّر مع هذا أنّه إنّما يدفعها عند الأجل قضاء عن السلف الّذي انتقد (¬2). فتكون العشرة المؤجّلة إذا دفعت عند الأجل تدفع على أنّها ثمن الثّوب، وعلى أنّها ليست بثمن وإنّما هي قضاء ¬

_ (¬1) هكذا (إلى أجل) في النسختين ولعل الصواب: (نقدا). (¬2) ابراز للتناقص.

للسلف، وهذا من التناقض الّذي [لا] (¬1) يصحّ تصوّره. هذا حكم الشراء بعد البيع بمثل الثّمن أو أقلّ منه أو أكثر نقدًا. وأمّا لو اشترى إلى الأجل نفسه لكان ذلك مقاصة ولا يتصوّر فيه وجه من وجوه حماية الذّريعة. وأمّا إن اشتراه إلى أبعد من الأجل، فإنّ هذا يمنع منه سواء اشتراه بمثل الثّمن أو أقلّ أو أكثر, لأنّه يتصوّر فيه ما قدّمناه من شراء البائع له بالنّقد من بيع وسلف. لكن الّذي قدّمناه يتصوّر السلف فيه من جهة البائع الأوّل. وإذا اشترى أحد الثّوبين بثمن إلى أبعد من الأجل، كان المسلف ها هنا المشتري الأوّل. فيكون عند الأجل قد دفع عشرة أو تسعة أو أحد عشر يردّها إليه البائع إذا حلَّ أجل الثّاني. وقد كان أعطاه ثوبًا وهو الباقي عنده فيتصوّر فيه السلف بزيادة والبيع والسلف على حسب ما تقدّم بمثله قبل هذا. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: ذكر في المدوّنة فيمن باع ثوبين بعشرة دراهم إلى شهر، ثمّ اشترى أحد الثّوبين بخمسة دراهم وثوب نقدًا، أنّ ذلك لا يجوز, لأنه بيع وسلف، وفضّة وعرض معجّلة وفضّة مؤجّلة. وهذا الّذي ذكره في المدوّنة هو جار على الأسلوب في المسئلة الّتي تقدّمت وتقدّم ذكر ما تنبني عليه هي وأخواتها من الاعتبار بما خرج من يد البائع، وأنّ ما خرج من يده ثمّ عاد إليه ملغى مطرح. فهذا لمّا خرج من يده الثّوب الّذي ارتجعه ثمّ عاد إليه ألغي حكمه. وتصوّر في هذه المعاملة أنّه باع الثّوب الباقي في يد المشتري والثّوب الّذي دفعه مع الخمسة دراهم المنقودة بعشرة دراهم إلى أجل، فإذا حلّ الشهر دفع المشتري خمسة دراهم منها عوض الثّوبين الحاصلين في يديه من قبل البائع، وهما الباقي في يد المشتري الّذي لم يرتجع والثّوب الآخر الّذي جعلاه عوضًا عن الثّوب المرتجع والخمسة الدّراهم الباقية قضاء عن الخمسة الّتي أسلفها إيّاه لما دفعها مع الثّوب. ¬

_ (¬1) ساقطة من النسختين والنص يقتضيها.

وإن شئت صوّرت المسئلة بصورة أخرى، فقدّرت أنّه باع ثوبًا وخمسة دراهم معه بالثّوب الّذي ارتجعه بعد أن باعه بالعشرة دراهم المؤجّلة، فيكون هذا تحيّلًا على بيع عرض ودراهم مؤجّلة. والتّصويران جميعًا لو ثبت القصد إليهما أو إلى أحدهما لاتّضح المنع. فكذلك إذا اتّهما على القصد إليهما. وقد تقدّم بيان الخلاف في هذه البياعات الّتي منعت لحماية الذّرائع، هل يتسلّط الفسخ على المعاملة في الأولى والثّانية أو على الثّانية خاصة؟ وعلى حسب ما تقدّم بيانه في قيام السلعة أو فواتها. كما تقدّم بيان الوجه الّذي يفيتها لما تقدّم بيان تصوّر البيع والسلف في مسئلة أحد العبدين، وكون القيمة تعتبر فيه كما تعتبر في البيع والسلف، أو يقضى فيه بالقيمة مطلقًا كالبياعات الفاسدة الّتي لم تفسد من ناحية البيع والسلف. وقد قال بعض الأشياخ: إنّ هذه الثلاثة أثواب يختص كلّ واحد منها بحكم غير حكم صاحبه. أمّا (¬1) أحد الثَّوبين الّذي بقي بيد المشتري لم يرتجع منه، فإنّ البيع فيه نافذ. وأمّا الثّوبان الآخران اللّذان هما الثّوب المرتجع والثّوب المدفوع عوضًا عنه، فإنّهما يفسخ البيع فيهما. لكن هذان الثّوبان وإن تسلّط الفسخ عليهما جميعًا، فإن حكمهما في الفوت وفي القيمة مختلف. فأمّا الثّوب المرتجع، فإنّه لا تفيته حوالة الأسواق على ما قدّمناه من مذهب ابن كنانة وسحنون، وإنّما يفيته التغيُّر الشديد، ويقضى فيه بالقيمة مطلقًا. وأمّا الثّوب الثّالث الّذي هو عوض الثّوب المرتجع، فإنّه تفيته حوالة الأسواق كما تفيت البياعات الفاسدة الّتي فسادها من غير جهة السلف. وكذلك يعتبر في القيمة (¬2) ما يعتبر في البيع المشترط فيه السلف. وقد قدّمنا نحن ذكر القيمة في مثل هذا وما قاله بعض أشياخي فيه. وأنت إذا عرضت هذا على ما تقدّم علمت منه تخريج هذا الّذي قيل في هذه الثّلاث ثياب، هل يفسخ البيع في الثّلاث ثياب مع كونها لم تفت؟ أو يصح البيع في الثّوب الباقي بناء على فسخ البيعتين جميعًا مع القيام؟ أو باختصاص الفسخ بالبيعة الثّانية لتصحّ الأولى ¬

_ (¬1) في النسختين: وأما. (¬2) في النسختين (قيمة)، ولعل الصواب ما أثبتناه.

وترتفع الشبهة الّتي أدخلت الفساد؟ وفسخ هذين الثّوبين يصحّح البيع في الثّوب الباقي الّذي على هذه الطّريقة. وكذلك إذا فاتت الثّياب، فقد تقدّم ذكر المذاهب فيها، فتخرّج هذه على ما تقدّم. لكن هذا الّذي وقع ها هنا من تفصيل هذا القائل وتفرقته في الحكم بين الثّوب المرتجع والثّوب المدفوع عوضًا عنه، إنّما وقعت المعاملة الثّانية فيهما بعقد واحد، فلا ينفرد أحدهما بحكم عن صاحبه. وكلّ واحد منهما عقَد على شرط السلف. وإذا بيع ثوب بثوب بشرط السلف، فالفساد من ناحية الشّرط يتصوّر في الثّوبين على وجه واحد. وإذن اختلف الحكم باختلاف محلّ السلف، هل هو من البائع أو من المشتري على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد ذكرنا فيما تقدّم ما قاله بعض الأشياخ في مناقضة عبد الملك من إحالة كون الشّيء الواحد يحكم له بحكم عقدين مختلفين، لما بيّناه أنّه لا يمكن أن يكون الثّمن قضاء عن السلف وثمنًا للثّوب. فكذلك الأمر فيما نحن فيه إذا كان الثّوب المرتجع عوضًا عن الثّوب الّذي دفع آخرًا لم يتصوّر افتراق حكم الثّوبين. وينبغي أن يلتفت إلى مقتضى حكم التّعليلين المذكورين في المدوّنة في هذه المسئلة من كون المنع لما يتصوّر من بيع وسلف، وما يتصوّر من بيع عرض وفضّة بفضة مؤجّلة، فإنّ الاقتصار على التّعليل ببيع عرض وفضّة بفضّة مؤجّلة يقتضي إيجاب القيمة مع الفوت مطلقة. والتّعليل بالبيع والسلف يجري على ما ذكر من الخلاف فيه إذا وقع السلف مشترطًا في أصل البيع عند من يذهب إلى أنّ المظنون ها هنا الممنوع لحماية الذّريعة يجري مجرى المشترط من السلف. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: إذا باع الرّجل ثوبًا بعشرة دنانير إلى شهر، ثمّ اشتراه منه بخمسة دنانير وثوب من نوعه أو من غير نوعه، فإنّ ذلك ممنوع لما يتصوّر فيه من البيع والسلف على حسب ما صوّرناه مرارًا. وذلك أنّ الثّوب الّذي بيع ثم ارتجع ملغى مطرح كأنّه لم يبع، وحصل من الأمر أنّ البائع يُخرج من يده الآن خمسة دنانير وثوبًا يأخذ عوضًا عن ذلك عشرة دنانير إذا حلّ الأجل. فخمسة من هذه الّتي أخذها لمّا حلّ الأجل قضاء عن الخمسة الّتي

كانت مع الثّوب، والثّوب الّذي مع الخمسة مبيع بالخمسة الباقية من العشرة. فهذا لو اشترط لمنع لكونه بيعًا وسلفًا، فكذلك إذا اتّهما على القصد إليه. فإذا وقع هذا فإن كان الثّوبان لم يفوتا فإنّ البيعتين فيهما تفسخ على قول عبد الملك، فيردّ الثّوب والخمسة المقارنة له إلى يد دافعها، ويبقى في يده الثّوب الّذي باعه أوّلًا، وتسقط العشرة دنانير كلّها لأنّها ثمن الثّوب المبيع أوّلًا وهو قد رجع إلى يد بائعه. وعلى مذهب ابن القاسم يردّ الثّوب والخمسة المقارنة له إلى دافعها ويردّ الثّوب المبيع أوّلًا إلى يد مشتريه لتصحّ البيعة الأولى. فإن وقع الفوت، فإنّ الثّوب المقارن للخمسة دنانير يقضى بقيمته مطلقًا لكون العقد فيه فاسدًا. وهو وإن تصوّر في العقد عليه البيع والسلف، فقد قدّمنا العذر عن هذا بأنّ المتعاقدين منكران أن يكونا قصدا البيع والسلف، فقضي في القيمة عليهما بمقتضى إنكارهما ومقتضى كون القيمة مطلقة. وأمّا الثّوب الآخر فإنّه إذا فات أيضًا وجب فسخ البيعتين جميعًا كما قدّمناه عن عبد الملك وابن القاسم. وإذا وجب الفسخ للبيعتين جميعًا، فإنّ الثّوب المقارن للخمسة قد أوجبنا ردّ قيمته. وقيمته إذا ردّت، فكأنّ عينه ردّت. والثوّب المبيع أوّلًا إذا فات وقد ارتجعه بائعه، فقد فات في يده بعد أن صار إليه قبل أن يفوت. وإذا فات في يديه كانت مصيبته منه، وانفسخ البيع فيه وهو في يده، فينحطّ عن المشتري ثمنه الّذي عقد به البيع فيه؛ لما قدّمناه في شراء البائع أحد الثّوبين اللّذين باعهما بثمن إلى أجل ثمّ اشتراهما بثوب وخمسة دراهم, لأنّ الثّوب الباقي في يد المشتري الّذي لم يرتجع من يديه، يمضي البيع فيه بحصّة من العشرة الّتي بيع بها هو وصاحبه، ويبقى ما زاد على ما يختص به ثمنًا للثّوب الّذي باعه ثمّ ارتجعه وفات في يديه ووجب فسخ العقد فيه، فيسقط عن مشتريه الأوّل، لكنّه فات في يد من باعه منه بيعًا فاسدًا. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا باع منه ثوبًا بعشرة دنانير إلى شهر ثمّ اشتراه وثوبًا آخر معه بدنانير، فإنّه لا يخلو أن تكون هذه الدّنانير الّتي اشترى بها هذين الثّوبين، الأول والثّاني، مثلَ الثّمن الأول أو أقلّ أو أكثر. ثمّ

لا تخلو هذه الأقسام من أن تكون وقع العقد بها إلى ما قبل الأجل الأوّل أو إلى الأجل نفسه أو إلى أبعد من الأجل. فإن كان العقد بها إلى قبل الأجل الأوّل، فإنّه يمنع جميعها. لكن طريقة المنع تختلف. فإن كان هذا العقد الثّاني مثل الثّمن الأوّل، فأقلّ منه، فإنّ علّة المنع ما تصوّر في هذا من سلف بزيادة. فإن كان الشّراء بعشرة وكذا كان البيع الأوّل، فإنّ الثّوب المبيع أوّلًا المرتجع آخرًا كأنّه لم يبع. وإنّما استقر الملك للمشتري على الثّوب الثّاني لما أعطاه عشرة نقدًا يأخذها بعد شهر. فيكون ذلك منه سلفًا والمنفعة في هذا السلف الثّوب الّذي أخذه لمّا أسلف العشرة المنقودة. وكذلك إذا اشتراهما بخمسة، فإنّه أسلف خمسة ليأخذ إذا حلّ الأجل عشرة، فتكون المنفعة في السلف الثّوب والخمسة الّتي يأخذها عند الأجل. فإذا اشتراه بخمسة عشر، كان الزّائد على العشرة ثمنًا للثّوب الّذي أخذه آخرًا والعشرة المقارنة له سلف منه يأخذها إذا حلّ الأجل. وأمّا إن كان هذا العقد الثّاني بثمن يحلّ عند حلول الأجل الأوّل، فإنّ ذلك جائز سواء كان بمثل الثّمن أو أكثر أو أقل لأنّ المقاصّة تجب لاتّحاد الأجلين، فلا يكون أحدهما دفع لصاحبه ما يكون سلفًا عنده. وأمّا إن كان هذا العقد الثّاني بثمن إلى أبعد من الأجل، فإنّه يمنع إذا كان بأكثر من الثّمن، ويجوز إذا كان بمثل الثّمن أو أقلّ منه لأنّ المشتري الأوّل يعود ها هنا هو المسلف لمّا كان هو الّذي يخرج ذهبه أوّلًا لمّا حل الأجل. فإذا أخرج عشرة لمّا حلّ الأجل وأخذ بعد شهر آخر عشرة، وقد كان دفع ثوبًا فيما قبل، صار السلف وخسر الثّوب الّذي كان دفعه. وإن اشترى بأقلّ من عشرة، فقد خسر أيضًا الثّوب وما انتقص من العشرة. وإن كان اشتراه بأكثر من عشرة، فإنّه يكون سلفًا بزيادة لكونه يدفع عند الأجل عشرة ويأخذ بعد شهر آخر خمسة عشر، وقد كان أخذ قبل ذلك ثوبًا، وهذا سلف بزيادة فوجب أن يمنع.

فصل آخر

فصل آخر هذا الفصل يشتمل على بيان ما يحيى من الذّريعة في بياعات الآجال إذا تصوّر فيها التّعامل على دين بدين. وذلك مثل أن يبيع رجل من رجل ثوبًا بعشرة دنانير إلى شهر، ثمّ يشتري منه ذلك الثّوب بسلعة مضمونة عليه إلى شهر أو أكثر منه. فإنّ هذا يمنع لأنّه يتصوّر فيه الدّين بالدّين. وذلك أنّ الثّوب الّذي باعه ثمّ ارتجعه، قد قدّمنا مرارًا أنّه يعدّ أنه ملغى كأنّه لم يقع فيه بيع. وإذا عددناه كذلك، فقد حصل من أمرهما أنّ ذمّة المشتري عمرت بعشرة دنانير إلى أجل وعوّضها السلعة المضمونة إلى أجل الآخر. فيكون ذلك سَلَمًا شرط فيه تأخير رأس المال إلى أجل بعيد. وذلك أنّ السلعة المضمونة في الذّمّة إلى أجل مثل آجال السلم صار ثمنها العشرة دنانير المؤجّلة شهرًا. فمنع ذلك لكونه ديْنًا بديْن. ولو كان الثّوب لمّا بيع بالعشرة دنانير كان أجلها يومين أو ثلاثة، جاز شراء الثّوب المبيع أوّلًا بسلعة مضمونة إلى أجل, لأنّ ثمنها وهو العشرة دنانير إنّما يتأخّرون به يومين أو ثلاثة، وتأخير رأس مال السلم هذا المقدار غير ممنوع كما قدّمناه في كتاب السلم. لكن لو اشترى هذا الثّوب الّذي باعه أوّلًا بعشرة دنانير إلى أجل بثوبين أو ثلاثة من جنسه مضمونة إلى أجل، فإنّ هذا ممّا تردّد فيه الشيخ أبو إسحاق، هل يجوز إذا كان أجل الدّنانير يحلّ بعد يومين أو ثلاثة لكون الثّياب المضمونة صارت سلفًا تأخّر رأس ماله وهو العشرة دنانير اليومين والثّلاثة، أو يمنع ذلك أخذا في هذا العقد بظاهر مقتضى العقد الثّاني، ومقتضاه أنّه اشترى ثوبًا بثوبين من جنسه إلى أجل، وسلَم ثوبٍ في ثوبين من جنسه لا يجوز بمقتضى بياعات الآجال. وكون الثّوب المبيع المرتجع كأنّه لم يبع يقتضي الجواز بشرط أن يكون رأس المال لا يتأخّر أجلًا بعيدًا. أو يعرض في هذه

المسئلة عن حكم بياعات الآجال لمَّا تصوّر في السلعة الثّانية صورة توجب حماية الذّريعة الممنوع منها وهي سَلَمُ الشيء في مثله. وقد قدّمنا الكلام على ما يضارع هذا الّذي نحن فيه لمّا ذكرنا حكم من باع سلعة بثياب مضمونة في الذّمّة إلى أجل، ثمّ اشترى تلك السلعة بثياب من جنسها بعدها. وذكرنا تفصيل القول في ذلك وبناء المسئلة على ما وقع من الاضطراب في علّة منع سلم الشّيء في مثله. وبيّنا ذلك هناك بيانًا شافيًا يغني عن إعادته ها هنا.

فصل يشتمل على شراء أمثال المبيع في بياعات الآجال

فصل يشتمل على شراء أمثال المبيع في بياعات الآجال قد وضح ما ذكرناه من أحكام ارتجاع المبيع بعينه في بياعات الآجال إذا خيف منه أن يوقع في أحد المحرّمات الّتي عددناها وذكرنا ما يتعلّق بها من الفروع. فإن اشترى البائع غير الّذي باع، فلا يخلو أن يكون الّذي اشتراه جنسًا آخر غير الّذي باعه أو يكون مشبِهًا له. فإن كان جنسًا آخر فلا خفاء أنّه لا تحمى فيه الذّريعة، ولا يتعلّق البيع الثّاني بالأوّل لاختلاف الأغراض في الجنسين المتباينين. وإن كان مشبِهًا بالبيع (¬1) الأوّل، فلا يخلو أن يكون ممّا لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، كالمكيل والموزون، أو يعرف بعينه مثل أن يبيع رجل من آخر مائة قفيز قمحًا، ثمّ يشتري بعد ذلك منه قمحًا آخر، فإنّه يتصوّر في ذلك صور كثيرة بحسب ما قدّمناه في مسئلة أوّل هذا الكتاب. فيتصوّر أن يشتري منه هذا القمح بمثل الثّمن الّذي باع منه القمح الأوّل أو بأكثر من الثّمن أو بأقلّ منه. ويمكن في هذه الثّلاثة أقسام أيضًا أن يكون هذا الشراء بثمن يؤخّر إلى ما قبل الأجل أو إلى الأجل نفسه أو إلى أبعد من الأجل. فإن وقع البيع على هذه الأقسام الّتي أشرنا إلى تعدادها على الجملة، فإنّ جميع ذلك جائز سوى وجهين، أحدهما أن يكون القمح المشترى الآخر أكثر من قيل القمح المبيع أوّلًا. فإن كان أكثر في المكيلة فإنّه يمنع على الإطلاق سواء كان الثّمن مساويًا للأوّل أو أكثر منه أو أقلّ. فإنّه إذا كان مساويًا للثّمن الأول حصل من أمرهما أنّ البائع خرج من يده مائة قفيز قمحًا ورجع إليه أكثر منها، فكأنّه أسلف قمحًا ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب بالمبيع.

ليأخذ أكثر منه. وإن كان الثّمن أكثر من الأوّل، تصوّر فيه البيع والسلف. لأنّه خرج من يده مائة قفيز قمحًا وارتجع مائة قفيز وخمسين ودفع خمسين دينارًا وهي ثمن الخمسين قفيزًا الزّائدة على المائة الّتي كان باعها. وإن كان الثّمن أقلّ من الثّمن الأوّل يتصوّر فيه الزيادة في السلف من ناحيتين من ناحية زيادة قيل الثّاني على الأوّل وأنّه يدفع خمسين دينارًا نقدًا ويأخذ مائة عند حلول الأجل. ولو كان شراء القمح الثّاني بثمن إلى أبعد من الأجل لأجريت في هذا ما صوّرناه. لكن يكون المسلف ها هنا دافع الدنانير لمّا حلّ الأجل، فينظر ما يعود إليه عند الأجل الثّاني، هل تتصوّر فيه زيادة فيكون سلفًا بزيادة فيمنع، أم لا؟ وهذا اقتصرنا فيه على التّنبيه لأنّ ما تقدّم من المسائل الكثيرة الّتي مثّلنا بها تلك الأنواع المتقدّمة توضح وجوه العلل المختلفة في هذا الباب. وكذلك يمنع أن يشتري القمح الثّاني بأقلّ من الثّمن الأوّل على الإطلاق، لأنّ الثّمن الأوّل إذا أنقد عند المعاملة الثّانية ثمّ أخذ أكثر منه عند الأجل الأوّل، صار مسلفًا دنانير ليأخذ أكثر منها. ويجري أيضًا في التمثيل لو كان ثمن الثّاني إلى أبعد من الأجل على ما قدّمناه. لكن من (¬1) اعتبر دفع قليل ليؤخذ عنه ما هو أكثر منه. فتلخّص من هذا أنّ جملة ما يمنع وجهان: 1 - أن يكون القمح الثّاني أكثر من القمح الأوّل، 2 - أو يكون ثمن الثّاني أقلّ من الثّمن الأوّل. هذا مع اختلاف الأجلين حتّى تحصل التّهمة في دفع قمح سلفًا ليؤخذ أكثر منه، أو دنانير سلفًا ليؤخذ أكثر منها. وأمّا لو كان البيع الثّاني إلى الأجل الأول حتّى يتقاصّا بالأثمان ولا يدفع أحدهما لصاحبه شيئًا، لم نراع اختلاف مقدار الثّمنين, لأنّه إذا لم يدفع أحدهما إلى الآخر شيئًا لم تتصوّر التّهمة على سلف قليل ليأخذ كثيرًا. وإذا اتّفق الأجل لم يراع اختلاف الثّمن إلاَّ فيما صوّرناه في زيادة المكيلة وكون الزّيادة سلفًا. وقد تصوّر من هذا أنّ الشّراء بمثل المكيلة فأقلّ بمثل الثّمن فأكثر، لا تهمة فيه على ما اقتضاه التّفصيل والتّعليل المتقدّم في اعتبار ما ينقد في المعاملة الثّانية أو لا ينقد. وكذلك نعلم من هذا التّصوير ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين: لكن من اعتبر. ولعل الصواب: لكن مع اعتبار.

والتّعليل المتقدّم ذكرهما منع شراء قمح أو أقلّ من القمح الأوّل بثمن هو أقلّ من الثّمن الأوّل, لأنّ البائع إذا باع مائة قفيز بمائة دينار إلى أجل ثمّ اشترى ثمانين قفيزًا بثمانين دينارًا، فإنّ العشرين الزّائدة على الثّمانين قفيزًا مبيعة بالعشرين دينارًا الّتي يأخذها البائع الأوّل إذا حلّ الأجل. وقد أسلف ثمانين دينارًا ليأخذها عند الأجل، وتقدّر أيضًا الثّمانون قفيزًا قمحًا كسلف ارتجعه. وأنت إذا اتّبعت ما أصّلناه أوّلًا مع اعتبار ما خرج من يده وما يعود إليها، وقابلت أحدهما بالآخر، علمت فروع هذا الفصل كلّها لكن وقع اضطراب في قسم واحد يتعلّق بهذا الفصل، وهو أن يشتري القمح الثّاني بمثل الثّمن الأوّل، ولكن القمح الثَّاني أقلّ في المكيلة، فإنّ هذا وقع فيه الاضطراب بين المتأخّرين فيما يضاف إلى المذهب في هذه المسئلة. فأشار بعضهم إلى أنّ ظاهر كتاب بيوع الآجال من المدوّنة يقتضي المنع منه. وذلك أنّه ذكر في المدوّنة في هذا السؤال أنّه لا بأس أن يشتري بمثل الثّمن فأكثر إذا كان مثل المكيلة الّتي باع أوّلًا. وتقييد هذا الجواب يقتضي دليل الخطاب أنّه إذا باع بمثل الثّمن ما هو أقلّ من المكيلة، فإنّه لا يجوز لاشتراطه أن يكون القمح الثّاني مثل المكيلة، ودافع عن هذا كثير من الأشياخ ورأوا أنّه لم يرد بهذا التّقييد إثبات دليل لهذا الخطاب. فقيل لهم: إن دافعتم عن هذا كون هذا الخطاب لم يرد به أنّ المسكوت عنه بخلاف المنطوق به، فإنّ في المدوّنة في كتاب السلم منع من باع طعامًا أن يقتضي من ثمنه مكيلة هي أقلّ من المكيلة الّتي باع أوّلًا، مثل أن يبيع مائة قفيز قمحًا بمائة دينار إلى شهر، فإذا حلّ الأجل أخذ عوض الثّمن خمسين قفيزًا ثمنًا للمائة قفيز المبيعة أوّلًا. وبيع القمح بالقمح متفاضلًا نسيئة لا يجوز. وقد تصوّر هذا في هذه المسئلة، فانفصلوا عن هذا بأنّ من اقتضى من ثمن طعام باعه طعامًا، فإنّه يجري مجرى الإقالة. وقد أخلى الذْمّة من الثّمن بهذه المعاملة الثّانية وسقط بها الثّمن الأوّل. فلمّا سقط من الذّمّة وجرى ذلك مجرى الإقالة الّتي هي حلّ العقد، صار ثمن المائة قفيز المبيعة أوّلًا خمسين قفيزأوهي الّتي أخذت أخيرًا. والمسئلة الّتي نحن في بيانها لم تُحَلَّ البيعة

الأولى، وشراء البائع الأوّل خمسين قفيزًا من الّذي اشترى منه القمح الأوّل لا يسقط الثّمن الأوّل عن ذمّته، ولا يحل العقدَ الأوّل بل تبقى ذمّة المشتري عامرة متبوعة بالمائة دينار الّتي تعاقدا عليها أوّلًا. ولا يصحّ كون الخمسين قفيزًا ثمنًا للمائة قفيز ها هنا مع كون ثمن المائة قفيز باقية في الذّمّة لم يسقط عنها، فيكون لها ثمنان: المائة دينار والخمسون قفيزًا، والّذي اقتضى الخمسين قفيزًا من ثمن الطّعام الأوّل قد أسقط الثّمن الأوّل، فصحّ تقدير كون هذه الخمسين قفيزًا ثمنًا للمائة قفيز الّتي بيعت أوّلًا. فإذا وضح حكم بيع الإنسان طعامًا ثمّ يشتري مِمّن اشتراه منه طعامًا يمكن أن يكون هذا الطّعامَ بعينه، فلنتكلّم على ما يعلم أنّه ليس هو عين المبيع الأوّل، مثل أن يبيع منه ثيابًا ويشتري منه أمثالها، فإنّ في هذا قولين أجازه في المدوّنة ومنعه سحنون وابن الموّاز. وكأن هذه المسئلة واسطة بين طرفين أحدهما أن يشتري جنسًا آخر غير المبيع الأوّل ممّا تَبَاعدُ فيه الأغراض، فإنّ هذا واضح كون البيعة الثّانية لا تعلّق لها بالبيعة الأولى، لاتّضاح اختلاف الأغراض وتباين المقاصد، فتحمل البيعة الثّانية على أنّ سببها اختلاف الغرض ما بين البيعة الأولى والثّانية لا على التحيّل على ما لا يحلّ من أمثال ما قدّمناه، فلا يمنع. وإذا كان المبيع ثانيًا هو بعينه المبيع الأوّل، أو شكّ هل هو الأوّل أو غيره؟ منع ذلك رجاء عذر ارتجاع نفس المبيع مع تقارب الأغراض، فحسنت ها هنا حماية الذريعة، وكون السبب في المعاملة الثّانية التحيّل على ما لا يجوز. فهذان طريقان واضحان على أصل المذهب. فإذا باع ثيابًا ثمّ اشترى مثلها، فإنّه يعلم أنّ البيع الثّاني ليس هو الأوّل فيجري مجرى شراء جنس آخر، فيجوز. ومن حيث كون المنافع والأغراض متقاربة يحسن أن يجري هذا الثّاني مجرى ارتجاع الأوّل بعينه. فلأجل هذا وقع الخلاف في هذا. وقد علّل في المدوّنة بأن الثيّاب من استهلكها يغرم قيمتها. ومن استهلك الطّعام غرم مثله، ليشير إلى ما قدّمناه من أنّ غرامة القيمة تشعر يكون الشّيء بعينه كأنّه جنس آخر،

فلهذا لم يقض بمثله. وقد ناقض ابن الموّاز ابن القاسم في مذهبه في الثّياب بأن قال: إنّه يمنع من أسلم ثيابًا في حيوان أن يقبل (¬1) المسلم إليه على ثياب أكثر منها عددًا. ويرى ذلك سلفًا بزيادة، فأجراه ها هنا مجرى العين والطّعام على التّهمة على سلف بزيادة فينبغي أن يجري مجرى الطّعام أيضًا في منع شراء أكثر من الثّياب. وانفصل عن هذا الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد بأنّ هذا المقيل من هذا السلم لما أقال منه انحل العقد بالإقالة وبطل ما في الذّمّة مِمّا هو ثمن الثياب، فإذا بطل ما في الذّمّة حصل من الأمر أنّه أخرج من يده ثيابًا وأعاد إليه مثلها بزيادة، فحسن ها هنا أن يتّهما على سلف بزيادة لمّا صارت الثّياب المزيد في عددها هي عوض الثّياب الّتي أسلمت في الحيوان، وثمن الثّياب الّتي أسلمت قد بطل بالإقالة. وأمّا إذا باع ثيابًا ثمّ اشترى أكثر منها مِمّن باع الثّياب أوّلًا منه، فإنّ البيع الأوّل لم يبطل، وثمن الثيّاب الأولى باق في ذمّة مشتريها على حسب ما كان عليه، والثياب الثانية قد اشتراها بثمن آخر بعده، وحين شرائها لم يبطل الثمن الأوّل، فتعدّ الثياب الثّانية ثمنًا للثّياب الأولى لما بطل ثمن الأولى. وها هنا ثمن الأولى باق على ما هو عليه. وهذه الثياب مع ما زيد عليها قد أخذ ثمنها، فلا يصحّ أن يجعل ما انتقد ثمنًا لها، ويكون مع هذا ثمنًا أيضًا للثّياب الأوّل، فيكون لها ثمنان اثنان، وهذا واضح. وقد كنّا قدّمنا هذا الفرق عن بعض الأشياخ المتقدّمين لنا، قيل لهم: يلزم ابن القاسم أن يمنع بائع الطّعام أن يشتري أقلّ من المكيل بمثل الثّمن، كما مَنَع أن يقتضي من ثمن الطّعام طعامًا أقلّ منه. وذكرنا عنه ما دفعوا به هذه المعارضة والإلزام، وهو مثل هذا الّذي سبقهم إليه الشيخ أبو محمّد ابن أبي زيد رحمه الله على ما نبّهناك عليه من سبب الخلاف في شراء ثياب أمثال الثّياب المبيعة أوْ لاَ يجرى حكم من باع قمحًا سمراء ثمّ اشترى قمحًا محمولة، هل يجوز ذلك لمّا علم أنّ القمح الثّاني ليس هو عين الأوّل أو أن يمنع؟ وإن كان الّذي اشتراه محمولة أو شعرًا، يكون ما اشترى وما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: يقيل.

باع بعدُ نوعًا واحدًا لتقارب الأغراض فيه، ولو اشترى مثل القمح الأوّل قبل أن يغيب مشتري القمح عليه، فإنّ بعض الأشياخ أجاز ذلك لما تيقّنا أنّ القمح المشترى ليس هو عين الأوّل، بخلاف شراء ما شكّ فيه لأجل الغيبة، هل هو الأوّل أم غيره؟ وتردّد فيه الشيخ أبو إسحاق لمّا كان ما اشتراه سمراء والّذي باعه سمراء. فكأنّه ارتجع طعامه بعينه. وهو إذا ارتجعه بعينه، تطرّقت إليه التّهمة. والّذي نبّهناك عليه من التّعليل للخلاف يشير إلى حكم هذا الوجه وسبب تردّد الشيخ أبي إسحاق فيه.

فصل في بياعات الآجال من جهة الوكالة

فصل في بياعات الآجال من جهة الوكالة اعلم أنّا قرّرنا الوجوه المحرّمة وذكرنا منع البيعة الثّانية إذا تطرّقت من أجلها التّهمة إلى العقد الأوّل. وهذا إذا باع سلعة هي له ثمّ اشتراها لنفسه، فإن أراد أن يشتريها لغيره، فهل يجري ذلك مجرى شرائها لنفسه أم لا؟ ذكر في المدوّنة أنّه لا ينبغي لمن باع ثوبًا بمائة دينار إلى أجل أن يشتري الثّوب لمن ولاّه على شرائه أو لابنه الصغير بثمن أقلّ من الّذي باع به البيعة لنفسه (¬1). كما لا يجوز له شراؤها بذلك لنفسه. وكذلك لو وكّله مشتريها منه على بيعها، فذكر أنّه باعها بأقلّ من الثّمن الأول. وهذا مبالغة في حماية الذّريعة وهو كتهمة مبنيّة على تهمة, لأنّ المحرّمات قد عددناها والوقوع فيها من عدد وسائط لا شك في منعها. وإذا خيف أن يوقَع فيها بوسائط حميت تلك الوسائط على حسب ما تقدّم بيانه. فإذا اشترى ما باعه بمائة دينار إلى شهر بخمسين دينارًا نقدًا، اتّهم على التحيّل على سلف بزيادة. وإذا زعم أنّه اشتراه شراء وكالة، اتّهم أيضًا على أنّه لم يصدق في زعمه أنّه وكيل، وإنّما تحيّل، بإظهاره الوكالة، على الشّراء لنفسه. ولكن هذا وإن وقع لم يفسخ بخلاف شرائه لنفسه, لأنّ شراءه لنفسه تهمة مبنيّة على محرّم، وهذه تهمة مبنيّة على تهمة بنيت التّهمة الأولى على محرّم، فضعفت مرتبة (¬2) الأخيرة، فلم تبلغ إلى فسخ العقد لأجلها. وكذلك أيضًا لو اشترى سلعة باعها عبده بثمن إلى أجل، أو اشترى عبده سِلعة باعها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إسقاطها. (¬2) في نسخة المدينة: مزيَّة.

سيّده بثمن إلى أجل، فإنّ العبد إن كان يتّجر بمال سيّده فحكم شرائه أو شراء ما باعه سيّده حكم ما باعه سيده ثمّ اشتراه لنفسه لمّا كان ما في يديه مال لسيّده، وهو كالوكيل عليه. وأمّا إن كان ما في يد العبد لنفسه فأجازه في المدوّنة ولم يجزه أشهب. فكأنّ أشهب رأى أنّ قدرة السيّد على انتزاع ما في يد عبده يصير ما في يد العبد كأنّه من جملة مال السيّد الّذي في يديه، وكأنّه هو البائع والمشتري. ورأى ابن القاسم أنّ قدرته على أن ينتزع وعلى أن يردّ هذا المال إلى ملكه، لا يصيّر المال ملكًا له قبل الانتزاع، لا سيما على أصلنا في قولنا: إنّ العبد مالك، ولهذا أبيح له التسرّي في ماله. وكذلك ما باعه العامل لمال القراض فيه اختلاف: هل يجوز لربّ المال أن يشتري ما باعه العامل بثمن إلى أجل بثمن أقلّ منه؟ فمن لم يجز ذلك رأى أنّ المال لمّا كان باقيًا على ملكه، فكأنّه باع لنفسه واشترى لنفسه. ومن أجاز ذلك رأى أنّه ممنوع من هذا المال لحقّ العامل فيه، فلا يمكن (¬1) انتزاعه من يديه إلاّ إذا استوفى العامل عمله فيه. وإذا وضح أن هذا كلّه مبنيّ على تهم بنيت على تهم، وذكرنا ما يمنع منه وما يجب فسخه، فإنّ بعض أشياخي رأى أنّ شراء الأب ما باعه من هذا لابنه الصغير بثمن أقلّ مِمّا باع به لا يمضي لقوّة التّهمة في ذلك، بخلاف شرائه لأجنبيّ وَكَّله. كما رأى أشهب أنّ بيعه بوكالة من اشترى منه بثمن إلى أجل فأتاه بأقلّ منه لا يمضي إذا وكّله مشتري السلعة منه على بيعها قبل قبضها، ورأى أنّ هذه الوكالة قبل مصير السلعة إلى يد مشتريها الّذي وكّل بائعها على بيعها تهمة قويّة في التحيّل على سلف بزيادة. ومِمّا ينخرط في هذا السلك من أتى رجلًا فسأله: هل عنده سلعة، سمّاها له، يبيعها منه بثمن إلى أجل، فلم يجدها عنده؟ فلمّا مضى عنه اشتراها المسؤول عنها، ثمّ باعها من السّائل، فإن ذلك غير ممنوع إذا افترقا على غير ¬

_ (¬1) في الوطنية: ولا يمكنه.

موعد بأن تباع من السائل. فإن افترقا على موعد، فإنّ ذلك مكروه، ولكنَّه مع كراهته لا يفسخ فيه البيع لأجل مجرّد الوعد على الشّراء. وكذلك إن أضاف إلى الوعد بأن يشتريها منه الواعد (¬1) بأنّه يربحه فيها إذا اشتراها، فإنّ ذلك أيضًا وإن كره لا يوجب فسخ العقد. لكن إن افترقا على تسمية الرّبح وإيجابه، فإنّ المذهب ظاهره على قولين في هذا. وذكر (¬2) مالك وابن القاسم في المستخرجة فيمن قال لرجل: اشتر سلعة كذا بعشرة دنانير، وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل سماه، أنَّ ذلك ماض على ما التزماه. وذكر ابن حبيب في هذا أنّه لا يجوز لأنّه من بيع ما ليس عندك، ولكنّه عبّر عن هذا بأن قال له: اشترها بعشرة نقدًا لنفسك وهي لي باثني عشر إلى أجل، أنّ ذلك بيع ما ليس عندك. وذكر فيها اختلافًا عن ابن القاسم. وإذا كان المراد بقوله: أنا أشتريها منك بربح الّذي سمّاه، هو المرادَ بقوله: وهو لي بكذا وكذا، كان الاختلاف واقعًا في العبارتين على حسب ما ذكرناه. ولو قال له: اشترها لي بعشرة تنقدها عنّي وهي لي باثني عشر إلى شهر، لكان فاسدًا لأنّه كوكيل على الشّراء شرط عليه أن يسلفه بربح. لكن لو قال له: اشترها بعشرة نقدأوهي لي باثني عشر نقدًا، فإنّ ذلك أجازه في المدوّنة وقدّر أنّ الدّرهمين جُعْل على "تولّيهِ الشّراء" (¬3). ولو قال له في هذا: وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى شهر، للزمت للآمر العشرة، وجُعل المِثلِ لَمَّا تصوّر ها هنا في تأخير الرّبح كونه عوضًا عن السلف. ¬

_ (¬1) في نسخة المدينة: الموعود. (¬2) في نسخة المدينة: فذكر. (¬3) في الوطنية: وقدّر أن الدرهمين حصلا تولية للشراء.

فصل في المعاوضة عن بعض العوض المؤجل مع اشتراط تعجيل بعضه وتأخيره

فصل في المعاوضة عن بعض العوض المؤجّل مع اشتراط تعجيل بعضه وتأخيره اعلم أنّ مسئلة وقعت في المدوّنة بفرس بيع بعرض مؤجّل، ووقع بعدها مسئلة لربيعة مثّل بحمار بيع، فجرى على الألسنة في تعريفها ببرذون ابن القاسم وحمار ربيعة. فأمّا مسئلة البرذون، فإنّ صورتها أنّ رجلًا أسلم برذونًا في عشرة ثياب إلى أجل، ثمّ استرجع الفرس أو سلعةً غيرَه عوضًا عن خمسة ثياب على أن عجّلت له الخمسة ثياب الأخرى. فذكر في المدوّنة أنّ ذلك لا يجوز. واعتلّ بثلاث علل هي: البيع (¬1) والسلف، والوضيعة على تعجيل، والزّيادة لأجل حطّ الضّمان. ولكنّه قال: وتدخله المعاوضة على حطّ الضّمان دخولًا ضعيفًا. وينبغي أن تعدّ المعاوضة بالفرس أو غيره من السلع على الخمسة ثياب، لا يخلو أن تُقَرَّ (¬2) الخمسة الأخرى على أجلها أو يشترط تأخيرها عن أجلها أو يشترط تعجيلها قبل أجلها. فأمّا إن اشترط مع هذه المعاوضة على (¬3) هذه الخمسة إقرار الخمسة على أجلها، فإنه لا يمنع من ذلك لفقد هذه العلل الّتي علّل بها من بيع وسلف, لأنّ الخمسة إذا أقرّت على أجلها لم يتصوّر فيها سلف، وكأنّ الخمسة الأخرى بيعت على إفْرادها (¬4) بما يجوز أن يكونْ ثمنًا لها، وهو الفرس أو غيره من ¬

_ (¬1) (البيع) ساقط في الوطنية. (¬2) في الوطنية: إن أبقى. (¬3) في نسخة المدينة: عن. (¬4) في الوطنية: انفرادها.

السلع، فلم يمنع ذلك، كما لو باع جملة الثّياب كلّها بالفرس أو غيره من السلع الّتي يجوز أن تؤخذ عن هذه الثّياب، كما تقدّم بيانه في كتاب السلم. وأمّا إن أخّر الخمسة ثياب الّتي لم يعاوض منها إلى أجل أبعد من أجلها، فإنّ ذلك ممنوع, لأنّ التأخير للخمسة ثياب بعد حلولها سلف من مؤخِّرها. ومن له دين وأخّره، فإنّ تأخيره سلف وكابتداء تعمير ذمّة بدين هي خالية منه. فإذا تحقّق في التأخير السلف وقارن ذلك المعاوضةَ عن الخمسة الأخرى تصوّر فيه البيع مع السلف، فوجب المنع. وأمّا إن اشترط تعجيل الخمسة ثياب، فإنّ في المدوّنة لابن القاسم المنع منه، وهو المشهور من أصل مذهب مالك وأصحابه. وذكر ابن المواز عن ابن القاسم الجواز، فقال فيمن أسلم ذهبا في عبدين، ثمّ أخذ عبدًا مثل أحد العبدين المسلم فيهما وعرضا معه: إنّ ذلك جائز. مع كون أحد العبدين لما عُجِّل وعوِّض عن العبد الآخر بالعرض المدفوع مع العبد تصوّر فيه البيع والسلف. وسبب الاختلاف في هذا دون ما تقدّم من القسمين الأخيرين أنّ الذّمّة مشغولة بالعشرة ثياب، ولكن لا يستحقّ قبضها إلاَّ عند حلول الأجل. فمن رأى أنّ ما في الذّمم من الدّيون الآجلة كالدّيّون الحالة (¬1) لم يقدّر ها هنا سلفًا عجّله من عليه الثّياب لمن أسلم إليه على جهة السلف منه له ليقبضه من نفسه إذا حلّ الأجل، واستحقّ من عجل له الثيّاب قبض الخمسة لمّا حلّ الأجل. ومن رأى أنّ الدّين المؤجّل لا يقدر أنّه كالحال، فإنّ التّعجيل سلف يؤخذ قضاؤه إذا حلّ الأجل، ويسقط عن ذمّة المسلم إليه إذا حلّ الأجل، أنّه كوكيلٍ أجنبيًّ وكّله المتسلّف للخمسة ثياب على قبضها ودفعها عنه لمن له عليه مثلها. وقد اعتمد حذّاق الأشياخ على صحّة التّعليل بتقدير البيع والسلف كما صوّرناهُ لَكَ (¬2). واستضعف ذلك بعض أشياخي ومال إلى ما في كتاب ابن الموّاز، فلم يقدر ذلك سلفًا كما قدّره في المدوّنة، إذ لو قدّر سلفًا لوجب أن لا ¬

_ (¬1) في الوطنية: كالدين الحال. (¬2) في الوطنية: كما صورنا ذلك.

يكون المسلم إليه أحقّ بالثيّاب الّتي بقيت عليه من غرماء المسلم (¬1)، لكون ما في ذمّته كأنَّه باق على من عجّلت له الثيّاب حتّى يحلّ الأجل، فيقضي ذلك عنه. وهذا الّذي اعتلّ به بعض أشياخي غير لازم, لأنّه لمّا عجّل هذه الثياب على جهة السلف الحال بها على نفسه واستحقّ بها ما في ذمّته، وهو حائز لما في ذمّته، فكان أحقّ بذلك من الغرماء، كما يكون أحد الغرماء أحقّ بما أحيل عليه أو قبضه رهنًا. وهذا التّعليل بوضعٍ (¬2) لأجل التّعجيل أو زيادة لأجل إسقاط الضّمان. فإنّ الشّيخ أبا إسحاق استضعف هذا وقدح فيه بأنّ المعاوضة بالفرس أو سلعة غير الفرس عن جملة العشرة ثياب لو وقعت قبل الأجل، لم يمنع ولم يعتبر أحد من أهل المذهب كون السلعة أو الفرس دون قيمة العشرة ثياب أو أكثر من قيمتها، فكذلك لا تعتبر القيمة في المعاوضة عن الخمسة ثياب، إذ لا فرق بين المعاوضة، عن كلّ الدّين أو عن بعضه. واستشهد على هذا بأنّ مالكًا رضي الله تعالى عنه لمّا سئل عمّن له ثياب، فأراد أن يضع من عددها بشرط تعجيل البقيّة. قال: أنا أدلّك على ما هو خير، خذ بها عرضًا. فأشار ها هنا إلى أنّ أخذ العرض عن جملة الدّين لا يمنع وإن قصد به المسامحة لأجل التّعجيل. وهذه الرّواية الّتي اعتمد عليها الشّيخ أبو الحسن (¬3). وقد وقع لمالك أيضًا مثلها، فقال فيمن له عشرة دنانير مؤجّلة فأراد الاستعجال بحطيطة منها فعدلاَ عن ذلك، لمّا لم يجز، إلى أخذ عرض أنّه لا بأس به؛ لأنّهما أخطئا في القول وأصابا في الفعل. وأنكر بعض الأشياخ هذا الّذي أشار إليه أبو إسحاق لأجل أنّ الدّين كلّه قد بيع جميعه بعرض، ولم يتعجّل بشيء من جنس الدّين فتتصوّر فيه مسامحة لأجل التّعجيل أو زيادة لأجل سقوط الضّمان، وها هنا قد عجّل بعض الدّين (ولم يكن تعجيله لأنّ ما قارن ذلك معاوضة، صحّ ¬

_ (¬1) في نسخة المدينة: من غير ما أسلم إليه. (¬2) في النسختين: يوضع. (¬3) هكذا في النسختين، والنص يقتضي: (أبو إسحاق)

اعتبار قيمة المعاوضة لأجل ما قارنها من تعجيل بعض الدّين) (¬1) حسًا ومشاهدة. فإذا تقرّر ما يمنع من هذا وما لا يمنع بخلاف فيه أو اتّفاق في الحكم أو التّعليل، فإنّه إن وقع هذا على وجه ممنوعٍ منه فإنّه يجب فسخه وإمضاء السلم على ما كان عليه في العقد الأوّل، فيردّ الفرس أو السلعة إلى دافع ذلك، وتردّ الثيّاب أيضًا إلى دافعها حتّى تنقض المعاملة الثّانية بجملتها. فإن فاتت الثّياب أو فات الفرس، ردّ قيمة ذلك. فإن قيل: فإنّ الثيّاب الخمسة إذا عجّلت كانت سلفًا فاسدًا، والسلف الصحيح إنّما يَرُدُّ مع ذوات عينه مثلَه، فهكذا ينبغي أن يكون الفاسدُ. قيل: لمّا وجب ردّ هذا السلف إذا كانت عينه قائمة، صار من أتلفه كأنّه أتلف (¬2) ثوبًا هو على ملك غيره، فيكون على المتلِف ردّ مثله. وسنبسط هذا إذا تكلّمنا على القرض الفاسد المذكور في كتاب بيوع الآجال. والّذي مضى عليه أكثر الأشياخ أنّ القيمة تردّ إذا وقع الفوت بالغة ما بلغت وأنّ المعاملة الثّانية تفسخ على كلّ حال. لكن بعض أشياخي مال إلى أنّ (¬3) من قبض هذه الخمسة ثياب على جهة السلف ليقبضها من نفسه مسلفها إذا حلّ الأجل، يخيّر بين ردّ هذه الخمسة ثياب ليصحّ البيع والمعاملة في الفرس، كما يصحّ البيع المشترط فيه السلف إذا سقط السلف، أو يمتنع من إسقاط حقّه في هذا السلف، وتفسخ المعاملة الثّانية على كلّ حال. ولم يتعرّض في القيمة إلى ما حيكناه عن غيره. وقد كنّا قدّمنا نحن الإشارة إلى العذر عن هذا في مسئلة من باع عبدين بمائة دينار إلى شهر ثمّ استردّ أحدهما ببعض الثّمن نقدًا. وإذ لم يُشْعَر بما فعلاه من الفساد حتّى حلّ الأجل، فإنّ الخمسة ثياب المقبوضة يُتَمسك بها ويطلب الخمسة الباقية في الذّمّة إذ لا فائدة في إعادتها إلى دافعها وأخذها منه في الحال بحكم ما وجب عليه من قضاء ما عليه من سلم. لكن لو كان على المسلم غرماء، لم يستحقّ هذه الخمسة ثياب دونهم، لأجل كونه ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من و. (¬2) في نسخة المدينة: صار من أسلفه كأنه أسلف. (¬3) في نسخة المدينة: رأى أن.

قابضًا لها, لأنّه قبضها قبضًا فاسدًا قضاء عن مَالَهُ في الذمّة من مثلها، وأنّ الواجب ردّها إذا لم يحلّ الأجل، فإذا حلّ وقد شاركه غرماء في الطلب، وجب أن يحاصّهم في ذلك، على ما سنبسط في كتاب التّفليس إن شاء الله تعالى. وأمّا المسئلة المعروفة بحمار ربيعة، فإنّ صورتها مثل صورة الفرس الّتي فرغنا من الكلام عليها. وذلك أنَّه ذكر ربيعة فيمن باع حمارًا بعشرة دنانير إلى سنة ثمّ استقال المبتاع البائع على أنْ ردّ الحمار وزاده دينارًا، أنّ ذلك كلّه لا يجوز. وإذا تدبّرت ما قدّمناه من التّعليل في مسئلة الفرس وجدت البيع والسلف يتصوّر في مسئلة الحمار كما يتصوّر في مسئلة الفرس، لأنّ محصول مسئلة الفرس أنّه أسلم فرسًا في عشرة ثياب إلى أجل، وأخذ الفرس عوضًا عن بعض الثّياب المسلم فيها وعجّل له بقيّتها. وكذلك ها هنا أخذ الحمار عن بعض ثمنه وهي العشرة دنانير وعجّل له بقيّة العشرة، ولا فرق بين أن يكون ثمن الدّابة، فرسًا كان أو حمارًا، عرضًا أو عينًا، لأنّ المعجّل من هذين هو السلف، وما سقط من الذّمّة عوضًا عن الدّابّة المرتجعة هو البيع. ويتصوّر في هذا من التقّسيم الوفاقي والخلافي ما صوّرناه في مسئلة الفرس. فإنْ ردّ الحمار انتقض الثّمن وأبقى بقيّته إلى أجله، جاز ذلك. وإن أخّر بقيّة الثّمن إلى أبعد من أجله، كان بيعًا وسلفًا. وإن عجّل بعض الثّمن جرى على القولين المتقدّمين، هل يكون التّعجيل سلفًا قارنه بيع فيمتنع؟ أو لا يعدّ سلفًا لكون القصد براءة الذمة وفراغها، فيجوز على ما تقدّم بيانه؟ وكذلك يتصوّر في مسئلة الحمار ما يتصوّر في مسئلة الفرس من وضع بعض الحقّ على تعجيل بقيّته, لأن الحمار قد يكون يأخذه بائعه بأقلّ من قيمته، فيكون ما وضع من ثمنه عوضًا لما عجّل له من بقيّة الثّمن. وأمّا ما تقدّم في مسئلة الفرس من التّعليل الثّالث وهو الزّيادة على حطيطة الضّمان، فلا تتصوّر ها هنا لكون الثّمن في مسئلة الحمار دنانير، ومن عليه دنانير له أن يعجّلها قبل أجلها، وإن كره من استحقّها عليه، فإن كان له ذلك، فلا يحتاج إلى أن يرغب إلى مستحقّ الدّنانير في قبولها منه معجّلة، فيأبى عليه فيزيده شيئًا ليقبل التّعجيل منه، والثّياب لا يجبر مستحقّها على قبولها إذا

عجّلت له قبل أجلها، فيتصوّر فيها أن يزيده شيئًا ليقبل منه الثّياب الّتي لم يكن يلزمه قبولها. فقد صارت مسئلة الحمار ومسئلة الفرس يجريان مجرى واحدًا في التّقسيم والتّعليل، سوى أنّهما يفترقان في تصوّر المعاوضة على حطّ الضّمان كما بيّناه. فإذا تقرّر هذا ووقعت هذه الإقالة، فإنّ ذلك يفسخ، ويردّ الحمار والدّينار الّذي أخذ معه إلى يد المشتري، وتبقى العشرة دنانير في ذمّة المشتري إلى أجلها. فإن فات الحمار، فاضطرب الأشياخ في الواجب فيه على طريقتين: هل يجري في ذلك من الخلاف ما جرى في بياعات الآجال إذا فاتت، على حسب ما كنّا ذكرنا من مذاهب أصحابنا في ذلك أم لا؟ فمنهم من صار إلى أنّ ذلك يجري مجرى بياعات الآجال. واختار بعضهم فسخ البيعتين جميعًا الأولى وهي بيعه بعشرة دنانير إلى سنَة، فيفسخ بأن يسقط عن الذّمّة الثّمن الّذي هو العشرة دنانير إلى سنة، وتفسخ الثّانية بأن يكون الحمار الّذي فات من يد بائعه أوّلًا مصيبته منه لمّا وجب ردّه عليه بفسخ البيعة الأولى، ويردّ ما أخذ من الذّهب لمّا ارتجع الحمار، وهي الرّواية المشهورة. أو يعتبر في هذا بفسخ (¬1) ما كنّا قدّمناه من كون قيمة السلعة إن كانت أقلّ مِمّا يأخذه البائع إذا حلّ الأجل فسخ البيعتان (¬2) جميعًا لئلاّ يكونا قد مكّنا من دفع دنانير في أكثر منها. وإن كانت القيمة مثل ما يأخذ إذا حلّ الأجل أو أكثر منه، لم تفسخ البيعة الأولى، كما قدّمناه من مذهب ابن كنانة وسحنون. ومنهم من أنكر إجراء هذه المسئلة على ما وقع من الخلاف في الآجال، وفرّق بين هذه وتلك بأنّ ما كنّا حكينا فيه الخلاف في بياعات الآجال إنّما يتصوّر الفساد إذا ربطنا البيعة الثّانية بالبيعة الأولى، وقرّرنا أن من باع ثوبًا بمائة دينار إلى أجل شهر ثمّ اشتراه بخمسين نقدًا، أنّ قصدهما كونُ الثّوب محلَّلًا، وأنّ المائة إنّما ثبتت في الذّمّة إلى شهر عوضًا عن الخمسين الّتي دفعت نقدًا، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأقرب: (بنفس). (¬2) هكذا في النسختين.

ولم تكن عوضًا عن المائة الّتي أظهر أنّها ثمن الثوب، فألغينا (¬1). ولا يتصوّر إلاَّ بربط البيعة الثّانية بالأولى، وتقدير كون البيعة الأولى كالواقعة بشرط وقوع الثّانية. ومسئلة الحمار بعكس هذا يتصوّر الفساد فيها في المعاملة الثّانية دون أن تربط إلى بيعة قبلها. وإن كانت العشرة دنانير سلفًا لا ثمن المبيع، يتصوّر فيها البيع والسلف إذا أخذ ببعضها سلعة وعجّل بعضها. وأيضًا فإنّه إنّما يتصوّر الفساد في مسئلة الحمار بشرط أن نقدّر البيعة الأولى صحيحة حتّى يكون الفساد من جهة تعجيل ثمن قد استقرّ في الذّمّة مؤجّلًا استقرارًا صحيحًا جائزًا. فشتّان ما بين ما يجب أن يربط بما قبله وبين ما يتصوّر فيه الفساد من غير ربط. وكون الفساد إنّما تصوّر مع تقديره في البيعة الأولى وبين ما لا يتصوّر الفساد فيه إلاّ بتقدير صحّة البيعة الأولى. فهي الطّريقة الّتي ذكرناها عن الأشياخ. وهؤلاء أصحاب هذه الطّريقة مختلفون أيضًا مع اتّفاقهم على منع إجراء هذه المسئلة على حكم بياعات الآجال. فمنهم من ذهب إلى أنّ الواجب في الحمار إذا فات ردّ قيمته بالغة ما بلغت، كالقيم في البيوع الفاسدة، وقصر الفسخ على المعاملة الثّانية. ومنهم من أجراها مجرى البيع والسلف، فاعتبر في القيمة الأثرين على الثّمن والسلف، أو ينقص عن الثّمن خاصة، أجرى هذه المسئلة على حكم البيع إذا اشترط فيه السلف. وقد كنّا نحن قدّمنا اعتذار بعض أشياخي عن هذا بأنّ البيع والسلف ها هنا إنّما هو مقدّر لا مشترط، والمتعاقدان ينكران أن يكونا أراداه أو عقدا عليه، فيؤخذان في أحكام القيم بموجب ما يقولان: إنّا عقدنا عليه. (وذكر هذا الّذي إلى اعتبار الأقلّ والأكثر) (¬2) في هذه القيمة أنّ الثّمن إذا كان عرضًا أو دينًا، لم يعتبر فيه، إذا قارنه السلف، الأقلُّ والأكثرُ. لكن لمّا كان الثّمن في مسئلة الحمار دنانير، ومن حق من عليه دنانير مؤجّلة أن يعجّلها قبل أجلها، فإن ذلك كالثّمن العين الحال. وذكر أيضًا أنّه إذا اعتبر ها هنا الأقل والأكثر، فإنّ الثّمن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فألغيتا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام تحريفًا.

الّذي يُسنَد هذا الاعتبار هو العشرة دنانير كلّها لاعترافهما أنّها جملة الثّمن فيؤخذان باعترافهما, ولا يجعل الثّمن تسعة كما قرّرنا ذلك لما علّلنا البيع بمنع البيع والسلف، لأجل أنّا إنّما قرّرنا ثمن الحمار تسعة ليصحّ كون الدّينار سلفًا احتياطًا لحقّ الباري سبحانه. فهو من ناحية الاحتياط لحقّ الله سبحانه لكون الثّمن تسعة، ومن ناحية حقّهما في زيادة القيم أو نقصانها لكون الثّمن عشرة على حسب ما يقولان: إذا (¬1) تعاقدنا عليه. وقد ذكر مالك تعليلًا آخر للمنع خارجًا عمّا كنّا قدّمناه. وذلك أنّه قال: هذا بيع ذهب وسلعة بسلعة وذهب نسيئة. وكأنّه رأى أنّ مشتري الحمار باعه ودينارًا معه بعشرة دنانير نسيئة، وهذا ممنوع. وهذه العلّة توجب اعتبار القيمة مطلقة من غير تقييد كالحكم في مسائل الرّبا. فإذا تقرّر هذا، فلنفرّع عليه أنواع ما يزيده المشتري والبائع. وقد ذكرنا حكم زيادة دينار في جملة الثّمن، وما قيل فيه من التّعليل. فإن كانت الزّيادة الّتي زادها المشتري ورِقًا، فإنّ ذلك لا يجوز في المشهور من المذهب, لأنّ صرف ما في الذّمّة من دنانير مؤجّلة ممنوع, لأنّا نقدّر أنّ الدّنانير المبيعة بالدّراهم إذا لم يحلّ أجلها، فكأنّه إنّما عجّل دنانير ليست هي الّتي عليه، وإنّما عجّلها سلفًا ليقبضها من نفسه إذا حلّ الأجل، فالمصارفة على هذا إنّما وقعت عن دنانير لم يجب قبضها الآن، وإنّما تجب إلى أجل. وقد كنّا قدّمنا ذكر الخلاف في هذا، وأنّ من أجاز صرف ما في الذّمّة من الدّنانير المؤجّلة، فإنّه قدّر المؤجّل منها كالحالّ، وأنّ القصد بالتّعجيل براءةٌ لا السلف الّذي يقبض من نفسه إذا حلّ الأجل، وأشرنا ها هنا أيضًا في أحد تعاليل هذه المسئلة إلى هذه الطّريقة. لكن لو كان المعجّل ها هنا الدّرهم والدّرهمان، لاعتبر في ذلك خلاف آخر قدّمنا ذكره في كتاب الصرف، وهو بيع سلعة معها درهم أو درهمان بدينار إلى أجل. وأمّا إن زاد المشتري عرضًا، فإن ذلك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إنّا.

سائغ، أيّ صنف كان العرض، ويقدّر أنّ بائع الحمار اشتراه بالدّين الّذي له على المشتري وهو العشرة دنانير، واشترى معه العرض الّذي زاده المشتري. هذا إذا كانت زيادة المشتري ينقدها، فأمّا إن كانت مؤجّلة، فإنّا قدّمنا زيادة دينار واحد مؤجّلأوأنّه يتصوّر فيه البيع والسلف. وإن كانت الزّيادة المؤجّلة ورقًا أو عرضًا، لم يجز ذلك لكونه فسخ دين في دين لما يتصوّر فيه من أنّه أخذ الحمار ببعض العشرة دنانير وأخذ عن الباقي منها دراهم أو عرضًا مضمونًا إلى أجل، فيكون ذلك فسخًا لدين في دين. وينضاف إلى هذا في الورق صرف مستأخر، هذا حكم زيادة المشتري. فأمّا زيادة البائع فتجوز على الإطلاق إلاّ وجهًا واحدًا، وهو أن يزيد البائع من صنف الحمار الّذي باعه زيادة مضمونة إلى أجل. لأنّه يقدّر أنّه ارتجع حماره بالعشرة دنانير الّتي له على المشتري وبما زاده من عوض (¬1) منقوب أو مؤجّل أو دنانير أو دراهم، وشراؤه حمارًا بدين له باعه منه وبزيادة دنانير أو دراهم أو عرض منقودٍ أو مؤجّل لا مانع يمنع من ذلك. لكن إذا زاده حمارًا من صنف ما باعه منه مؤجّلًا، صار كأنّه أسلفه حمارًا، وهو المرتجع منه، على أن يقبضه إيّاه إلى أجل ويحطّ عنه ما له عليه من دين، فصار كمسلف حمار ليأخذ مثله إلى أجل يشترط أن يسقط عنه دين وهو العشرة دنانير لأجل السلف، وهذا سلف جرّ منفعة وهو ممنوع. هذا حكم الزّيادة مع كون الثّمن مؤجّلًا. وأمّا إن بيع الحمار بعشرة دنانير على النّقد، فإنّ ربيعة ذكر أنّه إن استقال المبتاع البائع على أن يزيده دينارًا مؤجّلًا، فإن ذلك مكروه أيضًا. وأنت إذا تأمّلت ما ذكرنا من تفريع المسئلة الأولى، وهي بيع الحمار بثمن مؤجّل، صرفت علل المسئلة وعلل فروعها في هذا الوجه الآخر الّذي ذكره ربيعة. وذلك أنّه يتصوّر ها هنا أيضًا فيه أنّه أخذ منه الحمار بتسعة دنانير مِمّا له عليه على أن يؤخّره بالدّينار العاشر الّذي وجب عليه أن ينقده البائع، وهذا يتقرّر فيه البيع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عرض.

والسلف على حسب ما قدّمناه في المسئلة الأولى. لكنّ الشيخ أبا محمّد ابن أبي زيد نبّه على ما قد يتعقّب في هذه المسئلة دون الّتي قبلها. فقال: هذه البيعة الّتي وقعت على النّقد ينبغي ألاّ يتّهم فيها إلاَّ أهل العينة، كما قيل في بياعات النّقود. لكن هذا الاعتراض ساقط لأنّ هذه البيعة الثّانية يتصوّر فيها البيع والسلف من تلقاء نفسها من غير إسنادها إلى البيعة الأولى. وإنّما يتصوّر فيها الوجه الممنوع وهو البيع والسلف، بشرط أن تكون البيعة الأولى صحيحة ثابتة تكون العشرة دنانير ثابتة في الذّمّة، فأخّر منها دينارًا يجب أن يقدّمه. وما كنّا أفضنا في ذكره في بياعات الآجال الممنوعة للوجوه المتقدّمة، فإنّما يتصوّر الفساد فيها إذا أسندت البيعة الثّانية إلى البيعة الأولى حتّى يسري الفساد إلى الأولى كما يسري في الثّانية كما تقدّم بيانه ومثاله. فشتّان ما بين فساد يتصوّر في المسئلة من قِبَل نفسها من غير افتقار إلى إسنادها إلى بيعة تقدمتها وبين ما لا يتصوّر فساده إلاّ بأن يُبنَى على بيعة تقدمته يسري إليها الفساد أيضًا. وقد كنّا قدّمنا نحن في أوّل هذا الكتاب هذا الفرق في مسئلة أخرى، وذكرنا مناقضة ابن الموّاز لابن القاسم في سؤال ينخرط في هذا السلك. وجوابَ الشَّيخ أبي محمّد بن أبي زيد وغيره عنه. وقد قيّد الشيخ أبو محمّد بن أبي زيد هذا النّقد عن ربيعة بأنّ المشتري لم ينقد العشرة دنانير. وتابعه على هذا بعض الأشياخ، فقال: يجوز للمشتري إذا نقد أن يزيد لأنّها بيعة ثانية لمّا نقد ثمن الأولى. فأشار إلى إباحة الزّيادة مطلقة. وأنكر هذا التّقييد بعض المتأخّرين، وقال: قد يتصوّر البيع والسلف وإن (¬1) نقد المشتري لأنّه يقدّر فيه أنّه اشترى الحمار بتسعة من الدّنانير الّتي نقدها على أن أسلفه قابضها الدّينار العاشر ليأخذ منه إلى أجل. فإذا وضح أيضًا ما نصّ عليه ربيعة من هذا الفرع الواحد الّذي ذكره في بيعة النّقد، فلنفرّع عليه أيضًا كما فرّعنا في السؤال الّذي قبله. ¬

_ (¬1) في نسخة المدينة: قد.

واعلم أنّ الشريعة تمنع ها هنا أن يزيد دراهم أو عرضًا إلى أجل؛ لأنّه ردّ الحمار ببعض ما وجب عليه أن ينقده، وبقيت العشرة دنانير الّتي كان وجب عليه نقدها فسخت في "رهم أو عرض إلى أجل. وأمّا إذا زاد دينارًا وهو من سكّة الثّمن الّذي اشترى به نقدًا، فإنّ ذلك جائز, لأنّه قضى بعض ما عليه من العشرة، ودفع عن بقيّتها حمارًا. وأمّا إن كان الدّينار الّذي زاد غير سكّة الثّمن، لم يجز ذلك, لأنّه قضى ما عليه من العشرة دنانير حمارًا ودينارًا من غير سكّة الثّمن الّذي في ذمّته لم ينقده. وإن زاد دراهم، فإنّ ذلك يجري على الاختلاف في البيع والصرف, لأنّه دفع الحمار عن بعض ما عليه من العشرة دنانير دراهم وذلك صرف. فيجوز منه عند ابن القاسم ما تقاصر عن مقدار الدّينار، ويجوز عند أشهب على الإطلاق. وأمّا لو كانت الزّيادة من البائع، لكان الحكم فيها كحكم ما قدّمناه من زيادة في بيعة النّسيئة، فيجوز له أن يزيد ما شاء نقدًا أو مؤجّلًا، إلاّ أن يزيده من صنف الحمار الّذي ارتجع، فيكون ذلك سلفًا، فيتصوّر فيه ما بيّناه في المسئلة الّتي قبل هذا. ومِمّا يلحق بما نحن فيه، وذكره في المدوّنة فيمن باع عبده بعشرة دنانير على أن يبيع منه الآخر عبده بعشرة دنانير، أنّ ذلك إن كان على جهة المقاصّة العشرة بالعشرة، جاز ذلك, لأنّ المعتبر بالأفعال الّتي حصل عليها المتبايعان لا بالألفاظ الّتي تحسن أو لا تحسن. والّذي حصل عليه ها هنا المتبايعان بيع عبد بعبد، ومقابلته الدّنانير بالدّنانير لا محصول له إذا لم يخرج مضمون ذلك إلى الفعل. فلو وقع العقد على أن يخرج هذا العشرة مع العبد وهذا العشرة مع العبد، لكان ذلك ممنوعًا, لأنّ (¬1) حصل من فعلهما أنّ أحدهما دفع عبدًا وعشرة دنانير في عبد وعشرة دنانير، وقد تقدّم وجه المنع من هذا. ولا خفاء في أنّ هذين المتبايعين إن شرطا ألاّ يخرج واحد منهما الدّنانير، فإنّ ذلك لا يجوز. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأنه.

وإن لم يذكر إخراجًا للدّنانير ولا مقاصّة لها، فإنّ ذلك محمول على الوجه الجائز وهو وجوب المقاصّة. وإنّما كان ذلك كذلك ولم يحمل هذا العقد على المعنى الآخر الّذي هو الفساد لأجل أنّ الأصل فيمن له على رجل دين، وللآخر مثله أنّه لا يكلّف واحد منهما إخراج ما عليه، بل الواجب المقاصّة والمحاسبة بمالك لّ واحد على الآخر، ما لم يمنع من اتباع هذا الأصل مانع. والمانع ها هنا اختلاف السكك أو اختلاف الآجال. ولو وقع بيع هذا عبده بعشرة دنانير من سكّة منعوتة على أن يبيع له الآخر عبده بعشرة دنانير من سكّة أخرى، لحمل هذا على الفساد, لأنّ الّذي يستحقّه أحدهما على الآخر من هذه الدّنانير خلاف ما يستحقّه صاحبه عليه. وإذا اختلفت السكك، لم تجب المقاصّة إلاّ بالتّراضي، فإذا لم يصرّحا بالتّراضي على ذلك، بقيا على مقتضى الأصل. وهكذا الحكم إذا اختلفت الآجال مثل أن يبيع أحدهما عبده من رجل بعشرة دنانير إلى شهر على أن يبيعه الآخر عبده بعشرة دنانير إلى شهرين، فإنّ هذا فاسد, لأنّ المقاصّة لا تجب لكون أحد الدّينين يستحقّ على أحدهما قبلُ، فيلزمه إخراجه قبل أن يستحقّ على الآخر ما عليه لهذا من دين.

فصل

فصل قال القاضي أبو محمّد عبد الوهاب رحمه الله: والدّين بالدّين ممنوع إذا كان من الطّرفين. والوضع على التّعجيل ممنوع، وهو أن يكون له عليه كُرّ (¬1) حنطة جيّدة إلى أجل سنة فيعطيه قبل الأجل دون صفته، فلا يجوز لأنّه وضع الصفة الّتي له ليتعجّل له القبض، وما كان خارجًا عن أصل الرّفق والمعروف، فلا يقاس عليه. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: أمّا هذا الّذي ذكره من منع الدّين بالدّين، فقد تقدّم ذكره والتّنبيه عليه في أثناء فروع كثيرة تقدّمت في كتاب السلم. والأصل فيه ما روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنّه نهى عن الكاليء بالكاليء" (¬2) والكاليء هو المؤخَّر. فكأنّه قال نهى عن بيع مؤخّر بمؤخّر. وقول القاضي أبي محمّد ها هنا: (من الطّرفين) تأكيد للبيان، وإلاّ إذا كان المراد بذكر الدّين ما يؤخر كان مقنعًا قوله: الكالي بالكالي, لأنّ أحدهما إن كان منقودًا فلا يسمّى دينًا، وإن كان غير منقود وهو في الذّمّة، فإنّه يسمّى دينًا. ولكن يكون الدّين حالًا ومؤجّلًا، فإن كان حالًا فباعه مِمّن هو عليه بجنس آخر مؤجّل، فهو فسخ الدّين في الدّين، وذلك من معنى ربا الجاهليّة الّذي حرّمه الله تعالى في كتابه على حسب ما تقدّم بياننا له من الاختلاف في تأويل الآية الّتي نزلت في ذلك. وقد كانت الجاهليّة (¬3) إمّا أن تقضي وإمّا أن تربى. فإذا حلّ أجل الدّين وهو في المثل عين، فإنّه إذا أخّره ¬

_ (¬1) ساقطة في الوطنية. (¬2) في حديث رواه الدارقطني في سننه: 319 - وأخرجه الحاكم 2: 57، والبيهقي 5: 290 وهو ضعيف لوجود موسى بن عبيدة الربذي في سنده، إرواء الغليل: حديث 138: 5/ 220. (¬3) هكذا في النسختين ولعله سقط لفظ: تقول.

بزيادة فيه فهذا يحرّم, لأنّ التّأخير للدّين بعد استحقاق قبضه كسلفه لمن هو عليه. والزّيادة في مقدارٍ عوضَ التّأخير هي زيادة عوض السلف، وقد علم تحريم سلف جرّ نفعًا. وإن فسخ ذلك في جنس آخر من دراهم أو عروض، فإنّ التّأخير لا يقع غالبًا إلاّ وقد زاده في مقدار ما يعطيه بعد الأجل الثّاني على قيمة ما يعطيه له لو عاوضه عن دينه من غير تأخّر. وهذه الزّيادة في القيمة لأجل التّأخير كسلف جرّ نفعًا. وينضاف إلى هذا -إذا فَسَخَ ذلك في دراهم- عَقد الصرف على التّأخير، وهو ممنوع منه. وكذلك لو كان الدّين الّذي حلّ عروضًا فسخها في عروض أخرى إلى أجل، فإنّه يزيده في قيمة العروض الثّانية لأجل إنظاره له وتأخيره بدينه. ولو عاوضه عن دينه المؤجّل قبل أن يحلّ أجله بجنس آخر مؤجّل إلى مثل الأجل الأوّل، فإنّ هذا يمنع أيضًا لكونه فسخًا لدين في دين. وقد قال بعض أشياخي: ليس هذا التّحريم بمعلّل, لأنّا صوّرنا في فسخ الدّين الحال في جنس آخر مؤجّل إلى أنّه يزيده في مقدار الثّاني لأجل تأخيره الأوّل. وها هنا إذا كان الفسخ قبل حلول الأجل والعرض الثّاني إنّما يؤخذ عند الأجل الأوّل، فإنّه لم يستحقّ قبض شيء فيقدّر أنّه أخّره لأجل ما زاد في مقدار الثّاني. ولكن عندي أنّ هذا، وإن لم يتصوّر فيه هذا المعنى، فإنّه يتصوّر فيه بيع دين بدين، وقد ورد الحديث بالنّهي عنه. لكن قد يعرض في فسخ دين في دين ما يُشْكِل من ناحية كونه كالدّين أو كالمنقود، مثل أن يحلّ له دين فيأخذ عنه سكنى دار معَيَّنة إلى أجل معلوم أو ركوب دابّة معيّنة، فإنّ هذا يصحّ أنّه إذا أخذ فيه سكنى أو ركوبًا مضمونًا في الذّمّة، أنّ ذلك لا يجوز لكون المضمون من سكنى أو ركوب لا شكّ في تسميته دينًا. وإن أخذ فيه سكنى دار معيّنة أو ركوب دابّة معيّنة, فها هنا عرض الإشكال: هل ذلك كالدّين لمّا كان ضمانُ هذه المنافع من صاحب الدّار والدّابّة وهي لم تقبض منه جملة واحدة فتلحق بأحكام الدّيون الّتي لا يجوز فسخ دين فيها كما قاله ابن القاسم؟ أو تلحق بالمعيّنات المقبوضة لمّا أسندت هذه المنافع إلى دار معيّنة ودابّة معيّنة؟ وقد علم أنّه لو أخذ الدّار أو الدّابّة عن دينه

الّذي حلّ وقبضها على أن ذلك جائز. فكذلك المنافع المسندة إليها والمأخوذة منها يقدّر أنّ قبض أوّلها كالقبض لآخرها, لمّا كان لا يتصوّر القبض في هذه المعاني ولا يُقدَر عليه إلاّ على هذه الصّورة. وقد وقع في الموّازيّة فيمن استعمل غريمه عملًا قبل حلول أجل دينه بالدّين الّذي له عليه، أنّه لا خير في ذلك, لأنّه قد يمرض الأجير فيتأخّر العمل إلى ما بعد حلول الأجل. وحمل بعض أشياخي على المذهب أنّ هذا قول ثالث ليس بالإجازة على الإطلاق، كما ينسب لأشهب، ولا بالمنع مطلقًا كما ينسب لابن القاسم لأنّه إنّما علّل بجواز المرض المقتضي أخذ المنافع بعد حلول الأجل، فدلّ ذلك على أنّه إنّما يمنع ذلك إذا وقع فسخ الدّين في هذه المنافع عن دين قد حلّ، لكون ما عرض من الإشك الذي كون هذه المنافع كالدّين أوْ لا، كما بيّناه، فيتصوّر فيها معنى ربا الجاهليّة: تقضي أو تربي. فإذا كان ذلك قبل الأجل، فلا يتصوّر فيه معنى ربا الجاهليّة كما قدّمناه عن بعض أشياخنا أنّه يرى فسخ دين في دين قبل حلول الأجل شرعًا غير معلّل. وقد نصّ (¬1) بعض المتأخّرين طريقةَ أشهب في الجواز بأن قال: اتفق على جواز اكتراء هذه المنافع بدين في ذمّة المكتري ولم يقدّر ذلك دينًا بدين فيمنع. فهذا يقتضي صحّة ما ذهب إليه أشهب من كون هذه المنافع لا تعدّ دينًا. وأشار بعضهم إلى التّفرقة بين هذين, لأنّ عقد دينين في ذمّتين كانتا خاليتين من الدّين أخفّ من فسخ دين عمرت الذّمّة به في دين آخر. ألا ترى أنّا لا نسامح بتأخير عوضٍ أُخذ عن دين في الذّمّة يومًا واحدًا، ويسامح في جواز اشتراط تأخير رأس المال في السلم اليوم واليومين, لأنّ ما على المسلم والمسلم إليه وقع العقد عليه، والذّمّتان خاليتان منه. وقد أشار الشيخ أبو إسحاق. إلى أنّ في كتاب ابن الموّاز ما قد يتناول منه منع شراء هذه المنافع بدين يكون لمشتريها على رجل آخر، فاختلف فيه أيضأهل يجوز أو يمنع؟ ووقع في كتاب الخيار من المدوّنة جواز اشتراط ¬

_ (¬1) هكذا, ولعلّ الصواب: نَصَرَ.

ذلك بشرط أن يشرع في السكنى. ولعلّنا أن نبسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. وأمّا أخذ سلعة غائبة أو أمة بتواضع أو سلعة على خيار قابضها، فإنّ هذا على القولين المذكورين يمنعه ابن القاسم، ويرى دخول التّأخير في هذا يلحقه بأحكام الدّيون. وأمّا ما ذكره من منع ضع وتعجّل، فإنّا قد ذكرناه في مسائل كثيرة تقدّمت في كتاب السلم وغيره. وقد ذكر عن عمر وعبد الله ابنه، رضي الله عنهما، أنّهما يمنعان من ضع وتعجّل. وقد صوّر في المنع أنّ الّذي عجّل الدّين قد اشتراه بما عجّله ليأخذ ذلك من نفسه إذا حلّ الأجل قضاء عمّا أسلفه مِمّا عجّل، فيكون كسلف بزيادة. وقد قرّرنا قولها بمنع الذّرائع وصوّرنا هذا المعنى في مسائل تقدّمت.

فصل

فصل ذكر القاضي أبو محمّد عبد الوهّاب الممنوعات الرّاجعة إلى صفة العقد، فذكر أنّ منها: البيع والسلف. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدّليل على منع البيع والسلف؟ 2 - وهل يصحّ العقد إذا سقط السلف؟ 3 - وهل يصحّ إسقاطه بعد قبضه؟ 4 - وما الواجب فيه بعد فوت المبيع؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه نهى عن البيع والسلف (¬1). واختار بعض أشياخي في توجيه المنع أن ذلك من معاني حماية الذّرائع، وذلك أنّه قد تقرّر أنّ بيع الذّهب بالذّهب لا يجوز (¬2). ومن أقرض مائة دينار على أن يأخذ مثلها بعد سنة، فإنّ هذا المعنى يتصوّر فيه حقيقة البيع لأنّه باع مائة ينقدها بمائة يأخذها بعد سنة. لكن إنّما (¬3) ندَبَ الشّرع إلى مكارم الأخلاق وحضّ على اصطناع المعروف ورفق المسلمين بعضهم ببعض، اقتضت المصلحة في المحافظة على هذا الّذي ندب إليه، منعَ السلف بزيادة، لأنّا لو أبحنا الزّيادة فيه، لكنّا سددنا باب الارتفاق وما دُعينا إليه من مكارم الأخلاق. وقد علم أنّ البيع إذا انفرد، جاز باتّفاق. وإذا انفرد السلف على وجه المعروف والرّفق، جاز أيضًا باتّفاق. فإذا اجتمعا منعا، وما ذلك إلاّ أنّ المبيع المقارن للسلف قد يزيد في قيمته ويرغب فيه مشتريه لأجل ما يتسلّفه (¬4) البائع، ¬

_ (¬1) هو جزء من حديث رواه بالمعنى عن أصحاب السنن والطيالسي وأحمد والحاكم والبيهقي ونصه: لا يحل بيع وسلف الهداية ج 7: 231 حديث 137. (¬2) أي: إلا مثْلا بمثل مناجزة. (¬3) هكذا في النسختين ولعل الصواب كمَّا. (¬4) هكذا ولعل الصواب من.

فتصير الزّيادة الّتي زادها على قيمته عوض السلف، والسلف بزيادة ممنوع. وسلك بعض أشياخي في وجه المنع مسلكًا آخر، فقال: قد تقرّر أن الرّبا ممنوع، والبيع إذا قارنه سلف يوقع في الرِّبا الممنوع إمّا ربا النّسا وإمّا ربا الفضل. ويتصوّر هذا بأنّ من باع عبدًا بمائة دينار على أن أسلف المشتري خمسين دينارًا فأخذها إلى سنة، فإنّه قد أخرج من يده عبدًا ومعه خمسون دينارًا، ويأخذ عوضًا عن ذلك ما يدفعه المشتري من الثّمن نقدًا وما يدفعه عند قضاء السلف، فيحصل في هذا ربا النّسا، وربا الفضل إذا قدّرنا اختلاف مقدار ما يقع من المقابلة بين الذهبين لاختلاف التّقويم في السلعة على حسب ما تقدّم في أحكام الرّبا لمّا تكلّمنا على وجه المنع من بيع سلعة وذهب بذهب. وعلى هذا الأسلوب يتصوّر لك الرّبا إذا كان السلف دراهم، أو كان طعامًا يحرم فيه الرّبا. وإن كان طعامًا لا يحرم فيه الرّبا، تصوّر فيه ربا النّسا، لكن لو كان ما لا ربا فيه لا في النّقد ولا في النّسا، لكان هذا يمنع عندنا على أصلنا في منع بيع ثوب نقدا بثوبين من جنسه إلى أجل. لأنّا نرى أنّ التّماثل ها هنا يجعل الزّيادة عوض السلف، فإذا باع منه عبدًا بمائة دينار على أن أسلفه ثوبًا، فإنّه يتصوّر ها هنا ربا النّسا في مقابلة الثّوب بالثّوب على حسب ما قدّمناه في كتاب السلم. وذكرنا هناك أنّ الشّافعي لا يمنع من سلم ثوب في ثوبين مثله. ولا يقدّر في أمثال هذه العروض ربا النّسا. فهو لا يمنع مثل هذا على مقتضى أصله، ونحن نمنعه لأجل ما استدللنا به فيما تقدّم على منع سلم ثوب في ثوبين ولعموم الخبر أنّه نهى عليه السلام عن البيع والسلف (¬1). والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: قد ذكرنا في كتابنا المُعلِم اختلاف من تقدّم من الأئمّة في بيع وشرط. وذكرنا الحكاية الّتي رويت عنهم في هذا وما احتجّ به كلّ واحد لمذهبه (¬2). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) المعلم: 2: 208 من باب الشروط في البيع.

واعلم أنّ البيع المؤثّر في صحّته شرط يقارنه في المذهب فيه اضطراب كثير. وذكر أهل المذهب فيه فروعًا كثيرة يكثر تعدادها. ووقعت أجوبة للأئمّة من أصحاب مالك عنها مختلفة. فدعا ذلك شيخنا الفقيه أبا الحسن المعروف باللّخميّ صاحب التّبصرة إلى أن قال: فيه ثمانية أقوال. واشتدّ نكير شيخي الآخر أبو محمّد عبد الحميد عليه هذا الإكثار من الخلاف حتّى أملى عليه في ذلك إملاء بيّن فيه ضعف التّاريخ (¬1) الّتي عوّل عليها شيخنا أبو الحسن، مع كونه لم يتصوّر له هذا العدد من الأقوال في وجوه مختلفة لا يصحّ أن تكون عن وجه واحد فيه ثمانية أقوال. وكان يرى أنّ الأجوبة عن هذه المسائل إنما اختلفت لاختلاف معاني الشروط المفسدة لها. فما قيل فيه: إنّ البيع صحيح والشرط باطل، فإنّما ذلك لأنّ الشرط وإن كان مبنيًّا عنه، فإنّه لم يؤثر في الثّمن ولا في المثمون جهالة ولا غررًا، ولا فائدة فيه لمشترطه. فكأنّه لمّا لم يتعلّق به حقّ الله تعالى ولا منفعة لِمشترطهِ ظاهرة، أُسقِط وصحّ البيع. وإذا كان الشّرط يتضمّن غررًا في الثّمن أو المثمون ومخاطرة، فسد البيع ولو أسقط الشرط. لأنّ الشّرط إذا أسقط، فإنّما سقط بهذا الإسقاط حقّ صاحب الشرط وبقي حقّ الله سبحانه في نهيه عن الغرر في البيوع. مثل أن يبيع أمة عليّة بشرط البراءة من حملها، فإنّ البيع يفسد ولو أسقط هذا الشرط لكون الغرر قد استقرّ في هذا العقد, لأنّ الجارية العليّة لو تحقّق مشتريها أنّ بها حملا، ما رضي أن يدفع من ثمنها عشر ما دفع، كما أنّ البائع لو علم براءتها من العمل لم يبعها إلاّ بأكثر مِمّا باعها به، فإسقاط عيب العمل إن ظهر لا يرفع ما استقرّ من هذا الغرر الّذي حصل في الثّمن. وإذا قيل فيمن باع أمة عليّة بشرط ترك المواضعة إنّ البيع لا يفسد وتجب المواضعة، فإنّه لا يرى أنّ هذا الشّرط يقتضي في الثّمن من الغرر ما اقتضاه شرط المتبرّي من العمل في الجارية الرائعة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التخاريج.

وعلى هذه الأساليب كان شيخنا رحمه الله يجري هذه المسائل الّتي اختلفت الأجوبة عنها. وقد أشار الشّيخ أبو إسحاق إلى هذه الطّريقة في اعتذاره عن كون البيع الّذي قارنه السلف يصحّ إذا أسقط الشّرط، بأنّ الثّمن ها هنا والمثمون قد قيل: إنّهما سالمان من الغرر، وإنّما الفساد في السلف، وهو أمر خارج عنهما. فكان ذلك بخلاف ما فسد لأجل ما وقع من الغرر في ثمنه أو مثمونه. ولكن تعقب هذا الاعتذار بأنّ الانتفاع بالسلف هو بعض الثّمن، فأشبه من باع سلعة بمائة دينار وعبد آبق، فإنّ هذا البيع لا يصحّ، ولو أسقط العبد الآبق، لمّا كان بعضَ الثّمن، فكذلك السلف هو بعض الثّمن. بخلاف لو وَقع الثّمن إلى موت زيد فرضي المشتري بتعجيله، فإنّ ذلك لا يصحّح البيع لمّا كان الغَرَر في نفس الثّمن، وهو تعليقه بأجل مجهول، ووقع العقد على غرر. فهذا التّشبيه للسلف بالعبد الآبق ليس بالواضح. والعبد الآبق إذا قارن الثّمن الّذي هو الدّنانير، فإنّ الدّنانير حصل فيها تخاطر بين المتبايعين, لأنّ الآبق لو تحقّق باذله سلامته، لم يرض بتلك الدّنانير بل بأكثر منها. ولو تحقّق عطبه، لم يبذل باذل الدّنانير إلاّ أقلّ مِمّا بذل. فإسقاط الآبق محا عينه ولم يمح أثره الّذي في الدّنانير. والانتفاع بالسلف وإن كان ممنوحًا، فإنّه لم يؤثّر غررًا في الثّمن الّذي قارنه. فإذا أُسقِط، بقي الثّمن سالمًا من الغرر. لكن لو كان عوض الآبق خمرًا، لكان إسقاطه لا يبقي غررًا في الدّنانير الّتي هي بعض الثّمن. لكن هذا يلتفت فيه إلى ما كنّا قدّمنا الكلام عليه من حكم صفقة جمعت حرامًا وحلالًا، وقد بسطناه هنالك، وهو مِمّا يصرف في هذه المسئلة. وقد قيل في المذهب فيمن تزوّج بمائة دينار وعبد آبق: إنّ الآبق إذا أسقط صحّ النّكاح. فأنت ترى كيف أجرى صاحب هذا المذهب الآبق مجرى السلف المقارن للبياعات، ولكنّه إنّما ذكر ذلك في النّكاحات، والنّكاح يسامح في عقده من الغرر بما لا يسامح به في البيوع. فإذا تقرّر هذا، فاعلم أنّ المذهب على قولين في البيع إذا قارنه سلف،

هل يصحّ البيع إذا أسقط السلف أم لا؟ والأشهر من المذهب أنّ البيع يصحّ إذا أسقط السلف. وقيل: بل يفسخ البيع ولو أسقط السلف، وإليه ذهب محمّد بن عبد الحكم. وذكر الأبهري أن بعض المدنيين رواه عن مالك قال: وهو القياس. وقد أشرنا إلى سبب هذا الاختلاف وأنّ المذهب المشهور بني على أنّ الفساد في غير الثّمن والمثمون. فإذا أزيل الفساد وبقي الثّمن والمثمون سالمين من مقارنته، صحّ العقد. وإنّ المذهب الآخر بني على القياس على أكثر البياعات الفاسدة وأنّ الفساد في البيع والسلف قد يتصوّر في الثّمن، على حسب ما ذكرناه وذكرنا ما قيل فيه. وهذه المسئلة قد تتعلّق باختلاف أهل الأصول في النّهي، هل يدلّ على فساد المنهيّ عنه أم لا؟ وقد ذكرنا أنّ النبيّ عليه السلام نهى عن البيع والسلف كما قدّمناه، والنّهي يدلّ على فساد المنهيّ عنه وردّه. وقد قال أيضًا في الحديث: "من أحدث في ديننا ما ليس منه، فهو ردّ" (¬1)، والمردود لا يمضي. وإذا قيل: إنّ النّهي لا يدلّ على فساد المنهيّ عنه نظر في المسئلة من جهة أخرى، وهي: هل حصل الإخلال بشرط من شروط صحّة البيع وانعقاده أم لا؟ والتُفِت حينئذٍ إلى كون هذا الفساد خارجًا عن الثّمن والمثمون أو مرتبطًا بهما. كما ينظر أيضًا فيمن باع جارية على أن يتّخذها أمّ ولد، هل يقتضي النّهي فساد المنهيّ عنه فيفسخ البيع، ولو أسقط هذا الشّرط الّذي هو اتّخاذها أمّ ولد، أو يصحّ البيع بإسقاط هذا الشرط منفصلًا عن الثّمن والمثمون، لم يحدث فيهما غررًا. واختيار كثير من الأشياخ كون الشّرط إذا سقط، لا يصحّ البيع والسلف وما في معناه من الشّروط، لكون العقد وقع على الفساد وهو ثمن واحد لا يتبعّض ولا يتعدّد. فالفساد إذا دخله أثَّر في كلّية العقد وجملته وسرى ذلك إلى الثّمن والمثمون وصيّرهما فاسدين في أنفسهما. لأنّ السلف إذا كان من المشتري، فهو بعض الثّمن، وإن كان من البائع فهو بعض المبيع، وفساد بعض الثّمن أو بعض المثمون يفسد جميعه. ¬

_ (¬1) اتفق عليه الشيخان، ولفظ البخاري "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد" اللؤلؤ والمرجان: حديث 1120.

وقد أشار القاضي إسماعيل إلى إنكار الاحتجاج على صحّة البيع إذا أسقط شرط السلف بإسقاط خمر وقع العقد عليه مع ثوب. وقال: إنّما يكون وزان مسئلة البيع والسلف أن يكون بائع الثّوب شرط على مشتريه أنّه إن شاء طلبه مع الثّمن الّذي اتّفقا عليه من الخمر بأمر سمّياه، وإن شاء لم يطلبه. وتنازع المتأخّرون في هذا الّذي قاله إسماعيل القاضي. ونحن قد نبّهناك فيما أشرنا إليه من طرق الاستدل الذي هذه المسئلة في كلامنا على هذا السؤال الثّاني والّذي قبله ما يعلم منه حقيقة ما قاله إسماعيل القاضي. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: إذا تقرّر أنّ المشهور من المذهب في البيع والسلف أنّ إسقاط مشترط السلف لِمَا اشترطه منه يصحّح البيع. وقد اختلف أصحاب هذا المذهب فيه إذا قبض السلف، هل يؤثّر إسقاطه رفع فسخ البيع أم لا؟ فذكر أصبغ في أصوله عن ابن القاسم أنّ قبض السلف لا يمنع من تأثير إسقاطه، وأن السلف إذا أسقطه قابضه وأعاده على دافعه، صحّ البيع، وهذا ظاهر المدونة وذهب ابن حبيب وسحنون إلى أنّ إسقاط السلف بعد قبضه لا يؤثّر (¬1)، ولا يصحّ البيع الفاسد لأنّ الرّبا قد تمّ بقبضه والانتفاع به، وإذا حصل وجود المعنى المفسد للبيع، لم يتصوّر رفع ما قد وجد، بخلاف إسقاط السلف قبل قبضه فإنّه لا يرفع ها هنا سوى حكم النّطق باشتراطه، ولم يحصل وجود الفعل الممنوع وهو الانتفاعَ بهذا السلف. وهكذا ظاهر المذهب أنّه لا يؤثّر إسقاطه إذا وقع هذا الإسقاط بعد أن فاتت السلعة في يد مشتريها, لأنّها إذا فاتت في يد مشتريها لزمته قيمتها وصارت القيمة دينًا عليه، فإسقاط شرط السلف لا يرجع إلى إمضاء عين المبيع وتصحيحه لما سقط الشرط حتّى يصير إسقاط هذا الشرط كإسناد عقد صحيح على عين موجودة قائمة في حقّ من أسقطه. وإسقاطه بعد ذوات السلعة ووجوب القيمة إنّما يرجع إلى زيادة في هذه القيمة أو نقص، وذلك خارج عن تصحيح نفس العقود في الأعيان القائمة. لكن ¬

_ (¬1) أي في رفع فساد البيع.

الشّيخ أبا إسحاق أشار إلى إشك الذي صحّة إسقاط هذا الشرط بعد فوات فوت المبيع إذا كان السلف لم يقبض وقال: انظر في ذلك. لكن قد وقع في شرح ابن مزين عن ابن نافع فيمن قارض وشرط في القراض شرطًا فاسدًا، أنّ إسقاط الشّرط إنّما يؤثّر ويصحّ القراض بإسقاطه ما لم يقع العمل بالقراض. فإذا وقع (¬1) عمل العامل بالمال، لم يؤثّر إسقاط الشّرط. ورأى بعض أشياخي أنّ هذا يشير إلى أنّ إسقاط السلف المشترط في البيع لا يؤثّر إذا فاتت السلعة وإن كان السلف لم يقبض. وهذا الّذي قاله من هذا وتأوّله لا وجه له, لأنّ القراض لا يلزم بالقول المجرّد في أحد القولين عندنا. فإذا وقع إسقاط الشّرط من مشترطه قبل العمل بالقراض، (صار إسقاطه كاستئناف عقد صحيح في حقّ نفسه، وبقي الآخر على خياره في حلّه، ولو كان القراض صحيحًا لم يقارنه شرط. فإذا وقع العمل بالقراض) (¬2)، لم يؤثّر إسقاط الشّرط لأنّ إسقاطه وقع بعد فوات المبيع. ويمكن أن يكون بني هذا الجواب على مذهب من يرى أنّ إسقاط الشّرط قبل العمل في السلف المقارن للبيع لا يؤثّر بل يفسخ البيع على كلّ حال. وإنّما فرّق ها هنا في القراض بين إسقاط الشّرط قبل العمل وبعده، لأجل ما ذكرناه من إثبات الخيار لربّ المال والعامل في حلّ القراض قبل أن يعمل به. فإذا أمكن هذا، لم يكن ما استقرأه من هذه الرّواية موثوقًا به، إلاَّ أن يثبت أنّ مذهب ابن نافع، لمّا قال هذا، كونُ القراض يلزم بالعقد، فيكون لِمَا استقرأه وجه. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: إذا وقع البيع بشرط السلف وفاتت السلعة في يد المشتري بحوالة السوق أو غيرها مِمّا يفيت البيع الفاسد، فإنّ المذهب اختلف في ذلك. فقيل: الواجب في ذلك القيمة، قلّت أو كثرت، كما تجب في أكثر البياعات الفاسدة. وهكذا قال سحنون: إذا قبض السلف وامتنع إسقاطه قبل قبضه وفاتت السلعة، فإنّ القيمة فيه بالغة ما بلغت. وهكذا حكى غيره عن ابن القاسم أيضًا إيجابَ القيمة مطلقًا, لأنّ الواجب في البيع الفاسد ردّ ¬

_ (¬1) في الوطنية: فإذا عمل العامل بالمال. (¬2) في ما بين القوسين ساقط في الوطنية.

عين المبيع، فإذا استحال ردّه لعدمه، أو ما هو في حكم العدم، رُدّت قيمته على الإطلاق بدلًا من عينه. والّذي في المدوّنة أنّ القيمة الواجبة يلتفت فيها إلى زيادتها على ما رضي به المسْلِف. فإن كان السلف من المشتري: اشترى سلعة بمائة على أن أسلف خمسين، فإنّ للبائع الأكثر من الثّمن أو القيمة. فإن كانت القيمة مائتين أو أكثر أخذها. وإن كانت القيمة أقلّ من مائة دينار، لم ينقص المشتري من ذلك لأنّه رضي بمائة دينار ثمنًا معها خمسون دينارًا يدفعها سلفًا، فإذا قضينا عليه بالثّمن وهو المائة، وأسقطنا عنه ما هو كبعض الثّمن، وهو ما التزم من سلف، فإنّه قد أحسن إليه في هذا إذا قضينا عليه بالقيمة ما لم ينقص من الثّمن. وإن كان السلف من البائع، كان له الأقلّ من الثّمن أو القيمة، فإن كانت القيمة خمسين أو ستّين دينارًا، لم يلزم المشتري أكثر من ذلك لأنّها عوض العين الّتي وجب عليه ردّها لفساد العقد. وإن كانت القيمة مائتين، لم يلزم المشتري إلاّ المائة الّتي هي الثّمن لأنّ البائع رضي أن يأخذ مائة على أن يسلف خمسين. فإذا أسقطنا عنه السلف، فكأنّا أسقطنا عنه بعض الثّمن وأحسن إليه بذلك، فلا يزاد عليه. والتفت أصبغ إلى هذه الطريقة، ولكنّه رأى أنّ القيمة إذا زادت على المائة الّتي هي الثّمن، والخمسين الّتي هي السلف، المشترطة على المشتري، فإنّه لا يقضى للبائع بأكثر من مائة وخمسين. ويقال له أيضًا: أنت رضيت بالمائة تملكها ملكًا مؤبّدًا وبمنفعة خمسين الّتي هي السلف، فإذا ملكناك هذا السلف ملكًا مؤبّدًا لا تردّه أبدًا، فقد أحسن إليك، فلا تزاد على مائة وخمسين شيئًا، وإن زادت قيمة السلعة على ذلك. وطرْد مذهب أصبغ إذا كان السلف من جهة البائع، أن يكون على المشتري القيمة ما لم تنقص عن خمسين دينارًا. لأنّه أيضًا يقال له: أنت رضيت بأن تدفع مائة دينار ثمنًا، فيردّ قابضها إليك منها خمسين دينارًا سلفًا تتّجر بها

سنة ثمّ تعيدها إليه، والخمسون الباقية هي الثّمن الّذي نقدته لا ترجع إليك، والخمسون الأخرى الّتي قبضتها لتردّها بعد سنة نحن قد أسقطنا ردّها عنك، فأحسنا إليك بإسقاط ردّها إلى البائع، فلا يُنقَص البائع من الخمسين الّتي رضيت بها، وهي أيضًا كبعض الثّمن. ومذهب ابن القاسم ما حكيناه عنه من أنّ الواجب على المشتري الأقلّ من القيمة أو الثّمن. فإن كانت القيمة ثلاثين أو أربعين دينارًا، لم يقض عليه بأكثر من ذلك. ولا يعتبر ما اعتبره أصبغ في السلف. كما لم يعتبر ذلك أيضًا فيما نصّ أصبغ على اعتباره إذا كان السلف من جهة المشترى. وقد أشار الشّيخ أبو إسحاق إلى مناقضة ابن القاسم، فقال: قد جعل ابن القاسم على المشتري وزن الثّمن إذا كان هو المسلف وكانت القيمة أقلّ منه لكون المشتري رضي بالمائة ويزيد على رضاه بذلك سلف خمسين. فإذا كانت القيمة أقلّ مِمّا رضي به وهو مائة، فإنّه لا ينقص من الثّمن شيئًا لرضاه به. فكذلك أيضًا يجب أيضًا أن لا يزاد البائع على مائة وخمسين إذا زادت القيمة على ذلك لكونه رضي بمائة وبخمسين سلفًا. فإذا أمضيناها له ملكًا مؤبّدًا مع المائة، لم يكن له مقال في الزّيادة. وذكر أن لا فرق بين حجّة البائع على المشتري في أن لا يحطّ من الثّمن الّذي رضي به شيئًا إذا نقصت القيمة عنه، وبين حجّة المشتري على البائع أن لا يزيد على المائة وخمسين شيئًا لرضاه بهما. وهذا الّذي قرّره كالمتناقض من قول ابن القاسم الانفصال عنه عندي: أنّ المائة دينار الّتي رضي بها المشتري رضي كونها ثمنًا، فلا يحطّ مِمّا رضي به شيئًا. ونحن إذا ألزمناه ذلك، لم تغيّر صفة الثّمن الّذي وقع التّعاقد عليه في المائة دينار لأنّها كانت مائتين. فإنّه يقول: إنّما استقرّ البيع بمائة دينار ولمنفعة خمسين دينارًا سنة، والانتفاع بها سنة كعرض، والعروض تختلف الأغراض فيها، وقد يكون التّجر بها سنة له فيها غرض لا يوجد إذا جعلت له ملكًا، فتعتبر

الأغراض. والأثمان لمّا وقع فيما قاله في زيادة القيمة على الثّمن لم يلتفت إلى ما وقع التّراضي به من كون المائة ثمنًا والخمسين سلفًا. وأمّا رضي المشتري بمائة دينار، فإنّا إذا ألزمناه إيّاها، ألزمناه اعتبار ما رضي به من غير تغيير فيه. فإذا اعتبرنا المائة وخمسين، صرفًا ألزمنا البائع رضاه بالمائة وخمسين بعد تغيير عليه في عرضه.

فصل في بيع الثنيا

فصل في بيع الثّنيا ذكر في المدوّنة بعد مسئلة البيع والسلف، الّتي أشبعنا القول فيها، الحكم فيمن باع سلعة من رجل على أنّ البائع متى جاء بالثّمن ارتجع سلعته. فقال في المدوّنة: إنّ البيع فاسد (¬1). ويتعلّق بهذه المسئلة ما ننبّهك عليه. فمن ذلك .. 1 - ما علّة فساد هذا البيع؟ 2 - والثّاني هل يصحّ هذا البيع بإسقاط الشّرط كما صحّ ذلك في إسقاط السلف كما تقدّم؟ 3 - والثالث هل تجري هذه المسئلة مجرى الرَّهان في الضّمان والاغتلال أم مجرى البياعات الفاسدة؟ 4 - والرّابع أن يقال: ما الفرق بين هذه المسئلة وبين ما اشترط أنّه إن لم يأت بالثّمن، فلا بيع بينهما؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: أمّا علّة فساد هذا البيع، فإنّ عبارات أهل المذهب اختلفت. فعلّل في المدوّنة أنّ المنع لكون ذلك بيعًا وسلفًا (1). وأنكر سحنون هذا التّعليل، وقال: بل هو سلف جرّ منفعة. واعتذر بعض الأشياخ عن عبارة المدوّنة، فقال: المراد أنّه يكون تارة سلفًا وتارة بيعًا. إن لم يأت بالثّمن كان ذلك بيعًا، وإن ردّ الثّمن، كان ذلك سلفًا. ويكون على هذا التّأويل ¬

_ (¬1) المدونة ج 3/ ص 194.

حرف الواو ها هنا بمعنى أو، فالمراد أنّه بيع أو سلف على حسب ما صوّرناه. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: إذا أسقط البائع هذا الشّرط وأمضى البيع على أنّه لا حقّ له في السلعة إذا جاء بالثّمن، فإنّ في الموّازيّة أنّ البيع يصحّ بإسقاط هذا الشّرط. وأجرى إسقاط هذا الشّرط ها هنا مجرى إسقاط السلف في كون البيع يصحّ بإسقاطه في المشهور من المذهب. لكن ابن الموّاز لمّا حكى هذه الرّواية حكايته مطلقة تداركها بأن قال: إذا رضي المشتري بذلك. واستدرك عليه الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد هذا الاستدراك فقال: بعد فسخ العقد الأوّل، وتراضيهما بذلك. وقد كنّا قدّمنا في الكلام على صحّة البيع بإسقاط السلف أنّ هذا الشّرط المفسد للبيع فساده خارج عن الثّمن والمثمون، فلهذا صحّ البيع بإسقاطه، وبسطنا الكلام على هذا الوجه وما يتعلّق به. وها هنا قد لا يتصوّر في هذه المسئلة مثل هذا الاعتذار لأنّ الفساد ها هنا في نفس الثّمن، وكونه قد تخاطرا فيه بأن جعلاه تارة ثمنًا وتارة سلفًا. ويمكن أن يقدّر فيه أنّ البائع لو علم أنّه يعسر عليه ردّ الثّمن لم يبعها إلاّ بالأكثر مِمّا باعها به. ولو علم المشتري أنّه يشتريه بلا بدّ ما اشتراها به، فعاد التْخاطر ها هنا إلى نفس الثّمن. بخلاف فساد البيع الّذي قارنه السلف لكون الفساد هناك خارج عن الثّمن والمثمون كما تقدّم بيانه. وإذا لم يحاول الفرق بين المسئلتين، كان ما وقع من إطلاق القول في المّوازيّة أنّ هذا البيع يصحّ بإسقاط الشّرط يستغنى فيه عن استدراك ابن الموّاز. ويكون صاحب هذا المذهب رأى البيع لازمًا للمشتري وإن لم يرض. كما يلزم أيضًا البيع إذا أسقط عنه البائع السلف الّذي اشترط عليه. وإن جرينا على موجب هذا القول وصرفنا الفساد في هذه المسئلة إلى المخاطرة في الثّمن، احتيج إلى استدراك ابن الموّاز. ويقدّر أنّ المشتري لمّا رضي بإسقاط البائع لشرطه، صارا جميعًا كمبتدئيًا (¬1) عقدٍ استأنفاه على الصحّة، وعلى تراضيهما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، لعل الصواب: كمبتدئيْ.

بهذا، كالإبطال والتّفاسخ للعقد الأوّل. ويقدّر أنّ الشّيخ أبا محمّد بن أبي زيد أنّ رضا المشتري (¬1) بما أسقطه البائع من شرط لا ينوب عن ما يجب عليهما من فسخ العقد الفاسد، وإنّما محصول ما وقع منهما إمضاء البيع الأوّل مع إسقاط الشّرط الّذي قارنه، فلم يحصل منهما سوى إسقاط الشّرط، والعقد لم يتفاسخاه. وكان شيخي أبو محمّد عبد الحميد رحمه الله يشير في هذا الأصل إلى الاختلاف في البيع الفاسد، هل هو ليس بعقد لمّا ردّه الشّرع ولا ناقل للملك فلا يفتقر إلى حلّه، أو يقدّر أنّه حصل له شبهة العقد، فيفتقر لأجل ذلك إلى التّراضي بفسخه. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: قد أوقع في المدوّنة على هذا البيع تسمية كونه بيعًا. واعتلّ لفساده بأنه لا يجري مجرى الرّهان، بل يجري مجرى البياعات الفاسدة. وقد وقع في المستخرجة فيمن باع أرضًا على أنّه متى جاء بالثّمن ارتجعها، فبنى المشتري فيها أو غرس، أن ذلك فوت، والغلاّت للمشتري لكونه ضامنًا لها. لكن وقع أيضًا في رواية أخرى فيمن اشترى حائطًا فبنى فيه وحفر، أنّ الغلاّت له, لأنّ ضمانه منه، ويردّ الحائط على بائعه ويغرم البائع ما أنفق المشترى في البناء والحفر. فقد اتّفقت هاتان الرّوايتان على أنّ ذلك لا يجري مجرى الرّهان في الاغتلال ولا في الضمان. لكن اختلف في حكم ما أحدث المشتري فيها، فقيل: إنّه فوت، كما يكون ذلك فوتًا في سائر البياعات الفاسدة. وقيل: لا يكون فوتًا, لأنّ سائر البياعات الفاسدة تعاقد فيها البائع والمشتري على أنّ الملك يتأبّد للمشتري ولا يرجع إلى البائع. وها هنا دخلا على أنّ الملك لا يتأبّد للمشتري، بل هو موقوف على خيَرة البائع متى شاء ردّ السلعة إلى ملكه ودفع ثمنها. فوقع إحداث المشتري لما أحدثه. وهو يُجوِّز أن يكون البائع يرتجع ملكه، فصار كمسقط حقّه في التّفويت. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يرى أن رضا المشتري.

هذه الطّريقة في كون هذا العقد بيعًا هي المعروفة من المذهب. وحكي عن الشّيخ أبي الحسن القابسي، رضي الله عنه، أنّه أجرى ذلك مجرى الرّهان، واعتذر عنه بعض المتأخّرين بأنّه لمّا كثر عند أهل إفريقيّة، الّتي كان ساكنًا بها، القصدُ في هذا إلى إحكام الإرتهان بأن يقول أحد الرّجلين للآخر: أسلفني كذا، وأعطيك جناني تغتلّ منه ما أسلفتني (¬1)، فمتى جئتُ بما أسلفتني أخذتُ جناني. وهذا يتّضح فيه إجراء ذلك على أحكام الرّهان إذا علم أنّ قصد المتعاقدين على ذلك الارتهان لا التّبايع. وهكذا ذكر ابن شبلون، رحمه الله، أنّه مال إلى طريقة الشّيخ أبي الحسن رحمه الله. لكن نقل غير هؤلاء عن الشيخ أبي الحسن أنه فصّل القول في ذلك، فرأى أنّ هذا إذا ضرب فيه أجل، فإنّ هذا الحكمُ فيه أن يكون المبيع على هذه الصفة يجري مجرى الرّهان قبل الأجل في الضّمان والغلّة، ومجرى البياعات الفاسدة بعد ذهاب الأجل. وذكر الشّيخ أبو بكر بن عبد الرّحمان رحمه الله، أنّه قال للشّيخ أبي الحسن، كالمنكر عليه هذا التّفصيل: إنّ الرّواية في هذا أن الحكم لا يختلف، ضرب لذلك أجل أو لم يضرب، فكيف خالف (¬2) الرّواية؟ فقال معتذرًا عن ذلك: لابن حبيب في هذا شيء. يشير إلى موافقة ابن حبيب له في هذه الطريقة. وقد رأى بعض المتأخّرين أنّ هذا التّفصيل يشير إليه ذكره في كتاب الرّهن في المدوّنة فيمن ارتهن رهنا واستدان عليه دينًا إلى أجل على أنّ الرّاهن إن لم يأت بالدّين عند حلول الأجل فإنّ الرّهن يكون لقابضه بما ارتهن فيه. وقد ذكر في المدوّنة أنّه قبل الأجل يجري مجرى الرّهان، وبعد الأجل يجري مجرى البيوع الفاسدة (¬3). ومن المتأخّرين من منع من استقراء ما ذهب إليه الشيخ أبو الحسن من هذه المسئلة، وقال: فإنّ البائع سلعته، على أنّه متى جاء بالثّمن ارتجعها، أخرجها من ملكه، وشرط رجوعها إلى ملكه بأمر يفعله وهو إتيانه بالثّمن، فغلبت فيها أحكام ¬

_ (¬1) كذا, ولعل الأوْلى: بما أسلفتني. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خالفتَ. (¬3) المدونة ج 4/ ص 164.

البياعات الفاسدة. ومسئلة كتاب الرّهن أبقاها الرّاهن على ملكه إلى الأجل، وإنّما عقد على نفسه إخراجها من ملكه إذا حلّ الأجل. فشتّان ما بين من ألزم نفسه خروج السلعة من ملكه حتّى يرتجعها بفعل يفعله، وبين من أبقاها على ملكه لا تخرج منه إلاّ بفعل يفعله بعد ذلك. فإذا تقرّر حكم هذا البيع الّذي وقع في عقد هذا الاشتراط أنّه متى أعاد البائع الثّمن (¬1) أحقّ بما باع، فإنّ ذلك لو وقع بعد صحّة العقد وكونه عاريًا حين انعقاده من هذا الشّرط، فكان (¬2) ذلك جائزًا إذا قصد المشتري السلعة من غير شرط المعروف والإحسان إلى البائع، بأن يمكنه من الإقالة إذا أعاد الثّمن, لأنّ المقصود يحيل أحكام العقود. وهذا الاشتراط لم يقع عن معاوضة، لكن مجراه مجرى المعروف والهبات، فلم يمنع. لكن المبيع لو كان جارية مرتفعة، لم يحسن هذا فيها لكون المراد منها الوطء، ولأجل ذلك تشترى ولا يحسن وطء فرج وفيه حقّ لأحد. ولأجل هذا لم يحسن هذا الشّرط في هذه، بخلاف الوخش من الإماء وذُكْرَانِ العبيد وغير ذلك من العروض والسلع. وهذا الشّرط الواقع بعد العقد على جهة المعروف، إن وقع غير مؤقّت وباع مشتري السلعة هذه السلعة الّتي وعد البائع بردّها عليه إذا أعاد الثّمن عليه، إذا وقع ذلك قولًا مطلقًا غير مؤقّت بزمن محدود، فإنّه إن باعها المشتري قبل أن يعيد البائع الثّمن إليه، فإنّ بيعه ماض. وإن أجّل لهذا الوعد أجلًا، فإنّ أصبغ ذكر أنّه منهيّ عن بيعها قبل الأجل ومأمور بالوفاء بالشّرط. وظاهر كلامه عندي يقتضي ردّ بيعه. وإن كان بعض أشياخي رأى أنّ الأولى إمضاء بيعه، وإن أجّل لهذا الشّرط أجلًا, لأنّه ولو أجّله، لم يخرج التّأجيل عن أحكام المعروف. والهبة إذا بيعت، نفذ البيع فيها. وهذا الّذي أشار إليه يجري على الاضطراب الّذي في الهبة إذا بيعت على حسب ما ذكر في المدوّنة وغيرها مِمّا سنبسط القول فيه، إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كان أحقّ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لكان.

هذا حكم الشّرط في قسمين أحدهما اشتراطه مقارنًا لعقد معاوضة. والثّاني اشتراطه بعد البيع من غير معاوضة. لكن يتصوّر في هذا قسم آخر وهو مقارنة هذا الشّرط لعقد معاوضة وقع أيضًا على جهة المعروف. كالمشتري لسلعه استقاله بائعها، فامتنع أن يقيله إلاّ بشرط أنّه إن باعها بعد رجوعها إليه بحكم الإقالة، فإنّه أحقّ بها بالثّمن الأوّل. فإن هذا وقع في الرّواية الإشارة إلى أنّ له نقض البيع إذا باعها من رجعت إليه لكون المشتري المقيل إنّما قال (¬1) على جهة المعروف، فلم يمنع هذا لمّا لم يقصد به المخاطرة والمكايسة، ولم يسقط أيضًا حقّه في نقض هذه الإقالة إذا باعها المستقيل الّذي رجعت إليه، فإنّ المقيل أحقّ بها بالثّمن. فربّما أشارت هاتان الرّوايتان إلى اختلاف في هذا الأصل، هل يكون للمقيل، بشرط أنه أحقّ بها، نَقْضُ هذا البيع أم لا؟ ويمكن أن يقال: إنّه لمّا وقع الشّرط بأنّه أحقّ بها بما يبيعها به، أشعر ذلك بأنّ المراد كونه أحقّ بالثّمن الّذي سمّاه بخلاف قوله: إنّه أحقّ بها بالثّمن الّذي وقعت عليه الإقالة. هذا حكم البيع الواقع بعد حصول هذا الشّرط، وقد وقع الشّرط على جهة المعروف بعد انعقاد البيع أو مقارنا للإقالة الّتي قصد بها المعروف. وأمّا لو وقع البيع في العقد الذي قارنه الشّرط وعقد على المكايسة كما وقع في المدوّنة، لنفذ البيع في المشهور من المذهب لأنّه بيع صحيح عقد في سلعة بيعت بيعًا فاسدًا، وذلك مِمّا يفيت البيع الفاسد. لكن على طريقة سحنون الّذي يرى أنّ البيع الصحيح لا يفيت البيع الفاسد المجمع على فساده، ولا يقع الفوت بهذا البيع ها هنا إذا كان مجمعًا عليه عند من يرى خلافه (¬2). والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: ذكر في المدوّنة فيمن باع سلعة على أنّه إن لم يأت بالثّمن إلى ثلاثة فلا بيع بينهما، أنّ البيع ماض والشّرط باطل. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقال. (¬2) هكذا في النسختين. والمعنى غير واضح، فلعل في الكلام نقصًا أو تحريفًا. ولعله فلا يقع الفوت.

فيقال له: فرقٌ بين حكم هذا السؤال وسؤال من باع على أنّه متى أعاد الثّمن ارتجع المبيع، مع كونهما يجتمعان في أنّهما بيعان عقدا إلى غاية ينحل البيع عندها بأن يعيد هذا الثّمن أو يتأخّر هذا عن دفع هذا الثّمن. فيقال: أمّا بعض أشياخي، فيشير إلى أن لا فرق بينهما. ويُجري الاختلاف فيهما (من بعضهما بعضًا) (¬1). ويرى أنّ الشّروط الفاسدة إذا قارنت البيع يُختلف فيها، هل يمضي البيع ويسقط الشّرط، أو يفسخ البيع وشرطه، أو يخيّر من له الشّرط في إسقاط شرطه، فيمضي البيع، أو يتمسّك به، فيردّ البيع. وقد اختلف في هذه المسئلة أيضًا، فقيل: البيع فاسد. وقيل: هو كبيع الخيار يعتبر فيه الأمد، إلى غير ذلك مِمّا سنبسطه إذا أفردنا هذه المسئلة بالكلام عليها في كتاب البيوع الفاسدة، إن شاء الله تعالى. وقال قوم من الأشياخ: بينهما فرقان، وذلك أن من باع على أنّه متى أعاد الثّمن ارتجع المبيع، الملك ثابت له قبل البيع ثبوتًا مستقرًّا لا شكّ فيه. وهذا البيع الّذي عقد لم يخرج الملك من يده خروجًا محقّقًا لمّا صرَف حلّه إلى مشيئته، فمتى شاء حلّ هذا البيع، بأن يردّ الثمن، فصحّ أن يتسلّط الفسخ على هذا الملك الّذي انتقل على هذه الصفة. والّذي باع بشرط إن لم يأت المشتري بالثّمن انحلّ البيع، قد خرج من يده ملكه خروجًا لا قدرة له على استرجاعه، وإنّما جعل حلّ عقده وردّ المبيع إلى ملك بائعه إذا شاء أن يتأخّر بالثّمن. فكأنّه كبيع خيار العقد في أحد الجهتين، فبقي محلولًا في الجهة الأخرى. ولهذا قال بعض أصحاب مالك، رضي الله عنه إنّ هذا يجري مجرى بيع الخيار، ويعتبر في فساده وصحّته مقدار الأجل المضروب فيه. ويؤكّد هذا الفرق عند هؤلاء ما فرّق به مالك بين من جعل أمر زوجته بيدها إن تزوّج عليها، أو فعل فعلًا إيقاعه أو تركه بيده، فإنّ ذلك لا يفسد النّكاح ولا يؤثّر ضعفًا في ملكه للفرج حتّى يمنعه الوطءَ، بخلاف أن يجعل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

الأمرَ فيها موقوفًا على فعل يفعله غيره، وهو يترقّبُ (¬1) هل يوقع غيره ذلك الفعل أم لا؛ فإنّ هذا الشّرط يفسد النّكاح لمّا أضعف ملكه للفرج. ومن الأشياخ من سلك في الفرق طريقة أخرى، فقال: إنّ المشترط أنّه متى أعاد الثّمن ارتجع سلعتَهُ قد انتقد الثّمن انتقادًا فيه مخاطرة، كما بيّناه فيما تقدّم، ففسد البيع لأجل هذه المخاطرة. وهذه المسئلة الأخرى لم يقع فيها انتقاد، فيؤثّر ذلك فسادًا في العقد، على حسب ما كنّا أشرنا إليه في مسئلة البيع والسلف من افتراق الشّروط المؤثّرة في الثّمن والمثمون أو الّتي لا تؤثّر. وقدح بعضهم في هذا الفرق بأن قال: إن لم يثبت القدح في هذه المسئلة من جهة الثّمن، وانتقادِه على صفة فيها تخاطر ثبت من جهة كون البائع حابسًا للسلعة حبسًا منهيًّا عنه في أصل العقود. وسنبسط نحن الكلام على هذا الوجه إذا تكلّمنا على المسألة بانفرادها إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في الوطنية: يتوقف.

فصل في القرض الفاسد

فصل في القرض الفاسد واعلم أنّا كنّا قدّمنا في كتاب السلم القول في كثير من أحكام القرض ما يجوز منه وما لا يجوز، وحكم قرض الجواري، والخلاف في ذلك على ما شرحناه هناك من صفة الخلاف الواقع فيه. ولمّا ذكر في المدوّنة في كتاب بيوع الآجال جملًا من القروض الفاسدة وقدّمنا العذر على توخّينا ترتيب المدوّنة، ألحقنا بالفصل المتقدّم هذا الفصل. فالكلام في القرض الفاسد من وجوه أحدها أن يقال: 1 - ما حكم القرض إذا فسد وكان قائمًا؟ 2 - وما حكمه إذا فسد وكان قد فات؟ 3 - وهل يفسد من جهة اشتراط قضائه ببلد آخر؟ 4 - وهل يفسد من جهة اشتراط تعيين صفته؟ 5 - هل يجوز تصديق المقرض في مقدار القرض وما علة ذلك؟ (¬1) فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: قد قدّمنا أن الذّهب بالذّهب نسيئة ربا، وأنّ الشّرع عما عن ذلك إذا وقع على جهة القرض المرادِ به منفعة المتسلّف، لأجل ما في ذلك من المعروف والإحسان, والله سبحانه أمر بهما على الجملة. فإذا قصد دافع القرض منفعة نفسه خاصّة أو منفعة نفسه ومنفعة من أخذ القرض؛ فإنّ ذلك ممنوع، ومندرج تحت الرّبا الّذي ذكرنا. وهكذا ذكر ابن عمر رضي الله عنه لمّا قسم القرض إلى ما يراد به الأجر أو يراد به وجه آخذه أو يراد منفعة دافعه، فأشار إلى جواز الوجهين الأولين ومنع الثّالث لكونه ربا. وقد تقدّم ما يجوز من التطوّع في الزّيادة في القرض عند القضاء وما لا ¬

_ (¬1) هذا السؤال أجاب عنه بعد السؤال الرابع. وهو ساقط في النسختين.

يجوز في كتاب الصرف. وأمّا اشتراط المنفعة للدّافع نطقًا أو قصدُه لذلك وإن لم ينطق، فإنّه لا يجوز. لكن إن ثبت أنّه قصد منفعة نفسه ببيّنة شهدت عليه بذلك أو بتصديق القابض له في ذلك، فإنّ هذا القرض يفسخ. فإن انفرد أحدهما بدعوى ذلك وأكذبه الآخر، فإن كان الدّافع هو الّذي زعم أنّه قصد بالقرض منفعة نفسه بعد أن خرج ذلك من يده، فإنّه لا يصدق في ذلك ويتّهم أن يكون ندم على ما دفع وأراد استرجاعه من قابضه قبل حلول أجله. وإن كان المدّعي لذلك القابض ولم يقصده (¬1) الدّافع، فإنّه يردّ ما قبض من القرض، كاعترافه بأنّه وقع على وجه حرام، والحرام يفسخ. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: قد تقرّر فيما تقدّم أنّ سلف العروض أو المعاوض عنها على وجه فاسد يردّ قيمتها إن لم يمكن ردّ عينها. كما تقرّر أيضًا أنّ المقترض قرضا جائزًا يخيّر بين أن يردّ عين ما اقترض إن كان باقيًا على حاله، أو يردّ مثله لأنّ دافعه دخل معه على أنّه مكّنه من إفاتة عينه ليردّ مثلها، فإن شاء دفع المثل وصار كمن أفات العرض الّذي اقترض وإن شاء ردّ عين العرض لأنّ التّأجيل فيه إلى أن ينتفع به فيفيته حقٌّ له لا حقّ فيه لدافعه. ولهذا كان له تعجيل العرض إذا كان قرضًا قبل أجله. فإذا كان القرض فاسدًا وثبت ذلك وجب (¬2) فسخه، فوجدناه قد فات، فإنّ الأشياخ ذهبوا إلى إلحاقه بالبيوع الفاسدة الّتي يجب في فوتها إذا كانت عروضًا القيمة لا المثل، فغلبوا على هذا العقد لمّا فسد أحكام المعاوضة الفاسدة، فيكون الواجب القيمة كما وجب فيها. ويحصل الفوت بحوالة الأسواق كما حصل أيضًا فيها. وهذا يعارض بأن يقال: إذا كان الفساد من قبل الدّافع بأن يكون ثبت بأنّه قصد منفعة نفسه، وذلك قد يحصل فيه إخراج هذا العرض بهذا القصد الممنوع إلى أحكام ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: يصدّقه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ووجب.

البياعات الفاسدة، فالقابض لها (¬1) القرض إذا قبضه على أنّه قرض جائز، فإنّه لم يقبضه إلاّ على ردّ مثله إذا فات لا على ردّ قيمته. فلماذا ألزم خلاف ما دخل عليه، وأخذ بخلاف مقتضى اعتقاده، ورجع في ذلك إلى مقتضى اعتقاد الدّافع؟ وهذا لمّا عورض به الشّيخ أبو بكر بن عبد الرّحمان اعتمد في دفعه على قول مالك، رضي الله عنه، فيمن عقد نكاح امرأة فأدخل عليه أهلها أمة لهم فوطئها معتقدًا أنّها زوجته أنّ القيمة تلزمه في الأمة، كما تلزمه القيمة في وطء أمة حلّلها له مالكها، مع كونه لم يدخل على فساد ولا غرامة قيمة، لكن حكم عليه بمقتضى اعتقاد الدّافع لهذه الأمة لا بمقتضى اعتقاده. ورأى بعض الأشياخ المتأخّرين أنّ هذه المعارضة تتوجّه (¬2) في القرض وفي المسئلة الّتي استشهد بها الشّيخ أبو بكر بن عبد الرّحمان. وذهب إلى أنّ الصواب أن يجرَى كلّ واحد من هذين على مقتضى اعتقاده وقولِه. فيقضَى على القابض بالمثل لكونه موجَب اعتقاده، ثمّ يباع المثل ويدفع من ثمنه القيمة إلى الدّافع, لأنّ القيمة هي موجَب قوله واعتقاده. فإن قصر ثمن هذا المبيع على مبلغ القيمة، لم يكن للدّافع مطالبة بأكثر منها لحصوله على موجب اعتقاده، وإن زاد الثّمن على القيمة الّتي تجب على مقتضى اعتقاده، وقف ما زاد عن القيمة حتّى يرجع عن قوله: إنّ القرض كان فاسدًا، فيأخذ ذلك الموقف، أو لا يُرجع فيتصدّق به عمّن هو له. وهذه الطّريقة شديدة لكونها دافعة للمعارضة، وأخذا بمقتضى زعم هذين الرّجلين الدّافع والقابض أولًا ما ينظر فيه من يتولّى البيع وعلى من تكون العهدة، فهذا يفتقر إلى نظر آخر (¬3). وقد ذكر في المدوّنة حكم قرض الشّيء في مثله وسلم الشّيء في مثله، فاعتبر القصد. فإن كان من أسلف ثوبًا ليأخذ مثله أو أسلم ثوبًا في ثوب مثله، قصدُه منفعة نفسه، لم يجز ذلك. وإن كان القصد منفعة القابض، جاز ذلك. وقد كنّا نحن قدّمنا في أحكام السلم ما يشير إلى هذا ¬

_ (¬1) كذا في النسختين، ولعل الصواب: لهذا. (¬2) هكذا في النسختين، وسياق الكلام بعدُ يقتضي النفي: لا تتوجه. (¬3) من: وهذه الطريقة .... نظر آخر. هكذا في النسختين، والكلام مضطرب.

الأصل والاختلاف فيه. وقد منع ذلك ابن القاسم سلم ثوب في مثله على جهة المبايعة، وأجازه الوقار. ووقع أيضًا في المدوّنة اعتبار القصد في هذا على حسب ما حكيناه. وفي الموّازيّة تعقّب هذه العبارة بأن قيل لمن قال: أقرضتُ ثوبًا في مثله: ثقلتَ وأفسدتَ. ورأى أنّ حكم القرض تخيير القابض بين ردّ العين أو ردّ المثل. فإذا حصر الآمر (¬1) السائل إلى ردّ المثل، فقد أخرج القرض عن حكمه. وقد كنّا بسطنا الحكم في هذا في كتاب السّلم. وهل النّساء ممنوع في بيع العرض بمثله أو بأكثر منه من جنسه علّة في المنع لكون ذلك ربا؟ أو يمنع حماية للذّريعة لئلاّ يتحيّل على سلف بزيادة؟ فتارة اعتبرت ظواهر الألفاظ والبيع يفيد المكايسة والمتاجرة، وهذا المعنى لا يصلح في القرض. وتارة اعتبرت القصود لمّا كانت هذه العبارات ليست بعلَم على القصود يوثق به. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: لا يخلو القرض من أن يكون عينًا أو ما ليس بعين. فإن كان عينًا مثل أن يسلف دنانير أو دراهم ببلد على أن يُقبضه المتسلّف ذلك ببلد آخر، فإنّ هذا يعتبر فيه القصد. فإن قصد دافع القرض الإحسان بذلك إلى قابضه والرّفق به، جاز ذلك. وإن قصد أن يضمنه له قابضه لما يتخوّف من غرر الطّريق، فإنّ في ذلك قولين: أحدهما أنّ ذلك ليس بجائز والثّاني جوازه. وسبب الاختلاف في هذا أنّه قد تقرّر عندك ما قدّمناه مرارًا أنّ السلف المشترط فيه النّفع لا يجوز. فإذا اشترط زيادة على ما أسلف, فذلك نفع محسوس لا إشك الذي منعه. وإن لم يشترط زيادة ولكن تضمّن السلف من النّفع ما هو بمعنى الزّيادة، فإنّ ذلك ممنوع أيضًا، مثل ما صوّرنا في كتاب السلم وغيره من مسائل الرّبا الّتي يكون الرّبا محسوسًا ومعنويًّا مقدّرًا. وقد علم أنّ الطعام والعروض إذا أسلفها مالكها في بلد ليقبضها في بلد آخر، فإنّه يحصل له في ذلك منفعة حمل مؤنة الكراء أو مشقّة السفر بها عنه، ¬

_ (¬1) أي المُقرِض.

وأيضًا فيستفيد الأمنَ مِمّا يتخوّف عليها من الطّريق. وإذا كانت هذه منافع مقدّرة متصوّرة في الطّعام والعروض، وجب المنع. فإذا كان القرض عينًا، فإنّ العين لا يكرى على حمله ولا يشقّ السفر به، فارتفع فيه تقدير هذه المنفعة وهي مقصودة في الغالب، ويبقى النّظر في الانتفاع بالضّمان. فإن لم يقصد دافعه طلب ضمان قابضه له، لم يبق وجه يوجب المنع. وإن قصد الضّمان، وجب أيضًا المنع وهو المذهب المشهور. واقتضت أيضًا أحكام الضّرورة وصيانة الأموال وما يلحق صاحب المال من شدّة الضّرر في منعه من صيانة ماله أو الانتفاع به إلى التّرخيص في مثل هذا. ويرفع الحرج فيه كما سبق بيانه في كتاب الصّرف لمّا ذكرنا أنّ أحد القولين عندنا جواز أن يأخذ صاحب الذهب المكسور من صاحب السكّة ذهبًا مسكوكًا، ويدفع صاحب الذّهب المكسور إجارة الضّرب إذا اضطرّ صاحب المال لذلك خوفًا من أن تفوته رفقة أو غير ذلك. فكذلك ها هنا تبيح الضّرورة إلى صيانة هذا المال من غرر الطّريق هذا السلفَ، وإن قصد فيه هذه المنفعة، فيكون الطّعام والعروض أبعد عن التّرخيص فيه من العين لأنّ فيه مع حصول الضّمان والأمن من غرر الطريق رفعَ مؤنة العمل والكراء. لكنّه مع هذا قد وقع شاذّ في المذهب في التّرخيص فيه التفاتًا للضّرورة أيضًا. فأباح حمديس في مختصره للحاج أن يتسلّف طعامًا بشرط أن يقبض ببلد آخر، ومنع ذلك في المدوّنة إذا اشترط ذلك في أصل السلف وهو المشهور من المذهب. وقد يتصوّر أيضًا في قرض الحجاج هذا الطّعام أنّ القصد الرّفق والإحسان لقابض السلف، فيكون جواز هذا مبنيًّا على هذا القصد، كما قلناه في السفاتج، وهو قرض العين ليقضى ببلد آخر. وقد أباح في المدوّنة أن يقرض من له زرع شيئًا من زرعه لمن يتولّى حصده ودراسته، فإذا صار حبًّا قبض ذلك سلفًا إذا كان فاعل هذا لا يدفع له كبير مؤنة عن صاحب الزّرع لكونه محتقرًا في جانب زرعه. وهكذا أباح في كتاب ابن حبيب في سنة الشّدّة أن يقرض من له طعام قد ساس وقدم طعامَه هذا ليقضى طعامًا جديدًا سالمًا من السوس لما ظهر أنّ مثل هذا لا يقصد به المنفعة لدافعه بل لقابضه, لأنّ دافعه لو شاء لباعه في

زمن الغلاء بثمن كثير، ولم يؤخّره ليأخذ عنه قمحًا جديدًا يكون ثمنه أقلّ مِمّا يحصل للدّافع لو باعه في زمن الغلاء. فأنت ترى كيف سومح في هذا كلّه إذا قصد بالسلف الرّفق والإحسان. ونص على إباحة هذا في السفاتج إذا كان القصد الرفق والإحسان. ولكنّه أمران يضرب للسلف أجل. فإذا حلّ الأجل، استحقّ أخذه حيثما وجد المتسلّف له. فإن لم يضربا أجلًا، ضرب لذلك من الأجل مقدار مسافة البلد. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: منع في المدوّنة من أسلف رطلًا من خبز الفرن بشرط أن يأخذ في القضاء عنه رطلًا من خبز التنّور، وأباح أن يقضى عن الرّطل الّذي خبز في الفرن رطل مِمّا خبز في التنّور، إذا تحرّيا الصّواب. فأمّا وجه المنع من الاشتراط إذا تضمّن ذلك منعه (¬1) الدّافع، فإنّه واضح. وإن لم يتحقّق ذلك وتحقّق فيه حصول ربا النسا في العين أو الطّعام، فإن ذلك أيضًا يتّضح منفعة إذا كان بمعنى المبايعة. وقد ذكر في المدوّنة، في جواز قضاء هذا عن هذا إذا لم يكن بشرط في أصل السلف، التّقييدَ بتحرّي الصّواب. وهذا إنّما ذكره تنبيهًا على أحكام الرّبا، والوجه الّذي يعرف به التّماثل بين الطّعامين المخلص من الرّبا. وقد تقدّم في كتاب السلم في بيع العجين بالعجين أنّه لا يجوز متفاضلًا. وإنّما يعتمد في نفي التّفاضل على تحرّي ما في العجينين من دقيق، فإذا تساوى كيل الدّقيقين اللّذين عجنا، جاز مبادلة أحدهما بالآخر، على القول بجواز التّحرّي فيما فيه الرّبا، وأنّه يقوم مقام الكيل. وهكذا في الموّازيّة في سلف خبز مخبوز في الفرن يقضى عنه خبز تنّور، أنّ ذلك يتحرّى فيه الكيل. واستبعد بعض أشياخي هذا، فقال: إنّ الخبز قد صار بصنعته كصنف آخر، فجرى الرّبا بين الخبز والدّقيق لأجل أنّه كصنف آخر، والخبر مِمّا يوزن، فلا معنى للتحرّي بالكيل، ويعتبر فيه ما يستعمل في صنف آخر وهو الدّقيق، وقد حكمنا يكون الدّقيق كجنس آخر مخالف للخبز، فكيف يعتبر الرّبا ويحصل العلم على السلامة في شيء بما يستعمل في جنسٍ خلافه يجوز الرّبا بينه وبينه، ولكن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منفعة.

ينبغي أن يتحرّى الوزن. ولكن تحرّيه لا يمكن إلاّ بأن يتحرّى وزن الدّقيق الّذي خبز منه خبز الفرن، والدّقيق الّذي خبز منه خبز التنّور، لكون الوزن إن اعتبر تساويه في موازنة الخبزين، لكان ذلك لا يوثق به، لكون أحد الخبزين يكون فيه من الماء أكثر من الآخر، فيوقع هذا في التّفاضل، فدعت الضّرورة إلى اعتبار وزن الدّقيقين وإن كان الدّقيق مِمّا يكال، فجعل ها هنا مِمّا يوزن اتّباعًا لحكم الخبزين المطلوب التّساوي بينهما. فبهذا يعلم التّماثل بين الخبزين ويؤمن مِمّا يوقع فيه اختلافُ ما عجنَا به من اختلاف مقدارهما. وقد كتب ابن اللّبّاد بخطّه على هذه المسئلة أنّ سحنونًا قال: كلّ ما يوزن فلا بأس بالتّحرّي فيه. وهذا يمكن أن يكون أشار إلى الالتفات إلى هذه الطّريقة أو إلى القدح في جواز التّحرّي في هذا وربّما كان هذا أظهر. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: كنّا قدّمنا في كتاب السلم الثّاني الكلام على جواز التّصديق فيما يشترى من الطّعام. ونحن نشير إلى ذلك ها هنا على الجملة. فالطّعام المقترض لا يجوز اقتراضه على تصديق دافعه في كيله. واختلف في تعليل ذلك، فقيل: لأنّه يقع فيه المخاطرة، فيأخذ قفيزًا من قمح على أنّه يردّ قفيزًا، مع تجويزه أن يكون دافع الطّعام القرضِ كذَبَ في كيله، فقد ضمن ردّ مكيلته معلومة وهو لا يعلم: هل حصلت له أو أكثر منها أو أقلّ؛ وهذا نوع من الغدر والمخاطرة، وذلك يقتضي المنع. وقيل: إنّما ذلك لأنّه قد يجد قابض الطّعام نقصًا، فلا يطلبه رجاء أن يكون دافع الطّعام يؤخّر به ويحسن في اقتضائه، فيكون ذلك كهديّة المديان. وسنذكر وجه منعها، وكذلك علّة النّهي في المنع من شراء الطّعام بثمن إلى أجل على تصديق بائع الطّعام في كيله. وأشار ابن حبيب وابن عبدوس إلى أنّ علّة المنع المخاطرة بالتزام ثمن عوضًا عن مكيلة لا يتحقّق مبلغها، فكأنّه قبضها والتزم الثّمن مخاطرًا في العوض عنه.

وكذلك أيضًا يجري فيه التّعليل الآخر لهديّة المديان لأنّه إنّما يشتري بالنّسيئة عند شدّة حاجته وضرورته، فتمنعه هذه الحاجة والضرورة من القيام مخافة أن يسيء البائع اقتضاءَه في الثّمن. وقد قدح (¬1) بعض المتأخّرين في تعليل من علّل منع التّصديق في القرض على أنّ قابضه مصدّق في كيله مع تجويز أن يجد نقصًا، فيتجاوز عنه رجاء التّأخير. وهذا عندي قد ينفصل عنه بأنّ التّصديق إذا أسلم (¬2) البائع بخوف المشتري أو المقترض خصام الدّافع وتكذيبه لئلاّ يوحشه فيسيء اقتضاءه، وهذا هو الغالب في العادة أنّ تكذيب الدّافع المتفضّل بالقرض أو الّذي هو كالمتفضّل ببيع النّسيئة مِمّا يؤدّي إلى الشّنئان. وإذا كان مالك الطعام سلّمه على تصديق المقترض أو المشتري، فإنّه لم تدعه ضرورة إلى هذا التّصديق فيلتزمه لأجل الضّرورة، ولولا أنّه يشق لمن سلم ذلك إليه ورضي بما يقول لما دخل معه على تصديقه. ألا ترى أنّ مالكًا أباح شراء الطّعام على التّصديق إذا بيع بالنّقد لكون قابضه لا يتخوّف غالبًا من جهة البائع. ومنع منه إذا كان يشتري بالنّسيئة لما يتخوّف مشتريه من بائعه إذا أساء إليه. وقد قال بعض الأشياخ: إنّ القرض إذا وقع على تصديق قابضه، لم يفسخ. وقال أبو بكر بن عبد الرّحمان فيمن اشترى طعامًا بثمن مؤجّل على تصديق قابضه: إنّ ذلك يفسخ. قال: وقد كره التّصديق فيه، وإن بيع بالنّقد، فكيف بالنّسيئة؟ ولمّا سئل مالك عن علّة منع التّصديق في بيع الطّعام نسيئة، فقال: يدخل ذلك أمور شتّى ولم يفسرها. وقد ذكرنا نحن ما قيل فيها، كما كنّا قدّمنا في كتاب السلم التّعليل بأنّ الله سبحانه ندب إلى رفع التّشاجر والخلاف، ولهذا أمر بالإشهاد في التّبايع، وبسطنا القول فيه هناك. ¬

_ (¬1) في الوطنية: خرّج. (¬2) هكذا في النسختين.

فصل في هدية المديان

فصل في هديّة المديان اعلم أنّا كنّا قدّمنا مذاهب العلماء في قوله: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1). وذكرنا هناك أنّ الجاهلية كانت تقول: تقضي أو تربي. والمعنى أنّ من كان له دين قد حلّ، طلب به من هو عليه، فإمّا أن يقضيه أو يؤخّره عليه بزيادة يزيدها فيه. وقدّمنا أيضًا في هذا الكتاب الدّلالة على صحّة القول بحماية الذّرائع. فإذا كان على رجل دين فأهدى هديّة لمن له الدّين، اتّهم أن يكون قصد بذلك أن يجعل ما سمّاه هديّة عوضًا عمّا يرجوه من تأخير الغريم. وقد قدّمنا أنّ تأخير الدّين بزيادة فيه حرام، وأنّه ربا الجاهليّة. لكن إذا ظهر دليل يرفع هذه التّهمة، لم يمنع من ذلك. مثل أن يكون من عليه الدّين قد اعتاد متاحفة من له الدّين قبل أن يداينه، وبينهما من الوُصلة ما يعلم أنّ الهديّة لأجل ما بينهما من وصلة لا لأجل رجاء تأخير الدّين. واختلف المذهب على قولين في جواز مبايعة أحدهما الآخر قبل حلول الأجل. فأجيز ذلك لأنّه عن معاوضة، وكون ذلك من معاوضة يمنع من تصوّره هبة. وكره أيضًا مخافة أن يقع التّسامح في المعاوضة، فتكون تلك المسامحة كالهديّة رجاء تأخير الدّين. وينبغي أيضًا أن يلتفت إلى قرائن الحال. فإن ظهر ما يدلّ على قصد التّأخير، فسخنا البيع، وإن ظهر ما يدلّ على السلامة منه، أجزنا البيع. وكذلك إذا وقعت المبايعة بعد حلول أجل الدّين، فإنّا لا نجيز ذلك. ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 275.

وذلك آكد في التّهمة لكون الدّين قد وجب على من هو عليه قضاؤه. وقد أجرى ذلك عطاء في القراض، فمنع قبول الهديّة فيه. وهذا لا يخلو أن تكون الهديّة ومال القراض ناضّ أو في سلع. فإن كان ناضًا، فإنّه يتصوّر فيه علّة المنع, لأنّه يهدي إليه رجاء أن يقرّ ذلك في يديه أو تكون الهديّة من ربّ المال، ويفعل ذلك رجاء أن يخدمه فيه، فيصير ذلك كزيادة ينفرد بها ربّ المال أو العامل. وقد تقرّر أنّ اشتراط زيادة في القراض لا تجوز. واختلف المتأخّرون إن كان مال القراض قد شغل في سلع، يكره ذلك لتصوّر التّهمة في كون الهديّة تمادي العمل، أو لا تتصوّر التّهمة لكون العمل قد لزم المتعاقدين جميعًا. وينبغي أيضًا أن يلتفت إذا كان المال ناضًا إلى الخلاف في القراض، هل لأحد المتعاقدين الرّجوع عنه قبل أن يشرع في العمل فتكون الهديّة كزيادة مشترطة في العقد. أو العقد لازم بالقول فيصير ذلك كما لو شغل مال القراض. قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: ويجوز اقتضاء الذّهب من الورق، والورق من الذّهب إذا حلاّ وتطارحاهما صرفًا (¬1). قال الشّيخ رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ستّة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما أنواع وجوه المقاصّة؟ 2 - وما الأصناف الّتي يقع المقاصّة بها؟ 3 - وما حكم المقاصّة بالطّعامين؟ 4 - وما حكمها بالعرضين؟ 5 - وما حكمها بالعينين؟ 6 - وهل تتطرّق التّهمة منها إلى أصل المداينة؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: المعتبر في أنواع المقاصّة جنس ¬

_ (¬1) ط. المغربية: 111. ط. مكة المكرمة، 2: 378.

الدّينين، هل يتساويان، أو يختلفان؟ وسببهما وأجلهما؟ فاعتبار الجنسين بأن ينظر في الدنانير (¬1) إذا كانا طعامين، هل هما من صنف واحد كقمح سمراء وقعت المقاصّة به عن قمح سمراء، وسبب الدّينين مثل أن يكون الطّعامان جميعًا سلمين أو قرضين، أو أحدهما سلمًا والآخر قرضًا، وأجلهما يعتبر، هل يكون متّفقًا أو مختلفًا أو حلّ أو لم يحلّ، أو حلّ أحدهما؟ وهكذا يجري التّمثيل فيما سوى الطّعامين. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: الأصناف الّتي تقع المقاصّة بها: طعامان أو عرضان أو عينان. وكل واحد من هذه الأنواع ينقسم إلى ما تقدّم من اعتبار الجنسيّة والسببيّة والأجلية (¬2). ونحن نتكلّم على كلّ فصل من هذه الأنواع. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: إذا كان لرجل على رجل طعام، وللآخر عليه طعام، فلا يخلو أن يكون الطّعامان متماثلين في الجنس والصفات، أو مختلفين. ويكون أيضًا سببهما وأجلهما متماثلًا أو مختلفًا. فإن تماثل الطّعامان في الجنس والصفة، فلا يخلو أن يكونا سلمين أو قرضين أو أحدهما سلمًا والآخر قرضًا. فإن كانا سلمين واختلفت رؤوس أموالهما بالجنسيّة أو بالقلّة والكثرة، منعت المقاصّة على الإطلاق. وإن تساوى رأس المال فيهما في الجنس والمقدار، فهاهنا قولان: منع ذلك في المدوّنة، وأجازه أشهب. وينبغي أن نقدّم لك ها هنا مقدّمة منها تعلم سبب الاختلاف في هذا الباب وسبب الوفاق. فاعلم أنّ هذه المقاصة وإن كان ظاهرها الجواز، فربّما أوقعت في محرّم. والجائز إذا أوقع في محرّم منع. والمحرّم ها هنا بيع الطّعام قبل قبضه، وبيع الطّعام بالطّعام نسيئة، والدّين بالدّين. فإذا كان لهذا على هذا طعام ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الدينين. (¬2) في الوطنية: المحلية، وهما بمعنى.

من سلم وللآخر عليه مثله، فتتاركا على المباراة، فإنّ كلّ واحد منها لم يخرج من ذمّته ومن تحت ذمّته ما يقتضيه، ولكنّه باع ماله بما عليه لمن اشترى ذلك منه، صورة ممنوعة وهي بيع الطّعام قبل قبضه. وأيضًا إنّه إذا لم يقع التّناجز في ذلك، دخله النّساء في بيع الطّعام، والدّين بالدّين. لكن إنّما تتحقّق هاتان العلّتان بعد تحقّق البيع، والبيع ممنوع. ويصحّ أن يُجتزأ به في المنع من المقاصّة. لكن علم أنّ الإقالة رخصة مستثناة من بيع الطّعام قبل قبضه. ولكن من شرْط جوازه أن يكون برأس المال جنسًا ومقدارًا. وإذا اختلف الثّمن في الإقالة، خرجت عن قصد المعروف الّذي هو سبب جوازها والتّرخيص فيها إلى حدّ المبايعة والمكايسة، فبقيت في المنع على الأصل. والذّمم قد تختلف في الغنيّ والفقير، فتقع المكايسة في المقاصّة لأجلا اعتقاد كلّ واحد من هذين المتعاملين في ذمّة صاحبه. ولو كان لرجل على رجل طعام مؤجّل، لجاز تعجيله، ولم يحمل ذلك على المكايسة لما كانت ذمّة واحدة فيها هذا الدّين المؤجّل، ثمّ صار معجّلًا. بخلاف ذمّتين يختلف حالهما في حين المقاصّة. فإذا تساوت رؤوس المالين في المسلمين، جازت المتاركة على معنى الإقالة. فإذا كان هذان قادرين على المتاركة بالتّقايل ولا يتّهمان على العدول إلى ما لا يجوز، مع كونهما لهما سبيل إلى اجتنابه لفعل ما يجوز. ورأى ابن القاسم أنّ هذا لمّا لم يقصد به الإقالة تُصوّر فيه حقيقة المبايعة مع اختلاف الذّمّتين اللّتين وقع التّبايع بما فيهما، فمنع ولم يجر مجرى الإقالة. وإن تساوى السبب أيضًا ولكنّهما طعامان متماثلان قرضًا (¬1)، فإنّ المقاصّة جائزة على الإطلاق، تساوى الأجل أو اختلف حلّ الأجل أو لم يحلّ، وهذا لأجل بيع الطّعام القرض قبل قبضه جائز. فارتفعت هذه العلّة الّتي تصوّرت في السلم، فمنعت منه، فجاز ذلك في القرض. وأيضًا فإنّ طريقه المعروف والرفق، وما كان هذا شأنه لا يتطرّق إليه من التّهم ما يتطرّق إلى ما ¬

_ (¬1) في المدنية: قرضان.

طريقه المكايسة. لكن قد ذكر اختلاف في جواز المقاصة بين ذهبين متساويين في الجنس والسكّة. وأجاز ذلك في المدوّنة على الإطلاق، ومنعه ابن نافع إلاّ بشرط أن يحلّ أجل الذّهبين، وروي أيضًا عن مالك منعه إذا اختلف الأجل، وتوقّف فيه إذا تساوى الأجل على ما سنذكره بعد هذا. فبعض الأشياخ يجري هذا الخلاف الّذي ذكرناه في جواز المقاصّة بين ذهبين وفي جواز المقاصّة بين طعامين قرضين لكون الذّهب يجوز بيعه قبل قبضه، والطّعام يجوز بيعه قبل قبضه إذا كان قرضًا، ولا يحلّ النّساء في بيع الذّهب بالذّهب والطّعام بالطّعام. ورأى إجراء الخلاف المذكور في الطّعامين بأن يكون أحدهما من قرض والآخر من سلم. فمذهب ابن القاسم المنع إلاّ بشرط أن يحلّ أجل الطّعامين جميعًا. واختلف قول أشهب، فروي عنه الجواز إذا حلاّ جميعًا أو حلّ أحدهما. وروي عنه التقييد في ذلك بأن يكون الّذي حلّ منهما هو السلم. وأجاز ابن حبيب المقاصّة إذا اتّفق الأجلان وإن لم يحلاّ جميعًا. وقد قدّمنا لك من التّنبيه على علل المنع والجواز في هذا الباب ما يجري في هذا الخلاف. وذلك أنّا ذكرنا أنّ الطّعامين إذا كانا سلمين، منعت المقاصّة من أجل أنّ كلّ واحد منهما بُني الأمر فيه على المكايسة وقصد المبايعة. وإن كانا قرضين جازت المقاصّة لكون كلّ واحد منهم ابن ي على المعروف، فإذا افترق حالهما في هذا، فكان أحدهما، وهو السلم، بني على المكايسة، والطّرف الآخر، وهو القرض، بني على المعروف. فغلّب ابن القاسم حكم المعروف على حكم المكايسة بشرط أن يحلاّ, لأنّهما إذا حلاّ، ارتفعت الأغراض، وإذا كانا لم يحلاّ أو حلّ أحدهما، تصوّرت الأغراض لأجل اختلاف الذّمم، فوجب المنع. ورأى ابن حبيب تغليب حكم المعروف، فأجاز ذلك وإن لم يحلّ إذًا الآجال (¬1) لتقارب الأغراض مع تساوي الآجال. ورأى أشهب أنّ بحلول أحدهما يمنع من تصوّر تباعد الأغراض, لأنّ ما حلّ قد أُمِن على الذّمّة فيه، وما لم يحلّ، فإنّه وإن لم يؤمن على الذّمّة فيه، فإنّه لا يقابل هذا التّخوّف على الذّمّة التخوّفَ على ذمّة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإن لم يحلاّ إذا اتفقت الآجال.

أخرى. ورأى مرّة أخرى أنّ الأجل في السلم حق لهما جميعًا، فلا يجبر من هو عليه على تعجيله قبل أجله، ولا من هو له على قبوله قبل أجله، فصار عدم الحلول يوجب قصد المكايسة منهما جميعًا لكون الأجل فيه حقًّا لهما، فاعتبر حلولهما خاصة. والقرض الآجل حقّ لمن هو عليه لا لمن هو له، فلم يتّضح اختلاف الغرض فيه لكون الأجل حقًّا لواحد منهما دون الآخر، بخلاف السلم الّذي الأجل فيه حقّ لهما جميعًا. هذا حكم الطّعامين إذا كانا متماثلين. ولو كانا جنسين وقد حلاّ جميعًا، فإنّ ذلك يمنع، إلاّ أن يكونا من قرضين. لأنّه إذا كان لأحد الرّجلين على الآخر قمح، ولهذا عليه تمر، فإنّ المقاصّة بين التّمر والقمح ليست مقاصّة على الحقيقة، وإنّما هي بيع طعام بطعام فيهما الأغراض (¬1) فمنع، إلاّ أن يكونا حلاّ جميعأوهما من قرض، فإنّه ترتفع علل المنع إذا تناجزا في التّقابض. وقد علم أنّ بيع القرض قبل قبضه جائز. وأمّا إن لم يحلاّ جميعًا، فإنّ ثبوت الأجل فيهما أو في أحدهما يقتضي النّساء والتّأخير في بيع طعام بخلافه. وقد علم أنّ من شرط بيع الطعام التّناجز كالصرف، وحصول الأجل فيهما أو في أحدهما يمنع التّناجز. هذا هو الطّريق المشهور من المذهب. لكن إذا قلنا: إنّ المقاصّة القصد بها المتاركة والمباراة لا مبايعة منسي بمنسيّ، وأنّ ما في الذّمم من المؤجّل كالحال، اقتضى هذا جواز ما منعناه في هذا الوجه لأجل علّة النّساء. وهكذا إذا جرى فيما تقدّم من المسائل اقتضى جواز كثير مِمّا منعناه فيما تقدّم وما نمنعه في ذلك مِمّا يعدّ إذا كان علّة المنع النّساء والتأّخير. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أمّا العروض، فإنّ التّقاصص فيها يتنوّع إلى ما ذكرناه من اختلاف الآجال واختلاف الأسباب. فإذا كان لرجل على رجل عروض وللآخر عليه مثلها في الجنسيّة والصفة، فإنّ المقاصّة بينهما جائزة ¬

_ (¬1) أي: تختلف فيهما الأغراض.

على الإطلاق من غير التفات إلى تماثل الآجال واختلافها أو تساوي الأسباب واختلافها. وهذا لأنّه لا غرض ها هنا يقتضي التّهمة على القصد على الوقوع في إحدى المحرّمات الّتي تقدّم ذكرها, لكون المتاركة ها هنا والمباراة لا يظهر فيها قصد إلى المكايسة والمغابنة في التّعاوض، لكون كلّ واحد منهما إنّما أعطى مثل ما أخذ سواء بسواء، فكأنّهما لم يتعاوضا، وإذا قدّر كذلك، فلا يتصوّر القصد إلى التّحريم الّذي اعتبرناه في المعاوضة. ولا يتصوّر في هذا من ناحية اختلاف الآجال أيضًا, لأنّ كلّ واحد منهما يقدّر فيه أنّه إن حلّ الأجل، وهو موسر، فإنّه يؤخذ بقضاء ما عليه. وإن حلّ، وهو معسر، فإنّ الطّالب له حبس ما عليه فيما له عنده. وهو أيضًا يوجب أن لا يلتفت لاختلاف الأسباب من كون الدّينين من بيعين أو من قرضين أو أحدهما من قرض والآخر من بيع، لما قدّمناه من أنّ التّماثل يرفع تصوّر اختلاف الأغراض من ناحية الآجال، فكذلك يرفعها من ناحية اختلاف الأسباب. وأمّا إن اختلف جنسا العرضين مثل أن يكون أحدهما أكسية والآخر أردية، فإنّ الآجال ها هنا إذا اتّفقت، جازت المقاصّة، لكون اتّفاق الآجال يرفع تصوّر القصد إلى المكايسة كما رفعها تساوي العرضين في الصفات. فإذا تماثل العرضان -لم يلتفت إلى اختلاف من ناحيتين بأن تختلف الأجناس وتختلف الآجال- لم تجر المقاصّة إلاّ بشرط أن يحلّ الدّينان جميعًا, لأنّهما إذا حلاّ جميعًا، صارا بحلولهما كمتّفقي الأجلين في مبدإ المعاملة، وارتفع بحلولهما القصد إلى المكايسة. واختلف المذهب إذا حلّ أجل أحدهما، ففي المدوّنة جواز المقاصّة، وقدّر أنه بحلول أحدهما، ارتفع قصد المكايسة فيه، وما يقع في النّفس من التخوّف على الدّين قد أمن منه في جانب ما حلّ، فضعفت التّهمة بالقصد إلى المكايسة. بخلاف أن لا يحل واحد منهما لأنّ المكايسة دائرة فيهما من الطّرفين جميعًا. وفي الموّازيّة المنع من هذا وإن حلّ أحدهما لأجل ما يتصوّر في الّذي لم يحلّ من القصد إلى المكايسة والمخاطرة فيه لكونه مؤجّلًا. هذا حكم المقاصّة بالعرضين المختلفين بالأجناس والمتّفقين في الأجناس والصفات.

وأمّا العرضان المتّفقان في الجنسيّة المختلفان في الصفة، فإنّ أجليهما إذا اتّفقا جازت المقاصّة، لما قدّمنا من كون اتّفاق الآجال يضعف مع (¬1) التّهمة بالقصد إلى المكايسة. وأمّا إن اختلفت الآجال ولم يحلاّ، فإنّك تلتفت ها هنا إلى تنوّع الأسباب، فإن كان الدّينان من مبايعة منعت المقاصّة إذا كان أحد الدّينين أجود من الآخر, لأنّا نمنع في العرض إذا كان دينًا مؤجّلًا أن يعجّل ما هو أدنى منه، لأنّ ذلك وضع على تعجيل، وقد قدّمنا المنع منه، أو يعجّل ما هو أجود منه، لأنّ ذلك معاوضة على طرح الضّمان كما تقدّم بيانه في موضعه. وكذلك إذا كانا من قرضين، فإنّ أحدهما إذا أخذ أجود من الآخر، صار من قِبل الأدنى من حقه رضي بتعجيل على إسقاط بعض حقّه، وقد قدّمنا أنّ ذلك لا يجوز. وإن كانا مختلفي الأسباب أحدهما من بيع والآخر من قرض، فإن كان ما حلّ منهما أو ما هو أقرب حلولًا هو القرض، لم تجز المقاصّة على حال, لأنّ الّذي حلّ أو كان الأقرب حلولًا إن كان خيرًا من المبيع، فقد حطّ الضّمان الّذي يجب عليه في السلم على ما بذله من زيادة جودة القرض الّذي له. وإن كان القرض الّذي حلّ هو الأدنى، فقد وضع من السلم، الّذي له، على أن عجّل. وأنت إذا علمت أنّ ما يُوقع في ضع وتعجّل، أو حطّ الضّمان وأزيدك، ممنوع، اعتبرت فيما يكثر تعداده من هذه الأقسام كونَ ما حلّ، أو كان أقرب حلولًا كالمقبوض المدفوع عن الدّين الآخر الّذي يتأخّر حلوله، فيعتبر هل يوقع في أحد هذين الوجهين الممنوعين، فيمنع منه؟ وقد علمت أنّ ما كان من العروض سلفًا في الذّمّة يمنع تعجيل ما هو أجود منه في الصفة أو أدنى، وما كان قرضًا يمنع من تعجيل ما هو أدنى منه في الصفة لِمَا تصوّر فيه من وضع بشرط التّعجيل، إذ لا يلزم من عليه القرض أن يعجّله قبل أجله إلاّ برضاه، ولا يمنع تعجيل ما هو أجود منه في الصفة لكون من عليه القرض له أن يعجّله وإن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف مع.

كره ذلك من له القرض. فإذا كان ذلك من حقّه، فلا يفتقر إلى أن يبذل زيادة ليرضى من له الحقّ بقبوله منه. ونبّهناك أيضًا على أنّ الأجلين وإن لم يحلاّ، فإنّه يعتبر فيهما الأقرب حلولًا، فيقدّر أنّه كالحال. ثمّ تتفقّد فيه هذه الوجوه الممنوعة في القرض والبيع من وضع على تعجيل. ويفترق حكم البيع والقرض في زيادة عوض الرّضى بقبول التّعجيل، فيمنع ذلك فيما كان بيعًا، ويجوز فيما كان قرضًا. ويعتبر أيضًا في القرض وجه آخر وهو كونه قد زيد في عدده على أصل القرض، فإنّا كنّا قدّمنا أنّ قضاء القرض لا تمنع منه الزّيادة في جودة الصفات ويمنع منه الزّيادة في العدد في المشهور من المذهب. وذكرنا ما فيه من الاختلاف فيتفقّد أيضًا ها هنا، هل توقع المقاصة في زيادة من اقترض في عدد ما اقترض فيمنع على المذهب المشهور أم لا؟ فتستعمل هذه النّكت في المقاصّة بالدّينين الّلذين حلاّ، أو لم يحلاّ، أو أحدهما أقرب حلولًا، أو حل أحدهما دون الآخر، وهما قرضان أو بيعان، أو أحدهما قرض والآخر بيع. فلا تنفك مسئلة من هذه الأقسام من اعتبار ما نبّهناك عليه مِمّا منع أو يجوز. ويتصوّر أنّ الّذي حلّ أو كان أقرب حلولًا، كأنّه عجّل عن الدّين الآخر المتأخّر، فيعتبر في صفة التّعجيل ما قدّمناه من التّنبيه على ما يجوز وما لا يجوز. وما نبّهنا عليه من منع الزّيادة في عدد ما يقضى في القرض لا الزّيادة في جودته. واعلم أنّ في المدوّنة (¬1) ذكر في المقاصّة بذهبين متساويين في الجنسيّة والصفة، مختلفين في العدد، وهما قرضان، أنّ ذلك يمنع، قولًا مطلقًا. وكان بعض أشياخي يعتبر في هذا أجل المداينة في القرض، فإن ما اقترض (¬2) أوّلًا أقلّ عددًا، أو ما اقترض بعد ذلك أكثر عددًا، منعت المقاصّة، وقدّر أنّ المقاصّة ¬

_ (¬1) في نسخة المدنية: الموازية. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإن كان ما اقترض.

كاللّغو، والقضاء إنّما تصوّر حين الاقتراض الثّاني. فكأن من اقترض أولًا سبعين دينارًا، ثمّ اقترضه من له ذلك عليه مائة دينار، فإنّ ذلك كالقضاء عن القرض بزيادة عدد فيه، وذلك ممنوع. وظاهر نقل أهل المذهب اعتبار الزّيادة في العدد حين المقاصّة من غير التفات إلى زمن أحد القرضين. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا كان لرجل على رجل دنانير، وللآخر عليه مثلها في السكّة والجودة والوزن، فإنّ المقاصّة بينهما جائزة على الإطلاق، في المشهور من المذهب، من غير التفات إلى اختلاف أسباب الدّين ولاختلاف (¬1) الآجال، لما قدّمناه في القرضين من كون اتّفاقهما في الجنسيّة والصفة توجب ألاّ يلتفت إلى الاختلاف في الآجال. فإن اتّفقت، فإنّه سئل عن ذلك فقال: هاه، إشارة إلى ترخيص في هذا مع تردّد فيه. وهذا الخلاف الّذي ذكرناه عن ابن نافع وعن رواة أشهب أجراه بعض أشياخي في المقاصّة بالقرضين إذا اتّفقا. وأمّا إن كان العينان مختلفي الجنس كدنانير على رجل، وله على الآخر دراهم، فإنّ المقاصّة لا تجوز إلاّ بشرط أن يحلاّ على حسب ما ذكره القاضي عبد الوهاب ها هنا فيما نقلناه عنه وبسطناه هذا البسط. وأشار من لقيته من الأشياخ وبعض من تقدّمهم من أشياخهم على أنّ جميع ما قدّمناه فيما منعناه من المقاصّة في سائر هذه الأقسام، يتخرّج جوازه على القول بأنّ ما في الذّمم حكمه، كحكم المقاصّة، حكمُ ما حلّ. لأنّ القصد على هذه الطّريقة بالمقاصّة المتاركة والمباراة من الطّلب لا التّعاوض من دين بدين حتّى ينظر في ذلك إلى ما يحلّ ويحرم من الوجوه الّتي قدّمناها. وإذا كان هذا هو القصد بالمقاصّة وخرجت عن حكم المعاوضة على هذا المذهب، لم يمنع منها إلاّ ما يمنع من المقاصّة بدينين حلاّ جميعًا لوجه يقتضي المنع من ذلك مع حلول الدّينين جميعًا. وأنت ينبغي أن تجري ما قدّمناه من التّنبيه لك في المقاصّة بالعروض من اعتبار الوقوع في ضع وتعجّل، أو الزّيادة في عدد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولا اختلاف.

القرض في مسائل المقاصّة بالذهبين المتساويين. لكن تعلم أنّ الذّهب لا يدخله حطّ الضّمان على زيادة, لأنّ من هو عليه له تعجيله. ويدخله ضع وتعجّل، كما يدخله المنع من الزّيادة في عدد القرض في القضاء، على حسب ما تقدّم تفصيله، وذكر ما وقع فيه من الرّوايات وما قاله بعض أشياخي. وقد أشار بعض الأشياخ إلى أنّه يجب جواز المقاصّة بالعرضين إذا اختلف جنسهما واتّفق أجلهما, ولكنّه لم يحل أجل واحد منهما. كما منع المقاصّة والمطارحة بذهب عن فضّة إذا لم يحلاّ وإن اتّفقت آجالهما. وأشار إلى أنّه قد يفرّق بين السؤالين بأنّ الدّين الواحد المؤجّل يجوز أن يؤخذ عنه قبل أجله جنس آخر مخالف له، إذا كان الدّين وما أخذ عنه من العروض الّتي يجوز قضاء بعضها عن بعض. ويمنع في الدّين الواحد، إذا كان دنانير أو دراهم، أن يأخذ أحد النّوعين من هذين عوضًا عن الآخر إذا لم يحلّ الأجل. وهذا لا يتّضح إلاّ بأن يقال فيه: إنّا إذا أجزنا المقاصّة بين العرضين المختلفين إذا اتّفقت آجالهما ولم يحلاّ، فإنّا إنّما رخّصنا في وجه واحد وهو بيع الدّين بالدّين. وإذا أجزنا ذلك بالمقاصّة بدنانير عن دراهم قبل الأجل، انضاف إلى هذا الوجه الصرف المستأخر وهو نوع من أنواع الرّبا، فوجب المنع فيه لأجل أنّه انفرد في التّعليل بهذه العلّة الّتي لا توجد في العروض. وأمّا إذا أجرينا على أسلوب الطريقة الّتي نبّه عليها بعض الشّيوخ، وفي تقدير المقاصّة بدينين مؤجّلين كالمقاصّة بدينين حالين، فإنّ مقتضى هذا إجراء الجميع على حكم واحد. وعلى هذا يجري القول في المقاصّة ما بين طعامين مختلفي الجنس لكون تعليل المنع يتصوّر فيها منه ما يتصوّر في العروض. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا تقرّر ما يمنع من المقاصّة لما صوّرنا فيها من العلل الّتي نبّهناك على اعتبارها، فإنّ بعض الأشياخ نبّه على تفقّد طريقة أخرى، وهي اعتبار أهل المعاملة حتّى يعلم منه ما يجوز أن يؤخذ عمّا تقرّر في الذّمّة من الدّين، وتعتبر فيه الشّروط الّتي قدّمنا لك في كتاب السلم. وإذا أسلم رجل لرجل في عروض دنانير، وأسلم إليه الآخر في عروض مثلها

دراهم، فإن هذا تمنع فيه المقاصّة، وإن كنّا قدّمنا إجازة المقاصّة في العرضين المتماثلين، وذلك أنّه ها هنا اختلف رأس المال، فكان رأس مال أحد العرضين دنانير، ورأس مال العرض الآخر دراهم، فإذا تقاصّا، قدّرت المقاصّة مطرحة على حسب ما نبّهنا عليه في أوّل هذا الكتاب. وإذا قدّر ذلك في المقاصّة، حصل منهما أنّ أحدهما دفع دنانير وأخذ عنها بعد مدّة دراهم. وهذا صورة الصرف المستأخر وهو ممنوع. واستشهد من ذهب إلى هذا بما ذكرناه في كتاب السلم فيمن أسلم دنانير في عروض وأخذ رهنًا بالسلم مِمّا يضمن بالدّراهم، فإنّه اعتبرنا فيه هناك ما يجوز أن يؤخذ عن رأس المال أيضًا. فهكذا يعتبر ها هنا. هذه أحكام المقاصّة مع اختلاف الأجناس والأسباب والآجال، وقد بيّناها. وذكر في كتاب الآجال في المدوّنة مسئلة من أخذ عن دنانير من له دين على رجل سلعةً بعينها حاضرة، ثمّ دخل صاحب السلعة إلى بيته قبل أن يقبضها من له الدّين، ثمّ خرج، أنّ هذه المفارقة لا توجب فسخ هذه المعاوضة لأجل الافتراق قبل القبض فيما عاوض به عن دين. وذكر في كتاب البيوع الفاسدة في هذا السؤال أنّ هذا يُمنع ويؤثّر في هذه المعاوضة. ولكنّه لم يذكر في كتاب البيوع الفاسدة أنّه أخذ عن الدّين سلعة بعينها حاضرة، ولكنّه قال: أخذ سلعة. فأشار يبيح أنّ ذلك اختلاف قول. ومال قوم من الأشياخ إلى أنّه ليس باختلاف قول. واختلف اعتذارهم عن ذلك، فقال بعضهم: إن كانت السلعة حاضرة معيّنة، فقد صارت في ضمان مشتريها بالدّين الّذي له وإن لم يقبضها. وإن لم تكن السلعة حاضرة ولا معيّنة، فإنّها باقية في ضمان من عليه الدّين، وبقاء الضّمان عليه يتصوّر فيه معنى فسخ الدّين في الدّين، لكون الدّين الأوّل مضمونًا في ذمّته، وكون هذا العرض الّذي أخذ مضمونًا أيضًا. وقدح بعضهم في هذا الاعتذار، وقال: لا يعتبر في مثل هذا الضّمانُ، وإنّما يعتبر تأخير القبض لأنه كالتّأخير (¬1) يشبه فسخ الدّين في الدّين، ألا ترى أنّ ابن القاسم يمنع أن يؤخذ من دين دار معيّنة غائبة، وإن كانت الديار إذا بيعت على الصفة وهي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالتأخير.

غائبة ضمانُها من مشتريها بالعقد، دلّ هذا على أنّه لا وجه لاعتبار الضّمان عنده. ولكن العذر عن اختلاف وقع في الكتابين أنّه ذكر في أحدهما مقدار التأخير عن القبض وهو دخول البيت والخروج منها، وهذا زمن يسير معفوّ عنه في مثل هذا. وأطلق الافتراق في الكتاب الآخر، فيحمل على أنّ القبض وقع فيه تأخير ممنوع منه. وقد كنّا ذكرنا أحكام ما يؤخذ عن الدّين وفسخ الدّين في الدّين. وذكرنا هذا في هذا الموضع لذكره ذلك في المدوّنة.

كتب البيوع الفاسدة

كتاب البيوع الفاسدة

بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما كتاب البيوع الفاسدة (¬1) قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: كتاب البيوع. كلّ بيع فالأصل فيه الجواز، إلاّ ما تعلّق به ضرب من ضروب المنع. وفساد البيع يكون بوجوه: 1 - منها ما يرجع إلى المبيع، 2 - ومنها ما يرجع إلى الثّمن، 3 - ومنها ما يرجع إلى المتعاقدين، 4 - ومنها ما يرجع إلى صفة العقد، 5 - ومنها ما يرجع إلى الحال الّتي وقع فيها البيع (¬2). وربّما انفرد بعض هذه الأقسام بنفسه وربّما تداخلت. فأمّا ما يرجع إلى المبيع فككونه (¬3) مِمّا لا يصحّ بيعه، وذلك كبيع الحرّ والخمر والخنزير في حقّ المسلم، وبيع النّجاسات وما لا منفعة فيه كخشاش الأرض والكلاب. واختلف فيما يجوز الانتفاع به منها. وما (¬4) يرجع إلى الثّمن فككونه مِمّا لا يصحّ المعاوضة بجنسه. ويرجع ذلك إلى أنّه لا يصحّ بيعه. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا منها أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفي التلقين: كتاب البيوع. (¬2) هكذا في النسختين، وفي نسختي التلقين: العقد. (¬3) في التلقين: عند الغاني: فبكونه، وفي المغربية: فلكونه. (¬4) وفي نسخة الغاني: وأما.

1 - ما حقيقة البيع؟ 2 - وما يجوز العقد عليه أو يمنع؟ 3 - وهل يجوز بيع المائعات النجسة؟ 4 - وهل يجوز بيع جلود الميتة؟ 5 - وهل يجوز بيع فضلات غذاء الحيوان؟ 6 - وما حكم شعر الميتة؟ 7 - وهل يجوز بيع المسك؟ 8 - وهل يجوز بيع الكلب؟ 9 - وهل يجوز بيع الصور؟ 10 - وهل يجوز بيع جلد الضحايا والهدايا؟ 11 - وهل يجوز بيع الماء؟ 12 - وهل يجوز بيع ما يستعان به على ما لا يحلّ؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: البيع هو نقل الملك بعوض. وهذا الكلام يتضمّن إثبات ثمن ومثمون، وناقل، ومنقول إليه، وصفة النّقل. وهذا يحوج إلى الكلام في المعقود عليه، وصفة العقد، وصفة المتعاقدين. وإذا قلنا: إنّ البيع الفاسد ينقل الملك كان بيعًا على الحقيقة. وإن قلنا: لا ينقل الملك، لم يكن بيعًا على مقتضى هذا الرّسم الّذي رسمنا به الحدّ من جهة معناه. لكن العرب قد تكون التّسمية عندهم حقيقة لاعتقادهم أنّ الملك قد انتقل، على حكمهم في الجاهليّة، وإن كان لم ينتقل، على حكم الإِسلام، فتكون التّسمية حقيقيّة على مقتضى أصل وضعهم، ومجازًا على ما اشتقوا منه التّسمية بالإضافة إلى اعتقاد أهل الشّرع. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: ينبغي للفقيه أن يعتني بالنّظر في هذا الفصل، فإنّه تتفرّع عنه مسائل كثيرة. فيعلم أنّ سائر الموجودات الّتي يَحوزُها الإنسان للمنفعة بها لا تخلو من أن تكون مِمّا لا يصحّ تملكها ولا انتفاع بشيء

من منافعها، أو تكون مِمّا يصحّ تملّكها والانتفاع بمنافعها كلّها، أو مِمّا يصحّ تملّكها ويحلّ الانتفاع ببعض منافعها دون بعض. فإن كانت مِمّا لا يصحّ تملّكها، فلا خفاء أنّ بيعها لا يصحّ. لأنّا كنّا قدّمنا أن حقيقة البيع نقل الملك بعوض، وإذًا لم يتصوّر البيع الّذي هو تابع للملك وفرع، كما أنّ الملك وصحّته قد يكون تابعًا لجواز الانتفاع وفرعًا عنه. وهذا القسم أحد أمثلته الخمر، فإن بيعها لا يصحّ لمّا كان ملكها لا يصحّ، وملكها إنّما لم يصحّ لأنّ الانتفاع بسائر منافعها لا يجوز لتحريمه. وقد نبّه - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى بأحسن تنبيه. فخرج في الصحيحين أنّه عليه السلام ذكر أنّ الله تعالى حرّم بيع الخمر والميتة والدّم والأصنام. (¬1) فقيل: يا رسول الله، إنّ شحوم الميتة تطلى به السفن ويستصبح. فقال: "لا، هو حرام، لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم فباعوها وأكلوا ثمنها" (1) الحديث المشهور. فنبّه - صلى الله عليه وسلم - على أنّ الشّحم لما حرّم على اليهود أكله وهو المقصود، وجب أن يمنع البيع كالمعاوضة عمّا لا ينتفع به، وذلك من أكل المال بالباطل. وقد ورد في الكتاب والسنّة النّهي عنه. وهذا جار على ما أصّلناه وبيّناه في الخمر. وكذلك ما ذكر معه من الميتة والدّم وغير ذلك مِمّا في معناهما مِمّا ذكر في هذا الحديث. وفي غيره علّة المنع من بيعه ما نبّهنا عليه من تحريم الانتفاع به، وتحريم الانتفاع به يمنع من تملّكه. ولا ينقض هذا يكون الإنسان يملك أباه ولا يحلّ له استخدامه والانتفاع به في مثل هذا المعنى، ثمّ لم يكن المنع من الانتفاع به يحيل صحّة ملكه لأنّ الأب يُملك بالشّراء. ولولا أنّه يملك بالشّراء لما عَتَق على ولده. فقد صحّ ها هنا الملك مع تحريم الانتفاع بالمملوك. لأنّ هذا إنّما أبحنا شراءه، وإن كان لا ينتفع به، وجعلناه مملوكًا بالشّراء، لأنّه قد تضمّن فعل قربة لله سبحانه وهو برّ الوالدين، والقُرَبُ إلى الله سبحانه أعظم المنافع. فإذا فات ها هنا تصوّر المنفعة بالأب من ناحية الدّنيا، لم يفت تصوّر ذلك من ناحية الآخرة. ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 5 ص 329/ 330 واللفظ لمسلم. إكمال الاكمال ج 4 ص 260/ 262

فلم ينخرم ما أصّلناه، ولم يُبَح البيع والشّراء إلاّ في منتفع به في الدّنيا والآخرة. وأمّا ما يصح بيعه وتملّكه فإنّه كلّ ما يجوز الانتفاع بسائر منافعه المقصودة فيه، كالثّوب والدّار والدّابة، وغير ذلك مِمّا في معناه. فإنّ ما ذكرنا من ثوب ودابّة ودار يصحّ الانتفاع بسائر منافعه المقصودة منه، فلهذا جاز تملّكه وبيعه. وأمّا ما اختلف حكم منافعه بأن حلّ بعضها وحرّم بعضها، فإنّك تنظر ها هنا، فإن كانت المنفعة المحرّمة مقصودة مرادة في نفسها، والمنفعة المباحة مقصودة مرادة في نفسها، فإنّ هذا القسم يصحّ تملّكه ولا يصحّ بيعه. أمّا جواز تملّكه وبقائه في اليد، فلأجل حاجة مالكه إلى تلك المباحة فيه. وأمّا منع بيعه فلأجل أنّ الثّمن المبتذل فيه إنّما بذل عن سائر منافعه من غير تخصيص ولا تعيين. وإذا كان الأمر هكذا، فقد صار الثّمن مبذولًا عن محرّم ومحلّل، فوجب فسخ العقد وإبطاله كلّه, لأنّ الّذي يقابل المنفعة المحلّلة من الثّمن مجهول حين العقد، والّذي يقابل المنفعة (¬1) ممنوع فيه البيع والمعاوضة، فبطل الجميع، هذا لكونه ثمنًا لمحرّم، وهذا لكونه ثمنًا مجهولًا عوضًا عن مباح، ومن اشترى ما يحلّ تملّكه وبيعه بثمن مجهول، فإنّ ذلك فاسد لا يجوز. وقد مضى هذا فيما تقدّم لمّا تكلّمنا على حكمٍ صفتُه (¬2) جمعت حلالأوحرامًا، كبيع قلّة خلّ وقلّة خمر بثمن واحد في عقد واحد. لكن قد يقع في هذا الامتزاج إشكال بأن تكون المنفعة المحرّمة لا يتّضح كونها مقصودة في بعض المتملّكات أو المنفعة المباحة. فيُفرض ها هنا إشكال: هل هذا المقصود عليه الّذي اختلف حكم منافعه يلحق بما حرُم سائر منافعه لمّا كان ما يباح منه يشكل أمره، هل هو غير مقصود في حكم العدم؟ أو يكون هذا الإشك الذي المنفعة المحرّمة، فيلحق بما أبيح سائر منافعه (فيلحق) (¬3) ها هنا اختلاف في المذاهب، أو يزول بهذا عن طبقة التّحريم إلى الكراهيّة؟ فهذا هو السرّ الّذي من انكشف له وأجراه كما ينبغي ¬

_ (¬1) أي: المحرمة. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب صفقة. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف: فيلحق.

في سائر فروع هذا الباب (¬1) وصحّ له وجه الاتّفاق أو الاختلاف في المذاهب فيها. وقد تكلّمنا على هذا في كتابنا المترجم بالمعلم (¬2). والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: الأصل في منع بيع النّجاسات ما تقدّم من الحديث المذكور فيه أنّه عليه السلام لمّا نهى عن بيع الميتة قيل له: إنّها تطلى بها السفن ويستصبح بها. فقال: "لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشّحوم فباعوها وأكلوا ثمنها" الحديث المشهور. فأشار إلى أنّ ما منع الانتفاع به منع أخذ ثمنه، لمَّا بسطنا وجْه المنع منه فيما تقدّم. فمن هذا النّوع الزّيت الّذي ماتت فيه فأرة، فإنّه لا يجوز بيعه في المشهور من المذهب. وأجاز بيعه ابن وهب إذا بيّن. واشترط غيره في جواز بيعه ألاّ يباع من مسلم. فإذا عرضت هذه المذاهب على ما تقدّم بيانه من التّعليل، علمت سبب هذا الاختلاف. وأنت قد علمت أنّ الزّيت أحد منافعه أكله، وهي منفعة مقصودة فيه، وفيه منفعة أخرى وهي وقيد ودهن ما يحتاج فيه إلى ترطيبه أو حفظه بالزّيت. فأمّا الأكل فإنّه ممنوع منه ما دام نجسًا، لا سيما إذا كانت النجاسة ظاهرة فيه. وأمّا وقيده في غير المساجد الّتي يحترم (¬3) أن يوقد فيها النّجاسات، فإنّ المشهور من المذهب جوازه. وقال ابن الماجشون: لا يجوز ذلك، ولو أجزناه لأجزنا الانتفاع بشحم الميتة. فأشار إلى الانتفاع بشحمٍ لا يخالَف فيه، ولذلك جعله حجّة على من أجاز الاستصباح. بشحم (¬4) الميتة، والانتفاع به يجوز على مقتضى من أجاز الاستصباح بالزّيت النّجس. ويمكن عندي ألاّ يلزم هذا المذهب ما ألزم عليه شيخنا لكون أجزاء شحم الميتة نجسة كلّها نجاسة ترجع إلى العين، ولا يمكن تطهيرها. والزّيت النّجس إنّما اجتنب لأن فيه أجزاء يسيرة وهي ما يحلّ فيه من أجزاء ميتة أو غيرها, ولو تميّز هذا النّجس من الأجزاء ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو. (¬2) انظر المعلم: 2/ 157 - 158. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحرم. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَشحمُ -بالفاء-.

الظّاهرة لحلّ الأكل والاستصباح، ولكن منع الجميع لعدم التّمييز الآن، أو لامتناعه على ظاهر الرّوايات. وإن كان قد روي عن مالك أنّه أجاز استعماله إذا طُهِّر. وبهذا كان يفتي ابن اللباد، ويستشهد بما وقع لابن القاسم (¬1) في ما سقطت فيه فأرة أنّ الدّهن الأوّل يستعمل بالماء مرّتين أو ثلاثة (1). فإذا تحقّقت حكم الانتفاع في الأكل وفي الاستصباح، فإنّا إن منعنا الاستصباح به منعنا أكله. وذهابنا إلى أنّه لا يطهر بالماء اقتضى هذا منع بيعه لكون جملة منافعه المقصودة ممنوع استباحتها, ولا يرجى ذلك منها. وإن قلنا: إنّ الاستصباح به مباح وهو على حالته، فإنّ البيع أيضًا لا يجوز لكون منفعة مقصودة فيه محرّمة وهي الأكل. وقد تقدّم بيان علّة المنع من هذا الوجه. وإن قلنا مع هذا: إنّ تطهيره بالماء يميّز منه أجزاءَ النجاسة حتّى يعود طاهرًا يجوز الانتفاع به أكلًا واستصباحًا، حسن أن يقال على هذا: إنّ بيعه جائز كما يجوز بيع الثّوب النّجس، وإن كان لا يصلّى به، لما أمكن زوال السبب المانع من الصّلاة به بإزالته نجاسته بالتّطهير. وقد يعترض على هذا بأنّ الخمر لا يجوز بيعها، وإن قلنا: إنّها إذا تخلّلت جاز شربها, لما أشرنا إليه من كون الخمر جميع أجزائها نجسة العين، فتكون المعاوضة عليها معاوضة عمّا جميعه نجس حرام، والمعاوضة على الزّيت النّجس معاوضة عمّا أكثر أجزائه حلال، ويمكن تمييز الأجزاء النّجسة منه من غير تغيير أعيان، بخلاف الخمر الّتي جميع أجزائها نجسة، والتّحليل إنّما يكون بالتّخليل وهو أيضًا لا يباح ابتداء، ولكنّه إن فعل، جاز شربها على أحد القولين. وعلى هذا الأسلوب يجري الانتفاع بالماء الّذي غلبت عليه النجاسة، فإنّ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفيه اضطراب. وتوضحيه من كلام ابن غازي إذ يقول: أما زيت خلط بنجس ففي تطهيره بطبخه بماء، مرتين أو ثلاثًا، ثالثها: إن كثر، ورابعها: إن تنجس بما ماتت فيه دابة لا بموتها في الزيت. فالأول لسماع أصبغ من ابن القاسم وفتيا ابن اللباد ... مواهب الجليل: 1/ 114. هكذا في النسختين ولعل صواب العبارة في بانٍ أُغلي "والبان شجر معروف. حبه أساس لأدوية كثيرة" "تاج العروس ج 34 ص 289"

شربه ممنوع، والانتفاع به جائز على أحد القولين. فأجاز في المدوّنة أن يعلف العسل النّجس للنّحل. وأجاز أيضًا ما في جباب انطابلس (¬1) إذا سقطت فيه دابّة، أن يسقي المواشي. ولكنّه لم يذكر كون نجاسة هذه الدّابّة غلبت على الماء. وقيل: لا يطعم ما عجن به لداجن ولا لكافر، وأجراه مجرى الميتة. وقيل: يقصر هذا المنع على تغذية حيوان يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل لحمه، لكون ما يؤكل لحمه قد يستباح بالتّذكية فيؤكل وقد خالط لحمه شيء من الأجزاء النّجسة، بخلاف سقي الشّجر به والزّرع، لكون هذه الأجزاء النّجسة استحالت، وكأنّها انعدمت في الزرع والشّجر إذا صار الزّرع حبًّا وأثمر الشجّر. وأنت إذا أجريت هذه الرّوايات على أسلوب واحد، علمت أنّ الانتفاع بالنّجس مختلف فيه في المذهب على قولين. وقد (¬2) أشار إلى التّفرقة بين الحيوان المأكول وما لا يؤكل، فإنّما ذلك لمعنى آخر وهو كون تغذية ما يؤكل لحمه بذلك يقتضي إباحة أكل النّجس أو شربه. وقد وقع في الحديث الّذي تقدّم ذكره أنّه عليه السلام لمّا قيل له في شحوم الميتة: إنها تطلى بها السفن ويستصبح بها النّاس، فقال: "لا، هو حرام". وقد ذكرنا في كتابنا المعلم ما المراد بقوله: "لا، هو حرام" هل هو البيع، الّذي ذكره في صدر الحديث، وما اعتذر له به من الحاجة إلى استعماله مباح (¬3)، ولكنّه ليس بعذر في جواز البيع؟ أو المراد بقوله: لا، هو حرام، الاستصباح بذلك وطلي السفن. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أمّا جلود الميتة، فإنّ الانتفاع بها قبل الدّباغ ممنوع عندنا لكونها نجسة. والنّجَس لا ينتفع به على حسب ما قدّمناه. وأمّا حكمها إذا دبغت، فإنّ المذهب على قولين: هل تطهير بالدّباغ طهارة كاملة فإن بيعها جائز لإباحة جملة منافعها. وإن قلنا: إنّها لا تطهير ¬

_ (¬1) هي مجموعة خمس مدن معروفة Jontapoles بجهة برقة، انظر شرح غريب ألفاظ المدونة: 17. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ومَن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في مباح.

بالدّباغ طهارة كاملة فإنّا لا نجيز بيعها لكون بعض منافعها لا تباح وإن دبغت. وقد تقدّم كون حكم الشّيء، مختلفًا أحكام منافعه منها محلّل ومنها محرّم، هل يجوز بيعه أم لا؟ واتّقى مالك استعمالها في المائعات دون اليابسات الّتي يؤمن أن تميّع شيئًا من أجزاء الجلد. ولكنّه لم يحرّم هذا، بل أشار إلى إباحة الانتفاع باستعمالها وعاء للجمادات وللمائع، ولكنّه استثقل المائع تورّعًا واحتياطًا. وقد تكلّمنا على حسب هذا الاختلاف في كتابنا المعلم وعلى جملة مذاهب النّاس فيه وما ورد من الأحاديث. وخرّجنا ذلك على أصول الفقه وشواهد الأصول. وذكرناه أيضًا في شرح التّلقين بما يغني عن إعادته ها هنا. ونبّهنا على ما وقع من اختلاف الرّواة في جلد الشّاة الّتي ماتت، وإباحته أن ينتفع (¬1) قولًا مطلقًا. وتقييد هذا القول في رواية أخرى بقوله: ألا أخذوه فدبغوه وانتفعوا به. لكن إذا قلنا ها هنا إنّه نجس قبل الدّباغ وأنّه يطهَر بالدّباغ، فهل يباع قبل الدّباغ لكونه يمكن فيه كون فعلٍ مّا يصيّره طاهرًا، كما قلنا في الزّيت النجس؟ أو لا يسوغ ذلك لما أشرنا إليه من الفرق بين بيع الخمر قبل أن يخلّل وبين بيع الزّيت النجس؟ فإذا قلنا: إنّ الدّباغ يصيّره طاهرًا، ونجاسته ليست راجعة لعينه لكن أجزاء تخلّلت الجلد تذهب بالدّباغ، فإنّ هذا يوجب إلحاقه بالزّيت النّجس. وقد أشرنا في كتاب المعلم وغيره إلى علّة كون الدّباغ يصيّره طاهرًا لكونه حافظًا له من الفساد كما تحفظ الحياة من الفساد. وأمّا عظام الميتة، فإنّه قد اختلف في الإدِّهان بدهن وضع في أنياب الفيل، على أنّ النّاب من الفيل ليس كالعظام الباطنة، وإنّما هو كقرن مقلوب، واختلف في قرون الميتة وأظلافها، فقيل: إنّ ذلك نجس. وقيل: أمّا ما قطع منها وهي حيّة وكان لا يؤلمها، فإنّه طاهر، سواء أخذ في حياتها أو مماتها. وعلى هذا يجري حكم الأظفار. وقد أوعبنا الكلام على عظام الميتة فيما تقدّم من هذا الكتاب في موضعه الّذي يليق به. وقد ذكر في المدوّنة من كتاب البيوع الفاسدة أنّه لا يوقد عظم الميتة تحت قدر فيها ما يستعمل لوضوء أو عجين. وقال بعض الأشياخ: إنّ ذلك إذا فعل لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن ينتفع به.

يوجب نجاسة الماء الّذي سخن بها ولا نجاسة الطّعام الّذي طبخت به، إذا لم يوضع الطّعام على عظام الميتة وضعًا (¬1) وقدت العظام فتصاعد دخانها. ورأى بعض أشياخي أنّ هذا الدّخان إذا انعكس إلى الطّعام أو الماء نجّسه. وهذا الاختلاف من هؤلاء المتأخّرين يلتفت فيه إلى النّظر في استحالة أعيان الجواهر النّجسة حتّى ينتقل اسمها وهيئتها، هل يرفع حكم النجاسة أم لا؟ وهذا أيضًا بسطناه في موضعه. وقد قال في المدوّنة في كتاب البيوع الفاسدة أيضًا: إذا أوقدت عظام الميتة على الجير والقدور، فإنّه لا بأس (¬2) بذلك. فقال بعض: إنّما مراده أنّ ذلك لا يكون نجسًا، ولم يرد إباحة هذا الفعل ابتداء, لأنّ نقل الميتة وحيازتها على جهة التملّك لها منهيّ عنه. كما قال ابن الموّاز: إنّ عظام الميتة يجوز أن ينقل الرّجل كلابه إليها لتأكل منها, ولا ينقل الميتة إلى كلابه. ورأى أنّ نقل الميتة إلى كلابه حيازة للميتة على جهة التملّك. فكذا ينبغي أن ينهى هذا عن نقل هذه العظام ليوقد بها على جير أو قدور. وبعض أشياخي يحمل ذلك على ظاهره وأنّه يقتضي جواز الفعل. وقد اختلف الشيخ أبو الحسن بن القابسي والشيخ أبو القاسم بن شبلون في قدر طبخت بعظام ميتة. فقال الشّيخ أبو الحسن: لا يطهّرها الغسل بالماء، وإذا لم يطهّرها ذلك، فإنّها لا يطبخ فيها. وقال أبو القاسم بن شبلون: بل تطهير بالماء إذا غسلت كما ينبغي. واستشهد بجواز أكل ما يطبخ في قدور المجوس إذا غسلت وهم يطبخون فيها الميتة. وانفصل عن هذا بأنّ قدور المجوس إنّما نجست لأجل ما يطبخ فيها من ميتة، فكذلك تطهير بالماء المطبوخ فيها. والقدور الّتي أوقد على طبخها عظام الميتة نجست نجاسة باطنة لا يزيلها الماء. وقد ذكر الطّحاوي في كتاب مسائل الخلاف له عن مالك أنّه رأى أنّ ما طبخ بعظام الميتة من الطّين حتّى صار قدرًا لا يطهر بالماء. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: ذكر في المدوّنة ابن القاسم أنّه لم ¬

_ (¬1) بياض بالنسختين، ولعله: ثُمَّ. (¬2) في الوطنية: يأمَن.

يسمع من مالك في جواز بيع الزّبل شيئًا، ولكنّه سمع منه أنّه كره بيع العذرة لنجاستها. قال: كذلك ينبغي أن يكره بيع الزّبل لنجاسته، وأنا لا أرى ببيعه بأسًا. فساوى ابن القاسم في إلزامه مالكًا ما بين حكم العذرة والزّبل، فمقتضى هذا جواز بيعها عنده، والنّهي عنه على رأي مالك. وقد قيل في الزّبل: المشتري أعذر فيه من البائع، وأمّا العذرة فلا خير فيها. وقيل أيضًا: إنّ المشتري العذرة أعذر من البائع. وقال ابن عبد الحكم: لم يعذر الله سبحانه واحدًا منهما وهما سيّان في الإثم. وقد قدّمنا لك ما تعلم منه سبب هذا الاختلاف. لكن عرض في هذا ضرورة، وهي حاجة النّاس للتّسميد لبقولهم لأنّها محتاجة إلى التّسميد بالعذرة أو روث الدّواب. وهذه الضّرورة تبيح المحظور وتنقل الأحكام. فحرّم ابن عبد الحكم البيع لأجل كون هذه نجسة، والنّجس لا يباع كما قدّمناه لمّا ذكرنا الحديث الوارد في مثل هذا. ورأى ابن القاسم أنّ هذه الضّرورة تبيح المحظور. وأشير في بعض الرّوايات إلى أنّ الزّبل أخفّ في هذا من العذرة، لكون العذرة متّفق على نجاستها. وفرق في العذرة بين البائع والمشتري. لكون المشتري لا مندوحة له عن الشّراء، وكون البائع يمكنه بذل ذلك بغير عوض. فالضّرورة متحقّقة في حقّ المشتري، وغير متحقّقة في غير (¬1) البائع. وقد كره ابن عمر أكل البقل الّذي ينبت بهذا. ذكر عنه ابن الموّاز، وقال: وأنا لا أرى بأكله بأسًا. فكأن ابن عمر لا يرى استحالة عين النجاسة مؤثّرًا. وهذا الّذي ذكرناه في هذه المسئلة مأخوذ حكمه وتعليله مِمّا قدّمناه وأصّلناه فيما قبل. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: الشّعر كأنّه متكوّن عن أبخرة وغيرها مِمّا ينبعث من البدن على رأي صناعة أهل الطّبّ. وقد اختلف العلماء في طهارة شعر الميتة. فقال مالك إنّه طاهر. وقال الشّافعي: إنّه نجس. وسبب هذا الخلاف ما قدّمناه مرارًا من كون ما كانت به حياة ثمّ ذهبت بأمر إلهي، فإنّها به ميتة، وما لم تخلق فيه حياة قطّ، فلا يقال: إنّه ميتة، في عرف التّخاطب، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في حق البائع.

ولكنّه جماد أو موات. فإن سلّمنا أنّ الشّعر كان حيًّا أيّام حياة ذي الشّعر، ثمّ مات ذو الشّعر، فإنّ الشّعر يموت بموته، وإذا مات وذهبت منه الحياة وتعقبّها الموت، كان ميتة. والميتة ليست بطاهرة، ويستدلّ على كونه حيًّا بنمائه وزيادة أجزائه، على حسب ما تنمي أجزاء بدن الحيوان الحيّة كسائر أعضائه وغيرها. وإن قلنا: إنّه لم تخلق فيه حياة قطّ، فإنّه لا يكون ميتة بموت ذي الشّعر، لما قدّمنا من كون هذه التّسمية إنّما يراد بها ما كان حيًّا فمات حتف أنفه. ويستدلّ لهذا المذهب بكونه لا يحسّ الألم، ولا يحسه ذو الشّعر إذا قصّ ذلك عنه. وإنّما يستدلّ على وجود الحياة أو فقدها بإحساس الألم أو فقده, لأنّ الإحساس للأم أو اللّذّة إنّما تكون في الحسّاس الدّارك، ولا يكون حسّاسًا درّاكًا من الحيوان إلاّ وله إدراك وحياة، فإذا لم تدرك الآلام ولا اللّذّات، فقد فَقَد الحسّ والإدراك، وذلك يشعر بكونه جمادًا أو مواتًا، إذا لم توجد آفة منعت من الإدراك، فإذا ذهبت عاد الحسّ والإدراك إلى ما كانا عليه. والاستدلال على الحياة بوجدان الحسّ والألم أولى من الاستدلال بالنّماء وانبساط الجسم في الجهات, لأنّ النّبات ينمي ويزيد، ثمّ ليس هو بحي. وشعر الخنزير يجري مجرى شعر الميتة من الحيوان الّذي يحلّ أكله. لكن أصبغ خالف في هذا، ورأى أنّ شعر الخنزير نجس على كلّ حال حيًّا أو ميّتًا، كما كان الخنزير نجسًا حيًّا وميّتًا. بخلاف الشّاة والبقرة فإنّ أعيانهما طاهرة حال الحياة، فكذلك شعورهما بعد الموت لكونها غير مشاركة في الحياة. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: المسك طاهر عند جمهور العلماء. وشذّ قوم، فقال وابن جاسته. وكأنّهم قدّروه كفضلة انبعثت من جسم الغزال الّذي يؤخذ منها المسك، حتّى صارت كعضو منها (¬1) تلحق فيه الحياة، ثمّ تخلق (¬2) فيه الموت إذا فارق الجسم الّذي أخذ منه وانفصل عنه، عاد كإصبع قطع من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يخلق -بالتذكير-.

الحيوان، فإنّه يكون نجسًا لكون حياته عدمت من غير تذكية. وأمّا الجمهور الذّاهبون إلى طهارته، فإنّهم يشيرون إلى حصول الاتّفاق على استعماله والتطيّب به في زمن السلف حتّى صار كالإجماع. وقد أشار البخاري إلى الاستدلال على جواز بيعه بحديث أبي موسى أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحديد لا يعدمك من صاحب المسك إمّا تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحدّاد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد ريحًا خبيثة" (¬1). فأشار البخاري إلى الاستدلال بقوله: "إمّا تشتريه". وظاهر هذا إباحة الشّراء، ولو كان نجسًا لم يبع ولم يشتر، على حسب ما أصّلناه في منع بيع النّجاسات الّتي لم تضطرّ ضرورة إلى إباحة بيعها. كما لم يجز بيع الخمر لنجاستها وكونها لا ضرورة بالإنسان إلى الانتفاع بها، بل يضرّه الانتفاع بها لكونها تصدّ عن ذكر الله في حقّ الصّلاة، كما قال سبحانه. وقد ذكر أيضًا في الصّحيح دم الشّهداء وشبهه بالمسك في طيب رائحته (¬2). وهذا يشعر بطهارته لكون الحديث ساقته (¬3) تدلّ على المدحة والثّناء. وأيضًا فإنّا لو سلّمنا أنّه نجس وأنّه من دم الغزلان الّتي يؤخذ منها المسك، كما أشار إليه المتنبّي في قوله يمدح سيف الدّولة: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإنّ المسك بعض دم الغزال فإنّه قد استحال عن كونه دمأوتبدّلت أعراضه وصفاته. وقد قدّمنا أنّ تبدّل الصفات وتغيّر الأسماء والأشكال للأجسام تقتضي تبدّل الأحكام في النجاسة. وهذا إذا سلّمنا كون المسك كلّه صفة واحدة. ويمكن أن يكون يؤخذ منه ذلك بعد التذكية المبيحة لأكله فيكون هذا المقدار من جنسه طاهرًا أيضًا. ويمكن أيضًا أن يكون يؤخذ منه ولا يؤلمه، وليس الطّريقين اللذين ذكرناهما. وقد وقع اضطراب في الطّرطر الّذي يشبّب به الصوف إذا صبغ باللّكّ (¬4)، هل ¬

_ (¬1) البخاري: كتاب الذبائح: باب المسك: 12/ 82. (¬2) يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري حول دم الشهيد. في نفس الإحالة السابقة. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: سياقته. (¬4) نبات: انظر تاج العروس ج 27 ص 322.

يجوز أم لا؟ فإن قدّرنا أنّه ليس بنجس لأنّه استحال عن كونه خمرًا استحالة غيّرت اسمه وصفاته لكونه يابسًا والخمر مائعة، ولكون الخمر يسكر وهو لا يسكر، لم نقل بنجاسته. وإن قلنا: إنّه بعض أجزائه (¬1) الخمر الكثيفة والجواهر الغليظة المعتصرة من الأعناب وإنّه أحد أجزاء الخمر الّتي غلت ونشّت، والاستحالة لا تنقله عن حكم النجاسة، قضين ابن جاسته ونظرنا في تصوّر الحاجة إلى إجازة بيعه. فإن تصوّر في ذلك ما تصوّر في بيع الرّجيع والأزبال، جرى الأمر فيه على ما قدّمناه فيها. وقد اختلف عندنا في عرق السكران، هل هو نجس أو طاهر؟ فقيل بطهارته, لأنّا، وإن قدّرناه دفعته القوّة الطبيعيّة من أجزاء الخمر المشروبة، فما دفعته إلى صحن الجسم إلاَّ وقد استحال وتبدّلت صفاته لمّا كان خمرًا. والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال: اختلف المذهب في جواز بيع الكلب المباح اقتناؤه على قولين. وسبب هذا الاختلاف فيما مضى التّنبيه عليه لمّا ذكرنا كون جواز البيع متعلّقًا بجواز الانتفاع. فالكلب الّذي لا ينتفع به منفعة مأذونًا فيها لا يجوز بيعه، لما قدّمناه من كون إجازة بيعه إجازة لأكل المال بالباطل. والّذي أذن في الانتفاع به قد تقرّر من جملة منافعه أكله. وأكله منهيّ عنه لأنّه داخل في ظاهر قوله: أكل كلّ ذي ناب من السباع (¬2). ومن منافعه المباحة الاصطياد به وحراسته الزّرع والضّرع. وأمّا حراسة الدّيار وما فيها من الأموال، فإنّ ذلك مِمّا اختلف النّاس فيه. فمنهم من ذهب إلى إباحة ذلك قياسًا على حراسته الزّرع والضّرع. ومنهم من منع ذلك لأنّه عليه السلام قال: "لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب" (¬3). فحصر هذا الذم بالبيوت الّتي فيها الكلاب. والزّرع والضّرع إنّما يكون غالبًا في الفيافي والقفار الغير مسكونة، فلا يصحّ قياس حراسة البيوت على حراسة الزّرع والضّرع لما ذكرناه. على أنّه يمكن أن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أجزاء. (¬2) حديث. انظر مسلم: إكمال الإكمال ج 5 ص 175. مختصر سنن أبي داود: 3645. (¬3) صحيح متفق عليه، فيض القدير: 1/ 393.

يقال: إنّ الغنم المحروسة بالكلاب في الفيافي والقفار ربّما باتت في المداين في ديار أربابها. وإِذْن الشّرع في اتّخاذ الكلب لحراسة الزّرع وقع مطلقًا لم يفرّق فيه بين نهار ولا ليل ولا مكان. وقد رأيت بعض أصحابنا البغداديين يحتجّ للقول بالمنع من اتّخاذ الكلب حارسًا للدّيار بأنّه قد يطرق الدّار الضيفان والزوّار فيروّعهم وقد يؤذيهم. وأيضًا فإنّه لا يباح تسليط الكلب عليه ولا يعلم مبلغ أذاه له وقد يؤدّي إلى تلاف (¬1). ورأيت في بعض التّعاليق عن أشياخ القرويين تنازعًا فيه. وقد اختلف النّاس أيضًا فيما أبيح اتّخاذه لصيد أو لحراسة ضرع أو زرع، هل من شرط الإباحة حصول الزّرع والضّرع أو إمكان الاصطياد والعزم عليه، أو يجوز ذلك وإن لم يكن عند، متّخذه زرع ولا ضرع ولكنّه إنّما اقتناه لأجل كونه قد يكسب ذلك ويحتاج إليه؟ فإذا تقرّر ما يجوز من الانتفاع بالكلب وما لا يجوز، وكانت منافعه منها مقصود محرّم ومنها مقصود محلّل، وجب المنع من البيع، لأجل ما قدّمناه فيما سلف. ولا يلزم إذا أُلزِم قاتلُه القيمةَ أن يجوَّز البيع، لأنّ البيع معاوضة عن جملة منافع منها محلّل ومحرّم، ومقدار ما ينوب كلّ واحد من الثّمن لا يتميّز، والتّقويم إنّما يكون مبنيًّا على ما يقابل ما أتلف عليه مِمّا يصحّ له ملكه والانتفاع به. وإلزام القيمة وهي مجهولة قبل النّظر فيها لا أصل له في المنع كما يلزم من أتلف ثوبًا قيمته، وبعد إلزامه ذلك ينظر في مقدارها. والجواب عن السؤال التّاسع أن يقال: أمّا الصّور فممنوع بيعها، وممنوع إنشاؤها لما ورد من الأخبار في وعيد المصوّرين بعذاب، على حسب ما وقع في الأخبار. وهذا على مذهبنا فيما سوى الأرقام الّتي يحاكى بها الصّور وهي تمتهن، على حسب ما ذكره في المدوّنة، وما ورد به الحديث المستثنى فيه الثيّاب الّتي ترقم (¬2). وإذا ثبت منع التّصوير واستعماله، منع البيع لكونه معاوضة على ما لا ينتفع به. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: تلف. (¬2) رواه الشيخان. فتح الباري ج 12 ص 514.

والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: قد تكلّمنا في كتاب الضّحايا على منع بيع جلودها لكونها تذبح على جهة التّقرّب إلى الله سبحانه، وقصدًا لأنْ يكون العوض عنها ثوابَه، فلا يصحّ أن يباح طلب العوض من جهة أخرى مخالفة للجهة الّتي أريقت دماء الأضاحي عليها. وكان الأصل منع أكل لحومها ومنع أكل لحوم الهدايا لكونها قصد بها وجه الله تعالى واتّخاذها قربة إليه ولا يرجع فيما تقرّب به. لكنّ الشّرع أن في أكل اللّحوم، فقال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} (¬1). وإذا جرى هذا مجرى التّرخيص لم يخرج بالرّخصة عمّا وجد فيها. وهذا مبسوط في كتاب الضّحايا. والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: أمّا الماء فقد اختلف في بيعه العلماء. وقد وقع في الآثار النّهي عن بيعه مطلقًا. وفي بعضها أنّه نهى عن بيع فضل الماء (¬2). والانتفاع بالماء مباح وليس فيه منفعة مقصودة محرّمة، فكان الأصل جواز بيعه لكون سائر منافعه محلّلة، ولهذا أجزنا بيع ما في دار الإنسان من ماء في ماجل أو في بئر قد احتفره لحاجته إليه واختزن فيه الماء لشربه وطهوره، فتسوغ له المعاوضة عن هذه المنافع المباح جميعها. وإنّما يمنع بيع فضل الماء لكون منبع هذا الماء بالحفر وغير ذلك إذا قصد به تحبيس (¬3) ما زاد على مقدار حاجته إليه على ما سنبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثّاني عشر أن يقال: قد تقرّر أنّ ما حرّمت منافعه حرّم بيعه. فكذلك ما أدّى إلى الوقوع في التّحريم، مثل أن يبيع عنبًا مِمّن يعصره خمرًا، فإنّ العنب مباح الانتفاع به، فجاز لهذا بيعه، فإذا صار خمرًا حرم شرب الخمر. فإذا باعه مِمّن يصنعه خمرًا لشربه، صار معينًا على ما لا يحلّ، وقد قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (¬4). وكذلك بيع ثوب ¬

_ (¬1) سورة الحج 36. (¬2) شرح النووي كتاب المساقاة ج 6 ص 440 (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: حبس. (¬4) سورة المائدة: 2.

الحرير مِمّن يلبسه. وألحق بعض الأشياخ شراء بعض الصقالبة، فقال: إن كان الشّراء لم يحمل النّاس على خصاهم لكونهم يثمنون في ذلك منع من شرائهم. وإن كان شراؤهم لا يحمل على خصاهم، ولا يكون باعثًا لأرباب العبيد على خصاهم ولا داعيًا لهم إلى ذلك جاز شراؤهم. وهذا الّذي قال ينبغي أن يقيّد يكون المخصي لهم لا يعتقون عليه لأجل ما فعل مِمّا لا يحلّ له. وقد اختلف المذهب عندنا في النّصراني إذا أخصى عبده، هل يعتق عليه أم لا؟ فإذا وجب عتق من صار خصيًّا لجناية سيّده عليه، وقضي عليه بذلك، لم يجز الشّراء، كما لا يجوز شراء الأحرار. وبيع السلاح مِمّن يقاتل بها من لا يحلّ قتاله لا يجوز أيضًا لكون ذلك معونة على ما لا يحلّ، كما قلناه في بيع العنب مِمّن يتّخذه خمرًا إلى غير ذلك مِمّا في معناه.

فصل آخر

فصل آخر يتعلّق بما ذكره القاضي عبد الوهاب ها هنا وهو قوله: كلّ بيع فالأصل فيه الجواز، إلاّ ما تعلّق به ضرب من ضروب المنع. قال الشّيخ رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال: 1 - هل ينقل البيع الفاسد الملك أم لا؟ 2 - وما سبب الاختلاف في ذلك؟ 3 - وهل ينقل الضّمانَ العقدُ الفاسد؟ 4 - وما الّذي يفيت البيع الفاسد (¬1)؟. فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: اختلف النّاس في البيع الفاسد، هل ينقل الملك أو لا ينقله؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنّه ينقل الملك إذا اتصل به القبض وذهب الشافعي إلى أنه لا ينقل الملك ولو اتّصل به القبض. وبعض أصحابنا يحكي أنّ مذهب مالك أنّه لا ينقل الملك، ولكن نقل شبهة الملك. إلى هذا يشير بعض البغداديين من أصحابنا. وقال بعض أشياخ القرويين: إنّ مذهب مالك أنّه لم (¬2) ينقل الملك. وعوّل في هذا على قوله في المدوّنة (¬3) في كتاب الحبس والصدقة. فيمن باع بيعًا فاسدًا ثمّ وهب المبيع قبل أن يفوت في يد المشتري، فذكر التّعليل بأن قال: بأنّ البيع ها هنا إذا نقض عاد الملك إلى البائع الأوّل فنفذت الهبة، ولو كانت الهبة بعد الفوت لم تنفذ. فاعتمد على قوله: إنّ ¬

_ (¬1) في النسختين بياض مكان السؤال الخامس. والذي يفهم من الجواب عنه أن يكون: ما هو الحكم عند ارتفاع الأسباب الموجبة للفوت. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا. (¬3) المدونة: 4/ 329 في الرجل يبيع عبده بيعًا فاسدًا ثم يهبه البائع لرجل آخر.

البيع إذا نقض لفساده عاد على الملك الأوّل، ورأى أنّه لو نقل الملك، لم يعد على الملك الأوّل، بل يكون ملكًا مستأنفًا. وهذا الّذي قال قد يقتضي ظاهره صحّة ما تعلّق به هذا من كون اللّفظ يقتضي كون البيع الفاسد لم ينقل الملك. لكنّه قد يتأوّل فيه: إنّما أراد: الملك انتقل، ولكنّه انتقل عن هذا الانتقال بفسخ هذا العقد. كما يقال: إنّ المبيع المعيب قد انتقل الملك فيه للمشتري، ولكنّه إذا ردّ بالعيب، كان ردّه بالعيب حل (¬1) للبيع من أصله على أحد القولين. وهذا وإن صح تأويله لأنّه (¬2) الأظهر فيه ما قاله بعض الأشياخ. لكن قد ظهر لي لفظ آخر قد وقع في المدوّنة ربّما كان التعلّق به في عكس هذا الحدّ. وذلك أنّه قال في كتاب العتق فيمن قال لعبد: إن اشتريتك أو ملكتك، فأنت حرّ. فاشتراه أو ملكه: إنّه يعتق عليه إذا اشتراه شراء فاسدًا. فلو كان الشّراء الفاسد لا ينقل الملك، لم يعتق عليه، لعدم الشّرط الّذي علق به العتق، وهو: لو صحّ ملكه بشراء صحيح. ولكن لو علق اليمين بشرط غير هذا فقال: إن اشتريتك فضربتك فأنت حرّ، فإنّه لا يعتق عليه إذا اشتراه ولم يضرِبْه. فكذلك إذا قال: إن ملكتك فأنت حرّ. فاشتراه شراء لا يملكه به، فإنّه لا يعتق عليه لعدم الشّرط الّذي علق به العتق. فإن سلّمنا التعلّق بما في كتاب الحبس والصدقة، كان المذهبان المذكوران عن أبي حنيفة والشّافعي موجودين عند نافي المذهب. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: ما سبب الاختلاف في كون البيع الفاسد ينقل الملك؟ فإنّ له تعلّقًا بمسئلة أصولية هو كون النّهي دالاّ على فساد المنهيّ عنه ونقضه وكونه مرفوعًا من أصله، قولًا على الإطلاق، وهو أصل الشّافعيّة. وأصل الحنفيّة تسليم هذا إذا كان النّهي يعود إلى نفس المنهيّ عنه. فأمّا إن كان يعود إلى معنى غيره (¬3)، ولكنّه. متّصل به، فإنّه لا يصير المنهيّ عنه مرفوعًا كأنّه لم يكن. ولكنّه، وإن لم يرفع الأصل، رفع بعض أوصافه الشّرعيّة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حلاًّ. (¬2) في الوطنية: فإنه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في غيره.

وأمّا إن لم يكن النّهي راجعًا إلى نفس المنهيّ عنه، ولا إلى معنى متّصل به حتّى يصير كحرمته، فإنّه لا يرفع الفعل من أصله ولا وصفه الشّرعي المختصّ به. فهذه ثلاثة أقسام: مثال الأوّل منها، وهو ما يعود إلى عين المنهيّ عنه، بيع سلعة دم (¬1) أو ميْتة، فإنّ ذلك منهيّ عنه. وهذا النّهي لمّا رجع إلى العين أبطل العقد من أصله، ورفعه حتّى لا يصحّ الملك به. ومثال الثّاني إذا باع بخمر أو خنزير، فإنّ الخمر والخنزير فيهما معنى الماليّة، ولكنّهما لا يتقوّمان في الشّريعة، ولا قيمة على المسلم إذا أتلفهما على مسلم. وكأن كونهما مِمّا يتقوّمان وصف زايد على المعنى الذّاتي وهو الماليّة، فإذا بيعت بهما سلعة انتقل بهذا العقد ملك السلعة، وبطل العقد فيهما، وصار كالثّمن المستحقّ، فإنّ استحقاقه لا يمنع من كون السلعة المستحقّ ثمنها انتقل الملك فيها, ولكن منع النّهي وصفًا من أوصاف هذا العقد وهو الصحّة والجواز، ولم يمنع ما يعود إلى ذاته وهو كون حقيقة البيع المعاوضة عن مال بمال. ومثال الثّالث: بيع وقت الجمعة، فإنّه لا يمنع عندهم انعقاد البيع ولا صحّته, لأنّ النّهي لم يعد إلى عين المبيع ولا إلى معنى متّصل به، وإنّما عاد إلى معنى منفصل عن العقد وهو الاشتغال عن صلاة الجمعة، حتّى لو باع في طريقه إلى الجمعة ولم يشغله البيع عنها، فإنّه لا يمنع من ذلك. ولو اشتغل بغير البيع من المباحات لمنع من ذلك. فلم يؤثّر هذا النّهي في صحّة العقد، كما لم يؤثّر النّهي عن الصّلاة في الدّار المغصوبة في إجزائها, لكون النّهي تعلّق بمنع اشتغال الغير بأن يشتغل كلّ صلاة أو غيرها (¬2). وأيضًا فإنّ أصل البيع الجواز ¬

_ (¬1) في المدنية: بدم. (¬2) هكذا في النسختين، والمعنى: على منعه إشغال ملك الغير بالصلاة أو غيرها.

لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬1). وما نهي عنه إنّما يتعلّق بحاصل موجود يكون إيجابه باكتساب، وكفّه عن ذلك باكتسابه. فلو كان العقد لا ينقل الملك لما تصوّر الملك، وإذا لم يتصوّر عنه وهو منهيّ عنه، صار النّهي كالمتعلّق بما لا يمكن، وذلك مِمّا لا يحسن النّهي عنه، كما لا يحسن أن يقال للأعمى: لا تر كذا, ولا تقرأْ كذا. فإذا أشعر تعلّق النّهي يكون المنهيّ عنه يمكن إيقاعه، ولا يمكن إيقاع البيع الفاسد إلاّ بأن يتصوّر فيه انتقال الملك، وهذا يقتضي كون البيع الفاسد ينقل الملك ما لم يقع بميْتة أو دم، لكون ذلك مِمّا لا تتصوّر فيه حقيقة الماليّة. والبيع لا يتصوّر فيه حقيقة إلاَّ محلّ (¬2)، والمحلّ لا بدّ أن يكون له حقيقة الماليّة، وعاقد له حقيقة الأهليّة، وهو العاقل المميّز الّذي يكون أهلًا للبيع. بخلاف العقد بخمر أو خنزير، فإنّ له حقيقة الماليّة، ولكن فقد وصفا شرعيّأوهو كونه مِمّا يقوّم. وكان مقتضى هذا التّقسيم والتّركيب أن ينقل الملك بمجرّد العقد، لكن لمّا ضعف العقد يكون الشّرع سلبه وصف الجواز والصحّة، احتاج هذا الضّعيف إلى ما يقوّيه حتّى يحصل انتقال الملك وما ذاك إلاَّ القبض. ألا ترى أنّ الهبة لمّا ضعف القول فيها, لم ينقل مجرّده الملك حتّى احتاج إلى ما يقوّي هذا الضعف وهو القبض، ولم يلزم هذا في عقد نكاح وقع على فساد, لأنّ العقد في الأنكحة له حرمة، بخلاف حرمة البيع، قوي من أجلها، فاستغنى عمّا يقوّيه في نقل الملك، وجرى مجرى الوطء في النّكاح الفاسد الّذي ينقل الملك. وأيضًا فإنّ العقد الفاسد يسلبه النّهي وصف الحلّ والجواز، وحقيقة النّكاح أن يكون حلالًا. ومن آكد ما يستدلّ به الكتابة الفاسدة، فإنّها يثبت معها العتق عندهم وعند الشّافعيّة. وأجيبوا عن هذا بأنّ اتّفاقهم عليها إنّما كان لأجل حرمة العتق، ألا ترى أن من أعتق جزء عبد عتق عليه ما لا يملكه منه تغليبًا لحرمة العتق. بخلاف أن يبيع نصيبه منه. وأيضًا فإنّ الكتابة كأنّها عتق معلّق بصفة، والتّعليق بالصّفة ينفذ فيه العتق سواء كانت ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 275. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في محلًّ.

الصفة جائزة، كقوله: إن دخلت الدّ فأنت حرّ، أو ممنوعة كقوله: إن قتلت مسلمًا فأنت حرّ. وأمّا الشّافعيّة، فإنّها ترى أنّ النّهي يدلّ على فساد المنهيّ عنه وارتفاعه، سواء كان النّهي يعود لعين المنهيّ عنه أو لمعنى متّصل بها. لأنّ ما اتّصل بها وكان لازمًا لها فإنّه يكون كالرّافع (¬1) إلى العين، فلا معنى لهذه التّفرقة. وأيضًا فإنّ القبض من مقتضى العقد، وهو تابع للعقد، فإذا لم يحصل الملك والضّمان بمجرّد العقد الّذي هو الأصل، فأحرى ألاّ يحصل بما يتبعه وهو متفرّع عنه وهو القبض. ويرون أنّ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (¬2) على حسب ما قدّمنا نحن ذكر اختلافهم فيه. وقد تقرّر في الشّريعة أنّ ما نهى الله عنه ورسوله غير مأذون فيه، وهو مردود. ولا يصحّ الجمع بين كونه منهيًّا عن مباشرته وفعله وبين كونه منعقدًا منبرمًا ناقلًا للملك, لأنّ هذا يصير كالمتناقض من الأحكام. وقد يتعلّق في هذه المسئلة بحديث بريدة (¬3) وهو كون اشتراط الولاء للبائع لا يجوز. ثمّ مع هذا قال لها عليه السلام: "اشتري واشترطي لهم الولاء فإنّ الولاء لمن أعتق" (3). فإنفاذ عتقها يدلّ على صحّة ملكها، وكون هذا العقد نقل الملك إليها. وهذا الاستدلال إنّما يصحّ لو قلنا: إنّ عقدها كان فاسدًا، وأنّهم اشترطت لهم الولاء حين العقد. وهذا لا يصحّ أن يضاف إليها، وهي قد فعلت ما فعلته بعد مشاورة النبيّ عليه السلام. وقد قيل: معنى: اشترطي لهم الولاء اشترطي عليهم، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (¬4) يعني فعليها. وقيل: إنّ هذا مِمّا خصّت به عائشة رضي الله عنها، فأجيز لها فعل ذلك ليكون فسخ الشّرط، والزّجر عنه بالفعل والقول والبيان لجميع النّاس آكد في المنع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعَل الصواب: كالراجع. (¬2) سورة البقرة: 275. (¬3) المعلم ج 2 ص 146. (¬4) سورة الإسراء: 7.

منه. وقد بسطنا الكلام على هذا الوجه في كتابنا المعلم (¬1). والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: مجرّد العقد الفاسد في البياعات لا ينقل ضمانها. لكن إن أمكن البائع المشتري من القبض، فترك ذلك باختياره، فعندنا فيه قولان: 1 - هل ينقل الضّمان إلى المشتري كما ينقل الضّمان إليه في التّمكين في البيع الصحيح. ويعَدّ التّمكين كالقبض لمّا ترك المشتري المبيع باختياره وكأنّه أبقاه بعد قبضه في يد بائعه كالوديعة؟ 2 - أو لا ينقل التّمكين ضمانًا لكون الشرع نهى المشتري عن التّمادي على هذا العقد، ونهاه عن قبضه، وأمره بفسخه. فلا يعدّ تمكين البائع منه كقبض المشتري له لمّا فعل المشتري، من اجتناب القبض، ما أمره به الشّرع. بخلاف البيع الصحيح، فإنّ الشّرع لم يمنع فيه من القبض منه ولا نهى عنه وصار التّمكين فيه كالقبض. وأمّا إذا حصل القبض في البيع الفاسد، فإنّ الضّمان ينتقل، ولكنّه عندنا انتقال مقتضية شبهة الملك لا حقيقة الملك، على ما قدّمناه وحكيناه عن بعض أصحابنا، وذكرنا نحن ما فيه عندنا وما قاله غيرنا من الأشياخ. وقد قال القاضي إسماعيل: إنّ بعض من حدّث يقول: إذا مات العبد المشترى شراء فاسدًا في يد مشتريه، فإنّ ضمانه من البائع، لكون هذا القبض عند هذا كقبض الوديعة الّتي يكون ضمانها من مالكها الّذي أودعها. وهذا الّذي ذكره خلاف طريقة فقهاء الأمصار، ولهذا أضافه القاضي إسماعيل لبعض من حدّث مشيرًا بهذا القول إلى كون هذا القائل شذّ عن الجماعة. فأمّا الحنفيّة، فإنّها تراه ضامنًا بالقبض, لأنّ حقيقة البيع حصلت، ولهذا نقلت الملك وحقيقة البيع نقل الملك بعوض، والأصل في العوض المعادلة، والمعادلة إنّما تكون بالقيمة. لكنّهما إذا تراضيا بتسمية قضي بها إذا كانت جائزة. فإذا أبطلها الشّرع، رجع إلى الأصل وهو كون القيمة عوضًا من هذا المقبوض. ولو زادت في المقبوض زوائد متّصلة به لردّت معه عندهم لكونها ¬

_ (¬1) المعلم ج 2 ص 146 - 153.

بيعًا للعين التّي زيدت، وحكم التّابع حكم المتبوع. وأمّا الشّافعيّة، فإنّها لمّا صارت إلى أنّ البيع لم ينقل الملك، والمشتري يردّ المبيع، صار في يده كالمغصوب، والغاصب يضمن ما قبضه غصبًا، وكون المشتري قبض بإذن البائع لا يخرجه عن أحكام الغصب، لكون البائع إنّما أَذِن له لاعتقاده أنّه يملك بهذا العقد السلعة، ويتمّ لهما ما تعاقدا عليه. فإذا ظهر الأمر بخلاف ما اعتقد، صار كالقابض بغير إذن حتّى قالوا على هذا: لو كانت أمة فاستخدمها لردّ إجارة الخدمة، ولو باعها لنقض بيعه، ولو فاتت في يد مشتريها شراء فاسدًا لغرم أغلى قيمتها في الأزمنة التّي كانت في يده كما يغرم الغاصب أغلى القيم. ونحن نرى أنّه ليس كالغاصب لكون البائع أذن له في القبض والتصرّف، ولا كالمودع لأنّه قبض ما قبضه لمنفعة نفسه فتعلّق به الضّمان. ولكنّا نعدل بين المشتري والبائع، فنرى أنّ تغيّر الأسواق يمنع من ردّ المبيع، ويوجب أخذ القيم على حكم ما سنبيّنه في أحكام القيم. وسحنون يجريه مجرى الرّهان إذا كان البيع الفاسد متّفقًا على تحريمه، فيضمن قابض السلعة على عقد فاسد ما يغاب عليه، إلاّ أن تقوم البيّنة بهلاكه، ولا يضمن ما لا يغاب عليه. ويُجري الأمر في ذلك على أحكام ضمان الرّهان لمّا لم يقبض المشتري ذلك لمنفعة دافعه خاصّة حتّى يكون مثل الوديعة بل لمنفعة نفسه، فصار شبه الرّهان. لكن شَرَط أن يكون الفساد والتّحريم واضحًا متّفقًا عليه لأجل أنّ المختلف فيه من ذلك يحسن أن يراعى فيه خلاف من أجازه، فيضمن كضمان البيع الصحيح. لكن يشترط في هذا القبضُ، لأجل تحريم العقد عند من صار إليه وتقاصره بمجرّده عن نقل الملك حتّى ينضاف إليه القبض على حسب ما قدّمناه. فتلخّص من هذا أنّ هذا القبض تتصوّر فيه المذاهب المختلفة في إسنادها إلى ما يسند ذلك إليه، هل يمنع من نقل الملك، وإن اتّصل العقد بالقبض،

فيبقى المقبوض على ملك دافعه كالوديعة على حسب ما ذكرناه من حكايته القاضي إسماعيل وإشارته إلى التّنبيه بالوديعة، أو يلحق بالرّهان وإن لم ينقل ذلك القبض الملك لكون القابض ها هنا قبض لمنفعة نفسه، أو يضمن ضمان الغصوب، لأجل ما أشرنا إليه من كونه عند هؤلاء لم ينقل الملك ولا شبهة الملك. وللإذن في التصرّف لهما وقع بشرط أن يكون البيع نافذًا غير مردود، أو يكون قبض المبيعات الّتي صحّ ملكها بالمعاوضة عليها، كما قال أبو حنيفة، أو شبهة الملك، كما حكيناه عن بعض أصحابنا، وإسناد ذلك إلى المذهب، وحكينا نحن ما عندنا في ذلك مِمّا أسندناه إلى المذهب. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: يحسن ها هنا أن نصدر هذا الفصل بتقاسيم تتعلّق بهذا الكتاب فمن ذلك أنّ عقود المعاوضة أربعة: 1 - عقد صحيح منحتم. 2 - وعقد صحيح غير منحتم كعقد الخيار. 3 - وعقد فاسد منحتم فساده، كبيع الغرر وشبهه. 4 - وعقد غير منحتم فساده، كبيوع الشّروط التّي فسد العقد لأجل ما قارنه من الشّرط. فيجب للمشترط الفسخ إن تمسّك المشترط، وإن سمح بإسقاطه انحتم العقد وصحّ، مثل البيع بشرط السلف، وبيع جارية على أن يتّخذها المشتري أمّ ولد، على أحد القولين في وقف الفسخ على التمسّك بالشّرط، والإمضاء على إسقاط الشرط. والفساد يلحق العقد من ثلاثة أنحاء: 1 - من ناحية العقد. 2 - أو من ناحية الثّمن. 3 - أو منهما جميعًا. والمتملّكات التّي يتصوّر فيها العقد الفاسد في البياعات أربعة: 1 - عقار 2 - وعروض 3 - وحيوان 4 - ومكيل وموزون.

والمفيت لهذه العقود الفاسدة أربعة: 1 - تغير الذّوات 2 - أو تغيّر الأسواق 3 - أو إخراج عن الملك 4 - أو تعلّق حقّ آخر بهذا المبيع. فنبدأ بالكلام على حصول الفوت بمجرّد القبض من غير أن ينضاف إلى ذلك أحد هذه الأربعة أقسام. فاعلم أنّ المعروف من المذهب أنّ مجرّد القبض لا يكون فوتًا في البياعات الفاسدة. لكن ذكر ابن مسلمة أنّ الفسخ بعد القبض استحسان. وهذا إشارة منه إلى أنّ القياس كون مجرّد القبض مانعًا من الفسخ. وهو مقتضى المذهب الّذي حكيناه من كون العقد الفاسد إذا اتّصل به القبض ينقل الأملاك. وإذا تحقّق نقل الملك لم يتصوّر الفسخ. وقد أطلق القول بعض أشياخي على ذلك الخلاف في البيع الفاسد، هل يفوت بالعقد أو القبض، تخريجًا منه ذلك من مسئلة من أسلم في ثمر بعينه على الكيل لمّا زهي بشرط أن يأخذه تمرًا. فإنّا كنّا قدّمنا في كتاب السلم ذكر الاختلاف، هل يكره ذلك وينهى عن العقد؟ فإنْ وقع العقد، فسخ إذا لم يقبض، أو يمضي بمجرّد العقد ويفوت المبيع بالقبض؟ وهذا التّخريج عندي لا يحسن إطلاقه, لأنّ هذه المسئلة وأمثالها إنّما يحمل النّهي فيها على الكراهة لا على التّحريم المتّضح. والكراهة لا تلحق بالتّحريم ويحسن أن يقال فيها: ينهى عن هذا العقد لكونه مكروهًا. فإن عقد، لم يفسخ لكونه ليس محرّمًا. وهكذا قال ابن القاسم فيمن باع نخلًا مثمرًا على أن يختار منها نخلات، أي لَكُره هذا البيع. فإن وقع أمضيته، لقول مالك فيه. فشتّان ما بين مكروه ومحرّم، ومجمع عليه ومختلف فيه. وقد قال مالك: ما كراهة النّاس فيه من هذه العقود، فإنّه يفسخه إلاّ أن يفوت فيمضي، فعبّر عن ذلك بالكراهة. لكن ابن مسلمة لمّا أطلق القول بأنّ الفسخ بعد القبض في البياعات الفاسدة استحسان، صار هذا منه كالمسهّل لهذا التّخريج. وقد قدّمنا نحن من ذكر المذاهب في تأثير العقد الفاسد المتّصل به القبض ما تبنى عليه هذه المسئلة. وإذا وضح ما قلناه في مجرّد العقد المتّصل به القبض، فلنذكر ها هنا ما

ذكرنا من الأقسام المفيتة، ونذكر حكمها في كلّ قسم من الأجناس المبيعة. فأمّا العقار، فإنّ ذهاب عينه، واندراسَه الّذي يقوم مقام ذهاب العين، فلا خفاء يكون ذلك فوتًا يمنع الرّدّ للمبيع. لأنّ ردّ عين المبيع مع ذهابها يستحيل، وكذلك اندراسها المقارب لذهاب عينها. وأمّا التّغيير لها، فإنّها إن كانت ديارًا فإنّ الهدم يفيتها. والأبنية في أرضها تفيتها. والأرضون يفيتها الغرس أو قطعه، وحفر الآبار وشقّ العيون، وما في معنى ذلك. لكون هذه الأحوال يتحوّل معها الغرض المقصود من العقار. والغرض المقصود إذا تبدّل في العين فصارت (¬1) العين كأنّها غير موجودة. وهذا الّذي قلناه يشير لك إلى توجيه ما قاله أصبغ فيمن اشترى أرضًا شراء فاسدًا، فغرس فيها غرسًا، فإنّه قسّمه على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يغرس جميع ما أحاط بالأرض ويبقي جلّها بياضًا، فإنّ ذلك فوت. وإن غرس منها ناحية بعينها، مِمّا لها مقدار بالنّسبة إلى ما بقي، فإنّ المغروس خاصّة هو الّذي يفوت. وإن كانت هذه النّاحية لا مقدار لها, لم يفت شيء من الأرض وتردّ إلى بائعها ويقضى عليه بقيمة الغرس. والأشبه أن يقضى عليه بقيمته قائمًا لكونه غرس بوجه شبهة. وإن كان أصبغ لم يصرّح بهذا, ولكن مقتضى المذهب هذا الّذي قلناه. فأنت تراه كيف جعل الغرس فوتًا للجميع، أو ليس بفوت في الجميع، أو فوتًا في المغروس دون ما لم يغرس. وما ذلك إلاّ لما قلناه من اتّضاح اختلاف الأغراض وتباينها أو تقاربها. فاعتبار ذلك ودّاه إلى هذا التّقسيم الّذي قسمه. وقد اضطرب الأشياخ في مسئلة المدوّنة إذا باع جارية بجاريتين بيعًا فاسدًا، فإنّه ذكر في المدوّنة فسخ العقد وإلزام القيمة مع ذوات المبيع. وتنازع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين؛ والأوْلى حذف الفاء.

الأشياخ إذا كان الفوت في الجارية الرّفيعة من الجاريتين اللتّين بيعتا بيعًا فاسدًا، والجارية الّتي هي الحقيرة من الصفقة لم تفت، هل ينسحب حكم فوت الرّفيعة على المحتقرة حتّى يقدّر أنها كالفائتة لكونها تابعًا لما فات، والتّابع يجري عليه حكم المتبوع، على حسب ما نقوله في أحكام الاستحقاق لإحدى الجاريتين، أو ردّ إحداهما بعيب، أو يفسخ البيع في الّتي لم تفت، وإن كانت محتقرة، لكون الفسخ حقًّا لله سبحانه، وحقّه غير مبنيّ على الأغراض. فلا يعقد في المحتقرة عقد فاسد من غير حصول فوت، بخلاف أحكام البيوع والاستحقاق، فإنّها مبنيّة على حقوق الخلق واعتبار أغراضهم. فإذا استحقّت الرّفيعة من الجارتين وانتقض البيع فيها، كان لمن استحق ذلك من يده ردّ المحتقرة الّتي لم تستحقّ لبطلان غرضه في الصفقة لمّا استحقّ جلّها والمقصود. وقد رأى أصبغ أنّ مرور السنين الكثيرة كالعشرين ونحوها على الدّيار المبيعة بيعًا فاسدًا يفيتها، واعتلّ بأنّ ذلك لا يكون حتّى تتغيّر بالبلى. وهذا لا يخالَف فيه. والرّوايات المذكور فيها أنّ مجرّد الطّول لا يكون فوتًا، إنما أطلقت على أنّ طول الزّمان لم يغيّر عينها. وأمّا حوَالة الأسواق في العقار، ففيه اختلاف: هل يفيت البيع الفاسد أم لا؟ فالأشهر لا يفيته. وقال ابن وهب: إنّ ذلك يفيته. وأجرى العقّار مجرى العروض. وإذا كان السبب المانع من الفسخ المعادلة بين المتبايعين في رفع الضّرر عنهما. ومن الضّرر إذا زادت قيمة السلعة في يد المشتري أن يؤخذ من يديه، فيخسر ما اشتراها لأجله من الرّبح. وإذا نقصت قيمتها فرددناها على البائع، أضررنا أيضًا به. فكان من العدل بينهما المساواة في نفي هذا الضّرر عنهما. فجعلتَ اختلاف الأسواق بزيادة أو نقصان يفيت البيع الفاسد، ولا فرق بين العروض والعقار في اعتبار هذا الضّرر. وأشار بعض الأشياخ إلى الاعتذار عن المذهب المشهور من التّفرقة بين العقار والعروض بأنّ الغالب في الدّيار أنّها لا تشترى للتّجارة بل للقنية والسكنى أو الاغتلال. فلم يؤثّر اختلاف الأسواق لمّا لم يكن ذلك مقصودًا عند المتعاقدين فيها. والغالب في العروض شراؤها

للتّجارة. وإذا كان مقصود المتعاقدين زيادة الأسواق فيها وانخفاضها، أثّر ذلك في العقد ومنع من الفسخ، وتغيّر الحكم في الفسخ لمّا تغيّر المقصود. وإذا نقض البيع في العقار المبيع بيعًا فاسدًا قبل الفوت ولم ينقض بعد الفوت وقد بيّنا وجوه الفوت، فإنّ الزّرع في الأرض لا يفيتها ولا الإثمار في النّخل. فأمّا الزّرع فإنّه من حقّ المشتري للأرض شراء فاسدًا أن يبقى زرعه فيها إلى أن يحصده من غير أن يجب عليه كراء، لكونه كمحتلّ بوجه شبهة، وضامنًا لما اغتلّه. وقد قال عليه السلام: "الخراج بالضّمان" (¬1). إلاّ أن يتوجّه الحكم عليه بفسخ البيع، وإبّانُ الزّراعة لم يفت، فإنّه يجب عليه كراء الأرض, لأنّ الأصل إذا حكم بالفسخ، قلع زرعه وردّ الأرض فارغة إلى بائعها على حسب ما أخذها منه، لكن في ذلك إتلاف مال المشتري وإضرار. وقد قدّمنا أنّ حوّالة الأسواق تمنع من ردّ المبيع لنفي الضّرر عن المشتري إن زاد سوق السلعة، وهي في يديه، وعن البائع إن نقص سوقها، وهي في يد المشتري، فكذلك يجب مراعاة حقّ المشتري في أن لا يُتلَف زرعه فيجب إبقاؤه لأجل هذا, ولكن في إبقائه أيضًا منع البائع من زراعة أرضه، وإبّانُ زراعته لم يفت، فيجب أيضًا ألاّ يُضَرَّ بالبائع ويُحرَم الانتفاع بأرضه. فكان العدل بينهما إقرار زرع المشتري وإعطاء البائع كراء ما حُرِم الانتفاعَ به. فإذا وقع الفسخ بعد الإبّان، فإنّ البائع لم يحرم انتفاعًا يجب أن يعاوض عنه. وأمّا لو كانت نخلًا أثمرت وقد اشتريت شراء فاسدًا، فإنّ الثّمرة تردّ على البائع لمّا وجب ردّ النّخل، إلاّ أن يحصل لها حكم كونها غلّة، فيكون للمشتري لكونه ضامنًا، والخراج بالضّمان. واختلف متى يكون ها هنا غلّة، فقيل بطيابها، فإذا طابت كانت للمشتري ولا بدّ مع النّخل، كما لو قبضها المشتري وأكلها، ثمّ وقع الفسخ بعد ذلك. وقيل: بل يكون لها ها هنا حكم الغلّة بالإِبّار وتكون للمشتري. وسنبسط الكلام على هذا وأمثاله في الحال الّتي تكون بها الثّمرة غلّة إذا ردّت النّخل بعيب أو استحقّت أو أخذت بشفعة أو بحكم تفليس، وأحكام نفقة المشتري عليها وسقيه لها في ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم - جامع الترمذي ج 2 ص 561 ح 1285

المواضع الّتي تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. فإذا تقرّر حكم الفوت في العقار، فإنّ العروض يفيتها في البيع الفاسد ذهاب عينها، وتغيّرها في ذاتها، أو تغيّر أسواقها. وهذا لمَا قدّمناه من المعادلة بين المتبايعين في نفي الضّرر عنهما. فلو قضينا بردّ العين بعد تغيير (¬1) ذاتها أو تغيير (1) سوقها لألحقنا بأحدهما ضررًا دون صاحبه، وهما قد استويا في سبب الفسخ دخلا فيه مدخلًا واحدًا. بخلاف الرّدّ بالعيب، فإنّ العروض لا يمنع من ردّها تغيّر سوقها لمّا كان العيب من جهة البائع دون المشتري. وقد يظنّ بالبائع أنّه علم به، فلم يبيّنه أو فرّط في الكشف عنه لمّا باع سلعهُ على أنّها سالمة، والمشتري يقدّر أنّ الأمر على ما أظهره البائع له. وكذلك يفيت العروض أيضًا، في البيع الفاسد، نقلُها من بلد إلى بلد، لكون ردّها إلى البلد الّذي بيعت فيه لا يمكن في غالب العادة إلاّ بمشقّة سفرها وأداء إجارة على حملها. وأمّا الحيوان، فإنّه يفيته حوَالة الأسواق أيضًا، وأمّا نقله من بلد إلى بلد، فإنّ ذلك لا يفيته لكونه لا يفتقر إلى حمل بل يمشي بنفسه. بخلاف العروض الّتي لا تنتقل بنفسها. وإذا انتفت المضرّة في ردّه وكان علة الفوت لحوق المضرّة بأحد المتبايعين وجب في الحيوان أن لا يكون نقله فوتًا. لكن مقتضى هذا التّعليل أن يكون إذا تصوّر فيه الضّرر بركوب غرر في ردّه أو غير ذلك مِمّا في معناه أن يلحق بالعروض ويكون نقله فوتًا. واختلف في مجرّد طول زمان مرّ على الحيوان ولم يتغيّر الحيوان في ذاته ولا في سوقه، هل يكون فوتًا؟ فذكر في كتاب العيوب من المدوّنة أنّ مرور شهر عليه يكون فوتًا له. وذكر في كتاب السلم أنّ الشّهر والشّهرين لا يكون فوتًا. واعتقد بعض أشايخي أنّ هذا قول على الإطلاق. وليس الأمر كذلك، وإنّما هو اختلاف قول في شهادة بعادة (¬2). لأنّه أشار في المدوّنة إلى أنّ المقدار الّذي حدّه من الزّمان لا يمضي إلاّ وقد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغيُّر. (¬2) في نسخة المدنية: بعادلة.

تغيّر الحيوان، فلهذا رآه مفيتًا. فحصل من هذا أنّ الاعتبار بالتّعيين (¬1) بالذّات أو السوق. والتغيّر قد يكون مدركًا محسوسًا، وقد يكون مستدلاّ عليه بطول زمان، فيقع الاختلاف في تحديد هذا الزّمن الّذي يستدلّ به على التّغيّر. وأمّا المكيل والموزون فإنّه إذا لم يتغيّر في ذاته ولا في سوقه، فإنّه يفسخ البيع فيه لعدم ما يفيته. وإن تغيّر في ذاته أو انعدمت ذاته ولم يتغيّر في سوقه، فإنّ الواجب ردّ مثله لأنّ مثله يقوم مقام عينه. وقد فرضنا أنّ عينه إذا لم تتغيّر ولا تغيّر سوقه أنّ الفسخ فيه واقع. فإذا تغيّرت عينه أو انعدمت، وانضاف إلى ذلك تغيّر سوقه، فإنّ في المذهب قولين: أحدهما، وهو المشهور، أنّ تغيّر السوق فيه لا تأثير له، ولا يعدّ فوتًا. وذهب ابن وهب وغيره إلى أنّ تغير السوق فيه يعدّ فوتًا مع قيام العين أو انعدامها. وهذا الّذي قاله مقتضى طرد التّعليل الّذي قدّمناه مرارًا، من الالتفات إلى المعادلة بين المتبائعين في كون أحدهما لا يختصّ بضرر، إذا وقع الفسخ، دون صاحبه. ومقتضى هذا أن يوجب القيمة إذا وقع الفسخ في المكيل والموزون لأجل تغير سوقه. فإذا قضينا بذلك، انتفى الضّرر عن اختصاصه بأحدهما دون الآخر. وكأن من ذهب إلى القول المشهور يرى أنّ العرض إذا تلف، قضى بقيمته. وإذا تغيّرت سوقه مع وجود عينه، جرى ذلك مجرى تلف عينه فتجب القيمة. فلمّا كان الإتلاف لعين العرض كتغيّر سوقه، وكان إتلاف عين الموزون والمكيل يوجب مثله، وجب أن يكون تغيّر سوقه كإتلاف عينه أيضًا، فيجب فيه المثل إن عدمت عينه، ويردّ بعينه إن بقيت العين موجودة، لكون عينه بالرّدّ أولى من ردّ مثلها. فمقتضى هذا لا تؤثّر حوّالة السوق فيه لما بيّناه. ولا يجب العدول عن أصل الشّرع المقرّر فيه في غرامة مثله إن أتلف إلى غرامة قيمته من غير دليل يلجي إلى الخروج عن هذا الأصل المقرّر فيه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: التغيّر.

وأمّا نقله من بلد إلى بلد فيجري مجرى العروض لكونه لا ينقل بنفسه، بل يفتقر إلى كلفة في نقله وإجارة على حمله. وهذا إذا اشترى المكيل والموزون على الكيل والوزن. وأمّا إن بيع جزافًا، فإنّه لا يصحّ أن يقضي بمثله لكون مقداره مجهولًا، ولا يلحق حكمه بالمكيل والموزون في الفوت، بل يلحق بأحكام فوت العروض لمّا كان الواجب فيه عند انعدام عينه القيمة كما يجب في العروض. لكن وقع اختلاف بين المدوّنة والموّازيّة في السيف المحلّى إذا بيع بيعًا فاسدًا، هل يمنع من ردّ عين الحلية حوالة السوق فيه أو لا؟ وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصرف. وقد كان بعض أشياخي يذهب إلى أنّ هذا المكيل المبيع جزافًا إذا أراد بائعه أن يقضى له بأقلّ ما يقدر فيه من المكيلة، أنّ ذلك له، ويصير حينئذ كالمبيع على الوزن أو الكيل، وكذلك إذا أراد المشتري أن يغرم ما يتحقّق أنّ الّذي يغرمه أكثر مِمّا أتلف. وذهب إلى أنّ المذهب على قولين فيما بيع جزافًا، ثمّ علم كيله بعد ذلك، هل يعود الحكم إلى ما علم من حاله بعد عقد البيع فيقضي فيه بالمثل، أو يبقى على حكمه حين عقد البيع على كون المبيع غير متيقّن مقداره. وقد أشار الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد إلى إمكان ارتفاع الخلاف في هذا لما نقل المذهب فيمن باع ثمرة قبل الزهُوّ فجذّها المشتري رُطَبًا، أنّ البيع يفسخ ويردّ المكيلة تمرًا إن كان جدها بعد أن صارت تمرًا. وسنذكر ما أشار إليه إذا تكلّمنا على المسئلة بعد هذا. وأمّا إذا تقرّر (¬1) أحكام نوعين من المفيتات وهما تغيّر السوق أو الذّات في جميع أجناس المبيعات. فلنذكر الفوت بالقسم الثّالث وهو خروج المبيع من الملك. فإذا بيع أحد أجناس المبيعات بيعًا فاسدًا ثمّ باعه مشتريه بعد قبضه بيعًا صحيحًا، فإنّه لا يخلو: أن يكون فساد البيع واضحًا متّفقًا على فساده لا إشك الذي الدّليل الّذي منع منه. فإنّ المذهب على قولين في كون البيع الصحيح الّذي عقده المشتري ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الأولى حذف وأما.

مفيتًا للبيع الفاسد. وقد قدّمنا ذكرهما وأشرنا إلى أنّ سحنونًا يرى هذا العقد الفاسد لا ينقل الملك ولا شبهة الملك، وأنّ القبض فيه يلحق بقبض الرّهان. والرّهن إذا باعه من هو في يديه لم ينفذ بيعه فيه. وذكرنا أنه المشهور من المذهب، وأنّ عقدة الصحيح مفيتة لشرائه إيّاه شراء فاسدًا، لتعلّق حقّ المشتري به، وكون البائع سلم المبيع إليه، وهو قد أذن له في التّصرّف فيه، ومن التصرّف فيه بيعه إيّاه، فلو قرّرنا أنّ الملك لم ينتقل ولا شبهة الملك، لكنّا ننفذ هذا العقد الثّاني لكون البائع أذن فيه وسلّط المشتري على عقده. وأمّا إن كان العقد الفاسد مختلفًا فيه اختلاف طرق الاجتهاد، فإنّه يمضي بيعه فيه، ويكون ذلك فوتًا للبيع الفاسد إذا كان المشتري لم يبعه بيعًا صحيحًا إلاّ بعد أن قبضه وصار في يديه. فأمّا إن باعه قبل قبضه وهو في يد بائعه لم يمكنه منه، فإنّ الظّاهر كون المذهب على قولين في انعقاد بيعه فيه. وقد تنازع الأشياخ ما مقتضى المدوّنة من هذين القولين، فقال بعضهم: مقتضاها كون هذا البيع الصحيح لا يفيت البيع الفاسد، لقوله في كتاب العيوب من المدوّنة فيمن اشترى سلعة شراء فاسدًا ثمّ باعها بيعًا صحيحًا: إنّ عليه قيمتها يوم قبضها وينفذ (¬1) بيعه الصحيح فيها إن كان قبضها. فرأى هؤلاء أنّه لمّا اشترط في نفوذ بيعه كون بيعه واقعًا بعد أن قبضها، كان دليل هذا الخطاب يقتضي أنّه لا ينفذ بيعه فيها إذا باعها قبل قبضها. ورأى من خالفهم في هذا التّأويل أنّه يمكن أن يكون أراد بهذا الاشتراط صرفه إلى ما قدّمه من قوله: عليه قيمتها يوم قبضها. وقصد أن يبيّن أنّ قوله: عليه قيمتها يوم قبضها، أنّ ذلك إنّما يتصوّر إن كان قبضها، وتعلّق هؤلاء أيضًا بقوله: ولو تصدّق بها قبل قبضها, للزمه قيمتها يوم تصدّق بها. فإذا نفذت الصدقة قبل القبض، فأحرى أن ينفذ البيع قبل القبض لكونه آكد من الصدقة. وهذه المبالغة الّتي أشاروا إليها قد لا يسلمها لهم الآخرون، ويقولون: لا يكون البيع أحرى من الصدقة لأنّ البيع إذا نقض رجع المشتري بالثّمن، فلم يلحقه ضرر بالفسخ. والصدقة إذا نقضت بعد أن قبضها ¬

_ (¬1) في المدنية: وينعقد.

المتصدّق عليه، لم يرجع عليه بشيء ففاته ملك من غير عوض يأخذُهُ عنه. هذا مِمّا يمكن عندي أن يدافعهم به الآخرون. وتعلّق أيضًا من ذهب إلى أنّ المدوّنة تقتضي كون البيع الواقع قبل القبض لا ينفذ بقوله في كتاب السلم فيمن اكترى دارًا كراءًا فاسدًا ثمّ أكراها كراءًا صحيحًا: إنّ المكتري كراءًا فاسدًا يردّ الغلّة. وإذا وجب عليه ردّها اقتضى ذلك أنّه لم ينفذ عقده الصحيح فيها. وقال الآخرون: المراد بردّ الغلّة قيمة الغلّة. والتعلّق بهذه المسئلة فيه نظر عندي، وذلك أنّ المكتري لهذه الدّار كراء فاسدًا إذا سلّمت إليه، فقد صار قابضًا لها وكالقابض لمنافعها الّتي أكراهًا، لا سيما وقد أتلف من هذه المنافع من اكتراها منه كراء صحيحًا. فيحصل من هذا أنّ عقد البيع الصحيح إنّما وقع بعد قبض المبيع، وقد قدّمنا أنّ وقوعه بعد قبض المبيع لا يختلف فيه إذا كان الفساد غير مجمع عليه. والمراد ها هنا تطلب حلّ البيع الصحيح قبل القبض. وهذا الّذي اعتذرنا عنه به نحن في هذه المسئلة لا يمنع من تصوّره كونُ ضمان المنافع من الّذي باعها بيعًا فاسدًا، وكونُ الضّمان منه يصيِّر القبضَ كالعدم. لأنّ الأمر لو كان كذلك لم يختلف في منع أخذ دار معيّنة عوضًا عن دين مضمون في الذّمّة. وقد قدّمنا نحن اختلاف ابن القاسم وأشهب في ذلك، وأنّ القول بإجازة ذلك مبنيّ على أن قبض أوّل المنافع كالقبض لجميعها، أو لغير ذلك مِمّا أشرنا إليه، مع كون الضّمان لم يختلف أنّه باق على المديان الّذي سلّم منافع هذه الدّار عوضًا عن دين عليه. وكذلك أيضًا تعلّق بعض الأشياخ بمسئلة الموّازيّة فيمن اشترى ثمرًا قبل الزّهوّ على التّبقية، ثمّ باعه بيعًا صحيحًا. فذكر ابن الموّاز عن مالك أنّه قال: عليه قيمته يوم بدا صلاحه. وقال ابن الموّاز: بل إنّما تكون عليه القيمة يوم أفاته بالبيع الصحيح. وحكي عن مالك أيضًا أنّه قال: يردّ مثل المكيلة. وقوله هذا يقتضي أنّ البيع الصحيح لا يفيت البيع الفاسد, لأنّه لو أفاته لم تردّ المكيلة الّتي قبضت عن بيع صحيح يجب إنفاذه، وإنّما يكون الواجب عليه قيمة ما اشتراه يوم أفاته بالبيع، كما قال ابن الموّاز، أو قيمته يوم بدا صلاحه. ويكون وجه هذا القول أنّ البائع دخل مع المشتري على

أنّه مكّنه من جدّ هذه الثّمرة إذا بدا صلاحها. والتّمكين يعدّ كالقبض على أحد القولين. والبيع الصّحيح بعد حصول القبض ينفذ بغير خلاف على حسب ما قدّمناه. وقد تأوّل أيضًا من خالف أصحاب هذا المذهب هذه الرّواية على المراد بها أنّه يردّ مثل المكيلة يوم باعها وأفاتها بالبيع، وقد علم كيلها يوم أفاتها بالبيع. فلمّا وجب نقض البيع الأوّل الفاسد ردّ مثل المبيع لكون المبيع مكيلًا، كما يردّ قيمة العرض إذا فات، وقد وجب نقض البيع فيه. وأشار بعض أشياخي إلى تأويل آخر وهو أنّ الضّمان في الثّمرة على بائعها ما دامت محتاجة إلى السقي، على ما سيأتي في كتاب الجوائح، وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ الجائحة يطلب بها المشتري الأوّل، الّذي اشترى شراءًا فاسدًا، مَن باع الثّمرة منه. فإذا كان لكلّ واحد منهما على من (¬1) باع منه الطّلب بحكم الجائحة، وكان الضّمان من البائع وجب أن يردّ مثل المكيلة تمرًا، وهي الحالة الّتي سقط بها الضّمان عن البائع الأوّل وعن البائع الثّاني. وكأن هذا اعتذار منه عن وجوب ردّها تمرًا، وهو لم يفتها بالبيع إلاّ قبل أن تصير تمرًا، على مقتضى ظاهر الرّوايات في وجوب ردّ مثل المكيلة تمرًا، وإن وقع البيع الصحيح قبل أن يصير تمرًا. وهذا الاعتذار منه يتعلّق بالكلام على مسئلة أخرى، وهي أنّ من باع قبل الزّهوّ فتركه حتّى زهي فجدّه رطبًا، فإنّ البيع فاسد، ويجب عليه ردّ قيمة الرّطب إذا فات، وفات إبّانه حتّى لا يوجد مثله ولو كان مكيلًا. (أمّا عقد البيع على كونه جزافًا وتعذّر وجود ردّ مثل المكيلة تمرًا وإن وقع البيع صحيحًا قبل أن يصير تمرًا) (¬2). وأمّا لو لم يتعذّر وجود مثله، ولكنّه علم كيله بعد العقد، فإنّا قدّمنا ما وقع في ذلك لبعض أشياخي من إضافته إلى المذهب قولين في هذا. ¬

_ (¬1) (من) ساقطة في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، وهو غير واضح.

وأشار الشّيخ أبو محمّد ابن أبي زيد إلى تأويل يرفع الخلاف فيه. واضطرب الأشياخ في من باع تمرًا قبل الزّهو على التّبقية، فجدّه مشتريه عقيب العقد، هل تعتبر فيه القيمة إذا وجبت على المشتري على الرّجاء أن تبقى حتّى تصير تمرًا، أو يُعَاهُ قبل ذلك، أو يجب فيه القيمة مطلقًا على حالته الّتي جدّ عليها. فذهب بعضهم إلى أنّ القيمة تجب على الرّجاء والخوف قياسًا على من تعدّى على زرع قبل زهوه فأتلفه، فإنّ القيمة الواجبة عليه يعتبر فيها رجاء سلامته والتخوّف من عاهته. وأنكر أبو القاسم بن الكاتب هذا القياس، وقال: إنّما وجب على المتعدّي القيمة على الرّجاء والخوف لأجل أنّه لم يؤذن له في حصد هذا الزّرع وإتلافه قبل بلوغه الغرض المقصود منه، وهذا الّذي اشترى تمرًا على التّبقيه شراء فاسدًا قد أذن له البائع في التصرّف فيه بالجدّ وغيره، فلم يلزمه إلاَّ قيمته على الحالة الّتي جدّه عليها, لأنّ الّذي منع منه من رجاء بقاء الثّمرة حتّى تصير تمرًا، لم يكن منه إلاّ بإذن البائع، فلا مطالبة عليه بأن حرمه منفعة هو أذن له في حرمانه إيّاها. وأشار بعض الأشياخ إلى اعتبار هذا الشّرط للتّبقية، هل هو حقّ للمشتري خاصّة إن شاء أبقى الثّمرة إلى أن تصير تمرًا، وإن شاء لم يبقها، فيكون ما قاله ابن الكاتب هو الصّوَاب، لكون المشتري لم يمنع البائع من حقّ له ولا منفعة. أو يكون للبائع في هذا حقّ، لكون الجدّ قبل الطّياب يؤدي شجره ويضرّبه، ومن حقّه أن يمنع ما يضرّبه، فيحسن ما قاله الآخرون من اعتبار القيمة على الرّجاء والخوف. وهذا التّفصيل يقتضي أن يكون حقّ البائع في المطالبة بما لحقه من الضّرر في شجره، لا قيمة ما حُرِمه من رجاء طِياب الثّمرة، إذ لا حقّ له في ذلك إذا لم يكن له فيه منفعة ولا تلحقه مضرّة. وكان بعض أشياخي يرى أنّ من باع ثمرة قبل الزّهو، فتركها مشتريها

حتّى صارت رطبًا فجدّها، أنّ البائع لا يلزمه أخذ عين الرّطب المجدود، ولو كان قائمًا، لكون الواجب على المشتري القيمة على الرّجاء والخوف. وإذا أخذه رطبًا هضم من حقّه المنفعة الّتي كان يرجوها، وهذا منه ذهاب إلى إحدى الطّريقتين الّتي ذكرناها عن بعض الأشياخ. فإذا تقرّر أحد الأسباب المفيتة، وهو إخراج المبيع بيعًا فاسدًا عن يد مشتريه، فإنّ ذلك يكون بأنواع منها البيع، وقد استقصينا الكلام عليه إذا وقع بعد قبض المبيع أو قبل قبضه. ومنها الهبة والصدقة والعتق، وحكم ذلك حكم البيع الواقع بعد القبض أو قبل القبض. وكذلك ما يؤدّي إلى الخروج عن الملك كالكتابة والتّدبير والاستيلاد والعتق إلى أجل، فإنّ جميع هذه الأمور مفيتات للبيع الفاسد، والحكم فيها كالحكم في البيع إذا وقع قبل قبض المبيع أو بعده، جميع ذلك يجري على أسلوب واحد. ومن الأسباب المفيتات ما ذكرناه فيما تقدّم من تعلّق حقّ غير البائع والمشتري بهذا المبيع بيعًا فاسدًا، وذلك كرهن السلعة المبيعة بيعًا فاسدًا أو إجارتها أو إخدامها إن كانت حيوانًا، ووقعت الخدمة إلى أجل حتّى تجري مجرى الإجارات في حكم الفوت. وممّا قد يعدّ قسمًا خامسًا في المفيتات الوطء للأمة اشتريت شراء فاسدًا، فإنّ في الموّازيّة أنّ ذلك فوت. وإنّما لم نثبته نحن قسمًا لأنّ التّعليل لهذا المذهب يلحق هذا القسم بأحد ما ذكرناه من الأقسام المفيتة، وذلك أنّ الوطء يوجب منع البائع من وطء هذه الأمة الّتي باعها بيعًا فاسدًا، ويوجب إيقافها لأجل الاستبراء، وهذا أمر يحول بينه وبين ملكه، ويمنعه من الانتفاع به، فلهذا وجبت القيمة فيه. وجرى ذلك مجرى نقل العروض والطّعام من بلد إلى بلد في كون ذلك فوتًا، لمّا حال بين البائع وبين قبضه، لمّا وجب أن يُرَدَّ عليه. ولكن مقتضى هذا التّعليل أنّ الأمة المبيعة بيعًا فاسدًا لو كانت من الوخش اللاّتي لا يردن للوطْء، لم يكن الوطْء فوتًا لكونه لم يمنع البائع إذا ردّت هذه الأمة عليه

من منفعة مقصودة منها. لكنّه يمنع من بيعها لأجل حقّ الله سبحانه في منع بيع أمّهات الأولاد، ولكون أن يكون المشتري الّذي وطئها قد عَلِقت منه، فيصير من حقّه منع البائع من بيعها ووطئها لأجل حقّه في الولد أيضًا. لكن إذا لم يثبت وطْء المشتري ببيّنة ولا إقرار منه، ولكنّه غاب عليها، فإنّ البائع إن صدّقه في ذلك، كان ذلك فوتًا لاتّفاقهما على أنّه لا يسوغ ردّها إلى البائع. وإن أكذبه البائع في ذلك لم يتحقّق الفوت، ولكن ينظر في حكم الإيقاف لحقّ الله تعالى في ذلك. ويفترق فيه حكم الجارية المرتفعة من الوخش، على حسب ما سيأتي بيانه في كتاب الاستبراء إن شاء الله تعالى. وكذلك نبيّن أيضًا سبب الاختلاف في الوطء، هل يمنع من الرّدّ بالعيب وكون الغيبة بمجرّدها لا تمنع من الرّدّ بالعيب إذا صدق البائع المشتري في أنّه لم يطأ، بخلاف الغيبة على أمة أخذت على وجه الغصب، فإنّ الغيبة عليها عيب فيها، والغاصب يضمن بالعيب اليسير، فهذا كلّه يَرِدُ في مواضعه مستقصًى أحكامه، وحكم الغيبة على أمة أراد الأب أن يعتصرها أو محلّلة غاب عليها من حلّلت له. والجواب عن السؤال الخامس (¬1) أن يقال: قد تقرّر، فيما تقدّم، المبيعات بيعًا فاسدًا والأنواع المفيتة لها. فإذا تحقّق الوجه المفيت للبيع، وحكم بموجبه، وقضى القاضي بردّ العين أو القيمة أو المثل، لم يرتفع حكم ما قضاه بارتفاع الأسباب الموجبة للفوت. وإن حصل السبب الموجب للفوت فلم ينظر فيه حتّى ارتفع، فهل يرتفع حكم الفوت بارتفاع سببه أم لا؟ هذا فيه اختلاف في المذهب كثير فروعه. فذكر في المدوّنة فيمن باع سلعة بيعًا فاسدًا، فحالت سوقها وهي بيد المشتري، ثمّ عادت السوق إلى ما كانت عليه حين عقد البيع، فإنّ الفوت قد حصل في القيمة قد لزمت (¬2) وارتفع السبب الموجب لها وهو تغيّر السوق. وأمّا إن كان السبب المفيت لها بيع مشتريها لها بيعًا صحيحًا ثمّ عادت إليه بميراث أو ¬

_ (¬1) هذا السؤال ساقط في تعداد الأسئلة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقد لزمت.

هبة أو اشتراء أوردت عليه بعيب، فإنّه ذكر في المدوّنة اختلافًا في هذا، وأنّ ابن القاسم يرى أنّ حكم الفوت قد ارتفع لمّا ارتفع حكم البيع الّذي وقع من المشتري. وأن أشهب يرى أنّ حكم الفوت لم يرتفع لمّا لم يرتفع، عنده وعند ابن القاسم، حكم الفوت بارتفاع تغيّر السوق وكون القيمة لزمت، فلا يرتفع ما لزمه بارتفاع سببه. وقد أكثر المتأخّرون الاعتذار عن ابن القاسم في تفرقته بين هذين السببين المفيتين. فرأى أنّ المفيت إذا كان تغيّر السوق ثمّ ارتفع، فإنّ حكم الفوت لا يرتفع. وإن كان السبب المفيت عقد بيع صحيح، ثمّ ارتفع، فإنّ حكم الفوت يرتفع. فأشار الشّيخ أبو الحسن ابن القابسي، رحمه الله، إلى أنّ السوق إذا تغيّرت ثمّ عادت، فإنّ السوق الثّانية ليست هي السوق الأولى بعينها وإنّما هي مثلها، والسلعة الّتي اشتريت شراء فاسدًا، فإنّا نقطع قطعًا أنّ المبيع بعينه عاد على ما هو عليه؛ فلم يؤثر سبب الفوت لمّا ارتفع ارتفاعًا مقطوعًا به. وكأنّه، رحمه الله، يشير إلى أنّ عدم اليقين والقطع على كون السوق الّتي تغيّرت ارتفع (¬1) تغيّرها يمنع من ارتفاع حكم الفوت، والقطع على أنّ السلعة المبيعة بعينها، عادت، تقتضي ارتفاع سبب الفوت. وهذا الّذي قاله لا يشفي الغليل. وذلك أنّ البيع هو المفيت لهذا الّذي اشتُرِي شراء فاسدًا، ونحن نقطع قطعًا أنّه قد وقع، فلا معنى للتعرّض إلى كون السلعة بعينها عادت لأنّ نفس السلعة وعينها ليس هو السبب المفيت، وإنما المفيت بيعها، فلا فرق بين سوق تغيّرت ثمّ عادت، أو سلعة بيعت ثمّ عادت، بل ربّما قيل: إنّ التغيّر المفيت قد لا يقطع به ووقوع البيع مِمّا يقطع به في الظّاهر المحسوس. وسلك الشّيخ أبو عمران، رحمه الله، قريبًا من مسلكه فقال: السلعة الّتي بيعت بيعًا صحيحًا وقد اشتريت شراء فاسدًا، يجب نقض البيع الفاسد الّذي وقع فيها, ولكن يد المشتري شراء صحيحًا صارت حاجزة بيننا وبين ردّ هذا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ارتفاع.

المبيع، فإذا زال الحاجز، تمكّن من إيقاع الحكم. وتغيّر السوق أوجب منع الرّدّ، وعودُه إلى ما كان عليه أمر ثان غير الأوّل. وهذا أيضًا قريب من مسلك الشّيخ أبي الحسن. وقال غيرهما: إنّما الفرق عند ابن القاسم أنّ تغيّر السوق مِمّا لا يدخل تحت قدرة العباد، وما لا يكتسب لا يتّهم النّاس فيه، والبيع مِمّا يكتسب، فيمكن أن يكون المشتري للسلعة شراء فاسدًا أظهر البيع ليمنع من نقض ما اشترى شراء فاسدًا، فلمّا تطرّقت التّهمة إليه في ذلك، وتأكّدت التّهمة بأن عادت السلعة إلى يده، فظنّ به أنّ ذلك البيع إنّما كان زورًا فلم يؤثّر وقوعه. والسوق إذا تغيّرت لا يتّهم المشتري ولا البائع على أنّهما تواطآ على تغيّرها قصدًا للمنع من نقض فعلها. ألا ترى أنّه ذكر في كتاب العتق فيمن حلف بعتق عبده إلاّ فعل فعلًا، ثمّ باع العبد ثمّ اشتراه، فإنّ اليمين يبقى حكمها لمّا اتّهم أن يكون أظهر البيع زورًا ليرفع حكم اليمين. وهذا الفرق أيضًا والتّمثيل يقدح فيه بأنّه ذكر في المدوّنة في هذا الّذي اشترى سلعة شراء فاسدًا، ثمّ باعها بيعًا صحيحًا، ثم عادت إليه بشراء أو ميراث أو عطيّة، أنّ حكم الفوت ارتفع، وقد علم أنّه لا يتّهم في الميراث أن يكون قصدا إلى أن يموت حتّى يورث عنه، فلا ينتقض بيعه. كما لم يتّهمه في المدوّنة فيمن حلف ألاّ يفعل فعلًا بحرّية عبده ثم باعه ثمّ ورثه، أنّ اليمين ارتفعت لمّا لم يتّهم في الميراث بخلاف البيع هذا أيضًا. وقد اضطرب المذهب فيمن قصد إلى التّفويت لما اشتراه شراء فاسدًا لئلاّ يُقضَى بأخذه من يده، فإنّه إذا فعل ذلك قبل أن يقام عليه، فإنّ التّفويت حاصل ولا يمنع منه لكونه قاصدًا لذلك. وإن كان فعل ذلك بعد أن قام عليه البائع لينقض بيعه، ففيه اختلاف. هكذا ذكره بعض أشياخي مطلقًا. والّذي في المستخرجة أنّ ذلك لا يكون فوتًا إلاّ أن يكون التّفويت بالعتق، فإنّ التّفويت حاصل لأجل حرمة العتق. فهذه الفروق كلّها مطلوبة كما أريناك.

وقد قال بعض الأشياخ: إنّ مقتضى القياس ما قاله أشهب لكون العُهَدِ اختلف محلّها باختلاف هذه البياعات. واختلاف العهد، وتبدّل الأملاك أولى أن يكون موجبًا للفوت، ولا يقدّر السبب المفيت كالمرتفع. ألا ترى أنّ من باع سلعة بثمن إلى أجل، ثمّ باعها، ثمّ اشتراها وفلس، فإنّ البائع منه الأوّل لا يكون أحقّ بها من الغرماء، وإن كانت عينَ السلعة، لمّا تخلّل ذلك اختلاف العُهَد وتبدّل الأملاك. وإذا تقرّر هذا، فإنّ بعض الأشياخ مال إلى افتراق حكم الأسباب الّتي رجعت السلعة بها إلى يده، فقال: إذا ردّت عليه بعيب ينبغي ألاّ يمنع ذلك الفوت, لأنّ البيع قد انتقض من أصله حتى كأنّه ارتفع، لا سيما على أصل أشهب الذي يرى أنّ الرّدّ بالعيب كنقض بيع. وقد جمع في المدوّنة هذه الأسباب على حكم واحد، فقال: إن اشتراها أو ورثها أو وهبت أو ردّت عليه بعيب. وهذا الّذي قاله في المدوّنة إنّما يحسن إجراؤه مجرى الشّراء على القول بأنّ الرّدّ بالعيب كابتداء بيع. وعلى هذا التّوجيه والأسلوب الّذي ذكرناه تجري بقيّة فروع هذا الباب، مثل أن يشتري عبدًا شراء فاسدًا ثمّ يدبّره أو يعتقه فيردّ غرماؤه تدبيره وعتقه، فهل يرتفع حكم الفوت بردّ الغرماء بسببه؟ في ذلك قولان. وهكذا يجري الأمر فيه لو سافر به ثمّ عاد، أو مرض ثمّ صحّ، أو طرأ عليه عيب ثمّ زال، أو أجّره، أو رهنه ثمّ افتكّه بالقرب، فإنّ هذا كلّه يجري على القولين. هذا إذا سافر به سفرًا يكون مفيتًا. وقد تكلّمنا على حكم نقل العبيد من بلد إلى بلد. وقد ذكر في المدوّنة في هذا الكتاب أنّ من باع ثمرة قبل الزّهو فجدّها مشتريها قبل الزّهو، أنّ البيع جائز إذا لم يشترط التّبقية. وقد ذكرنا نحن فيما تقدّم كلامُنا عليه في كتاب السلم أحكام بيع الثّمرة قبل الزّهو بشرط التّبقية أو بشرط الجذاذ إذا وقع العقد عاريًا من هذين الشّرطين.

وقد تعلّق بعض الأشياخ بهذا اللّفظ الّذي ذكرناه عن المدوّنة فقال: إنّه يقتضي جواز البيع إذا وقع العقد عاريًا من شرط التّبقية, لأنّه أجاب بجواز البيع قبل الزّهو، وعلّق المنع بشرط التّبقية، والساكت عن الشّرطين لم يشترط التّبقية. وتأوّل الشّيخ أبو محمّد ابن أبي زيد وغيره هذا اللّفظ على أنّ المراد أنّهما تفاهما بشرط الجدّ وعلى ذلك عقدًا. ويؤكّد هذا التأويل عندهم (¬1) قوله: إذا اشترى تمرًا قبل الزّهو فجدّه قبل الزّهو، وكأن ما فعله من الجدّ قبل الزّهو إشارة إلى أنّهما عقدا على هذا الفعل الّذي وقع من المشتري. والتّحقيق في هذا أنّ مقتضى العقد يقتضي المناجزة في الثّمن والمثمون، والتّأخير في أحدهما لا يكون إلاّ بالتّراضي، والتّراضي يكون مشترطًا نصًا أو متفاهمًا من جهة العادة أو غيرها، فإن ثبت النّصّ على التّبقية أو استُدِلّ عليه بعادة أو قرينة حال، فسد البيع. والبغداديّون من أصحابنا يرون فساد البيع قبل الزّهو (¬2) إلاّ أن يشترط القطع. ويتعلّقون بنهيه عليه السلام عن بيع الثّمرة قبل الزّهو، ولم يفصل وهو على عمومه إلاّ ما استثناه الدّليل. وقد وسعنا الكلام على هذا فيما تقدّم، وإنّما ذكرنا ها هنا منه ما تعلّق بلفظ المدوّنة. قال القاضي أبو محمّد عبد الوهاب رحمه الله، في فصل قدّمنا ذكره افتتح به البيوع: وفساد البيع يكون بوجوه منها ما يرجع إلى المبيع ومنها ما يرجع إلى الثّمن ومنها ما يرجع إلى المتعاقدين ومنها ما يرجع إلى صفة العقد ومنها ما يرجع إلى الحالة الّتي وقع فيها العقد. الفصلَ إلى آخره على ما قدّمنا ذكره عنه وشرحنا كثيرًا منه. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل سؤالان: ¬

_ (¬1) في النسخة المدنية: عنهم. (¬2) فيض القدير ج 6 ص 331 ح 9475

1 - أحدهما أن يقال ما أقسام ما يرجع إليه فساد البيع؟ 2 - وما حكم كلّ واحد من هذه الأقسام؟ فالجواب عن السؤال الأوّل: أمّا ما يرجع إليه فساد البيع، فإنّه لا يخلو من أربعة أقسام: 1 - أحدها أن يرجع إلى العقد. 2 - والثّاني أن يرجع إلى الثّمن. 3 - والثّالث أن يرجع إليهما. 4 - والرّابع أن يرجع إلى شرط قارن العقد. فالجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: قد تكلّمنا على حكم الشّروط الفاسدة المقارنة للعقد في كتاب بيوع الآجال. وذكرنا الاختلاف في البيع الّذي قارنه شرط السلف، هل يقف فساد البيع على التمسّك بالشّرط أم لا؟ وقد ذكر القاضي أبو محمّد في شرح الرّسالة أحد قولين عندنا في وصف فساد البيع على التمسّك بالشّرط، وصحّته على إسقاط الشّرط، كالبيع بشرط السلف أو بشرط أن يتّخذ الأمة المبيعة أمّ ولد أو لا يخرجها من البلد. فقال: إنّ هذه الشّروط المقارنة للبيع يصح العقد إذا أسقط الشّرط. واستثنى مسئلة واحدة وهي إذا اشترى سلعة واشترط خيار أمد طويل لا يجوز اشتراطه. فذكر القاضي أبو محمّد أنّ إسقاط هذا الشّرط لا يصحّح البيع بخلاف غيره من الشّروط. وأشار إلى أنّ إسقاطه صورته كصورة التمسّك به. لأنّ مشترط هذا الأمر إنّما اشترط أن يكون له الخيار طول هذا الأمد، بين أن يتمسّك بالسلعة أو يردّها، فإذا قال: أسقطت الشّرط، فمعناه أنّي تمسّكت بها. وقد كان له التمسّك بحكم مقتضى الخيار لو كان صحيحًا، وصورة تمسّكه بها بحكم كصورة تمسّكه بها إذا أسقط الشّرط ليصحّ له التمسّك بها. وهذا الّذي قاله، وإن كان رمى مرمى خفيًّا، فإنّه عندي قد يختلف، تخريجًا من مسئلة من أسلم في ثمر سلمًا فاسدًا، فلمّا فسخ عليه وقضي برأس المال أراد أن يأخذ منه تمرًا مثل الّذي منع منه بفسخ العقد، فقد قيل: إنّ ذلك لا يجوز لأنّه يتّهمه للفساد الّذي منع المتعاقدان منه وكأن

الفسخ لم يفد. وقيل: يجوز له ذلك. وينبغي أن ينظر في إسقاط هذا الشّرط إذا مضى من أمد الخيار ما لا يجوز أن يشترط، هل لا يؤثّر إسقاطه لكون الفساد قد حصل بطول الأمد، كأحد القولين في إسقاط السلف المقارن للبيع بعد أن قبض؟ هذا ينظر فيه على الطّريقة الثّانية الّتي أشرنا إلى تخريجها من مسئلة السلم الفاسد. وأمّا على طريقة القاضي أبي محمّد عبد الوهاب فلا فرق، على مقتضى تعليله بين إسقاط الشّرط وقد مضى من الأمد قليل أو كثير. ولعلّنا أن نعيد الكلام على المسئلة في كتاب بيع الخيار. وذكر القاضى أبو محمّد في فصل بعد هذا آخر ذكر فيه فروع ما يرجع إلى الحال الّتي وقع فيها العقد. قال: منه البيع يوم الجمعة بعد النّداء مِمّن تلزمه الجمعة أو أحدهما، فيفسخ إن وقع. فاعلم أنّ الله سبحانه قال في كتابه {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (¬1). فإنّ هذا البيعُ المنهيّ عنه. فاختلف المذهب، هل يفسخ أم لا؟ ثلاثة أقوال: فالمشهور وهو المذكور في المدوّنة أنّه يفسخ. وفي المجموعة أنّه لا يفسخ. وفي ثمانية أبي زيد أنّ عبد الملك بن الماجشون فسخه في حقّ من اعتاد ذلك، وتكرّر منه، ولم يفسخه في حقّ من لم يتكرّر ذلك منه. وسبب الاختلاف في فسخه أنّ هذا بيع نهى الله تعالى عنه. فإن قلنا: إنّ النّهي لا يدلّ على فساد المنهيّ عنه، لم يجب الفسخ على ظاهر ما في المجموعة وبه قال أبو حنيفة والشّافعي. وكذلك إن قلنا: إنّ النّهي يدلّ على الفساد إذا تعلّق بالذّات المنهيّ عنها أو بخاصّيّة من خواصّها اللاّزمة لها، وأمّا إن تعلّق بأمر خارج عن هذين، فإنّه لا يجب الفسخ، فإنّ مقتضى هذا المذهب لا يفسخ البيع المعقود بعد النّداء لصلاة الجمعة، لكون هذا النّهي نهيًا ¬

_ (¬1) سورة الجمعة: 9.

عن مباشرة الفعل لا يعود إلى نفس المبيع أو خاصيّة من خواصّه وصفة لازمة له. وإن قلنا: إنّ النّهي يدلّ على الفساد، قولًا مطلقًا، اقتضى هذا فسخ العقد. وقد بيّنّا هذا أيضًا على اعتبار هذا النّهي، هل هو لحقّ الله سبحانه، لئلا يشتغل عن الصّلاة المفروضة فيفسخ البيع. أو هو لحقّ الخلق، لئلاّ ينفرد من لم يحضر الصّلاة بالأرباح دون عامّة النّاس، كما نَهى عن تلقّي الرّكبان مصلحة لعامّة النّاس، فلا يفسخ هذا البيع، كما لا يفسخ بيع المصرّاة لمّا كان النّهي عن التّصرية راجعًا لحق الخلق. وأمّا ما وقع في الثّمانية، فهو راجع إلى أنّ الفسخ لا يلزم، ولكنّه عاقب من تكرّر هذا منه بفسخ عقوده. وإذا قلنا بالفسخ، فمذهب سحنون وابن عبدوس أنّه يمضي بالثّمن إذا فات المبيع. ومذهب أشهب وابن القاسم أنّه يقدَّم فيه القيمةَ إذا فات المبيع. واختلفا في الوقت الّذي تعتبر فيه القيمة. فقال ابن القاسم: حين القبض، قياسًا على سائر العقود الفاسدة. وقال أشهب: بل بعد فراغ الصّلاة وذهاب الزّمن الّذي يحرم فيه العقد. وكأنّه رأى أنّ التّقويم كضرب من المعاوضة، والمعاوضات حينئذٍ نهي عنها. واختار ابن حبيب مذهب أشهب، واحتجّ أنّه لا يختلف في بيع ثمرة بيعت قبل الزّهوّ أنّ التّقويم إنما يكون بعد أن حلّ بيعها. وهذا الّذي قاله لا يُسَلَّمُ. بل لوْ جدّ الثّمرة قبل الزّهو، لقوّمت حينئذٍ، وإن كانت حينئذٍ لا يحلّ بيعها على التّبقية. وإذا وضح ما قلناه في بيع الجمعة وعلّة المنع، فإنّه يتصوّر فيه صورة أخرى مشاركة لبيع الجمعة. وذلك فيمن أخّر صلاة العصر حتّى بقي بينه وبين الغروب ما إن اشتغل بالبيع، فاتته الصلاة، وكان إيقاعها بعد ذلك قضاء لا أداء، فإنّه محرّم عليه الاشتغال بالبيع عن صلاة استحقّت هذا الوقت. وقد اختلف فيمن فعل هذا، فقال إسماعيل القاضي يفسخ بيعه. وهو اختيار الشّيخ أبي عمران لوجود العلّة المذكورة في صلاة الجمعة في هذه المسئلة. وقال ابن سحنون: لا يفسخ.

ويمكن أن يقال: لا يفسخ في هذه، ويفسخ في الجمعة، لكون الجماعة شرطًا في إقامة الجمعة، فمن المصلحة منع كلّ ما يؤدّي إلى افتراق جمعهم والإخلال بشرط لا تصحّ الجمعة إلاّ به، مع كون البيع يوم الجمعة قد يتكرّر. والّذي يخشى أن تفوته صلاة العصر إن اشتغل، لم يشترط عليه إيقاعها في جماعة فيفتقر إلى حماية الذّريعة في أن لا يخلّ بالجماعة. وقد كان شيخنا رحمه الله يقول: كثير من العوام يؤخّرون صلاة العصر اشتغالًا بما يبيعونه في الأسواق ويبتاعونه. وهذا يقتضي منع معاملتهم حينئذٍ ومنع أكل ما يشترى منهم إذا قيل بالفسخ. وأمّا ما يرجع فساده إلى الثّمن، فإنّه يفسخ إن كانت السلعة قائمة. وإن فاتت، فإن كان الفساد مجمعًا عليه، أغرمت القيمة، وإن كان مختلفًا فيه، فإنّ الواجب أيضًا القيمة. وروي عن مالك أنّه يمضي بالثّمن وهذا مراعاة للخلاف. وقد كنّا ذكرنا نحن فيما تقدّم مذهب ابن مسلمة وأنّه يرى أنّ الفسخ بعد القبض استحسان، وإذا كان استحسانًا مضى بالثّمن. وبيع الجمعة، وإن رجع الفساد إلى العقد، فإنّه يفوت بحوالة الأسواق. وبيع المدبر، وإن رجع إلى العقد، فإنّه لا يفوت بحوالة الأسواق بل بالعتق أو الموت، وهذا لحُرمة عقد الحرّيّة الّتي حصلت فيه. وهكذا رأى ابن عبدوس أنّ بيع التّفرقة بين الأمّ وولدها لا يفوت يحوّالة السوق. قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: وبيع المباطيخ (¬1) جائز ببدوّ صلاح أوّله وإن لم يظهر ما بعده. وكذلك الأصول المغيّبة في الأرض كالبصل والجزر والفجل. وكذلك الورد والياسمين إذا انتُفِع به. ويكون للمشتري لآخر (¬2) إبّانه. وكذلك الموز إذا ضرب فيه أجل. ولا يجوز اشتراء الكتّان إذا استثنى البائع حبّه، ولا القرط واستثنى برسيمه ¬

_ (¬1) في غ والغاني: وبيع المقاثي والمباطخ. (¬2) في غ والغاني: إلى آخر.

إلى حال يبسه. ولا يجوز بيع الحنطة في سنبلها. ويجوز بيع السنبل على جهته. ويجوز بيع الجوز والباقلا، في قشره الأعلى. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما شرط جواز ما يباع مِمّا له خِلفة؟ 2 - وما حكم شراء الخلفة؟ 3 - وما حكم شراء هذه الأصول؟ 4 - وما يتفرعّ منها إذا صارت إلى حال لا يجوز اشتراطها في أصل العقد؟ 5 - وما حكم شراء الثّمرة المحجوبة؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: أمّا بيع الفواكه والقصيل والبقول وغير ذلك مِمّا في معناه، فمن شرطه أن يباع بعد أن يظهر، ويبلغ إلى حالة ينتفع به حين أخذه، من أكل أو رعي أو ما في معنى ذلك, لأنّه إذا بيع قبل ذلك، كان المبيع غير مرئيّ ولا موصوف، وما لم يشاهد ولا يوسف فهو مجهول. واشترطنا أن يكون بلغ إلى حدّ الانتفاع به لكون المعاوضة إنّما تصحّ على ما ينتفع به، كما قدّمناه في صدر هذا الكتاب، وما لا ينتفع به المعاوضة به من أكل المال بالباطل، وقد نهى الله عنه، ومن إضاعة المال، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه. فإذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الغرر ورد الشّرع بالنّهي عنه كما ورد بالعفو عن يسيره. قال ابن الجهم من أصحابنا: الغرر اليسير يجوز بإجماع، ولهذا لو قال له: بعني قطن جبّتك، وهو مغيب لم يجز. ولو قال له: بعني جبّتك بقطنها, لجاز. وكذلك لو قال له: بعني جنين أمتك، لم يجز. ولو قال له: بعني أمتك الحامل بجنينها, لجاز. وقال أبو الفرج من أصحابنا: الغرر الكثير الّذي لا مرفق في إباحته، ولا حاجة إلى التّرخيص فيه ممنوع، بدليل منع بيع الثّمرة قبل الزّهو على التّبقية. وإذا أزهى بعض الثّمر، بيع جميعه بزهو بعض، لكون هذا وإن كان غررًا, لأنّ ما لم يزه من هذا الّذي قد أزهى بعضه كالثّمرة إذا لم تزه كلّها, ولكن لمّا كان في إباحة بيع الثّمر بزهو بعضه مرفق

وحاجة إلى التّرخيص فيه، سومح بهذا الغرر. وكذلك يمنع بيع الساج المدرج في جرابه. ويجوز بيع ما في العدل المشدود على متاع على الصفة، لما في ذلك من المرفق والحاجة إليه، هذا معنى ما أشار إليه. وقد بسطناه نحن فيما تقدّم. وذكرنا أنّ الشّرب من الساقي جائز، وإن اختلف مقدار شرب النّاس. وكذلك دخول الحمّام، وإن اختلف مدّة مقام الدّاخل فيه، ومقدار ما يغتسل به من الماء. وكلّ هذا بياعات فيها غرر، ولكنّه غير مقصود، وفي حكم اليسير فعفيَ عنه. والجواب عن السّؤال الثّاني أن يقال: إذا اشترى قصيلًا على الوجه الجائز وأراد أن يدخل في العقد ما ينبت منه بعد جزّه، أو اشترى قثّاء أو بطّيخًا وأراد أن يدخل في العقد ما يخلف بعد ما جناه منه، فإنّ المعروف من مذهبنا جواز ذلك إذا كانت الخلفة مأمونة. ومنع من ذلك أبو حنيفة والشّافعي. فحاول بعض الأشياخ أن يضيف إلى المذهب قولًا بالمنع مثل ما قال أبو حنيفة والشّافعي. فقال: قد ذكر في الموّازيّة أنّه لا يجوز مساقاة قصب السكّر واشتراط دخول خلفته في المساقاة، كما لا يجوز مساقاة الخلفة ولا بيعها. وحمل هذا على المنع من جواز بيعها على الإطلاق، عقد عليها وعلى الأصول الّتي تفرّعت الخلفة عنها عقدًا واحدًا، أو عقد على الخلفة على انفرادها. وهذا الّذي نقلناه من اختلاف الأئمّة جار في كلّ ما جرى مجرى القصيل في البطّيخ والقثّاء كالورد والياسمين وشبه ذلك. واعلم أنّ مدار هذا الخلاف على ما قدّمناه من ورود الشّرع بالمنع من بيع الغرر والتّرخيص في الغرر اليسير أو الكثير الّذي تدعو الضّرورة إليه، فاعتقد أبو حنيفة والشّافعي أنّ اشتراء الخلفة منفردة لا يجوز لكون ذلك غررًا لا إشكال فيه، وعقْدًا على ما لم يشاهد ولا وصف وهو مجهول. واعتقد مالك وأصحابه أنّ هذا غير مقصود إلى التّخاطر فيه، بل في إجازته مصلحة، وإلى هذا أشار القاضي. وقد أشار القاضي أبو محمّد في غير كتابه هذا، فقال: إن منعنا من اشتراط الخلفة في عقد البيع أدّى ذلك إلى اختلاط المبيع مع ما لم يبع وهو

الخلفة، ويعسر التّمييز، فلا يمكن تسليم المبيع متميّزًا، وإن منعنا من بيع الأصل حتّى يتكامل ما يتفرّع منه، أدّى ذلك إلى فساد الأصل وبطلان الانتفاع به، فدعت هذه الضّرورة إلى التّرخيص في هذا الغرر. وقد أشار في المدوّنة إلى اشتراط كون الخلفة مأمونة الغالب كونها ستوجد على وجه يرتفع معه الغرر. واعلم أنّ العقد على هذا الّذي لم يخلق يتنوعّ: فتارة يعقد عليه بانفراده فيمنع، كشراء الخِلفة بانفرادها من غير أن يتقدّم تعاقد على أصولها. وتارة يتقدّم العقد على أصولها، وهذا على قسمين: إن وقع الشّراء للخلفة بانفرادها بعد أن جنيت الأصول، فإنّ ذلك لا يجوز. وإن وقع العقد عليها بانفرادها، بعد أن تقدّم العقد على أصولها ولم يجد ما اشتراه من أصولها، فإنّ المذهب على قولين: يمنع ذلك، لكون العقد عليها منفردًا، والعقد المنفرد عليها خاصة ممنوع لأجل ما فيه من الغرر. أو يجوز ذلك، لكون العقد الثّاني ملحق بأصله الذي تفرعّ منه، فجرى حكمه، وإن كان متأخّرًا، مجرى حكم العقد الواحد على هذه الثّمرة، أصولِها وما يُجنَى منها بعد جناها. وهذا كالاختلاف أيضًا في شراء مال العبد بعد أن وقع العقد على العبد دون ماله. وكاشتراء النّخل المثمرة دون ثمرها، ثمّ اشترى الثّمر الّذي لم يُزْهَ بعد ذلك (¬1). فمن جعل لكلّ عقد حكم نفسه، منع هذا الثّاني، ومن جعل العقدين ها هنا كالعقد الواحد أمضى ذلك. وقد تتجاذب الفئتان (¬2) المختلفتان (2) في جواز اشتراط الخِلفة في العقد على أصولها، مسئلةُ اشتراط ¬

_ (¬1) (ذلك) ساقطة في الوطنية. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الفئتين المختلفتين.

النّخل، فقال أصحابنا: لمّا جاز بيع الثّمرة الّتي لم تطب بطياب بعضها، وكان ما لم يطلب منها تبعًا لما طاب، فكذلك يجوز اشتراط الخلفة في العقد على أصولها لكونها تبعًا لها أيضًا. وقال الآخرون: قد علم أنّه لا يجوز لمن اشترى ثمرة نخل هذا العام أن يشترط ثمرة العام الآخر، ولا يصحّ أن يجعل ثمرة العام الثّاني كالبيع لثمرة العام الّذي اشتراه. وكذلك لا يجعل الخلفة الّتي توجد في ثاني حالٍ بيعًا لأصولها الموجودة في حين العقد. وينفصل أصحابنا عن هذا بأنّ ثمرة العام الثّاني لم يتّصل وجودها بوجود ثمرة العام الأوّل، بل تخلّل بينها عام فصل بين الوجودين، فكلّ وجود له حكم نفسه، ولا يصحّ أن يجعل تبعًا لغيره. بخلاف الخلفة الّتي يتّصل وجودها بوجود أصولها من غير فصل، فصار الاتّصال ها هنا معتبرًا دافعًا للغرر ومقتضيًا للجواز، كما أجزنا إجارة الضّئر وإن كان لبنها الّذي ترضعه بعد عقد الإجارة غير موجود حين العقد، لكن تتابُعُ الوجود يصيّر الثّاني حاصلًا كالأوّل في الحكم. فكذلك منافع الدّيار يجوز العقد عليها وإن كان ما يحدث من المنافع بعد العقد غير موجود حين العقد ولم يخلق بعد. وقد مرّ أبو حنيفة على منع بيع ما لم يخلق حتّى منع من بيع ثمرة بعد الزّهوّ بشرط التّبقية إلى أن يصير ثمرًا، لكون ما يخلق من الألوان والطّعوم في الثّمرة بعد زهوّها لم يخلق بعد، وشراء ما لم يخلق لا يجوز. وأجازه الشّافعي ومالك. فأمّا الشّافعي فإنّه يرى أنّ هذا التّغير تغيّر أعراض لا تغيّر زيادة أجسام إلى أجسام، فلهذا أجازه، بخلاف اشتراط الخلفة الّتي هي عنده أجسام لم تخلق. ولهذا أشار مالك أيضًا لمّا منع من شراء القصيل بشرط أن يقيم أيّامًا ليعظم، وشراء صوف على ظهور الغنم بشرط أن يقيم أيّامًا ليطول، فقال: هذا يمنع، بخلاف اشتراط تبقية الثّمرة لتصير تمرًا, لأنّ الثّمرة إنّما تحدث فيها زيادة نضج وحلاوة، فأشار أيضًا إلى أن تبدّل الأعراض بخلاف زيادة الأجسام. وهكذا مرّ أيضًا أبو حنيفة على هذا الأسلوب، فمنع من شراء طعام أو غيره في الذّمّة، إلاّ بشرط أن يكون المسلم فيه موجودًا في الطّرفين، حين العقد وحين القبض. فأمّا اشتراطه وجوده حين القبض فلا

يخالف فيه. وأمّا اشتراطه وجوده حين عقد السلم، فنحن والشّافعي نخالفه فيه، على ما بيّناه في كتاب السلم من سبب الاختلاف بيننا وبينه في هذا. وهذا بيان حكم شراء ما لم يخلق وهو في الذّمّة أو مسند إلى معيّن. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: قد تقدّم فيما سلف ذكر المنع من شراء ثمرة قبل الزّهوّ بشرط التّبقية، وذكرنا ها هنا في هذا السؤال الّذي فرغنا من جوابه الآن أنّ مالكًا إنّما يجيز بيع القصيل بشرط تأخيره إذا كان التّأخير المقصود به حضور الحاجة إليه. ويَمنع منه إذا كان القصد به أن تزيد أجرامه وتظهر أجسامه, لأنّ ذلك شراء المجهول لم يخلق بعد. وإذا منع ذلك إذا كان القصد بشرط التّأخير إلى أن يتحبّب, لأنّ هذا يمنع منه للحديث الوارد: "بالمنع من بيع الثّمر حتّى يزهى وبيع الزّرع حتّى يبيضّ" (¬1) الحديث كما تقدّم ذكره. فإن لم يشترط مشتريه تأخيره حتّى يصير حبًّا, ولكنه تحبّب قبل أن يجذّه فالبيع فاسد، كما يفسد إذا اشترى ثمرة قبل الزّهوّ على القطع، فيتركها حتّى أزهت. ويكون الحكم ها هنا في تركها من غير شرط كحكمها إذا تركت بشرط في أصل العقد. فإن اشترى الرّأس كلّه واشترط خليفته فتحبّب الرأس كله، فإنّ البيع يبطل في جميع الصفقة كلّها في الرّأس وفي الخلفة, لأنّ الخلفة إنّما جازت لكونها تبعًا، فإذا بطل البيع في المتبوع، بطل في التّابع. وهذا إذا تحبّب الرّأس بتعمّد منهما وتراخ يتّهمان معه على أنّهما أضمرا اشتراط ذلك حين العقد. وأمّا إن كان ذلك بتواني المشتري وامتناعه من جزّ القصيل، فإنّه يجري على القولين في الغلبة في الصّرف. وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصّرف وذكرنا ما قيل في ذلك في هذه المسئلة أيضًا هناك. وإذا تحبّب بعض الرّأس، وكان العقد على الرّأس خاصّة دون الخلفة، فإنّه يبطل البيع فيما تحبّب منه خاصّة، وفيما قابل ذلك من الخلفة المشترطة، ¬

_ (¬1) رواه مسلم، انظر إكمال الإكمال ج 4 ص 202. وكذلك رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

كما يبطل البيع إذا تحبّب كلّه فيه وفي خلفته. وزعم بعض أنّ ظاهر الرّواية عن ابن القاسم يقتضي أنّه لا بدّ من اعتبار التّقويم إذا اشترط في شراء الرّأس الخلفة. وإنّما سقط التّقويم إذا اشترى الرّأس خاصّة فتحبّب بعضه فإن ما تحبّب إنّما تسقط حصّته من الثّمن بالنّسبة، أو مذارعة أو فدادين لا بالتّقويم، إذا لم يختلف نباته. وأمّا إذا تحببت الخلفة دون الرّأس، فلا بدّ من التّقويم. فذكر سحنون أنّ التّقويم للرّأس يكون يوم عقد البيع، وكذلك التّقويم للخلفة، ومراده أنّ الخلفة تقوّم وقت العقد على أسواقها أوقات جناها لكون سوق الثّمرة يختلف فلا بدّ من اعتبار ذلك. ولو تحبّب بعض الرأس ولكنّه لا يتميّز عمّا لم يتحبّب، لانتقض البيع كلّه، لعدم التّمييز بين ما تحبّب بعضه والّذي لم يتحبّب بعضه. وقد ذكر في المدوّنة في صفة التّقويم مثالًا، مثل أن يكون الّذي تحبّب ثلث القصيل أو ثلثيه أو ثلاثة أرباعه، فإنّه يرجع من الثّمن بقدر ذلك. وقال بعض المتأخّرين: هذه إشارة منه إلى أنّه لا يمكّن من ردّ ما لم يتحبّب، وإن كان يسيرًا بخلاف من اشترى ثيابًا فاستحقّ أكثرها، فإنّه يردّ الأقلّ لبطلان جلّ الصفقة. وكذلك إذا ردّ ذلك بعيب. وهكذا في الثّمار إذا طرأت عليها جوائح أكثر من الثّلث حتّى يكون للمشتري مقال في الجائحة. فإنّ المشتري لا ردّ له، وإن أجيح أكثر الثّمرة؛ لأنّ هذه الجائحة طرأت بعد صحّة العقد، لكون المعقود عليه كلّه قد ملكه ملكًا صحيحًا، لم يكن من جهة البائع تدليس عليه ولا تفريط، فلم يكن للمشتري مقال في بطلان أكثر صفقته بأمر لا صنعَ للبائع فيه، ولا تهمة تتطرّق إليه، بخلاف ما استحقّ من يده أو رده بعيب. وكذلك ما تحبّب يرجع بمقداره من الثّمن، لكونه إذا ردّ الثّمن لا يأخذ عنه عوضًا، ولغير ذلك لما يذكر في كتاب الجوائح إن شاء الله. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: قد تلخّص مما ذكرناه أنّ اشتراط ما

لم يخلق في العقد على ما خلق يتنوّع إلى ثلاثة أنواع: فمنه ما يتتابع وجوده، ويتميّز منه كلّ بطن على الذي قبله (¬1)، كشراء ثمرة هذا النّخل هذا العام بعد أن أزهي الثّمر، ويشترط في العقد شراء ثمرة العام الثّاني، وهذا لا يجوز من غير خلاف. ومنه ما يتتابع في الوجود ولكنّه يتميّز بعضه عن بعض، مثل القصيل والقرط والقصب يشتري منه ما شوهد على صفة يجوز العقد عليها، ويشترط دخول ما لم يخلق في العقد، فهل يجوز فيه اشتراط الخلف عددًا محدودًا من البطون، وشراؤها إلى أن يفنى؟ ظاهر المذهب فيه على قولين: المعروف منهما جواز ذلك لأنّه في حكم المعلوم بالعادة، وإنّما أجيز شراء الخلفة لكونها في حكم المعلوم. وقد قدّمنا ما خرج من الخلاف في ذلك. وإذا قيل بالمنع من هذا، فإنّما ذلك لأنّ في اشتراطها في حين العقد وجهًا من الغرر، لكن عفي عنه لأجل الضّرورة إليه وما فيه من المرفق، ولم تدع ضرورة إلى إحالة ذلك على فناء هذه الخلفة لأنّ ذلك في حكم المجهول، والغرر إنّما يسامح به إذا لم يوجد معْدِل عنه. والنّوع الثّالث ما يتتابع وجوده ولكنّه لا تتميّز بعض بطونه عن بعض كالمقثاة، فإنّه تعلّق اشتراط الخلفة بفنائها وذهاب إبّانها، إذ لا يقدر على العدول عن ذلك بتعليق العقد فيها على عدد من البطون لعدم التّمييز في البطون، ولا يصحّ تعليق الشّراء فيها على التّحديد بزمن. فقد منع في المدوّنة أن تشترى المقثاة وما تخلف شهرًا. وعلّل يكون اختلاف الهواء عليها يختلف معه حكم نباتها. ورأى بعض أشياخي أنّ هذا التّعليل يقدح فيه جواز تعليق شرائها على فنائها وذهاب إبّانها مع اختلاف الأهوية في ذلك أيضًا. وقد ينفصل عن هذا عندي بأنّ اعتبار اختلاف الهواء في شهر بعينه يعظم التّخاطر فيه، وإذا علق العقد على الجميع خفّ الغرر لاستيعاب أزمنتها. وقد علم وجه العادة في ¬

_ (¬1) البطن مذكر كما حققه الفراء انظر المذكر والمؤنث في اللغة العربية ص 35 ومعجم المؤنثات السماعية ص 72.

حملها في جميع الأزمنة ولم يعلم عادة العمل في زمن بعينه في إبّانها. وقد أجيز شراء الموز وخلفته زمنًا محدودًا، ويشتري أيضًا بطونًا محدودة، خلاف المقثاة، لكون البطون لا يتميّز فيها، والزّمان فيه من الغرر ما أشرنا إليه. ولعلّ من أجاز ذلك في الموز رأى أنّه لا يختلف الحال فيه باختلاف الأزمنة. وقد نصّ بعض الأشياخ على ما يطعمه أشجار التّين في أوّل إثمارها مِمّا يسمّيه أهل صقليّة البيفر وأهل الأندلس الباكور، لا يجوز العقد عليه وعلى ما تخلفه تلك الشّجر بعده من التّين، لكون ذلك لا يتتابع في الوجود، بل يذهب زمن هذا الباكور وتبقى الأشجار بعده عارية، ثمّ بعد حين تطلع التّين. وهذا واضح لما قدّمناه من الاتّفاق على منع اشتراط ثمرة عامين. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: أمّا شراء ما لم يشاهد، اكتفاء بما شوهد مِمّا يشتريه، في أصل الخلقة، مثل أن يشتري من الثّمار ما هو في جلباب وكِمام، فإنّه على قسمين: أحدهما أن يشتري ما تحت الكمام، ويقصد بالعقد المأكول الّذي تحته، فهذا لا يجوز أن يقصد بالشّراء لبّ هذه الثّمرة. كمن اشترى حبّ الرّمّان دون ما عليه من قشر، أو قلب الجوز واللّوز دون ما عليهما من قشر، لكون المشترى ها هنا مقصودًا بالعقد مغيبًا غير مشاهد. وأمّا إن اشترى هذه الأجرام على ما هي عليه، فإنّه لا يخلو أيضًا من قسمين: أحدهما أن يشتري ذلك وعليه جلباب واحد من أصل الخلقة، لا يحفظه إلاّ هو ولا يمكن إدّخاره إلاّ به، كالرّمّان، فإنّ ذلك جائز لأجل ما دعت إليه الضّرورة من هذا، وكون العدول عنه إفساد للمال وإضاعة له. ومنه ما يكون له جلبابان، كالجوز واللّوز، إذا كان عليهما كمامان، والفول إذا كان في غلفه (الّتي نبت) (¬1) خضرًا، فإنّ هذا أيضًا يجوز، عندنا وعند ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأولى حذفها.

أبي حنيفة، العقد عليه، لكونه غير مقصود إلى التّخاطر فيه. ويستدلّ على الأجرام المأكولة وأحوالها وهي في أكمامها. ومنع الشّافعي من هذا. وقال الأصطخري من أصحابه وغيره: بجواز العقد على القول وهو في غُلُفِه العليا. وردّ الشّافعي هذا بأنّ اللّحم منع من بيعه وهو مغيب في جلوده، مع كونه قد يعرف سننه من هزاله بالجسّ، فأحرى أن يمنع هذا في القول لكونه لا طريق له إلى معرفة علم ما في باطنه من صفة القول وجرمه وصفته الّتي يختلف الثّمن باختلافها إذا انكشف له. واستدلّ المجيزون بأنّ الأعصار مضت في سائر الأمصار على ترك إنكار البيع لهذا في غلفه العليا، فصار هذا كالإجماع. وأشار بعض أصحاب الشّافعي، في الاعتذار عن هذا، إلى أنّ هذه أمور قد تقع على جهة التّساهل في هذا, ولا يكون التسهّل فيه كالنّصّ على جوازه، ألا ترى أنّ أصحاب أبي حنيفة يمنعون الإجارة على تعلّم القرآن، وهم ينفرون أولادهم إلى المكاتب. وهذا انفصال لا يقنع به. ولو صحّ الإجماع من سائر العلماء على فعل هذا من قوم وترك إنكاره من آخرين، لكان ذلك حجّة في الجواز, لأنّا لو لم نقل بذلك لكانت الأمّة أجمعت على الخطإ بين ناطق به وساكت عن إنكاره. وأمّا شراء القمح في سنبله وهو قائم على سوقه، فإنّ ذلك جائز عندنا، وعند الشّافعي في أحد قوليه. ومنعه في قول آخر. واستدلّ من قال بالجواز بما وقع في الحديث: "أنّه نهى عن بيع القمح في سنبله قبل أن يبيضّ" (¬1). جاز (¬2) ذلك بعد أن يبيض، وقياسًا على بيع الشّعير في سنبله وهو قائم على سوقه. ومن منع ذلك رأى أنّه مبيع في كِمامه الّتي يصحّ ادّخاره دونها، فأشبه عنده بيع القول في كمامه. وهذا حكم بيع القمح في سنبله وهو قائم على سوقه. ¬

_ (¬1) فيض القدير ج 6. ص 331 ح 9475. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فجاز.

وأمّا بيعه بعد أن حصد، فقيل بجواز ذلك. واشترط في قول آخر أن يكون على صفة يمكن حزره ومعرفته وهو عليها. وأمّا إذا حصد ودرس، فإنّه لا يجوز بيعه مخلوطًا بتبْنِه للجهالة بمقدار القمح مِمّا خالطه. لكن إن بيع على الكيل، على أن يكتال وقد صُفّي، جاز ذلك إذا شاهد القمح وعرف صفته. قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: ويجمع بيع الغرر ثلاثة أوصاف، أحدها: تعذّر التّسليم غالبًا. والثّاني: الجهل. والثّالث: الخطر والقمار. فأمّا ما يرجع إلى تعذّر التّسليم، فكالآبق والضّالّة والمغصوب، والطّير في الهواء، والسمك في الماء، وبيع الأجنّة واستثنائها، وحَبَل الحبلة، وهو نتاج ما تنتج النّاقة، والمضامين وهي ما في ظهور الفحول. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما حكم بيع الآبق والضّالّة؟ 2 - وما حكم بيع الأجنّة واستثنائها؟ 3 - وما حكم بيع حبل الحبلة والمضامين والملاقيح؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: بيع الآبق لا يجوز، عند مالك والشّافعي وأبي حنيفة، علم موضعه أم لا. وأجاز ذلك ابن سيرين إذا علم موضعه. وإذا لم يجز العقد عليه عند فقهاء الأمصار لا يصحّح العقد المجيء بالغائب عندنا وعند الشّافعي. ولا يجب تسليمه، لارتفاع الغرر لمّا حضر، لكون العقد الّذي التّسليم فرع عنه وقع فاسدًا. وأمضى ذلك أبو حنيفة وأجاز التّسليم، لأنّه يرى أنّ العقود ثلاثة: عقد صحيح وهو ما لا ترقّب في إبطاله، وعقد باطل وهو ما لا ترقّب في صحّته، وعقد فاسد وهو مِمّا تترقّب صحّته، كبياعات الشّروط الفاسدة كالبيع والسلف أو بيع أمة على أن يتْخذها المشتري أمّ ولد. وقد قدّمنا نحن أحد القولين عند إمضاء العقد إذا أسقط الشّرط الفاسد.

وهذا رأي أبي حنيفة أنّ سبب منع العقد على الآبق كونه لا يمكن تسليمه. فإذا صار إلى حال لا يمكن (¬1) فيها تسليمه جاز تسليمه لأجل ما تقدّم من العقد فيه. وهذا لا وجه له لأنّ التّسليم والتّقابض والتّمكين من المبيع إنّما يلزم ويجب بمقتضى العقد، فإذا كان العقد ممنوعًا محرّمًا، كان فرعه ونتيجته كذلك. والّذي قاله فقهاء الأمصار، من منع العقد عليه وإن علم موضعه، واضح، لعدم القدرة على التّسليم. وبيع ما لا يمكن تسليمه باطل, لأنّه من أكل المال بالباطل. وأمّا ما ذهب إليه ابن سيرين، فإنّه إن أراد جواز البيع إذا علم موضعه، وهو معتقل فيه على حكم مالكه، ولا خصومة فيه ولا نزاع، وقد علمت حاله بالمشاهدة أو بالصّفة، فإنّ ذلك يجري مجرى بيع الغائب، فيجوز العقد دون شرط النّقد فيه، على ما يأتي بيانه في كتاب بيع الغائب إن شاء الله تعالى. وأمّا لو كان بموضع معلوم وصفته معلومة، ولكن يفتقر مالكه، إلى تمكينه منه ورفع يد القاضي بعد اعتقاله له، إلى بيّنة أو خصام أو منازعة، فإنّه منع سحنون من بيعه على هذه الصفة لأجل ما يقع فيه من مدافعة مالكه عنه حتّى يثبت ما يوجب تسليمه إليه. وكان بعض أشياخي يرى تجويز العقد عليه دون النّقد، بشرط أن يتمكّن منه على صفة تواصفاها وعلماها عليه. وقد كنّا قدّمنا عنه سلوك هذه الطّريقة في جواز بيع الثّمر قبل بدو الصّلاح بشرط أن تسلم وهي على صفة معلومة. ويحتجّ لهذا بأنّه منع في المدوّنة شراء زيت زيتون بعينه إذا كان يختلف خروجه. وأجاز إذا وقف إمضاء العقد على خروجه على صفة معلومة عندهما، من غير أن يشترط النّقد. وقد كنّا نحن قدّمنا، فيما أظنّ حكايته هذا عنه. وإذا وقع بيع آبق على الوجه الممنوع فإنّه يفسخ، ولو قبض مشتريه، ما لم يفت عنده بعد قبضه بتغيّر سوق أو بدن، فيلزمه قيمته يوم قبضه. وإن لم يفت وتوجّه فسخه، وقد جعل المشتري جعلا لمن جاء به حتّى حصل في يديه، ولكنّه بعد هذا فسخ البيع عليه، فإنّ في رجوعه على بائعه بما أنفق على هذا ¬

_ (¬1) كذا في الوطنية وفي المدنية: (جار تعليمه)، والنص يقتضي: فإذا صار إلى حال يمكن فيها تسليمه.

الآبق حتّى حصل في يديه قولان: فقيل: يرجع بذلك على البائع لكونه أنفق على من لا ملك له عليه، ولا يستحقّ أن يُقَرّ في يديه، ولولا هذه النّفقة ما حصل عليه بائعه ولا رجع إليه. فكان للمنفق الرّجوع بهذه النّفقة لمّا أنفقها على ما هو في ضمان بائعه حين الإنفاق، كما أنفق، عند بعض أشياخي، على أنّ (¬1) من اشترى ثمرة قبل الزهوّ بشرط التّبقية فسقاها وعالجها، فإنّه إذا فسخ عقده رجع على البائع بقيمة ما سقى وعالج، لمّا كانت نفقته هذه على ما ضمانه من بائعه، ولم يتحقّق له ملكه، فكذلك الآبق. بخلاف من اشترى نخلًا مجرّدة من الثّمر شراء فاسدًا فأثمرت عنده ولم تطب، فإنّ البيع إذا نقض في النّخل ووجب ردّها إلى بائعها، ردّت معها الثّمرة الّتي لم تطب، لكونها بعد الطّياب غلّة، والغلّة للمشتري وهي قبل الطّياب ليست بغلّة، بل هي كبعض أجزاء النّخل، فوجب ردّها مع النّخل. إذا وجب ردّ هذه الثّمرة، ففي رجوع المشتري بقيمَة ما أنفق في السقي قولان في المذهب: أحدهما أنّه لا رجوع له, لأنّه أنفق على ما هو يملكه وله فيه شبهة الملك، ومن أنفق على ملكه لا يرجع به على أحد. ألا ترى أنّ من اشترى عبدًا شراء صحيحًا فأبق له ثمّ أنفق نفقة في استرجاعه ثمّ استحقّ من يديه أو ردّه بعيب، فإنّه لا يرجع على بائعه بهذه النّفقة لأنّه أنفقها على ملكه فيما يعتقد، وعلى ما ضمانهُ منه، والبائع لم يأذن له. بخلاف من اشترى آبقًا شراء فاسدًا فأنفق عليه حتّى حصل في يديه، فإنّ البائع يقدّر هنا كالآذن له في النّفقة. ولو خرج رجل بعبد رجل آخر من بلد الحرب، لكان له ما أنفق عليه. ولو خرج به وقد وهب له، فإنّه يرجع أيضًا بما أنفق عليه لأنّه أنفق على ملك غيره، بدلالة أنّه لو أعتقه لم ينفذ عتقه فيه، وما ذلك إلاّ لكونه باقيًا على ملك صاحبه. ولو اشتراه من بلد الحرب فأنفق عليه حتّى خرج به، لم يرجع بما أنفق, لأنّه لو أعتقه لنفذ عتقه فيه كما ينفذ عتقه في عبده الّذي ملكه ملكًا محقّقًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف: على أن.

هذه طريقة سلكها بعض الأشياخ، وأشار إلى اعتبار كون الإنفاق واقعًا على ملك المنفق، والعبد على ملك المنفق أو على ملك مستحق العبد. وما فيه أيضًا أنّ البائع كالآذن في هذه النّفقة أو ليس بآذن. وقد اختلف المذهب على قولين فيمن فدى سلعة من أيدي اللّصوص، هل يأخذها صاحبها منه من غير أن يعطيه ما فداها به، أو يلزمه، إذا أخذها، ما فداها به وهو ها هنا أنفق على ملك غيره، وليس كالآذن له في هذا. ثم مع هذا وقع فيه الاختلاف لمّا كانت نفقات وقعت بشبهة وتأويل، ولولاها ما حصل المال المردود على صاحبه. ولكن هذه النّفقات ليست بأعيانها موجودة في ملك من ردّ عليه ملكه، وهي كالمستهلكة وليست بعين قائمة يطلب مالكها أخذها من ملك غيره، كبناء المشتري بوجه شبهة. لكن من اعتبر كون هذه النّفقات زادت في الأملاك أو حطّتها (¬1)، ولولاها كانت الأملاك كالعدم، أوْجَب الرّجوع بها. ومن رأى أنّ مخرج النّفقة من يده لا يطالب بعين قائمة صارت من ملكه إلى ملك غيره، أسقط الرّجوع بهذه النّفقات. ولو حدث بالآبق عيب بعد بيعه وقبل قبضه، لكان مصيبته ذلك (¬2) من البائع. فإن قبضه المشتري، وفيه عيوب حدثت بعد العقد وحال سوقُه عنده بعد قبضه، فإنّ الفسخ قد ارتفع لأجل حوالة الأسواق عليه وهو في يديه، ولكنّه يقوم عليه على حسب ما قبضه بعيوبه الحادثة قبل قبضه وبعد بيعه، كما قدّمناه من كونها حدثت والعبد في ضمان بائعه. ولو اطّلع على عيب قديم أيضًا إلى هذه العيوب الحادثة بعد العقد وقبل القبض، لم يمنع الرّدّ بهذا العيب القديم الّذي سبق البيع حوَالةُ سوق هذا العبد الآبق بعد قبض المشتري له, لأنّ الرّدّ بالعيب لا يفيته حوالة السوق، وإنّما يفيت حوّالةُ السوق البيعَ الفاسد، وقد ألزمنا المشتري لأجل الفوت بحوَالة السوق قيمة العبد بعيوبه الحادثة قبل قبضه وبعد عقد بيعه، فصارت القيمة ¬

_ (¬1) هكذا في الوطنية، وفي المدنية: حظها, ولعل الصواب: حصّنتها. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: لكانت مصيبته تلك.

كثمن اشتُريَ به العبد شراءً صحيحًا، ثمّ اطّلع فيه على عيب وقد حال سوق العبد، فإنّه إنّما يقضى له بتخييره بين أن يقبل العبد بالعيب القديم للعيب على حالته من العيوب الحادثة بعد العقد وقبل القبض خاصة، وإن شاء ردّ العبد بالعيب القديم، وانتفض ما لزمه من القيمة. ولو كان فوت العبد عند المشتري بعيوب حدثت عنده، فإنّ له ها هنا أن يطلب قيمة العيب القديم، وتلزمه قيمة هذا الّذي قبضه على حالته من العيوب التّي قبضها عليه، القديمة والحديثة. كما يجري الحكم في ذلك في البيع الصحيح إذا اطّلع المشتري على عيب قديم وقد حدث عنده عيب آخر، ويكون ها هنا اللاّزم له قيمة العبد يوم قبضه على ما هو عليه من عيب قديم أو حديث. وإن اختار الرّدّ بالعيب القديم، قوّم قيمة ثانية ليعلم منها مقدار ما نقصه العيب الّذي حدث عنده. وأمّا الضالّة فتجري مجرى الآبق في جميع ما قدّمناه. وقد تكلّم ابن القاسم وغيره على شراء الإبل المهملة في الرّعي ومنعوا ذلك. فمنهم من أشار في علّة المنع إلى كونها لا تعلم صفتها، ومنهم من أشار إلى كونها لا يمكن قبضها إلاّ بإرهاق وأمر سياق، فاشترط في المنع كونها على هذه الحالة ليلحق بما منع من بيعه لعدم القدرة على تسليمه والتّمكين منه. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: أمّا شراء الجنين فإنّه لا يجوز لما تحقّق فيه الجهالة لكلّ ما يقصد من جنسه من المبيع. وإلى هذا أشار مالك في الموطأ فقال: إنه لا يدري أحيّ أم ميّت، أذكر أم أنثى، إلى غير ذلك من الصفات التّي ذكرها. وقال أيضًا: إنّه إذا اشترى العبد الآبق الّذي قيمته خمسون دينارًا بعشرين دينارًا، فإنّ المشتري إن وجده ذهب من مال البائع ثلاثون دينارًا، وإن لم يجده ذهب من مال المشتري عشرون دينارًا. فأشار في علّة المنع إلى الجهالة بالمبيع وإلى المخاطرة في الثّمن. وأمّا استثناؤه فإنّه ممنوع أيضًا لكون البائع قد حطّ من الثّمن كأنّه اشترى به الجنين. وقد قدّمنا أنّ شراءه لا يجوز لما فيه من المخاطرة في المثمون

والثّمن. وهذا التّعليل إنّما يتّضح على القول بأنّ المستثنى مشترَى بأن يقدّر أنّ البائع باع الأمة بجنينها، وصار بالعقد ملكًا للمشتري فاشتراه هو بما وضعه من الثّمن الّذي يجب له لو لم يشترطه، ويستثنيه. وقد بولغ في المنع من هذا حتّى ذكر في الموّازيّة أنّه لو باع رمكة على أنّها عقوق، لم يجز هذا البيع. ورأى أنّ اشتراط كونها حاملًا حين العقد يصيّر الجنين مقصودًا في العقد، وما كان مقصودًا في العقد فله حصّة من الثّمن، وقد ذكرنا أنّ الثّمن الّذي هو عوض الجنين فيه من المخاطرة ما بيّنّاه. ولو ذكر أنّها عقوق لا على جهة الاشتراط لكونها حاملًا حتّى يكون لذلك حصّة من الثّمن، بل على جهة الإخبار بحالها والتبرّي من حملها لجاز العقد، لكونه إذا وقع على هذه الصفة لم يكن له حصّة من الثّمن ولم يكن مشترَى مع أمّه. والجواب عن السّؤال الثّالث أن يقال: ما معنى النّهي عن حبل الحبلة؟ فإن فيه تفسيرين، أحدهما: أنّ المراد به بيع نتاج ما تنتجه النّاقة. وإلى هذا ذهب ابن وهب. وذهب مالك إلى أنّ المراد به بيع سلعة بثمن يقضَى عند نتاج النّاقة. والمعنيان جميعًا يتّضح فسادهما. وقد بّينّا وجه المنع من شراء جنين ناقة، والجنين موجود حين العقد في بطن أمّه، فشراء جنين يخلق من هذا الجنين الأوّل أوضح في المنع. وكذلك إذا كان المراد ضرب هذا أجلًا لثمن سلعة باعها، فإنّ ذلك أيضًا ممنوع لكون الثّمن لا يعلم متى يقبض، ولا الزّمن الّذي تنتجه ما تنتجه ناقة مشار إليها. كيف ولو كان الزّمن محدودًا معلومًا مبلغه، ولكنّه من الطّول بحيث الغالب فيه تغيير الذّمم وعدم الثّقة بحصول الثّمن، وكون الغالب منه أنّه لا يبقي مشتريه إليه وإن بقي يتغيّر حاله في الكسب، ولو كان الأجل عشرين عامًا لكره ذلك، ولكنّه لا يفسخ البيع فيه. ولو كان لعشر سنين لكان ذلك جائزًا. وهذا التّفصيل الّذي وقع في هذه الرّواية ما بين جواز وكراهة وتحريم لا ينبغي أن يساق مساقًا واحدًا في سائر النّاس، فإنّه ربّما كانت بعض الذّمم في قوم، السنين (¬1) الكثيرة في حقّهم بالإضافة إلى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: السنون.

كسبهم كالسنين القليلة في حقّ آخرين. وأمّا النّهي عن بيع المضامين والملاقيح، فإنّ فيه قولين، أحدهما: أنّ المضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الفحول. وإلى هذا ذهب مالك واحتجّ بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (¬1). والرّياح محرّكة لتوليد الشّجر ثمارها لا حاملة للثّمار. وقيل: عكس هذا، إنّ الملاقيح ما في بطون الإناث، والمضامين ما في ظهور الفحول. وإلى هذا ذهب ابن حبيب وأنشدوا في هذا: ملقوحة في بطن ناب حائل وفي الاستشهاد بهذا البيت نظر. وأمّا بيع الحصاة ففيه أقوال في تفسيره. فقيل: معنى الخبر الوارد بالنّهي عن أن يكون في يد إنسان حصاة، فيقول للآخر: إذا سقطت من يدي لزمني ما بعته منك. وقيل: المراد إذا سقطت الحصاة من يدي على ثوب بعينه، فإنّ البيع لازم. وقيل: معناه أن يبيعه منتهى ما يبلغه رميه بحصاة. وقد تكلّمنا في كتابنا المعلم على هذه التّأويلات وذكرنا أنّ التّعليق بسقوط الحصاة من يده إذا كان المراد إسقاطها باختياره، فإنّه كبيع خيار إذا قدّر في ذلك أجل يجوز الخيار إليه. وكذلك إذا أراد إن سقطت الحصاة على ثوب بعينه من ثياب فقد عينت ذلك للبيع والثّياب متساوية، فإنّ هذا أيضًا كبيع ثوب من ثوبين يختاره البائع. ¬

_ (¬1) سورة الحجر، آية: 22.

فصل

فصل ذكره في المدوّنة يتعلّق بما نحن فيه. فقال فيمن باع عبدًا بشرط أن يعتقه المشتري: إنّ ذلك جائز. قال الإِمام رحمه الله يتعلّق بهذا الفصل سبعة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما تقسيم الشّروط المقارنة للبيع؟. 2 - وما حكم هذا الشّرط للعتق هل يفسد البيع أم لا؟. 3 - وهل يجبر المشتري على إيقاع العتق؟. 4 - وهل يجوز اشتراط الانتقاد في هذا البيع؟. 5 - وهل يجوز تأخير العتق؟. 6 - وما حكمه إن فات المبيع قبل إيقاع هذا الشّرط؟. 7 - وما حكم البيع بشرط تحجير ممنوع منه؟. فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: حكم الشّروط المقارنة للبيع ثلاثة أنواع: 1 - إمّا أن يكون من مقتضى العقد. 2 - أو من مصلحته. 3 - أو ليس من مقتضاه ولا من مصلحته. والّذي من مقتضاه ثلاثة أقسام أيضًا: 1 - وجوب التّسليم للبيع. 2 - والقيام بالعيب. 3 - والمطالبة بردّ العوض عند انتقاض البيع.

والّذي من مصلحته ثلاثة أقسام أيضًا: 1 - التوثّق برهن أو حميل. 2 - والمرفِق بالتّأجيل. 3 - أو الخيار لاختيار المبيع. وأمّا القسم الثّالث من الأقسام الأولى، وهو ما خرج عن مقتضى العقد وعن مصلحته، وذلك أيضًا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: 1 - أن يشترط إيقاع فعل في المبيع لا يلزمه في مقتضى الملك. 2 - أو يمنع من فعل في المبيع مِمّا يقتضيه الملك. 3 - أو يعود إلى جهالته في () (¬1)، أو ما في معنى ذلك. فأمّا الذي من مقتضى العقد فإنّه يلزم وإن لم يشترط. والنّطق باشتراطه تأكيد للأمر اللاّزم فيه لكون البائع مجبورًا على التّمكين من المبيع، وعلى ردّ العوض عند القيام بعيب أو استحقاق. وأمّا الّذي من مصلحته فيجوز، ولا يلزم إذا لم يشترط، كالرّهن، والحميل، والتّأجيل في الثّمن، والخيار في المبيع. وأمّا ما خرج عن هذين فإنّه يمنع من اشتراطه كمن باع على أن يدبّر الأمة التّي اشتراها، أو يتّخذها أمّ ولد، أو على ألاّ يبيع ما اشتراه، ولا يهبه، أو على ألاّ خَسارة على المشتري في الثّمن إذا باع، أو على اشتراط سلف وما فيه معنى هذه الأمور. فهذه التّقاسيم المشتملة على الشرّوط المقارنة للبيع على الجملة، وتفصيلها يردّ كلّ قسم في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: قد ذكرنا فيما تقدّم من هذا الكتاب الاختلاف في العقد المقارن لشروط ممنوعة كالبيع والسلف وبيع الأمة على أن ¬

_ (¬1) بياض بالأصل في النسختين مقدار كلمة.

يتّخذها أمّ ولد إلى غير ذلك مِمّا ذكره. وذكرنا أيضًا في كتابنا المترجم بالمعلم الحكاية المأثورة عن سائل سأل ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبا حنيفة عن بيع وشرط. فابن شبرمة أفتاه بإمضاء البيع والشّرط. ولمّا سأله السّائل وأعلمه بخلاف ما خالفه فيه من (¬1) ابن أبي ليلى بأنّ البيع صحيح والشّرط باطل. فاحتجّ له بقوله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم" (¬2). وأفتاه ابن أبي ليلى بأنّ البيع صحيح والشّرط باطل. واحتجّ له لمّا أعلمه بخلاف من خالفه بحديث بريرة وأنّه عليه السّلام أمضى شراء عائشة وأبطل شرط الولاء، وصعد المنبر فقال: "كلّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" (¬3) الحديث. وأنّ أبا حنيفة أفتاه لمّا سأله ببطلان البيع والشّرط، واحتجّ لمّا علم بمن خالفه بنهيه عليه السلام عن بيع وشرط (¬4). وقد ذكرنا في التّقاسيم التّي قدّمنا أنّ من جملتها اشتراط البائع على المشتري أن يوقع في المبيع معنى لا يلزمه بحقّ الملك. وذلك أيضًا يكون على قسمين، أحدهما: أن يوقعه بعوإنقضاء ملكه، كبائع يشترط على المشتري إذا أعتق أن يكون الولاء له. فإنّ الولاء إنّما يثبت بعد ذهاب الملك عن العبد المعتق. وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّ هذا قسم له حكم على حياله، والحكم فيه إمضاء البيع وإبطال الشّرط. فبطلان الشّرط لكونه إنّما يوقع بعد تقضّي الملك، وإمضاء البيع, لأنّ الشرط الّذي يتعلّق بالملك لا يؤثّر في صحّة الملك. وأشار إلى أنّ هذا الحكم متّفق عليه. وليس كما ظنّ، بل هذا جار على أسلوب ما قدّمنا ذكر الخلاف فيه، وما سنذكره في كتاب النّكاح، إن شاء الله تعالى، من اشتراط ألاّ توارث بين الزّوجين، وانعقاد النّكاح بهذا الشّرط لأنّ التّوارث إنّما يكون بعد زوال ملك العصمة. والقسم الثّاني أن يوقع المشتري معنى في المبيع في حال كونه مالكًا له. ¬

_ (¬1) كذا ... والأولى حذف من. (¬2) البخاري: الإجارة - الفتح 5: 357 (برواية: عند). (¬3) متفق عليه. الهداية ج 7، ص 283. (¬4) رواه الطبراني وغيره: الهداية، ج 7، ص 248.

وذلك يكون على قسمين أيضًا، أحدهما: أن يكون معنى من معاني البرّ، والثاني: ألاّ يكون فيه معنى من معاني البرّ. والّذي من معاني البرّ على قسمين: إمّا أن يكون معجّلًا أو مؤجّلًا. فإن كان من معاني البرّ التّي تقع في الملك وهو أمر معجّل، فهي المسألة التّي نحن بصددها، وهو أنْ يبيع عبده على أن يعتقه المشتري. وقد اختلف النّاس في هذا البيع. فذهب مالك والشّافعي إلى جوازه وجواز ما قارنه من الشّروط. وذهب أبو حنيفة إلى فساده والمنع من عقده. لكنّه مع ذهابه إلى فساده قال: إنّه إذا فات الأمر فيه، مضى بالثّمن. وقال صاحباه: بل إنّما يمضي بالقيمة كسائر البياعات الفاسدة التّي ذهبا هما وشيخهما أبو حنيفة إلى أنّ الواجب فيها إذا فاتت القيمة. فأبو حنيفة يحتجّ على فساد هذا البيع بما قدّمناه عنه من أنّه عليه السلام نهى عن بيع وشرط (¬1). والنّهي يدلّ على فساد المنهيّ عنه، كما قدّمنا ذكره وذكر تفصيل الخلاف فيما سلف. ويحتجّ أيضًا بأنّه مبيع قصر المالكُ فيه عن اختياره في التصرّف الواجب له بحقّ الملك، فأشبه من باع جارية على ألاّ يطأها مشتريها، أو على ألاّ يهبها, ولا يبيعها. ونحن والشّافعي نردّ عليه بحديث بريرة، وهو قد ورد متضمّنًا لمعنى هذه المسألة التّي اختلفنا فيها. وذلك أنّه ذكر فيه أن بريرة أتت عائشة، رضي الله عنها، فسألتها أن تعينها في كتابتها، وشكت إليها كون الأداء أعياها، فقالت لها عائشة، رضي الله عنها، ما ذكر في الحديث عنها وعن التابعين وعن النبيّ عليه السّلام. ثمّ مع هذا أمضى عليه السلام الشّراء، وأبطل اشتراط الولاء. ولا معنى لقولهم: إنّ الّذي جرى في الولاء إنّما كان قبل انعقاد البيع, لأنّ ظاهر الخبر أنّ البيع عليه وقع. وكذلك لا حجّة لهم يكون الخبر متروك الظّاهر لأنّه تضمّن جواز بيع المكاتب, لأنّا نتَأوّله على أنّها عجزت فبيعت. وكذلك لا مستروح لهم في أمره عليه السّلام لها بأن تشترط لهم الولاء، مع كون ذلك لا يجوز، لكونه قد قيل: (لهم) ها هنا ¬

_ (¬1) رواه الطبراني وغيره الهداية ح 7. ص 248.

بمعنى: عليهم. وقيل أيضًا: معنى اشترطي لهم الولاء أي: بيّني لهم حكمه. وقيل أيضًا: هذه رخصة خصّت بها عائشة لما اقتضته المصلحة من العقوبة بفسخ البيع، وإشهار ذلك على المنبر، وردّ الفعل الذي وقع فيه لما كان تقدّم منه بيان حكم الولاء، فقصد بهذا المبالغة في البيان والتأكيد للمنع، وبالفسخ إذا وقع. وقد بسطنا الكلام على هذا في كتابنا المعلم (¬1). وأمّا تَعلّقهم بما تضمّنه هذا البيع من التّحجير فوجب أن يمنع، قياسًا على من باع بشرط ألاّ يبيع ما اشتراه ولا يهبه، فإنّ الإنفصال عنه أنّ العتق معنى من معاني البرّ وله حرمة مؤكّدة في الشّرع، ولهذا خصّ بخلاف ما تقتضيه الأصول، ألا ترى أنّ من أعتق نصف عبد بينه وبين شريك له، فإنّه يقوّم عليه نصيب شريكه، ويخرج ملك شريكه من يده بغير اختياره، لأجل حرمة العتق. ولو باع نصيبه لم يلزم شريكَه بيعُ نصيبه. فاقتضى ذلك اختصاص العتق بحكمٍ مّا لحرمته. وكذلك أختصّ ها هنا بجواز هذا البيع لحرمته أيضًا. بخلاف من باع على ألاّ يبيع المشتري ولا يهب، فإنّ هذا الشّرط لا حرمة له توجب إمضاء هذا العقد. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: اختلف المذهب على قولين: هل يجبر المشتري لعبد بشرط أن يعتقه أن يعتقه أم لا؟ فمذهب ابن القاسم أنّه لا يجبر. ومذهب أشهب أنّه يجبر. وبه قال ابن كنانة في المدنية. واختلفت إشارات الأشياخ في موقع هذا الخلاف بعد اتّفاقهم على حكم موقعين من مواقع هذا الاشتراط. فقالوا: إنّ المشترط عليه أن يعتق هذا العبد إن عقد الشّراء على أنّه بالخيار في إيقاعه، فإنّ هذا جائز، ولكن يجري مجرى بيع الخيار، في ضرب مدّة تجوز أن تضرب في بيع الخيار في هذا العبد إلى غير ذلك من أحكام عقود الخيار. وإن كان القصد بهذا الاشتراط إيقاع الحرّية بنفس الشّراء، فإنّ ذلك جائز، والحرّية لازمة بنفس الشّراء، كما يلزم ذلك في شراء الأقارب الّذين يعتقون، على ما سنذكره في موضعه في افتقار عتق الأقارب إلى حكم أم ¬

_ (¬1) ج 2 - ص 146 - 150.

لا يفتقر إليه. وأبو حنيفة يوافق على صحّة شراء الأقارب الّذين يعتقون وإن كان عقد الشّراء يقتضي عتقهم، ويُفسِد العقد على عبد أجنبيّ بشرط أن يعتقه المشتري لما فيه من التّحجير المناقض لحقيقة الملك. بخلاف عتق الأقارب الّذي لم يجب عتقهم بالاشتراط من جهة البائع، فيكون ذلك تحجيرًا منه (¬1)، بل بعد صحّة الملك وإيجاب الشّرط. عتقهم. وإن امتنع من ذلك البائع والمشتري بعد صحّة الشّراء (1)، فهذان موقعان يقع العقد عليهما، ويصحّ أن يقصد المتبايعان إليهما. وموقع ثالث، وهو أن يشتري ذلك شراءً مطلقًا من غير تعيين لأحد الموقعين الأوّلين. فرأى بعض أشياخنا صرف الخلاف إلى هذا الموقع، وبناه على حمل هذا الإطلاق للشّرط على حكم أنّ العتق مصروف إلى إرادة المشتري، أو على أنّه نافذ للحرّيّة بعقد الشّراء. وإشارة غيره إلى صرف الخلاف إلى موقع ظاهره خلاف هذا، وهو أن يشترط العتق على جهة الإيجاب له على نفسه. فيكون هذا الإيجاب عند ابن القاسم لا يوجب جبره، ويكون ذلك عند أشهب يوجب جبره. ويعتضد هذا المتأوّل للخلاف على هذا الوجه بما وقع في مسألة المدوّنة في قول الإنسان: لله عليّ عتق رقيقي. وما ذكر في المدوّنة من ذهاب أشهب إلى كون هذا القائل يجبر على الوفاء بهذا النّذر. وإذا جرّه (¬2) أشهب على هذا مع كون هذا الإيجاب لم يتعلّق عقد معاوضة عليه بل حقّ للعبد، فأحرى أن يجب ذلك فيما تعلّق به حقّ هذا العبد المشترى بهذا الشّرط. وكون هذا الإلزام وقع عن معاوضة، وعقود المعاوضة تلزم ويجبر عليها من امتنع من مقتضاها. وهذا التّنازع يتصوّر قسمًا رابعًا على ظاهر مقتضى لفظ الإيجاب، وأمّا على ما أشار إليه في الموّازيّة من تصير معنى الإيجاب أنّه يعتق بعقد الشّراء، فإنّ هذا يعود إلى ما قدّمناه ولا يكون قسمًا رابعًا. والجواب عن السؤال الرابعّ أن يقال: قد علم أنّ بيع الخيار لا يجوز أن ¬

_ (¬1) كلام غير واضح في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أجبره.

يعقد على اشتراط النّقد فيه. وأمّا بيع العبد بشرط أن يعتقه مشتريه، فإنّا قدّمنا ذكر الخلاف في إجبار المشتري على هذا العتق. ولا يخفى أنّه إذا كان على ذلك مجبورًا أنّ هذا العقد غير مترقّب ردّه, فيجوز فيه اشتراط النّقد كما يجوز ذلك في البيع الّذي لا خيار فيه ولا يترقّب بطلانه. وأمّا على مذهب ابن القاسم فتنازعه الأشياخ في هذا، فمنهم من منع اشتراط النّقد فيه لمّا أمكن أن يمتنع المشتري من إيقاع العتق، فيكون من حقّ البائع الرّضى بإمضائه على إسقاط هذا الشّرط، أو استرجاع العبد. فإذا استرجعه وجب أن يردّ ما كان انتقده، فيكون ما اشترط انتقاده كالسلف عند (¬1) ورده لمّا انتقض البيع. ومنهم من ذهب إلى جواز اشتراط النّقد في هذا، ورأى أنّه بخلاف بيع الخيار, لأن بيع الخيار لم يصرّح حين انعقاده يكون هذا العقد في حقّ مشترط، مقبولًا عنده أو مردودًا. فترقب ردّه كترقّب إمضائه لا مزية لأحدهما على الآخر، فلهذا منع من شرط النّقد فيه. وأمّا من اشترى عبدًا على أن يعتقه، فإنّ ظاهر العقد يقتضي كون هذا العقد عند المشتري على القبول حتّى يرجع عمّا أظهر من القبول والتزام شرطه، حتّى صار هذا القبول له والالتزام موجبًا عند أشهب أن يمنع المشتري من ردّ هذا العبد. وإذا كان الأمر كذلك فارق هذا بيع الخيار الّذي هو على الوقف، وضارع بيع البتات الّذي هو على الإمضاء، ولهذا كان ضمان هذا العبد من مشتريه، وإن ترقّب ردّه بامتناعه من العتق، وبيع الخيار ضمان العبد فيه من بائعه، ولو كان الخيار مِمّا اشترطه المشتري في المشهور من المذهب. وهذا عندي يؤكّد طريقة هؤلاء القائلين بجواز اشتراط النّقد في هذا العقد. على أنّه ذكر في الموّازيّة امتناع المشتري من إيقاع العتق مدّة لا يجوز ضربها في بيع الخيار، وما ذلك إلاّ لكون هذا العقد خارجًا عن أحكام بيع الخيار، وإن كان بعض المتأخّرين أشار إلى اعتذار عن هذا فقال: لعلّ التأخرّ هذه المدّة الطّويلة لم يُبْنَ أصل العقد عليه، ولكنّ التّأخّر اتّفق بعد صحّة العقد لعذر اقتضاه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حذف واو العطف.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد قدّمنا أنّ أبا حنيفة يفسد عقد البيع في عبد على أن يعتقه مشتريه. وذكرنا نحن أنّ هذا وإن كان فيه ضرب من التّحجير الّذي لأجله أفسد أبو حنيفة البيع قياسًا على من باع على ألاّ يهب المشتري ولا يبيع، فإنّ العتق لمّا كان طريقهُ البرَّ والقربةَ، والبرّ والقربة قد أمر الشّارع بهما، كما نهى عن التّحجير على المالك، فإنّه لمّا تقابل ها هنا على المنهيّ عنه. فإذا لم يشترط تعجيل العتق، صار النّهي متعلّق أبو جهين: أحدهما التّحجير والثّاني الغرر والوقوع في الخطر, لأنّ البائع لعبد بشرط أن يعتقه إلى أجل أو يدبّره أو يكاتبه أو يكون المبيع أمة يشترط على مبتاعها أن يتّخذها أمّ ولد ويشترط ألاّ يعزل عنها، فإنّ هذا وإن تصوّر فيه التّحجير تصوّر فيه معنى آخر وهو الغرر والوقوع في الخطر، لكون البائع وضع من الثّمن لأجل غرض لا يدري هل يحصل له أو يفوته؟ فإنّه إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد إلى أجل، أمكن أن يموت العبد قبل ذلك فيموت رقيقًا ليس بعتيق، فيفوت البائعَ غرضُه، وتذهب الحطيطة من الثّمن باطلًا. بخلاف إذا كان العتق ناجزًا، فإنه يجبر المشتري على إيقاع العتق عند أشهب، وهو إن لم يجبر عليه عند ابن القاسم، فإنّ البائع يستردّ ما باع، فلم يذهب ما حطّ من الثّمن باطلًا. وإذا تصوّر هذا الغرر في المعتق إلى أجل، كان تصوّره في المدبّر أمكن لجواز أن يموت قبل موت سيّده، فيموت رقيقًا، أو يموت سيّده قبله وقد أحاطت الدّيون بتركته، فيكون التّدبير باطلًا، ويعود العبد رقيقًا، فيفوت البائعَ غرضُه ويذهب ما حطّ من الثّمن من غير حصول عوض عنه. وهكذا يتصوّر في الكتابة والإستيلاد من الغرر ما أشرنا إليه. فلمّا تأكّد المنع ها هنا لتعلّقه بوجهين اثنين، لم يقابل ذلك ما تعلّق به الأمر من المعونة على البرّ والقربة، فلا يقابل وجه واحد ها هنا وجهين. هذا وجه المنع من اشتراط تأخير العتق. ومن باع بشرط ألاّ يبيع المشتري ولا يهب، هذا التّحجير وجه ممنوع ولا يقابله طريق مأمور بها، إذ لا برّ في هذا التّحجير. فوجب المنع لعدم المقابل ها هنا، كما وجب المنع في اشتراط التّدبير، لكون الموانع أكثر من الوجه

المأمور به. وإذا كان العتق معجّلًا يقابل وجهان راجح أحدهما على الآخر على حسب ما بيّناه. فإن وقع هذا البيع على هذا الوجه الممنوع، وامتنع البائع من إسقاط ما اشترط من تدبير أو غيره، مِمّا ذكرناه وذكرنا المنع منه، فإنّ البيع يفسخ. وإن أسقط شرطه، فهل يصحّ إمضاء هذا العقد بإسقاط هذا الشّرط أم لا؟ فيه قولان. مذهب ابن القاسم إمضاء البيع، ومذهب أشهب أنّه لا يمضي. وقد أشرنا إلى سبب هذا الاختلاف في كلامنا على البيع بشرط السلف، وأشرنا إلى أنّ من أمضى هذا البيع لأجل إسقاط هذا الشّرط قدر الفساد كالخارج عن الثّمن والمثمون والعقد، والمقصود في العقود تخليصها مِمّا يفسد أحد هذه الثّلاثة أنواع، والشّرط خارج عنها، فإذا أسقطه مشترطه أذهب علّة الفساد ورفعها. والعلّة إذا ارتفعت، ارتفع حكمها. ومن نقض البيع ولو أسقط هذا الشّرط، رأى أنّ الفساد ينصرف إلى الثّمن كما صوّرناه من التّخاطر الّذي وقع من الحطيطة في الثّمن. وإذا رجع الفساد إلى الثّمن أو إلى العقد من جهة ما وقع فيه من تحجير ومنع من مقتضى العقد وجب الفسخ ولو أسقط الشّرط. وإذا وضح وجه الاختلاف في إمضاء العقد إذا أسقط هذا الشّرط، فإنّ المذهب على قولين أيضًا في كون هذا المبيع، على شرط التّدبير، واتّخاذ هذه الأمة أمّ ولد تفوت بمجرّد حوالة الأسواق دون تغيّره في نفسه. فالمشهور أنّه يفوت بحوالة السوق كسائر البياعات الفاسدة. وذكر عن أصبغ فيمن اشترط على المشتري أن يتّخذ الأمة التّي اشتراها أمّ ولد أن هذا البيع لا يفوت بحوالة السوق. فأمّا طريقة من ذهب إلى أنّه لا يصحّ إمضاء البيع وإن أسقط الشّرط، فيتّضح كون حوالة السوق تفيت هذا البيع لكون الفساد فيه منحتمًا لا قدرة على تصحيحه فأشبه سائر البيوع الفاسدة. وأمّا من ذهب إلى أنّ البيع يصحّ إذا أسقط الشّرط، فقد يشكل الأمر على أصل هؤلاء لكون هذا البيع ليس بمنحتم الفساد ضربة لازم، بل يقدر البائع على تصحيحه بإسقاط ما اشترط، فأشبه ذلك البيع الصحيح الّذي يجب ردّه لمعنى آخر كالرّدّ بالعيب في بيع صحيح فإنّ حوَالة السوق فيه ليس بفوت. وقد يقال:

إنّه انعقد على الفساد، ودخل المشتري على قبول هذا الشّرط، وإنّما يرتفع هذا القبول وحكم الفساد إذا انثنى رأي البائع عمّا عقد عليه واشترطه وأسقط هذا الشّرط. وهذه الطّريقة تنظر إلى ما كنّا أشرنا إليه من اختلاف الأشياخ في جواز النّقد في شراء عبد على أن يعتقه مشتريه وأنّ من منع من ذلك رآه كبيع الخيار، ومن أجاز ذلك فرّق بينه وبين بيع الخيار بأنّ المشتري لمّا قبل البيع بشرط أن يعتق، صار العقد وقع على قبول العتق، فلم يرتفع حكمه حتّى ينثني رأي المشتري عمّا دخل عليه وأظهر قبوله من البائع، بخلاف بيع الخيار الّذي هو من أصله على الوقف. وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر في القيمة الواجبة في هذا البيع وما في معناه، فقيل: إنّ القيمة فيه تفتقر فيها أن (¬1) لا تكون أكثر من الثّمن الّذي تعاقدا عليه، ولا تكون أقلّ منه، بل يقضي بالقيمة مطلقة بالغة ما بلغت. فأمّا من قضى بها مطلقة، فإنّه يتّضح ما قاله على مذهب من رأى فسخ البيع ولو أسقط، وأمّا على مذهب من يرى إمضاءه إذا أسقط الشّرط فإنّه يحسن عنده أن يجري الحكم مع الفوت كما يجريه مع قيام المبيع. فلمّا كان له أن يسقط الشّرط مع قيام السلعة، فيصحّ البيع ويجب الثّمن الّذي تعاقدا عليه. فإذا قصرت القيمة عنه، لم يكن للمشتري مقال في أن يقبل منه القيمة بصحّة البيع، فكذلك مع الفوت. وإن كانت القيمة أكثر من الثّمن، كان من حقّ البائع أن يقول: لا أسقط الشّرط، فينحتم فساد البيع، وردّ عين السلعة، مع أنّها لم تفت، فكذلك إذا فاتت إذا وقع الفوت بما شرط البائع إيقاعه، مثل أن يبيع عبده على أن يدبّره مشتريه، فإنّ المذهب اختلف في ذلك، فقيل: يمضي التّدبير لحق الله سبحانه في إمضائه، والمنِع من الرّجوع عنه وإبطالِه، ولا يكون للبائع رجوع بما حطّ لأجل هذا الشّرط. وإن كانت المعاوضة على هذا لا يجوز لكون المشتري قد سلّم وفعل ما وقعت المعاوضة عنه، فيجب أن يستحقّ العوض عن ذلك، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل حذفها يكون الكلام معه أوضح.

والعوض عنه هو الّذي حطّه البائع من الثّمن لأجل ما أحدث المشتري في العبد مِمّا عابه ونقص ثمنه، وكان ذلك بأمر البائع وإذنه على عوض التزمه. وكذلك لو لم تكن هذه المعاوضة على معاقدة البيع في العبد، ولكن قال رجل لرجل: دبّر عبدك، ولك عندي دنانير، سمّاها له، فإنّ هذه المعاوضة أيضًا لا تجوز لما اقتضته من الغرر والمخاطرة التّي تقدّم بيانها. ولكن إذا دبّر مالك العبد لأجل هذه المعاوضة نفذت على طريقة من قال من أهل المذهب: إذا عقد بيع على فساد وأمر المشتري البائع أن يفعل فيه فعلًا، وهو في يديه قبل أن يصير إلى يد المشتري، فإنّ ذلك الفعل ينفذ وكأنّه وقع من المشتري بعد قبض للمبيع، والمشتري يضمن ما أحدثه في المبيع بعد أن قبضه، فكذلك يضمن ما أحدثه البائع بأمره قبل أن يصير العبد إلى يده. وهذا يبسط في الكلام على من اشترى زيتونًا على أنّ على البائع عصره، أو غزلًا على أنّ عليه حوكه، أو فضّة على أنّ عليه صياغتها. وقيل: يمضي التّدبير الّذي شرطه البائع على المشتري لكون التّدبير لا يصحّ نقضه لأجل تعلّق حقّ الله سبحانه به، والعوض عنه ينتقض لفساد المعاقدة عليه لا سيما إذا لم تكن معاقدة على بيع، ولكن لو قال رجل لآخر: دبّر عبدك ولك عليّ دنانير سمّاها له، فإن مدبّر العبد ها هنا أحدث في ملكه عيبًا وهو في يديه، ولم يكن من الآخر سوى قول تضمّن التزام معاوضة عن فعل لا تجوز المعاوضة عليه، ولا تضمّن هذا الفعل مجرّد الأمر به. وقيل: بل يوقف الأمر في البيع بشرط التّدبير، فإن خرج المدبر حرًّا، مضت المعاوضة، وإن بطل التّدبير لموت المشتري مديانًا لا ثلث له يخرج منه العبد ولا بعضه، ردّت المعاوضة. وهذا يقدح فيه بأنّ الّذي أوقع التّدبير إنّما فعله ليستعجل أخذ عوض عنه، فإذا وقف هذا العوض عليه إلى موته ومصيره إلى حال لا ينتفع بهذا العوض، فكأنّه أُمضي عليه فعله وأبطل العوض عنه، فإنّما يحسن أن يقال: يبطل العوض لفساده، أو يمضي على ما هو عليه لفوات هذه المعاقدة التّي لا يصحّ نقضها، فيمضي بالمسمّى كما تمضي بعض البياعات الفاسدة بالمسمّى إذا

كان فسادها ليس بواضح التّحريم متّفق عليه على إحدى الرّوايتين. وقد أشار بعض الأشياخ إلى أنّه يحسن أن يقال: لا يمضي بالمسمى، ولكن يرجح البائع على المشتري بمقدار ما بين قيمة العبد رقيقًا وقيمته مدبرًا، فيكون هذا التّقويم عنده كالتّقويم للبياعات الفاسدة إذا فاتت. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا تقرّر القول في فوت العبد المشترط على المشتري إعتاقه بإيقاع ما اشترط عليه، فنتكلّم ها هنا على حكم الفوت بحدوث أمر غير ما شرط عليه. وقد ذكرنا حكم الفوت فيمن اشترط تدبيره وعتقه إلى أجل بإيقاع ما اشترط فيه، حكمَه إذا فات بحوَالة سوق وما في معناها. وأمّا من باع عبدًا واشترط على مشتريه أن يعتقه عتقًا مؤجّلًا، فإنّه قد اختلف في فوته بحوَالة الأسواق إذا امتنع المشتري من إيقاع العتق. فمن لم يفته بذلك رأى أنّ البيع صحيح وحوَالة الأسواق لا تؤثّر في البيع الصحيح. ومن رأى أنّ حوَالة الأسواق فيه فوتًا قدّر أنّه لَمّا دخل المشتري على إعتاقه، فامتنع ولم يجبر على إيقاع العتق، لحق الضّرر بردّه وقد حال سوقه. وأمّا إن وقع الفوت بموت هذا العبد، فإنّه لا يخلو من ثلاثة أقسام، أحدها: أن يموت العبد في يد مشتريه بقرب عقده فيه، أو يموت بعد تراخ ليس بالطّويل كالشّهر ونحوه، أو بعد تراخ طويل كالسنة ونحوها. فأمّا إن فات بالموت بقرب زمن الشّراء، فإنّه لا مقال للبائع على المشتري فيما حطّ من الثّمن، لأجل أنّ المشتري لم يتعدّ في ترك العتق، ولا فرّط في إيقاعه، فيضمن بسبب التّفريط، فصار إذا لم يفرّط في إيقاع العتق كمُوقِعه، ولو أوقعه ما كان للبائع مقال في الحطيطة، فكذلك إذا لم يوقعه من غير تفريط في إيقاعه. وأمّا إن مات بعد الشّهر ونحوه، فإنّ للبائع أن يرجع على المشتري بقدر ما حطّ من الثّمن لأجل العتق الّذي فرّط المشتري في إيقاعه حتّى حَرَم البائعَ غَرَضَه الّذي لأجله وقعت الحطيطة. وهذا إذا لم يعلم البائع بالتّأخير حتّى لا يعدّ البائع كالآذن له في التّأخير.

وأمّا إن مات بعد السنة ونحوها، فإنّ الشّرط ساقط، ويعدّ إضراب البائع عن الزام المشتري للعتق كالرّضى بإسقاط شرطه. فإذا علم بهذا التأخير هذا المقدار من الزّمن، عدّ راضيًا بإسقاط ما اشترط. [لم يكن له مقال، ويباع للمشتري على أن يعتقه عن ظاهره (¬1) أو عما يجب عليه فيه عتق رقبة] (¬2). هذا حكم فوته بالموت. وإن فات بعيوب مفسدة حدثت فيه عند المشتري، فإن كان بقرب العقد، فإنّ بعض الأشياخ يقول: يكون للمشتري الخيار قبل حدوث هذا العيب المفسد، فإن أوقعه وفّي بما شرط عليه، وإن امتنع رجع البائع عليه يالحطيطة. وبعضهم يقول: الخيار للبائع، إن شاء أمضى البيع بالحطيطة، وإن شاء ارتجع العبد. فكأن من ذهب إلى ما حكيناه من الإشارة إلى اختلاف في المعنى إنّما يختلفون في معنى قد يشكل، وهو كون المشتري يعتقه وقد حدث به عيب مفسد. فبعضهم يشير إلى أنّه يُقرَّر كمن وفّى بشرطه لكونه غير مفرط في إيقاع العتق، كما لو مات العبد بقرب عقد الشّراء، فإنّه لا يطالب بالحطيطة عوض (¬3)، ويكون ضمان هذا الّذي اشترط من بائعه. فكذلك إذا حدث عيب مفسد عند المشتري وهو غير مفرّط ولا متعمّد في التأخير، فيجب ألاّ يكون للبائع مقال إذا وقع العتق. وإذا أراد بعض الأشياخ بما حكيناه عنه أنّه لا يجزيه في الوفاء بالشّرط هذا العتق، فإنّه يرى أنّه إنّما اشترط عتق عبد سليم يمكنه التكسّب وأن ينفع نفسه، فإذا عمي أو شلّ وامتنع من التكسّب، صار عتقه على هذه الحالة خلاف غرض البائع. وهكذا أيضًا إن كانوا أشاروا إلى اختلاف في معنى آخر، وهو إذا امتنع من العتق هل تلزمه الحطيطة لأجل أنّه لا يمكن أن يأخذ من البَائع عبدًا سليمًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: كما لم يكن له مقال إذا باعه للمشتري ... (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: ظهاره. (¬3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: عوضًا.

ويردّه إليه معيبًا. فإذا امتنع الرّدّ لأجل هذا، لزمت المشتري الحطيطة. وأمّا إن أخّر المشتري عتقه تأخيرًا يكون متعدّيًا فيه كالشّهر ونحوه، فإنّه يلزمه أن يغرم الحطيطة لكونه متعدّيًا في التأخير، ومفرّطا في إيقاع العتق حتّى صار العبد إلى حالةٍ إعتاقه عليها خلافُ غرض البائع. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: قد علم أنّ حقيقة البيع نقل الملك بعوض كما قدّمناه. وعلم أيضًا أنّ معنى الملك القدرة على التصرّف في المملوك بحسب ما أذن فيه الشّرع. فإذا باع البائع سلعته، اقتضى حقيقة الملك الّذي صار إلى المشتري أن يبيعها ويهبها إذا شاء. فإذ شرط البائع في عقد البيع ألاّ يبيع ولا يهب، فقد حجّر عليه مقتضى الملك، فصار بذلك مناقضًا لحقيقة البيع ففسد البيع. ولكن إذا أسقط البائع هذا الشّرط، هل يصحّ أم لا؟ فيه قولان، وقد تقدّم توجيههما. وينبغي أن ينظر فيما حجّر من التصرّف، فإن كان سائره أو منفعة مقصودة فيه، فسد البيع إذا لم يسقط الشّرط. وإن كان ما حجر لمحجره فيه غرض صحيح، وهو غير مقصود عند المشتري ولا مضرّ به، فإنّه لا يمنع. كمن باع جارية [على ألاّ يبيعها من فلان خاصّة فإن هذا جائز لكون التحجير للبيع من رجل واحدٍ لا مضرة على المشتري فيه، ولو قال:] (¬1) إلا من فلان، لمنع من ذلك لكونه حجّر عليه المقصود من الملك. وعلى هذا يجري الحكم وأباح له سائر الدنيا، فإنه يجوز ذلك. ولو حجر عليه ألاّ يبيعها إلا في بلد بعينه إذا شرط عليه ألاّ يبيعها في بلد بعينه، لمنع من ذلك لما أشرنا إليه من التّعليل. ولو شرط عليه أن يخرجها من بلدها لمنع من ذلك. وقد وقع في مختصر ابن شعبان: إذا شرط البائع على المشتري أن يخرجها إلى بلد آخر يبيعها فيه، فإنّ ذلك جائز. وذكر في الموّازيّة (¬2) أنّه إذا اشترط عليه أن يخرجها إلى الشّامّ، فإنّ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من و. (¬2) في المدنية: المدوّنة.

ذلك لا يَجوز. وأشار بعض الأشياخ إلى أنّ هذا اختلاف قول. وهو عندي قد ينبني على ما أصّلته من اعتبار ما يقصد وما لا يقصد. فإن كان المراد بما وقع في مختصر ابن شعبان بقوله: إلى بلد آخر، بلدًا معيّنًا، منع ذلك لما فيه من التّحجير. وإن أراد بلدًا من سائر البلاد، لم يكن ذلك تحجيرًا لمعنىً مقصود، لا سيما إذا اشترط البائع ذلك لغرض فيه أن لا تبقى معه في بلد بعد خروجها من ملكه، فيلحقه من ذلك ضرر. وهكذا يجري الأمر فيما يشترط من هذا المعنى. ولو اشترط المشتري على البائع ألاّ خسارة عليه إذا باعها, لمنع ذلك أيضًا. وقد اختلف المذهب فيمن باع سلعة يشترط ألاّ يبيعها المشتري حتّى يقضي الثّمن. فأجاز ذلك مالك وقدّر أنّه لمّا كان المشتري قادرًا على القضاء للثّمن كلّ يوم، صار الامتناع من البيع من جهته لا من جهة التّحجير المشترط، فلم يفسد هذا الشّرط البيع. وذكر ابن الموّاز أنّ هذا الشّرط إنّما يجوز في الزّمن القليل كاليوم واليومين، ورأى أن اشتراط تأخير قبض السلعة المعيّنة اليوم واليومين جائز، بخلاف اشتراط قبضها الزّمن الكثير. وقال ابن القاسم لا خير فيه. وقدّر أنّ المشتري قد يتعذّر عليه أداء الثّمن إلاّ بأن يبيعها ويقضي ثمنها، وإذا أراد ذلك كان مقتضى التّحجير أن يمنع [مفسد البيع] (¬1). وقد اختلف المذهب فيمن باع سلعة بثمن إلى أَجل على أن تبقى السلعة رهنًا بيد البائع، أو بيد عدل حتّى يقضي المشتري الثّمن. فمن منع ذلك قدّره ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: مفسدًا للبيع.

أيضًا كبيع معيّن يقبض إلى أجل. وفي الموّازيّة فيمن باع عبدًا بثمن إلى أجل، واشترط على المشتري أنّه حرّ إن لم يقبض الثّمن عند الأجل، أنّ ذلك جائز. وعورض هذا أيضًا بأنّ المشتري ممنوع من بيع هذا العبد حتّى يُقبض الثّمن. فصار هذا الشّرط تضمّن تحجير البيع حتّى يقضي الثّمن، فعاد الأمر إلى المسئلة الّتي قدّمنا ذكر الخلاف فيها. ولو شرط في البيع أنّ المشتري متى باع السلعة، كان بائعها أحقّ بها بالثّمن الأوّل أو الثّمن الّذي يعطاه المشتري، لمنع ذلك لما فيه أيضًا من التّحجير. ولو شرط مثل هذا في الإقالة، لمضى الشّرط. وكان البائع الّذي سأل، بعد صحّة البيع، في الإقالة، فأقاله المشتري على هذا الشّرط مطلوبًا بهذا الشّرط. ومتى باعها كان المشتري المقيل أحقّ بها. وقد تقدّم كلامنا على هذه المسئلة فيما مضى. وقد تعقّب هذا في الإقالة أيضًا. وإنّما يعتذر عنه بأن الإقالة حلّ بيع على أحد القولين، وليست كابتداء بيع وطريقها المعروف. ومِمّا ألحق أيضًا بالبيوع الممنوعة بيع الثُّنيَا، وهو أن يبيع سلعة على أنّه متى ردّ الثّمن استردّها، ثمّ أسقط البائع هذا الشّرط. فقال مالك: هذا البيع كان أوّله حرامًا ثمّ صار حلالًا. قال ابن الموّاز: هذا إذا رضي المشتري. وظاهر قول مالك أنّ هذا البيع يصحّ بإسقاط هذا الشّرط وإن لم يرض به المشتري، وألحقه ببياعات الشّروط. وكأن ابن الموّاز استبعد هذا ورأى أنّ هذا الفساد راجع إلى الثّمن، فلم يصحّ البيع بتصحيحه. كما لو باعها بثمن إلى موت زيد ثمّ عجّله الآن. وقد أضيف إلى ما اشترطه ابن الموّاز من رضي المشتري كون المتبايعين تفاسخا العقد الأوّل. وقد كنّا نحن قدّمنا ذكر هذا، وسبب الخلاف فيه. فهذا حكم بياعات الشّروط الفاسدة. وقد كنّا قدّمنا أنّ الشّروط المقارنة للبيع على ثلاثة أقسام، أحدها أن

يكون من مقتضى العقد كجواز التصرّف. والثّاني أن يكون من مصلحته. ومثّلنا هذا باشتراط الرّهن والحميل في عقد البيع. وقد ذكر في المدوّنة في كتاب البيوع الفاسدة حكم اشتراط الرّهن والحميل في عقد البيع، فاعلم أنّ ذلك يقع اشتراطه على وجهين: أحدهما: أن يشترط في ذلك رهنًا معيّنًا أو حميلًا معيّنًا. والثّاني: أن يشترط رهنًا غير معيّن أو حميلًا غير معيّن. فأمّا إن اشترط في ذلك رهنًا معيّنًا، فإنّه إن كان الرّهن والحميل حاضرين، جاز ذلك من غير خلاف. وكذلك إذا كان قريبين من مكان العقد. وأمّا إن كانا بمكان غائب بعيد من مكان العقد، فأمّا اشتراط هذا الحميل المعين الغائب، فإنّه ممنوع. وأمّا اشتراط الرّهن، فإنّ ابن القاسم أجازه، ومنعه أشهب إلاّ أن يكون الرّهن بمكان قريب، مسافة اليوم واليومين. فأمّا المنع من اشتراط حمالة رجل غائب بمكان بعيد، فإنّه كاشتراط عقد بيع على خياره فيفتقر إلى انتظار ما عنده في هذا، فإن قبل مَضى البيع وإن لم يقبل ردّ البيع. والأمد البعيد لا يجوز اشتراطه في بيع الخيار لما سنذكر في موضعه إن شاء الله تعالى. وكذلك اشتراط هذا الحميل لكون البيع موقوفًا على ترقب ما يبدو منه في الحمالة، فإن التزمها نفذ العقد، وإن امتنع من الحمالة لم يلزم البائعَ البيعُ، وله ارتجاع سلعته، لكونه إنّما باعها بشرط أن يتوثّق بحمالة، فإذا لم يحصل له التوثّق، صار كعيب في الثّمن الّذي باع به، فكان له ردّ الثّمن وارتجاع ما باع. وإن شاء رضي بهذا العيب الّذي هو عدم التوثّق، وإمضاء البيع بغير حميل. وإذا كان هذا البيع انبنى انعقاده على خيار الحميل بين التزام الحمالة أو ردّها، ثمّ إذا لم يقبل الحمالة، كان الخيار. للبائع أيضًا، كما ذكرناه، صار هذا بيعًا مبنيًا انعقاده على خيار إلى أمد بعيد. فإذا كان الحميل قريبًا بمكان يمكن

أن يستعلم ما عنده في الحمالة في مسافة مقدارها مثل الأيّام التّي يجوز ضربها في بيع الخيار، جاز عقد البيع. فإن التزم الحمالة، نفذ العقد. وإن لم يلتزمها خير البائع بين إمضاء البيع بغير حميل أو ارتجاع سلعته، كما بيّناه. وأمّا اشتراط ارتهان شيء معين غائب بمكان بعيد، فإنّ أشهب يمنعه قياسًا على منع اشتراط الحميل البعيد الغيب. وابن القاسم يجيزه قياسًا على جواز العقد على سلعة غائبة. ويوقف المبيع حتّى يعلم وجود الرّهن كما يوقف ثمن السلعة. ويفرّق الحميل والرّهن في هذا، فإنّ الحميل تجويز رضاه بالحمالة كتجويز امتناعه منها، فالغرر حاصل في ذلك. والسلعة الغائبة إذا اشترط ارتهانها، فلا يترقّب فيها سوى طريان ما يتلفها. والأصل استصحاب ما كانت عليه من الوجود، والخروج عنه نادر. فلم يكن في ذلك من الغرر ما صوّرناه في الحميل البعيد الغيبة. لأنّ الحميل وقف البيع على خياره، فلم يجز في أمد الوقف ما لا يجوز في بيع الخيار. ولهذا نقول إنّ المبيع، على شرط أخذ حميل معيّن قريب المكان، إذا هلك، كان ضمانه من البائع. كما نقول في ضمان ما بيع على خيار نطق المتبايعان باشتراطه حين العقد أو لا. ولهذا أيضًا قال بعض الأشياخ إنّ الّذي ذكر في المدوّنة في حكم هذا الحميل يقتضي جواز بيع عقد على خيار مرتّب على خيار آخر سبقه. ألا ترى أنّ الحميل ها هنا بالخيار بين التزام الحمالة أو ردّها. فإن ردّها خيّر البائع بين إمضاء البيع أو ردّه، على حسب ما ذكرناه. فكذا ينبغي إذا عقد بيع على خيار رجل معيّن، فإن لم يختر انتقل الخيار إلى رجل آخر. ولهذا أيضًا نبّه بعض الأشياخ على قوله في المدوّنة في هذه المسئلة: إذا باع بيعًا أو أقرض قرضًا على حميل معيّن، فقال: قد جمع ها هنا ما بين القرض والبيع، وهذا يتضمّن جواز القرض بشرط الخيار. وإنّما ذكرنا هذا تأكيدًا لما أشرنا إليه من كون هذه السلعة جارية على أحكام عقد البيع على خيار.

وإذا عقد العقد على حميل معين أو رهن معيّن، فإنّ المعروف من المذهب أنّ الحميل إذا مات قبل أن يقبَل، والرّهن إذا هلك قبل أن يُقبَض، وقد عقد الأمر فيهما على ما يجوز، فإنّ البائع بالخيار بين إمضاء البيع أو ردّه، كما لو اطّلع على عيب في الثّمن. ورأى أشهب أن لا خيار للبائع كما لو هلك الرّهن المعيّن بعد أن قبض، أو مات الحميل المعيّن بعد أن قبل. وأشار إلى أنّ ذلك إذا كان حاضرًا أو قريب الغيبة كالمقبوض. وهذا لا وجه له, لأن التّمكين من الرّهن والتزام الحمالة إذا لم يمكن ولا مضى زمن إمكان ذلك فيه، لم يَصحّ أن يقدر كالمقبوض. ولو قدّر كالمقبوض لوجب على مشتري سلعة غائبة بمكان قريب أن ينقد، وإن كان التّسليم لا يمكن لأجل أنّ القرب يعدّ كالقبض، والمشتري إذا قبض وجب عليه نقد الثّمن. وهذا التّقدير لا يصحّ لكونه خارجًا عن الأصول. وإذا قلنا بالطّريقة المعروفة من كون البائع لا يلزمه البيع إذا هلك الرّهن قبل القبض وقبل أن يمكّن منه، بل له الخيار في إمضاء البيع أو ردّه، فأراد المشتري أن يرفع خياره بأن يأتي برهن عوض الرّهن المعيّن الّذي تلف، أو بحميل عوض الحميل المعيّن الّذي مات، فإنّ في هذا قولين: أحدهما أنّ هذا لا يرفع خيار البائع لفقده ما عيّنه باشتراطه، فلم يلزم عينًا أخرى، كما لا يلزم من اشترى سلعة معيّنة أن يأخذ عنها مثلها. وكأنّ من ذهب إلى التّفرقة بين البيع والرّهن في هذا يرى أنّ الغرض من الرّهن والحميل التوثّق. فإذا عوّض عن شيء من هذا مثله وما يسدّ مسدّه، لم يكن لتخيير البائع معنى. لكن لو اختلف العرْض في الرّهنين بأن يكون أحدهما عبدًا فمات، فإنّه لا يلزم البائع أن يقبل عوضًا منه ثوبًا لكونه يضمن الثّوب المرتهن ولا يضمن العبد المرتهن، وله غرض صحيح في إسقاط الضّمان عنه. ولو كان الأمر بالعكس فكان الرّهن ثوبًا فهلك قبل قبضه فأراد أن يعوّضه عنه عبدًا، لأمكن

أيضًا أن يكون له غرض صحيح في الإمتناع من هذا لما يتكلّفه من حراسة العبد وما يتخوّف من أذاه. فإذا اتّضح أَلاَّ غرض يفرّق بين الرّهنين، لم يكن للخلاف الّذي ذكرناه وجه سوى ما تقدّم ذكرنا له فيما سلف من اشتراط ما لا يفيد في البياعات، هل من حقّ من اشترطه أن يقضى له به أم لا؟ وإذا وقع الرّهن على وجه جائز، ووجب إيقاف المبيع لغيبة الرّهن، وحدث بالمبيع عيب، فأراد مشتريه أن يقبله بعيبه لئلاّ يكون خسر الثّمن والمثمون، ومنعه البائع من ذلك، واتّهمه أنّ رضاه بالمبيع لأجل نفي الخسارة عنه، لجرى ذلك على القولين في الثّمن الموقف لأجْلِ أنّ المثمون غائب، مِمّن يكون ضياعه؟ على حسب ما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وأمّا إذا كان الرّهن أو الحميل غير معيّنين، فإنّ المشتري يجبر على إحضار رهن يكون توْثِقة بالحق، أو حميل كذلك. فإن امتنع فتنازع فيه المتأخّرون، فقال بعضهم: يحبس في الحميل، لإمكان أن يكون يعلم من يتحمّل به إذا سأله في ذلك، فلا يسأله, ونحن لا نعلمه. وأمّا الرّهن فإنّه لا يحبس فيه لإمكان أن يُكشَف عن صحّته (¬1) ما ادّعاه باختبار كسبه والإطّلاع على ما عنده ومنهم من استنكر هذه التّفرقة وتعلّق بما وقع في المدوّنة من قوله: إنّ الرّهن كالحميل. ومنهم من صرف ذلك إلى الإجتهاد. فإن كان الظّاهر أنّه لَدَّ في ذلك حبس. وإن كان الظّاهر عجزه، كما ذكرنا، لم يسجن، واستُظهِر عليه باليمين. وقد أشرنا إلى أنّ الرّهن إذا هلك بعدَ القبض، لم يلزم الرّاهن خَلَفه لكون الرّاهن قد وفّي بما عليه من دفع التّوثقة، فلا مطالبة عليه بضمان ما وفّى به. وأمّا إذا كان الرّهن غير معيّن، فإنّه إن دفع رهنًا وهلك بعد القبض، فإنّه قد تنازع في ذلك المتأخّرون: هل يصير كالمعيّن بهذا التّسليم والقبض فلا يلزم خلفه؟ أو يلزم خلفه كما يلزم خلف دابّة سلّمت في كراء مضمون؟ وتعيّنها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: صحة.

بالقبض لا يسقط مقتضى أصل العقد من ضمان إيصال المكتري إلى غاية المسافة. وإذا تقرّر حكم الحمالة في البيع، ووضح إجراؤها على حكم بيع الخيار، فإنّه لا يجوز في النّكاح اشتراط حمالة رجل بعينه بالصّداق، لكون هذا يصير عقد النّكاح عقدًا على خيار، والنّكاح لا يجوز أن يشترط فيه الخيار. وقد ذكر أيضًا في كتاب البيوع الفاسدة مسئلة كنّا قدّمنا الكلام عليها، وهي إذا باع سلعة على أنّ المشتري إن لم يأت بالثّمن إلى أجل سمّاه فلا بيع بينهما، فإنّ هذا البيع لم يجزه في المدوّنة، وعلّل بأنّ فيه عذرًا، ولكنّه مع هذا أمضاه إذا وقع، وأبطل الشّرط خاصّة. وقد وقع في تحديد الأجل اختلاف، فذكر في بعض الرّوايات أنّ البيع أجّل فيه الثّمن ثلاثة أيّام، وفي بعضها: أجّل عشرة أيّام، ووقع في الموّازيّة أجل شهر. وأجاز هذا الشّرط في الدّيار، وكرهه في الحيوان، وقال في العروض: الشّرط باطل. وقد وقع لمالك أنّ هذا البيع فاسد لفساد شرطه. وذكر ابن وهب أنّه كبيع الخيار إن ضرب في ذلك أمد يجوز ضربه في بيع الخيار مضى البيع على ما هو عليه. لأنّ معنى هذه العبارة وهو قول البائع للمشتري: إن لم تأت بالثّمن إلى أجل كذا فلا بيع بيننا، كمعنى قوله: أبيعك بالخيار إلى أجل كذا وكذا. وقد اختلف أيضًا في تأويل ما وقع في المدوّنة من قوله: البيع نافذ والشرط باطل. هل مراده ببطلان الشّرط في حلّ البيع عند انقضاء الأجل، وفي إبطال التأجيل بالثّمن، فيُكلَّف المشتري دفع الثّمن في الحال؟ أو المراد بطلان ما لا يجوز، وهو حَلّ العقد بمضيّ زمن محدود دون إبطال تأجيل الثّمن، لكون تأجيل الثّمن سائغًا في نفسه لو تجرّد ذكره خاصّة في بيع البتات؟ وقد وقع في كتاب كراء الرّواحل والدّوابّ أنّ الشّرط باطل وينقد الثّمن. وظاهر هذا بطلان التّأجيل للثمن. وبعضهم يقول: يحتمل أن يريد انتقاد الثّمن إذا حلّ الأجل، ويرى أنّ هذا هو الأولى من إبطال حكم التّأجيل. وطريقة بعض أشياخي اعتبار القصد في مثل هذا، هل التّأجيل للثّمن ها هنا مقصود عند المشتري فيوفّى له به؟ أو المقصود بذكر الأجل جعله علَما على حلّ البيع لا على ميقات الثّمن فيكون الثّمن على الحلول؟.

وممّا يلحق ببياعات الشّروط من باع أمة لها ولد حرّ رضيع، وشرط البائع على مشتريها رضاع الولد. فإنّه قد أجاز في المدوّنة هذا البيع إذا وقع بشرط أنّ الولد إذا مات، كان على المشتري رضاع غيره. ولم يجز ذلك سحنون إلاّ أن تدعو إلى الوقوع فيه ضرورة، كوجوب بيع الأمة على سيّدها إذا فلس، فإنّ حكم الفلس يقتضي ألاّ يمطل الغرماء بحقوقهم، وفي مطلهم بهذا ضرر عليهم، قد خصّ في هذا لأجل الضّرورة إليه الّتي اقتضاها حكم الفلس. واعلم أنّا كنّا قدّمنا أنّ البيع بشرط التّحجير ممنوع. وذكرنا في أمثلة ذلك من باع بشرط أن لا يبيع المشتري ولا يهب. وهذه المسئلة الّتي شرط فيها الرّضاع تضمّنت ضربًا من التّحجير، وهو أنّ مشتريها لا يمكنه التّصرّف بالبيع المطلق فيها، والسفر بها منفردة دون ولدها, لأجل ما شرط عليه من الرّضاع، ولحقّ الولد في المنع من التّفرقة فيه بينه وبين أمّه، والمشتري إن نقله معها، تكلّف في ذلك مشقّة وخسارة. فهذا المعنى من التّحجير يوجب منع البيع، ولهذا منع منه سحنون. لكن إذا دعت إليه ضرورة، كما قدّمناه، قدّم اعتبار الضّرورة على اعتبار هذا التّحجير، مع كون المشتري قادرًا على أن يبيع هذه الأمة، واشترط (¬1) على مشتريها مثل ما اشتُرِط عليه، فلم يتصوّر التّحجير في البيع تحجيرًا مطلقًا. وكأَنّ من ذهب إلى الجواز رأى أن لا تحجير في هذا يوجب المنع من البيع، لكون البائع للأمة لمّا أعتق ولدها الصغير, كان عليه القيام بأوده حتّى يبلغ القدرة على السعي على نفسه. فإذا أراد بيع الأمّ، أضاف إلى ثمنها أن يقوم المشتري عنه بمثل ما وجب عليه. وهكذا المشتري إذا أراد أن يبيع من آخر، اشترط أيضًا ما اشترط عليه. واشتراط هذا الّذي وجب على البائع من القيام بالأود والرّضاع قد يقع محالًا على الذّمّة، بأن يشترط البائع على المشتري رضاع أمة غير معيّنة لولد غير معيّن، فيجوز ذلك، ويجري مجرى السلم. أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يشترط.

يشترط التّعيين في المرضعة والرّضيع، بأن يَرضَع في هذه الأمة بعينها ولدها هذا بعينه. أو يكون معيّنًا هذا الأمر في أحد الشّخصين، ومضمونًا في الآخر. فإنْ عيّن هذا الشّرط في الأمّ وفي الولد إذا مات، على أنّ الحكم في الظئر المستأجرة أن تنفسخ الإجارة بموت الولد، ولا يلزم الخلف، ولا يُشتَرط، لكنّه ها هنا لمّا رأى أنّ تعليق هذا الأمر بعتق هذا الولد يقتضي غررًا في ثمن هذا المبيع، والغرر في الثمن يفسد البيع. وتصوير هذا الغرر أنّ الولد قد صار رضاعه جزءًا من ثمن هذه الأمة، وهذا الجزء لا يحصل (¬1) مقداره لجواز أن يموت الولد في أوّل زمن الرّضاع، فيقلّ الثّمن، أو في آخره فيكثر الثّمن. فاعتبار إصلاح فساد هذا البيع ودفع الغرر عنه أولى من اعتبار إِجْرَاء هذا ها هنا على أحكام الظئر من كون الإجارة تنفسخ بموت الولد، مع كون الأصل أنّ المستأجَر عليه لا يتعيّن، وإنّما عيّن في الظئر وما في معناها لعلل نذكرها في كتاب الجعل والإجارات إن شاء الله تعالى. وهذا الّذي نبّهنا عليه يعرف منه وجه الحكم في اشتراط تعيّن أحدهما. فأمّا اشتراط تعيين الأمّ فإنّه الأصل في أحكام الإجارة, لأن المستأجر يتعيّن، ولا يجوز اشتراط خلفه مع كون العقد على معيّن. وأمّا تعيين الولد فقد ذكرنا أنّ الأصل فيه أنّه لا يتعيّن وإنّما عيّن في الظئر لما سنذكره من العلل في موضعه، وأنّ تعيينه في بيع هذه الأمة يتضمّن غررًا في ثمنها، والغرر في الثّمن ممنوع. وهذا الّذي ذكرناه وصوّرناه من الغرر إنّما يتصوّر إذا وقع الشّرط على تعيين الولد، وعلى أنّه إن مات لم يخلف ولد آخر مكانه، ولا تجب المحاسبة ومرجع ما سقط من الرّضاع في الثّمن. وأمّا إذا بُني الأمر على أنّه إن مات الولد، وجبت المحاسبة بمقدار ما سقط من الرّضاع، فإنّه لا يُمنَع ذلك لارتفاع ما صوّرناه من الغرر. وقد اتّفق أهل المذهب على جواز استئجار ظئر للرّضاع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يُحصَر.

بشرط النّقد، وإن كان يمكن موتها قبل إكمال الرّضاع، فيجب ردّ بعض ما انتقدت، وإذا وجب صار ذلك تارة بيعًا وتارة سلفًا. لكن لمّا كان الموت أمرًا ليس هو الغالب، بل هو كالنّادر لم يتصوّر فيه هذا الوجه الممنوع من تخوّف ما انتقد. فكذلك لا يتصوّر الغرر ها هنا في مسئلة بيع الأمة المرضعة، الّتي ذكرناها, لأجل إمكان موت الطّفل. وإنّما يتصوّر إذا لم تجب المحاسبة بما بقي من الرّضاع ولا وجب الخلف. وقد عارض سحنون ما وقع في المدوّنة من اشتراطه في صحّة هذا البيع اشتراط خلف الولد إن مات. وقال: هو لا يجيز اشتراط الخلف في استئجار الظئر إذا مات الولد، فكيف أجازه ها هنا؟ وأشار إلى أنّه أخرج هذا عمّا أصّل في الظئر لأجل الضّرورة المختصّة بهذه المسئلة. وقد أشار بعض الأشياخ إلى طريقة أخرى في الفرق. وذلك أنّ الغرر تبعًا لم يكن مقصودًا، فعفي عنه. وإذا كان منفردًا، صار مقصودًا فلم يسامح به. ألا ترى أنّ من اشترى لبن شاة شهرًا جزافًا، فإنّه لا يجوز ذلك لما فيه من الغرر بقلّة اللّبن وكثرته. ولو اكترى ناقة ليحمل عليها شهرًا واشترط لبنها، جاز ذلك لمّا كان اللّبن تبعًا لما اشترى الحَمْل عليها. وكذلك من اكترى دارًا، وبها شجرة لم تزه ثمرتها، والثّمرة دون الثلث، فإنّ ذلك جائز. بخلاف اشتراء ثمرة هذه الشّجرة، انفرادها غير تابع للكراء، وكذلك شراء نخل فيها ثمرة لم تزه، لم يمنع منه. ولو أفرد الثّمرة بالشّراء بشرط التّبقية لمنع منه وكذلك بيع جبّة، وقطنها مغيب، لا يمنع منه. وبيع قطنها خاصّة، وهو مغيب، لا يجوز. فكذلك ما ذكرنا في مسئلة هذه الأمة رضاع الولد تبع للعقد عليها، فلم يمنع منه بخلاف العقد على لبن ظئر يرضع ولدًا. وأشار الشّيخ أبو إسحاق إلى حمل المسئلة على أنّ المراد بها أنّ الرّضاع غير مختصّ بعين الأمة ولا بعين الولد، بل هما مضمونان جميعًا، فلهذا أجاز ذلك. كما يجوز في الظّئر كون اللّبن مضمونًا والرّضيع غير معيّن. واعتلّ لمنع

التّعيين ها هنا بأنّه يتضمّن التّحجير لكون مشتريها لا يقدر على التّصرّف المطلق فيها قبل انقضاء الرّضاع. وأشار ابن أبي زمنين، حاكيًا عن سحنون، إلى أنّ الغرر الّذي اقتضى عند سحنون منع بيع هذه الأمة على شرط رضاع الولد، إلى أنّ المشتري إن احتاج إلى الرّحلة بأمة اضطرّ إلى الرّحلة بولدها, لما جاء الشّرع به من منع التّفرقة بين الأمّ وولدها، وهو يتكلّف في الرّحلة مشقّة وإنفاقًا، وذلك غير معلوم، فوجب لأجل ذلك المنع. وأشار بعض الأشياخ إلى أنّ هذا لو وقع في ولد البائع لا في ولد هذه الأمة، لفسد البيع، لما يتصوّرها هنا من التّحجير، لكون مشتري الأمة لا يمكنه أن يرحل بهما لما فيها من الشّرط، فصار عقد البيع فيها على تحجير. وأمّا ولدها فإنّه لا حقّ لأحد في أن يمنع من سفره، وهو يتبع أمّه حيثما كانت، ويمكّنها المشتري من ذلك ويعينها عليه. فلا يتصوّر التّحجير في هذا كما يتصوّر التّحجير في اشتراط رضاع ولد أجنبيّ منها. وقد ذكرنا عن سحنون أنّه إنّما يجيز هذا البيع إذا دعت إليه ضرورة، كبيع القاضي لهذه الأمة في تفليس سيّدها. وممّا ينبغي أن ينظر فيه ها هنا أنّه قد تقرّر أنّ المفلَّس إذا بيع ما يملك في التّفليس، لم يلزم أن يترك له نفقة نفسه وبنيه الصّغار المدّة الكثيرة. وهذه الأمة إذا بيعت في التّفليس بشرط القيام عن البائع بما وجب عليه من رضاع هذا الولد ونفقته، صار ذلك مضرّا بالغرماء ومتلفًا عليهم بعض ما استحقّوه من ماله. لكن الأظهر عندي ها هنا أن لا يجري هذا مجرى الإنفاق على ولده، فإنّ هذه جناية جناها قبل أن يستدين على هذا الصغير بإعتاقه قبل أن يحصل على القدرة على التكسّب، فلزمه عوض هذه الجناية. والمديان إذا ثبت عليه أرش جناية قبل أن يستدين ويفلس، لم يكن لغرمائه مقال في إسقاط حقّ المجني عليه في مال هذا المفلس، فهذا مِمّا ينظر فيه.

فصل يلحق بما كنا قدمناه من بيع الغرر

فصل يلحق بما كنّا قدّمناه من بيع الغرر فمنه جمع السلعتين لرجلين، والمذهب في ذلك على قولين: منع منه ابن القاسم في القول المشهور عنه، وروي عنه إجازته. وأجازه أشهب. وقد حاول الشّيخ أبو إسحاق يخرّج (¬1) له قولًا آخر بالمنع من هذا. فقال حكي عن أشهب في العتبيّة أنّ رجلين إذا اشتريا من رجل واحد ثوبأوعبدًا بدنانير معلومة، على أن يكون الثّوب لواحد منهما بعينه والعبد للرّجل الآخر، فإنّ ذلك إن نزل مضى وكان العبد والثّوب شركة بينهما. ومقتضى مذهب أشهب إمضاء هذا الّذي عيّنّاه في السلعتين, لأنّ قصارى ما فيه أنّهما تعاقدا على أن يأخذ أحدهما الثّوب بما ينوبه من الثّمن المسمّى، ويأخذ الآخر العبد بما ينوبه من الثّمن، وهو لا يَعُدّ العقدَ بما ينوب السلعة في هذا غررًا، فهكذا يجب أن يمضي ها هنا ما تعاقدا عليه. وهذا الّذي قاله قد لا يناقَض به أشهب, لأنّه يمكن أن يكون لم يتعرّض لعقد البيع، وإنّما تعرّض لحكم الشّركة، فرأى أنّ مقتضى أن يكونا شريكين في العبد والثّوب، على حسب ما عقدا عليه الشّركة في كون ما سمّيا من المال ثمنًا للسلعتين جميعًا، فإذا خرجا عن مقتضى العقد التزما الانفص الذي هذا المشترك، والمعاوضة فيه قبل أن يملكاه ويصيرا شريكين فيه، بطل ما تعاقدا عليه مِمّا خالف مقتضى العقد، ولم يلزم التّفاصل في المشترك قبل حصوله في الملك. فإذا أمكن أن يكون سلك هذه الطّريقة، فلا يلزمه أن يقول بمنع جميع (¬2) مالكين سلعتيهما في البيع. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: أن يخرّج. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: جَمْع.

واعلم أنّ هذا الخلاف الّذي حكيناه عن المذهب ربّما انصرف إلى اختلاف أحوال. فإنّه قد تقرّر أنّ العقد بثمن معلوم جائز، كما أنّ العقد بثمن مجهول ممنوع. فإذا كان المالكان لهاتين السلعتين المختلفتين قد علم كلّ واحد منهما قيمة سلعته من قيمة سلعة صاحبه، وعلم ذلك المشتري، فإنّ الثّمن المدفوع عن السلعتين مقسوم على نسبة هذه القيم بعضها عن بعض. وإذا كان الأمر هكذا، صار الثّمن معلومًا، وكأنّهما اشتركا في السلعتين قبل أن يبيعاها. ولو اشتركا فيها قبل البيع لجاز ذلك، فكذلك يجب أن يجوز ما هو في حكم الإشتراك. وأمّا إذا لم يعلم كلّ واحد منهما قيمة سلعته من قيمة سلعة صاحبه، فإنّه يتصوّر ها هنا الجهالة في الثّمن من جهة من باع ومن اشترى. فأمّا تصوّرها من جهة المشتري، فإنّه متى وقع استحقاق في أحد (¬1) السلعتين، لم يدر المقدار الّذي يرجع به على من باعها منه إلاّ بعد استئناف تقويم، فتقرّرت من هذه الجهة جهالة من جهته. وأمّا من جهة البائعين السلعتين، فإنّ كلّ واحد منهما لا يدري ما يحصل له من الثّمن الّذي سمّياه، فيصير هذا كبيع بثمن مجهول وذلك لا يجوز. وأمّا أصحاب المذهب الثّاني فإنّهم يرون الإستحقاق طارٍ، والطّواري لا تراعى مراعاة تفسد العقود. ألا ترى كلّ من باع سلعة يجوّز البائع والمشتري أن تستحقّ هذه السلعة، فيجب ردّ النّقد وهذا التّجويز لم يمنع من صحّة البيع باتفاق، فكذلك ها هنا. وأيضًا فإنّ المالك الواحد يجوز أن يستحقّ إحدى سلعتين مختلفتين باعهما، فيؤدّي الإستحقاق إلى جهالة أيضًا، كما صوّرنا في السلعتين لمالكين، ثمّ لم يمنع المالك الواحد من جمع سلعتين لأجل هذا، فكذلك المالكان. وأمّا ما صوّرناه من الجهالة من جانب كلّ واحد من البائعين من كونه لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: إحدى.

يعلم مقدار ما باع به، فإنّ له طريقًا إلى العلم بذلك إذا احتاج إليه وهو تقويم سلعته عند الحاجة إلى قسمة الثّمن وقد كان الثّمن معلومًا جملته حين العقد، فلا يؤثّر ما يطرأ على هذا بعد صحّة العقد من جهالة. وقد أجيز في أحد القولين لمن اشترى سلعًا من مالك واحد، فاستحقّ أكثرها أن يتمسك بما بقي بحصّته من الثّمن، وإن كانت حصّته لا تعلم إلاّ بعد تقويم، ولم يمنع من الإستمساك لكون ثمن ما استمسك به مجهولًا لمّا كان أصله معلومًا. وكذلك أجيز لمن اشترى سلعة فاطّلع على عيب قديم، وقد حدث عنده عيب، أن يختار التمسّك بالسلعة وأخذ قيمة العيب، مع كونه لمّا اختار التمسك، يتمسّك بثمن مجهول. وبعض الأشياخ يرى هذه المسائل جارية على أسلوب واحد وربّما تفاوتت عندي في الجهالة, لأنّ ماِ ذكرناه في مسئلة الرّدّ بالعيب لا ينفكّ المشتري عن جهالة له، إن استمسك أو ردّ قيمة العيب، إلاّ أن يمنع من ذلك حتّى يعلم حقيقة ما استمسك به وحقيقة ما يرد. ومسئلة الإستحقاق لمّا خيّر بين الرّدّ وبين القبول فاختار القبول، فإنّه يمكن أن يقدّر أنّ الّذي اختار هو الحكم اللاّزم بناء على إحدى الطّريقتين فيمن خيّر بين شيئين فاختار أحدَهما، فإنّه لا يقدّر كالمالك لِمَا لم يختر، ولا كالمنتقل عنه، وكأنّه ما ملك إلاّ ما اختار. والجامعان بين سلعتين ومشتريهما قد وقعوا في جهالة في ابتداء العقد. وهذه الجهالة تتصوّر إذا علم البائعان والمشتري منهما كون البيع انعقد على أنّ البائعين ليسا بمشتركين. وأمّا لو اعتقد المشتري أنّ السلعتين لأحدهما، يجري ذلك على الإختلاف في علم أحد المتبايعين بالفساد. ولو باع المالكان هاتين السلعتين في عقد واحد واشترط مشتريهما أنّ أحدهما حميل لصاحبه، فإنّ ذلك يفسد البيع، لإمكان أن يكون يستحقّ سلعة

المضمون عنه دون سلعة الضّامن، والمضمون عنه فقير. فكأنّ البيع وقع على أن زَيْدَ المَلِيّ في ثمن سلعته ليضمن ما دفع إلى الفقير من الثّمن. وقد عُلِم أنّ الضّمان بجعل لا يجوز لما فيه من الغرر، وكون الحميل لو علم أنّه يغرم من جملة الثّمن ما أخذ النّزرَ اليسيرَ عوض هذا الضّمان. ولو علم المضمون له أنّه لا يحتاج إلى الحميل لم يعطه شيئًا. فإن كان التّصريح بعوض يؤخذ عن الضّمان ممنوعًا كان ما يقدّر فيه هذا ويتّهم النّاس عليه ممنوعًا أيضًا. لكن لو كان السلعتان مشتركتين أو السلعة الواحدة، فعقدا البيع على أنّ أحدهما ضامن عن صاحبه، فإنّ المذهب في هذا على قولين: أحدهما: المنع لما صوّرناه من تقدير الضّمان بجعل. والقول الآخر: الجواز لكون الثّمن إن تُزُيِّد فيه شيء، فإنّ الزّيادة بين الشّريكين نصفان: الضّامن والمضمون عنه. وإذا وقع استحقاق، فالدّرك عليهما جميعًا أيضًا، بخلاف سلعتين متباينتين لرجلين. وسنبسط هذا في كتاب الحمالة إن شاء الله تعالى.

فصل آخر

فصل آخر ذكر في هذا الكتاب في المدوّنة في بعض أحكام الصُّبر. وقد كنّا نحن قدّمنا الكلام على أصول من أحكامها في كتاب السلم. فاعلم أنّ بيع الصّبرة يكون على أنحاء، منها: أن تباع الصبرة المرئيّة المشاهدة بجملتها على غير الكيل. وقد تقدّم الكلام على ذلك، وذكرنا جوازه، لأجل أنّ الغرر في القمح وأمثاله مِمّا في معناه من مكيل أو موزون للعلم بالمبلغ لا عين آحاده، والعلم بمبلغه مِمّا يتعذّر الوقوف على حقيقته، لكنّه لمّا تقدّر ذلك عدل فيه إلى الظّنّ. ومنها أن تباع الصبرة على أنّ كلّ قفيز بدرهم، فهذا أيضًا يجوز، وإن كان الوقوف على منتهى الثّمن لا يعلم، لكنّ العلم به مستند إلى تجميل هذا التّفصيل من الأقفزة فيعلم من ذلك مبلغ الثّمن ومنها أن يباع جزء من الصّبرة، كربعها أو ثلثها، فيجوز ذلك؛ لأنّ جزءها إذا سمّي يشبه منها حدس على مبلغه كما يحدس على مبلغ جميعها (¬1). ومنها أن يقول: أبيعك من هذه الصبرة كلّ قفيز بدرهم. فإنّ هذا قد منع من أصحاب الشّافعي، ورأى أن "مِن" ها هنا يقتضي التّبعيض، فكأن المراد: أبيعك بعض هذه الصبرة على أنّ كلّ قفيز من هذا البعض بدرهم، والبعض غير معلوم مقداره، لا يقينًا ولا تخمينًا، فوجب المنع، كما نمنع نحن كراء الدّار مشاهرة لكون المبلغ غير معلوم وهذا الّذي قالوه في الصّبرة صحيح إن كان مراد المتعاقدين بلفظة "مِنْ" ها هنا التّبعيض. وأمّا إن كان المراد بها بيان الجنس، ¬

_ (¬1) معنى ذلك: يشبه حدسه حدس مبلغ جميعها.

والمقصد أنّي أبيعك هذه الصّبرة كلّ قفيز بدرهم، فإنّ ذلك غير ممنوع كما قدّمنا. ومنها أن يقول أنا أبيعك هذه الصّبرة كلّ قفيز بدرهم على أنّي أزيدك قفيزا من قمح رأياه وشاهداه، فإنّ هذا اختلف فيه أصحاب الشّافعي. فمنهم من منع من هذا البيع لِمَا تضمّنه عنده من الجهالة من كون التّقدير أنّي أبيعك قفيزا بدرهم ومعه شيء لا يدري مبلغه، لكون القفيز المتوسط زيادته تتقسط على سائر الأقفزة المكيلة من الصّبرة. وإذا وجب تقسيطه على ذلك، فكأنّ البائع قال: أبيعك كلّ قفيز من هذه الصّبرة ومعه شيء من القفيز المشترط زيادته، ومقدار هذه الزّيادة على كلّ قفيز لا يعلم، وإذا كان المبيع غير معلوم لم يصحّ العقد. ومن أصحاب الشّافعي من أجاز ذلك، ورأى أنّ الصّبرة إنّما جاز العقد عليها لكون ما فيها من الأقفزة، وإن لم يعلم مبلغه فإنّه مظنون، وإذا قام الظّنّ ها هنا مقام العلم، فلو علمت الأقفزة وعددها لتُصوِّر العلم بقدر ما يزاد على كلّ قفيز من أقفزة الصّبرة من هذا القفيز المشترط زيادته عليها. واتّفق أصحاب الشّافعي على أنّه لو قال: أبيعك هذه الصّبرة كلّ قفيز بدرهم على أن أنقص منها قفيزا، أنّ ذلك جائز (¬1)، لكون هذا الاشتراط يؤدّي إلى جهالة. واعلم أنّا كنّا قدمنا أنّ المذهب عندنا على قولين في جواز العقد على صبرة من قمح ومعها مكيل من الطّعام من جنسها أو من غير جنسها أو معها ثوب أو عبد. فقيل بالمنع من ذلك, لأنّ جواز بيع الصّبرة كالرّخصة، والرّخصة لا يتعدّى بها بابها. وإذا أضفنا إلى الصّبرة وهي مجهولة المقدار مقدارًا معلومًا، غيّرنا الرّخصة، وربّما تعدّينا مرتبة الغرر الّذي سامح به الشّرع، لكون هذا المعلوم قد يؤثّر زيادة رغبة في الصّبرة، وقوّة فيما ضمّن فيها من المكيل، أو يحدث ضعفًا في ذلك. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: غير جائز.

وهذه المسئلة الّتي نقلناها عن أصحاب الشّافعي ربّما لاحظت هذه المسئلة الّتي ذكرنا أنّ المذهب على قولين من جهة أنّ القفيز المشترط زيادته معلوم مقطوع بحصوله. والأقفزة الّتي في الصّبرة ما يعلم عددها على التّحقيق بل بالحدس والتّخمين، فصار هذا الاشتراط فيها كجزاف أُضيف إليه مكيل. وقد يَخرُج عن هذه المسئلة الّتي ذكرناها عن المذهب، لكون الصّبرة انتقلت عن حكم الصّبر، لمّا بيعت على الكيل، وإن كان منتهى الكيل لا يعلم عدده على الحقيقة، فإنّها تكون كمعلوم أُضيف إلى معلوم، لمّا كان الوقوف على هذه الأقفزة يمكن عقيب العقد. ويجري ذلك مجرى من باع ثوبًا مرابحة على أنّ لكلّ عشرة من ثمنه دينارًا، والثّمن يذكر بعد ذلك. ولعلّنا أن نبسط القول في هذا في كتاب المرابحة إن شاء الله تعالى. وقد ذكر في هذا الكتاب من المدوّنة جواز بيع الصّبرة على أنّ فيها مائة قفيز، فإن لم يجد فيها العدد الّذي سمّيا، اعتبر في النّقص هل هو قليل فيلزمه الباقي من الجملة؟ أو كثير فلا يلزمه ذلك (¬1)، أجري مجرى الطّعام إذا استحقّ بعضه؟ وظاهر هذا أنّه لا يشترط في جواز هذا البيع أن يكون العدد الّذي سمّياه يتحقّق أنّه حاصل في الصّبرة. وبعض أصحاب الشّافعي اشترط هذا في جواز البيع، فإنْ أمر المشتري البائع أن يكتال هذا العدد، وغاب عنه، وزعم أنّه اكتاله، وضاع بعد كيله، فقد مضى في كتاب السلم ما قيل في تصديقه في ذلك إذا لم تقم بيّنة على أنّه اكتال ذلك. ولو أقام البيّنة على صحّة ما يقول وأنّه اكتال العدد الّذي سمّي في أصل البيع، لسقط الضّمان عنه، لكونه - وكيلًا للمشتري على الكيل. لكنّه لو وجد فيما اكتاله نقصًا كثير أبي ن العدد الّذي سمَّى، مثل أن يجد في الصبرة عشرة أو (¬2) ¬

_ (¬1) المدونة ج 3 ص 219. (¬2) هكذا في النسختين .. ولعل الصواب: مِن. =

ثلاثين قفيزا حتّى يكون للمشتري الرّدّ لفقد أكثر مِمّا (¬1) اشتراه، وقامت على ذلك بيّنة، فإنّه لا يسقط عنه الضّمان في المقدار الّذي اكتاله. بخلاف لو اكتاله المشتري وقبضه فتلف بعد قبضه، أو غصب (ذلك منه، وثيقة الصّبرة) (¬2)، فإنّه ها هنا يضمن المشتري ما اكتاله. وإنّما فرّق بين الأمرين وإن كان البائع وكيلًا للمشتري على ما اكتال ويد الوكيل كيد الموكّل، لأجل أنّه حمل البائع على أنّه لا يكاد يخفى عنه ما في صبرته. وإذا كان ذلك لا يخفى عنه، فهو متعدّ في قيل ما اكتال، مع علمه أنّ الصّفقة لا تلزم المشتري، فصار بتعدّيه فيما وكّل عليه ليس بوكيل للمشتري. بخلاف أن يكتاله المشتري بنفسه، فإنّ ذلك يسقط الضّمان عن البائع، لكون المشتري قبض ما قبض بحكم كيله لِمَا استحقّه، والبائع اكتال ما اكتال بحكم وكالة تعدّى فيها ما أذن له فيها الموكّل. لكن لو ظهر أنّ البائع غير متعدّ، مثل أن يكون ورث هذه الصّبرة وهي على مكان مرتفع يظنّ أنّ فيها ما عقد البيع عليه من العدد فاكتال ما هو الأقلّ من العدد، فإنّ ما اكتاله سقط ضمانه، لكونه اكتال ذلك لوكالة المشتري من غير تعدّ فيما وكّل عليه. إلى هذه الطّريقة في الفرق أشار بعض الأشياخ. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: ما. (¬2) هكذا في النسختين.

فصل في مسائل ذكرت في كتاب البيوع الفاسدة من المدونة

فصل في مسائل ذكرت في كتاب البيوع الفاسدة من المدوّنة فمنها حكم المعادن ومن يحكم فيها. وهي إذا لم تكن مملوكة لرجل بل من حقوق سائر المسلمين، كان النّظر فيها للإمام الّذي أقيم في الشّرع للنّظر في الحقوق العامّة لجميع النّاس. وإن كان المعدن ظهر في أرض مملوكة لرجل بعينه، ففيه قولان، هل يكون الحكم فيه لصاحب الأرض بناء على أنّ من ملك ظاهر الأرض، ملك باطنها. أو الحكم فيه إلى الإِمام بناء على أنّ مالك ظاهر الأرض لا يملك باطنها. والمعدن إذا قطعه الإِمام لأحد من النّاس يعمل فيه، فأدرك نيلًا، فإنّه لا يباع لكون النّيل لا يعلم مقداره ولا يحاط به، وبيع هذا غرر، والغرر ممنوع في البيع. لكنّه إن مات بعد أن وصل إلى النّيل، فإنّ في كلام ابن القاسم في هذا احتمالًا. ورأى بعض الأشياخ أنّ القياس يقتضي كونه موروثًا. وهذا الّذي أشار إليه صحيح إذا كان النّيل قد صار في حكم ما قبض عامل المعدن وحازه. وأمّا إذا لم يتحصّل على هذه الصّفة، فإنّ في المذهب قولين، في (¬1) إذا مات العامل في المعدن وقد عمل فيه ولكنّه لم يدرك النّيل، هل يكون ورثته أحقّ بها (¬2) في العمل حتّى يصلوا إلى النّيل، لكون العامل فيه الّذي ورثوه قد تكلّف فيما مضى من العمل مشقّة وخسارة استحقّ من أجلها إكمال العمل لئلاّ يذهب عمله باطلًا، وإذا استحقّ ذلك وُرِث عنه ما استحقّه، كما يورث ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: فيما. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: به.

عنه سائر أمواله وحقوقه. أو يقدّر أنّ هذا إنّما قُطع مِنه يتحصّل من نيل، ولم يملك إلا ذلك. فإذا مات قبل وجود الشّرط الّذي شرط له في التّمليك، لم يملك شيئًا فيورث عنه. وذكر أيضًا في هذا الكتاب أنّ من له أرض فيها غدير أو بركة فيها سمك، فإنّه لا يمنع النّاس منه. وتأوّل بعض الأشياخ على أنّ الأرض ليست بمملوكة له, لأنّها لو كانت مملوكة له لكان له أن يمنع النّاس ما فيها، كما له أن يمنع ماء بئر احتفره في داره لنفسه، أو ماجن احتفره في دار نفسه. ولكنّه إنّما أراد أنّها أرض خراج سلّمت لرجل ليعمل فيها ويؤخذ منه الخراج والّذي فيها لم يملكه، فلم يكن له منع ما لم يملكه. وإنّما أُضيفت الأرض إليه إضافة اختصاص وولاية حيازة لا إضافة ملك. وتأوّل غيره من الأشياخ أنّ الأرض مملوكة لهذا, ولكنّه لا يتصيّد ما فيها, ولا يمكنه بيع, لأنّ بيع ما فيها لا يجوز، لكونه لا يحاط به. فإذا لم تكن له منفعة في هذا السمك بتصيّد، ولا في ثمنه ببيع، كان منعه مِمّا يفيد النّاس من غير ضرر به، ولا فائدة فيه، من الإضرار بالمسلمين من غير سبب يقتضي ذلك. وقد ورد الشّرع بالأمر للمالك أن يأذن في مثل هذا، كما ذكر في الحديث أنّه "لا يحلّ لأحدكم أن يمنع أخاه أن يغرز خشبة في جداره" (¬1). وإن كان قد اختلف في مثل هذا، هل يجبر عليه من امتنع منه؟ أم لا يجبر عليه، وإنّما يندب إليه؟ وقد نُهي من له أرض أنبتت كلأ لا حاجة به إليه في رعي ولا بيع أن يمنع النّاس منه, لأنّه من الإضرار بالنّاس من غير غرض صحيح له في هذا الإضرار. فكذلك المنع من هذه الحيتان الّتي ذكرها في مسئلة هذا الكتاب. وذكر في هذا الكتاب من المدوّنة أيضًا فيمن كانت له مواشي شأنها أن تعدْوَ على زراع النّاس، فإنّها تباع عليه إذا لم يمنعها من إفساد الزّرع، وتُغرَّب إلى أرض لا زرع فيها. وينبغي إذا بيعت لأجل هذا أن يبيّن للمشتري هذا السبب ¬

_ (¬1) متفق عليه. ينظر: التمهيد: 10/ 216 - 235 لضبط مختلف روايات هذا الحديث.

الّذي بيعت من أجله، لئلاّ يبيعها هو من أرض بها زرع، فلا يجدي بيعها منه فائدة. ويكون هذا أيضًا عيْبًا فيها دُلِّسَ عليه. وإن اشتراها وقد علم هذا العيب منها بيعت عليه كما تباع على الأوّل. وإذا علم مالكها بإفسادها للزّرع وغيره، وقدم (¬1) إليه فلم يصنها ليلًا ولا نهارًا، فإنّه يضمن ما أفسدت بليل أو نهار. ويكون بإهمالها كمن تولّى إتلاف ما أفسدت بنفسه فيضمنه، وإن كثر، بخلاف جنايات عبيده، فإنّه لا يلزمه القيام عنهم بقيمة ما أتلفوه، على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله. وأمّا إذا كانت هذه المواشي ليس من شأنها أن تعدو في زراع النّاس فعدت على زروعهم، فإنّ مالكها يضمن ما أصابت ليلًا، لأجل أنّ على أربابها صيانتها باللّيل لكونهم يقولون حفظها (¬2) لأنفسهم ولئلاّ يؤدي النّاس ولا حاجة بهم حينئذ إلى تسريحها، فضمنوا ما تلف بسبب إهمالهم لما لزمهم أن يصونوه ويحفظوه من مواشيهم. فإذا كان إفسادها نهارًا، فإن بهم حاجة إلى تسريحها للرّعي، وأرباب الزّرع حينئذ أيْقاظ يمكنهم حفظ زراعهم وطرد المواشي عنها، فإن لم يفعلوا صاروا هم كالمتلفين لزروعهم. وأصل هذه الموازنة بين الضّررين. وقد اختلف حكم اللّيل والنّهار لمّا وازن بين الضّررين على حسب ما نبّهناك عنه. وقد اختلف على قولين في قرية أراد بعض أهلها أن يتّخذ فيها حمامًا أو نحلًا، وهو إذا اتّخذها، أضرّت ببعض ما تنبته النّاس فيها، هل يمنع من اتّخاذ هذه الحمام والنّحل لكونه منعه من ذلك الضّرر فيه أخفّ من الضّرر في منع الآخرين من الإنتفاع بما أنبتوه من شجر وغيره؟ أو يباح اتّخاذ ذلك فيها، ويؤمر الآخرون بطرد هذا الّذي يضرّ بهم عن ثمارهم لكون هذا الضّرر الّذي تكلّفوه من طرد هذا الطّير أخفّ من منع أولئك من أن يتّخذ في أملاكهم ما ينتفعون به؟ ¬

_ (¬1) أي: وتُقُدِّم إليه في منعها. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يقومون بحفظها.

وقد ذكر ابن سحنون أنّ الحديث الوارد فيما أفسدت المواشي من الزّراع من كون أرباب المواشي يضمنون ذلك نهارًا ولا يضمنونه ليلًا (¬1)، ليس على عمومه، وإنّما المقصود به مدينة النبي، عليه السلام، وأمثالها مِمّا لمزدرعاتها حيطان وحصائر تحصر بها، فيصير أهلها بما فعلوه من تحضير قد بذلوا الجهد في صيانة أموالهم. وأمّا ما كان مهملًا غير محضر قال: كزرع السواحل، فإنّ أرباب المواشي يضمنون ما أصابت ليلًا أو نهارًا، لكون أهلها لم يتولّوا صيانتها بالتّحضير عليها، وإنّما عوّلوا على ما أوجبه الشّرع من تحريم إفساد مال المسلم والتّسليط عليه. فإذا أتوا، أربابُ المواشي، شاهدوا الزّرع غير محضر عليه علموا أنّ مواشيهم إن سرّحوها أفسدت الزّراع، فإذا سرّحوها ولم يمنعوها من الإفساد، صاروا هم المفسدين للزّراع. والّذي قدّمناه لك من التّنبيه على المُوازنة بين الضّررين هو المعتمد عندي في هذا الباب. وذكر في المدوّنة أنّ من وصّى في مرضه أن يشتري عبد ولده بثمن لم يحاب فيه، أنّ ذلك نافذ. وكذلك إذا أوصَى أن يبتاع عبدًا من ولده بقيمته ولم يحابه، والمحاباة ها هنا تعتبر في القيمة، وتعتبر في عين العبد، فإنّه لا تنفذ وصيّته إذا أوصى أن يباع منه عبد من خيار عبيده مِمّا يتنافس فيه الورثة ويشحّون عليه لعينه. وهذا يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى. ولو وصّى أن يباع عبده من ولده، جرى الولد ها هنا مجرى الأجنبيّ، لكون هذه الوصيّة لا منفعة للولد فيها، وإنّما منفعتها للعبد الموصى بعتقه. ولو قال: اشتروا عبده للعتق، لكان في ذلك اختلاف، لكون الولد يزاد على القيمة، فيصير انتفاعه وصيّة لوارث. أو يقدّر أنّ القصد إعتاق العبد وخروجه من ملك الولد وتنفيذ الوصيّة. ولعلّنا أن نبسط هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى. ونشير إليه أيضًا في كتاب النّكاح إذا زوّجه ابنته في مرضه، وحمل عن الزّوج ¬

_ (¬1) حديث الموطأ في ناقة البراء بن عازب يقتضي أن الضمان فيما أفسدته المواشي على أربابها ليلًا لا نهارًا. انظر الموطأ: الحديث 2177.

صداقها، فإنْ هذا الحمْل أيضًا فيه اشتراك بين ابنته، وهي وارثة، وبين زوجها، وهو غير وارث. وذكر في المدوّنة من باع سلعة ورقم عليها ثمنًا (¬1) أنّ مالكًا شدّد الكراهة فيه، واتّقى فيه وجه الخلابة. ومعنى الخلابة الّتي أشار إليها ها هنا أنّه إذا رقم على السلعة ثمنًا ليس هو الثّمن الّذي اشتراها به، وباعها مساومة أو مرابحة بثمن دون ما رقم عليها، فإنّ في هذا تغريرًا بالمشتري وخلابة وخداعًا, لأنّه قد يظنّ أن الّذي أرقم عليها هو الّذي اشتراها به لكنّه حطّ منه على جهة الغلط منه، ولضرورة دعته إلى ذلك. والتّدليس والتّغرير في البياعات ممنوع. نجز كتاب البيوع الفاسدة والحمد لله ¬

_ (¬1) في المدنية: ثمنها.

كتاب بيع الخيار

كتاب بيع الخيار

بسم الله الرحمان الرحيم وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وسلّم كتاب بيع الخيار قال القاضي أبو محمّد قدّس الله روحه في فصل تكلّم فيه على بيع الخيار، فقال: وليس خيار المجلس من مقتضى العقد، ومجرّد القول المطلق كافٍ في لزومه. ويجوز شرط الخيار لمن شرطه من المتعاقدين ولهما (¬1). ثمّ لمن يثبت (¬2) له أن يمضي أو يفسخ. ولا حدّ في مدّته إلاّ قدر ما يختبر المبيع في مثله، وذلك يختلف باختلاف أنواع المبيعات، فإنّ عين (¬3) مدّة تحتمل ذلك، جاز. وإن أطلقها (¬4) ضرب له (¬5) خيار المثل. وإذا اختلفا في الرّد والإمضاء. فالقول قول مختار الرّدّ. ويقوم الوارث فيه مقام الموروث (¬6). ويحكم بالإمضاء في كلّ تصرّف يفعله المالك في ملكه لا يحتاج في اختيار المبيع إليه، وذلك كالوطء والإستمتاع بما دونه، والإعتاق والتّدبير ¬

_ (¬1) في الغاني: أوْلهما. (¬2) في الغاني وفي غ: ثبت. (¬3) في الغاني وفي غ: عيّنا. (¬4) في الغاني وفي غ: أطلقا. (¬5) (له) ساقطة في الغاني وغ. (¬6) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: المورّث.

والكتابة، وتزويج الأمة والعبد، وغير ذلك مِمّا في معناه. وتلفه من البائع إن كان في يده أو في يد غيرهما، ومن المشتري إن كان في يده وكان مِمّا يغاب عليه. قام الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل خمسة عشر سؤالًا منها أن يقال: 1 - لِمَ أسقط خيار المجلس مع ورود الحديث الصحيح به؟ 2 - وهل بيع الخيار أصل في نفسه أو رخصة خارجة عن الأصول؟ 3 - وهل يجوز الخيار لكلّ واحد من المتبايعين أو لأحدهما؟ 4 - وهل الخيار المشترط محدود في الشرع؟ 5 - وهل يجوز اشتراط النّقد في بيع الخيار؟ 6 - وهل للمشتري بالخيار أن يفسخ العقد والبائع غائب؟ 7 - وهل يجوز عقد البيع على رجل ثالث غير المتعاقدين؟ 8 - وما حكم وكيل وُكَّل أن يشتري على البتّ فاشترى على الخيار؟ 9 - وما الأفعال الدّالّة على الإجازة أو الرّدّ؟ 10 - وما حكم ولد الأمة المبيعة على خيار؟ 11 - وما حكم اختلاف المتعاقدين في الخيار؟ 12 - وما حكم الضّمان في المبيع على خيار (¬1)؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: اختلف النّاس في البيع بماذا، ينعقد؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنّه ينعقد بمجرّد القول، وإن لم يقع بعده افتراق. وليس لأحد المتبايعين فسخ البيع بعد انعقاده بالقول ولو كانا في مجلسهما. ¬

_ (¬1) سقط في النسختين الأسئلة (13) (14) (15)، وحسب ما ورد في الأجوبة عنها، يقرب صوغها كما يأتي: 13) ما حكم الضمان في السلع إذا اختلطت على المشتري وتعدد البائع؟ 14) ما حكم بيع الخيار، والضمان فيه، إذا كان المبيع متعددًا؟ 15) ما هي الوجوهُ التي تمنع في اشتراط التخيير في التعيين.

وذهب الشّافعي إلى أنّه إنّما ينعقد انعقادًا ليسَ لأحد المتعاقدين فسخه إذا افترقا بالأبدان بعد انعقاد البيع باللّفظ. وبما قاله الشّافعي قال خمسة من الصحابة رضي الله عنهم: علي وابن عبّاس وأبو برزة الأسلمي وأبو هريرة وقال به ابن عمر ورواه عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقال مالك في الموطّأ: حدّثني نافع عن ابن عمر أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (المتبايعان كلّ واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلاّ بيع الخيار) (¬1). ورواه غير مالك عن ابن عمر وغيره. ولكن وقع في الروايات زيادات. فوقع في بعضها: (ما لم يفترقا من مكانهما)، ووقع في بعضها: (ولا يحلّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله) (¬2)، وفي بعضها (ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر) (¬3)، ووقع في بعضها (فإذا افترقا وجب البيع). وهذه الألفاظ الّتي زادها بعض الرّواة قد يتعلّق بها فوائد، فلهذا أوردناها. وينبغي أن نقدّم الأهمّ وهو النّظر فيما ندافع به هذا الحديث قبل أن نخوض في الأقيسة. فاعلم أنّه قد ذكر (¬4) أكثر النّاس الخوض في هذا الحديث وتشاغلوا بالنّظر في مدافعته. ولو عددناهم وذكرنا اختلاف مراميهم لاتسع الأمر. ولكن محصول ما يشترون أنّ مدافعة هذا الحديث يكون بوجهين: إمّا ادّعاء نسخه، وإمّا النّظر في تأويله واحتماله. وقد سلك أصحابنا هاتين الطّريقتين، فزعم أشهب أنّه منسوخ. وتابعه على هذا غيره من أصحابنا عبد الملك وابن المعدل، وأشار إليه أبو الفرج أيضًا. وذكر أشهب أنّ النّاسخ له قوله عليه السلام "إذا اختلف المتبائعان ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 5 ص 232 (¬2) فتح الباري ج 5 ص 235 رواه أبو داود (¬3) سنن البيهقي ج 5 ص 269 (¬4) هكذا في النسختين، والأولى حذفها.

استحلف البائع". فلو كان له الفسخ في المجلس، لم يكن في استحلافه إذا خولف في الثّمن فائدة. وأشار مالك، رضي الله عنه، إلى هذه الطّريقة في الموطّأ، فذكر حديث المتبايعان بالخيار. ثم عقبه بأنّه بلغه أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع أو يترادّان" (¬1). فأشار إلى ما تعلّق به أشهب من هذا الحديث. وأشار غير أشهب من أصحابنا مِمّن ذكرنا أنّه سلك مسلكه في ادّعاء النّسخ إلى الإستدلال على حصول النّاسخ من غير تعيينه. فذكر أنّ هذا مِمّا يتكرّر. ولم ينقل عن أحد من العلماء الماضين الّذين يُنتهَى إلى قولهم، ويحكَّمون في هذا أنّه أثبت هذا الخيار ولا قضى به. ولو كان ذلك لنقل واشتهر. فلمّا لم ينقل ولم يشتهر دلّ ذلك على أنّ الحديث منسوخ. واكتفوا عن ذكر النّاسخ يكون العمل مضى بخلاف هذا الحديث. وقد يشير كلام مالك رضي الله عنه، إلى هذا المعنى أيضًا. وذلك أنّه قال في الموطّأ: وليس لهذا عندنا حدّ ولا أمر معمول به (¬2). على أنّ أصحابنا اختلفوا على قولين في تأويل هذا الكلام: فقال بعضهم: المراد به نفي التحديد عن الخيار المشترط في أصل العقد، والتّنبيه على مخالفة أبي حنيفة والشّافعي في ذهابهما إلى أنّ اشتراط الخيار من كلّ مبيع لا يجوز أن يكون أكثر من ثلاثة أيّام. بل يختلف عنده الأجل المشترط في هذا باختلاف أصناف المبيعات، على حسب ما نذكره إن شاء الله تعالى. ومنهم من ذهب إلى أنّ مراده بهذا أنّ خيار المجلس لم يرد فيه تحديد بوقت معلوم. قال ابن المعدل: لم يرد بهذا الطّعن في الحديث، وإنّما أراد به أنّه لو كان هذا أمرًا معمولًا به لتشاغل النّاس بتحديد هذا المجلس وتوقيت لزوم البيع. وقال المعامي: قد نهى عليه السلام عن بيع الحصاة، وهي لزوم البيع إذا ¬

_ (¬1) الموطأ: ح: 1960 - التمهيد: 24: 290. (¬2) الموطأ: 2: 201 تحقيق عواد.

وقعت الحصاة من يده، ووقت وقوعها من يده مجهول، فكذلك يجب أن يكون خيار المجلس إذا علق انعقاد البيع فيه على أمر مجهول وقته، وينبغي أن يمنع كما منع بيع الحصاة. ومنهم من أشار إلى الإستدلال بالعمل من طريقة أخرى. فقال يحيى ابن أكثم: قد أجمع المسلمون على أنّ المشتري لا يجوز له إذا اشترى شيئًا على أنّ الخيار فيه للبائع، أن يتصرّف فيه تصرّفًا يتلفه. ثمّ اتّفقوا على أنّ المشتري من الساقي ما يشربه، أو المشتري طعامًا يأكله له أن يشرب الماء ويأكل الطّعام، وإن لم يفارق من باع ذلك منه. ولو كان لبائع الماء والطّعام خيار في فسخ ذلك، لحرم على المشتري شرب هذا الماء وأكل هذا الطّعام. وسلك غيره هذه الطّريقة معتمدًا فيها على ظاهر القرآن، فقال: قال الله جلّ ذكره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً ...} (¬1) الآية. والتّجارة تحصل بعقد البيع باللّفظ وإن لم يفترق المتبايعان. وهذا الظّاهر يقتضي إباحة الأكل حينئذ. فلو كان الخيار للبائع ما أُبيح الأكل. وعلى هذا الأسلوب يجري الإستدلال بأنّه عليه السلام نهى عن بيع الطّعام قبل أن يستوفى (¬2). فدلّ ذلك على أنّه إذا استوفي، جاز بيعه وإن لم يفترق المتبايعان. ولو كان الخيار للبائع لم يجز للمشتري أن يبيع طعاما الخيار في فسخه. وعلى هذه الطّريقة من الإستدلال يستدلّ بقوله عليه السلام: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع إلاّ أن يشترطه المبتاع" (¬3). فاقتضى هذا كون المشتري يملك هذا المال بمجرّد اشتراطه وإن لم يفارق بائعه، والملك لا يحصل إلاّ بعد انبرام البيع وانعقاده. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 29. (¬2) فتح الباري: 5: 246. (¬3) الدارمي 2: 253 - أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي: السنن الكبرى 5: 324.

وقد استدلّ أيضًا بقوله تعالى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬1). فلو كان لكلّ واحد من المتبايعين فسخ العقد قبل الإفتراق، لم يكن للإشهاد فائدة. وهذا نحو ما ذكرناه من الاستدلال الّذي أشار إليه مالك وأشهب بحديث اختلاف المتبائعين في الثّمن. وأنّه لو كان لكلّ واحد منهما خيار في فسخ البيع ما دام (¬2) بالمجلس، لم يكن لاستحلاف البائع فائدة. ومن النّاس من أشار إلى دفع هذا الحديث باستحالة هذا الشّرط في بعض المواضع. فقال أبو حنيفة: أرأيت لو كانا في سفينة؟. وقال غيره: لو وقف انعقاد البيع على الافتراق بالأبدان، لم يصحّ أن يَعْقد الإنسان بيعًا على (¬3) من هو في ولاية (¬4) لمن هو في ولاية (4)، أو يبيع شيئًا من ماله لمن هو في ولأنه (4) لاستحالة أن يفارق الإنسان نفسه. ومنهم من يشير إلى الإستدلال بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬5). هذه جملة ما يتعلّق به أصحاب هذه الطّريقة. فاعلم أنّهم إن (¬6) تعمّقوا في معانيهم، فإنّهم لم يُصَب شيء من مراميهم. والإنصاف يمنع من أن يكون يُترك حكمُ مسئلة من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من كلام أورده مختصًّا بها (معلّقًا حكمها من) (¬7) كلام آخر قصده ببيان معان أُخر لا تدخل هذه المسئلة فيها إلاّ بحكم العَرض أو الاتفاق أو دعوى عموم بَعُدَ ادّعاؤُه. وجميع ما أوردناه عن أصحاب هذه الطّريقة هذا شأنهم فيه. كيف يتعلّق بنهيه عليه السلام عن بيع الطّعام قبل أن يستوفى، ¬

_ (¬1) سورة البقرة: 282. (¬2) وفي النسختين: ما دام. (¬3) هكذا في النسخة. والصواب: ممنّ. (¬4) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: في ولايته. (¬5) سورة المائدة: 1. (¬6) هكذا في النسختين: ولعل الصواب: أنهم وإن تعمقوا. (¬7) المعنى واضح، وإن كان التعبير قلقا.

والغرض بيان الشّرط الّذي يجوز معه البيع وهو الإستيفاء. والبيع يقع غالبًا بعد الإستيفاء والإفتراق. فحمْله على المقصود بيانه أو الغالب اعتياده يمنع من أخذ حكم خيار المجلس منه. هذا ولو ادّعينا عمومه كيف يُعدَل عن لفظ يختّص بالمسئلة إلى لفظ يعمّها ويعمّ تغيرها، مع كون هذا مخصّصًا للعموم؟! وهكذا التعلّق باختلاف المتبايعين في الثّمن وحكم مال العبد، إلى غير ذلك مِمّا ذكرناه من آي القرآن القصد بها بيان ما نزلت فيه من إباحة التّجارة على الجملة والتوثّق بالإشهاد خوفًا من التّجاحد بعد الإفتراق أو من الاختلاف في الثّمن قبل الإفتراق، إلى غير ذلك مِمّا يعلم مِمّا نبّهناك عليه. وأمثلها التعلّق بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}. ولكن هذا عموم في كلّ عقد. وحديث ابن عمر خاص في هذا العقد مع الإفتقار إلى تسمية هذا عقدًا، مع ورود الحديث بأنّ العقد إنّما يحصل بعد الإفتراق. وهكذا ما تعلّق به أشهب من قوله عليه السلام: "المسلمون على شروطهم". وهو عامّ أيضًا، إن سلّمنا كون البيع شرطًا، فيخصّ بحديث ابن عمر. والاستدلال على ثبوت ناسخ مجهول بالعمل لا حقيقة له، إذا (¬1) لم يقل بأنّ عمل أهل المدينة حجّة بمجرّده، على حسب ما حكي عن مالك على ما ذُكر من تأويله في كتب أصول الفقه, لأنّ المراد بهذا عمل بعض الأمّة وعمل بعضهم ليس بحجّة. وقد كنّا حكينا عن خمسة من الصحابة، رضي الله عنهم، ذهابهم إلى خلاف ما زعم هؤلاء أنّ العمل وقع به. وتابعهم على ذلك من التّابعين الحسن وابن المسيّب، ومن الفقهاء الزّهري وابن شهاب (¬2) والثّوريّ وأحمد وإسحاق. وقد عمل بهذا الحديث راويه وهو ابن عمر وعمل الرّاوي بالحديث موجبَه (¬3) مع مشاهدته للنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفته بسياقة قوله، وقرائن أحواله فيه، أولى أن يقتدى به من عمل غيره. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: إذ. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: الزهري ابن شهاب. (¬3) أي بموجبه.

وأمّا الإستدلال بما ذكرناه عن يحيى بن أكتم، إن سلم له الإجماع، فما ذلك إلاّ لكون البائع إذا تصرّف فيما باع بحضرته ولم ينكِر، صار كمن خيّر في الفسخ أو الإمضاء فاختار الإمضاء. وقد ذكرنا أنّ في بعض طرق الحديث أنّه عليه السلام قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر" (¬1) على حسب ما وقع في هذه الرّواية. وقد قال الشافعي: إنّ معنى هذا أنّه إذا خيّر أحدهما صاحبه، وهو بالمجلس، بين أن يمضي البيع أو يردّه، فاختار الإمضاء، فإنّه يسقط ما كان له من خيار المجلس. وتعدّى هذه المرتبة بعض أصحابه فقال: وكذلك لو تعاقدا البيع على أنه لا خيار لأحدهما، وإن لم يفترقا، فإنّ ذلك يبطل خيار المجلس. فإذا كان من مذهب القول هذا، فإنّ لهم أن يقولوا: إنّما جاز شرب الماء قبل الإفتراق، على حسب ما قدّمناه، لكون البائع كالمسقط لخياره. ومذهبنا أنّ إسقاط الخيار يمنع من ثبوته في المجلس. ولا شكّ أنّ إسقاط الخيار بعد الإستيجاب بالقول منهما جميعًا آكد من إسقاطه في حين التّعاقد، كما زعم بعض أصحاب الشّافعي. لأنّه يعدّ الإستيجاب إسقاط خيار المجلس بعد وجوبه، وفي حين الإنعقاد إسقاط له قبل وجوبه، وإسقاط الشّيء بعد وجوبه لازم كإسقاط الشّفعة بعد وجوبها، وإسقاطه قبل وجوبه لا يلزم على مذهب جماعة من العلماء، كإسقاط الشّفعة قبل وجوبها. وقد حاول أصحابنا أن يستنبطوا من هذه الزّيادة الّتي وقعت في بعض طرق الحديث مناقضة الشّافعي واستدلالًا عليه. فقالوا: إذا تعاقدا البيع بالقول، فقد تراضيا به، فإن لم ينفع هذا التّراضي ما داما في المجلس، فلا ينفع التّراضي بإمضاء البيع بعد قول أحدهما لصاحبه: اختر. لأنّ كلا القولين تراض، والمجلس لم يفترقا منه. وينفصل أصحاب الشّافعي عن هذا بأن إسقاط الخيار والتّراضي بذلك بعد ¬

_ (¬1) فتح الباري 5: 231.

وجوبه، بخلاف التّراضي الأوّل الّذي لم يتقدّمه وجوب خيار، فتراضيا بإسقاطه. وعندي أنّ لهم أن ينفصلوا عن هذا أيضًا بأنّ خيار المجلس جعل تلافيًا للنّدم على ما يقع من غبن، فأثبته الشّرع توسعة على النّادم، لكونه قد يبادر الالتزام من غير رويّة. فإذا قرّر عليه الأمر وقيل له: تثبت في أمرك، وتأمّل حالك في البيع، فإن كنت مغبونًا فردّ البيع، فإنّه لا يجاوب حينئذ باختيار إمضائه إلاّ وهو على بصيرة فيه. وأمّا من سلك مدافعة الحديث باستحالة تصوّره في بعض البياعات، كقول أبي حنيفة: أرأيت إن كانا في سفينة؛ فإنّ أصحاب الشّافعي ينفصلون عنه بأنّ السفينة إن كانت كبيرة أمكن فيها افتراقهما بالأبدان، وإن كانت لطيفة، أمكن أن يخيّر أحدهما صاحبه فيختار الإمضاء، فيلزمه ذلك. وإن لم يفترقا. وكذلك ينفصلون عن شراء الإنسان لمن في ولأنه (¬1) مِمّن هو في ولأنه (1) بأنه يختار الإمضاء بعد الإستيجاب، فيرتفع الخيار، أو يفارق مكانه وينتقل عنه، فيكون ذلك كالمفارقة بالأبدان بين اثنين لمّا كان هو عقد (¬2) على اثنين، فجعل انتقاله عن مكانه محلّ اثنين عن مكانهما. وأمّا من سلك طريق التّأويل، فإنّهم اختلفوا أيضًا. فالأكثر منهم على أنّ المراد ها هنا بالمتبايعين المتساومان، واستشهدوا على جريان هذه التّسمية عليهما بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يبع أحدكم على بيع أخيه" (¬3). والمراد أنّه لا يسُم على سومه، بعد التّراكن إلى البيع. قالوا: والمراد أيضًا بالافتراق ها هنا افتراقهما بالأقوال، بأن يقول البائع: بعتك بكذا، فيقول المشتري: قبلت. واستشهدوا أيضًا على جريان هذا اللّفظ على الإفتراق بالأقوال بقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب لمن هو في ولايته ممن هو في ولايته. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) تحفة الأشراف: حديث 8185.

أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (¬1). والمراد افتراقهم بالأديان والمذاهب. وبقوله جلّ ذكره في الزّوجين: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} (¬2). والمراد ها هنا الإفتراق بالطّلاق لا بالأبدان. وقد أجيب عن هذا بأنّ هذا إنّما يستعمل مجازًا، وقد وقع في بعض طرق الحديث ما لم يفترقا من مكانهما (¬3). وذكر المكان إشارة إلى الإفتراق بالأبدان. وأجيب عن حمل الحديث على المساومة بأنّ هذا تَجَوُّزٌ في العبارة، وإنّما التّحقيق اشتقاق اسم الفاعل من فعله، إذا وجد، كقولنا: شاتم وضارب، فإنّهما إنّما يسمّيان بذلك إذا وجد الضّرب والشّتم، لا قبل وجود ذلك. واستشهدوا على هذا أيضًا بأن من قال لعبده: إن بعتك فامرأتي طالق، فإنّها لا تطلّق عليه بالمساومة في العبد. فلو كانت المساومة بيعًا لوقع الحنث. وأجاب بعض أصحابنا عن هذا بأنّ الحنث إنّما لم يقع ها هنا لأجل أنّه علقه بفعل يقع لمّا قال إن بعتك، والمساوم لم يبع. وأشار إلى أنّه لو قال للمتساومين إن كنتما متبايعين فامرأتي طالق، لحنث في يمينه. وهو الّذي قاله في التّحنيث بقوله: إن كنتما متبايعين فيه نظر، وتفصيل حكمه مِمّا قدّمناه في كتاب الإيمان والنّذور. وسلك آخرون طريقة أخرى في التأويل فقالوا: المراد أن أحدهما أوجب البيع على نفسه بأن قال البائع: أوجبت على نفسي أن أبيعك بكذا. فإنّ المشتري يخيّر بين القبول أو الرّدّ، ما داما بالمجلس، ولو أقاما فيه اليوم واليومين. فإذا افترقا ولم يقبل المشتري، سقط ما كان له من الخيار بالافتراق بالأبدان. وقيل: الإفتراق لا يسقط خياره عند أصحاب أبي حنيفة. وإن كان أصحاب الشّافعي يسقطون خياره وإن لم يفترقا من المجلس إذا لم يقبل من البائع ما جعل له على ¬

_ (¬1) سورة البينة: 4. (¬2) سورة النساء: 13. (¬3) لم أجد رواية بزيادة من مكانهما. مع أن ابن عبد البر قد عني بجمع طرق حديث خيار المجلس التمهيد ج 14 ص 8/ 25 وكذلك الزبلعي ح 4 ص 2/ 4

الفور. وبعض أصحابنا يشير أيضًا إلى أنّ الافتراق يسقط خياره. وقد اختلف المذهب عندنا على قولين في التّمليك، هل يثبت للمرأة بعد الافتراق من المجلس، على ما سنبيّنه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقدح في هذا التّأويل بأنّ الحديث يقتضي كون الخيار لكلّ واحد من المتبايعين مثل ما هو لصاحبه. وهذا التّأويل خروج عن ظاهر الحديث. لأنّ هذا المتأوّل جعل الخيار في المجلس للبائع الّذي أوجب البيع بمقتضى ما أوجبه الشّرع من خيار المجلس، وجعل للمشتري الخيار بمقتضى ما جعله البائع له. فطريق التّخيير مختلفة، والحديث يقتضي تساويها (¬1) وأيضًا فإنّه عليه السلام، علق هذا الخيار بتلازمهما، وجعل غاية سقوطه افتراقهما. ومقتضى هذه الغاية أن تكون بخلاف ما بعدها, ولا تكون خلاف ما بعدها إلاّ بأن يكون الافتراق يوجب البيع ويرفع الخيار منه، وما قبلها يثبت الخيار فيه. وهذا المتأوّل جعل الافتراق يوجب ارتفاعَ البيع وكونَه غير لازم، مثلما كان قبل الإفتراق غير لازم، وهذا إبطال لمقتضى دليل الخطاب، وما هو كالغاية فيه، لا سيما وقد وقع في بعض الطرق: "فإذا افترقا فقد وجب البيع". وهذا كالنّصّ على فساد هذا التّأويل. وقد اختلف في تأويل قوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق هذا الحديث "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلاّ بيع الخيار". ما المراد بهذا الإستثناء؟ فقال أصحاب الشّافعي: المراد به التّخيير في المجلس. فإذا رضي المخيّر بالإمضاء، لم يكن له الفسخ، وإن لم يفترقا، على حسب ما قدّمناه من مذاهبهم في هذا. وقال أصحابنا: إنّما المراد به البيع المشترط فيه الخيار، فإنّ الخيار يثبت فيه إلى الأمد المضروب الّذي حدّاه ولو افترقا بالأقوال أو بالأبدان. وأنكر أصحاب الشّافعي هذا التّأويل بأن قالوا: الأصل في الإستثناء أن يكون ما بعد حرف الإستثناء مخالفًا لما قبله. فإن كان الّذي قبله إثباتًا، كان ما بعد حرف الإستثناء ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تساويهما.

نفيًا، وإن كان ما قبله نفيًا، كان ما بعده إثباتًا. والّذي كان قبل هذا الحرف المذكور في الحديث إثبات الخيار، فلا يكون ما بعد حرف الاستثناء إثباتًا للخيار أيضًا. وإنّما تصحّ حقيقة الإستثناء إذا كان المراد بقوله: إلاّ بيع الخيار، أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر. فإنّه إذا قال له ذلك واختار الإمضاء، لزمه البيع وارتفع خياره. فيكون هذا استثناء نفي من إثبات. وأصحابنا وأصحاب أبي حنيفة يصرفون هذا الإستثناء إلى مضمر، وتقدير الكلام ما لم يفترقا، فإنّهما إذا افترقا لزمهما البيع إلاّ في الخيار المشترِط فيه أيّامًا، فيكون استثناء نفي من إثبات. ولكن بعض (¬1) إظهار ما أضمر مِمّا يقتضيه هذا الكلام. ومن المتأوّلين من تأوّل تأويلًا آخر، فقال: المراد بقوله كلّ واحد منهما بالخيار في الإقالة، لا في الفسخ من غير رضي صاحبه. بدليل ما وقع في الحديث الآخر: ولا يحلّ له أن يفارقه خشية أن يستقيله. فصرّح ها هنا في هذا الحديث بالإقالة، وكنّى عنها في الحديث الآخر. وأنكر هذا المتأوّل (¬2) هذا التأويل بأن الاستقالة ممكنة قبل الافتراق وبعد الافتراق، وحلال قبل الافتراق وبعد الإفتراق على حدّ سواء. وإذا كان الأمر كذلك، صار التّقييد بالإفتراق لغوًا لا فائدة فيه. وأشار بعض أصحابنا إلى الانفصال عن هذا بأنّ فيه فائدة، وهي كون البيع لازمًا بالقول حتّى يفتقر في حلّه إلى الإستقالة، ووقع النّهي عن الفرار خوفًا منها. وأشار القاضي أبو الفرج من أصحابنا إلى معنى آخر، وهو أنّ الإقالة في المجلس سنّة، لكون الإفتراق لم يحصل، والمشتري لم يغب على السلعة. فتكون الإقالة في هذه الحالة سنّة، وبعد الإفتراق فضيلة. وقد تختلف مراتب المندوب إليه، فيكون بعضه سنة وبعضه فضيلة، على حسب ما تقدّم بيانه في كتاب الصّلاة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعد. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وأُنكِر على هذا ...

وأصحاب الشّافعي يعكسون هذا التّأويل ويرون أنّ المراد بالإقالة ها هنا الفسخ، الّذي جعله له الشّرع ما دام في المجلس. والمراد بالحديث نهي أحدهما عن أن يفرّ من صاحبه مخافة أن يفسخ البيع عليه. فهؤلاء حملوا لفظ الإقالة ها هنا على الفسخ. والآخرون حملوا لفظ الفسخ على الإقالة، كما حكيناه عنهم. فيفتقر ها هنا إلى الموازنة بين هذين التأويلين، أيّهما أرجح وأظهر في مقتضى السياق وحكم اللّغة، ويصار إليه؟ وهكذا ما قدّمناه من التّأويلات الأُخر، فتفتقر إلى الموازنة فيها بحسب ما ذكرناه. فقد قال أصحاب مالك وأصحاب أبي حنيفة للشّافعيّة: أنتم أثبتم الخيار في المجلس بعد أن وقع التبايع وانقضى. وتسمية من كان باع: بائعًا، مجازًا (¬1). كما دافعتمونا عن تأويلنا بأنّ تسمية المتساومين: متبايعين، مجازًا (1). فقال أصحاب الشّافعي: تجوّزنا نحن من جهة واحدة، وتجوّزتم أنتم من جهات. وكلّما قلّ المجاز وقرب من الحقيقة، كان أولى. فهذه النكتة، التي نبّهناك إليها ترجح هذه المذاهب والتّأويلات، وهي الّتي تحكَم في هذه المذاهب والتأويلات. وقد أشرنا إليك بما عندنا في ذلك وإلى ما ينحصر الأمر إليه فيها. وبالجملة فالنّصوص في أعيان الحوادث لا تُدَافَع بعمومات فيها احتمال. والتّأويلات الّتي يَسبق إلى النّفس خلافها ويقع فيها تعسف واستكراه لا ينبغي يعدل (¬2) إليها، ويترك ما هو السابق إلى اللهم من الكلام والأظهر فيه في حكم اللّغة. وقد استقصينا تتبّع ما قيل في هذا الخبر. وأمّا مسلك القياس والنّظر، فإنّ أصحاب الشّافعي يرون أنّ الشّرع إنّما أباح التّجارات لما فيها من الأرباح والفوائد، وهي المقصود منها. والغبن فيها محاذر مجتنب. وكثير ما يقع من الإنسان إمضاء وعزم من غير رويّة وإمعان في الفكرة، ثمّ يثوب إليه أنّه غلط فيندم. فوسّع الشّرع هذا المضيق، بأن جعل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ونصب (مجازًا) ممكن على ضرب من التأويل بعيد. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن يعدل.

للنّادم الخيار ما دام في المجلس، وجعل غاية هذا المجلس كأوّله، وقد كان أوّله قبل انعقاده كلّ واحد منهما بالخيار، فكذلك غايته وآخره. وأجابهم الآخرون عن هذا بأنّ هذا النّدم يمكن الإنسان أن يتحرّز منه بأن يجود رؤيته قبل أن يلتزم البيع. فإن لم يفعل فهو المفرّط في حال نفسه. ولا حاجة إلى تحسين الشّرع النّظر له. ويمكّن أيضًا إن بادر للعقد قبل الرّؤية (¬1) أن يشترط فيه الخيار. فتركه اشتراط الخيار تفريط في الحزم أتى من قِبَله، ولم تدعه ضرورة مع هذا إلى أن يحسن الشّرع النّظر له. ومن فرّط في هذا فرّط في خيار المجلس، وإن جعله الشّرع إليه. وقد استدلّ أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة عليهم بأنّهم لا يثبتون خيار المجلس في النّكاح وإن كان عقد معاوضة. وهم يجيبون عن هذا بما قدّمناه من أنّ القصد بإثبات خيار المجلس تلافي النّدم على الغبن. وهذا إنّما يعرض في الأموال، وأمّا النّكاح فالمراد به الأعيان، بدليل أنّ من وكّل رجلًا على إنكاحه، فإنّه لا بدّ من إعلام المرأة به. ومن وكّل رجلًا على شراء سلعة، فإنّ العقد يصحّ وإن لم يعلم البائع بالموكّل. وما ذلك إلاّ لكون الغرض في النّكاح الأعيان، وفي البياعات الأثمانَ. وإذا كان الغرض الأعيان سقط اعتبار الغبن في الأثمان. فلهذا لم يثبت في النّكاح خيار المجلس. ألا ترى أنّ الخيار المشترط يثبت في البياعات، ولا يجوز في النّكاحات. فكذلك خيار المجلس يجوز في البيع ولا يثبت في النّكاح. وناقضهم أصحابنا بالكتابة لما أسقطوا فيها خيار المجلس. ثمّ هم يجيبون عن هذا بأنّ السّيد باع ماله بماله، وليس هذا حقيقة البيع. فإذا سامح بمثل هذا التّفريط، لم يظنّ به قصد النّظر في العوض والنّدم على الغبن. والمكاتب له أن يُعجز نفسه إذا ندم (أو لم يندم) (¬2). فلهذا عندهم سقط خيار المجلس في الكتابة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الرَّوِيّة. (¬2) كذا في النسختين.

والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: اختلف في بيع الخيار، هل هو أصل من الأصول في نفسه، أو رخصة خارجة عن الأصول؟ فمن النّاس من يشير إلى أنّه أصل في نفسه مناسب للأصول, لأنّ القصد بإباحة المعاملات والتّجارة طلب الرّبح وتحصيل الفوائد. وإنّما تحصل الأرباح والفوائد مع نفي الغبن في البيع في حقّ المغبون. فإذا جعل له الخيار فيما عقده على نفسه من بيع، كان ذلك أقرب إلى تحصيل المقصود بالتّجارة من طلب الفوائد والأرباح، ونفي الغبن عن المغبون إذا ظهر له في مدّة كونه مخيّرًا أنّه قد غُبِن ففسخ البيع (¬1). فهذا معنى مناسب للأصل الّذي وضع في التّجارة. ومنهم من يشير إلى أنّه كالرّخصة الخارجة عن الأصول. وذلك أنّ الغرر نُهي عنه في البياعات. وإثبات الخيار وإباحة اشتراطه في عقد البيع يُحدث في البيع غررًا. وإلى هذه الطّريقة أشار مالك، رضي الله عنه، فقال، في علّة منع اشتراطه (¬2) أجل طويل في الخيار: لا يدري كيف تكون السلعة عند انقضاء أمد الخيار ولا كيف ترجع إليه. ومراده بهذا أنّ الأجل إذا كان طويلًا مثل أن يبيع عبدًا بشرط الخيار سنة أو سنتين، فإنّه لا يدري كيف يكون العبد عند انقضاء السنتين، هل يحدث به عيوب فيردّه المشتري وقد نمى (¬3) في يديه؟ وكذلك إذا كان الخيار للبائع، فإنّه لا يدري المشتري، هل يمضي البائع البيع؟ وقد يقرّ (¬4) العبد بنقص كثير. وهذا يُصيّر حالة الإمضاء للبيع كالمعاقدة على أمر مجهول، فالجهالة بالبيع تفسد العقد. ومن النّاس من يشير إلى أنّ بيع الخيار يخرج العقد عن مقتضاه. وذلك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: فيفسخ، أو بفسخ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اشتراط. (¬3) كذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب يتغيّر.

أنّ مقتضى العقد التتميم وانتقال الملك من البائع إلى المشتري. والملك المطلق يقتضي جواز التصرّف المطلق. وبيع الخيار يمنع من تصرف من لا خيار له في المبيع. فإذا ثبت أنّ البائع إذا اشترط على المشتري أنّه لا يتصرّف في المبيع أبدًا، أنّ هذا الشّرط يفسد البيع، فكذلك يجب أن يكون إذا اشترط عليه المنع من التصرّف مدّة محدودة. لكن الشّرع استثنى ما قلّ (¬1) (من المدّة لمسيس الحاجة إليه، وكونه من مصالح العقود، وإبقاء المدّة الطّويلة على أصلها في المبيع على علّة هؤلاء، وكذلك أيضًا على) (1) طريقة مالك، رضي الله عنه، في التّعليل. فإنّه إذا علّل بالغرر وصحّ تصوّر الغرر في المدّة الطّويلة وكثرت المخاطرة فيها، وقلّ الغرر في المدّة اللّطيفة، والغرر القليل معفوّ عنه في الشّرع. وأشار أشهب من أصحابنا إلى طريقة أخرى في التّحليل. وذلك أنّه قد تقرّر أنّ الضّمان لا يصحّ أن يؤخذ عنه عوض، مثل أن يقول إنسان لآخر: اضمن لي سلعتي هذه سنة، وأنا أعطيك كذا وكذا دينارًا. لأنّ هذا من الخطر، وربّما اقتضى أكل المال بالباطل، على ما تقدّم بيانه في مواضعه. فإذا كان هذا ممنوعًا، تُصوِّرت التّهمة في قصد المتبايعين إليه بأن يكونا أظهرا بيع الخيار وأبطنا بيع البتّ. وإذا وقع بيعهما في الباطن على البتّ، وأظهرا الخيار تحيّلا على أن يبقي الضّمان على البائع بالخيار مدّة طويلة، صار ذلك معاوضة عن ضمان مجرّد، وقد ثبت المنع من ذلك، كما أشرنا إليه. وهذه الطّراق التّي ذكرناها من اختلاف الإشارات إلى كونه مناسبًا للأصول أو مخالفًا لها، وإذا كان مخالفًا لها ما سبب الرّخصة فيه، قد تتعلّق بها مسائل نحن ننبّهك عليها فيما بعد، إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: أمّا الخيار فإنّه يشترط لأحد ثلاثة أغراض. أحدها: اختبار المبيع. كمن اشترى عبدًا فأراد اختبار نشاطه في الخدمة ¬

_ (¬1) ما بين القوسين ساقط من الوطنية.

وأمانته وطاعته فيما يؤمر به. أو اشترى دارًا وأراد اختبار حال جيرانها إلى غير ذلك مِمّا يفتقر إلى اختباره في المبيعات. والثّاني: أن يشترط الخيار استقصاءً للنّظر والبحث عن الثّمن، هل هو غال أو رخيص؟ والثّالث: أن يشترط، مع الإستغناء عن الإختبار للثّمن والمثمون، للنّظر فيما يتعلّق بالمبيع من البواعث على إمضاء البيع أو ردّه. وهذه الأغراض تمس الحاجة إليها. فلأجل ذلك أباح الشّرع اشتراط الخيار. فأمّا جواز اشتراط الخيار للمشتري فلا خلاف فيه. وأمّا جواز اشتراطه للبائع، ففقهاء الأمصار وجمهور العلماء على إجازته، لكون البائع قد تدعو الحاجة إلى أن يشترط الخيار للاختبار، هل هو غابن أو مغبون، أو ليحسن نظره في إمضاء عزيمته على البيع أو ردّه. وأمّا لاختبار المبيع، فلا حاجة به إلى ذلك. وذهب ابن شبرمة والثّوري إلى المنع من اشتراط البائع الخيار. ورأى الثّوريّ أنّ اشتراطه الخيار يفسد البيع. وما أرى هذين ذهبا إلى هذا المذهب إلاّ بناء على أنّ الأصل يقتضي المنع من بيع الخيار لما قدّمناه. ولكن رخّص فيه للضّرورة إليه. والضّرورة تتحقّق، في جهة المشتري، وتتّضح، لحاجته إلى اختبار المبيع، هو أكثر في الأغراض الّتي يشترط لأجلها الخيار. والبائع لا حاجة به إلى اختبار المبيع إذا طال مقامه عنده. فإذا لم تكن به حاجة إلى هذا الغرض الّذي هو الأكثر، وجب منعه من ذلك، لارتفاع علّة التّرخيص في حقّه. أو يكونا رأيا أنّ الشرع إنّما ورد بإباحة الخيار للمشتري في حديث المصرّاة، وهو قوله عليه السلام "فمن اشتراها فهو بخير النّظرين -ثلاثًا-" (¬1) الحديث، كما وقع. وسنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) اللؤلؤ والمرجان: حديث 970 ص 370.

وكذلك ما جعله عليه السلام لحبّان بن منقذ لمّا قال له: "إذا بايعت - فقل لا خِلابة" (¬1) وذلك للخيار -ثلاثًا- لكنّ هذا الحديث إن حملوه على أنّ المراد به بايعت بمعنى اشتريت، لكونهما عثرا على قصّة تشكَّى الغبن فيها وهو مُشْتَرٍ، أو لغير ذلك، كان الإستدلال به مثل حديث المصراة. وإن لم يكن الأمر كذلك، فقدله: بايعت، يقتضي عمومُه كونَه بائعًا أو مشتريًا. ويتضمّن عمومه جواز الخيار للبائع، على ما سننبّه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. وإذا تقرّر أنّ اشتراط الخيار إنّما سُمِحَ به لأغراض، أحدها: الحاجة إلى اختبار المبيع. فإنّ اختباره يحوج إلى تسليم المبيع للمشتري، إذ لا يمكن اختباره في غالب الأمر وهو في يد البائع. فإذا بيّن المشتري للبائع أنّ غرض في اشتراط الاختيار الاختبارَ، مكَّن من قبض المبيع، وصار ذلك كالشّرط على البائع. وإن بيّن له إنّما اشترطه ليرى رأيه في إمضاء عزيمته لا لاختبار المبيع، فإنّه لا يسلم إليه لكونه لا حاجة به، والحالة هذه، إلى قبض. ولا يلزم البائع أن يخرج ملكه من يده من غير حاجة المشتري إليه. وينبغي إذا اختلف الحكم في تسليم السلعة إليه أن يبيّن حين العقد الغرض في اشتراط الخيار لئلاّ يتنازعا في تسليم السلعة. فإن لم يبيّن ذلك حين العقد، فإنّ بعض أشياخي رأى أنّ الحكم أن لا تسلّم السلعة للمشتري, لأنّ ظاهر اللّفظ في قوله: أَشتَري لي منك بالخيار، يقتضي أنّ الخيار في إمضاء العقد أو ردّه. وهذا الّذي قالت له ثبت أنّه المتفاهم بين المتعاقدين صِير إليه. وأمّا إن لم يثبت ذلك وادّعى كلّ واحد منهما أنّ قصده خلاف قصد صاحبه، فإنّ هذا لا يصحّ أن يقضي فيه برجوع أحدهما إلى الآخر. وربّما اقتضى فسخ البيع، على ما سننبّه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، إذا تكلّمنا على الأصل الّذي يؤخذ منه. ¬

_ (¬1) فتح الباري ج 5 ص 240 - 241.

فإذا وجب تسليم السلعة للاختبار، فهل يكون على المشتري إجارة الإنتفاع بها أيّام الخيار. مثل أن يكون عبدًا استخبره بالاستخدام، أو دارًا اختبرها بالسكنى، فإنّ ذلك ينبغي أن يكون بإجارة معلومة إذا كان المشتري انتفع بهذا الاختبار، بأن وإن به ماله مثل أن يسكن الدّار الّتي أخذها ليختبرها، ولولا سكناه فيها لاكترى مسكنًا. لأن هذا إذا لم يكن بإجارة، صار في أصل العقد تخاطرًا. والمشتري إذا ردّ بعد انقضاء أمد الخيار، ذهب بمال البائع باطلًا. والبائع يقول لعلّه لا يذهب به باطلًا. وإن أمضى البيع، صار كمنتفع بمال نفسه إذا قلنا: إنّ بيع الخيار إذا أمضي، فكأنّه لم يزل ماضيًا من حين العقد. وأمّا إن لم تكن له منفعة في هذا الاختبار، وَقَى بها ماله، ولا استفاد من الاختبار منفعة أكثر من اختبار المبيع، وكان البائع أيضًا مِمّن لا قدر لهذا عنده، ولا يقصد فيه إلى مخاطرة، فإنّ هذا مِمّا ينظر فيه، وربما كان الأظهر جوازه، لكون العقد إنّما وقع على مجرّد الدّار، ولم يقع على الدّار ومنفعتها. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: الخَيار المشترط يقع على وجهين: مطلق، ومقيّد بوقت. فأمّا المطلق، فمثل أن يقول المشتري: أشتري منك على أنّي بالخيار. ولم يَحُدَّ ميقاتًا معلومًا. فإنّ هذا اختلف النّاس فيه. فمنهم من ذهب إلى أنّه يفسد البيع، وبه قال أبو حنيفة والشّافعي. لكون هذا اللّفظ متردّدًا بين أن يكون قصد المشترط لهذا خيار مدّة قريبة، أو مدّة بعيدة لا يجوز اشتراطها في الخيار. واختلاف هذين الحالين يختلف معهما الحكم بالصحّة والفساد. ويختلف الثّمن معهما, لأنّ من أحبّ أن يوسّع له في أمد الخيار إذا اشترى زاد في الثّمن. فإذا اختلفت هذه الأحوال، صار البيع فاسدًا لما تضمّنه من الغرر. ومنهم من ذهب إلى أنّ البيع صحيح، ويقضى يكون الخيار على الفور لأنّه أمد متحقّق، وما زاد عليه لا يقتضيه اللّفظ نصًّا، فوجب إطّراحه. وإذا وجب إطراحه وحمل اللّفظ على الفور، لم يكن في هذا البيع غرر، ولا يتضمّن

اختلاف الأحوال الّتي ذكرنا. وقد قيل في أحد القولين عندنا في القائل لزوجته اختاري، أنّ ذلك لا يحمل على التّراخي الطّويل، ولا يثبت خيارها فيه بعد افتراقهما في المجلس، لكون هذا اللّفظ يقتضي الفور، لا سيما إذا قلنا: إنّ الأمر على الفور، كما ذهب إليه بعض الأصوليين. والرّواية الثّانية أنّ لها الخيار، وإن قامت من المجلس، لكون اللّفظ يقتضي الفور والبدار، لا سيما إذا قلنا بحمله على العموم في الأزمان. ذهب إلى هذا في بيع الخيار الطّبري وحمل المطلق منه على كون هذا الخيار المشترط يقتضي الفور. ومذهب مالك رضي الله عنه أنّ البيع صحيح، ويضرب من أمد الخيار الّذي أطلقاه ما جرت به العادة في اختبار جنس ذلك المبيع، وتحصيل الغرض الّذي من أجله شرط الخيار. وقَدَّر أنّهما لمّا اشترطا الخيار ولم يؤقّتاه، فكأنّهما اشترطا الميقات المعلوم قدْره من جهة العادة. فصار ذلك كاشتراط ميقات محدود بالنصّ عليه. وأمّا إن وقع الخيار مقيّدًا بزمان محدود، فإنّ هذا أيضًا مِمّا اختلف النّاس فيه. فذهب أبو حنيفة والشّافعي إلى منع اشتراط الزّيادة على ثلاثة أيّام، أو أقلّ منها، مِمّا يَحُدَّانه. لكن إن اشترطا الزّيادة على ثلاثة أيّام، فإنّهما اختلفا في صحّة هذا البيع إذا أسقط المشتري المشترط للثّلاث خيارَه فيما زاد عليها، والثلاث لم تنقض. فرءاه أبو حنيفة مِمّا يصحّح هذا العقد. وأجرى ذلك مجرى الشّروط الّتي يصحّ العقد إذا أسقطت كالبيع والسلف في القول المشهور عندنا. وذهب الشّافعي إلى أنّه لمّا عقد هذا البيع على فساد لم يرتفع الفساد بإسقاط هذا الشّرط الّذي أفسده، كأحد القولين عندنا في البيع والسلف وما في معناه، وقدّر أنّ الخيار له حصّة من الثّمن، وإسقاطه كإسقاطه بعض الثّمن، والفساد إذا وقع في الثّمن أو في المثمون لم ينصلح العقد بإسقاط الفساد. وقدّر أبو حنيفة أنّ هذا كالشّروط الخارجة عن الثّمن والمثمون، فإمضاء العقد إذا أسقطت. ولكنّه إنّما يمضي العقد إذا أسقطت، إذا كان الإسقاط قبل أن تذهب الثّلاث، الّتي أجاز الشّرع اشتراطها. فأمّا إن ذهبت وحصل المتعاقدان على إثبات الخيار في

وقت لا يجوز إثباته فيه، فإنّ إسقاط الشّرط لا يصحّح العقد. وأمّا ما نذهب إليه نحن في هذه المسئلة، فإنّ القاضي أبا محمّد عبد الوهاب ذكر في شرح الرّسالة أنّ الشّروط الفاسدة إذا أسقطت، صحّ العقد. لكنّه استثنى هذه المسئلة، فقال: إذا اشترط في العقد خيار أيّام كثيرة، فإنّ ذلك لا يجوز، ولو أسقط الشّرط، بخلاف غير هذا من بياعات الشّروط. وقرّر أنّ إسقاط الشّرط ها هنا إمضاء البيع، وقد كان له فسخه وإمضاؤه بحكم مقتضى شرط الخيار البعيد ميقاته. وإسقاط الشّرط ها هنا لا تتحقّق صورته كما يتحقّق ذلك في إسقاط السلف المشترط، فإنّ إسقاطه نقيض اشتراطه. والمناقضة والمضادّة لا يمكن معها تخيّل كون الضّدّين شيئًا واحدًا. وإسقاط ما زاد على أيّام الخيار ليصحّ العقد لا يتصوّر، بينه وبين إمضاء العقد للخيار المشترط، فرقٌ. فلهذ عنده لم يؤثّر إسقاطه في تصحيح البيع. وهذه الطّريقة الّتي أشار إليها، وإن كانت خفيّة، فإنّها قد تلاحظ ما كنّا قدّمناه في كتاب السلم الثّاني فيمن أسلم في طعام سلمًا فاسدًا، ثمّ فسخ العقد وأراد المتعاقدان بعد العقد أن يتعوّضا عن رأس المال بمثل ذلك الطّعام الّذي وجب الفسخ فيه. فقد كنّا حكينا أنّ أحد القولين أنّهما لا يمكّنان من ذلك، لأنّهما يتّهمان في هذا الفعل على تتميم الفساد الّذي فسخ العقد فيه. وقيل: إنّ ذلك جائز. وإذا كان إسقاط ما زاد من أيّام الخيار على القدر الجائز يتضمّن إمضاء البيع واختيار انعقاده، فيحسن سلوك هذه الطّريقة. وأمّا إذا قال المشتري في أوّل يوم: أنا أسقط الزّائد من هذه الأيّام على ما يجوز، وأبقَى على خياري في إمضاء العقد أو ردّه. فإنّ هذا قد ظهر له تأثير خلاف مقتضى ما يتّهمان عليه من كون إسقاط الشّرط لتصحيح البيع قصدا به التزام البيع بحكم موجب الخيار المشترط. وهذا مِمّا يتردّد النّظر فيه على طريقة القاضي أبي محمّد عبد الوهاب إن شاء الله. وأشار شيخنا أبو الحسن اللّخمي، رحمه الله، إلى تخريج فسخ هذا البيع

لأجل هذا الخيار، على ما تقدّم بيانه من الخلاف في بياعات الآجال، لأجل التّهمة على التحيّل على ضمان بعوض، على حسب ما قدّمنا عن أشهب. فلمّا اجتمعا عنده في أنّ المنع للتّهمة، وجب أن يجتمعا في حكم الفسخ. وهذا الّذي قاله، رحمه الله، لا يصحّ على طريقة من حكينا عنه، فيما تقدّم، أنّ الأجل البعيد إنّما منع في بيع الخيار لما تضمّنه (¬1) الغرر. لأنّ الفسخ لأجل الغرر ليس لأجل التّهمة، بل لورود الشّرع بالمنع منه. وكذلك على طريقة من علّل بأنّ علّة المنع كون الخيار المشترط كالمناقض لمقتضى العقد وكان الأصل منعه وقد قال الشّافعي، رضي الله عنه، لولا ورود الخبر بجواز الخيار ثلاثًا ما أجزنا من الخيار ما قلّ من أيّامه أو كثر. وأمّا طريقة أشهب في التّعليل بالتّهمة، فيمكن أن يكون ذكر هذه العلّة، وهو ملتفت إلى غيرها من العلل الّتي قدّمناها، فيجب عنده الفسخ، خلاف بياعات الآجال الّتي لا تعلّل بأكثر من التّهمة. وقد تقدّمت الإشارة إلى سبب اقتصار أبي حنيفة والشّافعي على كون الخيار ثلاثًا، لحديث المصراة، الّذي ذكره، لكون الثّلاث في حكم القليل، والقليل من الغرر يعفى عنه بخلاف الكثير. وأمّا مالك رضي الله عنه، فإنّه يرى أنّه لم يرد خبر بالمنع من اشتراط الزّيادة على ثلاثة أيّام، وحديث المصراة ليس بنصّ في المنع من الزّيادة على ثلاثة أيّام، ولا الخيار المذكور فيه مشترط في أصل البيع، وإنّما علّته ما سننبّه عليه في كلامنا على التّصرية، إن شاء الله تعالى. وإذا لم يثبت عنده دليل بالمنع، وكان أصل الخيار إنّما أجيز لأجل الحاجة إليه، وجب أن يكون يجوز أن يضرب من الأجل بقدر ما يحتاج إليه من أجناس المبيعات. ومعلوم من جهة العادة أنّ الأجل في ذلك لا يتساوى، وإمكان مقتضى الأصل أن يباح منه كلّ ما دعت الحاجة إليه، والحاجة إليه تختلف باختلاف الأجناس. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تضمنه من.

وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "المسلمون على شروطهم" (¬1). فأمّا الثّوب، فإنّه يضرب فيه اليوم واليومان، والعبد الخمسة أيّام والسبعة. والدّابّة اليوم، أو البريد إن كان غرضه باشتراط الخيار اختبار سيرها. والدّار الشهر ونحوه. وهذا هو المشهور من المذهب. وقد قيل: في اختبار سير الدّابّة بريدان. وقيل: في العبد شهران. وهذا كلّه لا ضابط له من ناحية النّصوص أو الظواهر، وإنّما يَضبطه مقتضى العادات في الاختبارات لِمَا شرط فيه الخيار. والخلاف الّذي ذكرناه عن المذهب في هذا التّحديد اختلاف في شهادة بعادة. فإذا تقرّر حكم الخيار المطلق والمحدود بوقت معيّن، فإنّه لو وقع مشارًا فيه إلى التّأييد، كقول البائع للمشتري: لك متى شئت، فإنّ هذا مِمّا اختلف النّاس فيه. فذهب الشّافعي إلى فساد هذا البيع، لأجل كون الشّرط قد زاد على الثّلاث. وذُكر عن أبي حنيفة أنّه أفسد البيع والشّرط أيضًا. وقد يقتضي ما حكيناه عنه في اشتراط الزّيادة على الثّلاث أنّ المشتري إذا أسقط ها هنا ما جعل إليه من المشيئة على التّأييد، واقتصر على الثّلاث قبل تقضّيها، أنّ البيع يصحّ ويذهب فساده. وذهب ابن شبرمة إلى أنّ البيع والشرط صحيح. وذهب ابن أبي ليلى إلى أنّ البيع صحيح والشّرط باطل. وقد حكى عبد الصمد ابن عبد الوارث أنّه دخل الكوفة (¬2)، فأتى أبا حنيفة فسأله عن رجل اشترى سلعة على أنّه بالخيار متى شاء. فقال له: البيع والشّرط ¬

_ (¬1) فتح الباري: 5: 358 - مختصر المنذري 5: 214. (¬2) هكذا. ولعلها: مكة: الهداية: 7: 248 - 249 - نصب الراية 4: 11.

باطلان. وأتى ابن شبرمة فسأله عن ذلك فقال: هما صحيحان. وأتى ابن أبي ليلى فقال له: البيع صحيح والشّرط باطل. فقال: فعدت إلى أبي حنيفة فأعلمته بما قال الرّجلان. فقال: لا أدري ما قالا. نهى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن بيع وشرط (¬1). وعدت لابن شبرمة فذكرت ما قالا أيضًا. فقال: لا أدري ما قالا. قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون على شروطهم" (¬2). وأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته أيضًا فقال: لا أدري ما قالا. وذكر حديث بريرة المذكور فيه صحّة البيع وإسقاط اشتراط الولاء (2). وقد ذكر عن ابن أبي ليلى أنّه أجاز اشتراط الخيار وإن طال زمانه كالسنتين والثّلاث. وبه قال محمّد بن الحسن وأبو يوسف، وخالفا أستاذهما أبا حنيفة، فيما حكيناه عنه من فساد هذا البيع إذا لم يسقط الشّرط. وِهؤلاء يرون أنّ الإعتبار يكون الأجل محدودًا، ولا يؤثَّر كونه طويلًا، كما لا يؤثَّر في صحة البيع إلى أجل طول زمن الأجل المضروب لاستيفاء الثّمن على وجه لا يلحقه مخاطرة، على حسب ما تقدّم بيانه في البيع إلى أجل ثمانين سنة أو مائة سنة. ويدافعون عن هذا القياس بما تقدّم ذكره من كون الخيار رخصة لما فيه من الغرر، على حسب ما تقدّم بيانه، مِمّا يباح فيه الغرر اليسير الّذي تدعو الحاجة إليه، مع كون الغرض في الخيار النّظر في العين، وتحصيلَ الرّبح والفائدة، الّتي وضعت التّجارة لأجلها. وهذا الغرض حاصل في الأمر اليسير، ولا حاجة بنا إلى إباحة الكثير. والغرض من الأجل أيضًا التصرّف، وطلب الفائدة المأخوذة من الأجل، وهذا المعنى محقّق في الأجل وإن طال، مع كونه لا تحجير فيه في المبيع يخالف مقتضى العقد، وإنّما ضرب لاستحقاق المطالبة بالثّمن، واستحقاق المطالبة بالثّمن إنّما تكون بعد صحّة العقد وحصول مقتضاه. فإذا تقرّر أحكام الخيار المشترط مطلقه ومقيّده، فاعلم: ¬

_ (¬1) نصب الراية: 17. الهداية: 7: 248 - 249. (¬2) رواه أبو داود والحاكم. فيض القدير ج 6 ص 213 ح 9213.

أنّ مشترط الخيار إن عاقه عائق عن النّظر فيما اشترط الخيار من أجله، مثل أن يشترط المشتري الخيار مدّة فيجنّ أو يغمى عليه أو يفقد، فإنّه إذا عاقَه عن النظر شيء من هذه المعاني، وذهب أمد الخيار، ولحق البائع الضرر في الإنتظار، كان للقاضي أن يفسخ هذا البيع لحق البائع في إزالة الضّرر عنه. فإن أراد أن يمضي الشراء له، فأمّا فيمن جنّ جنونًا مطبقًا فإنّ له ذلك. وأمّا المغمى عليه فإنّ ابن القاسم منع من ذلك لكون الإغماء مرضًا يرجى زواله عن قريب. وإذا كان كذلك لم يمكن أن يشتري لرشيد حال بينه وبين النّظر لنفسه حائل يرجى زواله عن قرب. وأجاز أشهب ذلك قياسًا على من جنّ، وأمّا على من فقد، فإنّه يجري على هذين القولين أيضًا. وقد عورض ابن القاسم بما ذكر في المعير أرضًا لمن يبني فيها إلى أجل محدود، فحلّ الأجل والمعير غائب، فإنّه أجاز للقاضي أن يأخذ له البناء بقيمته منقوضًا. فأباح للقاضي أن يشتري له لأجل غيبته، وإن لم يبح ذلك له في المغمى عليه. وقد فُرّق بينهما بأنّ الإغماء مرض يذهب عن قرب، والغيبة تطول. وقد يقال أيضًا: إنّ النّظر، الّذي يدعو إلى الشّراء له، ما يرجى من ربح إذا أخذ له ما اشتراه على خيار. وهذا الّذي يرجى لانقطع بحصوله لجواز حوالة الأسواق أو تلف ما أخذ له. (والتّلفيق الّذي حصل في البناء كسلعة ملك الغائب أخذها، والهدم إتلاف لها, وللقاضي أن يمنع من إتلاف ملك الغائب. وهذا سنبسط الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى) (¬1). وإذا تقرّر أنّ الإغماء يمنع من الاختيار ووجب الانتظار، فهل يسقط الإعتبار بأمد الإغماء، مثل أن يشترط المشتري الخيار ثلاثًا فيغمى عليه فيفيق في اليوم الثّالث، أم لا؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين: والكلام غير واضح.

والنّظر في هذا يستند إلى هذا المصاب الطارئ، هل تكون العهدة فيه على البائع، فيستأنف المشتري إكمال الثلاث بزيادة يومين على اليوم الثّالث الّذي أفاق، كما اختاره بعض أشياخي، وقدّر أنّ هذا المانع درْكه على البائع، فيقضى عليه بالزّيادة على ما اشترط في أيّام الخيار. أو يقال: إنّ هذا مصاب طرأ على المشتري فدركه عليه، وقد فعل البائع أكثر ما عليه من التّمكين من الإختبار، فحيل بين المشتري وبين ذلك بأمر لا صنع للبائع فيه. هذا عندي مِمّا ينظر فيه. وقد حكينا عن ابن القاسم أنّ مجرّد ذهاب أيّام الخيار والمشتري الّذي اشترط الخيار مغمى عليه لا يوجب الفسخ حتّى يطول انتظار إفاقته طولًا يلحق البائعَ الضّرر منه. وهذا يشير إلى أنّه جعل الدّرك في هذا المصاب على البائع. وإن كان قد قال أشهب: إنّ القاضي يأخذ له ما دام أيّام الخيار لم تذهب. وأشار إلى أنّها إذا ذهبت لم يكن له أن يأخذ له. وقد أشار بعض أشياخي إلى أنّ هذه طريقة تخالف طريقة ابن القاسم الّتي ذكرناها، من كونه لا يرى الفسخ بمجرّد تقضّي أيّام الخيار. ويمكن أن يكون أشهب اعتبر تقضّيها في الأخذ للمغمى عليه لمّا كان جواز الأخذ له مختلفًا فيه بينه وبين ابن القاسم، لكونه استئناف شراء. وأمّا الفسخ فإنّه من حقّ القاضي، فلا يعتبر فيه ذهاب أيّام الخيار. لكون الفسخ مِمّا اتّفق ابن القاسم وأشهب عليه ورأياه مِمّا يجوز للقاضي فعله. وأمّا إن كان العائق الّذي منع من الإختبار مِمّا يتأبّد كموت المشتري بالخيار أو البائع بالخيار، فإنّ هذا مِمّا اختلف فيه: فذهب مالك والشّافعي إلى أنّ هذا يورث عن الميّت لمّا كان هذا الخيار المشترط متعلّقًا بالمال ومن الحقوق الماليّة، فيجب أن يورث كما يورث المال نفسه. وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يورث, لأنّ الّذي ملك مشترط الخيار مشيئة

وإرادة، بالإرادة (¬1) تعدم بموته، ويستحيل وجودها مع كونه ميّتًا، وقد علق إمضاء البيع عليها. وهذا الّذي علّق إمضاء البيع عليه يستحيل وجوده في الميّت، فإذا استحال ذلك استحال المبيع (¬2) الّذي علق به. واعلم أنّ الظّاهر الّذي ورد في الشّرع مِمّا يتعلّق به هؤلاء المختلفون من قوله تعالى في آية المواريث {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} (¬3) الآية. وكذلك قوله تعالى {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ} (¬4) وكذلك {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} (¬5) الآية. إلى غير ذلك مِمّا ذكر في الفروض. فيرى مالك والشّافعي أنّ هذا مِمّا تركه الميّت، فوجب أن يورث عنه كسائر أمواله. ويرى أبو حنيفة أنّه لم يملك سوى مشيئة وإرادة متعلّقة بهذا المبيع. فلا يقال: إنّ هذا مِمّا ترك, لأنّها لم يتركها، فوجب أن لا يدخل في هذا الظّاهر. وقد قال في الحديث أيضًا: "من ترك مالًا أو حقًّا فلورثته" (¬6). فالنّزاع أيضًا في كون هذا الحقّ مِمّا ترك. واعتمد أصحابنا وأصحاب الشّافعي على القياس على الرّدّ بالعيب، فإنّ المشتري يملك الخيار بين أن يردّ بالعيب أو يتمسك بالمبيع المعيب، فإذا مات ورث هذا الخيار عنه ورثته وحلّوا محلّه. فكذلك يجب أن يكون الخيار في الشفعة، والخيار في قبول الوصيّة بمال ينتقل فيه الخيار إلى الوارث. وأصحاب أبي حنيفة يمنعون من قياس هذه المسائل على الخيار لأجل العيب. لأنّ الخيار في العيب إنّما ثبت للمشتري للنّقص الّذي اطّلع عليه في المبيع, لأنّه اشترى أجزاءًا فأمسِك له منها جُزء، وهذا الّذي أُمسِك له حصّة من الثّمن، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والإرادة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: البيع. (¬3) سورة النساء: 11. (¬4) سورة النساء: 11. (¬5) سورة النساء: 12. (¬6) فتح الباري ج 15 ص 10 مختصر المنذري ج 5 ص 17.

وقد أُمسِك عوض هذه الحصّة، فوجب للمشتري المطالبة بثمن ما أُمسِك له، فإذا مات قبل المطالبة فإنّما مات عن مال، وهو الّذي يقابل هذا الجزء النّاقص، ومن مات عن مال ورث عنه، وفي البيع بالخيار والشّفعة والوصيّة لم يمت عن مال ثبت له، فلهذا لم يورث عنه. وكذلك أصحاب أبي حنيفة يعتمدون أيضًا على قياس، فيقولون: إنّ الثّمن إذا كان مؤجّلًا على المشتري، فإنّ الملك من توابع العقد، كما أنّ الخيار من توابع العقد، فإذا مات من اشترى بثمن إلى أجل، حلّ الثّمن عليه، ولم يرث ذلك عنه ورثته فيؤجّل عليهم، فكذلك الخيار لا يورث أيضًا. ويجيب أصحابنا عن هذا بأنّ الثّمن المؤجّل إنّما أوجب حلولَه كونُ المشتري إنّما عامل ذمّة، فلا يلزمه التنقّل إلى ذمّة أخرى لم يعاملها، مع كون الله سبحانه قدّم قضاء الدّين على الميراث، فلا يصحّ أن يمكّن الورثة من وراثة هذا المال، وعلى الميّت دين، وإذا لم يمكّنوا من ذلك فلا فائدة في إيقافه وجب (¬1) حلوله، واستعجل لهم ميراث ما فضُل عن الدّين. فإذا تقرّر هذا وأنّ الخيار يورث، فإنّ المشتري بالخيار إذا مات وخلّى وارثأواحدًا يرث المال كلّه، فإنّه يحلّ محلّه، فيخيّر بين قبول المبيع كلّه أو ردّه كلّه. فإن ترك ورثة فاتّفقوا على ردّ أو قبول، كان ذلك من حقّهم، كما كان ذلك من حقّ من ورثوا هذا الخيار عنه. فإن اختلفوا فاختار بعضهم إمضاء الشّراء، واختار الآخرون ردّه، فإنّ من حقّ البائع من المتبايعين أن يمنع من هذا التّبعيض، وقد باعها على الكمال، وذلك ضرر به. فإن رضي بهذا التّبعيض وقبل نصيب من ردّ عليه، كان له المطالبة لمن التزم الشّراء بما ينوب نصيبه من الثّمن. ولا مقال ها هنا للملتزم الشّراء لكونه قد وصل إلى غرض، واستكمل جميع حقّه في الميراث. فإن لم يرض البائع بهذا التّبعيض كلف من اختار الإجازة أن يردّ ما في يديه حتّى يستكمل البائع جميع المبيع، لئلاّ يتبعّض عليه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لما وجب.

هذا هو القياس عند أشهب لأجل ما قلناه. والاستحسان عنده أن يمكّن من أراد الإجازة من أخذ نصيب من ردّ على البائع ويدفع للبائع الثّمن على كماله. فإذا حصل البائع على الثّمن كاملًا، فقد ارتفعت العلّة التّي شكاها بإزالة التّبعيض عنه. هذا هو الاستحسان. ولكنّ القياس ما قدّمناه من كون البائع لمّا ردّ عليه الممتنع من الإجازة لشراء نصيبه، عاد ذلك إلى ملكه على حسب ما كان. فلا يلزمه أن يبيعه إلاّ مِمّن اختار. وهذا التّفصيل يجري في موت البائع، وللبائع ورثة اختلفوا فيما كان للبائع من الخيار، فقال بعضهم: نردّ بيع البائع. وقال آخرون: بل نجيزه ونمضيه. فإنّ المشتري لا يلزمه نصيب من أجاز لأجل التّبعيض، كما لا يلزمه ذلك لو أراد منه البائع الّذي عامله، فكذلك ورثته الحالّون محلّه. وإن أراد قبول هذا التّبعيض وإسقاط حقّه فيه كان ذلك له. ولا يفترق ها هنا حكم القياس والاستحسان في أنّ من ردّ من الورثة لا يأخذ نصيب من أجاز، لكون نصيبه بقي في يديه بحكم الميراث لمّا عاد لملك الميّت على حسب ما كان، فكأنّه لم يقع من الميّت عقد، فليس له أن يأخذ نصيب أخيه الّذي أجاز، فلم يقبل المشتري بغير اختيار أخيه. كمن عَرض ثوبًا على إنسان بثمن سمّاه ليشتريه، فلم يفعل، فإنّه ليس لآخر أن يشتريه منه بغير اختياره. وإذا كان الورثة كلّهم في ولاية وصيّ، كان الحكم انفراده بالقبول أو الرّدّ كوارث واحد. وإن كانا وصيّين فاختلفا ردّ السلطان أحدهما إلى الآخر قضي (¬1) بمقتضى قول من قدّم السلطان قوله وصار كوصيّ منفرد. وإن كان مع الوصيّ المنفرد ورثة رشداء، فاختلفوا معه، جرى الحكم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقضي.

مجرى وارثين اختلفا على حسب ما قدّمناه. وإن كان مع الرّشداء وصيّان اختلفا ردّ (¬1) قول الوصيّين، وأمضى قول المصيب منهما. وعاد المصيب كالوصيّ المنفرد يخالفه بقيّة الورثة الرشداء. وقد ذكر في المدوّنة الحكم في رجلين اشتريا سلعة بالخيار، واختلفا في القبول أو الرّدّ. أو اشترياها ثمّ اطّلعا على عيب، فاختلفا في الرّضا به أو الرّدّ. وهذه المسئلة فيها قولان: 1 - هل لكلّ واحد منهما حكم نفسه، ولا مقال للبائع في التّبعيض لكونه عقد البيع من رجلين، وهو يعلم أنّهما قد يختلفان فيما رأيان (¬2) من ردّ أو قبول، فيصير كالرّاضي بالتّبعيض لمّا عقد صفقة واحدة من اثنين، فأشبه لو عقد منهما صفقتين، انفرد كلّ واحد منهما بعقدة؟ 2 - أو يقدّر أنّهما كالرّجل الواحد، لمّا عقدا عقدًا واحدًا، فيمنعهما من التّبعيض؟ فإن قلنا بهذا القول عاد الحكم في اختلافهما إلى ما قدّمناه من اختلاف الورثة، على حسب التّفصيل الّذي قدّمناه. وذكر في المدوّنة مسئلة متعلّقة بوراثة الخيار، فقال في امرأة شرط لها زوجها أنّه إن تزوّج عليها أو تسرّى فأمرها بيد أمّها. فروى عن علي بن زياد (¬3) أنّ هذا متعلّق بعين الأمّ، لا ينتقل إلى غيرها بعد وفاتها, ولا يورث عنها ولا لها أن تنقل ذلك من يدها إلى يد غيرها، ومنع من ميراث هذا الخيار والتّمليك لمّا كان عنده أن القصد تعليقه بعين هذه الأمّ. وذهب ابن القاسم إلى أنّه لا يتعلّق بعين الأمّ. ولها أن توصي بذلك إذا ماتت. فإذا وصّت فلم تذكر هذا الّذي حصل بيدها من التّمليك دلّ ذلك على أنّها (أسقطت، بقي بكونه ساقطًا) (¬4) وإن لم قوس بشيء، فأضاف إلى مالك، ¬

_ (¬1) أي إلى القاضي. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: يريان. (¬3) في المدينة: فرُوي عن علي ... (¬4) هكذا في النسختين.

رضي الله عنه، أن يجعل ذلك إلى ابنتها فهْمًا فهمه عن مالك، أو نصًّا سمعه منه. والتّحقيق في هذه المسئلة الرّجوع إلى اعتبار قصد الزّوج، هل قصد جعل هذا التّمليك متعلّقًا بعين الأمّ، فإذ عُدِمت عينها عدم ما تعلّق بها. أو الغرض به التّمليك الّذي ينقله من ملكه إلى ملك غيره. ولو أرادت الأمّ أن تقضي بالفراق ومنعتها ابنتها من ذلك، فإنّه يعتبر أيضًا القصد بهذا التّمليك، هل قصد به الزّوج سرور زوجته والتّحبّب إليها، فيكون من حقّها أن تمنع أمّها من القضاء بالفراق لكون ذلك مخالفًا لقصد الزّوج فيما قصد من التّمليك، فإن لم يقصد الزّوج إلى إسناد شيء من ذلك إلى الزّوجة بل جعله من حقوق الأمّ، لم يكن لابنتها أن تمنعها من إيقاع الفراق. ولو قصد الزّوج مسرّة زوجته بهذا التّمليك وطلب رضاها، فإنّ الأمّ لو أوقعت الفراق قبل أن تنكر ابنتها عليها ذلك، لوقع الفراق ولا يردّ لأجل كون التّمليك قصد به مسرّة البنت. لأنّ الأمر وإن كان كذلك، فقد رضيت البنت بتفويض هذا الأمر إلى أمّها وجعلتها كالوكيلة لها، والوكيل للموكّل أن يعزله قبل أن ينفّذ ما وكّله عليه، وأمّا شيء أنفذه، فإنّه لا يؤثّر في ذلك عزله. وذكر في المدوّنة تأخير الورثة والغرماء لرجل حلف: ليقضينّ فلانا ما له عليه من الدّين، إلاّ أن يؤخّره، فمات من له الدّين، وأخره لمّا حلّ الأجل من يرث هذا الدّين، فإنّه يبرّ بتأخير الوارث. وهذا إنّما يصحّ على القول بمراعاة المقاصد في اليمين دون اعتبار مقتضى اللّفظ. لأنّ مقتضاه تعليق المشيئة بالتّأخير لمن سمّاه، وهو الّذي له الدّين، ووارث من له الدّين غيره، فينبغي أن لا يبرّ بتأخيره. لكنّ القصد بمثل هذه اليمين ألاّ يلدّ عن قضاء الحقّ لمن يستحقّه عليه، وارثًا كان لهذا الدّين أو لمن في معناه. ولو كان الوارث في ولاء وصي، ففي جواز تأخير الوصيّ لهذا المديان اختلاف، أجازه ابن القاسم، لكون التّأخير قد يكون فيه مصلحة للمولّى عليه لاستيلاف من يعامله. ومنعه أشهب لكونه لا

يظهر له وجه في المصلحة غالبًا، ألا ترى أنّه لو تبيّن أن ذلك سوء نظر للمولى عليه، وإتلاف لماله، لم يجز للوصيّ التأخير. فكذلك إذا كان هذا هو الغالب في العرف. ولأجل هذا الّذي أشرنا إليه من مراعاة المقاصد باليمين يبرّ الحالف بتأخير الغرماء بشرط أن يُبرِؤُوا ذمّةَ الميّت من دينهم بالتحوّل على هذا الغريم، فإنّهم إذا برّؤوا ذمّة الميّت وتحوّلوا عليه، صاروا بذلك مستحقّين لهذا الدّين، فحلّوا في هذا محلّ الوارثين. واشترط في المدوّنة شرطًا آخر، وهو كون مَالَهم من الدّين يستغرق تركة الميّت. وهذا الاشتراط دليله أنّ الدّين الّذي لهم إذا كان لا يستغرق جميع ما تركه الميّت، فإنّ الحالف لا يبِرّ بتأخير الغرماء. وقد عورض هذا، وأُشير إلى أنّه ينبغي أن يبرّ في يمينه إذا أبرأوا ذمّة الغريم الميّت، وأسقطوا الطّلب عن تركته، وتحوّلوا بدينهم على هذا الغريم. وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأنّ الدّين إذا كان يستغرق جميع تركة الميّت، سقط حقّ الوارث، وصار المستحقّ لجميع التّركة (¬1) لا الغرماء دون الوارثين. فإذا كان الغرماء إنّما يستحقّون بعض التّركة من جنس منها دون جنس لم ينفردوا بالتحكّم فيها بأن يأخذوا الدّين دون رضي الورثة، إذ لم تكن لهم فائدة في تعيين جنس دون جنس. فإذا لم ينفردوا باستحقاق الأخذ من هذا الغريم الحالف دون رضي الورثة، صاروا كرجل لا حقّ له في هذه التّركة أخّر هذا الغريم. وكذلك يجري الأمر في ميراث الغرماء مشيئةَ الميّت المشتري سلعة بالخيار. فإنّ الإعتبار في هذا يكون هذه السلعة يرجى فيها فضل إن أُجيز شراؤها. فإنّ الأمر إن كان كذلك، كان له (¬2) أخذ هذه السلعة، ولا مقال للورثة في منعهم من ذلك؛ لأنّ منعهم من ذلك يؤدّي إلى انتقاص دينهم، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف لا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لهم. أي للغرماء.

ومنعهم من استيفائه. لكنّ بعض الأشياخ قال: إنّهم لا يمكّنوا (¬1) من أخذه هذه السلعة التّي فيها فضل ربح إلاّ بشرط أن يكون الرّبح يُقضَى به دين الميّت. وإن وقعت فيه خسارة، كانت عليهم. بخلاف المفلس إذا فلس، وقد اشترى سلعة فقضى لبائعها، فإنّه أحقّ بها من غيره من الغرماء، إذا لم يكن قبض الثّمن. فإن اختار مَن سواه من الغرماء أن يدفعوا إليه الثّمن الّذي باع به السلعة ويأخذوها ليبيعوها لرجاء فضل فيها، فإنّهم يمكّنون من ذلك، وإن كانت خسارة، فعلى الميّت. وإنّما افترق حكم الخسارة في هذين السؤالين في كونها في أحدهما على الغرماء وهو فيما اشتراه بالخيار، وفي المسئلة الأخرى على الغريم المفلس، لأنّ الغريم المفلس قد اشترى على البتات، واستقرّ الثّمن في ذمّته ثبوتًا لا انفكاك له منه. وهذا الّذي اشترى سلعة بالخيار لم يثبت ثمنها في ذمّته لجواز أن يختار ردّها. فسقط عنه الثّمن. وإذا كان الأمر كذلك، صار غرماؤه كمن أثبت دينًا على الميّت لم يثبته عليه الشّرع، ولا ألزمه على كلّ حال. فلهذا كانت الخسارة عليهم ها هنا. وإذا قلنا: إنّ الغرماء ها هنا لهم أيضًا ما اشتراه الميّت بالخيار إذا كان فيه فضل، فإنّما المراد بهذا أنّ ذلك حقّ لهم لما بيّناه من فائدته لهم وللميّت. ولا يكون ذلك حقًّا عليهم لأنّهم لا يلزمهم أن يتركوا أخذ دينهم مِمّا تركه الميّت، من ناضّ أو غيره، مِمّا يأخذون دينهم منه في الحال، ويكلفون الانصراف عن هذا إلى أخذه من ثمن سلعة يتكلّفون بيعها، وربّما تستحقّ عليهم، أو تردّ بعيب. وقد وضح حكم ميراث المشيئة والاختيار وما يتعلّق به مِمّا بيّناه فاعلم. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد بيّنا، فيما تقدّم في كتاب بيوع الآجال والبيوع الفاسدة، منع سلف جرّ منفعة، وكلِّ ما أدّى إليه، كبيع وسلف، أو التردّد بين كون عوض السلعة ثمنًا أو سلفًا. ومقتضى هذا الّذي قلناه يمنع من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا يمكنون.

اشتراط النّقد في بيع الخيار، لكون من اشترى سلعة بالخيار واشترط البائع عليه أن ينقده ثمنًا، فإنّ هذا المنقود متردّد بين أن يكون ثمنًا، إن أمضى المشتري الشّراء، أو يكون سلفًا إن ردّ ما اشتراه. وهذا ممنوع اشتراطه، لكون السلف متحقّقًا. فإذا وضّح علّة المنع من هذا وأنّه يجري من جهة المعنى مجرى البيع والسلف، فإنّا كنّا قدّمنا أنّ البيع بشرط السلف فيه اختلاف: هل يصحّ البيع إذا أسقط السلف أم لا يصحّ؟ على ما تقدّم بيانه؟. وقد اضطرب المتأخّرون في هذه المسئلة الّتي نحن بصددها، هل يجري ترقب السلف مجرى تحقّقه؟ فيقال، فيمن باع بالخيار واشترط النّقد: إنّه (¬1) أسقط اشتراطه، صحّ البيع، كما يصحّ، على ما ذكره في المدوّنة، في اشتراط السلف في عقد البيع. فذكر ابن سحنون أن اشتراط النّقد في بيع الخيار لا يجوز، وهو كالبيع والسلف. وظاهر هذا يقتضي أنّ اشتراط النّقد إذا أسقط صحّ البيع على المذهب المشهور في بيع وقع بشرط السلف، وإن كان بعض الأشياخ حمل هذا على أنّ مراده بهذا التّشبيه كون السلف قد قبض، وهو إذا قبض لم يصحّ إسقاط الشّرط، على حسب ما كنّا قدّمنا ذكره وما قيل فيه. وهذا من هذا المتأوّل إشارة إلى استبعاد تصحيح البيع إذا أسقط فيه شرط النّقد، وكأنّه يقدّر أنّ الفساد ها هنا في نفس الثّمن بجملته، والفساد إذا كان من نفس الثّمن، لم ينصلح البيع بإزالة الفساد من الثّمن. كمن باع سلعة بثمن إلى أجل مجهول كموت زيد، فإنّ البيع فاسد وإن عجّل الثّمن لمّا كان الفساد في جملة نفس الثّمن، كما قدّمنا ذكر هذا في موضعه، واشتراط السلف معنى خارج عن الثّمن والمثمون، فحسن أن يصحّ العقد بإسقاط الشّرط. ومن المتأخّرين من يشير إلى تصحيح هذا البيع إذا أسقط البائع اشتراط النّقد تعلّقًا بظاهر كلام ابن سحنون. وقد نوقض هؤلاء بما وقع لابن القاسم في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة أداة الشرط [إذا] ليستقيم المعنى.

المدوّنة فيمن اشترط النّقد واطّلع على عيب قديم، وحدث عنده عيب، أنّ القيمة تجب، ولم يعتبر فيها الأكثر والأقلّ كما اعتبر ذلك في البيع بشرط. وأشار البراذعي في تمهيده إلى أنّ هذا كالمخالف لما ذكره ابن سحنون. وهكذا ذكر بعض الأندلسيين أنّ هذا بخلاف البيع بشرط السلف، فإنّ العقد لا يصحّ بإسقاط شرط النّقد في بيع الخيار. وإذا تقرّر حكم اشتراط النقد، فإنّ التطوّع به بعد العقد جائز. إلاّ أن يؤدّي ذلك إلى ممنوع وهو الوقوع في معاوضة عن دين بتأخير، ومضاهاة فسخ الدّين في الدّين. فإذا عقد سلمًا على خيار اليوم واليومين، وهو ما يجوز تحديدها في الخيار في هذا، كتحديد تأخير رأس المال السلم، فإنّه لا يجوز اشتراط تأخيره أيّامًا كثيرة, لأنّه بعد هذه الأيّام إذا أمضاه من له الخيار فيه، قدّر كأنّه لم يزل ماضيًا من حين العقد، وتأخير (¬1) رأس مال السلم فيه أيّامًا كثيرة. فإذا عقد الخيار في السلم على هذا الوجه الجائز، فإنّه لا يجوز التّطوّع بالنّقد برأس المال، لكون هذا التطوّع بالنّقد إذا أمضي عقد السلم بعد التّطوّع به، وقد كان لمن أمضاه أن يفسخ البيع، صار إمضاؤه العقد كأخذ ما أسلم فيه عن دين، وهو ما تطوّع بنقده. لكنّ بعض أشياخي لم ير المنع من هذا يقتضي فسخ العقد إذا وقع وردّ ما أمضاه من السلم، لكون هذا إنّما نقد على أن يكون في الذّمّة ثمنًا لما أمضى من السلم، فلا يحلّ هذا محلّ دين ثبت في الذّمّة غير متعلّق بالسلعة المأخوذة عنه بعد طول زمن. وعلى هذا الأسلوب يجري منع التطوّع في جارية عليّة بيعت بالمواضعة. وشرط فيها الخيار، أو سلعت غائبة اشتريت على البتّ، أو منافع اكتريت بشر الخيار، على حسب ما كنّا قدّمناه من بيان طريق ابن القاسم في منعه أخذ هذه الأشياء عن ديون مستقرّة في الذمّة. ¬

_ (¬1) كذا في النسختين. ولعل الصواب: وتأخّر.

وقد قال بعض المتأخّرين: لو تنازع المتبايعان بشرط الخيار في إيقاف الثّمن، لم يجب إيقافه. وأشار إلى أنّه لا يختلف فيه، كما اختلف في إيجاب قبول الثّمن في الأمة الّتي بيعت على المواضعة، وفي بيع السلعة الغائبة، لكون هذين عقدين منبرمين ثابتين، وثبوت العقد يقتضي ثبوت الثّمن، وما ثبت حسنت المطالبة به، وبيع الخيار، المثمون لم ينبرم العقد فيه ولا ثبت، فكذلك ثمنه لم يثبت، وما لم يثبت لا يجب إيقافه. وقد ذكر في المدوّنة فيمن اشترى سلعة على البتّ، ثمّ بعد ذلك جعل فيها الخيار للبائع، أو جعله البائع له، أنّ ذلك جائز. وأطلق الجواب. وقيّده بعض حذّاق الأشياخ بأنّ معناه أنّ الثّمن قد نقده المشتري، ولو كان لم ينقده ما جاز هذا الخيار, لأنّه إذا لم ينقده، صار الخيار في هذه السلعة يؤدّي إلى أخذ سلعة على خيار عن دين. وقد قدّمنا المنع من هذا. وأنكر هذا بعض أشياخي، ورأى أنّ هذا لا يتصوّر بمجرّد مطلقه أخذه سلعة بخيار من دين, لأنّ المعاملة الأولى كانت على البتّ، فإذا جعل المشتري بعد ذلك لمن باعها منه الخيارَ فيها، فقد صار المشتري كبائع باع سلعة من آخر على الخيار، وكأنّها سلعة ثانية لا تعلّق لها بالأولى، كما لا تعلق للعقد الثّاني الّذي عقد على الخيار بالعقد الأوّل الّذي عقد على البتّ، وإذا لم يكن له به تعلّق، وجب نقد الثّمن الّذي اقتضاه على البتّ، وبقي حكم الثّمن في العقد الثّاني الواقع بالخيار على مقتضى حكمه. وهذا الّذي قاله شيخنا هو مقتضى الحكم على مقتضى اللّفظ، والّذي ذهب إليه غيره مبنيّ على أنّ المفهوم في مثل هذا كون هذه السلعة الّتي جعل فيها الخيار إنّما جعل فيها الخيار ليؤخذ عوضها عن الثّمن المستقرّ في الذّمّة بالعقد الّذي وقع على البتّ. وإذا قصد المتعاقدان ذلك، فلا شكّ أنّه يمنع كما يمنع أخذ سلعة بشرط الخيار عوضًا عن دين مستقرّ في الذّمّة. وأجاز في المدوّنة في هذه المسئلة أن يجعل المشتري الخيار للبائع أو

يجعل البائع الخيار للمشتري، بمعنى أنّه أراد أن يجبر المشتري في أن يلزمه شراء ما كان باعه بالأمس منه إن شاء ذلك، وإن شاء لم يلزمه. ولو هلكت هذه السلعة في أيّام الخيار والمشتري هو الّذي جعل الخيار للبائع، لكان ضمانها من المشتري, لأنّه كان بالأمس مشتريًا لهذه السلعة على البتّ وهو اليوم بائع لها على خيار من اشتراها منه، وهو الّذي باعها بالأمس منه. ولو كان البائع هو الّذي جعل الخيار للمشتري، على حسب ما فسرناه، لكان ظاهر المدوّنة والمذهب أنّ الضّمان من المشتري أيضًا، لكونه كبائع باع له على الخيار. وخالف في هذا المغيرة، ورأى أنّ الضّمان ها هنا من هذا البائع الّذي خيّر المشتري، وحكَّمه في ردّ هذه السلعة إليه إن شاء، لكون هذا العقد الثّاني لمّا وقع في هذه السلعة على الخيار، وقد كان وقع فيها قبل ذلك على البتّ، صار العقد الثّاني كالملحق بالأوّل، فكأنّ العقد الأوّل وقع أيضًا، وإذا كان قد وقع أيضًا على الخيار، فالضّمان من البائع. وإنّما ذكرنا حكم الضّمان ها هنا والخلاف فيه لأنّ فيه ملاحة لما حكيناه من اختلاف شيخنا وغيره, لأنّا ذكرنا أنّ من خالف شيخنا قدّر أنّ هذا العقد الثّاني كالمقارن للعقد الأوّل على رأي المغيرة، وإذا كان كالمقارن له اقتضى هذا أيضًا أنّ معنى الخيار كون هذه السلعة الّتي عقد فيها البيع على البتّ لا ينقد ثمنها، وإنّ ما عقد فيها أخذها عوضًا عن الثّمن إذا شاء من خيّر فيها. على المذهب الآخر المعتبر كلّ عقد بحكم نفسه لا يتصوّر ما قاله شيخنا من كون العقد الأوّل يقتضي دفع الثّمن، وعقد الخيار يقرّ على حكم نفسه. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا أراد المشتري بالخيار أن يمضي البيع والّذي باع منه حاضر، فإنّه يمكّن من ذلك. وكذلك إذا أراد فسخه، ولا يلتفت في هذا إلى رضا البائع بالإجازة أو الفسخ. وهذا لا خلاف فيه لأنّه مقتضى كون العقد منبرمًا من جانب أحد المتعاقدين، ومخيّرًا فيه من جهة أخرى.

ولو جعلنا الخيار أيضًا للبائع في ممانعة المشتري على الخيار مِمّا أراد لكان نقضًا لما قرّرناه من مقتضى العقد. فإذا أراد المشتري أن يمضي العقد والبائع غائب، فإنّ ذلك له. وإن أراد أن يفسخه فاختلف النّاس في ذلك. فذهب مالك والشّافعي وأبو يوسف إلى أنّ ذلك له. ومذهب أبي حنيفة ومحمّد ابن الحسن إلى أنّه لا يمكن من ذلك. وأشار ابن القصّار إلى أنّ مذهب أبي حنيفة مِمّا يحتمله مذهبنا. وذكر أنّ مالكًا اختلف قوله في جواز تصرّف المشتري في السلعة إذا اختار إمضاء الشّراء، فمنعه مرّة حتّى يعلم البائع، وأجازه مرّة أخرى إذا أشهد. وهذا الّذي قاله إنّما يتّضح إذا تكلّمنا على أحكام تصرّف المشتري بالخيار. وهذا الّذي ذكره مِمّا يفتقر إلى بسط. لأنّ إجازة المشتري لا تفتقر إلى حضور البائع. وإنّما الخلاف الّذي حكيناه عن فقهاء الأمصار في اشتراط حضور البائع في الفسخ، قياسًا عندهم على العُنّة الّتي توجب فسخ النّكاح إذا طلبت ذلك المرأة، ولا يصحّ الفسخ إلاّ بحكم. وقد اعتمد من نصر مذهبنا ومذهب الشّافعي في أنّ الفسخ يصحّ وإن لم يحضر البائع، يكون الإجازة تصحّ وإن لم يحضر، وكذلك الفسخ، لا سيما إذا قلنا إنّ الخيار إنّما هو موضوع للإجازة عندنا لا للفسخ، كما قاله أبو حنيفة والشّافعي. وإذا كان إنّما وضع للإجازة فإنّ التّقدير أَلاَّ عقد بينهما فيفتقر فيه إلى حضور البائع. وأيضًا فإنّ البائع إذا حضر ولم يرض، لم يلتفت إلى عدم رضاه باتّفاق، وإذا كان لا يلتفت إلى رضاه، فكذلك لا يلتفت إلى حضوره، ألا ترى أنّ الطّلاق لمّا لم يعتبر فيه رضي المرأة لم يعتبر حضورها، وهو أيضًا حلّ لعقد النّكاح. وإنّما افتقرت العنة إلى فسخ الحاكم للنّكاح لأنّها مسئلة من مسائل الإجتهاد، فلهذا افتقرت إلى قضيّة قاض. وعزلة الوكيل نفسه على القول بتمكينه من ذلك يجري على الخلاف في افتقارها إلى حضور الموكّل على حسب ما قدّمناه.

والجواب عن السؤال السابع أن يقال: إذا عقد البيع على خيار رجل ثالث غيرِ المتعاقدين، فإن ذلك جائز عند جمهور الفقهاء. وذهب ابن حنبل إلى المنع من ذلك. وذكر بعض أصحاب الشّافعي أنّ المنع هو أحد الوجهين عندهم في مذهبهم. وقد روى أصبغ عن ابن القاسم أنّه لا يحجبه اشتراط خيار الثّالث. وذكر ابن الحارث عن سحنون أنّه رأى في بعض الكتب أنّ ذلك لا يجوز وهو مفسوخ. وكأن ابن حنبل ومن وافقه قدّروا أنّ بيع الخيار رخصة لأجل ما قدّمنا ذكره من العلل، والشّرع إنّما ورد بإباحة الخيار للمتعاقدين لحاجتهما إلى ذلك، ولا حاجة بثالث غير المتعاقدين إلى إثبات الخيار له، فوجب المنع لفقد العلّة الموجبة للتّرخيص للمتعاقدين. ونحن نتعلّق بعموم قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلاّ بيع الخيار" (¬1). ولم يقيّد الخيار بل استثناه مطلقًا في كلّ أحد، فاقتضى عمومه جواز هذا إلاّ ما خرج بدليل. وأيضًا فإنّ الحاجة قد تمس إلى إسناد الخيار لرجل ثالث، لكون من أسند الخيار له من المتعاقدين غير بصير بالقيمة ولا بالمبيع، فتدعوه الضّرورة إلى إسناد هذا لغيره، كما جازت الوكالة لحاجة المالكين لمن ينوب عنهم في التصرّف في أملاكهم بالبيع والشّراء والأخذ والإعطاء. وإذا تقرّر جواز هذا على الجملة، فإنّا نشترط أن يكون هذا الثّالث، المسند هذا الخيار إليه، حاضرًا أو قريب الغيبة بحيث يستعلم ما عنده في أمد يجوز أن يجعل أجلًا لهذا المبيع على الخيار. فإذا كان بعيد الغيبة ووقف إمضاء البيع على إجازته أو ردّه، صار هذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

كبيع بخيار ضرب فيه أجل بعيد، وقد قدّمنا أنّ ذلك ممنوع، وذكرنا علّة منعه. فإذا أسند الخيار في هذا إلى ثالث، وكان هذا الإسناد من قِبَل البائع مثل أن يقول: بعتك سلعتي هذه على خيار فلان، أو على رضي فلان. أو يكون هذا الإسناد من قبل المشتري كقوله: أشتري منك على خيار فلان أو رضي فلان. فإنّ النّظر في هذا يتعلّق بوجهين: أحدهما: تقدمة إظهار معنى إليه يستند الحكم في هذه المسئلة ويعرف الصّواب منها. والثّاني: ضبط روايات المذهب في هذا. فأمّا إظهار المعنى الّذي منه نشأ النّظر في هذه المسئلة، فإنّك ينبغي لك أن تعلم أنّ كلّ واحد من المتعاقدين للبيع إذا اشترط شرطًا يسوغ له اشتراطه، وله فائدة فيه وغرض صحيح، فإنّ من حقّه المطالبة به إذا انفرد بمنفعة هذا الشّرط. وكذلك إذا شاركه في المنفعة أيضًا من عاقده في هذا البيع. وأمّا إن اشترط شرطًا ينفرد به ولا حقّ فيه لمن عاقده ولا منفعة، فإنّ هذا من حقّه أن يطالب به إن شاء. فإذا تمهّدت هذه القاعدة، قلنا بعد هذا: إذا اشترط البائع رضي فلان رجل ثالث، وكان هذا الشرط دائرًا بينه وبين صاحبه قصد باشتراطه تحصيل غرض لمشترطه وللآخر الّذي عاقده البيع، فإنّه يتّضح ها هنا وقف الأمر على رضي هذا الرّجل الثّالث. فإن أمضى البيع حكم بإمضائه، ولو كره ذلك مشترط هذا الشّرط، أو كره ذلك المعاقد الآخر الّذي لم يشترط. إلاّ أن يتّفق المتعاقدان على اطّراح ما يقول الثّالث، ويلتزما إمضاء البيع أو ردّه، فإنّه يسقط ها هنا حقّ هذا الثّالث، إلاّ أن يكون هذا أمد (¬1) مُلَّكَهُ وجعل حقًّا من حقّه، فإنّ له المطالبة بذلك وإن اتّفق المتعاقدان على مخالفة قوله. وأمّا لو قصدا كونه كالوكيل لهما، سقط اعتبار قوله إذا اتّفقا على عزله قبل أن يمضي البيع أو يردّه، فإنْ إمضاه أو ردّه قبل أن يتّفقا على عزلته، نفذ عليهما من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أمرًا.

ذلك ما قضى به وكيلهما. وإذا كان هذا الإشتراط يختصّ به مشترطه، والقصد به تحصيل غرضه، دون أن يجعل للآخر الّذي عاقده فيه حقًّا، فإنّ هذا يعتبر فيه ما قدّمناه إن كان تمليكًا، فلا بدّ من اعتبار ما عند هذا الّذي ملك هذا الحقّ، ولا يقتصر على اعتبار ما عند الّذي مَلّكه. وإن كان وكيلًا لمن اشترط هذا، جرى الأمر على ما قدّمناه من إمضاء ما قضى به من سبق بالقضيّة من موكّل أو وكيل. هذه النّكتة الّتي تعتبر ها هنا وعليها يعتمد الحذّاق. لكن وقع في الرّوايات ما يصعب معه ضبط المذهب على التّحقيق. فلهذا أكثر المتأخّرون الكلام في هذا الوجه، واختلفت طرائقهم في تأويل الرّوايات فيه. لا سيما ما وقع في المدوّنة في هذه من ألفاظ موهمة تكاد أن تشوّش الخاطر. وذلك أنّه ذكر أنّ المشتري إذا قال: أشتري على إن رَضِيَ فلان. فإنّ المشتري لا يعتمد على ما يبدو منه من إمضاء البيع أو ردّه، وإنّما يكون الإمضاء والرّدّ الموقوفين على هذا الثّالث الّذي اشترط المشتري رضاه. وذكر في البائع إذا باع على رضى فلان، فرضي البائع أو رضي فلان، فإنّ البيع نافذ. فعلق نفوذه برضى البائع المشترط هذا الشّرط إن سبق إلى ذلك، أو برضى الثّالث إن سبق إلى ذلك. وقد اعتمد جماعة من الأشياخ الحذّاق أنّ هذا منه تفرقة بين حكم البائع في هذا الاشتراط وبين حكم المشتري إذا كان هو المشترط. وإلى هذا ذهب الشّيخ أبو محمّد ابن أبي زيد ومن بعده من حذّاق المتأخّرين من القرويين وإليه ذهب ابن لبابه. وذهب غير هؤلاء إلى أنّه لم يقصد في المدوّنة إلى تفرقة بين البائع والمشتري. واعتذروا عن ظاهر هذه التّفرقة بأنّ المراد ما ذكره في المشتري كونه اشترط هذا الشّرط لكون ذلك حقًّا له في نفسه وحقًّا للبائع. وقد قدّمنا أنّ هذا

الشّرط إذا قصد به الاشتراط بين المتبايعين، لم يقض على مشترطه بحقّ الآخر فيه. فقدّر هؤلاء الجواب إنّما اختلف لاختلاف السؤالين. ومنهم أيضًا من صار في تأويل ما وقع في المدوّنة إلى طريقة أخرى. فقال: قد وقع في بعض ألفاظها: إن رضي البائع نفذ البيع. فلم يذكر ها هنا سوى رضي البائع. ولم يتكلّم على رضي هذا الثّالث إن سبق بالرّضى إلى هذا البيع. فظاهر هذا وقف الأمر على رضاه خاصّة. وهكذا يجب أن يوقف أيضًا الأمر على ردّه. فيقدّر هؤلاء أنّ هذا يشير إلى اعتبار ما يقوله المشترط دون ما يقوله هذا الثّالث. ويقتضي هذا أن يكون المشتري كذلك. ويكون هذا مطابقًا لما ذكره ابن حبيب في واضحته (من البائع والمشتري) (¬1) استويا في قصد هذا الإشتراط على من اشترطه منهما, ولا اعتبار بما يقوله الثّالث المشترط رضاه. إلى هذا ذهب ابن لبابة. ومن المتأخّرين من جعل هذا الاشتراط حقًّا مشتركًا بين البائع والمبتاع، وجعل لكلّ واحد من المتبايعين حقًّا في الإمضاء خاصّة مشترك أبي نهما. فإن اشترط البائع رضي فلان فرضي البائع إمضاء البيع وردّه هذا الثّالث، فإنّ من حقّ البائع الّذي اشترطه أن يمضي هذا البيع على المشتري وإن كرهه، ولا مقال للمشتري لأجل ردّ هذا الرّجل الثّالث له. وإن رضي الثّالث إمضاء البيع وردّه البائع، فإنّ للمشتري التمسّك بالبيع لأجل إمضاء الثّالث له لمّا تعلّق له به حقّ. وكذلك إذا اشترط هذا المشتري رضي رجل ثالث، فإنّ هذا الثّالث إن أمضى البيع وردّه المشتري، فإنّ للبائع أن يطالب المشتري بإمضائه، لجرى (¬2) في المشتري على الأسلوب الّذي قدّمنا في البائع. ويتعلّق هؤلاء بقوله في المدوّنة: إن اشترط البائع رضي فلان فرضي البائع أو رضي فلان، نفذ البيع. فقصد اعتبار السبق على الإمضاء لا على الفسخ. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن البائع والمشتري. (¬2) هكذا ... ولعل الصواب: وجرى.

والأظهر من هذه التأويلات أنّه في المدوّنة فرّق بين البائع والمشتري. وإليه يشير القاضي أبو محمّد عبد الوهاب، وذلك أنّه ذكر أنّ البائع إذا كان هو المشترط رضي هذا الثّالث، فإنّ له مخالفة هذا الثّالث. وإن كان المشتري هو الّذي اشترط رضي هذا الثّالث، فإنّ ابن القاسم اختلف هل له مخالفة هذا الثّالث أم لا؟ فأشار إلى ارتفاع الخلاف في جنبة البائع وحصوله في جنبة المشتري. واعتُلّ بالمساواة بينهما، في كون كل واحد منهما له مخالفة هذا الثّالث، بأنّ هذا الثّالث فرع عنهما, ولا يمكن أن يثبت الحقّ للفرع ولا يثبت للأصل. واعتلّ للتّفرقة بأنّ البائع أقوى سببًا من المشتري لكون الملك ثابتًا له، فلا يكون غيره أكثر تحكّمًا في ملكه الثّابت منه هو في نفسه. والمشتري لا ملك له على المبيع، وعقده لأجل الخيار محلول، ولا يملك التحكّم في هذا وهو لم يستقرّ ملكه عليه دون من اشترط رضاه. وقد أشار بعض الأشياخ إلى فرق آخر، فقال: إنّ المشتري إذا اشترط رضي فلان، فإنّه يمكن أن يكون اشترى له شراء وكالة. وإذا اشترى له شراء وكالة على أنّ الخيار له، فإنّه لا يختلف في أنّه لا يتحكّم في هذا دون من اشترى له هذه السلعة على الخيار. وإذا كان فعله محتملًا لوجه يتّضح أنّه لا ينفرد فيه بالخيار، حمل على كونه لا ينفرد بالخيار على الإطلاق. والبائع لا يتصوّر هذا فيه غالبًا لأنّ السلعة في يديه، واليد دليل الملك، والإنسان إذا باع ملك نفسه، فلا يقال: إنّه باع ذلك لغيره. فأنت ترى كثرة هذا الإضطراب في ضبط المذهب. وإنّما ذكرناه حتّى يتحقّق عندك ما قدّمناه من كون المذهب قد يعسر ضبطه في هذه المسئلة على التّحقيق. ولو لم يجعل للثّالثّ إلاّ المشورة، فإنّ الظّاهر من المذهب أنّ هذا الإشتراط لا يلزم مشترطه لإشعار المشاورة بجواز المخالفة. بخلاف أن يشترط رضاه أو خياره.

ونقل الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد أنّ ابن مزين حكى عن ابن نافع أنّه يرى لفظ المشورة كلفظ الخيار والرّضا. وتعقّب عليه هذا النّقل بأنّ الّذي ذكر ابن مزين عن ابن نافع أنّه باع على مشورة فلان، على أنّ فلانا إن أمضى البيع بينهما، وهذا يقتضي وقف البيع على اختيار فلان، بخلاف اشتراط المشورة لفظًا مطلقًا غير مقيّد بما ذكرناه. وقد قال الشيخ أبو سعيد بن أخي هشام: لو مات الثّالث المشترط له الخيار لا يفسخ البيع، لكونه موقوفًا على رضي رجل يستحيل بعد موته أن يعلم رضاه. وهذا الّذي قاله إنّما يتخرّج على أحد الطرق الّتي قدّمنا، وهي كون الحكم يقتضي قصد الإمضاء والإجازة على اختيار هذا الثّالث. وقال بعض الأشياخ: لو وكّل رجل رجلًا على أن يشتري له فاشترى له الوكيل على خيار آخر - لم يجز ذلك لأنّه كوكالة منه، وليس للوكيل أن يوكّل. والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال: إذا أمر رجل رجلًا أن يشتري له سلعة على البتّ فاشتراها، واشترط على بائعها أن يريها لغيره، فضاعت بيد هذا المأمور. فإنّ مالكا ذكر في الموازيّة أنّ الضّمان من الأمر (¬1). وقدّر أنّه لو اشتراها على البتّ على حسب ما أمره من وكّله، لكان ضمانها من الآمر. فإذا اشترط للآمر الخيار فما زاده إلاّ خيرًا. وذهب ابن الموّاز إلى كون الرّسول متعدّيًا، يكون ضمانها منه لمخالفة أمر الآمر. إلاّ أن يكون بيّن للبائع أنّ فلانا بعثه ليشتري له ما اشتراه، فإنّه يسقط الضّمان عن هذا الرّسول ويكون ضمانها من بائعها. وهذا الإختلاف الّذي وقع بين مالك وابن الموّاز قد ينصرف إلى أنّ اشتراط الخيار يفتقر فيه إلى زيادة في الثّمن، فيكون هذا تعدّيًا على الآمر لكونه لو لم يشترط الخيار لاشتراها بأقلّ مِمّا اشتراها به، أو يكون لا زيادة في الثّمن لأجل الخيار، فيكون الحكم ما قاله مالك لا سيما على طريقة من رأى أنّ اشتراط ما لا يفيد لا يقضى به. ¬

_ (¬1) هكذا ... ولعل الصواب: الآمر.

وقد عورض ابن الموّاز في قوله: إنّ الضّمان من البائع، إذا أعلمه المشتري بأنّه وكيل، لأجل أنّ إعلامه بأنّه وكيل لا يسقط تباعة البائع عنه، إلاّ أن يصرّح بأنّه رسول لا تباعة عليه. فيقول: أرْسَلني فلان إليك لتبيع منه. وقد جرى بالقيروان قديمًا سؤال يتعلّق بهذا ذكره عمرون في كتابه وغيره. وهو أنّ السماسرة إذا طاف أحدهم بالسوق وقد أمره رجل بأن يشتري له سلعة، فقال: من عنده كذا؟ سلعةً سمّاها. فاستدعاه أحد التّجار فأعطاه ما طلب، فضاع في يد السمسار. فقيل: إنّ ضمانه من الّذي أرسله لأنّه وكيل له وليس بوكيل لدافع السلعة إليه. والفقه في هذا يتّضح إذا اتّضح من هو وكيل له. والّذي يتحقّق أنّه وكيل له، يكون الضّياع منه. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: الخيار يقتضي كون من هو له الإجازة أو الرّدّ. وذلك يكون منه بالنّطق والنّص على أحد الوجهين. فإن كان منه الأمر كذلك، فلا خفاء بأنّه يقضى بمقتضى ما اختار. أو يكون ما يدلّ منه على أحد الأمرين، وذلك على وجهين ترك وفعل. فأمّا التّرك فمثل أن تذهب أيّام الخيار والمدّة الّتي جعلا الخيار إليها، فلا يكون مِمّن له الخيار نطق ولا إحداث فعل، فإنّه قد يستدلّ بتركه على قصده: فإن كان الخيار للبائع والسلعة في يده، كان مضيّ أمد الخيار دليلًا على أنّه اختار الفسخ. إذ لو اختار الإجازة لاستدعى المشتري لقبضها وصرفها إليه، أو أشهد بالإجازة. وإن كانت في يد المشتري، كان ترك ارتجاعها واستدعاءِ البائع ردّها دليلًا على أنّه اختار الإجازة للبيع. وإن كانت السلعة بيد المشتري والخيار له، فإن إبقاءها في يديه دليل على اختياره الإجازة، كما أنّ إبقاءه لها في يد من باعها دليل على أنّه اختار الفسخ وجملة الأمر أنّ السلعة تبقى لمن هي في يديه، على مقتضى ما ذكرناه. فأمّا إن أحدث المشترط للخيار فعلًا، فالّذي ينبغي أن يَعتمد عليه من أراد معرفة وجوه الرّوايات في هذا، والتّحقيقَ في الفتوى في هذا الّذي يحدث،

أن ينظر إلى الفعل الّذي أحدثه مشترط الخيار. فإن وجده في العادة لا يقع إلاّ وهو دالّ على الإجازة أجزت. وإن كان دالاّ على الفسخ فسخت. وإن أشكل الأمر، لم يسقط حق من له الخيار بالتّجويز والاحتمال، ويبقى على حقّه، وينظر في الإستظهار عليه باليمين، على حسب ما ننبّهك عليه. وهكذا ينبغي أن يسلك فيما وقع من الاضطراب والاختلاف فيما يدلّ على سقوط القيام بالعيب أو القيام بالشّفعة. وسننبّه على هذين الفصلين في موضعهما إن شاء الله تعالى. فمن الأفعال الّتي يحدثها من له الخيار الإعتاق، والكتابة، والاستيلاد على أنّه أمضى الشّراء، ومن البائع، إذا كان الخيار له، على أنّه فسخ العقد. وإنّما كان الأمر كذلك لما قدّمناه من كون هذه المعاني إنّما يفعلها المالك، فإذا فعلها فيما لم يتقرّر ملكه عليه (تقرّرًا لا خيار فيه) (¬1)، فإنّها تدلّ على رضاه بالملك لما فعل ذلك (منه) (1). ولو كان الخيار للمتبايعين جميعًا، فوقعت هذه الأفعال من أحدهما، لدلّت أيضًا على قصد الفاعل حسب دلالتها على قصده لو انفرد باشتراط الخيار. لكن مِمّا يشكل إذا عُرض على هذا الأصل لو أنّ رجلًا اشترى أمة بعبد، على أنّ الخيار له، فأعتقهما معًا في لفظ واحد، فإنّ الإشكال قد يعرض ها هنا إذا عرضت هذه المسئلة على الأصل الّذي قدّمناه، من جهة أنّا قلنا: إنّ العتق علم على الرّضى بالتمسّك بإمضاء العقد. وهذا المشتري له الخيار فيما باعه، وهو العبد، وله الخيار فيما اشتراه، وهي الأمة. فإذا أعتق عبده قدر ذلك رضىً منه؛ بفسخ البيع فيتمّ عتقه فيه. وإذا أعتق الأمة الّتي اشتراها قدّر ذلك رضي منه بقبولها وإمضاء الشّراء لها، فيتمّ عتقها. وتقديرنا أنّه إمضاء الشّراء فيها يتضمّن أنّه سلم الملك في العبد لمن باعه منه، وتسليمه لذلك يمنع من نفوذ عتقه، ونفوذ عتقه يدلّ على فسخه للعقد، وذلك يمنع من نفوذ عتقه في الأمة. فمن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف ما بين الأقواس.

أجل هذا التّدافع في الدّلالة على القصود (¬1) إذا عرض على ما قلناه يقع الإشكال. لكن بعض أشياخي مال إلى إنفاذ عتقه في عبده، لكونه قد علم أنّ أصل الملك له، وهذا الّذي علم من كون الملك له في الأصل يقتضي إنفاذ عتقه، ولا يرد مقتضى هذا الأصل بأمر محتمل ومشكل، ويقدّر أنّه لمّا أعتق الأمة، صار بعتقها ملتزمًا بتسليم ملك عبده لسيّدها، فإذا أعتق العبد، صار كمن أراد أن يملك الأمة بغير عوض، وهذا لا سبيل إليه. وهذه المسئلة ينظر فيها، ينفذ عتق العبد لأجل هذا الّذي وقع فيه من تدافع الأحكام، فيغلَّب إيقاع العتق لحرمته، على ردّه. كما قيل فيمن قال: إن بعتك فأنت حرّ: إنّ الأحكام تتدافع أيضًا، ولكن مع تدافعها يغلّب إيقاع العتق إن شاء الله تعالى. وتعتق الأمة لكون بائعها سلّمها إليه ومكّنه من التصرّف فيها بحكم الخيار. وهذه مسئلة تعرض أيضًا على أصْلٍ سنبسطه، إن شاء الله تعالى. وذلك أنّ بيع الخيار مِمّا اختلف النّاس فيه. وللشّافعي فيه ثلاثة أقوال، أحدها أنّ الملك ينتقل فيه بنفس العقد. والثّاني أنّه مترقّب، فإن أُجيز البيع، كشف الغيب أنّ الملك لم يزل (¬2) من حين العقد، وإن فسخ العقد، كشف الغيب أنّه باق على الملك الأوّل كما كان. والقول الثّالث أنّه إنّما ينتقل بانقطاع الخيار في عقد متقدّم. ومذهبنا نحن يتخرّج فيه اختلاف سنذكره إن شاء الله تعالى. وأبو حنيفة يرى أنّ الملك لا ينتقل إلاّ بانقطاع الخيار، إلاّ أن يكون الخيار للمشتري، فيقدّر المبيع غير مملوك للبائع لكونه قد جعل الخيار فيه لغيره، ولا مملوك للمشتري أيضًا لأنّه لم يختر الإمضاء. والشّافعيّة تفرّع هذه المسئلة على الثلاثة مذاهب، فتقول: إن قلنا بأحد الأقوال الثّلاثة، فجميعها يقتضي نفوذ عتق البائع إذا كان الخيار له، لكون ¬

_ (¬1) في المدنية: المقصود. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قد زال.

الملك لم ينتقل عند من اعتبر في انتقاله انقطاع الخيار، والعتق حصل فيه قبل أن ينقطع، ولا عند من جعله مترقّبًا, لأنّ ما يترقّب من الإمضاء لم يحصل، ولا عند من جعله ينتقل بنفس العقد, لأنّ للبائع الخيار في الفسخ في العقد، وإعتاقه العبد فسخ للعقد. لكن لو كان الخيار للمشتري خاصّة، لم ينفذ عتق البائع فيه, لأنّ إمضاء عتقه إبطال لحقّ المشتري المتقدّم على العتق، فليس للبائع أن يحدث ما يبطل حقّ المشتري من إجازة الشّراء أو إمضائه (¬1). لكنّه عندنا إن ردّه المشتري عليه، نفذ عتقه فيه. وأطلق بعض الشّافعيّة القول إنّ عتق البائع لا ينفذ إذا كان الخيار للمشتري خاصّة. وإذا كان الخيار للمشتري خاصّة، نفذ عتقه فيه لأنّه استحقّ الإمضاء، والعتق علم عليه، على الأقوال الثّلاثة أيضًا. ولو كان الخيار للبائع خاصّة فأعتقه المشتري، لكان عتقه لا ينفذ إذا اختار البائع فسخ العقد. وأمّا إن اختار إمضاء العقد، فإنّه يتخرّج على القولين. فإذا قلنا: إنّ الملك إنّما ينتقل بانقطاع الخيار، لم يلزم عتق المشتري لكون عتقه لم يصادف الملك. وإن قلنا: إنّ الملك ينتقل بنفس العقد حتّى يرفعه الفسخ، فإنّه ينفذ عتق المشتري فيه. وأمّا إن اختار البائع الفسخ، فإنّا إن قلنا: إنّ الملك لا ينتقل إلاّ بانقطاع الخيار، أو قلنا: إنّ الملك مترقّب، فإن أمضى البيع فكأنّه لم يزل ملكًا للمشتري من حين العقد. وإن فسخ البيع فكأنّ العقد لم يكن. فإنّه يتّضح على هذا أنّ عتق المشتري غير نافذ. وإن قلنا أنّه ينتقل بنفس العقد، فها هنا اختلف النّاس في التّخريج على ذلك عند الشّافعية. فذكر عن الشّافعي أنّ العتق لا ينفذ لكون الملك، وإن انتقل ¬

_ (¬1) هكذا ... ولعل الصواب: أو إبطاله.

بالعقد، فإنّه ملك غير تامّ، فإنّه لا يقع فيه العتق. وحكى ابن شريح، من أصحابه: أنّ العتق ينفذ. فكأنّ الشّافعي رأى أنّ المشتري ممنوع من التصرّف فيه بالبيع والإجارة، إذا كان الخيار للبائع خاصّة، والمالك لا يمنع من التصرّف، فدلّ أنّ ملكه غير تامّ، فاقتضى هذا ردّ العتق. ولأنّ العتق لو نفذ لمنع من حقّ تقدّم للبائع، وهو الفسخ. وليس للمشتري أن يمنعه من حقّ استحقّه البائع بالعقد وانفرد ابن شريح بهذا المذهب دون الشّافعيّة. لكنّ أبا حامد نصره واختاره، وأشار إلى أنّ المشتري إذا كان له الخيار وللبائع أيضًا، فاختار المشتري الإجازة، فإنّ ذلك لا يمنع من الفسخ الّذي يستحقّه، لكون الخيار له، فكذلك يجب في العتق ألاّ يمنع البائع من حقّه في الفسخ، لكون العتق علمًا على الإجازة. فإذا كان نفس الإجازة تمنع البائع من الفسخ، فكذلك ما هو يحلّ محلّ الإجازة، مع كون البائع غير ممنوع من حقّه في الفسخ، ولكنّه إذا وقع الفسخ لأجل حقّه فيه، صادف العبد، المفسوخ فيه البيعُ، حرًّا، لا يمكن ردّه. فيلزمه ردّ قيمته لتعدّيه في إفاتته على مستحقّه. ونحن قد كنّا قدّمنا الكلام على من اشترى أمة بعبد على أنّ الخيار له فأعتقهما معًا، وترجّحنا (¬1) في المسئلة، وحاولنا تخريج خلاف فيها، وإلزامَ المشتري عتق العبد والأمة جميعًا، لكون العبد تدافع فيه حكمان ردّه وعتقه، فغلّب العتق، وهذا الّذي حكيناه عن ابن شريح فيه إشارة إلى هذا المذهب من كون بائع العبد له ارتجاعه، ولكنّه لمّا وجده معتقًا، لم يمكّن منه، واستحقّ قيمته. وأمّا وطء المشتري لها، والخيار له، فإنّه يرتفع الحدّ. ولو قلنا بأحد الأقوال الثّلاثة من أنّ بيع الخيار لا ينتقل فيه الملك للمشتري إلاّ عند إمضاء البيع؛ لأنّ وطأه وقع بشبهة، والحدود تدرأ بالشّبهات. وقد ذكر في الموازية فيمن باع أمة واحتبسها بالثّمن، ثمّ وطئها بائعها، أنّ الحدّ يدرأ عنه بالشبهة، لأجل الاختلاف في كون ضمانها منه أو من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ترجيحنا.

المشتري. ورأى أنّ هذا الإختلاف في الضّمان شبهة، مع كون الملك قد انتقل للمشتري انتقالًا محقّقًا بغير خلاف. فما اختلف فيه، هل هو باقٍ على ملك البائع أم لا؟ أَحْرَى أن يسقط فيه عن الواطىء لكونه قد ملك (¬1) من وطئه، على أحد الأقوال. وهكذا حكى أبو الفرج عن مالك فيمن اشترى أمة بالخيار له، فوطئها البائع، أنّه لا حدّ عليه. ولو حملت من وطء البائع الّذي وطئها، والخيار للمشتري خاصّة، أو من وطء البائع المحتبس لها بالثّمن، لجرى حكمها حكم الأمة المستحقّة إذا استولدها مشتريها. وقد أشار أبو حامد الإسفراييني إلى ارتفاع الخلاف في الحدّ، على الأقوال الثّلاثة في الملك في بيع الخيار، وأجرى الخلاف في الولد على حسب مقتضاها، على الطّريقة التي أريناك من تخريج الخلاف في العتق عليها. وأمّا لو وطئها المشتري والخيار له خاصّة، فإنّه لا خلاف عندنا في أنّ ذلك رضي منه، كما قلناه في إعتاقه لها. وبين أصحاب الشّافعي اختلاف في كون الوطء الواقع من المشتري رضىً بإجازة البيع أم لا؟ فذهب أبو سعيد منهم إلى أنّه رضىً منه كالعتق. وذهب أبو إسحاق إلى أنّه ليس برضى بخلاف العتق. وفرّق بينهما بأنّ الموطوءة يمكن ردّها إلى الملك، والمعتقة لا يمكن ردّها إلى الملك، فلا يعدّ وطء مشتريها بالخيار رضىً بالبيع. ونحن كنّا قدّمنا أنّ المعتمد على ما تقتضي العوائد كونه علَما على الإجازة أو الفسخ وسَواء في ذلك البائع أو المشتري. وأصحاب الشّافعي متّفقون على تسليم هذا لنا في جنبة البائع ومختلفون في المشتري. فمنهم من أجراه مجرى البائع على حسب ما صرنا نحن إليه. ومنهم من يجريه مجراه إلاّ فيما لا يمكن ردّه إلى الملك كالمعتق. وإمّا ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب مكن.

يمكن (¬1) ردّه إلى الملك فإنّه لا يكون رضي كالوطء والبيع. واعلم أنّ المذهب عندنا على قولين في البيع إذا وقع من المشتري بالخيار، هل يعدّ ذلك رضي منه بالإجازة، أو لا يعدّ ذلك منه رضي بالإجازة؟ كما حكاه في المدوّنة عن ابن زياد عن مالك: أنّه لا يبيع حتّى يختار. فإن باع فإنّ البائع بالخيار في أن يردّ بيعه أو يجيزه ويأخذ الثّمن الّذي باع به المشتري. وأنكر سحنون تخيير البائع المذكور في هذه الرّواية، وإنّما سلم منها كون الرّبح الّذي يحصل للمشتري يستحقّه البائع. ولم يسلّم تمكينَه من فسخ البيع إذا أقرّ أنّه باع قبل أن يختار. وأمّا إن زعم أنّه لم يبع إلاّ بعد أن اختار، فإنّ القول قوله مع يمينه ويكون الرّبح له. واعتلّ ابن الموّاز في منع المشتري من الرّبح بأنّ تمكين المشتري منه منهيّ عنه للحديث الوارد بالنهي عن ربح ما لم يضمن (¬2). وقد ذكرنا عن أصحاب الشافعي أنّ عندهم قولين في بيع المشتري بالخيار، هل يكون رضي بالإجازة أم لا؟ كما حكينا الخلاف فيه أيضًا عن مذهبنا؟ وقد يهجس في النفّس أنّ الخلاف إنّما وقع عندنا في البيع، هل يكون رضي أم لا؟ لكون المبيع بالخيار مِمّا يمكن ردّه بعد أن يباع، على حسب ما حكيناه عن بعضهم في تعليله المنع من كون الوطء رضي بخلاف العتق. وسلوك هذه الطّريقة تقتضي أن يكون عندنا اختلاف أيضًا في وطء المشتري. لكن العذر عن هذا عندي أنّ وطء المشتري لها يوجب المنع من ردّها على بائعها حتّى يستبرىء. فقد صار المشتري أحدث ما منع من ردّها، فأشبه ذلك العتق المتّفق على أنّه رضىً لكونه مانعًا من الرّدّ. وإن كان العتق يمنع من الرّدّ منعًا مؤبّدًا، والوطء يمنع منه منعًا مؤقّتًا، وقد يكون مؤبّدًا إن حملت من الوطء. وهذا المنع يوجب غرامة ما منع المتعدّي من تمكين مالكه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وأمّا ما يمكن. (¬2) الطبراني عن حكيم بن حزام فيض القدير ج 6 ح 9480.

كما أنّه أيضًا يقال في الإعتراض على الشّافعيّة: إنّهم يرون أنّ الزّوج إذا طلّق طلقة رجعيّة، فإنّ وطأه لا يكون ارتجاعًا. وهم مختلفون في وطء المشتري بالخيار، هل يكون رضي أم لا؟ فيعتذرون على أحد القولين، والوطء لا يمكن الإشهاد عليه، والله سبحانه قد أوجب الإشهاد، فاقتضى هذا أنّ ما لا يمكن الإشهاد عليه لا يكون ارتجاعًا. ووطء المشتري بالخيار لم يرد في الشّرع إباحته، مشترطًا في الإباحة الإشهاد عليه. فلهذا حسن الخلاف فيه عندهم، ولم يحسن في وطء المطلق. وممّا أيضًا يقع الاعتراض فيه ها هنا أنّ المشتري إذا اشترى عبدًا بالخيار فأزوجه، فإنّ ابن القاسم جعل هذا رضي بالإجازة للشّراء. ولم يجعله أشهب علمًا على الإجازة، إذا حلف المشتري أنّه لم يرض بالشّراء. والفرق بين المسئلتين أيضًا أنّ المشتري للأمة لمّا زوّجها. كان الحكم إذا فسخ النّكاح منع سيّدها منها حتّى تستبرىء من وطء الزّوج. والمنع من ردّها يوجب غرامة قيمتها. بخلاف العبد الّذي يردّ إلى سيّده على الفور. إلى هذا الفرق أشار أبو القاسم بن الكاتب. وهو إنّما يتصوّر إذا دخل بها الزّوج. لكنه قد يقال: وإن لم يدخل بها الزّوج، فإنّ المشتري مكّنه من الدّخول لمّا زوّجه، والتّمكين من الدّخول يتضمّن المنع من ردّها فجرى العقد عليها للنّكاح مجرى الوطء لمّا كان يتضمّن الوطء. وقد قيل: إنّ الفرق بين العبد والأمة أنّ العبد يحلّ عن نفسه بالطّلاق، والأمة لا قدرة لها على حلّ هذا العقد، فصار مشتريها أحدث مانعًا على التّأبيد. وقد قيل: إنّ نكاح العبد كاشتراء متعة له، وهذا لا يقدّر رضي بالإجازة. وإنكاح الأمة بيع لمنافع فرجها، والبيع علم على الرّضى، لا سيما مع كون نكاحها لا ينعقد إلاّ بإذن مالكها، فلمّا زوّجها المشتري. وفعل فعلًا لا يفعله إلاّ المالك، عدّ ذلك رضي منه. وعندنا قولان أيضًا في رهن المشتري بالخيار ما اشتراه أو إجارته. فعدّ

ابن القاسم ذلك رضي بالإجازة. ولم يجعله أشهب رضي بالإجازة، إذا حلف المشتري أيضًا على أنّه لم يرض. وكذلك تزويج العبد عند ابن القاسم رضي. وليس هو رضي عند أشهب بعد أن يحلف أيضًا. وكذلك اختلف ابن القاسم وأشهب أيضًا في السوم بالعبد وإسلامه للكتاب أو الصناعة. فقال ابن القاسم إنّ ذلك رضي، وقال أشهب ليس برضى. وروي عنه أنّه استحلفه على أنّ هذة الأمور الّتي ذكرناها ليست برضى، كما استحلفه فيما قدّمناه من تزويج العبد وإجارته ورهنه. وفي بعض الرّوايات عنه ما ظاهره أنّه قصر اليمين على تزويج العبد وإجارته ورهنه. وأمّا الجناية على العبد فإن كانت خطأ. فليستَ برضى. وإن كانت محمدًا فجعلها ابن القاسم, أيضًا، علمًا على القصد، يكون من المشتري رضىً بالقبول، ومن البائع رضي بالفسخ. فأمّا جناية الخطإ فواضح أنّها لا تكون علمًا على القصد, لأنّ وصفها بكونها خطأ ينافى وصفها بالقصد إلى كونها علمًا على سخْط أو رضي. لكن روي عن ابن القاسم أنّه استحلفه في الخطإ. وإنّما استظهر عليه باليمين في هذا لإمكان ألاّ يكون. وأمّا جناية العمد، فإنّ أشهب يقدّر أنّه قد (سقط عليها الغيظ) (¬1) من غير أن يخطر بالبال إمضاء المبيع أو ردّه. وقدّر ابن القاسم أنّه حين الجناية، وهو عالم أنّ ذلك لا يفعله إلاّ المالك، كالقصد إلى جعل الجناية علمًا على القصد. وإذا وقعت من المشتري جناية، أتت على نفس العبد أو عابته عيبًا مفسدًا، فإنّ ابن القاسم قال: إنّه يضمن الثّمن. وقال سحنون: إنّه يضمن القيمة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قد سلطها عليه لغيظ.

وهذا الخلاف في جناية الخطإ، أو جناية العمد، على الخلاف أنّها ليست بعلم على الرّضى. أمّا إذا قيل إنّها علم على الرّضى، فإنّ الواجب الثّمن, لأنّ المشتري إذا رضي بالقبول لزمه الثّمن وصار جانيًا على ملكه. وقد قيل: إنّ مراد ابن القاسم بإلزامه الثّمن، القيمة، كما قال سحنون. وهذا لا يقتضيه ظاهر قوله، بل اسم القيمة تدلّ على مقدار ما يساوي الشّيء المقوّم. والثمن يدلّ على ما وقع التّراضي بكونه عوضًا. وقال بعض المتأوّلين: لعلّه إنّما ألزم الثّمن لمن رضي بالقبول قبل أن يجني. وهذا تأويل فيه تعسّف. وقد اختلف المذهب عندنا فيمن استهلك سلعة وقفت على ثمن، هل يضمن الثّمن الّذي وقفت عليه أم لا؟ ولكن بعض أشياخي أنكر تخريج الخلاف في الجناية على ما اشترى بالخيار على الخلاف في مستهلك سلعة وقفت على ثمن. وأشار إلى أنّ المراد بقوله: وقفت على ثمن، ما تمالأ عليه جماعة من المشترين حتّى صار ذلك كالعاطل (¬1). وهذا الّذي أشار إليه لا يمنع أيضًا من أن يجري البائع بالخيار على ثمن سمّاه مجرى الممنوع بإتلاف المشتري ما اشتراه منه, لأنّه إذا باع السلعة بالخيار له بثمن التزمه مشتريها منه فأتلفها مشتريها منه، فإنّه قد منع البائع بإتلافه مِمّا كان من حقّ البائع أن يلزمه إيّاه. ولو كانت الجناية من البائع والخيار له وقبل البائع العبد، فلا مطالبة للمشتري عليه, لأنّه كان قادرًا على فسخ البيع ومنع المشتري من المبيع. فإذا كان الخيار للمشتري، والقتل خطأ وقع من البائع، فلا مطالبة للمشتري عليه, لأنّ المشتري لم يتقرّر له الملك فأتلفه عليه البائع فيطالب متلفه بما أتلف. لكن لو كان قتله البائع له محمدًا وقيمة العبد أكثر من الثّمن، لكان من حقّ المشتري أن يطالبه بزيادة القيمة على الثّمن، لكونه له عليه أن يوفّيه بما باعه منه، ويمكنه من قبضه. فإذا منعه من التمكّن منه والقبض، صار كالغاصب له. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة.

والغاصب يضمن ما غصب. وإن كانت الجناية من المشتري، فقد تقدّم الكلام عليها خطؤها وعمدها. وإن كانت من أجنبيّ أخذ (¬1) لها أرش، فإنّ المشهور من المذهب أنّ الأرش للبائع لكون الملك لم يتحقّق خروجه من يده، فعِوَض ما تلف منه عائد إليه. وإذا كان ضمان هذا المبيع منه، كان له نماؤه وعليه نقصانه. وذهب ابن حبيب إلى أنّ الأرش للمشتري إذا أُمضِي له البيع، بناء على ما قدّمناه من الخلاف في كون بيع الخيار معقودًا حتّى يُحَلّ بالفسخ، أو مترقَّبا، فإذا وقعت الإجازة قُدِّر كأنّ العقد لم يزل مجازًا من وقت التّراضي. ولكنّ هذا التّخريج يقتضي أنّ العبد إذا مات في أيّام الخيار فأجيز البيع بعد موته فإنّ ضمان العبد من المشتري، لأنّه يقدر أيضًا كأنه مات بعد حصول انعقادِ منبرمٍ. ولكن هذا لم يذكره ابن حبيب ولا صار إليه، وكأنّه قدّر أنّ هذا الإختلاف في كون بيع الخيار منعقدًا أو غير منعقد أو مترقّبًا إنّما يتصوّر مع بقاء عين المبيع ووجود الغرض فيه، فإذا صار عدَمًا لم يكن هناك شيء يخيّر فيه. ولعلّ ابن القاسم سلك هذا المعنى في قوله: إنّ أرش الجناية للبائع؛ لأنّها أيضًا ثمن عضو قد عُدِم. وعلى مقتضى هذا قال الأشياخ: لو كان الخيار للمشتري وجنى جناية خطأً ثمّ قَبِل المشتري، فإن أرش الجناية للبائع، ويكون المشتري كأجنبيّ في هذا، لما قدّمناه من التّعليل. هكذا نصّ عليه ابن الكاتب وغيره من الأشياخ. هذا حكم الجناية على العبد في أيّام الخيار. وأمّا لو كان العبد المبيع بالخيار هو الجاني، فإنّ لسيّده أن يُسلِمه. فإن أسلمه والخيار له، عدّ ذلك ردًّا للمبيع. وإن افتداه عاد العبد إلى ما كان عليه من الخيار لبائعه في أن يمضي البيع على المشتري أو يفسخه. لكنّه إن كانت الجناية عمدًا صار ذلك عيبًا في العبد المبيع، وللمشتري أن يمتنع من القبول لحدوث هذا العيب. ¬

_ (¬1) هكذا ... ولعل ... : وأُخذ.

وأمّا إن كان الخيار للمشتري وافتداه سيّده، فإنّ المشتري باقٍ على خياره في أن يقبل العبد أو يردّه، كحكم ما قدّمناه في العيوب الحادثة في أيام الخيار. وإن أسلمه سيّده، والثّمن أكثر من قيمة الجناية، فإنّ للمشتري أن يدفع الثّمن فيأخذ منه المجنيّ عليه قيمة جنايته، ويكون ما فضل من الثّمن لسيّد العبد. وليس لسيّد العبد أن يمنع من ذلك لكونه في منعه من ذلك مسقطًا لما ثبت من حقّ المشتري في القبول للمبيع، ومضرًّا بنفسه في إبطال دنانير يأخذها، وهي ما فَضُل عن قيمة الجناية، ولا غرض صحيح في الامتناع من هذه الفضلة من الثّمن. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: إذا ولدت الأمة الّتي اشتريت بالخيار، فإن اختير الفسخ، بقي الولد تبعًا في الملك لأمه. وإن اختير إمضاء العقد، ففي المذهب قولان. مذهب ابن القاسم أنّ الولد للمشتري الّذي أمضى عليه العقد في الأمّ. ومذهب أشهب أنّ الولد للبائع. لكنّه ذكر في المدوّنة أنّ المتعاقدين يؤمران بأن يجمعا بين الأمّ وولدها. فإن لم يفعلا نقض البيع. واختلفت إشارة المتأخّرين في تأويل قوله: يجمعان بينهما. هل المراد جمعهما في ملك أو حوْز؛ وهذا يبيَّن أصلُه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد اختلف أيضًا في فسخ هذا البيع لأجل التّفرقة. فقيل بفسخه. وقيل: هذا لا يفسخ, لأنّ أصل البيع كان جائزًا لم يعقد على التّفرقة. ويقدح في هذا التّعليل بأنّ الحامل إذا كانت على الولادة، والمتعاقدان يعلمان أنّ الولد للبائع، صار كمن عقد على التّفرقة. وقد عارض ابن أبي زمنين هذه المسئلة بأن قال: الحامل مريضة وبيع المريض لا يجوز عند أصحاب مالك. وأشار إلى أنّه يمكن أن يكون ما وقع

من هذا الإختلاف، الّذي ذكرناه، محمولًا على أنّ هذه الأمة لم يعلم بحملها حين العقد. وهذا الّذي اعتذر به فيه بعد، ولا يكاد يخفى حمل امرأة قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة إلاّ في صورة نادرة. وهذا الّذي ذكره ابن أبي زمنين من كون أصحاب مالك يمنعون من بيع المريضة، والحاملُ مريضة. وقد ذكر إسماعيل القاضي في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون أنّ الحامل إذا جاوزت ستّة أشهر. جازت عطيّتها في الثّلث، كالمريضة. ومنع من بيعها إن كانت أمة كما يمنع من بيع المريض المدنف. وسنبسط الكلام على حكم الحامل في موضعه إن شاء الله تعالى. وأمّا سبب الإختلاف في كون الولد للبائع أو المشتري، فإنّه يلتفت فيه إلى أصلين، أحدهما: هل للحمل حصّة من الثّمن أم لا حصّة له من الثّمن؟ فإن قلنا: إنّ له حصّة من الثّمن، فينبغي ألاّ يختلف في كونه للمشتري. لأنّه إذا كان له حصّة من الثّمن، صار المشتري كأنّه دفع الثّمن عن سلعتين، وهما الأمّ وجنينها. ومن اشترى بثمن واحد سلعتين فلا يقال: إنّ إحداهما تبقى للبائع. واستدلّ من قال: إنّ له حصّة من الثّمن، بأنّ اللّبن المغيَّب في الضّرع له حصّة من الثّمن، ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - حكم في المصراة إذا ردّت أن يردّ معها صاعًا من تمر عوض لبنها (¬1)، لكون اللّبن الّذي في الضّرع يجب أن يردّ للبائع إذا ردّت عليه، وما حدث بعد ذلك فهو للمشتري. فلمّا اختلط ما يجب ردّه وما لا يجب، عوِّض عن الجميع بصاع من تمر. وإن قلنا: إنّ العمل لا حصّة له من الثّمن، كيَدِها أو رجْلها أو سمنها، فإنّه يجري حكم الولد على ما تقدّم من الاختلاف في بيع الخيار، هل هو محلول حتّى يعقد بالإجازة؟ فيقتضي هذا كون الولد للبائع, لأنّ البيع إنّما انعقد بعوإنفصال الولد عنها، فلم يشتمل العقد عليهما كما لم يشتمل على بيع أمة ¬

_ (¬1) حديث مشهور متفق عليه. الهداية: 7: 332 - 333.

أخرى للبائع. وإن قلنا: إنّه معقود حتّى يحلّ بالفسخ أو إنّه مترقَّب، حسن ها هنا أن يكون للمشتري, لأنّه حدث بعد انعقاد البيع له. وقد أشار بعض أشياخي إلى أنّ هذه الجارية المبيعة بالخيار لو كانت عَلِيّة، فإنّ للبائع مقالًا في هذا النّماء الحادث في أيّام الخيار، وذلك أنّ حملها عيب، فإذا وضعت زال هذا العيب، وزواله في الخيار كنماء حادث، والنّماء الحادث للبائع، كما أنّ النّقص عليه على ما سننبّه عليه إن شاء الله تعالى. وقد يقال في (¬1) أنّ هذا النّماء ليس كالحادث لأنّهما حين العقد يظنّان أنّه يحصل بخلاف نماء حادث لم يخطر ببالهما حين العقد. وقد ذكرنا فيما قدّمنا المعتمد في اعتبار ما يكون رضي، وبسطنا القول في فروع هذا الباب. وقد قال سحنون: كلّ ما كان إذا وقع من المشتري كان علمًا على القبول، فهو إذا وقع من البائع، والخيار له، كان علمًا على الرّدّ. وهذا فيه نظر, لأنّ المشتري إذا اشترى بالخيار فأجّر المبيع، أو رهنه إلى انقضاء مدّة الخيار، فإنّ هذا قد لا يعدّ منه علمًا على القبول. وقد ذكر سحنون أنّ الغرس والبناء والهدم عَلم أيضًا على المقاصد إذا فَعَل ذلك من له الخيار. وإن فعله من المتعاقدين من ليس له الخيار، فإنّه إذا انحلّ العقد بالفسخ أعطى قيمة بنائه منقوضًا لتعدّيه في البناء. ولم يجعل كون العقد والخيار لغيره، ويمكن أيضًا أن يُقْضَى عليه - شبهةً توجب إعطاعَه قيمة البناء قائمًا، لا سيما عند رأي أنّ بيع الخيار معقود حتّى يحلّ بالفسخ. والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: إذا اختلف المتبايعان بالخيار فقال أحدهما: تعاقدنا على البتّ، وقال الآخر: بل على أنّ الخيار لي. فقال ابن القاسم: القول قول مدّعي البتّ. وقال أشهب: القول قول مدّعى الخيار. وهذا الإختلاف بين المذهبين راجع إلى أصل معروف اختلف فيه ابن القاسم وأشهب. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف حرف الجرّ أو إتمامه بـ هذا.

وذلك أنّ ابن القاسم يبعض الجُمَل، وإن سيقت في سياق واحد، فيعطي الجملة الأولى حكم نفسها. وإذا فعل ذلك فقد تصير الثّانية كالرّجوع عمّا تضمّنته الأولى. فإذا قال: بعتك هذا الثّوب، فإنّ هذه الجملة ظاهرها أنّها تستقلّ في بتات البيع. فإذا قرن بها جملة ثانية فقال: وشرطي في الخيار، صار ذلك كدعوى رفع بها حكم الأوّل فلا يقبل منه. وقدّر أشهب أنّ الفائدة والعلم بالمقصد إنّما يحصل بعد استيفاء المتكلّم جميع الجمل. فإذا فرغ منها حكم عليه بما اقتضاه مجموعها, لأنّه لم يقرّ إلاّ على صفة أو شرط، فلا يؤخذ بأكثر مِمّا أقرّ به. فإذا قال: بعتك وشرطت الخيار، لم يتضمّن هذا الإقرار أكثر من عقد بخيار. فلا يقدّر أنّه صار مقرًّا مدّعيًا. وهذا مثل اختلافهما في قول رجل: أخذت منك هذا المال وديعة؛ وقال الآخر: بل أسلفتك إيّاه. فإن ابن القاسم يقدّر أنّ إقراره تضمّن تسليم ملك ما أخذ للمقرّ له. فإذا سلّم ذلك، صار مُدَّعىً عليه أنّه ائتمنه عليه. فلا يقبل دعواه ما يرفع حكم تسليم الملك للمقرّ له. وقدّر أشهب أنّه لم يقرّ له بتسليم الملك مطلقًا، بل على صفة، وهو كونه سلم ملكه إليه مؤتمنًا عليه. ولم ينقل عنهما اختلاف فيمن قال: عندي لك دين وقضيتك إيّاه. لأنّ هذه الجُمل يترتّب بعضها على بعض في حكم العقل، فيترتّب أيضًا في حكم الشّرع. وذلك أنّه معلوم أنّ القضاء للدّين لا يكون إلاّ بعد استقراره في ذمّة، وإذا استقرّ في الذّمّة، فحينئذ يمكن قضاؤه. فيصير (¬1) المقرّ قد تضمّن إقراره بدين ترتّب في الذّمّة، ثمّ يدّعي أنّه قضاه بعد ذلك فلا يقبل منه، كما لو أقرّ بدين، إقرارًا مطلقًا، ثمّ زعم بعد مدّة أنّه قضاه. وهذا تبسط فروعه في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) في المدنية: فيكون.

ولو كان اختلافهما بأن ادّعى كلّ واحد منهما الخيار لنفسه دون صاحبه، فإنّه اختلف في ذلك أيضًا. فقيل: يتحالفان، ويحكم لمن أراد إمضاء البيع دون من أراد ردّه. وقيل: يتحالفان، ويحكم لمن أراد ردّه دون من أراد إمضاءه. وقال ابن الموّاز: القول قول من أراد إمضاء البيع. وهذا الإختلاف راجع إلى ما قدّمناه، هل يقبل قول من ادّعى البتّ؟ فيقضى ها هنا لمن أراد الإمضاء على طريقة ابن القاسم. وإليها أشار ابن الموّاز, لأن من أراد الإمضاء، صار كمدّعي البتّ. لكن ابن الموّاز لمّا رأى أنّ أحد المتبايعين إذا ادّعى الخيار، وادّعى الآخر البت، فإنّ مدّعي البت يصدق مع يمينه عند ابن القاسم، ولا يستحلف مدّعي الخيار إذ لا فائدة في يمينه، إذا حلف مدّعي البتّ، أجاب ها هنا بأنّ الإقتصار على تحليف مدّعى الإمضاء خاصّة. وقد أشار بعض حذّاق الأشياخ إلى أنّه لا وجه لما وقع ها هنا من أنّهما يتحالفان. وعلى طريقة أشهب يكون القول قول من أراد الرّدّ, لأنّه إذا اختار الرّدّ، صار حين اختياره كمدّعي انعقاد البيع على خيار، ومن ادّعى انعقاد البيع على خيار لم يؤخذ عنده بأكثر مِمّا أقرّ به، لأجل ما قدّمناه، لا سيما إذا قلنا: إنّ بيع الخيار محلول حتّى يعقد بالإمضاء، فإنّ هذا يقتضي أنّ مدّعي الخيار ما أقرّ ببيع، ولا عقد قطُّ، فلا تقبل دعوى أخري عليه في ذلك. والّذي أشار إليه بعض الأشياخ من كون استحلافهما جميعًا لا وجه له. وأشار إلى أنّه يمكن أن يراد بالقول: يتحالفان، أنّ أحدهما يحلف، ولكن لمّا كانت يمينه باستدعاء صاحبه، وباختلاف وقع بينهما فيما اتّفقا على ثبوته واختلفا في محمله وهو الخيار، صارت يمين أحدهما يحسن العبارة عنها بالتّحالف.

وهذا تأويل فيه تعسّف. فإن كان ما قيل من أنّهما يتحالفان أريد به أنّ تحالفهما يقع بعد سماع قول أحدهما: ردَدْتُ؛ وقول الآخر: أمضيت، فإنّه لا وجه له. وأمّا إن لم يقل واحد منهما ما عنده من ردّ أو إمضاء وقال: لا أبوح بما عندي إلاّ بعد أن أعرف هل القول قولي، فأحلف عليه أو أردّ اليمين فيه. أو القول قول صاحبي، وإنّما أحلف إذا نكل؟ فهذا يمكن أن يتصوّر فيه غرض يقتضي تحالفهما. هذا قصارى ما يمكن عندي أن تصرف إليه الرّوايات. والجواب عن السؤال الثّاني عشر أن يقال: الأصل الّذي يعتبر فيه حكم ما يضمن وما لا يضمن ممّا اختلف النّاس في ضمانه من هذه المعاني، كالرّهان والعواري وما يصنعه الصّنّاع، إلى غير ذلك ممّا في معناه، سنبيّنه في موضعه إن شاء الله تعالى. ولكن نشير ها هنا إليه. فاعلم: أنّ الوديعة متّفق على أنّه لا يضمنها من هي في يديه، لكون الملك لم ينتقل فيها إلى من هي في يديه، ولا قبضها من هي في يديه لمنفعة نفسه، بل لمنفعة ربها. والمبيع بالخيار يعرض على هذا الأصل. وقد ذكرنا ما وقع من الإضطراب في بيع الخيار، هل هو محلول حتّى يعقد؟ أو معقود حتّى يحلّ؟ وكيف جرت الحال فإنّ الملك لم ينتقل فيه انتقالاً تامّاً، ولكن يجب أن ينظر فيه من ناحية المنفعة فيه لمن تحصل. فإذا تقرّر هذا الأصل فاعلم: أنّ المذهب أنّ السلعة المبيعة بالخيار إذا كانت في يد البائع فإنّ ضمانها منه، سواء كان الخيار له أو للمشتري أو لهما جميعاً. لأنّها إذا كانت في يديه وقلنا: إنّ عقد الخيار لا يقدّر عقداً إلاّ حين إمضائه، ولا ينقل ملكاً، فإنّه يتّضح كون الضّمان منه لتلف ملكه في يديه. وكذلك إن قلنا: إنّه منعقد حتّى يفسخ، فإنّه أيضاً لا يقتضي هذا الملكَ التّامّ للمشتري، وإذا لم يكن الملك تامّاً، بقي

الملك على ما كان عليه، فيكون ضمانه من صاحبه. وأمّا إن كان المبيع بالخيار في يد المشتري والخيار له، فإنّ المذهب أنّ ما يغاب عليه يكون ضامنًا له. ولا يصدق في ضياعه إذا لم تقم له بيّنة على ذلك. فإن قامت له بيّنة بضياعه فذلك على قولين، فعلى أصل ابن القاسم يسقط الضّمان إذا قامت البيّنة، لكون الأصل سقوط الضّمان عن المشتري لأجل ما قدّمناه. وإنّما ضمن ها هنا للتّهمة أنّه أخفى المبيع وادّعى ضياعه مع كون هذا المبيع في يديه لمنفعة نفسه، وكون البيع فيه منعقدًا حتّى يفسخ على أحد الطّرق. وأمّا إن كانت السلعة في يد المشتري، والخيار للبائع خاصّة، فالمشهور من المذهب أيضًا أنّ المشتري ضامن لما يغاب عليه، لكون ذلك في يديه على جهة البتات، والعقد اللاّزم له الّذي لا قدرة له على حلّه. وذهب ابن كنانة إلى أنّ الضّمان ها هنا من البائع. وكأنّه قدّر أنّ المنفعة في إيقاف هذا المبيع للبائع خاصّة دون المشتري, لأنّ المشتري قد قبض السلعة على أنّ ثمنها لازم له لا إنفكاك له منه إذا شاء البائع، فوقفه البائع عن التّصرّف فيها كما يتصرّف المالك، والانتفاع بها لمنفعة نفسه في تدبير رأيه في إمضاء البيع أو ردّه، وقد قدّمنا أنّ الضّمان تعتبر فيه المنفعة لمن هي، فيكون الضّمان منه، على حسب ما تقدّمت الإشارة إليه. فهذا سبب الخلاف الّذي وقع في المذهب في هذا الوجه الّذي عقد فيه الخيار للبائع خاصّة، وقد قبض المشتري السلعة. وإذا علمت حكم ضمان الرقبة المبيعة كلّها، فإنّك تعلم من ذلك ضمان أجزائها. فإذا باع أمة على أنّ الخيار للمشتري أو للبائع أو لهما جميعًا، وكان ضمانها من المشتري إذا قبضها على حسب ما قدّمناه، اقتضى هذا أنّه إن حدث بها عيب في أيّام الخيار فإنّ مصيبة هذا العيب من البائع، كما لو ماتت الأمة.

كانت مصيبتها منه. لكن يكون للمشتري الخيار في ردّها بهذا العيب، لكونه في ضمان البائع كما بيّناه. فصار كعيب بالجارية سبق العقدَ فإنّ له الرّدّ به. فإن رضي به المشتري ثمّ اطّلع على عيب قديم بعد إمضاء البيع، فإنّ له الرّدّ به، لكونه وقع العقد على أنّ المبيع سالم منه، وليس له أخذ قيمته كما سنبيّن في كتاب الرّدّ بالعيب هذا، إن شاء الله تعالى. ولو حدث عنده عيب مفسد واطّلع على هذا العيب القديم، لجرى الأمر فيه على ما سنبيّنه من كونه بالخيار بين أن يأخذ قيمة العيب، أو يردّ الأمة ويردّ ما نقَصَ من ثمنها هذا العيب الحادث عنده. فإن اختار أخذ قيمة العيب قوّمت على أنّها بعيب الخيار، لكون العقد إنّما أمضي بعد الإطّلاع عليه والرضا به، فصار كمن اشتراها سليمة، فيقال: ما قيمتها بالعيب الحادث في أيّام الخيار؟ فإن قيل: مائة، قيل: ما قيمتها بالعيب القديم؛ فإن قيل: ثمانون؛ فقد تبيّن أنّ البائع أمسك مقدار خمسها, لكون العشرين من المائة خمسًا. فينظر إلى الثّمن الّذي عقد به، فإن وجدناه مثلًا خمسين دينارًا، حطّ عنه من الخمسين دينارًا خمسها, لأنّ البائع إنّما أمسك له ما هو عوض عن خمس الثّمن الّذي وقع العقد به. وإنّما رجعنا إلى القيمة حين العقد (¬1) البيع بذهاب أيّام الخيار، وبخروجها عن المواضعة إن كانت عليه، ليستدلّ بذلك على خمس الثّمن الّذي تراضيا به، لكونه قد يكون فيه غبن علي البائع أو المشتري. وإن أراد أن يردّ ويردّ ما نقص. زدنا قيمة ثالثه، فقلنا: وكم تساوي إذا أضفنا إلى ما تقدّم هذا العيبَ الحادثَ عند المشتري؟ فإن قيل: ستّون دينارًا، فقد علمنا أنّه قد نقصها العيبُ الحادث عنده ربعَ ما حصل في يديه منها، ما يقابل الثّمانين دينارًا، والعشرون منها ربعها. وهي أيضًا خمس آخر من المائة، الّتي هي مبدأ التّقويم. فيكلّف المشتري أن يردّ معها مقدار خمس الثّمن كلّه أو مقدار ربع ما حصل عليه من الأمة، وذلك عشرة دنانير. فإذا اختار أخذ القيمة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: انعقد.

عوضَ العيب القديم كان عوضُ هذا العيب عشرة دنانير من الخمسين دينارًا. وإن اختار أن يردّ ويردّ ما نقص عنده العيب الحادث، ردّ أيضًا عشرة دنانير وهي ربع الأربعين دينارًا الّتي كانت تستقرّ عليه إذا رجع بقيمة العيب. وهي أيضًا خمس الثّمن المتّفق عليه عند العقد. ولو عقد بيع هذه الأمة المبيعة بالخيار عقدًا فاسدًا، لأجل اشتراط النّقد، أو لغير ذلك مِمّا في معناه، فإنّ الثّمن المتّفق عليه ساقط، ويجري الأمر فيها مجرى البيوع الفاسدة. فيفسخ البيع إن كانت قائمة، لم يحُلْ سوقها, ولا حدث عند المشتري عيب. فإن حال سوقها كان المشتري بالخيار بين أن يرضى بالعيب القديم الّذي اطّلع عليه، فتلزمه قيمتها يوم مصير مصيرها في ضمانه وقبضه لها. فيقال: ما قيمتها بالعيب الحادث في أيّام الخيار؟ وبالعيب القديم الّذي اطّلع عليه المشتري بعد إمضاء الشّراء؟ فما قيل: إنّه قيمتها, لم يكن على المشتري أكثر منه، فإن شاء أن يردّها بالعيب القديم، كان له ذلك, لأنّ الرّدّ بالعيب لا يفتيه حوَالة الأسواق. هذا مذهب سحنون. وذهب ابن القاسم وأشهب إلى أنّه إذا أسقط حقّه في القيام بهذا العيب القديم، وقام بحكم البيع الفاسد، فإنّه يلزمه قيمتها بعيب الخيار خاصّة، لكونه لما قدر على الرّدّ بالعيب القديم فعدل عن ذلك إلى إسقاط حقّه فيه، صار كالرّضا به، وكأن العقد وقع على الرّضا به، فتلزمه قيمة الأمة سالمة منه لكونه كالرّاضي به. وإذا قرّرناه كالرّاضي به، صار كعيب حدث، فإذا ألزمناه القيمة، فإنّما تقوم سالمة من العيب الذي حدث عنده. ولو أسقطنا عنه في التّقويم هذا العيب الّذي حدث عنده، لكنّا كمن قضى بأخذ قيمة العيب الّذي يطّلع عليه المشتري في البيع الصحيح ولم يحدث عنده عيب, لأنّ حطيطة مقداره من القيمة كحطيطة مقداره من الثّمن الّذي عقد به البيع الصحيح. فإذا تقرّر حكم الضّمان في البيع الصحيح وحكم العيوب الحادثة في أيّام الخيار في البيع الصحيح أيضًا، وحكم ما حدث من العيب في البيع بالخيار إذا

عقد على فساد، فإنّ إشارة الأشياخ اختلفت في ضبط المذهب في ضمان الأمة المبيعة على خيار بشرط النّقد. فأشار بعضهم إلى أنّها إذا هلكت السلعة المبيعة بشرط النّقد في بيع الخيار، ولم تذهب أيّام الخيار، فإنّ المذهب لم يختلف في كون ضمانها من البائع, لأنّه إذا كان ضمانها من البائع في بيع الخيار المعقود على الصحّة، فأحرى أن يكون ضمانها من البائع في البيع الفاسد، لكون العقود الصحيحة توجب ضمان المشتري ما لا توجب العقود الفاسدة، كما تقدّم بيانه في موضعه. وإنّما اختلف المذهب فيمن اشترى سلعة بالخيار، وضرب للخيار مدّة يجوز أن تضرب في عقد الخيار، فإنّ هذا قيل فيه: إنّ الضّمان من البائع، لما قدّمناه من التّعليل، وقيل: بل الضّمان فيه للمشتري. وأشار ابن سحنون إلى التّفرقة بينه وبين فساد بيع الخيار لأجل ما قارنه من شرط النّقد، لم (¬1) يفسد من قبل ذاته، ولكن من قبل امرئ (¬2) آخر ضامّه، فلا يسري فساد ما ضامّه إليه، ويبقى على أحكام الخيار الصّحيح في كون الضّمان من البائع. وأمّا ما اشترط فيه من الخيار أمد بعيد، فإنّ الخيار فسد من ذاته ليس من جهة معنى آخر سار إليه الفسادُ منه. فإن فسد من ذاته، صار لا حكم له، وإذا لم يكن له حكم، صار المبيع بِيعَ بيعًا فاسدًا من غير خيار، فيضمن بالقبض على حسب ما توجبه أحكام البياعات الفاسدة. وهذا الّذي بسطناه نحن مِمّا أشار إليه ابن سحنون يظهر وجهه على طريقة من يقول: إنّ من اشترط النّقد في بيع الخيار إذا أسقط مشترط النقد شرطه، صحّ العقد، كما يصحّ إذا أسقط مشترط السلف شرطه في البيع الّذي عقد على ¬

_ (¬1) كذا بالنسختين، ولعل الصواب: فلمْ. (¬2) كذا بالنسختين، ولعل الصواب: أمْر.

سلف، لكون الفساد لم ينصرف إلى الثّمن ولا المثمون والعقد، بل لمعنى آخر. فكذلك يكون حكم هذا الفساد باشتراط النّقد في الخيار. واعلم أنّه لو تنازع المتبايعان في الأمد الّذي هلك فيه المبيع في أيّام الخيار، فيقول البائع: هلكت السلعة بعد إمضاء العقد، فلا ضمان عليّ. ويقول المشتري: بل هلكت قبل إمضاء العقد، فلا ضمان عليّ. فإنّ القول قول البائع لكون المشتري يدّعي حلّ العقد الّذي كان بينهما. وتأوّل هذا ابن أبي زيد على أنّ أيّام الخيار انقضت، واختلفا بعد انقضائها. وأمّا إن لم يتّفقا على انقضائها، فإنّ القول قول المشتري لكون البيع لم ينعقد. وسنبسط الكلام على هذا في كلامنا على اختلاف المتبايعين في موت العبد في أيّام العهدة. وإذا ادّعى المشتري ذهاب العبد بالإباق، أو غير ذلك من الحيوان الّذي لا يغاب عليه، فإنّه يصدق في ذلك إذا لم يتبيّن كذبه. بخلاف الموت إذا ادّعاه وهو بموضع لا يكاد يخفى، فإنّه لا يقبل قوله إلاّ أن يصدقه من حضر من العدول. واستظهر ابن حبيب عليه باليمين أنّ العبد ما أبق إلاّ قبل أن يختار إمضاء العقد. فإذا حكمنا بتصديق المشتري في دعواه الإباق، إذا لم يتبيّن كذبه، فإنّه أيضًا يستظهر عليه باليمين على صحّة ما قال. وذهب بعض الأشياخ إلى أنّه يستحلف في هذا المتّهم وغير المتّهم. وكذلك في دعوى ذهاب ما يستعار مِمّا لا يغاب عليه، أو يستأجر، فإنّه يستحلف المتّهم وغير المتّهم، لكون هؤلاء إنّما قبضوا ما قبضوه لمنفعة أنفسهم، وقد تعرّضوا للضّمان. بخلاف ما قيل في الوديعة من التّفرقة بين المتّهم وغير المتّهم، في كون من لا يتّهم لا يستحلف على الضّياع، لكونه أؤتمن على ما قبضه قبضًا لا منفعة له فيه مع كونه بعيدًا من الخيانة، فلهذا أسقط عنه اليمين. وسنبسط نحن هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. كما أنّا نذكر

ها هنا سؤالًا ذكره في المدوّنة في كتاب بيع الخيار. ونبسط ما تعلّق به في موضعه إن شاء الله تعالى. وذلك أنّه ذكر في المدوّنة فيمن باع رقيقًا أو غنمًا على أنّه بالخيار إلى أن ينظر إليها فيرضاها أو يردّها. فذكر أنّه إذانظر إلى بعضها وسكت، ثمّ استوفى النّظر إلى جميعها. وقال: لا أرضى، فإنّ البيع لا يلزمه. وذكر في الطّعام إذا نظر إلى بعضه فرضيه، ثمّ نظر إلى بقيّته فقال: لا أرضى، فإنّه تلزمه البقيّة إذا كانت على صفة ما رءاه فرضيه. لأنّ قوله لمّا رأى البعض: رضيتُه، وقد عقد على الكلّ، فإنّ قوله هذا كالنّطق بأنّه رضي بالكلّ. ويعدّ قوله بعد هذا ندمًا منه. وأشار بعض الأشياخ إلى أنّه لو قال في العبيد والسلع، وقد رأى بعضها: رضيتُه؛ فإنّه يلزمه البقيّة إذا كانت مثل ما رضي. ولا يقبل قوله، لمّا رأى البقيّة، إنّي لا أرضى. ولا عذر له بأن يقول: ظننت أنّ الّذي بقي خير مِمّا رأيت. ولو قبل هذا منه لكان الطّعام والسلع فيه سيّان في قبول هذا العذر منه. وإنّما افترق الجواب لافتراق السؤالين. وذلك أنّه ذكر في الطّعام أنّه رضي ببعضه، ولم يذكر رضاه بالبعض في السلع. فلو أسقط في آخر السؤالين، ما أسقطه في الآخر من الرّضا، أو أثبت في أحد السؤالين من الرّضا ما أثبته في الآخر، لاستوى الجواب فيهما. وقد يقال ها هنا إنّ الطّعام مِمّا لا تختلف الأغراض فيه اختلافًا بيّنًا، فالرّضا ببعضه رضا ببقيّته إذا كانت على صفته. والعبيد والسلع تختلف الأغراض فيهما اختلافًا بيّنًا، وقد يظنّ قوم أنّ هذا العبد مثل هذا، ويختلف شأنهما عند آخرين اختلافًا بيّنًا. ولو أراد البائع أن يُلزم المشتري مقدار ما رضي به من الطّعام، وأسقط عنه المطالبة بما بقي مِمّا قال: لا أرضاه، فإنّ هذا يجري مجرى من اشترى طعامًا فاستُحِقَ من يديه بعضه، فإنّ المستحقّ إن كان كثيرًا، وهو مقدار الثّلث

ونحوه عند ابن القاسم، فإنّه لا تلزمه البقيّة. وإن كان يسيرًا، كالخمس ونحوه، لزمته البقيّة. وما عدا الطّعام، من مكيل أو موزون أو عروض، فإنّ النِّصْف عنده في حكم اليسير، فلا يكون للمشتري مقال في ردّ ما لم يستحقّ. ولو كان المشتري ها هنا أراد التمسّك بما رضيه من الطّعام وامتنع البائع، فإنّه لا يفرّق ها هنا بين القليل من الكثير من الطّعام، ولا في غيره من مكيل أو موزون، لكون البائع يعتلّ بأنّ المكيل والموزون، طعامًا كان أو غيره، إذا أفرد المعيب منه بالبيع دون السالم، لم يرغب فيه. وإذا أُضيف المعيب إلى السالم رغب فيه لتشابه أجزائه. بخلاف السلع. فإنّه يراعى في المعيب منها أكثر الصفقة أو أقلّها كما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثّالث عشر أن يقال: إذا اشترى رجل من رجل ثوبًا بالخيار، ثمّ اشترى من رجل ثوبًا آخر بالخيار فاختلطا عليه، فإنّه اختلف في هذا. فذكر مالك أنّه يضمن بالغلط ها هنا. وذكر ابن كنانة، في كتب المدنييّن، أنّه لا يضمن. فإذا قلنا بالضّمان. فإنّ مالكًا قال: يضمن الثّمن إذا تقارّا على الأثمان، وادّعى كلّ واحد من المتبايعين الثّوب الأرفع، ولم يعلم المشتري الصادقَ منهما, لأنّه لو علم بذلك لكان القول قوله في تعيين مالك لّ واحد منهما؛ كما قدّمناه قبل هذا، في كون المشتري مصدقًا في عين ما اشتراه بالخيار إذا ردّه على بائعه. وأمّا ابن كنانة فأسقط الضّمان عن المشتري، وقضى عليه بردّ الأرفع الّذي تنازع فيه البائعان، فيتحالفان ويتقاسمانه، كالحكم في مال يدّعيه رجلان، ويبقى الثّوب الّذي (.....) (¬1) البائعان على أنّه ليس ثوبهما موقوفًا حتّى ينظر فيمن يدّعيه. وسبب هذا الإختلاف الإلتفات إلى حكم ما أتلف غلطًا، فإنّه إن وقع ¬

_ (¬1) بياض في النسختين مقدار كلمة، ولعله: يرفضه.

وقوع الغلط والخطأ فيما أذن الشّرع في التصرّف فيه كالعمد في تلف الأموال، كمن تصرف في الطّرقات الّتي أباح الشّرع له التصرّف فيها ولغيره من النّاس. فمن عثر على مال فأتلفه فإنّه يضمنه، لمّا دعت الضّرورة إلى صيانة الأموال عمّا لا قدرة عليه لمالكها في صيانتها. فإذا كان الخطأ على إذن خاصّ وقع في هذا الإختلاف. كما اختلف المذهب عندنا فيمن أذن لرجل في دخول بيته فمرّ على مال فأتلفه غلطًا منه. وحسّن الخلاف في هذا لكون المالك قادرًا على أن يصون ماله عن هذا الّذي زعم أنّه أتلفه غلطًا بأن لا يأذن له في دخول بيته. وكذلك ما نحن فيه قد سلّم كلّ واحد من المتبايعين ثوبه للمشتري بالخيار مع تجويزه أن يشتري ثوبًا غيره، فيختلط عليه الثّوبان. فصار كالدّافع عنه بإذنه عهدة النّسيان والغلط. أو يقال: إتلاف المال غلطًا كإتلافه عمدًا، والبائع لم يأذن له فيما يؤدّي إلى تلف ماله، فاستوى العمد فيه والخطأ، كما قلناه في الإذن العام. وإذا قلنا بأنّه يضمن الثّمنين، فإنّ له أن يدفع الثّوب الأرفع، الّذي تداعى فيه البائعان لأحدهما، ويغرم للآخر ثمن الثّوب، لأجل أنّه لو أراد التمسك بكلّ واحد من الثّوبين ودفع ثمنه لبائعه، لم يكن لبائعه أن يمنعه من ذلك. فإذا أسلم لكلّ واحد الثّمن، الّذي اشترى به ثوبه منه، لم يكن للبائع مقال. وكذلك إذا أسلم أحدَهما ثمن الثّوب صار كراضٍ باشترائه. وإذا ردّ على أحدهما الثوب الجيّد صار كمن فسخ البيع فيما اشتراه بالخيار. ولو اختلف ثمن الثّوبين، لكان أيضًا الحكم كذلك في تخييره بين أن يغرم لكلّ واحد الثّمن الّذي عقده به، أو يضمن لأحدهما الثّوب ويعطي للآخر هذا الثّوب الأرفع الّذي تنازعا فيه، لأجل ما ذكرناه من التّعليل في كونه محكَّما في إمضاء الشّراء أو ردّه. وقد ذكر ابن كنانة أنّ المشتري لو قطّع أحد الثّوبين، وأتى بالآخر ليردّه،

فأنكره البائعان، وادّعى كلّ واحد منهما أنّ الثّوب المقطوع هو ثوبه، أنّ المشتري يضمن الثّمنين. وهذا قد يُحَسُّ في النّفس أنّه كالنّقض لما أصَّل من كون الغلط لا يضمن به المشتري. لكن العذر عن هذا عندي أنّ المشتري إذا قطع الثّوب، لم يكن له ردّه، لكونه فعل فيه ما هو رضي بالشّراء والتزامًا (¬1) له، أو فعل ما أتلف الثّوب به، فلا يكون له ردّه. وإذا منع الرّدّ لأجل هذا، واستقرّ عليه ثمن الثّوب المقطوع، وكلّ واحد يطالبه بثمن ما باعه منه، وهو لا يدري عين من يستحقّ عليه ثمن هذا المقطوع من هذين البائعين، وجب عليه أن يغرم له هذا الثّمن لكونه شاكًا في وجوب ذلك عليه لهذا البائع. كما نقول فيمن ادّعى على رجل بمال، والمدّعى عليه يشكّ في صدق المدّعي، فإنّ المدّعي يأخذ ما ادّعاه، لكونه موقنًا باستحقاق هذا المال على هذا المدّعى عليه، وكون المدّعى عليه شاكًّا، فينظر في يمين المدّعي الموقن. فإذا لم يُحدث في واحد من الثّوبين حادثًا يكون به مختارًا للشّراء أو متلفًا، فإنه لا سبب حدث منه يوجب تضمينه، فلا يناقض ابن كنانة بهذا. وقد تأوّل بعض أشياخي عليه أنّه أراد أنّ هذا المقطوع جهله البائعان أيضًا لمّا تغيّر بالقطع ك ماجهله قاطعه. فلمّا تساووا في الجهالة بذلك، تعلّق به الضّمان. بخلاف إذا ادّعى كلّ واحد منهما أنّه يتحقّق أنّ المقطوع له، فإنّ قوله: إنّ المقطوع لم (¬2) يتضمّن إبراءَ المشتري، كما قال ابن كنانة في هذين الثّوبين إذا كانا قائمين فادّعى كلّ واحد من البائعين الأرفع من الثّوبين، فإنّ دعواه قد تضمّنت إبراء المشتري من كونه قد أمسك ثوبه، أو تعدّى فيه لكونه عنده لا يضمن بالنّسيان. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب: له.

وهذا الّذي أشار إليه بعض أشياخي من تأويل ابن كنانة قد تغني عنه الطّريقة الّتي أريناك نحن في الإعتذار منه. وقد ذكر ابن حبيب عن مالك في هذا أنّه يغرم ثمن الثّوب المقطوع، ويغرم قيمته، ويَقسم هذه القيمة، وهذا الثّمن، المتبايعان جميعًا. كأنّه قدّر أنّ البائع إنّما التزم بالقطع ثمن الثّوب لكونه التزم الشّراء لما قطع الثّوب، فلا يلزمه إلاّ ثمن واحد. ولكنّه لمّا أتلف على الآخر أخْذَ عين الثّوب الّذي باع منه، ولم يرض بالشّراء منه، وجبت عليه القيمة، فوجب من هذا وجوب مطالبة المشتري بثمن وبقيمة، وقد جهل من يستحقّ منهما الثّمن، ومن يستحقّ القيمة، فوجب أن يُقسم جميع ذلك بينهما. وإذا قلنا بالتّضمين، فإنّه لا بدّ أن يحلف البائعان، فإن نكلا عن اليمين، سلّم المشتري إليهما الأرفع، وبقي الثّوب الأدنى موقوفًا حتّى يفعل فيه الواجب. والجواب عن السؤال الرّابع عشر أن يقال: أمّا العقد على ثوب من أحد ثوبين، فإنّه إن كان الثّوبان متماثلين، والثّمن شيء واحد، فإنّ ذلك جائز إذا صرف الخيار في ذلك إلى المشتري، لكون التّماثل في المثمون وفي الثّمن يرفع الغرر. وأمّا إن اختلف المثمون مثل أن يعقد على ثوب أو دابّة يختار المشتري أيّهما شاء، فيلزم البائعَ العقدُ فيه، فإنّ ذلك لا يجوز لما يحصل فيه من الغرر والمخاطرة من جانب البائع، لكونه لا يدري ما الّذي باعه بدينار هل هو ثوب أو حمار؛ وهذا فيه خِطار. لكن لو كان المشتري إذا اختار الثّوب أو الحمار، عاد الخيار أيضًا للبائع، في إمضاء العقد أو ردّه، لجاز ذلك لارتفاع الغرر لعدم إلزام البيع للبائع. وكذلك إن اختلف جنس الثّمن وتماثل المثمون، فإنّ حصول الغرَر وارتفاعه جار على ما فصّلناه.

وأمّا إن تماثل المثمون، وتماثل جنس الثّمن ولكن اختلف في المقدار خاصّة، مثل أن يبيع منه ثوبًا من أحد ثوبين على أنّه جعل ثمن أحدهما، وأشار إليه، خمسة دنانير، وثمن الآخر سبعة دنانير، فإنّ هذا ممنوع عندنا أيضًا لحصول الغرر باختلاف مقدار الثّمن. وأجازه عبد العزيز ابن أبي سلمة، وهو اختيار ابن حبيب من أصحابنا. وكأن عبد العزيز ابن أبي سلمة قدّر أنّ المشتري اختار أخذ الثّوب الّذي بسبعة، ثمّ ردّه وهضم عن نفسه دينارين من السبعة، وأخذ الثّوب الّذي بخمسة بدينارين التّي (¬1) هضم وبالثّوب الآخر، فلا يكون في هذا ربا ولا تخاطر. لكنّه يمنع هذا إذا كانت الدّنانير مختلفة الوزن، ولو تساوى العدد، لكونه يقدّر فيه أنّه باع دنانير ناقصة بوازنة، فيقع بذلك في الرّبا. هذا حكم جواز هذا العقد. وأمّا حكم الضّمان، فإنّه لا يخلو هذا العقد من أن يقع على ثلاثة أنحاء. إمّا أن يقع العقد على أنّه إن شاء ردّهما جميعًا وإن شاء أخذهما. فيكون المشتري ها هنا مخيّرًا في العقد وفي التّعيين. أو يقع على أنّه قد لزمه أحدهما والآخر مردود، ولكنّه مخيّر في تعيين ما لزم العقد فيه دون التّخيير في العقد، فأحَد الثّوبين في هذين القسمين مردود بلا بدّ، والآخر لازم بلا بدّ، ومخيّر في قبوله أو ردّه. والقسم الثّالث: وقوع العقد على أنّ أحدهما لازم بلا بدّ، والآخر مخيّر في قبوله أو ردّه يكون التّخيير في أحدهما في العقد وفي التّعيين، وفي الآخر في التّعيين خاصّة دون العقد. فإن وقع العقد على الوجه الأوّل من هذه الوجوه الثّلاثة وهو كون المشتري له ردّ أحدهما، ويخيّر في الآخر بين أن يقبله أو يردّه، والتّعيين في ذلك إليه، فإنّهما إن ضاعا جميعًا، فإنّ ابن القاسم لا يضمنه إلاّ أحدهما، ¬

_ (¬1) ... ولعل الصواب: اللذين.

وأشهب يضمنه الثّوبين جميعًا. وذكر في الموّازيّة عن ابن القاسم قولًا ثالثًا في هذا، فقال، فيمن اشترى ثوبًا من أربعة ثياب فقبض الأربعة، فضاعت في يديه، إنّ البائع إن كان هو المتطوّع بدفع الجميع ابتداءً منه، فإنّ المشتري لا يضمن إلاّ واحدًا منها. وإن كان المشتري هو السائل في تسليم الأربعة إليه ليختار ثوبًا منها، فإنّه يضمن جميعها. وأشار ابن الموّاز إلى أنّه لا فرق بين أن يقبضها المشتري عن سؤال منه للبائع أو عن تطوّع البائع بذلك من غير سؤال، لكونه إنّما دفع جميعها حرصًا على البيع. وسبب هذا الإختلاف أنّه قد علم أنّ أحد الثّوبين مردود للبائع بلا بدّ، والآخر يخيّر فيه المشتري، والمردود بلا بدّ حكمه حكم الأمانة لمّا كان لم يقبضه المشتري على بتات البيع فيه ولا على خيار، والثّوب الآخر قبضه على خيار فيه، وقد علم أنّ ما قبض على جهة الأمانة لا يضمن، وما قبض على جهة الخيار يضمن. وهذان الثّوبان لم يتميّز منهما ما هو أمانة مِمّا هو مقبوض على خيار، فوجب أن يضمن أحدهما، لكونه قد علم على الجملة أنّ أحدهما مقبوض على خيار. فكأن صاحب هذا المذهب اعتبر مآلَ هذا العقد، وهو كون أحد الثّوبين مردودًا بلا بدّ، فتحقّقت فيه الأمانة لأجل هذا. وأمّا من ضمَّن المشتري الثّوبين جميعًا، فإنّه اعتبر الحال ولم يعتبر المآل. وقد وقع العقد على أنّ له التنقّلَ من أحدهما إلى الآخر مقتضى الخيار، والمبيع بالخيار مضمون، فكأن كلّ واحد من الثّوبين عقد عليه بانفراده على الخيار. وأمّا ما وقع من التّفرقة في الموّازيّة، فكأنّه قدّر أنّ البائع إذا كان هو المتطوّع بدفع الثّياب، فإنّ ذلك لم يقع منه إلاّ لمنفعة نفسه، وليتمّ له البيع، فغلب في الثّلاثة الأثواب حكم الأمانة. وأمّا إذا كان المشتري هو السائل في قبض الجميع، فإنّ البائع لا منفعة له في تسليم الجميع بل لمنفعة المشتري

السائل في هذا، فغلب حكم الخيار في كلّ ثوب. فانحصر الخلاف في هذا إلى تغليب حكم الأمانة في أحد الثّوبين اعتبارًا بالمآل، أو تغليب حكم الخيار اعتبارًا بالحال، واستدلالًا على حصول المنفعة بما ذكرنا من التّفصيل. وقد قدّمنا أنّ الضّمان في هذا وفي غيره مِمّا ذكرناه يعتبر فيه المنفعة للقابض أو للدّافع. فإذا قلنا بالضّمان فيما يضمن هل بالقيمة أو بالثمن، فإنّ هذا ينبغي أن يعلم أنّ الثّوب الواحد إذا اشتري بالخيار، فإنّ ابن القاسم يرى أنّ المشتري يضمنه إذا قبضه بالثّمن، سواء كان الخيار له أو للبائع؛ لأنّه قادر لمّا كان الخيار له أن يقبل البيع ويدفع الثمن، ولا يقدر البائع أن يمنعه من ذلك، فله أن يقول: أنا أقبله، فلا يلتفت إلى ضياعه، سواء كانت قيمته أكثر من الثّمن أو أقلّ. وكذلك إن كان الخيار للبائع، فإنّ المشتري يضمنه بالثّمن، لكون البائع سلّمه إليه على أنّ عوضه الثّمن الّذي اتّفقا عليه، وكان للبائع أن يلزمه إيّاه، فلا يلزم المشتري أكثر من ذلك، ولو كانت القيمة أكثر من الثّمن، لكنّه يحلف المشتري ها هنا على الضّياع لئلاّ يكون لمّا فسخ البائع العقد طلب ارتجاع الثّوب فحبسه عنه تعدّيًا، فيلزمه قيمته، فيستظهر عليه باليمين أنّه ضاع لتسقط المطالبة عنه بما زادت القيمة على الثّمن. وأمّا أشهب فإنّه يرى أنّ الخيار إذا كان للمشتري، فإنّه يضمنه بالأقلّ من القيمة أو الثّمن. فإن كان الثّمن أقلّ من القيمة، قال: أجزت له إمضاء البيع بالتزام الثّمن. وإن كانت القيمة أقلّ من الثّمن، لم يطلب بأكثر منها, لأنّ له أن يقول: لا أمضي الشّراء بل أردّ الثّوب، فيجده قد ضاع فيغرم قيمته. لكنّه يحلف ها هنا على الضّياع لإمكان أن يكون قد حبسه عن نفسه بأنّه لا يختار إمضاء الشّراء، فتجب عليه قيمته لأجل منع البائع منه، فيحلف ليسقط عنه ما زاد من القيمة على الثّمن لأجل إمساكه الثّوب على البائع.

وإن كان الخيار للبائع، فإنّ المشتري يغرم الأكثر من الثّمن أو القيمة. فإن كان الثّمن أكثر، قال البائع: أنا أختار إمضاء البيع، فيلزمك الثّمن. وإن كانت القيمة أكثر، قال البائع: أنا أختار فسخ البيع، فلا يلزمني أخذ الثمن، بل الطالب (¬1) بالقيمة الّتي وجبت عليك. فإذا علمت الحكم فيما يضمن به الثّوب الواحد المشتريَ بالخيار، فإنّ هذين الثّوبين المشترى أحدهما بالخيار مذهب ابن القاسم أنّ أحدهما هو المضمون. فإذا ضمن، فإنّما يضمن بالثّمن كمَا قدّمناه. ومذهب أشهب أنّ أحدهما مضمون بالقيمة، والآخر بالأقلّ من الثّمن أو القيمة. فأمّا كون أحدهما مضمونًا بالقيمة، فلأجل أنّه لا بدّ من ردّه فيضمّن بقيمته. وأمّا الآخر، فالمشتري قادر على أن يلتزمه بالثّمن فكان له ألاّ يغرم إلاّ الثّمن، وقادر أيضًا على أن لا يلتزم الشّراء ويضمنه بالقيمة، على حسب ما قدّمناه قبل هذا. وذهب (¬2) إلى طريقة أشهب في كون المشتري ضامنًا للثّوبين جميعًا، وذكره عن أصحاب مالك، وقال: إنّه ليس بمؤتمن في واحد منهما لما أخذهما على أن يختار هذا أو هذا. لكنّه إنّما يضمنه إيّاهما بالثّمن. وكأنّه قدّر أنّه إذا كان الضمان إنّما ثبت فيهما لكون كلّ واحد منهما إنّما عقد على انفراده على الخيار، والثّوب المنفرد إذا عقد على الخيار ضمن بالثّمن، كما قدّمناه عن ابن القاسم، فكذلك هذا يضمن كلّ واحد منهما بالثّمن. وقد ذكرنا عنه أنّه يجيز كون ثمن الثّوبين مختلفًا في المقدار، على حسب ما قدّمناه عن عبد العزيز ابن أبي سلمة. وعنه هذا الحكم فيهما إذا ضاعا جميعًا. وأمّا إن ضاع أحدهما، فإنّه إنّما يضمن عند ابن القاسم نصف ثمن الّذي ضاع، لكون الضّائع متردّدًا بين أن يكون هو الّذي اشتراه بالخيار، أو هو الّذي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أُطالب. (¬2) لم يتوضح معاد ضمير ذهب.

بحكم الأمانة، فلمّا تساوى فيه الأمْرَان قسم الضياع فيه، على أصله في كونه لا يَضْمن، إذا ضاعا جميعًا، إلاّ ثوبًا واحدًا، فكذلك إذا ضاع أحدهما لا يضمن إلاّ نصف ثوب. وأمّا أشهب، فإنّه يضمَّنه الضّائعَ كلَّه، لكونه يضمنها جميعًا إذا ضاعا. فإن قلنا أنّه لا يضمن إلاّ نصف ثوب، كان له ردّ الثّوب الآخر بحكم مقتضى الخيار الّذي عقد عليه من كونه لا يلزمه واحد منهما إذا شاء. وإن أراد الإستمساك بحكم مقتضى الخيار في كونه له أن يمسك أحد الثّوبين، فإنّ ابن القاسم مكّنه من ذلك وفي الموّازيّة أنّه لا يمكن منه, لأنّه إذا مكّناه من ذلك، صار اشتراؤه ثوبًا واحدًا، فأخذ ثوبًا ونصف الثّوبَ الباقيَ بحكم اختياره الآن، ونصفَ الثّوب الّذي وَزَنَ نصفَ ثمنه يتّهم على أنّه حبسه، فصار اشترى ثوبًا واحدًا من ثوبين فأخذ ثوبًا ونصفًا. فكأن من ذهب إلى هذا حمل عليه أنّه لم يضع له الثوّب ولكنّه حبسه، فصار بحبسه وغرامة نصف ثمنه كمن اشترى ثوبًا وأخذ ثوبًا ونصف ثوب. وكأن ابن القاسم قدّر أنّه لمّا حلف على الضّياع، صدق في ذلك. وإنّما غرم نصف الثّمن بحكم الضّمان لا بحكم الشّراء. فلا يقدّر أنّه اشترى هذا الثّوب لمّا غرم ثمنه بحكم التّضمين، فيقضى له بإمساك جميع الثّوب إذا شاء كما يقضى له بردّ جميعه. ولم يظنّ به أنّه حبس نصف الثّوب، فصار مشتريًا لنصف ثوب، وإنّما بيع منه ثوب كامل إذا شاء. ولأجل هذا قلنا، فيمن اشترى ثوبين على أنّه بالخيار في قبولهما أو ردّهما فضاع أحدهما: إنّ له ردّ الثّوب الباقي. ولو ظنّ أنّه حبس الّذي ادّعى ضياعه، لم يكن له ردّ الثّوب الباقي، كما ليس له ردّ أحد الثّوبين وإمساك الآخر. وقال بعض الأشياخ: لو ضاع أحد هذين الثّوبين اللّذين اشتراهما بالخيار بين قبولهما أو ردّهما، فإنّه إنّما يمكن من ردّ الباقي إذا لم يكن الّذي زعم أنّه ضاع وجهَ الصفقة وجلَّها. لأنّه إذا كان الّذي زعم أنّه ضاع وجه الصفقة وردّ الثّوب الباقي وهو أقلّها في القيمة، صار مضرًّا بالبائع في ردّه عليه أقلّ الصفقة،

فلا يمكن من هذا، كما لا يمكن البائع لثياب كثيرة استحق جلّها أن يُلزم المشتري ما لم يستحقّ منها إذا كان هو الأقلّ. هذا حكم أحد الأقسام الّتي قدّمنا. وأمّا إن عقد البيع على أنّ أحد الثّوبين لازم للمشتري ولكنّه بالخيار في تعيينه دون عقده، فإنّ الإختلاف في هذا جار على ما قدّمناه. فإنّ ابن القاسم لا يضمنه إذا ضاعا إلاّ أحدهما. وأشهب يضمنه الثّوبين جميعًا. والتّعليل للمذهبين هو ما قدّمناه. ولو قامت بيّنة على ضياعهما، فإنّ ضمان أحدهما يسقط عند ابن القاسم، كما يسقط لو اشتراه منفردًا على الخيار وقامت البيّنة بضياعه. وأشهب يضمنه كما يضمن العواري والرّهان، وإن قامت البيّنة على الضيّاع. وقد يتخرّج فيها قول ثالث، أنّه لا يضمن، إذا قامت البيّنة، ولا واحدًا منها. وقد قيل فيمن اشترى أحد عبدين على الالتزام، لكنّه بالخيار في التّعيين، إنّ أحدهما إن هلك فإنّه لا يضمنه ولو ردّ الباقي. وهذ ابن اء على أنّه لم ينعقد البيع فيما التزم انعقاده للبيع فيه إلاّ بعد أن يختار، فإذا هلك أحد العبدين قبل أن يختار، لم يلزم اختيار الباقيَ والتزامَه, لأنّه لم يلتزم عقد الاختيار فيه، وإنّما التزم عقدًا تخيّر فيه بين إثنين، وإذا لم يبق إلاّ واحد، استحال هذا التّخيير فيه. وقد قال سحنون، في أحد قولين، فيمن أعتق أحد عبديه، فمات أحدهما قبل أن يختار؛ إنّ الثّاني يبقى رقيقًا, لأنّه إنّما التزم عتقًا فيه الخيار بين اثنين، وهذا الخيار يستحيل إذا بقي عبد واحد. وقال في قوله الآخر: بل يعتق العبد الباقي. وقدّر أنّ عتق أحدهما قد لزم السيّد لزومًا لا انفكاك منه. واستحالة التّخيير في واحد لا يرفع هذا الّذي التزم من العتق. وتكون مصيبة الامتناع من التّخيير ها هنا جائحة عليه.

وقد ذكر ابن الموّاز أنّه يلزمه العقد في العبد الباقي إذا اشتراه على الإلتزام بشرط التّخيير بينه وبين آخر. وهذا جار على هذا المسلك الّذي ذكرناه في أحد قولي سحنون رحمه الله. والمشهور من المذهب أنّ الضائع من أحد الثوبين اللّذين التزم شراء أحدهما يكون من المتبايعين، والباقي بينهما على حسب مقتضى حكم الشركة في عبد بين رجلين. وهكذا ذكر ابن الموّاز وذكر ابن سحنون (أنّ الضّائع منهما لو ردّ الباقي من الثّوبين) (¬1). وكأنّه قدّر أنّ مقتضى الشركة إن اشتركا في الثوب الباقي، لكن الشركة فيه عيب، فلا يلزم المشتري شراء معيب، وقد عقد البيع فيه على السلامة من العيب، فلا يقدّر أنّه إذا كان مقتضى الالتزام ضمانَ أحدهما بلا بدّ، وجهلنا الثّوب الملتزم منهما، صار المتعاقدان كشريكين في الثّوبين، فما طرأ فيهما من ضياع وعيب، فذلك عليهما. وقد ذكر ابن حبيب أنّ هذا التّخيير لو كان في ثياب كثيرة فضاع أحدهما، فإنّه يضمنه. وضمانه إياه لا يسقط ما اقتضاه الحكم الّذي قدّمناه، فله أن يختار ثوبًا من الثّياب الباقية، أو يردّه وسائر الثّياب. ولو عقد على واحد منها على التزامه، فإنّه يضمن الواحد الضّائع، ويلزمه اختيار ثوب من الثّياب الباقية. ورأى أنّ التضمين للثّوب الضّائع لا يدفع الحكم الّذي قدّمناه في الثّوبين إذا ضاع أحدهما. وقد احتجّ في المدوّنة ابن القاسم، على ما قدّمناه عنه من مصيره إلى أنّه إنّما يضمن أحدهما ولا يضمن الآخر لكونه فيه مؤتمنًا، بأنّ مالكًا ذكر فيمن طلب رجلًا بدينار له عليه فدفع إليه ثلاثة ليختار واحدًا منها ويردّ عليه الدّينارين، فضاع من الثّلاثة ديناران قبْل أن يختار، أنّ الدّينارين الضّائعين (¬2) يكون على حكم الشّركة بين الدّافع والقابض. لأنّ القابض إنّما استحقّ مِمّا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين: والكلام غير واضح. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: أن الدينار الباقي بعد الدينارين الضائعين.

قبضه ثلثه، وثلثاه عنده بحكم الأمانة. وغلّط ابنُ حبيب ابنَ القاسم في هذا الإستدلال بالدّينارين على الثّياب. وأشار إلى أنّ الدّينارين يتّضح كونهما قبضا على الأمانة، بخلاف الثّوبين المخيّر فيهما. وأنكر بعض الأشياخ هذه التفرقة عليه لمّا كان الدّينار مخيّرًا فيه كما كان الثّوب مخيّرًا فيه. فإذا كان التّخيير يوجب ضمان الجميع، فلا فرق في هذا بين ثياب أو دنانير. واستعظم إطلاقه الغلط على ابن القاسم. وذكر ابن حبيب أنّ الّذي ذكره مالك، من كون الدّنانير فيها مضمون، ومؤتمن عليه، إنّما يتّضح إذا كانت من الكثرة بحيث يعلم أنّ فيها وازنًا يأخذه قابضها قضاء عن دينه. فإذا لم يكن كذلك، فإنّه يحلف أنّه ما علم فيها وازنا ولا يضمن منها شيئًا. وذكر أنّ هكذا قال له من كاشفه من أصحاب مالك. وقد ذكر في الموّازيّة عن ابن القاسم، فيمن طلب رجلًا بعشرة دنانير دينًا له عليه، فأعطاه دنانير ليزنها ويستوفي حقّه منها ويردّ ما زاد على حقّه، وإن نقصت عن حقّه، عاد إليه ليوفّيه، أنّها مضمونة، لكونها لا تنفكّ أن تكون قضاء أو كالرّهن بحقّه. وأشار أصبغ إلى حملها على كونها قضاء لمّا كانت لا ترجع إلى يد صاحبها. وذكر أنّه سأل ابن القاسم عن الحالف لرجل ليقضينّه حقّه إلى أجل سماه، فدفع إليه عند حلول الأجل دنانير على مثل الصفة، أنّه يحنث إن لم يدفعها إليه على وجه القضاء. فإذا تقرّر هذا، فإنّ من في يده الثّوبان، اللّذان زعم أن أحدهما ضاع، إذا ادّعى أنّه ما ضاع إلاّ بعد أن اختار الباقي، فإنّه اختلف في هذا، هل يصدق فيه ويكون لا ضمان عليه فيما ضاع لكونه بقي في يديه على حكم الأمانة لمّا أسقط خياره فيه؟ أو لا يصدق في هذا، ويتّهم أنّهْ إنّما ادّعى ذلك ليسقط الضّمان عن نفسه؟

ولو ذهبت أيّام الخيار وتباعدت فإنّه إذا اشترى أحدهما على الالتزام، اقتضى ذهابها التزام الشّركة في الثّوبين، وإن اشترى أحدهما على التّخيير في عقده وفي تعيينه، بطل العقد وسقط خياره، سواء كان الثّوبان في يد البائع أو المشتري في هذين القسمين. وأمّا لو اشترى الثوبين جميعًا بالخيار فيهما، فإنّ الحكم فيه ما قدّمناه من كون ذهاب أيّام الخيار وما قرب منها يقتضي إقرار الثّوبين في يَدِ من هُما في يديه من بائع أو مشتر، لما قدّمناه من التّعليل. والتّعليل الّذي قدّمناه يبيّن لك وجه التّفصيل الّذي فضلناه في هذه الأقسام. وأمّا القسم الآخر من أقسام العقد على أحد ثوبين، فإنّه يعلم حكمه مِمّا قدّمناه، من أن يشتري ثوبًا من أحد ثوبين على الالتزام لعقده، والثّوب الآخر هو مخيّر في قبوله أو ردّه. فإنّهما إن ضاعا أو ضاع أحدهما ضمن ما ضاع بغير خلاف. وإن قامت البيّنة جرى ذلك على ما قدّمناه من الاختلاف وإن ضاع أحدهما، جرى الأمر أيضًا فيه على حسب ما قدمناه. ويعتبر أيضًا في إمساكه للثّوب الباقي ما قدمناه أيضًا من منعه من ذلك لئلاّ يكون اشترى ثوبًا ونصفا ولم يعقد على ذلك، فجميع ما قدّمناه يجري في هذا القسم إذا قامت البيّنة على الضياع. وقد ذكر في المدوّنة فيمن اشترى عبدين بثمن إلى أجل على أنّه يردّ أحدهما عند الأجل، أنّ ذلك جائز. وهذا جار على ما قدّمناه من جواز اشتراء أحد الثّوبين على الإلزام. فكذلك هذا اشترى أحد العبدين شراءً منعقدًا لازمًا والآخر يستخدمه إلى الأجل، فكأن الثمن المؤجّل عوض أحد العبدين وعوض منفعة العبد الآخر. والتّخيير في هذا لا يمنع صحّة العقد، كما لم يمنعه فيما قدّمناه من الأقسام. لكن من شرط جواز هذا البيع أن يعيّن المردود عند الأجل قبل الشروع في الاستخدام. وعلى ذلك جملوا ما وقع في المدوّنة من إطلاق الجواز.

وهذا التأويل تقتضيه الأصول لأنّ الأصل منع بيع الغرر إذا كان الغرر مقصودًا. فإذا عقد على عبد من أحد عبدين أو ثوب من أحد ثوبين، فإنّ التّخيير في ذلك لا يتضمّن غررًا في هذا العقد، لأنّا إنّما نجيز هذا إذا تماثل الشّيئان المخيّر في أحدهما. وقد سامح في ذلك مالك، وإن اختلفت قيمة الثّوبين، فقال فيمن اشترى عددًا من ثياب في - عدل يختارها، إنّ ذلك جائز، إذا وصف ما في العدل من الثّياب، وإن اختلفت قيمة الثّياب. قال: ولكن بعد أن تكون مَرويّة كلّها أو هَروبة كلها. فأشار بهذا أنّ اختلاف أجناسها يتضمّن غررًا مقصودًا، فينهى عنه لما ورد في الحديث من النّهي عن بيعتين في بيعة (¬1). فكذلك ما ذكره في مسئلة العبدين، وتأوّلنا ما وقع في المدوّنة عليها, لأنّه إذا لم يعين العبد المردود عند الأجل، واستخدم العبدين طول الأجل، فإنّه لا يعلم كيفيّة تأثير الإستخدام في كلّ واحد منهما, ولا ما يحدث عليه من التغيّر في خلال الأجل، فيصير المستمسك به مجهولًا صفته، والمردود أيضًا كذلك، وهذا غرر يمنع منه، ويقتضي أن يشترط في جواز هذا العقد أن يعيّن قبل الشّروع في الاستخدام من يستخدمه بحقّ الملك ومن يستخدمه بحقّ الإجارة. وإن لم يفعل ذلك ووقع العقد عاريًا من التّعيين، واستخدمهما ملكًا في خلال الأجل، فإنّه يضمن نصف قيمتهما، لكون أحدهما بيع بيعًا فاسدًا والآخر استؤجر إجارة فاسدة ولم يعلم هذا من هذا، فيضمن نصف قيمتهما جميعًا، لكون كلّ واحد منهما يصلح أن يكون محلاّ في هذا العقد الفاسد. والجواب عن السؤال الخامس عشر أن يقال: أمّا الوجوه الّتي تمنع في اشتراط التّخيير في التّعيين، فإنّا قدّمنا الكلام على بعضها. وهو شراء صنف من صنفين مختلفين على إلزام البائع ما اختار المشتري منها. وذلك لما قدّمناه من كون العقد على هذا يتضمّن غررًا مقصودًا. ومنه ما فرغنا الآن من الكلام عليه في مسئلة العبدين المذكورة في المدوّنة. ¬

_ (¬1) الجامع الكبير للترمذي ج 2 ص 513 ح 1231.

ومن الوجوه الممنوعة أيضًا التخوّف من الوقوع في الرّبا، مثل أن يشتري رجل ثمرة نخلات يختارها من ثمر نخل كثير، لكن ثمر النّخل كلّه صنف واحد, لأنّه إذا كان من صنفين صار من بيعتين في بيعة، ولحق بما تقدم بيانه. وإذا كان من صنف واحد منع أيضًا لعلّة أخرى، وهو أنّ المشتري يمكن أن يختار نخلة، ثمّ ينتقل بعد اختياره لها إلى نخلة أخرى، وثمرة النّخلتين لا يتساويان في المقدار، فيكون قد باع ثمرة الأولى بثمرة الثّانية وبينهما تفاضل، فيقع في الرِّبا والرّبا محرّم. ولو كان الخيار لبائع ثمرات هذا النّخيل لكان فيه اختلاف. فأمّا مالك فإنّه أجازه، قال: كما يجوز ذلك في اختيار كباش من جملة غنم باعها. وقال ابن القاسم: لا يعجبني ذلك، ولكنّه إن وقع لم أفسخه. مراعاةً منه لمذهب مالك. وهذا الاختلاف خُزج على اختلاف أهل المذهب في المستثنى هل هو مُبقًى على ملك البائع أو مشترى من المشتري؟ فإذا قلنا: إنّ المستثنى مبقًى، فلا يمنع من هذا في جنبة البائع، لكونه أبقى ما اختار على ملكه، وإنما باع ما (¬1) بعد ما يختاره، فلا يتصوّر في هذا الرّبا. وإن قلنا: إنّ المستثنى مشترى من المشتري، فيمنع كما قال ابن القاسم. كما اتّفق هو ومالك على منع شراء ثمر نخلات يختارها. وقد وقع لابن القاسم ما يقتضي خلاف هذا الّذي بنينا عليه هذه المسئلة، وذلك أنّه قال فيمن باع دارًا واستثنى سكناها سنة فانهدمت الدّار، فإن البائع لا يرجع على المشتري بقيمة السكنى لكونه أبقاها على ملكه لم يبعها، وما كان على ملكه فلا يضمنه له غيره. وإن كان أصبغ قد قال في هذه المسئلة: إن البائع يرجع على المشتري بقيمة السكنى. وقدّر أنّ البائع باع الدّار بمائة دينار مثلًا وبسكناها سنة، والسكنى تساوي عشرة دنانير، فكأنّها عرض أضافه إلى الثّمن، واستحق من يديه، فيرجع بقيمته على من باع منه داره، على حسب ما توجبه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإنما باع ما باعه. .

النّسبة في هذه السكنى من جملة الثّمن. وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّه لا فرق بين البائع والمشتري في هذا لكون البائع يقدّر فيه أيضًا أنّه اختار ثمرة نخلة، ثم انتقل إلى خيار ثمرة أخرى، فيكون أيضًا باع تمرًا بتمر متفاضلًا. ومال إلى أن هذا ينبغي أن يوكل إلى أمانة البائع والمشتري، وينهيان عن الوقوع في هذا، ويصَدَّقان في أنّهما لم يقعا فيه. وأشار بعض المتأخّرين إلى فرق بينهما، وهو أنّ المشتري تَصوُّر تنقّله يمكن لكونه جاهلًا بثمرات هذا النّخل، فلهذا اتّفق على منعه من هذا، وأمّا البائع ثمرات نخله، فيقصد إلى جيّدها فيختار، ولا يتّهم في التنقّل لاستغنائه عنه. وقدح في هذا الفرق غيره بأن قال: لو كان عالمًا بهذا لاستثناه معيّنا, ولم يفتقرْ إلى اشتراط خيار فيه، فلمّا اشترطه دلّ على أنّه محتاج إلى الاختيار والاختبار، كما يحتاج إليه المشتري. وبالجملة فإنّ هذه الطّرائق، من الفروق وغيرها الّتي ذكرنا في هذه المسئلة، إنّما يحسن إيرادها إذا قيل: إنّ اختيار البائع أو المشتري لنخلة بخواطر القلب دون نطق اللّسان بذلك يصيّرها ملكًا له، ويَحرم عليه التنقّل، كما يحرم عليه التنقّل وقد نطق باختيار صبرة إلى صبرة أو ثمرة إلى ثمرة أخرى. وأمّا إذا قيل: إنّ الشرع إنّما علق أحكام الملك على ما ينطق به اللّسان دون ما يضمر في الفؤاد أو يهجس في النفس، فإنّه لا يحتاج عندي إلى شيء من هذه المعاني، وإنّما التّحقيق فيها النظر في هذا الأصل الذي أشرف إليه. ثم إذا ثبت تعلّق الأحكام بما تتحدّث به النّفس في هذا دون ما نطق به نظر حينئذ هل تحمى الذّريعة في هذا فيمنع منه، ولا يوكل النّاس إلى أمانتهم فيه، كما قدّمناه في بياعات الآجال؟ أو لا توجب حماية في مثل هذا المبنيُّ التّحريمُ فيه على ما يضمَر في الفؤاد؟ ولو كان هذا الثّمن أو غيره، من أنواع الأطعمة المخيّر فيها، مِمّا لا ربا فيه، وهو صنف واحد متساوٍ مِمّا يجوز اشتراط التّخيير فيه، أو كان عروضًا،

فإن هذا يسقط فيه اعتبار الرّبا. وإنّما يعتبر فيه ألاّ يقع فيه تراخ, لأنّه إذا وقع فيه تراخ، أو وقع (¬1) في بيع الطّعام بالطّعام على خيار وتراخ، فلا يجوز ذلك كما لا يجوز ذلك في الصّرف. ولو كان هذا الطّعام لا ربا فيه، صنفين لمنع التّخيير، لما قدّمناه من كونه من بيعتين في بيعة. وقد ذكر في الحاوي أنّه لا يجوز التّخيير في الطّعام. وتأوّله الشّيخ أبو القاسم ابن الكاتب على ما وقع فيه تراخ، لأجل ما نبّهنا عليه من اشتراط المناجزة في هذا وفي الصّرف. ولو كان المختار من هذا الطّعام، الّذي فيه الرّبا أو لا ربا فيه، بيع على الكيل لم يكن في التنقّل بيع له قبل قبضه، وإن كان على الكيل، لكون هذا كالمبادلة. وقد قدّمنا في كلامنا على بيع الطّعام قبل قبضه ما يجوز في ذلك وما يمنع، وأن أخذ سمراء من محمولة كيلًا متساويًا جائز، لكونه مبادلة لا مبايعة. وينبغي أن يعلم أنّا نجيز للمشتري اشتراط اختيار عدد من جملة متماثلة. وسواء كان العدد المشترى أكثرَها أو أقلَّها، مثل أن يشتري ثوبًا يختاره من عشرة أثواب، أو يشتري تشعة أثواب يختارها من عشرة. وأمّا البائع فإنّه يجوز له الخيار إذا اشترط اختيار الأقلّ في العدد. مثل أن يبيع عشرة من الثِّياب على أن يختار ثوبًا أو أربعة. وأمّا إن اشترط خيار ثمانية أو تسعة، فإنّه يمنع من ذلك عند ابن القاسم، ولا يمنع منه عند سحنون، لكون المشتري مفتقرًا إلى اختيار المبيع واشتراط الخيار فيه، فلا يتّهم أنّه قصد الغرر والتّخاطر لأجل حاجته إلى الخيار، والبائع في الغالب مستغن عنه، فإنّما يجوز له منه ما لا يتصوّر فيه القصد إلى الغرر غالبًا، فإذا اشترط البائع اختيار ثوب أو ثوبين من عشرة، فإنّ المشتري يعلم أنّ جلّ الصفقة تبقى له، فلا يتحسّس إلى العدد الّذي يختاره البائع. فإذا اشترط البائع اختيار سبعة أو ثمانية، تَحسّس المشتري إلى ذلك لو قدّر أنّه إنّما يحصل له رديء الثياب. وأمّا سحنون فإنه رأى أن لا فرق بين البائع والمشتري في هذا، وفي احتياجهما إلى شرط الخيار، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْقَعَ.

فأجاز ذلك للبائع، وإن كثر عدد ما يختاره. هذا في اشتراطه اختيار عدد، وأمّا في اشتراطه عددًا مقدّرًا ولم يشترط فيه خيارًا، فإنّا نجيز ذلك للبائع، والمشتري. إذا عَلِم مبلغ عدد الجملة، يكون شريكًا بمقدار العدد. مثل أن يشتري عشر نخلات من مائة نخلة ولا تمر فيها، أو عشرة ثياب من مائة ثوب، فإنّه يكون شريكًا في جميع النّخل بعشرها، ولكنّه يفتقر في هذا إلى معرفة عدد النّخل، ليحصل الجزء المشترى معلومًا. وأمّا إن اشترط خيار عشرة ثياب، فإنّه لا يفتقر إلى معرفة عدد في هذا, لأنّ الّذي اشترى معلومًا يتميّز بالإختيار، والّذي اشترى عشرة غير متميّزة في العقد ولا بالإختيار، وإنّما اشترى أجزاء من المبيع، فمن شرط صحّته أن يكون الجزء معلومًا. إلى هذا أشار بعض الأشياخ، وهو مبنيّ على ما قدّمناه من اعتبار رفع الغرر في الشّراء لما يختار. وقد أجاز أهل المذهب أن يشتري صبرة من طعام كلّ قفيز بدرهم، وإن لم يعلم عدد ما فيها من الأقفزة، لما كان شراؤها جملة على غير قيل يجوز، وكذلك هذا. ولو أنّ البائع استثنى مِمّا باع جزءًا معلومًا بالنّسبة لا بالعدد، أو اشترى ذلك المشتري لأجزناه من غير اعتبار لهذا الجزء، هل هو الأقلّ من الجملة أو الأكثر. لأنه إذا استثنى منه من هذه الصبرة ربعها أو ثلاثة أرباعها. أو باعها البائع واستثنى ربعها أو ثلاثة أرباعها، فإنّه يعود الأمر فيه إلى معاوضة على جزء معلوم محدود فلا يمنع. وعلى هذا الأسلوب يجري فيمن اشترى جزءًا محدودًا، واختيار عدد معدود، مثل أن يشتري نصف هذه النّخل، أو (¬1) عشر نخلات يختارها من النّصف الآخر، فإنّه لا يمنع من هذا إذا اشتراه المشتري على هذه الصفة سواء كان العدد المختار هو الأقلَّ في النّصف الباقي أو الأكثرَ. وأمّا البائع، فلو باع النّصف واشترط خيار عشر نخلات من النصْف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَعشر.

الآخر، لجاز ذلك. ولو اشترط خيار أربعين من النّصف الآخر، لمنع من ذلك. فيكون النّصف ها هنا كالكلّ، في العقد عليه، يعتبر فيه الأقلّ والأكثر في جنبة البائع دون المشتري. وقد ذكر ابن حبيب أنه لا يجوز أن يبيع عشرة من جملة غنم، ويبيع بقيّتها من رجل آخر. قال: بخلاف الصبرة. وقد كنّا نحن قدّمنا في هذا الفصل ذكر الخلاف فيمن باع كلّ شاة بدرهم، هل يجوز ذلك أم لا؟ مع اتّفاق أهل المذهب على جواز أن يبيع صبرة من طعام، كلّ قفيز بدرهم. وذكرنا أنّ الذاهب إلى المنع يرى أنّ الغنم لمّا كان لا يجوز بيعها جزافًا منع أن يباع كلّ شاة منها بدرهم من غير أن يعلم منتهى العدد. لأنّه إذا لم يعلم منتهى العدد، صار ذلك كبيع الغنم جزافًا. وكذلك أشار بعض الأشياخ ها هنا إلى أنّ الفرق بين بيع مكيل من الصبرة من رجل، وبيع بقيّتها من رجل آخر أنّ ذلك جائز، ولا يجوز مثل هذا في الغنم على حسب ما حكيناه عن ابن حبيب أنّ الجزاف يجوز في بيع الطّعام ولا يجوز في بيع الغنم. وإن كان بعض أشياخي تأوّل عن ابن حبيب غير هذا التأويل، وذكر أنّه إنّما يمنع من هذا في الغنم إذا كانت قليلة، فإذا اختار المشتري ما اختار، ولم يبق إلا الشّرار، فيكون تخصيصها بالبيع غررا. فإذا كانت الغنم كثيرة، ولا يتحسّس إلى مقدار ما يأخذه المشتري الأوّل من خيارها، جاز ذلك لارتفاع الغرر فيه. وقد وقع في الموّازيّة في بائع باع مائة رأس من الغنم واستثنى رأسًا من شرارها، "أنّ ذلك يُتَّقَى لما فيه من الخطر. وقال ابن الموّاز في كتابه: القياس جوازه. ولو باع من مشتر عشرة من الغنم، يختارها من الجملة، ثمّ باع منه عشرة أخرى، يختارها أيضًا، فإنّ ذلك جائز، ويقدّر أنّ المشتري اشترط خيار عشرين. وقد قدّمنا أنّه يجوز له أن يستثني خيار الأقلّ من العدد. وأنّ أكثر فيه

قولان. ويختلف في النصف هو كالقليل أو كالكثير ها هنا. ومن لم يجز هذا قدّر تصوّر الغرر يكون الثّاني إنّما يختار ما فَضُل عن خيار الأول، وهو لا يدري موقع اختياره، فصار في هذا البيع تخاطر. ولو أنّ البائع استثنى من مائة شاةٍ باعها شاةً، فردّها (¬1) عليه المشتري بثمنها، فإنّ ذلك لا يجوز. ولو سمّى مقدار الثّمن الّذي يردّها به، لجاز ذلك. هكذا ذكر ابن الموّاز وفي المستخرجة: لو اشترى مائة رأس من الغنم، وفيها كبش معتلّ، واشترط المشتري الخيار فيه، إمّا أن يقبله أو يردّه بحصّته من الثّمن، أنّ ذلك يفسخ ويقضى فيه بالقيمة، على حسب ما يقضى به في البياعات الفاسدة. وأشار الشّيخ أبو إسحاق إلى أن هذا مبنيّ على مذهب ابن القاسم في منعه رجلين أن يجمعا سلعتيهما ويبيعانها بثمن معلوم، لكون كلّ واحد منهما إنما يعلم مقدار ما باع به بعد الفضّ واعتبار القيم. وكذلك ها هنا قد اشترى هذه المائة رأس بمائة دينار، واشترط ردّ شاة منها بحصّتها من الثّمن، إنّما يطّلع عليه بعد العقد. وهذا الّذي قاله الشّيخ أبو إسحاق من إشارته إلى إجازة هذا على مذهب أشهب الّذي يجيز لرجلين أن يجمعا سلعتيهما في البيع قد يقدح فيه بأنّ المشتري للسلعتين عالم بجملة ما يدفعه من الثّمن، وتحقّق ذلك حين العقد، وإنّما تبقى الجهالة في جنبة البائعين. والجهالة في مسئلتنا هذه في الطّرفين معًا؛ لأنّ المشتري لا يعلم حين العقد ما ينوب هذه الشّاة المردودة من الثّمن، وإذا لم يعلم ذلك لم يعلم مبلغ ما يزنه في التّسعة والتّسعين المنعقد فيها الشّراء. وكذلك البائع أيضًا لا يعلم المبلغ الّذي يقبضه فيها، فهذا مِمّا ينظر وقد منع أشهب من اشترى عشرة من الغنم يختارها من الجملة أن يبيع العشرة من آخر قبل أن يختار, لما في هذا من الغرر. لكون المشتري من المشتري الأوّل لا يعلم حقيقة ما اشتراه، ولا صفة ما يختاره الأوّل، واختيار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَرُدُّها.

الناس يختلف اختلافًا كثيرًا بقدر تفاوتهم في الميز والحذق. وكذلك منع أيضًا أن يُربحه آخر دينارًا على أن يجعله مكانه في الإختيار، فيختار لنفسه العشرة الّتي اشتراها الأوّل على خياره. وبعض الاْشياخ أشار إلى تعقّب هذا ورأى أنّ مقتضى ما قاله أشهب المنع من أن يأتي المشتري الأوّل برجل يختار له. وهذا لا وجه لمنعه, لأنه خلاف ما يدخل النّاس عليه، وربّما أدّى اشتراط منعه من استشارة غيره وقصره على اختيار نفسه، إلى المخاطرة، والظّن بالبائع إنّما منعه من أن يستشهر (¬1) لاعتقاده قلّة بصره وميزه لما يختار، فصار هذا نوعًا من الخطار. قال القاضي أبو محمّد قدّس الله روحه: والبيع جائز منجّز (¬2) وبشرط الخيار. والخيار يثبت في البيع بأمرين: أحدهما بمقتضى العقد، والآخر بالشّرط. فالأوّل ضربان: أحدهما أن يخرج المبيع من الصفة أو بأن يجد به عيبًا (¬3). والآخر مختلف فيه: وهو أن يكون فيه مغابنة خارجة عن حدّ ما يتغابن النّاس بمثله. فقيل إنّ البيع لازم ولا خيار. وقيل: للمغبون منهما (¬4) الخيار إذا دخل على بيع النّاس المعتاد. قال الإِمام رضي الله عنه: هذا الفصل يشتمل على حكم الرّدّ بالعيب. ونحن سنتكلّم عليه في الفصل المختصّ به من كتاب التّلقين. واشتمل على حكم الغبن في البيع، والخلافُ في ثبوت الخيار بذلك مشهور في المذهب عندنا. وبأن لا خيار للمغبون قال أبو حنيفة والشّافعي. وعندي أنّه قد يتعلق بما وقع في المدوّنة من وكيل وكّل على شراء سلعة فاشتراها بأضعاف قيمتها، فإنّ ذلك لا يلزم الآمر. قال في المدوّنة: ويلزم المأمور. ولا يلتفت في هذا الإطلاق ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يستشير. (¬2) في غ، والغاني: منجزًا. (¬3) هكذا في النسختين، والذي في غ والغاني: أحدهما أن يخرج المبيع على خلاف ما دخل عليه، وذلك بأن يخالف ما شرطه من الصفة أو بأن يوجد به عيب. (¬4) (منهما) ساقطة في غ والغاني.

إلى كون المأمور مغبونًا. لكنّه قد يعتذَر عنه بأنّه لم يُرِدْ الكلام على حكم الغبن، وإنّما أراد أنّ ذلك يلزم المأمور، وأن يكون اشترى وهو عارف بالقيمة. واختلف أصحابنا أيضًا في تقدير الغبن الموجب للخيار عند من رأى ذلك من أصحابنا. فقيل: هو محدود بالثلث فأكثر. وقيل: لا حدّ له، والمعتبر فيه العوائد بين التّجّار، فما علم أنّه من التّغابن الّذي يكثر بينهم ويتكرّر وتختلف فيه اَراؤههم فإنّه لا مقال فيه للمغبون باتّفاق. وما خرج عما اعتادوه من ذلك، فإنّ للمغبون الخيار. وأمّا من حدّه بالثّلث، فإنّه مضى على ما تقتضيه شواهد الأصول الّتي حدّ فيها الكثير الثّلث. وقد قال عليه السلام: "الثلث، والثلث كثير" (¬1). وأمّا من أحاله على العادة، فإنّه يقول: ما لم يرد الشّرع فيه بتحديد فإنّه يرجع فيه إلى مقتضى العوائد. وقد اختلف عندنا في الثّلث في المسائل اتتي وقع فيها التّحديد، هل هو كثير أوقليل، على ما سنبيّنه إن شاء الله تعالى في موضعه. وينبغي أن تعلم أنّ الخلاف في هذا لا يقع في الغبن علي الإطلاق، وإنّما هو مقيّد بأن يكون المغبون لم يستسلم لمن باع منه، ولا هو أيضًا من أهل المعرفة وبقيمة ما اشتراه، وإنما وقع في الغبن غلطأوهو يعتقد أنّه لم يغلط. وأمّا إن علم القيمة فزاد عليها، فإنّه يقدّر كالواهب إن فعل ذلك لغرض له فيه. وكذلك إن استسلم البائع وأخبره أنّه غير عارف بالقيمة، فذكر له البائع ما أغراه به، مثل أن يقول: أعطيت فيها كذا، أو قيمتها كذا، أو سمّى الّذي باعها به منه، فإنّ هذا ممنوع منه باتّفاق. ¬

_ (¬1) جزء من حديث متفق عليه. عن سعد ابن أبي وقاص، أوله: جاءني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدني في عام حجّة الوداع ...

وغبن المستسلم لا يجوز، فإن وقع كان للمغبون المقال في الغبن، كما يكون له في النّجش، على حسب ما تكلّمنا عليه في كتابنا المعلم. وهذا الإختلاف سببه ما وقع من ظواهر تجاذبها المختلفان. فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬1) الآية. فيقول من يرى الخيار للمغبون: إنّ الغبن أكل مال بالباطل، فلا يقضى به، لنهي الله تعالى عنه. ويقول من لا يرى الخيار للمغبون: قد استثنى تعالى من ذلك التّجارة استثناء عامًا. وكلّ تجارة الأكل فيها جائز على الإطلاق، كان فيه غبن أو لم يكن. ويقول الآخرون: هذا الاستثناء كأنّه ليس من الجنس ولا عائد للأوّل، وتقدير الكلام: لكنْ التّجارة عن تراض جائزة. وأمّا أكل المال بالباطل، فلا يقع فيه استثناء. وكذلك نهيه عليه السلام عن إضاعة المال (¬2) يتعلّق به من قال: للمغبون الخيار ويقول الآخرون: المراد بإضاعة المال إتلافه في غير غرض صحيح يقتضيه العقل، فأفا ما اقتضاه رأى رجل لغرض صحيح، أخطأ فيه أو أصاب، فغير مراد بهذا الحديث. وكذلك أيضًا تجاذب حديث حبّان لما شَكَا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه يخدع في البيوع فقال: "إذا بايعت فقل لا خلابة" (¬3). ولم يحكم له بردّ ما تقدّم من الغبن. فلو كان يجب لبيّن ذلك، ولقضى له به. ويقول الآخرون: هذا لا حجّة فيه لأنّه لم يثبت عنده الّذي شكاه من الغبن ولا مقداره، ولا يلزم القضاء بما لم يثبت. ويقول الآخرون: قد قال عليه السلام: "لا خلابة"، وهذا يقتضي نفيها، اشترطت أو لم تشترط. ويقول الآخرون: إنّما يقتضي ردّ الغبن إذا اشترط: لا مغابنة. وأمّا إذا لم يشترط ذلك، فلا يردّ. والمراد بهذا اشتراط ألاّ مغابنة، ولو كان للمغبون مقال، لم يفتقر إلى اشتراط. ¬

_ (¬1) سورة النساء: 29. (¬2) فتح الباري ج 13 ص11. (¬3) أخرجه أبو داود: بيوع مختصر المنذري5: 141.

وكذلك أيضًا يُتعلّق في هذ ابن هيه عليه السلام أن يبيع حاضر لباد (¬1)، وإنّما هذا ليُغْبَن البادي، ولو كان الغبن حرامًا ما نهي عن أمر يؤدّي إلى رفعه. ويقول الآخرون: إنّما شُرِع هذا لكون أهل البدو وأموالهم غلاّت إن ذهبت تعود. لا أثمان يَبذلُونها في هذه الغلاّت، وأهل الحضر يشترون غلاّت أهل البدو بالدّنانير والدّراهم، ويعسر عليهم خلفها. فوازن بين الضررين، فرخح حقّ من يدفع ما لاَيمكنه خلفه إلاّ بمشقّة، على حق من يمكنه الخلف من غيرمشقّة. فلا مدخل لهذا فيما نحن فيه؛ لأنّا نتكلّم على حضرييّن أو بدوييّن تبايعا فتغابنا. وكذلك يُتعلّق في هذ ابن هيه عليه السلام عن تلقّي الركبان (¬2). وقد وقع في كتاب مسلم أنّ البائع بالخيار إذا أتى السوق (¬3). فأثبت النبي عليه السلام الخيار للجالب لأجل ما يلحقه من الغبن. وهذا من أمثل ما يتعلَّق به أهل هذا المذهب. على أنه يجيب عنه الآخرون بأنَّه عليه السلام إنَّما نهى عن التلقي لحق أهل السوق، لئلاَّ ينفرد الخارج عن المدينة بالأرباح دونهم. وإن خرجوا كلهم، فقد أضرَّ بالناس فقد جميع أهل السوق فنهي المتلقي عن ذلك لحق أهل السوق. فإذا باع منه الجالب وأتى إلى السوق، فكان العقد قد منع الشرع منه المشتري لحق أهل السوق، وجب فسخه، فلم يلزم البائع إلاَّ أن يختار إمضاء على نفسه بعد الإطلاع على الغبن، فيكون كالواهب لماله فلا يمنع من هذا. فأنت ترى كيف وقعت المشاركة في هذه الظواهر والمزاحمة عليها. وينبغي أن تعلم أنَّا قدَّمنا أنَّ المستسلم وإن لم يشترط ألاَّ غبن، فإنَّ استسلامه لمن باع منه كالشرط عليه بان لا يغبنه. واتفق على أن للمغبون مقالًا. كما أنَّ من علم القيمة فزاد عليها، اتفق على أنَّه لا مقال له, لأنَّه كالواهب. ¬

_ (¬1) اللؤلؤ والمرجان: 973. (¬2) اللؤلؤ والمرجان: 973. (¬3) إكمال الأكمال: 4: 188.

والمغبون غلطًا منه على نفسه، هل يقدر أنَّه كمشترط في رضاه ألاَّ يكون غبنًا فيكون له الرد؟ أو لا يقدر مشترطًا بل هو راضٍ بما عقد على نفسه على أي حال كان، فيلزمه ذلك؟ وقد ضمن القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب إلى هذا المعنى الذي نبهتك عليه بأن قال في آخر كلامه؟ إذا دخل على بيع النَّاس المعتاد. فأشار بهذا إلى ما قلناه وبالله التوفيق.

كتاب الرد بالعيب

كتاب الرّدّ بالعيب

بسم الله الرحمن الرحيم صلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كتاب الرد بالعيب قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: ومن ابتاع سلعة على السلامة فظهر (¬1) بها عيب يوجب الرد، فهو بالخيار بين أن يرد ويرجع بالثمن، شاء البائع أو أبى، أو يمسك، ولا شيء له: أرش ولا غيره، إلاَّ أن يبذل له البائع الأرش. ولا يلزم في الأرش بذله ولا أخذه بالتراضي (¬2) ما دام رد العين ممكنًا. قال الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما الدليل على تحريم البيع بالعيب؟ 2 - وهل يمنع التدليس من صحَّة البيع؟ 3 - وما حكم العيب إذا اطلع عليه المشتري؟ 4 - وهل تختلف العقود في الرد بالعيب؟ فالجواب عن السؤال الأوَّل أن يقال: أمَّا الغش والتدليس في البياعات فمحرَّم. والدليل عليه من الكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة. فأما الكتاب فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}. (¬3) فإذا باع سلعة وكتم ما بها، فقد أخذ ما زاد من الثمن، ¬

_ (¬1) في غ: نوج. (¬2) في غ والغاني: ولا يلزم يدل الأرش ولا أخذه إلاَّ بالتراضي. (¬3) سورة النساء: 29.

وهي سليمة، على ثمنها معيبة. وفي الصحيح أنَّه عليه السلام قال: "لا تصرُّوا الإبل" (¬1) الحديث. فنهى عن التصرية، وهي ترك اللبن في الضرع ليعظم جرمه في العين، فيعتقد المشتري أنَّ ذلك عادتها في الحلاب، فيزيد في الثمن لأجل هذا التدليس. وقد خرج مسلم في صحيحه أنَّه عليه السلام مرَّ بصبرة طعام فأدخل يده فيها فنال أصابعه بلل، فقال: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله أصابته السماء، فقال: هلاَّ جعلتموه على وجه الصبرة حتَّى يراه الناس، من غشَّ فليس منَّا. (¬2) وقد ذكر في الحديث أنَّه أوحي إليه: بأن أدخل يدك فيها، فبالغ - صلى الله عليه وسلم - في التغليظ في المنع من الغش حتَّى أورد كلامًا ظاهره إخراج الغاش من الدين. وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث، وهو قوله عليه السلام: "من غشَّنا فليس منَّا" على خمسة أقوال. فمنهم من قال: المراد به أنَّ من غشَّ فليس على ديننا. قال ابن داوود: هذا غلط لأنَّ الغاش ليس بكافر. وهذا الذي قدح به ابن داوود في هذا التأويل بعض الناس إلى أن حمل الحديث على أنَّ المراد به: من غشَّنا مستحلا لغشنا، وهذا لا شكَّ أنَّه يكفر به الغاش؛ لأنَّ استحلال ذلك مع أنَّ الشرع حرَّمه تكذيب للشرع، ومن كذَّب الشرع فهو كافر. وكان يقال في المذاكرة، فيصير هذا الإستدراك قولًا ثانيًا. وقد قيل: إنَّه ليس مثلنا. وطعن ابن داوود في هذا التأويل، وقال: النبي عليه السلام لا مثل له. هذا الذي طعن به ضعيف، لأنَّه صدق في أن النبي لا مثل له منا في نبوَّته وعصمته وشرفه عند الله تعالى، وليس المراد بقول هؤلاء: ليس مثلنا في ذلك، وإنَّما المراد ليس مثلنا في تحريم ما يحرم وتحليل ما يحل والكف عن المحرَّمات. وقيل: المراد ليس منا في فعلنا وسنَّتنا. وأنكر ابن داوود هذا أيضًا، وقال: الغش غير الغاش، وإنَّما ذكر في الحديث الغاش لا فعل الغاش. وهذا ¬

_ (¬1) مسلم: إكمال الإكمال 184:4. (¬2) مسلم: إيمان: ح164 - أبو داود بيوع: 50.

أيضًا قد يجاب عنه، قد يراد بهذا التأويل: الكناية عن الغاش. وقيل المراد: ليس هو على مثل فعلنا وسنَّتنا. وهذا الذي اختاره ابن داوود لأجل ما قدَّمه من القدح في التأويلات التي ذكرناها. وقد ذكر ابن حبيب من أصحاب مالك أنَّ المراد ليس مثلنا ولا على سنتنا. فأنت ترى ابن حبيب كيف استسهل الجمع بين تأويلين مما قدمنا، وهما نفي المثلية والإتباع على الفعل، فدلَّ على أنَّ المراد بهذين متقارب. وإنَّما المقصود ليس على سنَّتنا ولا متبع لنا. كما حكي في الكتاب العزيز عن إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. (¬1) ومعلوم أنَّ مراد إبراهيم صلوات الله عليه بقوله: "فإنَّه مني لما أي على سنَّتي وطريقتي وهديي. وكذلك قوله عليه السلام: "من غشَّ فليس منَّا" المراد به على سنتنا وهدينا. ومما يدل أيضًا على تحريم التدليس ما رواه عقبة ابن عامر الجهني أنَّه عليه السلام قال: "لا يحل لمسلم أن يبيع من أخيه بيعابه عيب إلاَّ أن يبينه" (¬2). وقال أيضًا عليه السلام في المتبايعين: "إن صدقا وبيَّنا بورك لها وإن سكتا وكتما محقت بركة بيعهما" (¬3). وأمَّا الإجماع فليس بين المسلمين خلاف في تحريم الغش والتدليس في البياعات. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا ثبت تحريم الغش والتدليس في البياعات لأجل ما قدَّمناه من الأدلَّة، فإن البيع إذا وقع على ذلك لم يمنع من صحَّته وانعقاده. ولا يكون البيع فاسدًا يفسخ وإن رضي به المتبايعان. هذا مذهب فقهاء الأمصار. ومن الناس من ذهب إلى أنَّ البيع يفسد بذلك، وقرَّر أن التدليس لما ورد ¬

_ (¬1) سورة إبراهيم: 36. (¬2) ابن ماجة: تجارات ج: 45. (¬3) فتح الباري 5: 216 - وأخرجه مسلم والترمذي وأحمد.

الشرع بتحريمه، صار البائع قد عقد بيعًا منهيًا عنه محرمًا عليه. والنهي يدل على فساد المنهي عنه عند بعض أهل الأصول. وهذه الطريقة التي استند إليها من صار إلى هذا المذهب. وقد أجيب عن هذا بأنَّ النَّهي إنَّما يدل على فساد المنهي عنه إذا كان النهي لحق الله تعالى، وأمَّا إذا كان لحق الخلق، فإنَّه لا يدل على فساد العقد، والنهي عن التدليس لحق الخلق وكون المشتري لا يحل ظلمه وأخذ ماله بالباطل، فلم يقتض هذا النهي فساد العقد. وهذا الذي ذكرناه عن ذهاب أصحاب هذه الطريقة إلى اعتبار النهي، هل يتعلَّق بحق الله سبحانه أو بحق الخلق؟ قد ينتقض عليهم بغاصب غصب سلعة فباعها فأراد ربها لما مكن منها أن يجيز البيع، فإنَّ المشهور عندنا من المذهب أنَّ ذلك له. وحكى ابن شعبان قولًا ثانيًا: أنَّه يفسخ، ولا يمكن رب السلعة المغصوبة من إجازة البيع. وهذا لأن هؤلاء اعتقدوا أنَّ هذا إذا اشتراه منه كان منهيًا عنه، اقتضى ذلك فساد العقد. ولكن قد يقال في هذا: إنَّ الغصب لو علم به المشتري لم يمكن رب السلعة من إجازة ذلك وإمضائه، لكون المشتري قد دخل على غرر وهو ترقب إمضاء رب السلعة للبيع أو رده، كما قيل في أحد القولين عندنا في هذا. والعيب لو علم به المشتري ولم يكن (¬1) فعل البائع منهيًا عنه إذا علم أنَّ المشتري قد علم به، ولا يتعلَّق بعقده خيار لغيره، فيكون العقد فيه غرر. ومن آكد ما يدل على أنَّ التدليس لا يمنع من صحَّة البيع حديث النهي عن التصرية فإنَّه عليه السلام قال: "لا تصروا الإبل فمن اشتراها فهو بخير النظرين إن شاء أن يمسكها وإن شاء أن يردها وصاعا من تمر" (¬2) الحديث المشهور. فنصَّ ها هنا على أنَّ المشتري له الإستمساك بالبيع الذي دلس البائع فيه بالعيب. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب: لم يكن (بحذب. واو العطف). (¬2) فتح الباري ج5 ص265/ 273.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: حكم المبيع إذا اطلع فيه على عيب فخير المشتى بين الرضا بالمبيع معيبًا ولا يسترد من الثمن شيئًا، أو يرد المبيع ويأخذ جميع الثمن على ما اقتضاه حديث المصراة. وسنعتذر عن ذكر الصالح في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأيضًا فإن المشتري لا يلزمه أن يأخذ معيبا، وقد نقد الثمن في سليم من العيب, لأنَّ ذلك تجارة لم يرض بها. وكذلك لا يلزم المشتري إذا بذل البائع له قيمة العيب قبول ذلك منه لأنَّه لم يرض إلاَّ بشراء سليم من العيب. وكذلك أيضًا لا يجبر البائع على دفع قيمة العيب لأنَّه لم يرض أن يبيع إلاَّ بالثمن الذي أخذه فلا يلزمه البيع بأقل منه. فإن قيل: قد قلتم في استحقاق الأقل من المبيع إذا كان جملة عدد: إنَّ البيع منعقد في الأكثر، ويرجع المشتري بما استحق، فهلاَّ كان حكم العيب كذلك, لأنَّه جزء ذهب من المبيع كما ذهب الجزء بالاستحاق؟ قيل: استحقاق ثوب من عشرة أثواب لا يعيب الثياب الباقية ولا يزهد في المقصود منها. وإذا اشترى ثوبًا فوجد قطعًا أو خرقًا، فإنَّ ذلك الجزء الذاهب، وإن اختص بمحله، فإنَّه يسري إلى جملة الثوب، وكأنَّ العيب وجد في كل جزء منه، فصار المقصود من المبيع لم يحصل، فأشبه استحقاق الأكثر من العدد في المبيع. فإذا علم أنَّ الحكم مع قيام المبيع وكونه لم يتغيَّر تخيير المشتري من الرد وأخذ الثمن، أو يتمسك بالمبيع ولا شيء له، فإنَّ التراضي على أخذ الأرش وهو قيمة العيب جائز. قال القاضي أبو محمَّد في غير هذا: خلافًا لمن منعه. والذي أشار إليه بأنَّه معه هو الشافعي, لأنَّه منع من ذلك. منع من أخذ عوض عما ثبت للشفيع عن إسقاطه ما له من التخيير في الأخذ بالشفعة أو إسقاطها على مالًا يأخذه, لأنَّه يقدر أنَّ التخيير المستحق في مثل هذا ليس بمال فيصح أن يعاوض عنه بمال. وخالفه ابن شريح من أصحابه فاجاز التراضي على أخذ الأرش، كما يجوز الترانحي على إسقاط القصاص، لكون ذلك مما يرجع إلى م الذي بعض الأحوال.

وهذا الذي أشار إليه القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا من أنَّ مذهبنا جواز التراضي على أخذ الأرش، ومذهب غيرنا المنع منه، يجب عندي أن يفصل القول فيه إذا قصد إلى حكايته المذهب. فيقال: إن علم المتبايعان بمقدار قيمة العيب قبل التراضي به، فإنَّ هذا لا يمنع، ولا يتصوَّر فيه وجه يوجب المنع منه، لارتفاع الجهالة مع هذا التراضي، ويقدر أنَّهما استأنفا عقدا ثانيا بثمن معلوم. وأمَّا إن تراضيا على الرجوع بقيمة العيب، وهما غير عارفين بقيمته، فإنَّ هذا يجري عندي على القولين في مسألة استحقاق أكثر الصفقة المبيعة، كمشتري عشر ثباب استحق منها ثمانية، فإنَّ المشهور من المذهب منع المشتري من الاستمساك بالثوبين الباقيين بمقدار حصتهما، لكون ذلك كابتداء عقد بثمن مجهول. وأجاز له لك في كتاب ابن حبيب وكذلك التراضي بأخذ الأرش مع كون المشتري قادرًا على أن يرد المبيع المعيب ويسترجع الثمن المعلوم الذي دفع، فعدوله عن ذلك، كاستئناف عقد بثمن مجهول، فبمنع على المذهب المشهور. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: العقود ثلاثة 1 - عقد معاوضة مبني على المكايسة كالبيع المحض، فهذا يثبت فيه الرد بالعيب. 2 - وعقد طريقه الصلة المحضة كالهبة والصدقة، وهذا لا يتصوَّر فيه حكم الرد بالعيب، إذ لا عوض له يرتجعه بالرد بالعيب. وعقد ظاهرة المكارمة وباطنه المعاوضة كالهبة المقصود بها طلب المكافأة، فهذا نبسط القول فيه في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى. وحكى القاضي إسماعيل، رضي الله عنه عبد الملك ابن الماجشون أنَّ الموهوب لا يرد الهبة بالعيب. وقاله المغيرة إلاَّ في العيب المفسد. وكأنَّ من ذهب إلى هذا يقدر أنَّ الموهوب إنَّما قبل الهبة ليبذل أكثر من قيمتها، فإذا لم يكن قصد الموهوب المكافأة بالقيمة بل بأكثر منها, لم يكن له مقال, لأنَّ سبب وجوب الرد بالعيب ما يؤدي إلى الانتقاص ممَّا دخل عليه المشتري. قال القاضي أبو محمَّد. رضي الله عنه: وحدوث عيب عند المشتري ليس

بفوت يمنع الرد. وهو بالخيار. إن شاء رده وما نقصه العيب عنده، وإن شاء تمسك به وأخذ الأرش. قال الإِمام رحمه الله يتعلَّق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما أقسام العيوب الحادثة عند المشتري؟ 2 - وما حكم كل قسم منها؟ 3 - وما وجه إسقاط مطالبة المشري بالعيب اليسير إذا حدث عنده؟ 4 - وما الدليل على ما ذكره القاضي أبو محمَّد من تخيير المشتري؟ 5 - وهل بي سقط التخيير بإسقاط البائع طلب قيمة العيب الحادث؟ فالجواب عن السؤال الأوَّل أن يقال: العيوب الحادثة عند المشتري على ثلاثة أقسام: عيب يسير ومثله في المدونة بالحمى والصداع والرمد والكي والدماميل. وأشار إلى كل عيب محتقر لا يؤثر كبير نقص في، الثمن. وقد خولف في أحد ما مثل به وهو الحمى. فرأى سحنون أئَّها ليست من العيوب اليسيرة التي يعفى عنها. وأشار بعض الأشياخ إلى أنَّ مراد ابن القاسم الحمَّى اللطيفة التي يقرب زوالها وانقشاعها. وكذلك الرمد يختلف حاله. وذهب ابن كنانة إلى التوقف عن الرد للمبيع حتَّى ينكشف حال المرض، هل يموت العبد أو يفيق؟ وهو اختيار بعض أشياخي فيما ذكره ابن القاسم في المدونة في الرمد والحمى. وفي رواية ابن القاسم أنَّ المرض لا يمنع من الرد إلاَّ أن يكون مخوفا. وبالجملة فإنَّ مرجع الاختلاف والاضطراب في هذه المسائل راجع إلى ما يغلب على ظن الفقيه: من كون العيب الحادث يبطل الغرض المقصود فيمنع من الرد ويوجب قيمة العيب، أو لا يبطل الغرض المقصود فيثبت الخيار بين الرد وغرامة قيمة العيب الحادث، أو التمسك وأخذ قيمة العيب القديم، فيما غلب على ظنه من هذه الأحوال حكم للعيب بحكم ما قيل فيها. (¬1) ¬

_ (¬1) لم يُذكر القسمان الثاني والثالث.

والجواب كن السؤال الثاني أن يقال: أمَا العيب اليسير الحادث عند المشتري، فالحكم أن يعفى، ولا يلزم المشتري غرامته إذا اختار الرد. وأمَّا العيب الذي ينقص من الثمن مما له مقدار وبال، ولكنَّه لا يبطل الغرض المقصود من المبيع، فإنَّ مذهب مالك رضي النه عنه أنَّ المشتري بالخيار بين أن يرد المبيع وقيمة العيب الحادث عنده، أو يتمسَّك ويأخذ قيمة العيب الذي كان عند البائع. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنَّ المشتري لا حقَّ له في رد المبيع، وإنَّما حقه أخذ قيمة العيب الذي كان عند البائع. وظاهر مذهب أبي ثور أن ذلك لا يمنع الرد كما قاله مالك وإن (¬1) رد ما نقص عنده، لكنَّه إن أمسك، لم يأخذ قيمة العيب خلافًا لما حكيناه عن مالك رضي الله عنه. وذكر الطحاوي أنَّه قد خالف بعض من تقدَّم ومن تأخَّر في حكم العيب الحادث، فقال عطاء: لا عهدة بعد الموت. وقال محمَّد بن شجاع: لا مطالبة للمشتري بالعيب القديم قال: وهو القياس, لأنَّ العيب ليس بمثمون، ولو كان مثمونًا لأخذ قيمة العيب مع قيام المبيع. فأشار إلى أنَّ الحكم الرد بالعيب القديم. ولكن إذا رد المبيع على البائع، على حسب ما أخذه منه، فإذا لم يمكنه ذلك، لم يمكن من رده، وإذا لم يمكن من رده، بطل حقه في القيام به. وهذه جملة المذاهب في هذا القسم. وأمَّا حكم العيب الذي يبطل الغرض المقصود فإنِّه يمنع من الرد، لكون الرد لعين المبيع يكون في معنى المستحيل. وإذا امتنع، كان من حقه أن يطلب ثمن الجزء الذي عاوض عليه ولم يدفعه البائع. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: أمَّا وجه العفو للمشتري عن غرامة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين: ولعلَّ الثواب حذف الواو.

العيب اليسير الحادث عنده، فإنَّ الأبهري أشار إلى أن هذا الحكم إنَّما يختص بعيب حدث عنده لا يؤثر نقصًا بشرط أن يكون النقص يسيرًا. وقال بعض المتأخرين: إنَّما كان الأمر هكذا لأنَّ العيب من جهة البائع. فإن كان عالمًا به، فقد دلس وفعل ما لا يحل، وظلم والظالم أحق أن يحمل عليه. فإن لم يعلم، فإنَّه مفرط. إذ لم يكشف عن العيب قبل أن يبيع، والمفرط كالمتعمد في هذا المعنى، مع كون الغالب حدوث هذه العيوب اليسيرة، فيقدر البائع كالعاقد على أن يتجاوز عن المشتري فيها. ومال بعض المتأخرين إلى أن لا يعفى للبائع عن العيب اليسير إذا اطلع عليه المشتري، ولا فرق بين البائع والمشتري في هذا. وقد أشرنا نحن إلى ما قيل من الفرق بينهما من كون البائع مدلسًا ومفرطًا، فوجب أن يحمل عليه. ومال بعض أشياخي إلى أنَّه لا يصفح للمشتري عن ذلك إذا لم يكن البائع مدلسًا، لأنَّه يرى المدلس ظالمًا يحمل عليه بخلاف من لا يدلس. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: أمَّا ما ذكرناه عن محمَّد بن شجاع فقد وجَّهناه. وأمَّا ما ذكرناه عن أبي ثور فإنَّه يحتج بحديث المصراة. وقد قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: "فمن ابتاعها فهو بخير النظرين إمَّا أمسكها أو رد وصاعًا من تمر" (¬1) الحديث المشهور. فقدر ما حلب المشتري كالنقص الحادث عنده، فرد عوضه وجعل له الإمساك من غير غرامة يطالب بها البائع. والإنفصال عن هذا الذي قال أنَّ الذي احتلبه المشتري ليس كالعيب الحادث عنده، وإنَّما هو لبن فيه حق البائع، وهو ما كان حين العقد، وفيه حق للمشتري، وهو ما كان بعد العقد، لا يتميَّز هذا من هذا، فجعل عليه السلام عوض اللبن الذي من حق البائع مع الشاة. فأفاته قبل الرد. ¬

_ (¬1) فتح الباري ج5 ص265/ 271

وأمَّا سبب الخلاف بين مالك والشافعي فإنه يلتفت فيه إلى تغليب أحد الضررين. فالبائع يلحقه الضرر إذا رد عليه ما باعه وقد تغيَّر، وعوض النقص ليس هو عين النقص، فكأن المردود ليس بعين ما باع. وكذلك المشتري يلحقه الضرر إذا أمسك المعيب وغرم (¬1) عوض النقص لأنَّه لم يدخل على ذلك. فإذا تقابل الضرران، رُجِّحَ أحدهما على الآخر. فرجَّح مالك جنبة المشتري بما قدَّمناه من كون البائع متعمدًا للتدليس أو مفرطًا في ترك الكشف عن العيب، فكان أولى بأن يحمل عليه فترد سلعته إليه. ورأى الشافعي وأبو حنيفة أن البائع يريد استدامة العقد، والمشتري إذا أراد الرد فقد أراد فسخه، واستصحاب انعقاد البيع أولى من إحداث حكم آخر، وهو فسخه، ألا ترى أنَّ العنين إذا ضرب له الأجل فقال: وطئت. وقالت المرأة: لم يطأ، فإن مالكًا لا يصدقها, لمَّا كانت تحاول فسخ العقد والزوج يحاول استدامته. وأجيب عن هذا التشبيه بأنَّ الزوج إذا قال: وطئت، فإنَّه لم يسلم العيب الذي ترد به المرأة النكاح. ومسئلتنا في عيب اتفق عليه المتبايعان. ألا ترى أنَّ الزوج إذا طلق وقال: كنت ارتجعت، فإنه لا يصدق، وإن كان يدعي ما يستديم العقد، لمَّا كان الطلاق وانقضاء العدَّة قد ثبت، وهو يحاول رفع ما ثبت من ذلك. وأمَّا حديث المصراة، فإنَّ المخالف يقول فيه: ما فعله المشتري إنَّما هو استعلام العيب. والحادث المفتقر إليه في استعلام العيب لا يؤثر بخلاف ما حدث مما لاتعلَّق له بالكشف عن العيب. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا حاول المشتري الذي حدث عنده عيب رد المبيع لعيب قديم، فلا قدرة للبائع أن يصده عن ذلك. وإن حاول ¬

_ (¬1) أي: أخذ المشتري غرامة النقص.

التمسك بالمبيع ومطالبة البائع بقيمة العيب القديم فقال البائع: أنا أحط عنك قيمة العيب الحادث عندك، فلا يكون لك الخيار إلاَّ في التمسك، ولا مطالبة لك علي أوتردَّ علىَّ ولا شيء على ولا شيء عليك. كما لو اطلعت على عيب كان عندي ولم يحدث عندك عيب، فإنَّك لا تمكن من مطالبتي بقيمة العيب. فإسقاط غرامة العيب الحادث عندك يصيره كما لم يحدث عندك فإنَّه يمكن من ذلك في المشهور من المذهب. وحكى ابن مزين عن عيسى ابن دينار أنَّه لا يقبل هذا من البائع، بل يبقى المشتري على خياره بين أن يردَّ ويأخذ ما نقص أو يمسك ويأخذ قيمة العيب. ولم يقدر أنَّ علَّة إثبات التخيير للمشتري ما توجَّه عليه من غرامة. ألا ترى أنَّه قد قيل في إحدى الروايتين في الحيوان الهزيل إذا سمن: إنَّه يرده، إن شاء، أو يمسك ويأخذ قيمة العيب وإن لم تتوتجَّه عليه غرامة. وهذا التشبيه ضعيف لأنَّ الخسارة للسمن كالغرامة لأخذ قيمة العيب. وقد قال بعض الأشياخ إنَّ مذهب عيسى يقتضي تمكين المشتري من المطالبة بقيمة العيب وإن لم يحدث عنده عيب لأنَّ البائع لمّا أسقط عن المشتري غرامة ما حديث عنده، صار كمن لم يحدث عنده شيء. وهذا قد ينفصل عنه بأنَّ تخير المشتري حق له قد ثبت، وإن كانت علَّته الغرامة التي تلحقه مرتفعة، فرفع الغرامة بعد أن استقرَّ حكمها كما قيل في المسائل التي ترتفع عللها ولا يرتفع حكمها على ما سيبسط في أصول الفقه. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب قبل هذا: فإن فات، لم يكن له إلاَّ الأرش. والفوت هو ما لا يمكن الرد معه إمَّا لتلف المبيع كالموت والزمانة والهرم الذي لا يبقى معه انتفاع به، وإمَّا لتلف الملك كالعتق والتدبير والاستيلاد والكتابة، وفي بيعه خلاف. والصحيح أنَّه فوت يوجب الأرش. والإباق فوت. قال الإِمام رحمه الله يتعلَّق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - ما أقسام التغير الحادث عند المشتري على التفصيل. 2 - ما يتوقَّع

منها مثل تغير الأسواق.3 - والاختلاف بنقص. مثل تغيرها بزيادة؟ 4 - ومثل تغير البدن بزيادة ومثل تغيره بنقص أو زيادة؟ 5 - ومثل ولادة الأمة؟ (¬1) 6 - وما الحكم في تلف الملك بالبيع؟ 7 - وما حكم المعيب إذا عاد إلى يد مشتريه؟ 8 - وما حكم تكرار البيع فيه بتدليس وغير تدليس؟ 9 - وما حكم المشتري إذا باع بعض المبيع؟ 10 - وما حكم وطء الأمة المبيعة؟ 11 - وما حكم رهن العبد المعيب وإجارته؟ 12 - وما حكم العيب في بعض الصفقة؟ فالجواب عن السؤال الأوَّل أن يقال: التغيير الحادث عند المشتري على قسمين: تغيير من ناحية القيمة، وتغيير من ناحية العين والتغيير من ناحية القيمة على قسمين: زيادة من ناحية القيمة، وزيادة من ناحية الجسم. والتي من ناحية القيمة على قسمين أيضًا: زيادة من ناحية السوق، وزيادة من ناحية لا تشاهد في الجسم. ولكل واحد من هذه الأقسام حكم وفروع يسيرة. فأمَّا حكم الزيادة من ناحية القيمة، فإنه لم يختلف عندنا في أنَّها لا تأثير لها. ولا تغير ما قلناه في حكم العيب المطلع عليه من كون المشتري بالخيار إمَّا أن يتمسَّك ولا شيء له، وإمَّا أن يرد ولا شيء عليه. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أمَّا التغيير من ناحية السوق، فقد ذكرنا أنَّه لا تأثير له. ومال بعض الأشياخ إلى اعتباره. وقد اعتبر أهل المذهب في البيع الفاسد تغيير السوق وجعله أهل المذهب فوتًا يمنع من فسخ البيع الفاسد. وما ذلك إلاَّ لأجل الضرر اللاحق بالفسخ، لكون السوق إذا زاد، أضرَّ بالمشتري فسخ البيع، وإذا نقص، أضرَّ ذلك بالبائع لكونه ترجع إليه سلعته وهو يخسر فيها. فجعل حوالة الأسواق فوتًا على الإطلاق، لمَّا تساوى هذا الضرر بين البائع والمشتري، فعدل بينهما بأن جعل تغير السوق بزيادة أو نقص فوتًا في حقهما جميعًا. وكان مقتضى التعليل الذي أشرنا إليه أن يكون الفوت في حق ¬

_ (¬1) الأسئلة (3) (4) (5) هي على معنى الإستفهام بدون ذكر أداته.

المشتري إذا زادت الأسواق وفي حق البائع خاصة إذا نقصت الأسواق. لكن لما تساوى الإمكان في الزيادة والنقصان من الطرفين جميعًا جعل ذلك حكمًا عامًا. وقد أشار المتقدمون إلى الفرق بين البيع الفاسد والرد بالعيب، فإنَّ البيع الفاسد دخل فيه المتعاقدان، ولا مزية لأحدهما فيه على الآخر. والعيب من جهة البائع؛ لأنِّه إن تعمَّد، كان مدلسًا. وإن لم يتعقَّد، كان مقصرًا إذ لم يكشف عن العيب قبل أن يبيع، فلم يكن لاعتبار التدليس من غير جهته معنى، مع كونه مدلسًا أو مقصرًا. وإذا لم يعتبر ذلك من جهته، لم يعتبر أيضًا من المشتري زيادة السوق عدل أبي نهما. وأمَّا إن كان تغير القيمة ليس من ناحية السوق لأمر أثر في البدن لحدوث سرقة العبد أو زناه أو إباقه عند المشتري، فإن هذا وإن نقص من ثمنه، فقد قال ابن حبيب: لا مطالبة على المشتري إذا ردَّ بالعيب بقيمة هذا العيب الحادث عنده. وأنكر أشياخنا مذهبه هذا ورأوه خلاف الأصول. وحاول بعضهم إثبات خلاف في هذا، فأشار ما رآه (¬1) ابن القاسم في المستخرجة من أن مشتري جارية اطلع فيها على عيب بعد أن أزوجها وولدت، أنَّه إن اختار ردَّها بالعيب، لم يرد قيمة عيب النكاح الحادث عنده، وقدر هذا المتأول أنَّه إنَّما قال ذلك لكون عيب النكاح نقصًا في القية لم يؤثر في العين، فأشبه حوالة السوق. وهذا عندي قد يعتذر عنه بأنَّه ذكر في الرواية أنَّ الأمة ولدت، ويمكن أن يكون ولدها جبر عيب النكاح ومحا أثر نقصه، فلم يتوجه لأجل ذلك على المشتري غرامة، كما سنحكيه عن المدونة بعد هذا في جبر عيب النكاح بقيمة الولد. وإنَّما يبعد هذا التأول الذي تأولناه كونه لم يقيد الجواب كما قيَّده في المدونة باعتبار قيمة الولد، هل يجبر عيب النكاح؟ فلهذا أطلق الجواب ولم يقيده. وقد روى محمَّد ابن صدقة في المدنية عن مالك فيمن اشترى أمة فأزوجها ثُمَّ اطلع على عيب، أنَّه له أخذ قيمة العيب أو ردَّا مع ما نقص النكاح. وهذا الذي قاله هو أصل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب: فأشار إلى ... .

المذهب لمَّا لم يكن ها هنا ولد حادث يجبر به. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: أمَّا تغير القيمة بزيادة من ناحية السوق، فقد تكلَّمنا عليه. وأمَّا تغيرها بزيادة من ناحية تعلم صناعات، فإنَّ المشهور من المذهب أن من اشترى عبدًا فعلَّمه صناعة زاد بها ثمنه، أو جارية علَّمها صناعة زاد بها ثمنها، فإنَّ المشتري إذا اطلع على عيب لم يكن له أخذ قيمة العيب لأجل هذه الزيادة، بل يخير بين الرد ولا شيء عليه (¬1) أو الإستمساك ولا شيء له. هذا هو المنصوص في المذهب. وحاول الأشياخ فيه تخريج خلاف. فقال بعضهم: قد وقع في الموّازيّة فيمن اشترى عبدًا فأعتقه وعليه دين فردَّ السلطان عتقه وباعه عليه في الدين، ثم أيسر المديان ثم أعسر، فاطلع المشتري من السلطان على عيب قديم كان عند البائع، أنَّ للمشتري أخذ قيمة العيب, لأنَّه إن ردَّه بالعيب أعتق على المديان المبيع عليه العبد لأجل ما حدث له من اليسر. وإذا أعتق عليه وقد صار معسرًا، لم يجد مشتريه عنده ما يأخذ منه الثمن، فكان تخوف هذه الخسارة عذرًا له يوجب له أخذ قيمة العيب. وكذلك خسارة ما أنفق عليه المشتري من أجرة في تعليم صناعة. وهذا يجاب عنه بأن يقال: العذر في مسألة ابن الموّاز كون المشتري لمَّا اختار الرد تضمَّن الردَّ المطالبة بالثمن، وهذا لا يجد ثمنًا، فلم يلزمه تسليم المثمون من غير أخذ ثمنه. وما أنفق من أجرة في تعليم صنعة لا تعلق له بالرد ولا بالثمن، فلهذا لم يكن للمشتري فيه مقال. وحاول بعض أشياخي أن يخرج خلافًا في المسألة مما وقع في المبسوط من أنَّ من تزوَّج امرأة، وأصدقها خادما، وعلمتها صناعة أن فيها أجرة، فطلقها الزوج قبل البناء ووجب له ارتجاع نصف الأمة، أنَّه يجب عليه غرم نصف الأجرة، فلمَّا أوجب على الزوج غرامة ما أنفقته الزوجة التي هي مشترية (¬2) للأمة، فكذلك يجب أيضًا للمشتري عبدا فردَّه بعيب أن يكون له مقال فيما أنفق. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، [ولا شيء له]. (¬2) في التعبيربـ (مشترية) تجوّز.

وهذا الذي قاله شيخنا فيه نظر أيضًا عندي، لأنَّه قد قيل في أحد القولين: إنَّ الزوجة إذا اغتلت الجارية، التي هي الصداق، ثمَّ طلَّقها الزوج، أنه يرجع عليه ابن صف ما أغتلت، لأجل أنَّه يقدر أن نصف الصداق لم ينتقل عن ملكه، وإئَّما يستقر لها ملك جميعه إذا دخل بها. والمشتري المطلع على عيب لا يرد الغلَّة باتفاق لكون ملكه مستقرًا. فهذا التعقب الذي يظهر لي في التخريجين جميعًا. وإن كان ما ذكرته من التعقب على تخريج شيخي أظهر من التعقب الآخر على غيره. وأشار بعض الأشياخ أنَّ هذا ينبني على ما ذكره ابن حبيب من كون الإباق الحادث عند المشتري لا مطالبة عليه بقيمته لكونه عيبًا لم يؤثر في الخلق بل في الأخلاق. فكذلك المطالبة في هذه الزيادة لا تجب لكونها ليست بزيادة في الجسم. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا اشترى حيوانًا عبدًا أو دابَّة وهو سمين فهزل أو عجف، أو هزيل أو أعجف فسمن، فإنَّ المذهب اضطرب في ذلك. فذكر ابن حبيب أنَّ ذلك فوت. وذكر عن مالك أنَّ ذلك ليس بفوت. وذكر عن ابن القاسم أنَّه يرى الهز الذي ذلك فوتًا ولا يرى السمن فوتًا. وفي الموّازية أنَّه إذا عجفت الدابة التي اشتراها، فإنَّ المشتري بالخيار بين أن يرد ويرد ما نقص العجف، أو يمسك ويأخذ قيمة العيب. وفي الموّازية أيضًا أنَّ الأمة إذا سمنت يردها ولا شيء له أو يمسكها ولا شيء له. وذهب ابن مسلمة إلى أنَّ العجف فوت يوجب أخذ قيمة العيب ولا يمكن المشتري من الرد. وكذلك ذكر في المدونة في صغير كبر أو كبير هرم، أنَّ ذلك

فوت والحكم فيه أخذ قيمة العيب. وذكر أيضًا أنَّه بالخيار في الصغير إذا كبر بين أن يرده ولا شىء له، أو يمسكه ويأخذ قيمة العيب. وذكر أيضًا في الهرم أنَّه يرده ويرد ما نقص. وذكر في الموازية أنَّ من اشترى أمة مريضة فصحَّت، أو هزيلة فسمنت، أو سمينة فهزلت، أنَّ ذلك لا تأثير له، وهو بالخيار بين أن يمسك ولا شيء له أو يرد. وجميع هذا يرجع إلى اختلاف في شهادة بعادة، هل هذه الأمور تؤثر تأثيرًا يغير المقصود، ويصير المبيع كأنَّه ليس بالعين المبيعة، فيكون ذلك فوتًا يوجب أخذ قيمة العيب، أو لا يكون ذلك تغييرًا مؤثرًا فيسقط حكمه، أو مؤثرًا تأثيرًا له بال لم يغيو المقصود فيكون بالخيار. وقد علم أنَّ المذهب أنَّ تكليف المشتري غرامة قيمة عيب حدث عنده عذر له وإضرار به يوجب له أخذ قيمة العيب. وأمَّا خسارته سمنا أو إنفاقًا على صغير كبر، فإنَّ هذا فيه الإضطراب الذي حكيناه. وقد ذهب بعض الأشياخ إلى أنَّ ما يؤدي من قبالة السلطان على شراء ما يشترى، أنَّ ذلك عذر للمشتري يوجب له أخذ قيمة العيب إذا شاء. وخرَّجه بعض الأشياخ على ما قدمناه من أداء إجارة على تعليم العبد صناعة. وقد قيل في الغاصب إذا نقل ما أدى عليه ثمنًا من طعام وشبهه، فإن ذلك يوجب له حقًا في أن لا يؤخذ منه عين الطعام، على ما سنبيِّنه في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى. وهكذا قال بعض الأشياخ إنَّه إذا حمل سلعة ثقيلة اشتراها وأدَّى في العمل إجارة، أنَّ ذلك يوجب تمكينه من أخذ قيمة العيب إذا شاء ذلك، لئلاَّ يخسر ما أدَّاه من أجرة العمل. وبعض أشياخي يخرج فيه اختلافًا على حسب ما ذكرناه. وقد روى أبو قرة

عن مالك فيمن اشترى سلعة فنقلها وأدَّى في نقلها أجرة، أن له أخذ قيمة العيب من البائع، إذ القيمة (¬1) بالموضع الذي نقلها إليه. وعلى هذا الكلام في تغير البدن بنقص. فالمشهور من المذهب أنَّ الشلل والعمى ومصير العبد مقعدًا ليس بفوت يوجب أخذ قيمة العيب. بل المشتري بالخيار بين أن يرد ويردَّ ما نقص، أو يمسك ويأخذ قيمة العيب. ورأى ابن مسلمة أنَّ هذا فوت يمنع الرد ويوجب أخذ قيمة العيب. وكذلك رأى قطع ذنب البغلة المركوبة أو الفرس المركوب. وهذا كلّه اختلاف في شهادة بعادة. والمعتبر ما قدَّمناه من ذهاب المقصود بالمبيع أو بقائه. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا اشترى أمة فأزوجها، ثُمَّ اطلع على عيب قديم، قد تقدَّم كلامنا على العيب من ناحية نقص النكاح، وأشرنا إلى ماوقع من الإضطراب عليه، وأن بعض المتأخرين أشار إلى إسقاط الغرامة عن المشتري لأجل عيب النكاح؛ لأنَّه رآه كعيب من ناحية الأخلاق. وقد قدَّمنا عن ابن حبيب أنَّه لا يرى ما حدث من عيب من ناحية الخلق، لا من ناحية الخلْق، يوجب على المتشري غرامة. ويتعلَّق هذا التأويل بما وقع في المستخرجة من رواية ابن القاسم فيمن أزوج أمة فولدت ثمَّ اطلع على عيب قديم، أنَّ له أن يرد ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء له. وقلنا نحن: يحتمل أن يكون مراد ابن القاسم أنَّ الوالد يجبر عيب النكاح. ألا ترى أنَّه قد وقع لمالك في المدوّنة أنَّ المشتري بالخيار بين أن يمسك ويأخذ قيمة العيب، أو يرد ويرد ما نقص. ولكن هذا الذي وقع في المدنية أنَّ الأمة ولدت. وأجاب عن ذلك على مقتضى الأصل. وحاول بعض الأشياخ تخريج قول على النقيض من هذا، وقال: إنَّما لم يجعل في المدوّنة إنكاح الأمة فوتًا يوجب أخذ قيمة العيب ويمنع من الرد مع ما نقص بناء على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب إذا لقيه.

قوله إنَّ العمى والشلل والقطع ليس بفوت يمنع من الرد. وقد ذكرنا عن ابن مسلمة أنَّه يرى ذلك فوتًا يمنع من الرد ويوجب أخذ قيمة العيب. وينبغي أن يكون إنكاح الأمة كذلك لأنَّه يتلف المقصود منها, لا سيَّما إن كانت سريَّة, لأنَّ الغرض من السريَّة وطؤها، وقد امتنع لسبب التزويج. وإن كانت من الوخش فتردّد الزوج إلى دار سيدها يقتضي التمكين من وطئها مما يعظم الضرر فيه، فوجب أن يكون ذلك فوتًا. فأنت ترى كيف بالغ بعضهم في تحقيره حتَّى لم يجعل له تاثيرًا، وبالغ بعضهم في تعظيمه حتَّى جعله فوتًا يمنع من الرد. فإذا تقرَّر هذا وثبت أنَّ المشهور من المذهب تمكين المشتري من رد الأمَّة وما نقص منها عيب النكاح، فإنَّها إن كانت ولدت من هذا النكاح فردَّها على سيدها بالعيب القديم فإنَّه لا يمكن البائع الذي ردَّت عليه من فسخ هذا النكاح لكونه عقد بوجه جائز. ولكنَّه في المدونة اعتبر قيمة الولد، هل في قيمته ما يجبر به عيب النكاح؟ فيرتفع هذا العيب ويكون المشتري بالخيار بين أن يردَّها بالعيب القديم ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء له، كما لو لم يحدث عنده عيب. وذكر سحنون في المدونة أنَّ غيره لا يجبر عيب النكاح بقيمة الولد، كما لا يجبره بالنماء الحادث فيها. وقد اشتهر عن الشيخ أبي القاسم السيوري أنَّه كان يذهب إلى أنَّ الولد غلة، كاللبن والصوف. وإذا كان كذلك كان الولد للمشتري. ويعتضد بهذا الذي وقع في المدوّنة من قوله إنَّ المشتري يجبر به عيب النكاح. فلولا أنَّه له كما تكون الغلات ما جبر به ما لزمه من عيب النكاح، وأدَّاه في غرامة وجبت للبائع عليه. وهذا الذي يشير إليه مما يصعب الانفصال عنه من ناحية الفقه. لكن من ناحية ما يؤدي إليه من تناقض في الرواية يسهل الانفصال عنه. وذلك أنَّه في هذه الرواية أوجب رد الولد وجبر به عيب النكاح. وعيب النكاح إنَّما يلزم فيه قيمة، ولا يلزم فيه أن يدفع المشتري عرضًا بغير اختياره. ولا يلزم البائع أيضًا قبول عرض عن دنانير وجبت له على المشتري إلاَّ باختياره. وها هنا جعل الحكم ردّ عين الولد، وهذا يقتضي أنَّه أنزل الولد

منزلة بعض أعضائها، فلهذا أوجب ردَّه معها. وبعض أعضائها لا يكون غلة، ألا ترى أنَّ ولد المدبرة مدبر والمعتقة معتق والمكاتبة مكاتب وولد الأمة عبد وإن كان أبوه حرًا. وهذا يقتضي أن يكون حكمه حكم أحد أعضائها. وأيضًا فإنَّه أوجب رد الولد وإن كانت قيمته أضعاف ما لزم المشتري من قيمة عيب النكاح. فلو كان الولد للمشتري كما تكون الغلة له، لم يخرج من يده ما فضل من قيمة عيب النكاح. وقد اعتذر بعض أشياخي عن هذه الرواية بأنَّه إنَّما راعى نفي الضرر. فإذا رجع إلى البائع مثل ما دفع من غير خسارة عليه، لم يكن له مقال. فإذا لحقته خسارة، كان له مقال. كما قيل فيمن باع عبدًا ثمَّ اطَّلع على عيب قديم وقد أخذ في العبد مثل الثمن الذي يرجع به على البائع لو ردَّ عليه بالعيب: أنَّه لا مقال له. وهذا الإعتذار يلزمه على مقتضاه أن يجبر عيب النكاح بنماء الجارية في بدنها حتَّى يكون هذا النماء يزيد في قيمتها ما يجبر به عيب النكاح، لكون الضرر أيضًا قد ارتفع على حسب ما ارتفع بجبران الولد قيمة عيبها. والذي يظهر لي من الاعتذار طريقة أخرى، لولا أنَّه وقع أيضًا في الرواية ما يعارضها. وذلك أنَّ الولد إذا أخذه البائع، وهو زيادة على ما كان باعه، فإنَّ هذه الزيادة لولا هذا النقص الذي هو عيب النكاح لم يحصل البائع (¬1). فمن البعيد أن يأخذ زيادة ويرضى بها ويقدر أنَّها لم تكن إلاَّ على ملكه ثمَّ يطلب عوض جنايتها وما كان سببًا في وجودها، فإنَّ هذا كالمتناقض. وهذا عذر واضح. ولكن مقتضاه ألاَّ يجبر الولد عيبًا آخر حدث بالمشتري ليس هو عيب النكاح. وقد وقع في الموازية أنَّه يجبر به عيبًا آخر حدث عنده ليس هو عيب النكاح. فإن لم نقل بهذا الذي ذكر ابن المواز كان اعتذارًا عما وقع في هذه الرواية اعتذارًا صحيحًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: للبائع.

وهذا الذي ذكره من العذر يكون انفصالًا عمَّا احتجَّ به أشهب على ابن القاسم من مباينته الولد على النماء كجزء من جسمها حسًا وحقيقة، فهو كأحد أعضائها, ولم يكن من أمر طلب البائع أن يعطي عوضه. وهذا الذي ناقض به أشهب ابن القاسم قد وقع في رواية أيضًا التزامه. وذكر في كتاب الوديعة من المدونة أنَّ ابن القاسم روى عن مالك أنَّه يجبر عيب النكاح بزيادة قيمتها. وحملوا ذلك على أنَّ المراد زيادة قيمتها من ناحية نماء بدنها. وهكذا رواه ابن شعبان في مختصره عن مالك. ولا يلزم على هذا المذهب أن يجبر عيب النكاح بزيادة سوقها من ناحية انتقال الأسعار لا من ناحية نماء البدن, لأنَّ التقويم إنَّما يكون في العيوب أخذًا لقيمتها أو ردًا معتبرًا يوم الصفقة، وما كانت تساوي حينئذ يوم العقد، فلا معنى لاعتبار زيادة السوق بعد ذلك في جبران عيب النكاح. وإذا قلت بمذهب ابن القاسم في جبران عيب النكاح بقيمة الولد، فإنَّ صفة هذا الجبر أن يقال: ما قيمة هذه الأمة يوم الصفقة وهي سالمة؟ فيقال: مائة دينار. ثُمَّ يقال: ما قيمتها بعيب التدليس؟ فيقال: ثمانون. ثُمَّ يقال: ما قيمتها بعيب التدليس وعيب النكاح على أنَّ معها ولدها. فإن قيل: ثمانون، فقد علمنا أنَّ النكاح لم يؤثر نقصًا لأجل الولد. وإن قيل: قيمتها سبعون، فقد علمنا أنَّه أثر نقصًا، فيطالب بمقدار هذا النقص الذي كان عن النكاح بنسبته من الثمن على حسب ما يأتي بيانه في تقويم العيوب إن شاء الله تعالى. ولمَّا ذكرنا عن الشيخ أبي القاسم السيوري ما انفرد به عن أهل المذهب من كون الولد غلة عنده. وذكرنا تعلقه بما وقع في هذه المسألة، فلنذكر تعلقه بما وقع في مسألة أخرى. وذلك أنَّه ذكر ابن الموّاز عن مالك أنَّه إذا باع أمة فأزوجها المشتري فولدت عنده فباع الولد، أنَّ البائع، إذ فلس هذا المشتري، فأراد ارتجاع ما باع (¬1)، فإنَّه يأخذ الأمة ولا مطالبة له بما أخذ المشتري في ثمن ¬

_ (¬1) أي لأنَّه لم يقبض الثمن.

ولدها. قال: لأنَّ الولد غلَّة، بخلاف أن يرد الأمة بعيب وقد باع ولدها، فإنَّه يرد ما أخذ من ثمن ولدها. فأنت تراه كيف نصَّ ها هنا على أنَّ الولد غلة، ولكنَّه لم يطرد هذا في رد الأمَّة بعيب. وكان مقتضى هذا الذي قال أيضًا ألا يرد أيضًا ثمن الولد إذا باعه ورد أمَّه بعيب. وقد حاول بعض المتأخرين اعتذارًا عن هذا بأنَّ من مُكّن من الرد بالعيب فإنَّه له أخذ جميع الثمن. فإذا كان قادرًا على أن يردَّ هذه الأمة ويأخذ جميع الثمن، فإنَّه يحاسب بما أخذ من ثمن الولد، لأنَّ هذا الردَّ والنقص باختياره. وفي التفليس البائع هو المختار لرد هذا البيع وارتجاع الأمَّة، فلا يحاسب المشتري بما أخذ في ولدها. وهذا الفرق كما تراه لا يروح (¬1) ما أشرنا إليه من المناقضة الذي يقتضيها الولد بأنَّ الولد غلة. وأشير أيضًا إلى فرق آخر وهو أنَّ الأصل في التفليس ألاَّ يرد البائع ما عقده على نفسه من البيع. لكن أوجب الخروج عن هذا الأصل ورود الحديث بذلك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - (من أدرك ماله بعينه فهو أحق به) (¬2) الحديث المشهور. فلعل استحقاق البائع رد المبيع في التفليس يكون ما باعه باقيًا بعينه. والولد إذا بيع فليس هو عين ما باعه البائع. ولو قرَّر أنَّه كعضو من أمه. فهذا العضو ليس ما نصًا (¬3) ولا موجود، فبقي حكمه على مقتضى الأصل، لكون الحديث الناقل عن هذا ليس دليل الخطاب فيه إلاَّ أنَّ للبائع حقا إذا لم يكن ما باع موجودًا، ورد الولد إذا بيعت أمُه أو ردَّ ثمنه، لم يرد حديث يمنع من رد ثمن الولد. فلمَّا وجب عين رد الولد (3)، وجب رد ثمنه. وأشير أيضًا إلى فرق آخر وهو أنَّ البائع ليس له في التفليس أن يحاص ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) الموطأ: حديث 1979: 2: 209. (¬3) هكذا في النسختين.

بثمن الأم وثمن الولد إذا اختار الحصاص, لأنَّه ليس له إلاَّ ثمن واحد وهو ثمن الأمة. فلمَّا لم يكن له إذا اختار الحصاص المحاصة بثمنه، فكذلك لا يكون له إذا اختار ترك الحصى وجعل (¬1) ما عقد من البيع أن يطالب بثمن الولد. هذه الفروق التي يمكن أن يقال في هذا. ولكن التحقيق يقتضي إذا قيل: إنَّ الولد غلة، أن يكون الحكم ألاَّ يرد الولد في عيب ولا تدليس، وإن كان قائمًا بعينه، فأحرى ألاَّ يرد ثمنه. وإن قيل: إنّه ليس بغلة، بل كعضو منها، أن يكون يرد الولد في الجميع، وإذا وجب رد عينه، وجب رد ثمنه. ويتضح وجوب الثمن في الرد بالعيب وفي التفليس قد يقال فيه ما أشرنا إليه من الفروق، وجميعها لا يكاد يسلم من مناقضة وممانعة فلمَّا كان ما ذكرناه عن كتاب ابن الموّاز من أوضح ما يتعلَّق به الشيخ أبو القاسم السيوري لذكره أنَّ الولد غلَّة، دعا هذا بعض أشياخي إلى أن قال: لم يرد أنَّه غلَّة على الحقيقة في سائر أحكام الغلة، ولكنه أراد أن الأمة إذا ردَّها في التفليس بعينها قدَّر كأنَّ الولد لم يكن لمَّا رجعت بعينها على كمالها، كما لو أصابتها موضحة فأخذ أرش الموضحة وردَّها على بائعها ولم تشنها الموضحة، ولا نقصتها، فإنَّه لا يرد ما أخذ من أرش الموضحة لمَّا ردَّ عين المبيع سالمة. ومقتضى هذا الذي قال شيخنا من التعليل ألاَّ يرد الولد، وإن كان باقيًا، لكونه إذا ردَّ أمَّه دونه فقد ردَّها على الكمال، فلا يجب رد الولد، وهو قد جعل قولهم: إنَّ الولد يرد، فغير ماح أن يستقرَّ من هذا الذي قالوه في ثمن الولد كون الولد غلَّة. فإذا تقرَّر هذا، فإنَّ هذا الولد إذا كان قائمًا هو وأمه لم ينص على خلاف في المذهب في أنه يرد مع أمه، إلاَّ ما أشرنا إلى ما خرَّجه الشيخ أبوالقاسم السيوري. وقد أشار غيره إلى تخريجه مما رواه عبد الرحمان ابن دينار عن ابن كنانة فيمن اشترى أمة حاملًا فولدت فأخذ ولدها، أنَّه إذا لم يختر أخذ قيمة العيب واختار ردَّها، أنَّه يرد معها ما نقص من ثمنها لأجل ما كان يرجى من ¬

_ (¬1) هكذا ولعلها وحصل.

ولادتها. فلم يعتبر كون الولد كعضو منها استحقَّ البائع عليه رده بعينه، فإذا أتلفه، كانت عليه قيمته، بل راعى ما يكون من النقص من ناحية ما يرجو من ولادتها. وأشار أيضًا إلى إجرائه على الخلاف في السمن، وقد تقدَّم ذكرنا الخلاف فيه لمَّا كان السمن غير متفصل من الأمة، والولد كأنَّه غير منفصل منها لمَّا لم تَجز التفرقة بينهما. وهذا الولد لو مات وبقيت أمه، لكان الحكم تخيير المشتري في رد أمه وما نقصها النكاح، أو التمسك وأخذ قيمة العيب، ويقدر الولد كأنَّه لم يخلق. وهذا أيضًا قد يقال فيه إذا قدَّرتموه كعضو من أعضائها وجزء منها, ولهذا أوجبتم رده بعينه على البائع. فإذا مات وهو في يد المشتري، اقتضى ذلك أيضًا أن يرد قيمته كما يرد قيمة يدها لو شلَّت عنده. قيل: اليد إذا شلت عنده، وجب رد قيمتها إذا اختار الرد لأنَّ لها حصَّة من أصل الثمن. فلو ماتت الأم خاصَّة وبقي الولد وحده، فالظاهر أنَّ المذهب على قولين: مذهب ابن القاسم أنَّ الواجب قيمة العيب، ومذهب أشهب أنَّ البائع مخيَّر بين أن يعطي قيمة العيب أو يمنع من ذلك، ويخيَّر المشتري بين أن يتمسَّك بالولد ولا يسترد من الثمن شيئًا، أو يرد عليه الولد ويرد البائع جميع الثمن. فكأن ابن القاسم قدَّر أنَّ الولد في حكم التبع وكجزء منها، فإذا ذهب المتبوع وهو الأم، صار التابع وهو الولد في حكم الذاهب أيضًا، ووجوده كلا وجود، ولو ماتا جميعًا، لكان الحكم أخذ قيمة العيب. وكذلك إذا ماتت الأم وقدَّرنا أنَّ الولد الباقي كالميت بحكم كونه تبعًا لأمه. وكأنَّ أشهب قدَّر أنَّه كمبيع ذهب بعض أجزائه عند المشتري وبقيت منه أجزاء، فتكون الأجزاء الباقية إذا رضي البائع بها، يأخذها على أن يغرم المشتري قيمة ما ذهب عنده، كان ذلك من حقه إلا أن يشاء المشتري التمسك بها, ولا يرد عمَّا قلناه من كون المذهب المشهور أنَّ البائع إذا أسقط عن المشتري غرامة ما ذهب عنده، صار المبيع كأئَّه لم يذهب عند المشتري منه

شيء، فإنَّما يكون له أن يقبل بجميع الثمن أو يرد ويأخذ جميع الثمن. وقد كنَّا حكينا عن عيسى أنَّه لم يمكن البائع من هذا، وأبقى المشتري على خياره في أن يأخذ قيمة العيب. فإن قيل: فإلكم ذكرتم عن أشهب أنَّه يرى بتمكين البائع من أن يؤدي قيمة العيب، فإن لم يفعل مُكن إذًا من ارتجاع الولد وردَّ جميع الثمن، إلاَّ أن يرضى المشتري بالتمسك. والحكم في عيب حدث عند المشتري أن يكون هو المبدَّأ بالتخيير، ولا يبدأ البائع بأن يعطي قيمة العيب. وفي مسألة الولد بدأ أشهب بتخيير البائع. قيل: إنَّ الفوت ربَّما كان في حق البائع والمشتري إذا لم يمكن رد العين، كمن اشترى أمة فاطَّلع على عيب بها بعد موتها، فليس إلاَّ قيمة العيب. وقد يكون الفوت في حقِّ المشتري خاصَّة، كمن اشترى أمة فشلت يدها عنده، فيكون المشتري مخيرًا بين أن يقدرها كالفائتة ويأخذ قيمة العيب، أو يقدرها كمن لم تفت فيردها ويرد معها ما نقص العيب الحادث عنده على ما سننبه عليه بعد هذا. فيمكن أن يكون أشهب قدَّر هذا كالفوت في حقَّ البائع خاصَّة. وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أنَّ ابن القاسم غير مخالف لأشهب في هذه المسألة. واعتقد هذا لأجل أنَّه قد أورد في المدونة في باب بعد هذه المسألة، فقال: يأخذ المشتري قيمة العيب إلاَّ أن يشاء البائع أن يسترد الولد خاصَّة ويرد جميع الثمن، فيعود التخيير للمشتري في أن يقبل منه هذا، أو يتمسك بالولد ولا مطالبة له بقيمة العيب. فقدَّر هذا أن الجواب الأوَّل وقع مطلقًا ووقع بعد ذلك مقيدًا، فيجب رد المطلق إلى المقيد. وأنكر غيره من المتأخرين هذا الإعتقاد، وقال: قد قال سحنون عقيب هذا: هذا مذهب أشهب. وهذا ينفي إضافة هذا المذهب لابن القاسم. وأجاب غيره عن هذا بأنَّ المراد بقوله: هذا مذهب أشهب. أي إنَّ هذا الذي قاله ابن القاسم مثل مذهب أشهب. ولو بيعت الأم دون الولد لجرى الأم فيها على هذا الذي ذكرناه من اختلاف ابن القاسم وأشهب.

فعلى طريقة ابن القاسم الذاهب إلى أن الولد الباقي كالمعدوم، إذا عدمت هي يكون الحكم في هذا كالحكم لو باعاهما جميعًا، الأم والولد، فإنه لا مقال له. وعلى مذهب أشهب الذي يراه كجزء ذهب من المبيع، وهي جزء آخر، إن باعها بأقلَّ من الثمن وأراد البائع أن يرد الثمن كله ويسترجع الولد، كان ذلك له إن يشأ المشتري أن يستمسك بالولد ولا مطالبة له بالعيب. وأمَّا إن باع الولد خاصَّة فإنَّ له ردَّ أمه بالعيب، ويقدر أنَّه لمَّا ردَّ أمَّه بالعيب، انتقض العقد الذي كان بينهما، وإذا انتقض في الولد. ولا سبيل إلى نقض عقد المشتري فيه، فوجب أن يطالبه أن يردَّ الثمن الذي أخذ فيه. وقال أصبغ بأن يرد من ثمن الولد قيمته، وكأنَّه باعه مع أمِّه مولودًا. وكأنَّه قدَّر أنَّ ردَّ قيمته كرد عينه، وما كان من نماء أو زيادة فله. ولو قتلت الأم دون الولد، لجرى الأمر فيها أيضًا على هذا الذي بيَّناه من الإختلاف في كون الولد كالعدم، وإن كان باقيًا أو يقدر كبعض من المبيع بقي وذهب بعض آخر. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: أمَّا إذا فات المبيع المعيب ببيع المشتري له، فإنَّه إن باعه عالمًا بعيبه، فلا خفاء يكون ذلك رضي منه بالعيب وإسقاطًا لحقه في القيام به. وأمَّا إن باعه، وهو لم يطلع على العيب، فإنَّ المذهب في هذا على روايات. أحدها ما روي عن مالك، رضي الله عنه، من كون المشتري لا مقال له إذا باع. وإلى هذا ذهب ابن القاسم واعتلَّ بأنَّ المشتري إن كان علم بالعيب قبل أن يبيع، فقد رضي به، وإن كان لم يعلم، فإنَّه لم يحط من أجله من الثمن. فإذا لم يلحقه ضرر من ناحية العيب في الغبن لأنِّها خرجت من يده، ولا في الثمن لأنَّه لم يبخس، لأجل العيب، منه شيء سقط مقاله. وهذا اختيار ابن الموّاز أيضًا. وبه قال الشافعي. واختلف أصحابه في تعليل هذا. فقال بعضهم: إنَّما قال هذا لأجل أنَّ المشتري قد استدرك الظلامة. وهذا إشارة إلى ما ذكرناه

من تعليل ابن القاسم من كون المشتري لم يبخس لأجل العيب شيء. وقال بعضهم: إنَّما العلَّة في ذلك كون المشتري لم ييأس من الرد لجواز أن يرجع المبيع إليه فيرده على بائعه. وروي عن مالك أنَّ المشتري يعتبر ما حصل في يده من الثمن، فإن كان الذي حصل له مثل الثمن الذي دفع فأكثر، فلا مقال له، لأنَّه لم يبع وقضينا له بالرد، لم يكن له سوى الرجوع بالثمن. والذي يقضى له بالرجوع به قد حصل في يديه. فكأنَّه ردَّ بالعيب وارتجع الثمن. وإن كان الثمن الذي باع به أقل مما اشتراه هو به، كان البائع مخيرًا بين أن يكمل له الثمن. فإذا أكمله له، سقط مقاله لأجل ما قدَّمناه. وإن لم يكمله له أعطاه قيمة العيب من الثمن الذي قبض منه, لأنَّه يقول قد فاتت العين المبيعة المعيبة ولا قدرة لك على ردها، فلا يكون لك إلاَّ قيمة العيب، كما لو ماتت في يدك. وهذا أيضًا فيه إشارة ممَّا كنَّا قلَّمناه من كون الفوت يقدَّر في حق البائع خاصَّة. فإن شاء البائع ها هنا أن يجعل ما باعه المشتري كالفائت أعطى قيمة العيب. وإن شاء أن يجعله كالقائم، أكمل له بقيَّة الثمن. هذا مذهب أشهب، وهو اختيار ابن حبيب. وقال مالك في مختصر ابن عبد الحكم: يقضي للمشتري بقيمة العيب. وقدَّر أن ذلك كالفوت في حقَّهما جميعًا كالحكم في الموت. وهو اختيار محمَّد ابن عبد الحكم وأضاف ذلك إلى موطإ مالك، فقال: قد قال مالك في موطئه: إذا فات المبيع بشيء من وجوه الفوت. وهذا المذهب هو اختيار أبي محمَّد عبد الوهاب. فقد ينفصل عن تعليل ابن القاسم بأنَّ المشتري الأوَّل يمكن أن يكون غير البائع، أو حال السوق بزيادة، فرأى المشتري العيب فحطَّ لأجله من الثمن ولم يعلم المشتري الأول أنَّ الذي اشترى منه حطَّ من الثمن شيئًا لأجل عيب رآه، ولو كان المبيع سالمًا لبذل له المشتري أكثر ممَّا عقده عليه من الثمن. فالضرر لم ينتف عن المشتري. وبهذا أيضًا يتعقَّب مذهب أشهب من اعتباره

حصول الثمن موفرًا في يد المشتري الأوَّل، لأنَّه يقول: إنَّ ما حصل في يدي مثل ما دفعت للبائع لأجل معرفتي بالتجارة وبالأسواق وبزيادتها وجهل الذي باع مني بذلك. فلا يحسب له هذه الزيادة، وسببها لم يكن منه، بل إنَّما كان مني. فهذا يقتضي كون البيع فوتًا يوجب قيمة العيب. وإذا وضح مأخذ مذهب ابن القاسم وهو كون المشثري الذي باع هذا المبيع لم يلحقه ضرر من جهة العيب، فيقال على هذا التعليل: إنَّه متى لحقه الضرر، كان له القيام بالعيب، مثل أن يفوت المبيع عند المشتري الثاني فيرجع على المشتري الأوَّل بقيمة العيب، فيصير المشتري الأوَّل قد لحقه الضرر من ناحية العيب، فيكون له أن يطالب البائع بما غرم له, لأنَّه إذا طالبه بما غرم، ارتفع الضرر عنه. إلاَّ أن يكون قيمة العيب من الثمن الذي اشترى به الأوَّل أقل مقدارًا من هذا الذي أخذه المشتري الثاني من المشتري الأوَّل، فيكون من حق البائع أن يغرم له هذا, ولا يلزم أن يعطيه ما غرم هو، لأنَّه قد يكون حال السوق بزيادة أو غبن المشتري منه. فكانت قيمة العيب من الثمن الثاني أكثر من قيمة العيب من الثمن الأوَّل. قال ابن الموّاز إلاَّ أن يكون إكمال الثمن أقل من هذين فلا يلزم البائع إلاَّ إكمال الثمن؛ لأنَّه إذا أكمله سقط مقال المشتري لأرتفاع الضرر عنه لأجل العيب. وإن الثمن لو عاد إليه كما دفعه، لم يبخسه العيب شيئًا. فلهذا قلنا: إن البائع عليه الأقل من ثلاثة أشياء. إمَّا ما غرمه المشتري منه، أو قيمة العيب من الثمن الذي قبض، أو ما بقي على المشتري من خسارة من الذي دفع البائع. وقد أشار بعض أشياخي إلى أنَّ هذا التخيير بين هذه الوجوه الثلاثة هو مذهب ابن القاسم. وأشار غيره إلى أنَّ ذلك إنَّما يستقيم على مذهب أشهب الذي قدَّمناه عنه. واحتجَّ هذا المتأوَّل بما وقع في العتبيَّه لابن القاسم فيمن اشترى عبدًا به عيب فباعه ثمَّ علم بالعيب وقد حدث عند المشتري عيب اختار أن يغرم البائع منه وهو المشتري الأوَّل قية العيب، أنَّ هذا المشتري الأوَّل إذا غرم للمشتري الآخر قيمة العيب رجع هذا الأوسط على الأوَّل بقيمة العيب. فلم يلتفت إلى ما كان بين الأوسط والآخر. وهو أيضًا لا يعتبر تغير الأسواق في

مثل هذا إذا قام المشتري بالعيب بعد أن باع وهو لم يعلم به. ألا تراه يقول، فيمن اشترى عبدًا به عيب لم يعلم به فقتل العبد في يديه فأخذ من القاتل قيمة العبد، فإنَّه يرجع بقيمة العيب على من باع. ولم يلتفت إلى القيمة المأخوذة في القتل، هل مثل الثمن فأكثر، فلا يكون له مطالبة بقيمة العيب لحصول الثمن الذي دفعه في يديه موفرًا. خلافًا لأشهب الذاهب في هذا إلى أنَّ القيمة المأخوذة عن القتل إذا كانت مثل الثمن فأكثر، فلا رجوع للمشتري بقيمة العيب، طردًا لأصله الذي قدَّمناه عنه. وبعض أشياخي الذي حمل ما ذكره ابن الموّاز من التخيير بين الثلاثة أوجه يعد ما قاله ابن القاسم في مسألة القتل كالمناقض لما ذكره ابن المواز من التخيير في الأوجه الثلاثة. وقد يؤكد في نفسه ما تأوَّله على ابن المواز من أنه ساق ما ذكره من التخيير عن ابن القاسم كونه يذهب فيمن باع ولم يعلم بالعيب إلى مذهب ابن القاسم في أنَّ المشتري لا مقال له لما قدَّمناه من التعليل. وقد نقل ها هنا أنَّ ابن القاسم إنَّما يذهب إلى سقوط مقال المشتري إذا لم ينله ضرر من جهة هذا العيب. فإذا ناله الضرر بأن خوصم فيه وحوكم وأغرمه المشتري منه قيمة هذا العيب، فقد انتقض في هذا الجزء المبيع لمَّا أخذت قيمته فيما بين المشتري الأوَّل والثاني. فكذلك انتقض البيع في هذا الجزء وفيما بين المشتري الأوَّل والبائع الأول الذي (¬1) منه، فيرجع بالقيمة على حسب ما ذكره في العتبيَّة كما قدَّمناه عنه. أو يعود الأمر إلى التخيير لأجل ما ذكرناه من التعليل لكل وجه من الأوجه الثلاثة المخيَّر فيها. وذكرت عن بعض أشياخي أنَّه ناقض ابن القاسم في مسألة القتل بما ذكره ابن المواز من التخيير بين الأوجه الثلاثة. وأنَّ مقتضى التخيير فيها أنَّ المشتري إذا حصل في يديه مثل الثمن فأكثر، فلا مقال له. وكنت قدَّمت عن الشافعيَّة اختلافًا في تعليل ما ذهبوا إليه من كون ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين: وفي الكلام سقط.

المشتري إذا باع فلم يعلم بالعيب، فإنَّه لا مقال له، أنَّ منهم من قال: العلَّة في ذلك كون المشتري استدرك الظلامة. وأشار بهذا إلى ما بسطه ابن القاسم من التعليل من كون المشتري لم يبخس لأجل العيب. ومنهم من علَّل بأنَّه لم يويس من رد المبيع المعيب، فإذا أمكن رده على المشتري الذي باعه، لم يمكن الآن من القيام بالعيب. بخلاف عتق المشتري للعبد المعيب لأنَّ العتق يقتضي الإياس من الرد. فقد يقال أيضًا على هذا التعليل: إنَّ القتل يقتضي الإياس من الرد بخلاف الطلب بقيمة العيب والعبد قائم لم يفت. وعلى هذا الأسلوب من التعليل يجري الأمر في هذا المشتري إذا باع وهو عالم بالعيب معتقدًا أنه حدث عنده، ثمَّ علم أنَّه كان عند البائع، فإنَّ له مطالبة الذي باع منه بقيمة العيب من الثمن الذي دفعه أو إكمال الثمن. وسقط الوجه الثالث لكونه لم يغرم لمن يشتري منه شيئًا إذا باع وبين العيب. وكذلك إن وكَّل وكيلًا على البيع فباع الوكيل وبيَّن العيب معتقدًا أنَّ الذي وكَّله حدث العيب عنده، فإنَّ التخيير الذي ذكرنا ها هنا مأخوذ ممَّا تقدَّم بيانه. ولو توجَّه للمشتري الآخر على المشتري الطلب بقيمة العيب لفوت المبيع في يديه فألفاه مفلسًا فأراد أن يرجع بما وجب له على البائع الأوَّل إذا كان هو الأقل (¬1) من الثلاثة الأوجه التي يجب للمشتري الأوَّل على من باع منه، فقيل يمكن من ذلك. كما يمكن من ذلك لو استحقَّ المبيع من يديه لكون البائع الأوَّل غريمًا لغريمه، فما وجب له على غريمه كان له أخذه، إذا فقد غريمه، من غريم غريمه. وقيل لا يمكن من ذلك. لأنَّ هذا الوجوب لم يتيقَّن لإمكان أن يكون المشتري الأوَّل راضيًا بالعيب. وهذا يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: إذا اشترى معيبًا باعه قبل أن يعلم بالعيب ثُمَّ عاد إليه، فإنَّ هذا ممَّا اختلف الناس فيه. فذكر الطحاوي أنَّ أبا حنيفة لم يمكنه من رد هذا المعيب على من باعه، ¬

_ (¬1) كذا في النسختين.

ولو ردَّه عليه المشترى منه بعيب. وذكر عن أبي يوسف أنَّه يمكن من رده على الذي باعه منه إذا ردَّ عليه بعيب. واختار الطحاوي ألاَّ يمكن من الرد إلاَّ أن يرجع إليه باختياره من غير أمر وجب عليه، فإنَّه يمكن من الرد. والمذهب عندنا تمكينه من الرد على أي حال، عاد ذلك إليه بعسب ردَّ به عليه أو بميراث أو هبة. وتردَّد بعض المتأخرين من الأشياخ في النظر في هذا لأجل أنَّ ابن القاسم إنَّما علَّل منع من اشترى معيبًا، ثُمَّ باعه قبل أن يعلم بالعيب، من القيام بالعيب، لكونه لم يلحقه ضرر من أجل هذا العيب، ولا بخس في الثمن لأجله شيئًا على حسب ما قدَّمنا بيانه. ومقتضى هذا ألاَّ يمكن من الردِّ إذا اشتراه لأنَّ هذا ملك مستأنف والبيع الأوَّل باق على حاله لم يلحقه فيه ضرر لأجل العيب. فأشار إلى التردد ما بين المذهب وما حكيناه عن أبي حنيفة. فإذا تقرَّر أنَّ المذهب تمكينه من الردِّ إذا اشتراه، فإنَّ ابن حبيب ذكر أنَّه لا يمكن من الرد إذا اشتراه بشرط إن لم يكن خاصم فيه قبل أن يشتريه، فحكم القاضي عليه بمذهب ابن القاسم وأنَّه لا مقال له لانتفاء الضرر عنه كما بيناه. فأمَّا إن خاصم فقضي عليه بأن لا مقال له، فإنَّه إن اشتراه، لن يمكن من الرد لكون القضيَّة نفذت بسقوط حقه في هذا. وأنكر الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد هذا فقال: هذا بعيد من أصولهم. فإن قيل: لم قال الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد هذا بعيد من أصولهم، وقد ذكر في المدوّنة في نكاح فسد لكونه انعقد بغير ولي فرفع إلى قاض يرى جوازه فأقرَّه، أنَّ هذا الحكم لا يفسخه غيره. وقدَّر أنَّ الترك ها هنا والإقدار على الفعل كاستئناف فعل؟ قيل: القاضي إذا حكم بإجازة هذا النكاح، فإنَّه قضى بذلك قضيَّة مؤبَّدة غير معلقة بشرط ولا علَّة. والقاضي إذا قضى بمنع هذا من المطالبة

بالعيب، فإنَّما ذلك لكون رد المبيع المعيب لا يمكنه، فإذا أمكنه ذلك، سقط الحكم لكونه معلقًا بشرط وعلَّة، فإذا زال ذلك، زال الحكم. وقد قال في المدونة: لا يمكن من خصام من باع منه، فإن اشتراه فله الرد. وقد يقتضي هذا أنَّ له الرد، وإن اشتراه عالمًا بالعيب مع كونه لما اشتراه عالمًا بالعيب مسقطًا لحقه في القيام به على هذا الذي اشتراه غير عالم بالعيب. ولو كان هذا المبيع المعيب باعه من اشتراه فتداولته الأملاك فاشتراه مشتريه الأوَّل من مشتريه الآخر، فقد ذكر في المدوَّنة أنَّ لهذا الذي اشتراه أولًا ممن اشتراه آخرًا، أن يرد، على من اشتراه منه آخرًا. ووقع في بعض روايات المدوَّنة: له أن يرد عليه. وظاهر هذا الضمير عند بعض المتأخرين أنَّه يعود على من اشتراه منه أولًا. وقد تعقب هو وغيره من الأشياخ رده على الأوَّل بأن ردَّه على الآخر يتضح ما قرَّرناه. وردَّه على الأوَّل إنَّما يتضح لو وقع التراد من واحد على آخر حتى ينتهي الأمر إلى هذا المشتري الأوَّل. فإذا انتهى إليه لحقه الضرر، فكان من حقِّه الرد. فإذا لم يقع التراد وعلم أنَّ في هؤلاء الجماعة المشترين من مراده ترك الرد إذا كان من حسن النظر له عند نفسه ألاَّ يرد لخسارة تلحقه في ذلك، ومنهم من يختار الرد لكون الرد أنفع. وهذا الإمكان لو خرج إلى الوجود وخرج أحدهم بأنَّه قد التزم هذا المبيع المعيب بعينه وقطع التراجع حتَّى لا يصل الرد إلى المشتري الأوَّل، لسقط حق المقال في هذا العيب لكون المبيع لم يرجع إليه على حسب ما قدَّمناه من مذهب ابن القاسم. وهذا يقتضي ألاَّ يمكن من الرد على الأوَّل. وقد رأى بعض أشياخي أنَّ هذا قد يجيء على القولين في مسألة كتاب البيوع الفاسدة. وهي إذا اشترى سلعة شراء فاسدًا ثمَّ باعها بيعًا صحيحًا ثمَّ اشتراها، أن في ذلك قولين، أحدهما: قد ارتفع حكم الفوت لمَّا عادت السلعة إلى يديه ولم يحل سوقها، فيقدر كأنَّها لم تخرج من يديه. والقول الآخر: إنَّ

ذلك يمنع من الرد لاختلاف الأملاك واختلاف العهد. فكذلك ينبغي عنده أن يخرج الخلاف ها هنا. وهذا التخريج عندي فيه نظر. وذلك أنَّ الفسخ في البيع الفاسد حق لله سبحانه لا يسقط تراضي (¬1) المتبايعين على إسقاطه. والرد بالعيب يجوز الرضى به، ويسقط الحق إذا رضي مشتريه به. وقد ذكرنا إمكان رضي أحد هؤلاء الجماعة به، وإذا رضي به سقط مقال من كان قبله، فيسقط مقال المشتري الأوَّل لأجل هذا على حسب ما ذكرنا أنَّ بعض المتأخرين نَّبه عليه، مع كون هذه المسألة متصورة في التراجع ما بين ثلاثة أشخاص في البيع الفاسد. ونحن نذكر حكم التراجع بينهم في العيب، وهو أنَّ يشتري رجل سلعة معيبة ثُمَّ يبيعها قبل علمه بالعيب ويبيعها أيضًا من اشتراها منه من رجل آخر، فإنَّ هذا المشتري الآخر له أن يرد على الأوسط. فإذا ردَّ عليه كان الأوسط (¬2) أن يرد على الأوَّل إذا لم يعلم بالعيب قبل أن يبيعها, لأنَّه إذا علم به ودلس به على المشتري الآخر، صار رضي منه بالعيب، وإذا لم يعلم، لم يكن راضيًا بالعيب، فكان له الرد على من باع منه وهو الآخر، وله الرد على الأوَّل لرجوع السلعة إليه، على حسب ما قدَّمناه وذكرنا اختلاف الناس فيه، لكون المبيع لمَّا انتقض البيع فيه بينه وبين الآخر، صار كأنَّه لم يبع، وهو إذا لم يبع فظهر له عيب قام به. وإذا تداولت السلعة أملاك كثيرة، أمكن أن يكون أحدهم لا يختار نقض البيع على حسب ما نبَّهنا عليه ممَّا تعقَّبه قوم من الأشياخ على المذهب. ولو أنَّ هذا الأوسط اشتراه من الآخر بأكثر من الثمن الذي باعه، فإنَّه إذا اختار ردَّه على الأوَّل لم يكن له مطالبة الآخر بشيء, لأنَّه لمَّا كان قادرًا على الرد عليه واسترجاع ما زاد عنده من الثمن فعدل عن ذلك إلى الرجوع إلى الأوَّل، فكأنَّه رضي بإمضاء البيع من الآخر. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب: بتراضي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: للأوسط.

ولو تصوَّرت مسألة في رجلين بأن كانت عند رجل سلعة فباعها من رجل ثمَّ اشتراها منه فظهر فيها عيب قديم لم يعلما به، فإنَّ هذا المشتري الذي كان هو البائع الأوَّل من حقه أن يردها على هذا الذي اشتراها منه، لكن إذا كان الثمنان في البيعتين متساويين، (¬1) فلا فائدة في هذا التراد, لأنَّه إذا باعها الأوَّل بعشرة ثُمَّ اشتراها من مشتريها منه بعشرة فردَّها بالعيب على هذا المشتري الآخر وطالبه بعشرة، كان من حق هذا أيضًا أن يردها عليه ويطالبه بعشرة، فيتقاصان وتبقى السلعة في يد من هي في يديه الآن وهو البائع الأوَّل. ولو كان اشتراها البائع الأوَّل بأقل من الثمن الذي باعها به، لكان من حق هذا البائع الثاني أن يطالبه ببقيَّة الثمن الذي دفع إليه, لأن من حقه لمَّا ظهر العيب أن يرد عليه وقد صارت السلعة قد ردَّت إليه بالشراء، أو كأنَّها ردَّت إليه بالعيب (¬2) وإذا ردَّت إليه بالعيب، طولب بالثمن. وقد حاول بعض أشياخي أن يخرج في هذا اختلافًا من اختلاف عبد الملك وابن القاسم في امرأة خالعت زوجها بمال دفعته إليه، فبعد الخلع ظهر لها أنَّ بالزوج عيبًا يوجب لها الخروج من عصمته وردَّ نكاحه بهذا العيب. فقال ابن الماجشون لها أن ترجع عليه بما دفعته إليه. وقال ابن القاسم لا رجوع لها عليه. وسبب هذا الاختلاف أنَّ ابن الماجشون يرى أنَّها لمَّا أرادت التخلص منه، ولم تقدر عليه إلاَّ ببذل عوض في ظاهر الأمر، وكانت في باطنه قادرة عليه من غير دفع عوض، كان لها ارتجاع ما دفعت من العوض، لأنَّها لو علمت بالحكم وأنَّها قادرة على التخلص، لم تبذل له عوضًا على ذلك. ورأى ابن القاسم أنَّها لمَّا دفعت ذلك باختيارها، مع إمكان رضاها بالعيب، لم يكن لها ارتجاع ما دفعت. فكذلك ها هنا لا يختار أن يكون هذا البائع الآخر لمَّا رضي أن يعيدها على بائعها بخسارة، وهو قادر على ألاَّ يخسر ويرد عليه بالعيب ويأخذ ¬

_ (¬1) في النسختين: متساويان. (¬2) هكذا، ويبدو أن النص قد حرف ولعلَّ الصواب، وقد صارت السلعة وقد .... كأنَّها ردت .....

جميع ما دفع إليه من غير خسارة، فإنَّه لا يمكن من طلب هذه الخسارة، كما لا تمكن المختلعة من طلب ما خسرت بسبب الخلع. ويقدَّر على هذا المذهب أنَّ رجوعها بحكم الشراء ملك ثان محقق يستأنف من غير خلاف، وردَّها بالعيب إعادة لها على الملك الأول على أحد الطريقتين عندنا في كون الرد بالعيب نقضًا من أصله. وقد كنَّا أشرنا إلى ما قاله المخالف في أن اشتراءها لا يوجب تمكينه من الرد بالعيب، وما أشار إليه قوم من الأشياخ في تصحيح هذا المذهب وترددهم فيه. لكن قد يقال عندي في الاعتذار عن ابن القاسم: إنَّ طريقة الأعواض في الخلع بخلاف طريقة الأعواض في البيع، ألا ترى أنَّها لو خالعت بخمر أو خنزير فأبطلنا ذلك ونقضناه أو بغير ذلك ممَّا يتملَّك ويجب نقضه، فإنَّا إذا نقضنا هذه المعاوضة لم ترد إلى الزوج، مع علمنا بأنَّه إنَّما ترك سبيلها وباع منها منافع بضعها بما بذلته له، ثُمَّ مع هذا حكم عليه برد ما أخذه عوضًا عن ذلك، ولم يمكَّن هو من ارتجاع ما دفعه عوضًا عن ذلك لحرمة الفرج، ولكون الطلاق إذا وقع وبانت الزوجة، لم يحل التراضي على التراجع واستباحة الوطء من غير شروطه الشرعيَّه. ولو تصوَّر مثل هذا في البيع المحض بأن باع إنسان عبده بخمر أو خنزير أو بجنين في بطن أمِّه فنقضنا البيع، ورددنا ما في يديه، لكان من حقِّه أن يرتجع عبده الذي عاوض به عن هذا. وكأنَّ هذه الحقوق ماليَّه إبطال أحد العوضين إبطال للآخر. (¬1) والخلع ليس من الحقوق المالية المحضة، ولهذا أجيز وأمضي عقده بغرر وما (¬2) لا يجوز في عقود البياعات. فهذا يمكن أن يكون انفصالًا عمَّا ألزمه بعض أشياخي. وهذا الذي صوَّرناه في مسألة العيب من ترادد هذا البيع ما بين هذين الرجلين محمله على أنَّ العيب تحقَّق قدمه. ولو كان مشكوكًا فيه هل هو قديم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وما يقتضحه النص: ولأنَّ هذه الحقوق مالية فإبطال ... (¬2) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب: بما.

كان عند البائع الأوَّل أو حدث عند المشتري، لجرت فروع هذا على ما سنؤصله في حكم العيب المشكوك فيه. وهو أنَّ العيب ربَّما أوجب ردَّ المبيع بعينه أو طلب بعض الثمن، وكلا الأمرين لا يثبت إلاَّ بيقين، وأمَّا مع الشك، فلا تجب غرامة ولا ينتقض عقد بيع. فمن طلب غرامة أو طلب نقض بيع، فهو المدعي وعليه البيِّنة، والآخر مدَّعى عليه فالقول قوله مع يمينه. ولهذا قال ابن الموّاز في هذه المسألة: إذا كان العيب مشكوكًا فيه، واشترى السلعة البائع الأوَّل بأقَّل، فالقول قوله في أنَّ العيب لم يكن عنده, لأنَّ المشتري منه يقول له: العيب كان عندك، فمن حقي أن أردَّ السلعة عليك، وها هي في يديك، فادفع إليَّ بقيَّة الثمن. ولو اشتراها على هذا الذي ذكره ابن الموّاز بأكثر ممَّا باعها به، لكان هو الطالب لردها على البائع الآخر ليستردَّ منه ما زاده على الثمن بعد أن دفعه راضيًا به، ونحن على شك هل العيب كان عنده أو عند هذا المطلوب؟ فالقول قول المطلوب أيضًا لأنَّه تلزمه (¬1) غرامة بالشك. وهذا إذا كان الطلب في تقديم أحدهما للآخر. وأمَّا إن تصوَّر الطلب منهما جميعًا، هذا في غرامة مال واسترجاعه، وهذا في حل عقد، فإنَّهما يحلفان جميعًا لما قلَّمناه من أنَّ الغرامة لا تكون بالشك، ولا ينحل أيضًا العقد بالشك. ولو صوَّرنا الشك في هذا العيب في ثلاثة أحوال، وهي إمكان كونه عند البائع الأوَّل قبل أن يبيعه، أو عنده بعد أن اشتراه، أو حدث عند المشتري منه، وكان الاشتراء بأقل من الثمن، تحالفا جميعًا على حسب ما صوَّرناه. وكذلك لو كان بأكثر، فإنَّه يجري على ما قدَّمناه من كون المخاصمة في طلب غرامة أو حل عقد أو فيهما جميعًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: لا تلزمه.

والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: إذا اشترى عبدًا آبقًا دلس البائع بإباقه فباعه المشتري، وهو لا يعلم بإباقه، فأبق عند الثالث فهلك بسبب إباقه، فها هنا حكم التبعيض المختلف بأنَّ البيعة الأولى التي دلس فيها بالإباق يجب على بائعها رد الثمن الذي قبض، والبيعة الثانية لم يدلس بائعها، فتجب قيمة العيب بهلاك المبيع. فها هنا اختلف المذهب في هذا، لمَّا اجتمع هذان الأمران المختلف حكمهما. فالأصل أن يرجع الثالث على الثاني بقيمة العيب, لأنَّ الأوسط الذي باع من الثالث لم يدلَّس فإنَّما عليه قيمة العيب. والأوَّل حكمه مع الثاني إذا وجب له القيام عليه أن يأخذ منه جميع الثمن. هذا حكم كل واحد مع صاحبه على الإنفراد. فإذا اجتمع الثلاثة أشخاص، فقال ابن القاسم يؤخذ جميع الثمن من الأوَّل فيدفع إلى الثالث، إلاَّ أن يزيد هذا الثمن المقبوض من الأوَّل على ما دفعه الثاني من الثمن وعقد به، فإنَّ هذه الزيادة تكون للأوسط، لكون الآخر قد رجع إليه جميع الثمن الذي دفع، فالزيادة عليه لا حقَّ له فيها. أو يكون الثمن الذي يأخذ الأوَّل نقص عن قيمة العيب من الثمن الذي دفعه الثالث، فإنَّ من حق الثالث أن يرجع بتمام قيمة العيب على الأوسط الذي باع منه. كما كان ذلك من حقه لو انفرد. فكأنَّ ابن القاسم قدَّر في هذا أنَّ الثالث، وإن لم يدلس عليه من باشره بالبيع، فإنَّ المدلس على من باع منه يقدَّر مدلسًا عليه. وحكم من دلس عليه ها هنا أن يرجع بجميع الثمن. ويؤكد عنده كون الأول كالمدلس على الثالث، أنَّ الثالث يقول له: لو أعلمت الأوسط الذي باع مني بالإباق لأعلمني به، فلم أشتر هذا العبد منه، وإن لم يعلمني به، كان به مدلسًا علي، فأنت سبب في إتلاف الثمن علي. ومتلف الشيء بسبب يقتضيه بلا بدٍ كمتلفه بمباشرة، فلهذا قضي على البائع الأوَّل برد الثمن كلِّه وإعطاء الثالث ما لم يكن أكثر مما دفع الثالث أو أقلَّ من قيمة عيبه من ثمنه. وذكر أصبغ أنَّ الثمن إذا أخذ من الأوَّل، دفع منه إلى الثالث قيمة العيب الذي يستحقه على الثاني لو انفرد به، وسلَّم. بقيته إلى الأوسط. فإما أخذ جميعه

من الأوَّل، كما قدَّمناه من التعليل، وإما اقتصاره، في هذه الرواية على ألاَّ يعطى منه الثالث إلاَّ قيمة العيب خاصَّة. فلأجل أنَّ الثالث لم يدلس عليه من باع منه، ولا يقدَّر أنَّ الأول كالمدلس عليه, لأنَّه وإنْ كان كالسبب في هذا، فإنَّ السبب إذا ضعف لا يؤثر، وإذا قوي أثَّر. وهو فيما بين الأوَّل والثاني. فلهذا وجب رد الأوَّل على الثاني ما قبض منه وهو ضعيف فيما بين الأوَّل والثالث، فلهذا لم يجب أن يرد على الثالث جميع ما دفع. واختار ابن الموّاز مذهبًا ثالثًا وهو كون الأوَّل لم يضر الثاني بتدليس، فصار تدليسه لا تأثير له، على حسب ما علَّلناه في مذهب ابن القاسم فيمن باع عبدًا معيبًا فباعه مشتريه قبل أن يعلم بالعيب ثمَّ علم به، فإنَّه لا رجوع له على من باع منه، لكون هذا العيب لم يلحق المشتري منه ضرر لمَّا باع، على حسب ما قدَّمنا بيانه، فكذلك ها هنا لمَّا باع الأوسط ولم يبخس لأجل العيب شيء فيسقط حكم التدليس فيما بينه وبين البائع. وهذا الأوسط لمَّا باع هو غير مدلس أيضًا. فالتدليس لا يتصوَّر ها هنا. لكن كنَّا قدَّمنا في المسألة التي مثلنا بها ها هنا فيمن باع عبدًا اشتراه معيبًا أنه لا مقال له عند ابن القاسم ألاَّ (¬1) يفوت العبد في يد مشتريه الثاني، فإنَّ المشتري الأوَّل إذا رجع عليه المشتري الآخر بقيمة العيب رجع هو أيضًا على من باع منه بما غرم من ذلك للحوق الضرر له بهذه الغرامة، أو بإكمال الثمن الذي دفعه أو قيمة العيب من الثمن الذي دفعه أيضًا، يرجع بالأقل من هذه الثلاثة أوجه على حسب ما قدَّمنا بيانه وتعليله. وكذلك يجب أن يكون للثالث أن يرجع ها هنا على الأوَّل المدلس بما كان يرجع به عليه الثاني إذ طالبه الثالث بالواجب في هذا، وهو الأقل ممَّا يغرمه الأوَّل للثالث ممَّا غرم الثالث، أو إكمال رأس ماله أو قيمة العيب من ثمنه. وكأنَّ ابن المواز قدَّر أنَّ حكم التدليس قد ارتفع لما بيَّناه، فلا يكون للأوسط في العيب مقال، إلاَّ أن يلحقه ضرر منه. فإذا لحقه الضرر أزيح ذلك الضرر بما يدفعه، وهو أحد هذه الوجوه الثلاثة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب إلا أن.

ويقدح في المذهبين المتقدمين اللذين تضمَّنا إيجاب غرامة الأوَّل وجميع ما قبض، بأنَّ هذا الأوسط قد أخذ عوضًا عن هذا العبد الذي دلس عليه ودفع إليه جميع ما هو عوض إلاَّ الجزء الذي دلس به؛ لأنَّ ماله رجوع بقيمة ذلك. وأمَّا أن يجتمع له أخذ عوض ما اشتراه ودلس عليه به بالرجوع بثمنه، فإنَّ هذا خلاف مقتضى الأصول وخارج عمَّا يجب في أحكام التدليس. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: إذا اشترى عبدًا به عيب فباع نصفه قبل أن يعلم بعيبه، فإنَّ هذا النصف المبيع يجري حكم العيب فيه على ما قدَّمناه من الإختلاف في بيع ما بيع قبل أن يعلم بعيبه. فمذهب ابن القاسم أن لا مقال له فيه. ومذهب أشهب أنَّه يرجع بالأقل ممَّا نقص قبضه فيه كما دفعه فيه أو قيمة نصف العيب في هذا النصف، وعلى المذهب الثالث يرجع بقيمة العيب على الإطلاق. وأمَّا النصف الثاني يبدَّأ بالتخيير فيه بين أن يدفع نصف قيمة العيب المختص بهذا النصف الباقي، فيسقط مقال المشتري فيه، أو يقبله من المشتري بعيب الشركة والتبعيض الذي ذكره، فيكون المشتري مخير أبي ن أن يقبل هذا النصف بجميع الثمن، أو يرده ويأخذ نصف الثمن. وكأنَّه يرى أن حكم الفوت إذا أوجب التخيير جعل التخيير في جنبة من لحقه الضرر. فإذا كان المشتري هو الذي يلحقه الضرر بغرامة تلزمه إذا ردَّ لكونه حدث عنده نقص، كان مخير أبي ن الرد والإمساك وأخذ قيمة العيب. وإن كان الضرر في الرد يختص بالبائع. كان البائع هو المبدَّأ بالخيار، فله أن يعطي نصف قيمة العيب ويمنع المشتري من الرد لأجل ما يلحقه من الضرر. ولو قضينا للبائع بهذا فدفع نصف قيمة العيب ثمَّ ردَّ هذا النصف المبيع على المشتري الأوَّل الذي باعه، فإنَّ الأشياخ اختلفوا إذا دّعا (¬1) أحدهما إلى نقض هذا الحكم ورد نصف قيمة العيب، وتخيير المشتري بين أن يقبل بجميع الثمن أو يرد. فمنهم من ذهب إلى أن ذلك حكم مضى ولا يرد. ومنهم من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب إذا دعا.

ذهب إلى أنَّ هذا حكم إنَّما أمضي لعلة وهو ضرر البائع بالتبعيض، فإذا ارتفعت العلَّة، وجب ارتفاع هذا الحكم الذي تعلق بها. وأشار بعضهم إلى أنَّ هذا نحو ما قدَّمناه من الاختلاف. وما حكيناه عن ابن حبيب من كون القاضي إذا منع المشتري لمَّا باع من القيام بالعيب ثمَّ استرجع المبيع، أنَّه لا يرده. وذكرنا عن الشيخ أبي محمَّد ابن أبي زيد قال: هذا بعيد من أصولهم، فكذلك ها هنا. وقد يقال: بل هذه المسألة آكد، لأجل أنَّ الذي ذكرناه ممَّا استبعده الشيخ أبو محمَّد كأنَّه قضيَّة وقعت بإقرأر وترك، وهذه وقعت لغرامة وفعل فيجب أن تكون آكد. ولو أنَّ المشتري لهذا العبد لم يبع نصفه ولكن تصدَّق بالنصف، فإنَّ هذا النصف المتصدق به يجب للمتصدق أخذ قيمة عيب هذا النصف كما لو تصدَّق بجميع العبد. وأمَّا النصف الآخر فإنَّه يحكم فيه بما ذكرناه من تخيير البائع بين أن يعطي قيمة نصف العيب المختص بهذا النصف، أو يمتنع فيخيَّر المشتري بين رده وقبوله لأجل ما قدَّمناه من التعليل هكذا. وروى عيسى عن ابن القاسم وقال عيسى عنه أيضًا: إنَّ للبائع التخيير إليه إذا زاد الثمن زيادة بينة، قال: أنا أختار أن نبيع نصف قيمة العيب في النصف المتصدق به. كأنَّه قدَّر أنَّ هذا البائع لمَّا باع، وهو يعلم أنَّ المشتري منه يمكن أن يبيع كلَّ المبيع أو يبيع نصفه بأن التراضي بعيب التبعيض، فلا يقدم في التخيير. وأما الفوت من ناحية الصدقة، فإنَّه لا يختلف فيه أنَّ من اشترى عبدًا ثمَّ تصدَّق به أو وهبه، فإنَّ له قيمة العيب لكونه خرج عن ملكه ولا يمكن رده، مع كونه لم يستدرك الظلامة بأن أخذ عن العيب ولا عن جهة العبد عوضًا. وقد تتوزع في الهبة لو كانت من المشتري لهذا العبد المعيب على ولد له يمكن اعتصار هذه الهبة منه، فقيل: ليس له أخذ قيمة العيب لما كان قادرًا على ارتجاع العبد إلى ملكه من غير اختيار الموهوب، فكأنَّه على هذا التقدير لم يخرج عن يده ولا عن ملكه. والعبد إذا لم يخرج عن يده ولا تغيَّر في نفسه، فإنه لا يمكن من أخذ قيمة العيب. إلى هذا ذهب الشيخ أبو القاسم ابن الكاتب.

وعلى تعليله لو كان ذلك صدقة لا يمكن اعتصارها لكان لهذا المشتري المتصدق أخذ قيمة العيب، لكونه غير قادر على ارتجاعه إلى ملكه، لكون الصدقة لا تعتصر. وذهب ابن حبيب إلى أنَّه يأخذ قيمة العيب إذا وهب لابنه لكونه الآن قد خرج عن ملك المشتري، وقدرتُه على أن يرتجعه إلى ملكه لا يثبت بها حكم مارجع إلى ملكه. وقد اشتهر ما تقتضيه أصول المذهب من الاختلاف فيمن قدر أن يملك، هل يعد كالمالك أم لا؟ وهذا الذي نحن فيه جار على الخلاف في هذا الأصل. فإذا تقرَّر أن الهبة توجب أخذ القيمة للعيب إذا كانت هبة لا تعتصر، فالعتق أيضًا أولى بذلك، وبكونه فوتًا يوجب أخذ قيمة العيب، لكون الملك قد خرج به من يد المشتري خروجًا لا يأخذ عنه عوضًا، ولا استدرك به الظلامة، وهو ميؤوس من رجوعه إلى الملك. فكان أحرى بكونه فوتًا. ولا اعتبار ها هنا لحصول الثواب عن العتق، وتقديره عوضًا جعل له, لأنَّ هذا العوض ليس من جنس ما أخذه منه البائع هو المقصود في التعاوض بالأملاك. مع كون الرقية السالمة من العيب أكثر أجرًا في العتق من الرقبة المعيبة. فمقدار العيب لم يحصل عنه عوض لا من ناحية أعواض الدنيا ولا من أعواض الآخرة. وإن كان ربَّما حصل عوض الآخرة من ناحية نيّه المعتق. فكذلك الكتابة هي أيضًا فوت لأنَّها في معنى العتق، فأجري عليها حكم العتق ها هنا. ولا أعتبار بما يأخذ من المكاتب من عوض, لأنَّ النجوم ليست بدين ثابت مستقر في ذمَّة المكاتب. فالعوض الذي دفع للبائع قد حصل له، والعوض الذي يأخذ هو من المكاتب لم يحصل له ولا هو مستقر في الذمَّة. وكون المكاتب يرتجى عجزه وعوده إلى الملك لا يمنع من كون الكتابة فوتًا يوجب الرجوع بقيمة العيب؛ لأنَّا إنما نعلِّل البيع على مذهب ابن القاسم بأنَّه قد استدرك الظلامة، على ما تقدَّم بيانه، وها هنا لم يستدركها، كما بيَّناه، مع كونه غير قادر على التصرُّف في المكاتب، فصار ذلك العتق في تمكينه من طلب قيمة العيب. لكن هذا المكاتب لو عجز بعد ما أخذ مشتريه الذي كاتبه قيمة العيب لأجل كون الكتابة فوتًا، فإن بعض

الأشياخ قال: هذا حكم مضى لا ينقض. ويمكن (¬1) من أراد نقضه وارتجاع قيمة العيب من ذلك. وكذلك لو مرض المشتري وبلغ بموجبه السياق حتَّى وجبت قيمة العيب ثمَّ صحَّ العبد، فإنَّ ذلك أيضًا حكم قد مضى. وهذا قد قدَّمنا نحن اختلاف الأشياخ في مسألة لمَّا تكلَّمنا على من باع نصف عبد اشتراه واختار البائع أخذ قيمة العيب ثمَّ رجع النصف الآخر إلى المشتري، فما ذكرناه يجري ها هنا. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: اختلف الناس فيمن اشترى أمة فوطئها، ثمَّ اطلع على عيب كان عند البائع، ولم يعلم به حتَّى وطئ، فمذهب مالك أنَّ ذلك ليس بفوت يوجب أخذ قيمة العيب. هذا المشهور عنه وعن أصحابه. لكن إن كانت الأمة بكرًا فافتضها، أنَّه يخيَّر بين أن يأخذ قيمة العيب لأجل ما يلحقه من الغرامة، أو يرد الأمَّة ويرد ما نقصها الافتضاض. وقال بعض المتأخرين: إنَّما ينقصها الافتضاض إذا كانت علية، وأمَّا إن كانت من الوخش، فإنَّ الافتضاض لا ينقصها. وهذا الذي قاله إن ثبت له من جهة العادة، فلا بدَّ من تقييد المسألة بما أشار إليه من كون الافتضاض يوجب التخيير في العليات دون الوخش. وأمَّا الافتضاض للوخش فكوطء الثيبات الذي لا يوجب التمكين من أخذ قيمة العيب. ولهذا قال الشافعي من كون وطء الثيِّب ليس بفوت ولا يوجب أخذ قيمة العيب. لكن لو كان ذلك في الأبكار فكان ذلك عيبًا فيهن لكان الحكم ما قدَّمناه عنه في حكم حدوث عيب عند المشتري وقد اطَّلع على عيب. وذكر ابن حبيب عن ابن نافع وابن وهب وأصبغ أنَّهم يرون الوطء فوتًا يوجب أخذ قيمة العيب. ولهذا قال أبو حنيفة ويذكر ذلك عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ذكره ابن حبيب وذكره بعض البغداديين من أصحابنا، ومن أصحاب الشافعي عن علي رضي الله عنه. وبه قال الليث وابن شهاب. وذهب عمر بن الخطَّاب رضي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب ولا يُمَكَّن.

الله عنه، إلى أنَّه ليس بفوت، كما ذهبنا إليه في الثياب (¬1) وفصَّلنا القول فيه في الأبكار، ولكنَّه يوجب، مع تمكين الواطىء من الرد، غرامة صداق مثل الأمة. وبه قال ابن أبي ليلى. وذكر سحنون رضي الله عنه عن بعض من ذهب إلى أنَّه ليس بفوت أنه يرد في الشيب نصف عشر قيمتها، وفي البكر عشر قيمتها. هذا جملة الخلاف في هذه المسألة. وأمَّا الذاهبون إلى أنَّ ذلك فوت يمْنع من الرد، فإنَّهم قد يذهبون لذلك أخذا بحماية الذريعة لمَّا كانت الفروج لا يحلُّ استباحتها إلاَّ بنكاح أو ملك يمين. وملك اليمين ها هنا قد بطل لأجل الرد بالعيب، وانحلَّ البيع من أصله، فحصل (¬2) الوطء كأنَّه في غير ملك ولا نكاح ها هنا. فوجب أن يتلافى هذا بإيجاب الصداق حتَّى يقدَّر بأنَّه وطئ بحكم استباحة النكاح. واستبعد آخرون هذا التعليل لمَّا كان العيب من سبب البائع ولم يكن للمشتري فيه مدخل، والوطء حصل من المشتري بحكم الملك، لو شاء لأبقاه في يده على التأييد، فلا يلزمه عوض عنه، وإنَّما يقدر سقوط ملكه الآن لمَّا اختار ردَّه، لا سيَّما إذا قلنا: إنَّ الردَّ بالعيب كابتداء بيع. ولا معنى لحماية الذريعة لأجل أنَّ الذريعة إنَّما تجب في أمر دخل المتعاقدان فيه مدخلًا واحدًا، فيُتصوَّر إتَّهامُهما على التحيل على ما لا يحل، وعارية الفروج وإباحة الوطء. بغير عوض دخل فيه مالك الأمة وواطئها. وها هنا لم يدخل الواطىء على هذا، فيبعد أن يظنَّ به أنَّه واطأ مالك الأمة على أن يزن له الثمن ثمَّ يرد بالعيب عليه ويظهر أنَّه لم يعلم به. وقد كان بعض أشياخي يعلل في هذا أن الوطء إذا حصل على وجه يمنع من إباحة وطء الأمة لمن يملكها، أو يمنعه من التصرف فيها بحكم الملك التصرف المطلق، أنَّه يوجب على الواطىء إغرام القيمة، على ما سنبيَّنه في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: الثيبات. (¬2) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: فحصول.

وطء أحد الشريكين أمة مشتركة بين الواطىء أو بين رجل آخر. وقد احتجَّ بعض من ذهب إلى أنَّ الوطء ليس بفوت بأنَّ الأمَّة لو كانت ذات زوج فوطئها الزوج، فإنَّ وطأه لا يكون فوتًا. وهذا قد يجاب عنه بأنَّ استحقاق هذا الوطء كان عن عوض، وهذا أمر لم يُستحق بمجرد عقد شراء الأمة، فكان هذا بخلاف وطء مشتريها له الذي لم يُستبح إلاَّ بالعقد الذي قد فُسخ ورُدَّ بالعيب. وقد أشار بعض أصحاب الشافعي إلى ضعف هذا الفرق، ورأى أنَّ ما يحدث عند المشتري من نقص بحكمه، وإن اقتضاه العقد. ومثَّل هذا بمن اشترى عبدًا سارقًا توجَّه عليه قطع يده في السرقة، ولكنَّه لم يقطع حتَّى اشتراه، فإنَّه إذا قطع عند المشتري، كان ذلك نقصًا مانعًا من ردِّه، وإن قدَّر أنَّ البائع كأنَّه باع العبد واستثنى هذه اليد كما يقدَّر في مشتري أمة ذات زوج أنَّ وطء الزوج كالمستثنى حين العقد. وهذا الذي قاله في قطع هذا العبد السارق قد لا يسلمه أصحابنا، ويرون أنَّ للمشتري ردَّه بالعيب من غير غرامة لأرش اليد, لأن المشتري لم يدفع عنها عوضًا، فيكون له الطلب بقيمة هذا الجزء الذي قطع. وكذلك لا يكون للبائع المطالبة بأرش هذا الجزء الذي قطع عند المشتري، لأنه لم يملكه المشتري ولا عاوضه عليه، ويطالب (¬1) به المشتري إذا ردَّ. وقد اختلف الأشياخ المتأخرون من أصحابنا فيمن اشترى عبدًا به ورم، لم يعلم به، فزاد الورم عند المشتري، ثُمَّ اطلع عليه، هل على المشتري إذا ردَّ بالعيب أن يغرم قيمة ما زاد في هذا الورم أم لا؟ قال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان لا غرامة عليه. لأنَّه إنَّما ردَّ هذا المبيع لأجل العيب الذي نقصه/ بهذا الورم، فإذا كان الورم هو سبب الرد، ولأجله مُكَّنَ المشتري من حل العقد، فلا يطالب بغرامة هذه الزيادة. فإن كان البائع لم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: فيطالب.

يدلس بهذا الورم لأجل أنَّه لمَّا كان أصل الورم عنده قُدر كان نماءه عند المشتري كان عنده. وخالفه غيره من الأشياخ في هذا، ورأى أنَّ المشتري مطالب بغرامة هذه الزيادة لما حدث عنده، والبائع لم يدلس بها, لأنَّه إذا دلَّس بها لم يطالب بعهدة هذا الورم، ولا بما كان عنه، كما لا يطالب بموت العبد من عيب دلَّس به، وإذا لم يدلس فإنَّ المشتري ضامن لجميع الأجزاء التي دفع إليه. فما ذهب منها طالب به كما يطالب بالجملة. وزيادة الورم تقدَّر كأجزاء ذهبت من العبد لفساد الجسم بهذا الورم. فأنت ترى ما قاله الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان من أنَّ المشتري لا يغرم هذه الزيادة، وإن لم تشترط عليه ولا علمْ بها هو ولا البائع منه، فكيف بهذا العبد المشترط أنَّه سارق قد حكم بقطع يده، فقد صار الدخول بهذا الشرط يدفع الطلب بهذا النقص بخلاف الورم الذي لم يعلم به البائع ولا المشتري. والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: اختلف المذهب فيمن اشترى عبدًا فرهنه أو أجَّره، ثمَّ اطَّلع على عيب كان عند البائع. فذهب ابن القاسم إلى أنَّ الردَّ بالعيب لمَّا امتنع لأجل حق المرتهن والمتسأجر بهذا العبد بقي حكم الرد للعبد الذي استحقَّه المشتري على الوقف. فمتى رجع إلى يده، ردَّه إلى من باعه منه. وذهب أشهب إلى أنَّه إذا لم يخلصه من الرهن معجلًا ولا من الإجارة، فإنَّه يحكم له بقيمة العيب. واختار ابن حبيب مذهب أشهب إذا بَعُد أمد تخليصه من الإجارة أو من الرهن. ومذهبَ ابن القاسم إذ قرب زمن تخلصه كالشهر ونحوه. فكأنَّ ابن القاسم رأى أنَّ الحكم الرد بهذا العيب. فإذا لم يمكنه ذلك لما تعلَّق به من حق بقي الأمر موقوفًا، فإذا أمكنه الرد، حكم له بما تقرَّر من حقَّه في ذلك, لأنَّ المنع من الرد إنَّما كان لعلَّة، فإذا زالت زال حكمها، كما لو باعه

المشتري، فإنَّه عند ابن القاسم لا مقال له، فمتى ردَّ عليه، كان له رده على البائع، على حسب ما قدَّمناه فيما سلف، لا سيَّما والعبد المبيع خرج من ملكه ثمَّ عاد إليه، وهذا لم يخرج من ملكه بالإجارة والرهن، ولكنَّه حال بينه وبين الرد مانع، فأشبه اطلاعه على عيب في سلعة اشتراها وقد غابت عن يده، فلم يمكنه الرد الآن. وكأنَّ أشهب قدَّر أنَّه لمَّا منع من التصرُّف في العبد الآن، صار ذلك كموت العبد في يده، أو خروجه عن يده بصدقة أو هبة أو كالكتابة التي توجب له أخذ قيمة العيب لمَّا منع من التصرُّف في العبد، وإن كان ممكنًا رجوعه إلى يده، لعجز العبد عن أداء الكتابة. وترجَّح ابن حبيب في هذا ورأى أنَّ أمد التخلص لهذا العبد إذا طال صار ما عقد فيه كعقد الهبة والصدقة، وإذا قصر صار كأنَّه يمكن رده الآن. وقد أشار بعض الأشياخ إلى أنَّ تكليف مشتري العبد النظر في (¬1) فكأنَّه قبل حلول أجل الدين يوجب له أخذ قيمة العيب، لأجل ما يتوجَّب عليه من غرامة دين لم يحلَّ عليه، فصار ذلك عذرًا له في تمكينه من طلب قيمة العيب، كما يمكن من ذلك إذا حدث عنده نقص لا يمكن به الرد إلاَّ مع غرامة قيمة النقص. والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال: أمَّا التبعيض للعقد من ناحية تعدّد من باع واشترى، فإنَّه: إنَّ تعدَّد من ناحية من باع، مثل أن يبيع رجلان عبدًا لرجل واحد هو شركة بينهما، فإنَّ المشتري إذا اطَّلع على عيب فأراد أن يردَّ على أحدهما النصف الذي باعه منه ويمسك نصيب الآخر، فإن ذلك له، وتقدَّر الصفقة الواحدة ها هنا كصفقتين. وأمَّا إن كان التعدد من ناحية المشتري، مثل أن يشتري رجلان عبدًا من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والكلام غير واضح، والظاهر أنَّ في النص نقصًا.

بائع واحد، فأراد أحدهما الرد وأراد الآخر أن يمسك، فإنَّ في هذا روايتين عن مالك. إحداهما أنَّ المشتري يمكن من ذلك. وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن وأبو يوسف. والرواية الأخرى رواها أشهب عنه أنَّه لا يمكن من ذلك. وبه قال أبو حنيفة. وسبب هذا الإختلاف النظر في هذه الصفقة والعقد الواحد هل يقدر كصفقتين وعقدين أو كصفقة واحدة وعقد واحد. فمن قدَّره كصفقتين، مكَّن أحد الشريكين من رد نصيبه، وإن لم يرد شريكه. ومن رآه كصفقة واحدة، لم يمكنه من الرد. فيحتج من رآه كصفقتين بأنَّ التعدد إذا كان من ناحية البائع، كما مثلَّنا به في المسألة الأولى، أنَّ الصفقة تعد كصفقتين، ولهذا مكن المشتري الواحد أن يردَّ على أحد البائعين. وكذلك إذا كان التعدد من ناحية من اشترى. وأجيب عن هذا القياس بأنَّ التعدُّد إذا كان من جهة من باع، فإنَّ المشتري لعبد من رجلين إذا ردَّ على أحدهما نصف العبد وهو جميع ما اشتراه منه، هل يلحق هذا البائع مضرَّة في تبعيض صفقته إذ لا علاقة بينه وبين شريكه في هذا وملكه يتبعض عليه. وإذا كان التعدد من جهة من اشترى، فإنَّ أحد المشتريين لهذا العبد إذا ردَّ نصيبه على بائعه هو رجل واحد تبعَّضت عليه صفقته، والتبعيض إضرار به، فوجب أن يكون من حقِّه الامتناع من هذا الضرر. ويؤكِّد كون العقد الواحد صفقتين أيضًا أنَّ كلَّ واحد من المشتريين مختص بحكمه في العهدة والمطالبة بما عليه من الثمن، إلى غير ذلك من أحكام العقود. وكذلك يجب أن يخصَّ حكمه في العيب ويكون ذلك صفقتين. ومن يرى ذلك كالصفقة الواحدة يقول: لو باع رجل من رجلين عبدين، فأراد أحدهما أن يقبل أحد العبدين المتساويين، وأراد الآخر ردَّ العقد، فإنَّه لا يمكن مَنْ قَبِلَ أحد العبدين من هذا القبول. وهذا يقتضي كون الصفقة ها هنا واحدة لا تقدَّر كصفقتين، إذ لو قدَّرت كذلك، لمكن هذا من أخذ أحد العبدين.

وأجيب عن هذا أيضًا بأنَّ هذا البائع لو باع منهما عبدين صفقة، فكأنَّه إنَّما باع من كلِّ واحد نصف عبد من كلِّ واحد من العبدين، فليس لأحد المشتريين أن يتحكَّم على البائع ويجمع هذين النصفين في عبد واحد. وقد كنَّا قدَّمنا الكلام على مسألة من اشترى عبدًا فباع نصفه ثمَّ اطلع على عيب، وذكرنا أنَّ ابن القاسم قال هناك: إنَّ البائع يبدَّأ بالتخيير بأن يغرم نصف قيمة العيب في النصف الباقي في يد المشتري لما يلحقه من الضرر في التبعيض عليه. وقد يقال ها هنا أيضًا: إن من حق البائع أن يغرم لأحد الشريكين قيمة ما يخص به من العيب لأجل ما يلحقه من ضرر التبعيض. وقد احتجَّ من نصر إحدى الروايتين من تمكين أحد المشتريين، بأنَّ البائع لمَّا عقد من رجلين، وقد علم أنَّه يختلف اختيارهما، صار كالراضي بعيب التبعيض. وقد يقال ها هنا: إنَّ البائع لما جوَّز أيضًا أن يبيع المشتري منه نصف العبد الذي اشتراه، لم يطلع على ما يوجب له الرد فدخل على التبعيض. لكن قد يقال: هذا التجويز والإمكان من مقتضى العقد في أصله، والمشتريان عبدًا من رجل واحد قد تضمَّن أصل العقد تمكين كل واحد منهما من اختياره لعلم البائع بتعددهما، فهذا ممَّا ينظر فيه. وأمَّا إن كان التبعيض من ناحية المبيع مثل أن يوجد العيب في بعض ما بيع دون بعض، فإنَّه لا يخلو أن يكون ذلك في أحد مبيعين بيعا أو في واحد من أعداد بيعت. ثمَّ لا يخلو هذان القسمان من أن يكون جنس المبيع ممَّا لا يكال ولا يوزن، أو ممَّا يكال ويوزن، وهو طعام أو غير طعام. فأمَّا إن كان البيع اثنين، مثل أن يبيع عبدين، وجد العيب بأحدهما دون الآخر، فإنَّه إن كانا متكافئين ينوب كل واحد منهما نصف الثمن، فإنَّه لا يمكن المشتري إلاَّ من رد المعيب خاصَّة، ويلزمه العقد في العبد السالم لأنَّ العقد

صحيح لازم. والموجب لرد (¬1) العيب، والعيب مختص بأحدهما، فيجب أن يختص الرد به. وكذلك إن تفاوتت قيمة العبدين فكان العيب موجودًا بأدناهما، فإنَّه لا يمكن المشتري من ردِّ الآخر الذي هو سالم من العيب بما ذكرناه من التَّعليل. وإن كان العيب موجودًا بالأعلى منهما، فإن للمشتري أن يردَّ السالم الذي هو أدناهما لما يلحقه من الضرر باقتصاره في العقد على الأدنى، وانفساخ العقد في الأعلى الذي هو وجه صفقته والغرض المقصود منهما. وإن كان المبيع أعدادًا مثل أن يبيع عشر ثياب فيجد العيب في أقلها، فإنَّه لا يمكن من رد أكثرها. وإن وجد العيب في أكثرها، فإنَّه يمكن من ردَّ أقلها. وذكر أشهب في المدونة فيمن اشترى عشر شياه، فوجد تسعة منها غير ذكيَّة، أو عشر قلال خلا فوجد تسعة منها خمرًا، أنَّه يلزمه العاشر الذي يصح عقد البيع فيه. وهذا قد يسبق إلى النفس منه أنَّه يرى أنَّ من اشترى عبدين فوجد العيب بأعلاهما، أنه يلزمه الأدنى الذي هو الأقل في الصفقة، كما لزمه ها هنا العاشر من القلال أو الشياه. لكن بعض المتأخِّرين أشار إلى منع هذا التخريج، وقصر الخلاف بينه وبين ابن القاسم على أنَّ ذلك ممَّا ينقسم، والعشرة المذكورة أعداد يصح انقسامها، فلهذا قال فيها أشهب ما ذكرناه عنه، والعبدان اللذان تختلف قيمتهما لا يصح انقسامهما، فلهذا لم يُلزم الأدنى منهما إذا وجد به عيب أو استحق. وأشار غيره من أشياخنا إلى هذه الطريقة أيضًا في ارتفاع الخلاف بين أشهب وبين ابن القاسم في هذا بأنَّ العبدين يقصد في عقد الشراء كون الأدنى منهما تبعًا للأعلى. فإذا بطل المقصود بطل العقد. والذي ذكره في الشياه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: للرد.

والقلال محمله على أنَّ القلال والشياه متساوية أو متقاربة، ففقد أكثرها لا يبطل غرض المشتري في بقيَّتها. هذا هو الحكم من ناحية المشتري وما يتعلَّق له بالعقد من حق. ويستوي في هذا الحكم جميع أجناس المبيع الذي قدَّمنا تفصيلها. وإن اختلف في تحديد الأقل والاكثر فيها. وأما النظر في هذا العقد من ناحية البائع، فإنَّه إذا لم يتوجه للمشتري الرد بجميع ما وقع علي العقد، لكون المعيب قليلًا، فإنَّه إن وافقه البائع على هذا (¬1) الذي هو الحكم من جهة المشتري لم يتغيَّر ما قدَّمناه من الجواب. وإن خالفه، وقال: إذا قصرت على الإستمساك بالأدنى أضرَّ ذلك بي، لكون السالم من الصفقة يحمل المعيب. فإنَّه إن كان المعيب طعامًا مكيلًا أو موزونًا، فإنَّ من حق البائع أن يمنع المشتري من التبعيض، ويطالبه بأن يمسك الجميع، السالم والمعيب، أو يرد الجميع. وكذلك إن كان المبيع مِمَّا يكال ويوزن ولكنَّه ليس بطعام كالحرير والكتان، فإنَّ الحكم فيه كالحكم في الطعام في كون البائع من حقِّه أن يمنع من التبعيض. وإنَّما يختلف المكيل والموزون إذا كانا طعامًا أو حريرًا أو كتانًا في تحديد الأقل، فإنَّ الطعام الثلث فيه كثير في الإستحقاق ومن اشترى مائة قفير قمحًا فاستحق ثلثها، فإنَّ له عند ابن القاسم ردَّ بقيتها، بخلاف من اشترى مائة ثوب فاستحقَّ ثلثها أو نصفها، فإنَّ ما لم يستحق منها لازم للمشتري. والعلَّة عنده في ذلك أنَّ الطعام يرغب في شرائه جملة، في مقتضى العادة، فكان ذهاب الثلث منه في حكم الكثير المُذهب لقصد المشتري. ولو كان الذاهب منه يسيرًا كالخمس، فإنَّه لا مقال له لقلَّة الضرر بالتبعيض بهذا المقدار. وذهب أشهب إلى المساواة بين الطعام وغيره ورآه كالعروض في تحديد الأقل والأكثر، وإنَّ استحقاق النصف منه لا يوجب للمشتري ردَّ الباقي الذي لم يستحق. ولو كان المبيع حريرًا أو كتانًا وشبه ذلك مما يكال ويوزن، فإنَّه ¬

_ (¬1) بياض بمقدار كلمة، ولعللها: الأستمساك.

يعتبر الأقل فيه والاكثر بحسب ما يعتبر في العروض في حكم الاستحقاق. وكأنَّ العلَّة التي ذكرناها في الرغبة في شراء الجملة مختصَّة بالطعام دون العروض التي تكال أو توزن. ولو كان العيب الموجود في الطعام يختص بقدر لا مقال له فيه، فإنَّ الشيخ أبا محمَّد ابن أبي زيد منع ها هنا أن يكون للبائع مقالًا في التبعيض، ورأى أنَّ من حق المشتري أن يرد هذا المعيب خاصَّة لقلَّة ثمنه، فيخفَّ الضرر ها هنا بالبائع من ناحية التبعيض، بخلاف ماله قدر وبال. وقد قدَّر بعض الأشياخ هذا الذي أشار إليه ابن أبي زيد بعشرة أرادب من مائة أردب. ولو كان الطعام لم يبع على الكيل والوزن وبيع صبرًا، وهو جنس واحد، لجرى مجرى الطعام المكيل والموزون فيما ذكرناه من أحكام العيب الموجود ببعض الصبر، وأحكام تحديد القلَّة والكثرة. وقد جعل ابن المواز الطعام الجزاف، بخلاف ما قلناه في المكيل، في أنَّ استحقاق النصف منه لا يوجب للمشتري مقالًا في الباقي. قاله في مسألة من باع صبرتين أو حملين واستحقَّ أحدهما. والقياس ألاَّ فرق بين مكيل الطعام وجزافه إذا كانت الرغبة في شراء جملته أشد. فلو كانت مختلفة كشعير وقمح، لجرت مجرى العروض، لكون كل صبرة الغرض منها غير الغرض من الأخرى. وأمَّا إذا كان المبيع عروضًا مثل أن يبيع عبدين فيوجد العيب بأدناهما. فيريد المشتري ردَّه خاصَّة ويمنعه من ذلك البائع ويعتل بأنَّ المعيب والسالم يحمل بعضهما بعضًا، فإنَّه لا مقال للبائع في ذلك، بخلاف ما ذكرناه في الطعام. ورأى بعض أشياخنا أنَّه لا فرق بين العروض في هذا والطعام. وذكر أنَّ الدّاودي ذكر أنَّ العيب إذا وجد ببعض الصفقة، فإنَّ للبائع أن يمنع من التبعيض، كان العيب في أكثرها أو أقلَّّها. وتعلَّق أيضًا بما وقع في المدوَّنة من أنَّ المشتري إذا وجد في صفقته ما يضر به في أكثر عدده ووزنه وكيله فأراد أن يمسك السالم بحصَّته من الثمن، فليس له ذلك. وقدَّر أنَّ للبائع فيه مقالًا في أن

يحمل السالمُ المعيب كون السالم هو الأقل، فأحرى أن يكون للبائع مقالًا في أن يحمل الأكثر هو السالم عيب أقل الصفقة إذا كان هو المعيب. ويتعلَّق بذكر الموزون والمكيل مطلقًا من غير تخصيص بأن يكون طعامًا. وقد قدَّمنا عن غيره أنَّ الموزون والمكيل يحمل بعضها بعضًا في العيب، بخلاف العروض. وإذا توجَّه للمشتري ردَّ الأقل لبطلان أكثر الصفقة، فإن أراد الإمساك ورضي ببطلان غرضه في الاستحقاق، فإنَّه يمكن من ذلك إذا كان الذي يتمسَّك به معلومًا مقداره من الثمن بأن يكون المبيع وقع على قيل أو وزن، فإنَّه يعلم إذا استحقَّ من ذلك أكثر أجزائه ما يختص بالجزء الذي يستحق. فأمَّا إن كان ممَّا لا يعلم مقداره، كاستحقاق أعلى عبدين فيها، فإنَّه يمنع من الإستمساك بالعبد الأدنى الذي لم يستحق عند ابن القاسم, لأنَّه لمَّا ملك ردَّه صار استمساكه به كابتداء اشترائه بثمن مجهول, لأنَّه لا يستمسك به على (¬1) أنَّ ثمنه مقدار ما يختص به من ثمن جميع الصفقة وذلك مجهول. وأجاز ذلك ابن حبيب وقدَّر أنَّه لمَّا لم يختر المشتري ردَّ ما بقي في يديه، فإنَّ استمساكه به بحكم العقد الأوَّل الذي كان ثمن العبدين جميعًا فيه معلومًا، ولم تضر الجهالة في أصل العقد بما ينوب كلَّ واحد من العبدين لمَّا كانا لمالك واحد، فكذلك لا تضر هذه الجهالة الواقعة بعد صحَّة العقد, لأن العقد لم ينحلَّ بالرد. ألا ترى أنَّ هذا العبد الذي لم يستحق لو مات في يد مشتريه، كان ضمانه منه لكون البيع فيه منعقدًا حتَّى يردَّه المشتري. وقد يجري هذا الخلاف على الاختلاف الذي ذكرناه في جمع سلعتين لرجلين. وقد ذكرنا سبب الخلاف في موضعه. وقد قيل إنَّ مقتضى ما يشير إليه أشهب ما ذهب إليه ابن حبيب ها هنا. لكون أشهب أجاز في مسألة المدونة فيمن اشترى طوقًا ذهبًا فأصاب به عيبًا أن يصالح عن العيب على دراهم مؤخَّرة. وقدَّر أنَّ الطوق لمَّا لم يُردَّ بالعيب، صار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: إلاَّ على.

ما دفع من الدراهم المؤجَّلة إنَّما هو عوض عن ترك المخاصمة لا كاستئناف عقد يتصوَّر فيه الربا. وذكر أيضًا أشهب في من غصبت له أمة فولدت الأمة فباع الغاصب بعض أولادها، أنَّ لمن غصبت منه بيع (¬1) ما بيع من أولادها دون ما سواهم مع كونه قادرًا على أن يستردَّ الجميع أو يأخذ ثمن الجميع، فقد وقع منه التبعيض للعقد بثمن مجهول. وقد وقع في الموّازيّة فيمن اشترى عبدين فوجد بكل واحد منهما عيبًا، فإنَّ له رد أحد العبدين والتمسك بالآخر. وهو إذا تسمك بعد قدرته على رده، فإنَّما تمسَّك به على أن يكون عوضه ما ينوبه من الثمن الذي دفعه عن جميع العبدين فلم يعتبر هذا لما كان أصل العقد عليهما صحيحًا، وإنَّما حدثت هذه الجهالة بعد صحَّة العقد ووجبت الأحكام فيها كما ذكرناه من رد أو إمضاء. وقد ذكر في المدوَّنة فيمن باع شاتين مذبوحتين فوجد إحداهما غير ذكيَّه، أنَّ ذلك بمنزلة الطعام إذا بيع فاستحقَّ بعضه فإنَّ له ردَّ الذكيَّة، على حسب ما قدَّمناه في الطَّعام في استحقاق بعضه، وله أن يتمسَّك بالذكيَّة بحصَّتها من الثمن. وقد كنَّا قدَّمنا من أصله أنَّه إذا قدر على الرد، منع من الإستمساك بثمن مجهول. وقد قال يبيح لا يعجبني قوله: له أن يحبسها، فأشار إلى أنَّه خالف أصله في هذا. لكن الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد استدرك هذا الجواب بان قال محمَّد (¬2) ما قال على أنَّ هاتين الشاتين بيعتا على الوزن وهما متقاربتان في السمن. فإذا استمسك بالذكيَّه، فقد استمسك بثمن معلوم، لكون الموزون إذا استحقَّ بعض أجزائه، كان ثمن الأجزاء الباقية معلومًا، فلا يمنع مانع من جواز الإستمساك بها. وهكذا تأوَّل الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان هذه المسألة على أنَّ البيع وقع على الوزن. وأنكر أبو القاسم ابن الكاتب هذا التأويل ورأى أنَّ ظاهر الكلام في المدوَّنة يقتضي بيعها جزافًا لكونه اقتصر على كونهما مذبوحتين. وظاهر ذلك أنَّهما لم يسلخا وأنَّ رأسيهما باقيان، فلهذا عرفت ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: إمضاء بيع. (¬2) هكذا في النسختين ولعلَّ الصواب محمل ما قال.

الذكيَّة منهما. فإذا كانتا كذلك، فالبيع عقد على شخصيهما على ما هما عليه دون وزنهما مع كونهما يختلفان غالبًا في اختلاف الأجرام والسمن اختلافًا يوجب التقسيط للثمن والتقويم لهما. وقد حاول ابن القصَّار أن يخرج من هذه المسألة قولًا آخر في المذهب في صفقة جمعت حلالًا وحرامًا. أنَّ البيع يصح في حلالها دون حرامها. ويقدَّر العقد ها هنا كعقدين منفردين. وكان مقتضى المعروف من المذهب ها هنا ألاَّ يمكن هذا من الإستمساك بالشاة الذكيَّة، لكونها وإن كانت حلالًا، يجوز بيعها على انفرادها، فإنَّ مضامتها في البيع إلى شاة غير ذكيَّة يوجب فساد العقد كله في الذَّكيَّة وغير الذكيَّة. كما قال في المدوَّنة في كتاب النكاح فيمن عقد على أم وابنتها. وللأم زوج لم يعلم به العاقد، فإنَّ النكاح يفسخ في المرأتين جميعًا، وإن كانت البنت يجوز العقد عليها منفردة في مستقبل الأمر، لا سيَّما مع كون العقد على (¬1) يؤثر في البنت لكون الأم ذات زوج، وذات الزوج العقد عليها كالعدم. خلافًا لما أشار إليه بعض الأشياخ من التفرقة بين المسألتين لكون العقد على البنت يؤثر في العقد على الأم ويقدح فيه لتعلق تحريم بعضه ابن كاح بعض على الصفة المذكورة في كتاب النكاح. ولا تعلق لتحريم الشاة الغير الذكيَّة بالشاة الذكيَّة، ولا يسري تحريم إحداهما أو إباحته إلى الأخرى. ومن الأشياخ من يشير إلى أنَّ فسخ جميع العقد إنَّما يجب إذا أجمل بثمن واحد. وأمَّا إذا سمي للحلال ثمنه وللحرام ثمنه، صارا كالعقدين. وقد كنَّا قدَّمنا الكلام على هذه المسألة مبسوطًا ومذاهب فقهاء الأمصار فيها. ومنهم من يشير إلى أن مسألة كتاب النكاح قد تحمل على أنَّه قد جهل الفساد أحد المتعاقدين، وعلم إحداهما بالتحريم فيه (¬2) اختلاف، هل يوجب الفسخ أم لا؟ وكذلك يجري الأمر في مسألة الشاتين إذا علم أحد المتعاقدين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ويظهر أنَّ هناك سقطًا, ولعلَّ الصواب، على الأم لا يؤثر. (¬2) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب، وعلم أحدهما بالتحريم، وفيه ...

بالتحريم. وقال سحنون في مسألة الشاتين: إنَّ البيع فاسد. وكذلك لو عقد على قلَّتين يعتقد أنَّهما خلَّ فظهر أنَّ إحداهما خمر. وهكذا يذهب فيمن (يزوج امرأة شخص اعتقد أنَّه عبد، فإذا به حر، النكاح عنده يفسخ). (¬1) ولم يعذر في هذه العقود بالجهالة بالتحرلم، ورأى أنَّ الحر والميتة والخمر ممَّا يحرم العقد عليه شرعًا، فلا تأثير لجهل العاقد أو علمه في هذا إلاَّ من ناحية رفع الإثم عن الجاهل. وقدَّر ابن القاسم أنَّ الجهل في هذا يعذر به في تصحيح العقد على ما يحل. وأنَّ الذي وجب فسخه يقدَّر كالاستحقاق لمَّا ارتفع الإثم ها هنا عن الجاهل بتحريم بعض المعقود عليه. والاستحقاق لبعض المبيع لا يحرم الاستمساك بما لم يستحق. وكذلك ما فسخه الشرع ها هنا من المحرَّم يقدَّر كأنَّه استحقَّ بالشرع. وتصوَّرنا في هذه المسألة أنَّ الشاة الذكيَّة علمت على الجملة دون التعيين، يوجب فسخ بيع الجميع لكون الحلال لم يتميَّز من الحرام. فلو أمضينا البيع في إحداهما، لأمكن أن يصادف هذا الإمضاء الشاة الغير ذكيَّة. ولو أكل المشتري إحداهما، والأمر كذلك، لم يلزمه إلاَّ ربع ثمنها, لكون الباقية منهما يجب فسخ البيع فيها فثمنها يسقط، والأخرى المأكولة يمكن أن تكون هي الذكيَّة، فيجب غرامة جميع ثمنها، ويمكن أن تكون ليست هي الذكيَّة، ويسقط جميع ثمنها، فكان الواجب لاستواء جانب البائع والمشتري أن يقتسما هذا الثمن نصفين، كما يقسمان ما لا يدعيانه ولا يد لأحدهما عليه. وهذا وإن كانت يده على هذه المأكولة، فإنَّه قد علم أنَّ يده عليها إنَّما كانت من يد البائع أخذها منه بثمن. ولو وقع البيع في قلال يعتقد أنَّها خل، فوجد بعضها خمرًا فشغل المشتري عن التحاكم فيها إلى أن تخلَّلت وثبت ذلك بالبيِّنة. فان الأبياني قال: ثمن هذه التي تخلَّلت يسقط عن المشتري. ولكنَّ الشيخ أبا محمَّد ابن أبي زيد إستدرك هذا الكلام عليه، وتأوَّل أنَّه إنَّما يصح على أنَّ هذه القلال التي ¬

_ (¬1) ما بين قوسين كلام غير واضح.

تخلَّلت، تردّ على بائعها. وإذا ردَّت عليه وجب سقوط ثمنها عن المشتري. وهذا الذي استدركه عليه ابن أبي زيد يمكن أن يكون الأبياني لم يُورده، لكون هذه القلال التي كانت خمرًا عند العقد لا ملك للبائع عليها, ولا يستحق فيها على هذا المشتري لو أتلفها, ولا يصح حيازته لها. فإذا ارتفع ملكه عنها حين العقد وحيازتها, لم يبقَ إلاَّ أنَّ الله سبحانه خلَّلها وهي في يد مشتريها فصارت حلالًا. فكأنَّ الله سبحانه وهبه رزقًا من عنده، كطائر يسقط بداره، أو ماء أنبعه في أرضه، أو سقط طائر في أرض مباحة فسبق هذا إلى اصطياده وأخذه. وهذا عندي ممَّا ينظر فيه. ولعلَّنا أن نبسط القول في صحَّة الحيازة للخمر في موضعه إن شاء الله تعالى. ولو قدَّرنا أنَّ الحيازة تصح للبائع، لأمكن أيضًا أن يقال: إذا تخلَّلت عند المشتري ولم يُقض بها له ووجب ردها على البائع، فهلَّا كان من حق البائع أن يلزم المشتري ثمنها، ويكون ذلك كعيب ذهب عن المبيع قبل رده بالعيب. فإن قيل: فإنَّ المبيع المعيب إذا ذهب عيبه قبل الرد فإنَّه حلال قبل العقد وفي حين العقد وبعد العقد. وهذا في حين العقد هو في نفسه حرام، فلا يصح إمضاؤه ويقدر أنَّ ذلك كعيب ذهب. قيل: قد قدَّمنا أنَّ مذهب ابن القاسم أنَّ الجهل بهذا المحرَّم عذر في كونه لا يفسد الحلال الذي ضامَّه، وأنَّه يجري مجرى الإستحقاق ببعض المبيع. فكذلك يجب أن يقدَّر أيضًا أنَّه كمباح بيع وهو معيب فذهب عيبه قبل الرد. لكن قد يقال أيضًا ها هنا: إنَّ المتعاقدين لو علمًا بالتحريم، لصحَّ العقد فيما هو حلال على أحد المذاهب. فماذا جهلًا ذلك، كان أحرى في تصحيحه. وها هنا إنَّما تقدَّم الإمضاء فيما هو محرَّم لنفسه لا لأجل غيره. فكان أشد في منع إمضاء العقد فيه. وكأنَّ هذه التفرقة تمنع من تشبيهه بعيب ذهب. ولو كان المبيع قد فات بعضه واستحقَّ ما بقي منه أو ردَّ بعيب، فإن

الفائت إن كان هو الأقل، فإن ردَّه لأجل بطلان الصفقة لا سبيل إليه لفوته، لكونه لمَّا علم أنَّه لو كان قائمًا، كان للمشتري نقض البيع فيه، على حسب ما تقدَّم، فإنَّ المشهور من المذهب أنَّه يمضي البيع فيه بحصَّته من الثمن، فإذا كان البيع عقد على عبدين أحدهما تبع للآخر وفات الذي هو التبع، نظر إلى قيمته من قيمة صاحبه الذي ردَّ بالعيب أو استحقَّ. فإن كان في حكم التقويم ربع الصفقة، مضى فيه بربع الثمن وردَّ البائع من الثمن الذي قبض ثلاثة أرباعه، وهو ما قابل المردود بالعيب أو المستحق. وكأنَّ هذا قدَّر أنه لما استحال ردُّ عينه لفوته، امتنع أيضًا لاستحالة رده نقض البيع فيه, لأن البيع إنَّما انتقض فيه إذا كان قائمًا لكون المشتري بطل غرضه. وقد يكره بقاءه منفردًا في ملكه ويتعذً ر بيعه عليه. وإذا فاتت عينه وجبت المحاسبة في الثمن إذا كان عينًا دنانير أو دراهم. وإذا وجبت المحاسبة فلا معنى لرد قيمته عوضًا عن عينه, لأنَّ العين إذا كانت باقية، ردَّت لأجل ما قلناه من فقد غرض المشتري. وهذا الغرض الذي اعتبرناه قد بطل لما فات واستحال رده. وقيل: بل يرد قيمته، بالغة ما بلغت، لكون القيمة عوض العين. وهكذا قال ابن المواز، فيمن باع شاة عليها صوف فجزَّه وأتلفه، إنَّ الشاة إذا ردَّها بعيب ردَّ مثل الصوف أو قيمته ما بلغت، وكأنَّ من ذهب إلى هذا رأى أنَّ الذهاب إلى إمضاء البيع فيه، مع إمكان وجوده (¬1) المغابنة فيه حين العقد، إلزام المغابنة للمغبون، مع بطلان غرضه في الصفقة. وهو يحتج بأنَّ المغابنة إنَّما سهلت عليه لأجل ما حصل له من جملة الصفقة. فإذا بطل غرضه لم يلزم المغابنة، فإنَّا لو قدَّرنا أنَّ الثَّمن مائة دينار والقيمة حين العقد ثمانون دينارًا، وألزمنا المشتري إمضاء البيع عليه في العبد الأدنى الذي فات، أسقطنا رجوعه بخمسة وعشرين دينارًا إذا ألزمناها له، وهو إنَّما التزمها لحصول غرضه في الجملة، كنَّا أضررنا به، فكان الأولى أن يردَّ قيمة الفائت عوضًا من رد عينه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: وجود.

وهذه الرواية الثانية هكذا ينقلها الأشياخ أنَّ قيمة الفائت ترد قيمة مطلقة. وبعض أشياخي يقيدها بأنَّه إنَّما يرد القيمة إذا كانت أقل من الثمن. فأما إن كانت قيمة هذا الأدنى أكثر ممَّا ينوبه من الثمن المسمَّى لم يلزمه إلاَّ ما ينوبه من الثمن المسمَّى. فاعتبر في عوض هذا الفائت الأقل ممَّا ينوبه من المسمَّى أو قيمته. وعندي أنَّه إنَّما سلك هذه الطريقة لكون الرد من حق المشتري لبطلان جلَّ صفقته لاحقًا عليه. فإذا كان الثمن أقل من القيمة، كان من حقِّه أن يتمسَّك به، ولا ينقض البيع فيه إذا كان الثمن الذي تمسَّك به معلومًا عند ابن القاسم. وعند ابن حبيب له إمساكه ولو كان الثمن مجهولًا. وها هنا لمَّا وجبت المحاسبة والتقويم، ردَّ البيع فيه أو أمضاه، لم يمنع من التزام المبيع فيه. وإذا تقرَّر هذا فإنَّ ابن المواز رأى أنَّ فوته إنَّما يحصل بعيب مفسد أو ذهاب عيب. (¬1) وأمَّا حوالة السوق فيه فلا تمنع من رده, لأن الرد بالعيب لا تمنع منه حوالة الأسواق. فلمَّا ردَّ العبد الأعلى الذي هو وجه الصفقة بالعيب، صار عيبه كأنَّه موجود في العبد الأعلى لأجل عيب تبعيض الصفقة. وبعض أشياخي يرى أنَّ ظاهر مذهب ابن القاسم فوته بحوالة السوق, لأنَّه لمَّا ردَّ مع كونه سالمًا من العيب، صار ردُّه كاستحقاق ارتجاع عرض دفعه عوضًا عن عرض استحقَّ من يديه، فإنَّ حوالة السوق تفيته، على ما سنبيَّنه إن شاء الله تعالى. فإذا وجبت المحاسبة في الفائت على صفة ما ذكرناه فاختلف في صفته. فذكر البائع صفة إذا قوَّمت، كان الفائت ثلث الصفقة، وذكر المشتري صفة إذا قوَّمت كانت ربع الصفقة. فإنَّ البائع إن كان نُقد الثمن كله، فلم يختلف المذهب في أنَّ القول قوله في صفة الفائت. وإن كان لم ينقد فإنَّ ابن القاسم ذهب إلى أنَّ القول قول البائع أيضًا. وذهب أشهب إلى أن القول قول المشتري. والذي ذهب إليه أشهب هو الذي اختاره ابن الموّاز. والذي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصوات: عين.

ذهب إليه ابن القاسم هو الذي اختاره الشيخ أبو الحسن بن القابسي. فأمَّا ابن القاسم فإنَّه يعتل بأنَّ المتبايعين قد اتفقا على عمارة ذمَّة المشتري بمال معلوم، والمشتري يدعي سقوط بعضه عنه فلا يصدق في ذلك، كما لا يصدق إذا أقرَّ بدين وادَّعى قضاء عنه فلا يصدق. ويعتل أشهب بأنَّ العيب أو الاستحقاق لمَّا ثبت، تضمَّن سقوط بعض الثمن وبعضِ ما قابله في أصل البيع. وإذا ثبت انتقاص بعض الثمن أو اختلفا في مقدار ما انتقص منه، وكان البائع لم ينتقد، فإنَّ المشتري مصدق، لكون الأصل براعة ذمَّته، فقدَّر أنَّ ما انتقص ممَّا لم ينتقص هو المصدق فيه لكونه غارمًا، والغارم هو المدَّعي عليه. فإذا كان البائع قد اتقد، صار مطلوبًا برد بعض ما قبض بعد صحَّة حوزه له، فكان هو المصدَّق له لكونه هو المدَّعي عليه. وقد كنَّا قدَّمنا اختلاف أهل المذهب في الرد بالعيب، هل هو نقض للبيع من أصله أو هو كابتداء بيع الآن؟ فإن قلنا: إنَّه نقض للبيع من أصله، حسنت هذه التفرقة التي فرَّق بها أشهب بين كون المقر بالدين المدعي لقضائه لا يصدق, لأنَّ القضاء ليس بنقض للبيع من أصله. وسنتكلَّم في كتاب الوكالات على مسألة من باع حمل طعام فردَّ نصف حمل بعيب وقال: هو جميع ما اشتريت. وننبَّه على أن من ادَّعى توزيع الثمن وتقسيطه وأنَّ بيع هذا الذي أحضره المشتري شيئًا آخر بيع معه، فهو المدَّعي أيضًا. فإذا تقرَّر ما ذكرناه في أحكام الاستحقاق، فإنَّ المبيع لو كان عددًا كثيرًا مثل أن يبيع عشرة أعبد فيستحق رجل جزءًا من جميعها كالثلثين أو الثلث، فإنَّها تقسم. فما أخرجه القسم للمستحق نظر فيما بقي في يد المشتري، هل هو أكثر الصفقة أو أقلَّها على ما تقدَّم بيان حكمه؟ ولو كان البيع في عروض بعروض مثل أن يبيع عبدًا بثوبين أحدهما تبع

للآخر فاستحقَّ الثوب الأدنى، فإنَّه يجب ارتجاع ما قابله من العبد، فإن كان الثوب الأدنى هو ربع الصفقة، انتقض البيع في ربع العبد. لكن اختلف المذهب في هذا الانتقاض، هل يرجع من استحقَّ الثوب من يده في عين العبد، فيكون شريكًا في ربعه أم لا؟ فقال أشهب: يرجع شريكًا بربع العبد. وروي عن ابن القاسم مثل هذا. ولكنه قال: إذا حكم بهذه الشركة، صار لمشتري العبد الخيار في ردِّة لأجل ما طرأ عليه فيه من شركة. والشركة عيب توجب تمكينه من رده. ورأى بعض أشياخي أنَّ أشهب، وإن أطلق الجواب بالشركة، فإنَّ قصده بذلك ما أشار إليه ابن القاسم من كون المشتري العبد يثبت له الخيار لأجل عيب الشركة. وبعض الأشياخ يشير إلى كون أشهب لا يثبت لمشتري العبد خيارًا. وكأنَّه يقدر أن الإستحقاق أو العيب لمَّا جاء من قبله في أحد الثوبين، لم يكن له مقال فيما طرأ من عيب في العبد، كأنَّ ذلك من سميَّة (¬1). وإن كان المشتري المشير إلى هذا من الأشياخ، ضعف هذا الاعتلال. ولو كان العبد قد فات، فإن الرجوع إنَّما يكون في قيمته إذا حال سوقه أو فات بغير ذلك. وإذا عاد الرجوع في قيمته، صارت قيمته كثمن بيع به عروض. وقد قدَّمنا أنَّ الأدنى إذا فات اختلف فيه، هل يمضي بحصَّته من الثمن أو يرد قيمته عوضًا منه، وكذلك يجري الأمر ها هنا أيضًا، يختلف في هذا، هل يرد قيمة الثوب الفائت إذا استحقَّ الأعلى، أو يرد بعيب ويأخذ جميع قيمة عبده، أو يمضي الفائت بما ينوبه من قيمة العبد في أصل العقد، على حسب ما تقدَّم بيانه. ولو كان العبد هو المستحق أو المردود بالعيب، فإنَّ الحكم فيه يجري على ما قدَّرناه من هذه الأصول فيرتجع ثوبيه إن كانأ قائمين أو قيمتهما إن كانا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: سببه.

فائتين. وإن فات أحدهما فهو جار على ما قدَّمناه وبيَّناه. وذلك يغني عن إعادته ها هنا. قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: قبل هذه الجملة التي نقلناها من كلامه: إلاَّ أن يكون البائع دلس بالعيب، فيكون للمشتري رده من غير أن يؤخذ بما نقصه. إلاَّ أن يكون بتصرف (¬1) فيه قد أتلفه بوجه لا يتصرَّف الناس بمثله، فليس له إلاَّ الأرش. وكذلك إن تلف العبد من العيب الذي دلس به البائع، لم يضمنه المشتري ورجع بالثمن. قال الإِمام رحمه الله: يتعلَّق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال: 1 - لم كان المدلس بالعيب يضمن المبيع إن هلك من العيب؟ 2 - وما حكم (من عيب) (¬2) يحدث عند المشتري وقد دلس البائع؟ 3 - وما حكم زيادة تحدث عند المشتري؟ 4 - ومتى تعتبر القيمة في زيادة عند المشتري؟ فالجواب عن السؤال الأوَّل أن يقال: إذا باع عبدًا، وقد أبق عنده، فكتم عن المشتري منه إباقه، فأبق هذا العبد عند المشتري فهلك هذا العبد بسبب الإباق، مثل أن يخشى من الطلب أو يدركه سيده فيتردى من جبل فيهلك، أو يكتمن في غار هلك فيه بسبب اكتمانه، فإنَّه يجب على بائعه رد جميع ثمنه، لأجل أنَّه لمَّا علم هذا العيب الذي هو مهلك للعبد فلم يبينه للمشتري حتَّى أهمله المشتري ولم يحرسه، فإنَّه غرَّه غرورًا أتلف على المشتري به ماله. والغرور المتلف للمال يضمن به الغار، ولو كان قولًا مجردًا، فكيف بهذا وقد أخذ عوضاً عن مبيع صار في حيِّز ما لا ينتفع به، والمشتري إنَّما دفع الثمن على ما ينتفع به، فإذا كان لا ينتفع، ارتجع ثمنه. بخلاف من لم يعلم بالعيب حتَّى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفي غ والغاني: بتصرفه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعلّ الصواب حسبما تدل عليه الإجابة: وما حكم نقص مفيت.

باع، فإنَّه لم يغر ولا صار كالقاصد لإتلاف مال المشتري، فلم يجب عليه سوى قيمة العيب. وذكر الطحاوي أنَّ الشافعي يرى أنَّ البائع لا يضمنه وإن مات العبد من عيب دلس به. قال: لأنَّه لو أعتقه عن واجب ثُمَّ مات لأجزأ عنه. فأشار إلى أنَّ الإجزاء في العتق يدل على أنَّ المشتري قد استقرَّ ملكه عليه لمَّا كان له الرضى بالعيب والضمان من المالك. والإنفصال عن هذا هو ما قدَّمناه من كون البائع قد غرَّه فأتلف ملكه وماله. والذي ذكره الطحاوي في العيب يفتقر إلى تفصيله. لأنَّا لا نرى إجزاء عتق الرقبة المعيبة في الكفَّارة. فإذا تقرَّر أنَّ تلف العبد إذا كان بسبب التدليس، فإنَّ البائع عليه رد الثمن. وإن مات فإنَّه إذا كان الموت ليس من سبب العيب الذي وقع به التّدليس ولا علاقة بينه وبينه، فإنَّ البائع لا يلزمه إلاَّ قيمة العيب الذي دلس به لأنَّه لم يتلف مال المشتري مباشرةَّ ولا بسبب فعله. لكن اختلف المذهب في هذا العبد الآبق الذي باعه سيده فأبق عند المشتري فمات على صفة لا يعلم ارتباطها بالإباق وكون الإباق مسببًا فيها، مثل أن يعرض له سوء مزاج من قبل نفسه، ومن قبل ما ليس للإباق سبباً فيه، فإنَّ المشهور من المذهب كون البائع مطلوبًا برد الثمن. وقال ابن دينار: لا مطالبة عليه بجميع الثمن لكون الإباق ليس هو السبب في قتله. فكأن أهل المذهب المشهور رأوا أنَّه بنفس الإباق وجب على البائع رد الثمن على أنَّه مات في إباقة أو بقي على الحياة، لكون الإباق حال بين المشتري وبين جميع منافع العبد التي عليها عاوض بالثمن. وكان هذا المنع من جميع منافعه من جهة البائع وتغريره بالمشتري فوجب عليه رد الثمن. بخلاف هلاكه من عيب حدث به لا تعلق له بالإباق الذي حال بين المشتري وبين جميع المنافع التي عاوض عليها.

فكذلك لو كان عبدًا سارقًا دلس فيه بعيب السرقة وكتم ذلك عن مشتريه، فإنَّه إن سرق عند المشتري من مال رجل أجنبي فقطعت يد العبد، فإنَّ المشتري يرد العبد ويرجع بجيع الثمن ولا غرامة عليه في اليد التي قطعت, لأنَّ قطعها إنَّما كان من جهة البائع الذي كتم عن المشتري سرقته ودلس عليه بها. وإن كانت سرقته دون النصاب أو من غير حرز حتَّى يسقط القطع فيها، فإنَّها تصير كجناية جناها عند المشتتري بسبب تدليس سيده. فللمشتري نقض البيع وتعود المطالبة بين المسروق ماله وبين البائع المدلس. ولو كان هذا العبد إنَّما سرق من مال مشتريه الذي اشتراه أو لم يعلم بكونه سارقًا، فإنَّ المذهب على قولين: هل تتوجَّه المطالبة بهذه السرقة أم لا؟ فذهب ابن حبيب إلى أنَّ المطالبة بهذه السرقة ساقطة، لكون هذا العبد إنَّما جنى على مال سيِّده الذي هو على ملكه فلا مطالبة عليه. ورأى مالك وسحنون أن المطالبة تتوجَّه. واختلف في محلِّها من العبد. وسبب هذا الاختلاف في ثبوت المطالبة أو سقوطها، أنَّه قد علم أنَّ العبد إذا جنى على أجنبي فأتلف ماله من غير أن يكون صاحب المال أذن لهذا العبد في وضع يده على هذا المال، فإنَّ العبد مطلوب بهذه الجناية. وإذا جنى على مال سيِّده فالعبد غير مطلوب. وها هنا وقع إشكال من ناحية أبينها لك. وذلك أنَّ المشتري قادر على رد هذا العبد إلى ملك سيده ونقض البيع فيه. وهو لو ردَّه، ثُمَّ بعد رده أتلف مال هذا المشتري، فإنَّه مطلوب بغير خلاف. فمن قدَّر أنَّه ها هنا لمَّا كان مالكًا للرد، صار حكمه حكم من ردَّ، ألزم المطالبة بهذه الجناية. ومن رأى أنَّه لمَّا خيّر بين أن يرد العبد أو يمسكه، صار قصارى ما فيه أنَّه ملك أن يملك الرد. ومن ملك أن يملك لا يعد مالكًا على أحد القولين، فسقط على هذا المطالبة، لكونه إنَّما جنى ماله على ماله، وهو قبل أن يرد باق على ملكه. وإن قلنا: إنَّه بقدرته على الرد، صار مالكًا للرد، وكأنَّه قد رد، لالتفت أيضًا إلى أصل آخر، وهو ما اشتهر من الخلاف في الرد بالعيب، هل هو كابتداء بيع فيكون هذا العبد

إنَّما أتلف مال سيِّده. لكن قد يلتفت مع هذا أيضًا إلى كون هذا التالف لسيِّده فيه مشاركة بالتدليس، فيضاف فعل العبد إليه. ولكن إنِّما يتعلَّق بالعبد الفاعل بأن يخرج من ملك سيِّده إن لم يفتده. فهذا وجه التحقيق عندي في هذه المسألة. وأمَّا سبب الخلاف فيها مع القول بتوجه المطالبة، هل تتعلَّق برقبة العبد أو بذمَّته فنبسط القول فيه في موضعه إن شاء الله تعالى، إذا تكلَّمنا على سبب الاختلاف إذا أودع وديعة فأكلها، أو التقط لقطة فأكلها، فإنَّه أذن له في وضع اليد على هذا المتناول، وكأنَّ هذا الإذن إذن في التصرف، فيكون ذلك جناية في رقبته. وقد علم أنَّ إتلافه من غير إذن أصلًا يكون في رقبته، وإتلافه مع الإذن في وضع اليد دون التصرف وقع فيه هذا الإشكال، هل هو كإذن في التصرف ووضع اليد، أو كعدم الإذن فيهما، فينظر ما يغلب في حكم هذين الموضعين على صاحبه. ولو كانت السرقة لم يدلس بها, لم يكن للمشتري أن يرد هذا العبد إلاَّ بعد أن يغرم قيمة يده. ولو كانت سرقة لا قطع فيها, لكان له الخيار في أن يأخذ قيمة العيب، ويتولَّى هذا العبد بنفسه. فيمكن من أخذ قيمة العبد لما يلحقه من خسارة في العبد إذا أراده. وقد تنازع الأشياخ في عيب كتم بعضه وبيَّن بعضه. مثل أن يبيع عبدًا قد أبق له سنة، فيقول للمشتري أبق شهرًا. فقال الشيخ أبو بكر ابن عبد الرحمان إن هلك العبد في مدة الشهر، فلا مطالبة على البائع، لكونه هلك بسبب عيب قد بيَّنه. وإن هلك بعد الشهر ضمنه بائعه. فكأنَّه أعطى لما كتم حكمه لو تجرَّد. وخالفه غيره، ورأى الأقل (¬1) حكم الأكثر. فإن كان المكتوم هو الأكثر، صار كمن كتم الإباق كله. وإن كان المبين هو الأكثر، صار كمن بيَّن الإباق كله. وكأنَّ هذا قدَّر أنَّه قد ورد في الشرع إجراء حكم الأكثر على الأقل، كما قيل في ثمرة أبو بعضها، أو زرع سقي بالدلو وبماء السماء، إلى غير ذلك مما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: للأقل.

ألحق فيه الأقل بحكم الأكثر، وكذلك هذا. ومنهم من ذهب إلى أنَّ الواجب في ذلك قيمة العيب المكتوم. وكان (¬1) قدَّر أنَّ بعض مدَّة الإباق تبعث المشتري على حراسته وضبطه، فيكون البائع غير معين على تلفه. وقد كنَّا قدَّمنا اختلاف الأشياخ أيضًا فيمن باع عبدًا به ورم، فلم يدلس بالورم، فزاد الورم عند المشتري، فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان: لا يضمن المشتري هذه الزيادة لكونه إنَّما ردَّ المبيع بسبب أصلها وهو مبدأ الورم. وخالفه غيره. وكذلك كنَّا قدَّمنا أيضًا، إذا دلس على المشتري بعيب فباعه هذا المشتري قبل أن يعلم بعيبه من آخر، فهلك بسبب العيب المدلس به عند المشتري الثاني، وقد ذكرنا أنَّه قد قيل: ينزع الثمن كله من الأوَّل، ويقدر كونه مدلسًا على الآخر لما دلَّس على المشتري منه. وقد حاول بعض أشياخي أن يجري هذا الاختلاف في هذه المسألة التي قدَّمناها فيمن دلس في عبد باعه بعيب فمات بسبب ذلك العيب، وقد كان المشتري أعتقه أو وهبه أو كانت أمة فولدت منه، فإنَّه قد قال في المدوَّنة عن المشيخة السبعة: إنَّه يرتجع من البائع الثمن. وحاول بعض أشياخي أن يجري في عتق هذا العبد أو هبته ما قدَّمناه من الخلاف في المسألة التي ذكرناها الآن وأحلناها على ما تقدَّم، وهي من باع عبدًا آبقًا دلَّس فيه بالإباق، فباعه مشتريه قبل أن يعلم بإباقه من مشتر آخر، فمات عند المشتري الآخر. وكأنَّ من قال: ينتزع الثمن من البائع، يرى ها هنا ما قاله المشيخة السبعة. ومن قال: لا يكون للمشتري الآخر إلاَّ قيمة العيب، يقول ها هنا: لا يكون له بعد العتق والهبة إلاَّ قيمة العيب المدلس به، لكون هذا العبد قد خرج من ملكه، فيجب أن يجري فيه من الخلاف ما جرى في خروجه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وكأنَّ هذا.

من ملكه عن معاوضة. وقد كنَّا نحن قدَّمنا في تعليل هذا ما يقتضي كون هذا التخريج ممَّا يفتقر إلى نظر. ولو اختلفا في وجود الإباق عند المشتري فقال المشتري أبق مني فعليك رد الثمن، وقال البائع: بل أنت أخفيته لتسترجع مني الثمن، فإنَّ القول قول المشتري. قال مالك رضي الله عنه: لأنَّه ادَّعى ما يشبه، والظالم أحق أن يحمل عليه. وهذه منه إشارة إلى كون البائع (.....) (¬1) بهذا العيب يقتضي تصديق المشتري، لكون هذا الفعل الذي ادَّعاه المشتري قد تقدَّم من العبد، وتقدُّمه من العبد، وكونه قد أبق، يقتضي أنَّه فعل ذلك الآن كما فعله فيما سلف. ولو تحقَّقنا أنَّه أبق لوجب رد الثمن إذ كان البائع مدلسًا. فكذلك إذا كان الظاهر أنَّه أبق مع كون البائع ظالمًا ينبغي أن يحمل عليه. كما قيل في أحد القولين فيمن اغتصب صرَّة فيها دنانير، أنَّ القول قول المغصوب منه في مقدارها, لكون الغاصب ظالمًا، فهو أحق أن يحمل عليه. وعلى ما قرَّرناه في أنَّ من دلَّس بعيب فهلك المبيع بسبب العيب، أن المشتري يرتجع الثمن، يجب ذلك فيمن اشترى من رجل شعيرًا ليزرعة وبيَّن للبائع أنَّ مراده به ذلك، فزرعه المشتري وثبت أنه لم ينبت، فإنَّ البائع يرد جميع الثمن على المشتري لكونه أتلفه عليه بغروره وتدليسه. لكن لو اشترى منه هذا الشعير، ولم يذكر له أنَّه يريده ليبذره، ولا تفاهما ذلك من قرائن الأحوال تفاهمًا يقوم مقام الاشتراط، فإنَّ البائع لا يلزمه رد جميع الثمن، وإنَّما تلزمه قيمة العيب. واعتلَّ ابن حبيب لهذا بأنَّ الشعير قد يشترى لا لشيء واحد وقد باء البائع بالإثم إن علم أنَّ شعيره لا ينبت فكتنم ذلك. فأشار إلى أنَّ البائع لا يحل محلَّ المدلس الذي هو سبب في إتلاف المبيع على المشتري, لأنَّه قد يعتذر بأنَّه قد يتحقَّق أنَّه أراده للزريعة وظنَّ أنَّه أراده للأكل، فلهذا لم يوجب عليه رد جميع الثمن. فإن قيل: فلم أثمه إن علم أنَّ الشعير المبيع لا ينبت فكتم ذلك؟ ¬

_ (¬1) بياض في (و) مقداره كلمة - وهي غير واضحة في المدنية. والأقرب أن تكون: مدلسًا.

قيل: لأجل تجويزه أنه قد يريده لزراعة، فكان من حقِّه أن يبين هذا للمشتري لئلًا يقع فيه، ويكون التأثيم من باب وجوب صيانة مال المسلم. وقد قيل: إنَّ الذي ذكره من الاقتصار على أخذ قيمة العيب إذا لم يعلم البائع أنَّه لا ينبت، إنَّما هذا إذا كان وجود مثل الشعير الذي لا ينبت متعذَّرًا، وأمَّا إذا وجد فإنَّما عليه رد مثله. وإذا كان لم يشترط أنَّه يريده للزراعة فثبت أنَّه لا ينبت، فإنَّ على البائع قيمة هذا العيب. وإن كان قد يشترى الشعير لغير شيء واحد كما قال ابن حبيب. لكن الإخلال ببعض هذه المنافع ينقص من ثمن الشعير إذا اطلع عليه المشتري. ولو كان المبيع إنَّّما هو من هذه البذور التي إنَّما تراد لتزرع، لم يفتقر إلى اشتراط المشتري كونه يريدها للزراعة. ويحل العلم بذلك محلّ الاشتراط في شراء الشعير أنَّه يراد للزراعة. فيلزم رد الثمن أيضًا إذا علم البائع أنَّها لا تنبت فدلس بذلك فزرعها المشتري فلم ينبت. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا اشترى رجل من رجل ثوبًا فتصرَّف فيه المشتري تصرفًا أحدث به نقصًا، فإنَّه لا يخلو أن يكون ذلك النقص مما يصير المبيع كالتالف عينه، مثل أن يشتري ثوبًا فيقطعه خرقًا، أو مما في معنى ذلك مما لا يراد له الثوب غالبًا، فإنَّه إذا فعل ذلك، لم يكن له إلاَّ قيمة العيب، سواءً كان البائع مدلسًا أو غير مدلس. لأنَّه إن كان غير مدلس، فقد فات المبيع عند المشتري، فليس له إلاَّ قيمة العيب. وإن كان البائع مدلسًا، فقد فات المبيع أيضًا عند المشتري بفعله وإتلافه له، فلم يجب على البائع رد جميع الثمن لكونه غير متلف للمبيع. بخلاف ما قلناه فيمن دلس بالإباق فأبق العبد فهلك، فإنَّ البائع يرد جميع الثمن لكون تلف المبيع من سببه. وأمَّا إن قطعه قطعًا جرت العادة به، مثل أن يشتري مقطعًا فيقطعه ثوبًا، ثُمَّ يطلع على عيب كان عند البائع، فإنَّ المشتري بالخيار كما قدَّمناه بين أن

يأخذ قيمة العيب أو يرد الثوب. وما نقصه القطع، إذا كان البائع غير مدلس بالعيب الذي اطلع عليه المشتري بعد أن قطعه. وأمَّا إن كان البائع مدلساً، فإنَّ المشتري لا يلزمه غرامة هذا النقص الذي هو القطع، لكون البائع كالآذان له فيه؛ لأنَّه لما دلَّس بالعيب، وعلم أنَّ للمشتري الرد به، وأنَّه قد يقطعه، صار البائع هو السبب في قطعه فلم يكن له مطالبة به، وصار هذا النقص منه، كما تكون منه مصيبة العبد الآبق إذا دلس بإباق فأبق عند المشتري فمات بسبب الإباق. فإذا لم يلزمه غرامة هذا النقص، لم تكن له المطالبة بأخذ قيمة العيب الذي كان عند البائع، لأنَّا قدَّمنا فيما سلف أنَّ المشتري إذا اطلَّع على عيب بالمبيع بعد أن حدث عنده نقص فيه، أنَّه لم يثبت له الخيار في أن يأخذ قيمة العيب ويتمسَّك بالمبيع، لكونه لا يمكنه رد المبيع بالعيب إلاَّ بخسارة تلحقه، وهي غرامة ما نقص أو خسارة تقدَّمت له في المبيع، على حسب ما قدَّمناه فيمن اشترى أعجمياً فعلمه صنائع بإجارة بذلها على أحد القولين. فإذا لم يكن على هذا القاطع للثوب الذي دلَّس عليه البائع بعيبه غرامة في القطع، لم تكن له المطالبة بقيمة العيب، على ما أصَّلناه. وهكذا قال ابن المواز في هذا: إنَّ المشتري بالخيار بين أن يرد ولا شيء عليه للقطع، أو يتمسَّك ولا شيء له. لكن وقع في المدونة فيمن اشترى ثوباً فقطعه أو صبغه صبغاً ينقصه، ثُمَّ اطَّلع على عيب، أنَّ له أن يأخذ قيمة العيب أو يرد ولا شيء عليه. أمَّا قوله: يرد ولا شيء عليه، فهو جار على الأصل الذي قدَّمناه من أنَّ المشتري لا يطالب بالنقص إذا دلس عليه بعيب، على حسب ما قدَّمناه. وأمَّا قوله: أن يأخذ قيمة العيب، فهو جار على الأصل لما قدَّمناه من أنَّ المشتري إنَّما يمكن من أخذ قيمة العيب متى لحقه الضرر بخسارة إن ردَّ، وهذا لا يلحقه خسارة في الرد. وهكذا قال أصبغ في أصوله: لا يكون هذا في التقطيع. وأشار إلى ما أشار إليه ابن المواز. وقد تأوَّل بعض المتأخرين مسألة المدوَّنة على أنه إنَّما اقتصر في الجواب على أحد الموضعين المذكورين في السؤال وهو صباغ الثوب، فإنَّ صباغه قد

أدَّى فيه ثمنًا، فيكون له (¬1) أخذ قيمة العيب لئلَّا يخسر هذا الثمن الذي أدَّاه في الصباغ. وهذا التأويل فيه تعسف وخروج عن ظاهر ما في المدوَّنة لأنَّه ذكر في السؤال القطع والصبغ. وأجاب عنهما جواباً واحدًا. ولهذا تأول الشيخ أبو موسى بن مناس المسألة على أن التقطيع أدَّى فيه المشتري ثمنًا لمن فضَّل له الثوب، فقد يفتقر التفصيل إلى إجارة، مثل تفصيل الثياب الرفيعة من ديباج وغيره، فإنَّ تفصيلها يفتقر إلى علم، فلم (¬2) يعلمه يستأجر عليه من يعلم. وأشار بعض أشياخي إلى هذا (¬3) التأويل إنَّما يستقل تخريجًا على أحد القولين فيمن اشترى عبدًا أعجميًا علَّمه صناعة أدَّى في تعليمها ثمنًا، فإنَّ له أخذ قيمة العيب لئلاَّ يخسر ما أدَّاه في التعليم، لمَّا كان ما أداه في التعليم لم يحصل منه عين قائمة في المبيع. وكذلك يجري الأمر فيما أدَّاه في التقطيع. ويمكن عندي أن يقال في هذا أنَّ الغالب في المقطع أن يفصل، والغالب في التفصيل أن يؤدى عليه أجرة. ولو ردَّ على بائعه صحيحًا لأدَّى في تفصيله أجرة، فقد كفاه المشتري مؤونتها، فوجب أن يكون له مقال لأجل ذلك بخلاف تعليم العبد الأعجمي. وقد حاول بعض أشياخي أيضًا إجراء المسألة على ظاهرها والإستغناء عن التأويل لها، فقال: أما رأي مالك أنَّ من لم يدلس بالعيب للمشتري أن يتخيَّر عليه ويأخذ منه قيمة العيب، فمن دلَّس وظلم، أحرى أن يؤخذ منه قيمة العيب، ويمكن المشتري من ذلك، لكون البائع ظالمًا، والظالم أحق أن يحمل عليه. وهذا الذي قاله يهدم ما أصَّلناه من أنَّ علَّة تمكين المشتري من أخذ قيمة العيب الضرر الذي يلحقه بالخسارة، وها هنا لا خسارة عليه، فلا يصح تمكين المشتري من المطالبة بقيمة العيب. وقد قيل في المذهب المشهور: إنَّ من لم ¬

_ (¬1) اعتمدنا نسخة المدينة في إثبات ما ذكر من قوله: له أخذ قيمة العيب إلى قوله. وكذلك. وذلك لسقوطه من نسخة المكتبة الوطنية. (¬2) هكذا, ولعلَّ الصواب: فمن لم ... (¬3) هكذا, ولعلَّ الصواب: إلى أنَّ هذا.

يدلس بالعيب، واطَّلع المشتري منه على عيب، وحدث عنده عيب إن أسقط البائع عن المشتري قيمة العيب الحادث عنده، لم يمكن من المطالبة بقيمة العيب الذي كان عند البائع لسقوط الغرامة التي من أجلها كان له المطالبة بقيمة العيب الذي كان عند البائع. هذا مع كون المشتري قد وجب له التخيير قبل أن يسقط عنه البائع قيمة العيب الحادث عنده، فكيف بمن لم تجب عليه غرامة لأجل التقطيع. وعلى هذا الأسلوب يجري القول فيمن باع جارية بكرا دلس بعيب فيها، فافتضَّها المشتري ثُمَّ اطَّلع على عيب بعد افتضاضها، فقال الشيخ أبو القاسم بن الكاتب إنَّه لا يلزمه قيمة الافتضاض، كما لم يلزمه قيمة تقطيع الثوب، لكون البائع كالآذن في الإفتضاض لما دلَّس بالعيب، كما قرَّرنا في التقطيع. قال: وقد ذكرنا أنَّ الرواية: وجوب مطالبة المشتري بقيمة الافتضاض إذا ردَّ الجارية بالعيب، ولو كان البائع مدلسًا. وحاول بعض أشياخي أن يجري هذا على القولين، فإنَّه قد علم أنَّ من اشترى ثوبًا دلَّس فيه البائع بعيب فلبسه المشتري، فإنَّه إذا ردَّه ردَّ معه ما نقصه اللباس، وإن كان البائع مدلسًا، لكون المشتري قد انتفع باللباس وصان به ماله. ولو لم يلبس هذا لبس ما عنده من الثياب فينقصها بلباسه كما نقص هذا. وعلم أيضًا أنَّ التقطيع لا غرامة عليه فيه إذا دلس البائع بالعيب لمَّا كان لا منفعة للمشتري فيه. فإن قلنا: إنَّ الافتضاض مما ينتفع به المشتري كما ينتفع باللباس، وجب رد قيمة الإفتضاض. وكان غيره من أشياخي إذا تكلَّم على سبب الإختلاف في إلزام الولد أن يزوج أباه الفقير، فقال: إنَّ سبب هذا الاختلاف النظر في الوطء هل هو كالأقوات المحتاج إليها. فيكون على الولد أن يزوَّج أباه، كما عليه أن يشتري له قوته. أو يقال: إنَّه ليس من ناحية القوت، وإنَّما هو كالتفكه والتلذذ. فلا يلزم الولد ذلك. وهذا الذي أشار إليه شيخنا هو الذي أشار إليه شيخنا الآخر، وللنظر في ذلك محال.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: لا يخلو المبيع، الذي دلَّس فيه بعيب وغيره، من أن يكون المشتري أحدث فيه نقصًا أو أحدث فيه نقصًا وزيادة. مثل أن يشتري ثوبًا فيقطعه، وقد دلس البائع فيه بعيب، فإنَّّا قد تكلَّمنا على هذا، وذكرنا ما قال فيه من تقدَّم من أهل المذهب ومن تأخَّر. وكذلك لو أحدث فيه زيادة محسوسة، ولكنَّه نقص من جهة الثمن. مثل أن يصبغ الثوب صبغًا ينقص ثمنه، فإنَّه إن كان البائع مدلسًا واختار المشتري الرد، فلا غرامة عليه في هذا النقص، كما لا غرامة عليه في القطع. ولو كان صبغه صبغًا أفسده به حتَّى بطل الغرض المقصود منه، فإنَّه إنَّما له قيمة العيب، كما قلناه في القطع أيضًا: إذا اشترى مقطعًا ففصله ثيابًا أو خرقًا، فالقطع والصبغ يستوي حكمهما في الرد أن المشتري لا يغرم ما نقص إذا كان الصبغ مما ينقص ثمن الثوب. ويختلفان في التمسك وأخذ قيمة العيب لئلا يخسر ما أدَّاه من إجارة في الصبغ. وقدَّمنا إنَّ إلزام المشتري غرامة إذا ردَّ به عذر في تمكينه من أخذ قيمة العيب. وكذلك يمنع إذا أختار الرد، فإنَّه لا يمكنه بأن يخسر ما أدَّى في الصبغ، وكان لأجل هذا أخذ قيمة العيب. وأمَّا التقطيع فقد قدَّمنا أنَّه يرد ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء له. وذكرنا ما تأوَّل فيما وقع في المدوَّنة من تمكينه من أخذ قيمة العيب في هذا، وما قيل في ذلك. وأمَّا إن أحدث المشتري فيه زيادة محضة، فإنَّ له أخذ قيمة العيب لئلَّا يخسر إذا ردَّ ويخرج على ملكه. فحصل في هذا أنَّ الزيادة التي تتوقَّع خسارته يمكن المشتري من أخذ قيمة العيب، مدلسًا كان البائع أو غير مدلس. وأمَّا النقص ففي عدم التدليس تجب غرامته إذا ردَّ أو يمكن من أخذ قيمة العيب، وفي التدليس غرامة عليه إذا ردَّ، وتمكينه من أخذ قيمة العيب يتفصَّل، كما قلناه إن اقتضى ردَّه خسارة مُكِّنَ من أخذ قيمة العيب، وإن لم يقتض ذلك فإنَّه لا يمكن.

وأمَّا إن أحدث نقصًا وزيادة وكانت الزيادة كأنَّها من مقتضى النقص، فإن الحكم إدخال النقص في قيمة الزيادة حتَّى تخلص من ذلك زيادة أو نقص محض أو عدم زيادة وعدم نقص. مثل أن يشتري ثوبًا دلس فيه البائع بعيب، فقطعه المشتري قبل أن يعلم بالعيب، وخاطه قبل أن يعلم بالعيب، فإنَّ القطع نقص والخياطة زيادة. كأنَّ القطع اقتضاها، فيجبر بالزيادة عيب النقص، على ما نبينه في حكم التقويم. وأمَّا إن كانت الزيادة ليست من مقتضى النقص، مثل أن يشتري ثوبًا فيصيبه عنده خرق، ويصبغه أو يقطعه ثمَّ يصبغه، فإنَّ هذا مما لم يقع لمن تقدم من أصحابنا فيه نصَّ على النقص يجبر بالزيادة. وقد تردَّد الشيخ أبو إسحاق التونسي هل يقتضي المذهب جبر القطع بالخياطة الجبر لهذه الزيادة التي لا تعلق لها بالنقص أم لا؟ وكذلك تردَّد) (¬1) أيضًا فيه غيره من الأشياخ. ولكنَّه أشار إلى التفرقة بين هذا وبين جبر القطع بالخياطة، فإنَّ الخياطة يقتضيها القطع وكأنَّهما كمعنى واحد لتعلق الثاني بالأوَّل. فحسن ها هنا أن يمحو الأوَّل بالثاني. بخلاف من قطع الثوب ثمَّ صبغه، فإنَّ هذا لا تعلَّق لأحدهما بالآخر. واستشهد بأنَّهم قد قالوا: إن من خرق ثوبًا فعليه رفوه وغرامة ما نقص. وما ذلك إلاَّ لكون القطع تفريق أجزاء والرفو تلفيقها ونظمها، فحسن أن يجعل كالشيء الواحد. وقد كنَّا نحن أشرنا إلى هذه الطريقة فيما تقدَّم لمَّا ذكرنا أنَّ من اشترى جارية بها عيب فأزوجها وولدت عنده، أنَّه يجبر العيب بالولد لمَّا كان العيب للتزويج الذي حدث عنده، وهو المقتضي للولادة. وذكرنا ما قيل في ذلك. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: قد قدَّرنا أنَّ المشتري إذا اطَّلع على عيب ولم يحدث عنده بالمبيع تغيُّر، فإنه مخيَّر بين الرد ولا شيء عليه، والإمساك ولا شيء له. وإن حدث عنده نقص، والبائع لم يدلس به، فإنَّه مخيَّر بين أن يأخذ قيمة العيب ويتمسَّك بالمبيع أو يرد بالعيب ويرد معه ما نقص ¬

_ (¬1) هنا ينتهي النقص من نسخة الوطنية، وهو نقص يقدر بصفحتين.

ويرتجع ثمنه. لكن يفتقر ها هنا إلى معرفة زمن التقويم. فاعلم أنَّ كلَّ بيع صحيح يضمنه مشتريه بالعقد، فإنَّ التقويم فيه، إذا أراد المشتري أخذ قيمة العيب، يومُ العقد، فلو. كان لا يضمن هذا البيع الصحيح إلاَّ بالقبض، فإنَّ القيمة المعتبرة في طلب قيمة العيب يوم القبض. وقد أشار في المدوَّنة إلى هذا لما ذكر أنَّ التقويم يوم العقد. قال: لأنَّ مصيبتها من المشتري. ومقتضى هذا أنَّ الأمة المبيعة على المواضعة إذا اطلع فيها على عيب، وأراد المشتري أخذ قيمته، فإنَّ قيمتها تعتبر يوم خروجها من المواضعة، وهكذا بيع الخيار، لا يوم العقد لمَّا كانت في ضمان البائع في سائر مدَّة المواضعة. وهكذا بيع الخيار يعتبر في القيمة يوم القبض. وأمَّا المحتبسة بالثمن فتجري على القولين، فيمن رأى أنَّ ضمانها من المشتري اعتبر في تقويم العيب يوم العقد، ومن رأى أنَّ ضمانها من البائع اعتبر في تقويم العيب يوم القبض. وكذلك السلعة المبيعة وهي غائبة يجري الأمر فيها على ما ذكرناه في المحتبسة بالثمن، لكون مالك رضي الله عنه اختلف قوله في ضمانها، كما اختلف قوله في المحتبسة بالثمن. وأمَّا إذا أراد المشتري الرد ويرد ما نقص، فإنَّ المعروف من المذهب أنَّ اعتبار النقص يكون يوم العقد أيضًا. وقال أحمد ابن المعذل: إنَّ اعتبار النقص إنَّما يكون يوم الرد، بخلاف اعتبار أخذ قيمة العيب. وأشار إلى أن الفرق بينهما أنَّ الجزء الذي أمسكه البائع قد أخذ حصَّته من الثمن باطلًا. فعليه ردها، وذلك بأن يقال: ما قيمة السلعة يوم عقد البيع؟ فيقال: مائة دينار، على أنَّها سالمة من العيب. ثم يقال: ما قيمتها يوم العقد، وبها العيب الذي قام به المشتري؟ فيقال: ثمانون. فقد علم أنَّ العيب ينوبه من الثمن خمسه لمَّا نابه في التقويم عشوون دينارًا من مائة دينار، والعشرون خمس المائة. فينظر ما دفعه المشتري من جملة الثمن، فيسقط عنه خمسه. فإن كان الثمن خمسين دينارًا،

ارتجع المشتري خمسها، وهو عشرة دنانير, لأن الواجب له ارتجاع ما نقص لا ارتجاع القيمة، لكونهما تراضيا بثمن فيلزمها ذلك، وافق القيمة أو خالفها. فإن أراد المشتري أن يردَّ قيل: ما قيمتها وبها العيب الحادث؛ فإن قيل: ستون، فقد ذهب عند المشتري جزء قيمته عشرون دينارًا، وهي من المائة التي هي التقويم الأوَّل خمسها، ومن الثمانين التي هي التقويم الثاني الذي حصل في يد المشتري، ربعه، فعليه رد ربع ما قبض، والذي قبض يساوي ثمانين. فإذا كان الثمن خمسين دينارًا فذهب منها عشرة ثمن الجزء الذي بقي عند البائع، والجزء الذي ذهب عند المشتري الذي حصلت في يديه، ردَّ السلعة وردَّ معها عشرة دنانير، فهو بالخيار بين أن يرد ويغرم عشرة، أو يمسك ويأخذ عشرة. فأمَّا العشرة الأولى التي يرتجعها فواضح أنَّ القيمة يعتبر فيها يوم العقد، لما قدَّمناه من كون البائع أخذ عوضها فيطالب بحصَّتها من الثمن، كما طولب إذا أخذ منه قيمة العيب. وإنَّما المشتري أتلفها واختار ردَّ المبيع ونقضه من أصله، فإذا انتقض البيع من أصله، انتقض في الثلاثة أخماس التي ردَّها وفي الخمس الذي ذهب عنده. وإذا انتقض البيع وبطل الثمن، ردَّ المشتري قيمة الجزء الذي ذهب عنده. (وإذا انتقض البيع وبطل الثمن الذي ردَّ المشتري قيمة الجزء الذي ذهب عنده) (¬1) إذ ثمنه قد بطل. وأجيب عن هذا بأن المشتري أتلفه على حصَّته من الثمن الذي رضي بكونه ثمنًا فيه. وكونه قد تلف يستحيل معه رده، وإذا استحال معه رده، مضى البيع فيه بحصَّته من الثمن. لا سيَّما إذا قلنا: إنَّ الردَّ بالعيب كابتداء بيع، فيصير المشتري إنَّما بايع البائع في الأجزاء الباقية. هذا عندي مما يلتفت فيه في توجيه المذهبين إلى الاختلاف المشهور في الرد بالعيب، هل هو نقض للبيع من أصله أو ابتداء مبايعة الآن؟ فإذا تقرَّر هذا عدنا بعده إلى ما ذكرناه في حكم الزيادة التي يحدثها المشتري. لأنَّ النقص الذي يحدثه قد تكلَّمنا على وجوب غرامته وزمن تقويمه. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين مكرر في النسختين.

فاعلم أنَّ المشتري المدلس عليه بالعيب إذا صبغ الثوب صبغًا زاد في قيمته، فإنَّ الزيادة إنَّما تعتبر قيمتها يوم الحكم إن اختار الرد. ويكون شريكًا بهذه الزيادة في الثوب إذا ردَّه على البائع بالعيب الذي دلس به. وهكذا ذكر ابن المواز أنَّ القيمة في الزيادة إنَّما تكون يوم الحكم، وقدَّر أنَّ هذه الزيادة لم تقع عليها معاقدة بين البائع والمشتري، ولا تراض بثمن معلوم فيعتبر فيه يوم العقد، فلا يكون للمشتري طلب هذه الزيادة إلاَّ بأن يعبتر مقدارها يوم الحكم لمَّا اختار الرد حينئذ. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أنَّه إذا قيل في النقص: إنَّ القيمة تعتبر يوم البيع إذا اختار المشتري الرد، لكون البيع قد انتقض، فيجب أن يكون حكم الزيادة والنقص حكمًا واحدًا. والمشهور من المذهب في هذه المشاركة في الرد بالعيب تكون بما زاد الصبغ في الثوب. وقد قيل فيمن اشترى ثوبًا ممن يعتقد أنَّه مالكه فاستحقَّ من يده وقد صبغه، أنَّه يؤمر المستحق بدفع قيمة الصبغ. فإن امتنع أمر المشتري أن يدفع قيمة الثوب غير مصبوغ. فإن امتنع أيضًا كانا شريكين هذا بقيمة صبغه. وهذا بقيمة ثوبه. وقد رأى بعض المتأخرين إجراء هذا الحكم في مسألة المشتري إذا اطلع على عيب، وقد صبغ، أنَّ البائع يبدأ أولًا بأن يؤدَّي ما يجب للمشتري في الصبغ. فإن امتنع، أدَّى المشتري قيمة الثوب. فإن أبى، كانا شريكين. وقد أجرى بعض أشياخي في مسألة الرد بالعيب، هل تكون الشركة بما زاد الصبغ أو بقيمة الصبغ؟ وذكر أنَّه قد قيل: إنَّ الشركة تكون بقيمة الصبغ. وقد حاول بعض المتأخرين فرقًا بين الاستحقاق والرّدّ بالعيب في اعتبار قيمة الصبغ في الاستحقاق واعتبار ما زاد في مسألة الرد بالعيب. فإنَّ المستحق من يده مجبور على تسليم الثوب الذي صبغ، ولا قدرة له على إمساكه عن مستحقه. فوجب أن يعطي قيمة ما جبر على تسليمه بغير اختياره. والذي صبغ الثوب المعيب وقد قدَّر أن يستمسك بالصباغ ويأخذ قيمة

العيب. فإذا لم يزد صباغه في قيمة الثوب، فلا مطالبة له يالقيمة لأنَّه هو أتلف صباغه وفرَّط في أخذه. وقد قال أصبغ في العامل بالقراض إذا اشترى ثيابًا بمال القراض وصبغها من مال نفسه أن يكون شريكًا فيها بما أدَّى في الصباغ. ورأى أن العامل كالمأذون له من رب المال في أن يضيف مثل هذا من ماله إلى مال القراض. فيصير كالوكيل على الإنفاق في الصباغ. فإنَّما يكون له المطالبة والمشاركة بما أدَّى. فرأى هذه الثلاث مسائل اختلفت أجوبتها لاختلاف المعاني التي أشرنا إليها. فجعل الشركة في الرد بالعيب بما زاد. وفي الاستحقاق بقيمة الصبغ، وفي القراض بما. أدَّى. وقد تقدَّم كلامنا على اجتماع نقص وزيادة أحدثهما المشتري ثمَّ اطلع على عيب. ونبَّهنا على ما قيل من التفرقة بين كون الزيادة لا تعلَّق لها بالنقص، كمن اشترى ثوبًا فلحقه عنده عيب وصبغه ثمَّ اطلع على عيب قديم كان عند البائع. وأحلنا هناك على ما نذكر صفة التقويم ها هنا. فاعلم أنَّ من اشترى ثوبًا دلس فيه البائع بعيب فقطعه المشتري، فإنَّا قدَّمنا أن لا غرامة عليه في القطع. فإذا خاطه المشتري بعد أن قطعه، فقد صارت ها هنا زيادة محضة زادها المشتري، وارتفع حكم النقص الذي هو القطع لمَّا كان المشتري غير مطالب به إذا دلَّس عليه بالعيب. فيكون صفة التقويم ها هنا أن يقوم الثوب بالعيب الذي كان عند البائع، وبعيب القطع حتَّى كأنَّ القطع كان عند البائع. فإذا قيل: قيمته كذلك بهذين العيبين تسعون دينارًا، قيل: ما قيمته الآن يوم الحكم مخيطًا؟ فإن قيل: مائة دينار، فقد زادت الخياطة فيه عشرة دنانير، وهي من المائة عشرها. فيكون المشتري شريكًا في الثوب بعشره. وقد قدَّمنا أنَّ تقويم العيب الذي كان عند البائع يراعى فيه يوم البيع على ما تقدَّم بيانه والزيادة معتبر قيمتها يوم الحكم، فلهذا كانت الشركة ها هنا بالعشر لمَّا اقتضى التقويم مراعاة تقويم العيب القديم يوم البيع، والزيادة يوم الحكم. فإن كان البائع غير مدلس، فإنَّ المشتري ها هنا مطلوب بقيمة القطع يجبر الزيادة التي هي الخياطة. فيقال: ما قيمة هذا الثوب وهو لا عيب فيه؟ فإن قيل:

مائة، قيل: ما قيمته وبه العيب الذي كان عند البائع؟ قيل: تسعون. قيل: ما قيمته مقطوعًا: قيل: ثمانون. قيل ما قيمته مخيطًا؟ فإن قيل: تسعون، علمت أنَّ العشرة التي وجبت على المشتري لنقص القطع قد جبرها ما فعل من خياطة وهي عشرة دنانير التي هي ثمن الخياطة. فلا تكون على المشتري متابعة بقيمة نقص القطع لكونه قد عوَّض عنه بالخياطة. وإن قيل: قيمته مخيطًا خمسة وثمانون، فقد جبرت الخياطة نصف مقدار العيب. فيطالب بمقدار نصف عشر الثمن. فإن قيل: قيمته مخيطًا خمسة وتسعون، فقد جبرت الخياطة قيمة النقص الذي هو القطع، وزادت على ذلك خمسة دنانير وهي نصف العشر. فيكون المشتري شريكًا في الثوب بمقدار ذلك. وقد قدَّرنا أنَّ الزيادة تعتبر يوم الحكم والنقص يعتبر يوم البيع، إلاَّ عند ابن المعذل. فإذا ذكرنا أنَّه تعتبر قيمة النقص يوم الرد، فإذا أحبَّ المشتري أخذ قيمة عيب اطَّلع عليه في ثوب اشتراه. قيل: ما قيمة الثوب صحيحًا؟ فإن قيل: مائة، قيل: ما قيمته معيبًا؟ فإن قيل: ثمانون، فقد علمت أنَّ العشرين من مائة هي الخمس، فعلى البائع ردُّ خمس الثمن. وإن كان الثمن خمسين، ردَّ عشرة. ولو كان حدث عند المشتري، قيل: ما قيمة هذا الثوب الذي قوِّم أولًا بمائة ثمَّ قوِّم بالعيب بثمانين وبه هذا العيب الحادث؟ فإن قيل: ستون فقد ذهب خمس آخر من الثمن عند المشتري، فيرد عشرة دنانير من الأربعين التي استقرَّت عليه في الثمن بعد أن طرح قيمة العيب القديم، وبقي ربع الأربعين وخمس الخمسين، والتقويم في هذا يوم البيع. وعند ابن المعذل أنَّ القيمة التي يطالب المشتري بترددها (¬1) تكون يوم الرد. فأنت تجري حكم القطع وجبره بزيادة الخياطة على هذا المذهب. وقد عارض بعض حذاق الأشياخ هذا الذي قيل في جبر نقص القطع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلَّ الصواب: بردها.

بالخياطة. فقال: الخياطة عرض، والواجب على المشتري غرامة النقص من جنس الثمن. فإنَّما يجب أن يغرم قيمة القطع دنانير من جنس الثمن، ويكون شريكًا بالعرض الذي زاده في الثوب، وهو الخياطة، إذا لا يجبر من وجب له على إنسان دنانير أن يأخذ منها عروضًا بغير اختياره. وقد كنَّا نحن قدَّمنا العذر عن هذا، وأنَّ الخياطة لمَّا كانت من مقتضى القطع عُدَّا كشيء واحد لا اختلاف فيه. ولو كانت الزيادة يقتضيها النقص كثوب اشتراه فاطلع على عيب وقد حدث عنده عيب وصبغ الثوب، فإنَّ الصباغ إن كان ينقص فقد تقدَّم الكلام عليه في المدلس وغير المدلس. وإن كان لا ينقص ولا يزيد، فلا مطالبة للمشتري به ولا مطالبة عليه من أجله. وإن كان يزيد، فقد ذكرنا أنَّ حكم الاستحقاق بثوب صبغه مشتريه أنَّه يدفع المستحق قيمة الصباغ. فإن امتنع أيضًا، كانا شريكين. وهكذا رأى بعض الأشياخ: الحكمُ فيه، إذا ردَّ بعيب، لا تثبت الشركة بالصباغ إلاَّ بعد أن يعرض على البائع أن يدفع ثمن الصباغ، وعلى المشتري أن يدفع قيمة الثوب، على حسب ما قلناه. فإذا امتنعا فحينئذ تكون الشركة، ويؤمر البائع في هذا الثوب المبيع المعيب أن يدفع ما زاد فيه الصباغ يوم الحكم. فإن امتنع دفع المشتري قيمة الثوب أبيض يوم الحكم. فإن امتنع اشتركا على حسب ما قُوِّم لكل واحد منهما. وإذا قلنا بالمعروف من المذهب: إنَّ المشتري يقضى له بالشركة بمقدار ما زاد في الصبغ، على حسب ما بيَّناه، وذكرنا مثاله، فإنَّ الصبغ إذا قوَّم يوم الحكم على حسب ما قدَّمناه في التقويم الذي يعرف به مقدار الزيادة ولم يكن حدث عند المشتري نقص، فإنَّه يشاركه إذا اختار الرد، ولم يعتبر أخذ قيمة العيب بمقدار هذه الزيادة، وإن كان حدث عنده نقص، فقد كنَّا أشرنا إلى ما قيل فيه من التفرقة بين الصباغ والخياطة، فإن الصبغ لا يجبر به العيب الحادث عند المشتري. لكن إذا وجب اعتبار النقص يوم البيع والزيادة يوم الحكم، كما

قدَّمناه، نظرت في الصبغ. فإن كان ينقص الثوب يوم البيع والصبغ ينقصه أيضًا يوم الحكم، فكأنَّ نقص الصبغ مثل نقص العيب الحادث إذا قوَّم يوم البيع. أو كان نقص الصبغ يوم الحكم أكثر من ذلك، فإنَّه لا مطالبة على المشتري إلاَّ بقيمة النقص الذي حدث عنده الذي قوّم يوم البيع ولا يلتفت فيه إلى يوم الحكم. ولا شيء له في الصباغ لكونه لا زيادة فيه. وإن كان نقص الصباغ يوم الحكم أقل من النقص المعتبر يوم البيع فيطالب بما فضل عن ذلك من نقص. وإن كان الصبغ يربي على قيمة النقص، كان للمشتري المشاركة بالزيادة. وقد رأيت إشارات المتأخرين الذين تكلَّموا على المسألة اختلفت في نقص ثبت على المشتري لمَّا قوم يوم البيع. فلمَّا قوم الصبغ يوم الحكم، لم يزد في الثمن ولم ينقص منه، هل يجبر به النقص الذي وجب على المشتري. وقد كنت قدَّمت ما قيل في جبر العيب بزيادة لا تعلق له بها، وهذا منه، وكذلك يجري الأمر في كون الثوب إذا قوم مصبوغًا يوم البيع ومصبوغًا يوم الحكم اختلفت القيمة، فإنَّ ذلك يجري على ما قرَّرناه. وقد قال بعض الأشياخ: إن كان تقويمه كذلك يزيد الصباغ في قيمته يوم البيع ويزيد يوم الحكم، لكانت المشاركة بأقل الزيادتين. ومقتضى المذهب أن تكون المشاركة بالزيادة المعتبرة يوم الحكم.

فصل يشتمل على مسائل ذكرها في المدونة

فصل يشتمل على مسائل ذكرها في المدوَّنة إحداها: حكم من قام بعيب والذي باع منه غائب. فذكر في المدونة أنَّ البائع إن كان قريب الغيبة كتب إليه فيما قام به المشتري. وإن كان بعيد الغيبة تلوم له إن رجي قدومه. فإذا لم يرج قدومه، قضى عليه أن يثبت أنَّه اشترى على بيع الإِسلام وعهدتة، وأنَّه نقد الثمن. فأشار إلى اشتراط ثبت بشروط. أمَّا الشرط الأوَّل: وهو إقامة البينة على أن البيع عقد على الصحَّة، وعلى بيع الإِسلام لا على الفساد الذي هو خلاف بيع الإِسلام، فإنَّ هذا الشرط لا يمنع من القضاء على الغائب عدم البينة التي تشهد به. لأنَّ البائع لو كان حاضرًا فزعم أنَّه عقد عقدًا، زعم المشتري أنَّ العقد صحيح، فإنَّ القول قول المشتري لدعواه الصحَّة. وأقصى مراتب البائع أن يكون حاضرًا فيدعي الفساد فلا يصدَّق، ويصدق المشتري وإن لم تكن له بينة تصدقه. لكن المشتري لا يصدق ها هنا إلاَّ مع يمينه فيترقَّب أن يأتي البائع فيدعي أنَّ العقد فاسد يجب فسخه وردُّ المعيب إليه، ولا يباع عليه. فيتوجَّه على المشتري اليمين، فيطلبها مثله القاضي إذا كان البائع غائبًا، ويقدر أنَّ البائع حضر فادَّعى الفساد، وطلب يمين المشتري، فيقف الحكم على تحليفه. كما لو أثبت رجل دينا على غائب، فإنَّ القاضي لا يقضي له حتَّى يحلف أنَّ الدين ما قضاه من هو عليه ولا أسقط عنه، مخافة أن يأتي الذي يثبت الدين عليه فيدَّعي القضاء، فلا يثبت القضيَّة إلاَّ إذا حلف قابض الدين.

فاشتراطه البينة في المدونة لينتفي بإقامتها وشهادتها عن هذا المشتري الذي ردَّ بالعيب هذه اليمين التي يطلبها القضاة على جهة الإستظهار بحق الغائب. وإنَّما يجب استظهارًا لأن الغائب لم يدع ذلك، فيجب كما تجب اليمين في الدعوى المحقَّقة. وقد أشار بعض أشياخي إلى أنَّها لا يطلب فيها التحليف في المسجد. بل يستحلف في مكانه لكون هذه اليمين لم تطلب، والذي طلبت من أجله لم يدعها. وأراه يطرد هذا في دعوى القضاء، ولا يكتفي بإيقاعها في غير المسجد. لكون القضاء للديون أمرًا يتكرَّر ويكثر، فالإستظهار عليه باليمين يتأكد. بخلاف فساد العقد، فإن الغالب عقود الصحَّة بين المسلمين. ولهذا كان القول قول مدَّعي الصحَّة. وقد كنَّا قدَّمنا في كتاب السلم أنَّ الإختلاف في الصحَّة والفساد إذا أدَّى إلى الإختلاف في الثمن، فإنَّه لا يكون القول قول مدعي الصحَّة على الإطلاق. وها هنا قد ذكر الأشياخ أنَّ اشتراطه في المدوَّنة إقامة البيَّنة، إنَّما اشترط ذلك لنفي اليمين لكون القول قول مدَّعي الصحة، مع جواز أن يأتي البائع فيدَّعي فسادًا في العقد يتضمَّن اختلافًا في الثمن، فلا يكون القول قول المشتري فيه. لكن هذا أمر نادر لم يدعه البائع، فيتعلَّق به الحكم مع ندوره، وكون من له حق فيه لم يدعه ولا طلب به، هذا العذر عندي عن ما (¬1) يقدح به في التعليل الذي ذكره. وأمَّا الإشتراط الثاني وهو أمره المشتري بإقامة البيَّنة على أن البيع لم يقع على البراءة من العيوب في هذا العبد الذي مثَّل به في السؤال. وبيع البراءة يجوز في الرقيق أيضًا. فإنَّه أيضًا إنَّما اشترط ذلك عند الأشياخ لينفي اليمين التي تجب على جهة الإستظهار لحق الغائب. إذ لو كان البائع حاضرًا، وزعم المشتري أنَّه لم يبره من العيوب ولا عقد معه على ذلك، وقال البائع: بل عقدت معك على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب مما.

ذلك، قالقول قول المشتري في تمكينه من القيام بالعيب إذا ظهر، لكن مع يمينه على بطلان دعوى البائع إبراءه من العيوب. فاشتراطه أيضًا إقامة البينة ها هنا لنفي هذه اليمين التي تجب للإستظهار بها، كما قدَّمناه في الشرط. لكن الفضل بن سلمة أكَّد وجوب اليمين في هذا الشرط الثاني، ورآه بخلاف الأوَّل لأجل أنَّ البينة التي حضرت العقد إذا شهدت بصحَّته، فلا يؤثر قول المشتري: إنَّ الفساد كان بعد العقد، والبينة إذا حضرت العقد عاريًا من اشتراط البراءة من العيوب، فإنَّ دعوى المشتري أنَّه قد أبرأه من العيوب يؤثر في وجوب اليمين، فلهذا كان اشتراط طلب اليمين في هذا الوجه آكد منه عنده في الوجه الأوَّل. وأمَّا اشتراط كون المشتري نقد الثمن، فإن هذا ليس لأجل الإستظهار باليمين على الإطلاق، بل يتفصَّل القول فيه، فتعتبر العادة في دفع الثمن، هل جرت بانتقاده حتَّى لو حضر البائع فادَّعى أنَّه لم ينقده، لم يصدق لكونه قد أطال المقام مع المشتري قبل أن يغيب. فإنَّ اشتراط طلب اليمين ها هنا، مع كون المشتري مصدقًا في دفع الثمن إنَّما هو استظهار مخافة أن يحضر البائع فيدَّعي ذلك، على حسب ما قلَّمناه في الشرطين المتقدمين. وأمَّا إن كانت العادة تأخير الثمن إلى حين قيام المشتري بالعيب، فإنَّه لا يصدق في أنه دفع الثمن. ولو حضر البائع فأنكر القبض لصدق، إلاَّ أن يثبت المشتري البينة بأنَّه دفع، فاشتراطه البيَّنة في هذا الوجه الثالث تكون تارة لأجل نفي اليمين وتارة لتقبل دعواه. وهذا خلاف ما يقضى به في مكتر اكترى جمال رجل ثم هرب فطلب الجمَّال أن يكريها عليه، فتكون الزّيادة للهارب المكتري، ويكون النّقص عليه يتبع به، فإنّه ها هنا إن كانت العادة تأخير النّقد فإنّ الجمّال مصدّق أنّه لم يقبض الكراء، لكون المكتري الهارب لو حضر فادّعى دفع الكراء لم يصدّق، بل صدّق الجمال لكون العادة تؤكّد صحّة قوله. [ولو كانت العادة ها هنا (¬1) النّقد، لم ¬

_ (¬1) كلام غير واضح في النّسختين.

يقف القضاء، لكون الجمال ادّعى لم يقبض، وذلك خلاف العادة، لكون المكتري الهارب لم يدّع ما اقتضته العادة من النّقد ويحلف مع العادة الّتي هي مقام شاهد، فتصحّ دعواه فلا يمنع كون العادة في الكراء النّقد القضاء للجمّال بمقتضى دعواه. وإن خالف العادة لكون العادة لم تحضر أحد يحلف معها.] وفي مسألة العيب إِذا كانت العادة النّقد، فالمشتري الّذي يردّ بالعيب حاضر يحلف معها. وأمّا المسألة الثّانية، فإنّه ذكر في المدوّنة أنّ المشتري إِذا أدعى أنّ هذا العبد الّذي اشتراه كان البيع فيه فاسدًا، وأثبت ذلك، والعبد لم يفت، فإنّ القاضي يفسخ البيع، ويبيع العبد في الثّمن، على حسب ما قدّمناه في بيع القاضي للغائب. وإن نقص ذلك عمّا وجب للمشتري على البائع اتّبع المشتري البائعَ به. والقاضي إنّما يبيع هذا العبد لكون البائع لا مال له يقضى منه سواه. ولكونه أمثل ما يباع على الغائب، أو لخوف موت العبد أو إباقه، لكون هذا العبد الّذي اشتري شراء فاسدًا لو فات في يد المشتري لقضى القاضي بإيقافه في يد المشتري، وألزمه قيمته يوم قبضه، ويقاصّ عن البائع الغائب بهذه القيمة، ويحاسب المشتري بماله على الغائب وعليه، ويترادّان الفضل متى ما تلاقيا. وقد عارض الأشياخ ما أشار ها هنا من إبقاء الفضلة في ذمّة المشتري شراء فاسدًا إِذا فات المبيع في يديه. وإشارته في الرّدّ بالعيب إلى كون الفضلة توقف للغائب وأشار ابن أبي زمنين وغيره إلى أنّ البائع غاب وصارت القيمة له دينًا على المشتري لسبب فساد بيعه وما دخل فيه. والسلطان لا يقتضي ديون الغائب إِذا لم يُفقَد لكونه غاب، وهو راضٍ بذمّة من هي في ذمّته، فلانظر للقاضي في ذلك. بخلاف لو جنى رجلًا على مال غائب، فإن القاضي يطالب الجاني لكون صاحب المال لم يرضَ بما فعل الجاني ولا يبقى ما وجب عليه في ذمّته بلا نظر. وطعن بعضهم في هذا الفرق بأن قال: البائع بيعا فاسدًا لم ينصرف عن

رضا يكون هذه القيمة في ذمّة المشتري، وإنّما انصرف على أن لا مطالبة بينهما. فيكون للقاضي النّظر في هذا الفاضل للغائب، لكونه لم ينصرف عن رضا ببقائه في ذمّة المشتري. وأشار إلى أنّ الفرق كون الرّدّ بالعيب ينقض البيع من أصله، فإِذا انتقض بردّ المشتري بالعَيب، صار المشتري والبائع كأنّهما لم يتعاملا قطّ، فينظر القاضي في مال الغائب. وهاهنا في البيع الفاسد العبد المعيب الّذي تعاملا فيه لم يرجع إلى ملك البائع، وإنّما تغيّرت المعاملة في مقدار الثّمن، فيجب بقاء الفضلة في ذمّة المشتري. والتّحقيق عندي في هذا أنّ المشتري لهذا الّذي باعه القاضي إن لم يكن هو المشتري الأوّل، أبقي فاضل الثّمن في ذمّته إن كانت مأمونة. ولم ينبغ له أنْ يخرج ذلك إلى أمانة يكون معرّضًا للضيّاع. وإن خاف على ما في الذّمّة وأمن على الثّمن إِذا أوقفه في أمانة، فإنّه يوقفه. وكذلك لو باعه مِمّن اشتراه وقام فيه بفساد أو عيب، فإنّه يبقى الثّمن في ذمته إن كانت مأمونة. وإن كان بقاؤه فيها غررًا يعلم أنّ الغائب لو حضر ما رضي به، فإنّه يخرجه من ذمّته. وكذلك لو فات ولزمت المشتري القيمة، فإنّه يفعل في الفضلة ما هو الأصلح للغائب، إِذا علم أنّ الغائب لم يرض بخلافه. وذكر في المدوّنة في مسألة أخرى وهي مكاتب باع عبدًا فردّ عليه بالعيب بعد أن عجز. فذكر في المدوّنة أنّه يكون محجورًا عليه، فيكون النّظر في العبد المردود لسيّده. وقا أبو سعيد بن أخي هشام: بل يعود العبد المكاتب إلى ما كان عليه قبلُ، فإن كان قبل الكتابة مأذونًا له في التّجارة، بقي بعد العجز على هذا الإذن. وإن كان محجورًا عليه، بقي بعد العجز على ما كان عليه قبل الكتابة من الحجر. فكأنّ من قدّر أنّ الكتابة كالمخرجة له من الملك في التّقدير، والعجزُ يصيّره كملك مبتدإ مستأنف، جعله بنفس العجز محجورًا عليه. ومن رأى أنّ حكم الملك باق عليه، فإِذا عجز لم ينقله هذا الّذي أكّد حالته بعد الكتابة عمّا

كان عليه قبل الكتابة من إطلاق يده في التّجارة. وقد وقع أيضًا اضطراب في كونه منتزعَ المال إِذا عجز. فقال في المكاتب: إِذا باع عبدًا ثمّ عجز، وردّ العبد بعيب بعد عجزه، فبيع وفضلت منه فضلة، أنّها للمكاتب. وهذا يشير إلى أنّه لا يكون منتزع المال بالعجز. وقال أيضًا: إِذا عجز، فماله لسيّده. وهذا يشير إلى أنّ العجز انتزل ماله وردّه إلى سيّده. وقد تُؤؤَّل قوله: فهو له. أنّ له إطلاق التصرّف فيه لعبده أو الحجر عليه. وقال أيضًا في أمّ ولد مكاتب نصرانيّ أسلمت: إنّها توقف. فإن عجز المكاتب، بيعت عليه، وإن كان العجز يصيّر ماله منتزعًا, لأنّها صارت للسيّد الأعلى وهو مسلم، ولا تباع عليه. وقال أيضًا في مكاتب كاتب عبده فعجز المكاتب الأعلى، فإن المكاتب الأسفل يؤدي إلى السيّد الأعلى. وهذا قد يفهم من ظاهره أنّه انتزاع أو حجر. وهذا يبسط في موضعه إن شاء اللهُ تعالى. قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: وإِذا نما المبيع عند المشتري ثمّ أراد ردّه بعيب، فلا يخلو النّماء أن يكون منفعة أو غلّة أو عينًا. فإن كان منفعة أو غلّة، كان له (¬1). ولا يلزمه شيء لأجله؛ لأنّ لهُ الخراجَ بالضّمان. وإن كان عينًا فلا يخلو أنّ يكون ولادة أو نتاجًا أو غيره. ففي الولادة والنتاج يردّهما مع الأمّهات. وأمّا غير ذلك، فيختلف:. فأمّا ثمرة النّخل فلا يردّها مع الأصل إِذا حدثت عنده. فإن كان ابتاع الأصل وفيه ثمر، فإن كانت لم توّبز، لم يردّها. وإن كانت مأبورة، ففيه خلاف. وكذلك في صوف الغنم. فأمّا الألبان والأسمان (¬2) فلا يُرَدّ شيء منه. ¬

_ (¬1) في غ، والغاني: كاتن له ردّه. وهو خطأ. (¬2) في غ، والغاني: السمون.

قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل أربع مسائل: أحدها أن يقال: 1 - هل يردّ الغلّة مع المبيع؟ 2 - وهل لها قسط من الثّمن إن كانت موجودة حين البيع؟ 3 - ومتى تكون غلّة لا يردّها؟ 4 - وهل يضمن المشتري ما يجبُ ردّه منها. فالجواب عن السؤال الأوّل أنّ يقال: قرّرنا أنّ المبيع المعيب، إِذا ردّ بالعيب، يتغيّر إلى زيادة أو إلى نقصان. والزّيادة تكون غير متميّزة كالسمن، وما في معناه مِمّا ذكرناه. وتكون متميّزة كاغتلال الحيوان، على اختلاف أنواعه من نتاج أو ثمار أو استخدام، أو غير ذلك من ضروب الإغتلال. وأمّا إن كان الإغتلال ليس بعين قائمة متميّزة في الوجود، كاستخدام الدّيار والحيوان أو إجارة هذا الإستخدام، فإنّه غير واجب ردُّه مع المعيب عند سائر فقهاء الأمصار كأبي حنيفة ومالك والشّافعي وغيرهم. حتّى أنّ كثيرًا من العلماء ينكر وجود خلاف. فقال الشّيخ أبو بكر الأبهري: لا خلاف بين أهل العلم، أن هذا الإغتلال للمشتري ولا يردّه إِذا ردّه بالعب. وقال ابن الجهم: إِذا أجّر العبد بإجارة كثيرة، أو أزوج الأمة بصداق قليل أو كثير، ثمّ ردّ بالعيب، فإنّه لا يردّ ما أخذ من إجارة أو صداق. وقال: لا خلاف بين النّاس في هذا. وهكذا ذكر ابن داوود أيضًا لا خلاف بين العلماء في هذا. فأنت ترى تطابق هؤلاء على نقل الإجماع لاشتهار هذا المذهب بين العلماء. لكن رأيتا الجوزيّ ذكر أنّ شريحا وعبد الله (¬1) ابن حسن العنبريّ ذهبا إلى أنّ الغلّة يردّها المشتري أيّ نوع كانت. وأمّا إن كانت الغلّة مِمّا يتميّز، كالولد للأمّة والمواشي أو الثّمرة للأشجار، فإنّ الشّافعي ألحق هذا النّوع بحكم هذا النّوع الّذي قدمناه، وذكر اتّفاق العلماء عليه عند من نقلنا عنه ذلك، وقضى بالولد والثّمر للمشتري وإن ¬

_ (¬1) في المدنية عبد الرحمن.

ردّ بالعيب، ورأى أن ذلك لا يمنعه من الرّدّ بالعيب. وذهب أبو حنيفة إلى أنّ ذلك كلّه للمشتري، كما قال الشّافعي، ولكنّه خالفه في ردّ المبيع بالعيب، ورأى أنّ المشتري لا يمكن من الرّدّ، وإنّما له قيمة العيب، وتبقى الغلّة له. وذهب مالك إلى تفصيل القول في هذا، فرأى أنّ النّتاج ليس بغلّة، ولا يمنع الرَّدَّ، بل يجب ردّه مع ردّ الأمّ. لكن يطالب بردّ نقص إن حدث بسبب النّتاج على ما تقدّم بيانه. وأمّا الثّمرة فإنّها تكون للمشتري ولا يمنع من الرّدّ. فحصل من هذا أنّ الثّمرة تكون للمشتري غلّة عند الثّلاث الأئمّة. ولكن انفرد أبو حنيفة بكونها مانعة من الرّدّ للمبيع، وألحقها بما يفيت المبيع. وأمّا الولد فإنّ مالكًا انفرد بردّه، على حسب ما قدّمناه. واختلف الآخران في كونه مانعًا للمشتري من الرّدّ، على حسب ما قدّمناه. هذا جملة المذاهب المذكورة في هذا جملة وتفصيلًا. وسبب الإختلاف في هذا النّظر في حديث اشتهر وهو قوله عليه السلام: "الخرج بالضّمان" (¬1). وقد ذكر سبب الاختلاف هذا الحديث، وهو أنّ رجلًا حاكم آخر عند النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في عبد اشتراه، فلمّا ردّة المشتري بالعيب، قال البائع: يا رسول الله، يردّ الغلّة. فقال عليه السلام: "الخراج بالضّمان". وقد خرّج هذا الحديث أبو داوود. وخرّجه التّرمذي. وهو حسن السند. وفي بعض الرّوايات "الغلّة بالضّمان". وقد تخاصم رجلان إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى بردّ الغلّة على البائع. فدخل عليه عروة فأخبره أنّ عائشة أخبرت عن النبيّ عليه الصلاة والسلام في مثل هذا أنّه قال: "الخراج بالضّمان". فردّ عمر قضيّته وقضى للمشتري بالخراج. فمن ذهب إلى أنّ الغلّة تردّ أيّ نوع كانت، رأى أنّ هذا الحدث كقضيّة في عين لا تتعدّى إلاّ بدليل. ومن رأى أنّ الغلّة لا تردّ، وإن كان الّذي اغتلّ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص134.

غاصِبًا يضمن بالغصب، رأى أنّ قوله: "الخراج بالضّمان" عموم خرج على سبب، والألف والّام للجنس، فوجب التّعميم، لكون كلّ خراج يكون لمن عليه الضّمان. وقد قال جماعة من أهل الأصول: إنّ العموم إِذا خرج على سبب، لم يقتصر على سببه بل تعدّى. ومن رأى أنّ الغاصب يردّ الغلّة، خصّ هذا العموم بقوله: ليس لِعرْقٍ ظالم حقّ (¬1). والغاصب ظالم، فلا حقّ له. ويحمل الحديث على ضمان ضمن بالملك كمشتر ردّ بالعيب بعد أن كان مالكًا، بخلاف الضّمان بالتّعدّي، أو يحمل الحديث على مثل السبب الّذي خرج عليه وهو ضمان ما ملك، كالمبيع المعيب الّذي لو شاء المشتري لم يردّ على بائعه. وقد أشار ابن داوود إلى هذا بأنّ النّظر يقتضيه، وإنّ لم يردْ الخبر، لأجل أنّ المشتري إنّما اغتلّ ما ملك، ولو شاء لم ينقض البيع فيه، وهو لم يشترِ الغلّة ولا أخذها وهي في ملك البائع. فيجب ردّها على البائع. وهذه الإشارة الّتي أشرنا إليه لها تعلّق بأصل آخر قد ينشأ الخلاف منه أيضًا في هذه المسألة، وهو النّظر في كون الرّدّ بالعيب هل يقدّر أنّه فسخ للبيع من أصله ونقض للملك، حتّى كأنّه لم ينتقل عن البائع، فتكون الغلّة له أيّ نوع كانت. ومذهب الشّافعيّة أنّه رفع له الآن. وأشياخنا يقودون بأنّ المذهب عندنا عدى قولين، هل الرّدّ بالعيب نقض للبيع من أصله؟ أو كابتداء بيع الآن؟ ويخرّجون هذا من مسائل إحداها الاختلاف المشهور في مسألة من اشترى أمة على المواضعة، ثمّ ردّها. بعيب بعد خروجها من المواضعة، هل يجب أيضًا على المشتري مواضعتها كما وجب له ذلك على البائع منه لكونه بائعًا؟ وإن قلنا: إنّ ذلك رفع للبيع من أصله، فإنه لم يبع فلا عليه المواضعة. وإن جاء بها البائع عن قربها حتّى يستبريء. وقد يقال في هذا: إنّما وجبت لأنّه أخذها من بائعها وهي فارغة من الولد، فعلبه أن ¬

_ (¬1) الموطأ ج2 ص287 ح2166.

يردّها كما أخذها، سواء قيل: إنّ الرّدّ بالعيب كابتداء بيع أو رفع له من أصله. فمن يذهب إلى أنّه ردّ له من أصله، يقول: لو كان كابتداء بيع لوجبت الشّفعة للشّريك إِذا ردّ المشتري بالعيب. فلمّا لم تجب له، دلّ على أنّ ذلك نقض للبيع من أصله، ولا شفعة للشّريك إِذا لم يبع. ومن يذهب إلى أنّه كابتداء بيع الآن يقول: لو اشترى أمة بعبد فأعتق الأمَة ثمّ استحقّ العبد، فإنّ الّذي استحقّ العبد منه ليس له نقض العتق، وإنّما له قيمة الأمة المعتقة. وكذلك لو ردّها بعيب لم يكن له نقض العتق. فهذا سبب الخلاف من جهة الخبر والنّظر. وأمّا ما حكيناه من الإختلاف في الولد، هل هو غلّة فيمسَك، وإن ردّت الأمّ كما قاله الشّافعي؟ أو يُرَدّ معها؟ فإنّا كنّا قدّمنا في هذا الكتاب الكلام على هذه المسألة، وذكرنا استقراء الشيخ أبي القاسم السيوري، رحمه الله، كون الولد غلّة من قوله في المدوّنة في هذا الكتاب: إنّ المشتري يجبر به عيب النّكاح. وبسطنا القول في ذلك بما يغني عن إعادته. وبعض أصحابنا يشير إلى أنّ هذا الولد لا يطلق عليه في العرف اسم غلّة ولا يدخل في قوله: "الخراج بالضّمان" (¬1) أو قوله: "الغلّة بالضّمان" (1). وأيضًا فإنّ حكم الولد كحكم أمه، ألا ترى أنّ ولد المكاتبة مكاتب، والمعتقة إلى أجل معتق إلى أجل، وكذلك ولد المدبّرة. وهذا يقتضي كون الولد كعضو من أعضائها. فإِذا وجب، ردّها، رُدّ الولد الّذي هو كعضو من أعضائها. ولا ينقض هذا بولد المستأجرة، فإنّ من استأجر أمة لا يكون له حق في استخدام ولدها, لأنّه لم يملك الرّقبة، فيكون الولد تابعًا للرّقبة، وإنّما ملك المنافع، والولد ليس تبعًا للمنافع. وأمّا سبب الإختلاف بين الشَافعي وأبي حنيفة في كون النّتاج أو الثّمر يكونان للمشتري، ولكنّهما يمنعان من الرّدّ عند أبي حنيفة، ولا يمنعان منه عند الشّافعي، فلأجل أنّ أبا حنيفة والشّافعي قد قدّمنا عنهما أنّ من اشترى سلعة ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص134.

واطلّع على عيب، وقد حدث عنده عيب، فإنّهما يريان أنّه لا يمكن من الرّدّ، ولو ردّ ما نقص العيب الّذي حدث عنده، خلافًا لما ذهب إليه مالك، رضي الله عنه عنه، ويريان هذا فوتًا، كما يراه مالك في الموت والعتق، وتلف الأعضاء المقصودة من الأمة. وقدّر أبو حنيفة أنّ الأصل وجوب ردّ الغلّة، لما قدّمناه عنه من أنّه يرى الرّدّ بالعيب نقضًا له من أصله. وقد منع الخبر وهو قوله عليه السلام: الخراج بالضّمان (¬1) من ردّ الغلّة الّتي يجب ردّها على البائع. فصار هذا المنع بالشّرع كعيب حدث عند المشتري إِذا. ردّ المبيع لم يردّه على ما هو عليه، بل الاغتلال خسارة تلحق البائع. ورأى الشّافعي أنّ هذا الإختلاف لا يقدّر أنّه كالنّقص الّذي وافق أبا حنيفة على أنّه يمنع من الرّدّ، فإِذا كان قد ردّ الأمة على ما هي عليه، لم تتغيّر بعد أخذ ولدها. وكذلك الشّجرة لم تتغيّر بعد أن جنى المشتري ثمرتها، فإنّ ذلك لا مضرّة فيه على البائع، ولا نقص يلحقه في ردّ المبيع عليه، وقد ردّه على حسب ما أخذه، فلهذا لم يكن هذا كعيب حدث منع من الرّدّ. والجواب عن السؤال الثّاني أنّ يقال: قد علم أنّ هذه الغلّة تكون لها أصول حالة تكون معدومة عند العقد وعند الرّدّ. وهذه الحالة الّتي تقدّم الكلام عليها، وذكرنا حكم الولد والثّمر وغير ذلك من الاستغلال. فإِذا اشترى أمة لا حمل بها فحملت عنده ووضعت الولد، فحكمه في الرّدّ ما قدّمناه عن فقهاء الأمصار. وكذلك لو اشترى غنمًا لا صوف عليها فنبت صوفها وكمل وجزّه، أو كانت لا لبن فيها فاحتلبه ثم ردّها، فإنّ ذلك كلّه غلّة فلا تردّ. وأمّا إن اشتراها وفيها ثمر قد أبر، أو على الغنم صوف قد كمل وتمّ، فإنّ في هذا قولين: ذهب ابن القاسم إلى أنّ لها حصّة من الثّمن، وتقدّر مبيعة مع أصولها. فإِذا ردّ النّخل ردّ معها الثّمرة. ولو كان قد جرّها إِذا كانت عينها ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه ص444.

قائمة، وإن فاتت ردّ مثلها. ولم يوجب مع فوتها إمضاءها بحصّتها من الثّمن. كما رأى فيمن اشترى ثوبين أحدهما تبع للآخر ففات الأدنى، فإنّه إِذا ردّ الأعلى بالغيب مضى الأدنى بحصّته من الثّمن ولم يلزم ردّ قيمته بدل عينه. بخلاف ما ذكره في الموّازيّة من أنّه يردّ قيمته بدل عينه، على حسب ما قدّمناه عن ابن الموّاز فيمن ردّ شاة بعيب وقد جزّ صوفها وفات، فإنّه يردّ وزنه أو قيمته إن لم يعرف وزنه. وإنّما خالف ابن القاسم أصله في هذا لما أشرنا إليه من كون الثّمرة إِذا بيعت قبل الزهو على التبقية حرم ذلك وفسد العقد، ولو أمضاها بحصّتها كما فعل في الثوب الأدنى إِذا فات، لأمكن أنّ يكونا متعاقدين تواطآ على بيع الثّمر خاصة قبل زهوه بشرط التبقية، وأظهرا إضافة بيع الشّجرة إليها ليردّ بالعيب إِذا حصلا غرضهما من بيع الثّمر قبل الزّهوّ بشرط التّبقيَة. وأجرى ذلك مجرى بياعات الآجال الّتي ظاهرها حلال وباطنها ربّما تصوّر فيه معاقدة على الحرام. واستبعد بعض أشياخنا التّهمة في مثل هذا لأجل كون الرّدّ بالعيب سببه من جهة أحد المتعاقدين. وظاهر المذهب أنّهما لا يتّهمان إلاّ فيما دخلا فيه مدخلًا واحدًا. وبياعات الآجال دخلا فيها مدخلًا واحدًا أوّلأ وآخرًا. ألا ترى أنّه قال في التّفليس: إِذا اشترى نخلًا قد أبرت ثمرتها واشترطها المشتري وجدّها وفاتت، إنّما تمضي بحصّتها من الثّمن. كما قال في الثّوب الأدنى إِذا فات لما بعدت التّهمة عنده، في أن يتواطآ على أنّ يبيع الثّمرة مفردة بشرط التبقية، لعلّ المشتري أن يفلس فيمضي البيع فيها بحصّتها من الثّمن إِذا شاء. وذهب أشهب إلى أنّه لا حصّة لها من الثّمن، فإِذا فاتت وقد اشتراها وهي مؤبّرة، فإنّه إِذا ردّ النّخيل بالعيب، استرجع جميع الثّمن. وكذلك إِذا اشترى الصوف وقد تمّ، فإنّه إِذا جزّه كان غلّة للمشتري فارتجع جميع الثّمن. وكأن ابن القاسم قدّر أنّ الثّمرة إِذا كانت مؤبّرة يرغب فيها ويشحّ عليها. فلهذا لم تكن مع إطلاق العقد للمشتري على ما ورد الحديث به. وقدّر أشهب أنّها في حكم التبع، ولا حصة للأتباع من الثّمن، ولهذا منع بيعها بشرط التّبقية إِذا بيعت

مفردة، وإِذا بيعت مع شجرها جاز ذلك لكونها تبعًا، فلو كان لها حصّة من الثّمن، لم يجز ذلك. ولو كانت بيعت تبعًا لأصولها كما يجوز بيعها مفرده. والمعتبر في هذا الالتفات إلى العوائد، هل جرت بأنّها مقصودة لها حصّة من الثّمن أو في حكم المطروح الّذي لا حصّة له من الثّمن؟ ولو كان في الشّاة لبن حين العقد فاحتلبه ثمّ ردّها بالعيب، لم يردّه. قال: لأنّ أمره خفيف. فأشار إلى ما قلناه وأنّه هو المعتبر عنده. ففرّق بين الصوف إِذا تمّ، واللّبن. وسنتكلّم على هذا إِذا تكلّمنا على حكم المصرّاة، إن شاء الله تعالى. وقد ذكر في الموّازيّة عن أشهب ما يقتضي كون الثّمرة وإن لم تؤبّر لها حصّة من الثّمن. وهذا نقيض ما حكيناه عنه من كونها لا حصّة لها من الثّمن وإن كانت مأبورة والمعروف من مذهبه ومذهب أصحاب مالك كونها لا حصّة لها من الثّمن إِذا كانت لم تؤبّر حين العقد. والجواب عن السؤال الثألث أن يقال: إِذا اشترى الشّجر ولا ثمر فيها فأثمرت عنده فردّ الشّجر بالعيب وقد جدّت الثّمرة، فإنها تكون غلّة في الرّدّ بالعيب، وفي أربع مسائل أخرى، منها ردّها في التّفليس، وفي الأخذ بالشّفعة، وفي الإستحقاق وفي البيع الفاسد. فأمّا إن لم تفارق الثّمرة أصولها فإنّ الحكم في هذه الخمس مسائل مختلف. فالمشهور في المذهب أنّها لا تردّ أصولها إِذا أزهت، وإن لم تجد ولم تيبس، في الرّدّ بالعيب وفي البيع الفاسد. وأمّا الشّفعة والإستحقاق فيردّ، وإن أزهت ما لم تيبس. فإِذا يبست، لم يجب ردّها وإن كان لم يجدّها. وفي التّفليس تردّ ولو يبست ما لم يجدها. وقد اختلف في هذه المسائل، وقيل: إنّ الإبار فوت فيها, ولا تردّ إِذا أبرت، كما لا تردّ إِذا جدّت.

وكان أشياخي، رحمهم الله، يرون أنّه لا يتحقّق فرق يقتضي اختلاف هذه الأجوبة في الخمس مسائل. وأنّه يضاف إلى المذهب أنّ الفوت في جميعها الزّهو كما قيل في الرّدّ بالعيب والبيع الفاسد. ويقال في جميعها: إنّما الفوت اليبس كما قيل في الشّفعة والإستحقاق. ويقال في جميعها إنّما لفوت جدّها، كما قيل في التّفليس. وأمّا الإبار فمذهب انفرد وقع في المذهب من غير تخريج. ومدار هذا الإختلاف اعتبار انطلاق هذه التّسمية عليها، وهي كونها غلّة، هل بالإبار، لكون الخبر الوارد اقتضى الإشارة إلى أنّ الثّمرة تكون مقصودة، ولهذا لم تخرج عن ملك البائع إلاّ باشتراط. وكذلك يجب أن تكون للمشتري إِذا ردّ بالعيب. أو يقال إنّما المقصود طيبها وزهوّها، فحينئذٍ تباع تبعًا عامًّا وتؤْكل تفكهًا. فإِذا صارت إلى هذه الحالة تحقّق كونها غلّة. أو يقال: إنّها لا تدّخر إلاّ إِذا يبست، ولا تتّخذ قوتًا إلاّ حينئذٍ، فلا تكون غلّة إلاّ باليبس. أو يقال: ما دامت لم تفارق الشّجر، فكأنّها جزء منها يجب ردّها معها، كسائر أجزاء الشّجر. وإِذا قلت إنّ الرّدّ بالعيب كابتداء بيع اقتضى أنّها لا تردّ إِذا أبرت لكون الّذي يردّها كبائع لها. وكذلك إِذا سلكنا هذه الطّريقة في الشّفعة والإستحقاق، لا يتصوّر فيه هذا. وكذلك البيع الفاسد فهذه النّكتة المعتبرة في هذا الفصل وهو الوقت الّذي تكون فيه غلّة. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أمّا ضمان المشتري لهذه الغلّة إِذا وجب عليه ردّها، فإنّه ساقط إِذا لم يجدها وكان هلاكها في شجرها بأمر من الله سبحانه، فإنّه إِذا اشتراها، وهي مأبورة، فاشترط الثّمرة أنّه يجب ردّها عند ابن القاسم، وإن جدها لكونها عنده لها حصّة من الثّمن، على حسب ما قدّمناه. ومقتضى هذا أنّ يكون المشتري ضامنًا لها ,لكونها مبيعة فاتت في يد مشتريها بأمر من الله تعالى، وهو لم يجدّها يقتضي ألا حصّة لها من الثّمن. خلاف ما

حيكناه عنه من قوله: إنّه يجب عليه ردّها إِذا فاتت لكونها لها حصّة من الثّمن، خلافًا لما ذهب إليه أشهب. واعتذر بعضهم عن هذا بأنّه إنّما لم يضمنها لكونها غير مقبوضة للمشتري. ولهذا منع أن يشتري النّخل المؤبّرة بطعام تكون الثّمرة يتأخّر قبضها, ولا يجوز التّأخير في بيع الطّعام بالطّعام. وعورض هذا الاعتذار بأنّ هذا يقتضي أنّ يرجع المشتري على البائع بثمنها لكونه ضامنًا لها, ولو هلكت هذه الثّمرة بأمر من الله سبحانه بعد أن جدها البائع لضمنها لكونه قد حصل فيها القبض عن البائع. وعورض هذا أيضًا بأئها إِذا كان لا حصّة لها من الثّمن، لم يعد ضمان المشتري لها، بل يقضَى له بارتجاع جميع الثّمن إِذا ردّ الشّجر. وقد قال بعض المتأخّرين: لو اشتراها بعد أنّ أزهت لضمنها، وإنّ لم تفارق الشّجر إِذا هلكت بأمر من الله تعالى. يتبيّن وجهه إِذا تكلّمنا على أحكام الجوائح في الثّمار. وكذلك مال العبد إِذا اشترطه المشتري، فإنّه إِذا ردّه بالعيب، ردّ معه ماله ولو اكتسبه العبد من غير خراجه. ولو هلك وهو بيد العبد لم يضمنه المشتري بل يقضي له بارتجاع جميع الثّمن. ولو هلك هذا المال بعد انتزاعه لضمنه المشتري لأجل انتزاعه له واستبداده بملكه. وقد كان حصوله على جهة المعاوضة. وهذا أيضًا يلتفت فيه إلى ما قلناه من كون مال العبد، وإنّ اشترط، لا حصّة له من الثّمن. ولهذا جاز اشتراطه. وإن كان المال مجهولًا وإن كان فيه عبد أبق لمّا لم يقدّر أنّ في الثّمن الّذي بذله المشتري معاوضة على هذا العبد الاَبق الّذي في جملة مال العبد. وإن كان قد وقع في الموّازيّة لمالك: إِذا كان في مال العبد جارية حامل، فإنّ البيع جائز. وإن كان ولدها إِذا وضع يبقى للبائع، ولا يدخل في الاشتراط. لأنّ المشتري إنّما اشترط ما يملك العبد وولده ليس بملك له. ووقف ابن الموّاز في هذا السؤال. ولعلّه يفرّق بينه وبين جواز اشتراط ماله وإن كان فيه آبق. لأنّ الآبق الظّاهر عدمه، فلا يقصد إلى بذل ثمنٍ

منه. وهذه الجارية الحامل معينة ولها حصّة من الثّمن، ولا يجوز بيع أمة استثثى البائع جنينها. مع كون هذا العقد انعقد على تفرقة أم وولدها في الملك. وهكذا ذكر ابن الموّاز أنّه لو كان في مال العبد جارية رهنها سيّده، فإنّه يجوز هذا البيع. وإن كانت هذه الجارية لا تقبض إلاّ إلى أجل، وهو حين افتكاك السيّد الّذي رهنها لها. فإِذا افتكّها عادت لعبده. ولا يجوز بيع جارية معيّنة تقبض إلى أجل. ولعلّنا أن نبسط هذا في كلامنا على حكم مال العبد، وكونه مالكًا له أو غير مالك. قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: والعيوب الموجبة للرّدّ هي ما أثّرت نقصًا في المبيع أو في الثّمن أو في التّصرّف أو خوفًا في العاقبة. ومن ذلك نقصان الأعضاء، كالعمى والعَوَر والقطع والضَّلَع والزّمانة والخصى والإفضاء، ونقصان الأحكام كالجنون والجذام والبرص والعسر والزّعر وبياض الشّعر والإباق والزّنى والسرق والبخر، والزّوج والولد في العبد والأمة (¬1) والحمل والدّين. ومن هذه العيوب ما يعمّ، ومنها ما يخصّ الرّائعة المرتفعة (¬2) المتّخذة للوطء، وذلك بحسب ما يعلم في العادة. وزواله بعد الرّدّ مسقط للرّدّ، إلاّ أن يكون مِمّا تبقى علاقته كالزّوجة والزّوج والإستدانة في سفه، وما أشبه ذلك أو (¬3) مِمّا لا يؤمن عوده. قال الإِمام رحمه الله يتعلّق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - بِمَ يستدلّ على كون النّقص عيبًا على الجملة؟ 2 - وما تفصيل القول فيه في الحيوان من جهة نقص من ناحية الجبلّة ومن ناحية الأحوال؟ ¬

_ (¬1) في غ: والزوج والولد عيبٌ في العبد والأمة. (¬2) ساقطة في غ، والغاني. (¬3) (أو) ساقطة في النّسختين، ثابتة في غ والغاني.

3 - وما تفصيل العيوب في غير الحيوان؟ 4 - وما حكم ما لا يعلم عيبه إلاّ بعد نقض هيئته؟ 5 - وما حكم عيب لا يثبت إلاّ بالشرط. فالجواب عن السؤال أنّ يقال: أشار القاضي أبو محمّد في هذا الكتاب إلى طرق الإستدلال على حقائق العيب وذكر ما حكيناه. ولكن قد يتداخل ما نوّعه لأنّه ذكر نقص المبيع، وهو إِذا انتقصَ في نفسه انتقصَ ثمنه. وكذلك نقصه التّصرّف أو من تخوّف العاقبة. كلّ ذلك يرجع إلى نقص في الثّمن. وهذه الحقيقة الّتي يعوّل عليها المحقّقون من أهل المذهب. فكلّ ما نقّص من ثمن المبيع إِذا اطّلع عليه حين العقد، فإنّه إِذا خفي من المشتري، حين العقد، كان له القيام به. لأنّا لو فرضنا أنّه يشتري عبدًا فوجده قد قطعت أنملته، ولم يعلم بذلك، فمانّ الأنملة جزء من أجزائه يقابل مقدارها من أجزاء الثّمن. وهو لم يأخذ عوض هذا الجزء من الثّمن، فكان له في هذا المقدار ألّذي دفعه ولم يأخذ عوضه مقال. وهذا واضح ولا يلتفت فيه إلى تنويع النّقص وتعداده من أيّ جهة كان. لكن إنّما يشكل ها هنا لو اطلع في المبيع على وصف يكرهه النّاس، ولكن لا يحطّون من الثّمن لأجله شيئًا لو علموه، حين العقد، فإنّ هذا قد قال في المدوّنة في كتاب كراء الدّور والأرضين، في ثوب وجد فيه عيب خفيف لا يُنقص من الثّمن، فإنّه لا يردّ به، د ان اعتقد كونه عيبًا، كعبد يباع وبه عيب خفيف، كالكيّ اليسير الّذي لا يحطّ من الثّمن، فإنّه لا يردّ به العيب، وإن كان عند النّخاسين عيبًا. وقال ابن الموّاز: كلّ ما يكرهه النّاس فهو عيب، إِذا اطّلع عليه، يوجب الرّدّ. فأطلق هذا من غير اعتبار يكون هذا الّذي ذكره ينقص من الثّمن. فظاهر هذا أنّ المسألة على قولين إن لم يحمل قول ابن الموّاز على ما يكرهه النّاس، فإنّه ينقص من الثّمن، ويكون ذكره كراهيّة النّاس له تغنيه عن ذكر كونه ناقصًا للثّمن, لأنّ الغالب فيما يكرهه النّاس أنّه ينقص من الثّمن، لا سيما

إِذا علم أنّه يثني عزيمة المشتري عن الشّراء أنْ لو اطّلع عليه عند العقد. ويكاد ألاّ يتصوّر هذا (¬1) في صور نادرة. فلو قلنا: إنّ من اشترى مقطعًا قد تهتّكت حواشيه، وهو يعلم أنّه لا ينتفع به إلاَّ إِذا فصل، وحواشيه تخرج في التفّصيل وتطرح. فإذا قد يستثقل وتضعف العزيمة، ولكنّه قد لا يحطّ من الثّمن شيئًا. أو ما اشتراه من المسائل الّتي يحكي فيها خلافًا. ويشير إلى تعلّقه بهذا الأصل. لكن لو كان هذا الّذي ذكره من حال المبيع لا يعلم بل يكرهه قوم دون قوم. فإنّ من يعلم أنّه من الصنف الّذي يكرهونه ولهم غرض في ترك شرائه، ويقفون عنه، وينقصون من ثمنه لو اطّلعوا على حالته الآن حين العقد، يكون لهم الرّدّ. وأمّا من يعلم أنّه لا يكره هذه الحالة من المبيع، بل له غرض فيها، فإنّه لا مقال له. وهكذا كان بعض أشياخي يرى فيمن اشترى عبدًا فاطّلع على أنّه صقلبيّ أو اشترى جارية فاطّلع على أنّها مغنيّة، وهو مِمّن لا يرغب في صقلبيّ ولا مغنية، فإن له الرّدّ بذلك، لكون الصقلبيّ يضعف عن العمل، والمغنيّة لا تستخدم. فإن كان ممن يرغب في ذلك، فلا يكون في حقّه عيبًا يوجب الرّدّ. وإنّما يبقى النّظر عندي في هذه أنّ من اشتراها وهو من قوم يرغبون في ذلك، قد يقول: قد احتاج إلى بيعها فلا يشتريها منّي القوم الّذي لا يرغبون فيها، ويشتريها من يرغب فيها فيقف عنها أيضًا من لا يرغب فيها. وقد ذكر أبو حامد الاسفراييني إختلافًا عندهم فيمن اشترى جارية ثيّبًا فإِذا هي بكرٌ، أو اشترى جارية جَعْدة الشّعر فإِذا هي سَبْطة الشّعر. فذكر عن بعض أصحاب الشّافعي أنّه يذهب إلى أنّ له الرّدّ إن اطّلع على أنّ الحال أفضل من الحال الّتي دخل عليها. قال أبو حامد: وهذا غلط لأنّه يقدر على أنّ يبيعها بأكثر من الثّمن الّذي اشتراها به، فأنت تراه كيف أشار إلى تمكّن المشتري من البيع بغير خسارة. وهذا هو المعتبر في حقائق العيوب. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلاّ في صور ...

والجواب عن السؤال الثّانى أنّ يقال: أمّا النّقص في الرّقيق من ناحية الخلق، فإنّ العمى والعور والصُّفرة في العين والبياض عيوب توجب الرّدّ. وكذلك الصمم والبكم ما لم يكن صغيرًا لا يتبيّن بكمه. وأمّا سقوط الأسنان فإنّ المذهب اتّفق على سقوط ضرسين عيب يوجب الرّدّ، سواء كان ذلك في عليّ الرّقيق أو وخشه, لأنّ ذلك يمنع من مضغ الغليظ، وتكسير الصّلب، وسرعة الأكل. وأمّا ضرس واحد فعيب في العلِيّة، وليس بعيب في الوخش، إلاّ أن يكون في مقدم الفم، فإنّه يقبّح منظرته. وهذا الّذي حكيناه، من اتّفاق أو اختلاف، المعتمد فيه على ما قدّمناه من اعتبار كون ذلك ينقص من الثّمن أو لا ينقص منه، ولكنّه يكره. وأمّا العمل فعيب في العليات. وأمّا الوخش من الخدم فاختلف قول مالك فيه، فروى عنه ابن القاسم أنّ ذلك عيب، وروى عنه أشهب أنّه ليس بعيب. وقال الشّيخ أبو بكر ابن عبد الرّحمان: محمل هذا عندي على أنّ هذه الحامل من العجم اللّائي جلبن، وأمّا لو كانت من الخدم المقيمات بالبلد لكان عيباَّ, لأنّ هذا العمل لا يخلو أنْ يكون عن زنى أو عن تزويج، وزنى الأمة عيب يوجب ردّها، وكذلك كونها ذات زوج. وهذا الّذي قاله صحيح. وإنّما يبقى النّظر فيه إِذا كان من زوج ولكنّ الزّوج طلّق أو مات، فإنّ طلاقه لا يرفع العيب. وأمّا موت الزّوج ففي كونه رافعًا للعيب اختلاف سنذكره. وأمّا كون الأمة زلاّء صغيرة الكفل والرّدف، فإنّه ذكر في المدوّنة أنّه ليس بعيب. واختلف في تعليل ذلك. فأشار ابن حبيب إلى أنّ العلّة في ذلك كونه لا يخفى. وطعن في هذا بعض المتأخّرين بأنّ هذا التّأويل لا يليق بما قاله في المدوّنة, لأنه قال: ليس هذا بعيب. ولو كان إنّما عوّل على أنّه لا يخفى، لكان الجواب أنّ يقول: لا قيام له به، ولم يُجب بأن يقول هذا ليس بعيب. وتأوّله كثير من المتأخّرين على أنّ المراد به أنّ هذا النّقص ليس بفاحش ولا خارج عن

العادة. ولو كان نقصًا خارجًا عن العادة لوجب الرّدّ. وفي كتاب ابن الموّاز إشارة إلى هذا التّعليل. وذكر أيضاَّ أَنّ المشتري إِذا اطّلع على أنّها صغيرة الصّدر، فإنّه لا ردّ له إلاّ أنّ يكون فاحشًا. وهذا الّذي أشار إليه يعضد تأويل هؤلاء الّذين تأوّلوا مثل هذا في أرداف الأمة وصغرها. وأمّا وجود الشّيب في شعر الرّائعة وهو كثير، فإنّه عيب بغير خلاف. وأمّا القليل من الشّيب فظاهر الأمرانّ المذهب على قولين، أحدهما: وجوب الرّدّ بالشّيب في الجارية العلية قولًا مطلقًا من غير تقييد. والقول الثّاني: اشتراط كون الشّيب كثيرًا. وهذا أيضًا إنّما يعتبر فيه ما قدّمناه من كون هذا ينقص من الثّمن. والوخش ليس الشّيب بعيب فيهنّ، إذ لم ينقص من الثّمن. وأمّا كون الجارية مستحاضة، فإنّه عيب في العلي والوَخْش لكونه يضعف البدن ويسقم، وربّما أدّى لاجتناب الأمة إِذا كانت للوطء. وأمّا ارتفاع الدّم، والجارية في سنّ من تحيض، فإنّ ابن حبيب ذكر أنّ الإستحاضة إِذا كانت تعرض للأمة بعد مدّة، فإنّ على البائع أنّ يبيّن ذلك. فإن لم يبيّنه، كان للمشتري أن يردّ. وأمّا ارتفاع الدّم مرة بعد مرّة فلا على البائع بيانه. واعتذر بعض المتأخّرين عقا ذكره، في المدوّنة مِمّا ظاهره اختلاف الجواب في تأخيره شهرين بأنّ قال في أحد اللّفظين: تأخير الحيض في استبرائها، والمراد به تأخّره بعد انقضاء مدّة الإستبراء. وقال في اللّفظ الآخر: تأخّر شهرين من يوم الشّراء، فشهر من تاريخ مدّة الشّراء هو أمر الإستبراء المنتظر، والشّهر الثّاني هو الزائد على المعتاد. وقد ذكر في كتاب ابن الموّاز ما ظاهره الاضطراب في التّحديد في الشّهر وفي أكثر منه وذكر أنّ الطّول أربعة أشهر. وذكر أيضًا أنه إِذا مضى ثلاثة أشهر نظر إليها القوابل، فإنّ قلن لا حمل بها ساغ للمشتري وطؤها، وإن شاء استمك بها. وإن تمادى تأخر الدم، كان له الرّدّ لما يلحقه من الضّرر إِذا أراد البيع. وذكر ابن شعبان عن مالك والمغيرة

وابن دينار أنّه إِذا مضى خمسة وأربعون يومًا مكّن البائع من الفسخ، إن أراده، لما يلحقه من الضّرر في الانتظار. ومدار هذا كلّه على ما أشار إليه في المدوّنة من اعتبار حصول الضّرر. فإنّه إِذا حصل، كان للمشتري مقال في فسخ البيع لأنه لم يشتر إلاّ ما ينفعه لا ما يضرّه. وممّا يعدّ عيبًا أيضًا من ناحية الفرج هو أنّ يكون العبد والأمة يبولان في الفراش. فإنّه إِذا كان ذلك، وهما من الصّغر بحيث لا يستنكر ذلك فيهما، فلا مقال للمشتري. وإن بلغا السنّ الّذي يستنكر ذلك فيه، ويثبت أنّ ذلك كان عند البائع قبل عقد البيع، فللمشتري الرّدّ. وإن لم يثبت ذلك، فإنّ محمَّد بن عبد الحكم لم يرَ له تأثيرًا لجواز أن يكون العبد أو الأمة كرها من اشتراهما فتعمدا البول في الفراش ليردّهما. والظاهر من المذهب أنّ هذا من التّجويز البعيد الّذي لا يسقط الحقوق. فذكر ابن حبيب أنّه ينبغي إن توقف على يد امرأة أو رجل له امرأة، فإن نظرت إلى الفراش لمّا أصبح وهو مبلول وأخبرت بذلك، فإنّه يوجب على البائع اليمين لثبوت هذا اللّطخ، وإن لم يثبت هذا اللّطخ، فلا يمين عليه. وإن كان المشتري هو المحاول إثبات هذا عند القاضي، فإنّه لا يقبل فيه إلاّ شهادة عدلين أبصرا ذلك. وأمّا الخَنَث في الذّكرَان والفحولة في النّسوان، فإنّ في المدوّنة أنّ ذلك عيب يردّ به العبد والأمة. وشرط في الأمة أن تشتهر بذلك. لكن ابن حبيب فسّر هذا العيب المجمل في كتابه، فذكر أنّ مالكًا إنّما يجعله عيبًا إِذا كان الذّكر يؤتى، والأنثى فحْلَة لشرار النّساء. وأمّا التأنيث من جهة التكسر في المعاطف والنّظر والنّطق، فإنّ هذا ليس بعيب يردّ به. وقد حمل الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد قول ابن حبيب هذا على أنّه مخالف لمذهب المدوّنة، وأشار إلى أنّه لا يشترط في المدوّنة كون المخنّث يؤتى، والجارية تراضع (¬1) النّساء. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلّ الصواب: تباضع.

وخالفه بعض المتأخّرين في هذا التّأويل. وأشار إلى كون ابن حبيب مفسرًا لما أجمله في المدوّنة لا مخالفًا فيها. ورد الشّيخ أبو عمران قول ابن حبيب بأنّه قد اشترط في المدوّنة كون الأمة اشتهرت بذلك، ولو كان المراد بذلك حصول الجماع بين الذّكرين أو الأنثيين، لكان وقوع ذلك مرة واحدة عيبًا لا يحتاج فيه إلى التّكرار. وإنّما قيّد في الأمة بالاشتهار لكون فحولتها لا تضعف شيئًا من أعمالها, لكن اشتهارها بهذا نقص وعيب. وقد جاء في الحديث أنها ملعونة (¬1)، فإنّه يستدلّ بخنثه في حركاته وألفاظه على ضعف قوتّه وعمله. والضّعف عيب وإن لم يشتهر. وأمّا البكارة والثّيوبة فإنّها لا يلزم البائع بيانها. ولا يردّ المشتري بالثيّوبة إِذا لم تشترط في أصل العقد، إلاّ أنّ تكون الأمة في سنّ من لا تقتضي (¬2)، فإنّ ذلك يقوم مقام الاشتراط أيضًا، ويكون للمشتري الرّدّ بالثّيوبة. ولو قال المنادي عليها: إنّها تزعم أنّها بكر، فإن ذلك يقوم مقام الاشتراط لكونها بكرًا، ولا يلزم البائع أنّ يبيّن أنّها ثيّب، ولا يمكن المشتري من الرّدّ عليه إِذا باع مطلقًا. وهذا عندي إنّما يتّجه إِذا كانت الثيّوبة أمرًا غالبًا فيحمل الإطلاق عليه، ويظنّ أنّ المشتري عليه دخل. لكن ذكر في الرّواية أنّ المشتري لو قال للبائع: أبكر هي أم ثيّب؟ فقال: لا علم لي، فإنّه يصحّ البيع ولا يردّها بالثيّوبة. ولم يرَ هذا تخاطرًا وعقدًا (¬3) بيعًا على صفة مجهولة لم يُحِطْ بها المتبايعان، والثّمن يختلف باختلافهما. فهذا مِمّا يتعقّب جواز العقد عليه إلاّ أن يعتذّر عن هذا بأنه أمر يعسر الكشف عنه وتدعو الضّرورة إلى عقد البيع عليه مع الجهالة به، فيكون في هذا نظر. ولعلّنا أن نبسطه في الكلام على العيوب الباطنة، كعيب الخشب، وشبهها. وأمّا العَسَر وهو الّذي لا يعمل إلاّ بيساره، فإنّه عيب. وأمّا الأضْبط وهو الّذي يعمل بكلتا يديه، فإنّه ليس بعيب إلاّ أن يُنتَقَصَ عمل اليمين منه عن ¬

_ (¬1) فتح الباري ح15 ص173. (¬2) هكذا في النّسختين: ولعل الصواب: تفتض. (¬3) هكذا في النّسختين، ولعل الصواب حذف: عقدا.

المعتاد لأجل مشاركة الشّمال لها في القوّة، فيكون ذلك عيبًا. هكذا وقع في الرّواية، ولم يلتفت فيها إلى جبران نقص اليمين بقوّة اليسرى، ولا جبر هذا بهذا. هذا القول في تفصيل النّقص والعيب من ناحية الجبلّة والطّبيعة. وأمّا من ناحية الأحوال، فإنّ الأمة والعبد إِذا اطّلع على كونهما سرقا أو شربا الخمر، فإنّ ذلك عيب يوجد الرّدّ للمشتري إِذا طلبه. وأمّا الاطّلاع على أنّ الأمة زنت، فإنّه عيب أيضًا يوجب الرّدّ. وأمّا الاطّلاع على كون العبد قد زنى، فعندنا أنّه عيب فيه. "وخالف في ذلك الشّافعي ورأى أنّ هذا لا يؤثّر في ثمن العبد، ويؤثّر في ثمن الأمة وفي الغرض منها لكونها قد تقبّل وتضاجع. وأجيب عن هذا بأنّ العبد قد يناجيه سيّده، ويضطّر إلى ذلك، فيتأذّى من رائحته فيحطّ ذلك ثمنه (¬1) ". وكذلك الزّوج عندنا للأمة والزّوجة للعبد عيب لا سيما في الأمة مع كون ذلك يمنع مشتريها من الاستمتاع. وبهذا ردّ أصحابنا على الشّافعي إنكاره كون ذلك عيبًا فيها. ولو وقع الطلاق قبل أن يقوم المشتري بهذا العيب ما ارتفع حكم العيب لكون العبد أو الأمة يتوقّع حنين كلّ واحد منهما إلى من كانت بينه وبين زوجته ومن كان سكنًا له وصار بينهما مودّة ورحمة. والعيب إِذا زال وتتوقّع عودته، فإنّه كما لم يزل. لكن لو مات أحد الزّوجين، لكان في ارتفاع العيب قولان. أحدهما لا يرتفع قياسًا على الطّلاق بفساد الطّبع كالألفة للزّوجة، فيعسر استقامة العبد أو الأمة من فقد ذلك. والقول الآخر أنّ العيب يرتفع لأنّ الموت يوجب الإياس من حنين بعضهما إلى بعض. وقد وقع في الرّواية فيمن اشترى أمة وهي في عدّة من طلاق لم يعلم به حتى انقضت العدّة، فإنّه عيب قد ارتفع بانقضائها. ومحمل هذا على أنّه علم بالزّوجيّة والطّلاق وظنّ أنّ العدّة قد فرغت، ولو كان يعلم (¬2) بالزّوجيّة، لم ¬

_ (¬1) يظهر أن في الكلام نقصًا إذ ما بين القوسين متعلق بالبخر وليس بالزنى. (¬2) هكذا ولعل الصواب لم يعلم.

يرتفع العيب كما بيّناه، وذكر في الطّلاق أنّه لا يرفع العيب. وقد يقال هذا أيضًا على أنّه لو اطلّع على ذلك وهي في أوّل العدّة، فيطول انتظاره لتحليلها له. وأمّا لو كان بعد شهر وبقي من العدّة شهر آخر وهو مقدار استبرائها بحكم الشراء، فإنه لا مقال له. وأمّا وجود أقارب قريبة جدًّا كالوالدين والبنين، فإنّ ذلك عيب يردّ به المشتري إذا لم يعلم به حين العقد، لكون هذه القرابة القريبة تستدعي الألفة والانقطاع للآباء والبنين وإسعافهم ولو بما في يد العبد أو الأمة من قوت وذلك يضرّ بسيّده. وأمّا إن كانت القرابة بعيدة كالعمومة وبنيها، فإنّ ذلك ليس بعيب لفقد العلّة الّتي أشرنا إليها في هذا. هكذا وقع في الرّواية، وينبغي أنّ يرجع فيه إلى العادة في أمثالهم. وأمّا الأجداد فلم يلحقوا إلاّ (¬1) بالآباء. لكن بعض المتأخّرين مال إلى أنّ الجدّة للأمّ في حنين ولد ابنتها إليها، فقد يفسده، وفي ذلك على سيّده ضرر. ولو مات أحد من هذه القرابة القريبة قبل الرّدّ بالعيب لارتفع القيام به. وأمّا إنّ وجد في أباء الأمة أو العبد مجذومًا، فإنّه عيب يوجب الرّدّ لكونه تبقى غائلته في النّسل. وقد يكون الجذام من فساد في النّطف فيعدي ذلك في النّسل. وأمّا الجنون فيردّ به العبد والأمة، وإن كان أحد من الآباء، وذلك لفساد في الطّباع بأن يكون حكمه حكم الجذام إِذا وجد بأحد الآباء. وأمّا إن كان من مسّ الجنّ، فإنّ ذلك لا يخشى منه على النّسل. وأمّا إن كانت الأمة أو العبد أولاد زنى، ذكرًا أو أنثى، من العلية، يرد بذلك لكونه نقصًا فيهم. واختلف في الوخش هل ذلك عيب فيهم أم لا؟ وأمّا إن وجد أحد آبائه أسود، فإنّه ليس بعيب في الوخش. واختلف في العليّة هل هو عيب لما يتوقّع من خروج الولد أسود. وقد أشار عليه السلام في الحديث إلى هذا المعنى، ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب حَذف إلاَّ.

فقال: لعلّ عرقًا نزعه (¬1). أو ليس بعيب لكون ذلك مِمّا لا ينقص من الثّمن. وأمّا إن وجد العبد أغلف والأمة غير مخفوضة، فإن كان ذلك في رقيق العجم المجلوب، ولم تطل إقامته عندنا، فإنّ ذلك ليس بعيب لكون المشتري على ذلك دخل، وإن كانوا مِمّن طالت إقامتهم عندنا، أو ولدوا عند المسلمين، فاختلف فيه هل هو عيب أم لا في الوخش؟ وأمّا العلي هو عيب فيه. ولو ثبت أنّ الأمة ادّعت على سيّدها أنه أولدها وأنّها حرّة، فإن ذلك عيب، للمشتري أن يردّ المبيع لأجله. لكون ذكرها لهذا مما يشكّك في وطئها وغشيانها واستباحتها. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: أمّا العيوب فيما سوى الحيوان، فإنّه إمّا أن يكون دارًا أو ثيابًا أو ما في معناهما من السلع. فأمّا إن كان في دار، فإنّه قال في المدوّنة، فيمن اشترى دارًا فوجد بحائط منها صدعًا إنّه إن كان يخاف على الدّار أن تنهدم بسببه كان له الرّدّ به، وإن كان لا يخاف ذلك، فلا ردّ له. ووقف في الجواب عن (¬2) هذا. لكن ابن الموّاز ذكر أنّه لا يردّ به، ولكن يرجع بقيمة العيب إِذا كان يسيرا. قال: وكذلك في كلّ عيب. وهذا الّذي ذكره ابن الموّاز هو الظّاهر المراد بما أطلقه في المدوّنة .. لكن ذكر في كتاب القسم من المدوّنة أنّ أحد الشريكين إِذا اطّلع فيما صار له بالأقسام في الرّبع على عيب يسير، فإنّه يقضى له بقيمته. وقد أكثر المتأخّرون القول في الفرق بين الدّيار وما سواها من المبيعات الّتي كان الحكم فيها أنّه لا يقضى له بقيمة العيب مع القيام يسيرًا كان أو كثيرًا، وإنّما يقضى بالرّدّ أو الإمساك. فقيل: لمّا كانت الدّيار المراد بها القنية والسكنى لا الإدارات والتّجارة لم لويؤثر العيب اليسير في عينها تأثيرًا يوجب الرّدّ. لكن يوجب ردّ ما نقص من الثّمن لئلاّ يكون البائع أمسك جزءًا من الثّمن من غير أن ¬

_ (¬1) فتح الباري ح15 ص191. (¬2) في المدنية: هل، وكلا النسختين لا يؤدي ما فيهما المعنى، ولعل الصواب: عند.

يدفع عوضه. وقُدِح في هذا بأنّ هذا التّعليل يقضي بأن لا يأخذ قيمة العيب، وقد أشرنا نحن إلى الإعتذار عن هذا الإلزام. وقيل: إنّما الفرق أنّ الدّيار لا يحاط بعيوبها اليسيرة، فصار ذلك عذرًا في المنع من ردّها. وقد قدح في هذا أيضًا بأنّ الرّقيق يكتم عيبه حتّى لا يكاد يحاط به، ثمّ مع هذالم يمنع هذا من ردّه. وقيل أيضًا: الفرق أنّ الدّيار لا يكاد تخلو من عيب يسير. فلو قضى بالرّدّ لأجل العيب اليسير مع كونها لا تنفكّ عنه، لكان في ذلك ضرر بالمتبايعين. وقدح في هذا أيضًا بأنّه يقضي بأن لا يرجع بقيمة العيب. وهذا أيضًا يجاب عنه بمثل ما قدّمنا من الإشارة إليه. وقيل أيضًا: الفرق أنّ الدّيار لا تباع في الأسواق غالبًا ويعرض فيها، كما يعرض سائر السلع، فلو قضينا فيها بالرّدّ بعيب يسير، لأضرّ ذلك بالبائع لكونه لا يجد بيعها كما يبيع السلع الّتي لا يطول السوق بها، ويضرّ ذلك بالمشتري لكونه لا يتأتّى له شراء مثلها على الفور. وقيلّ إنّ العيب اليسير منها يجري مجرى استحقاق اليسير منها لكونها ذات أجزاء، والدّار إِذا استحقّ منها الثّلث فأكثر، وجب ردّها، وإن كان أقلّ من ذلك، لم يجب للمشتري ردّ ما لم يستحقّ. وهذا أيضًا يقدح فيه بأنّ العيب اليسير فيها قد يسري إلى بقيّتها، بخلاف استحقاق ثوب من ثياب كثيرة. على أنّ بعضهم لم يعتبر في الاستحقاق الثّلث، وإنّما اعتبر ما يضرّ. ووكّد قياسهما على الاستحقاق قوم آخرون بان أحد جدرانها الأربع الجنوب والشمال والغربي والشرقي لو استحقّ، لم يكن به للمشتري مقال. وكذلك ينبغي أن يكون العيب اليسير. وهذا أيضًا مِمّا لا يستقلّ بنفسه. بل

يعارض بما في استحقاق أحد جدرانها الأربع. وإن سلم ذلك فلكون المشتري لا يلتفت إليه ولا يعرج عليه. وقيل أيضًا: إنّما الفرق كون الدّار يصلح عيبها بأن توقع (¬1) حتّى تعود كما كانت أوّلًا قبل أن تفسد، فصار العيب يقدَر على رفعه، فلم يوجب الرّدّ، ولكن أوجب القيمة, لأنّ العيب لا يرفع إلاّ بخسارة. وألزم على هذا أن يكون الثّوب لا يردّ بالعيب لكون الرتق يرفع فساده كما يرفع الترّقيع لِمَا انثلم من الدّار فسادها. فقد صار إلى هذا بعض المتأخّرين ورأى أنّ المقاطع لا ترد بالعيب اليسر. وهذا الّذي ذهب إليه هذا خلاف أصول المذهب وقواعده. فأنت ترى ما ذكروه من هذه الفروق الستّه وما قدح به فيها. والنّكتة الّتي يحوم عليها الجميع اعتبار الضّرر بالعيب وحصوله، والنّظر في مقداره فيما يخفّ ويكثر. وقد ذهب بعض الأندلسيين إلى أنّها تردّ بالعيب اليسير كما تردّ سائر السلع. ورأى أنْ لا فرق بين الدّيار والعروض في التّمكين من ردّها بالعيب اليسير. وهذا هو مقتضى القياس والظّواهر. وإنّما سلك الآخرون ذلك لما أشرنا إليه من اختلاف أحوال المبيعات في حكم الضّرر بالعيب ومقداره. وإذا تقرّر أنّها لا تردّ بالعيب اليسير، فما مقدار هذا اليسير؟ قال بعض الأشياخ هو ما كان لا يأتي على معظم الثّمن. فإِذا أتى على معظم الثّمن، كان ذلك عيبًا كثيرًا يوجب الرّدّ. وقال بعضم: اليسير فيه ما نقص عن الثّلث. وأشار بعضهم إلى اعتبار كون العيب شاملًا لسائر الدّار من جهة التأثير والقصد كبطلان بئرها بطلانًا لا ينصلح، أو ما جلها، أو سقوفها أو قناتها. ورأى أنّ ما كان كذلك يوجب الرّدّ لأنّه كعيب استولى على الكلّ. والجواب عن السؤال الرّابع أنّ يقال: أمّا ما لا يمكن الإطّلاع على باطنه إلاّ بعد نقض هيئته، كخشب اشتريت فنُشِرت، فوجد باطنها عفِنًا أو مسوّسًا. أو جوزًا وقثّاء وشبه ذلك، فكسر فوجد باطنها فاسدًا. أو جلودًا لم يظهر ما فيها ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب تُرَقَّع.

إلاَّ بعد دبغ أو قطع، فإنّ عن مالك في تمكين المشتري من الرّدّ بهذا العيب روايتان. وكذلك للشّافعي في ذلك قولان. وبإثبات الرّدّ قال أبو حنيفة. والمشهور عن مالك وأصحابه ألاّ ردّ بهذا العيب. لكن حكى القرويون عنه روايتين. وكذلك قال الأبهري: إنّ المدنيين من أصحاب مالك رووا عنه إثبات الرّدّ بهذا العيب، منهم المغيرة وغيره. وذكر ابن حبيب أنّ هذا إنّما يمنع به الرّدّ إِذا كان عيبًا في أصل الخلقة. وأمّا إِذا كان حدث بعد الصحّة وسلامة الخلقة، كعفن وشبهه حدث بعد الصحّة لسبب اقتضاه، فإنّه يجب به الرّدّ. وحمل بعض الأشياخ هذا على أنّه قول ثالث في المذهب. وما أراه كذلك لأنّ ابن حبيب أشار إلى أنّ هذا الّذي حدث مِمّا يعلمه قوم ويجهله آخرون، والكلام في هذه المسألة إنّما صوّرناه فيما يستوي المتبايعان في الجهل به ولا يمكن أحد معرفته، لا سيما وهذا الحادث بعد الصحّة ربّما كان عن سبب يعلمه البائع، مثل وضعه الخشب في مكان يظنّ من جهة العادة أنّه يفسدها. فإِذا تحقّقت الخلاف في هذا فسببه أنّ من نفى الرّدّ بهذا، قال: لم يزل الأمر جاريًا في سائر الأمصار على مرور الأعصار ببيع الدّيار مع كون باطن بنيانها مستورًا عن عين النّاظر لها. وقد يكون بحجر مكسور أو صحيح ولا ينكر هذا منكر. فاقتضى هذا وقوع العقد على ظواهر الأمور دون بواطنها. وهذا الاعتلال قد يجاب عنه بأنّ هذا غرر غير مقصود، ولا يقدر على رفعه. ولو اطّلع على أنّ البناء الباطن بخلاف ما جرت به العادة مِمّا يعلم أنّه لا يدخل عليه المشتري لكان له بذلك مقال. وقد ذكر ابن الموّاز عن مالك إشارة إلى قريب من هذا المعنى. فذكر عنه أنّه قال: هذا الأمر ثابت، عليه يدخل البائع والمشتري، والتبايع على ذلك وقع. وهذه منه إشارة إلى أنّ هذا العقد وقع بالبراءة من هذا العيب الباطن، وسومح فيه بالبراءة للضّرورة إلى ذلك، وكونه غررًا غير مقصود. وأمّا من أثبت الرّدّ، فإنّه يقول: مطلق العقد يقتضي سلامة المبيع من

العيب، وإن لم يشترط السلامة. فإِذا لم يوجد الخشب أو الجوز سالمًا، فقد وجب له أنّ يردّ. فيكون الإطّلاع عليه حال العقد لا يرفع حقّ المشتري فيما ثبت له مِمّا دخل عليه من سلامة المبيع، كما لو اشترط سلامته. وقد ورد الشّرع بالرّدّ بعيب التّصرية مع كون المشتري لا يعلم التّصرية حال العقد. ويجاب عن هذا بأن التّصرية علمها البائع ودلس بها، ويمكن أنْ يعلمها غيره حين العقد. فلم يكن كمبيع لا يمكن أن يعلم عيبه حال العقد أحد المتبايعين. وقد وقع في الموّازيّة لأشهب وغيره: أنّ ما يمكن اختباره والاطّلاع على عيبه حال العقد، كالجوزة والجوزتين وقثاءة واحدة أو قثّاءتين، فإن هذا يردّ به إذا وجد باطنه رديّا. وهذا وإن أطلق مالك الجواب في كون القثّاء لا تردّ إِذا وجدت مرّة، فطرْد ما قدّمناه من التّعليل يقتضي إِذا أمكن العلم بباطن القثاءة الواحدة والعدد اليسير من القثاء قبل أن يُقطع، مثل أن يذاق باطنه بشيء يدخل فيه، وتختبر الجوزة والجوزتان إختبارًا يعرف به حالهما قبل الكسر. وأمّا الأحمال من القثاء وما لا يمكن اختبار جميعه، ففي الموّازية أيضًا أنّه لا يردّ به إلاَّ أنّ يكون كلّه مرًّا أو أكثره. فإنّ العمل إِذا كان كلّه مرًّا لا يكاد يخفى ذلك على بائعه. وأمّا البيض فإنّه يردّ بالعيب إِذا اطّلع عليه بعد أن كسر، لكونه مِمّا يعلم فساد باطنه قبل كسره. وهذه المبيعات الّتي ذكرنا أنّها لا تردّ بالعيب الباطن لازمة للمشتري كسرت أو لم تكسر. وما ذكرنا من أنّه يردّ بالعيب الباطن، فإنّ المشتري لا مطالبة عليه في كسره إن كان البائع مدلّسأوله الرّدّ بالعيب، إلاّ أن يقطع ما يقطع أو ينحت من العود ما ينحت ويصير في حكم الفائت، فإنّه لا يردّه وإنّما له قيمة العيب على ما قدّمنا ذكره. لكن (¬1) فيمن قطع ثوبًا، دلّس البائع بعيبه، قطعًا لا يقطع عليه مثله، كقطعه تبابين. وأمّا إن كان البائع غير مدلّس، فإنّ للمشتري أن يرد المبيع، ¬

_ (¬1) هكذا.

ويردّ ما نقصه القطع. وإن كان ذلك بيضأوكسره ثمّ اطّلع بعد كسره على عيبه، فإنه يقضى له بقيمة العيب، ويعدّ ذلك كفوت المبيع. هذا إِذا كان مِمّا يسوغ بيعه، وأمّا إن كان فساده من جهة أنّه صار كالميتة لا يؤكل، فإنّ البائع يردّ الثقن كلّه. والجواب عن السؤال الخامس أنّ يقال: قد ذكرنا حكم العيوب الّتي تتضمّن السلامة منها إطلاق العقد. فأمّا ما لا يتضمّنه إطلاق العقد، لكنّه اشترط في أصل العقد، فإنّه متى وافق المبيع شرط المشتري فواضح ألاّ مقال له. وإن خالف المبيع شرطه، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام. أحدها: أن يجد المبيع على صفة هي أدنى مِمّا اشترط، كعبد بيع على أنّه من قبيلة، فوجد من قبيلة أخسّ منها وأقلّ ثمنًا، فإنّ هذا للمشتري الرّدّ به. وإن وجد المبيع على صفة هي أفضل وأعلى ثمنًا مِمّا اشترط، فإنّه لا مقال له، إلاّ أن يتبيّن له غرض فيما اشترطه، فإنّه من حقّه الرّدّ، وإن كان المبيع على صفة هي أعلى مِمّا اشترط، مثل أنّ يشتري أمة نصرانيّة فوجدها مسلمة، فإنّه لا ردّ له، لكون المسلمة أفضل من النّصرانية. إلاّ أن يعتلّ المشتري أنّه إنّما اشترط كونها نصرانيّة لكونه أراد أن يزوّجها عبدًا له نصرانيًّا، فإنّ هذا إِذا علم صحّة عذره كان الرّدّ له. وكذلك إِذا اعتذر أنّه سبقت منه يمين ألا يملك مسلمة. وأمّا لو اشترط صفة فوجد المبيع على صفة أخرى لا يتّضح تفاوت ما بينهما في الجودة والدّناءة، ولكنّ الصفتين متقاربتان تقاربًا تختلف أغراض النّاس فيه، فإنّ له الرّدّ بذلك. وقد مثل في الرواية هذا برجل اشترى أمة على أنّها خراسانيّة، فوجدها بربريّة أو على أنّها بربريّة فأصابها خراسانيّة، أنّ له الرّدّ بذلك لأجل اختلاف أغراض النّاس في هذين الجنسين. ومثل أيضًا في الرّواية اختلاف الجنسين بأمة بربريّة أو صقلبية. فذكر أنّ من شرط صقلبية فوجدها بربريّة لا ردّ له، لكون البربريّة عنده أفضل. قال: إلاّ أن يكون اشترط ذلك لما يخاف من حريّة البربريّة وسرقتهنّ، فإنّ هذا عذر له يوجب له الرّدّ.

وقد اختلف النّقلة في قوله: وحرّيتهنّ. فقال سحنون: وحرّيتهن معنى سرقتهنّ أنهنّ يسرقن وهنّ أحرار. وهذا التّأويل يكون مؤكّدًا لرّواية من روى وحرّيتهنّ. وقد قيل للشّيخ أبي بكر بن عبد الرّحمان: إن النّصرانيّة عند أهل صقليّة أعلى ثمنًا من المسلمة. فقال: إِذا اشترط كونها نصرانيّة فوجدها مسلمة والأمر كذلك عندهم، فإنّ له الرّدّ، وأنا أستعظم أن أجعل الإِسلامَ عيبًا. وهذا الّذي قاله طرد ما قدّمناه من الرّواية في أنّ من وجد أفضل من شرطه لا ردّ له إلاّ أن يكون له غرض فيما اشترط. وقد ذكر في المدوّنة أنّ مالكًا سئل عن رجل اشترى أمة ليتخّذها أمّ ولد فوجدها عربيّة، فأراد ردّها، واعتلّ بأنّه إِذا أعتقها جرّ العرب ولاءها, ولم يكن ولاؤها لولده. فلم يرَ له مالك هذا يوجب الدّدّ ولم يعذره به. واعتذر المتأخّرون عن قوله: جرّ العرب ولاءها، فقالوا: المراد به ميراثها، وأخذ ما تترك من مال. وأمّا الولاء فلم يجرّه عن العتق أحد، إلاّ في بعض الصّور الّذي نذكر في كتاب الولاء. واختلف المتأوّلون فيما اعتلّ به السائل لمالك، فقال المغامي: مراد السائل أنّها إِذا كانت عربيّة، فإنّها تنسب للقبيلة الّتي هي منها، وتشتهر بذلك حتّى يندرس كون هذا الّذي أعتقها يستحق ولاءها. وقال بعض الأشياخ: إنّما المراد أنّ الغالب وجود عاصب لها يرثها بالنّسب، والنّسب مقدم على الولاء، لكون العربيّة يحتفظ على نسبها ويعلم أصلها، بخلاف العجميّات اللاّتي لا يعرف لهنّ جدود أسلاف. وقيل أيضًا إنّ مراد السائل أنّه يعلم أنّ لها عاصبًا جهل أمره فلا تورث بالولاء، ويتصدّق بمالها كما يتصدّق باللّقطة الّتي جهل مالكها، واعتقد السائل غلطًا منه أنّ هذا هو الحكم، فردّ عليه مالك غلطه وأخبره أنّ هذا ليس بعذر. إلى هذا أشار بعض المتأخّرين.

ولكن لو كان هذا هو مراد السائل، لوجا ذلك في العجميّات أيضًا لأنّه يعرف أنّ العجميّة لا بدّ لها من عاصب، ولكنّه مجهول أيضًا. وإن افترق الحال يكون العجميّة لا يرجى العثور على عاصبها ويرجى ذلك في العربيّة. وقد سئل يحيى بن عمر عن قرشيّ تزوّج أمة رجل من العجم واستولدها، وأعتق سيّدها ولدها، فقال يبيح بن عمر: ينسب هذا الولد إلى قريش كأنّه ما مسه رقّ قطّ. وأحتجّ بما نقلناه عن مالك في المدوّنة، فأشار بهذا القول إلى أنّه لا يكون للمعتق ولاء إِذا كان المعتَق عربيًّا. فإنّ هذا قد صرّح به بعض الأندلسيّين، فقال: مالك وأصحابه مجمعون على أنّ من أعتق عربيًّا، فإنّه لا ولاء له بعتقه، إلاّ أشهب فإنّه قال: الولاء للمعتق اتّباعًا لعموم قوله عليه السلام: "الولاء لمن أعتق" (¬1). ولم يفرّق بين كون المعتق عربيًّا أو أعجميًّا. وذكر ابن شفاعة: أنّ فقهاء الأمصار مجمعون على أنّ الولاء للمعتق، وأنّ أهل العلم لم يختلفوا في أنّ الجاهليّة كانت تسبي بعضها بعضًا. وقد سبي زيد بن حارثة واشترته خديجة ووهبته للنبيّ فأعتقه، فكان ولاؤه له - صلى الله عليه وسلم -. وسبت الرّوم صهيب بن سنان فاشتراه أبو بكر رضي الله عنه فأعتقه، فكان ولاؤه له. وهذا الّذي ذكرناه من الخلاف يقتضي ظاهر الشّرع كون الولاء للمعتق، وإن كان المعتَق عربيًّا. ولا معنى لهذه التّفرقة بين كونه عربيًّا أو أعجميًّا، إلاّ أن يقال: لا بدّ للعربي من عاصب يعلم، فلا ينقطع الولاء ها هنا لوجود نسب هو مقدّم في الشرع عليه. وقد كنّا أشرنا إلى أنّ العيب يردّ به وإن لم يشترط السلامة منه في أصل العقد. لكون ذلك كالمشترط في العرف عند المتعاقدين. وأمّا تعيين جنس دون جنس، فلا يتضمّنه إطلاق العقد. وإنّما يبقى النّظر في دلالة العرف عليه. وقد كنّا قدّمنا الرّواية فيمن اشترط كون الأمة نصرانيّة فوجدها مسلمة، فإنّ ذلك لا ردّ له به، لكون ما وجد أفضل مِمّا اشترط، إلاّ أن يتميّز غرض المشترط بدليل شاهد الحال. ¬

_ (¬1) متفق عليه من حديث عائشة فيض القدير ج6 ص377 ح9686.

وذكرنا أيضًا أنّ إطلاق العقد على الأمة لا يتضمّن بكارة أو ثيوبة، ولا ردّ له إِذا وجد الأمة ثيّبًا، وقد وقع العقد مطلقًا. لكن وقع في الرّواية أنّه من اشترى سمنًا فوجد سمن بقر، فقال: إنّما أردت سمن غنم، أنّه يردّ ذلك لكون سمن الغنم أطيب. وهذا الّذي قاله كأنّه يشير إلى خلاف ما قدّمناه, لأنّه لم يجعل الثيّوبة عيبًا مع كون البكارة أفضل، وجعل كون السمن سمن بقر يقتضي الرّدّ إِذا كان سمن الغنم عندهم على مقتضى عرفهم أفضل. لكن قد يقال في هذا: إنّ الثّيوبة هي الغالب، وعليها يدخل المتعاقدان، ألا ترى أنّه لو كانت الأمة من صغر السنّ بحيث ما (¬1) الظّاهر من حالها البكارة، أنّ للمشتري مقالاَ إِذا وجد ثيبًا. وأمّا السمن فلعلّه اعتقد أنّ سمن الغنم هو الغالب عندهم وعليه دخل المشتري، فلهذا جعل له الرّدّ. ووقع أيضًا في الرّوايات فيمن اشعرى، قلنسوة سوداء، فوجدها ركبت من ثوب ملبوس، أنّه لا مقال له إلاّ أن تكون ركبت من ثوب خلق. وقال، فيمن اشترى جبّة ركبت من ثوب لُبِس أسمر ثمّ بُيض، وركبت منه الجبّة، إنّ هذا عيب. وهذا أيضًا أشار بعض الأشياخ إلى أنّه اختلاف قول، ويمكن أن يكون العذر عن هذا أنّ القلانس تركب عندهم غالبًا من ثياب ملبوسة ولا تركب الجبّة والثّوب من ثياب ملبوسة. وهكذا أيضًا قال، فيمن وجد قلنسوة حشوها صوف أو قطن جديد وقديم: إنّه لا يردّ المشتري بذلك إِذا لم تكن رفيعة. وهذا أيضًا لكون العادة تقتضي عندهم حشو الدنية بمثل هذا، بخلاف الرّفيعة. وهذا يشير إلى ما أصّلناه من اعتبار النّطق المشترط به صفة في البيع أو عرف يقوم مقام النّطق. قال القاضي أبو محمّد رحمه الله؛ ولا يجوز لبائع السلعة المبيعة أن يكتم عيبها لأنّ ذلك غشّ. ولا يقبل دعوى المبتاع إن بان (¬2) بالسلعة عيبًا دون أن ¬

_ (¬1) (ما) مثبتة في النسختين، والأولى حذفها. (¬2) هكذا في النسختين. وفي غ والغاني: أن بالسلعة عيبًا.

يأتي ببيّنة بمشاهدته (¬1) إن كان مشاهدًا أو بالبيّنة إن كان غير مشاهد. ثمّ لا يخلو أن يكون مِمّا لا يحدث عند المشتري أو يكون مِمّا لا (¬2) يعلم أنّه لم يكن عند البائع. والقول في الموضعين قول من قوي سببه منهما مع يمينه. أو يكون محتملًا، فالقول قول البائع مع يمينه، إلاَّ أن ينكل فيحلف. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - لم حرم على البائع أن يكتم عيبًا بالمبيع؟ 2 - وما حكم التّداعي في العيوب؟ 3 - وما صفة اليمين في التّداعي؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: قد قدّمنا الدّلالة على منع التّدليس. وتكلّمنا على قوله عليه السلام: "من غشنا فليس منّا" (¬3). وذكر ما قيل في تأويل هذا الحديث من أقوال كثيرة. والغشّ هو كتمان العيب، والتّدليس، والتغرير بالمشتري فيه. وذلك مِمّا لا ينحصر. لكن منه أمور ظاهرة لا يحتاج إلى تبيينها، ومنه ما يفتقر إلى تبيينه. مثل ما وقع في الرّواية من منع الفّرايين من أن يُتَرِّبوا وجوه الأفْرية ليتزيّن ويستر ذلك عيوبها. وهذا التّحسين ربّما اعتقد المشتري أنّه صفة ثابتة لها في الأصل غير مصنوعة. وربّما اعتقد أنّ ذلك لا يستر عيبًا فيرغب المشتري، فهذا من الغشّ. لكنّ البيع إِذا وقع والمشتري عالم بأنّه قد ترّبها بائعها، فلا ردّ له. وقال ابن الموّاز: إلاّ أن يكون اطّلع على عيب، فإن لم يكن علم بأنّها مترّبة، فله الرّدّ قبل أن يطّلع على عيب. وهذا الّذي قاله تمكينه من الرّدّ قبل ظهور عيب يوجب الرّدّ إِذا لم يعلم بكونها مترّبة، إنّما صار إليه لأجل أنّ المشتري يكره التّمسك بها مع كونه يجوّز ¬

_ (¬1) في غ والغاني: دون أن يبيّنه بالمشاهدة. (¬2) (لا) ساقطة في غ، والغاني. (¬3) إكمال الإكمال ج1ص210/ 211.

عيوبًا سترت عنه، وستظهر له في ثاني حال. وأمّا إطلاق الرّواية بأنّه إِذا علم بالتّتريب فلا ردّ له، فإنما ذلك إنّما صار إليه لأجل هذا العيب الّذي تخشى عاقبته. لكن استدرك ابن الموّاز في هذه الرواية أنّ له الرّدّ بعيب يَظْهَر يمكن أن يكون رأى أنّ ذلك، وإن دخل عليه المشتري، كالبراءة من العيب، والبراءة من العيوب في العروض لا تصحّ، ولا يصح العقد على أنّ المشتري لا قيام له بالعيب متى ظهر له. وهذا وإن (¬1) لم يكن البائع عالمًا بالعيب. وأمّا إِذا كان عالمًا به، فلا تصحّ البراءة منه ومن سائر العيوب على الإجمال. ومن الغشّ أيضًا خلط طعام جيّد برديء، كخلط تمر جيّد برديء، أو عسل جيّد برديء، أو لحم هزيل بسمين. ويُنهَى الجزّار عن خلط اللّحم الجيّد بالرّديء. وإن نقص له ذلك. فإن اشترى مشترِ منهم على ذلك، فإنّ البيع ماضٍ فيما قلّ كأرطال يسيرة، وأمّا أرطال كثيرة كعشرين أو ثلاثين، فإنّ ذلك لا يجوز حتّى يعلم مقدار السمين من الهزيل. وإنّما فرّق بين اليسير والكثير في هذا لأن اليسير يفرز حميده ورديه، ويعلم فيه أحدهما من الآخر على جهة التّخمين، بخلاف ما كثر من ذلك. ويتصدّق بما قلّ من لحم أو طعام إِذا كان يسيرًا عقوبة في المال مع الأدب. بخلاف الكثير الّذي يشتدّ الضّرر بإتلافه على صاحبه ويباع عليه مِمّن يؤمن أن يدلّس به، ويعاقب من غشّ بضرب أو حبس أو إخراج من السوق إِذا كان معتادًا لذلك. وقد قال مالك في الموّازيّة فيمن يفجُر في السوق ينبغي أن يُخرج، فهو أشدّ عليه من الضّرب. والتّحقيق في هذا صرف العقوبة إلى الاجتهاد في جنسها ومقدارها لاختلاف موقعها في العصاة. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: لا يخلو العيب من أن يكون ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.

مشكوكًا فيه أو متحقّقًا. والشّك فيه على قسمين: أحدهما: أن يشكّ في وجوده وحصوله. والثّاني: أن يتحقّق وجوده ويشكّ في زمن ابتداء وجوده. وإن كان متحقّقًا، فلا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يتحقّق كونه عند البائع أو عند المشتري. فأمّا إِذا كان الشّكّ في وجوده وحصوله، فإنّه لا يقضى للمشتري بردّ المبيع، لكون البيع أصله الانعقاد، واتّفق المتبايعان على لزومه وثبوت الثّمن على المشتري، وانتقال ملك المبيع إليه. فعلى من يّدعي حلّ هذا المنعقد عليه إثبات ما يحلّه والمشكوك فيه غير ثابت. وقد قال ابن الموّاز لا يردّ المبيع بالعيب إلاّ أن يجتمع عليه رجلان عدلان من أهل البصر والمعرفة، أوامرأتان فيما لا يطّلع عليه إلاّ النّساء، كعيوب الفرج والحمل وشبهه، فإنّ امرأتين تقومان مقام رجلين للضرورة إليهما. ومن يعلم علمه، وقرأ كتبه، وصحب علماءه، فإنّ هذا ينبغي أيضًا أن يتطلّب فيه ثبوته بشهادة من كان عدلًا عارفًا بهذه الأدواء الّتي لا يعرفها إلاّ الأطبّاء. فإن لم يوجد من يعرف هذا إلاّ من ليس بعدل من أهل الإِسلام أو من غيرهم من اليهود والنّصارى اكتفى بهم في هذا .... (¬1). ومن هذه الطّريق تقبل للضّرورة إليه كما تقبل شهادة الصبيان في الجرإح للضّرورة إليها. ولو اختلف الشّهود فقال عدلان: هذا عيب ينقص الثّمن، وأكذبهما اَخران، فإنّ هذا التّكاذب يسقط الشّهادتين ويعود العيب غير ثابت، فلا يجب به الرّدّ. وكذلك لو اشترط المشتري جنسًا اختلف فيه الشّهود، هل هو من المشترَط أم لا؟ فإنّه لا يلزم ردّ البيع لهذا الاختلاف. فمحمل هذا على أنّ ¬

_ (¬1) بياض بالنسختين مقدار ست كلمات.

المشتري قبض المبيع مصدّقًا للبائع أنّه من الجنس الّذي اشترط. فيكون البائع هو المدّعي والمّدعي إلزام المشتري البيع، فلا يصدق إلاَّ بإثبات. وأمّا لو قبضه مصدّقًا للبائع أنّه على الصّفة الّتي اشترط، لكان المشتري ها هنا هو المدّعي، والمدّعي لحلّ منعقد يكون عليه الإثبات. وقد قدح في هذا الّذي أصّلناه بأنّ اختلاف الشّهادة والشّكّ في حصول العيب عيب، د ان لم يكن العيب متحقّقًا، لكون النّاس يجتنبون في المبيع ما التبس أمره ويقفون عن شرائه. وقد كنّا قدّمنا أنّ الأمة إِذا ادّعت أن سيّدها أَوْلَدها أو أعتقها, ولم يثبت لها ذلك، وباعها سيّدها مِمّن لا يعلم دعواها هذه، أنّ ذلك عيب، لكون النّاس يجتنبون شراء ما وقع فيه هذا الشّكّ والالتباس. ولكن العذر عن هذا أنّ هذه الشّكوك حدثت بعد انعقاد العقود وانبرامها فلم يؤثّر في المنعقد شكّ حدث بعد انعقاده بخلاف شكّ يحدث ويثبت حصوله بعد (¬1) انعقاد البيع. وأمّا العيب (¬2) من ناحية زمن العيب، فإنّ البائع والمشتري لو اختلفا في زمن عقد البيع في المحرّم. مثل أن يقول البائع: لم يكن في المحرّم انعقاد البيع، ويقول المشتري: بل كان انعقاد البيع فيه، فإنّ أصبغ ذكر أنّ القول قول البائع، لأنّ المشتري يدّعي تاريخًا يوجب نقض البيع المنعقد. وساوى بين أن يكون المشتري نقد الثّمن أو لم ينقده. وأشار إلى المسألة الّتي اختلف فيها ابن القاسم في أحد الثّوبين إِذا فات، وردّ الآخر بالعيب، واختلفا في قيمة الفائت. وقد ذكرنا مذهب ابن القاسم في التّفرقة فيها بين أن يكون البائع انتقد الثّمن أو لم ينتقده. وهذا الأصل في اختلاف التّواريخ الّتي يختلف الضمان باختلافها مختلف فيه، سنتكلّم عليه في اختلافهما في العهدة وغيرها. وإذا تقرّر هذا، فإنّ العيب المشكوك فيه وإن لم يوجب الرّدّ، فإنّه يوجب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عند. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب وأما الاختلاف.

تحليف البائع أنّ هذا العيب لم يكن عنده، لأجل هذه الشّبهة الّتي وقعت في النّفس من إشكال الأمر على الشهود، وتجويزهم قدم العيب وحدوثه. وليس كلّ شكّ يوجب تحليف المدّعى عليه. لكن لمّا كان هذا الشّكّ له مستند حاصل مشاهد وهو العيب، قويت هذه الشّبهة حتّى أوجبت اليمين على البائع مع هذا الشّكّ. ولو كان المشتري قاطعًا بأنّه لم يحدث عنده والبائع قاطع بأنّه لم يحدث عنده، لخرجت اليمين ها هنا عن تعلّقهما بالشّكوك ووجبت اتّباعًا للأصول في الدّعاوي. ألا ترى أنّ من شكّ: هل له عند رجل مال، فإنّه لا يستحلفه بالشّكّ، ولا يمكن من خصومته، لمّا لم يكن لهذا الشّكّ مستند ولا شبهة يستند إليها. ولو كان عليه دين فشكّ. هلا قضاه أم لا؛ فإنّ تمكينه من تحليف من له الدّين فيه اختلاف في المذهب. فكأنّ من نفى اليمين عن صاحب الدّين يرى أن شكّ الغريم في قضاء الدّين لا مستند له، ولا شبهة توجب تعلّق اليمين لمن له الدّين. ومن أوجب على من له الدّين يمينًا رأى أنّ الشّكّ في قضاء الدّين يصيّر الدّين مشكوكًا في ثبوته في ذمّة الغريم، وصاحب الدّين يقطع أنّه لم يقضه شيئًا، وأنّ الدّين ثابت، فيكون القول قول الطّالب ها هنا ولكن مع يمينه لحصول شكّ في عمارة ذمّة الغريم. وهذه مسائل كما ترى تارة يقوى مستند الشّكّ، وتارة يضعف فيسقط اليمين. ومن احتاط للأقدار ألاّ ستهضم (¬1) بالاستحلاف بالتّجويز والشّكّ أسقط اليمين. ومن نظر لصيانة الأموال على أربابها أوجب اليمين. ألا ترى أنّ رجلًا لو اشترى عبدًا فزنى عنده أو أبق، وحقّق الدّعوى على بائع العبد، أنّ ذلك كان عنده لم يُعلم به حين العقد المشتريَ، وإنّما استفاد علمه الآن وثبت أنّ العبد أبق عند المشتري أو زنى، فإنّ البائع يحلف ها هنا من غير خلاف لوجود العيب المشاهد. وهو سبب تستند إليه الدّعوى وقارنه تحقيق الدّعوى على البائع. وأمّا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُهضَم.

لو لم يأبق عند المشتري ولا زنى، ولا حقّق الدّعوى على البائع بأنّ ذلك كان عنده، ولا أسند هذه الدّعوى أنّ ذلك كان عند البائع إلى خبر مخبر، فإنّه ها هنا لا يستحلف البائع بغير خلاف، إذ هذا التّجويز لا مستند له أصلًا وهو مِمّا يتكرّر ويتعدّد أجناسه، فسقطت لما فيها من الإضرار بالبائعين مع كونها لا مستند لها. ولو أنّه قال: أخبرني مخبر بهذا أنّه كان عندك هذا العيب، ولم يدّعِ المشتري أنّه رآه منه وهو عنده ولا حدث عند المشتري، ولكن إنّما عوّل في الدّعوى على خبر مخبر، فإنّ هذا يوجب استحلاف البائع على أصل ابن القاسم، ولا يوجب استحلافه على أصل أشهب على حسب ما اختلف ابن القاسم وأشهب في المشتري إِذا قام بعيب، فقال البائع للمشتري: تحلف لي أنّك ما رأيته، أو ما رضيته، أو ما سوقت بالمبيع مع علمك بالعيب. فإنّ ابن القاسم قال في هذا: لا يلزم المشتري يمينًا، إلاّ أن يزعم البائع أن مخبرًا أخبره عن المشتري بهذا، فيحلف المشتري حينئذٍ على هذا. وذكر ابن أبي زمنين عن مشائخه زيادة شرط آخر وهو أن يحلف البائع: لقد أخبره مخبر. وأسقط أشهب اليمين في هذا, ولو زعم البائع أنّ مخبرًا أخبره. فكأنّ ابن القاسم رأى أنّه إِذا لم تستند هذه الدّعوى إلى قطع ولا إلى ظنّ من ناحية الأخبار، صارت ضربًا من التّجويز الّذي لا مستند له ولم يلزم به يمين. فإِذا ذكر أنّ مخبرًا أخبره، صار للدّعوى مستند وهو ظنّ المدّعي، فكان لهذا التّجويز تأثير لاستناده إلى ظنّ. ومن اشترط من المشائخ الّذين أشرنا إليهم استحلاف البائع أنّ مخبرًا أخبره أراد تقوية الظّنّ لئلاّ يكون البائع كذب في قوله: أخبرني مخبر صدق. فلو سمّى المخبر وأحال على رجل بعينه، لاستغنى عن هذا اليمين. وبالجملة إن هذا اختلاف في حال، هل للأخبار والمخبر ها هنا شبهة ولطخ يستند إليه هذا الشّكّ أم لا؟ ولو ذكر أنّ المخبرين جماعة يقع له العلم بخبرهم حتّى يكون من حقّ

المشتري أن يردّ اليمين على البائع الّذي أدّعى أنّ المشتري رضي بالعيب. فتعلّقت اليمين ها هنا على من ردّها على البائع الّذي يحاول استحلافه على هذه الدّعوى. ولو ثبت إباق العبد عند المشتري ولم يثبت أنّه كان عند البائع، ولكن المشتري استدلّ بهذا أنّه ما كان عنده إلاّ وكان عند البائع، فإنّ في تمكينه من تحليف البائع اختلافًا. وهو أيضًا راجح إلى ما قلناه. فمن رأى أنّ حصول العيب عند المشتري وثبوت ذلك مستند لهذا التّجويز، مكّن المشتري من استحلاف البائع. ومن لم يرَ ذلك مستندًا اقتصر على تجويز المشتري في دعواه على البائع، لم يستحلف البائع قياسًا على ما قدّمنا في مثل هذا. ولو كان الإباق لم يثبته كونه عند المشتري ولا عند البائع، ولكن المشتري زعم أنّه كان عنده، واستدلّ بذلك على كونه كان عند البائع، لكان أيضًا في صفة استحلاف البائع خلاف. وهذا القسم دون الّذي قبله, لأنّ السبب الّذي يستند إليه ثبت في القسم الّذي قبل هذا بالبيّنة، فهذا القسم الآخر لم يثبت إلاّ باقتصار المشتري على الدّعوى. ولو قال العبد: إنّي زنيت أو سرقت وأنا عند مولاي. لاستحلف البائع، لكون قول العبد لطخًا. وهو أيضًا أضعف من الأقسام الّتي تقدّمته. فإِذا تقرّر حكم العيب المشكوك فيه وأنّ القول قول البائع لكون البيع منعقدًا، والمشتري يدّعي سببًا يحلّه، فإنّه لو كان بالمبيع مع هذا العيب المشكوك فيه عيب ثبت قدمه عند البائع، فإنّ هذا العيب القديم يوجب حلّ هذا البيع المنعقد. فيكون القول قول المشتري في هذا العيب المشكوك فيه: إنّه لم يحدث عندي. لأنّ لمّا انحلّ بالعيب القديم، صار البائع مدّعيًا على المشتري غرامة تلزمه له، وهو أن يردّ قيمة هذا العيب الّذي زعم البائع أنّه حدث عند المشتري، والأصل براءة ذمّة المشتري، وقد قدّمنا استصحاب الأصل، وهو ما

اتّفق المتبايعان هو الّذي تسند الأحكام إليه (¬1). فإِذا كان العيب المشكوك فيه منفردًا، استصحبنا حال انعقاد البيع، فلا يصدّق المشتري في حلّه وردّه. وإِذا وجب ردّ البيع بالعيب القديم، استصحبنا براءة ذمّة المشتري من غرامة، فيكون هو المصدّق فيما ينفيها عنه. ولو كان بالمبيع ثلاثة عيوب: عيب ثبت قدمه عند البائع، وعيب ثبت حدوثه عند المشتري، وعيب شكّ فيه هل هو حدث عند البائع أو عند المشتري، لبدأنا باستعلام ما عند المشتري. فإن اختار الرّدّ بالعيب القديم، فقد انحلّ البيع. فيكون القول قوله في العيب المشكوك فيه: أنّه لم يحدث عندي، استصحابًا لكونه بريء الذّمّة من الغرامة، فيردّ العبد ولا يردّ معه قيمة نقص. وإن اختار المشتري التمسّك بالمبيع وأخذ قيمة العيب كان القول قول البائع في العيب المشكوك فيه: أنّه لم يحدث عندي، استصحابًا أيضًا لبراءة ذمّته من غرامة. والمشتري لم يثبت له عليه إلاّ غرامة عيب واحد، والآخر الذي هو مشكوك فيه لم يثبت ما يوجب على البائع غرامته، فلهذا صدق فيه. وإِذا ادّعى المشتري على أنّه دلّس عليه بالعيب وقد اشترى ثوبًا فقطعه أو أحدث فيه ما يوجب ردّ قيمة النّقص مِمّا يسقط عنه لو ثبت تدليس البائع، فإنّ القول قول البائع أنّه لم يدلّس، أو أنّه أنسي ذكر العيب عند عقد البيع، لكون الأصل عدم علمه. فيستصحب هذا الأصل على ما قرّرناه. لكن اشترط في المّوازيّة في (¬2) استحلاف البائع على هذا لأنّه لا يقضى للمشتري إلاّ إِذا اختار أن يردّ المبيع بالعيب، فيلزمه ردّ ما نقص، فيحلف البائع ¬

_ (¬1) كذا بالنسختين. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف "في".

على نفي التّدليس لتثبت له غرامة. وأمّا إن أراد المشتري التمسّك وأخذ قيمة العيب، يجب (¬1) على البائع، سواء دلّس أو لم يدلّس. فلا فائدة في استحلافه على أنّه لم يدلّس، والأيمان إنّما تتعلّق فيما يفيد المدّعي. وهذا مثل ما يقال فيمن ملك زوجته، فقضت بالثّلاث، فناكرها في عدد الطّلاق وزعم أنّه أراد تمليكها طلقة واحدة، فإنّ القول قوله مع يمينه، ولكن (¬2) يستعجل استحلافه عند المناكرة، إلاّ إِذا أراد الرّجعة وإستباحة الزّوجة فيمنع من ذلك حتّى يحلف، على ما سنبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثاّلث أن يقال: إذا ثبت قدم العيب، لم يحلف المشتري إِذا ردّ لثبوت ما يستحلف عليه وهو قدم العيب. وقد قدّمنا فيما سلف أنّ العيب القديم يوجب الرّدّ ولو كان عيبًا ظاهرًا. قال ابن الموّاز: طال الزّمان أو لم يطل. وذكرنا أنّه لا يمين. وإنّ القول الآخر استحلاف المشتري في هذا العيب إِذا كان ظاهرًا. وأمّا العيب المشكوك فيه، فإنّه إن كان خفيًّا، استحلف البائع على العلم، ويكتفَى بذلك, لأنّ قصارى ما فيه أنّه إِذا كان ظاهرًا، فإنّ البائع عالم به. وهو إِذا قال في يمينه: إنّي لم أعلم به، فقد كذب وفجر في يمينه. والأيمان إنّما وضعت لزجر الفاجر عن يمينه الكاذبة. وقال ابن القاسم: بل يحلف في العيب الظّاهر على البتّ, لأنّ الأظهر أنّ البائع لا يخفى عنه العيب الظاهر، وإِذا كان لا يخفى عنه، حلف على القطع: أنّه لم يكن عنده. والأصل في هذا أنّ كلّ من استحلف على إثبات فعل فعله هو أو فعله غيره، فإنّه يحلف على البتّ والقطع. لكونه يعلم فعل نفسه، ويعلم فعل غيره إِذا شاهده ورآه. وكلّ من استحلف على نفي فعل، فإن كان فعل نفسه حلف على البتّ لأنّه يعلم ما فعل وما ترك. وإن استحلف على أنّ غيره لم يفعل، حلف على العلم. لأنّه لا يمكن في غالب الأمران يقطع على غيره أنّه لم يفعل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيجب. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب لا يستعجل

كذا إلاّ في صور نادرة بتقييد وتحديد. وذهب ابن نافع في المدوّنة إلى أنّه يحلف على البتّ. ولم يفترق بين عيب خفيّ أو ظاهر. واحتجّ بأنّه لو ثبت قدم الغيب والبائع غير عالم به، لم يسقط حقّ المشتري في الرّدّ كونُ البائع لم يعلم بالعيب. وإِذا كان الأمر كذلك، فلا يجزيه أيضًا أن يقتصر على نفي علمه بالعيب لما قدّمناه من كون عدم علمه بالعيب لا عذر له به إِذا قامت البيّنة. وهذا الاحتجاج يجاب عنه بأنّ البيّنة إِذا ثبتت عدم (¬1) العيب فقد ثبت السبب الموجب للرّدّ ووجب حلّ البيع المنعقد. وإِذا لم يثبت العيب وكان مشكوكًا فيه، لم يجب حلّ البيع المنعقد يكون البائع غير عالم بالعيب. فهذا وجه هذه الأقوال الثّلاثة في العيب المشكوك فيه، تحليف البائع على البتّ في الوجهين، أو على العلم في الوجهين، أو تفرقة ابن القاسم بينهما. ولو نكل البائع عن اليمين فإنّ المشتري يحلف أنّ ذلك لم يكن عنده ويردّ البيع. واختلف قول ابن القاسم في صفة يمينه. فقال مرّة يحلف على حسب ما كان يحلف البائع في اليمين الّتي ردّها عليه إن كان العيب ظاهرًا، حلف على البتّ، وإن كان خفيًا، حلف على العلم. وهذا يشير إلى اختلاف قوله في صفة يمين البائع أيضًا. وأنّه قد يرى تحليف البائع في الوجهين على أنّه لم يعلم العيب على حسب ما قاله ها هنا في المشتري. ويكون هذا موافقة منه لما حكيناه عن أشهب أنّه يفرّق بين البائع والمشتري، ولا يقول في البائع أنّه يحلف في الوجهين على العلم لأجل أنّ العيب من جهته، ويمكن أن يكون دلّس به، فكان العمل عليه بأن يحلف على البتّ أوْلى من أن يحمل بذلك على المشتري. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قِدَم.

فقد قدّمنا نحن ما يشير إلى هذه التّفرقة لمّا اعتذرنا عن قول أهل المذهب إنّ المشتري إِذا حدث عنده عيب يسير لا يغرمه، أنّ البائع يردّ عليه المبيع بمثل هذا العيب لمّا كان العيب من جهة البائع، ويتّهم أن يكون علم به ولم يذكره. وكذلك أيضًا أشرنا إلى هذا المعنى في منشأ الخلاف بين مالك والشّافعي في المبيع إِذا حدث عند المشتري به عيب فاطّلع على عيب قديم، وإنّ الشّافعي يرى ذلك فوتًا يمنع من الرّدّ على البائع لكون البائع لا يلزمه أن يردّ عليه إلاّ ما باع بعينه، على حسب ما كان عليه. وأنّ مالكًا يرى أيضًا أنّ المشتري لا يلزمه قبول ما لم يدخل عليه، فلمّا تقابل الأمران، غلب مالك رضي الله عنه جنبة المشتري لكونه لم يظلم بكونه مدلّسًا ولا جوز ذلك عليه. وذهب ابن نافع إلى أنّ المشتري يحلف على البتّ طردًا لما كنّا حكيناه عنه وذكرنا اعتلاله فيه. وإِذا نكل المشتري أيضًا عن هذه اليمين بعد نكول البائع، بقي البيع منعقدًا على حسب ما كان عليه. هذا المعروف من المذهب. وفي المدوّنة عن ابن نافع في هذا اللّفظ قد يقتضي ظاهره تمكين المشتري بعد هذا النّكول من الرّجوع إلى اليمين لأنّه ذكر في المدنيّة أنّ المشتري إِذا نكل لزم البيع. وظاهر هذا يقتضي أنّه لا رجوع له إلى اليمين بعد هذا النّكول. وقال ابن نافع: لا يردّ المشتري بالعيب إلاَّ حتّى (¬1) يحلف. وقد يوهم ظاهر هذا أنّه يمكن من الرّجوع إلى اليمين بعد النّكول عنها. ومال بعض المتأخّرين إلى إثبات هذا القول اختلافًا في المذهب. وهو لفظ فيه إشكال. لكن أصل المذهب يقتضي أنّ النّاكل لا يمكن من الرّجوع إلى اليمين بعد أن نكل عنها إِذا تعلّق لخصمه بنكوله حقّ ومنفعة. ولهذا لا يمكن البائع لو نكل عن اليمين في هذا وردّها على المشتري من الرّجوع عن ذلك قبل أن يحلف المشتري. لكون المشتري قد استحقّ بهذا النّكول أن يحلف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حين.

ويردّ البيع. وهاهنا إِذا نكل البائع وتعلّق للمشتري حقّ بنكوله فلم يحلف، بقي البيع على ما كان عليه منعقدًا وبقي موقوفًا على معاودة المشتري إلى اليمين الّتي نكل عنها. لكن أيضًا قد يتعلّق للبائع حقّ في إقرار البيع على ما هو عليه. وهذا يستقصى في أحكام الأيمان والنّكول في موضعه إن شاء الله تعالى. وذكر ابن المواز أنّ السلعة إِذا باعها رجل من آخر ثمّ اشتراها بائعها مِمّن اشتراها منه. فلمّا صارت في يديه وعادت إليه، ظهر فيها عيب مشكوك فيه، أنّ البائع الأوّل يحلف ويبرأ من هذا العيب. فإن نكل حلف المشتري وردّ البيع. ومعنى ردّه ها هنا أن يستردّ منه بقيّة الثّمن إِذا كان مشتريها قد باعها من بائعها بأقلّ مِمّا اشتراها منه. وأنت إِذا تأمّلت ما أصلنا لك من كون البيع المنعقد لا ينحلّ بالشّكّ. والقول فيه قول البائع استصحابًا لحال الانعقاد، وأنّ من كان ذمّته برية من غرامة، فإنّه لا يغرم بالشّكّ، علمت ما يتفرعّ من وجوه هذه المسألة، وحكم كُلّ قسم منها، وأنّ زيدًا إِذا باع من عمرو سلعة بمائة دينار، ثمّ رجع زيد فاشتراها من عمرو بثمانين دينارًا، فظهر فيها عيب مشكوك فيه وهي بيد زيد، فإنّ هذا العيب إِذا شكّ فيه هل كان عند زيد قبل أن يبيعها من عمرو أو حدث عند عمرو قبل أن يبيعها من زيد، فإنّ عمرًا لا يردّ عليه بالشّكّ هل كان هذا العيب عنده أم لا؟ وكذلك لا يطالب عمرو وزيدًا بأنّ يردّ عليه عشرين دينارًا بقيّة الثّمن بالشّكّ، هل كان العيب عند زيد قبل أن يبيعها من عمرو، فيكون من حقّ عمرو أن يردّها على زيد بالعيب، وهي قد رجعت إلى يد زيد فيطالبه عمرو ببقيّة الثّمن؟ فإِذا تبعت هذا الأصل، علمت هذا الشّكّ لو شكّ في هذا العيب، هل كان عند زيد قبل أن يبيع من عمرو، أو حدث عنده بعد أن اشترى من عمرو أو حدث عند عمرو وتعلّق اليمين بهما جميعًا، إِذا طلب أحدهما حلّ البيع على مقتضى دعواه، وطلب الآخر إكمال الثّمن على مقتضى دعواه؟ وقد تقدّم الكلام على من وجد عيبًا بمكيل أو موزون وقد أفاته وأتلف عينه. وذكر الخلاف فيه هل يردّ المثل أو يخيّره بين ردّه أو يأخذ قيمة العيب. وذكر أنّ قيمة العيب ينسب

إلى الثّمن الّذي عقده به البيع. وكذلك ينسب منه أيضًا قيمة العيب الحادث عند المشتري. فلو كان الثّمن ليس بمال معلوم مثل أن يتزوّج امرأة بعبد فيموت في يدها بعد أن اطّلعت فيه على عيب، فإنّ الرّجوع لها بمقدار العيب إنّما ينسب من قيمة العبد لمّا كان ثمنه البضع الّذي هو ليس بمال معلوم. وقد اختلف المذهب فيمن أسلم في عبد فلمّا قبضه اطّلع على عيب فيه وقد فات في يده، فقال ابن القاسم: يغرم قيمة هذا المقبوض ويرجع العبد الّذي كان له في الذّمّة. وقدّر أنّ هذا المقبوض لمّا كان معيبًا، صار كأنّه كجنس آخر غير الّذي له في الذّمّة. فإِذا علم بعد أن أخذه أنّه كجنس آخر، وقد فات في يديه، فإنّه يردّ قيمة ما فات في يديه، ويرجع بعبد سليم من العيب على ما كان له ذلك في ذمّته. ورأى سحنون أن يعتبر مقدار هذا العيب من العبد المقبوض، فإن كان ربعه رجع على المسلم إليه بربع عبد على ما كان له في ذمّته. وقدّر أنّ ثلاثة. أرباع العبد قد قبضت، وهي غير ما كان في الذّمّة، والرّبع الآخر كأنّه استحقّ من يديه، فيرجع بمقدار ما استحقّ من يديه شريكًا به في عبد، وكأنّه لم يعتبر ضرر الشّركة فتمسّك بالحقّ في العين. وابن القاسم اعتبرها فأوجب غرامة قيمة العبد المعيب والرجوع بعبد سليم كامل. وقد كنّا نحن أشرنا في تعدّي الوكيل إلى اعتبار نقص في بعض صفات الشّيء، هل يصيّره ذلك كجنس آخر لمّا انقضت صفته، أو يبقى ما سوى النّقص كأنّه العين السالمة من النّقص. وهذا قد يتصرّف (¬1) في هذه المسألة أيضًا. وذهب ابن عبد الحكم إلى أنّه إنّما يرجع قابض هذا العبد من سلم بمقدار العيب من قيمة العبد. فيقال: ما قيمة العبد سليمًا؟ فيقال: مائة (¬2) دينار. ثمّ يقال: ما قيمته معيبًا؟ فيقال مائة دينار. فيرجع قابض العبد بمائة دينار. وهذا مثل ما قدّمناه نحن في العبد الّذي جعل صداقًا فاطّلع فيه على عيب بعد أن فات لمّا كان ليس لهذا العبد الّذي هو الصّداق ثمن معلوم. فكذلك ها هنا لمّا لم يجب الرّجوع بمقدار العيب من رأس مال السلم، لكون العبد المسلم فيه في ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب يتصور. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مائتا.

الذّمّة، وجب اعتبار مقدار العيب من قيمة العيب (¬1) نفسه. وأنكر الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد هذا القول وقال: لم يجعله قبض بعض سلمه، فيرجع شريكًا، كما قال سحنون، ولم يقبض شيئًا منه فيردّ قيمة ما قبض ويرجع بعبد كامل. وقد ذكر في المدوّنة فيمن باع سلعة بمائة دينار، ثمّ أخذ عن ثمنها سلعة أخرى فوجد بالسلعة الثانية عيبًا، أنّه إنّما يردّ هذه السلعة الثّانية بالعيب. وتبقى المائة دينار ثابتة في ذمّة المشتري يطالبه بها بائع السلعة الأولى. قال: وهذا ما لا اختلاف فيه. وهو كمن باع طعامًا فأخذ بثمنه طعامًا، فإنّ الفسخ إنّما يكون في السلعة الأخيرة. وهذا الّذي أشار إليه في الاقتضاء من ثمن الطّعام طعامًا قد كنّا نحن تكلّمنا عليه وذكرنا الاختلاف في بياعات الآجال إِذا باع سلعة بثمن مؤجّل ثمّ اشتراها بثمن نقدًا أقلّ مِمّا باعها به، أنّ البيعتين جميعًا يفسخان على أحد القولين على التّفصيل الّذي قدّمناه، من تهمتهما على أنّ الثّمن لغو عندهما، وإنّما دفع دنانير سلفًا ليردّ إليه دنانير أكثر منها قياسًا أيضًا على الأخذ من ثمن الطّعام طعامًا. ولو كان العيب وجد في السلعة الأولى، كان أيضًا الثّمن الّذي هو مائة دينار ثابتًا. لأنّ استحقاق السلعة الأولى إنّما يقتضي استحقاق ثمنها، واستحقاق الثّمن لا يوجب بطلان البيع، على ما سنبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال القاضي أبو محمّد رضي الله عنه: وإِذا رضي المبتاع بالعيب لم يكن له ردّه. وكذلك إِذا تصرّف في المبيع أو استعمله بعد علمه بالعيب، كان ذلك رضي منه، ولم يكن له الرّدّ. فإن تصرّف مضطّرًا، ففيها روايتان. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل يمكّن المشتري من التصرّف في المبيع المعيب إِذا علم بعيبه أم لا؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب العبد.

2 - وما الّذي يعد منه عَلَمًا على الرّضا بالعيب؟ 3 - وما صفة الرّضا بالعيب؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: المبيع ها هنا ثلاثة أقسام: عقّار وثياب وحيوان. فأمّا الدّور وما في معناها، فإنّ المشتري لا يقضى عليه بإخلائها والانتقال عنها، وهو يخاصمه في العيب, لأنّ ذلك غلّة وخراج، والخراج بالضّمان، وضمانها منه. وأمّا الثّياب، فليس له أن يلبسها, لكون اللّباس نقصًا من أجزائها, وليس له إتلاف بعض المبيع وهو يحاول ردّه بالعيب. وأمّا الحيوان، فإن كانت جارية، فليس له أن يطأها, لأن الوطء إنّما يباح فيما يستقرّ ملكه استقرارًا مؤبدًّا. (في هذا) (¬1) والمشتري إِذا وطئها وهو يحاول نقض ملكه فيها، وردّ البيع من أصله، لم يصغ (¬2) له ذلك احتياطًا للفروج. وأمّا استخدام العبد وركوب الدّابّة ففيه قولان. المشهور أنّه يمنع من ذلك. وذهب ابن حبيب إلى أنّه لا يمنع منه قياسًا على العقار، ولأنّ الخراج له والنّفقة عليه، فلا يمنع من الإنتفاع بالمبيع. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: أمّا كلّ فعل لا يقع في العادة إلاّ رضي من المشتري بالتمسك بالمبيع، فإنّه إِذا ظهر ذلك منه، لم يكن له ردّ البيع. وما كان من التّصرّف مشكلًا، لم يقض عليه، بكونه علمًا على الرّضا. وهذا هو الأصل المعتبر في أمثال هذا. وقد كنّا قدّمنا ذكره مبسوطًا في كتاب بيع الخيار. فأمّا اختلاف قول مالك رضي الله عنه في تصرّف المضطّر، فإن ابن القاسم روى عنه أنّ المسافر إِذا اطّلع على عيب بالدّابّة فركبها إلى أن أعادها وقدم بها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين بالصاد، ولعل الصواب: يَسُغْ.

على صاحبها، فإنّ ذلك لا يعدّ رضي منه. وروى أشهب أنّ ذلك لا (¬1) يعدّ رضي منه. فقدر ابن القاسم أنّ المضطّر ها هنا للتّصرّف علمًا كالمكره على التّصرّف. والمكره على الفعل لا يُعتقد فيه أنّه مريد الفعل إرادة رضا به كإرادة المختار. وقدّر أشهب أنّه لمّا كان اعتقاده ردّها ونقض البيع، لم يعذر بركوبه ولا صار كالمكره عليه لقدرته على ركوب غيرها، أو التّوصّل بأمر سواها، فكان ذلك رضي منه. ولو أنّ المشتري اطّلع على عيب وربّ السلعة غائب ببلد آخر، وأشهد بالعيب وباعها، فإنّ في الموّازيّة أنّ ذلك يسقط حقّه في العيب. فقال ابن الموّاز إلاّ أن يكون ببلد لا سلطان فيه، أو متناول (¬2) بعيد، فلا يسقط حقّه. وقدّره معذورًا بهذا لمّا صار مغلوبًا على ما فعل. ولو أنّ العيب لم يثبت ولكن اعترف البائع به، وهو مِمّا لا يشاهد، فإنّ المشتري بالخيار بين أن يصدّقه فيردّ البيع بالعيب، أو يكذّبه ويتّهمه بأن يكون قال الكذب ندمًا على البيع، ويبقى ما أقرّ به موقوفًا حتّى يظهر صحّة ما قال، فيكون للمشتري حينئذٍ الرّدّ. وذكر في الموّازيّة أنه إِذا ردّ المشتري إقراره بالعيب ولم يقبله منه ثمّ أراد أن يرجع إلى قبول ذلك منه ويردّ المبيع، فإنّه لا يمكن من ذلك إِذا لم يثبت العيب، إلاّ أن يكون البائع متماديًا على إقراره بالعيب. وهذا الّذي ذكره ابن الموّاز أجراه مجرى من أقرّ لإنسان بدين فكذّبه في إقراره له، فإنّ هذا المكّذب للإقرار إن رجع إلى تصديق المقرّ، قبل أن يرجع عن إقراره، فإنّه يؤخذ بمقتضى إقراره. ورأى أنّه قد تعلّق للمقرّ بالعيب حقّ في إسقاط الرّجوع عليه، فلا يمكن المشتري من الرّجوع فيما أسقطه إلاّ أن يتمادى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (لا). (¬2) هكذا في النسختين، ولعله: بمنزل بعيد.

هذا على الإقرار، فيصير كالمستأنف إقرارًا بحقّ. وذكر عن أشهب أنّ هذا العيب الّذيْ أقرّ به البائع لو قامت بيّنة به، فإنّ المشتري لا يسقط تخييره بين الاستمساك بالبيع أو ردّه، إلاّ أن يوقفه القاضي ويقضي عليه بالواجب. وقال بعض الأشياخ: إنّ البائع لو قال: إنّ عبدي أبق، فلم يصدّقه المشتري، فأبق العبد فمات، فإنّ للمشتري ارتجاع الثمّن، لكون البائع مقرًّا على نفسه أنّه لا يستحقّ المال الّذي أخذ. وهذا الّذي قاله يصحّ إِذا تمادى البائع مقرًّا على نفسه إقراره، ورجع المشتري إلى تصديقه على حسب ما كنّا أشرنا إليه. وإِذا تقرّر هذا فاعلم أنّ العيب أيضًا إِذا وجب للمشتري الرّدّ به وقضى له القاضي بذلك ونفذ الحكم بردّ المبيع، فإنّه لا إشك الذي أنّ البيع انفسخ. ولو تراضى المتبايعان بالفسخ وعقداه على أنفسهما، لكان ذلك كحكم الحاكم عليها أيضًا. فإن لم يقع حكم بالفسخ ولا تراضٍ به لكن قال المشتري بعد ثبوت العيب: إنّي فسخت البيع. فإنّ هذا مِمّا اختلف النَّاس فيه. فذكر ابن القصّار من أصحابنا أنّ مذهب مالك والشافعي وقوع الفسخ بمجرّد قول المشتري، وإن لم يقع، حكم به. وذهب أبو حنيفة إلى ما قالاه في هذا إِذا كان المبيع لم يقبضه المشتري. فأمّا إِذا كان قد قبضه المشتري فإنّه لا يفسخ البيع إلاّ بحكم حاكم أو تراض بالفسخ. وعمدته في هذا أنّ الموجب للرّدّ ها هنا إنّما (¬1) اختلف في حصوله، وربّما اتّفق على حصوله، واتّفق في كونه عيبًا حتى يقول قوم هذا عيب ويقول آخرون ليس بعيب. وإِذا كان الأمر كذلك، صار ذلك كالمسائل الاجتهاديّة لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ربما.

يثبت الحكم فيها إلاّ بإنفاذ حاكم له، يرفع بحكمه هذا الاختلاف الّذي أشرنا إليه. وأصحابنا وأصحاب الشّافعي يناقضونه في هذا الّذي قال بتسليمه وقوع الفسخ بقول المشتري: فسخت البيع، إِذا كان لم يقبض المبيع. وما اعتلّ به يتصوّر قبل القبض وبعد القبض، وكون المبيع مستقرًا بعد القبض استقرارًا متمكّنًا. وقد كثر التّنازع في مسائل خلافية، هل يفتقر إلى حكم أم لا؟ كما اختلف عندنا فيمن مثّل بعبده، هل يفتقر عتق العبد إلى حكم أم لا؟ إلى غير ذلك من المسائل. ويقول أصحاب أبي حنيفة في مسئلتنا هذه يفتقر الفسخ بالعيب إلى حكم. كتخيير الأمة المعتقة تحت عبد لأجل ما طرأ عليها من عيب في هذا النّكاح، مع اختلاف النّاس في اشتراط العبوديّة في الزّوج، أو إثبات تخييرها ولو كان الزّوج حرًا. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: إِذا وقَّف البائع المشتري على عيب، عيّن موضعه، وأراه إيّاه، وأعلم جنسه ومقداره ظاهرًا وباطنًا، وعقد البيع على ذلك، فلا إشك الذي كون هذا رضي به. وأمّا إِذا لم يكن الأمر كذلك ولكن اقتصر في رؤية العيب على مشاهدة لا تقتضي الإحاطة به، أو تبرأ إليه منه بخبر ولفظ وفيه احتمال، فإنّه إِذا باع منه دابّة ولها دبرة، فأراه البائع الدّبرة، ولم يحط المشتري علمًا بباطنها، وظهر من باطنها ما لم يُنْبِ عنه ظاهرها، فإنّ البائع إِذا كان عالمًا بذلك، ولم يبيّنه، كان للمشتري الرّدّ به، لكون البائع كالمدلّس، ومن دلّس بعيب ردّ عليه به. وإن كان البائع لا يعلم باطنها وإنّما يعلم منها ما يعلم المشتري، فإنّه يجري ذلك على حكم العيب الباطن في الخشب وما في معناها. وقد كنّا قدّمنا اختلاف قول مالك فيها، وإنّ المشهور من المذهب ألاّ ردّ بذلك. وهكذا ذكر ابن حبيب عن أصحاب مالك في هذا الوجه إِذا استوى علم البائع والمشتري بباطن هذه الدّبرة.

وعارضه بعض المتأخّرين فناقضه بقوله في الخشب إنّما لا يردّ بالعيب الباطن إِذا كان ذلك من أصل الخلقة، أو حدث بعد الخلقة، لكون ما حدث بعد الخلقة قد يعلمه قوم دون قوم (أم لا) (¬1)؟ هذا إِذا اقتصر في التبرّي من هذا العيب على النّظر. وأمّا إن اقتصر فيه على الخبر مجملًا، مثل أن يقول البائع: أبرأ إليك من دبرة بظهر هذه الدّابّة. والدّبر يختلف، فإنّ مذهب ابن القاسم صحّة هذا البيع، وكون البراءة لا تتضمّن إلاّ اليسير من هذا العيب. وذهب أشهب أنّ البيع فاسد. وكذلك لو برىء من كيّ بالعبد، فإنّ الخلاف فيه على حسب ما ذكرناه. ومقتضى هذا أن تكون البراءة من الإباق مجملًا تقتضي فساد البيع على رأي أشهب. لكن ذكر ابن الموّاز عن أشهب أنّه وافق ابن القاسم في الإباق، وأنّ البيع لا يفسد ويبرأ من الإباق اليسير. فإن كان إلى موضع بعيد أو أبق مرّتين، فإنّ المشتري له الرّدّ. قال ابن الموّاز: ومذهب ابن القاسم أحبّ إلينا، وقد أضعف أشهب جوابه لِما قال في الإباق. وأشار بعض الأشياخ إلى أنّ هذا اختلاف من قول أشهب. وكان بعض أشياخي يرى أنّ هذا اللّفظ إن تفاهما منه العيب اليسير، فإنّ البيع لا يفسد ويبرأ البائع من اليسير. ولا يحسن الخلاف في هذا كما لو صرّح به. وإن تفاهما إلزام البيع المشتري، على أيّ حال كان العيب من عظم وصغر يختلف فيه الثّمن اختلافًا كثيرًا، فإنّ هذا يفسد به البيع. ولا يحسن أيضًا الخلاف في هذا. فهذا حكم الاقتصار من عيب على نظر أو خبر. والأظهر في الرّوايات جواز الاقتصار فيه على خبر يتضمّن حقيقة. وإن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

كان قد وقع في بعض الرّوايات ما يوهم جواز الاشتراط للنّظر. وقد ذكر في الآثار أنّه لا يبرأ بقوله: أبيعك لحمًا على بارئة (¬1) من العيوب. قال النّخعي: لا يبرأ حتّى يضع على العيب يده. والتّحقيق في هذا أن ينظر إلى الخبر عن العيب. فإن كان لا يقوم مقام مشاهدة، ولا يقتضي الإحاطة بالعيب، بل كون الاقتصار على الخبر ركوبًا للغدر، فإنّ ذلك لا يجوز الاقتصار عليه مع القدرة على المشاهدة. وإن كان خبرًا يقوم مقام العيان، فهذا لا يمنع من الاقتصار عليه. وسنستقصي حكم الاقتصار على الخبر عن المبيع مع إمكان النّظر من غير ضرورة في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد ذكر في الموّازيّة أنّ العيب لا يبرأ منه البائع، ولو ذكره، إلاّ أن يقول: هو بالمبيع. وقدّر أنه إِذا قال: أبيعك هذه الدّابّة وأبرأ إليك من كذا. ولم يقل: إنّه بها، فإنّ ذلك لا يجزي، لما يمكن من اعتقاد المشتري أنّ هذا القول أوْردَهُ البائع على جهة المبالغة والاحتياط، وإن لم يكن بها هذا العيب. ورأى بعض أشياخنا أنّ المفهوم من هذا كون هذا العيب بها، فتصحّ البراءة، وإن لم يقل إنّه بها. وكذلك لو ذكر عيوبًا كثيرة بالمبيع، منها ما ليس بالمبيع، فإنّه لا يبرأ البائع بذلك لكونه لفف العيوب الحاصلة، والمشتري قد يعتقد أنّ بالمبيع من العيب من جملة ما لفف، وهو ليس بالمبيع، بل المبيع سالم منه. ولهذا قال ابن الموّاز لا يبرأ إلاّ أن يذكر العيب مفردًا، لا يخلطه بغيره، ويقول: إنّه به. وإلى هذا أشار ابن حبيب أيضًا. ولكنّه. قال القاضي أبو محمّد رضي الله عنه: ويجوز البيع بشرط البراءة في الرقيق دون غيره، ويبرأ من كلّ عيب لم يعلمه، ولا يبرأ مِمّا علمه فكتمه. قال الإِمام رحمه الله يتعلّق بهذا الفصل ثمانية أسئلة، منها أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: براءة.

1 - هل يجوز اشتراط البراءة من العيوب في عقد البيع أم لا؟ 2 - وهل يشترط في جوازها أن يكون البائع غير عالم بما تبرّأ منه أم لا؟ 3 - وهل تجوز في سائر المتملكات أم لا؟ 4 - وهل تجوز في سائر العقود أم لا؟ 5 - وهل تجوز في كلّ العيوب أم لا؟ 6 - وما حكم التّداعي في البراءة؟ 7 - وما الحكم في الأيمان إِذا طُلبت (¬1)؟. فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: اختلف النّاس في جواز البيع على البراءة على الجملة، فمنعه قوم وأجازه آخرون. فالمشهور من مذهبنا جوازها على الجملة. وهو مذهب أبي حنيفة واحد أقوال الشّافعي. لأنّ من أصحاب الشّافعي من يحكي ثلاثة أقوال: المنع على الإطلاق، والجواز على الإطلاق، والتّفرقة بين ما علمه البائع وما لم يعلمه في البراءة في بيع الحيوان. وعندنا رواية عن مالك في منع بيع البراءة مطلقًا من غير اعتبار يكون البائع عالمًا بما يبرأ منه أو غير عالم. ومن المتأخّرين من يحكي هذه الرواية عن مالك حكايته مقيّدة. فيقول: لم يختلف قوله في جواز البراءة من العيب اليسير، ولا في ثبوت البراءة في بيع السلطان، ولا في سقوط عهدة الثّلاث. والسنة في البيع الثابت (بياض) (¬2). وسبب هذا الاختلاف أنّ الشّرع ورد بالنّهي عن بيع الغرر، واشتراط البائع على المشتري ألاّ يردّ عليه بعيب يطّلع عليه يتضمّن عقد الشّراء على مبيع غير معلوم ولا محاط به. وبيع ما لا تعلم حقيقته لا يختلف في منعه، كبيع ما في ¬

_ (¬1) لا وجود في النسختين إلا لسبعة أسئلة. ويمكن استرواح الثامن من الجواب عليه هكذا: وهل لعلم السلطان بالعيب أثر في الرد بالعيب؟ (¬2) بياض في النسختين بمقدار خمس كلمات في المدنية ومقدار ثلاث كلمات في الوطنية.

يده أو ما في هذه من حيتان. لكون المشتري دخل على أنّ العبد المشترى إن وجده أعمى أصمّ أبكم، لزمه الشّراء بالثّمن الّذي بذل. وإن وجده على صفة كمال سالمًا من العيوب، كان ذلك له. وهذا واضح ما فيه من الخطر والغرر. ووجه الجواز على الجملة ما أشار إليه ابن حبيب من حكم عمر بن الخطّاب وعثمان بن عفّان رضي الله عنهما, بإمضاء البيع المشترط فيه البراءة. وقد ألزم عثمان بن عفّان عبد الله بن عمر لمّا باع (¬1) بالبراءة، الثّمنَ، لمّا اطّلع على عيب لم يعلم به حين العقد. فلو كان العقد عنده فاسدًا، ويراه غررًا، لم يغرمه الثّمن. ولا يفسخ العقد ولو تراضيا بإمضائه مع كون الضّرورة قد تمسّ إلى ذلك وتدعو إليه الحاجة والمصلحة. فعفي عنه كما يعفى عن عقود تضمّنت غررًا للضّرورة الدّاعية إلى العفو عن ذلك. وهذا إِذا قيل فيه: إنّ قول الصاحب حجّة بمجرّده، وإن خالف القياس، كان للاحتجاج بما حكيناه عن الصّحابة، رضي الله عنهم، عمدة في هذا. وإن قلنا: إنّ القياس مقدّم على قول الصّحابيّ، فقد قال بعض البغداديين: إنّ المنع وإن أذى إليه قياس قويّ كما ذكرناه، فإنّ في مقابلته قياسًا ضعيفًا، وهو ما أشرنا إليه من الضّرورة الدّاعية إلى العفو عن هذا. وهذا القياس وإن كان ضعيفًا، فإنّه يترجّح على القياس القول بمذهب الصّحابيّ رضي الله عنه. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: اختلف المذهب عندنا في بيع البراءة مِمّا علمه البائع من العيوب. وأجاز ذلك أبو حنيفة والشّافعي، في أحد أقواله، على ما تأوّله عليه بعض أصحابه. والدّليل على المنع، مع العلم بالعيب، أنّ البائع إِذا كانت العيوب لم يعلم بها، فالظّاهر سلامة المبيع من العيب، والظّاهر صدقه أيضًا لتحسين الظّنّ به سومح في ذلك. وإِذا قال: لا أعلم بما بعت عيبًا، فإن ظهر بعد العقد فأنا بريء منه. فكان ¬

_ (¬1) أي: اشترى.

الظّاهر سلامة المبيع، وصدقه في هذا كعيب يستوي في الجهل به المتبايعان، وما استوى في الجهل به المتبايعان، لم يردّ به البيع، كعيب الخشب، على حسب ما قلناه وحكيناه من المذهب المشهور عندنا. وإِذا كان البائع عالمًا ارتفعت العلّة، وتبيّن القصد إلى المخاطرة والغرر, لأنّ البائع قادر أن يذكر ما علمه من العيوب بعبده من غير مشقّة عليه في ذلك، ولا ضرورة تدعو في إضرابه عن ذكره. فصار عقدًا على ما يعلم جقيقته، والمشتري لا يعلم حقيقته، وهو قادر على أن يعلمه إيّاها، وهذا لا يجوز. وقد احتجّ أصحاب أبي حنيفة على الجواز بأنّ البائع لو باع ثوبًا مرفوًّا، وأرى رفوه إلى المشتري، والبائع يعلم كون الرّفو عيبًا، والمشتري لا يعلم كونه عيبًا، فإنّ البيع جائز، مع كون البائع إنفرد ها هنا بعلم. وأجيب عن هذا بأنّ البائع قد أعلم المشتري بحقيقة هذا العيب، وأنكر المشتري جهل القيمة، وكون هذا الرّفو يحطّ منها، وهذا الجهل لا يمنع صحّة البيع كما لا يمنع منه كون البائع غبن المشتري بجهل القيمة، ومعرفته. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: اختلف قول مالك في بيع البراءة على أقوال: منها حكايته عنه من منعه مطلقًا. ومنها جواز ذلك مطلقًا في سائر المبيعات عرضًا كانت أو حيوانًا. ذكر ذلك عنه ابن حبيب. وحكاه عن ابن شهاب وربيعة ويحيى ابن سعيد وابن وهب من أصحاب مالك. وحكاه غيره عن ابن كنانة. وحكي عنه منع ذلك في العروض وإجازته في الحيوان الصامت والنّاطق. وذكر مالك في كتابه، وحكي عنه، جوازها في الحيوان النّاطق خاصّة. وقد كنّا قدّمنا مصير بعض المتأخّرين إلى أنّه لم يختلف قوله في العيب اليسير، على حسب ماكنّا قدّمنا حكايته عنه. وسبب هذا الاختلاف أنّ بيع البراءة إِذا كان إنّما عفي عنه لاستواء البائع

والمبتاع في الجهل بالعيب، اقتضى ذلك جواز بيع البراءة في العروض وسائر المتملّكات. لكن من قصر ذلك على الحيوان قال: إنّ الحيوان كلّه تتلوّن أحواله بالصحّة والسقم، ولا يكاد يحاط بعيوبه، فيقوى تصديق المشتري بأنّه جهل العيب الّذي فيه، حتّى يعتقد أنّه قد استوى علمه وعلم البائع في العيب. بخلاف العروض. وأمّا من قصر ذلك على الحيوان النّاطق، فإنّ من المتأخّرين من ذهب إلى علّة، ومنه من ذهب إلى عكسها. فقيل: إنّ الرّقيق يخبر بعيبه، لكونه مِمّن ينطق ويعرب عن نفسه. وإِذا لم يقع منه سكوت لسيّده لمرض أصابه، لم يعلم سيّده ما به فعذر سيّده لكونه جاهلًا للعيب وصدق فيما قال. ومنهم من قال: إنّ الرّقيق يكتم عيبه، ويستره عن سيّده، مخافة أن يزهد فيه فيبيعه. فعذر السيّد في جهله بعيبه، وصدّق في أنّه لا يعلم ما به، بخلاف البهائم الّتي لا تخبر بعيبها. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أطلق العلماء من أصحابنا وغيرهم ذكر الخلاف في بيع البراءة من غير تعرّض لتفصيل العقود. وينبغي أن يلتفت في هذا إلى تقييد في هذا الإطلاق. فإنّ من المعاوضات ما يشترط فيه التّماثل ولا يجوز فيه الرّبا والتّفاضل، كما قدّمناه في كتاب الصرف، وكتاب السلم. وإِذا كان الأمر كذلك، فإنّ القرض وما في معناه لا يجوز فيه اشتراط البراءة من العيب, لأنّ ذلك قد يوقع في اشتراط الزّيادة والتّفاضل. لأنّ من أقرض عبدًا فشرط التبرّي من سائر عيوبه الّتي يعلمها واشترط في القضاء عبدًا سليمًا، فإنّ هذا نوع من اشتراط الزّيادة في السلف، وذلك لا يجوز. وقد قدّمنا في كتاب السلم ما يجوز أن يعجّل من الدّيون الثّابتة في الذّمّة سلمًا أو قرضًا قبل أجله، وما لا يجوز من ذلك. ومنها ما يمنع فيه التّعجيل المشترط فيه الزّيادة أو النّقص.

والتّبرّي من العيب يتضمّن شكًّا في الزيادّة أو نقصانًا، والشّكّ في حصول الرّبا في العقود كتيقّن حصول ذلك. وهكذا جرى الأمر في بياعات العرُوض الّتي لا يجوز التّفاضل فيها، كبيع صاع قمح بصاع قمح على أن لا قيام بعيب في أحدهما، فإنّ ذلك يمنع، إِذا أجزنا البراءة في عيوب الطّعام والعروض. والشّكّ فيه من حصول التّفاضل بين الطّعامين، والشّكّ في حصول التّفاضل كالتّيقّن به. ونحن وإن كنّا نجيز صاع قمح طيّب بصاع قمح دنيء، ولا نلتفت في أحكام الرّبا إلى اختلاف الصفات، وإنّما نلتفت إلى اختلاف المقدار، فإنّ هذا إنّما يصحّ مع اطلاع المتعاقدين على صفات الطّعامين، فيكون ذلك تراضيًا بالعيب. وأمّا إذا وقع الاشتراط في أن لا ردّ بعيب، فإن ذلك يصير العقد إلى المماكسة والقصد إلى التّفاضل في الصفات، على حسب ما كنّا قدّمناه في أحكام المراطلة في مسائل صوّرناها هناك. وإن استوى وزن الذّهبين، فهذا عندي مِمّا ينظر فيه مع القول بجواز البراءة في عيوب الطعام والعروض. لكن بيع البراءة غررٌ، وينضاف إليه ها هنا منع آخر وهو ما أشرنا إليه في أحكام الرّبا. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: أمّا اختلاف حال المتبايعين فإنّه لم يثبته مالك مرّة، بل ساوى بين سائر البائغين في جواز التّبرّي من العيوب وفي المنع من ذلك. وقد كنّا قدّمنا أنّ بعض المتأخّرين ينكر الخلاف عنه في كون. بيع السطان بيع براءة. واعتّل الشّيخ أبو القاسم بن الكاتب بكونه لم يختلف قوله في بيع السلطان خاصّة، واختلف قوله فيما سواه، على حسب ما حكيناه، لأجل أنّ بيع السلطان على المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميّت حكمٌ منه بالبيع، وبيع البراءة مختلف فيه كما قدّمناه، والسطان إذا حكم بأحد أقوال العلماء لم ترد قضيّته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به.

وهذا الّذي قاله الشّيخ أبو القاسم فيه نظر عندي, لأنّ السلطان لم يتعرّض في البيع إلى خلاف أو وفاق، ولا قصد إلى حكم بإنفاذ بيع على البراءة فينفذ حكمه، وإنّما فعل في نفسه فعلًا أوجبه الشّرع عليه من قضاء ديون من تركة ميّت أو بيع مال مفلس، ولم يقصد إلى إمضاء الحكم بجواز البراءة وإنفاذها، وإنّما المقصود إيصال أهل الحقوق إلى حقوقهم. فلم يجر هذا مجرى ما قصد إلى الحكم به. وسنبسط القول في أحكام القضاء بما اختلف النّاس فيه في موضعه إن شاء الله تعالى. وبعض أشياخنا يثبت الخلاف في بيع البراءة، ولو كان السلطان هو الّذي تولّى البيع، ويتعلّق بقول سحنون: إنّ مالكًا قال، في القديم، بيع السلطان وبيع الميراث لا قيام فيه بعيب ولا بِعهدة، على حسب ما ذكره سحنون في هذه الرّواية. فقدله: كان يقول في القديم إشارة منه إلى أنّه له قولٌ آخر، وإن كان البيع بيع السلطان. فقال ابن القاسم: إذا بيع عبد على مفلس فللمشتري أن يردّه بالعيب. وهذا أيضًا إثبات الخلاف في بيع السلطان. وأمّا بيع الورثة لقضاء الدّيون وتنفيذ وصايا، فإن فيه الخلاف المشهور، فاقتصر مرّة على ثبوت البراءة في بيع السطان، ومرّة أخرى أضاف إلى ذلك بيع الميراث ومراده في بيع أهل الميراث ما باعوه لقضاء دين أو إنفاذ وصيّة. وأمّا ما باعوه لأنفسهم، بحكم الانفصال من شركة بعضهم لبعض، فلاحقٌ ببيع الرّجل مال نفسه بالبراءة. فظاهر المذهب يقتضي اختلافًا في بيع البراءة، هل يصحّ بالاشتراط أو لا يصحّ ويثبت (¬1) إلا لمن اقتضى الحكم كون مطلق بيعه بيع براعة. فإذا قلنا: لا تصحّ البراءة إلاّ في بيع السلطان، أو في بيعه وبيع الورثة، ونفينا بيع البراءة في حقٌ هذين (¬2) وإن اشترطوهما (¬3)، تضمّن ذلك كون الشّرط ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلها على معنى النفي أي: ولا يثبت. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في حق غير هذين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اشترطوها.

لا يؤثر فيها. وإن قلنا: تصحّ البراءة لمشترطها، وإن لم يكن سلطانًا ولا وارثًا، اقتضى ذلك ثبوتها بالاشتراط. وقد قال مالك في الموّطأ: من باع عبدًا أو وليدة من أهل الميراث أو غيرهم على التبرّي، فقد برئ من كلّ عيب. وهذا الإطلاق يقتضي ثبوتها بالاشتراط لقوله: أهل الميراث أو غيرهم. وكان من يثبتها بالاشتراط يرى أنّ علّة الجواز استواء البائع والمبتاع في الجهل بالعيب، على حسب ما قدّمناه. فإذا اشترط البراءة فقد أخبر أنّه جاهل بالعيب كجهل المشتري به، فصحّ اشتراطه. وإن قلنا: إن الاشتراط لا يؤثر فيمن لا يقتضي مطلق بيعه البراءة، فإنّ ذلك مبنيّ على أنّ ما لا يقتضيه من البراءة إطلاق العقد فلا يقتضيه الاشتراط، كما لو اشترط البائع البراءة مِمّا علمه من العيوب فكتمه، فإنّ ذلك لا ينفعه لمّا كان إطلاق عقد البراءة لا يتضمّن البراءة من عيوب يعلمها البائع. فإذا تقرّر هذا وقلنا إنّ بيع السلطان يقتضي إطلاقُه البراءة من العيوب , فإنّ ذلك يشترط فيه أن يكون المشتري عالمًا بأنّ السلطان هو الّذي باع، أو باع من أمره السلطان بالبيع. فإن لم يعلم ذلك وظنّ أن البيع واقع مِمّن لا تنفذ أحكامه، بل هو بيع رجل مالَ نفسه، فإنّه لا يسقط مقاله في العيب، ويكون بالخيار بين أن يتمسّك بالمبيع على البراءة من العيوب أو يردّه. وقيل: لا مقال له في العيوب. وهذا يحمل على أنّ من ذهب إلى هذا اعتقد أنّه ادّعى ما لا يشبه، لكون بيع السلطان لأنّه في غالب العادة إنّما يكون في مجمع واحتفال. وأمّا لو كان البيع وقع من الورثة لقضاء دين أو إنفاذ وصايا، أو من وصيّ باع لقضاء دين أو إنفاذ وصيّة، لا لإنفاق على من في ولايته، فإنّ المشتريَ إذا لم يعلم بذلك فإنّه لا يسقط حقّه في القيام بالعيب، لكون هذا مِمّا قد يخفى عن المشتري حال البائع. بخلاف بيع السلطان الّذي قلنا على أحد القولين إنّه لا يخفى ذلك. وبيع الوصيّ تثبت فيه البراءة بشرط أن يبيع لِدين أو لإنفاذ وصيّة.

فأمّا بيعه لحاجة الورثة، فلاحقٌ ببيع الإنسان مالَ نفسه لكون الدّيون والوصايا يجب إنفاذهما، ومن حقّ أهلها أن يعجّل لهم حقّهم إن طلبوه. والسلطان والورثة والوصيّ جاهلون بحال المبيع، وهم مطالِبون باستعجال البيع. فحمل بيعهم على البراءة لأجل هذا، بخلاف بيع الإنسان مال نفسه. ولو باع الورثة بشرط البراءة ولم يعلم المشتري أنّ البائع منه وارث، لصحّت البراءة، لكون الاشتراط ها هنا صادف محلًّا للحكم فيه، مع إطلاق البراءة من العيوب، فروعي حكم المحلّ لمّا ضامّه الاشتراط. بخلاف بيع رجل مال نفسه الّذي لم يرثه، لكون الاشتراط للبراءة لم يصادف محلًّا يوجب إطلاق البيع فيه البراءة. وإذا صادف الحكم محلّه نفذ وإن لم يعرف لمحلّه. وهذا غير الّذي ذكر ابن القاسم (¬1) من ثبوت البراءة يشبه من تزوّج امرأة زوجها غائب، وهذا الزّوج لم يعلم بموْت الزّوج الغائب، فلم يفسح نكاحه حتّى ثبت أن الزّوج الغائب مات وانقضت عدّة الزّوجة منه قبل عقد هذا الرّجل الثّاني نكاحه، فإن النكاح يمضي لمّا صادف محله وإن جهل في ظاهر الأمر حصول المحلّ. وكذلك من قام إلى خامسة في صلاة الظّهر عمدًا، فإذا به قد فسدت عليه ركعة يجب قضاؤها حتّى صارت الرّكعة المزيدة وقعت في محلّها، فإن هذا يجري مجرى واحدًا. وقد تكلّمنا على ما قيل في هذا في كتاب الصّلاة من كتابنا هذا. وقد اختلف المذهب في اشتراط البراءة إذا باع الإنسان مال نفسه، هل يسوغ له ذلك، و (¬2) إن لم يختبر المبيع، وإنّما باعه بحِدْثان ملكه له، أو لا يسوغ له ذلك إلاَّ بعد اختبار المبيع؟ فالمشهور أنّه لا ينفعه التبرّي من عيب إلاّ بعد أن يكون مختبرًا للمبيع. فقال في التّجّار يقومون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة، ولم تطل إقامة الرّقيق عندهم،: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال النّاس باطلًا، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

فلا تنفعهم البراءة. وقيل: تجوز البراءة في هذا. ذهب إلى هذا عبد الملك وغيره. وإحتجّوا يكون السلطان والورثة بيعهم بيع براءة وهم (¬1) يختبروا البيع. وقد يجاب عن هذا بما كنّا قدّمنا الإشارة إليه من كون السلطان إنّما يبيع لدين يقضى يجب تعجيله. والسلطان إن كان لم يختبر المبيع، فإنّ الضّرورة لقضاء الدّيون تقتضي جواز بيعه بالبراءة. وكذلك الوارث إذا باع لقضاء دين أو إنفاذ وصيّة. والّذي باع مال نفسه لم تدع ضرورةُ مراعاةِ حقِّ غيره إلى استعجال البيع، فمنع من البراءة قبل الإختبار للمبيع. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: قد قدّمنا أنّ بعض المتأخّرين أنكر اختلاف قول مالك في جواز البراءة من العيب اليسير، وحمل اختلاف قوله على العيب الكثير. ومنهم من يحكي عنه الخلاف مطلقًا. وقال المغيرة إنّما تجوز البراءة في العيب اليسير، كالثّلث فأقلّ، فأمّا إذا زاد على الثّلث، فلا تجوز البراءة. فكأن من أجاز التبرّي على الإطلاق يعتلّ بأنّ سبب الجواز كون البائع والمبتاع استويا في الجهل بالمبيع، وما استويا في العلم أو الجهل به جاز العقد عليه واتبع الغرر فيه. وهذا يقتضي جواز البراءة في العيب الكثير واليسير. ومن يمنع البراءة في العيب الكثير، يعتلّ بأنّ الأصل المنع من بيع البراءة لأجل ما فيه من الغرر، على حسب ما بيّناه فيما تقدّم، والغرر إذا خفّ وكان يسيرًا غير مقصود، لم يمنع، وإذا كان كثيرًا مقصودًا عظم التّخاطر فيه واتّضح الغرر، فوجب أن يمنع. والعيب الكثير مِمّا يعظم التّخاطر بخلاف اليسير. ومن هذا بيع الجارية الرّائعة بشرط البراءة من العمل، وليس بها حمل ظاهر، فإنّ المذهب المنع من ذلك. واحتجّ صاحب المذهب بعظم الغرر في هذا الاشتراط، وأنّ العمل يحطّ من ثمنها كثيرًا، ومقدارًا عظيمًا، فوجب أن يمنع هذا التبرّي من العمل العظيم (¬2) الغرر فيه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهم لم يختبروا. (¬2) هكذا ولعل الصواب لعظم.

وأجاز التّبرّي من حمل الرّائعة الشّافعي. وكأن الشّافعي لم يفرّق بين سائر العيوب والحمل من جُملتها. وكأن مالكأرضي الله عنه وأصحابه يرون أنّ ما سوى العمل مِن العيوب، الظّاهرُ السلامة منها، والبائع يخبر ألاّ عيبَ بالمبيع، فصار الظّنّ بالسلامة من هذه العيوب يرفع الغرر. بخلاف العمل في الرّائِعة الّذي لا علم عند واطئها بالسلامة منه، فيقول على خبره، ولا الغالب أيضًا، والظّاهر من الحال يقتضي السلامة منه. وأمّا التّبرّي من حمل أمة من الوخش، فإنّ ذلك جائز عندنا، لكون العمل لا ينقص من ثمنها مقدارًا كثيرًا، فلا يقتضي اشتراط التّبرّي منه غررًا، فجاز ذلك. وإذا منعنا التّبرّي منه في الأمة الرّائعة، فإن البيع إذا عقد على ذلك، سقط الشّرط. وهل يسري ذك إلى فساد العقد أم لا؟ وهل يقع الضّمان بالقبض أم لا؟ هذا يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى. لكن حكى ابن حبيب عن مالك أنّ من باع أمة وهو مقر بوطئها، وشرط التبرّي من العمل أن الشّرط وإن بطل، فإنّه لا يبطل العقد. وأنكر الشّيخ أبو محمّد ابن أبي زيد هذه الرّواية لمّا رءاه شرطًا متّفقًا على فساده. وقال بعض المتأخّرين يلزم على هذه الرّواية أن يجوز التّبرّي من حمل الأمة الرّائعة. كما قاله الشّافعي، وينفذ العقد على ذلك ولا يفسد. فمن يذهب إلى إمضاء العقد يقدّر هذا كأحد بياعات الشّروط التّي يسقط الشّرط ويصحّ البيع. وقد كنّا تكلمنا على أحكام الشّروط الفاسدة في كتاب البيوع الفاسدة، وأشرنا إلى ما يعلم منه وجه هذا المذهب. وعندي في هذه المسألة أنّ لو كانت الأمة ذات زوج أو ظاهرة الزّنا، لم تردّ بعيب حمل، لكون المشتري دخل على ذلك، فلا يحطّ ذلك من ثمنها ما يتضمن غررًا في العقد، لكونها معرّضة للحمل. وقد وقع في بعض الرّوايات فيمن إشترى زوجته فانفسخ نكاحه بشرائها،

ثمّ ظهر بها حمل، أنّ له الرّدّ به. وهذا خلاف مقتضى هذا الّذي أصّلنا. ولو كان حمل الرّائعة ظاهرًا لجاز التّبرّي منه لأن التّبرّي منه إخبار عن أمر مشاهد. ولو شرط المشتري كونها حاملًا لمنع من هذا الشّرط، رائعة كانت أو من الوخش، لكون المشتري قد زاد في الثّمن لأجل ما اشترط، فهو كشراء الأجنّة وشراؤها لا يجوز. وكذلك لو اشترط في ناقة أو شاة أو رمكة، فإنّ هذا لا يجوز. وأجاز أشهب ذلك في اشتراطه حمل رَمَكَة أو شاة. وهكذا ذكر ابن دينار عن ابن كنانة وابن أبي حازم. وكأن هؤلاء في حكم التبع للأمّهات جائز بخلاف إفراده. كما يجوز اشتراط الثّمرة المؤبّرة إذا بيعت مع الأصول. فإذا قلنا بجواز الاشتِراطِ للحمل في. هذا النّوع من الحيوان فكشف ألاّ حمل فيما اشترط كونه حاملًا، فقد قيل: للمشتري الرّدّ بذلك. وقال ابن أبي حازم وابن كنانة: لا يردّ للمشتري بذلك إذا كان البائع يعتقد أنّها حامل، ولم يعلم ألاّ حملَ بها. وكأنه على هذا المذهب إنّما اشترط ظنّ البائع للحمل لا يقينه به، والظّنّ يخطئ ويصيب. وأمّا اشتراط المشتري ذلك في الرّائعة وكونها حاملًا، فإنّ ذلك محمله محمل التّبرّي من الحمل، لكون هذا عيبًا ظاهرًا، والعيب لا يشترط إلاّ بمعنى التّبرّي منه. وإن كانت من الوخش فإنّه يرّدها، على حسب ما حكيناه من مذهب من ذهب إلى ردّ النّاقة المشترط حملها إذا لم تكن حاملًا. هذا اشتراط البراءة من العمل أو اشتراط حصوله. وأمّا تناول البراءة العامّة من كلّ عيب بالجارية، فإنّ العمل لا يدخل في هذه البراءة, لأنه إذا لم يجز إفراده بالاشتراط، لم يجب دخوله في لفظ عام لبراءة تجوز. كما لا يشتمل اشتراط البراءة على ما يعلمه البائع من العيوب، لكون ما يعلمه من العيوب لا يجوز إفراده بهذا الاشتراط، وهكذا قال ابن

الموّاز: البراءة العامّة لا يدخل فيها العمل، ولو اشترط البراءة منه في الرّائعة، لفسد البيع. وقد حاول بعض المتأخّرين تخريج اختلاف. فقال: قد قال ابن حبيب فيمن اشترى جارية مسبيّة في المقاسم أو وقعت في سهمانه، فإنّه لا يردّها يحمل يظهر. لأن بيع المقاسم بيع براءة. قال: وهذا يقتضي دخول العمل في البراءة العامّة. وهذا الّذي قاله قد يجاب عنه بأن المسألة مبنيّة أنّ المسألة (¬1) ذات زوج. وقد قدّمنا أنّ من اشترى أمة ذات زوج فإنّه لا يرد يحمل يظهر. فإذا أمكن هذا كان هذا التّحريم فيه نظر. إلاَّ أن يحمل ما ذكرنا على جارية مسبيّة ليست بذات زوج. وإذا تقرّر حكم البراءة وتأثيرها، وما يجوز منها وما لا يجوز إذا وقع الشّرط في العقد، فإن التّبرّي من العيوب بعد العقد على وجهين. أحدهما: أن يتبرّأ البائع من عيب ظاهر، فإنّ المشتري يخيّر حينئذ في قبول البيع أو ردّه. كما لو اطّلع على عيب من تلقاء نفسه، وإن لم يكن عيبًا ظاهرًا، فإنّه لا يلزم المشتري تصديق البائع، بل يقف الأمر على اطلاع المشتري عليه، وتقدّم الكلام على هذا. وأمّا إن تبرّأ بعد العقد بعوض، فإنه ذكر في المدوّنة فيمن باع دابّة وأتى بعد العقد فتبرّأ من عيوبها على دينار بذله المشتري (¬2) فإنّ ذلك لا يبريه. وإن كان ذلك في جارية، لصحّت البراءة. قال ابن حبيب: لأنّ ما بعد العقد ملحق به. كما يصحّ استلحاق مال العبد بعد العقد، كما يصحّ اشتراطه في أصل العقد. وكما يشتري مكيلة من صبرة طعام بعد أن باعها والمكيلة بمقدار ما يجوز استثناؤه من الصبرة كيلًا. وهذا الّذي ذكروه بناء على تخصيص الرّقيق بجواز البراءة من عيوبه، ومنع ذلك فيما سواه من الحيوان. وقد ذكر ابن حبيب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المَسْبيَّة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمشتري.

أنّه لو عقد البيع على عشرة دنانير على أن وضع دينارًا من العشرة ليبرأ من العيوب، أنّ ذلك لا يبرئه. قال: كمن تزوّج بعشرة دنانير على أن يسقط عنه دينار على ألاّ يتزوّج على المرأة، فإنّ هذا الشرط لا يلزم. وتعقّب هذا القول عليه ونقض فيه ما تقدّم من قوله: إنّ ما بعد العقد ملحق بالعقد. فإذا باع جارية بعشرة دنانير ليبرأ من عيوبها، فإنّ العقد، وإن لم يعتبر فيه ما سقط، قد اشترط فيه البراءة، واشتراط البراءة في الجارية في أصل العقد يجوز، وإن لم يخصّ بعوض، واشتراط ألاّ يتزوّج في أصل عقد النّكاح لا يلزم. ولا يبعد هذا الاشتراط على المعروف من المذهب، وهذا يمنعه من قياس اشتراط البراءة على اشتراط ألًا يتزوّج: والجواب عن السؤال السابع أن يقال: إذا انعقد البيع على البراءة فاطّلع المشتري على عيب، فإنّ الحكم أن يحلف البائع أنّه لم يعلم بالعيب. فإن حلف على ذلك سقط مقال المشتري في الرّدّ، وإن نكل ردّ عليه المبيع بالعيب. وفيما كان ذلك كذلك لأجل البراءة يشترط في تأثيرها كون البائع لا يعلم بالعيب. فلو ثبت أنّ العيب عنده وأنّه باع وهو عالم به، لكان يجب للمشتري الرّدّ. فإذا أمكن علمه بذلك، استظهر عليه باليمين لأجل هذا الإمكان. فإن حلف فقد رفع يمينه حكم هذا الشّكّ والإمكان. وإن نكل صار كالمقرّ بأنه عالم بالعيب، فيجب الرّدّ عليه، من غير يمين على المشتري, لأنه غير قاطع على علم البائع بذلك. ويجري ذلك مجرى أيمان التّهم التّي لا يرجع اليمين فيها. هذا الأصل المشهور من المذهب. وإن كان قد ذكر في المستخرجة عن ابن القاسم أنّ البيع لا يرد حتّى يحلف المشتري على أنّ هذا العيب لم يحدث عنده. وقد تعقّبت هذه الرّواية بأنّه ذكر فيها، أنّ العيب قديم، ثمّ استحلف المشتري على أنّه لم يحدث عنده، ولا يصحّ استحلاف أحد على قول شهدت له بصحّته البيّنة.

واعتذر عن هذا بأن قِدَم العيب لم يثبت يقينًا، وإنّما ثبت بقول علماء الطّبّ، وقد يخطِئون فيما يعتقدون من المداواة والعلل. فلهذا لم يحكم ها هنا بقدم العيب على القطع. وهذه الرّواية لم يرجع اليمين فيها على المشتري على طباق ما وجبت على البائع, لأنّ طباق ما وجبت على البائع أن يقول المشتري: بالله لقد علمت أنها البائع بها. ولكن هذا لا يلزمه لعدم القطع على علم البائع كما قدّمناه. وإنّما صار في هذه الرّواية إلى استحلاف المشتري لأجل أنّ الأصول تقتضي أنّ اليمين إذا وجبت في محلّ فعدل عنها، انتقلت إلى المحلّ الآخر. هذا إذا ثبت قدم العيب. وأمّا الوشكّ في قدم العيب أو حدوثه، فإن فيه قولين: أحدهما إثبات اليمين، إذا وجبت، لحصول الشك في كون هذا العيب كان عند البائع، وفي كونه علم بما فيه، فيفتقر إلى رفع هذا الإمكان إلى يمين البائع. وقيل: لا يمين عليه ها هنا لأجل أنّ المؤثّر في الرّدّ علم البائع بالعيب. فإذا ثبت قدم العيب، حلف على نفي إمكان واحد. وإذا لم يثبت قدمه وشكّ في حدوثه عند المشتري، لم يؤثّر إمكان كونه عالمًا بالعيب إلاّ بعد إمكان وجه آخر، وهو كون العيب قديمًا عند البائع. فلمّا صار الإمكان ها هنا لم يتصوّر إلاّ بواسطة وإمكان آخر ضعف تعلّق اليمين. هذا هو وجه الاعتبار فيما قدّمناه. لكن عوّل مالك، رضي الله عنه، فيه على قضيّة عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، فإنّه حكى في موطئه أنّ عبد الله بن عمر باع غلامه فقام المشتري بعيب فيه، وقال لابن عمر: بعتني، وبه داء لم أعلم به. فاختصما إلى عثمان، رضي الله عنه، فقضى على عبد الله بن عمر باليمين أنّه لم يعلم بالعيب، فأبى أن يحلف، وارتجع العبد، فذهب عنه الداء فباعه عبد الله بن عمر بعد ذهاب دائه بألف وخمسمائة درهم. وقد كان بيعه

الأول بثمانيمائة درهم. فاقتضى هذا الأثر كون البراءة لا تؤثر فيما علمه البائع من العيب. واستحلاف البائع على أنّه لم يعلم بالعيب. وقضِيَ بذلك على ابن عمر، رضي الله عنه،- وإن كان من الفضل، وبروز العدالة، والمبالغة في الدّيانة، بحيث لا يتّهم، طردًا لهذا الحكم وجَعْلِه كقضيّة كلّية في الصالح وغير الصّالح، كما كنّا قدّمنا في بياعات الآجال واعتللنا به في حماية الذّرائع. وظاهر هذا الحديث يقتضي ألاّ يوقف يمين البائع على دعوى المشتري أنّ البائع عالم بالعيب, لأنّ عثمان، رضي الله عنه، لم يطلب المشتري أن ينطق بهذه الدّعوى. وهذا هو الأظهر في الرّوايات إذا طالب المشتري استحلافه ولم يدع أنّه عالم يكون البائع عالمًا. وقد قال لبعض المتأخّرين: إنّ الرّواية التي قدّمناها عن ابن (¬1) المذكورة في المستخرجة من قوله: إذا نكل البَائع، لم يردّ البيع إلاّ بعد يمين المشتري. يقتضي وقف هذا الحكم على دعوى المشتري: أنّ البائع عالم بالعيب. وهذا الّذي قاله فيه نظر, لأنّا قدّمنا أن هذه الرّواية التّي أشرنا إليها لم يلزم المشتري فيها أن يحلف على أن البائع عالم بالعيب. فإنّما تلزمه اليمين على أنّه لم يعلم أنّ هذا العيب حدث عنده. فلا يكون في هذا تعلّق بما أشار إليه. هذا فيما استقراه من هذه الرّواية. والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال: ذكر بعض المتأخّرين أن بيع البراءة إذا وقع من السلطان وأهل المواريث الّذين باعوا لِقضاء دين أو إنفاذ وصيّة، فإنّ المشتري إذا اطّلع على عيب قبل أن يفوت الثّمن ويفرّق على الغرماء فإنّ له الرّدّ بالعيب. فإذا فرّق الثّمن على الغرماء، لم يردّ بالعيب. فحصول تأثير البراءة في بيع السلطان والمواريث، كما قدّمناه، لكون الثمّن قد فات واقتسمه الغرماء. فصارت هذه ضرورة تقتضي منع الردّ بهذا العيب. بخلاف أن تكون البراءة إنّما تثبت باشتراط، على أحد القولين المتقدّمين، ¬

_ (¬1) بياض في المدنية غير موجود في الوطنية مقداره كلمة ولعلها: القاسم.

فيما باعه الإنسان لنفسه واشتراط البراءة منه، فإنّ المشتري لا قيام له بعيب، وإن كان الثّمن حاضرًا، لكون اشتراط البراءة من ثبوت حقّ له في هذا العيب. وهذا فيه نظر عندي لا ينحقّق فرق بين بيع السلطان وبين اشتراط البراءة فيما باعه الإنسان لنفسه في هذا. لأنّ بيع السلطان إذا كان الحكم يوجب البراءة فيه، كان ذلك كبراءة تجب بالاشتراط. بل ربما كان ما يجب حكمًا آكد مِمّا يجب شرطًا. فهذا مِمّا ينظر فيه. لكن قد وقع في المدنيّة في السلطان إذا باع وثبت أنّه علم بالعيب فيما باعه، أو ثبت أنّ الغريم الّذي بيع ذلك عليه عالم بالعيب، أنّ داود بن جعفر روى عن مالك أنّ المشتري يردّ هذا المعيب إذا كان حاضرًا. فإذا كان فرق على الغرماء لم يرد بذلك، مع كون هذه البراءة قد بطلت بعلم البائع بالعيب، فوجب الرّدّ. وفرْق بين كون الثّمن قسم على الغرماء أو لم يقسم، فمنع من الرّدّ إذا قُسِم، لكون هذه ضرورة تمنع من ردّ البيع. بخلاف إذا كان الثّمن حاضرًا. وهذه التّفرقة تشير إلى التّفرقة التّي حكيناها عن بعض المتأخّرين فيما يثبت من البراءة حكمًا لاشرطًا. وقد حكي عن مالك وابن نافع، وغيرهما من أصحاب مالك: أنّ العلم بالعيب حين عقد السلطان له الحكم المطالبة بقيمة العيب. وقدّر في هذا القول أنّ هذا المعيب، وإن كان المعيب لم يفت، فإنّه يقدّر كمبيع فات يكون الحكم فيه المطالبة بقيمة العيب، لكون الثّمن اقتسمه الغرماء، ويعسر ردّه منهم. والمشهور من المذهب تمكين المشتري من الرّدّ إذا ثبت كون السلطان عالمًا بهذا العيب حين باع والرجوع بالثّمن على الغرماء. وقد وقع لسحنون فيمن قيم عليه بسقوط أضراس عند بائعه. فقال البائع للمشتري: تبرّأت إليك منها، فأنكر المشتري، فأتى البائع ببيّنة: أنّه باع بالبراءة مطلقًا، أنّ هذا لا ينفعه. لكون قوله: تبرّأت إليك منها تتضمن أنه عالم بهذا

العيب. ومن علم بالعيب لا تنفعه البراءة مطلقة، كما قدّمناه. وتعقّب هذا بأنّ قوله: تبرأت إليك منها، تضمّن أنّه عالم بهذا العيب. ومن علم بالعيب لا ينفعه البراءة مطلقة، كما قدّمناه. وتعقّب هذا بأنّ قوله: تبرأت إليك منها، يحتمل أن يكون أراد أنّ البراءة العامّة تبريني منها، كما تبرّأت إليك منها، تخصيصًا لها بالذّكر. وكذلك أيضًا وقع لسحنون فيمن قيم عليه بعيب في جارية فقال: بعتها بالبراءة، فأنكر المشتري ذلك، فصدّق المشتري، وقَضَى بأنّ القول قوله، وردّ الجارية، فقام بائعه منه الّذي ردّت عليه على من باعها منه هو أيضًا. فقال له البائع الأول: أنت زعمت أنّك بعتها بالبراءة من هذا العيب، وأنّ هذا الّذي ردّها عليك ظلمك فردّها عليك، ولا سبيل لك إلى ردّها عليّ، وقد أقررت بأنّها ردّت عليك بغير حقّ. فقال سحنون: له أن يردّها على البائع لكون البيع قد انتقض. وكذلك يحلّ وطؤها بهذا الرّدّ، كمختلفَيْن في ثمن جارية، فتحالفا وتفاسخا، فإنّ للبائع وطء الجارية إذا تفاسخا فيها وتحالفا، وإن كان يعتقد أنّ مشتريها قد ظلم في ردّها. وهذا قد سبق نحن كلامنا على هذه المسألة في اختلاف المتبايعين. وإذا اشترى رجل عبدًا بالبراءة ثمّ باعه على العهدة، فإن للمشتري مقالًا في هذا البيع ونقضه, لأنّه يعتلّ بأنّه قد يطّلع على عيب يجب له من أجله ردّ هذا العبد بالعيب، فيجد البائع مفلسًا، فيكون من حقّه أن يردّ على من باع ذلك منه، فلا يمكنه لكون البيع الأوّل عقد على البراءة. وخرج على هذه الرّواية ثبوت مقال لمن اشترى عبدًا من رجل وهب له ذلك العبد، لأجل أنّه يعتلّ المشتري أيضًا بأن يقول: قد يستحقّ العبد من يدي، فيجب لي الرّجوع على من باعه منّي فاجده مفلسًا، فلا يكون لي سبيل إلى الرّجوع على من صار إليه ذلك العبد منه، لكونه أخذ هذا العبد هبة لا عن معاوضة.

وكذلك أيضًا لو اشتراه على العهدة وباعه بالبراءة، فإنه يمنع من هذا البيع، لكون المشتري قد يطّلع على عيب أتلف هذا العبد، فلا يمكنه الرّجوع على من باعه منه، لكون البائع منه قد تبرّأ له من العيوب، فيحصل له ثمن العبد الفائت ويكون من حقّه الرّجوع على من باعه منه، لأجل أنّه لم يبرأ له من العيب، فيحصل على أخذ ثمن هذا العبد مرّتين، فمنع من هذا العقد لأجل هذا الذي ذكرناه. وبالله التّوفيق. قال القاضي أبو محمّد، رضي الله عنه،: وعهدة الثلاث لازمة في الرّقيق. ثمّ عهدة السّنة بعدها من الأدوار الثّلاثة الجنون والجذام والبرص في كلّ بلد جرت عادتهم باشتراطها أو استأنفوها. ولا تلزم في المواضع التّي لم يتعارفوها إلاَّ أن يستأنفوا اشتراطهما. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال: 1 - ما معنى العهدة؟ 2 - وما تأثيرها؟ 3 - وما قسمتها؟ 4 - وما محلها من البياعات؟ 5 - وما محلّها من العقود؟ 6 - وما محلّها من البلاد؟ 7 - وما حكم النّقد فيها؟ 8 - وما حكمها في البيع الفاسد؟ (¬1) فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: المراد بالعهدة ها هنا تعلّق البيع بضمان البائع فيما طرأ عليه من نقص في بدن أو ثمن أو تلف عين. وهذا مِمّا ينقسم في البياعات الصحيحة اللّازمة على قسمين: ¬

_ (¬1) لا توجد بقية الأسئلة في النص.

أحدهما الضّمان من جهة حقّ توفية لزمت البائع بكيل أو وزن أو عدد، أو بالتّسليم وإمكانه. وهذا يؤخّر الكلام عليه إلى فراغنا من هذا الفصل، وإن كان يعدّ منه أوّلًا. وقد ذكره في المدوّنة في أوّل كتاب الرّدّ بالعيب. ولكن أخّرناه لتأخير القاضي أبي محمّد رحمه الله في كلامه على العيوب. والقسم الثاني تعلّق الضمان بالبائع بعد قبض المشتري المبيع. وهو الّذي نبيّنه في هذا الفصل. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: هذه العهدة التّي نتكلّم عليها على وجهين: عامّة في الضمان، وخاصّة. فأمّا العامّة من ناحية الضّمان، ففي عهدة الثّلاثة أيّام. وأمّا الخاصّة من جهة الضّمان عهدة السنة، فإنّ البائع لا يطالب فيها إلاّ بضمان ثلاثة أدواء، إن ظهرت، وهي الجنون والجذام والبرص. وأمّا عهدة الثّلاث، فإنه يضمن البائع سائر ما حدث من الأمراض فيها والنّقص كلّه وذهاب العين. لكون هذه المدّة جعلت في الشّرع مضافة إلى ملكه، والمالك مصيبة ما حدث في ملكه منه. وإذا كان كذلك كانت النّفقة على البائع، والكسوة. كما يكون ذلك عليه في ملكه. ومقتضى هذا أن تكون له الغلّة في هذه الثّلاثة أيّام. لكن هذا المعنى نبسطه في الفصل الّذي وعدنا بالكلام عليه بعد هذا. فإنّ رأي بعض أشياخي أنّ الغلاّت فيما بيع واحتبس بالثّمن يجري على القولين في ضمان ما حبس بالثّمن. فإن قلنا: ضمانه من البائع، كانت الغلاّت له, لأنّ الخراج بالضّمان. وإن قلنا: إنّ الضّمان من المشتري، كانت الغلاّت له. وهكذا قال سحنون لمّا ذكر اختلاف قول مالك في بيع الغائب أنّ النّماء والنّقصان يجري على اختلاف قوله. وإن كان القاضي أبو محمّد أشار في بعض كتبه إلى ارتفاع الخلاف في الغلّة، وأنّها للمشتري. لكن المنصوص ها هنا أنّ ذلك للبائع. وقد قال في كتاب بيع الخيار من المدوّنة: ما جنى على العبد في الثّلاث أو تصدّق به عليه، فإنّه للبائع.

لكن ابن أبي زمنين ذكر معارضة في قوله: إنّ ما جني عليه في الثّلاث فأرشه للبائع، وللمشتري أن يردّه بعيب هذه الجناية، فإنّ الواجب في العبد المجنيّ عليه إيقافه حتّى يُطلَع على ما تنتهي إليه الجناية، ولا يقضي فيها قبل برئها. والأمد الّذي ينتظر فيه برؤها مجهول، فيجب أن يفسخ هذا البيع، ويمنع المشتري من إمضائه، لأجل هذه الجهالة بأمر الوقف لانتظار البرء. إلاَّ أن يسقط عن الجاني هذه الجناية، فيصحّ للمشري الرّضى بهذا العيب، بشرط، أيضًا، أن تكون الجناية غير مهلكة، فإنّه لا يُمكَّن من إمضاء هذا البيع، ولو سقطت الجناية, لأنّه يكون كابتداء شراء عبد قد قارب الموت. وهذا الّذي نبّه عليه ابن أبي زمنين من المعاوضة التّي وقعت لبعض أشياخه في هذه بأنّ رضا المشتري بإمضاء البيع مع هذا العيب يجب أن يمنع منه. وما فعله هو أيضًا من فسخ البيع إلاّ أن يشترط الجناية، ولم يبلغ العبد إلى حالة لا يجوز عقد الشّراء فيها، إنّما يصحّ على إحدى الطّريقتين. وأمّا على الطّريقة الأخرى، وهي مذهب أصحاب مالك، في أنّ ما توجبه الأحكام في هذا بخلاف ما دخل فيه اختيارًا، وأنّ ما حدث بعد العقود من جهالة قد كانت مرتفعة في أصل العقد لا يمنع من التّمسك بالمبيع. وقد ذكرنا في أوّل كتاب الرّدّ بالعيب مذهب ابن حبيب في أنّ استحقاق أكثر الثّياب المبيعة لا يمنع المشتري من التمسك بما لم يستحقّ، وإن كان مقداره في الثّمن مجهولًا، لمّا كان معلومًا في أصل العقد. فكذلك ما نحن فيه، بل هو أبعد من هذا, لأنّه قد تكون جناية قد برئت في الحال. أو وقفًا للإطلاق على الواجب فيها لا يمنع من كمال التّصرّف في المبيع والانتفاع به، فلا يكون لهذا الوقف تأثير في منع البيع. والّذي ذكرناه ها هنا من إجراء هذه المسألة على الاختلاف في المحبوسة بالثّمن إنّما يتّضح إذا قلنا في بيع العهدة: إنّه منعقد. وأمّا إن قلنا: إنّه موقوف على ذهاب أيّام العهدة، فإن ذهبت والمبيع

سالم بيّنا (¬1) صحّة العقد. وإن ذهبت وهو معيب بيّنا (1) أنّه عقد غير لازم للمشتري، فإنّ هذا يخرج على طريقة أخرى. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: أمّا العهدة فإنّها عهدتان: كبرى من جهة الضّمان صغرى من جهة الأمد، وهو ثلاثة أيّام. فإن ضمان كلّ ما حدث بالعبد أو الأمة متعلّق بالبائع عمومًا، كان ذلك بأمر من الله سبحانه، أو باكتساب من النّاس. والعهدة الثّانية صغرى من جهة الضّمان كبرى من جهة الأمد، وهي عهدة السنة. فإنّ البائع لا يضمن العبد أو الأمة إلاَّ من ثلاثة أدواء وهي الجنون والجذام والبرص. واختلفت الرّواية عن مالك في دخول العهدة الصغرى في العهدة الكبرى من ناحية الأمد، هل تحسب السنة من يوم العقد، أو بعد انقضاء الثّلاثة أيّام؟ وسبب الاختلاف أنّ الأصول مبنيّة على دخول الأصغر في الأكبر كما نقول، فيمن بال ثمّ أجنب، فإنّ الوضوء الواجب عن البول ساقط عنه بدخوله في الغسل الواجب عن الجنابة. وكما نقول العمرة تدخل في عمل الحج لمن قرن الحجّ والعمرة، لمّا كانت جزءًا من أعمال الحجّ. وهذا مقتضى دخول الثّلاثة أيّام في السنة. أو يقال بأن الضّمان المتعلّق بالثّلاث ضمان سائر الأمراض، وذهاب العين، والمتعلّق بعهدة السنة ضمان لأمور مخصوصة، كما قدّمناه. فلمّا اختلف تأثيرهما واختلف أمدهما، لم يتداخلا. ووجب أن تكون عهدة السنة، بعد ذهاب الأيّام الثّلاثة وبعد ذهاب أيّام الاستبراء فيما يجب فيه الاستبراء. لكن دخول الثّلاثة أيّام في أمد الاستبراء ثابت، لكون تأثير الأمرين لا يختلف. لأن عهدة الثّلاث تتضمّن الضّمان لكلّ نقص. فارتفع سبب الخلاف الّذي ذكرناه في دخول عهدة الثّلاث في عهدة السنة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: تبينا

ولو حصل الاستبراء عقيب العقد بيوم ونحوه. مثل أن تضع الأمة وما في معنى ذلك، لوجب انتظار ذهاب بقيّة الثّلاثة أيّام. ولو عقد البيع على خيار لكانت العهدة بعد أيّام الخيار. هذا هو المنصوص في. هذا. وإنّما يصحّ ما قالوه من كون عهدة الثّلاث بعد ارتفاع الخيار بناء على أحد القولين عندنا في أنّ بيع الخيار إنّما يعدّ منعقدًا حين إمضائه. وعلى هذه الطّريقة التّي نبّهناك عليها في تداخل العُهَد ينبغي أن تسلك في بيع عبد غائب. فإنّا إذا قلنا: ضمان المبيع الغائب من بائعه يجب أن تحسب الثّلاث عقيب العقد إذا انقضت، بقيت المطالبة بعهدَة الغيبة. وكذلك ينبغي أن يجري الأمر في المحتسبة بالثّمن لكون الضّمان فيما ذكرناه من هذين عامًّا كعموم ضمان عهدة الثّلاث. ولو وقع العقد في بعض يوم، فإنّ المرويّ عن مالك إلغاؤه وانتظار ثلاثة أيّام بعده. كما يعتبر في إتمام صلاة المسافر أربعة أيّام كوامل. وكما يعتبر في العقيقة أيّامها كوامل. وقد يتخرّج على قول سحنون في تلفيق الأيّام في صلاة المسافر، وأنّه يعتبر عشرين صلاة، أن يعتبر ذلك في عهدة الثّلاث. وقد يلتفت في هذا إلى علّة الأصل وهي ضرب الثّلاث، هل ذلك لأجل أنّها دون حُمَّى الرِّبْع، فينظر مقدار دون هذه العادة. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: أمّا محلّها من المبيعات، فإنّها إنّما تعتبر في الرّقيق خاصّة، ذكوره وإناثه. والدّليل على ذلك ما رواه الحسن عن عقبة بن عامر أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (عهدة الرّقيق ثلاث ليال) (¬1). وروى الحسن أيضًا عن سمرة بن جندب أنّ النبيّ عليه السلام قال: (عهدة الرّقيق ثلاث) (¬2). وذكر مالك في الموطإ أنّ أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل كانا يذكران ¬

_ (¬1) فيض القدير: 4/ 366. حد. 5635. (¬2) ابن ماجة عن سمرة. نفس المصدر.

في خطبتما عهدة الرّقيق (¬1) ورأى مالك رضي الله عنه أنّ الأمر إنّما يذكرون هذا في المدينة على رؤوس النّاس، ولا أحد ينكره لكونه متقرّرًا في الشّرع عندهم مشتهرًا. وعلّل هذا بأنّ الرّقيق يكتم عيبه، فيجب أن يستظهر فيه بالثّلاثة أيّام حتّى يتبيّن للمشتري ما كتم عنه. وعلّل أيضًا بأنّه يختصّ بذكر عيبه. بخلاف غيره من الحيوان. فيمكن أن يكون ذكر ذلك لسيّده، فبادر لبيعه خوف أن يتبيّن مرضه. فجعلت الثّلاث أمدد البيان ارتفاع تدليسه. كما جعلت في التصرية التّي دلّس بها البائع. وأمّا عهدة السنة فإنها اختصت بالثلاثة أدواء، لكون الجنون والجذام والبرص تتقدم أسبابه، ويظهر في فصل من فصول السنة دون فصل، بحسب ما يؤكّد طبيعة الفصل سببه. فانتظر بذلك الفصول الأربعة وهي السنة كلّها حتّى يؤمن من هذا العيب ومن التّدليس به. وأنكر أبو حنيفة هاتين العهدتين. واستدلّ أصحابنا عليه بما ذكرناه من الآثار وطرق الاعتبار. وقد ذكرنا في الاعتبار تعليلين مختلفين ونبّهناك عليهما في أؤل بيع البراءة. وهذه الثّلاثة أدواء إنّما تؤثّر إذا تحقّقت، ولو ظهر من الجرب ما يشبه الجذام، ولا يكون جذامًا، لم يردّ به. وأمّا الجنون فإنّه إذا كان من مسّ الجانّ وجب الرّدّ به لكونه مفتقرًا إلى انكشافه بذهاب الفصول الأربع الّتي يمكن أن يحدث فيها في فصل دون فصل. ولو كان من حادث علم سببه مثل أن يضرب رأسه في خلال السنة فيجنّ فإنّ في المذهب قولين: المشهور ألاّ ردّ بهذا. وقال ابن وهب: يجب الرّدّ به أخذا بعموم الرّدّ بالجنون كلّه على اختلاف أسبابه، كما وجب عموم الضّمان في عهدة ¬

_ (¬1) الموطأ: 2/ 134. حد. 1790.

الثلاث في سائر أجناس الأمراض. ورأى الآخرون أنّ هذا مِمّا لا يقف العلم به على مضيّ الفصول الأربع. فلم يعتبر في عهدة السنة لفقد العلّة الّتي ذكرناها في اعتبار السنة. ولو شكّ في هذه الأدواء في السنة وتحقّقت بعد مضىّ السنة لكان في ذلك قولان. وكذلك لو تحقّق سببها في السنة وأنّها ستظهر بعد السنة، فإنّ في ذلك أيضًا قولين. ولو ذهبت الحمى في عهدة الثّلاث فإنّ ظاهر المذهب على قولين: عند أشهب يقف الأمر على اعتبار حالها بعد الثّلاث، هل تعود بالقرب فيجب الرّدّ أو لا تعود إلاّ بعدُ (¬1) فلا يجب الرّدّ. وظاهر قول سحنون إثبات الرّدّ من غير وقف لانتظار العودة عن قرب أو بعد. ولو ذهب العيب ذهابًا تؤمن عودته قبل القيام به. لم يكن للمشتري مقال. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: العقود على ضربين: عقد طريقه المكايسة، وعقد طريقه المكارمة والمواصلة. فأمّا ما طريقه المكايسة والمتاجرة، فإنّه على قسمين: معيّن وغير معيّن. فإن كان معيّنًا، فالعهدة ثابتة فيه، على حسب ما قدّمناه في عهدة الثّلاث والسنة، إذا لم يشترط فيه البراءة، وكان من الرّقيق، على حسب ما قد بيّناه. وإن كان سلما في الذّمّة ففيه قولان: أحدهما إثبات العهدة فيه أخذا بعموم ظاهر الخبر الّذي قدّمناه، وقياسًا على سائر المعينات المبيعة من الرّقيق، لكون العبد المسلم فيه إذا أحضر من عليه السلم عبدًا، فيمكن أن يكون علم به بسبب عيب فكتمه، على حسب ماعلّلناه فيما سلف. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين والأوضح: بَعْدَ بُعْدٍ.

والثَّاني: ألاّ عهدة فيه لكون المشترَى غير معين، ونفي التّعيين الظّاهرُ منه أنّه يتضمّن الجهل بسبب الأدواء المعتبرة في أدواء العهدة، فلم تثبت العهدة فيه لارتفاع علّتها. وأيضًا فإنّه إذا تعيّن بالقبض، وبقيت فيه العهدة، فإنّ القبض لم يتناجز. وإذا لم يتناجز المعين المأخوذ عن دين، لم يجز ذلك، كما قال ابن القاسم فيمن أخذ عبدًا غائبًا عن دين في الذّمة: إنّ ذلك ممنوع لأنّه فسخ دين في عوض يتأجّل قبضه. وهذا على طريقة من ذهب إلى منع أخذ معين يتأجّل قبضه عن دين في الذّمّة. ومن أجاز ذلك، لم يصحّ على أصله التّعليل بهذا. على أنّ في التّعليل به وإن منعنا أخذ معين يتأجّل قبضه عن دين, لأنّا إنّما ذكرنا عن ابن القاسم أنّه يمنع من هذا لكونه في صورة فسخ دين في دين. وهذا إنّما يتصوّر مع اختلاف الجنسين وإمّا مع كون الجنس واحدًا، فلا يتصوّر فيه التّبدّل على الحقيقة، كما يتصوّر في جنسين، ولهذا قال سحنون: لا عهدة في عبد أخذ من دين. لأنّه إذا أخذ من دين حصلت المعاوضة ما بين جنسين مختلفين، فتصوّر فيها فسخ الدّين في الدّين. وأمّا ما طريقه المكارمة من المعاوضة كالنّكاح، فإنّه اختلف قول مالك فيه، هل فيه عهدة إذا كان الصّداق عبدًا أم لا؟ فأثبت فيه العهدة مرّة قياسًا على سائر عقود المعاوضات الماليّة. ونفاها مرّة أخرى لكون هذا العبد عوضه ليس بمال محض، فخرج من أحكام العقود الماليّة في هذا. وأيضًا فإنّه يتصوّر فيه الطّريق الّذي صوّرناها في السلم، لكون البضع إذا عقد عليه وجب تنجيز استباحة الفرج، إذ لا يصحّ العقد على فرج لا يستباح في الحال، والفرج لا يصحّ اشتراط تعجيل استباحته, لأنّه كاشتراط النّقد في عهدة الثّلاث، واشتراط

النّقد فيها ممنوع. فاقتضى هذا منع إثبات العهدة فيه، لكون إثبات العهدة فيه تقتضي منع النّكاح وفساده. وفسادُه وارتفاعُه يرفع حكم العهدّه. فصار هذا كفرع كرّ ببطلان أصله، فيكون هو الباطل دون أصله. ومن هذا المعنى السلف، فإنّه ذكر في الموّازيّة والواضحة ألاّ عهدة في سلف. وهكذا قال سحنون: لا عهدة فيما تسلف. وهكذا قال ابن أبي زمنين: لا عهدة في عبد مقرض. فلم يصرّح هؤلاء بثبوت العهدة في قضاء السلف. وظاهر قول من حكينا عنه أنّه قال: لا عهدة في العبد المقرض. قد يشير إلى قضاء السلف، بخلاف ابتدائه, لأنّ ابتداءه طريقهُ المعروفُ، لا يبنى الأمر فيه على التّهم والقصد إلى المكايسة والمغابنة, لأنّ قصدَ المسلف إلى هذا وإرادتَه منفعةً لنفسه يحرم عليه ما فعل. وقضاء السلف ليس طريقهُ المعروفَ. فقد يتصوّر فيه التّهمة. وهكذا الإقالة والتّولية لا عهدة فيهما لمّا كان طريقهما المعروف. وحاول بعض المتأخّرين أن يخرج في هذا اختلافًا من اختلاف أهل المذهب في الإقالة، هل هي حلّ بيع أو ابتداء بيع؟ فإن قيل: إنّها ابتداء بيع، وجب ثبوت العهدة فيها. وهذا التّخريج فيه نظر, لأنّه وإن قلنا: إنّه كابتداء بيع، فإنّ هذا بيع قصد فيه إلى المعروف، فلم يلحق بالعقود المقصود فيها المعاوضة على جهة المكايسة. ولم يقع في المذهب خلاف في الرّدّ بالعيب، أنَّه لا عهدة فيه. وإن كان قد قيل في أحد الطريقتين: إنّ الرّدّ بالعيب كابتداء بيع. ولكن هذا وإن قيل، فهو بيع أوجبه الشّرع بغير اختيار من رجع إليه العبد، فخرج عن العقود الاختياريّة المقصود فيها المكايسة. وقد قال ابن الماجشون في هبة الثّواب: لا عهدة فيها لمّا أن كان طريقها المكايسة وَالمواصلة. وكذلك الخلع لا عهدة فيه لأنّه ليس كالبيع المحض، ولهذا جاز عقده بالغرر، على أحد القولين. وأيضًا فإنّ المرأة قد استعجلت

قبض ما اشترته وهو منافع بعضها. فصَار ذلك كاشتراط النّقد فيما فيه العهدة، وقد قدّمنا أنّ اشتراط النّقد في عهدة الثّلاث لا يجوز. فإذا تضمّن إثبات العهدة في الخلع منْع المعاوضة وجب منعه في نفسه دون منع أصله، كما قدمناه في التّعليل لإسقاط العهدة في النّكاح. وقد قال ابن أبي زمنين: لا عهدة في عبد مقرَض، أو مخالَع به، أو مأخوذ من قطاعة مكاتب، أو مصالح به عن دم عبد، أو مسلَم فيه، أو اشترِي، وهو غِائب غيبة بعيدة، على الصفة. وهذا يمكن أن يكون رأى ذلك ملحقًا بعقود ما في الذّمة كالسلم، أو رأى أنّ عهدة الثّلاث تنقضي قبل أمد الوصول إلى العبد، فتسقط فيه عهدة الثّلاث. وقال بعض المتأخّرين: يجب اعتبار العهدة في بيع العبد الغائب، وإذا انقضت بقيت عهدة ضمان الغيبة، كما بقيت في عبد لم يقبضه المشتري، فإذا انقضت، بقيت عهدة ضمان التّسليم على أحد القولين. ولكن هذا الّذي قاله يقتضي إثبات عهدة السنة فيه إذا عقد البيع فيه، وهو من الغيبة بحيث يجوز عقد البيع عليه وإن بعدت غيبته. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: قد قرّرنا محلّها في البياعات ومحلّها في العقود. فأمّا محلّها في الأماكن، فعن مالك فيه روايتان: هل محلّها سائر البلاد، الّتي اعتادها أهلها أو لم يعتادوها؟ أو إنّما محلّها البلاد الّتي اعتيد ذلك فيها. فروى المصريّون عنه أنّه لا يقضَى بها حيث لم تجْرِبها عادة، إلاَّ أن يحملهم السلطان على ذلك. وقد روى عنه المدنيّون أنّه يقضى بها في سائر البلاد، الّتي علم أهلها العهدة أو جهلوها، ويحملهم السلطان على ذلك. فكأن من قصر العهدة على البلاد الّتي اعتادتها حمل الحديث على أنّ أهل المدينة اعتادوا البيع على العهدة، فأقرّهم - صلى الله عليه وسلم -عليه ا، وقال (عهدة الرّقيق ثلاث) (¬1) ¬

_ (¬1) الموطأ: 2/ 134. حد. 1790 - البغوي: شرح السنة: 8/ 149.

كما قدّمناه. فصار هذا الحديث خرج على سبب نُصّ عليه. ومن قضى بها في سائر البلاد، أخذ الحديث على عمومه، فلم يقض على البلد الّذي خاطبهم - صلى الله عليه وسلم - فيه بها واعتادوها. أو يرى أنّ مقتضى الأصول سقوط الضّمان عن البائع بقبض المشتري للمبيع قياسًا على سائر أجناس البياعات المتّفق على أن لا عهدة فيها. ويجيب الآخرون عن هذا بأنّ في الرّقيق معنى، وهو كون مرضه عن أسباب تنكتم، كما قدّمناه، فلا يقاس على سائر أجناس المبيعات. وأيضًا فإنّ البائع يمكن أن يكون علم سبب هذا العيب فدلّس به، فاحتيط في ذلك بإثباتها. وإذا قلنا بقَصْر القضاء بها على مكان اعتيدت فيه، فهل يستحبّ للسلطان أن يحمل البلاد الّتي لم يعتادوها على البيع عليها أم لا؟ عنه في ذلك روايتان: إحداهما قوله: وددت أنّ السلطان حمل النّاس عليها. والرّواية الثّانية قوله: لا يحمل السلطان عليها من لم يعتدْها. فكأنّه نظر في القول الأوّل إلى المصلحة والاحتياط من التّدليس، فخوطب فيه بما هو أصلح للجمهور كما يخاطب بإزالة الفساد عن مكاييلهم وموازينهم. ونظر في القول الثّاني وهو نفي الضّمان بعد القبض كما قدّمناه. فإذا تقرّر محلّ القضاء بها أو بإسقاطها، فإنّه لو اشترط المشتري إسقاطها بمكان اعتيدت فيه، أو إثباتها بمكان لا يلزم القضاء بها فيه، فإنّ بعض أشياخي يشير إلى أنّ في هذا الشرط وإمضائه اختلافًا: فإن منعنا منه وأسقطناه لفساده، فإنّه يجري فساد العقد أيضًا على الاختلاف في بياعات الشّروط الفاسدة، هل يَفسدُ الشّرطُ ويصحّ العقد؟ أو

يبطلان جميعًا، على حسب ما كنّا قدّمنا في كتاب البيوع الفاسدة، وذكرنا مواضع الخلاف فيه. وهذا الّذي قاله قد يتجه تسليمه له في شرط اتّفق على منعه وفساده، كمن باع ثوبًا وشرط على المشتري أنّه يضمنه له بعد قبضه، فإنّ هذا الشّرط لا يصحّ ثبوته باتّفاق. وأمّا إن كان شرطًا مختلفًا فيه اختلافًا مشهورًا، فإنّ الشّرط قد يصار إلى إمضائه، كما قيل في بيع الغائب: إنّ ضمانه من البائع إلاّ أن يشترط البائع ضمانه على المشتري فيصحّ شرطه. وقيل أيضًا ضمانه على المشتري إلاّ أن يشترطه على البائع فيصحّ شرطه. فقد أمضي هذا الشّرط، وإن اشترط في غير محلّه في الأصلين، لمّا كان مختلفًا في محلّه. فصادف الشّرط محلًّا هو الأصل فيه على إحدى الرّوايتين عن مالك، بمضيّ الشّرط، ونفذ كما ينفذ لو حكم به في مسألة خلاف بين العلماء. لكن بيع الغائب إذا لم يكن فيه عادة أو عرف، كان الوجه فيه ما ذكرناه، والبيع على العهدة قد يفتقر إلى نظر آخر، وهو مقتضى العقد، هل مقتضاه إثبات العهدة أو إسقاطها؟ وقد قدّمنا في ذلك من الاختلاف عن مالك، رضي الله عنه. فإذا شرط ما يقتضيه العرف ومقتضى العقد اتّضح إمضاؤه. وإن شرط ما يخالفهما جميعًا، فقد صار بعض المتأخّرين إلى إبطال الشّرط وإمضاء العقد. وكأنّه ضعُف الشّرط عنده ها هنا لمخالفته وجهين: العرفَ ومقتضى العقد. ولو اختلف عنده مقتضى العرف، وكان للعرف وجه صحيح، صحّ العقد والشّرط أيضًا. وهذا التّفصيل يحوجك إلى النّظر في رواية المصريين والمدنيين حتّى تعلم ما مقتضى (¬1)، على إحدى الرّوايتين، فتضيف إليه العرف وتنظر هل الشّرط وافقهما جميعًا أو خالفهما أو خالف أحدهما. وهذا التّفصيل قد لا يتّضح له وجه يستمرّ على تحقيق النّظر. وإنّما تحقيق النّظر في هذا جواز الاشتراط أو منعه. فيمضي حيث يجوز، ويردّ حيث يمنع. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والمعنى: ما هو المقتضى؟

إلاّ أن يكون في جوازه اختلاف، فمن قال بمراعاة الخلاف أمضاه. ثمّ قد ينظر أيضًا في الخلاف، هل هو شاذّ ضعيف في النّظر فتسقط مراعاته، أو هو مشهور تحسن مراعاته. هذا هو التّحقيق في هذا المعنى. والجواب عن السؤال السابع أن يقال:. قد بيّنّا أنّ النّقد لا يلزم في عهدة الثّلاث، لكون أسباب الضّمان المتعلّقة بالثّلاث كثيرة متكرّرة، فمنع من التّقابض فيه، لكون العقد عُرْضَة الانحلال. ويمنع من اشتراطه أيضًا لأنّه قد ينحل، فيكون النّقد المشترط سلفًا، وإن لم ينحلّ كان بيعًا. وأمّا عهدة السنة، فإنّ النّقد جائز فيها, لكون الانحلال للعقد، بحدوث ثلاثة أدواء ذكرناها، نادرًا، والنّادر لا حكم له. ولو منع النّقد لوجب وقف الرّقيق المبيع عامًا كاملًا، فيقتضي ذلك بيع معين يقبض إلى أجل بعيد. وذلك لا يجوز. وإنّما أجزناه في بيع الثمر بعد الزّهو، وإن كان في ذلك الجوائح الّتي يضمنها البائع، لكون الغالب في الثّمار الأمْن من الجوائح، وكون ما يطرأ منها يستوي البائع والمبتاع في العلم بوقوعه. بخلاف ما ذكرناه من إمكان اطّلاع البائع على سبب الأمراض الّتي تظهر في أيّام العهدة، وكذلك ما بيع على الكيل والوزن يجوز اشتراط النّقد فيه قبل القبض، لكون الأمن عليه هو الغالب. وإنّما تعلّق الضّمان على البائع لما عليه من حقّ التّوفية للمبيع. إلى بعض هذه المعاني أشار في كتاب ابن الموّاز. فإذا منعنا النّقد في العهدة، فهل يجوز إيقافه مختومًا على يد البائع؟ هذا يجري على القولين نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى. وإذا دعا البائع إلى إيقاف الثّمن، فهل ذلك من حقّه أم لا؟ فيه أيضًا قولان:

أحدهما: تمكينه من إيقافه على يد عدل لئلاّ يهرب المشتري، أو يفلس، (من المضرّة) (¬1) في التّغرير بالثّمن لجواز أن يضيع في إيقافه. فإن وقف فضاع. فإنّه يكون ضمانه مِمّن يقضى له بأخذه. فإن حدث بالمبيع عيب في أيّام العهدة وقد ضاع الثّمن، ففي تمكين المشتري من الرّضى به معيبًا، فيكون ضمان. الثّمن من البائع، قولان: أحدهما أنّه لا يمكن من ذلك, لأنّ النّقص الّذي حدث في المثمون من ضمان البائع، فيجب أن يكون الضّمان للثّمن من المشتري أيضًا. والقول الآخر أنّه يمكن من ذلك إن أراده ورضي بالعيب. وهل يمكن بالثّمن الأوّل الّذي ضاع أم بثمن آخر؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يمكن من ذلك بالثمّن الأوّل, لأنه لا يلزمه أن يؤدّي ثمنين في سلعة واحدة. والثّاني: أنّه لا يمكن إلاّ بثمن آخر، لكون الثّمن الضّائع في ضمانه، كما أنّ النّقص في ضمان البائِع. والقول الثّالث لسحنون: أنّه إن ضاع الثّمن قبْل حدوثِ النّقص بالمبيع لم يمكّن إلاّ بثمن آخر، لكون الثّمن الّذي ضاع منه. وإن ضاع الثّمن بعد حدوث النّقص وكونه قد استحَقّ التخيير بين الرّضى بالعيب أو الرّدّ، لم يلزمه ثمن آخر. ولعلّنا أن نبسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال: قد تقرّر ثبوت العهدة في العقود الجائزة. وأمّا العقود الفاسدة فهل تثبت فيها العهدة أم لا؟ قال الأشياخ: تثبت فيها العهدة، واحتجّ بعضهم بأنّ من شرط ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

النّقد في أيّام الخيار فإنّ فساد هذا العقد لا ينقل الضّمان عن أصله في البيع الصحيح (¬1) العهدة في البيع الفاسد. وأمّا شرط البراءة، فاختلف فيها الأشياخ فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرّحمان: إذا اشترى عبدًا شراء فاسدًا، وفات عنده فلزمته القيمة، فإنّ شرط البراءة ساقط، وللمشتري أن يردّ العبد بعيب لم يعلم به. وقال الشيخ أبو عُمْران: يثبت حكم البراءة كما يثبت ضمان المواضعة في البيع الفاسد. أو قياسًا على ما وافقه عليه الشّيخ أبو بكر من ثبوت العهدة. وقد كنّا نحن قدّمنا ما يعرف منه وجه الخلاف في هذا الأصل. وفي هذا نظر في العقد الفاسد هل يردّ إلى أحكام صحيحة أو يردّ إلى حكم نفسه كما تقدّم بيانه. والجواب عن السؤال التّاسع (¬2) أن يقال: إذا صرّح المشتري بإسقاط العهدة، فإنّها تسقط. وإن فعل فعلًا ينافي القيام بها، مثل أن يعتق العبد أو يطأ الأمة فتحمل منه، فإنّ ابن القاسم ذهب إلى أنّ ذلك علم على الإسقاط. وأجراه مجرى النّطق بالإسقاط. ورأى غيره أنّ ذلك لا يكون إسقاطًا، بل يجب الرّجوع بقيمة العيب، كما لو أعتق عبدًا ثمّ اطّلع بعد عتقه على عيب، فإنّه لا يسقط حقّه في القيام بالعيب، ولكن إنّما يقضى له بقيمة العيب لامتناع ردّ المبيع. فكذلك ها هنا إذا لم يُحمَل عتقُه ولا إصابةُ الأمةِ على إسقاط العهدة، وجب أن يكون ما فَعَل يوجب له قيمة العيب. واحتجّ بعض من ذهب إلى هذا القول من أصحاب مالك بأنّ المشتري لا يمنع من الوطء في السنة، وإذا لم يمنع منه، وهو يجوز أن يكون عنه حمل، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فكذلك العهدةُ. (¬2) السؤال ساقط مع باقي الأسئلة. ويمكن استرواح السؤال التاسع من جوابه هكذا: هل الفعل المنافي للقيام بالعهدة يسقطها كالتصريح بالإسقاط.

ولا يصحّ أن يكون ما فعله من هذا كالنصّ على إسقاط حقّه في العهدة. وقيل: أمّا العتق فيُنقَضُ, لأنّه إذا ظهر من العيب ما اقتضى انحلال العقد، وبقي المبيع على ملك البائع، وجب ردّ العتق. ذكر هذا القول في من أعتق في عهدة السنة. وهو يقتضي طرد ذلك في عهدة الثّلاث، وهو خلاف الأصول. وقد يقتضي ردَّ العتق بعيب قديم كان قبل عقد البيع إذا قيل: إنّ الرّدّ بالعيب حلّ للعقد من أصله. وقد كنّا ذكرنا الخلاف في هذا الأصل، وذكرنا وجه الخلاف فيه. وقال ابن كنانة: لو تجذّم العبد في السنة، وقد أعتقه المشتري، لوجب أن يرجع بقيمة العيب، ويكون ما ترك العتيق من مال لمن أعتقه بحكم الولاء. ولو كان ما حدث من الجذام يجعل العبد لا قيمة له على حال، لوجب ردّ الثّمن كلّه. فإن مات هذا العتيق، أخذ البائع من تركته ما ردهُ من الثّمن، وكان ما فضل عن ذلك للمعتق بحكم الولاء. وألزم بعض الأشياخ أن يكون هذا العتيق لو قطعت يده وأخذ فيها ديّة حرّ أن يكون للبائع أن يرجع على المشتري بما نقص قطع يده من قيمته, لأنّه يقول للمشتري: لولا إعتاقك له، لرجعت على الجاني بقيمة ما أتلف. والجواب عن السؤال العاشر (¬1) أن يقال: إذا اختلف البائع والمشتري في مضيّ أمد العهدة، فإنّ في هذا قولين: أحدهما تصديق البائع لكون المشتري يحاول نقض بيع قد انعقد، فهو المدّعي المطلوب بالبيّنة. والقول الآخر: أنّ القول قول المشتري، استصحابًا بالأصل، وهو كون الضّمان على البائع. فهو المدّعي لسقوطه عنه. ¬

_ (¬1) السؤال ساقط، ويمكن استرواحه من الجواب هكذا: وما الحكم إذا اختلف البائع والمشتري في مضي أمد العهدة.

وهكذا لو باع عبدًا فأبق، فإنّ له الرّدّ بعيب الإباق. ولو تبرّأ في العقد من الإباق، ففيه قولان: هل يكون إثبات خروجه سالمًا من العهدة على البائع، استصحابًا لحال الضّمان، وهي رواية ابن نافع عن مالك في المدوّنة. أو يكون على المشتري إثبات أنّه قد هلك في العهدة. وبهذه الرواية الثّانية أخذ ابن القاسم. وكذلك لو اختلف المتبايعان في عبد بيع بالخيار، وقد ذهبت أيّام الخيار، هل مات في أيّام الخيار أو بعد ذهابها؟ ففيه أيضًا قولان، سببهما استصحاب حال كون البيع منعقدًا أو استصحاب حال ثبوت الضّمان. وكذا يجب على هذا لو اختلفا في تاريخ انعقاد البيع وتداعى المتبايعان في العيب، هل هو قديم أو حديث؟ أن يكون القول قول المشتري في التّاريخ استصحابًا لعدم عقده. أو القول قول البائع استصحابًا لكون البيع منعقدًا، فلا ينتقض بالدّعوى. وهذا قد يحتاج إليه إذا أحال الشّهود تاريخ قدم العيب أو حدوثه على زمن، واختلف المتبايعان: هل كان عقد البيع قبل ذلك الزّمن أو بعده؟ والجواب عن السؤال الحادي عشر (¬1) أن يقال: قد تقرّر أنّ من باع ملك نفسه، فعهدة ذلك عليه. وإن تكلّف غيره بيع ذلك بإذنه كوكيل، أو بإذن الشّرع كقاض أو وصيّ، فإنّ هذا يتفصّل القول. فلا يخلو أن يكون من تولّى البيع انتصب انتصابًا مشتركًا لسائر النّاس كالنّخّاسين والسماسرة، أو يكون مِمّن عدا هؤلاء. فأمّا النّخّاسون والسماسرة ومن في فعناهم، فإنّهم لا عهدة عليهم فيما باعوه، ولا مطالبة بثمن إن استحقّت السلعة أو ردّت بعيب ولا يمين عليهم، ¬

_ (¬1) هذا السؤال ساقط في النسختين، ويمكن استرواحه هكذا: ما الحكم إذا كان البائع غير المالك للسلعة.

لكن يؤمرون بإعلام مشتري السلعة بصاحبها الّذي وكّلهم على بيعها ليحاكموهم فيها. وإنّما (¬1) كان الأمر كذلك لأنّ النّاس الّذين يشترون منْهم إنّما يدخلون معهم على هذا الحكم الّذي ذكرناه، ولكونه من المصلحة لأنّهم يكثر ذلك عليهم ويتكرّر لديهم فلو ضمّنّاهم أثمان ما باعوه من السلع لانقطعوا عن هذا العمل وأضرّ بالناس انقطاعهم. فكان من المصلحة نفي الضّمان عنهم، كما كان من المصلحة إثبات الضّمان على الصنّاع. وأمّا من عدا هؤلاء، وكان أيضًا منتصبًا لهذا بإذن الشّرع انتصابًا عامًّا كالقضاة، فإنّه لا عهدة عليهم فيما باعوه على مفلس، أو لإنفاذ وصايا لأنّهم كالملزمين بهذا شرعًا، ولا منفعة لهم فيه. والنّاس الّذين يشترون منهم إنّما يدخلون معهم على هذا، فلو ضمِّنوا لوقفوا عن الحكومات في هذا. لكن يقضون بردّ الثّمن على من قبضه منهم إن كان موجودًا بعينه. وإن استهلك نفضِّل القول فيه على ما يرد في موضعه في أحكام الاستحقاقات إن شاء الله تعالى. وأمّا الوصى فقد قال في المدوّنة: لا عهدة عليه فيما بيع في أموال اليتامى. وإنّما العهدة في مال اليتامى المبيع عليهم ذلك المستحَقّ والمردود بعيب. واختار ابن الموّاز إثبات العهدة عليهم وعلى الوكيل المفوض إليهم (¬2). وكان بعض أشياخي يشير إلى أنّ إثبات العهدة عليهم أنّها فيما باعوه من أموال اليتامى للتّجارة به، لأنّهم فجلوا ذلك اختيارًا من غير ضرورة إليه، إذ لا يلزم الوصيّ أن يتجر بمال اليتيم. فإذا فعل ذلك اختيارًا، صار كالوكيل المفوض إليه الّذي يقضَى بالعهدة عليه لكونه دخل في ذلك اختيارًا، وأحلّ نفسه محلّ مالك السلعة في تفويض الأمر إليه في بيعها متى شاء مِمّن شاء. فأمّا إن باع للإنفاق، ¬

_ (¬1) اعتمدنا نسخة المدينة في إثبات ما ذكر من قوله: -كان الأمر كذلك- إلى قوله -بعد البيع أنه- وذلك لسقوطه من نسخة المكتبة الوطنية. (¬2) هكذا ولعل الصواب: إليه.

فيكون كوكيل معين على بيع أمر معين، فلا عهدة عليه، على ما ذكر في المدوّنة في الوكيل المعين. وأمّا بيع الوكيل المفوّض إليه، فإنّ العهدة عليه لما ذكرناه من التّعليل. وكذلك المقارض لما ذكرناه أيضًا. ولكنّ النّاس إنّما يدخلون مع العاملين بالقراض على إثبات العهدة عليهم وأنّهم كالبائعين لملك أنفسهم. وكذلك حكم الشّريك المفاوض في نصيب شريكه إذا باعه مع نصيب نفسه. وأمّا إن لم يكن مفوّضًا إليه، فهو كوكيل على معيّن. وقد اختلف قول مالك في الوكيل المعيّن على بيع شيء معيّن. ففي المدوّنة: لا عهدة على الوكيل في هذا. وذكر ابن الموّاز أنّه اختلف قول مالك في هذا. وقال أصبغ في الوكيل المعين: عليه عهدة إلاّ أن يشترط أن لا عهدة عليه. فأثبت أصبغ العهدة ها هنا وأجاز اشتراط سقوطها, لكون هذا اشتراط غير ممنوع في نفسه. لا سيما وقد صادف أحد قولي مالك في أنّه لا عهدة على هذا الوكيل. وأمّا تعلّق اليمين على الوكيل المعيّن، فإنّ في ذلك قولين: ذكر في المدوّنة في وكيل ردّت دراهم لأجل كونها زائفة: أنه يحلف. وذكر ابن الموّاز أنه لا يمين على الوكيل على بيع شيء بعينه. قال: لأنّه لو أقرّ بعد انقطاع وكالته بالعيب الّذي قام به المشتري لم ينقض البيع. وسنبسط هذا في كتاب الوكالات إن شاء الله تعالى. وقد ذكر في الموّازية أنّ مالكًا قال: إذا اشترط الوصيّ والوكيل المفوّض إليه: لا يمين عليهما. فالشّرط ينفعهما إن كانا من أهل الدّين والفضل. وأمّا إن لم يكونا كذلك، لم ينفعهم هذا الشّرط. فقدّر أنّ أهل التّصاون والأقدار في الدّيانات نقص منهم استحلافهم فيُوفّى لهم بهذا الشرط, لأنّه اشتراط لهم فيه منفعة وينفي عنهم مضرّة ويكرمون أن يحلفوا لأجل مال غيرهم. ومَن سواهم أبْقَاهم على الأصل في تعلق اليمين بهم إذ لا يلحقهم معرّة استحلافهم. ولمّا ذكرنا في هذه التّقاسيم حكم سقوط العَهدة عن السماسرة، اقتضى

الحال أن نبيّن حكم ما أخذوه من جعالة: وقد ذكر في المدوّنة أنّ السلعة إذا ردّت بعيب، ردّ السماسرة الجعل. وقدر أن البيع لمّا ردّ بالعيب، انتقض من أصله، وكأنّه لم يعقد، والسمسار إذا لم يعقد البيع الّذي استؤجِر عليه، فإنّه لا جعل له. وتأوَّل الشيخ أبو بكر بن اللّبّاد هذا على أنّ البائع لم يدلّس. فأمّا إن دلّس بالعيب، فإنّه لا يلزم السماسرة ردّ الجعل، لكون البائع لمّا دلّس صار قاصدًا إلى إتعاب السمسار واستخدامه على جهة التّغرير به في خدمته لمّا علم البائع أنّها تذهب باطلًا إذا ردّ البيع بالعيب. وقال الشّيخ أبو الحسن بن القابسي تتميمًا لهذا الّذي قاله ابن اللّبّاد: هذا أيضًا إذا كان السمسار غير عالم بأنّه قد دلّس البائع بالعيب. وأمّا إن كان السمسار عالمًا بتدليسه، فإنّه يكون له أجر مثله. فقدّر أنّه إذا كان السمسار عالمًا بهذا التّغرير به، ارتفع بعلمه هذا كون البائع مغرّرًا به. ولكنّه قضَى له بأجر مثله، وكان ينبغي أن يقضى له بالتسمية، لأنّ هذا الفساد الّذي تواطأ عليه البائعُ والسمسارُ من ناحية العقد وكونه عقدًا محرّمًا، والبائع استأجر السمسار إجارة ممنوعة فاسدة من ناحية عقدها؛ وما فسد من جهة عقده فات فيقضى فيه بالتّسمية. لكن هذا يمكن، كما قال الشّيخ أبو الحسن، فيه أنّه فساد من ناحية الأثمان، لكون الجعل في نفسه غررًا، فأجيز للضّرورة، كما يرتفع الغرر إذا أنهى العامل عمله وبلغ نهايته. كالجعل على طلب الاَبق، فإنّ الآبق إذا حصل ارتفع الغرر بحصوله. وهذا السمسار يُنهي العمل نهايته، وهو أن ينفذ بيع السلعة، ثُتم يبقى بعد ذلك مترقّبًا بردّها بالعيب، فصار هذا غررًا من ناحية الأثمان، ففسد هذا الجعل لذلك. فيقْضَى فيه بإجارة المثل، ويجعل المثل على الخلاف في ذلك إذا فسد الجعل. وسنبسط سببه إن شاء الله تعالى في موضعه. ولو تراضيا المشتري والبائع بردّ السلعة بعيب، لم يلزم السمسار ردّ الجعل إذا أنكر تراضيهما، إلاّ أن يقضي القاضي بردّ البيع. فلو لم تردّ السلعة بعيب إلاَّ بعد أن فاتت، وقضي للمشتري بقيمة العيب، فإنّه إنّما يردّ من الجعل مقدار ما أخذه قيمة من العيب, لأنّ أخذ قيمته يتضمّن

أنّ البيع لم يتمّ فيه. وقد ذكرنا أنّ المبيع إذا ردّ بالعيب، ردّ السمسار الجعل. فإذا فات المبيع وكان مقدار الرّبع من الثّمن، ردّ السمسار الرّبع من الجعل الّذي أخذ. هكذا ذكر ابن سحنون. وعلى هذا لو لم يفت عين المبيع، ولكنّه حدث عنده به عيب مفسدٌ، واختار المشتري أن يردّ المبيع وما نقصه من العيب، لكان للسمسار من الجعل بمقدار ما غرمه المشتري لمّا ردّ المبيع, لأنّ الّذي غرمه مضى البيع فيه وغرم ثمنه وما سواه انتقض المبيع فيه، فوجب ردّ الجعل فيه. ولمّا ذكرنا أيضًا الاختلاف في الوكيل المعيّن عن بيع شيء معيّن، هل عليه العهدة أم لا؟ فإنّ هذا الاختلاف إنّما يتصوّر إذا ذكر عند البيع أنّه وكيل لغيره. وأمّا إن سكت عن ذلك، فإنّ العهدة عليه، لأجل أنّ المشتري إنّما عاقده مالك السلعة في كون العهدة عليه. ولو ثبت بعد البيع أنّه (¬1) وكيل لغيره ولم يكن هو ذكرذلك حين العقد، فإنّ المشتري إن شاء التزم المبيع على أنّ عهدته على الموكّل، وإن شاء ردّه لسقوط العهدة عن مالكه. إلاَّ أن يلتزم له الرّسول العهدة، فيسقط مقاله. ولا يلزم الرّسول التزامها. هكذا ذكر في الموّازيّة. وقد يقال في هذا عندي: إنّ المشتري دخل مع الوكيل على أنّه إنّما تكون العهدة عليه لكونه لم يذكر له أنّ المبيع لغيره، فمن حقّ المشتري أن يطلبه بهذا الالتزام الّذي التزمه له. وقد قال في الموّازيّة: لا يجبر الوكيل على ذلك. فيمكن أن يكون رأى مجرّد هذا الفعل الّذي وقع من الوكيل لا يكون التزامًا للعهدة، وإذا لم يكن التزامًا لكونه يمكن أن يقول الوكيل: قد علمت أنّها لغيري والعهدة على غيري. وثبت بالبيّنة بعد وقوع العقد أنّ الأمر كذلك، فأشبه أن يعتقد الوكيل أن يستغني عن ذكر ذلك، فإنّ العهدة لا تلزمه. وإذا لم تلزمه، صار تبدّلها غير ما عقد المشتري عليه. ورجوعها على البائع كعيب اطّلع عليه المشتري، فيكون بالخيار في ردّ البيع. ¬

_ (¬1) هنا ينتهي النقص في الوطنية.

وإن تطوّع الوكيل بالتزام العهدة، سقط مقال المشتري. وقد أسقط مقال المشتري من عهدته إذا أتى مستحق فأجاز البيع وصارت العهدة عليه، فلم يعتبر ها هنا تبدّل العهدة. وسنبسط القول فيه في موضعه إن شاء الله تعالى. وهذا حكم الوكيل المعين إذا باع. فأمّا إذا اشترى فإنّ الثّمن عليه، نقدًا كان الثّمن أو مؤجّلًا. وهذا إنّما فارق حكم البيع لأجل أنّ العادة أنّ من وكّل على شراء سلعة دفع إليه ثمنها. وأيضًا فإنّ العهدة أمدها مترقّب إذا طرأ استحقاق أو اطّلاع على العيب. وهذا قد لا يقع، فلهذا لم يجعل على الوكيل عهدة فيما باع، وجعل عليه المطالبة بالثّمن, لأن كلّ مثمون لا بدّ أن يكون له ثمن. وقد قال فيمن أمران يأخذ دراهم سلما على طعام: إنّ الوكيل لا يطالب بالطّعام المسلَم فيه، وإن كان قد اشتراه بالدّراهم الّتي دفعها المسلم عليه، ثمّ مع هذا لم يكن عليه دفع ثمنها وهو طعام السلم لمّا لم تجر العادة بمطالبة الوكيل بما أخذه سلما في ذمّة غيره. والجواب عن السؤال الثّاني عشر (¬1) أن يقال: إذا كان لرجل سلم في ذمّة إنسان فولاّه لآخر، أو أشرك فيه، أو باعه إن كان مِمّا يجوز بيعه قبل قبضه كالعروض والحيوان، فإنّه لا عهدة ها هنا على المُولَّى، ولا على المشرك، ولا البائع الثّاني. لأنّ معنى العهدة ضمان المبيع، وهو لم يصل إليه فيضمنه، وإنما باع ذمّة غيره، ومعنى ذمّة كأنّه شيء مضمون على غيره، فلا تكون عليه عهدة. وأمّا إن كان المولّى أو المشرك فيه أو المبيع شيئًا معيّنًا قبضه مشتريه وصار في ضمانه، ثمّ نَقَل ملكه عنه إلى غيره، فإنّ ذلك إن وقع بعد أن اشتراه وقبضه بعد تراخ وانفصال من الأوّل وافتراق منه، فإنّ العهدة على هذا البائع الثّاني. ¬

_ (¬1) السؤال ساقط من النسختين، ويمكن استرواحه هكذا: ما حكم العهدة في السلم إذا وقع التصرف فيه؟

وأمّا إن وقع ذلك بفور شراء البائع الثّاني وقبل افتراقه من الأوّل الّذي باع منه، فإنّ التّولية والشّركة تسقط عنه فيها العهدة، اشترط إسقاطها أو لم يشترط. وأمّا البائع، فالعهدة عليه، لكنّه يجوز أن يشترطها على البائع الأوّل ويسقطها عن نفسه. وإذا كان وقع عقد الثّاني على الوجه الّذي قلنا: لا عهدة عليه فيه وهي على الأوّل، فإنّه ذكر في الموّازيّة في الشّركة والتّولية أنّه يجوز أن يشترطها المولّى والمشرك على نفسه. وقال ابن الموّاز: في هذا مغمز، لأنّه كضمان بجعل. وهذا الّذي ذكرناه عن المذهب من ثبوت العهدة على البائع الثّاني إذا وقع بيعه بعد انقضاء اشترائه من الأول وافتراقه منه. ووجهه أن الأصل ثبوت العهدة على من باع ملكه، وهذا باع ملكه بعد أن قبضه وصار إليه وسقط ضمانه عمّن باعه منه، فصار ذلك كبيع الإنسان ما ورثه أو اشتراه من بائع باع منه من أعوام كثيرة. فإذا كان هذا العقد وقع بفور شرائه من الأوّل وفي حين مواجبة البيع، فكأنّه لم يشتره، ويقدّر أنّ المشتري الآخر إنّما اشتراه من البائع الأوّل. لا سيما والمخالف يذهب إلى أنّ البيع لا يتمّ إلاَّ بافتراق المتبايعين. وأمّا التّفرقة بين البيع والتّولية، فإنّ. التولية والشّركة مقتضاهما أن يحلّ الثّاني محلّ الأوّل، ويسقط حكم الأوسط, فتصير العهدة على البائع الأوّل، ويقدّر الّذي أشرك في سلعته أو ولاّها كأنّه لم يملكها، وإنّما صار كواسطة بين الآخِر والأوّل الّذي باع من الأوسط. فإذا كان العقد على جهة البيع وتحويل جنس الثّمن أو تحويل مقداره بَعُدَ، ها هنا، أن يُقَدَّر كأنّه لم يكن. قال القاضي أبو محمّد رضي الله عنه في فصل قبل هذا: وكلّ مبيع هلك قبل قبضه فهو من المشتري إذا كان متعيّنًا متميّزًا. وإن كان مِمّا يجب فيه حقّ توفية، فهو من البائع. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل سؤالان. أحدهما أن يقال:

1 - ما حكم الضّمان قبل القبض في البيع الصحيح؟ 2 - وما حكمه في البيع الفاسد؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: قد تكلّمنا على أحكام الضّمان بعد القبض في أحكام العُهَد من الثّلاثة والسنَة. ورأينا أن نتبعه بالكلام على حكم الضّمان قبل القبض. فاعلم أنّ المبيع إذا هلك قبل القبض، وهو متعيّن متميّز، ليس فيه توفية بكيل أو وزن، وذلك كالثّياب والحيوان، فإنّ العلماء مختلفون في ذلك. فمذهب أبي حنيفة والشّافعي أنّ الضّمان متعلّق بالقبض لا بمجرّد العقد. فإذا ضاع الثّوب أو العبد قبل قبضهما، كانت مصيبة ذلك من البائع. ويحكى ذلك عن ربيعة. والّذي يحكيه أصحابنا البغداديون عن مالك أنّه إنَّما يتعلّق الضّمان بالعقد ولا يقف تعلّقه على حصول القبض بعد العقد. هكذا يورد أصحابنا، وغيرُهم نقلَ هذه المذاهب إيرادًا مطلقًا. والّذي يتحقّق من مذهبنا أنّ البائع إن أمكن المشتري من قبض المبيع الّذي ذكرناه فتركه عند البائع اختيارًا منه، أنّ الضّمان يسقط عن البائع بالتمكّن، ويقدّر بقاء المبيع في يديه، بعد تمكين المشتري من قبضه، كقبض المشتري له ثمّ ردّه على البائع على جهة الوديعة عنده. ومن المتأخّرين من يحكي عن المذهب الاختلاف في الضّمان مطلقًا، ولو كان البائع لم يمنع المشتري من القبض. وبعض أشياخي يشير إلى الاختلاف في هذا أيضًا لأنّه يعلّل اختلاف قول مالك في المحتبسة بالثّمن، هل ضمانها من البائع أو من المشتري؟ إلى اختلاف في البيع ما هو؟ هل هو العقد فيضمن المشتري المبيع بمجرّد العقد؟ أو هو التّقابض فلا يضمن المشتري إلاّ بعد حصوله؟ وهذا الاعتلال منه يشير إلى وقف الضّمان على حصول القبض، وإن مكّن

البائع المشتري من قبض المبيع، إلاّ أن يريد حصول القبض حسًا ووجودًا أو التمكين منه، ويرى التّمكين منه قبضًا، فيصحّ هذا النّقل عن المذهب. على أنّ الاعتلال في نفسه ليس بالواضح. ويبعد أن يعتقد أحد من أهل المذهب أنّ حقيقة البيع هو التّقابض عن تعاوض. وسبب هذا الاختلاف من جهة الظّواهر قوله - صلى الله عليه وسلم - (الخراج بالضّمان) (¬1) فقال البغداديّون، من أصحابنا: اتّفق على أنّ الخراج للمشتري بمجرّد العقد، وإن لم يقبض المبيع. فاقتضى هذا الظّاهر كون الضّمان منه لمكان الخراج له، لكونه عليه السلام علّق أحدهما بالآخر في هذا الحديث. وأجاب بعض أصحاب الشّافعي عن هذا بأنّه (¬2) عليه السّلام إنّما يتضمّن كون من له الخراج عليه الضّمان. إلاّ أن يقلب هذا اللّفظ فيكون الحديث الضّمان بالخراج، فإنّه إذا قال: الضّمان يوجب الخراج، لم يقتض هذا الخطاب أن يعكس، فيقال وكذلك الخراج يتضمّن الضّمان ويدلّ عليه. وليس إذا قرن الشّيء بالشّيء وصحّ في الطّرد يجب أن يصحّ في العكس، وإنّما اشترط الطّرد والعكس في العلل العقليّة، ألا ترى أنّه لو قال قائل: كلّ مرسل نبيّ، لم يلزم من هذا لما علق الرّسالة بالنبوّة أن يكون كلّ نبيّ رسول. ويتعلّق المخالفون بخبر آخر وهو ما ورد في الحديث من نهيه عن بيع ما لم يقبض وعن ربح ما لم يضمن (¬3). فكأنّه إنّما أشار إلى علّة النّهي عن بيع ما لم يقبض بأنّه إذا لم يقبض فلم يضمن. وأجيب أيضأ بأنّ هذا لا يسلَّم كونه دليلًا على أنّ علّة النّهي عن بيع ما لم يقبض كونه لم يضمن، ونحن نقصر النّهي على الأطعمة المكيلة والموزونة، فإنّا لا نجيز بيعها قبل قبضها، ونجيز بيع العروض قبل قبضها بالأدلّة الّتي قدّمنا في موضعها. ¬

_ (¬1) الترمذي: 2/ 561. حد. 1285. (¬2) أي بأن قوله. (¬3) أحمد: 2/ 179.

وأمّا سبب الاختلاف من جهة الاعتبار، فإنّ المخالف يرى أنّ المبيع إذا لم يقبض، والعقد معرّض للفسخ، وإذا كان معرّضًا للفسخ، لم يستقرّ انبرامه ولزومه استقرارًا كاملًا؛ ولهذا التفت الشّرع في الصّرف إلى إبطاله بالافتراق قبل التّناجز لمّا كان مجرّد العقد لا يتمّ به الملك تمامًا كاملًا. والصرف خصّ بمنع الافتراق قبل تمام الملك. وأجيب عن هذا بأنّ هذا حكم مقصور على الصّرف وعلى ما فيه الرّبا مِمّا لا يحلّ التّأخير والافتراق قبل إنجازه لاختصاصه بدخول الرّبا فيه. ومنع الافتراق لأجل كون الملك في البياعات كلّها لم يتمّ بالعقد. ويستدلّ أصحاب مالك بأنّ مجرّد القبض من غير تقدّم عقد لا تأثير له في إثبات الضّمان في كلّ المتملكات على أيّ صفة وقع القبض. وإنّما يتعلّق به حكم الضّمان المتفق عليه إذا تقدّمه عقد وجب القبض عنه. فإذا اجتمع الوصفان العقد ثمّ القبض، حصل الضّمان باتّفاق. وإذا فقد الوصفان، لم يتصور الضّمان باتّفاق. فإذا وجد أحدهما، فإن كان هو القبض بمجرّده، لم يؤثّر في الضّمان، لما قدّمناه في كونه كالعدم إذا لم يتقدّمه عقد. وإذا وقع العقد بمجرّده، كان أولى بالتّأثير في نقل الضّمان لكونه لم يتّفق على عدم تأثيره، وأيضًا فإنّه يناسب الضّمان، ألا ترى أن البائع لا يحلّ له منع المشتري من المبيع إذا دفع إليه الثّمن، بل يجبر على دفع المبيع إليه، فلولا أنّ العقد بمجرّده نقل الملك ما جبر البائع على تسليم المبيع إليه. وإذا تقرّر أنّ اجتماع هذين الوصفين يوجب الاتّفاق على انتقال الضّمان، وجب إسناد الحكم، عند وجود أحدهما وعدم الآخر، إلى أشدّهما تأثيرًا ومناسبة للحكم، كما يقوله المحقّقون في سبب الاختلاف في إثبات الشّفعة في شقص موهوب. فإنّ من أنكر الشّفعة فيه يقول بأنّ الملك إذا انتقل باختيار عن عوض، وجبت الشّفعة كالبيع. وإذ انتقل بغير اختيار وبغير عوض، كالميراث، لم تجب الشفعة. والشّقص الموهوب قد أشبه الميراث في كونه بغير عوض، وأشبه البيع في كون الملك انتقل باختيار. فينظر أيّ هذين الوصفين أشدّ تأثيرًا

في الحكم، فيغلب وجوده على عدم الوصف الآخر. وهكذا سبب الخلاف في العبد الموهوب، هل يتبعه ماله، كما نبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. ويستدلّ أيضًا على تأثير العقد بمجرّده بإمضاء عتق المشتري للعبد وإن لم يقبضه. وأجاب أصحاب الشّافعي عن هذا بأنّ الشّريك ينفذ عتقه في نصيب شريكه، وإن لم يملك نصيبه ملكًا تامًا ولا ناقصًا، فكيف بهذا المشتري الّذي لم يقبض وقد ملك، وإنّما يترقّب زوال ملكه. وكذلك أيضًا يجيبون من استدلّ من أصحابنا على إمضاء تصرّف المشتري في المبيع، بأنّ تصرّفه فيه بإهلاكه وإتلافه قبضٌ له. فلهذا أنفذ تصرّفه، كما ينفذ تصرّفه بعد القبض. وقد كنّا قدّمنا عن بعض أشياخي أنّه يسند هذا الخلاف إلى النّظر في البيع، هل هو التّقابض أو التّعاقد؟ وكان أيضًا أولع به غيره من الأشياخ من إجراء الخلاف في هذا الأصل على الاختلاف في مراعاة مضيّ أمد التّسليم، ومقدار المناولة بعد زمن العقد. ويرى أنّ ذلك لو اعتبر لم يسقط بالتّراخي، كما أنّ التوفية بالكيل والوزن لا يسقط حكمها بتأخير الكيل أو الوزن. وهذا التّشبيه ضعيف لأنّ الكيل والوزن إنّما يتعلّق الضّمان بهما، لكون المبيع لا يتميّز عن ملك البائع إلاّ بالكيل، ولا يعلم مبلغ ما باع إلاّ بذلك. بخلاف العبد والثّوب المتميّزين بذاتهما وأجزائهما. وإنما قال من قال إنّ مجرّد العقد دون إقباض المشتري للمبيع أو تمكينه منه لا يوجب الضّمان. وإذا مضى مقدار زمن التّمكين، انتقل الضّمان وسقط ما اعتبرناه من تعلّق حقّ المشتري بإمكان المناولة وتناول ما باع. فإذا تراخى عمّا جعل له من الحقّ في التّناول. فقد أسقط (¬1) في ذلك بعد أن وفّاه له البائع. وإلى هذا المعنى أشار في مختصر ابن شعبان مالك، رضي الله عنه، من اعتبار حال المشتري. فإن كان مليًّا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. والمعنى: أسقط حقه.

من أهل البلد، كان الضّمان منه. وإن كان بخلاف ذلك كغريب فقير، كان الضمان من البائع. فقدّر أنّ المشتري إذا كان مليًّا معروفًا، فإبقاء السلعة بيد البائع إنّما كان باختياره، فصار كمودعها عند بائعها. وإذا كان فقيرًا مِمّن يمنع منه حتّى يدفع الثّمن، صار المنع منها من قبل البائع، وكان ضمانها منه. ولهذا قال في هذه الرّواية: وإن كان البيع إلى أجل عشرة أيّام أو نحوها كان الضّمان من البائع, لأنّها كالرّهن. وهذه الإشارة إلى كونها كالرّهن هي طريقة ابن القاسم في المحبوسة بالثّمن. فإنّ مالكًا اختلف قوله في عبد بيع وحبس بالثمن، فقال مرّة: هو من البائع. وهو اختيار أشهب. وقال مرّة أخرى: هو من المشتري. وهو اختيار ابن القاسم، وأجراه مجرى الرّهن. ولكن ابن القاسم اختار من قولي مالك في سلعة حاضرة بيعت وحبست بالثّمن كونَها من المشتري. واختار من قولي مالك في سلعة غائبة بيعت كون ضمانها من البائع. وإن كان مالك قد اختلف قوله فيهما، هل ضمانهما من البائع أو من المشتري؛ وكان بعض أشياخي يعتذر عنه في اختلاف اختياره من قولي مالك في هاتين المسألتين الحاضرة والغائبة، بأنّ الغائبة يستحيل تسليمها والتّمكين منها بفور العقد، فتعلّق ضمانها بالبائع، والسلعة الحاضرة تسليمها بفور العقد ممكن غير ممتنع، فيحسن اعتبار مضيّ زمن التّسليم في هذا (كما يستحيل التّمكين فيه) (¬1). بخلاف بيع الغائب الّذي يستحيل التّمكين فيه بفور العقد. ومن الأشياخ من يسلك طريقة ثالثة سوى ما قدّمناه من اعتبار بعض أشياخي تعلّق الحكم بالعقد أو القبض واعتبار غيره لمقدار المناولة. فقال: إن أحد قولي مالك في هذا العبد المحتبس بالثّمن أنّ ضمانه من بائعه إنّما بني الجواب فيه على أنّ الرّهن يضمن ولو كان حيوانًا وممّا لا يغاب عليه. وكأنّه يشير بهذا إلى حصول الاتّفاق على كون الضّمان من المشتري. ويسند الخلاف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: بما لا يستحيل ..

إلى كون المشتري رهن العبد، وهو مِمّا لا يغاب عليه، هل يضمن هذا الرّهن الرّاهن أو المرتهن؟ وهذا ظاهره مخالف لما تقتضيه الرّوايات المشهورة في كون ما لا يغاب عليه. لا يضمن. ويبعُد تأويل روايات مشهورة على مذهب شاذّ. وقد كنّا قدّمنا قبل هذا أنّ طرق الاستدلال أنّه اتّفق على أنّ الخراج الحاصل عقيب العقد للمشتري، فاقتضى كون الضّمان يكون منه لقوله: (الخراج بالضّمان). ونبّهنا على ما قال أصحاب الشّافعي في هذا. وما ذكر من الاتّفاق عليه لا يسلمه بعض أشياخي ويرى أنّ الرّوايات بخلافه، وأنّ الّذي يحدث بالمحتبسة بالثّمن من عيب ونقص يجري على الخلاف في ضمانها. وكذلك ما يكون لها من غلّة يجري على الخلاف أيضًا في ضمانها. فإن قيل: إنّ الضّمان من المشتري، كان الخراج له والغلة، لأجل ضمانه. وإن قيل: إنّ الضّمان من البائع، كان الخراج له والغلّة، لأجل ضمانه، ولو كانت الغلّة كراء دار أو إجارة عبد. وسننبّه على هذا في بيع الغائب إن شاء الله تعالى. وقد كنّا حكينا أنّ بعض المتأخّرين ذكر الاختلاف عن مالك، وإن لم يمنع البائع من التّسلِيم. فإن أراد أنّ هذا الاختلاف يتصوّر ولو مكّن من التّسليم، فوجهه عندي ما قدّمته. وإن أراد أنّه لم يمنع من التّسليم ولا مكّن أيضًا، وافترق المتبايعان على غير تصريح بأحد هذين الوجهين، فإنّه يصحّ ما أراد على أنّها كالمحتبسة لما كان له حبسها. وقد ذكرنا ما وقع في مختصر ابن شعبان من الاستدلال على أحد الوجهين بحال المشتري هل هو معروف غني أو غريب فقير؟ وقد اختلف المذهب أيضًا في المكيال إذا امتلأ بالزّيت فأهراق بفور امتلائه، هل يكون من البائع أو المشتري؟ وهذا يجري على الاختلاف في اعتبار انتقال الضّمان بقدر المناولة بعد العقد أو اعتباره بحصول العقد خاصّة. فإن اعتبرنا العقد بمجرّده، كان ضمانُ ما اكتيل وبلغ نهاية الكيل، ثُمَّ هلك قبل إمكان المناولة، من المشتري. وإن اعتبرنا مضيّ زمن المناولة، كان ذلك من البائع. وفي هذا المكيال الّذي أهريق عقيب كماله قولان مبنيّان على ما ذكرناه.

وقيل أيضًا: إن كان المشتري هو متولّي الكيل لنفسه، كان الضّمان منه. وكأن هذا قدّر أنّ اعتبار مضيّ زمن التّسليم والمناولة لمن لم يكن ذلك في يديه. وأمّا إن كان في يد المشتري فقد حصل ما يراد من إمكان المناولة، فلم يجب اعتبارها. وهكذا يختلف في هلاك ثمر بيع أو زرع بيع فهلكا بعد يبسهما وكمالهما، هل يكون الضّمان من البائع أو من المشتري، بناء على اعتبار مقدار مضيّ زمن المناولة وإمكان التّسليم إذا كان هلاكهما قبل إمكان التّسليم. وقد قيل أيضًا في الزّرع والثّمر: إنّ شرط جذاذه على البائع فهلك بعد اليبس، فإنّ ضمانه على البائع. وإن شرط ذلك على المشتري كان الضّمان من المشتري. وهذا قدّر أيضًا أنّ الجداد والحصاد ضرب من التّوفية، فمن كان ذلك عليه، كان الضّمان منه. ولكن القائل بهذا المذهب لم ينكر (¬1) من يكون ذلك عليه إذا أطلق العقد، فعلّق هذا بما قد يرتفع الخلاف فيه، وهو اشتراط ذلك على البائع أو المشتري. وعلى هذ ابن ي بعض الأشياخ اختلاف قول مالك في بيع الغائب، هل ضمانه من البائع أو من المشتري؟ لكون ما بيع وهو غائب لا يمكن مناولته بعد العقد. فلم يحصل مِمّا يمكن تعليق الضّمان به سوى العقد. فمن علق الضّمان بمجرّد العقد، كما قدّمناه، قضى بأنّ ضمان الغائب من المشتري وإن هلك عقيب العقد وقبل إمكان الوصول إليه. ومن اعتبر، في تعليق الضمان بالمشتري، مضى أمد المناولة والتّمكين لم يضمن ذلك المشتري إذا هلك الغائب عقيب العقد قبل أن يمضي من الزّمن ما يمكن وصول المشتري إلى الغائب فيقبضه. فإذا ذهب ما يمكن معه وصول المشتري إليه، ارتفع حكم الخلاف في اعتبار أمد التّسليم، لكونه حصل ها هنا ولم يبق إلاّ القبض، ونحن لا نوقف الضّمان على حصول القبض من مذهبنا، ومذهب الشّافعي وأبي حنيفة. ولكن بُني هذا الاختلاف في ضّمان المبيع الغائب على اعتبار مضيّ زمن التّمكين ومقدار التّسليم، يقتضي جريان هذا الخلاف في سائر المبيعات الغائبة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يذكر.

ولو كان عقارًا. وهذا إنّما يستمرّ على مذهب من قال من أصحابنا: إنّ العقار يختلف فيه القول عندنا، هل ضمانه من البائع أو من المشتري؟ وأمّا من قصر نقل الخلاف عن مالك على السلع والحيوان دون العقار، فقد ينهدم هذا البناء عليه، إلاّ أن يرى أنّ التّسليم في العقار يتصوّر بالعقد وزوال يد البائع عن المبيع الغائب، وهذا قد يتصوّر في العقار لكونه مِمّا لا ينقل ولا يزال به ولا يمكن نقل ذاته وتحويل مكانه. بخلاف السلع والحيوان الّتي يمكن تبدّل الايدي عليها بانتقال أمكنتها ومحالها. وقد قدّمنا نحن في بيع الطّعام قبل قبضه ذهاب من ذهب إلى منع بيع ما لم يقبض في السلع دون العقار، لكون السلع مِمّا ينقل ويزال بها بخلاف العقار. وإذا كان هذا الاختلاف في ضمان الغائب مبنيًّا على ما قدّمناه من اعتبار مضىّ أمد التّسليم، فمن اعتبره جعل ضمانه على البائع، ولكنّه أجاز اشتراطه على المشتري. ومن لم يعتبره، جعل ضمانه على المشتري، ولكنّه أجاز اشتراطه على البائع أيضًا. وهذا جاز فيه تحويل محلّ الضّمان على ما يوجبه الشّرع عند من ذهب إلى تحويله بالاشتراط لأجل ما عرض من الإشك الذي اعتبار قدر المناولة، ولأجل إشكاله، اختلف قول مالك فيه. فكأنّ مشترطه ألزم نفسه أحد مذهبين قال بهما مالك، فصار التزامه كإلزام حاكم له حكم عليه بأحد المذهبين. وإنّما يجوز هذا الاشتراط حال العقد. وأمّا لو استقرّ العقد وبَرَد، لم يجز نقل الضّمان عن محلّه عند من ذهب إلى تعيين أحد المحلّين له البائع أو المشتري. لأنّ هذا معاوضة على ضمان، ولا يجوز بيع الضّمان ولا شراؤه لما فيه من التّخاطر والغرر. وما جرى بين عثمان بن عفّان وعبد الرّحمان بن عوف، رضي الله عنهما لمّا اشترى عبد الرّحمان من عثمان فرسًا باثني عشر ألف درهم. ثمّ قال لعثمان: هل لك أن أزيدك أربعة آلاف على أن أجعل الضمان منك. ففعلا، إنّما كان ذلك لأنّهما إنما كانا متراوضين في انعقاد البيع، وإنّما استقرّا على انعقاده على أنّ الضّمان على عثمان رضي الله عنهما. وتلك الزّيادة إنّما زيدت ليستقرّ العقد لها ويرتفع ما كانا لديه من المماكسة والمراوضة. ولا يحسن أن يجري في هذا اختلاف أهل

المذهب فيمن اشترى عبدًا ثمّ بعد العقد اشترط ماله، أو اشترى نخلًا ثمّ بعد العقد اشترى ثمرتها. لأنّ هذين ألحقا بأصليهما مال العبد ألحق العقد عليه بالعقد على العبد، فكأنّهما عقدان وقعا معًا. وكذلك الثّمرة مع أصولها. وهذا الضّمان إنّما يشترى بانفراده من غير إلحاق له بأصله، فلا يحسن الخلاف فيه، تخريجًا على الخلاف الّذي قدّمناه في مال العبد وثمر النّخل. فهذا الّذي قدّرناه وبنينا هذه الفروع عليه من اعتبارقدر المناولة والتّسليم مستند أيضًا إلى النّظر في نوع من هذا آخر. وهو النّظر فيما ذا يجب على البائع، هل إزالة يده عن المبيع فيحسن ها هنا تعليق الضّمان بالعقد إذا رفع يده عن المبيع. أو يجب عليه التّمكين والتّسليم، فيعتبر هل يجبر عليه هو أوّلًا، أو يجبر المشتري على دفع الثّمن قبل قبض المثمون؟ وهذا مِمّا وقع فيه اضطراب كثير. قال ابن القصّار الّذي يجيء على المذهب أحد أمرين: إمّا جبر المشتري على دفع الثّمن ثمّ يقضَى له بقبض المثمون. وإن أبيا أن يتطوع أحدهما بالبداية على تسليم ما عنده تركا على ما هما عليه. قال: والوجه الأوّل أقوى. وذكر القاضي إسماعيل أنّه يُدفَع الثّمن والمثمون إلى رجل، فيدفع الرّجل لكل واحد منهما ما يستحقّه. وهذا أيضًا قد يتشاحان فيه فيمن يبدأ بالدّفع إلى هذا المعدِّل بينهما. أو يقال يتناوَل ذلك منهما جميعًا تناولًا واحدًا. وقد قال بعض أشياخي: قوله في المدوّنة في كتاب الأكرية: يبدأ صاحب الدّابّة بالدّفع. فكلّ ما مضى يوم أخذ مقداره من المكتري: يشير إلى أنّ البائع يبدأ بدفع السلعة. وقال في النّكاح: للمرأة أن تمنع نفسها حتّى تقبض صداقها. وهذا يشير إلى البداية بدفع الثّمن قبل المثمن. وقد بسطنا في هذا الوجه في كتاب السلم، وذكرنا ما قال فيه أصحاب الشّافعي وغيرهم. وقد كنّا قدّمنا أن ما حدث من نقص في المحتبسة بالثّمن، فإنّه يجري على الخلاف في ضمان الكلّ. فإن قلنا: ضمان السلعة المحبوسة بالثمّن من البائع، ضمن ما طرأ من نقص، وكان ذلك عيبًا للمشتري أن يردّ السلعة به. وإن قلنا: ضمان السلعة من المشتري، لم يكن للمشتري مقال فيما حدث من النقص، وهكذا ينبغي أن يجري هذا الخلاف

في الزّيادة الحادثة في المدّة المحبوس فيها المبيع بالثّمن. وقد قال بعض الأشياخ: لو عقد البيع في أمة بعينها بياض فحبست بالثّمن فذهب بياض العين في مدّة الاحتباس بالثّمن، فإنّ هذا يجري على الاختلاف في ضمان المحتبسة بالثّمن، كما جرى حكم النّقص على ذلك. وأشار إلى أنّه يكون للبائع نقض البيع لأجل هذا النّماء والزّيادة وهو ذهاب العيب، كما كان للمشتري نقض البيع لأجل ما حدث من عيب في أيّام الاحتباس بالثمن. وهذا قد يقال فيه هلا كان شريكًا بهذه الزّيادة؛ لأنّ السلعة المعقود فيها البيع ثبت الملك بها للمشتري، ولم يحدث ما يوجب حلّه. لكن حدث اختلاط ملك طرأ له بهذه السلعة المبيعة. وقد كنّا قدّمنا ذكر ما قيل في غلّة المحتبسة بالثّمن. ولعلّنا أن نبسط هذا في كتاب بيع الغائب إن شاء الله تعالى. ويلحق بما نحن فيه من الكلام في الضّمان قبل القبض في البيع الصحيح هلاك السلعة إذا ردّت بعيب قبل أن تصير إلى يد البائع الّذي ردّت عليه. وهذا فيه قولان: أحدهما: أنّ السلطان إذا قضى للمشتري أن يردّ بالعيب، فإنّ مصيبة هلاك السلعة بعد هذا القضاء من الحاكم يكون من البائع. والقول الثّاني إنّه من المشتري حتّى يقبضها البائع. فمن جعل الضّمان من المشتري يعتلّ بأنّ قضيّة السلطان بالرّدّ إنّما تضمّنت إثبات تخيير المشتري بين الرّدّ أو الإمساك، فهي منه حتّى يردّها. ومن رأى أنّ الضّمان من البائع يقدّر أنّ المشتري لمّا رفع الأمر إلى القاضي ليقضي له بالرّدّ، صار كالوكيل له على الرّدّ. فإذا قضى بالرّدّ صار ردّه كردّ المشتري بنفسه. هذا الّذي يشير إليه بعض الأشياخ. والتحقيق عندي فيه أن يلتفت في هذا إلى ما كنّا قدّمناه من الخلاف في الرّدّ بالعيب، هل هو نقض للبيع من أصله وحلّ للعقد؟ أو هو كابتداء بيع؟ فإن قلنا: إنّه حلّ للبيع من أصله ورفع للملك حتّى كأَن المشتري لم يملك السلعة، حسن أن يقال على هذا: إنّ الضّمان من البائع. وإن قلنا: إنّ الرّدّ بالعيب

كابتداء بيع، عاد الأمر إلى ما كنّا قدّمناه من اعتبار تعلّق الضّمان بمجرّد العقد للبيع أو بمجرّد العقد مع اعتبار مضيّ إمكان التّسليم بعده. ولو لم يقض السلطان بالرّدّ ولكن قال: فسخت البيع لأجل العيب، فإنّ ابن القصّار ذكر أنّ البيع ينتقض. فهذا عندنا وعند الشّافعي. وهذا الّذي قاله، إنّما يحسن إذا كان لا إشك الذيه ولا تدَاعٍ (¬1). وأمّا إذا كان مِمّا فيه اختلاف بين العلماء وندل بين الخصمين، فينبغي ألاّ يقتصر في الفسخ على مجرّد قول المشتري. وقال ابن القاسم: إذا اطّلعت المرأة على أنّ زوجها عبد، فإنّ النّكاح ينفسخ بفسخها له. بخلاف لو اطّلعت على أنّ به برصًا، فإنّه لا ينفسخ بمجرّد قولها, لأجل أنّ الرّدّ بالبرص يفتقر إلى اجتهاد. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: قد تكلّمنا في كتاب البيوع الفاسدة على أحكام الضّمان بعد القبض، وذكرنا خلاف فقهاء الأمصار وغيرهم في ذلك، وأشرنا إلى حكمه قبل القبض أيضًا، وتعلّق الضّمان فيه بمجرّد التّمكين من غير قبض على اختلاف أهل المذهب في ذلك، وذكرنا سبب اختلافهم في هذا. وكذلك تصرّف المشتري فيه وهو في يد البائع، فإنّه إن باعه المشتري قبل أن يقبضه بيعًا صحيحًا، فإنّ فيه اختلافًا. وقد عورض فيه من لم يمض بيع المشتري فيه قبل القبض بأنّه أمضى فيه هبته فيه قبل القبض، والبيع أحرى أن يقضي، لكونه لا يبطله الموت ولا الفلس بخلاف الهبة. وقد قيل في الهبة: إذا باعها الموهوب قبل أن يقبضها، فإنّ موت الواهب لا يبطلها لتعلّق حقّ المشتري بها. وذكر أشهب أنّ عتق البائع للعبد المبيع بيعًا فاسدًا لا ينفذ ولو ردّ عليه العبد بالفسخ، وعتقُ المشتري ينفذ في يد البائع، لأجل أنّ البائع ممكّن للمشتري من التصرّف فيما باعه. وإن كان سحنون لا يرى عتق المشتري نافذًا, لأنّ إذن البائع في التصرّف لا يصحّح العقد. وذكر أشهب أنّ المشتري إذا أعتق العبد وهو في يد البائع قبل أن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تداعيًا.

يقبضه ولا مال له، لكن القيمة الواجبة على المشتري بالعتق (¬1) وإفاتة المبيع بأن صيّره حرّا، إن كانت أكثر من الثّمن الّذي اشترى به العبد، فإنّه إنّما يباع من العبد بمقدار الثّمن ويعتق منه ما زاد على ذلك ويتبع به المشتري متى أيسر. مثل أن يكون العبد اشتراه بعشرة دنانير، وقيمته عشرون، فإنّه إنّما يباع منه بالعشرة الّتي هي الثّمن لا أكثر من ذلك. وقدّر ما زاد على الثّمن كدين طرأ على المشتري بعد أن أعتق عبده، فلا يردّ به العتق. وناقضه ابن الموّاز في هذا بما قاله في مسألة أخرى من هذا المعنى، فإنّه ذكر فيمن عنده عبد يساوي مائة دينار فأعتق، وعليه خمسون دينارًا لرجل، ثمّ استدان من رجل آخر بعد العتق خمسين أخرى، فإنّه ذهب إلى أنّ العبد يُرَدّ عتقُ جميعه. لأنّه إذا ردّ نصفه وبيع في الدّين السابق للعتق، وجب لمن له الدّين الحادث بعد العتق أن يحاصّ الأوّل في الخمسين الّتي قبض فيأخذ منه نصفها، فيعود الأوّل طالبًا للغريم المعتق، بما أخذ من يديه مِمّا دفع من دينه إليه. فإذا بيع من العبد الأوّل بخمسة وعشرين ليكمل له دينه، عاد الثّاني فحاصّ الأوّل في هذه الخمسة وعشرين بنصفها، فينقص دين الأوّل فيطلب ردّ ما بقي من العبد معتقًا ليباع له في دينه، هذا كلّما أخذ حَاصَّهُ فيه الثّاني، فيعود هو لأجل المحاصّة طالبًاً للإكمال حتّى يستكمل ردّ جميع العبد. وابن القاسم يرى أن ليس من حقّ الأوّل إذا أخذ من يديه نصف الدّين، أن يرجع إلى المطالبة بما أخذ منه. فألزم ابن الموّاز أشهب أن يقول في هذه بما قاله ابن القاسم في القيمة الواجبة للبائع بسبب الإعتاق من أنّه ينبغي أنّه إذا بيع من العبد بالعشرة الّتي هي الثّمن قدّر نفسه كرجل آخر يطالب بالدّين الواجب من جهة التّقويم فينتقصُ ما أخذ من الثّمن فيعود يطالب بإكماله. وأشار بعض الأشياخ إلى أنّ هذا لا يُناقَض به أشهب، لأجل أنّ من بيده رهن بالدّين لا يحاصه أحد، والعشرة الدّنانير الَّتي هي الثَّمنُ العبدُ بها رهن في ¬

_ (¬1) بياض في الوطنية بمقدار كلمتين.

يد البائع، فإذا أخذها, لم يحاصّ بدين حدث بعد العتق. وهذه المسألة يلتفت فيها عندي إلى النّظر في أصل آخر، وهو كون العتق تضمّن حرّية العبد، وتضمّن إلزام المشتري القيمة. فهل يقدّر أنّ لزوم القيمة تؤخّر بعد العتق أم لا؟ هذا الأصل مِمّا اضطرب فيه المذهب ولعلّنا أن نبيّن ما في هذا الأصل من الاضطراب في موضعه إن شاء الله تعالى.

كتاب الوكالات

كتاب الوكالات

بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا. كتاب الوكالات قال القاضي أبو محمّد رضي الله عنه: كلّ حقّ جازت فيه النيّابة، جازت الوكالة فيه، كالبيع والشّراء والإجارة واقتضاء الدّيون وخصومة الخصم والتّزويج والطّلاق، وغير ذلك. قال الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما الدّليل على جواز الوكالة على الجملة؟ 2 - ومن تجوز له الوكالة؟ 3 - وما الّذي تجوز فيه الوكالة؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: الدّليل على جواز الوكالة الكتاب والسنّة وإجماع الأمّة والاعتبار. فأمّا الكتاب فقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬1). وهذا يقتضي التصرّف في مال اليتيم. فإذا جاز ذلك بإذن من لا يملك المال حال التّصرّف فيه، فجواز ذلك بإذن من يملك التصرّف فيه أولى وأحرى. وقد قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (¬2). وقال ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية:6. (¬2) سورة البقرة، الآية: 220.

تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} (¬1)، وهذه وكالة من أصحاب الكهف. وهذا وإن ثبت أنّه كان في شرعهم، فشرع من كان قبلنا مختلف في تعبّدنا به. وأمّا الآثار فكثيرة، منها وكالته، عليه السلام، لحكيم بن حزام على أن يشتري له أضحية بدينار فاشتراها، ثمّ باعها بدينارين فاشترى بأحد الدّينارين شاة وأتاه بها مع الدّينار الآخر فقال له: تصدّق بالدّينار. الحديث (¬2). ودفع لغيره دينارًا فاشترى به شاتين فأتاه بذلك فقال له: بارك الله لك في صفقة يمينك (¬3). إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة في هذا. وقد تقرّر الإجماع على جواز الوكالة على الجملة. ومن جهة الاعتبار أنّ بالنّاس ضرورة إلى النّيابة عنهم في أموالهم. فاقتضى ذلك جواز الوكالة لأجل هذه الضّرورة، كما جاز لهم التصرّف فيه بأنفسهم لحاجتهم إلى ذلك. والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: كلّ من جاز له التصرّف في الشّيء بنفسه، جاز أن يتسبَّب (¬4) غيره فيه، لأجل الحاجة إلى ذلك على الجملة كما قدّمناه. وكذلك حكم الوكيل في نفسه، فإنّه من جاز أن يتصرف لنفسه جاز أن ينوب فيه عن غيره، ما لم يمنع من ذلك مانع. مثل العبد فإنّه يعقد نكاح نفسه ولا يعقد نكاح ابنته، وهذا (¬5) ما أذن سيّده له في التصرّف في المال. وكذلك المرأة لها أن تعقد على نفسها المعاوضة على الاستمتاع، ولكن بشرط الوكيل (¬6)، ولا تعقد نكاح غيرها من ¬

_ (¬1) سورة الكهف، الآية: 19. (¬2) نصب الراية: 4/ 90. (¬3) نفس الإحالة. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يستنيب. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا. (¬6) هكذا في النسختين، والمعنى ظاهر، وفيه قلق.

الإناث، إلى غير ذلك مِمّا في معناه. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: أمّا العبادات الّتي هي من أعمال الأبدان المحضة، فلا تجوز النّيابة فيها كالصّلاة والطّهارة، فإنّه لا ينوب فيها أحد عن غيره، وكذلك الحجّ، لكنّه إذا أوصى به، نفذت الوصيّة على ما نذكره في موضعه. وعند المخالف يستناب فيه مع الحياة، على ما نفصّل القول فيه في موضعه، إن شاء الله تعالى، لمّا كان عبادة بدنيّة وفيها بذل مال، والأموال تصحّ النّيابة فيها. ولكن إذا كان ذلك مِمّا لا يستناب فيه على ما قدّمناه من مذهبنا ومذهب المخالف، فإنّ العذر عن ذلك كون ركعتي الطّواف تبعًا في هذه العبادة. وأمّا الزكاة فإنّها تصحّ النّيابة فيها من مال من ينوب، ومن مال من وجبت عليه الزّكاة. وإن كانت من القربات، فإنّها عبادة ماليّة. وقد استناب النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عليًّا في نحو البدن (¬1) ونحرها قربة. وأمّا الصّوم فإنّه لا تصحّ النّيابة فيه مع الحياة. وأمّا مع الموت فعندنا أنّه لا يصوم أحد عن أحد حيًّا كان أو ميّتًا. وقد روي في الصحيح الحديث المذكور فيه من مات وعليه صوم صام عنه وليّه (¬2). والمخالف أخذ بها (¬3) على حسب ما ذكرناه في الكتاب "المعلم". وبه أخذ الشّافعيّ في أحد قوليه. وأمّا الحدود فتجوز النّيابة فيها أيضًا. وقد قال عليه السلام: (واغْدُ يا أُنَيْس على امرأة الآخر فإن اعترفتْ فارجمها (¬4). وعند الشافعية اختلاف في جواز الوكالة على استيفائها مع غيبة الموكِل. وتجوز الوكالة في اقتضاء الحقوق. وقد قال عليه السلام لجابر: خذ لي ¬

_ (¬1) فتح الباري: 4/ 302 - إكمال الإكمال: 3/ 372. (¬2) المعلم: 2/ 39 حد. 443. (¬3) كذا في النسختين، ولعل الصواب: به. (¬4) الترمذي: 3/ 102. حد. 1433.

من وكيلي في خيبر خمسة عشر وسقا (¬1). وكذلك في إجرائها، وفي حديث فاطمة بنت قيس إقامة وكيل يجري عليها النفقة (¬2). وتجوز النيابة في عقد النكاح. وقد وكل عليه السلام عمرو بن أمية في عقد نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان وهي بالحبشة (¬3)، ووكَّل أبا رافع في عقد نكاح ميمونة بنت الحارث (¬4). وتجوز النيابة في الطلاق، وقد قال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} (¬5). إلى غير ذلك من سائر المعاملات المالية. وأما الوكالة على الخصومة فإنه لا خلاف في جوازها عند الضرورة إليها لأجل غيبة الموكل أو مرضه أو كونه امرأة ذات خدر. لأن هؤلاء في حكم من لا تتأتّى منه الخصومة (فضمت الضرورة إلى إباحتها بهم) (¬6). وأما وكالة الحاضر على الخصومة فإن ذلك يصحّ عندنا، وعند الشافعية. ويمنع عند أبي حنيفة، وخالفه أصحابه في ذلك، أبو يوسف ومحمد بن الحسن. وتعلق من الظواهر بقوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} (¬7). فإذا طلب بحق فلم يحضر مجلس الحكومة واستناب، فقد أعرض، والإعراض قد تضمنت هذه الآية ذمَّ من فعله. ¬

_ (¬1) مختصرًا بي داود: 5/ 238 حد. 3485. (¬2) البيهقي: السنن الكبرى: 7/ 471 - 476. (¬3) مختصر أبي داود: تهذيب ابن قيم الجوزية: 3/ 32. (¬4) البداية والنهاية: 6/ 391. (¬5) سورة النساء، الآية: 35. (¬6) هكذا في النسختين ولعل الصواب: فدعت .... لهم. (¬7) سورة النور، الآيات: 48 - 49.

وهذا استدلال ضعيف، والقصد به ذم من لم يؤمن، ألا تراه قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} (¬1) وهذه أوصاف الكفار. وتعلقوا بقوله، عليه السلام: "من ولي بين اثنين فَليسَاوِ بينهما في المجلس والنظر" (¬2). وهذا يقتضى حضور الخصمين جميعًا حتى تقع المساواة بينهما. وهذا كما كتب عمر، رضي الله عنه، لأبي موسى الأشعري: "ساو بين الخصمين من مجلسك ولفظك ولحظك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأَس ضعيف من عدلك" (¬3). وهذا التعلق أيضًا ضعيف, لأن المساواة تحصل بين الوكيل والخصم والوكيل يحل محل الموكل، والمساواة ها هنا بين الوكيل والخصم كالمساواة بين الموكل والخصم، مع كون الخصم له أن يوكّل فيستويان في سائر الأحوال. فإذا لم يمنعه من ذلك فقد وقعت المساواة بينهما. وهكذا إن قالوا: أحد الخصمين يتمرّث بالخصومة وحضور مجلس المحاكمة، وقد يضع من نفسه بذلك، فإذا وكل الآخر وتنزه عن ذلك لم يستويا, لأنه، أيضًا، لم يُمنع هو من أن يوكِّل، واختار أن ينوب بنفسه، فترْك المساواة بينهما من قِبَله لا من قبل الحاكم. وتعلق بأن (¬4) لا تنقل الشهادة عن شهود حاضرين، فإذا لم تقبل شهادة الفرع مع حضور الأصل فكذلك لا تقبل الوكالة مع حضور الموكل إذا لم يرض الخصم بذلك. وأجيب عن هذا بأن لسان الوكيل كلسان الموكل وكلامه ككلامه، وشهود الفرع إنما شهدوا بنقل شهادة، وشهود الأصل شهدوا بالحق من أصله، فلم يكن ذلك كالوكالة. وأيضًا فإن القاضي يلزمه البحث عن عدالة الشهود، فإذا التزم ¬

_ (¬1) سورة النور، الآية:50. (¬2) من كلام علي كرم الله وجهه الاستذكار ج23 ص88. (¬3) إعلام الموقعين: 1/ 72. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: بأنه.

قبول شهادة الفرع كشف عن فرقتين شهود الفرع وشهود الأصل، وهذا فيه كلفة، بخلاف الوكالة. وأيضًا فإن عدول شهود الأصل عن الحضور، مع عدم العذر، مما يستراب، إذ لو حضروا لَظهر للقاضي من حالهم وتأدية شهادتهم ما يوجب الوقف. وقد قال بعض أصحاب الشافعي: الفرق بينهما أن الوكالة تجوز من الحاضر إذا رضي خصمه، ولا تجوز قبل (¬1) شهادة الفرع مع حضور الأصل وإن رضي الخصم. وهذا الذي ذكروه، من الفرق، وكون الرضى لا ينفع، ونقل الشهادة والرضى ينفع في قبول الوكالة، يفتقر إلى تفصيل. ويعتمد من يجيز الوكالة على الخصومة، وإن كان الموكل حاضرًا، على أن إباء الخصم من التوكيل عليه تعنيت وإضرار بالغير من غير فائدة، وهذا ممنوع في الشرع، ألا ترى أن من عليه حق فوكل على قضائه فإن (¬2) ليس من حق من له الدين أن يمتنع من قبوله من يد الوكيل لما كان لا فائدة له في هذا الامتناع. ويجيب المخالف عن هذا بأن الامتناع من قبول الخصام بوكالة فيه غرض صحيح, لأنه قد يوكل الخصِم الألدّ الحاذق بالتحيّل في الخصومات وإبراز الباطل في صورة الحق، ولو تُرك الخصم مع خصمه لأَمِن من ذلك، مع كون الوكيل لا علم عنده من صحة الطلب أو بطلانه أو (¬3) المرافعة عنه هل هي حق أو باطل، وقد يتعدى فيها بما (¬4) يجوز، فلهذا يجب أن تمنع وكالة الحاضر. بخلاف الوكالة على قضاء الدين فإن تناوله من يد الموكل والوكيل سواء لا يتصور اختلاف الأغراض فيه. وليس منازلة الخصم المطلوب أو الطالب، وهو مغفّل، كمنازلة الوكيل العارف بوجوه الخصام والمناقضات. فإن قيل: قد صار للطالب حق في مجاوبة المطلوب، وإذا كان ذلك حقًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولا يجوز قبول. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: فإنه. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: وَ. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: (بما لا) - أو (ما).

له لم يلزمه أن ينتقل عنه حقه في ذلك إلى غير من استحقه عليه، ألا ترى أن الحوالة لا تلزم بغير رضي من له الدين لما كان استحق دينًا في ذمة فلا يلزمهُ التنقل إلى غيرها. وأجيب عن هذا بأن إلزامه للحوالة إسقاط ملك له عن ذمة واشتراء ذمة أخرى، والبيع والشراء لا يكون إلا بالتراضي. وهذا المعنى لا يتصور في الوكالة. وأما ما ذكروه أيضًا من كون الوكيل قد يقع في المدَافعة بباطل، فإن ذلك لم يحرم عليه الوكالة, لأنه يبني أمره على صدق من وكله، ألا تراه إذا رضي الخصم بالوكالة حصل الاتفاق على جوازها مع إمكان أن يكون الوكيل يقع في باطل. وإنما ذلك لأنه يبني أمره على صدق من وكله. وكذلك أيضًا، اختلف الناس في جواز الوكالة على استيفاء القصاص والحقوق من غير حضور الموكل. وذكر بعض أصحاب الشافعي أن الوكالة عليها تجوز من غير خلاف عندهم. وقال بعضهم بالمنع من غير خلاف. وقال بعضهم: إن مذهب الشافعي على قولين في هذا. واعتلّوا للمنع بأنه يمكن أن يكون لو حضر الموكل لعفا وأسقط حقّه في ذلك، فيجب أن يحتاط للدماء بان لا تراق مع جواز أن تصان، فإذا حضر الموكِّل لاستيفائها أُمن من هذا الذي جوزناه. واعتلّ المجيزون بأن هذا التجويز والإمكان لا يرفع الأصل الثابت وهو جواز النيابة قياسًا على سائر الحقوق. وناقضوا من منع من ذلك بأن هذا الإمكان والتجويز الذي اعتلوا به يوجب، أيضًا، ألاّ يقام الحدّ إلا إذا حضر الذين شهدوا لِجوازِ أن يرجعوا عن الشهادة. قال القاضي أبو محمَّد، رحمه الله: "وهي من العقود الجائزة فليس للوكيل أن يتصرف بعد علمه بعزل الموكل له وتصرفه باطل يضمن ما أتلف. وفي ضمانه ما يتصرف فيه بعد العزل وقبل العلم خلاف". قال الإِمام، رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أسئلة، منها أن يقال:

1 - هل الوكالة من العقود الجائزة أو اللازمة. 2 - وهل تصح العزلة مع كون المعزول لم يعلم بها. 3 - وهل يقوم الموت وزوال العقل مقام العزلة؟ 4 - وهل يلزم الموكل إقرار وكيله؟ 5 - وهل تتضمن الوكالة على العقود ما تعلق بها؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: إذا وكل رجل رجلًا على أن ينوب عنه في ما ذكرنا أنه تجوز النيابة فيه، فإن الوكيل بالخيار بين أن يقبل الوكالة أو يمتنع من قبولها. فإن قبلها على الفور عند خطاب الموكل فلا خفاء بصحة ذلك وجوازه. وإن لم يقبلها إلا بعد زمن طويل، فإن أصحاب الشافعي ذكروا أن هذا القبول يصحّ في المعلوم والمجهول والموجود كما يصح ذلك في الكالة (¬1). مثل أن يوكله على أن يقتضي من زيد مائة دينار، أو يقتضي من زيد ما استحقه عنده مِن غير أن يعلم مبلغه، أو يوكله على ما قد استحقه على زيد أو على ما يستحقه قِبَله. كما يستوصي من ينظر بعد موته في معلوم أو مجهول، وما استحق وما يستحق. فلما كانت الوصية تصحّ، وإن تأخر القبول، فكذلك تصح الوكالة وإن تأخر القبول. وأما مذهبنا فإنه قد يخرج عندي على القولين في قول الرجل لامرأته: اختاري، أو قوله: أمرك بيدك. فإنه اختلف قول مالك فيها إذا قامت من المجلس ولم تخْبره في أي مرة، أن حقها سقط بتراخيها عن الجواب. وقد قال بعض أشياخي من الفقهاء: إن هذا الاختلاف ينبني على اختلاف الأصوليين في الأمر، هل هو على الفور أو التراخي؟ فذكرت هذا لإمامي في الأصول فلم يتلقه بالقبول، وقال: أوْلى من هذا أن يكون يجري، هذا على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الوصيّة.

اختلاف أهل الأصول في العموم في المعاني هل يثبت أم لا؟ لأن قوله: أمرك بيدك، لم يُذكر فيه الزمن بصيغة يتناوله من حيث لم يقيد الخطاب بزمن حمل على العموم. وعلى طريقة هذين الشيخين يتصور الخلاف في الوكالة بحسب ما تُصوّر في التخيير والتمليك. والتحقيق في هذا يرجع إلى اعتبار القصود والعوائد، هل المراد بهذه الألفاظ استدعاء الجواب بِدارًا، فإن تأخر فإن المخاطب يسقط حكم خطابه، أو المراد استدعاء الجواب معجلًا أو مؤخرًا؟ وما ذكره أصحاب الشافعي من الاستدلال بالوصية فإن الأصل في هذا كله أصل واحد يرجع إلى ما قدمته. وإن وقعت التفرقة فبحسب مقتضى المراد والمقصود في هذه الألفاظ. والغرض في الوصية اقتضاء الجواب بعد الموت إذا كان الحكم فيها جواز قبول الوصي بعد الموت مع سماعه لخطاب الموصي في الحياة وتأخيره الجواب. فإذا تقرر هذا فاعلم: أن العقود على ثلاثة أضرب: 1 - عقد لازم من الطرفين جميعًا، كالبياعات والإجارات والنكاحات. 2 - وعقد جائز من الطرفين جميعًا كالجعالات والمساقاة والقراض، على أحد الأقوال، أيضًا، عندنا، فإنه قد قيل في الجعل والقراض: إنه لازم بالعقد لهما جميعًا. وقيل: بل كل واحد منهما بالخيار، ما لم يعمل العامل، على ما سيبسط في موضعه، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: هلا عددتم النكاح من العقود اللازمة من أحد الطرفين، وهو المرأة، الجائزة من الطرف الآخر وهو الزوج لكونه قادرًا على حَلِّ العقد بالطلاق وإن لم ترض الزوجة بحله. قيل: ليس المراد بما ذكرناه إلا النظر في رفع العقد من أصله. والزوج، ها هنا، إنما يملك قطع استدامة العقد واتصاله، لا رفع العقد من أصله، ألا تراه

إذا طلق قبل الدخول لزمه نصف العوض، وبعد الدخول يلزمه جميع العوض وهو الصداق. فلو كان له رفع النكاح من غير غرامة لأمكن أن يلحق بالعقود اللازمة من طرف دون طرف. وكذلك يحسن عندي أن يقال في الشركة وأن حقيقتها مبايعة، ولكن لكل واحد من الشريكين أن يدعو إلى المفاصلة، فتُحلّ الشركة. وإنما ملك في هذا قطع الاستدامة وهو الاتصال. فإذا تقرر هذا فإن الوكالة من العقود الجائزة من جانب الموكِّل لأنه إنما ينوّب عنه الوكيل لا لحق نفسه ومنفعتها إذا كانت الوكالة بغير عوض بالحق الموكل ومنفعته، وله أن يمتنع من هذا الانتفاع، قياسًا على الوديعة فإن له ارتجاعها بإجماع لما كان حفظها في يد المودع حقٌ له لا حقٌ عليه. وهذا ما لم يتعلق بالوكالة حق للوكيل أو لغيره، فإن تعلق بالوكالة حق للوكيل مثل أن تكون الوكالة بعوض فإنها تكون إجارة، فإنه لا يمكن الموكل من عزلة الوكيل. أو تتصور للوكيل منفعة من غير جهة المعاوضة. أو يكون في ذلك حقٌ لغير الوكيل فلصاحب الحق أن يمنع الموكل من عزل الوكيل. كما لو وكّل رجل رجلًا على مخاصمة إنسان، فإنه إذا أراد عزلته بعد أن نشب في خصام المطلوب وأشرف على الانفصال، فإن الموكل يُمنع من عزلته إذا منع من ذلك المطلوب، إلاّ لِعذر، كمرض الوكيل أو سفره، أو عجزه عما وُكل عليه، أو تفريطه فيه تفريطًا يخشى على تلف حق الموكل معه. وأما الطرف الآخر، وهو الوكيل، فإنه في حقه من العقود الجائزة، أيضًا، على ما ذكره ابن القصار من كون الوكيل له أن يعزل نفسه. وبعض أشياخي يرى أن المسألة تتخرج على القولين في الهبة، هل تلزم بالقول ويمنع الواهب من الرجوع عنها وإن لم تقبض، أو يكون للواهب الرجوع عنها قبل أن تقبض, لأن الوكيل وهب حركاته وتصرفاته لمن وكله فمنع من الرجوع عن ذلك، كما يمنع من الرجوع عن سلعة وهبها، إذ لا فرق بين هبة المنافع وهبة الرقاب.

وبعض أشياخي يرى أن الخلاف في ذلك مسطور، ويتعلق بما رواه ابن نافع في المبسوط عن مالك فيمن أبضع مع رجل بضاعة ليشتري له بها سلعة بعينها، فذهب الوكيل فاشتراها، ثم قال، بعد شرائه: إني لنفسي اشتريتها. فإنه يقبل قوله، ويحلف إن اتّهم. وذكر في ثمانية أبي زيد عن عبد الملك بن الماجشون أن السلعة تكون للَامر، إلا أن يكون قد أشهد الوكيل حين الشراء أنه اشتراها لنفسه. فأما رواية المبسوط فإنها عنده تقتضي ما قاله ابن القصار من كون الوكالة غير لازمة للوكيل, لأنه جعل السلعة له وإن لم يشهد حين العقد أنه إنما اشتراها لنفسه وأنه قد انعزل. هذا وقد أدخل الموكِّلَ بالتزامه للوكالة في ضرر، وهو نقل ماله من بلد إلى بلد على أن يحصل للموكِّل غرضه بهذا النقل للمال، والتغرير به. ولو غرّر به وهو معتقد أنه يحمله إليه ليردّه لضمنه إن تلف. وأقلّ مراتبه أن يكون كالوعد، والوعْد إذا أدخل الواعدُ من وعَده به في ضرر لزمه الوفاء به. فإذا كان هذا هكذا اتضح عنده أن هذه الرواية تقتضي ما قاله ابن القصار. ألا تراهم قد قالوا في الوصي: إنه لا يمكّن من الرجوع عما قبله من الوصية بعد موت الموصي. ويمكّن من ذلك في حياته، لأجل أن الميت إذا مات قبل أن يرجع الوصي عن قبول الوصية دخل الضرر على اليتامى بانعزالة، فلم يمكّن من الرجوع، بخلاف رجوعه في حياة الأب. وهذا الذي قاله بعض أشياخي صحيح من جهة أنه إذا أمكن (¬1) الوكيل من الانعزال مع ما يلحق الموكل من الضرر في هذا، فأحرى أن يُمكّن من الانعزال في ما لا ضرر فيه على الموكل. لكن قد يقال ها هنا في العذر عن هذه الرواية: إنه إنما جعل السلعة لمشتريها لأجل أنه قد باع البائع منه على أن يملّكها للوكيل، فملكه إياها، وكونه اعتقد شراءها لنفسه استحالت الوكالة عليها، فسقطت الوكالة من أجل ¬

_ (¬1) هكذا، والصواب: مُكِّن.

فوات ما وكّل فيه لا من جهة كونه له الانعزال. كما لو وكله على شراء عبد بعينه، فوجده قد عَتَق أو قد مات، فإن الوكالة بطلت من جهة فوت ما وكّل فيه لا من جهة الانعزال. وأما قول أصبغ: إنها للموكِّل وإن أشهد الوكيل. فإن هذا أيضًا قد حاول بعض أشياخي أن يجعله قولًا ثانيًا في كون الوكيل لا يُمكّن من عزل نفسه. لكن هذا الترجيح أيضًا يُقدح فيه بما أشرنا إليه من كون الموكل قد لحقه الضرر في نقل ماله فلم تمكّن الوكيل من إلحاق الضرر به مع التزامه لما ينفعه لا لما يضره. وأما سبب الاختلاف في عدم الإشهاد، هل يكون ذلك للموكل أو للوكيل، على ما حكيناه عن الثمانية لأبي زيد، فإن ذلك مبني على الأصل أن تصرّفات الإنسان لنفسه. كما يعارض الاحتمالات في كونه اشترى لنفسه أو للموكل. وكما نقول في تعارض الشهادات: إنه يرجح بالأعدل منهما. وأما من ذهب إلى أن الشِراء للآمر فإنه استصحب الحال التي خرج عليها الوكيل فلم يبِن عنها إلا بتصريح من الوكيل. وقد اختلف أصحاب أبي حنيفة في من وْكِّل على شراء سلعة فاشتراها، فعند شرائه قال: إني اشتريتها لنفسي. فقال محمَّد بن الحسن: هي للموكِّل. وقال أبو يوسف: هي للوكيل .. وظاهر الأمرأن هذين الرجلين لم يختلفا، إذا وكِّل على شراء سلعة بعينها فاشتراها، أنها للاَمر، إذا اشتراها بغير تصريح لذكر من اشتراها له. لكون التعيين ترجيحًا، فيضاف إلى ترجيح الأصل وهو كون تصرف الإنسان لنفسه. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: ذكرنا ما في المذاهب من حكم عزل الوكيل نفسه، وذكرنا ما ذكره ابن القصار من تمكينه من عزل نفسه، وعليه أبو حنيفة والشافعي. وهذا مع حضور الموكل.

فأما مع غيبته فإن أبا حنيفة شرط في صحة العزلة حضور الموكل، قياسًا على المودَع، فإنه لا يخرج عن حكم الإيداع مغ غيبة المودع. وأيضًا فإن إجازة العزلة مغ غيبة ربّ المال إضرار به والإضرار ممنوع. والحجة عليه أنه إذا كان لا يشترط رضاء الموكل في العزلة، لو كان حاضرًا، فلا فائدة في اشتراط حضوره، بل غيبته وحضورهُ سيان، إذا كان تمكّن الوكيل من أن يعزل نفسه وإنْ لم يرض الموكل. ألا ترى أن الزوجة لما لم يشترط في وقوع الطلاق عليها رضاها به لم يشترط حضورها بل يقع عليها وإن كانت غائبة. وأما المودَع فلا يُتصوَّر عزل نفسه إلا بردّ الوديعة لمالكها أو إخراجها لحاكم على وجه يسوغ للحاكم معه قبولها من المودعَ. وأما الوكيل فإنه إنما يفيد عزل نفسه قطعَ التصرف في المال الذي وكّل عليه، فذلك جائز ولا مانع منه. إلا أن يتعلق بالوكالة حق أو منفعة للوكيل أو لغير الوكيل، كمطلوب وكّل الطالب رجلًا على خصامه، وأشرفا على إنجاز الحكم، فإنه لا يمكِّن الموكِّل من عزل الوكيل إذا امتنع من ذلك المطلوب بما يلحقه من الضرر. وأما إن كان الوكيل غائبًا فعزله الموكل، وبلغته العزلة وعلمها، فإنه يتحقق عليه حكمها، ويكون متعديًا في التصرف في المال الذي عزل عنه. وأما إن لم تبلغه العزلة، وتصرف بعدها وقبْل العلم بها، فإن المذهب على قولين: هل يثبت حكم المنع من التصرف في باطن الأمر أم لا يثبت؟ وكذلك عند الشافعية قولان في هذا، أيضًا، واختار أبو حامد الاسفرائيني ثبوت حكم العزلة وإن لم يعلم بها الوكيل، قال: وبهذا نفتي. ومذهب أبي حنيفة أن العزلة لا يثبت حكمها حتى يعلم الوكيل بها. وقد جرى الرسم في المذاكرات بين الفقهاء وأهل الأصول في إجراء هذه المسألة على اختلاف الأصوليين في النسخ هل يتحقق حكمه عند بلوغ الخطاب للنبي عليه السلام وإن لم يبلغه للمكلفين، أو لا يتحقق حتى يبلغه إليهم. وذُكر

في مثال ذلك ما جرى من نسخ القبلة التي كانت إلى بيت المقدس فحولت إلى الكعبة، فأتى وجل بعض الصحابة وهم يصلون، وضي الله عنهم، فأخبرهم أن القبلة قد حولت، فاستداروا، واعتدّوا بما مضى من الصلاة. وإن كان قد وقع منهم هذا الفعل بعد النسخ، في ظاهر الأمر. وعلى هذا يجري في المذاكرات الاختلاف الذي وقع في خطيب خطب يوم الجمعة، وهو معزول ولم يعلم بالعزلة، هل يُعتَد بتلك الخطبة أم تعاد؟ فكذلك يجري الأمر في الوكيل فإن الإذن له في التصرف كالأمر به، والعزل له كالنهي. فيختلف فيه، أيضًا، هل يتحقق حكم النهي من المخلوق قبل العلم به. كما قلناه في نهي الخالق تعالى. ومن الناس من ذهب إلى التفرقة بين ثبوت الناسخ ولم يعلم به المكلف، وبين مسألة الوكيل. فإن العبادات وأمور الديانات بخلاف المعاملات, لأن المكلف إذا أمر بالتوجه إلى بيت المقدس فإنه حرام عليه الصلاة لغيرها، ويؤثَّم إن فعل وهو مأمور بالصلاة إليها، فلا يتحقق كونه يثبت عليه حكم النهي عن الصلاة إليها. وأما تصرف الوكيل فإنه من المباحات، إن شاء تمادى عليه، وإن شاء تركه فيتوجه عليه حكم النهي عن التصرف. ولا مناقضة في ذلك لأنه كان له ألا يتصرف. ولم يمكن المصلي إلى بيت المقدس ألاّ يصلي إليها. فإذا باع الوكيل ما وكِّل على بيعه، وهو معزول ولم يعلم بالعزلة، فإن البيع يمضي على الموكِّل إذا قلنا بأن حكم العزلة إنما يتحقق بعد العلم، وإن قلنا: إن حكمها يتحقق قبل العلم كان للموكل أن ينقض البيع ويرتجع سلعته إن كانت موجودة، ويجري الأمر فيها على حكم الاستحقاق. وقد ذكر ابن القاسم أن من وكِّل على قبض دين، ثم عزل عنه ولم يعلم بالعزلة، متى قبض الدين فإن المديان لا يبرأ في الدفع إليه. وأشار سحنون إلى مناقضة من قال بهذا في الدين، وقال في البيع بإمضائه. والظاهر أنه اختلاف. وقد تقرر اختلاف المذهب في من أتلف مال

غيره غلطًا، بإذن تقدم، هل يضمن أم لا؟ فقيل بضمانه لكون الخطإ والعمد في مال الناس سواءً. وقيل: لا يضمن لأجل شبهة الإذن. فكذلك يجب الاختلاف في تصرف الوكيل قبل أن يعلم بالعزلة على هذا الأصل لأنه تصرف بوجه شبهة الإذن. وقد قال في المرأة إذا أنفقت من مال زوجها، بعد أن طلقها ولم تعلم بطلاقه: إنه لا يرجع عليها لأنه أخطأت على مال زوجها بشبهة الإذن. خلاف أن يموت زوجها فتنفق من ماله بعد الموت فإنها تُطلب بالنفقة لما كان خطؤها ها هنا على مال الورثة، وهم لم يتقدم لهم إذن لها، بخلاف خطإها على مال زوجها وهو حي. وكذلك اختلف المذهب في تصرف الوكيل بعد أن مات الموكِّل ولم يعلم بموته. فقيل: تصرفه غير ماض، وللورثة أن يردوا بيعه. وذكر ابن المنذر أن هذا إجماع من أهل العلم. وليس كما قال، بل في المدونة إمضاء تصرفه، في ظاهر ما قال. وذهب مطرف إلى أن دفعه وقبضه بعد موت الموكل ماض وإن علم بموته. وهذا إفراط, لأن تصرفه قبل العلم فيه من الإشكال ما بيناه ورَدَدْناهُ إلى مسألة أصولية، وأما بعد العلم واعتقاده أن الورثة صار المال إليهم، فلا وجه له. إلا أن يرى أن هذا حق استُحِق على الورثة قبل أن يرثوا هذا المال، فلهذا أمضاه. وهذا بعيد. وما ذكرناه من اختلاف المذهب في تصرفه، وما أشرنا إليه من بنائه على الأصل الذي قررناه وهو الخطأ على مال الغير بشبهة إذْن تقدمَ و (¬1) يقتضي إجراء الخلاف في رد فعله من بياعات وكونه (¬2) اقتضائه لا يبرأ به الغريم، وكونه هو في نفسه ضامن (¬3) للمال. وإلى هذا أشار بعض الأشياخ ورأى أن ما وقع في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كون. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ضامنًا.

الروايات، من كون الغريم لا يبرأ بالدفع للوكيل إذا لم يعلم بالعزلة، يقتضي أن صاحب الدين إذا طلب المديان وضمّنه، كان للمديان أن يضمِّن من قبض منه، وهو الوكيل. وبعض أشياخي يشير إلى حمل مثل هذا، مما وقع في الروايات، على تصور الخلاف في ردّ أفعاله لا في ضمانه. وتضمين الغريم من غير أن يُجعَل له مرجع على من قبض منه بتَعدّ. وقد أشار ابن المواز إلى استبعاد ضمان الغريم، حتى قال: ولو كان الغريم علم عزل الوكيل لبرىء بالدفع إليه إذا كان القاضي قد قضى بذلك عليه، لكونه مجبورًا على الدفع. وهذا الإجبار من سبب رب المال مع ما فيه من التغرير بالناس والتحيّل على إتلاف أموالهم. وإذا ثبت أن العلم بالعزلة له يمنع من قبض الدين فإن هذا في دين خص بالتوكيل. وأما دين لم يخص بالتوكيل عليه في نفسه لكن مقتضى الشرع دفعه للوكيل كوكيل وُكِّل على بيع سلعة فباعها ثم مات الآمر قبل أن يقبض، فإن ابن القاسم منعه من القبض لكون المال صار لغير من وكله. وأصبغ مكنه من القبض. فإذا قبضه نظر فيه الحاكم. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: ذكر بعض أصحاب الشافعي أن الوكالة تنفسخ بطروّ الجنون على الوكيل أو الموكِّل. واعتقوا في ذلك بأن الوكالة من العقود الجائزة فوجب أن تنفسخ بالجنون، لكونه طرأ على عقد غير لازم، والمجنون ليس له أن يعقد في حال جنونه، وما قبل جنونه كان العقد فيه غير لازم له. وأيضًا فإن معنى قولنا: إن الوكالة من العقود الجائزة كونُ العقد موقوفًا على اختيار العاقد، والمجنون لا اختيار له، بخلاف النائم لكون النوم معنى طبيعي يتكرر، وينتبه النائم إذا نبّه، بخلاف المجنون. وهذا الذي قالوه يتفصّل القول فيه عندي: فأما إن كان الجنون طرأ على الوكيل فلا شك أن جواز التصرف لا ينتقل

إلى غيره، كما لو مات فإن ذلك لا يورث عنه، لكن إذا منعه الجنون من التصرف ثم عاد إليه عقله فأراد أن يبقى على التصرف الذي كان له قبل الجنون فإنه يمكّن من ذلك إذا كان الموكل حاضرًا ولم يعزله. وإن كان غائبًا فلم يعلم بجنونه فيعزله فإن ذلك أيضًا لا يمنع من تمكينه من التصرف لكون الموكل أذن له بالتصرف، مع جواز القواطع له عن التصرف، فأشبه الجنونُ شغلًا قطع الوكيل عن التصرف. وأما إن كان الجنون طرأ على الموكل فإن الأظهر، أيضًا، كونه يمكن من التصرف. كوديعة أودعها من جنّ قبل جنونه لا تنتزع ممن هي في يديه إذا حسن المودع. بخلاف أن يموت الموح فينتزعها الورثة. لكن لوطال زمن الجنون به طولًا يفتقر معه إلى نظر السلطان في ماله، وأن يقيم له من يتصرف فيه، فإن هذا قد يدخل فيما ينظر له، على حسب ما بيناه في كتاب بيع الخيار. وبين صاحبي أبي حنيفة، محمَّد وأبي يوسف، اختلاف في رقة الوكيل، هل توجب عزلته أم لا؟ والأظهر عندي أنه لا ينعزل بذلك, لأنه إنما يحجر عليه لأجل الردة في مال نفسه لأنه قد يصير للمسلمين، وأما قال غيرهِ فلم يتعلق به حق للمسلمين يوجب الحجر، إلا أن يُعلم أن مقتضى العادة أن الموكل لا يرضى بتصرفه في ماله وقد ارتدّ، فيكون ذلك مما يوجب منعه من التصرف. وكذلك لو وكل زوجته ثم طلقها، فإْن الطلاق لا يوجب عزلتها، إلا أن يُعلم أن الموكل لا يرضى بتصرفها مع انقطاع ما بينهما من المودة والعصمة. وكذلك لو وكل عبده ثم أعتقه، فإن بين أصحاب الشافعي خلافًا في انعزاله لأجل العتق، لأجل أن وكالة الإنسان لعبده كأمر له بخدمته، واعتاقه له يرفع وجوب إنفاذ أوامره لأجْل أنه لا يقدر على جبره على الخدمة في ماله. ولا يقدر على ذلك في الزوجة وغيرها من الأجانب. وكذلك لو وكل عبده ثم باعه، فإن للمشتري أن يمنعه من التصرف لبائعه. لكنه لو أذن له فيه لكان في ذلك قولان عند أصحاب الشافعي، لأجل ما

قدمناه من كون وكالة السيد لعبده كأمر له بخدمته، فتنقطع الأوامر بالبيع، كما تنقطع بالعتق، على أحد القولين عندهم. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: اختلف الناس في حكم إقرار الوكيل على موكله على ثلاثة مذاهب: فذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى إلى أن إقرار الوكيل على موكله غير لازم للموكل، ولا يقضى به عليه. وبه قال زفر. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يلزم إقراره على موكله إذا كان الإقرار في مجلس الحكومة، ولايلزم إذا كان الإقرار في غير مجلس الحكومة. وبه قال محمَّد بن الحسن. وذهب أبو يوسف، في القول الذي رجع إليه، إلى أن إقراره لازم لموكله، سواء أقرّ في مجلس الحكومة أو في غير مجلسها. وسبب هذا الاختلاف أن الموكِّل لا يلزمه أن يُتَصَرَّفَ (¬1) في حقوقه التي يملكها إلا بإذنه. فإن صرح حين الوكِّالة أنه لم يوكل الوكيل إلا على الخصومة دون الإقرار، ونهاه عن الإقرار، وقصر الوكيل على الخصومة خاصة، لم يكن له استحْلاف الخصم، ولا قبض الحق منه، ولا مصالحته عنه. وهذا لا خلاف فيه. وإن وكل، على الخصومة، ولم يتعرض إلى الإقرار عنه، فهذه المسألة التي ذكرنا الثلاثة مذاهب فيها: فيرى مالك والشافعي أن الوكالة على الخصومة ليست بصريح في التوكيل على الإقرار، ولا مما تضمّنَتْه تضمنًا لازمًا. فكان إقرار الوكيل غير لازم، كما لو نص الموكل على نهي الوكيل عن الإقرار عنه. ويحتجون أيضًا بأن الوكيل ليس له أن يسقط الحق لا في مجلس الحكومة ولا في غيره، وله قبض الحق إذا وكل عليه في مجلس الحكومة وفي غيره من الأمكنة. فالإقرار ينبغي أن يكون ¬

_ (¬1) على التأويل بالمصدر أي: التصرف.

غير لازم في الحالين، قياسًا على الإبراء، وعكس استيفاء الحق وقبضه الذي يستوي فيه الحالان في تمكين الوكيل من القبض، فكذلك يجب أن يستوي الإقرار في الحالين في كونه غير لازم. ويرى أبو حنيفة أن الخصومة معنى التوكيل عليها اقتضاء الجواب من الخصم، وجواب الخصم يكون بنعم، ويكون بقوله: لا. فمن وكل على الخصومة فقد وكل على الجواب الذي يطلب منه خصمه. والجواب يكون باللفظين جميعًا الإقرار أو الحجود. فوجب أن يكون للوكيل الإقرار والتصديق كما كان له الحجود والتكذيب. وأجيب عن هذا بأن الخصوم (¬1) معناه المدافعة والمعاندة، والإقرار مساعدة وموافقة، فلا يصح أن يتضمن الشيء ضدّه. بخلاف الإنكار، فإن الإنكار والجحود هو في معنى المخاصمة التي هي مدافعة. فلهذا مكن الوكيل من الجحود والإنكار، ولم يجب أن يمكن من الإقرار لأن تمكينه من ذلك ضد المخاصمة، والمخاصمة أصل والمجاوبة فرع، وإذا عاد الفرع بمناقضة أصله ومضادته بطل في نفسه دون أصله. وقد صار بعض حذاق أصحاب أبي حنيفة بلى أن انطلاق المخاصمة بالإقرار والحجودِ مجاز، وإنما الحقيقة المخاصمة خاصة، وانطلاق اللفظة الواحدة على حقيقتها ومجازها لا يصح، كما لو قال: اقتل أسدًا، لكان المكلف مخيّرًا في سائر الأسود البهيمة، لا في رجل شجاع، يسمى على جهة المجاز أسدًا، لكون الحقيقة معناها استعمال اللفظة في ما وضعت في الأصل له، ومعنى المجاز استعمال اللفظة في ما لم يوضع في الأصل له. فهما أمران متناقضان، فلا يصح أن يراد بالكلمة الواحدة معنيان متناقضان. وهذا يقتضي قصر الوكيل على المخاصمة خاصة دون الإقرار لئلاّ يقع في ما منعناه من انطلاق اللفظة على حقيقتها ومجازها معًا. والإنكار قد تظهر فيه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الخصام.

معنى المخاصمة فتنطلق عليه التسمية انطلاقًا هو كالحقيقة بخلاف الإقرار الذي هو ضد الخصومة، لكنه يسمى أيضًا خصومة لأن الإقرار يقابل الجحود، والشيء يسمى باسم ما قابله أو ما تعلق به، لكن لما كان الجواب في المخاصمة يكون بالجحود فيمكّن الوكيل منه باتفاق، ويكون بالإقرار فيجب أيضًا أن يمكن الوكيل منه، أخذا بالعموم والمجاز، لكون هذه اللفظة، التي هي المخاصمة، المراد بها اقتضاء الجواب، وإيقاع هذه اللفظة على الجواب مجاز، فهذا المجاز يجب أن يحمل على عمومه حتى يتضمن التوكيل الجانبين، وهما الجحود والإقرار. وهذا كما لو حلف ألاّ وضع (¬1) قدمه في هذه الدار. فدخلها ماشيًا أو راكبًا، أو على غير ذلك من الأشكال، فإنه يحنث لما كان القصد بهذا اللفظ ألاّ يدخل الدار. وهذا المقصود بهذا اللفظ إنما ينطلق عليه لفظ اليمين مجازًا فيجب تعميم هذا المجاز في سائر أنواع الدخول. وكمن قال: امرأته طالق يوم قدوم زيد من سفره. فقدم زيد ليلًا، فإنه يلزمه الطلاق. و (¬2) لأن المراد بقوله: يوم، الوقت، وانطلاق هذه اللفظة على الوقت مجاز، والوقت هو الليل والنهار. فلهذا لزمه الطلاق. وهذا الذي مثل به أصحاب أبي حنيفة مسلّم إذا كان القصد باللفظ ما ذكره واعتقده في أنه مراد القائلين بهذا اللفظ. وقد ذكر في كتاب الصوم من المدونة في من قال: لِلَّه عليّ أن أصوم يوم يقدَم فلان، فقدِم فلان ليلًا، فإنه يصوم صبيحة تلك الليلة. وهذا قد يُبْنَى، أيضًا، على أن المراد بذكر اليوم، ها هنا، الوقت، ليلًا كان أو نهارًا. وهو من الأسلوب الذي أجراه ها هنا بعض أصحاب أبي حنيفة. وقد اختلفوا أيضًا في قول الوكيل: إن الموكِّل كذب في دعواه. هل يقبل هذا على الموكل أم لا؟ فمنهم من قال: يقبل، لما قلناه في لزوم الإقرار. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يضع. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: حذف الواو.

ومنهم من قال: لا يقبل، وفرّق بين قول الوكيل: إن موكلي قبض الحق وأبرأ منه، وبيْن قوله: كذب في دعواه أصل الحق. لأن تكذيب المدعي الموكل في دعواه يرفع أصل الوكالة، وإذا رفعها رفع ما تضمنته من قول الوكيل. بخلاف إِقْرارِهِ بأن الموكل قد قبض الحق بعد أن قبل الوكالة وأخذ الخصام. وأما أبو يوسف فقدّر أن الموكل أحل الوكيل محلّ نفسه، وجعل لسانه كلسانه وقوله كقوله، فلما كان الموكل يؤخذ بإقراره، سواء كان بين يدي الحاكم أو غائبًا عنه، فكذلك وكيله. وهذا يجاب عنه بأن الموكل إنما لزمه إقراره في الحالين بحكم حريته واستحقاقه في الشرع التصرف في ماله، ومؤاخذة الشرع له بأقواله فيه. بخلاف الوكيل الذي إنما يستحق النظر في هذا المال بإذن المالك لا بأصل الشرع، والمالك لم يأذن له فيه، والشرع لا تتعدى حدوده ومراسمه. والأب والوصي وإن جعل لهما الشرع في مال اليتيم، فإنه إنما جعل لهما ذلك في ما يعود بصلاحه، لا في ما يعود بضرره، فلم يجز إقرارهما على من في ولائهما (¬1) بحق عليهِ لمّا توليا المعاملة فيه اتباعًا لحدود الشرع في ما جعله إليهما. وقد نوقض أبو حنيفة في المدعى عليه في ما يجب عليه فيه قصاص أو حدّ، فوكّل على المخاصمة عنه، فإن إقرار الوكيل لا يلزمه. وانفصل عن هذا بأن الحدود تدرأ بالشبهات، والوكالة على الخصام إنما اندرج تحتها الوكالة على الإقرار بما ذكرناه من حكم التعلق تضمن هذا الخطاب (¬2) الذي هو مجاز، وهذه شبهة يدرأ الحد بها. فإذا وضح مأخذ الخلاف في تضمن الوكالة الإقرار، فإن ذلك إنما يتصور الخلاف فيه مع الاقتصار على الوكالة على الخصام دون تصريح بالنهي عنه والإذن فيه. فمتى قال المُوَكِّل: وكلتك على الخصام، ونهيتك عن الإقرار. فإنه ¬

_ (¬1) أي: ولايتهما. (¬2) كذا في النسختين.

لا يختلف في أن إقرار الوكيل غير لازم للموكل لنهيه. فإذا أطلق الوكالة على الخصام والاستيفاء والاستحلاف والإقرار، فإنه إذا أقر على موكله فإن الظاهر من مذهب الشافعي أن إقرار الوكيل لازم، لنص الموكل على الإذن فيه للوكيل. لكن ذكر أبو حامد الإسفرائيني أنه إذا قال للوكيل: أقِرّ عليّ لفلان بألف درهم. فإن هذا عندهم على وجهين: أحدهما: لزوم ذلك للموكّل لكون هذا القبول الصادر منه كتولّيهِ الإقرار بنفسه. والوجه الآخر: أنه غير لازم, لأنه قصارى ما فيه أنه أمر الوكيل بأن يقول قولًا، ولا يكون أمره له بان يقول قولًا من الأمر، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال لعمر، لما طلق ابنه عبد الله زوجته في الحيض: مره فليراجعها (¬1). فلم تكن الرجعة واجبة، عندنا، على عبد الله بن عمر لما كان الأمر له بذلك من أبيه. بخلاف أن يقول النبي عليه السلام لأبيه: أخبره أن الله أمره بالرجعة، أو أني أمرته بها، أو يأمره - صلى الله عليه وسلم - شفاها. فكذلك قوله لرجل: أقرّ عني بألف درهم. فإن هذا لا يعدّ إقرارًا من الآمر، بل لا يتضمن سوى الأمر للوكيل بأن يقول هذا القول، وقول إنسان لا يؤخذ به آخر. وهذا الذي قاله أبو حامد، واستشهد به في مسألة الرجعة، لا نوافقه عليه. بل مذهبنا أن المطلّق في الحيض يجبر على الرجعة, لأن قول النبي عليه السلام لأبيه: مره فليراجعها، الظاهر منه أنه أمره بتبليغ هذا الحكم وإخبار ولده به، وهكذا إذا قال: أقرّ عني، فالظاهر منه أن ما نطق به الوكيل هو كالنطق من الموكل، لقوله: أقرّ عني، فأضاف قول الموكل إلى نفسه. وقد وقع في العُتببة لأصبغ فيمن وكله رجل على خصام رجل في شيء، فإن إقرار الوكيل لا يلزم الموكل. قالوا: ولو أشهد له بأنه جعله في الإقرار عنه كنفسه فإن إقرار الوكيل يلزمه. وظاهر هذا أنه يقول (¬2) كذلك في اللفظ الذي حكيناه في قوله: أقرّ عني. وإن كان هذا اللفظ الذي ذكره أصبغ قيده بقوله: جعله في الإقرار كنفسه. ¬

_ (¬1) فتح الباري: 11/ 262. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: يكون.

فإذا كان المراد بقوله: أقرّ عني، هذا المعنى لم يفترق اللفظان، ولا ينبغي أن يتصور الخلاف. وربما كانت قرائن وألفاظ تحل محل النطق فلا يكون للخلاف فيها وجه. وإن اقتضت قرائن أنه لم يرد بالخطاب أن يجعل قوله كقوله، بل أراد وجهًا آخر يمنع من صرف القول إليه، ولا يتضمن كونه معترفًا، لم يكن هذا القول الواقع على هذه الصفة بالذي يوجب على الموكل ما أقرّ به الوكيل. ولما أشار أبو حامد إلى الاختلاف عندهم في هذا القول إذا قال له: أقرّ عني لفلان بألف درهم، فإنه أجراه، أيضًا، على الوجهين المتقدمين، هل يسقط هذا الإقرار عن الموكل أو يلزمه، ويُرجع في تقرير هذا المال إليه. قال: ولو قال له: أقرّ عني، ولم ينصّ على عدد ما يقرّ به عنه، بل أورد هذا اللفظ مطلقًا، فإنه على وجهين: أحدهما: أن هذا الإقرار لا يلزم الموكل، لإمكان أن يكون أراد بقوله: أقرّ عني، بأمر غير الحقوق المالية، إما بإخبار عن حال من الأحوال، أو غير ذلك مما في معناه. والوجه الآخر: أن هذا الإقرار يلزم الموكل، ويُرجع في تعبير ما لم يقرّ به الوكيل عنه إلى الموكل. وهذا، أيضًا، لا يتصور فيه خلاف، إذا قال: أقرّ عني، في خصام في حقوق ومراجعة ومحاورة في ذكر مال والطلب به، حتى يفهم من هذا الإطلاق أن المراد به كالمراد بالمقيّد، وهو قوله: أقرّ عني بمال. ومحصول الأمر في هذا يرجع إلى ما نبهناك عليه من اعتبار المفاسد بهذه الألفاظ، فهذا الذي يعتمد عليه. والجواب عن السؤال. الخامس أن يقال: اختلف المذهب فيمن وكَّل على بيع سلعة أو شرائها، هل يقبل قول الوكيل، بعد انقضاء العقد، على ما يتعلق بالعقد، مما يوجب فسخه أم لا؟

فذكر في المدونة، فيمن أمر رجلًا أن يُسلِم له في طعام، ففعل، فردّ المسلم إليه دراهمَ زيوفًا، فقال: هي مما دفع إليّ الوكيل، فصدقه الوكيل في ذلك، وأقر أنها دراهم الآمر، يلزمه بدلُها، بإقرار وكيله, لأنه ائتمنه، فهو مصدق عليه في أنها دراهمه، وصار اعترافه بذلك كاعتراف الموكل. وذكر في الموازية في وكيل وكِّل على بيع سلعة، فاطلع المشتري على عيب فيها، فشك أهل المعرفة هل حدث هذا العيب عند المشتري أو كان قديمًا عند الموكل؟ فاعترف الوكيل أنه كان عند الموكل، فإنه لا يصدق على الموكل، ولا يمكّن المشتري من الردّ بهذا العيب بمجرد قول الوكيل. وظاهر هذا خلاف ما قال في المدونة. وقال مطرّف وابن الماجشون، فيمن وكل على شراء سلعة، فلما اشتراها زعم أنه شرط في العقد شرطًا يفسد البيع: إنه يصدق في ذلك مع يمينه، إن كان لم يدفع السلعة إلى الموكل. وإن نكل، عن هذه اليمين فإنه يغرم للبائع قيمة السلعة التي أفات عليه بنكوله عن هذه اليمين. ومراده غرامة الوكيل المقرّ بهذا الفساد، لإكمال القيمة إن زادت على الثمن الذي قبضه البائع. قال: وإن كان الوكيل لم يقر بهذا الفساد إلا بعد أن دفع السلعة إلى الموكل له على شرائها، فإن قوله غير مقبول، ويغرم القيمة للبائع، لكونه معترفًا أنه أفات على البائع سلعة يجب عليه أن يردها إليه، بدفعها لمن وكله. وهكذا ذكر عيسى في المستخرجة أن الوكيل يصدق في إقراره بالفساد. ولكنه أطلق القول في ذلك، ولم يفرق بين كون الوكيل أقر بهذا قبل أن يدفع السلعة إلى موكله أو بعد أن دفعها. وظاهر هذا الإطلاق أنه يقبل قول الوكيل في الحالين، كما يقتضيه ظاهر المدونة فيما حكيناه عنها. وإن كان قد قال بعض المتأخرين بأن الوكيل إنما صدقه، في المدونة، في كون هذه الدراهم الزيوف دراهم الآمر، لأجل كون الطعام المسلم فيه لم يقبض، وإذا كان لم يقبض فقد بقي من أفعال الوكيل في ما وكل عليه وجه، فصارت الوكالة لم تنقطع علاقتها، فصُدق الوكيل فيما يقول، حتى إذا قبض الطعام انقطعت الوكالة وعلاقتها،

فيجب ألا يصدق الوكيل. ومن المتأخرين من أنكر هذا التأويل، ورأى أن ظاهر المدونة تصديق الوكيل ولو قبض الطعام. وهكذا، أيضًا، يتأول بعض الأشياخ مسألة الكتاب على أن الوكيل لم يُعلم المسلم إليه بأنه وكيل، أو أعلمه بذلك إعلامًا لا يبرئه من المطالبة بالثمن. فإذا كان من حق البائع مطالبة الوكيل بالثمن في ذمته صار الوكيل بدفعه الثمن للبائع غير بريء الذمة، والثمن باق عليه، وهو مطلوب به من جهة موكله. فإذا تصورت المطالبة عليه بالثمن أشعر ذلك بأن وكالته لم تنقطع، فصدق على الآمر الذي وكله، حتى لو عقد هذا السلم على وجه لا تكون عليه مطالبة بالثمن في ذمته، مثل أن يقول المسلم إليه: هذه الدراهم لفلان، أمرني أن ندفعها إليك في طعام. فإنه يجب ها هنا ألاّ يصدق الوكيل على الموكل، لكونه غير مطالب بالبدل ولا الثمن في ذمته. فوكالته انقطعت بنفس دفع هذه الدراهم الزيوف، فلا يصدق على موكله. وهذا كله تخريج على قاعدة أشرنا إليها. وذلك أن الوكيل إذا فرغ مما وكّل عليه وانعزل صار إقراره على موكله كإقرار رجل أجنبي لا علاقة بينه وبين هذا الموكل. وإذا كانت وكالته لم تنقض وائتمنه على ما يفعل ويعقد (ما يفعله) (¬1)، وعقده يقع على وجوه، فقد ائتمنه على الوجه الذي يوقعه منها فوجب تصديقه. فمن تأوّل مسألة المدونة على أن الطعام لم يقبض إنما أراد بهذا التأويل إثبات علاقة بقيت من الوكالة توجب تصديق الوكيل. ومن اعتبر ما قلناه من كون الثمن يتعلق بذمة الوكيل إنما اعتبر أيضًا، بقاء علاقة من الوكالة توجب تصديقه، مع كون الموكل ائتمنه على ما يفعل فصار بذلك كالمصدق له فيما يذكره من الوجه الذي أوقع الفعل عليه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها.

وقد يهجس في الخاطر استنكار تفرقة ابن الماجشون ومطرف من كون الوكيل أقر بالفساد بعد أن دفع السلعة أو قبل أن يدفعها لكونه إذا لم يدفع بقيت من الوكالة علاقة وهي الدفع، فوجب تصديقه. بخلاف انقطاع هذه العلاقة بدفع السلعة. مع كون سكوته، أيضًا، عن ذكر هذا حين دفعه السلعة كالمناقض لما يقتضيه فعله من كون الدفع لها كالاعتراف بصحة ملك الموكل على شرائها. وأيضًا، فإنه قبل أن يدفعها لو قال: إني اشتريت لنفسي وانعزلت عن الوكالة قبل شرائها، فإنه يصدق، على الخلاف الذي ذكرناه في أوَّل هذا الكتاب. فإذا كان قبل دفعها مقبول القول في صرف الموكل عن ملكها، فلا يتهم في أن تصرفهُ بوجه آخر، وهو اعترافه بأن العقد وقع فاسدًا. هذا حكم ما يقبل فيه قول الوكيل. فإذا قلنا بقبول قوله فهل يصدّق بيمين على صحة ما يقول أم بغير يمين؟. ذكر في المدونة، في المسألة التي تكلمنا عليها ها هنا، أن الوكيل إذا اعترف بأن الدراهم دراهم من وكّله فإنه يصدق، ولا يلتفت إلى إنكار الموكل، لأن الوكيل أمينه. قال: وإن لم يعرفها الوكيل، ولكنه قبلها، فإنه يلزمه بدلها. وله أن يحلّف الموكل على أنه لا يعلم أنها دراهمه، وأنه لم يعطه إلاّ جيادًا في علمه. واعترض بعض الأشياخ بأن قال: تحليف الآمر بأنه لما لزم الوكيل بدل هذه الدراهم، ولم يبق بينه وبين الآمر محاكمة لوصوله إلى حقه من مال الوكيل. فإذا ألزمنا بعد هذا المأمور أن يحلف للآمر، كان من حجة الآمر في إسقاط اليمين عنه أن يقول: لو حضرت للمحاكمة بيني وبين قابض الدراهم لكان القول قولي في أني لا أعلمها من دراهمي، ولم أعطه إلا جيادًا في علمي، ومن حقي أن ننكل عن اليمين، ونردّها على قابض الدراهم. فبغرامتك لقابض الدراهم الزيوف بَدَلها قد حُلْتَ بيني وبين ردّ هذه اليمين، وأتلفتَ هذا الحق عليّ، ولا يتوجه لك عليّ يمين, لأن الذي توجه عليّ من اليمين في مثل هذا

إليّ ردُّه، وأنت لم تحقق أنها دراهم (¬1) لجواز أن يكون قابضها هو الذي أبدلها، فلا أردّ عليك اليمين فيما لم تتحققه، ولا أقدر على ردها على قابض الدراهم لكونه قد سقطت المحاكمة بيني وبينه بحصول الدراهم الطيبة من قبلك في يديه. وأجاب عن هذا بعض الأشياخ بأن هذه اليمين، التي ألزمها في المدونه للَامر، قد توجهت عليه من جهة قابض الدراهم، فإذا أبدل الوكيل الدراهم فإنه يقول: أنا قد حللت محلّ قابض الدراهم في طلبك بهذه اليمين منك، ولا نسقطها عنك، فعلى مَا يُمنع قابضها من مخاصمتك أنت لأنه اختار مخاصمتي واخترتُ أنا غرامتها له لأجل محله في طلب هذه اليمين منك، ولا يسقطها عنك كوني شاكًا في وجوب الغرامة عليك، كما لا يسقط حق الورثة في اليمين عمّن ثبت أن الميتَ، الذي ورثوه، ذكر أن له عنده حقًا سماه، فإن الذي ادعى عليه الميت يحلف للورثة لكونهم يحلون محلّ من ورثوه. فإن نكل المدعّى (¬2) عن هذه اليمين غرم. ولم يلزم الورثة يَمينٌ لكونهم لا يعلمون صدق الميت. فإذا تعلقت اليمين على من ادعى عليه الميت لكون الوارث يحلّ محلّ الميت، ولم يمنع من تعلقها كون هذه الدعوى قد فات بها رد اليمين لموت المدعي، فكذلك إذا فات ردّ اليمين، ها هنا، لغرامة الوكيل لهذه الدراهم. وقال في المدونة: إن لم يعرفها المأمور ولا قبلها فإن قابضها يستحلفه. وله أن يستحلف الموكل. وقد وقع اضطراب في من يبدأ باستحلافه ها هنا. فظاهر المدونة أنه يبدأ باستحلاف المأمور ثم يستحلف الآمر. ورأى بعض الأشياخ المتأخرين أن الأوْلى بداية الآمر. ورأى بعض أشياخي وغيره من الأشياخ يخير قابض الدراهم في من يبدأ باستحلافه منهما. وسبب هذا الاختلاف النظر في ترجيح هذين المطلوبين باليمين على صاحبه. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: دراهمي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المدعى عليه.

فمن ابتدأ باستحلاف المأمور رأى أنه هو الذي تولى المعاملة والعقد والدفع لهذه الدراهم، وباشر قابضها بذلك، وقابضها يحقق عليه أنه أعطاه زيوفًا يجب بدلها, ولا يحقق ذلك على الآمر. فالبداية بالمباشر للمعاملة والدفع الذي يحقق عليه الدعوى أوْلى ممن لم يباشر ولا يحقق عليه دعوى. ومن رأى البداية بالآمر رجح جانبه، ها هنا، بأنه صاحب الدراهم، وعوضها، الذي هو السلم هو يستحقه، والوكيل ها هنا يده كيد موكله ودفعه كدفعه، ولا حق له ولا ملك في الثمن ولا في المثمون، فكانت البداية بمن له الثمن وله طلب المثمون، أوْلى. ومن ذهب إلى تخيير القابض في البداية بمن شاء منهما، وإذا قضي بتبدية المأمور فإنه إن حلف برىء من البدل، وإن لم يحلف وردّ اليمين على قابض الدراهم، فحلف قابضها، أبدلها له، ثم ينظر في تحليفه هو الآمر، فقد قلنا: إن بعض الأشياخ عارض ما في المدونة من استحلاف المأمور للَامر بأنه قد منعه من ردّ اليمين وأفات ذلك عليه، فلم يكن له طلب باليمين. وها هنا لم يفت عليه ردّ اليمين، بل استحلف القابض للدراهم ثم لما غرمها عاد لطلب الأول باستحلافه على أمر لا يحققه عليه, لأنه يجوز أن يكون قابض الدراهم هو الذي أبدلها، وأنه ظلم في طلب اليمين عليها. فيجري هذا مجرى من دفع إلى رجل دراهم من دين له عليه (كونه بصدقة أو لغير ذلك مما يوجب ردها) (¬1) فإنه لا يحقق الدعوى على دافعها إليه الذي كانت دينًا عليه، لكونه يجوز أن يكون مَن قبضها منه هو، أيضًا، أبدلها، فيجري ذلك مجرى أيمان التهم. بخلاف أن يكون قابضها مِمّن هو عليه دين لم يخرج من يديه فإنه يستحلف دافعها من رد اليمين عليه. ولو أن قابض الدراهم، في المسألة التي ذكرنا عن المدونة، طلب المأمور باليمين، وبدأ به، فنكل عن اليمين وردها على قابض الدراهم فلم يحلف، فإن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

حقه قد سقط في البدل، ولا يكون له ها هنا أن يستحلف الآمر, لأن الآمر يقول: أنت إذا طلبت مني اليمين على ما نكل عنه المأمور فنكلْتُ عنها فنكولك السابق منك للمأمور امتنع (¬1) تعلقها بي. وقد ذكر ها هنا في صفة اليمين أن الدافع يحلف أنه ما يعلمها من دراهمه، ولا أعطاه إلا جيادًا في علمه. والجمع بين هاتين الجملتين لا بد منه، لأن الاقتصار على إحداهما لا تنفي دعوى المدعي, لأنه إذا قال: ما أعلمها من دراهمي، يكون صادقًا، ولكنه، يمكن أن يكون حين الدفع علم أنه دفع زيوفًا يجب عليه بدلها, ولكنه لا يدري هل هذه الزيوف التي ردت عليه أم لا؟ وإذا أضاف إلى هذا: ولم أعطك إلا جيادًا في علمي، ارتفع ما يخشى منه أن يكون ألغز عليه في يمينه وكذا لو اقتصر على قوله: ما أعطيتك إلا جيادًا في علمي، لم يستقل بنفي الدعوى، لكونه يمكن أن يكون لم يعلم حين الدفع أنها زيوفًا، ولكنه لما اطلع عليها الآن علم أنها دراهمه وأنها زيوف، فلهذا كلف أن يجمع بين هاتين اللفظتين. ولو اعترف المأمور الذي دفع هذه الدراهم أنها زيوف، ودلس بها على قابضها, لوجبت له عليه الغرامة من باب التغرير والتدليس. ولو زعم أنه علم بتزيفها ولكنه نسي بيان ذلك حين العقد لعذر بذلك، ولم يتوجه عليه غرامة، إذا كان قد عامل المسلم إليه على وجه لا يوجب عليه البدل، مثل أن يبيّن أنه رسول إليه يشتري منه بعين هذه الدراهم. وكذلك لو وكل على بيع سلعة فردها المشتري بعيب، وزعم الوكيل بأنه علم بالعيب حين العقد ولكنه نسي بيانه، فإنه لا غرامة عليه، ولا يُستحلف على صحة عذره بالنسيان، لبعد التهمة في هذا. بخلاف من باعه سلعة نفسه وزعم أنه أُنسي بيان العيب حين العقد، فإنه يستحلف على ذلك، لكونه يُتهم في دعوى النسيان في مال نفسه، ولا يتهم في مال غيره. وهكذا، أيضًا، يجب في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منع.

الدراهم، التي ذكر أنه نسي أنها زيوف، ألاّ يستحلف، كما قلناه ها هنا، إلا أن يلتفت إلى أنه يمكن أن يكون خان وأبدلها زيوفًا حتى تتوجه عليه غرامتها. فصار من هذه الجهة يقدر أنه متبوع بالطلب. بخلاف ما قلناه في دعواه نسيان العيب فإنه لا تتصور ها هنا تهمة.

فصل

فصل ومما يلحق بهذا المعنى رد الوكيل ما اشتراه لموكله لعيب اطلع عليه. فإنه لم يختلف المذهب في أنه إذا وُكِّل على شراء سلعة بعينها، فإنه ليس له ردها بالعيب الذي اطلع عليه بعد العقد، إلا بعد مطالعة الموكل وإذنه له في ذلك. وإن كانت السلعة ليست بمعينة وإنما وكل على شراء سلعة موصوفة، ففيها قولان مشهوران. ومذهب الشافعية، على العكس من هذا، أنه لا خلاف عندهم في أن له أن يردّ بالعيب إذا وكل على شراء سلعة موصوفة. وعندهم قولان في ما إذا وكل على شراء سلعة معينة. وسبب الخلاف عندنا، في الموصوفة دون المعينة، أن الوصف يشعر بقصد الموكل إلى تحصيل تلك الصفات سليمة، فإذا لم تكن سليمة من العيب لم يلزم الآمر، وصار الوكيل لم يَعقد على ما أمره به، فله ردّه من غير مطالعة الموكل. وإذا عين الموكل ما يشتري له فغرضه تحصيل العين على أي حالة كانت. فلهذا لم يمكن الوكيل من ردها. ومكنه من ذلك الشافعي وقدر أنه إنما أمره بشرائها بشرط أن تكون سلمية من العيوب، فإذا لم تكن كذلك صار كمن اشتراها ولم يوكل عليها، فله ردّها. قال القاضي أبو محمَّد، رضي الله عنه:

[يجوز إطلاق] (¬1) الوكالة في البيع. ومقتضى ذلك ثمن المثل نقدًا بنقد البلد. وإن كان هو المشتري جاز. وكذلك في الشراء، مقتضى الإطلاق ثمن المثل. فإن كانت الوكالة في شراء جارية، للخدمة أو للوطء أو تزويج أو غير ذلك، لزم فيه (¬2) ما أشبه في دون ما لم يشبه. قال الإِمام، رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما حكم تعدي الوكيل في المخالفة في صفة الثمن أو المثمون؟ 2 - وما حكمه إذا اشترى لنفسه ما وكل على بيعه؟ 3 - وما حكمه إذا تعدى في ترك الإشهاد؟ 4 - وما حكمه إذا اشترى من يعتق عليه؟ (¬3) فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: إذا وكل رجل رجلًا على بيع سلعة أو على شرائها، فلا يخلو من أن يكون قيد الوكالة على البيع أو على الشراء، أو أطلقها. فإن قيدها بثمن محدود وشرط الانتقاد، مثل أن يقول: بيع سلعتي بعشرة دنانير من نعت كذا حالّة، أو اشتر لي بمثل ذلك. فإن الوكيل منهيّ على تعدّي ما رسم له الموكل. وإن أطلق الوكالة فلا يخلو أن يكون أطلقها في الشراء للموكِّل أو في البيع له. فإن أطلقها في الشراء مثل أن يقول: اشتر لي ثوبًا أو عبدًا. ويصف العبد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط في النسختين. (¬2) في المغربية والغاني: منه. (¬3) سقط السؤال الخامس من النسختين وتقديره حسب الجواب عليه: وما حكم تعدي الوكيل بتوكيله لغيره من غير إذن رب المال.

والثوب. فإنه متعدٍّ إن خالف الصفة. وإن أطلق ولم يصف العبد والثوب. فإنه: إن اشترى له ما يليق بمثله لزم الموكل ذلك. وإن اشترى ما لا يليق به، ففيه قولان: مذهب ابن القاسم أن ذلك لا يلزم الموكل، لكون العرف ها هنا يحل محل التقييد بوصف العبد أو الثوب. وقال أشهب: يلزم ذلك الموكل أخذًا بعموم لفظ الوكالة، ولإمكان أن يكون أراد العبد أو الثوب للتجارة لا للخدمة. ومذهب ابن القاسم حمل الخطاب على ما يليق بالموكل في الاستخدام واللباس. وكذلك حكم الثمن في الوكالة على الشراء فإنه لا يلزم الموكّل عقدُ الوكيل، إلاّ أن يشتري له بالثمن المعتاد في جنسه وفي مقداره. وهذا لا خلاف فيه. وأما إن وكله على بيع سلعة بعينها وأطلق الوكالة، فإن العلماء مختلفون فيه على ثلاثة مذاهب: فمذهب مالك والشافعي أن هذا الإطلاق يتقيّد بالعرف في مقداره وجنسه وكون الثمن على الحلول. فإن باع الوكيل بعرض أو غيره خلافَ نقد البلد كان متعديًا. وكذلك إن باع بثمن مؤجل فإنه يكون متعديًا، أيضًا. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يكون متعديًا في شيء من هذه الوجوه، بل للوكيل على البيع أن يبيع بما عزّ وهان، وبأي جنس من الأثمان شاء، نقدًا، أو مؤجلًا إلى أي زمن. ووافقه صاحباه محمَّد بن الحسن وأبو يوسف في تمكينه من البيع بثمن مؤجل. ووافقا مالكًا والشافعي في كونه متعديًا إن باع بغير نقد البلد، أو باع بثمن

بخس لا يتغابن الناس بمثله. فأما أبو حنيفة فإنه اعتمد على وجوب الأخذ بالعموم في لفظ الموكل، كما يجب الأخذ بالعموم في لفظ صاحب. الشرع لكونه مخاطبًا لأمته. واللغة تقتضي حمل اللفظ على العموم، عند من صار إلى ذلك من أهل الأصول. وكذلك يجب حمل التخاطب منا على العموم. وإذا لم يقيد الموكل الوكالة بثمن بين الأثمان ولا حدّه بمقدار، ولا وصفه بالحلول، اقتضى ذلك إباحة عقد البيع على أي صفة شاء الوكيل. لأن من باع بثمن مؤجِّلًا سُمي عقده بيعًا. وكذلك من باع بثمن بخس فإن عقده يسمى بيعًا. وكذلك إذا باع بعرض فإنه يسمى ذلك بيعًا. فكل ما يسمى بيعًا دخل في عموم الوكالة. ولما كان للموكل أن يبيع سلعته كيف شاء فكذلك للوكيل أن يبيعها، بمقتضى عموم اللفظ، كيف شاء مما يسمى بيعًا. ولهذا منعناه أن يهبها، وإن كان جائز للموكل أن يهبها، لأنه إنما وكل على ما يسمى بيعًا، والهبة لا تسمى بيعًا. وقد اعتمد أصحابنا في الرد عليه إذا باع بثمن بخس فإنه واهب لبعض السلعة التي وكل عليها، والهبة ليست إليه، كما لو وهب الوكيل جميع السلعة. فإن من باع ما قيمته مائة دينار بعشرين دينارًا، فإنه واهب لأربعة أخماس السلعة، وليس للوكيل أن يهب. وينفصل أبو حنيفة عن هذا بأنه يسمى هذا بيعًا، وإن كان بثمن بخس، لأن حقيقة البيع نقل الملك بعوض، وها هنا انتقل بعوض. فلا مبالاة بالعوض كان قليلًا أو كثيرًا, لأن التسمية معلقة بحصوله، لا بمقداره ولا بجنسه ولا بنسيئته. والمريض إذا باع بمحاباة فإن محاباته إنما كانت في الثلث، وإن كان له أن يبيع، لأجل تعلق حق الورثة بماله، وليس له أن يضرهم. وكذلك الأب والوصي ليس لهما أن يبيعا مال من في ولائهما ببخس, لأن الشرع إنما ملكهما البيع عليه بشرط إحسان النظر، فإذا أساءا فيه صارا معزولين عن هذا الفعل. كما لو قيّد الموكِّل الثمن، فإن الوكيل ليس له مخالفة ذلك،

وعمدة أصحابنا أنّا، وإن سلمنا حمل لفظ الوكالة على العموم، فإنّا قد اتفقنا على أن النصّ على التقييد لا يجوز للوكيل مخالفته. فإذا لم يُقيَّد، وكان العرف يقوم مقام النص على التقييد، وجب أن يُمنَع الوكيل من مخالفته، أيضًا ألا ترى أن المالك لسلعة إذا باعها بمائة دينار ولم يَصِفْ سكّتها، وفي البلاد سِكك مختلفة، أن البيع فاسد. وإذا نص على سكة بعينها صحّ البيع. وإن لم ينصّ، وكان العرف البيع بسكة معينة، فإن البيع صحيح، لكون العرف يقوم مقام النص على تعيين سكة من هذه السكك. ويقول أصحابنا، أيضًا: لا نسلم كون بيع العرض بالعرض بيعًا على الإطلاق، بل هو بيع من وجه وشراء من وجه، وإنما البيع المطلق بالدنانير والدراهم التي هي أثمان مختصة، فذلك هي عندنا علة الربا فيها خاصة. والعقود تختلف أسماؤها باختلاف أوصافها. فإذا كان العرض بيع بدنانير أو دراهم على الحلول، سمي بيعًا. وإن كان العرض مؤجلًا في الذمة، سمي ذلك سَلمًا. وإن كان العرض معجلًا والدنانير أو الدراهم مؤجلة، سمي بيعًا بدين. وبيع العرض بالعرض ليس أحدهما بأن يُسمّى ثمنًا والآخر مثمونًا بأحقّ بذلك من صاحبه. وأبو حنيفة يجيب عن هذا بأنه قد حصل حقيقة البيع في من وكّل رجلًا على بيع عرض, لأن المراد أن ينقل ملكه من هذا العرْض بعوَض، وقد حصل هذا المراد، وحصلت التسمية. وإنما يعرض ما أشرتم إليه (من حكم، وأما) (¬1) فنفس العقد يقتضي تسمية هذا بيعًا. ومما يعتمد عليه أصحابنا وأصحاب الشافعي قياس الوكالة في البيع على الوكالة على الشراء. وقد اتفقوا على أن الوكيل على الشراء ليس له أن يزيد على ثمن السلعة التي اشتراها زيادة خارجة عن العادة. وكذلك إذا وكل على بيعها فليس له أن ينقص من الثمن المعتاد فيها. وكذلك في جنس الثمن، وحلوله وتأخيره. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

وانفصل أصحاب أبي حنيفة عن هذا بثلاث انفصالات: أحدها أن الوكيل إذا اشترى بثمن زائد على المعتاد يتهم أن يكون إنما عقد الشراء لنفسه، فلما استغلاَه نَسَبَ ذلك إلى الموكل وألحقه به. والوكالة مبنيّة على الإئتمان، وهو حقيقتها، وإذا تطرقت إليها التهمة بطلت حقيقتها، فوجب بطلان ما يعود بإبطال حقيقتها، كما يجب إبطال الفرع إذا عاد بمناقضة أصله وإبطاله. ولا تتصور هذه التهمة في الوكالة على البيع. ونوقض أصحاب أبي حنيفة في هذا بأنه قد تتصوّر التهمة في البيع بوجه آخر، وهو كون الوكيل يبذل له رشوة على أن يبيع ما وُكِّل عليه بثمن بخس. وهذا الذي صوره أصحاب أبي حنيفة من التهمة في الشراء يشبه عندي ما قاله مالك فيمن اشترى سلعة فأخذ مالًا قراضًا فأراد أن يصرف الثمن فيها: إني أخاف أن يكون استغلى ما اشترى فصرف مال القراض فيه، وقد كان قصده شراءها لنفسه. والانفصال الثاني لأصحاب أبي حنيفة أن الموكِّل على البيع وَكَّل على ما يملك الموكِّل التصرف فيه على الإطلاق, لأن السلعة له وسلمها لوكيله ليبيعها له، فصحّ أن ما يملكه من ذلك مثل الذي ملك بعد حصول التسمية بيعًا. والذي وكل على أن يشتري له لا يملك السلعة التي اشترى له. وإذا لم يملكها على الإطلاق لم يكن لوكيله أن يلزم ذمة الموكل ما شاء على الإطلاق, لأن الأثمان في الذِّمَم، والموكِّل له يملِّك الوكيل ذمتَه فينفذ فعلُه فيها كيف شاء. والانفصال الثالث أن الوكيل إذا اشترى بزيادة ظاهرة على القيمة لزمه العقد في نفسه، وأدّى الثمن لمن باع منه، وسقط ذلك عن الموكل، لكون الوكيل قد خالف ما أمره به الموكل. فلم يبطل حق البائع في هذا العقد الصحيح لكوْن الثمن يأخذه من الوكيل الذي عقد الشراء منه. وإذا وكله على بيع سلعة فباعها ببخس، فإنا إذا أبطلنا ما يعقد الوكيل أبطلنا حق المشتري منه في عقد صحيح، إذ لا تتصور ها هنا مطالبة الوكيل

بإمضاء العقد. فمراعاة حق الغير في هذا اقتضت التفرقة بين الوكالة على البيع والوكالة على الشراء. وقد ناقضهم أبو حامد الإسفرائيني في هذا بأنه لو قال له الموكل: اشتر لي سلعة بمائة دينار. فاشتراها الوكيل بمائة وعشرة، فإن ذلك لا يلزم الموكل، كما لا يلزمه ذلك إذا أمره أن يبيع سلعته بمائة فباعها بتسعين، مع كون الوكيل يُتَصَوَّر فيه أن يطالب، في الشراء، بالثمن الذي عقد به، ولا يطالب في البيع. ثم هذا (¬1) استوى الأمر في الوكالة على اببيع والشراء في أن ذلك غير لازم للموكل. عندي (¬2) أنه قد يقول القوم في هذا بأن النص على مقدار الثمن في البيع لا احتمال فيه ولا إشكال، ولا يصح دعوى العموم فيه. فلهذا لم يلزم الموكل البيع. وأما إذا أطلق ولم ينص على مقدار الثمن فإنه يجب حمله على العموم، وتخصيصه بالعرف كتخصيص العموم به. وفيه اضطراب بين أهل الأصول. هذا، على أنّهم ينازعون في ثبوت هذا العرف. وأما صاحبا أبي حنيفة فإنهما قدّرا أن النقد والنسيئة من صفات الثمن، والصفات يعمّها لفظ الوكالة. كما لو قال: اشتر لي أمة. ولم ينص الموكل على قبيلتها. فإن للوكيل أن يشتري أمة من أي قبيلة كانت. بخلاف كون الثمن بخسًا فإنه نقصان في مقداره، وذلك خارج عن الصفات، وذلك مخالفة الجنس. فمأخذ الاختلاف في هذه المذاهب قد بينّاه. لكن إذا حصل هذا التقدير فما الحكم فيه؟ أما إذا وكله على بيع سلعة، وقلنا: إنه منهي عن بيعها بغير العين، فإنه إذا باعها بعرض آخر، فإن كانت السلعة قائمة التي وكل على بيعها، كان الموكل بالخيار بين أن يفسخ العقد لكونه عَقد على خلاف ما أمر به في ملكه، أو يجيزه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بهذا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وعندي.

ويأخذ العوض الذي بيعت به سلعته. وهل له أن يُضمّن الوكيلَ لأجل تعدّيه، مع كون سلعته التي وكل على بيعها حاضرة لم تتغير في سوق ولا بدن؟ قال غير ابن القاسم في كتاب الوكالات: ليس له ذلك. وهذا هو أصل المذهب. لكن ابن القاسم قال: هو ضامن. وأطلق الجواب من غير تقييد بقيام السلعة التي وكل على بيعها أو فوتها. وابن المواز قد نصّ على الضمان مع قيام السلعة وإن لم تتغير في سوق ولا بدن. ودعا بعضَ المتأخرين هذا إلى الاعتذار عن ابن المواز، لما رأى ما قاله مخالفًا لأصل المذهب لكون المتعدي على مال الغير لا يلزمه غرمه مع حضور عينه، وكونِه لم يتغير في سوق أو بدن، إلى أن قال: لعل ابن المواز ذكر هذا لكون العقد يجب إمضاؤه لحق المشتري فيه وعدم البيّنة على أن هذه السلعة للموكل، فيكون الوكيل، إذا امتنع المشتري من ردها وكذَّب الوكيلَ في دعواه الوكالة، قد أتلفها على صاحبها، فحلّ ذلك محلّ إتلاف عينها. وقد وقع في المذهب فيمن وكل على بيع سلعة وسمي له ثمنها وتعلق به الضمان أنه يلزمه ما سمي له، وإن كان أكثر من قيمتها. وقُدر أنه كملتزم لتسمية لما خالف الموكلَ فيما أمرهُ به ونص له عليه. فيمكن، أيضًا، أن يكون التضمين، ها هنا، إنما قدر فيه أن الوكيل ملتزم لعوضها وغرامتها، فلهذا أغرمه وضمّنه، وإن كانت قائمة. وأما إن كان تعديه في عقدة البيع بثمن مؤخر، مثل أن يقول له: بيع هذه السلعة بعشرة نقدًا. فيبيعها بخمسة عشر إلى أجل. فإن السلعة إذا كانت قائمة فإن للموكل أن يفسخ البيع، لكون الوكيل تعدى في عقد البيع. وله أن يجيز البيع ويقدّر أنه كمبتدىء عقد في سلعة، لما كان له أن يفسخ عقد الوكيل فيها مع كون الوكيل لم يتوجه له غرامة عليه إذا لم يقل: إنه التزم التسمية. وأما إذا فاتت السلعة فإن الدين يباع. وقد كنا ذكرنا هذا في كتاب السلم الثاني مبسوطاً، وأشبعنا القول فيه وفيما يتعلق به من مخالفة الوكيل في جنسية، مثل أن يأمرهُ

بالبيع. بدنانير فيبيع بعرض. أو مخالفة في النقدية بأن يأمره أن يبيع بعشرة دنانير نقدًا، فباع بدنانير إلى أجل. أو يأمره أن يبيع بعشرة إلى أجل فيبيع بعشرة نقدًا. وذكرنا هناك اختلاف الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد وابن التبان في هذا. وهكذا ذكر أبو حامد الإسفرائيني أن المسألة عندهم على وجهين، أحدهما. لزوم ذلك للموكل لأن الوكيل لم يزده بما فعل إلاّ خيرًا. والثاني: أن ذلك لا يلزم, لأن الموكل قد يكون له غرض في بقاء الدنانير في الذمة، وقد أوعبنا الكلام على هذا في كتاب السلم الثاني. وأما إن كانت المخالفة في مقدار الثمن، بأن يأمره أن يشتري عبدًا بمائة، فاشتراه على الصفة التي رسمها له بأقل من مائة دينار، فإن ذلك لازم للموكل، لأنه مقتضى العرف في هذا الخطاب، ومعناه: اشْتَرهِ بمائة فأقلّ. فإن وضع للموكل، وأصلح له، فما يريد إلا ما هو الأفضَل له والأنفع. وهكذا مذهب الشافعي. ولكن شرطوا أن يكون العبد يساوي مائة دينار، لكون الآمر نصّ على المائة، وقد يكون له غرض في ألاّ يملك إلا من كانت قيمته مائة دينار. ولو أمره بشراء عبد بعينه التزم الآمرُ ذلك. ولم يشترطوا فيه أن يكون قيمة العبد مائة دينار لمّا عيّن ما يشتري له، بخلاف ما لا يعيّنه. وأما إن اشتراه بأكثر من مائة دينار، فعندنا أنه تعتبر الزيادة على المائة هل هي يسيرة، كالدينار والدينارين في أربعين دينارًا، أو الدينارين والثلاثة في المائة دينار، فيلزم ذلك للآمر من جهة العرف والعادة، لكون السلع المبيعة على اختيار أربابها قد لا ينحصر اختيارهم إلى حدّ بعينه. فإذا عُلِم هذا صار معنى أمر الآمر اشتراءَها بمائة دينار وما قاربها مما عادة الناس يزيدونه فيما حُدَّ لهم. ولكن هل يقبل قول الوكيل: إنه قد زاد هذا المقدار أم لا؟ هذا يجري على القولين فيمن أمران يخرج من ذمته إلى أمانته. وقد كنا تكلمنا على هذا الخلاف فيما سلف من كتب البيوع، وقد نعيده فيما بعد، إن شاء الله تعالى.

وإذا أسلم السلعة للموكل ثم زعم أنه زاد فيها زيادة تلزم الآمر. فإن هذا عند ابن القاسم يقبل منه إن ادعى ذلك بالقرب من زمن تسليم السلعة للموكل. وإن ادعاه بعد طول لم يقبل منه. وهذا لكون العادة تُبعد دعواه إذا ادعى ذلك بعد تسليم السلعة بزمن طويل. إلا أن يكون له عذر في تأخير ذكر ذلك إلى الآن. وأما إن زاد في الثمن زيادة كثيرة فإن ذلك لا يلزم الآمر، ولكنه له أن يلتزمه لكون الوكيل مقِرًّا أنه إنما اشترى للموكل، فله أن يقبل ذلك، ويَجبِر لتعدّيه عليه. وأما إن أمره أن يبيع سلعة بثمن محدود، فإنه لا يلزم الموكل بيعُها بدون ذلك وإن قلّ النقص. بخلاف الزيادة القليلة إذا أمر الوكيل بالشراء، وذلك لما أشرنا إليه من كون الشراء لا يتأتى غالبًا بما يحدّه الآمر حتى لا يزاد عليه شيء، وغرضه تحصيل المشترَى، ولا يحصل إلا بتمكين الوكيل من زيادة يسيرة. وأما البيع فإنه لا يلزم الموكلَ لكونه يتأتّى بما حدّ له، أو يردّ على الموكل ما وكله على بيعه. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أنه لا فرق بين الوكالة على البيع أو على الشراء في أن الموكل على البيع ينبغي أن يسامح بأن يبيع بنقص خف يسير عما حدّ له، وتردّد في هذا. والتحقيق يقتضي أَلاّ فرق بين الوكالة على البيع أو على الشراء في كون الوكيل لا يبيع أو يشتري إلا بما حدّ له، من غير زيادة في الشراء، وإن قلّت، أو نقص في البيع، وإن قلّ. هكذا مذهب الشافعية فيمن أُمِر أن يشتري بثمن حُدّ له فإنه لا يمكن من الزيادة عليه، وإن قلت الزيادة. وهذا الذي قالوه من المساواة بين الأمرين هو مقتضى التحقيق. فإن التفت إلى فرق بينهما فلا طريق له بتحقيق إلا التمسك بالعرف والعادة، بأن

يكون العرف في البيع منع الوكيل من النقص مما حُدّ له، وإباحة ذلك للمشتري إذا قلّت الزيادة. هذا حكم ما حُدّ من الأثمان للوكيل. وأما ما حدّ في المثمونات، مثل أن يوكل رجل رجلًا على أن يشتري له جارية على صفة سماها له، فاشترى له جاريتين على تلك الصفة بالثمن الذي حدّ له في الجارية الواحدة، فإن ذلك لا يخلو من وجهين. أحدهما: أن يشتري واحدة بعد واحدة، والثاني أن يشتريهما صفقة واحدة. فإن اشتراهما واحدة بعد واحدة، فالأولى للموكل، والثانية للوكيل إذا لم يختر الموكل أخذها وقد اشتراها له. ويرتجع من الوكيل الثمن الذي دفعه فيها، إذا كان قد دفع إليه جميع الثمن الذي حدّ له أن يشتري به. وإن اشتراهما في صفقة واحدة، ولم يقدر أن يشتري واحدة مفردة، فإن ذلك لازم للموكل لأنه زاده خيرًا بأن دفع المائة دينار، التي أمره أن يشتري بها جارية، في جاريتين على صفة ما أمره به الموكل. وتكون له الزيادة ها هنا في المثمون كالنقص من الثمن المحدود, لأن الغرض ها هنا، بالتحديد ألاّ يتعداه الوكيل بما هو أضرّ بالموكل. وأما تعدّيه بما هو نفع له فلا ينسب فيه إلى الوكيل تعدّيًا لكون الغرض يقتضيه، فخرج عن حكم اللفظ بمقتضى الغرض والقصد. وقد أشار بعض أشياخي إلى أن الأمر إذا كان كذلك فإنه لا يختلف المذهب في لزوم ذلك للموكل، وإنما الخلاف الذي وقع في المذهب محمول على من قدَر أن يشتري واحدة فعدل عن ذلك إلى أن اشترى اثنتين. والخلاف في هذا ينحصر إلى القولين. أحدهما ما ذهب إليه أصبغ من أن الجاريتين يلزمان الموكل. ولم يقيّد هذا الجواب يكون الوكيل قادرًا على الإفراد أو غير قادر. وإنما قيّده ابن المواز، وذكرنا أن تقييده أشار بعفض الأشياخ إلى أنه لا يخالف فيه. والقول الثاني إثبات التخيير للموكل. ولكن في ماذا يكون له التخيير؟ فيه قولان:

قال ابن القاسم: يلزم الموكل واحدة، ويخيّر في الثانية بين أن يقبلها أو يردّها ويأخذ ما ينوبها من الثمن. وقال ابن الماجشون في المبسوط: إنما يخير بين قبول الاثنين بجميع الثمن أو يردّهما (¬1) وأخذ جميع الثمن. فكأن من ألزم الموكل ذلك على الإطلاق رأى أن الوكيل زاد الموكل خيرًا، فنظر له فيما هو أنفع له، فوجب أن يلزمه. وبهذا علل أصبغ. ومن أثبت التخيير رأى أن الموكل قد يكون له غرض في الإفراد، إما لعجزه عن القيام بجاريتين أو لغير ذلك من الأغراض. فإذا تصوّر له غرض صحيح في هذا التحديد لم يلزمه مخالفة وكيله له في هذا الغرض. ولكن اختلف أصحاب هذه الطريقة. فرأى ابن القاسم أن هذا في معنى الصفقتين. وقد قدمنا أن الوكيل إذا اشتراهما في صفقتين فإن الأولى هي اللازمة للموكل. وكذلك يجب أن يكون إذا اشتراهما في عقد واحد. ومن أثبت له التخيير في قبول الجاريتين أو ردّهما التفت إلى جانب الوكيل، ورأى أن تبعيض التي عقد يلحقه منه ضرر، فلم يمكِّن الموكّلَ من إضراره وقد قصد خيرًا. وهكذا للشافعي في هذه المسألة قولان: أحدهما: أن الجاريتين يلزمان الموكل، كما قاله أصبغ. والثاني: أنه لا يلزم الموكل إلا واحدة، وهو في الأخرى بالخيار، كما قاله ابن القاسم. لكنه يشترط أن تكون الواحدة اللازمة للموكل تساوي الثمن الذي حدّ له فيها، مثل أن يأمره أن يشتري جارية على صفة بمائة، فيشتريها بخمسين، وهي على الصفة المرسومة للوكيل. فإنه لا يلزم الموكل ذلك، إلاّ أن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. والأوضح: أو ردّهما.

تكون تساوي المائة دينار التي رسم له. لإمكان أن يكون للموكل غرض في أن لا يتسرَّى أو يستخدم إلاّ من كان ثمنه ما رسمه للوكيل. ويحتج لمذهب أصبغ بحديث حكيم بن حزام: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمره أن يشتري له شاة بدينار، فاشترى له شاتين بالدينار، وباع واحدة منهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار، فدعا له بالبركة. فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه" (¬1). فلولا أن الشاة المبيعة لازمة له، - صلى الله عليه وسلم -، وصارت على ملكه لم يأخذ ثمنها, ,ولا أقرّه على ذلك. وقد قيل في هذا الحديث: إن الشاة المبيعة لو لم تكن على ملك حكيم بن حزام لما باعها ولا أقرّه، عليه السلام، على جواز بيعها. وإنما باعها على ملكه، ولكن للنبي عليه السلام الخيار في قبولها لما كان اشتراها له. ولو أمر رجل رجلًا أن يشتري جارية أو ثوبًا على صفة بثمن محدود، فاشترى له نصفها, لم يلزم ذلك الموكلَ، لما في المشاركة من الضرر. ولو أمره أن يشتري له عشرة أثواب، فاشتراها له صفقة واحدة، أو ثوبًا بعد ثوب، للزم ذلك الموكل بحكم مقتضى إطلاق الوكالة وعمومها. إلاَّ أن يكون للموكل غرض في الأفراد والجمع، أو يكون في ذلك عرف فيُقصر الوكيل عليه، ويكون متعدّيًا في مخالفته، على علم بالغرض والعرف. ولو شرط الموكل أن يشتري له ذلك صفقة واحدة، فاشترى ذلك من رجلين شريكين في العشرة الأثواب صفقة واحدة فإن أبا حامد الإسفرايني خرّج على هذا قولين: هل العقد الواحد من رجلين كصفقتين أو كالصفقة الواحدة؟ فإذا قلنا: هو كصفقتين، وجب أن يكون الوكيل متعدّيًا. ولو كان اشترى هذه الثياب من رجلين، فكان لكل واحد منهما ثياب معلومة متميزة، فإن هذا على القولين في جواز شراء سلعتين من رجلين، فإن قلنا بجوازه التُفِت في ذلك إلى ما قدمناه من كون العقد من رجلين صفقة واحدة أو صفقتين. وقد تقدم كلامنا نحن على جمع السلعتين لرجلين، وعلى كون هذا العقد ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

الذي ذكرناه يقدر صفقة أو صفقتين، في ما سلف من هذا الكتاب. ولو أمر رجل رجلًا أن يبيع له عبده بمائة دينار في سوق سمّاه له، فباعه بمائة دينار في سوق آخر، فإن أبا حامد ذكر أن الوكيل لا يكون متعديًا, لأن الغرض تحصيل الثمن المحدود لا عين السوق المذكور. بخلاف أن يأمره أن يبيعه من رجل سماه بمائة دينار، فباعه من رجل آخر بمائة دينار, لأن الموكل قد يكون غرضه بذكر فلان للإحسان إليه بتمليك هذا العبد، أو الإحسان إلى العبد بكونه يملكه هذا دون سواه. وهذا الذي قاله في تبديل الأشخاص واضح. وأما تبديل الأسواق ففيه إشكال، هل يتصور للموكل غرض صحيح في تعيين السوق؟ إمالك ون الزيادة ترجى فيه دون غيره، أو لكون البيع فيه أقلَّ شغبًا على البائع وأنفعَ له. فإذا تصوّر الغرض لم يكن فرق بين تبديل الأشخاص أو الأسواق. والعقلاء يحمل كلامهم على الأغراض الشرعية. وأصل الشرع ألاّ يتصرف في ملكه أحد إِلاّ بحسب ما أذن فيه. لكن لو علم أن ذلك السوق لغو مُطَّرح في خطاب الموكّل لكان ما ذكره صحيحًا. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلف الناس في شراء من أذن له في التصرف في مال غيره شرعًا، كالأب والوصي. فمنهم من ذهب إلى جواز ذلك لهؤلاء. يُحكى هذا عن الأوزاعي. والقاضي أبي (¬1) محمَّد عبد الوهاب هذا مقتضى مذهبه, لأنه قد أجاز ذلك للوكيل، فأحرى أن يجيزه الأبَ والوصي. وذكر بعض أصحاب مسائل الخلاف هذا عن مالك. ومنهم من ذهب إلى منع جميع هؤلاء من ذلك. وأجازه الشافعي للأب خاصة دون الوصي والوكيل. والجدّ أبو الأب ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: أبو.

كالأب عنده في هذا, لأنه من الآباء. وأجازه أبو حنيفة للأب والوصي دون الوكيل. وجماعة ممن ينقل مسائل الخلاف يحكي هذا عن مالك. والنكتة المعتبرة في هذا تطرّق التهمة، والنظر في لفظ الإذن في التصرف هل يقتضي دخول المأذون له في التصرف في الإذن؟ فمن خصّ الآباء بالجواز رأى أن التهمة لا تقع فيهم لكونهم طبعًا يؤثرون أولادهم على أنفسهم في المنافع، ويَقُونهم المضار، ويتقونها عنهم بأنفسهم. بخلاف الوصي والوكيل اللذين هما أجانب ممن له المال، فيتهمان في إيثار أنفسهما. ومن ألحق الوصي بالأب رأى أن الشرع يجبر رب المال على تسليم التصرف للأب والوصي، وليس لرب المال أن ينزعهما. فلم يكن له اعتراض في شرائهما لأنفسها. وأما من منع الجميع فقدر أن الوصي والوكيل إنما تصرفا بإذن مَن دفع المال إليهما، وهما خارجان من عموم هذا الإذن. والأب، وإن أذن له الشرع، فإن التّهمة قد تتطرق إليه، فمنع لأجل ذلك. وأما من أجاز لِلْجميع فقدر أن الإذن المقصود به تحصيل الثمن المعتاد، فإذا حصل المراد فلا وجه للمنع. ويقدح الآخرون في هذا أن شراءهما وإن كان بالثمن المعتاد، فقد يتفق من يزيد عليهما لغرض له، فيتصامُّون عنه ولا يستقصون في الاشتهار (¬1) للسلعة إيثارًا لأنفسهم. فإذا تقرر هذا، فإن هذا الفعل إذا وقع من الوكيل فإن العقد يفسخ. وإن فاتت العين بتلفها لزمت القيمة بدلًا من العين. وإذا كانت لم تتغيّر إلا في بدنها ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: الإشهار.

أو سوقها ففي المذهب قولان، هل ذلك فوت يوجب القيمة، كما يكون ذلك فوتًا في البيع الفاسد، أوْ لاَ يكون فوتًا كالاستحقاق للسلع، لكون الوكيل معزولًا عن الشراء لنفسه فيملك السلعة بغير إذن. وقد وقع في كتاب القراض من المدونة في المبضع معه (¬1). وذكر ابن حبيب أن الوكيل إذا اشترى لنفسه ثم باع من غيره بربح، أن الربح لرب المال، كما يكون له ثمن السلعة إذا استحقها (¬2). والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: ذكر في المدونة، فيمن وكّل على بيع سلعة فباعها ولم يشهد على المشتري فجحده المشتري. أنه ضامن, لأنه أتلف الثمن إذا لم يشهد. وقد قال مالك فيمن أبضع معه بضاعة ليوصلها إلى رجل، فذكر أنه أوصلها وأنكر المبعوث إليه أن يكون وصلت إليه؛ إن الوكيل ضامن إن لم يشهد، وينبغي أن يلتفت في هذا إلى ما قلناه مرارًا: من كون الأملاك لا يتصرف فيها إلا على حسب ما يأذن فيه مُلّاكها، فإن نص الموكل على أنه يأذن له في البيع بشرط أن يشهد فتعدّى وترك الإشهاد فإنه يضمن. وإن نص على أنه لا إشهاد عليه في العقد فإنه لا يضمن. وإن لم ينص على أحد الأمرين فمقتضى الإطلاق في تعميم اللفظ أنه لا يكون متعديًا في ترك الإشهاد. وهو مذهب عبد الملك في المسألة التي استشهد بها في المدونة من قول مالك في الرسول ببضاعة، فإنه يرى الإشهاد على الرسول في تسليم البضاعة، لكون لفظ الوكالة لا تقتضيه. ومذهب ابن القاسم أن الرسول يكون متعديًا في ترك الإشهاد لقوله تعالى في خطاب الاوصياء {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا} (¬3). وينبغي أيضًا إذا علمت حكم النص على الأمر بالإشهاد أو ترْكِهِ فإنه ¬

_ (¬1) بياض بالنسختين مقدار سطر. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) سورة النساء، الآية: 6.

يلتفت في هذا إلى العرف والعادة التي يعلم منها قصد الموكل وما التزمه الوكيل في إطلاق هذا اللفظ. وقد قال بعض الأشياخ: إن العادة في عقود البيوعات ترك الإشهاد، فلا يضمن الوكيل ها هنا بتركا الإشهاد على عقد البيع، ولا مطالبة عليه إذا كانت السلعة الموكل عليها باقية في يديه، لكنه إن سلمها من غير إشهاد كان كالمتلف فيجب أن يضمن. واختلفوا في ضمانه فقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد: يضمن قيمة السلعة. وظاهر ما حكي عن ابن شبلون: أنه يضمن الثمن. وهو مقتضى ما وقع في المدونة. لأنه إنما ذكر في التعليل: إن ترك الإشهاد أتلف الثمن. فلولا أن مذهبه وجوب ضمان الثمن لما تعرض إليه في التعليل. وقال غيرهما يضمن الأقل من الثمن أو القيمة. فإن كانت القيمة أقل ضمنها, لكون التلف في التعدي إنما وقع في تسليم السلعة من غير إشهاد، لا في العقد بغير إشهاد. فإن كان الثمن أقل لم يضمن أكثر منه لكونه قد لزم الموكل أخذه، وإن قصر عن القيمة تقصيرًا يتغابن الناس في مثله، فيقول الوكيل: لو أقر به المشتري لم يكن لك سواه، فأنا أقوم به عنه وإن جحده. وقد ينبني القول على أن الوكيل ضامن الثمن على الإطلاق، على أحد القولين عندنا، فيمن استهلك سلعة وقفت على ثمن، فإنه يضمن الثمن الذي وقفت عليه، لكونه بغصبها أتلفه على صاحبها ومنعه منه. والغاصب يضمن ما منع على أحد القولين. وعلى هذا الأسلوب يجري في إقرار المشتري بالشراء ومخالفته للوكيل في مقدار الثمن، مثل أن يقول الوكيل: بعتها منك بخمسين. ويقول المشتري: إنما اشتريتها منك بأربعين. فإنهما يتحالفان ويتفاسخان. وإذا وقع الفسخ بتحالفهما جرى الخلاف الذي قدمناه في تمكين الموكل من تضمين الوكيل للخمسين دينارًا التي أقر أنه باع بها وقد أتلفها بترك الإشهاد. وإذا أمرناهما

بالتحالف فحلف المشتري ونكل الوكيل، فإن مالكًا ذكر في الموازية أن البيع يفسخ ورأى أنه لا يجب إخراج السلعة من ملك بائعها بخلاف ما ذكر وكيله أنه باعها به وليس نكوله عن اليمين على تصحيح قوله بالذي يوجب سقوط ملك صاحبها عنها، كما لو أقر عليه في ملكه بما لم يوكله عليه. بخلاف نكول مالك السلعة إذا تولى بيعها. وذكر ابن القاسم أن المشتري يصدق في دعواه أنه اشترى بأربعين إذا حلف على ذلك وقد نكل الوكيل. وقال ابن المواز: يصدق ولكن يغرم الوكيل العشرة لأنه قدر على أن يصونها على ربها بالإشهاد فتركه، ثم قدر أيضًا على صيانتها بيمينه التي توجب فسخ البيع فلم يفعل. وظاهر كلام ابن القاسم أن الوكيل لا يغرم العشرة الباقية من الثمن. وقد يحمل قوله على أن العادة عندهم ترك الإشهاد في العقد، وفي تسليم السلعة، فحلف الوكيل أنه باعها وسلمها، وحلف المشتري أنه لم يشتر ولا قبض. وكانت مصيبتها من الموكّل. فإذا كان من حق صاحب السلعة استحلافهما جميعًا فبدىء باستحلاف الوكيل فنكل عن اليمين فإنه يغرم ما أتلف على البائع بترك الإشهاد وبترك اليمين، ثم لا مَرْجِع له على المشتري ولا يمكن من استحلافه, لأن المشتري إذا تجردت المنازعة بينه وبين الوكيل كان القول قول المشتري أنه لم يعقد منه بيعًا ولا سلم له شيئًا. ومن حقه أن يرد عليه اليمين. وهذه اليمين التي من حق المشتري لم يردها على الوكيل قد طلبه بها صاحب السلعة فنكل له عنها, فيصير كالناكل عنكا المشتري أيضًا إذا ردها عليه. وإن بدأ صاحب السلعة باستحلاف المشتري فنكل عن اليمين فلزمته الغرامة فإن له أن يستحلف الوكيل لكون دعواه أوجبت عليه غرامة، والمشتري لم يتقدم له نكول، فيقول الوكيل: قد تقدم نكولك عن يمين كان لي ردها عليك فلا تمكن من استحلافي. وكذلك لو وكل رجلًا على بيع عبده فحصل العبد في يد إنسان ذكر

أنه اشتراه من الوكيل بثمن سماه ودفعه إليه فإن القول قول الوكيل أنه لم يبعه منه. فإذا حلف ارتجع العبد، وإن نكل عن اليمين وحلف المشتري أنه اشتراه منه ودفع إليه ثمنه فإن الوكيل يطلب بما حلف عليه المشتري لكونه أثبت عليه في يمينه أنه قد سلم إليه مَا لا يستحقه الموكل. ولو كانت الوكالة على شراء عبد فاشتراه من غير إشهاد ثم جحد البائع أن يكون باع وفي قيمة العبد فضل عما اشتراه به الوكيل، فإن ترك الإشهاد ها هنا يصيّره كمالٍ أتلفه الوكيل على موكله بترك الإشهاد فيعود الأمر في هذا إلى ما قدمناه من ذكر الاختلاف وتأويله. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: أما إن كان إتلاف الوكيل على الموكل من جهة أنه اشترى له ما لا يبقى على ملكه، كرجل وكل رجلًا على شراء عبد فاشترى للموكل أباه أو أخاه أو أحدًا ممن يعتق عليه، فإنه لا يخلو من أن يكون الوكيل فعل هذا وهو غير عالم بأن هذا العبد أب لهذا الموكل أو أخ بل اعتقد أنه ممن يصح تملكه عليه، أو يكون اشتراه، وهو عالم بكونه يعتق على الموكل. فإن كان غير عالم بذلك فإن الشراء لازم للموكل لكون الوكيل لم يتعمد الاتلاف على من وكله، ولا قصد إليه، فلا يلزمه غرامة من جهة غلطه في هذا. وقد كنا نحن قدمنا أن غلط الوكيل في التصرف فيه اختلاف كون الوكيل ها هنا غير ضامن. فقد يقال: إن العقد الذي وكل عليه قد وقع على ما يتملكه البائع وينعقد ملكه عليه. ولكن بعد انقضاء الوكالة وانعزال الوكيل خاطبه الشرع بأن يعتق أباه، فصار ذلك خارجًا عن إتلاف في نفس التصرف، (والعقد ها هنا ينظر فيه) (¬1). وإن كان الوكيل اشترى ذلك عالمًا بأن هذا الشراء لا يلزم الموكل لكونه متعديًا فيما فعل، وهو ها هنا وإن كان العتق بعد إنبرام العقد على ما أشرنا إليه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوْلى حذف هذه الجملة.

فإنه إذا كان عالمًا بمآل هذا العقد صار قاصدًا للإتلاف، ولكن هذا مما يقدح فيما أشرنا إليه في العذر في اعتراضهم عن تخريج الخلاف في خطأ الوكيل في هذا. فإذا كان هذا الشراء لا يلزم الموكل فإنه يلزم الوكيل بمقتضى حكم إطلاق المعاملة بينه وبين البائع منه. فإذا لزمه ذلك فهل يمكن من استرقاق هذا العبد أم لا؟ فيه قولان: ذكر يحيى بن عمر عن عبيد بن معاوية أن هذا العبد يكون رقيقًا للوكيل الذي غرم ثمنه لكونه لا يجب عتقه عليه بأصل الشرع إذ لا قرابة بينه وبينه، ولم يجب العتق على ولد هذا العبد لكون العقد لم يلزمه ولم يقع عليه، وأشار يحيى بن عمر إلى أن هذا مقتضى قول ابن القاسم. وذكر يحيى بن عمر أن البرقي قال له: إن هذا العبد يعتق على الوكيل، وكأنه قدر أن الوكيل التزم عتقه لما اشتراه لموكله وهو عالم بأنه يعتق عليه وأنه لا يصح ملكه، فصار بهذا قاصدًا لعتقه عن موكله من مال نفسه، وعتق الإنسان عن غيره لازم. وأشار بعض المتأخرين إلى أن مقتضى مذهب ابن القاسم كون هذا العبد يعتق كما يعتق عن المقارض أبو رب المال إذا اشتراه عالمًا بكونه يعتق على رب المال لما له من الشبهة باستحقاقه التصرف في هذا العبد بالبيع له والشراء، كما يعتق عبد الصغير إذا أعتقه أبوه عن نفسه ويغرم قيمته لولده لما له من شبهة التصرف في مال ولده، فأشبه عتق عبد نفسه عن نفسه أو عتق عبد ولده الصغير عن رجل آخر، فإنه ينفذ العتق ويطالب الأب بالقيمة ويقدّر، لما يملكه من شبهة التصرف في مال ولده، كأنه أعتق ملك نفسه عن نفسه أو عن غيره. والذي أشرنا إليه، من استحقاق تصرف هؤلاء وكون ذلك شبهة، تختلف مراتبهم فيه، لكون الأب يملك التصرف في مال ولده ملكًا مطلقًا بحكم الشرع، والمقارض يملك التصرف في هذا العبد بالبيع له والشراء، والوكيل إنما يملك مقدار ما وكل عليه. في أمر هذا العبد. ولو ادعى الموكل على الوكيل أنه اشتراه عالمًا بكونه ممن يعتق عليه لكان القول قول الوكيل لكون الموكل يدعي ما يوجب غرامة الوكيل، والأصل براءة

ذمته، فإذا حلف الوكيل على ذلك لزم الموكل الشراء وعتق العبد عليه. وإن نكل الوكيل عن اليمين وحلف الموكل انتفى عنه هذا العقد، وعتق العبد على الوكيل، وقولًا واحدًا، لكونه ها هنا مقرًا أنه اشتراه غير عالم بكونه ممن يعتق وأن عتقه يجب على الموكل. وإن كان الموكل قد ظلم في جحوده ذلك. ومما ينظر فيه مما يجري على هذا الأسلوب وكالة رجل رجلًا على أن يشتري له سلعة بمال دفعه إليه، فتسلفه الوكيل ثم أخرجه من ذمته فاشترى له السلعة التي أمره الموكل بها. فإن أصحاب الشافعي ها هنا ذهبوا إلى أن هذا الشراء لا يلزم الموكل لكون الوكالة انفسخت بتسلف الوكيل هذا المال الذي صار في ذمته، فإخراجه من ذمته والشراء به لا يلزم الموكل، لكون الوكالة قد انفسخت قبل هذا الشراء، كما لو وكله على بيع عبد فمات العبد قبل أن يبيعه فإن الوكالة تفسخ بذهاب عين ما وكل عليه. وهذا الذي قالوه ينبغي أن يلتفت فيه إلى ما وقع في المذهب من سلف الوديعة هل يجوز أم لا؟ فعندنا فيه اختلاف، وإذا تسلفها ثم ردها إلى أمانته فضاعت، هل يبرأ بذلك أم لا؟ فيه اختلاف في المذهب، فإذا قلنا: إنه يباح له السلف في الوديعة في هذا المال الذي وكل عليه إذا لم يتلف بتسلفه غرض الموكل، وإن قوله في رد ما تسلف يقبل ويبرأ برده، فإن مقتضى هذا أن يكون ما اشّتراه بعد السلف لازمًا للموكل على أنا سنذكر تعدي الوكيل هل يوجب فسخ وكالته فيما بعد إن شاء الله تعالى. وممّا يجري على هذا الأسلوب أيضًا لو وكل رجل رجلًا على أن يشتري له بمال دفعه إليه سلعة، فاشترى الوكيل شراء مطلقًا على الذمة. فإن أصحاب الشافعي قالوا ها هنا: لا يلزم ذلك الموكل, لأنه إنما أذن له أن يشتري بعين مال دفعه إليه، فليس له أن يلزم ذمته غرامة إذا ضاع هذا المال. فإذا ظهر للموكل غرض صحيح في الشراء بعين ما دفع إليه من المال وهو كونه يتخوف ضياع المال الذي دفعه، فيطالب بالثمن، وقد لا يكون له مال سواه، فإن الوكيل

يكون متعديًا. ولو كان الأمر بالعكس: وكّله على أن يشتري له على الذمة ودفع إليه ما لا ينقده فيما يشتريه فاشترى بعين المال. فإن المسألة عندهم على وجهين: أحدهما أن هذا الشراء لازم للموكل لكونه لم يلحقه ضرر في هذه المخالفة بل زاده الوكيل خيرًا بأن حصل له غرضه بعين مال وأبرأ ذمته. والوجه الآخر كون هذا الشراء لا يلزم الموكل لتصور غرض له فيما أمر به الوكيل. وهو أن الشراء بعين مال يعرّض العقد إلى الانفساخ إذا أتلف الثمن المعين، والموكل لا يختار عقدًا معرضًا للانفساخ، وإذا عقد الثمن في الذمة أمن الموكل من انفساخ هذا العقد. وهذا الذي قالوه النكتة فيه عندنا غرضُ الموكل. فإن ظهر له غرض فيما رسم فخالفه الوكيل فإن العقد لا يلزم الموكل، وإن لم يكن له غرض إلا تحصيل المبيع، وقد حصل له فإن الشراء يلزمه. وإذا كان الأمر هكذا فيما اعتلوا به في التخوف من انحلال العقد وانفساخه يتلف الثمن المعين، يلتفت فيه عندنا إلى كون الأثمان التي هي الدنانير أو الدراهم هل تتعين أم لا؟ عندنا فيه اختلاف فإن قلنا: إنها لا تتعين بطل هذا الذي قالوه. وإن قلنا: إنها تتعين، فقد ارتفع هذا الذي يتخوف سلامة الثمن الذي نقد، وصح العقد. والتغرير إنما يثبت حكم التعدي إذا وقع التلف، ألا ترى ما ذكر من أحد القولين عندنا فيمن اكترى منه حمل دهن على دابته، فربط القلال بحبل عرّضها به للتلف، فعطبت لأجل ذلك. فإنه قيل، في أحد القولين، أنه إنما يغرم القيمة حيث هلك الدهن، لا حيث حمله مغرّرًا به. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال (¬1): ومما يلحق بأحكام تعدي الوكيل توكيله لغيره من غير إذن رب المال. فإنه ممنوع من ذلك. لأن رب المال إنما أذن في التصرف في ماله له خاصة ¬

_ (¬1) لم يذكر هذا في الأسئلة أو في الشرح.

لثقته بأمانته واجتهاده، فليس له أن يجعل ذلك إلى غيره ممن لم يرض به رب المال. كما لم يكن له هو متصرف إلا بإذن رب المال. لكن لو كان الوكيل وُكّل على أمر يُعْلم أنه لا يتولاه مثلُه لكونه شريفًا والعمل خسيسًا. أو كونه لا ينهض بمثله، والموكّل له عالم بذلك، فإنه يباح له التوكيل. ويحل علم رب المال بهذه الحال التي عليها الوكيل محل النطق بإذنه في أن يوكل غيره فيما لا يليق به أن يتولاه من الأعمال أو فيما يتاح إلى الاستعانة فيه بآخر. وإذا أذن له في أن يوكل غيره ففعل ثم مات الوكيل الأول، فإن الأظهر أن الوكيل الثاني لا يعزل بموت الوكيل الأول، بخلاف انعزال الوكيل الأول بموت من وكله. لأن الوكيل الأول إذا وكل رجلًا بإذن رب المال، فكأن رب المال وكله وناب عنه هذا. فيكون توكيل الأول كتوكيل رب المال. كما يكون تصرف الوكيل لازمًا لرب المال تصرف رب المال نفسه. وقد ذكر أبو حامد الاسفرائيني أنه لا ينعزل، إذا قال رب المال لوكيله: وكل وكيلًا يكون من قبَلي. وأما إن قال له: وكل وكيلًا يكون من قِبلك، فذكر أن عندهم فيه اختلافًا، هل ينعزل الوكيل الثاني بموت الأول لمّا كان من قبله، وقد مات من هو من قِبَلِه، فأشبه انعزال الوكيل الأول بموت رب المال ولا ينعزل الثاني لكون رب المال حيًا، وهو الآمر لوكيله بأن يوكل. ويكون قوله: وكل من يكون من قِبلك، متضمّنًا أنه من قِبلي. وقد كنا قدمنا الكلام على قول رجل لوكيله: أقِرَّ عني بألف دينار لفلان، هل يكون هذا الأمر كأن الموكل ينطق به وأقر بالألف أم لا؟ قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: والوكيل مؤتمن ما بينه وبين موكله، والقول قوله في ردّ ما أودعه وأمره بالتصرف فيه أو قبضه (¬1) له من ديون قبضها له، ثبت قبضه لها ببينة، فادعى تسليمها الموكل، أو ضياعها. فإن لم يكن إلا إقراره (¬2) للغريم فلا يبرأ إلا ببينة على دفع ذلك للوكيل. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفي غ، والغاني: دفعه إليه. (¬2) هكذا في النسختين، وفي غ، والغاني: أو إقرار الغريم فإن الغريم لا يبرأ.

وإذا وكله بأن يقضي عنه دينًا، أو يودع له مالًا، لم يكن له أن يدفعه إلا ببينة. فإن دفعه بغير بينة ضمن، إلا أن يقر المدفوع له. قال الإِمام رحمه الله يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما حكم اختلاف الموكل والوكيل في ثمن ما وكل على شرائه (¬1). 2 - وما حكم اختلافهما في تسليمه للموكل ما وكله عليه؟ 3 - وما حكم ضياع الثمن بيد الوكيل؟ 4 - وما حكم العبد إذا دفع مالًا لمن يشتريه؟ 5 - وما حكم الوكيل إذا باع السلعة وباعها الموكل من رجل آخر؟ 6 - وما حكم الوكيل إذا اختلف. فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلاف الموكل والوكيل فيما أذن فيه للوكيل يتنوع أنواعًا: فمنه ما يختلفان فيه في عدد الثمن الذي وكله على أن يبيع به، أو في كونه نقدًا أو نسيئة، أو في كونه عينًا أو عرضًا، أو في كونه عرضًا من جنس، ويقول الآخر: بل من خلافه. وينبغي أن تقدم لك أصلًا تعتمد عليه، وتُرجع سائر الروايات إليه. وهو: أن النظر يقتضى الالتفات إلى ثلاثة معان: أحدها: استصحاب حال الملك. والثاني: استصحاب براءة الذمة من الغرامات، والثالث: كون الدعوى تشبه وتليق. فوقع من المذهب قولان في اختلاف الموكل والوكيل في النقد والنسيئة بأن يقول الموكل: أمرتك أن تبيع بثمن إلى أجل. ويقول الوكيل: بل بثمن ¬

_ (¬1) سقط السؤال الثاني من النسختين، ونصه كما يفهم من جوابه: وما حكم اختلافهما في تسلّم الوكيل من الموكّل ثمن السلعة التي وكّله على شرائها؟

حال. فقد قيل: إن القول قول الآمر. وقيل: القول قول المأمور. وهذا مع كون السلعة المبيعة قد فاتت. لتعارض مقتضى الأصلين اللذين قدمناهما. وذلك أن استصحاب مال الملك، وكون السلعة الفائتة ثبت أنها كانت من أملاك الموكل، فلا تخرج من ملكه إلا بما ثبت عليه بينة أو أقرَّ به. فإن لم يثبت ذلك عليه صدق في صفة ما أَذن فيه مع يمينه، وثبت التعدي على ملكه، فيغرم الوكيل قيمة السلعة إذا فاتت، لكونه قد ثبت التعدي عليه في بيعها بيمين مالكها. فإن كان ما أحضر من الثمن فيه قيمتها التي تجب عليه، ولم يتلف على ربها مالًا، فإنه لا فائدة في اختلافهما, لأن تصديق الآمر لا يوجب له إلا القيمة وتصديق المأمور لا يوجب عليه سوى الثمن الذي أحضره. فلا يؤمران بيمين لا تفيد أحدهما. فإن كانت القيمة الواجبة بهذا التعدي إذا ثبت أكثر من الثمن الذي أحضره الوكيل، فإنه ها هنا يتصور الخلاف، هل يغرم الوكيل ما زاد من القيمة على الثمن إذا حلف الموكل، أو يحلف الوكيل ويبرأ منه استصحابًا لبراءة ذمته. فمن رجح أحد هذين الأصلين على الآخر قدم مقتضاه. ولو كانت السلعة المبيعة قد أفاتها مشتريها بلباس، وحكمنا بأن القول قول الآمر، وثبت له التعدي، فإن من حقه أن يغرم المشتري قيمتها يوم أفاتها اللباس كما يغرمه ذلك إذا استحقها وقد باعها غاصب. لكن من حق المشتري ها هنا أن يستحلف الوكيل أنه لم يغره ولا كذب فيما ذكره عن الموكل، لأجل أنه لو أقر الوكيل بأنه هو الذي غره وكذب له حتى ألزمه زيادة على الثمن وقد كان في غناء عنه، وعن لباس هذا الثوب، ولم يصن بلباسه ماله. فإذا كان إقراره بهذا يلزمه غرامة للمشتري، كان من حق المشتري أن يستحلفه، ولكنها يمين تهمة لا ترجع على المشتري وتعلقها على حسب تعلق أيمان التهم. وعلى هذا الأسلوب تجري في بقية ما ذكرناه من الأقسام. إلا أن يدعي أنه أذن له في بيع السلعة بما تكذبه فيه العادة، فإنه لا يصدق ويرتفع الخلاف،

فينظر فيما يدعيه من الإذن له في البيع بعوض هل يشبه ويليق؟ فيجري الأمر على ما قدمناه، أولًا يشبه في العادة فلا يصدق، ويصدق الآمر. على هذا الأسلوب أيضًا يجري الأمر في الاختلاف فيمن وكل رجلًا بأن يشتري له قمحًا بدنانير، فاشترى له تمرًا، وقال: بذلك أمرتَني. فإنه قد اختلف قول مالك في هذا. فذكر أبو الفرج: أن أشهب روى عنه: أن القول قول الآمر. وبهذا المذهب أخذ أشهب. وروى ابن نافع عن مالك: أن القول قول الوكيل. وبه أخذ ابن نافع. وفي المدونة: أن القول قول الوكيل. واعتُل بأن الذهب استهلك بدفع الوكيل له، فأشبه ذوات السلعة. وقد ذكر ابن المواز في هذا تفصيلًا فقال: القول قول الآمر إذا كانت السلعة قائمة لم تفت، وعُلم أن الثمن من مال الموكل ببينة أو بإقرار قابضه الذي هو بائع السلعة. فأما إن فاتت أو لم يُعرف أن الذهب للموكل فإن القول قول الوكيل. وعاب الشيخ أبو إسحاق هذا التفصيل. ورأى أن مقتضى النظر تصديق الأمر على الإطلاق. أو تصديق المأمور. واعتل بأن الدنانير إذا عرف أنها للاَمر، وأخذها بثبوت كونها له، فإن الوكيل يلزمه غرامتها للبائع، فمن اشترى سلعة بدنانير فاستحقت الدنانير، فإن على المشتري خلفها, ولا ينفسخ البيع. فإذا توجه على الوكيل غرامة إذا عرفت بعينها فيجب أن يصدق لينفي عن نفسه هذه الغرامة كما صدق في فوت السلعة لما يتوجه عليه من غرامة في فوتها. ثم جنح إلى اعتذار عن ابن المواز: يكون السلعة إذا فاتت، وتوجهت غرامة على الوكيل فإنه يصدق. فإذاكانت السلعة قائمة وتوجهت عليه غرامة فإن الوكيل يتعوض وما غرم السلعة التي بقيت في يديه لما لم يصدق على الموكل. وإذا كانت السلعة قد فاتت وألزمناه الغرامة لم يبق في يديه عوض عنها. فلهذا افترق الحكم بين كون السلعة قائمة فتتوجّه على الوكيل غرامة وعنده عوضها، فكأنه لم يغرمه وبين كونها فائتة إذا غُرِّم ولم يكن عنده عوض عن الغرامة.

وقد ذهب بعض أشياخي إلى أن الوكيل إذا بين لبائع السلعة أنه يشتري شراء وكالة، وأن الدنانير التي يدفعها للموكل فإنه لا تتوجه على الوكيل غرامة إن أخذت الدنانير من يد البائع, لأنه قد بين حين العقد أن العقد لغيره، وأن الثمن لغيره. وهذا الذي ذهب إليه بعض أشياخي قد ذكره أبو حامد الاسفرائيني من أصحاب الشافعي، وفصل فيه هذا التفصيل من كون الوكيل لا تتوجه عليه غرامة، إذا بين حين العقد أن الشراء للوكيل، والدنانير له، على حسب ما قاله بعض أشياخي. بخلاف أن لا يبين ذلك حتى تجب عليه المطالبة بالثمن من ذمته، وتتوجه عليه الغرامة. فإذا كان ابن المواز أراد هذا الوجه، وهو الذي صورناه من كون الوكيل لا تتوجه عليه غرامة إذا استحق الآمر للدنانير ارتفع ما عارضه به الشيخ أبو إسحاق من كون الغرامة تتوجه عليه مع قيام السلعة، فيجب أن يصدق. ولو شهدت البينة بأن الدنانير التي اشترى بها الوكيل للآمر، ولكن البينة لم تعلم الجنس الذي أمره به، لصُدّق الآمر وقضي له بارتجاع الدنانير. ثم تتعلق في مطالبة البائع للوكيل بها، على حسب ما قدمناه. فإن نكل الآمر مضى العقد، ولم يلزم الوكيل يمين فيها (¬1) يقبل فيه قوله ها هنا, لأنه إذا كان القول قوله فله أن يرد اليمين على الآمر، فإذا ردها ها هنا، وجد الآمر قد نكل، ونكوله يمنع من تعلق هذه اليمين. وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر في اختلاف الوكيل والموكل في مقدار الثمن المأمور به. مثل أن يقول الآمر: أمرتك أن تشتري له بأربعين. ويقول المأمور: أمرتني أن تشتري بخمسين. فإن مطرفًا ذكر أن القول قول الآمر. وعلى الطريقة الأخرى، القول قول المأمور لما يتوجه عليه غرامة العشرة الزائدة على حسب ما بيناه. ولو كان هذا الاختلاف فيما لا تتوجه على الوكيل فيه غرامة من العقود. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما.

مثل أن يوكل رجل رجلًا على عقد نكاح له، ويختلف الوكيل والموكل في مقدار الصداق الذي وكله عليه، فإن القول قول الموكل ها هنا لأنه هو الذي يقبض المثمون، الذي هو البضع، وهو الذي يدفع الثمن. بخلاف البياعات، فإن الوكيل له قبض الثمن ودفع المثمون. لكن لو تُصوِّر في عقد النكاح بوكالة غرامة الوكيل، مثل أن يدفع الوكيل للزوجة الصداق من عنده سلفًا للموكل، فإنه ها هنا تتوجه عليه غرامة إذا صدق الآمر. لاعترافه بأن الزوجة قبضت منه الصداق الذي جحد الزوج بعضه بوجه جائز، وأنه لا يحل للزوج أخذ ذلك منها ولا جحوده لها. ومذهب الشافعية من هذا الأصل الذي ذكرناه من اختلاف الوكيل والموكل، في مقدار ما أُمر الوكيل أن يشتري به، أن القول قول الآمر. لأنه لو أنكر أصل الإذن لقبل قوله، فكذلك يقبل قوله في تفصيل الإذن وصفته. وكذلك قاسُوا ذلك على أن الزوج لما كان القول قوله في أنه لم يوقع طلاقًا، فكذلك يكون القول قوله في عدد الطلاق الذي أوقع إذا ادعت عليه الزوجة أكثر مما أقر به من عدد الطلاق، والأصل ثبوت العصمة، فيجب أن يصدق الزوج في مقدار ما أحدثه في العصمة كما يصدق في أنه لم يحدث فيها شيئًا. وها هنا إذا صدق الآمر فيما يُلزم الوكيل غرامة، وقد ائتمنه على التصرف له، كنا ألحقنا بالوكيل ضررًا وغرامة بدعوى الآمر عليه. وعلى هذا القياس جرَوْا في رجل أمر رجلًا أن يشتري له عبدًا بألف دينار فقال الوكيل: قد فعلت. وقال الموكل: لم تشتره إلا بثمانمائة، فإن القول قول الموكل لما كان مصدقًا في إنكار أصل الإذن. فكذلك يجب عندهم أن يصدق في تفصيله. وذهب أبو حنيفة إلى أن الموكل إن كان قد سلم الألف إلى الوكيل فإن الوكيل يقبل قوله فيما زعم أنه اشترى بالألف لكون الموكل ها هنا يطلب عليه غرامة (الوكيل بعض) (¬1) ما دفع إليه وائتمنه عليه. وإن كان لم يدفع الألف إليه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

فإن القول قول الموكل، لكون الوكيل ها هنا يطلب غرامة الموكل. والظاهر من مذهبنا أن الوكيل مصدق في الوجهين لأنه قد أؤتمن على هذا الفعل، وذكر أنه فعل ما وافقه الموكل على أنه ائتمنه عليه. فسواء دفع الألف إليه، أو أمره أن يَعقد بها على ذمة الموكل. وإن كان قد ذكر بعض أصحاب الشافعي: أن الوكيل إذا قال: قد دفعت ما أمرني الموكل ببيعه وقبضت ثمنه فضاع. وقال الموكل: لم تبع ولم تقبض الثمن. فإن في المذهب عندهم قولين: هل يكون القول قول الآمر أو المأمور؟ والمشهور عندهم أن القول قولًا الآمر. (وهذا نقيض ما قالوه في اتفاقهما على أن الآمر موقع شراء العبد بألف، واختلفا في المقدار الذي اشتراه به) (¬1). وقد اختلف فيمن دفع إلى رجل مائة دينار ليدفعها إلى عُمر. وقال: بذلك أمرني ربها. فروي عن مالك: أن القول قول الآمر. وقال ابن القاسم: القول قول المأمور ها هنا، بخلاف أن ينكر الآمر أن يكون أمره بدفعها إلى أحد، فإن القول عنده قول الآمر. ففرق بين إنكار الإذن من أصله، أو الإقرار، وخالف في تفصيله. وإذا قلنا: إن القول قول الآمر، وحكمنا على الوكيل بأن يرد عليه ما سلم إليه من الدنانير، فهل يكون للوكيل أن يستردها ممن دفعها إليه أم لا؟ فيه عندنا قولان: أحدهما: أنه لا يمكن من ذلك لإقراره أن الآمر ظلمه فيما أخذه منه، وأن الذي سلم إليه ما أُمر به قد أخذ ما يستحق بؤجه جائز صحيح فلا يمكن المأمور من ظلمه لأجل أن الآمر ظلمه فيما أخذ منه. وقيل: بل يمكن من ذلك لأنه لم يقصد هبة من دفع ذلك إليه، وإنما هو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

كالمبلغ عن الآمر. فإذا كذبه في البلاغ كان من حقه أن يستردّ مَا دفعه إلى من أمره للآمر (¬1) بالدفع إليه. وهكذا. مذهب الشافعية أنه بالخيار بين أن يرجع على دافع الدنانير، أو على قابضها. لأن المأمور قد يقدر عنده في تسليمها إلى من لم يأمره بالتسليم إليه، وكان له المطالبة بمقتضى هذا التقدير. وله أن يطالب القابض لأجل أنه يعترف أن هذا المال إنما صار إليه من جهة الآمر. لكن عندهم اختلاف في، إذا كانت الوكالة على قبض دنانير من ذمة رجل فأتى الموكل فأنكر هذه الوكالة فعندهم قولان: هل لرب الدين أن يطالب القابض بهذه الوكالة التي أنكرها الموكل أم لا؟ فأحد القولين عندهم: تمكينه من مطالبة هذا القابض لاعترافه أن الذي قبضه إنما قبضه لرب الدين .. والقول الآخر: ليس له مطالبة، لأن حقه في ذمة الغريم، والذي قبضه هذا ليس هو عين حق رب الدين فتكون له المطالبة به. فإذا تقرر حكم الاختلاف في أصل الإذن، أو في صفة الإذن. أو في وقوع الفعل المأذون به على حسب ما بيناه، فإن الوكالة لو كانت على شراء جارية فاختلف الآمر والمأمور في مقدار الثمن الذي فيه فقال الآمر: أمرتك بعشرة، وقال المأمور: بل بعشرين، وقضينا بأن القول قول الآمر، على حسب ما قدمناه من ذكر الخلاف في ذلك، فإن هذه الجارية إذا بقيت في يد المأمور نُظر في استباحة وطئها، فبيْن أصحاب الشافعي في ذلك اختلاف انفرد الاصطخري منهم فقال: يباح لهذا المأمور تعذي ما أمر به يقتضى أنه لا ملك له فيها، وأنه قد سلم الملك للمأمور، وإذا كان الملك مسلمًا لِهذا المأمور لم يحرم عبيه وطء ملكه .. وكل أصحاب الشافعي سوى هذا الرجل، على أن وطأها لا يحصل للمأمور لإقراره بأنها على ملك الآمر، واعتقاده أنه ظلمه في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الآمر.

إغرامه لثمنها. ولهذا استحب الشافعي للحاكم أن يوقف بينهما، بأن يأمر الموكل أن يبيعها من الوكيل مما أخذ منه، أو يوليها له، على اضطراب عندهم في صفة ما يوفق الحاكم به بينهما في هذا حتى يحل إلى المأمور. وقد كنا نحن قدمنا في كتاب السلم الكلام على هذا المعنى فيمن باع جارية من رجل واختلف البائع والمبتاع في ثمنها فتحالفا وتفاسخا. وذكرنا هناك هل الفسخ لهذا العقد وقع ظاهرأوباطنًا فيحل للمانع وطؤها. أو وقع في الظاهر دون الباطن فلا يحل له وطؤها؟ وبسطنا القول في ذلك. وهذه المسألة مما تلحق بما نحن فيه من اختلاف الموكل والوكيل، ما ذكرهُ المدونة فيمن أمر رجلًا أن يشتري له جارية بربرية، فاشترى الجارية الموصوفة وبعث بها إلى الموكل، ثم أتاه بجارية أخرى على الصفة، وقال: هذه التي اشتريت لك، والأولى التي أنفذت إليك أنفذتها لتكون وديعة عندك، ولم يبين ذلك حين الإنفاذ، فإن القول قول الوكيل مع يمينه، إن كانت الجارية لم تفت، وينتزعها من يد الموكل. ويلزم الموكل قبول الجارية التي أتى بها إليه، وذكر أنه اشتراها له. فإن فاتت الجارية المبعوثة إلى الموكل، بأن أعتقها الموكل أو أحبلها أو كاتبها أو دبّرها، فإنه لا يقيل الوكيل في رجوعها إليه، وتبقى على ما هي عليه من إمضاء ما فعله الموكل فيها بما ذكرناه إلا أن تشهد بينة بصدق الوكيل من كون المبعوثة إنما أنفذها وديعة، فيستحق الوكيل ارتجاعها. كما يجب نقض هذه الأفعال إذا فعلها من اشترى جارية ممن يعتقد أنه مالكها فأتى من استحقها، فإنه ينقض ما فعله المشتري من ذلك على الاختلاف المشهور في الجارية المستحقة، بعد أن أولدها المشتري، هل يأخذ عين الجارية وقيمه ولدها أو يأخذ قيمتها وقيمة ولدها، أو قيمتها خاصة دون قيمة الولد. وإلى هذا أشار في المستخرجة من كون استيلاد الموكل للجارية التي بعثها الوكيل على حسب ما ذكرناه يجرى الحكم فيها على الخلاف المذكور في المستحقة من يد مشتريها، ولكن اقتصر في المدونة في مسألة الوكيل التي ذكرناها على أنه إذا قامت بينة بصحة ما قاله الوكيل فإن الموكل يغرم قيمة

الجارية. ولم يذكر غرامة قيمة ولدها. ولكن سحنون تيمم المسألة في غير المدونة بأن قال: يأخذ الوكيل الجارية وقيمة ولدها. وعلى هذا أمضى الأشياخ من حمل ما في المدونة على أن قيمة الولد يؤخذ مع ارتجاع الأم. ولا يحسن عندي التصميم على أن مراده من المدوّنة إلزام الموكل قيمة الولد. ولا أجري المسألة على الخلاف في المستحقة، لكون الوكيل فرط في إعلام الموكل أن التي أنفذها له ليست هي التي اشترى للموكل. وإنما صُدق الوكيل إذا لم تفت الجارية لكون ما ذكره ممكنًا. فإذا فاتت بالاستيلاد والعتق لم يحسن إبطال حق الله فيها بدعوى الوكيل ما الظاهر خلافه لتعلّق حقين بها، حق الموكل، وحق الله سبحانه. وقد أشار في كتاب ابن حبيب إلى هذا المعنى واقتصر على التزام الموكل لقيمتها، ولا قيمة عليه في الولد لكونه أباحها للموكل، وسلطه عليها مع تجويزه أن يستولدها، فلم تكن عليه غرامة فيما سلطه عليه. وإذ لم تقم بينة على صدق الوكيل، ولكن الموكل صدقه بعد أن أعتقها أو استولدها فإنه لا يبطل حق الله سبحانه فيها باتفاق هذين الوكيل والموكل على إبطاله، يُمنع الوكيل من ارتجاعها، ويُمنع الموكل من إيقافها على مقتضى أحكام ما فعل من عتق واستيلاد، لكونه مُقرًّا بأن ردّها يجب على الوكيل، ولكن الشرع منعه منه. وقد ذكر في الموازية فيمن وكل على شراء جارية بمائة دينار فاشتراها للموكل ثم حبسها لنفسه، واشترى جارية أخرى للموكل وأنفذها إليه، فإن الموكل بالخيار في أن يمسك التي أنفذ إليه لكون الوكيل مقرًا أنه إنما اشتراها له. وتنتزع من يده الأولى التي اشتراها له الموَكَّل. فيحصل له الجاريتان، الأولى لحكم الوكالة على شرائها، والثانية بحكم مَا جُعِل له من الخيار فيها، وإن شاء أمسك إحداهما، أما الأولى فله إمساكها خاصة بحكم الوكالة، وردّه لما جعل له من الخيار في الثانية. وأما إمساك الثانية خاصة دون الأولى بالإجازة لما فعله من المعاوضة، وذكر أن المأمور إذا وطئ الأولى التي أمسك لنفسه

وحملت منه، فإن للموكل انتزاعها منه وأخذ قيمة ولدها إذا وضعت، كالحكم إذا استحقت. وأما إذا وطئ الموكل الجارية التي بعثت إليه فإنه ذكر في العتبية أنه بالخيار بين قبولها بحكم ما جعل إليه من الخيار في ذلك، ويكون عليه الأقل من الثمن أو القيمة. فإن كان الثمن الذي اشتراها به الوكيل لم يكن عليه أكثر منه لرضا الوكيل بذلك. وإن كانت القيمة هي الأقل كان له التمسك بها بالقيمة لأجل فوتها بالاستيلاد فيقبلها على الجملة. ويكون حكم مَا يدفع فيها من ثمن هو الأقل. قال: وإن شاء ردها. فإذا ردها لكونه له ألا يقبل هذه المعاوضة التي فعلها الوكيل. واختلف هل يرد معها قيمة الولد أم لا؟ فقيل: يرده كما يرد ذلك بالاستحقاق. وقيل: لا يرده لكون الوكيل سلطه على ذلك وأباح له وطأها مع تجويزه أن يستولدها. هذا حكم الرد والقبول. وأما حدّ الوكيل، فإنه إذا وكل على شراء جارية معينة فأمسكها لنفسه ووطئها، وبعث للموكل بغيرها، فإنه يحد. وأما إن كانت غير معينة فظاهر الموازية ألا حد عليه، على حسب ما نقلناه من الرواية. وذكر في العتبية أنه يحد إلا أن يعذر بجهل وتأويل. ولكنه لم يصرح في السؤال يكون الجارية معينة. وإنما ذكر هذا فيمن وكل على شراء جارية. فظاهر الكلام يقتضى أنها غير معينة. ولو أن الوكيل وكله رجلان أحدهما وكله على شراء جارية بمائة دينار. ووكله آخر على شراء جارية بخمسين. ففعل وغلط بأن دفع إلى كل واحد منهما جارية صاحبه فإنه إن لم يشعر بذلك حتى فاتتا بالحمل لكنه (¬1) ذكر في الرواية: إن زادت قيمة الجارية التي اشتراها بمائة على خمسين فإنه يغرم ذلك لمن وكله على الشراء بالمائة. وهذا عندي مبني على أن الوكيل والمودعَ يضمنان بالغلط. وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك في غير هذا الكتاب ولذلك لو وكله على شراء ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنه.

جارية بمائة، فاشتراها بمائة وخمسين وأنفذها للموكل فوطئها الموكل واستولدها، فإنه لا يلزم الموكل غرامة ما زاد الوكيل لكون الوكيل قد فرط في إعلامه بذلك. ولا يلزم الواطىء غرامة ما تعدى الوكيل في زيادته، ولو ثبت بالبينة أنه زاد ذلك لأجل ما ذكرناه من تسليطه للموكل بالعوض الذي سمي له، وقال سحنون بأنه يرجع على الواطىء بقيمتها ما لم تزد على المائة والخمسين التي زاد، فلايزاد للوكيل على ما دفع، أو ينقص من المائة فلا ينقص منها، لكون الواطىء رضي بها. وكأنه قدر أن الوكيل لم يملكها للموكل إلاّ على أن يدفع له المائة وخمسين. فإذا لم يلزمه الوكيل ذلك رد عليه الجارية لم (¬1) تفت في يد الموكل، وذكر ذلك بقرب تسليمها للموكل. وقد قدمنا أن الوكيل لو زاد زيادة يسيرة مما يلزم الموكل، فإنه إنما يصدق إذا لم يطل الأمر. (وطال زمن تركه لذكر الزيادة ولا عذر له في ترك ذكرها) (¬2) ولو كانت الوكالة على شراء ثوب بمائة درهم، فاشتراهُ الوكيل بمائة وخمسين لكان من حق الوكيل أن يطلب بمقدار ما انتفع به الموكل فيما بين الثمنين من الثمن الذي سماه والثمن الذي دفعه الوكيل. (فإن كان ما يشتري بمائة يبلى في أمد. وما اشترى بمائة وخمسين. لاحتاج بعد مضي الأجل الذي يبلى فيه ما اشترى بمائة إلى لباس ثوب آخر فإنه يطالب بهذا المقدار الذي دفع فيه ماله (¬3). والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا زعم الوكيل على شراء سلعة أنه لم يقبض ثمنها من الموكل. وزعم الموكل أنه دفع ذلك إليه. فإنه إن لم يكن الوكيل نقد للبائع الثمن، فإن القول قوله أن الموكل لم يدفع ذلك إليه؛ لأن المطالبة بالثمن من حق بائع السلعة، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا لم. (¬2) كذا في النسختين. (¬3) كذا في النسختين، ولعل في الكلام نقصًا.

وهذا الوكيل واسطة بينه وبين من اشتراها. فصدق الوكيل أنه لم يقبض ثمنها من الموكل، ويحلف الوكيل أنه لم يدفع ذلك إليه. ويطالب الموكل بدفع الثمن لأن الأصل براءة الوكيل من قبض مال الموكل دينًا أو أمانة. ومن استمسك بالأصل فهو المدعى عليه. وأما إن كان الوكيل دفع ثمن السلعة لبائعها منه، ثم طالب الموكل بالثمن، وزعم أن الثمن المدفوع من عنده سلفًا للموكَّل وزعم الموكل أن الثمن المدفوع للبائع هو دفعه إليه. فظاهر المذهب على قولين: هل يصدق الموكل أو الوكيل؟ ففي سماع ابن القاسم فيمن وكلته زوجته على شراء شيء، فأتى يطالبها بالثمن بعد ما اشترى ما وكلته عليه، فزعمت أنها دفعت ذلك إليه، وقد قبضت منه ما وكلته على شرائه، فإن القول قول الوكيل: إنه لم ينقد الثمن للبائع. وإن كان نقده فالقول قول الزوجة. وروى عيسى في رجل وكل رجلًا على شراء سلعة فاشتراها، وزعم الموكل أنه قد دفع ثمنها للوكيل، فإن القول قول الوكيل: إنه لم يدفع إليه. وإنما وقع هذا الاختلاف إذا كان الوكيل قد نقد للبائع ثمن ما باعَه منه ولم يقع هذا الاختلاف إذا كان لم ينقد للبائع لأجل أنه إذا كان قد نقد البائع فقد سقط مقال البائع في المطالبة بالثمن، وانقطع بذلك علائق الوكالة، لكون الوكيل مقرًا أن الذي اشتراه قد ملَّكه الموكّل، وأن البائع قد وصل إليه العوض عن ذلك. فجعلت المطالبة بينه وبين الموكل فصار مدعيًا عليه أنه أسلفه سلفًا، ومن ادعى عليه أنه قد أسلف فالقول قوله. ورأى من ذهب إلى القول الآخر أن الثمن لما أقر الموكل أنه لم يصل إلى يد البائع إلا من يد الوكيل ومن حوزه، والقول قول الحائز أن الذي خرج من يده ملكٌ له، فوجب لأجل هذا تصديقه أن لم يقبض الثمن من الموكل، كما لو لم يكن نقد الثمن للبائع فإنه يصدَّق في ذلك، لأن الأصل عدم قبضه من يد غيره دينًا وأمانة.

وقد أشار بعض الأشياخ إلى دفع الخلاف في هذا من ناحية العقد. وتأول ما قيل في اختلاف الزوجين في الثمن المدفوع على حسب ما نقلناه من سماع ابن القاسم على أن ذلك إنما قيل لعادة جرت بين الزوجين بصدق من شهدت له العادة. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: إذا وكل على بيع سلعة فباعها، وزعم أنه أوصل ثمنها للموكل، فإنه يصدق في ذلك، لأنه مؤتمن على هذا، فوجب تصديقه، كما يصدق المودعَ في أنه رد الوديعة لمودِعها له (¬1). وكذلك كل ما وكل عليه وجعل في. يده أمانة، فإنه يصدق في رده لمن ائتمنه عليه. وذكر أبو حامد الاسفرائيني أن عندهم اختلافًا في تصديق الوكيل إذا قال له الموكل: إنك لم تبع ولم تقبض الثمن، إذا زعم الوكيل أنه باع وقبض الثمن وضاع. وذكر عن بعض أصحابهم أن المذهب عندهم على قول واحد في أن الوكيل لا يصدق في ذلك لقول الشافعي: من وكّل أن يبيع سلعة ويشتري بها شيئًا. فقال: فعلت وضاع، أنه لا يصدق. وهذا عندي يستند إلى مسألة أخرى على أنها عندهم على قولين. وهي من وكل على بيع سلعة هل يتضمن ذلك توكيله على قبض الثمن لأجل أنه قد يراه الموكل أهلًا لعقد البيع لحذقه، ولا يراه أهلًا لقبض الثمن لضعْف أمانته؟ وهذا كما حُكِي عندهم اختلاف فيمن وكل على قبض شيء هل له أن يخاصم فيه؟ لكون القبض يتضمن ذلك أو لا يمكن الوكيل من ذلك لكونه قد يرضى الموكل أمانته ولا يرضى معرفته بالخصام؟ ولو كانت الوكالة تحصل لصدق في رذ ما وكل عليه أيضًا؛ إذا كان أصل الدفع إليه بغير إشهاد. كما يصدق في القراض إذا أخذه بغير بينة، والأصل في هذا تصديق المودع في الوديعة إذا أخذها بغير بينة، ولأصحاب الشافعي في. هذا وجهان: أحدهما تصديق الوكيل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوْلى حذفها.

بجعل، والمقارض، والأجير المشترك لما ذكرناه من كون الشيء في أيديهم فيشبه ذلك الرهبان والعين المستأجرة. وهم. لم يختلف القول عندهم في الرهبان والعين المستأجرة أن قابضها لا يصدق في الرد. هذا حكم دعوى الوكيل أنه رد الأمانة إلى يد من ائتمنه عليها. وأما دعواه ردها إلى غير من ائتمنه عليها، مثل أن يؤمر بأن يخرج من ذمته إلى ذمة أو من أمانة إلى أمانة أو من ذمة إلى أمانة أو من أمانة إلى ذمة. وذلك أن يقول الموكل لمن له عليه دين: اقضه عنه لمن له علي مثل ذلك. أو يقول: أودعه لي عند فلان. أو أخرجه من ذمتك وأَبْقِهِ وديعة عندك. أو يقول له: الوديعة التي لي عندك أسلفها لفلان أو: أودعها لي عند فلان. فإذا تصورت هذه الأقسام الأربعة، فإنه لم يختلف المذهب في الموكل إذا قال: اقض عني الديْن الذي علي لفلان أنه لا يصدق في أنه دفع ذلك فيمن أُمر بدفعه إليه إذا أنكر ذلك من أُمر بأن يدفع إليه. وكذلك يختلف الشافعية في هذا أيضًا. والعلة في هذا: أن قوله: اقض عني الديْن، يتضمن هذا اللفظ أن يبرىء ساحة الوكل منه لأن قضاء الشيء على الذمة منه. والذي أمِر الوكيل بالدفع إليه إذا أنكر أن يكون قبض من الوكيل شيئًا بقي حقه على الموكّل على حسب ما كان، فقد ضيّع الوكيل أو لم يبرىء ساحة الموكل والظاهر أن هذا الاتفاق إنما جعل إذا قال الموكل: اقض عني هذا الدين. لكون لفظة القضاء يتضمن عندهم الذي بينّاه. ما سوى هذا الوجه الواحد من بقية الأقسام التي ذكرناها، المذهب فيها على قولين: هل يصدق الوكيل في امتثال ما أمر به أم لا؟ لكن المشهور في المذهب أن على الوكيل الإشهاد، إذا أُمِر بالدفع إلى غير من دفع إليه. لكن أمره بأن يخرج من ذمته إلى أمانته فيه قولان مشهوران: فذكر في المدونة فيمن عليه طعام من سلم فقال له مستحق ذلك عليه: كِلْه في غرائرك. فقال: كِلْتُه وقد ضاع بعد كيلي له، أنه لا يصدق.

وقال في كتاب الوكالات، فيمن أُمر أن يشتري لؤلؤًا بثمن يدفعه من عنده سلفًا للموكّل. فقال: قد فعلت وضاع اللؤلؤ. أنه يقبل قوله في ذلك. ومن الأشياخ من يشير إلى أن هذا اختلاف قول فيمن أُمِر أن يخرج من ذمته إلى أمانته. ومنهم من يفرق بين السؤالين بأن مسألة كتاب السلم عمارة الذمة سبقت للائتمان، وأسند حكم الائتمان وانسحب حكم عماره الذمة عليه، ومسألة كتاب الوكالات حكم الأمانة سبق لأنه إذا اشترى بحكم الأمانة صار البائع مطالبًا بالثمن فدفعه (¬1) عمرتْ ذمة الموكل فغلب في هذا حكم الأمانة. ومنهم من يشير إلى هذا المعنى بعبارة أخرى، فيقول: مسألة كتاب السلم تتضمن إخلاء ذمة. ومسالة كتاب الوكالات تتضمن عمارة ذمة. ومنهم من يقول: إنما ادّعى الوكيل ضياع اللؤلؤ، وهو في يده أمانة، بعد تقرير ما في الذمة. ولو ادعى أنه أخرج الثمن من أمانته ليشتري به لؤلؤًا فضاع، كما لو قال في مسألة السلم: أخرجه من ذمتك وبعه. وهو مما يجوز بيعه. فقال: فعلت. وضاع ثمن ما بعت فإنه يصدق .. وهذه الطرق غير واضحة. والتحقيق أن المذهب على قولين في هذه المسألة على حسب ما قدمناه. وقد جعل من ذهب إلى أن الوكيل لا يصدق بالدفع إلى من أمر بالدفع إليه، أمرَ الله سبحانه الوصي بالاشهاد على اليتيم بدفع ماله إليه، أصلًا في هذه المسائل. واعتل بأن الوصي إنما أمر بالإشهاد لكونه غير مصدق في الدفع إلى اليتيم لما كان اليتيم ليس هو الذي دفع المال إليه. فصار هذا أصلًا في كل من دفع للأمانة إلى غير اليد التي دفعتها إليه. ومن أصحاب الشافعي من ذهب إلى أن الوصي مصدق في الدفع وإن لم يشهد، كما يصدق في الانفاق على اليتيم. ويقدر أن الأمر بالإشهاد على جهة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فبدفعه.

الاحتياط وحذرًا من المخالفة والنزاع وحسمًا لمادة الخصام. كما قال تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (¬1). ومحمل هذا عند فقهاء الأمصار على النَّدْب والاستحباب. ونحن إنما صدقنا الوصي في الإنفاق إذا كان اليتيم في كفالته فإنه هو المنفق عليه، ولا ظاهر (¬2) ولا مشقة في الإشهاد على دفع مال اليتيم. وكنا حكينا عن الموازية فيمن في يده شيء على جهة الأمانة بإشهادٍ، أنه يصدق في دعوى الرد، لقدرته على دعوى الضياع فيصدق، والوصي مصدق في دعوى الضياع. فطرد ما ذكرناه من التعليل يقتضيه تصديقه في الدفع لليتيم. ولكن هذا لم يتعرض إليه أحد من أصحابنا. وهكذا الحكم عند أصحاب الشافعية أن المذهب عندهم على قولين: فيمن أُمِر بالدفع إلى غيره ولم يقل له: اقض عني الدين. واعتلّوا لأحد القولين عندهم في تصديق الوكيل: أنه قادر على أن يدعي الضياع فيصدق في ذلك، ولا يكذب في دعواه الدفع. وهذا في الأمانات التي في يده. وأما ما هو دين عليه من غير بينة فإنه يقدر أيضًا على جحوده فيكون القول قوله، فلا يكذب في دعواه (وجه آخر) (¬3). وطردوا على التعليل في المطالبة بالإشهاد على رد المال إلى مستحقه، فقالوا: إذا كان دين بالإشهاد فمن حق من هو عليه ألاّ يدفعه إلا بأن يشهد مستحق الدين على نفسه بأنه قد صار ذلك إليه. إذ لا طريق لمن الدين عليه بالتخفص منه إلا بالإشهاد. فلو كان الدين بغير إشهاد لم يلزم مستحقه أن يشهد على نفسه عند قبضه لكون من هو عليه يمكنه أن يبرَأ منه بجحوده من الأصل فيصدَّق مع يمينه ولم يعتبروا كون اليمين يشق عليه، فيكون من حقه لأجل ذلك الإشهاد. وهذه الطريقة التي سلكوها تنظر عندنا إلى ما وقع في الموازية في تصديق من ادعى رد شيء استأجره بحضرة بينة أنه مصدق في الردّ لكونه قادرًا على أن ¬

_ (¬1) سورة البقرة، الآية: 282. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين.

يدعي الضياع فيبرأ، فصدق ها هنا في وجه الحكم (ألا يصدق فيه) (¬1) لما كان قادرًا على أن يدعي وجهًا آخر يصدق فيه وهو ضياع ما استأجره. فإذا أحطت علمًا بحكم دعوى الرد لغير من دفع إليه أو لمن دفع إليه فإنه قد يقع في النفس إشكال: فيمن التقط لقطة فزعم أنه ردها لمستحقها، وأنكر مستحقها أن يكون قبضها منه. أو هبت الريح بثوب ألقته في دار إنسان فزعم أنه أعاده إلى مستحقه. لأن هذا لم يدع أنه زد ذلك لمن دفعه إليه، ولا يدعي أنه رده أيضًا للشخص الذي دفعه إليه. فذهب أبو حامد الإسفرائيني إلى أنه لا يصدق؛ لأن مستحق هذا لم يدفعه إليه فيصدق في الردّ عليه. وهذا الذي قاله لا يسلم له، أما عند من اعتبر قدرة الإنسان على التخلص بدعوى الضياع فلا خفاء، بأن هذا مصدق، لكونه مصدقًا في ضياع اللقطة وما ألقته الرياح عنده. وأما من لا يعتبر هذا فإنه لم تدفع ذلك إليه يدٌ فيلزمه أن يرد إليها، لأن على اليد ما أخذت حتى تؤديه. مع كونه محكمًا في الشرع في هذه المسألة بأن يسمع الصفة والوكاء، والوعاء. فإذا تبين له صدق المدعي دفع ذلك إليه. بخلاف ما سواه من الحقوق التي لم يحكمه الشرع فيها. وها هنا قسم ثالث: وهو أن يأمر رجل رجلًا بأن يأتيه بمال له عند رجل، فيزعم الرسول أنه قد أتى به للمرسِل، ويكذبه المرسل. فهذا فيه قولان: أكثر أهل المذهب على أن الرسول مصدّق في إبراء نفسه، ولكن الدافع إليه لا يصدق لكونه دفع هذا المال لغير من دفعه إليه، فعليه الإشهاد على ما حكيناه من المذهب المشهور. وذهب مطرف أنه لا يصدق إذا ناكره المرسل بعد أيام يسيرة، ويصدق بعد الشهر ونحوه مع يمينه. وبعد الزمن الطويل يصدق بغير يمين لكونه عنده مع الطول لا يمكن في العادة أن يؤخر المرسل ما عنده. ولو مات الرسول بحدثان الاقتضاء لطُلبت تركته. وبعد مدة هو فيها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

مصدق لو كان حيًا، لم تطالب تركته. وهذا الخلاف الذي وقع ها هنا لأجل أن الرسول لما كان قبضه لهذا نيابة عن المرسل صار كأن المرسل هو الذي دفعه إليه فادعى بعد ذلك رده إليه، فيجب أن يصدق فيه في القول الآخر أنه دفع المال إلى غير اليد التي دفعت للقابض للمال وصيًا أو وكيلًا مفوضًا إليه، برىء الدافع بتصديقه له. وإن كان وكيلًا مخصوصًا فإن الدافع للمال لا يبرأ بتصديقه على ما ذكره في الموازية واعتل ابن المواز: بأن الرسول الدافع يلزمه اليمين ولا تنفعه شهادته، للدافع إذ لو قبلت شهادته لم يحلف. وهكذا أشار في المدونة إلى أنه لا يبرأ الدافع بتصديق الرسول. وبعض الأشياخ يشير إلى أن في هذا قولين مشهورين. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا وكل رجل رجلًا على شراء سلعة فاشتراها له وضاع الثمن في يد الوكيل. فهل على الموكل أن يحلفه أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: ذكر في المدونة: أنه إن سلّم الثمن إليه يعقد (¬1) الشراء عليه، فإن الموكل لا يلزمه غرمه ثانية إذا ضاع، ويلزم ذلك الوكيل، وتبقى السلعة له، إلا أن يختار الموكّل أخذها وغرامة ثمنها فيمكن من ذلك. وإن كان الموكل لم يدفع الثمن للوكيل إلا بعد أن عقد الوكيل الشراء فضاع الثمن في يد الوكيل فإن على الموكل غرامته ثانية. ولو ضاع ثانية لغرمه ثالثة حتى يصل إلى البائع. ولو ضاعت السلعة في يد الوكيل مع ضياع الثمن لكان الحكم ما ذكرناه. وذكر في كتاب القراض عن بعض المدنيين أن الموكل لا يلزمه الغرم في الوجهين جميعًا. وذهب المغيرة إلى أن الموكِّل يلزمه الغرم في الوجهين جميعًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قبل أن يعقد.

فأما المغيرة فإنه قدر أن الثمن وإن سلمه الموكل للوكيل قبل عقد الشراء فإن ذلك لا يعيِّنه، ولا يخرج العقد ذلك عن كون الثمن في ذمة الموكل. لا سيما إذا قلنا بأن الدنانير والدراهم لا تتعين، وكان الثمن دنانير أو دراهم. وقدر بعض المدنيين أنه وإن كان لم يدفع الموكل الثمن للوكيل إلا بعد عقد الشراء فإنه يتعين بالدفع بعد العقد، ويصير كما لو عقد البائع عليه، وكأن الموكل إنما وكله على أن يدفع إليه الثمن مرة واحدة. وأما التفرقة بين أن يكون دفع الثمن قبل العقد أو بعده، فإنه إذا دفع ذلك قبل العقد قصر الوكيل على الثمن المدفوع، وكأنه شرط ألاّ يعقد على ذمته بل على عين ما دفعه إليه. وإذا لم يدفع ذلك إليه فكأنه أمره بالعقد على ذمته فلا تزال ذمة الموكل مطلوبة حتى يصير إلى بائع السلعة. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا اشترى رجل عبدًا بمال دفعه إليه، فإنه إذا عقد الشراء على أن يكون العبد ملكًا له، لزمه العقد ودفع الثمن من مال نفسه. فإذا دفعه من مال لا يستحقه بل يستحقه سيد العبد الذي باعه فإنه يبقى للبائع ما دفعه إليه من مال عبده، ويطالبه بأداء الثمن من مال نفسه، كما لو غصب دنانير دفعها في ثمن هذا العبد فأخذت من يد البائع بالاستحقاق، فإن المشتري يطالب بخلفها. وإن كان الثمن عرضًا انفسخ العقد لأن من اشترى عبدًا بدنانير أو دراهم فاستحقت الدنانير أو الدراهم من يد من دفعها المشتري إليه كان على المشتري خلفها. ولو اشترى العبد بعرْض فاستحق العرْض من يد البائع كان له ارتجاع عبده. فإذا كان المشتري إنما دفع مال العبد عرضًا فهو ملك لسيد العبد، وكأنّ سيد العبد استحقه وإنما باع العبد به، فإذا استحق رجع في عبده. وهذا التعليل، الذي ذكرناه، لأجله فرق بين أن يكون المشتري استثنى مال العبد لما اشتراه أو لم يستثنه. فإنه إذا لم يستثنه كان المال المدفوع للبائع مما يستحقه البائع. فإذا اشترطه المشتري لم يستحقه البائع وصار أيضًا المشتري

كأنه هو الذي استحقه وملكه لما استثناه وقدر على ملكه بالانتزاع، فلم يدفع في ثمن العبد إلا ما قد استحقه وهو في حكم ملكه. ولم يقدروا كون هذا العبد وهب هذا المال لمشتريه قبل عقد البيع فيكون لسيده رد هبته، فيبقى هذا الحكم واجبًا للسيد بعد البيع لأنه إنما له رد الهبة بشرط بقاء الملك، وإذا سقط ملكه عن العبد وعن ماله سقطت الحقوق التابعة للملك من رد ما وجب له رده لو بقي على الملك. وهذا إذا كان إنما اشترى العبد ليملكه وأما إن اشترى العبد ليملك نفسه واستثنى المشتري ماله، فإن العبد يكون حرًا، إذ يستحيل أن يملك العبد نفسه. ولا مقال للسيد لكون المال لما استثني سقط مقالط البائع فيه كما قدمناه. فأما إن كان المشتري لم يستثنه فإنه قد بقي حق البائع فيه. وكأن المشتري اشتراه بمال ودلس على البائع فدفع له ما هو مال له. فكان الواجب أن يغرم المشتري الثمن الذي دفعه إلى البائع، وهو ما لا ملك له عليه وإنما هو من أملاك البائع. لكن في الموازية أنه يبقى رقيقًا لسيده الذي باعه. وكان مقتضى الأصل الذي قدمناه أن يغرم المشتري ثمنه ثانية، كما بيناه إذا اشتراه ليملكه، لأن من اشترى شيئًا فعليه ثمنه، ولو اشتراه شراء وكالة. لكن هذا إذا اشترى العبد ليملك العبد نفسه كنا إذا غرمناه الثمن لم يجد مرجعًا، ولا يأخذ عنه عوضًا، لكون العبد قد عتق بهذا الشراء، وولاؤه لسيده لما كان عتقه بمال هو كملك لسيده. فلهذا ذكر ابن المواز أنه يبقى رقيقًا ولا يغرم مشتريه الثمن ثانية، لكونه لو غرمه لم يأخذ عنه عوضًا. وقد كنا قدمنا في هذا الكتاب الإشارة إلى هذا التعليل في اختلاف الوكيل والموكل فيما وكل الوكيل على شرائه. ولو كان الثمن على هذا عرضًا لبطل العقد لما قدمناه من كون استحقاق العرض يوجب انفساخ العقد ويرجع العبد ملكًا لسيده. ولا يمنع من رجوعه ملكًا كون العقد وقع على أن يملك العبد نفسه فيعتق، والعتق فوت في الاستحقاق، لأن مشتريه لم يبتد عتقه، وإنما أعتقه الشرع لاستحالة ملك الإنسان نفسه، مع كون مشتريه ها هنا لا يطالب

بغرامة الثمن لأجل ما قلناه. بخلاف أن يشتري العبد ليملكه فإنه يطالب بالثمن ثانية لكونه أخذ عنه عوضًا وهو العبد. ولو اختلف ها هنا الموكل، وهو العبد، ووكيله، وهو مشتريه، هل وقع العقد على أن يملك العبد نفسه، أو يكون ملكًا لمشتريه؟ فإن القول قول المشتري ها هنا، لأن الحوز واليد وتولّي الشراء دليل على الملك، فصار العبد مدعيًا خلاف ما يقتضيه الظاهر. ولا مطالبة للعبد باستحلاف مشتريه على هذه الدعوى، لأن قول العبد: إنما اشتريتني لنفسي معناه أني حر، ودعوى العبد العتق لا يوجب يمينًا. وأما تعلق اليمين على المشتري لحق السيد فإنه إن كان المشتري قد استثنى ماله فلا مطالبة للبائع على المشتري بيمين، إذ لا حق له في المطالبة بغرامة ثمن فيرجع العبد لأجله. وإن كان ثم يستثن المشتري فمن حق البائع أن يستحلف المشتري، لأنه يقول: إذا كان الشراء ليس لك، ولكن ليملك العبد نفسه، بطل العقد وبقي العبد على ملكي، كما قدمناه عن الموازية. والمشتري يقول: بأن العبد يبقى على ملكي، وإنما عليّ غرم الثمن ثانية. فهذا التفصيل في تعلق اليمين في ما بين البائع والمشتري لأجل ما ذكرناه من التعليل. وأما في حق العبد فإنه قد ذهب بعض الأشياخ إلى أنه لا تتعلق بدعواه يمين، كما تتعلق بدعوى العبد. وهذا مما قد يختلف فيه لأجل أن سقوط اليمين في دعوى العتق لأجل ما تحته من تكرره، فلحق السادات بهذا مضرة. كما تسقط اليمين في دعوى الطلاق لما يخشى من تكرره. وهذا مما لا يتكرر مع كونه ليس بدعوى صريحة بالعتق وإنما هو تنازع في مال أن الدعوى فيه إلى العتق، ومراعاة المال مما يقع فيه الاضطراب. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا باع السلعة مالكُها، وباعها من وكّله على بيعها، عُلِم أوّلُهما بيعًا فإن العقد السابق هو النافذ الماضي. والعقد الثاني مردود. وقع ذلك من الموكّل

صاحب السلعة وكيله (¬1). وإنما كان الحكم تقْدمة الأول لكونه وقع من وجه صحيح لازم لا رجوع لأحد المتعاقدين. لأنه إن كان الذي عقد أوَّلًا مالكَ السلعة فقد باع ملكه، وبيعه لملكه عزل لوكيله الذي وكله على بيع هذه السلعة، إذ لا يصح أن يملك كل واحد من المشتريين جميعًا معًا بعقد واحد. فلما استحال ذلك صار عقد مالكها عزلًا لوكيله عن بيعها. وكذلك لو كان الذي عقد أولًا هو الوكيل لنفذ ذلك أيضًا، لأنه عقد بوكالة صحيحة فوجب نفاذه كعقد مالكها. وكونه ليس له عزل وكيله عن البيغ بعد أن عقد الوكيل البيع. وسواء ها هنا علم العاقد، الذي هو الوكيل أو المالك، أنَّ عقدًا سبق فيها أو لم يعلم، لأنه ترجع العقد الأول بالسبق لصحة الملك كما ذكرناه. وهذا إذا لم يقبض السلعة أحد المشتريين، فإن قبضها أحدهما وكان هو الأول فلا خفاء بأنه أحق بها لترجح جانبه بأمرين: أحدهما السبق للعقد، والقبض للسلعة المبيعة. وإن كان القابض هو المشتري الثاني، وثبت أنه عالم بأنه قد سبق في هذه السلعة عقد نافذ، أو علم العاقد منه الذي هو البائع ذلك، فإن قبضه لا يؤثر، والسلعة لمن عقد عليها أوَّلًا، كان العاقد منه مالكها أو وكيله. لأنه إذا كان عالمًا بأن عقدًا قد تقدم فيها يجب إنفاذه، صار متعديًا في عقده عليها، فوجب رده. وإن كان الذي عقد من المشتريَ الثاني لم (¬2) يعلم بسبق عقد فيها، وقد قبضها الثاني فها هنا قولان: هل يكون انعاقد الأول أوْلى، لما قدمناه من ترجيح جانبه بالسبق؟ وإلى هذا ذهب. المغيرة ومحمد بن عبد الحكم. أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو وكيله. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: (عقد المشتري ... ولم).

يكون الثاني أولى لترجيح جانبه بالقبض، وكون هذه السلعة لو هلكت في يديه وقد قبضها بعقد معاوضة لكان ضمانها منه والضمان شبهة وترجيح يوجب أن يقويه بذلك. وهذا هو المشهور من المذهب والمنصوص في المدونة. وعلى هذا يجري الأمر في امرأة عقد عليها ولياها، وقد وكلت كل واحد منهما على العقد، فإن الأول أولي بها إذا لم يدخل بها أحدهما لترجيح الأول بالسبق، إلا أن يدخل بها الثاني، وهو غير عالم بأنه قد تقدم فيها عقد. ولو ثبت أن الذي عقد منه من الوليين علم بأنه قد تقدم فيها عقد، فإن المسألة فيها قولان أيضًا: المشهور من المذهب أن الزوج الثاني الذي دخل بها أولى لحرمة الفروج والاطلاع عليها. وذهب محمَّد بن عبد الحكم إلى أنّ الأول أولى، وإن في خل بها الثاني، لكون الأول قد ملك عصمتها بوجه صحيح. وقد حرم الباري تعالى ذوات الأزواج بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} (¬1)، وإذا كانت قد حرم العقد عليها فلا يؤثر ذلك علم العاقد أو جهله في وجوب فسخ عقده، كما لا يؤثر العقد على الرضيعة مع الزوج، علم الزوج بذلك أو جهله، في وجوب فسخ عقده. وقد ذكرنا عن المغيرة أنه ذهب إلى أن المشتري الأول أحق، وإن قبض المشتري الثاني السلعة، لكنه ها هنا وافق الأكثر من أصحابنا على أن الزوج الثاني أحق إذا دخل بها، لعظم لحرمة الاطلاع على الفروج وانتشار الحرمة في النكاحات. فصار في مجموع المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها: أن الثاني أولى إذا قبض السلعة أو دخل بالزوجة. وهذا هو المشهور من المذهب. والثاني: أن الأول أولى وإن دخل الثاني وقبض السلعة. وإليه ذهب محمَّد بن عبد الحكم. والقول الثالث: التفرقة بين النكاح والبيع فيكون الزوج الثاني أولى بالزوجة إذا دخل بها. ولا يكون المشتري الثاني أحق بالسلعة وإن قبضها وإليه ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 24.

ذهب المغيرة. وقد ذكرنا سبب هذا الاختلاف كله وإسناده إلى افتراق طرق الترجيح بالسبق أو بالقبض وشبهة الضمان .. لكن مقتضى ما نبهنا عليه من التعليل يقتضي أن من وكل على كراء داره، فعقد الوكيل كراءها وعقده مالكها، وقد عُلم الأول من العقدين، ولكن الذي عقد متأخرًا سكن الدار فإنه لا يكون أحق بها لأجل هذا القبض، لكون ما يأتي من المنافع التي يطلب المكتري الأول أخذها لم تخلق ولم تقبض، فعادت المسألة إلى كون الأول أولى إذ لم يقبض الثاني. وأيضًا فإن ضمان المنافع من رب الدار. فما ذكرناه في السلعة المقبوضة من كون الضمان من قابضها مرتفع ها هنا. لكن نزل هذا السؤال وأنا حاضر مجلس الشيخ أبي الحسن المعروف باللخمي، رحمه الله، فأفتى يكون الساكن أولى وإن تأخر عقده. ورأى سكناه شبهة على ما يقتضيه المشهور من المذهب عنده. وذكر أن بعض أصحابه خالفه في هذا لأجل ما ذكرناه من فقدان الضمان للمنافع بخلاف الأعيان التي تضمن بالقبض مع كون القبض لما سيخلق من المنافع غير حاصل الآن. وذكر أن الشيخ أبا القاسم السيوري، رحمه الله، ورد جوابه بموافقة ما ذهب إليه طردًا لأصل المذهب. ورأى أدب سكنى الساكن حيازة وقبض يوجب ترجيح جانبه كما يترجح جانبه بقبض الأعيان. وهذه المسألة في النكاح والبيع قد تسند إلى ما اختلف فيه أهل أصول الفقه من ورود النسخ في الأحكام من الله، سبحانه، هل يتحقق حكمه عند نزوله وإن لم يبلغ المكلف. اقتضى هذا أن تصرف الوكيل وعقوده بعد أن عزل لا تنفذ، وإن لم يعلم بالعزلة، فكذلك يجب ها هنا إذا عقد رب السلعة بيعها، ثم عقد وكيله بيعها من رجل آخر ولم يعلم ما صنعه ربها، فإن عقده مردود، ولو قبض السلعة من عقد منه الوكيل، لكون عقده كلا عقد. فهو قد عزل بعقد ربها عليها وإن لم يعلم الوكيل. وإن قلنا: إن حكم النسخ لا يتحقق إلا إذا بلغ المكلفَ، فها هنا عقد ربها

عليها لا يوجب عزل الوكيل عن العقد فصار عقده واقعًا، والحكم إنفاذه. فتعود المسألة إلى ما ذكرناه من طلب الترجيح بين المشتري الأول والمشتري الثاني وهذا إذا تقدم عقد رب السلعة. ولكن التعليل العام لجميع هذه المسائل ما قدمناه ميت اجتماع الترجيح في جانب واحد، أو افتراقه في الجانبين جميعًا وهما المشتري الأول والمشتري الثاني. فالأول الترجيح بالسبق، والثاني الترجيح بالقبض. هذا كله إذا علم الأول من المشتريين أو الزوجين. فأما إن لم يعلم السابق منهما في النكاح أو البيع فليس أحدهما بأن يكون أولى من الآخر. فإذا ثبت عدم الترجيح بينهما وأنهما سيان، يجب أن لا يقدم أحدهما على الآخر، كان الحكم قسمة المتنازع فيه بينهما، كمالٍ يتنازع فيه رجلان، ليس هو في يد واحد منهما ولا في يد مالك يدعيه لنفسه، فإن الحكم أن يقسم بينهما. فهكذا يجب ها هنا. لكن الفرج تستحيل قسمته بين هذين الزوجين فوجب فسخ عقدهما جميعًا. وأما السلعة فإن قسمتها إذا كانت مما تنقسم يمكن عقلًا وشرعًا، فوجب أن تقسم بين هذين المشتريين، ويكون ذلك كاستحقاق نصف الصفقة. وقد تقدم بيانه في موضعه. وإن كانت لا تقسم كان لكل واحد منهما أن يفسخ العقد عن نفسه بحكم ما طرأ من عيب الشركة. وإن تصور في الظاهر أن هذا العيب كعيب حادث بعد العقد في حق من سبق العقد منه، فإنه يقدر كعيب قديم (¬1) سبق العقدَ لما كان سبب هذا من مالك السلعة إذ باعها وقد وكل على بيعها. فإن ردا جميعًا السلعة لأجل ما تحقق فيها من عيب الشركة، وصارت إلى البائع، وكل واحد منهما يزعم أنه هو الأول، فأراد البائع أن يلزم أحدهما جميع السلعة لاعترافه أنه هو الذي يستحقها بحكم العقد السابق، فإن هذا عندي مما ¬

_ (¬1) في النسختين: عدم.

للنظر فيه مجال، لأجل أنه كعيب ذهب من السلعة فلم يكن لمشتريها مقال فيه بعد ارتفاعه وذهابه. أو يقدر أنه كعيب ذهب بعد أن حكم بوجوب الرد به. فذهابه لا يمنع من إمضاء حكم ما وقع من الرد. لكن هذا على مقتضى قول من زعم أنه هو الأول، وليس بعيب محقق في ذات السلعة، لاعتقاده أن من نازعه فيها وزعم أنه اشتراها قبله ظالم. فإذا ذهب حكم هذا الظلم بقي العقد لازمًا على حسب ما كان. وقد تكلمنا في كتاب الرد بالعيب على أحكام ذهاب العيوب قبل القيام بها مما يعلم منه وجه الحكم ها هنا. وكذلك لو رد أحدهما بعيب الشركة ولم يرد الآخر، ولكنه يزعم أنه هو الأول والبائع يصدقه في ذلك فإنه لا خفاء بأنه يمكن من السلعة لاعتراف البائع أنه يستحقها وأن المشتري الآخر ظالم له في دعواه. لكن لو كان البائع يزعم أن هذا الذي تمسك بنصفها هو المشتري الآخر، وأن الذي رد عليه النصف هو المشتري الأول ومستحقه، فإن هذا يلاحظ ما كنا قدمناه في كتاب بيع الخيار. في مشتر اشترى سلعة بالخيار ومات وورثه ولدان أمضى أحدهما الشراء ورده الآخر. وقد ذُكِر هناك الاستحسان لتمكين من اختار إمضاء الشراء من نصيب أخيه الذي رده على البائع لما كان البائع خرجت عن ملكه، وله مقال في تبعيضها عليه، فإذا زال التبعيض وحصل له جملة الثمن سقط مقاله في التبعيض. وأما لو صدق البائع أحدهما في أنه هو الأول، فإنه قد اختلف في الزوجة إذا عقد عليها ولياها من رجلين، وقد وكلت كل واحد منهما على العقد، ولم يعلم من عقد منهما أوّلًا، لكن الزوجة اعترفت بأن أحدهما هو الأول. هل يترجح جانبه بذلك أم لا؟ فإن قلنا: لا يؤثر تصديقها لأحدهما في كونه هو الأول مع كون النكاح يجب فسخه فيهما جميعًا، فكذلك ها هنا لا يصدق البائع المالك لسلعة في أن أحدهما هو الأول. وإن قلنا: تصدق الزوجة في النكاح، فإنه قد لا يلزم على هذا أن يصدق في البيع لكون كل واحد من المشتريين قد تعلق له حق بنصف هذه السلعة لوجوب قسمتها بينهما. فلا يُبطل حقه دعوى

البائع أنه هو الأول. وسنتكلم على هذا من تصديق مالك السلعة أو الزوجة في كتاب النكاح إن شاء الله. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: إذا وكل رجل رجلًا على أن يرهن له سلعة دفعها إليه، واختلف الموكل ومن هي في يديه رهنًا في مقدار ما رهنت فيه. فإن ذلك يجري على أحكام الرهبان في تصديق من هي في يديه في مقدار قيمتها، ولا يمكن مالكها من أخذها إلا بعد دفع قيمتها على ما سنبين في كتاب الرهن، إن شاء الله تعالى. ثم لا يخلو الوكيل الواسطة بينهما من. أن يكون صدّق من وكله، أو صدق من ارتهنه، أو خالفهما. فإن كانت قيمة السلعة عشرة، وزعم من هي في يديه أن الرسول ارتهنه إياها في عشرة، وقال الموكل: لم آمر ال رسول الله بخمسة. فإن المرتهن إذا حلف أنها رهن في عشرة لم يمكن الموكِّل منها إلا بأن يدفع عشرة. وكذلك لو كانت قيمتها أكثر من عشرة ولم يدع من هي في يديه إلا أنها رهن في عشرة فليس على الموكل إلا عشرة التي ادعاها المرتهن. وإن كانت قيمتها أقل من عشرة وهي الخمسة التي ادعاها الموكل صدِّق الموكل في ذلك ودفع خمسة وأخذ الرهن. فإذا عُلم الحكم بين مالك السلعة وبين من هي في يديه رهن عُدْنا إلى الواسطة. فإن صدق المرتهن في أنها رهن في عشرة وكانت قيمتها كذلك، ودفع الموكل عشرة فإنه يستحلف الرسول على أنه أوصل إليه العشرة لتوجه غرامة خمسة عليه زائدة عما أقر به، وهو منكر أن يكون الرسول أوصل إليه أكثر من الخمسة التي أقر بها. لكن لما لم يمكِّنْ من أخذ السلعة إلا بزيادة على ما أقر به توجهت اليمين على الرسول لكونه يزعم أنه أغرمه ما لم يأمره به. وكون الرسول يدعي أنه أوصل، جميع العشرة إليه وهو ينكر وصول جميعها إليه، والمرتهن يقول: إني دفعت جميع هذه العشرة إلى الرسول. فتأكد بهذا

استحلاف الرسول. وكان الرسول مصدَّقًا في ذلك مع يمينه، لكون الموكل ائتمنه على ذلك. ولكنه يحلف لإنكار المؤتمن له أنه وفي أمانته. وكذلك لو صدق الرسول الموكل في أنه لم يأمره إلا بخمسة، وزعم أنه لم يرهنها إلا في خمسة، فإن ذلك لا يوجب أخذها من يد من هي في يديه بأقل من قيمتها، كما لا يصدق مالكها إذا تولى رهنه ابن فسه في أنها رهن في دون قيمتها. وحكم يمين الواسطة على ما ذكرناه. وتصديق من هي في يديه، وهي في مقدار قيمتها، إنما ذلك مع يمينه؛ لأن قيمتها كشاهد بصدقه، ومن أقام شاهدأواحدًا فلا بد من يمينه. فإن نكل من هي في يديه عن اليمين حلف الموكل وأخذها، إذا دفع الخمسة التي أقر بها. ثم ينظر في الرسول فإن صدق من هي في يديه أنها في عشرة فإنه يختلف في القضاء عليه للمرتهن بالخمسة التي اعترف أنه قبضها منه وجحده الموكل أن يكون أوصلها إليه، وحلف أنه لم يأمره إلا بخمسة ولم يوصّل إليه إلا الخمسة. كما اختلف فيمن أتى إلى من عنده وديعة لرجل، فزعم أنه أنفذه ليقبضها له فصدقه المودع ودفعها إليه، ثم أتى المودع لها فأنكر أن يكون بعث لقبضها أحدًا، فغرمها المودع، ثم أراد أن يطلب بها من قبضها منه، فقد قيل: لا مطالبة له عليه لكونه قد صدقه في كونه رسولًا لمالكها ولولا ذلك لم يدفعها إليه. وقيل: بل يطالبه بما قبضه منه وكان سببًا في غرامته، لأنه يعتذر بأنه إنما صدقه في ظاهر الأمر لا في باطنه. وإنما صدقه بشرط أن يصدقه مالك الوديعة. فكذلك ها هنا إذا كان المرتهن قد قبل قول الرسول: أن الموكل أمره أن يرهنها في عشرة، وقيمتها خمسة، فحلف للموكل ودفع خمسة وأخذها. فإن الرسول مقر أنه قبض ممن هي في يديه عشرة وأنه أوصلها إلى الموكل. فالخمسة الزائدة على ما أقر به الموكل إنما قبضها الوكيل ممن الرهن في يديه ليوصّلها إلى الموكل. وكأن من بيده الرهن مصدق له أيضًا في أنه لم يكذب على من أنفده فيجري فيه الخلاف المذكور.

وإن كان الرسول إنما صدق الموكل في أن الرهن في خمسة، فإنه لا يمين لمن في يده الرهن على هذا الرسول، لكون الرسول له أن يرد اليمين الواجبة علمِه لمن في يده الرهن. والذي في يده الرهن قد نكل عنه للموكل، فيكون ذلك نكولًا أيضًا في حق الوكيل. ولو اختلف الثلاثة، فقال من هي في يديه: هي رهن في عشرين. وقال الرسول بل في خمسة عشر. وقال المالك: بل في خمسة. وقيمة السلعة عشرة. فإن مَن هي في يديه يحلف أنها في عشرين، ثم لا يصدق إلاّ في عشرة التي هي قيمة الرهن. وإنما يحلف على العشرين إذا شاء مخافة نكول يوجب تصديقه مع يمحِنه في العشرين. ثم لا يمكّن الموكل من أخذها إلا بدفع قيمتها التي هي عشرة، ثم يغرم الوكيل خمسة لاعترافه لمن في يديه الرهن أنه قبضها منه، والموكل يزعم أنه لم يوصلها إليه. هذا هو المنصوص في هذه المسألة. ويتخرج في غرامته لهذه الخمسة من الخلاف ما أشرنا إليه. وإذا كانت قيمة الرهن عشرة، وقال الموكل: هو في خمسة وصدقه الوكيل، ولم يمكن الموكل من أخذها إلا بعد أن يدفع العشرة التي هي قيمتها، فإنه لا مطالبة له على الوكيل، لكونه فرط إذ لم يشهد حتى أوجب على عليه غرامة الخمسة الزائدة على ما يطابق عليه الوكيل والموكل. بخلاف ما تقدم في هذا الكتاب من أن الوكيل إذا أُمِر بأن يبيع سلعة فباعها ودفعها للمشتري فجحد المشتري، إنه ضامن، لكون الوكيل فرط في الدفع بغير إشهاد، لكون هذا، ها هنا، ينسب التفريط فيه أيضًا للموكل، إذ تسلف خمسة وأرهنه فيها ما قيمته عشرة، وهو يعلم أنه شاهد عليه، فصار هو الممكنَ من تصديق من في يديه الرهن وجحوده، فأشبه الوكيل إذا فرط بحضرة الموكل، فإنه لا مطالبة عليه، لكون الموكل لما حضر كالراضي بتفريطه، مع كون ما أسلم إليه من الرهن ليدفعه لغيره قد أقر له من أمر الوكيل أن يدفعه إليه. هذا حكم الاختلاف في الرهن إذا دفعه الواسطة رهنًا على الموكل. وأما لو كان مالكٌ أعارها لرجل ليس في سلف يتسلفه لنفسه، فإن القول

قول المعير في مقدار ما أذن المستعيرَ أن ير هنا (¬1) فيه لأن المستعير كموهوب له والمعير كواهب. والقول قول الإنسان فيما وهب من ماله. ولو كانت قيمة الرهن ها هنا عشرة، والمعير يقول: ما أعرتها إلا على أن يرهنها في خمسة. فحلف المعير وأخذها إذا قبض من هي في يديه خمسة، ثم لا يكون قيمتها حجة على المستعير في أنها رهن في عشرة التي هي قيمتها، لكون المعير لما حلف استحق ارتجاعها فخرجت بذلك عن أن تكون رهنًا. فصار القول قول المستعير في مقدار ما تسلف عليها لكون المسلف له لا رهن بيده يحتج به، والرهن إنما يكون شاهدًا على نفسه على ما سنذكره في كتاب الرهن ونذكر الخلاف فيه، إن شاء الله تعالى. ومما يلحق باختلاف الوكيل والموكل قول الوكيل: أمرتني أن أبيع لك هذه السلعة. وقال ربها: بل بعتها منك. وقد باع هذه السلعة من زعم أنه وكيل على بيعها، فإن ربها يحلف على أني ما وكّلتك على بيعها، ويحلف من زعم الوكيل على أنه لم يشترها، ويرتجعها ربها إن كانت قائمة، وإن فاتت فقيمتها بدل عينها تؤخذ من مُفِيتها، إلا أن تزيد القيمة على ما يدعيه ربها من الثمن فلا يزاد، لاعترافه أنه لا يستحق أكثر من الثمن الذي يزعم أنه باعها به ممن زعم أنه وكله على بيعها. وقد عورض هذا بأن هذا الاختلاف تضمن الاتفاق منهما على أن مشتريها من هذا الذي يزعم أنه وكيل على بيعها، وقد عقد منه شراءها بوجه لازم. فإن كان ربها صدق في أنه باعها، فهذا الذي باعها من هذا المشتري التي تؤخذ من يديه، باع منه ما ملك، وما يلزم فيه بيعه على مقتضى دعوى رب السلعة. وإن كان الذي زعم أنه باعها (¬2) بيع وكالة فلا يسوغ لربها أن ينتزعها من يد من اشتراها من يد وكيله. لكن إنما كان المذهب في هذا ما قدمناه من تمكين ربها من أخذها إذا حلف على صحة دعواه لكونه لم يقر بصحة بيع (هذا الذي زعم أنه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يرهنه .. (¬2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: أنه باعها، باعها بيع وكالة.

وكيل، إلا على أنّ في ذمته ويبيعها على ملكه ويكون للمشتري منه العهدة عليه) (¬1). فإذا لم يحصل هذا لرب السلعقا، بجحود من زعم أنه اشتراها منه عادت إلى ملكه، كمن ادعى على رجل أنه اشترى منه سلعة فأنكر وحلف، فإن السلعة تعود إلى ربها، ثم ينظر في استباحة ربها التصرف فيها أو بيعها في الثمن الذي جحده من اشتراها منه، على ما تقدم ذكره وبيانه، وقد ذكر في المدونة سؤالًا ليس هو من اختلاف الموكل والوكيل، فرأينا أن نذكره ها هنا أيضًا. وقد قدمنا الأصول التي يؤخذ منها حكمه في كتاب السلم. وذلك أنه قال في مشتر اشترى من رجل طعامًا فوجد به عيبًا فأتى ليرده على بائعه؛ فزعم البائع أنه أمسك من الطعام الذي باعه نصفَه. فقال في الكتاب: القول قول المشتري إذا قال: ما اشتريت إلا نصف حمل، وقال البائع: بعتك حملًا كاملًا. كما لو باع منه سلعة فوجد بها عيبًا، فلما ردها يالعيب، قال البائع: قد بعتك معها سلعة أخرى، فلا تستحق قبلي جميع الثمن لأجل ما أمسكت من الصفقة. فصُدق المشتري، ها هنا، لما وجب انتقاض العقد لوجود العيب. وانتقاضه يوجب رد ما قبضه البائع على أنه ثمن المبيع، فيقتضي هذا تصديق المشتري، ويصير البائع مدعيًا على المشتري أنه يستحق عليه مما قبضه منه من الثمن ما قابل المقدار الذي أمسكه المشتري وجحده. وقد كنا قدمنا في كتاب الرد بالعيب أن مذهب أشهب وهو اختيار ابن المواز ما يشير إلى عكس هذا التعليل، وينقلب الأمر فيه حتى يصير المشتري هو المدعي. وذلك أنه قال فيمن باع من رجل ثوبين وفات أحدهما ووجد بالآخر عيبًا، فأتى ليرده ويسترد ما قابله من الثمن، وزعم أنه في القيمة ثلثا الصفقة، وقال البائع: بل هو ثلثها. فصدق أشهب البائع فيما زعم، لكون المشتري مقرًا بأن ذمته قد استقر فيها جملة الثمن استحقها البائع عليه، ويزعم أنه أسقط عنه بعضها، فلا يصدق فيما يدعي سقوطه عنه. كما لا يصدق من أقر بدين وادعى سقوطه بالقضاء. ¬

_ (¬1) يتخلل هذا النص بياض في مواقع يصعب معه فهم النص.

وفرق ابن القاسم في المدونة بين أن يكون البائع قد انتقد الثمن فيصير المشتري مدعيًا عليه رد بعض ما انتقد، فلا يؤخذ البائع بأكثر مما أقر به، ولا يلزم أن يرد إلاّ ما اعترف بوجوب رده. وإن كان البائع لم ينتقد صدق المشتري لكون البائع يحاول تعمير ذمته بما لم يقر به، والأصل براءة ذمته. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أنه يلزمه أن يقول في مسألة العمل ونصف حمل مثل ما حكيناه عنه ها هنا في تفرقته إذا اختلفا في الفائت بين أن يكون البائع قد انتقد وبين ألا يكون قد انتقد. وقد كنا نحن ذكرنا في كتاب الرد بالعيب من تعليل الاختلاف ما يعلم منه وجه الحكم في مسألة كتاب الوكالات. وذكر في المدونة في كتاب الوكالات أن المشتري لو ادعى ما لا يشبه فإن البائع يصدق في أنه لم يبع منه إلا حملًا كاملًا. لكنه وإن كان الأصل عنده تصديق المشتري لأجل ما اعتللنا به فإنه تصير دعواهُ ما لا يشبه كقيام شاهد بكذبه، فيصير القول قول البائع ها هنا كمدع قام له شاهد. ولكن طرد هذا: أن يمنعه البائع من رد نصف العمل إذا حلف أنه ما باعه إلا حملًا كاملًا، لأن استحقاق نصف الطعام يوجب لمن استحق من يديه رد ما لم يستحق. وكذلك البائع ها هنا من حقه أن يُمنع من رد نصف ما باع مع استمساك المشتري بالنصف الآخر. لكنه في المدونة استحلف المشتري على صحة ما يقول ليمكن من الرد الذي زعم أنه ما اشترى سواه. فجُعل هذا كحكم بين حُكْمين. لأن تصديق البائع يقتضي أن يمنع من رد نصف العمل إليه، بل يلزم المشتري إذا رد بالعيب أن يرد نصف العمل الذي جحده. وتصديق المشتري في أنه ما اشترى إلا نصف حمل يوجب أن يرتجع جميع الثمن، لكنه صدق البائع في مقدار ما يرد من الثمن خاصة دون منع المشتري من رد النصف حمل، وإسقاط النصف حمل الآخر. وصُدق المشتري في إسقاط النصف حمل عنه وتمكينه من رد ما زعم أنه جميع صفقته فاستُصحِب حال كون البائع مستحقًا لجملة الثمن، فلا يُرَد منه إلا ما أقر بوجوب رده، واستُصحب براءة ذمة المشتري من غرامة طعام لم يقر أنه

صار إليه من البائع، لكون دعوى ما لا يشبه ها هنا لم يتضمن أكثر من كون الثمن لا يشبه أن يكون ثمنًا لنصف حمل، ولكن ما ينضاف إلى هذا النصف حتى تكون جملة الثمن الذي اتفقا عليه بعضه ثمن له لا يدري ما هو نصف حمل آخر أو سلعة أخرى. وهذا كما قيل في كتاب الأكرية من المدونة: إذا اختلف رب الدابة ومكريها في المسافة، وادعى ربها ما لا يشبه أن يكون ما اتفقا عليه من الثمن المسافةَ التي أقر بأن العقد وقع عليها، فإن المكتري إنما يصدق في مقدار ما ينوب ما اعترف اليائع به من المسافة من جملة الثمن، لا في إلزام رب الدابة إيصاله إلى المسافة التي يدعيها، لكون ما ينضاف إلى المسافة التي يقر بها البائع يمكن أن يكون ما قاله المكتري ويمكن أن تكون سلعة أخرى، ولا يؤخذ رب الدابة بأكثر مما أقر به في ملكه، ولا يصدق المكتري في سقوط ثمن أقر بحصوله عليه وقد ادعى ما لا يشبه فيه. وقد ألزم من أسلم إليه في طعام واختلف هو ومن أسلم إليه في مقدار الطعام، وادعى المسلم إليه ما يشبه، أن يغرم ما ادعى المسلم إليه، فأخْذه بدعوى من له السلم، وإن كان من عليه السلم يقر أنه باع المقدار الذي ادعاه من له السلم. وهذا كالمناقض لما قلناه ها هنا في مسألة الحمل ونصف حملٍ في مسألة الأكرية. لكن اعتذر عن هذا بما بسطناه وأشرنا إليه في كتاب السلم.

كتاب بيع الغائب، والغرر

كتاب بيع الغائب، والغرر

بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمَّد وعلى اله وصحبه وسلم تسليمًا. كتاب بيع الغائب، والغرر قال القاضي أبو محمَّد، رضي الله عنه: المبيعات ثلاثة أنواع: 1 - عين حاضرة مرئية. 2 - وعين غائبة عن المتعاقدين، فيجوز بيعها على الصفة، ويجب أن تُحصَر بالصفات المقصودة التي تختلف الأثمان باختلافها، وتقلّ الرغبة وتكثر لأجلها. ولا يكتفي بذكر الجنس والنوع فقط. ولا يجوز بيعها بغير صفة إلا أن يكون على رؤية متقدمة من وقت لا تتغير في مثله إلى وقت العقد. ولا خيار للمبتاع إذا جاءت على الصفة أو على ما يَعرِف من الرؤية (¬1). إلا أن يشترطه على المشتري في ظاهر المذهب. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. وفي النصّ نقص تمامه من التلقين في غ والغاني [وله الخيار إن جاءت على دون الصفة. وضمانها من البائع إلا أن يشترطهُ ...].

1 - هل يجوز البيع على صفة المبيع دون مشاهدته؟ 2 - وهل يجوز البيع على غير صفة ولا رؤية؟ 3 - وما حكم الضّمان في البيع االّذي لم يشاهد؟ 4 - وهل يجوز تحويل محلّ الضّمان فيه؟ 5 - وما حكم اختلافهما فيما وقع العقد عليه من صفات المبيع؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: المبيع على قسمين: مبيع معيّن مشار إليه في الوجود، ومبيع موصوف في الذمّة. فأمّا بيع المعيّن المشاهد الّذي أحاطته رؤية المتعاقدين فلا خلاف في جواز العقد إذ قارن ذلك الرؤية والمشاهدة. (فإن تقدمت الرؤية والمشاهدة العقد) (¬1) فلا يخلو أن يكون تقدم ذلك بزمن يعلم فيه تغيّر المبيع في مقتضى العادة أو يشك في ذلك أو يتحقق أنه لا يتغيّر. فإن كان يتحقق تغيّره وعُقد البيع على لزومه على أي حال وجد حين القبض فلا خفاء بفساد ذلك، لكون المشتري اشترى مبيعًا مجهولًا. وإن كان يشكّ في ذلك، ولا يدري هل هو وقت العقد على مثل ما تقدمت المشاهدة له، أو على خلاف ذلك من زياذة أو نقصان، وعقد البيع على اللّزوم على أيّ صفة كان، فإنّ هذا لا يشك في فساده لكون العقد وقع على مجهول. وإن كان يعلم أنّه لا يتغيّر في ذاته من حين المشاهدة إلى حين العقد، فالعلماء على جواز ذلك. لكن أبا القاسم الأنماطي من أصحاب الشافعي ذهب إلى فساد هذا العقد، ورأى أن مشاهدة المبيع حين العقد شرط في صحته وجوازه. وهذا مذهب فيه غلوّ وإسراف. وقد ذكر أن أبا سعيد الأصطخري ناظر رجلًا نصر مذهب الأنماطي، فقال له: أرأيت لو شاهد المشتري دارًا وأحاط بها ¬

_ (¬1) بين القوسين ساقط من (و).

علمًا، ثم خرج منها فعقد شراءها وهو قائم على بابها يجب على هذا المذهب أن يكون العقد فاسدًا؟ فالتزم له هذا الرجل فساد العقد. فقال له الأصطخري: لو كان خاتمًا في إصبعه فنقله إلى كله وأطبق يده عليه، هل يُفسد البيعَ عدمُ الرؤية عند العقد؟ فقال: نعم. فقال له: لو عقد الدّار وهو بوسطها وقد شاهد جميعها؟ فوقف له على التزام ذلك، لأنه لو التزم هذا لم يصحّ بيع دار ولا أرض، ولا يخفى فساد هذا لو التزمه على أحد. وعزا الأنماطي في هذا المذهب كون المذهب عندهم اشتراط الشهادة في جمقد النكاح، وإذا كانت الشهادة شرطًا في صحة النّكاح فإنّهم يقولون: لا بدّ أن يقارن العقد، وكذلك الرؤية، لمّا كانت شرطًا في صحّة بيع المبيع الحاضر، وجب أيضًا أن يقارن العقد .. وهذا فرع لا يناسب أصله؛ لأنّ القصد باشتراط الشهادة للعقد لأنّه يستحيل تقدّمها له، لأنّها إن وقعت على أنّ العقد وقع فلا يقال: تقدّمت. وإن تقدّمت على أنه سيفعل فيما بعد ذلك فذلك وعد بالعقد لا عقد. وإن وقعت الشهادة بالعقد بعد العقد فقد مضى زمن لم يحصل فيه المقصود من النكاح، ولا يمكن القدوم عليه وهو آمن من الحدّ، فلهذا اشترطوا مقارنة الشهادة للعقد من ذهب إلى هذا. وأمّا الرّؤية للمبيع فالقصد بها كون المبيع معلومًا، والعلم به يحصل على حالة واحدة سواء قارنت الرّؤية العقد، أو تقدّمته بزمن قريب يعلم قطعًا أنه لو أعاد بصوه إليه لم يتغيّر منه شيء عليه. وأمّا بيع ما ليس بعين يشار إليه، فالتمييز في الوجود ولكنه العقد على موصوف في الذمّة، فهذا هو السّلم. وقد تقدّم في كتاب السلم ذكر الدّليل على جوازه، والعلّة في جوازه أيضًا، ولا خلاف فيه على الجملة، وأشرنا إلى أن الاقتصار به على الصفة مِمّا تدعو الضرورة إليه، لأنه لو كان عينًا موجودًا لم يصح السّلم فيها، بك يكون العقد على هذه العين المعينة بشرط ضمانها إلى أجل إن هلكت قبله أتى البائع بمثلها. وقد بئنّا هناك ما في هذا من الفساد، فإذا إستحال هذا الوجه لم يبق بعده إلاّ الاقتصار على موصوف في الذمّة فلهذا أجمع على جواز السّلم.

وأمّا بيع عين يشار إليها بالتمييز في الوجود من غير مشاهدة بل يقتصر فيها على الصّفة، فإنّ ذلك لا يخلو من أن يكون هذا المبيع سلعة حاضرة بين أيدي المتعاقدين يمكن النظر إليها والإحاطة بها بِالمشاهدة لها جملة وتفصيلًا من غير مشقة تلحق في ذلك، أو لا يمكن ذلك إلا بعد مشقة. فأما إن أمكن ذلك من غير مشقة لكونه ثوبًا مطويًّا بين أيدي المتعاقدين غير مستور بشيء ولا كلفة في نشرِهِ، فإنّ هذا، المعروف من المذهب أنّه لا يجوز العقد فيه على (¬1)، والعدول عن المشاهدة له على الجملة والتفصيل إلى الاقتصار على الصفة مخاطرة وتغرير وضرر لم تدع حاجة إليه. وقد اشتهر أنّ الخبر ليس كالمعاينة، ونحن نجد من أنفسنا أنّ الشّيء يوسف لنا ويجتهد الواصف له في البيان عنه وعن صفاته، فإذا وقع البصر عليه قصر عمّا تحمّلته النّفسُ منه من الخبر، أو زاد على ذلك. وهذا يقتضي كون العدول عن النّظر إلى الخبر غررًا في البيع. وقد رأى بعض أشياخي أنّ المذهب في هذا على قَولين، تعلّقًا منه بما وقع في المستخرجة فيمن قال: أبيعك كذا وكذا ثوبًا في صندوقِي هذا. ووصف المبيع لِلمشتري، وسلّمه إليه. فلمّا غاب عليه زعم أنّه لا يوافق الصّفة التي سمعها من البائع، أنّ المشتري لا يصدّق في هذا بعد غيبته عليه، والبيع لازم له. وهذا الذي تعلّق به من هذه الرّواية قد لا يسلم له لإمكان أن يكون فَتْح التَّابوت وإخراج ما فيه من الثياب وتقليبها واحدًا واحدًا، ثم ردّها إليه، فيه مشقّة، وربّما غيّر رَوْنق المتاع، فلهذا أجازه ها هنا كما يجيز بيع البرنامج. وكذلك لو كان الثوب المبيع مخبّئًا في وعائه، كساج في جرابه، فإن المذهب فيه على قولين في كتاب ابن الموّاز. وهذا أيضًا يمكن أن يكون إنما أجازه في أحد القولين لكون إخراجه من جرابه يفسد رونقه، وقد يشق إخراجه وإعادته، فأشبه ذلك بيع البرنامج، فيكون على هذا التأويل مَا لا يشقّ النظر إليه لا يختلف في منع بيعه على الصّفة لكون الصّفة لا تحلّ محلّ العيان، والعدول ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: على [الصفة].

عنها مع القدرة عليها من غير كلفة غرر وجهالة بالمبيع، فأشبه ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع الملامسة (¬1). وهو الاقتضار في الثوب المطوي على لمسه خاصّة دون أن يوسف باطنه. ولكن هذا أوضح في الغرر والخطر لعدم الوصف له على التفصيل. وإذا كانت الصّفة لا تحلّ محلّ العيان صار تركها يقتضي العقد على مبيع مجهول، لا سيّما لو كان العقد على جارية فإنّ هذا لاخفاء بأنّ للمشاهدة من الاستحسان أو الاستقباح ما لا يوجد في الخبر أو الصّفة. وأما إن كان هذا الحاضر مشدودًا في عِدل كما يشدّ التجّار أصْنَاف المتاع في الأعدال العظيمة ويقتصرون في بيع ما (¬2)، على ما أثبتوه في البرنامج من عدد كل صنف مما اشتمل العدل عليه وصفاته، فإن المذهب في هذا على قولين، المعروف منهما والمشهور جواز العقد على ذلك مقتصرًا فيه على الصفة دون المشاهدة. وقد أشار مالك رضي الله عنه في الموطّإ إلى كون هذا متّفقا عليه عندهم، ولم يزل النَّاس يجيزونه عندهم. وهذا لاتّضاح المشقة فيه، وكون العدل إذا حلّ رباطه ووقف على ما فيه ثوبًا ثوبًا، بعد النّشر لكل ثوب، ثمّ يطوى ويعاد جميع ذلك إلى العدل ويشدّ، فإنّ هذا تُتكلّف فيه المشقة الشديدة، وقد يفسد رونق المتاع ويهجن منظره. فلهذا كان المعروف من المذهب جواز البيع في هذا. لكن ابن شعبان ذكر في مختصر ما ليس في المختصرًا نه لا يجوز البيع على البرنامج ولا سلعة غائبة على مسيرة يوم، وكأنّه رأى أنّ المشاهدة والرّؤية في هذا ممكنة ولا تبلغ المشقّة فيه إلى إباحة ركوب الغرر والاقتصار على الخبر دون المشاهدة والنظر. وكذلك قدّر في مبيع على مسافة يوم من مكان المتعاقدين إن إحضار ذلك لا يشقّ مع قرب هذه المسافة (يوم) ولا تبلغ المشقة فيه إلى العفو عن هذا الغرر الذي هو الاقتصار على الخبر دون المشاهدة والنّظر. ¬

_ (¬1) متفق عليه. الهداية: 7/ 246. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويقتصرون في بيعها.

وأمّا بيع عين غائبة على مسافة مفرطة في البعد جدًّا حتى يكون العقد على تلك العين التي في أقطار بعيدة لا يكاد أن يحصل منها وتعرف حقيقتها فإن (¬1) لا يجوز. وأمّا ما قصر عن ذلك وارتفع عن القرب القريب الذي ذكره ابن شعبان فإن عندنا جواز البيع على الصفة. ويجب أن تذكر الصفات المقصودة التي تختلف الأغراض فيها والأثمان باختلافها، لأنّ ذكره ما سوى هذا من الأوصاف لا يرفع الغرر، لأنّ المشتري يجوز أن يكون ما لم يوسف له من أوصافها جيّدًا ويجوز أن يكون رديًا، والعقد على التزام ذلك على أيّ حال كان من هذا غرر وخطر، فإذا استوفى ذكر الأوصاف التي تختلف الأغراض فيها فقد اجتهد في رفع الغرر، لكن هذا وإن بالغ فيه فإن للمشاهدة زيادة في الاستحسان والاستقباح وتقوية الأغراض وضعفها، على ما علم من جهة الوصف والخبر. لكن لأجل هذا التقصير الذي وقع عن المعاينة اختلف النّاس في هذا البيع هل يجوز أم لا؟ فذهب الشّافعي في أحد قوليه إلى منع جوازه. وذهب أبو حنيفة إلى جوازه ونَفَى لزومه، وجعل المشتري الذي إنّما علم حقيقة المبيع من الوصف له الخيار إذا رآه. وأنت قد علمت أنّ للبيع أوصافًا وأحكامًا، فمن أوصافه الجواز والمنع، ومن أحكامه اللّزوم والانعقاد والخيار، فسلبه الشافعي ها هنا في أحد قوليه الجواز والصحّة. ولا شكّ أنّ ما انتفى عنه الصحّة والجواز انتفى عنه اللّزوم. فالوصفان جميعًا قد سلبا عنه عند الشافعي في أحد قوليه. وذهب مالك إلى ثبوت الوصفين جميعًا لهذا البيع وهما الصحّة والجواز واللّزوم، فإذا عقد هذا البيع ووجد المبيع على الصفة المشترطة لزم المشتريَ البيعُ. وذهب أبو حنيفة إلى نفي أحد الوصفين عنه، وهو اللّزوم والانعقاد، وأثبت الصحّة والجواز، وجعل للمشتري الخيار إذا رآه، وقد عقد على الصفة، ووجد المبيع على الصفة المشترطة. لكنّ أبا حنيفة توسّع في هذا، وذهب إلى أنّه يجوز العقد في هذا على الجملة وإن لم يذكر الجنس والنّوع، بشرط أن يشار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: فإنه.

في حال الانعقاد للبيع إلى عين متميّزة بالمكان، مثل أن يقول: بعتك ما في صندوقى أو ما في يدي، أو ثوبًا (أي جزني) (¬1) بالبصرة، أو ما في دار (¬2) ببغداد، فإن هذا يجوز عنده ويكون للمشتَري إذا اطلع عليه ورآه الخيار في التزام هذا البيع أورده. بخلاف أن يقول: بعتك ثوبًا، ولا يشير إلى مكان يدلّ على التعيين والتمييز، فإن هذا يلحق بالسّلم في غير شيء موصوف، فيفسد. ولهذا جاز بيع ثوب من أحد ثلاثة أثواب على خيار المشتري لأحدها لما أضيف هذا التخيير إلى تعيين، ولو كانت أثواب أربعة لم يجز ذلك، وإن حصل فيه ما صوّره من التّعيين، لأنّ البيع لثوب من ثلاثة غرر، والقياس منعه، لكن يستحسن جوازهُ لقلّة الغرر. وكما أنّ الأصل عنده منعه بيع الخيار على الجملة لما فيه من غرر، ولكنّه أجيز منه خيار ثلاثة. أيام لخفّة الغرر فيها، ومنع اشتراط أربعة أيام لشدّة الغرر فيها. وأيضًا فإنّ الثلاثة من العدد تشتمل على الثلاثة من الأوصاف ائتي لا دافع لها، وهي كون الشْيء، جيدًا أو دَنِيئًا أو وسطًا. وهكذا كل جنس من أجناس المبيعات له طرفان وواسطة. فالثلاثة أثواب قد تشتمل على الثلاثة أوصاف من غير تكرير، وما زاد على هذا من العدد قد تكرّر فيه بعض هذه الأوصاف فيشتدّ الغرر، فلهذا أجاز بيع غائب أشير إليه بالتمييز على الجملة الدّالة على كونه عينًا موجودة، بخلاف ما لا يشير إليه بذلك بل يشار إليه بكونه سلماَّ فَي الذمّة. وعلى هذا الأسلوب اختلف أصحاب الشافعي أيضًا على قولين بناء على أحد قولي الشافعي في جواز بيع الغائب هل يكون خيار الرّؤية ثابتًا للمشتَري خاصّة والعقد في حقّه موقوف على اختياره ولازم للبائع أو يجوز أن يكون خيار الرّؤية لهما جميعاَّ مَثل أن يكون البائع ورث سلعة لم يرها فباعها على الضفة ثم رآها هو والمشتري بعد العقد. قال بعضهم: يكون الخيار للبائع في إمضاء البيع إذا رأى المبيع كما يكون ذلك للمشتري. وقال بعضهم: لا يجوز عقد هذا البيع ¬

_ (¬1) كذا بالأصل، ولعل الصواب: عندي. (¬2) كذا بالأصل، ولعل الصواب: داري.

لكثرة الغرر فيه. وكأن البائع وصف ما لم يره، وإنّما وصف عن وصف آخرَ له. وهذا يقتضي كثرة الغرر في هذا البيع ففسد. العقد فيه. بخلاف أن يكون الخيار للمشتري خاصّة دون البائع، جريًا مِمّن قال بهذا على ما قدّمناه من اعتبار خفّة الغرر وثقله وشدّته. فأنت ترى نكتة هذه المذاهب وهي الالتفات إلى كون المعاينة للشيء والمشاهدة تفيد فيه زيادة على ما يستفاد من الخبر عنه، وهذا لا يكاد يختلف فيه على الجملة في أجناس من المبيعات. فإذا علم أنّ المبيع من شرطه أن يكون معلومًا، وكونه مجهولًا يؤثر فيه فسادًا فهل هذا التقصير عن بلوغ الكمال في العلم به يلحقه بالمجهول بالكلية فيفسد البيع، كما قاله الشافعي في أحد قوليه، ويسلبه (¬1) اللّزوم دون الصحّة كما قال أبو حنيفة، أو لا يبلغ هذا التقصير عن الكمال في العلم به إلى إلحاقه بالمبيع المجهول فيصحّ البيع ويلزمه كما قال مالك رضي الله عنه، فهذا سرّ هذه المذاهب الثلاثة. وقد كشفنا عن ذلك وإنّما يبقى بعد ذلك النظر في استدلالات من قياس أو أثر يقتضي صحّة مذهب دون مذهب. فأمّا الظواهر فإنّه يتعلّق من يجيز البيغ بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ} (¬2). وهذا بيع يقتضى عموم الآية جوازَه. وقد ذكر ابن سحنون في ردّه على الشافعي أنّ ما ورد في الحديث المذكور فيه بيع الملامسة من نهيه عليه السّلام عن بيع السّلع لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها، يقتضى دليل الخطاب فيه أنهم إذا أخبروا عنها لم يُنْهَ عن عقد البيع فيها. وأيضًا فإن عثمان بن عفّان رضي الله عنه وعبد الرَّحمن بن عوف تبايعا فرسًا غائبة، وكذلك تبايع عثمان وطلحة رضي الله عنهما أرضًا غائبة، فقيل لعثمان إنّك غبنت. فقال: لا أبالي، لأن لي الخيار. وحكم بينهما جبير بن مطعم، ولم ينكر أحد من الصحابة عليهم هذه البيوع. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: أو. (¬2) سورة البقرة، الآية: 275.

وأيضًا فإنّ الأمّة أجمعت على جواز السّلم، والذي يسلم فيه غير مرئي وإنّما هو موصوف، فلولا أنّ الوصف للشيء يحلّ محلّ عيانه ما جاز السّلم فيه. ولهذا لم يجز السّلم فيما لا تضبطه الصفة. ولو كانت الرّؤية شرطًا في صحة العقود على المبيعات لم يجز النكاح إلاّ بعد رؤية الزّوجة، وقد قال عليه السّلام: لا تصف المرأة المرأة لزوجها كأنّه يشاهدها (¬1). فأشار إلى كون الوصف يحلّ محلّ المعاينة. وإذا كانت المعاينة تُبيح العقد فكذلك ما أحلّه صاحب الشّرع محلّها. هذه نكت من صار إلى جواز بيع الغائب على الصفة. وأمّا من منع منه فإنه يتعلّق بأنه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الغرر" (¬2). والاقتصار على الوصف دون المشاهدة غرر. وينفصل الآخرون عن هذا بأنّهم لا يسلمون كونه غررًا وإذا لم يسلّموه لم يلزم إثبات كونه غررًا، ولا يثبت ذلك مع ما قدّمناه من الأحاديث الدّالة على كون الخبر يحلّ محلّ المعاينة. واحتجّوا بأنّه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع ما ليس عندك" (¬3) والسّلعة الغائبة ليست عند بائعها. فاقتضى هذا الحديث منع العقد عليها. ويجيب الآخرون عن هذا بأنّ المراد ما ليس في ملكك ليس ما هو في ملكك غائب عنك، ألا تَرى أنّ ما لا تملكه لا يجوز بيعك فيه، ولو كان عندك. ودليل الحديث أنّ ما عندك يياع سواء كان ملكك أو ملك غيرك. والنّكتة التي يعول عليها عندهم في فساد العقد الاتّفاق على أنّ من شرط المبيع أن يكون معلومًا وطريق العلم ها هنا في المبيعات الرؤية لا الخبر، لأن خبر الواحد إنّما يفيد ظنًّا. ولو فرض ها هنا أخبار متواترة عن الوصف لم يحصل العلم بحقيقة المبيع الذي يحصل عن الرؤية. وكون المبيع عليها لم يتغيّر، ولو كان عليها حين العقد لأمكن أن يتلف العين بعد العقد وقبل القبض. وهذا الإمكان يرفع العلم وإذا ارتفع العلم صار المبيع مجهولًا وهذه النكتة قد فرغنا نحن من الجواب عليها فيما مضى. وينفصل عن ¬

_ (¬1) فيض القدير 6/ 385 حد. 9723. (¬2) الموطأ: 2/ 124. حد 1941. (¬3) البغوي: شرح السنة: 8/ 140. حد: 2110.

القياس على السّلم بأن البيع في السّلم في الذمّة ليس بمعين ولو عقد الأمر فيه على التعيين لفسد، لأنّ السّلم في الاعيان لا يصحّ، فلم يبق طريق إلى هذا المبيع يتوصل إليه إلاّ الوصف. وأمّا النكاح فإنه لا يشترط فيه الصفة كما لا تشترط الرؤية فلا يصح إلحاقه بالمبيعات ائتي لا تصح إلاّ بالرؤية أو الصّفة. وعلى هذا الأسلوب يجري بيع الأعمى وشراؤه فإنّه إن عمي بعد أن كان أبصر أجناس المبيع وصفاته حتى يتخيّله بالوصف كما يتخيّله بالبصر فان عقده جائز. وإن كان خلق أعمى فإنّ أبا جعفر الأبهري منع عقده في المبيعات لكونه لا يتخيّل الموصوفة يحل (¬1) الوصف. وأجازه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب تقريرًا منه أن الوصف قد يتصوّر فيه الموصوف على الصّفات الّتي يرغب التجّار فيها ويزهدون فيها. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أمّا خيار الرؤيّة فلا يخلو من قسمين إمّا أن يثبت حكمًا أو يثبت شرطًا. فأمّا إثباته حكمًا فلا شكّ في أنّ المبيع إذا وجد مخالفًا للصفة الّتي وقع العقد عليها فإنّه غير لازم للمشتري، وله ردّه على البائع، كما يردّ المبيع بعيب اطّلع عليه لم يبيَّن له حين العقد، لكونه خلاف ما دخل عليه. وأمّا إن وجد المبيع الغائب مطابقًا للصفة التي وصف بها فإنه لا خيار للمشتري لأنّ الوصف يحلّ محلّ المعاينة، كما وصفنا، وإذا لم يكن له خيار بعد أن عاين فلا خيار له إذا أخبر ووَجد المخبرَ عنه على ما هو عليه مِمّا تضمّنه. وذهب أبو حنيفة إلى أنّ للمشتري خيار الرّؤية، كما قدّمناه عنه، لأجل أن الوصف يقصُر عن العيان فلا بدّ لهذا التّقصير من تأثير. ففقد العين المبيعة يؤثر منع العقد على البيع، والتقصير في الوصف يفيد نفي اللّزوم، لأنّ الوصف تابع للعين، فإذا أفاد فقدُ الأصل منعَ العقد وجب أن يكون فوت بعض الوصف وهو ما قصر عن العيان يعيد نفي اللّزوم، حتى يكون التّابع أفاد نفي اللزوم، والمتبوع ¬

_ (¬1) بياض بالنسختين، ويصح الكلام: بمجرد.

أفاد نفي العقد. وتعلّقوا في هذا بما رواه أبو هريرة من أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ابتاع شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه" (¬1) وهذا نصّ فيما قلناه. لكنّ الدارقطني طعن في بعض رواة هذا الحديث. وقال: إنّه كان وضّاعًا للحديث. وقد اتفق على مطالبة المشتري بحكم العيب إذا اطَّلَع عليه، ومعنى اطلاعه على العيب أنّه علم فوت وصف من البيع فكان الخيار له. وكذلك يكون له الخيار إذا فاته الوصف الذي بين المعاينة والخَبْر، ولا يؤثّر الاطلاع على العيب فسادًا في العقد لفوت هذا الوصف، فاقتضى هذا أنّ بيع الغائب لا يفسد، كما لا يفسد عقد البيع إذا اطّلع في المبغ على عيب فات المشترىَ حين العقد العلمُ به. وإنّما يثبت له الخيار. فهكذا يكون حكم الغائب. ورأيتّ بعض أصحاب الشافعي حرّر قياسًا يمنع فيه من المناقضة بثبوت الخيار عند إلاطّلاع على العيب: بأنّ المبيع ثبت فيه خيار جملة النّقص، ولا يثبت في كل مبيع. وتحرز بهذا التقييد من أن يناقض بثبوت الخيار من جهة الاطلاع على العيب، وتحرّز بقوله: لا يكون في كل مبيع، من المناقضة بخيار المجلس، فإنّ المتعاقدين بالخيار ولو طال مجلسهما، وأمر افتراقهما غير محدود بطول أو قصر، ومع هذا فإنّ الخيار قد ثبت فيه لكل واحد من المتعاقدين، ولم يمنع من ذلك جهالة الأمر فيه، بخلاف خيار الرّؤية في بيع الغائب فإنّه خيار إلى أمد مجهول وإلى أمد طويل، والجهالة بأمر الخيار وطول زمانه تفسد العقد، فلو ثبت خيار الرؤية في بيع الغائب لوجب فساد العقد لطول أمد الخيار، والجهالة بمقداره. ولمّا ردوا على أبي حنيفة مذهبه بأنّ ثبوت خيار الرؤية يجب أن يُفسد العقد، ناقضهم أصحابه بما أثبتوه من خيار المجلس. فاعتذر بعضهم بهذا الذي أشار إليه في تقييد قياسه: أنّ خيار المجلس يثبت في كل مبيع، وخيار الرّؤية في بيع الغائب لايثبت في كل مبيع. وانفصل بعض أصحاب الشافعي بانفصال آخر وهو إن خيار المجلس ¬

_ (¬1) السنن الكبرى للبيهقي: 5/ 268.

عندهم لو رضي من له الخيار بإسقاطه لسقط. والخيار الذي أثبته الشّرع في بيع الغائب لو أسقطه المشتري والتزم البيع من غير خيار قبل أن يراه لم يصح رضاه، فاقتضى هذا كون إثبات خيار الرّؤية يفسد العقد لما كان لا قدرة للمتعاقدين على إسقاطه والتزام العقد في الحال، وبخلاف خيار المجلس. وأمّا العقد على المبيع الغائب من غير رؤية تقدّمت ولا وصف له لكنه اشترط فيه خيار الرّؤية، فإنّ المعروف من المذهب عندنا جواز هذا العقد على حسب ما ذكره في المدوّنة. وذهب ابن القصّار والقاضي أبو محمَّد إلى منع هذا العقد، وأنكره أيضًا أبو بكر الأبهري. وقال:. إنه خلاف الأصول. تقديرًا من هؤلاء الذّاهبين إلى هذا أنّ أمر الخيار مجهول، والجهالة تقتضي فساد العقد، على حسب ما قدّمناه وبينّا ما قيل فيه من المناقضة والعذر عنها. والجواب عن السّؤال الثالث أن يقال: اختلف المذهب في ضمان المبيع الغائب إذا كان العقد صادفه سالمًا ثم هلك بعد العقد أو فسد. فعن مالك في ذلك ثلاث روايات: إحداها أنّ ضمانه من مشتريه في سائر أجناس المبيعات. والثانية، التي رجع إليها، أنّ ضمانه من بائعه وهو اختيار ابن القاسم لكن هذه الرّواية ذكرها ابن الموّاز على الإطلاق ولو كان المبيع عقّارًا. وذكرها في المدوّنة وهي على التقييد، بأن لا يكون المبيع عقّارًا. وذكر ابن القاسم أنّه لم يختلف قول مالك وأصحابه في كون العقّار ضمانه من المشتري. وهكذا ذكر ابن حبيب أنّه لم يختلف قول مالك وأصحابه في كون العقار ضمانه من المشتري. لكن ابن الموّاز ذكر عنه كون الدّار الغائبة ضمانها من البائع. وألحق ابن حبيب بالعقار ما قربت غيبته من حيوان أو عرض أو طعام، ورآه في ضمان المشتري كالعقار. فتلخص من هذا أربعة أقوال: كون الضمان من البائع على الإطلاق، أو على المشتري على الإطلاق، أو كون العقار من المشتري، وما سواه من البائع ولو كان قريب الغيبة. أو كون العقار من المشتري وما سواه من المشتري أيضًا

بشرط أن يكون قريب الغيبة. والنكتة المعتبرة في هذا أنّه قد تقرّر كون المكيل والموزون ضمانه من بائعه لمّا كان غير معلوم مبلغُ المبيع إلاّ بالكيل والوزن، وكون البائع عليه توفية المبيع، فإذا لم يوفه لم يستحقّ العوض. وكون العروض الّتي يمكن منها مشتريها ضمانها من مشتريها لكون البائع قد فعل ما عليه من التّوفية، وهو التّمكين منها. واضطراب المذهب فيما ليس فيه توفية بكيل ولا وزن ولا عدد وهلك عقيب العقد قبل أن يمضي زمن يمكن فيه تسليم ذلك لمشتريه. هل يكون ضمان ذلك من بائعه أو من مشتريه، على قولين. ومن ذلك أيضًا المكيال (¬1) ثم يتلف في يد بائعه قبل مضي زمن يمكن فيه تسليمه لمشتريه. فتارة قدّر أنّ فائدة البيع انتقال الأملاك وتمكين كلّ واحد من المتعاقدين من البدل. فإذا لم يحصل ذلك فكأنّ حقيقة البيع لم تحصل فكان الضمان من البائع. وتارة قدّروا أنّ البيع ينعقد بالقول وينتقل الملك به، والضّمان تابع للملك فوجب أن يكون من المشتري. وقد احتجّ القاضي أبو محمَّد عبد الوهّاب، رضي الله عنه، في غير كتابه هذا لهذا القول بأنه قال عليه السّلام: "الخراج بالضمان" (¬2) والخراج بالعقد للمشتري دون اعتبار ذهاب قدر التّسليم. وهذا الذي ذكره القاضي أبو محمَّد في الخراج، وأشار إلى الاتفاق عليه. كان بعض أشياخي يرى أن ذلك يجري على الاختلاف الذي وقع في الضّمان. فمن رأى أنّ الضّمان من البائع جعل الغلّة له. وهكذا يرى في المحتبسة بالثّمن. والذي يؤكّد طريقة شيخنا هذا قوله في المدوّنة لما ذكر الخلاف في ضمان الغائب فقال: النّماء والنّقص على القولين. فأنت تراه أثبت الخلاف في النّماء، والخراج نماء. فهذا يحقّق ما قاله شيخنا ومقتضاه أن المبيع الغائب إذا بيع على صفة فتبدّل إلى ما هو أعلى وأرفع، أن يكون للبائع الخيار في فسخ البيع لأجل الزيادة الحادثة في المبيع بعد العقد على القول أنّ الضّمان منه، كما يكون ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المكيل. (¬2) فيض القدير: 5/ 503. حد: 4130.

للمشتري الخيار إذا نقص المبيع الغائب بعد العقد في ردّه وفسخ العقد. لكن بعض المتأخّرين سلك هذا المسلك في زيادة أو نقص خرجا عن العادة. وأمّا ما جرت العادة به من تغيير نقض أو زيادة فإنّه لا مقال للمشتري فيه ولا لليائع، لكونهما دخلا على المعتاد في ذلك. هذا على تسليم هذه الرّواية على ظاهرها. وأما على ما أشار إليه سحنون فإنّه حمل قوله: والنماء، على القولين جميعًا في عبد بيع ثم ملك مالًا بعد العقد، وهو في ضمان البائع، فإنّه يحسن عنده تصوّر الخلاف في هذا لكون المال شيئًا مميّزًا عن العبد يصحّ صرفه إلى أحد المتعاقدين مع ثبوت العقد في العبد على ما هو عليه. بخلاف نماء الأبدان وزيادة الصفات. وأظنّه أنه قد قيل أيضًا: إنّ النّماء والنقص المشار إليه في المدوّنة ها هنا محمول على زيادة الأسواق ونقصها. وهذا التأويل، إذا حملت الرّواية عليه، أوضح وجهها لكون الأسواق لا تثبت غالبًا على حال فكأن المتعاقدين دخلا على اطراح الالتفات إليها. فإذا تقرّر اضطراب المذهب في اعتبار قدر التّسليم فإنّ المبيع الغائب لا يمكن تسليمه عقيب العقد لأجل غيبته. وإذا لم يمكن ذلك فيه كان سبب الخلاف فيه ما أشرنا إليه من اضطراب المذهب في مراعاة اعتبار قدر التّسليم. وهذا التعليل يقتضى صحّة ما نقله ابن الموّاز من كون الدّار الغائبة إذا بيعت كالعروض الغائبة إذا بيعت، لكون التّسليم يتعذر في الجميع. ويقتضى هذا التّعليل أيضًا كون المشتري إذا تراخى عن الخروج لقبض الغائب تراخيًا خارجًا عن العادة حتى يذهب الزمن الذي يعلن فيه قبض المبيع فإنه يسقط الضمان عن البائع حينئذٍ، ويصير كالعروض الحاضرة إذا بيعت ومكّن البائع مشتريَها من قبضها فتركها اختيارًا، فإن ضمانها من مشتريها. وممّا كان يذكره شيخنا ها هنا الاعتذار عن اختلاف اختيار ابن القاسم في قول مالك ها هنا فإنّه اختار كون المبيع الغائب ضمانه من بائعه. واختار في المحتبسة بالثمن من قولي مالك كون الضمان من المشتري، وأجراها مجرى الرهبان وما ذلك إلاّ لأنه يقدر أن المحتبسة بالثمن أمكن المشتري قبضُها

بإحضار ثمنها، فعدوله عن ذلك لا يسقط الضمان عنه، والمبيع الغائب يستحيل في العادة قبضه بفور العقد، فصار تعذّر التّسليم متيقّنا بخلاف المبيع المحتبس. وإذا تقرّر الاختلاف في الضمان فإنّه أجاز في المدوّنة أن يشترطه من هو، في الحكم عليه، على الآخر، وما ذلك إلإّ لكون محلّ الضّمان اختلف فيه قول مالك لكون الأدلّة فيه تكاد تتعارض فلمّا أشكل الأمر استخف نقل الضمان من محلّه إلى محلّ آخر قد قيل: إنّه هو الأصل في الحكم فيه، بخلاف نقل الضّمان من محلّ إلى محلّ آخر اتّفق على أنّه ليس بمحلّ الضمان. وقد قيل: إنّ المذهب على قولين في اشتراط الضّمان على المشتري، على القول بأنّ الحكم كونه على البائع، لأجل ما وقع لمالك فيمن باع طعامًا واشترط على المشتري ضمانه إن أدركته الصفقة، أن ذلك لا يجوز، مثل من باع زرعًا وهو قائم قد استحصد ويبس، لكون البائع عليه توفية المبيع، ولا يمكن توفية الغائب بفور العقد، فصار كمن اشترط في بيع الثمار ألاّ جائحة فيها، أو باع عبدًا قد أخبره على أنّ ضمانه من مشتريه بنفس العقد، مع كون مشتريه لا يمكنه تصرفه فيه. وما قدّمنا نحن من العذر يمنع من هذا التّعليل لكون محلّ الضمان مختلفًا فيه، ولم يشترط الضمان في أصل العقد، ولكنّه بدّل محلّه بعد عقد البيع، فإن المذهب على قولين في هذا. هل يجوز أم لا؟ فقيل: ذلك جائز، بناءً على أنّ ما بعد العقود يقدر كأنّ العقد وقع عليها في أصله. كمن اشترى نخلًا وفيها ثمرٌ لم يره، ثم بعد العقد اشترى الثمرة، أو اشترى عبدًا ثم أراد مشتريه أن يستثني ماله بعد العقد فإنّ هذا مختلف فيه وإن كان يقال تبدل محلّ الضّمان بعد العقد في بيع الغائب أشدّ من هذا، لكون الثّمر يلحق بالتخل فيملك المشتري الجميع عقدًا بعد عقد فكأنه ملك ذلك بعقد واحد. ومال العبد يلحق بملك العبد لا بملك المشتري لكن قد أجاز في كتاب ابن حبيب وفي الموّازية أيضًا أن يدفع البائع إلى مشتري الجارية عوضًا ليبرئه من كل عيب بها لم يعلم به البائع. كما يجوز اشتراط البراءة من ذلك في أصل العقد من كون هذه معاوضة مجرّدة على أمر مجهول كما أن تبدّل محلّ الضّمان في بيع الغائب معاوضة على

ضمان مجرّد وذلك غرر محض. وقد اعتذر عن ما جرى بين عثمان وعبد الرّحمان بن عوف رضي الله عنهما (¬1) من كون عثمان رضي الله عنه اشترط على عبد الرحمن ضمان الفرس الغائبة ثم عاد عبد الرحمن رضي الله عنه فقال لعثمان رضي الله عنه هل لك في أن أزيدك أربعة آلاف درهم وتجعل الضمان منك. وهذه معاوضة على تبديل محل الضمان فقيل: إنهما لم يعقدا البيع، وإنّما متساومين (¬2)، وأشير أيضًا إلى كونهما تعاقدا البيع ونقلا الضمان من محلّه لأنهما ذهبا إلى جواز ذلك على ما قدّمناه من أحد القولين. وقد قيل: إن ظاهر هذا الخبر يقتضى اعتقادهما كون ضمان المبيع الغائب من بائعه لأجل احتياج عثمان رضي الله عنه إلى اشتراطه على عبد الرحمن رضي الله عنه. ولو كان الحكم يقتضي كونه من عبد الرحمن الذي هو المشتري لم يفتقر عثمان إلى اشتراط ذلك عليه. والذي قدّمناه من اختلاف المذاهب على أربعة أقو الذي ضمان الغائب يشير بعض أشياخي فيه إلى قصر هذا الخلاف على كون المشتري صدف فيما وصفه من حال المبيع. وأمّا إن لم يصدّقه وعقد البيع على الوقف على الاختبار فإنه يتضح كون الضمان من البائع. وهذا فيه نظر عندي، ولا فائدة لاعتبار التصديق ها هنا، أو التوقف في صحّة الخبر لأنّ العقد مشترط فيه كون المبيع موجودًا حين العقد، وكونه موجودًا حين العقد مِمّا لا يعلمه المتعاقدان، ولا يصح فيه تصديق ولا تكذيب. ثم مع هذه إذا ثبت أنّه موجود حين العقد لزم العقد، واختلف في الضمان على حسب ما قتمناه. فكذلك وقف العقد على كون الصفات مطابقة لقول الواصف. فإنّه إذا ظهر كونها مطابقة لوصف الواصف لزم البيع عندنا، ولم يكن للمشتري خيار في جله (¬3) فالضّمان يحسن فيه الخلاف على الإطلاف ولكن يجب قصر الخلاف على مبيع غائب ليس فيه ¬

_ (¬1) الأثر رواه البيهقي. انظر السنن الكبرى: 5/ 267. (¬2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: متساومان. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في حله.

حق توفية بكيل أو وزن، لأنّ ما يجب فيه تمييز للمبيع وتمييز مبلغ بكيل أو وزن لا يختلف في كون الضمان فيه على البائع حتى يكال أو يوزن، ولو كان المبيع حاضرًا. فإذا كان المبيع غائبًا فذلك آكد في كون الضمان من البائع. ولهذا قال مالك رضي الله عنه: لا يجوز اشتراط الصفة في مبيع غائب على قيل أو وزن. وهذا الذي قاله أوضح لما قدّمناه لأن المكيل والموزون لم يختلف في كون ضمانه من بائعه قبل أن يكال أو يوزن. فإذا اشترط البائع على المشتري ضمانه قبل أن يكال أو يوزن، فقد اشترط شرطًا لم يختلف في كونه خلاف الحكم فلهذا لم يصحّ الشّرط. لكن لو كانت التّوفية بعدد مثل أن يبيع دارًا غائبة مدارعة، أو حاظًا فيه نخل على عدد النّخل، فإن مالكًا رضي الله عنه جعل الضمان من البائع، وأجرى العدد مجرى الكيل والوزن. لكن ابن حبيب حكى عن مطرف وابن الماجشون أن ضمان ذلك من المشتري قال: ولو ذهبت الدّار والنّخل لقِيس ما بقي على ما هو عليه ولزم المشتري. واحتجّ بقول مالك فيمن باع زرعًا كل حِمل بكذا فإنّه يكون ضمانه من المشتري وتقاس الأرض ليعلم مبلغ الثمن. وهكذا ذكر ابن الموّاز، واعتل بأنّ المشتري ممكَّن من حصاده قبل أن تقاس. واحتج ابن حبيب أيضًا بأنّ من باع زيتًا بظروفه وزنًا فإنّ الضّمان من المشتري. ويحطّ مقدار الظروف من الثّمن. وأصل المذهب يقتضي صحّة ما قاله مالك من كون الضمان على البائع. ولعل ابن حبيب أراد أن ذكر الأذرع والعدد زيادة في بيان الصفات لاشتراط التوفية به. وأشار في الموّازية إلى كون المشتري قادرًا على حصاده والتصرّف فيه قبل أن تقاس يقتضي اعتبار التّمكين. وإذا لم يمكن المشتري من ذلك لم يضمنه المشتري. وممّا يجري على هذا الأسلوب ما ذكره في المدوّنة من أنّ المبيع الغائب لا يجوز أن يشترط لقبضه أجلًا. قال ابن الموّاز لأنّ ذلك اشتراط ضمان سلعة بعينها وذلك لا يحل. وإنَّما يعقد على أن يتوجه المشتري لقبضه قرُب أو بعُد، تعجّل أو تأخر، وهذا أيضًا من نحو ما كنّا فيه من اشتراط ضمان ما الحكم أن لا يضمن. ومن هذا الأسلوب أيضًا ما وقع في الموّازية من منع العقد على سلعة

غائبة على أن يوصلها البائع إلى بلد العقد أو بلد غيره، لكون قبضها ونقلها ليس بواجب على البائع، وإنّما عليه التّمكين. فإذا قبضها البائع ونقلها بأمر المشتري صارت يده كيَد المسْتري فكأنّ العقد وقع بشرط ضمان البائع لمَا قبضه المشتري، وهذا لا يجوز إلاّ أن يكون ضمانهما ساقطًا عن البائع في مسافة نقلها وإنما اشترط عليه حملها فيكون ذلك كبيع وإجارة فيجوز على المشهور من المذهب في جواز اشتمال عقد واحد على بيع وإجارة. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: إذا اختلف المتبايعان في سلعة غائبة، من وجودها حين العقد، أو قِدَم عيب ظهر بها، فإن اختلافهما في كونها موجودة حين العقد أو معدومة ذكر في المدوّنة أن على البائع إثبات كونها موجودة حين العقد، وأن هذا هو الحكم على القولين جميعًا في كون ضمان المبيع الغائب، إذا كان موجودًا حين العقد، من البائع أو من المشتري. ولا تتصوّر فائدة الخلاف ها هنا إلاّ على القول أنّ ضمان الغائب من المشتري. وأمّا على القول بأنّ ضمانه من البائع حتى يصادفه المشتري حين القبض فلا ثمرة لاختلافهما إذا خرج المشتري إليه فلم يجده. وإنما يكون للخلاف ثمرة على القول أنّ الضّمان من المشتري فيزعم البائع أن هلاك المبيع كان بعد العقد فيضمّنه المشتري، ويزعم المشتري أنّه لم يكن موجودًا حين العقد فيكون الثمن غير لازم له، لكون البيع لم ينعقد. فإنّما أشار بقوله: على القولين جميعًا، احتياط أن يظنّ ظان أن هذا يكون له ثمرة على كل واحد من قولي مالك في ضمان السلعة الغائبة. وهذا الذي ذكره من إثبات كونه موجودًا حين العمّد مبني على إحدى الطريقتين في استصحاب الحال اللاّحقة أو السّابقة. فإذا كانت السّلعة الغائبة حين حاول المشتري قبضها لمّا خرج إليها، فكأنّها لم تزل معدومة استصحابًا لهذا الحال الحاصل الآن، فيكون على البائع إثبات كونها عند العقد موجودة، لا سيّما أنّ المشتري لا يتحقّق كون البيع منعقدًا، لأنّ من شرطه أن يصادف

مبيعًا موجودًا، ووجوده لم يتحقق. لكن إذا قلنا باستصحاب الحال السّابقة، وهي كونه موجودًا عند البائع قبل انعقاد البيع، فاستصحاب هذه الحال يقتضي كون إثبات عدم السلعة حين العقد على المشتري. وقد اختلف في المسألة المذكورة في المدوّنة، في كتاب الردّ بالعيب، وهي اختلاف البائع لعبد تبرّأ من إباقه فأبق في الثلاثة أيام، ثم وجد بعدها ميتًا، فزعم البائع أنّه كان حيًّا أيام العهدة، وأنّه إنّما مات بعدها، يكون ضمانه من المشتري، وزعم المشتري أنه مات في عهذة الثلاث ليكون ضمانه من البائع. فالقولان من هذه المسألة مبنيان على استصحاب الحال الموجودة الآن. فتكون البيّنة على البائع أنّه لم يصت إلاّ بعد أيّام العهدة، أو يستصحب حال كونه حين البيع حيًّا، فيكون على المشتري إثبات كونه (¬1) في أيّام العهدة. وقد ذكر ابن القاسم في اختلاف البائع لعبد على الخيار فوجد ميتًا بعد أيّام، فزعم البائع أنّه مات بعد انقضائها ليكون في ضمان المشتري حين الموت، وزعم المشتري أنّه إنما مات في أيّام الخيار، ليكون في ضمان البائع. فذكر ابن القاسم أن القول قول البائع. وهذا بناء منه على استصحاب الحال السّابقة، وهي كون العبد حيَّا حين انعقاد البيع. بخلاف ما بني عليه الأمر في المدوّنة، في مسألة بيع الغائب، وهذا يشعرك بحصول الاختلاف في هذه المسائل التي بنيت على هذا الأصل. فأمّا اختلاف المتبايعين لسلعة غائبة في عيب اطّلع عليه المشتري حين القبض فزعم أنّه كان بالسّلعة قبل العقد عليها ليردّ به على البائع ما اشتراه. وزعم البائع أنّه إنّما حدث بعد العقد. فإنّه في المدوّنة لما سئل عن هذا أضرب عنه، وذكر حكم اختلافهما في كون السّلعة معدومة حين العقد. ولكن ابن حبيب ذكر ها هنا أنّ هذا العيب يحمل على أنه حادث بعد العقد حتى يثبت أنه سابق العقد. وأشار بعض أشياخيّ إلى أنّ هذا مخالف لمذهب المدوّنة إذ لا ¬

_ (¬1) أي: مات.

فرق بين اختلافهما في كون جملة السّلعة موجودة حين العقد أو معدومة، أو اختلافهما في هذا النقص، الذي هو العيب، هل كان هذا الجزء موجودًا حين العقد أو مفقددًا؟ وذكر ابن حبيب أن هذا مذهب ابن القاسم في حمله على الحدوث، كما يحمل عيب اطّلع عليه في سلعة حاضرة اشتريت، واختلف فيها البائع والمشتري: وهل (¬1) هو حادث أو قديم؛ فإنّه يحمل على كونه حادثًا عند المشتري، إذا شكّ فيه، لكون المشتري مقرًّا بانعقاد البيع يدّعي ثبوت ما يخلّه فلا يصدّق. وكذلك اختلافهما في العيب المطلع عليه في السّلعة الغائبة. وأشار بعض المتأخّرين إلى أنّ ابن القاسم فرّق بين اختلافهما في ذهاب جملة السّلعة حين العقد وذهاب جزء منها. ولم يشر إلى الفرق. وعندي أنّ الفرق بينهما أنّ اختلافهما في كون السّلعة الغائية موجودة حين العقد أو معدومة، اختلاف في كون هذا البيع انعقد وحصلت حقيقته، أو لم ينعقد أصلًا، إذ العدم لا يعقد عليه، والأصل عدم العقد، فَصُدِّق المشتري فيه. وإذا كانت السّلعة موجودة حين العقد، وإنما اختلفا في حصول جزء منها حين العقد أو عدمه، وقد اتفقا على أنّ ها هنا عقد ومعقود عليه، ويدّعي المشتري ما يحله بدعواه أن العيب كان قديمًا قبل العقد، فلا يصدف، كما لا يصدّق في العيوب المشكوك فيها. ومِمّا ينخرط في هذا السلك ما ذُكِر من الخلاف فيمن اشترى سلعة على رؤية تقدّمت، فلّما حاول قبضها زعم أنّها تغيّرت عمّا كان رآها عليه، وزعم البائع أنّها لم تتغيّر، وشكّ في صدق كل واحد منهما. فإنّ مذهب مالك رضي الله عنه أنّ القَول قول البائع. وإليه مال ابن القاسم لأجل أنّ البيع منعقد والمشتري يدّعي حلّه، والعين موجودة وهي الّتي وقع عليهما العقد، فلا يصدق المشتري في حل عقده عليها. وذهب أشهب إلى أنّ القول قول المشتري في أنّها تغيّرت عليه، إذا لم يقرّ إلاّ بشراء سلعة على صفة معلومة عنده، فلا يؤخذ بأكثر مِمّا أقرّ به. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الأولى حذف الواو.

وعلى هذا جرى الأمر في الاختلاف المذكور في المدوّنة فيمن اشترى جارية بها ورم، فلمّا رآها زعم أنّ الورم زاد، وزعم البائع أنّه لم يزد، فإن مذهب أشهب أنّ القول قول المشتري بناء على أنّه لا يؤخذ بأكثر مِمّا أقرّ به. ومذهب ابن القاسم أن القول قول البائع لكون المشتري مقرًّا بعقد يدّعي حلّه. واختلاف ابن القاسم وأشهب في هذا الأصل في تبعيض مثل هذا الإقرار مشهور في مسائل كثيرة. ولو اختلف المتعاقدان لسلعة غائبة لما حضرت: هل هي مطابقة للصّفة التي عقد البيع عليها، أو مقصّرة عن ذلك؟ مثل أن يقول البائع: بعتك أمة غائبة على أنها عوراء، فيقول المشتري: بل على أنها بصيرة، فإنّ القول قول المشتري لأنّه لم يعترف بالعقد على هذه السّلعة التي حضرت بعد مغيبها، بل صار كأنّه إنّما أقرّ بشراء سلعة غيرها فلا يؤخذ بغير ما أقرّ به على حسب ما قدّمناه في كتاب السّلم في حكم اختلاف المتبايعين. قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: ويجوز النقد فيه من غير شرط. فإن كان بشرط فسد العقد، إلاّ في المأمون كالعقار ونحو ذلك. وبيع (¬1) الأعدال على البرنامج جائز إذا بيّن ما تضمنه برنامجه فإن وافق الصفة لزم. قال الإِمام رحمه الله يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة، أن يقال: 1 - هل يجب النّقد في بيع الغائب؟ 2 - وهل يجوز اشتراطه؟ 3 - وهل يجوز التأجيل فيه؟ 4 - وهل تجوز الإقالة في بيع الغائب؟ 5 - وهل يجوز التطوّع بالنّقد؟ ¬

_ (¬1) في غ سقطت الواو، وفي الغاني أُبدلت كافًا -كبيع-.

6 - وما حكم بيع البرنامج؟ فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: أما وجوب النقد في السّلعة الغائبة، من غير اشتراط نقد الثمن أو وقفه، فإنّه لا يخلو ذلك من قسمين: أحدهما أن يكون المبيع الغائب مِمّا يجوز اشتراط النقد فيه ويؤمن هلاكه، أو يكون مِمّا لا يؤمن عليه الهلاك. فإن كان مِمّا يؤمّن عليه الهلاك، كالدّيار والعقار، فقد اختلف الأشياخ في وجوب القضاء على مشتريه ابن قد الثمن. فذهب الشيخ أبو بكر ابن عبد الرحمن إلى أنّه يجب على المشتري نقد ثمنها، كما يجب ذلك عليه في شراء سلعة خاضرة. لأجل أنّ ضمان العقار من المشتري من غير اختلاف، على ما ذكره في المدوّنة، وذكره ابن حبيب على حسب ما قدّمناه ونبّهنا على وجود الخلاف فيه عن مالك رضي الله عنه في كتاب ابن الموّاز. وإذا كان المشتري يضمن المبيع من العقار الغائب بالعقد، فوجب عليه النّقد وصار العقار لكونه مأمونًا هلاكه كالسّلعة التي قضي على مشتريها بدقع ثمنها. وذهب الشيخ أبو عمران إلى أنّ نقد الثمن لا يجب، إلاّ أن يشترط في العقد عليها، لكون مشتريها غير متمكّن من قبضها وهي بيد بائعها كالرّهن لكونه أولى بها إذا أفلس مشتريها أو مات. وقَدَّر أنّ إمكان التّمكين من السّلعة الحاضرة حاصل، وإمكان التّمكين من السّلعة الغائبة حين العقد لا يصحّ ولا يمكن. وهذا الذي قاله الشّيخ أبو عمران قد يشعر به ما قاله ابن حبيب في الرّباع الغائبة إذا بيعَت أنّه لم يختلف مالك وأصحابه في كون ضمانها من المشتري. قال: وذلك يجوز بشرطَ النّقد فيها. وكذللث ما قربت غيبته من العروض التي يجوز شرط النّقد فيها. فقدله: تلك يجوز شرط النقد فيها ظاهره أنّه لا يجب النّقد، إذ لو كان واجبًا لاستغنى عن ذكرة. وأمّا إشارته إلى أنّه لا يختلف في العروض والحيوان القريب الغيبة أنّ ضمانه من مشتريه، كالعقار، فإنّه خلاف ما

أشار إليه ابن القاسم في المدوّنة من أنّ الخلاف في ضمان العروض والحيوان والطعام حاصل سواء قربت غيبته (¬1) ذلك أو بعدت. ولأجل ما أشار ابن القاسم من كون الخلاف في العروض القريبة الغيبة هل يضمنها مشتريها بالعقد أم لا؟ اتّفق الشيخان أبو بكر وأبو عمران على أنّه لا يجب النّقد فيها لأجل الخلاف في ضمانها، كما لا يجب النّقد في العروض البعيدة الغيبة، بغير خلاف، ولو كان الشيخ أبو بكر يرى رأي ابن حبيب في كون الضّمان فيها من المشتري لا يختلف فيه، لأوجب النّقد فيه كما أوجبه في العقار. وأمّا ما بعدت غيبته مِمّا سوى العقار فلم يختلف في أنّ النّقد لا يجب فيها لأن ابن حبيب وغيره يسلّم أن تلك اختلف قوله فيها اختلافًا مشهورًا عنه. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما اشتراط النّقد في بيع الغائب في العقار فإنّه جائز على ما قدّمناه من أنّ مالكًا لم يختلف قوله في ذلك. وأمّا ما بعدت غيبته مِمّا سوى العقار فإنه لم يختلف أيضًا في منع اشتراط النّقد فيه لأجل كونه غير مأمون عليه الهلاك، فإذا شرط النّقد في العقد فقد تعرّض المتعاقدان إلى سلف جرّ منفعة، لأن المبيع الغائب إن سلم حتى يقبضه مشتريه كان الثّمن المنقود عوضه. وإن كان لم يسلم وجب ردّ الثّمن على دافعه، فصار كأنّه أسلفه لقابضه ينتفع به حينًا ثم يردّه. وقد تقدّم بيان المنع من عقد يكون الثمن فيه تارة بيعًا وتارة سلفًا. ولو كان ثمن الغائب ثوبًا أو دارًا ما جاز اشتراط انتقاده، وإن كان معروف العين يرد بعينه إذا بطل العقد بهلاك الغائب، ولا يتصوّر فيه السّلف، لما أشار إليه مالك رضي الله عنه من أنّ الثّوب يلبسه الذي انتقده ويبيعه، وكذلك الدّار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غيبة.

يسكنها فإذا انفسخ العقد بهلاك السّلعة الغائبة ذهبت هذه المنفعة بغير عوض، وقد كان دفعها على حكم المعاوضة، فصار ذلك مخاطرة وغررًا. لكن إذا كان الذي مَنعَنا شرطَ النّقد في حكم التّبع لغيره فإنّه قد أجيز شرط النّقد فيه. كبستان بيع وفيه حيوان فإن اشتراط التقد يجوز فيه، لكون الحيوان تبعًا له ومن مصلحته. كما قيل: إن فيه الشفعة، ولو انفرد لم تكن فيه شفعة. وأما إن كانت العروض والحيوان والطّعام قريب الغيبة، فإن اشتراط النّقد فيه جائز. لكن اضطرب المذهب في حدّ القرب في هذا الذي يجوز معه اشتراط النّقد. فذهب ابن القاسم وأشهب إلى أن ما كان من العروض والطعام والحيوان على مسافة يومين فإن اشترط النقد فيه جائز. روي عن مالك رضي الله عنه في الحيوان أنّه لا يجوز اشتراط النّقد فيه، قرب أو بعد، قولًا مطلقًا في ذكر القرب. وروي أيضًا عنه في الطّعام والحيوان أن القرب البريد والبريدان. وهذا كلّه دائمًا المعتبر فيه الأمن من هلاك الغائب أو التخوّف منه. ولهذا أشار مالك رضي الله عنه في الطّعام بأنْ قال: يسرق ويصيبه المطر فيفسد، فينبغي على مقتضى الذي أشار إليه أن تعتبر قرائن الأحوال في كلّ صنف من هذا حتى يتحقق الأمن أو يشتدّ الخطر والخوف من هلاك المبيع. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: يجوز أن يكون ثمن السّلعة الغائبة المبيعة سلعة معيّنة، ليس بدين مستقرّ في الذمّة. فهي في هذا كالحاضرة المبيعة لكن ذكر في كتاب كراء الدّور من المدوّنة أنّ التأجيل إنّما يجوز بشرط أن تكون مسافة الغائب لا يحلّ أجل الثّمن قبلها، وأنّه إذا حلّ قبل قبض المشتري له ووصوله إليه وجب (¬1) نقد ما حلّ أجله صار ذلك كاشتراط نقد في الغائب، وذلك لا يجوز. ومقتضى هذا التعليل أنّهما لو اشترطا في هذا الأجل القصير أن الأجل إذا حلّ يوقف الثمن حتى تقبض السّلعة الغائبة لجاز ذلك. والتأجيل في ثمن السّلعة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب ووجب.

الغائبة جائز، على حسب ما قلناه، دنانير كان أو غيرها، من مكيل أو موزون أو عرض موصوف في الذمّة. ولا يتصوّر فيه أنّ هذا الثمن إذا كان عرضًا في الذمّة إلى أجل صار رأس المال فيه السّلعة الغائبة الّتي تأخّر قبضها، وتأخير رأس مال السلم لا يجوز، لأن السّلعة الغائبة لمّا كانت معينة ليست بدين في الذمّة، ولا يقدر على تعجيلها، لم يتهّم العاقدان على أنّهما أخذا عوضًا عن ضمان، كما يتصوّر ذلك فيمن باع سلعة معيّنة بشرط ألّا يقبضها المشتري إلاّ إلى أمد بعيد، لأنّ قبض هذه بفور العقد يجوز ويسوّغه الشرع، فعدولهما عن تعجيل ما يقْدِران على تعجيله ويسوغّ الشّرع تعجيله، قصدٌ إلى التزام البائع ضمان السّلعة إلى أجل بزيادة زادها في الثّمن، وذلك لا يجوز كما قدّمناه في مواضعه. وقد ذكر في المدوّنة فيمن اكترى دارًا سنة بسلعة غائبة أنّ ذلك جائز، على ما قلنا، لكون السّلعة الغائبة معينة والمنافع كثمن لها مؤجّل، فلا يمنع من ذلك. لكن اختلف المتأخرون في مبتدإ هذه السّنة هل يحسب ذلك من يوم العقد لِهذا البيع، أو من يوم القبض للسّلعة الغائبة؟ فمن ذهب إلى أنّه يحسب من يوم العقد أعطى اللّفظ حقّه وأجراه مجرى كراء الدّار بسلعة حاضعرة سنة كاملة، فإنه يكون مبتدأ السّنة من وقت العقد، فكذلك هذا. لكنّهما يفترقان من جهة أخرى فإنّه منع في المدوّنة في. هذه السّلعة أن يشترط الشروع. في السكن حين العقد، لأنّ اشتراطه ذلك اشتراط النقد عن سلعة غائبة، وقد قدّمنا أنّ ذلك لا يجوز، فيعتبر مقدار المسافة عند هؤلاء، فإن كانت شهرأوقف مكتري الدّار عن سكناها شهرًا، انتظارًا لقبض السّلعة، فكان ذلك ساقطًا من العقد، وكأنه إنّما اكترى الدّار أحد عشر شهرًا، وعبر عن ذلك سنة لمّا كان ربّ الدّار ممنوعًا من سكناها سنة كاملة، فاستسهل في ذلك العبارة عن كون الدّار اكتريت سنة كاملة. فإن عاق عائق عن قبض السّلعة الغائبة بعد ذهاب أمد المسافة الّتي يصل بها إلى قبض السّلعة صار ذلك كاستحقاق طرأ أو انهدام فيكون الزائد على قدر المسافة خارجًا عمّا دخلا عليه، فيجري على حكم الاستحقاق فيرجع مكتري الدّار بالسّلعة الغائبة شريكًا في عينها بمقدار هذه الزيادة على أمَد المسافة، أو

يرجع بذلك قيمة على حسب الاختلاف في حكم استحقاق بعض الدّار أو انهدامها. ومنهم من ذهب إلى أنّ مبدأ هذه السنة من حين القبض، وقدّر أن القبض لمّا لم يتيقّنا وقته، لجواز عائق يمنع من الوصول إليه، صار تعليق هذا العقد بما قبل القبض فيه مخاطرة وغرر، ولا سبيل إلى صرف العقد إلى وجه من الغرر مع القدرة على العدول عنه من غير مشقّة. وينفصل هؤلاء عمّا يتعلّق به هؤلاء من قول ابن القاسم في العتبية فيمن اشترى سلعة غائبة بثمن إلى سنة: إنّه لا يجوز أن يجعل المتعاقدان مبدأ السنة يوم قبض السّلعة الغائبة. كمن تزوّج بمائة دينار نقدًا ومائة إلى سنة مبدأها بعد اليناء، فأشار إلى أن تعليق العقد بزمن قبض السّلعة لا يجوز، لمّا لم يكن زمن القبض معلومًا ولا زمن البناء بالزّوجة. وقد أشار الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد إلى تعقّب هذه المسألة، وقال: فيهانظر؛ لأنهم أجازوا أن يتزوّجها بدنانير تحلّ بالبناء، لمّا كان البناء بحكم الزّؤجة، ولها أن تدعو الزّوج إلى الدّخول متى شاءت. وذلك يصير هذا الأمر على الحلول، لما كان موقوفًا على اختيار المرأة، وأنّها متى شاءت دعت الزوج إلى البناء بها. وينفصل الآخرون عن هذا بأنّ الأجل في بيع السّلعة الغائبة إذا جعل من يوم العقد لا يغير حكم المبيع ولا يسقط منه شيئًا، وها هنا يسقط من السكنى ما لا يعلم حقيقته ومقداره يقينًا، فيصير ذلك غررًا في العقد. والجواب عن السؤال الرّابع: أن يقال: قد قدّمنا تنازع الأشياخ في وجوب النّقد في العقار وحكم اشتراطه في العقد. فإن لم يشترط المتعاقدان تعجيله ولا تأجيله وقف على يد أمين حتى يجب قبضه بقبض السّلعة الغائبة. فإن ضاع في خلال الوقف فهو مِمّن يقضى له به. فإن سلِمت السّلعة الغائبة حتى قبضها مشتريها أشعر ذلك بأن الثّمن كان

موقوفًا لبائعها وكانت مصيبته منه. وإن كانت السّلعة تالفةً حين العقد أشعر ذلك بأنه لا بيع بينهما، وكان الثمن وقف لصاحبه فمصيبته منه. وإنما وقف الثمن لئلا يدّعي المشتري ضياع ما اشترى به، إن كان عرضًا، أو عجز عيت أدائه، إن كان عينًا. ومقتضى هذا التعليل أنّه لا يوقف إذا كان عينًا وكان موسرًا. وإذا قضي بوقف الثّمن ووصل المشتري للسّلعة الغائبة إليها وطلب قبضها، فإنه لا يمنع منه انتظارًا لقبض البائع لهذا الثمن الموقوف، لأنّه قد كشف الغيب أنّه له وقف ومصيبته منه بعد الوقف، فلا وجه لمنع مشتري السّلعة الغائبة من قبضها مع كونه بريء من ثمنها. ولو لم يوقف الثمن لكان من حق بائع السّلعة الغائبة أن يمنع من قبضها حتى يبرأ المشتري من الثمن. وإذا منع من اشتراط النّقد وأراد المشتري للسّلعة الغائبة أن يتطوّع بتعجيله لبائعها منه فإن ذلك جائز وإن انفسخ البيع، لكون السّلعة حين العقد كانت موجودة، أو حدث ما يوجب فسخ البيع، على القول أن ضمانها على البائع، فإنّ الذي تطوعّ المشتري بتعجيله ونقده يجري مجرى القرض والسّلف. والقرض إنما يرجع بمثله، وإن كان عرضًا، بخلاف أن يشتري سلعة حاضرة بعرض فبطل البيع فإن الرّجوع إنما يكون بقيمة العرض إذا منع مانع من الرّجوع لفواته وتغيره، على ما عرف بأحكام الاستحقاق، لأنّه ها هنا مستحقٌّ قبضه بالحكم، والمدفوع هو نفس الثمن، بخلاف ما تطوّع بتعجيله من عرض هو ثمن لسلعة غائبة فإن تعجيله قبل وجوب دفعه وأدائه وتمكين. مشتريه منه يصيره قرضًا، والقرض يرجع فيه بالمثل، وإن (¬1) كان عرضًا غير مكيل ولا موزون. وأمّا المكيل والموزون فيستوي الحكم فيه ها هنا إذا كان ثمنًا لسلعة حاضرة أو لسلعة غائبة تطوّع بتعجيله، فإنّ البيع إذا انفسخ رجع مثل المكيل والموزون. ولو اشترط المتبايعان أنّ هذا العرض الذي تطوّع بتعجيله يرجع بقيمته إذا انفسخ البيع لمُنِع ذلك، لأنه كبيع سلعة بقيمتها. وهو الذي أشار إليه ها هنا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

من كون ثمن السّلعة الغائبة إذا عجل كان قرضًا هو البخاري على ما كنّا قدّمناه في بيوع الآجال من كون الدّين المعجّل قبل أجله يُعدّ سلفًا من معجّله على حسب ما ذكرناه في مسألة الفرس والحمار المذكورة في المدوّنة. وذكرنا الاختلاف في هذا الأصل في المذهب، وأنّه قد قيل: لا يعد التعجيل سلفًا لما نبّهنا عليه مِمّا يؤدي هذا المذهب إليه. والجواب عن السّؤال الخامس أن يقال: من اشترى سلعة غائبة فإنّه يجوز. له أن يبيعها بمثل ما اشتراها به أو بخلافه. ولكن يجري من اشترى منه حكمه هو في منع اشتراط النّقد إلى غير ذلك من الأحكام التي ذكرناها. وقد ذكر في المدوّنة فيمن اكترى دارًا بثوب في بيته وصفه، ثم أراد شراءه مِمّن اشتراه منه، وهو في يديه، ثم تَصيَّر إلى من باعه منه، أن ذلك جائز إذا علم أنّ هذا الثوب موجود حين الصفقة الثانية. وقد تضمّن هذا السؤال جواز بيع السّلعة الحاضرة على الصّفة، إذا كانت بالبلد الذي به المتعاقدان. وقد ذكرنا فيما تقدّم الاختلاف في هذا. وممّا يسئل عنه ها هنا أن يقال، لم اشترط في هذا الجواب العلم يكون الثوب موجودًا حين الصفقة الثانية؟ وقد أجاب عن هذا بعض المتأخرين بأنّه إذا علم موجودًا حين الصفقة الثانية تيقّنًا أنّه ثمن للمنافع الّتي اشتراها بهذا الثّوب. فإذا وقع في المنافع ما يوجب الاستحقاق ليعضها كان الرّجوع في الثّوب لأنّ ما وقع بعده صفقة ثانية لا تعلق لها بالأولى. وإذا لم يعلم ذلك صار الثمن للمنافع مجهولًا لا يعلم هل هو ثوب أو قيمة إن. لم يكن موجودًا حين الصفقة الثانية ولزم بائعه قيمته. وقد بسط بعضهم هذا فقال: إنّ بائع هذا الثوب على الصّفة بمنافع دار، لو ادّعى ضياعه لم يقبل ذلك منه إلاّ بعد يمينه على ضياعه، فإن نكل عن هذه اليمين كان مشتري هذا الثوب منه مخيّرًا بين أن يفسخ هذا العقد لكون بائع الثوب كالمانع من تسليمه ويغرّمه قيمته، فقد صار عامله في هذه المعاملة الثانية ولا يدري هل ينكل فيكون مخيّرًا بين فسخ البيع أو غرامة

القيمة، فيقتضي هذا غررًا في البيع. وأمّا جواز الإقالة في بيع سلعة غائبة فإنّه اختلف فيها على قولين. فذكر في المدوّنة أنّ ذلك لا يجوز. وقدّر أن الثمن دين في ذمّة المشتري للسّلعة الغائبة. فرفع عنه السّلعة الغائبة لما أقال فيها، وأخذ سلعة غائبة عن دين يمنعه ابن القاسم، ويجيزه أشهب. فمضى ابن القاسم على أصله في منع الإقالة ها هنا، للعلّة التي نبّهنا عليها. وأجازها أشهب ويحيى بن عمر. واختلف طريقتهما فبنى أشهب الجواز على أصله في أخذ سلعة عن دين. وأشار يحيى بن عمر أن هذا ليس كأخذ سلعة غائبة عن دين وأن الذمّة ها هنا تبْرَأ. وإذا قلنا: إنّ الإقالة حلّ للعقد من. أصله وضح ما أشار إليه يحيى. وإن قلنا: إنها ابتداء بيع حسن إجراء الخلاف فيها على ما نبّهناك عليه من مذهب أشهب وابن القاسم. وقد اختلف أيضًا في مذهب ابن القاسم ها هنا هل هو مبني على قولي مالك جميعًا في ضمان الغائب هل هو من البائع أو من المشتري أو إنّما بني على القول بأنّ ضمان السّلعة الغائبة من مشتريها؟ فذهب ابن الموّاز إلى أن ذلك مستمرّ على قولي مالك جميعًا في ضمان الغائب. وذهب سحنون إلى أنّ هذا إنّما يستمرّ على أحد قولي مالك في ضمان السّلعة الغائبة من مشتريها، لأنا إذا قلنا: إنّ ضمانها من مشتريها اتضح كون الذين مستقرّا في ذمته. وإذا صار مستقرًّا في ذمته منع من أن يأخذ عنه سلعة غائبة. وإذا قلنا: إن ضمان السّلعة الغائبة من بائعها حتى يقبضها مشتريها سالمة لم يتّضح كون الثّمن استقرّ في الذمّة لما يجوز من الطوارىء على السّلعة الغائبة الموجبة لحل العقد. فأمّا كونها موجودة حين العقد فهما معتقدان. الوجود، والمشتري مصدّق في ذلك فكأنّهما دخلا على أن الثمن مقدّر في الذمّة لكن ما يطرأ عليها أمر مجوّز لا أمان لهما منه، فحسن الالتفات فيه إلى حكم الضمان. وقدّر ابن الموّاز أنّ الأصل وجود السّلعة واستصحاب سلامتها يجب، فيقدّر ها هنا أنّ الثَّمن مستقرّ في ذمّة

المشتري لا يمنع من كونه في حكم المستقرّ في الذمّة ما يجوز ها هنا مِمّا هو خلاف مقتضى استصحاب الحال. وقوإنتصر سحنون بأنّ الجارية إذا بيعت على المواضعة، وتقايل فيها المتبايعان، فإن ذلك جائز، لكون الأمة لا استبراء فيها على مشتريها بل ترجع إلى يد بائعها في الحال، فلم يأخذ عن دين إلا سلعة قبضت في الحال، فلم يمنع ذلك. لكنّهما لو تقايلا عن زيادة زادها البائع أو زادها المشتري لوجب وقف الزيادة حتى تعبم سلامة هذه الأمة من الحمل، لئلا يظهر بها حمل يوجب ردّها على بائعها فيكون (بياض) (¬1) والزيادة قد انتفع به، ثم وجب ردّه فيصير تارة ثمنًا وتارة سلفًا. وهذا يقتضي الالتفات إلى تَجويز ما يطرأ على العقد مِمّا يوجب حله. وقد تأوّل يحيى مسألة الإقالة من الأمة التي في المواضعة بزيادة، على أنّ بائعها قد وطئها فيجب ردّ البيع على كل حال لكونها قد ظهر أنّها أمّ ولد، وأمّ الولد لا تباع. وإذا وجب ردّها صار انتقاد الزيادة تارة بيعًا وتارة سلفًا. ورأى بعض الأشياخ أنّ الرّواية تحمل على الإطلاق ولا يفترق الحكم بين أن يكون بائعها وطئها أم لم يطأها، لجواز أن يكون وطئها غيره فيظهر بها حمل فيكون لمشتريها الردّ به، كعيب اطّلع عليه لم يعلم به حين العقد. وهذا الذي ذكره بعض الأشياخ قد ينفصل عنه يحيى بأنّ العمل إذا كان من السيّد وجب ردّها شرعًا، وإن اختار المشتري التمسّك بها، وإذا كان العمل من غير السيّد جاز للمشتري التمسّك بها وإذا تمسّك بها لم يجب عليه ودّ الزيادة شرعًا، فلا يقدر ها هنا كون هذا البيع قد انكشف أنّ الثمن فيه تارة سلفٌ وتَارة بيعٌ. وقد تردّد بعض الأشياخ في هذه المسألة إذا حدث عيب في المواضعة بعد أن تقايلا على زيادة، هل لبائع الجارية أولًا أن يردّ بهذا العيب الحادث في المواضعة ليبطل هذه الزّيادة؟ لكونه إنّما زاد في سلعة سالمة من العيوب أو ¬

_ (¬1) بياض بالنسختين مقدار كلمة.

يسقط في ذلك لكون العيب الحادث في المواضعة وضمانه منه وإذا كان ضمانه منه سقط مقاله ها هنا في هذا العيب لكونه لم يحدث في ضمان المشتري الذي ردّ عليه هذه الأمة. والجواب عن السّؤال السادس أن يقال: قد قدّمنا تقسيم ما يباع على الصّفة دون المشاهدة واشتمل التّقسيم على بيع ما في الأعدال من ثياب على البرنامج .. وذكرنا أنّ المشهور من المذهب جواز ذلك. وقد قال مالك في موطئه: إنه من عمل الناس. وحكى ابن شعبان في مختصره أن هذا البيع لا يجوز. وأشرنا، فيما تقدّم، إلى النّكتة الّتي تعتبر في هذا من الضرورة الدّاعية إلى العدول عن المشاهدة إلى الصّفة، مع كون المشاهدة أبلغ في الإحاطة بالمبيع. فينظر هل في حلّ الإعدال ونشر ما فيها، ثم ردّه إليها، شدّة كلفة ومشقة تبيح الاقتصار على الصّفة دون المشاهدة أم لا؟ وإذا تقرّر حكم جواز هذا البيع على المشهور من المذهب، فإنّ المشتري إذا انصرف بالعدل مشدودًا وفتحه مُخْلِيًا، فزعم أنّ وجوده (¬1) دون ما عدّد البائع في برنامجه، أو على غير الصفة، فأنكر ذلك البائع. فإنّ القول قول البائع، إذا أخذه خلى تصديق البائع فيما وصفه به، مع يمينه، لكون المشتري قبضه على تصديق البائع في صفة ما سلّمه إليه. كمن دفع دنانير، هي دين عليه لمستحقها، فقبضها منه على تصديقه في وزنها وطيبها، فإنّ القَول قول دافعها. فإن تبت أنه وجد نقصًا من عدد الثياب الذي ذكر البائع عددها، فإنه ذكر في المدوّنة أن ذلك كطعام يشترى على مبلغ من الكيل فيوجد دون ذلك. ومراده بهذا التشبيه على المعروف من مذهبه أن الرّجوع يكون بمقدار النقص في الثياب، على النّسبة العددية لا على التّقويم، كالطّعام، فإنه إذا استحقّ منه مكيلة وجب للمشتري الرّجوع بها في الثمن الذيَ دفع، فإنّما يقضى في ذلك بالنسبة العددية، كاستحقاق عشرة من مائة فيِ، الطّعام يرجع بعشر الثّمن. ولو كانت مائة ثوب ¬

_ (¬1) هكذا في النسخنين، ولعلَ الصواب: موجوده.

فاستحقّ منها عشرة لرجع بقيمة العشرة المستحقّة، كانت أكثر من عشر الثمن أو أقلّ. وهذا لأنّ الطّعام متشابه الأجزاء فالذاهب منه كالباقي، والعدد فيه والتقويم يجريان مجرى واحدًا. والثياب إذا اششراها المشتري وهي معينة فاستحق منها عشرة، فإنّ العشرة المستحقة مشاهدة، والمشاهد يقوم بما يتصوّر من اختلاف قيم الثياب وإن تقاربت. وإذا باع العدل على عدد موصوف، فانتقص منه شيء، فإنّ الذي انتقص غير مشاهد، وما لم يشاهد لا يقوم، مع كونه إنّما عقد البيع فيه على أنّه على صفة ما بقي. فالعدد هو المعتبر لكون الذّاهب والباقي ها هنا من الثياب المبيعة على البرنامج لِتشابه الأجزاء مثل الطعام. وقد كنّا قدّمنا في كتاب الردّ بالعيب أن أشهب ذكر في مشتري عشر شياه فوجد منها تسعة غير ذكيّة، أنّ الواحدة الباقية تلزمه، وإن كان جلّ الصفقة قد استحق عليه. وأنه قد قيل في ثوبين اشتريا لا يباع أحدهما مرابحة على الفضّ والتقويم، لكون الجملة يزاد في ثمنها. وكأن هذا على النّقض مِمّا قال أشهب. وإنّما المعتبر فيه قصد التجّار إلى الزّيادة في الثمن لأجل الجملة، حتى يعلم منه أنّ ما استحقّ من الجملة يبخس عندهم ثمن الباقي أوْ لا يبخس. ولهذا كان المشهور أنّ الطّعام إذا استحقّ منه النّصف فإنّ للمشتري ردّ القيمة، لكون التجّار يؤثر عندهم استحقاق النّصف، بخلاف استحقاق نصف الثياب فإنّه لا يؤثّر عندهم. فيجب صرف هذه التّفرقة الّتي ذكروها. وتحديد قدر المستحقّ إلى ما عند التجّار في هذا هل يؤثر عندهم ذلك في الرّغبة في الصّفقة أو لا يؤثّر؟ هذا حكم النّقص في بيع البرنامج. وأمّا حكم الزّيادة مثل أن يبيع عدلًا على أنّ فيه خمسين ثوبًا فيجد فيه إحدى وخمسين (¬1) ثوبًا. فإنه اختلف قول مالك في ذلك فقال مرّة: يكون البائع شريكًا بجزء من اثنين وخمسين جزءًا. ثم قال: يردّ ثوبًا كعيب وجده. فقال ابن القاسم: فقلت له: أفلا يكون شريكًا بجزء من اثنين وخمسين جزءًا؟ فانتهرني ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اثنين وخمسين، كما يقتضيه النص الوارد بعدُ.

وقال لي: يردّ ثوبًا كعيب وجده. فاختار ابن القاسم قوله الأوّل. واختلف المتأخرون في تأويل قَوله:. يرد ثوبًا كعيب وجده. فقال بعضهم: يردّ المشتري أيّ ثوب شاء. لأنّه إذا ردّ ثوبًا، اختار ردّه، بقي الباقي مطابقًا للصفقة الّتي عقد البيع عليها، فلم يكن للبائع مقال. وقال بعضهم: بل يردّ ثوبًا وسطًا منها ليكون ذلك عدلًا بينهما. وأشار بعضهم إلى أنّه إذا ردّ ثوبًا بحكم اختياره، فإنّه يقوّم، فإن صادفت قيمته كونها جزءًا من الجملة التي هي اثنان وخمسون لزم ذلك البائع. وإن كان الثّوب أكثر من قيمة الجزء الذي يكون فيه شريكًا أو أقل من ذلك، وقعت المشاركة في الثوب المردود إن زادت قيمته على التّجزئة، أو وقعت المشاركة في ثوب آخر إن كانت القيمة أنقص. وممّن سلك هذه الطريقة من رأى أنّ النّقص والزيادة لا تقع بهما مشاركة وإنّما يقضى فيهما بالقيمة، دنانير كانت أوب راهم؛ لأنّ المحاكمة إنّما قصد بها انفراد كل واحد بملكه، فإذا وقعت المشاركة خرج الحكم عمّا قصد إليه المتبايعان. وأشار بعضهم إلى اختلاف قول مالك رضي الله عنه ربّما صرف إلى كون التقويم لا بد منه. وإنما قال مرّة: إن ثبوت المردود مصروف إلى اختيار المشتري ثم يقوّم، وقال مرّة: ليس ذلك بمصروف إلى اختياره، بل إلى ما تخرجه القرعة، كما يفعل في وارثين ورثًا ثيابا، وأرادا رفع الشركة فإنّما ترفع بالقرعة. فصل يشتمل على مسائل في المدوّنة في كتاب بيع الغائب. فمنها: قوله بإجازة شراء ممرّ في دار. وقد كنا نحن نبّهنا في كتاب البيوع الفاسدة على أنّه ما يحرم تملكه لا يجوز بيعه كالخمر والخنزير؛ لأنّ المنفعة. إذا كانت موجودة، ولكنّ الشّرع حرمها ومنع منها، فإنّ المعاوضة تكون من أكل المال بالباطل. وكذلك إذا كان المبيع يصحّ تملكه ولا منفعة فيه في الحال،

كدار تباع أو عبد كبير يباع، فإنّ ذلك مِمّا ينتفع به في الحال والمآل، وما لا ينتفع به في الحال كطفل رضيع يباع، فإنّه ينتفع به في المآل دون الحال، فإنّ البيع فيه لا يجوز لعدم المنفعة أيضًا. ولهذا قال أشهب في هذه المسألة: إنّما يجوز البيع إذا كان مشتري هذا الممرّ يتوصّل به إلى ما ينتفع به، كأرض له يصل لينتفع بها من هذا الممرّ. وهذا الذي قاله تأويل لا بد من حمل ما في المدوّنة عليه. لأنّه إذا كان يشتري خطوات يخطوها في دار إنسان ذاهبًا وراجعًا لا يتوصّل بها إلى ما ينتفع به في الحال، أو يعلم أنّه سيكون في الماَل، فإنّ هذا من إضاعة المال. وإذا كان يتوصّل بذلك إلى ما ينتفع به في المآل، وكان هذا شرطًا في صحّة هذا البيع، فإنّه لو استحق هذا المنتفَع به الذي اشتُرِي الممرُّ إليه، فإنّ البيع في الممرّ يبطل، لكون استحقاق هذا يشعر بأنّ المبيع عقد على أمر لا منفعة فيه، وذلك من إضاعة المال. وقصارى ما في هذا الجهل بشرط صيغة هذا البيع، أو اعتقاد حصوله، فكشف الغيب أنّ هذا الاعتقاد باطل، فينقل الحكم في هذا إلى أصله، وهو كون المشتري أضاع ماله، كمشتري أرض بها زرع لم يبد صلاحه فإنَّ ذلك جائز. فلو استحقّت الأرض لبطل البيع في الزّرع، لكون جوازه من شرطه كونه تبعًا للأرض، فإذا كشف الغيب أنّ العقد إنّما وقع على مجرّده انتقل الحكم إلى أصله في منع بيع الزّرع قبل أن يبدوَ صلاحه. وقد ذكر في هذا الكتاب في المدوّنة فيمن باع عمودًا عليه بناء للبائع: أنّ ذلك جائز. والذي ذكره من جواز هذا يفتقر إلى شرطين: أحدهما أن يكون هذا البيع لا يتضمّن إضاعة مال وفساده، مثل أن يكون البناء الذي على العمود كثير مقداره، كثير ثمنه بحيث يعلم أن هدمه وإفساده والعوض عن هذا ثمن نزر يأخذه في العمود لا يفعله إلاّ السفهاء ومن لا ميز له ولا يحسن تدبير المال. فإذا كان الأمر خارجًا عن هذا الغرض، صحيحًا، يراه العقلاء الرشداء من حسن النظر جاز هذا البيع. والشرط الثاني: أن يكون يؤمَن على العمود إذا قلع ونقل عن مكانه من فساده وكسرهِ، فإنّه إذا لم يؤمن من ذلك عليه صارت المعاوضة

عنه كالمعاوضة عن شيء لا يعلم المشتري هل يحصل له أم لا؟ أو على أي صفة يحصل. وأمّا حكم إجارة زوال البناء فإنا نقرّر في ذلك مقدّمة إليها يسند النظر في هذا الحكم. وذلك أنّه قد تقرّر أنّ المبيع على البائع التّمكينُ منه. فإذا لم يمكن المشتري منه مع دفعه الثفن وبذله، صار كغاصب غصب المشتريَ هذا المبيع، ولم يستحق العوض عنه. وقد كنّا قدّمنا في كتاب الردّ بالعيب الكلام على أحكام الضمان في السّلعة المحتبسة بالثمن، وكذلك نبّهنا على هذا في هذا الكتاب الذي نتكلم عليه وهو ضمان بيع الغائب. ولكن قد يحصل التمكين من المبيع ولكنّ التمكين من قبضه والانتفاع به لا يصحّ، كما صوّرناه في بيع الغائب، وأنّ البائع، وإن مكّن المشتري منه، فإن المشتري لا يتمكّن من قبضه بفور العقد. فهذا العمود إذا بيع وعليه بناء للبائع فإنّ البائع عليه أن يمكنه من المبيع على حال يتمكن المشتري فيه من القبض، ولا يحصل التمكين من ذلك إلاّ بزوال ما عليه من البناء. فعلى البائع هدم ما عليه من البناء ليحصل للمشتري التمكّن من المبيع. فإذا هدم ما عليه فقد ذكر في غير المدوّنة أن أجرة القلع على البائع. وأشار بعض الأشياخ إلى استبعاد هذا وأنّ قائله يريد بأجرة قلع العمود أجرة زوال ما عليه من البناء ليتمكن المشتري من قبضه. ولا وجه لاستبعاد ما وقع في هذه الرّواية من كون أجرة القلع على البائع لأن العمود إذا كان منشوبًا في الأرض يفتقر تحصيله وهو في ملك البائع، إلى أجرة، صار التّمكين على البائع ليخلص للمشتري الملك المبيع ها هنا، كما عليه إزالة ما على العمود ليخلص للمشتري المبيع. وإن كان هدمُ ما على العمود أوضح في هذا لكون المشتري لو تمكن له قلع العمود بما عليه لم يملك جميع ذلك، ولم يسقط ملك البائع عن ما على العمود. والأرض المنشوب فيها العمود ليست على العمود ولا ينقلع العمود وعليه شيء منها.

وكذلك لو بيع سيف محلّى فاستثنى البائع حليته، فإنّه يقضى على البائع بإزالة الحلية ليتمكّن المشتري من قبض الكيف مجرَّدًا منها. فالحلية كالبناء والحكم فيهما واحد. لكن لو وقع البيع في البناء الذي على العمود، أو الحلية المركبة على السّيف، لكان هذا على القولين فيمن باع صوف غنمه وهو على ظهورها، أو ثمر نخل وهو في أغصانها. فإنّه اختلف في إزالته عن ظهور الغنم وأغصان الشجر، هل هو على البائع، لأنّه وإن تمكّن المشتري من الثّمر والصّوف، فعليه أن يصيّره إلى حال يتمكّن المشتري مِمّا مكّنه منه. أو على المشتري لأنّ البائع يطالب (¬1) بأكثر من التّمكين، وهو قد فعله، فتكون الإجارة في ذلك على المشتري. ولو باع شاة واستثنى جلدها فإنّ ظاهر المذهب أنّ الذبح على المشتري يذبحها لنفسه، ثم يختلف عندي في السّلخ. فإن قلنا: إنّ المستثنى مشترى جرى ذلك على القولين في شراء صوف الغنم وهو على ظهورها. وإن قلنا: إن المستثنى مبقىً على ملك البائع كان السَّلخ على البائع، ولو ذبحت، ليحصُل لكلّ واحد ما ملكه منها. وقيل: إن الإجارة عليهما جميعًا، يجرى ذلك على القولين في كونهما بينهما نصفين أو على قدر الأموال. كما اختلف في حارس الأندر، هل إجارته على قدر الأموال المحروسة أو على عدد المالكين لها. وذكر في المدونة في هذا الكتاب جواز شراء غرز جذوع في حائط. وهذا إن وقع العقد فيه على التّوقيت إلى أجل معلوم فهو إجارة تجري على حكم إجارة دار السّكنى، فإنّها إن انهدمت بطل العقد فيما بقي من المدة. وكذلك إن انهدم هذا الحائط بطلت الإجارة التي عقدت في غرْز الخشب فيه في باقي المدّة. ولو شرط غرزها على التأبيد لكان ذلك كشراء الرقاب التي يملك المشتري ما اشتراه على التّأبيد. وكأنّ المشتري لِحمل هذه الجذوع اشترى حملها له في ذمة البائع. فلو هدم الخائط لكان على صاحبه إعادته ليغرز ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: لا يطالب.

صاحب الخشب خشبه فيه. كما على صاحب السفل أن يبنيه إذا انهدم ليحمل صاحب العلوّ علوّه عليه. وذكر في المدوّنة في هذا الكتاب جواز بيع رجل مقدار هواء عشرة أذرع من أعلى داره بعد أن يبقي لنفسه مقدار عشرة أذرع من الهواء تحت الهواء الذي باعه. وهذا الذي ذكره من شرط جوازه أن يبني البائع العشرة أذرع من الهواء المتّصل بسطح داره ليبني المشتري العشرة أذرع من الهواء الذي اشتراه، إذ يستحيل أن يعتمد ما يبنيه المشتري على الهواء، وهو إنّما اشترى هواء فوق هواء، فلا يمكنه الانتفاع بما اشتراه إلاّ بعد أن يبني له الهواء الذي تحت الهواء الذي اشتراه، وإلاّ فيكون هذا العقد من أكل المال بالباطل. وقد قدّمنا التنبيه على منع مثل هذا فيمن اشترى ممرّ دار لا يُسلك في هذا الممرّ إلى ما ينتفع وإذا كان لا بدّ من اشتراط بناء البائع للهواء المتصل بسطحه فلا بدّ من وصف هذا البناء الذي يبنيه هذا البائع لكون البناء يختلف، فمنه ما لا يثبت ما يبنَى عليه من علوّ إلا زمانًا قليلًا، ومنه ما يَلبث زمانًا طويلًا، فالغرر إنّما يرتفع بمعرفة المشتري للهواء مآل ما يبني عليه ما اشتراه من قوّة أو ضعف. وإذا أجزنا هذا جاز أيضًا أن يبيع منه هو عشرة أذرع متّصلة بسطح البائع، بل هذا أجرى في الجواز لكون المشتري يتمكّن من الانتفاع بما اشتراه، بأن يبنيه في الحال من غير ترقب لما يفعله غيره. ولكن من شرط جواز هذا أن يصف المشتري ما يبنيه حتى يكون معلومًا عند البائع، وإلا صار في العقد غرر. لأنّ صاحب الدّار يختار ألاّ يثقل على سطحه فينهدم، والمشتري قد يختار التثقيل. والغرر إنما يرتفع بوصف البناء الذي يبنى على السّطح وصفًا يصيّر هذا البيع لا غرر فيه. فلا بد من اعتبار ما أشرنا إليه في جواز بيع هواء فوق هواء، وهو متّصل بسطح البائع، على حسب ما أجازه في المدوّنة في هذا الذي ذكرناه. وذكر في المدوّنة أيضًا في هذا الكتأب جواز شراء المُسكن رجلًا دارًا له

حياته، وإخدامه عبدًا له حياته لهذا السكن، وهذا الإخدام، مع كون هذا في الظّاهر شراء مبيع لا تعلم حقيقته ولا مقداره، لأنّ الإنسان إذا أعمَر رجلًا سكنى داره حياته، أو خدمته عبده حياته، فإنّ منتهى الحياة غير معلوم، ويختلف زمن طروق الآجال اختلافًا شديدًا، حتى لا يدري صاحب الدّار هل يموت السّاكن بعد شهر من يوم أسكنه، أو بعد سنين كثيرة، وقد اشترى صاحب الدّار منافع لا تعلم، وهذا واضح على مقتضى الأصول. لكن سمح صاحب الدّار وصاحب العبد (¬1) ينتزعها من يده من اشتراه متى شاء لا يكون ثمنه كثمن عبد في يدهِ عشرة دنانير. فإذا علم أنّ الثمن يختلف باختلاف مال العبد في القلّة والكثرة وجب أن يعطى حكم بيعه مجرّدًا منفردًا عن العبد لا سيّما إذا راعينا قول من قال من العلماء إنّ العبد لا يملك ذلك، يتضح معه أن السيّد باع العبد وماله. والمذهب عندنا أنّ السيّد لو قال للمشتري: أبيعك عبدي ومالَه، لم يجز ذلك، حتى يكون المال معلومًا. ولا يوقع في الرّبا، لأنّه لما قال: أبيعك عبدي وماله، صرّح بأنّه عقد البيع على مال العبد كما عقده على رقبته، فيراعى فيه ما يراعى في العقد عليه لو انفرد عن البيع. وهكذا المذهب لو قال: أبيعك عبدي وله مائة دينار أُوفيكَها. فإنّ قوله: أوفيكها، إشارة إلى أنّه باع العبد ومائة دينار معه. إلى هذا أشار ابن القاسم. واختلف المتأخرون من الأشياخ لو قال: أبيعك عبدي وله مائة دينار، هل يمنع من ذلك ويصير ذلك حكمه حكم ما لو زاد على ذلك، فقال: أُوفيكها. أو يكون هذا بخلاف من زاد في هذا اللّفظ: أو فيكها، أو إنّما قصد بيان ما عند العبد من مال. وهذا كلّه يشير إلى أنّ المال إذا اشترطه المشتري لنفسه لم يجز. وإن اشترطه للعبد جاز. وقدّر في ذلك معنى الاشتراط إبقاء المال ملكًا للعبد على حسب ما كان قبل عقد البيع. وأنه لو اشترط المشتري ذلك لم يجز، لأنّه كمن اشترى مالًا مجهولًا، واشترى مالًا بمال فوقع في الرّبا. ¬

_ (¬1) محوٌ بمقدار سطر.

وقد أشار بعض أصحابنا إلى أنّ علّهّ الجواز لاشتراط كون هذا الاشتراط إنّما منعناهُ إقرارًا لمال على ملك العبد، على حسب ما كان قبل البيع. وهكذا، صحاب الشافعي تعليلان في هذا أيضًا فقال بعضهم: إنّما جاز الاشتراط للمال لكونه لم تقع المعاوضة عليه، وإنما وقعت على إقراره على ما كان عليه قبل البيع، وهذا يقتضي العفو عن كون المال مجهولًا أو موقعًا في الرّبا. وقال بعضهم: إنّ العلّة في ذلك كون المال تبعًا. وقال أبو حامد الاسفراييني في هذا التعليل الذي قاله بعض أصحاب الشافعي أنّه يقتضي العفو عن كون المال مجهولًا منه ربا، لأنّ الأتْباع لا يلتفت فيها إلى الجهالة ويلتفت فيها إلى الرِّبا. وهذا الذي قاله من كون الأتباع يلتفت فيها إلى الربا، لا يصحّ إطلاقه على أصل مذهبنا المشهور في جواز بيع الكيف المحلّى بفضّة بدراهم إذا كانت حليته تبعًا، لما كان مرتبطًا بالكيف ودعت الضرورة إلى بيعه على ما هو عليه. فأنت ترى أصحاب الشافعي كيف اختلفوا في التّعليل كما اختلف فيه أصحابنا. هذا حكم جواز اشتراط جميع مال العبد. وأمّا اشتراط بعض ماله ففيه قَولان: ذكر ابن القاسم المنع، تقديرًا منه أن جواز اشتراط جميعه رخصة، والرّخص لا يقاس عليها ولا تغيّر عن موقعها. وذكر أشهب جواز ذلك، تقديرًا منه أنّه إذا عُفي عن الجهالة في جميع مال العبد، وعن الرِّبا، كان العفو عن وقوع ذلك منه كاشتراط نصف المال أوْلى وأحرى. هذا إذا كان جميع العبد ملكًا لرجل واحد لا شركة لغيره معه. وأمّا إن كان عبدًا بين شريكين باع أحدهما نصفه واشترط مشتريه نصف المال الذي يختصّ بهذا النصف من العبد، فإنه يتّضح أن من منع ذلك في

اشتراط نصف مال عبد، جميعُه للبائع، فإنه يمنع هذا في اشتراط نصف المال المقابل للنّصف المبيع. ومن أجاز ذلك في جميع العبد فقد يجيزه ها هنا لأنّ البائع سلم من المال جميع ما كان يقدر على انتزاعه من العبد، وهذا إنّما يقْدِر فيه على الانتزل إذا أذن له شريكه في ذلك، لأنّ العبد المشترك لا يمكن أحد الشّريكين أن ينتزع من المال مقدار نصيبه فيه إلاَّ بإذن شريكه. فكذلك ما ذكرنا ها هنا إنّما يمكّن المشتري من الاشتراط إذا رضي الشّريك الذي لم يبع بذلك. ولو كان البيع لهذا النصيب من الشريك الذي له النصف الآخر، فإنّه يمنع منه، إذا عقد البيع على الإطلاق، لحقّ الشريك في منع شريكه من انتزاع المال، وإطلاق البيع يقتضي بقاء المال للبائع، فيضير بائع نصيبه من العبد إذا أطلق العقد كمنتزع نصيبه من المال. لكن سحنون ذكر أنّ هذا النصيب المبيع إذا باعه مالكه من شريكه واشترط شريكه المال فإن ذلك جائز، يقدّر أنّ الانتزاع وقع بإذن الشريك لما اشترطه. ومقتضى هذا الذي قاله سحنون أنّه يجوز البيع أيضًا على الإطلاق، ويكون الشّريك كالآذن لشريكه في الانتزل أيضًا. وإذا كان البيع من غير الشريك منع من البيع على الإطلاق لكون نصيب البائع من المال يبقى في يد البائع. وأمّا إن اشترطه المشتري ملكًا للعبد فإنّ ذلك يجوز على ما كنّا قدّمنا، لكون المال لم يقع فيه انتزل بل بقي على ملك العبد، على حسب ما كان عليه قبل البيع. ولو كان بعض العبد حُراًّ لمنع مَن له فيه الملك من البيع على الإطلاق، لكون المال يبقى له، فيكون ذلك انتزاعًا أيضًا. وذكر ابن أبي زمنين عن سعيد بن حسّان بأنّه يمنع المشتري لعبدين أن يستثني مال أحدهما. وهذا الذي ذكره إنّما أجرى هذا الاستثناء فيه مجرى استثناء نصف مال عبد واحد اشتراه. وقد يلتفت فيه عندي إلى ما كنّا قدّمناه في كتاب الردّ بالعيب في الصّفقة، إذا جمعت حلالًا وحرامًا، فإنّ كل واحدة من السّلعتين تعطى حكم نفسها، على أحد القَولين. فمقتضى هذا أيضًا أنّ استثناء أحد العبدين ها هنا لا يكون كاستثناء نصف مال عبد واحد. ولو حدث للعبد مال في أيّام العهدة أو في أيام الخيار إذا بيع على خيار،

فإنّ ذلك ملحق حكمه بما كان عنده من مال حين العقد: إن اشترط المشتري ماله حين البيع كان هذا المكتسب للعبد هبة أو ما في معناها، له. وإن أطلق العقد كان ذلك للبائع. وقد ذكر في المدوّنة في هذا الكتاب أنّ عبدًا طعن مشتريه فيه بعيب وأنكر البائع العيب والثّمن مائة دينار، فقال رجل: أنا أخذه بخمسينِ دينارًا على أن يخسر البائع خمسة وعشرين ويخسر المشتري خمسة وعشرين، فرَضِيًا بذلك فإنّ العبد إذا استحقّ رجع مشتريه آخِرًا بما دفع فيه وهو خمسون دينارًا، ويرجع مشتريه الأوّل بخمسة وسبعين دينارًا، لأن عقد البيع الأوّل كان بمائة دينار وقد التزم المشتري خسارة خمسة وعشرين منها وكأنّها عادت إليه. فإذا رجع المشتري الأوّل على من باع منه بخمسة. وسبعين فقد كملت المائة التي وقع العقد بها، خمسة وسبعون مقبوضة وخمسة وعشرون كالمقبوضة لما التزم المشتري الأوّل خسارتها. ولو ردّ المشتري الآخِر هذا العبد بعيب لم يعلم به حين العقد، فإن هذا العيب إن عُلِم أنّه قديم عند البائع الأوّل فإنّ المشتري الآخِر إذا ردّ به كان للمشتري الأوّل أن يردّ به أيضًا كما رُدّ بذلك عليه. ويبقى النّظر في العيب المصالح عنه فحكمه مأخوذ من الأصول الّتي قرّرناها في كتاب الردّ بالعيب. فإذا لم يعلم عند من حدث هذا العيب الثاني كان القول قَول المشتري الأوّل في أنّه لم يحدث عنده لمّا وجب له ردّ البيع بالعيب القديم. ولو علم أنّ هذا العيب الذي ردّ به المشتري الآخِر لم يكن عند البائع الأوّل لكان القَول قَول البائع في العيب المصالح عنه أنّه لم يكن عنده لأنّ المشتري إذا لم يجب له الردّ، فالبيع منعقد، والمشتري يدعي حلّه فوجب ألاّ يقبل ذلك منه على ما أصّلناه في هذا في كتاب الردّ بالعيب. وإذا وجب الردّ على البائع لكون العيب عنده قديمًا فإنّ المشتري الأوّل لا تلزمه الخسارة لأنّه إنّما التزمها على ألّا ينتقض البيع في العبد. وكذلك أيضًا

البائع إنّما التزم ما التزم على ألاّ ينقض البيع. فإذا انتقض عاد الأمر إلى ما أصّلناه في أحكام الردّ بالعيب ولم يكن لهذا الالتزام تأثير. وإذا شكّ في هذا العيب الذي قام به المشتري الآخِر ووجب له الردّ به لكونه لم يحدث عنده، فإنّ القول قَول البائع فيه لكون البيع منعقدًا والصّلح منعقدًا أيضًا، ويحلف على العيبين جميعًا المصالح عنه، والعيب الآخر، ولا مطالبة عليه. وإن نكل عن اليمين وحلف المشتري أنه لم يحدث عنده واحد من العيبين وجب له أخذ الثّمن كلّه؛ لأنّ الصّلح إنّما وقع على ألاّ يحلف واحد منهماة وللمشتري الأوّل أن يتمسّك بالصّلح ويحلف على العيب الآخر فيُثبت له يمينه أنّه كان عند البائع منه ويصير العيب المصالح عنه، لما رضي بالصّلح، كعيب حدث عنده فوجب له أخذ قيمة الغيب الآخر، أو يردّ ويرد مع العبد ما نقصه العيب المصالح عنه. وإن كان العيب الذي قام به الآخر مشكوكًا فيه، هل حدث عند الآخِر أو عند الأوسط أو الأوّل، كان القَول قول الأوسط مع يمينه، ويسقط مقال المشتري الآخِر، ولكن للآخِر أن يحلّف البائع أيضًا على هذا العيب رجاء أن يقرّبه فيردّ المشترى عليه. وإن نكل الأوسط وحلف الآخر لم يمكن الأوسط إذا ردّ عليه العبد من أن يستحلف البائع الأوّل إذا كان قد أكذب الآخِرَ أنّ العيب عندك حدث، لكون هذا يقرَّرُ إقرارًا منه ببراءة البائع الأوّل. وإن كان يشكّ في هذا العيب عند من حدث ولكنّه لمّا نكل ردّ عليه، لم يكن له أن يستحلف البائع الأوّل لأنّ من حقّ البائع الأوّل أن يقول له: لي أن أردّ عليك هذه اليمين، وأنت قد نكلت عنها، فليس لك أن ترجع عن النّكول وقد تقدمت هذه الأصول التي بني عليها هذا التفريع فيما تقدّم.

كتاب التجارة إلى أرض الحرب

كتاب التجارة إلى أرض الحرب

بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على سيّدنا محمَّد وآله وصحبه وسلّم تسليمًا كتاب التّجارة إلى أرض الحرب قال القاضي أبو محمَّد، رضي الله عنه: وإذا كان نصراني عند نصرانيّ (¬1) فأسلم بيع عليه. وإذا ابتاع النّصراني عبدًا مسلمًا لم يجز، وفسخ العقد. وقيل: يصح ويجبرُ على بيعه. قال الإِمام، رضي الله عنه، يتعلّق بهذا الفصل عشرة أسئلة، رأينا أن نقدّم منها ما قدم في المدوّنة الكلام عليه. فمنها أن يقال: 1 - هل يجوز السّفر لبلد الحرب للتّجارة؟ 3 - وهل يجوز أن يبايعوا فيما يكون لهم به قوّة على المسلمين؟ 3 - وهل يجوز أن يبتاع بعضهم بعضًا؟ 4 - وهل يجوز للكافر أن يشتري عبدًا مسلمًا؟ 5 - وما حكم عبد الكافر يسلم؟ 6 - وهل يجوز للمسلم أن يملك مَن بينه وبينه هدنة من الكفّار؟ ¬

_ (¬1) في غ، والغاني: وإذا كان للنصراني عبدٌ نصراني.

7 - وهل تجوز له معاملة أهل الحرب بالرّبا؟ 8 - وهل يجوز لهم معاملتهم بالدّنانير والدراهم؟ 9 - وما حكم معاملة المسلِم الكافرَ بالخمر؟ 15 - وما حكم أرضهم وديارهم في البيع؟ فالجواب من السؤال الأول أن يقال: ورد الشّرع بالمنع من ابتذال مَالَه حُرمة في الدّين. وقال عليه السّلام: "الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه" (¬1) وقد ورد الشرع بالنّهي عن السّفر بالقرآن إلى أرض العدوّ. فإذا سافر المسلم إلى أرض العدوّ، فلا يخلو أن يكون سفره لمعصية يحضلها هناك، أو لطاعة وبرٍّ، أو لأمر مباح. فأمّا سفره طالبًا لمعصية فلا شكّ في تحريمه ولو كان إلى بلد المسلمين فكيف ببلد أهل الكفر. وأما إن كان سفره لطاعة، تجب على الأعيان أو على الكفاية أو ما في معنى ذلك، كان سفره جائزاً. كسفر المسلم إلى أرض الحرب يفتك منه أسيرًا مسلمًا، لكون فكاك الأسرى قد أمر به الشّرع. وأمّا إن كان سفره لأمر مباح في نفسه، كتجارة يبتغيها هناك، فإنّه منهي عن ذلك على الجملة. وظاهر المذهب على قَولين: هل ذلك نهي تحريم أو نهي كراهة؟ فقال ابن القاسم: شدد مالك في السّفر إلى بلد الحرب. وقال ابن الموّاز: ليس بحرام. وقال ابن حبيب؛ قال مالك وأصحابه: لا يجوز السّفر إلى بلد الحرب لتجارة ولكن يجوز ذلك لمفاداة أسير. وذكر سحنون أنّ من ركب البحر إلى بلد الرّوم طلبًا للذنيا فإنّه يجرّح بذلك. وظاهر هذا يقتضى كونه أنّه يرى ذلك حرامًا. وكذلك إطلاق ابن حبيب أنّ ذلك لا يجوز. ¬

_ (¬1) فتح الباري: 3/ 218. كتاب الجنائز: باب 79: إذا أسلم الصبي فمات.

وقد أشار بعض الأشياخ إلى أن ظاهر المدوّنة لا يقع بذلك التّجريح لأنه ذكر فيها قبول شهادة التجّار المسلمين إذا شهدوا بما عاينوه فيها. وظاهر قبول الشهادة يقتضي نفي التّحريم. لكنّ هذا الذي تعلّقوا به في المدوّنة فيه احتمال، لأنه لم يذكر على أيّ صفة دخل هؤلاء التجّار، هل قاصدون لأجل الدّنيا، أو رجعوا إليها بحكم غلبة الرّيح عليهم، أو لمعنى ألجأهم إليه يشبه هذا، مع إمكان أيضًا أن يكونوا جهلوا التحريم، أو قلّدوا من ذهب إلى نفي التحريم. وقد قال أبو الحسن والأوزاعي فيمن سافر إلى بلد الحرب لتجارة: إنّه. فاسق. وهذا كالنصّ على التحريم والتنبيه على تأكده بتفسيق فاعله. وقد علّل مالك النّهي عن هذا السفر يكون أحكام أهل الكفر تجري على المسلم المسافر إليهم. وهذه الأحكام التي أشار إليها، رضي الله عنه، تتنوع تنوّعًا يقتضي اختلاف طبقات النهي عن السّفر إليها. فلو كان المسلم يجرون عليه من الأحكام أن يجبروه على السّجود للأصنام، وإظهار كلمة الكفر أو سبّ الرسل، فإنّ هذا يتأكد تحريم السّفر معه. وإن كانوا لا يحملونه على شيء يخالف دينه، لكنّهم يوقعون به من الإذلال والهونة (¬1) ما فيه إعزاز لهم وإهانة للإسلام، فإنّ هذا أيضًا يوجب المنع. وإن كان يسلَم من جميع ذلك، وإنّما يناله كونه تحت قبضتهم لو حاولوا إهانته لم يقدر على الامتناع، أو يأخذون منه مالًا لتجارته عندهم، فإن هذا أخفّ مِمّا قدّمناه. ولعلّ من أنكر التحريم يشترط في السّفر إليهم أن يكون على هذا الوجه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الهُونَى، أي الذلّ.

وقد سهل القاضي ابن الطيّب في المقام ببلد الحرب لرجل مسلم يضطرّ إليه مَن بذلك البلد من أسرى المسلمين في تعليم ما افترض عليهم في الشريعة والاقتداء به، وهديهم إلى الحقّ وهدي غيرهم، وهذا جار على أسلوب ما قدّمناه من إجازة السّفر إليهم لأمر يوجبه الشّرع من فكاك أسير وبيان ما افترض على المسلم. وأمّا التجريح بالسّفر إليهم فقد قدّمنا ما قاله سحنون وغيره. وكان قد نزل عندنا بالمهديّة منذ نيف وأربعين عامًا شدّة احتاج النّاس فيها إلى السّفر إلى صقلية ليرخص الطعام عندنا لكونه قد عدم. فتخاصم رجلان وانتهى أمرهما إلى السّلطان، وقام أحدهما بشهادة رجل قدح خصمه في عدالة الشاهد لكونه سافر إلى صقلية. وهي وإن كانت الأكثر من سكّانها مسلمين فإن المسلّطين عليهم والمستولي على أهلها ملك من ملوك الرّوم وجنده الرّوم. فجمع السّلطان كل من يفتي بالمكان فاختلفوا، ووقف بعضهم في منع السّفر للحاجة إلى الطّعام. فقلت لهم: ليس هذا ممّا يقتضي الرّخصة في السّفر إلى بلد العدوّ. وتلوت عليهبِم قَوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (¬1). فنبّه سبحانه على أنّ للمسجد الحرام حرمة وتنزهًا عن الأنجاس، والمشركون نجس. ثم نبّه سبحانه على أنّ الحاجة إليهم في جلب الطّعام إلى مكّة لا يرخّص في انتهاك هذه الحرمة، فكذلك الحاجة إلى امتيارِ الطعام من صقليّة لا يوجب الترخيص في السّفر إليها. فاستحسن أكثرهم هذا الاستنباط من القرآن، وبقي بعضهم على التوقّف. فكاتبنا في المسألة إمَامَنا أجمعين وكان ببلد آخر وقد انزوى وانْقطع إلى العبادة. فورد جوابه بأنّ هذا ليس بعذر يوجب الرّخصة في السّفر إليهم: وعلّل ذلك بأنّا وإن كنّا نتَقَوَّى بما نأخذه من الطّعام من عندهم، فإن ما نحمل إليهم من أموال المسلمين لكثرته لهم به قوّة علينا وشدّة تمكن في ملك من ما ¬

_ (¬1) سورة التوبة، الآية: 28.

يكترى (¬1) صلبِ المسلمين. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: منع في المدوّنة من أن يباع من أهل الحرب ما تكون لهم به قوّة على المسلمين، كالسّلاح والخيل والبغال والحمير والأخراج والغرائر والحرير والنّحاس والحرير. وفي كتاب ابن حبيب: والصوف والكتّان والزفت والقطران والجلود. وهذا يوضح وجه منعه على الجملة لأنّ الله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (¬2). فإذا أمددناهم بما يكون لهم قوّة علينا صار هذا نقيض ما أمر الله سبحانه به، وصار معونة على دماء المسلمين. فقد قال سحنون فيمن باع منهم السّلاح فقد شارك في دماء المسلمين. وقال الحسن: من باع منهم الطّعام فهو فاسق، ومن باع منهم السّلاح فليس بمؤمن. وهذا التغليظ في بيع السّلاح لأنا لا نكفّر بذلك إلاّ لمن تعمّد واعتقد استحلال دماء المسلمين. والذي عددناه مِمّا وقع في المدوّنة وغيرها من أصْنَاف ما يمنع المسلم من بيعه منهم منه ما يتّضح وجهه وكونه قوّة كالسّلاح والخيل والبغال والحمير لكونه حمولة لهم، والنحاس والحديد، لكون الحديد مِمّا يعمل منه السّلاح وغيرها، والنحاس مِمّا يعمل منه البوقات والنواقيس. وأمّا ما عدّ في ذلك من الحرير فلعلّه فيما كان منسوجًا يباهى في الحرب بلباسه. وكذلك منع من بيع الشمع، ولعلهم أيضًا يحتاجون إليه في السّفن وغيرها. وكذلك منعه من البسط. وأمّا الصوف والكتّان فينظر في كونه قوّة لهم. ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة في النسختين. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 60.

وأمّا الطعام فذكر ابن حبيب أنه يباع مِمّن بيننا وبينهم هدنة، ولا يباع ممن لا هدنة بيننا وبينهم. ويمكن أن يكون أراد منع ذلك في زمن حاجتهم إليه فيكون بيعه منهم قَوّة لهم علينا. وأمّا السّلاح فلا تباع ممن هادناه أو كان حربًا لنا. وتفصيل القول فيما يتقوّون به يستند فيه إلى النّظر إلى العوائد. وينخرط في هذا السّلك شراء أهل الحرب، من النصارى وشبههم، عبدًا نصرانيًّا بالغًا، فإنهم يمنعون من شرائه. ولا يجوز للمسلم بيع ذلك منهم، كان ببلد الحرب معهم أو دخلوا إلينا بأمان يبيعون تجارة ثم يعودون لبلدهم، لكون بيع هذا منهم نوعًا من القُوّة لهم، لكونهم يطلعهم على ما اطلع عليه من عورات المسلمين التي لم تنكشف لأهل الحرب، فيدعوهم انكشافها لهم إلى غزو هذا البلد الذي يطلعهم هذا العبد المبيع على غرّته، ويخبرهم بالمواضع التي يفتحون البلد منها. ولا يباع منهم العبد النصرانيّ بثمن لكونه (¬1) بيعُه بمسلم أسير عندهم يجوز إذا تساوى الحال بين من يفدى ويفدى به، وأما بيعه منهم وهو ذو شجاعة وكيد ورأي في الحرب بمسلم ضعيف مهين، فإنّه يمنع من ذلك، إلاّ ألاّ يُقدر على فكاك هذا الأسير إلاّ بهذا للشجاعة والكيد، فإن الإِمام يصرف إليه الاجتهاد في هذا. وينبغي أن يوازن ما بين ضرر المسلمين باتْلاف هنا من أيديهم وضرر الأسير وما يرجى فكاكه لغير هذا أو يؤيس منه. وأمّا الصّغار فلا يباعون منهم. (وأمّا النّسوان من شرائهم لهم لعدم الضرر من جهتهنّ وكونهن يبعد إسلامهن إذا كُنّ كبيرات) (¬2). والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: لا يخلو الكافر الذي أراد شراء كافر مثله، من أن يكون يشتري من هو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: لكن. (¬2) ما بين القوسين هكذا في جميع النسخ.

على دينه أو من ليس هو على دينه من أهل الكتاب: فأمّا إن أراد النّصراني شراء عبد نصراني بالغ فإنّه لا يمنع من ذلك لكونه لا يستحيل الاضطرار به (¬1) لمساواته في الدّين، ولا يخاف إذا كان سيده يسكن به بلاد المسلمين من كونه يطلع أهل الخرب على غرّة المسلمين وما يخافون منه. وأمّا إن كان هذا العبد صغيرًا ففيه قولان: أحدهما منعُه من شرائه له. فوجه المنع، وهو المذكور في المدوّنة وغيرها، أنّ الصّغير يرجى إسلامه إذا دعي إلى الإِسلام لكونه لم يرسَخ في نفسه الكفر، ولا عنده من الحنكة ما يصادم به من أراد أن ينقله عن دينه. بخلاف البالغ. فإن وقع هذا البيع ففي العتبيّة أنّه يفسخ. وقد يتخرج على قول آخر أنّه يباع عليه من مسلم. ووجه القَول الثاني وإليه ذهب ابن الموّاز أنّا لسنا على يقين من قبوله الإِسلام إذا اشتراه مسلم فلا يمنع النصرانيّ من شرائه، مع كون إسلامه غير متحقق لا سيما على ما ذكره ابن الموّاز عن أشهب من كون الصغير المنفرد عن أبويه إذا اشتراه مسلم فإنه لا يجبره على الإِسلام لكونه من أهل الكتاب، وأهل الكتاب لا يجبرون على التنقّل عن دينهم. وأمّا إن كان العبد المبيع الكافر على خلاف دين من أراد أن يشتريه من الكفرة، مثل أن يكون عبد بالغ يهوديّ أراد شراءه نصرانيّ، أو نصراني أراد شراءه يهوديّ. فإنّ هذا أيضًا فيه قَولان: أحدهما المنع من ذلك وإليه ذهب ابن وهب وسحنون. والثاني جواز ذلك. وإليه ذلك ابن الموّاز. فوجه المنع ما قد علم وتقرّر من شدّة العداوة والبغضاء الّتي بين أهل هذين الكتابين، فتمكّنهم من ملك بعضهم بعضًا إضرار بالمملوك وإيجاد للسّبيل إلى أذاه، والإضرار به لا يجوز. ووجه الجواز أن هذا لا حق فيه لله سبحانه، لأنّه لو رضي العبد شراء من ليس على دينه وهو بالغ لم يمنع مشتريه من شرائه فلو كان لله سبحانه فيه حق ما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا يستحلّ الأضرار به.

جاز رضاه بذلك. فإذا تجرّد الحقُّ للعبد جاز الشّراء، ومنع الإمامُ من يملكه من أذاه والإضرار به، وفعله للإضرار يزول بعقوبة المشتري عليها. فلم يجب منعه من الشراء. وأما إن كان العبد المشترَى ليس من أهل الكتاب، كالمجوس والصقالبة والسودان، فإنّه إذا حاول شراء عبد منهم يهودي أو نصراني، فإنّ المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك ليس بحرام. قال مالك في المدوّنة ما علمته حرامًا وغيره أحسن منه. وأطلق الجواب في الصغير منه والكبير. والقول الثاني: أنهم يمنعون من ذلك في صغير أو كبير. ذكرهُ ابن عبد الحكم. والقول الثالث: أنهم يمنعون من ذلك في الصغار دون الكبار. وذكره في العتبيّة قال: وإن اشتروا الصّغار فسخ البيع. واشترط في غير العتبَيّة أنّ فسخ البيع ما لم يتديّن الصغير المبيع بدين. وتَوجيه هذا الخلاف يلتفت فيه إلى الخلاف في وجه آخر، وهو جبر من اشتْرِي من المجوس على الإِسلام. فظاهر المذهب أنه إذا تديّن بدين، واستمر عليه، لم ينقل عنه، ولا يجبر على الرجوع إلى الإِسلام. وأمّا إن لم يتدين بدين مثل من سبي منهم. فإنّ ظاهر المذهب على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يجبر على الإِسلام وإليه ذهب أصبغ. والثاني أنه لا يجبر على الإِسلام. والثالث التّفرقة بين الصغير والكبير. فيجبر الصغير ولا يجبر الكبير. فيتضح مع القول بالجبر منع اليهودي والنّصراني من شرائهم، لأن منعهم من ذلك يقتضي (ألاّ يملكهم الإِسلام) (¬1). فإذا ملكهم جبر على الإِسلام، فلا ينبغي تسهيل طريق إلى الظلال مع القُدرة على الهداية إلى الإيمان. ¬

_ (¬1) هكذا

وإن قلنا بنفي الجبر حسن ها هنا الذهاب إلى التّمكين لليهودي والنصراني من شرائهم وحسن أيضًا التفرقة بين الصغير والكبير، لكون الصغير الغالبُ قبولُه لما يدعى إليه من المذاهب ويربَّى عليه، بخلاف الكبير الذي يرجع إلى رأي نفسه وما يجده في طباعه. فيخلص من هذا أنّ الخلاف في جبر المجوسي على الإِسلام إذا لم يكن تديّن بدين إلاّ ذلك، لكونه يجيب إذا دعي إلى الإِسلام كالصغير الكتابي الذي ليس معه أبوه ولا أمّه. وقد حكينا عن أشهب أنّه لا يجبر. وقيل: يجبر. ويستقصى هذا في موضعه إن شاء الله. وإذا قلنا بالجبر فالجبر إنما يكون بالتّهديد والضّرب، لا بالقتل لكونه لم يتديّن بدين الإِسلام ثم يرتدّ عنه فيقتل. وإنّما هذا الجبر رجاء أن يتديّن بدين الحقّ ويتعلمّه. وإذا وقع البيع ها هنا الممنوع على ما فيه من الاختلاف الظاهر. فالظاهر أنه يجري على قولين في فسخ البيع أو بيعه على من اشتراه. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: لا خلاف في منع بيع العبد المسلم من رجل كافر أو امرأة كافرة. وهذا لقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬1) وبيع المسلم من الكافر يُجعل به للكافر على المسلم أشدُّ سبيل. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الإِسلام يعلو ولا يُعْلى عليه" (¬2). وإذا صار المسلم مملوكًا صار الكافر له علوّ على المسلم، وقدرة على إذلاله وإهانته، فيحصل للكافر عزّة المالك، ويحصل للمسلم بذلك ذلّة المملوك. فإذا تقرّر أنّ هذا البيع محرّم ممنوع، فإذا وقع فماذا يكون الحكم فية؟ اختلف قول مالك فيه. فقال مرّة، وهو المشهور عنه: إنّ هذا العبد ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 141. (¬2) تقدم تخريجه ص 932.

المسلم يباع على النّصرانيّ الذي اشتراه ولا يفسخ بيعه. وهذا هو المشهور عنه. وروى ابن شعبان عنه في مختصر ما ليس في المختصر أنّ البيع يفسخ. وهذا في كتاب ابن حبيب أنّ البيع يفسخ. واختلف قَول الشافعي، على حسب ما اختلف قَول مالك فيه، فقال مرّة: يباع عليه. وقال مرّة أخرى: يفسخ. وذهب أبو حنيفة إلى أحد قولي مالك والشّافعي. فقال: يباع عليه إلاّ أن يخرجه مشتريه النّصراني من يده بعتق أو كتابة فلا يباع عليه، فجعل الكتابة تحلّ محلّ بيعه عليه. وظاهر مذهب الشافعية في الكتابة أنها عندهم على قولين في كونها تحل على بيعه عليه، وأمّا نحن فلا يختلف مذهبنا في أنّ الكتابة لا تجزي في رفع يده عنه، لكون المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأحكام الرقّ باقية عليه لِسَيِّده النّصراني فلا يكتفَى بها في إخراجه من يد النّصرانيّ الذي اشتراه. فأمّا من ذهب إلى أنّه يباع عليه ولا يفسخ فإنّه يستدلّ بقول الله سبحانه: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ} (¬1). وبأنّ النّصراني لا يمنع من التجْر وطلب الأرباح في سائر أنواع المتَملكات؛ والعبد المسلم يكون كأحدها، وإنّما حقه في رفع إذلال الملك للنصرانيّ. وهذا الحقّ يصل إليه ألمسلم ببيعه على النّصرانيّ. كما أنّ الإنسان ممنوع من إذلال أبيه وقهره. فإذا اشتراه عتق عليه ولم يفسخ مع كون الأبوّة تأبى الملك. فعتق الأب يرفع عقوقه بإذلال الملكة. فكذلك بيع هذا يرْفع إذلال الرقّ عنه للنّصرانيّ بيعه من مسلم. وأيضًا فإنّ الكفر لا ينافي ملك ملك المسلم. ألا ترى أنّه يصحّ ملكه للنّصراني بحكم الميراث، مثل أن يسلِم عبد للنّصرانيّ ويموت سيده قبل أن يباع عليه، فيرثه ولده النّصراني فيباع العبد على النّصرانيّ. فإذا صحّ ملكه بالميراث صحّ ملكه بالشّراء ولو كان الكفر ينافي الملك لم يملكه بميراث ولا بشراء. ¬

_ (¬1) سورة البقرة، آية 275.

وأمّا من ذهب إلى فسخ البيع فإنّه يحتجّ بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (¬1). وإقرار ملك النّصراني على المسلم إلى أن يتّفق بيعه عليه إيجاد للكافر سبيلًا على المؤمن؛ وهذا خلاف ما قال الله تعالى. وأيضًا فإن الشّراء إما أن يكون لقربة أو يكون لبيع لطلب ربْح وتنمية وتحصيل منفعة وغرض. فإذا كان النّصرانيّ لا يُقَرّ في يديه مسلم إذا اشتراه لم يحصل له فيه طلب التنمية أو المنفعة. ولا يصحّ أن يشتريه تقرّبًا إلى الله عزّ وجلّ، كما يشتريْ المسلم أباه فيعتق عليه تقرّبًا إلى الله. فيقتضي هذا كون العقد عليه لا يصحّ، كما لا يصحّ عقد المسلم على شراء خشاش وما لا منفعة فيه. فإذا قلنا بفسخ البيع فإنّ ابن شعبان حكى أنّه يفسخ، وإن باعه النّصراني الذي اشتراه من مسلم وتداولته أملاك المسلمين فإنّ البياعات كلّها تفسخ وإن فات العبد في يد النصراني قبل أن يفسخ بيعه فإنّه يضمنه بقيمته. وهذا الذي قاله من فسخ البياعات كلّها مع كون البيع الصحيح يفيت البيع الفاسد. والنصراني الذي اشتراه إذا باعه من مسلم ثم باعه المسلم من مسلم آخر يجب أن يكون هذا فوتًا، ولا ينتقض إلاَّ البيع الأوّل. فهذا الذي ذكره ابن شعبان كأنه مخالف لأصل المذهب، لكن يمكن الاعتذار عنه بأن هذا البيع لمّا كان مجمعًا على منعه وتحريمه كان غير منعقد ولا فيه شبهة العقد، وأصل سحنون في هذا أنّه لا يضمن كما لا تضمن البياعات الفاسدة، لولا أن ابن شعبان قال: إن فات في يد النّصرانيّ ضمنه بقيمط. فهذه الزيادة. الّتي أضافها إلى فسخ البياعات كلها يمنع من إجرائها على طريقة سحنون. ولو أنّ مسلمًا اشترى من نصرانيّ عبدًا نصرانيًّا فأسلم، فإن ابن القاسم ذكر عنه ابن حبيب أنّ هذا المشتري المسلم إذا اطّلع في العبد على عيب فإنّه يردّ على النصرانيّ الذي باعه منه، ثم يباع على النّصرانيّ، وذكر عن أشهب أنّه لا يرد عليه، وإنّما له طلبه بقيمة العيب كما يطلبه بذلك لو فات في يده. ¬

_ (¬1) سورة النساء، الآية: 141.

وهذا الاختلاف يلتفت فيه، عندي، إلى أصل، كمَا قدّمناه في كتاب الردّ بالعيب، من اختلاف المذهب في كون الردّ بالعيب نقضًا للبيع من أصله، أو كايتداء بيع. حسن القول: أن هذا المشتري المسلم لا يردّه على النّصراني، كما لا يجوز له أن يبيعه منه. وإذا قلنا: إنّ الردّ بالعيب نقض للبيع من أصله، فقد يحسن ها هنا القول بأنّ المشتري يمكّن من ردّه، إذ ليس ردّه كابتداء بيع من النّصراني. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد ذكرنا أنّه لا يحلّ بيع العبد المسلم من نصرانيّ، لكون الكفر ها هنا كالمنافي لملك المسلم، لكون الملك والاسترقاق نوعًا من أنواع القهر والإذلال. ولهذا فسخنا البيع على أحد قولي مالك ومذهب أكثر أصحابه. وبعناه عليه على الرّواية الأخرى. وإذا أسلم عبد لنصرانيّ فإنّه، أيضًا، لا يصح أن يقرّ ملكه عليه لما في ذلك من استعلاء الكفر على الإِسلام وإذلال المسلم. وإذا لم يستقر ملكه عليه وجب بيعه عليه للمسلم. ولا يؤخّر ذلك إلا بحسب الإمكان، وإنّما يبقى النّظر هل يجوز أن يبيعه النّصرانيّ على أنّ الخيار له أيامًا، لكون إثبات الخيار له في البيع يقتضي كون ضمانه منه وخراجه له، فكأن حكم الملك باقٍ عليه. أو يقال: فإن مدّة الخيار ممّا قد يحتاج إليها استقصاء للثّمن والبحث. فهذا مِمّا ينظر فيه. لكن لو باع النّصرانيّ عبده النّصرانى على الخيار أيّامًا فأسلم العبد، فإنّه إن كان الخيار للمشتري، وهو نصرانى، استعجل في استعلام ما عنده مما له الخيار فيه من ردّ البيع وإمضائه. لأنّا إن لم نستعجل في ذلك، وأمهلناه بقية أيّام الخيار، اقتضى بنا (¬1) العبد المسلم في حكمه وحكم ملكه وهو لا سبيل إليه. ولو كان مشتريه مسلمًا فاشتراه بالخيار فأسلم العبد في أيّام الخيار، ¬

_ (¬1) في المدنية اقتضاها، وكلاهما غير واضح ولعله: اقتضى بقاءَ.

فظاهر المدوّنة أنّه يمهل المشتري المسلم إلى انقضاء أيّام الخيار، لأنه قد تعلّق له حق بالتأخير إلى هذا الأمد، وهو حق مسلِم، فلا نبطله لحق مسلِم آخر وهو الذي أسلم. كما لو استأجر المسلم عبدًا نصرانيّا وسيّده نصرانيّ فإنّه لا تبطل الإجارة لتعلّق حق مسلم بها، فلا يبطل حق مسلم وهو المستأجِر لحقّ العبد المستأجَر الذي هو باق في الإجارة على ملك سيّدِه، وهو في الإجارة (¬1) إذا كان أمدها بعيدًا لا يصح البيع. فهذا أيضًا يجري على ما ذكرناه في تأخير المسلم إذا كان له الخيار أمدًا معلومًا لتعلّق حقّه بذلك. فالحكم جار على أسلوب واحد في مراعاة حق مسلم فيما له من تأخير الخيار أو تأخير أمد الإجارة مع كون ملك الرّقبة لم يخرج عن الكافر. بخلاف أن يكون المشتري بالخيار كافرًا فإنّه يبطل حقّه في تأخير الخيار لحق المسلم وهو العبد، وحق العبد المسلم مقدّم على حق الكافر. بخلاف حقين تعارضا بين مسلمين. ولو كان المشتري نصرانيّا والعبد نصرانيًّا فأسلم، والخيار للبائع وهو مسلم، فهل يجوز للبائع المسلم أيضًا البيعْ للنّصراني أم لا؟ هذا قد يجري على القولين في بيع الخيار إذا أمضي هل يقدر أنه إنّما عقد حين إمضائه، فيقتضي هذا منع المسلم البائع من إمضاء البيع في عبده، الذي أسلم، من النّصراني الذي اشتراه، لكون هذا كابتداء بيع مسلم من نصرانيّ. وإن قدّرنا أنّ البيع إذا أمضي فإنّه لم يزل ماضيًا حين العقد، فهذا قد يقال فيه: إنّ له إمضاء البيع ولا يكون كمبتدي بيع عبد مسلم من نصراني، لأن هذا البيع إنّما عقد في حال يجوز فيه العقد. وزمن العقد هو المعتبر على هذه الطريقة لا زمن إمضاء الخيار. وإذا تقرّر وجوب بيع العبد إذا أسلم على سيده النّصراني وأن الغرض بهذا ¬

_ (¬1) من قوله: (على ملك) .... إلى (الإجارة) ساقط من المدنية.

زوال الملك عنه، والملك يزول بالعتق وبالهبة والصدقة فإذا أعتقه سيدّه النصراني فقد حصل الغرض من إزالة ملكه عن العبد. وكذلك لو تصدّق به أو وهبه لمسلم وزالت يده عنه، فإنّ الغرض أيضًا قد حصل وهو زوال ملك النّصرانى عن المسلم. لكن لو كانت هذه الهبة أو الصدقة على ولد صغير مثل أن تكون نصرانية لها زوج مسلم، وله منها ولد صغير، فإن عبد هذه النّصرانيّة إذا أسلم فتصدّقت بالعبد على ولدها الصغير فإنّ الغرض أيضًا قد حصل من زوال ملكها عنه. لكون ولد المسلم مسلمًا، وكون الصّدقة لا تعتصَر. وأمّا إن وهبته لولدها الصغير فإنّ الأشياخ اختلفوا: هل يكتفى بهذا في خروج ملكها عنه أم لا؟ فمنهم من ذهب إلى أن ذلك يكتفى به ويغني عن بيعه عليها لكون ولدها الذي وهب هذا العبد له مسلمًا وأبوه يحوز له ما يملك، فقد تحقق زوال الملك وزوال اليد عنه من جهة سيدته النّصرانية، وإذا حصل الغرض لم تبق عليها مطالبة بعده. ومنهم من ذهب إلى أنّ ذلك لا يكتفى به لكون أحد الأبوين إذا وهب لولده هبة فإن له اعتصارها والرجوع فيها، فكون هذه النصرانيّة قادرة على ردّ هذا العبد إلى ملكها يصيّر العبدكأنّه باق على ملكها لم يسقط ملكها عنه. واختلافهم هذا قد يجري على ما اختلف فيه المذهب من كون من قدر على أن يملك هل يعدّ كأنّه مالك الآن أو لا يعدُّ مالكًا حتى يصرّح بأنّه قد ملك ما جعله له الشّرع أن يملكه؟ وقد اعتضد من قال: إن هذه الهبة لا تكفي ها هنا في الغرض المقصود لأجل القدرة على الاعتصار بما ذكره في المدوّنة من أن رجلًا إذا كان عنده أختان مملوكتان فوطىء إحداهما، فإنه لا يحل له وطء الأخت الأخرى حتى يفعل ما يحرم عليه الأولى، الّتي وطئها، من عتق أو بيع وشبه ذلك. ولا يجزي في ذلك هبتها لولدٍ له صغير لكونه قادرًا على اعتصار هذه الهبة منه. فقدر أن قدرته على ردّها إلى ملكه يصيرها كمن لا يخرج ملكها عنه.

وانفصل الآخرون عن هذا بأنّ هذا الذي يملك أختين مسلم يجوز له أن يعتصر ما وهب لولده. وهذه النّصرانية لا يجوز لها أن تعتصر العبد الذي وهبته لولدها إذا أسلم، كما لا يجوز لها أن تشتريه. فإذا كانت ممنوعة من اعتصاره لكون الكفر المنافي لاسترقاق المسلم، لم يقدّر أنها مالكة لهذا العبد كما قدّر ذلك فيمن ملك أختين وطئ إحداهما ثم وهبها لولده. ولو أنّ هذا العبد، لما أسلم، لم يخرجه سيده عن ملكه حتى تعدّى فاستدان عليه دينًا فرهنه فيه، فإن هذا لا يكتفى به في إخراج من ملكه، لكون الرّهن باقيًا على ملك راهنه. وقد ذكرنا أنَّه لا يصحّ أن يبقى المسلم في ملك الكافر. فإذا لم يصحّ هذا وجب بيع العبد على راهنه، لحقّ الله تعالى في ذلك، وحق العبد. فإذا بيع وجب تسليم الثمن لمن كان في يده رهنًا بدلًا من عين العبد الذي إنما عامل راهنه على أن أخذه ثقة لحقه. إلاَّ أن يدفع الرّاهن رهنًا يكون ثقة بهذا الحقّ فيأخذ الثّمن لأنّ من بيده الرهن إنّما تعلّق حقه بعين الرهن، وقد غلبه الشرع عليها، فجعل ثمنها رهنًا بدلها. فإذا أتى الرّاهن بثقة حقّه أخذ الثمن، وصار ما أتى به بدلًا عن العين التي غلب الشّرع عليها. ومن الأشياخ من يشير إلى أنّ هذه المعاملة الّتي وقعت على أخذ عين هذا العبد فغلب الشّرع عليه فإن ثمنه ها هنا يعجل للمرتهن عنده لكون راهنه تعدّى في رهنه. فإذا بيع عليه صار كأنه هو الذي باعه ليقضي ثمنه في الدّين. ومنهم من يشير إلى أن إبقاء الرّواية على ظاهرها وإطلاقها في أنّه إذا أتى برهن ثقة حق من كان العبد بيده رهنًا مُكن من أخذ الثّمن سواءًا وقعت المعاملة على ارتهان عين هذا العبد، أو وقعت المعاملة على أن يأتي برهن ثقة الحق، فأتى بهذا العبد. ولو أنّ سيّد العبد عقد فيه إجارة، وهو نصراني، من رجل نصراني، فأسلم العبد وقد بقي من الإجارة مدة، فإنّ العقد ينحل، ويؤدّي المستأجر إجارة ما تقدّم من الزمن قبل إسلام العبد، ويفسخ العقد فيما بقي من أمد الإجارة.

وهذا الذي ذكره في هذه الرواية يمكن أن يكون بناء على أحد قولي مالك ومن وافقه من أصحابه في أنّ العبد المسلم إذا بيع من نصرانيّ فسخ البيع. وأمّا على الرّواية الأخرى، فإنّه تباع منافعه بقيّة أمد الإجارة على النّصرانيّ الذي استأجره كما يباع عليه إذا اشتراه. وقد ذكر في المدوّنة أن من له دين على رجل باع الدّين من عدوّ للمديان إن هذا البيع يفسخ ولم يقل: إنّ هذا الدّين يباع على مشتريه الذي هو عدوّ من هو عليه. كما قال في عبد مسلم اشتراه نصراني أو مصحف اشتراه نصرانيّ، فإن ذلك يباع عليه لكون الكافر عدوًّا للمصحف والمسلم. وقد اعتذر عن هذا بأنّ الدّين يتعذر فيه تعذرًا يلحق فيه ضرر لمن يباع عليه. فلهذا فسخ البيع فيه. والمصحف والعبد لا يتعذر بيعهما. فلهذا قيل: إئهما يباعان ولا يفسخ البيع فيهما. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: أما أمير المؤمنين فإنّه إذا عاقد مهادنة وصلحًا على المسلمين بينه وبين قوم من الحربيين، فإنّ ذلك العقد يلزم سائر المسلمين في شرق البلاد وغربها، وحيثما كانوا. وما من سواهم من ولاة الأفور الذين ولاهم فإنّهم أيضًا يجوز عقدهم على مقتضى ما أذن لهم فيه أمير المؤمنين. فإذا ولَّى أحدًا على إقليم معيّن أو بلد معيّن لا ينفد حكمه وعقده إلاّ فيما كان ما عقده لازمًا على ما ولّي عليه دون غيره من البلاد التي لا ولاية له عليها. وأمّا من ولي بحكم سيفه واقتداره، لا بولاية الإِمام اللاّزمة طاعته، فإنّ هذا له حكم آخر. فإذا أغار قوم من الحربيين على قوم من الكفّار قد عُقِد لهم صلح وهدنة، فإنّه لا يجوز للوالي الذي عقد لهم أن يسبيهم ويملكهم. ولا يجوز ذلك لمن عقد ذلك عليه من المسلمين مِمّن له ولاية عليه وهو من رعيته. وأمّا إن سباهم قوم حربيون وأغاروا عليهم ثم أتوا بهم إلى الوالي الذي هادنهم، فهل يجوز له ولرعيته أن يشتريهم أم لا؟ هذا فيه قولان: المشهور

منهما أنّ ذلك لا يجوز. وذكر ابن شعبان أنّه جائز. وسبب الخلاف في هذا الالتفات إلى ما يقتضيه لفظ المعاقدة فإن كانوا عقدوا وهادنوا الملك المسلم على أن لا يسبيهم بنفسه ولا يشتريهم مِمّن يسبيهم فإنّ هذا العقد يجب الوفاء به ولا يجوز لهذا المَلِك المسلم ولا لأحد من رعيته شراؤُهم. وإن عاقدهم على أن يكفيهم مؤونة نفسه وإن سباهم غيره اشتراهم، فإنّ هذا يحيى شراءَهم له ولرعيته. وإن أطلق المهادنة والصّلح فها هنا قد يحسن الخلاف: هل يتضمّن هذا الإطلاق ألاّ يشتريهم مِمّن أتى بهم أوْ لا يتضمّن إلاّ كونه ألاّ يسبيهم ولا يحاربهم ويستبيحَ أموالهم. ولو عاقد الإِمام قَومًا على أن يدفعوا إليهم كل عام عددًا معلومًا من الكفّار فأتوا بذلك العدد من جملتهم مِمّن لهم حكم عليهم (..........) (¬1) تبع لهم كأبنائهم، فإنّ هذا العقد إن كان على التأبيد أو إلى أمد طويل فإنه لا يجوز للإمام أن يقبل ذلك منهم لكون من أتَوْا به قد دخلوا في العقد والمهادنة. وأمّا إن كان قد عاقدهم وهادنهم إلى مدّة لطيفة كالسنتين والثلاث، ففي هذا قولان: أحدهما أنّه يجوز للإمام قبول ذلك منهم لكون الأمد اللّطيف لا يتضمّن دخول الأبناء والنساء فيه، بخلاف الأمد الطويل الذي يقتضي كبر الأبناء ودخولهم في العقد والمهادنة. وفي كتاب ابن حبيب أنّ ذلك لا يجوز. وقدر أنّ الأمد، وإن كان قليلًا، فإن المهادنة تتضمّن دخول أبنائهم فيه. وأمّا الكفّار إذا دخلوا بلدنا للتّجارة بأمان فأرادوا بيع أولادهم ونسائهم، فإنّهم لا يمنعون من ذلك لكون التأمين إنّما. تضمّن أنفسهم وأموالهم لا أبناءهم ونساءهم. وفي الموّازية لا يشتري منه زوجته وأبناءه الكفّار كما لا يشتري منه صاحبَه إلاّ أن يرضى صاحبه بذلك. والجواب عن السؤال السّابع: أن يقال: أما من كان مالكًا لماله على الحقيقة ملكًا لا يُقدر على إزالته من يده إلاَّ ¬

_ (¬1) بياض في النسختين بمقدار كلمة.

برضاه، فإنّ حكم الرّبا فيُقَدَّر فيه على حسب ما قدّمناه في كتاب الصّرف. وأمّا من كان يباح له أخذ ماله بغير رضاه، كالعبد والحربي، فإنّ العبد لسيده أن ينتزع ماله من يده بغير اختياره. فإذا باع منه سيده دينارًا بدينارين أحدهما من العبد، فكأن الدينار الثاني انتزعه منه بحكم ما جعل له الشرع من انتزاع ما في يديه. ولو أنّ العبد دفع إلى سيّده دينارًا في دينارين لكان أيضًا إنما أعطى السيّد ماله وهو كخزانة أخذ السيد منها مالًا ووضع فيها مالًا أكثر منه أو أقلّ. وهذا قد تقدم بيان حكمه. وسبب الخلاف فيه. وأمّا الحربي فإنه يجري على هذا الأسلوب. فإنّا، وإن فلنا: إنّ الحربيّ مالك لما بين يديه لقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} (¬1). فأضاف المال إليهم، وهم ممن يعقل، والإضافة لمن يعقل إضافة ملك لا إضافة اختصاص. فإن للمسلمين غزوهم وأخذ أموالهم بالسّيف والقهر، فصار المسلم كالقادر على انتزاع. ما في يد الحربي بالشّرع. وإن منعه الحربي بسيفه، فإنّ المسلم المغلوب على حقه، فله أن يأخذه بتحيّل عليه بأن يسمّي ذلك بيعًا. أو يقال: فإنّه يمنع من ذلك لكونه لم يأخذه على جهة القهر والغلبة والغنيمة بل على جهة المبايعة، وهو في الشّرع ممنوع من المبايعة في الرِّبا، كما يمنع المسلم من أخذ مال الحربيّ إذا ائتمنه عليه، وإن كان مال الحربيّ مباحًا له، لكن أخذه على جهة الخيَانة في الأمانة ممنوع منه، لورود الشرع بأداء الأمانة لمن ائتُمن عليها. فكما منعت الأمانة من أخذ هذا المال الذي يباح أخذه بالسّيف وبالسّرقة والغصب كذلك تمنع المبايعة التي فيها الرِّبا من أخذه أيضًا. وقد اختلف في المسلم إذا كان ببلد الحرب يتمكّن من وطء امرأة حربي استبرئت، أو حربيّة لا زوج لها، هل يحدّ كما ذهب إليه ابن القاسم لأنّ الفروج لا تستباح إلاّ بنكاح أو ملك يمين، وهذا لم يتزوّج ولم يملك، فصار كالزّاني. أو لا يحدّ، كما ذهب إليه عبد الملك، لأنه يباح له أخذ الرقبة بالقهر، فإذا ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 27.

غلب عليها، ولم يغلب على المنفعة، كان له أن يستبيح المنفعة، ويكون كمن وطئ ملك يمينه، لا سيّما والحدود تدرأ بالشّبهات. وقد اختلف المذهب في قطع من سرق ملك حربيّ نزل ببلد من بلاد المسلمين بأمان لتجارة، فأسقط عنه القطع في أحد القَولين لكون الحربيّ يستباح ماله، وهو إنما عصم ماله ودمه بسبب الأمان إلى حين، فصارت هذه شبهة ترفع حكم القطع في السّرقة. والجواب عن السّؤال الثامن أن يقال: اختلف المذهب في جواز معاملة اليهود والنّصارى وغيرهم من أهل الكفّار (¬1) بالدّنانير والدّراهم المنقوش فيها اسم الله، عَزَّ وَجَلَّ. فالمشهور، في المدوّنة وغيرها، النّهي عن ذلك احترامًا لاسم الله، سبحانه، أن يمسّه كافر وهو نجس، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (¬2). فعلّل هذا الحكم باحترام المسجد الحرام عن النجاسة. فكذلك يجب أن يحترم اسم الله، سبحانه، عن النجاسة. وأجاز ابن كنانة معاملتهم بها. وقال: لم يزل اليهود والنصارى والحائض يمسها قديمًا وحديثًا، ولا ينكر ذلك أحد من العلماء، فيما علمناه. وهذا يلتفت فيه إلى كون هذا المحرّم نزر الجرم وكونه مِمّا تدعو الضرورة إلى إباحته، ألا ترى أنه يمنع السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ، وقد كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ملك الروم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ} (¬3) الآية. وهذا لكون هذا مما دعت الضرورة إليه مع كونه نزر الجسوم. وكذلك الجنب يقرأ القليل من القرآن متعوّذا، للحاجة إلى ذلك. ولا يقرأ الكثير. وكذلك الدنانير والدراهم رأى ابن كنانة أنّ هذا مِمّا تدعو الضرورة إلى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من أهل الكفر. أو: من الكفار. (¬2) سورة التوبة، الآية: 28. (¬3) سورة آل عمران، الآية.64.

المعاملة به، مع كون ما كتب فيه نزر الجرم. ورأى ابن القاسم أنّ هذا لا ضرورة فيه تبيح هتك هذه الحرمة فلم يجز ذلك. وقد اختلف في تعليق الحرز على اليهود والنصارى فيه شيء يسير من القرآن، وهو جار على هذا الأسلوب الذي ذكرناه. وكذلك اختلف في الخاتم فيه اسم الله هل يستنجى به؟ فأجازه مالك للضرورة إليه. ومنع منه ابن القاسم لورود. الخبر بأنه - صلى الله عليه وسلم - ينزع خاتمه إذا دخل الخلاء (¬1). وقدر مالك أنّ هذا مِمّا يشقّ لتكرّره فأجازه. وألزم على هذا أن يقول ما قال ابن كنانة من جواز مبايعة اليهوديّ والنّصراني بالدّنانير المنقوش فيها اسم الله، تعالى، للضرورة إلى ذلك أيضًا. وهذا قد لا يلزم لإمكان أن يكون مالكًا، رضي الله عنه، رأى أنّ الضرورة في الخاتم ليست كالضرورة للدّنانير والدّراهم. وانظر إلى ذكر ابن كنانة الحائض مع اليهودي والنّصرانيّ في جواز مسّ الدّنانير والدّراهم، هل يشير هذا إلى أنّ ابن القاسم ينهى الحائض والجنب عن مسن الدّنانير والدّراهم؟ أو إنّما ذكر ذلك كالحجّة بما كونه عنده متفقًا عليه؟ وقد كان بعض الأشياخ لا يرى أن يكتب في وثائق اليهود والتصارى البسملة إذ لا تدعو ضرورة إلى العفو عن ذلك. والجواب عن السّؤال التاسع أن يقال: قد تقدّم فيما سلف من كلامنا في البيوع حكم ما يجوز بيعه وما لا يجوز، وإن ما لا منفعة فيه لا يجوز بيعه وإن كان حلالًا في عينه كالخشاش وشبهه ممّا لا منفعة فيه. وكذلك ما فيه منفعة وهي محرّمة ولا منفعة فيه محللة كالخمر والخنزير وشبه ذلك. فإنّ بيعه محرّم لكون المنفعة لما حرمت صارت كالعدم ولحق ذلك بما لا منفعة فيه أصلًا. وزاد هذا عليه بكونه حرامًا في عينه. وما ¬

_ (¬1) الترمذي: الشمائل: 76. حد.93.

اختلطت فيه المنافع مُحرّم بعضها وحِلٌّ بعضها اعتُبِر فيه المقصود منه هل هو المحلل، فيجوز على الجملة بيعها، أو المقصود المحرّم فيمنع بيعه، على ما تقدّم تفصيل القول فيه في موضعه. وإذا تقرّر أن الخمر لا يحلّ شربها، ولا منفعة فيها إلاّ الشرب حرم بيعها، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذي حرم شربها حرّم بيعها" (¬1) وقوله: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" (¬2). لكن يبقى فيها نظر آخر وهو صحة حيازتها وإقرارها في يد المسلم. فأمّا إقرارها في يده وصحّة حوزه لها فإن كان الغرض بذلك شربها فإنّ ذلك يمنع منه، ويوجب إراقتها عليه. ولو كان ليخلّلها جرى ذلك على. الاختلاف بين أصحابنا في جواز استعمالها إذا صارت خلاًّ بِتَخليل من هي في يديه لها. فمن منع استعمالها إذا صارت خلاًّ من قِبَل من هي في يديه لم يصح إقرارها في يديه ولا يصحّ حوزه لها. ومن سهل في أكلها إذا خلّلها أمكن ألاّ يُمنع من بقائها في يديه، ولا تراق عليه إذا أمن من شربه لها خمرًا. ويثْمِرُ هذا اختلافًا في مسلم غصب خمرًا من يد مسلم، فصارت في يد الغاصب خلاّ. فإن قلنا: إنّ من كانت في يده لا يصحّ منه حوزها ولا تقرّ في يديه، فإنّ ما صار خلاّ في يد الغاصب يكون للغاصب. كما لو وجده في فلاة غير مملوك لأحد ولا عليه يدُ أحد. وإن قلنا: يصحّ إقرارها في يديه وحوزه لها ليخلّلها. فإنها إذا تخللت كانت لمن غصبت منه. كعبد غصب فَنَمَا في يد الغاصب، فإنّه يعاد إلى المغصوب منه. ¬

_ (¬1) الموطأ: أشربة 12. (¬2) البخاري: أنبياء 50.

فإذا تقرّر هذا عدنا إلى أحكام المبايعة فيها. ولا يخلو التّبايع فيها أن يقع بين كافرين أو بين مسلمين أو بين مسلم وكافر. وهذا القسم الثالث على قسمين أحدهما أن يكون الكافر هو الذي باعها من مسلم أو المسلم هو الذي باعها من كافر. فأمّا إذا وقعت المبايعة فيها بين كافرين فليس لنا إنكار ذلك عليهما لكون ذلك سائغًا في دينهما الذي أقررناهما عليه. وإن كانت المبايعة بين مسلمين اتّضح أن كل واحد منهما لا يجوز له بيعها ولا شراؤها ولا أخذ ثمنها، فإن فعلا ذلك وكانت الخمر قائمة لم تفت فإنها تكسر وتُراق، لكون بائعها من مشتريها لا يحلّ لواحد منهما تملكها ولا المعاوضة عليها. فإذا أريقت على البائع، لكونه باع ما لا يحلّ له، لم يلزم المشتري ثمنها، لكونه غير ممكن من المثمون. وإذا دفع الثمن ردّ إليه لكونه ثمناً لما لا يحلّ عند البائع والمبتاع. هذا إذا كانت الخمر قائمة. فإن استهلكت وفاتت عند مشتريها، فإنّ أبا حنيفة قال: يتصدّق بالثمن سواء دفعه مشتريها أو لم يدفعه، وهكذا مذهبه إذا تعامل بها مسلم مع كافر وفاتت الخمر، فإنّه يتصدّق بالثمن دفع أو لم يدفع، سواء كان باعها مسلم من نصرانيّ أو نصرانيّ من مسلم. وأمّا إن تبايع مسلم وكافر، وكان البائع نصرانيًّا وكانت الخمر قائمة، فإنّ فيها ثلاثة أقوال: ذهب سحنون إلى الصدقة بالثمن، قبضه النّصرانيّ البائع أو لم يقبضه. وذهب ابن حبيب إلى أنّه لا يتصّدق بالثّمن قبضه البائع النّصراني أو لمْ يقبضه. فإن كان لم يقبضه النّصرانى لم يؤخذ من المسلم، وأريقت الخمر إذا دفعها النّصرانيّ أو أبرزها للدّفع وإن كان قبضه النّصرانيّ أبقي له، وأريقت الخمر على المسلم. وذهب مالك رضي الله عنه إلى التّفرقة، فقال: إن قبض الثمن أقرّ في يديه، فإن لم يقبضه تصدّق به عليه أدبًا له. وأمّا إن كان بائعها مسلمًا من نصرانيّ، فقد ذكر ابن الموّاز أنّ المسلم

الذي باعها إذا قبض الثّمن أخذ من يده وتصدّق به. فإن كان لم يقبضه فاختلف قول مالك في ذلك. فقال مرّة: لا يؤخذ الثمن من النّصراني. وقال مرة أخرى: يؤخذ الثمن من النّصراني فيتصدّق به. وهو اختيار ابن القاسم. واختار ابن الموّاز نقض البيع من أصله، فتردّ الخمر من يد التصراني وتُراق على المسلم. وإن استهلكها النّصراني أغرم مثلَها فتراق على المسلم. وأمّا الثمن فإنّه يردّ على النّصراني، ولو قبضها البائع المسلم. واعتل في هذا بأنّ البيع منتقض. وحقيقة النقض له والفسخ أن يرجع الثّمن إلى دافعه والمثمون إلى دافعه، فيراق على دافعه لكونه مسلمًا. هذا الذي وقع من الروايات المشهورة في المذهب في هذه الأقسام. والذي ينبغي أن يلتفت إليه في النّظر في هذا المذهب أنّه إذا تقرّر كون الخمر لا يصحّ ملك المسلم لها، ولا ملك عوضها، وتقرّر أيضًا وجوب فسخ العقد فيها، وتقَرَّر أيضًا أن التسليط على إتلاف ثمن أو مثمون قد يقتضي سقوط غرامته. اعتبرنا هذه الأصول فقلنا: إذا باعها الكافر من مسلم، عالمًا أنه مسلم، فإنّه ما يستحيل (¬1) بيعه في دينه، ويعلم أنّ مشتريه لا يحلّ له شراؤه في شريعته الّتي هي الإِسلام، فصار كمن دخل على ثمنٍ لا يستحقّه على المسلم الذي اشترى منه الخمر لكونه حرامًا في شريعة الإِسلام، ودخل المسلم على أنّه يخرج من ملكه هذا الثمن، وشريعة الإِسلام تقتضي منع دفعه إلى النّصراني. فصار هذا الثمن كمال لا مالك له، فوجب الصدقة به، كما تجب في الأموال الّتي لا يعرف لها مالك. وقد ذكرنا أنّ ابن حبيب ذكر أنّ الجمر إذا فاتت فلا بدَّ من إخراج ثمنها من يد من هو عنده والصّدقة به. وهذا أيضًا يلتفت فيه إلى أصل آخر وهو أن من استهلك خمرًا للنّصراني ففيه قولان هل تلزمه قيمة الخمر أم لا؟ فإذا قلنا: لا يلزمه قيمة الخمر لكونها محرّمة في نفسها، لا سيّما على القول بأنّ الكفّار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا يستحلّ بيعَه.

مخاطبون بفروع الشريعة، اقتضى ذلك ألاّ يلزم المشتري، إذا كان مسلمًا فاستهلكها، ثمنها. وإن قلنا: إنّ مستهلك الخمر في يد ذميّ يلزمه قيمتها، نظرنا في هذا: هل يلزمه الثّمن أو يسقط عنه. بخلاف الاستهلاك لها من غير مبايعة لكون النصرانيّ الذي باعها سلط مشتريَها عليها، وأذن له في إتلافها، مع علمه بأنّه محرم في شريعة الإِسلام المعاوضة عليه. وأقا لو كان النّصراني لم يعلم أنّ مشتريها منه مسلم لكان له المطالبة بالثّمن لأنّه لم يخرجها من يده إلاّ عن عوض تراضيًا عليه. ولو اشتراها من النّصرانيّ نصراني وهو يعلم أنه اشتراها لمسلم لكان الحكم فيها كما لو باشرها المسلم بالشّراء. وأمّا إخراج الثّمن من يد النّصرانيّ والصدقة به فإنّا إذا قلنا: إن المسلم، لما باعها، وهو يعلم أنّ ثمنها لا يحلّ له، صار كالمتصدّق به لكونه مَا لاَ مالكَ له، فإنّه يلتفت فيه إلى من التزم صدقة على غير معين، هل يجبر على إخراجها أم لا؟ فهذه النكتة الّتي يجب أن يلتفت إليها وتبنى عليها هذه الروايات التي قدّمناها. وقد ذكرنا عن مالك رضي الله عنه أنّه قال في المسلم إذا اشتراها من النّصرانيّ، ودفع الثمن إلى النّصراني البائع، فإنّه لا ينزع من يده. وإن لم يدفعه، وأخذ من يد المسلم، نتصدّق به على النّصراني أدبًا له. فقد يقال ها هنا: هلاّ قال مالك كما قال سحنون في الصّدقة بهذا المال وإن قبض لكون التأديب في الحالين على حدّ سواء. وهذا عندي وجهه أنّ الثّمن إذا قبض فقد فرغ من العقد، وصار النصراني في يده مال قد قبضه، وهو يعتقد استحلاله واستحقاقه لقبضه، ولم يحتج في أخذه مِمّن هو عليه إلى قضية قاض، فلم يلزم القاضيَ اعتراضٌ. وإذا لم يقبضه

النّصراني وطلب به المسلم احتاج إلى أن يرفع إلى القاضي فيحكم له عليه، فإذا حكم له القاضي عليه صاركحاكم بإمضاء بيع الخمر، والحكم بذلك لا يصح، فعدل القاضي عن ما لا يصح حكمه إلى ما يصحّ الحكم به وهو الصدقة بمال كأنّه لا مالك له، وقد كنّا قدّمنا عن بعض أشياخي في كتاب الردّ بالعيب أنّه كان يرى أنّ المذهب على قولين في البيع هل. حقيقته العقد خاصّة أو التفاصُل لما تقدم العقد عليه، وإذا لم يحصل قبض الثمن فكأنّ البيع لم تحصل حقيقته فلم يكن للقاضي أن يستأنف حقيقة البيع ها هنا. وقد ذكر في المدوّنة في كتاب الردّ بالعيب في ذميّ باع من مسلم جارية بخمر، ففاتت في يد مشتريها بعتق أو استيلاد، فإنّه يرد قيمتها للذميّ، ويغرم الذميّ مثل الخمر فيكسّر عليه. وهذا هو أحد الأقوال الثلاثة، التي قدّمناها، من نقض البيع من أصله وردّ كل مبيع لبائعه. أو ردّ قيمته إن فات. وعلى ما ذكرناه من القول الآخر لا يردّ القيمة إلى بائع الجارية لكن يتصدّق بها. وممّا لا يلحق بهذا النّظر في معاملة الذمّييْن على ما لا يجوز في شرعنا ثم أسلما بعد المعاملة، أو أسلم أحدهما، فلا يخلو: إمّا أن تكون المعاملة نجزت بين المتعاملين، وهما كافران، بتقابض الثمن والمثمون، وكان إسلامهما بعد ذلك، أو أسلما قبل أن يتقابضا لا الثمن ولا المثمون، أو أسلما بعض بعد أن تقابضا أحد العوضين، إما الثمن وإما المثمون. وهذا تقدم قبله أن تعلم: أن عقود المشركين فاسدة يصححها الإِسلام على ما سنبيّنه في كتاب النكاح، إن شاء الله عزّ وجل. ونذكر فيه الاستدلال على هذا. بتخيير النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من أسلم على عشرة نسوة في أن يفارق ستّا منهنّ ويتمسّك بأربع (¬1). وقد قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (¬2) وقال عليه السلام: "الإِسلام يَجُب ما قبله" (¬3) وهذا لا يختلف فيه ¬

_ (¬1) الموطأ: الطلاق: 76. (¬2) الانفال: 38. (¬3) أحمد: المسند: 4، 199، 204، 205.

في أنّه يجب ما قبله من آثام الأفعال المحرّمة، والعقود الفاسدة. وإنما يبقى النظر في إمضاء العقود أو ردّها بعد الإِسلام. فإذا تعاقدا على بيع دينار بدينارين إلى أجل، أو بدراهم إلى أجل، أو أسلم دراهم في خمر إلى أجل، إلى ما في معنى ذلك من المحرّمات، فإنّهما إذا لم يتقابضا لا ثمنًا ولا مثمونًا حتّى وقع الإِسلام نقض ذلك عليهما، إذ لم يحصل إلاّ مجرّد القول بينهما. فإن قبض أحد العوضن قبل إسلامهما ولم يقبفن العوض الآخر، فالمذهب على قولين: مذهب مالك وابن القاسم فسخ العقد، تغليبًا لما لم يقبض على ما قبض، فكأنّهما أسلما قبل تقابض الثمن والمثمون. ومذهب عبد الملك وسحنون ومحمد بن الحكم إمضاء العقد، تغليبًا لما قبض على ما لم يقبض، حتى كأنّهما تقابضا الثمن والمثمون قبل إسلامها. لكن يشترط أن يكون الذي لم يُقبض يصحّ تملّكه في شرع المسلم، مثل أن يسلم دينارًا في دينارين، فدفع الدّينار وأسلما جميعًا قبل قبض الدينارين، أو أسلم دينارًا في دراهم ثم أسلما جميعًا قبل قبض الدّراهم، فإنّ أصل مالك وابن القاسم ردُّ رأس المال، والمنع من قبض الدّينارين أو الدّراهم المؤخّرة، لأن القبض نتيجة العقد وهو المقصود بالعقد، والعقد كالمتبع تبع له في المقصود. وإذا أسلما جميعًا فإنّ التقابض في الدراهم وفي الدينارين إنّما إقتضاه عقد الرِّبا الذي تعاملا عليه، وهما قد صارا إلى شريعة تحرم ذلك عليهما. وعلى مذهب الآخرين يقبض الذينارين ويقبض الدّراهم لكون الدّنانير والذراهم يصح التقابض فيهما في الإِسلام وما مضى من العقد في الكفر بحيث (........) (¬1) الآثام فكأن التقابض وقع عن عقد صحيح جائز. وهكذا ذكر ابن الموّاز فيمن أسلم دينارًا في دراهم، ثم أسلم المتبايعان قبل قبض الدّراهم، أنّ الدّراهم تقبض. وهكذا اختلف في نصرانيّة تزوّجت نصرانيًّا، فأسلما معًا قبل الدّخول، وقد قبضت النصرانيّة الخمر قبل إسلامها. فإن أحد القولين أن الزّوج لا يمكّن ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة.

منها إلاّ بعد أن يدفع صداق المثل بناء على أنّ قبضها للخمر لا تأثير له، والعقد لا يجب إمضاؤه لكن كبيع فاسد فات يُرجع فيه إلى القيمة، والعقد على هذا كالفوت يجب فيه الرّجوع إلى قيمة البضع وهو صداق المثل. وعلى القول الآخر يمكن الزّوج من الدّخول بها من غير غرامة تلزمه بناء على أنّ العقد لا يفسخ وكأنهما تقابضا الثمن والمثمون قبل إسلامها. ولو كان المسلم في خمر ثم أسلم المتبايعان قبل قبضهما، يجري ذلك على ما أصّلناه من الخلاف. فقد قال سحنون في السليمانية: ليستمسك المسلم إليه برأس المال من غير عوض يلزمه. وهذا إبقاء منه على إمضاء عقودهم الفاسدة إذا وقع الإِسلام منهما بعد عقدهما، فلا يلزم قابض رأس المال أن يرفه لأنّ ردّه إلى دافعه فسخ له. ومذهب هؤلاء أنّ العقد لا يفسخ لوقوع إسلامهما. لكن سحنون رأى أنّ الواجب لمّا قبض المسلَم إليه رأس المال ولم يوجب عليه ردّه، أن يغرم الخمر الّتي هي عوض رأس المال الذي أمضيناه له، وهو لا يصح منه غرامتها لكونه أسلم، والمسلم لا يسوّغ له شراء الخمر ليقبضها في دين، ولا يسوغ أيضًا لمن أسلم فيها أن يعطاها، ولو أعطيها لأريقت عليه، فاقتضى هذا بطلانها من الذمّة، وإمضاء رأس المال لقابضه من غير غرامة عليه وسلك محمَّد بن عبد الحكم هذه الطّريقة في إمضاء العقد وكونه لا يفسخ ولم يقبّض (¬1) بالخمر لما عللّناه به من منع القضاء بها، فعدل عن ذلك إلى أن يكلّف من بني عليه غرامةً غرامةَ قيمتها عوضًا عن عينها، لما استحال عْنده القضاء بالعَيْن، لكونها لا يصحّ ملكها في الإِسلام، ورأى أنّ من أسلم دنانيره في خمر فيقضى بأن لا تردّ إليه، ولا يأخذ عنها عوضًا إضرارًا به، ومخالفة لما تعاقدَا عليه، فعدل إلى إغرام القيمة لرفع الضرر وطلبًا للمساواة بين المتعاملين. وعلى الطريقة الثانية في أنّ العقد يفسخ من أصله، يردّ عليه رأس المال. فكأن هؤلاء أمروا بردّ رأس المال ليتحقق فسخ العقد، إذ لو لم يردّ لم يكن للفسخ معنى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يقْضِ.

ورأى ابن عبد الحكم أن العقد لا يفسخ، ولكن يردّ عوض ما لا يحل تملك قيمته. والقيمة عنده لا تعتبر حين العقد (¬1)، كانا يعتقدان جواز ما صنعا وإنّما اعتقدا إبطاله لما أسلما، فتكون القيمة يوم المحاكمة لمّا أسلما. وهكذا اختلف أيضًا في النصرانيّة إذا تزوّجت نصرانيًّا بخمر، ودخل بها الزّوج قبل أن يدفع الخمر، ثم أسلما. فقيل: عليه صداق المثل، بناء على أن العقد يفسخ، وترجع إلى قيمة السّلعه الفائتة لعقدٍ فاسد كما قدمناه. وقيل: لا شيء على الزوج سوى الخمر الذي بذله صداقًا، وهو لو دفعه إليها لما أسلمت لأريق عليها، فلا فائدة في المطالبة به. وعلى قول محمَّد بن عبد الحكم يكون قيمته بدلًا من عينه. فحصل من هذا أنّ ما يحلّ تملّكه فيه قولان، هل يفسخ ويقضي بردّ رأس المال أو يمضي ويقضي بأخذ العوض عن رأس المال على ما هو عليه؟ وإذا كان لا يحلّ تملّكه كالخمر ففيه ثلاثة أحوال: فسخ العقد وردّ رأس المال. وإمضاؤه وسقوط العوض الذي هو الخمر فلا يغرم لتعذر غرامته وكأنها كالمستحيلة في حق المسلمين فبطل العقد. أو يغرم القيمة بدلًا من العين الّتي لا تحلّ. وأمّا إذا أسلم أحد المتعاملين وبقي الآخر على دينه. فإذا قلنا: إنه لا يفسخ العقد إذا أسلمَا جميعًا، وقد قبض أحدَ العوضين، مع كونهما يَدِينَان بدِينِ الإِسلام الذي يحرّم عليهما فيه استئناف مثل هذا العقد. فكذلك إذا أَسلم أحدهما مع كون الآخر تعلّق له حقّ، وهو يعتقد أن العقد الذي فعل حلال له. وإذا قلنا بفسخ العقد إذا أسلما جميعًا، فإن ابن القاسم ذهب إلى فسخه، لكونه حكمًا بين مسلم وذميّ، والحكم بينهما كالحكم بين المسلمين. وأمّا مالك فإنّه يتوقّف في ذلك إذا تعلّق للنّصراني حقّ في إمضائه، فقال: ¬

_ (¬1) هكذا النصّ، والمعنى يقتضي إضافة: إذ.

إن أسلم ذميّ إلى ذميّ دينارًا في دينارين، فإنّه إن أسلم الذي دفع الدينار لم يكن له سواه، لكون الفسخ على مقتضى دين الإِسلام، الذي رجع إليه لا يوجب له إلاّ رأس ماله، ولا مضرة على المسلم إليه الذي بقي على دينه، بل الفسخ أنفع له لكونه إذا لم يفسخ ذلك ألزم ديناران فإلزامه دينارًا واحدًا منهما أنفع له وأخفّ عليه. وأمّا إن أسلم الذي عليه الدّيناران فإنّ مالكًا رضي الله عنه، قال: لا أدري. لأنّه إذا فسخ العقد في حقّ هذا المسلم لحق النّصراني ضرر بإسقاط دينار كان استحقه لما عقد هذا العقد، والمتعاقدان نصرانيان. فإن أمر الذي أسلم بدفع دينارين فقد تمّم العقد وأمضاه عليه، وهو في دين الإِسلام محرّم ممنوع. وقد ذكر في الموازية في نصراني أسلم دينارًا في دراهم إلى أجل لنصرانيّ مثله، ثم أسلم دافع الدّينار، فإنّه يفسخ العقد في حقه خاصة. لكون هذا حرامًا في دين الإِسلام. ولا يفسخ في حقّ النّصراني الذي بقي على دينه. وإذا لم يفسخ في حقّ النّصراني قضي عليه بإخراج الدراهم الّتي في ذمته. ونهي المسلم عن أخذها، لئلا يكون متهمًا لعقد عقد على ربا. فتباع الدّراهم، ويشتري بها دينارًا. فإن قصرت الدراهم عن الدّينار كان ذلك مصيبة على دافع الدّينار. وإن ساوته أخذ الذي أسلم الدّينار رأس ماله. ووافق ذلك طريقة من فسخ العقد في حقهما جميعًا وردَّ رأس المال. وإن فضل من الدّراهم فضلة ردّت للنّصراني، لكون المسلم حرام عليه أخذها. فتعود إلى ملك النّصرانيّ الّذي دفعها. وهذا كالأمر بردّ رأس المال فيمن أسلم دينارًا في دينارين. ولكنه ها هنا لمّا كان قد يلحق النّصراني ضرر في القضاء عليه بدينار، لكون الدراهم نقصَ قيمتها عن الدّينار، أو لتعذر الدّينار عليه، روعي حقّه في ذلك، على حسب ما قلناه. وأمّا إن أسلم دينارًا في خمر، والمتعاقدان على ذلك نصرانيان، فأسلم الّذي عليه الخمر، فإنّه يفسخ العقد في حقه، ويردّ رأس المال، ولا يراعى في ذلك حقّ التصرانيّ، لكون الخمر يستحيل من المسلم تملكها في شَرعه، ولا يجوز له شراؤها. فصار النصرانى وإن تعلّق له حق بأن لا يفسخ العقد، ويطلب الخمر التي أسلم فيها، فإنّه لمّا استحال وجودها عند المطلوب استحال طلبه،

ووجب فسخ العقد. كمسلم اشترى سلعة معيّنة فيها حق توفية، فهلكت لَمّا استحال طلب المثمون (¬1) إذا هلك، أو أسلم في شيء فطرأ ما أحال وجودَه. وإن أسلم الذي له الخمر فقال مالك ها هنا: لا أدريً لأنه إن فسخ العقد وأمر النّصرانيّ الذي عليه الخمر بردّ رأس المال، وقد تعلّق له حق بأن لا يرد إلاّ عوضه لَحِق النّصراني في ذلك ضرر. وإن أمر النّصراني بأنْ يدفع ما عليه من خمر مراعاة لحقّه، لَحِق الذي أسلم ضرر لكونه لا يحلّ له تملّكها، وإذا أخذها أريقت عليه. فتوقف مالك، رضي الله عنه، في هذا لأجل تعارض الحقّين. وقد ذكر عن ابن القاسم أنه قال: يغرم النّصرانى الخمر وتراق على المسلم إمضاء للعقد في حقّ النّصراني، كما (¬2) يلحقه في فسخه من الضرر، وإذا أمضي العقد في حقه وجب إراقة الخمر على الذي يصير إليه إذ لا يحلّ له ملكها ولا شربها. وقد قيل في سلف الخمر، إذا أسلم الذي دفعها قرضًا مثل هذا كما نذكره الآن. وهذا على هذه الطريقة. وقال عبد الملك: إذا أسلم الذي عليه الخمر لم يكن عليه غرامة، ولا للطالب الذي دفع رأس المال فيها مطالبة بشيء. وهذا كمثل ما حكيناه عن سحنون في السليمانيّة أنّه إذا أسلمها (¬3) جميعًا فإنه يسقط الخمر عن من هي عليه ولا مطالبة عليه برأس المال ولا غيره. وعلى طريقة محمَّد بن عبد الحكم يغرم الّذي عليه قيمتها عوضًا عن عينها لمّا استحال ملكه لها وشراؤه إيّاها شرعًا. وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّ هذا يقدر بإسلامه كمن استهلك خمرًا في يد نصراني، فإنه يغرم قيمتها على إحدى الطريقتين عندنا. وهذا البناء على هذا الأصل يعترض بأنّ الذي لا يجوز للمسلم أن يُقبضه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لما. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أسلما.

ما في يديه من خمر، لأنّه عهد (¬1) على إقرارها في يديه. فإذا تعدّى المسلم عليه طولب بالتعدّي، وهذا غير متعدٍّ بإسلامه بل هو مأمور به، فلا يقدر إسلامه ورجوعه إلى الدّين الحق تعدّيًا على النّصراني حتى يطالبه النّصراني بما أتلف، ولا يتهم أحد في أن يسلِم ويدين بدين الحق ليبطل خمرًا وجب عليه في حال كفره. هذا حكم تعاملهما على جهة المعاوضة في الخمر والرّبا. وأمّا لو أسلف خمرًا أو خنزيرًا ثم أسلما جميعًا، فإنّ الخمر يسقط الطلب بها، لكونها حرمت على الطالب والمطلوب، ها هنا، لما أسلما. وإن أسلم الذي دفعها وأسلفها فإنّه ذكر في الموّازية أنّ المطالبة ساقطة أيضًا بينهما، أسلم الطالب أو المطلوب .. وذكر ابن القاسم أنّ الطّالب إذا أسلم قضي على المطلوب بأن يدفع إليه الخمر فتراق، أو الخنزير فيقتل. وإن أسلم المطلوب غرم قيمتها لتعلّق حقّ النّصراني بأن يردّ إليه ما دفع. والذي عليه الخمر والخنزير لا يصحّ منه شراء ذلك ولا ملكه، فكلّف أن يدفع عنه عوضًا يجوز في دين المسلمين أن يتملّكه ويشتريه ويقضيه في دين عليه. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: الرّبَاع الذي (¬2) في بلد الكفّار على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون المسلمون صالحوهم على ألاّ يقاتلوهم ولا يبيحون من أموالهم بعوض يأخذونه منهم. والثاني: أن يكون المسلمون استولوا عليهم الأرض وفتحوها عنوهّ وأقرّوا سكّانها فيها الذين كانوا أهل حرب. والثالث: أن تكون أرضًا أجْلِي عنها أهلها، وتركوها خالية، فوارًا من أن يغزوهم المسلمون. فأمّا الأرض الّتي صالحوا عليها بعوض يؤخذ منهم، فإنهم ييقون فيها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل ما يقتضيه المعنى أن يغصبه ما في يديه ... لأنه عاهد. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التي.

على ما كانوا عليه قبل الصلح لا تنزع من أيديهم ولا تباع عليهم، ما داموا يؤدّون ما صالحوا عليه، لأنّ نزعها من أيديهم وبيعها عليهم نقض لما عاهدناهم عليه. وإذا مات منهم أحد وَرِثَه ورثته يرثون أرضه وماله. وإن لم يكن له ورثة في ماله قولان: قال ابن القاسم يكون للمسلمين، وروي عنه أنه قال: يكون ملكًا لأهل بلده يستعينون به فيما عليهم من الأداء الذي صولحوا عليه. فكأنه أجراه في القول الأول مجرى مسلم مات ولا وارث له، فإن ماله يكون للمسلمين فلا يكون من لا وارث له من الكفار أعظم منه رتبة في منع المسلمين من ماله. وكأنّه قدر في القَول الآخر أن الصّلح عُقد على أن من مات منهم يستعينون بماله إذا لم يكن له وارث منهم بالقرابة. وهذا يقتضي النظر فيه اعتبار كيفية الصّلح. فإن كانت المعاقدة على أن من مات ولا قريب له منهم يرثه، فإن ماله لهم بأنه لا ينبغي أن يختلف في أنّ ماله يبقى لهم لكون الشّرع منعنا من نقض العهد الذي عاهدناهم عليه. وإن عاهدناهم على أن من مات ولا وارث له فلا حقّ لهم في ماله، فلا ينبغي أيضًا أن يختلف في أنّه لا يجب تمكينهم منه، لأنهم أهل حرب بقي الحكم فيها على الأصل الذي كان عليه من استباحة أموال أهل الحرب. ولكن إذا أطلق الأمر في المعاهدة وجب النّظر في المفهوم منها، وعلى ماذا يحمل إطلاقها من القسمين، فيجوز الحكم فيه. والأظهر مع الإشكال والاحتمال أن يبقى المال على استباحة المسلمين له. هذا حكم موته. وأمّا حكم إسلامه، فإن المشهور أنّه إذا أسلم بقيت له أرضه وماله، وسقطت عنه الجزية، وعن أرضه الخراج. وذكر ابن حبيب أنّ هذا إنّما يقضى به إذا كان وقع الصّلح على جزية فرضت على كل واحد منهم، وخراج ضرب على كل واحد منهم. وأمّا إذا صولحوا صلحًا مجملًا على مال يؤدّونه فإنّ الأرض لا

تكون لمن أسلم ولا تورث عنه. وهي كالوقف وكالمرتهنة بأيدي المسلمين، ولا يمكّن من صالح عليها من أهل الحرب من بيعها، ولا تكون له إذا أسلم. وهذا التفصيل الذي فصّله يلتفت فيه إلى ما قدمناه في كون المصالحة وقعت على أداء جزية فرضت على كل واحد بعينه، وخراج فرض على كل واحد على أرضه. فها هنا إذا أسلم امتنع مع إسلامه أن يطالب بالجزية الّتي هي صغار وإذلال لمن لم يسلم، أو لخراج الأرض التي هي عوض إقراره فيها. والإِسلام يعصم به الإنسان الدّم والمال. فإذا كان الصّلح على مال مجمل فإنّ ذلك المال إنّما يطلب به ما يتعلّق بالخراج كالأرض. وكأنّ الأرض مرتهنَة للمسلمين فلا يمكن الحربي من بيعها. ولو أسلم لم تكن له لكون أصل الصلح عقد على أن المسلمين تعلّق لهم حقّ بعينها ما دامت موجودة فتكون الأرض يستعين بها أهل البلد على ما فرض عليهم من الأداء. فإن حاول الصّلحي بيع أرضه، ولا خراج عليها، وإنّما عقد الصّلح على جزية يؤدّيها عن نفسه، فإنّ له بيع أرضه لكونها لم يتعلّق بها حقّ للمسلمين. وأمّا إذا فرض عليها خراج، فظاهر المذهب على قولين: المنصوص منهما، والمشهور: أنّ من هي بيده من أهل الصّلح لا يمنع من بيعها. وروى ابن نافع عن مالك في المدوّنة جواز بيعها، ولكنّه قيّد ذلك باشتراطه فيه إذا لم تكن عليها جزية. وتأوَّل الأشياخ عليه أن دليل هذا الخطاب يقتضي المنع من بيعها إذا كانت عليها جزية. وعلّل الشيخ أبو محمَّد هذا المنع من بيعها إذا كانت عليها جزية يكون هذا البيع إذا كانت على الأرض جزية لا ينفكّ من كونه ضررًا. وأشار إلى أنّا إن قلنا بقول ابن القاسم أنّ الخراج يكون على بائعها فإنّ بائعها قد يفلّس أو يتعذر الأخذ منه، فيجب للإمام بيع الأرض فيما تعلق بعينها من حقّ، ويخرجها من يد مشتريها، فيصير المشتري اشترى شيئًا لا يعلم هل ينزع من يديه أم لا؟ وإن انتزع فلا يعلم أمد انتزاعه. وهذا منه إشارة إلى أنّ الخراج إذا قضي بكونه على

البائع فأفلس، فإنّه لا تسقط المطالبة وتبقى الأرض في يد مشتريها يغتلّها، والمسلمون يبطل حقّهم فيها. وذكر عن ابن عباس أنّه كان يرى على هذه الطريقة أنّ البائع إذا أفلس بقي المشتري على اغتلال الأرض، ولم تنتزع من يديه، ولا يطالب بأداه. فعلى طريقة ابن عبّاس يرتفع الضرر في هذا البع. وعلى طريقة الشيخ أبي محمَّد لا يرتفع الضرر لكون حقّ المسلمين لا يصحّ إبطاله، مع كون الأرض تغتلّ. فكأنّ ابن القاسم قدّر أن الصلحيّ إذا ضرب على أرضه خراج فإنّه متعلّق به وبذمّته. وذمّته المقصودة بهذا. والأرض في حكم التّبع، لهذا المقصود. وسواء عنده باع هذه الأرض من مسلم لا يصحّ، لأجل إسلامه، أن يطالب بالخراج، أو من ذميّ يحلّ محلّ البائع. ومنع ابن القاسم لما ذهب إلى كون هذا الخراج على البائع من اشتراط على المشتري لأنّه متى اشترط عليه أحدث في البيع ضررًا، لكون البائع إذا أسلم لم يطالب بالخراج، فصارت الأرض كالمبيعة بثمن، بعضه مجهول، وهو ما يؤدّي مشتريها من الخراج كل عام، فإنّه لا يدرى هل يسلم بائعها منه بعد عام واحد من تاريخ شرائها، فلا يؤدّي المشتري أكثر منه، أو يعد عشرة أعوام أو عشرين عامًا فيتضاعف عليه الأداء. فصار هذا غررًا في الثمن. وذهب أشهب إلى أنّ الصلحي إذا باع أرضه كان خراجها على مشتريها ما دام البائع على دِينه، فإن أسلم سقط الخراج عن المشتري. ولا يجوز عنده أن يشترطه المشتري على البائع لأن في ذلك نقل حقّ المسلمين عن عين الأرض، ومطالبته من يغتلّها إلى ذمّة من لا يغتل هذه الأرض، وقد يفلس فيضيع حق المسلمين، وتكون الأرض تغتكّ ولا مطالبة له. وقد كنّا قدّمنا في كتاب بيع الغائب أنّ مالكًا اختلف قوله في بيع السّلعة الغائبة هل ضمانها من البائع أوْ من المشتري؟ وأجاز بناء على كل واحد من القولين أن يشترط الضّمان

من في المحلّ الآخر لأجل كون هذا الشرط مختلفًا فيه. فكأن الاشتراط صادف محلاًّ قبل هذا الشّرط هو أصل الحكم فيه. وقد يقال على هذا التعليل: إنّ تحويل هذا الخراج من محلّ إلى محل آخر، بأن يشترطه البائع إذا قيل: إنّه عليه على المشتري، أو يشترط المشتري إذا قيل: إنّه عليه على البائع، يقال الجواز على ما قلناه في تحويل الضمان في بيع السّلعة الغائبة من محلّ إلى محلّ. فهذا مِمّا ينظر فيه فكأن أشهب لم يلتفت إلى ما يتصوّر من ضرر في هذا العقد، لكون المشتري يسقط ذلك منه إذا أسلم البائع، لأنّ الغالب عنده في أهل الكتاب أنّهم لا يتنقلون عن دينهم. فصار إسلامه، وإن جوز عقلًا، غير ملتفت إليه عند هاذين المتبايعين. وأمّا أرض العنوة فإن المسلمين قد ملكوها بالغلبة عليها والقهر لأهلها، فهي من جملة ما غنموه. وقد قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ} (¬1) الآية. فاقتضى هذا أنّ الأربعة الأخماس للغانمين. ولهذا قال، في إحدى الرّوايات عنه: إنّ أرض العنوة تقسّم، أخذًا منه بعموم هذه الآية قياسًا على سائر ما أخذوه وغنموه من أموال أهل الحرب. وأيضًا فقد قسم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أرض خيبر لمّا فتحها عنوة (¬2). وقال مرّة أخرى: لا تقسّم لأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فتح مكّة عنوة على مذهبه، ثم أجمعوا أنّه لم يقسمها (¬3). وقد ذكر عمر أنّ الرّأي عنده ألا تقسم أرض العنوة لأجل من يأتي بعد عصره من المسلمين كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (¬4) الآية فذكر هذا بعد ذكره ما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬5). ولهذا قال مالك: لا تباع مصر. لأنّها أقرّت لمن يأتي من المسلمين، وأرضها ¬

_ (¬1) سورة الأنفال، الآية.41. (¬2) أبو داود: السنن:؛ كتاب الخراج والفيء والامارة: 2/ 141 - 144. (¬3) أبو داود: السنن: كتاب الخراج والفيء والامارة: 2/ 144، 145. (¬4) سورة الحشر، الآية: 10. (¬5) ابن سلام: الأموال: 60 - 61.

كالحبس الموقوف على المسلمين (¬1) ولهذا لا تباع عنده ديار مكّة بناء على أصله لأنّها فتحت عنوة. وقد اختلف النّاس في بيع رباع مكة وإجارتها. فمذهبنا بيع رباعها وإجارتها. وبه قال أبو حنيفة. وإن كان أبو حنيفة قال: أكره بيعها لكنّ أصحابه حملوا قوله هذا على التحريم للبيع. وذهب الشافعي إلى جواز ذلك. ومذهبه أنها دُخلت صلحًا. وقد اختلفت الظواهر والأقيسة في جواز بيع ذلك أو منعه. واستدل من منع ذلك بقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (¬2). ورأى هذا كناية عن الحرم كلّه، وما أحاط به من المسجد والدّيار. وعضد هذا بأنّ المصلحة المنع من ذلك لكثرة الوارد عليها لقضاء فريضة الحجّ على العباد، فتمسّ الحاجة إلى كون رباعها مباحة للواردين غير مقصورة للسّاكنين. وبأنّ مكّة كلّها يُمنع الصّيد في ديارها، كما يمنع في المسجد الحرام، فدلَّ أنّهما سيّان. وأيضًا فقد روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: رباع مكة لا تباع ولا تؤاجر (¬3). وهذا نصّ في عين المسألة. ويستدل الآخرون بأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، لمّا أتى مكّة عرض عليه النّزول في رباعه فقال: وهل ترك لنا عقيل ربعًا (¬4)؟ وكان أبو طالب أسلم أبناؤه قبل وفاته وهما علي وجعفر رضي الله عنهما. وتأخّر إسلام عقيل إلى أن مات أبوه أبو طالب فورثه دون ولديه المسلمين وباع رباعه (¬5)، فأشار عليه الصلاة والسّلام بقوله هذا إلى إمضاء بياعاته وإمضاء ميراثه. فلو كان البيع لرباعها لا يجوز لم يُمْضه - صلى الله عليه وسلم -، ولأخبر أنّ هذه البقعة تختصّ، لحرمتها، وحاجة النّاس للورود عليها، لمنع بيعها بخلاف سائر البلاد. ¬

_ (¬1) ابن سلام: الأموال: 60 - 61. (¬2) سورة الحج، الآية: 25. (¬3) البخاري: الفتح: باب توريث دور مكة: 3: 450: باب 44. (¬4) المصدر السابق. (¬5) المصدر السابق.

وأيضًا فقد قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (¬1) فأضاف الدّيار إليهم، والإضافة لمن يعقل محمولة على الملك، فاقتضى هذا صحّة ملك رباع مكة وما صحّ ملكه جاز بيعه. وقد توزع الأوّلون في استدلالهم بأن الآية إنّما ذكر فيها المسجد الحرام، والمسجد الحرام اسم لبقعة مخصوصة محدودة، فلا يدخل فيها غيرها كما لا تدخل بغداد في اسم مكّة. وأيضًا فإن الطبري ذكر في تفسيره للقرآن أنّ المراد ذمّهم على صدهم ومنعهم من الحجّ في قوله: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} (¬2) وذمهم على المنع من الطّواف بقوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (¬3) وإن (¬4) قوله: رباع مكة لا تباع. محمول على الاستحباب والمواساة بها لمن ورد من الحجّاج. كما قال في حديث آخر: لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خرجًا معلومًا الحديث (¬5) لأجل الحاجة إلى المواساة في مثل هذا. وتوزع الآخرون أيضًا باستدلالهم بأنّ الإضافة إلى الفقراء إضافة سكنى لا إضافة ملك لرقاب الدّيار. ألا تراه كيف قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (¬6). فسمّى الأموال بعد ذكر. الدّيار، فقال: إنها ليست بأموالهم. وأيضًا فقد سمّاهم فقراء ولو كانت الدّيار من أموالهم لم يسمّوا فقراء. وأمّا كون الصّيد يستوي في المنع منه المسجد الحرام وبيوت مكة. فإنهما يفترقان أيضًا في الطواف، لكون الطواف غير مشروع حول بيوت مكة بل هو مقصور على الكعبة. وأمّا من يستدلّ على جواز بيع بيوت مكة يكون النّاس يتبايعونها عصرًا ¬

_ (¬1) سورة الحشر، الآية: 8. (¬2) سورة الحج، الآية: 25. (¬3) سورة الحج، الآية: 25. (¬4) الطبري: جامع البيان: 17: 134 - 137. (¬5) الفتح: كتاب الحرث والمزارعة. 5/ 14. باب 15 حد. 2330. (¬6) سورة الحشر، الآية: 8.

بعد عصر، ولا ينكر ذلك عليهم، فإنّه قد قال بعض البغداديين: إنّ التّبايع إنّما وقع على الأبنية والسّقوف لا على نفس الأرض، والمشي عليها غير ممنوع ولا مقصود بالبيع. وهذا الذي قاله ممّا ينظر فيه. وقد تكرّر سؤال القضاة عن بيع ديار المنستير لكون من يبيعها يظهر أنّه إنّما باع الأنقاض والخشب. فلم أَسهّل في ذلك لكون الأنقاض لو بيعت وهي منقوضة ما بلغ ثمنها عشر ثمن ما تباع به الدّيار المبنيّة هناك. فللأرض حصّة من الثمن ويعتقد بائعها ومشتريها أنّه قد ملك الجميع الأرض وما بُني عليها ملكًا يصحّ له مثله لمن حبس على مثله الانتفاع بفناء القصر الكبير الذي هذه الديار بأفنيته ممن لا يحبس ذلك على مثله. وهذا الذي ذكرناه في أبنية المنستير التي بنيت في أفنية القصر القديم يفتقر إلى بسط. وإنما ذكرنا ها هنا حكم بيع بيوت مكة وإجارتها لتعلّقها بأحكام العنوة على مذهبنا، أنها فتحت عنوة، فأضفنا إلى ذلك ما ورد في الشرع من أنّه (¬1) الظواهر المبيحة للبيع والمانعة له. وسننبّه على ما وقع في المدوّنة في كراء بيوت مكة في موضعه إن شاء الله تعالى. قال القاضي أبو محمَّد، رحمه الله:. ولا تجوز التفرقة بين الأمّ وولدها الصغير في البيع. وحدّها الإثغار. ويجوز في الأب. قال الشيخ الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل ثمانية أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على منع التفرقة بين الأمّ وولدها في البيع؟ 2 - وهل يقاس على الأم غيرها من الأقارب؟ 3 - وما الحدّ الذي ينتهي إليه في الأمر بالجمع بينهما؟ 4 - وهل يفسخ البيع المعقود على التفرقة بينهما؟ 5 - وهل الجمع بينهما يكون في ملك واحد أو في حوز واحد؟ ¬

_ (¬1) هكذا النص. ولعل الصواب حذف: أنه.

6 - وهل العتق لأحدهما كالتفرقة في البيع؟ 7 - وما الحكم إذا تعلق لرَجل حقّ نقل الملك لأحدهما دون الآخر؟ 8 - وما حكم التفرقة في حق ملك ناقص؟ فالجواب عن السّؤال الأوّل أن يقال: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال: "من فرّق بين والدة وولدها فرّق الله بينه وبين أحبتّه يوم القيامة" (¬1). وهذا يدل على التأكيد لما فيه من الإرهاب بشدّة الوعيد في التّفرقة في القيامة بين الإنسان وبين من يحب. وذكر الترمذي هذا الحديث وهو حسن السند (1) وقال أيضًا - صلى الله عليه وسلم -: لا تُوَلهُ والدة على ولدها" (¬2) فنبّه - صلى الله عليه وسلم - على معنى معلوم صحّته من جهة العادة، وذلك أن الأمهات لهنّ من النزوع على أولادهنّ، وشدّة الرَّحمة والعطف، ما يخفّ عليها به أن تحمّل نفسها الآلام عن ولدها، ويبدو منها من الوله عليه إذا تُعرِّض به لأمر يخاف منه عليه ما تكاد معه أن تزهق به نفسها، أو تسلم لأجله بدنها، فحجّر على مالكها ومالك ولدها أن يتصرّف في ملكه كيف شاء ببيعهما مجتمعين أو مفترقين. لكون التحجير عليه في هذا ليس فيه من الإضرار ما يبلغ الإضرار بالأمّ في فراق ولدها. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلف العلماء في المنع من التّفرقة.، هل ذلك مقصور في الأمّ خاصّة أو يقاس عليها غيرها؟ فمالك، رحمه الله قصر هذا الحكم عليها. وأجاز التفرقة بين الصّغير وبين أبيه وجدّه وجدّته وسائر قراباته سوى الأمّ. وحكى ابن الموّاز عن بعض أهل المدينة أنه أضاف إلى الأمّ في هذا الحكم الأب. ورأى المنع من التّفرقة بين الولد وأبيه في البيع. ومال إليه بعض أشياخي. وأضاف الشافعي إلى الأمّ ولد الولد فقال: لا تفرّق بينهم في البيع ما داموا صغارًا. وقدّر أنّ الضَرر المشار إليه ها هنا يتصوّر في سائر ذوي ¬

_ (¬1) الترمذي: السنن: 3: 580. حد 1283. (¬2) فيض القدير: 6/ 423 حد. 9872.

الأرحام. وإنْ قصر جميعهم عن الأمّ في شدّة العطف على الصغير، والحنين والجزع من فراقه، ومن سواها يتفاوتون في هذا المعنى، وليس تقصيرهم عن الأم في الجملة بالذي يسقط حقّهم في الجمع لأجل ما يلحقهم من الضرر. ورأى الشافعي أنّ الجدّة تكاد تقارب الأمّ في المعنى الذي أشرنا إليه من الحنان وشدّة النزوع إلى الولد، فوجب أن تُلحق بالأمّ في هذا الحكم، ولا يلحق من سواها من الأقارب لما علم من جهة العادة أنّ الخالة والعمّة والأخ والأخت لا يلحقون في هذا المعنى بالأم والجدّة. ورأى بعض أهل المدينة أنه يتضح في العادة مساواة الأب للأم في هذا المعنى لكون الولد كعضو من كل واحد منهما. ويلحق الأب بالأمّ في هذا. وبالجملة فإنّه لا يشكّ في اختلاف طبقات الأقارب في هذا المعنى. ولا يتضح في الخالة والعمّة والعمّ والخال من شدة الضّرر ويتّضح في الأبوين والجدّة. وإنّمّا يتضح القياس مع المساواة في معنى العلّة. ومن ذكرناه من عمة أو خالة لا يساوي في هذا المعنى الأبوين والجدّة. هذا إذا قلنا بأن المنع من التفرقة بين الأمّ وولدها في البيع حقّ للأم على ما ذكر ابن عبد الحكم في مختصره من أنّ الأئم إذا رضيت بالتفرقة بينها وبين ولدها لم يمنع سيّدها من أن يفرّق بينهما في البيع. وإن قلنا: إنّ المنع من التفرقة إنما يعتبر في حق الولد في هذا، كما قاله ابن الموّاز عن مالك: إنه لا. يفرّق بين الأمّ وولدها في البيع ولو رضيت الأمّ بذلك. وقع النّظر فيما قاله أبو حنيفة فإن الولد إذا بيع وحده، وهرب مشتريه وهو صغير لا يجد من يربيه، فإنّه يلحق به الضّرر الشديد من أن يفرّق بينه وبين خالته أو عمّته. ويجري هذا مجرى التفرقة في الأحرار. فإنّ الحضانة للخالات، وإن كره الأب ذلك، إذا لم تكن أمّ ولا جتة، ولكن المذهب أن حكم الحضانة في الأحرار خلاف حكمها في المماليك لما يلحق المالك من الضّرر في ماله بأنْ لا يبيعه كيف يختار من جمع أو تفرقة. والحضانة في الأحرار هل ذلك حقّ للولد أو للأمّ؟ ففي المدوّنة أنّ المرأة

إذا خالعت زوجها على أن تسلّم حقها في الحضانة، فإنّ ذلك خلع جائز، ويلزم ما رضيت به. وهذا مبنيّ على أنّ الحضانة حقّ للأمّ، ومن رضي (¬1) بإسقاط الأمّ حقها في الحضانة باطل (¬2) بناء منه على أنّ الحضانة حقّ للولد. وإذا خالعت على إسقاط حقّ غيرها لم يلزم ذلك إذ ليس لأحد أن يسقط حقّ غيره لمنفعة نفسه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: أمّا حدّ التفرقة فقد اختلف فيه. فالمشهور عن مالك وابن القاسم أنّ حدّ ذلك استغناء الولد عن أقه، والعلمُ على ذلك الإثغار. ما لم يعجّل على الصّغير أو الصّغيرة. وهذا الاستغناء قال فيه مالك: هو أن يستغني عن أمّه في شرابه وطعامه وقيامه ومنامه. وهذا يحتمل أن يبنى على التّعليلين جميعًا. وإن كان الأظهر منهما إسناد هذا الحكم إلى حقّ الولد في التّربية. لأن من لم يثُغِر، ولم يعقل ما يُؤمر به ويُنهى عنه، ويهتدي إلى ما يحفظ به حياته ويدبّر به نفسه، مفتقر إلى من يقوم به في ذلك. فلوْ ترك الرّضيع والقريب العهد بالفطام إلى تدبير نفسه وغذائه لهلك، لأنّه لا يحسن كيفيّة التغذّي ولا أوقاته ولا صفة تناوله وإحضاره. ويحتمل أيضًا أن يقال: ما دامت حاجته شديدة إلى أمّه، كانت في رحمته والعطف عليه أشدّ منها في ذلك إذا استغنى عنها. ولهذا كبار الأولاد لا يلحق نفس الأمّ في نزعهم منها ما يلحقها في صغير لا يعقل محتاج إلى تربيتها. فيكون من هذه الجهة الحكم مستندًا لحنانها ورحمتها. ولكنّه يختلف باختلاف السنين. وحدّهُ اللّيث بعشر سنين. ورأى أن ذلك علَمًا على الاستغناء عن أمّه. وإلى هذا أشار في كتاب ابن الموّاز فقال: يفرّق بين الأمّ وولدها إذا استغتى عنها وختن وصار يؤمر بالصّلاة ويؤدّب عليها، وفارق أسنان اللّبن. فذكره التأديب للصّلاة وإدخاله المكتب والختان يشير إلى أنّ ذلك كلّه هو علم على الاستغناء عن أمّه. وذكر في ذلك أدبه على القملاة وهو إنّما يؤدّب عليها إذا بلغ عشر سنين. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والمعنى واضح. (¬2) هكذا في النسختين، والمعنى واضح.

وقال ابن حبيب: يفترق بينهما إذا بلغ سبع سنين. وهذا كلّه تحويم على اعتبار استغناء الولد عن أمّه وبلوغه إلى حال يستقلّ بها في نفسه. وروى ابن غانم عن مالك أنّه (لا يفرّق) بينهما قبل البلوغ، ولا تجوز التّفرقة عنده إلاّ إذا بلغ الاحتلام. وهذا المذهب أيضًا يمكن (أن) يكون مبنيًّا على اعتبار استغناء الولد عن أمّه. ورأى في هذه الرّواية أن من قصر عن شنّ الاحتلام فإنّه مفتقر إلى تربية أمّه. وهذا كلّه استشهاد بالعوائد. وما أببد في هذه الرواية عن مقتضى العادة فإن لم يبلغ يشتدّ حنانُ أنه إليه ولا يكاد يستغني (عنها) كل الاستغناء. وإن كان المراهق في العادة أشدّ استقلالًا بنفسه وأقرب إلى الاستغناء عنها من ابن سبع سنين ونحوها. وإلى هذا كان يميل بعض أشياخي. وذهب محمَّد بن عبد الحكم إلى أنه لا يفرّق بين الأمٌ وولدها طول ما عاشا. وهذا المذهب بعيد غير مستند لما أسندنا إليه المذاهب المتقدّمة، لأنّه لا يشكّ عاقل في أن ابن خمسين سنة مستغن عن أمّه، وأنها إذا كانت قد بلغت إلى الهرم فإنّها هي المحتاجة إليه. ولكنّه ذهب إلى عموم الحديث، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من فرّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبّته يوم القيامة" (¬1). ولا شكّ أنّ عموم هذا يقتضي منع التفرقة. وأن حبّ الأمّ الولد لا يذهب وإن طعن الولد في السنّ. والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: اختلف المذهب على قولين في النّهي عن التّفرقة. هل ذلك من حق الله سبحانه فيما حرّم الله وحلّله، أو من حقّ المخلوقين التي نهى الباري سبحانه عنها لرفع ضرر عنهم، أو ما في معناه، فذكر ابن حبيب أنّ من قَول مالك ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وأصحابه أن بيع التّفرقة يُفسخ. حكى ذلك مطلقًا من غير تقييد. وإليه ذهب القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب فقال: إنه باطل (¬1) الخمر، ويفسخ ولو رضيا بالجمع بينهما. والمشهور من المذهب أن المقصود بهذا النهي رفع الضرر عن المخلوقين، على الاختلاف الذي قدّمناه. هل ذلك مقصود به رفع الضرر عن الأمّ في أن لا تولّه عن ولدها، فإذا رضيت بالتفرقة صحّ البيع ولم يمنع. أو المقصود بالنّهي ودفع (¬2) الضرر عن الولد في أن لا يفقد رفق أمّه به وحياطتها، على حسب ما قدّمنا ذكر الخلاف في ذلك وتوجيهه. وإذا قلنا: إنّه من حقوق الخلق فإنّ البيع لا يجب فسخه إذا وجدنا سبيلًا إلى إزالة السّبب الذي وقع النّهي لأجله وهو رفع الضّرر، وذلك بأن يرضى من في يده الأم أن يبيعها مِمّن صار في يده الولد بما يتّفقان عليه من ثمن، أو يرضى من في يده الولد أن يبيعه ممن في يده الأم بثمن يتفقان عليه. وإن لم يتراضيا بذلك، فالمذهب على قولين: هل يعدل إلى الفسخ إذا لم يوجد سبيل إلى رفع سبب النّهي وهو مذهب ابن القاسم، أو يباع الولد وأمّه من رجل واحد فيزول سبب النّهي؟ وهو اختيار ابن الموّاز. فكأنّ ابن القاسم رأى أنّ رفع سبب النّهي إنّما يتصوّر بوجه واحد. وهو أن يتراضى مالك الأمّ ومالك الولد بأن يبيع أحدهما ما في يده من الآخر. وأمّا بيعهما عليهما جميعًا فإنّ ذلك يوقع في نهي شرعي وهو جمع السلعتين لمالكين في البيع، وهو يرى المنع من ذلك، فلا يُصلَح منهي عنه بالوقوع في منهي عنه آخر. وكأنّ ابن الموّاز رأى جواز جمع السلعتين في البيع لمالكين، كما ذهب إليه أشهب، ورأى أن ركوب مذهب أشهب في هذا أخفّ من فسخ البيع. وقد أشار ابن الموّاز في احتجاجه لما ذهب إليه في هذا بأن ذلك كبيع المسلم المصحف من النصرانيّ. وابن القاسم يرى أن ¬

_ (¬1) كلمة غامضة. وفي المعونة: "أصله بيع الخمر": 1071 (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.

البيع لا يفسخ، وأنّه يباع على الثصرانيّ ما اشتراه من ذلك، فيحصل بالبيع عليه رفع السّبب الذي لأجله وقع النهي. وينفصل ابن القاسم عن هذا بما أشرنا إليه من توجيه قوله بأنّ بيع المصحف على النّصراني لا يركب فيه نهي آخر، وبيع الولد وأمّه مجموعين وهما لمالكين يركب فيه نهي آخر وهو بيع سلعتين لمالكين. فهذا الانفصال عما أشار إليه ابن الموّاز منَ الحجة عليه. وقد ناقضه أصبغ بما ذكره ابن الموّاز عن ابن القاسم فيمن عنده أثم وولدها، فباع أحدهما من رجل، وتصدّق بالآخر على رجل آخر، فإنّهما يباعان عليهما من رجل واحد. فقال أصبغ: هذا رجوع منه عن الفسخ. والانفصال أيضًا عن هذا أنّه إذا رجع إلى الفسخ فيمن باع ولدًا دون أمّه، أو أُمًّا دون ولدها، فإنّ من فسخ عليه البيع وأخذ منه ما اشتراه يرجع بعوضه وهو الثمن الذي دفع فيه، فلا يلحقه من ذلك كبير مضرّة في إبطال ملكه بالكلية. وإذا راعينا في الهبة جمع السّلعتين، وأنّ ذلك لا يجوز، وفسخنا الهبة أبطلنا حقّ الموهوب له بغير عوض يأخذه. وهذا من الضّرر البيّن الذي يقتضي أن العدول عنه إلى ما هو أخفّ أوْلى، وهو جمع السّلعتين، ويقدّر أن الهبة لما وقعت ها هنا وفسخنا إبطال الملك بالكلية، صار ذلك كالفوت فيها، ونحن نذهب في بيع التّفرقة إلى أنّ الفسخ إذا وجب بعد أن فات البيع بحوَالة أسواق فإن البيع لا يفسخ لأجل الضّرر في فسخه بحوالة السّوق، ولكن تجب فيه القيمة لفساد العقد، أو يمضي بالثمن إذا قلنا: إن فساد هذا لحق الله سبحانه في النّهي عن هذا العقد، مع كون الثمن والمثمون جائزين لا غرر فيهما، كبيع الجمعة وشبه ذلك، وهو مذهب ابن عبدوس في بيع التّفرقة إذا انفسخ إمّا بكبر الولد، أو بحوَالة السّوق، فإثه يمضي بالثمن إذا كبر، ويمضي أيضًا بالثمن إذا حال السّوق، ويجبرانِ على الجمع بين الأمّ وولدها، على حسب ما قدّمناه في البيع عليهما. ولو قلنا بما ذهب إليه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب من وجوب الفسخ

في بيع التفرقة، وإنْ جمعَا بينهما، لتمكن (¬1) أيضًا على هذا التعليل الذي ذكرناه أن نقول ها هنا: إنّ الهبة لا تفسخ، لكن يحكم بالجمع بينهما، لكون الهبة ها هنا في معنى بيع فاسد، ولا يفسخ بعد فوته. ويمكن أيضًا أن يذهب إلى ردّ الهبة. فهذا مِمّا ينظر على أصله. فيستخلص من هذا أن بيع التفرقة إذا وقع المذهب فيه على ثلاثة أقوال: أحدها: فسخ البيع على كل حال. والثاني: إمضاؤه على كل حال، وإزالة سبب النّهي بالبيع عليهما إن لم يتراضيا بالجمع طوعًا منهما. والثالثة: أنّهما إن تراضيا بالجمع لم يفسخ البيع. وإن لم يتراضيا به فسخ البيع، على حسب ما فضلناه من هذه المذاهب وتعليلها. وبعض أشياخي يشير إلى القَدح فيما وجّهنا به مذهب ابن القاسم بأنّه يمكن إزالة لبسبب النّهي أيضًا في جمع السّلعتين لمالكين في عقد واحد بأن تقوّم الأم ويقوَّم الولد، ثم تباعان جميعًا، ويقسم الثمن على نسبة القيمتين. فيصير كل واحد من المالكين لم يعقد البيع إلاّ وهو يعلم ما ينويه من الثّمن الذي بذله مشترياه وقد كنّا نحن أشرنا إلى هذا في كتاب البيوع الفاسدة، وتكلمنا على ما يتعلّق به. وهكذا أيضًا يقصد ما ذكرناه من الخلاف على وجه دون وجه بأن يقول: بأنّ العاقدين لبيع التفرقة إنْ علمًا أن الشرع يجبرهما على الجمع أو يبيع الأمّ والولد عليهما، صارا قد عقدا على غرر، وهو تجويز أن يصحّ ما اشتراه المشتري، أو لا يصح (¬2) بثمن يباع به عليه وذلك غرر وخطر. والبائع أيضًا يجوز أن تؤخذ الأمّ من يده فتباع عليه، فيصير قد خاطر في هذا العقد. وهذا يتّضح معه فساد البيع ووجوب فسخه على كلّ حال. ولو علم بذلك أحدهما وجهل به الآخر، يجري على الخلاف في علم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأمكن. (¬2) وفي (و): أولًا يصحّ إلا.

أحد المتبايعين بفساد العقد، هل يفسد ذلك العقد، كما لو علمًا جميعًا، أو لا يفسده. بخلاف أن يدخلا جميعًا على العلم بفساد العقد وتحريمه؟ وهذا الذي أشار إليه ينبغي أن يتحقّق تصوّره بأنهّما دخلا على علم بذلك، وهما يلتفتان إلى ما يمّضي به القاضي عليهما في هذا. وأمّا لو عقدًا وهما يعتقدان أنّ ذلك لا يقدر على فسخه عليهما، وصمّما على أنّ الغرر في ذلك لا يمكن إلاّ أن يقعا فيه، لكان هذا مِمّا يمنع من اتّضاح تصوّر الطريقة الّتي أشار إليها. وكان أيضًا يرى أنّهما إذا جهلًا جميعًا التحريم ووجوب إنفاذ البيع الذي عقداه، أن يباع عليهما، فإنّ لكل واحد فيما عقد على نفسه لمَا طرأ عليه من عيب بعد العقد، وهو كون المشتري مجبورًا على أن يخرج من يده ما اشتراه والبائع مجبور على أن يبيع غير الذي رضي يبيعه. وهذا أيضًا مَمّا ينظر فيه، لأنّهما إذا استويا في الجهل بهذا الحكم، ودخلا على تأبيد ملك كل واحد منهما، فإنّ هذا يصير كعيب اطّلع عليه بعد العقد، والبائع والمبتاع يستويان في الجهل به، فصار ذلك كعيب وجد في باطن خشبة باعها، يعلم العيب إلاّ بعد كسرها، لكن هذا العيب الموجود في باطن الخشبة يستوي النّاس كلّهم في الجهل به، وهذا الذي ذكره في بيع التّفرقة وإن جهله هذان فإنه يعلمه غيرهما من النَّاس، فيجب الردّ به. لكن لأجل أن سبب هذا العيب لم يكن من البائع خاصّة بل هو والمشتري سيان فيه، يجب النّظر فيه من هذه الجهة، فقد يظهر أنّ ذلك كعيب لم يدخل عليه المشتري، ولو علم به لم يدخل عليه، فيكون له بذلك مقال. وقد ذكر ابن سحنون أنّ رجلًا سأل سحنونًا في رجل باع مملوكتين له، وفي ملكه أمّهما، وإحدى البنتين المبيعتين بلغت حدّ التّفرقة، والأخرى لم تبلغ حدّ التّفرقة؟ فأجابه سحنون بأنّ الصّغيرة إذا لم تكن وجه الصفقة مضى البيع في الكبيرة وجمع بين الأم وابنتها الصغيرة في ملك واحد. وإن كانت الصغيرة فسخ البيع فيها.

وهذا الذي قاله في إمضاء البيع بناء على أنّ ذلك حقّ للمخلوق، ولا يجب فسخه إذا زال سبب النّهي برفع الضّرر. وأمّا إذا قلنا بالقول الآخر، أنّ ذلك إنّما نهيَ عنه لحقّ الله سبحانه، فإنّ البيع يجب فسخه على كل حال، فإنّ هذا العقد يكون كصفقة جمعت حلالًا وحرامًا فحرامه العقد على الصغيرة دون أمّها، وحلاله العقد على الكبيرة دون أمّها فيفسخ الجميع، كمن باع زق خمر وثوبًا صفقة واحدة، فإن جميع العقد يفسخ على المشهور من المذهب، وعلى الطريق الأخرى يفسخ منه الحرام خاصّة، على حسب ما ذكرنا فيه فيما مضى في غير هذا الكتاب. وإذا كانت الصغيرة أيضًا جُلّ الصفقة، وقلنا بإنّ ذلك إنّما نهي عنه لحق المخلوق، وجب فسخ الجميع، إذ لا يمكن المشتري من الاستمساك بأقل الصفقة بما ينوبه من الثمن، وهو مجهول على مذهب المدوّنة لا على مذهب ابن حبيب الذي أجاز ذلك. والجواب عن السّؤال الخامس أن يقال: إن كانت الأمة بيد رجل وولدها بيد رجل آخر، وعلم أنّ ذلك بأيديهما عن بيع، أو جهل، أو هبة (¬1)، فإنّ الحكم أن يجمع بينهما في ملك واحد لكون ذلك أحوط في رفع الضّرر، لأنّهما إذا لم يكونا لمالك واحد، وجمعا في حوز أحد المالكين، فيمكن أن يريد مَن هما في حوزه التصرف، والسّفر بملكه ليحصل له ذلك، ولا يعينه الآخر عليه حتى يرجع ملكه إلى حوزه وتحت يده. وقد يفلس أحدهما فيُضطرّ إلى أنْ يباع عليه ملكه، فإنْ بيعَ منفردًا كان ذلك تفرقة، وإن بيع مجموعًا مع ملك الآخر كان ذلك جمع سلعتين، فكان الأولى أن يجمعا في ملك واحد ليكون ذلك احتياطًا لحقّ الأمّ وولدها في ألاّ يفرّق بينهما. وأمّا إن كانا في أيديهما من غير عوض، كهبة أو صدقة، أو كان أحدهما بعوض والآخر بغير عوض، ففيه اختلاف في المذهب: قال ابن الموّاز: اختلف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف أو هبة.

قول مالك في الهبة للأم أو ولدها هل يجيران على الجمع بينهما في ملك، أو يكتفى بأن يجمع بينهما في حوز أحد المالكين. وذكر ابن حبيب أنه إن كان المالكان شملهما واحد ومسكنهما واحد، كالزّوجة والزوج والولد والأب وشبههما، فإنّ الجمع في حوز واحد يكتفى به. فإن لم يكن شملهما واحدًا فلا بدّ أن تجمع الأمّ وولدها في ملك واحد. وأشار بعض المتأخرين إلى أن الهبة لمّا كان طريقها المعروف حسن الخلاف فيها، هل هي كالبيع أو كالعتق؟ وقد اتفق في العتق على أنه إنّما يجمع بينهما فيه في حوز واحد. كما اختلف فيمن وهب عبدًا هل يتْبع العبد ماله كالعتق أوْ لا يتبعه كالبيع؟ وهذا الذي أشار إليه لا يتضح لأجل أنّ الإنسان إذا كان له أمّ وولدها فأعتق أحدهما فإن العتق يستحيل معه البيع في الشّرع. فلمّا استحال معه البيع في الشرع استَحال طلب المالكين بأن يجمعا بينهما فيما يستحيل في الشّرع تصوّره وفعله وهو بيع العتيق، والهبة لا يستحيل في الشّرع بيعها. وقد ذكر ابن الموّاز عن ابن القاسم فيمن عنده أمّ وولدها فباع أحدهما وتصدّق بالآخر، فإته يجب أن يجتمعا في ملك أحدهما أو يباعا عليهما، فقال بعض المتأخّرين: إذا بدأ بالبيع قبل الهبة جرى ذلك على أحكام البياعات في أن يجمعا في ملك، ولو بدأ بالهبة ثم بعد ذلك باع يجري على أحكام الهبات. لأنّه إذا بدأ بالبيع فلا فرق بين أن يهب بعد ذلك أو يبقى في ملكه مَن سوى ما باع. وإذا بدأ بالهبة فكذلك أيضًا لا فرق بين أن يبيع الآخر أو يبقيه في ملكه. وليس فيما ذكره ابن الموّاز تصريح بالتّرتيب الذي أشار إليه هذا المتأخّر. وقد كنّا قدّمنا في غير هذا الكتاب اختلافًا فيمن وهب طفلًا رضيعا وعنده أمّه هل يكون الرّضاع على الموهوب له الولد إذا حلف أنّه لم يرد التزام رضاع أمّه له، أو يجبر على أن يمكن الطفل من رضاع أمه؟ وكذلك اختلف في الحوز في الهبة: هل يكون ذلك بحوز الولد والأمّ

جميعًا أو يكون بحوز الولد خاصّة، وإن كان قد أساء في التفرقة بينهما؟ وذكر ابن حبيب أنّه يصحّ الحوز للولد، وإن كان في يد الواهب مع الأمّ، إذا أشهد بالهبة وقام الموهوب بمؤونة الطفل، وأشار إلى المؤونة الزائدة على رضاعه. وقال بعض المتأخّرين لا يجبر الواهب على التمكين من الأمّ ليصح الحوز لجواز أن يرضع الولد غيرها. ويجبر على تسليم الشجرة إذا وهب ثمرها ليصح الحوز، لكون الثمرة تستمدّ من الشجرة دون غيرها. وأمّا إذا أعتق أحدهما فإنه يكتفى ها هنا بأن يجمعا في حوز واحد، لكون الشّرع أحال بيع العتيق منهما، فإذا استحال بيعه وملكه بعد عتقه استحال أن يجمع بينهما في ملك واحد لأنّ ذلك لا يتصوّر إلاَّ بعد إبطال العتق وهو لا يبطل إذا ثبت واستقرّ. ولو أعتق سُرِّيّة يضرّ بمثلها العتق لم يُردَّ العتق لكونه قربة شرعيّة يحيل الشّرع استرقاق العتيق، بخلاف أن يوصي بعتقها، عند من رأى أنّ من حقّها إبطال الوصيّة إذا أضرّ ذلك بها. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا كان لرجل أمةٌ ولها ولد صغير في ملكه، فإنّه لا يجوز له أن يفرّق بينهما في البيع، كما تقدّم، ويجوز له أن يفرّق بينهما بالعتق. فإن أعتق الولد دون أمّه نفذ عتقه فيه، وأمران لا يفرّق بينه وبين أمّه. فإن أراد بيع أمّه وحدها مكّن من ذلك، وشُرِط على مشتريها منه أن يبقى الولد على حسب ما كان عنده من كونه لا يفرّق بينه وبين أمّه. وإن كان في هذا بعض تحجير فإن الضرورة دعت إلى العفو عنه في هذا العقد لما أوجبه الشرع من الجمع بينهما. ويشترط عليه نفقة هذا الولد مدّة معلومة. فذكر في كتاب البيوع الفاسدة أنّ أمدها سنة. وذكر ابن الموّاز أن أمدها الإثغار، وهو الحدّ الذي إذا بلغ إليه الولد جازت التفرقة بينه وبين أمّه في البيع. وأنّ هذا الولد إذا مات كان من حقّ بائع الأم أن يأتي بمن ينفق عليه مشتري الأمّ النفقة الّتي اشترطت عليه في هذا الولد الذي مات ليكون ذلك أرفع للمغرر في ثمن هذه الأمة، إذ لا يدري

هل يموت الولد بعد سنة من شراء أمّه فلا يخسر مشتري أمّه سوى نفقة عام أو بعد خمس سنين يخسر نفقة خمسة أعوام، والثمن يختلف باختلاف الإنفاق في هذه المدّة. فإذا التزم مشتري الأمّ الإنفاق في هذه المدّة، عاش الولد أو مات، ارتفع بهذا الغرر الذي أشرنا إليه. ويشترط عليه أنّه إن سافر بالأمّ سافر بولدها العتيق معها، وكانت مؤنة سفره من كراء أو إنفاق على مشتري أمّه. وقد ذكر ابن الموّاز من أعتق صغيرًا لا يقدر أن يسعى على نفسه فإنّ نفقته لازمة لمعتقه. وكان الأصل في هذا أن يكون على سائر المسلمين إن لم يجد (¬1) بيت مال ينفق منها (1) على مثله، كما يجب في لقيط لا يعرف له أب يُطلَب بالنفقة، لكن هذا المعتق لما انفرد بعلم هذا واختصّ به، وفعل السّبب الذي يؤدّي إلى إضاعة هذا الصغير، وهو عتقه، تعينت المواساة عليه. إذ مطالبة سائر النّاس بها قد يتعذّر ولا يوجد من يتكلّفها فيؤدّي ذلك لهلاك الصغير. فإذا كانت النّفقة عليه إذا أعتقه فإنّه. إذا باع أمة اشترط على مشتريها من الإنفاق مثل الذي كان عليه، لكون هذا أحوط للولد وأرفق به من أن يطالب رجلًا (¬2) باعها بنفقة ولدها كل حين. وقد يلحق الولدَ من ذلك ضرر وتضييع، فكان الأولى اشتراط ذلك على من ينفق على أمّه. وكذلك لو أعتق مالك الأمة وولدها الأم خاصّة، فإنّ من حقّها أن يكون في تربيتها، إن كان لا خدمة فيه، وإن كان لسيده به شيء من الانتفاع مكّن من ألانتفاع به ويأوي بعد ذلك إلى أمّه. وإن سَافر سيّده به تبعته أمّه لكونها حرّهّ لا حكم عليها لأحد. وأما إذا كاتب السيّد أحدهما فإن ذلك ليس بتفرقة، فإن احتاج إلى بيع من لم يكاتبه منهما فلا يمكّن من ذلك، إلاّ أن يبيع من يبيع الرّقيق منهما كتابة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يوجد - منه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُطالب رجلٌ.

المكاتب منهما. فإذا فعل ذلك ارتفع ما يترقّب من التّفرقة، لأنّ هذا المكاتب إذا عجز عن أداء الكتابة لمشتريها كان رقيقًا لمشتريها مع الآخر الذي اشتراه مع الكتابة، وإن أدّى الكتابة صار حرًّا ناجزًا، والعتق ليس بتفرقة، ونحْن نجيز أن يبيع أحدهما لمن يعتقه، ولكن نبيّن لمشتري الكتابة أنّه إذا أدّاها وصار حرّا بأدائها فإنّه لا يفرّق بينهما حتى يبلغ الولد حدّ التّفرقة. وكذلك إن أعتق أحدهما إلى أجل، فإنّ العتق لا يردّ ولا يمكن من بيع من لم يعتقه منهما بانفرداه. لكن هل يمكّن من بيعه مع بيع الخدمة التي له في المعتق إلى أجل إذا تساوى أجلهما وأجل حدّ التّفرقة. هذا مِمّا تردّد فيه بعض الأشياخ لأجل أنّه يمكن أن يمرض المعتق إلى أجل مرضًا يوجب فسخ الإجارة، فيبطل عقدها، ويرجع إلى سيده يستخدمه وينفرد بحوزه دون المرقوق منهما، فيصير ذلك تفرقة. لكن هذا من النوادر والطوارىء ومراعاة النوادر لا تجب في إحدى الطّريقتين. وإلى هذا مال بعض أشياخي. ولو كان أمد التّفرقة ينقضي قبل انقضاء أجل الخدمة في المعتق إلى أجل لم يلزم السيّد أن يبيع ما زاد من الخدمة على أمد التفرقة، لأن ذلك لا سبب يوجبه من انفراد السيّد به، لكون التفرقة قد حلّت له بالأثغار. وأمّا إنْ دبر السيّد أحدهما فإنّ ذلك ليس بتفرقة، ولكنّه لا يمكن من بيع الذي لم يدبره منفردًا ولا مجموعًا مع خدمة المدبّر. أمّا المنع من بيعه منفردًا فإنّه تفرقة بين الأمّ وولدها، وأنه لا يجوز. وأمّا منعه من بيعه مع خدمة المدبّر، فإنّ خدمة المدبّر لا يجوز بيعها على انفرادها لكون أمدها مجهولًا لتعلّقها بحياة السيد، وأجل انقطاع حياته لا يعلمه المخلوقون، ولو علموه لأمكن أن يَكون يموت مديانًا يردّ الدّين عتق العبد الذي دبّره. وإذا منعناه من بيع من لم يدبره منهما، ومات، وعليه دين، وقد دبّر أحدهما، فإذا كان مثلًا هو الولدَ، والأمّ لم يدبرها، بيعت في الدّين. فإن عتق الولد المدبر فيما بقي من ثمنها بعد قضاء الدّين أي بقيت منه بقيّة في قيمة نفسه فإنه. يكون حرًّا ولا يفرق بينه وبين أمّه،

ويؤمر مشتريها بأنْ لا يفرّق بينهما. ولو كان الدّين إذا قضي لم يجب عتق جميع الولد، لكون التركة تقصر عن جميعه، فإنه يباع من كل واحد منهما جزء مثل ما يباع من الآخر مبلغ الجزء. ويكون مبلغ هذا الجزء جميع الدّين لئلا يفرّق بينهما في البيع. فإذا سقط من له دين عتق من الولد ثلث ما بقي ثم يجري ما بقي مِن الرقّ على أحكام التّفرقة الّتي قدّمناها. وأنّ لنصراني أمًّا وولدها فدبر الولد وأسلمت الأمّ فإن البيع يمتنع لأجل كون الولد مدبّرًا. فتؤاجر الأمّ، ويكون ولدها معها، حتى يبلغ حدّ التّفرقة، فتباع الأمّ على النّصراني. وبهذا يتعلّق به حكم تدبير النصرانيّ وسنذكره في موضعه إن شاء الله. وإذا تقرّر هذا فالشركة في الأمّ والولد ليست كانفراد كل واحد منهما بملك رجل واحد. ولهذا قال مالك: إن مات وله أمّ وولدها يجوز أن يبقى الولد وأمّه على حكم الشركة بين الورثة فإن أراد أن ينفرد كل واحد منهما بالملك تقاوما أو باعا بيعًا ينفرد كل واحد. منهما فيه بالملك، أو يصيِّران ملك الأمّ وولدها إلى رجل واحد، ولا يجزيهما أن يقسماهما، ويبقيانهما في حوز واحد. قال ابن حبيب: ولو فعلوا ذلك لفسخت القسمة. وهذا الذي قيل في هذا مبنيّ على ما قدّمناه من كون التفرقة إذا كانت عن بجع فإنّه لا يجوز الاقتصَار على الجمع بينهما في حوز، إذ القسمة بينهما كالبيع. وأمّا لو انفرد أحد رجلين يملك أحد هذين الشخصين واشترك هو وآخر في الأمّ أو في ابنهما، فإنّ ظاهر المذهب في هذا على قَولين. وقد قال ابن القاسم: إذا كانت أمّة بين شريكين ولها ولد يشتركان فيه أيضًا، فدبره أحدهما، فإنهما يتقاومانه فإن صار بالقرعة إلى من لم يدبره كان رقيقًا له. وهذا منه إشارة إلى جواز الانفراد بملك الولد وبقاء المشاركة في الأم. واعترض سحنون هذا، وأشار إلى إنكاره؛ لأنّ انفراد أحد الرجلين بملك أحد الشخصين تفرقة بينه وبين أمّه. ورأى ابن القاسم أنّ الذي انفرد بملكه له نصيب في أمّه، ولو طرأ على

شريكه دين لبيع جميع الأمّ بحقّ الشريك. في أن لا يباع النصيب منفردًا يبخس ثمنه. وإذا بيع جميعًا فقد اشتمل البيع على نصيب الذي انفرد بملك الولد وإذا بيع نصيبه فيها عليه أضيف إلى هذا النصيب في المبيع الولد الذي انفرد بملكه. والجواب عن السؤال السّابع أن يقال: أما تعلق حق في نقل الملك لأحد الشخصين، إما الولد أو الأمّ، فإنه يتصوّر فيه جناية أحدهما جناية توجب على سيده أن يفديه بأرش الجناية أو يسلّمه للمجني عليه. فإذا فداه سيده بقيت الأمّ وولدها على ما كانا عليه. وإن أسلمه سيده فلا بدّ أن يجمع بين الأمّ وولدها في ملك واحد، بأن يشتري أحدهما من الآخر، أو يبيعان جميعًا صفقة واحدة، على قول من أجاز جمع السّلعتين لمالكين، أو على أنّ كل واحد منهما يقوّم ما في يديه منهما، حتى يكون كل واحد منهما على علم بمقدار ما يستحقه من ثمنهما. وأمّا إن لم يتبايعا ولا قوّم كل واحد منهما ما في يديه، وقلنا بالمنع من جمع سلعتين فإنّه ها هنا قد يستخف من أجل الضرورة الدّاعية إليه إذا امتنعا، واحتاج القاضي إلى بيعهما عليهما، على حسب ما تقدمت الإشارة من كون تَوجيه (¬1) الأحكام بخلاف ما لا توجبه مع تعذّر التقويم الذي يرفع هذا الغرر في الثّمن الذي تقدّمت الإشارة إليه. وكذلك لو اطّلع من اشتراهما جميعًا على عيب بأحدهما فأراد ردّه، فإنّه يردّ الآخر معه، لآنّه إذا كان العيب في الأتم وحدها أو في الولد وحده، فلا بدّ إذا ردّه بالعيب من ردّ الآخر معه، لأن ردّ المعيب خاصّة إلى ملك بائعه يتضمّن التّفرقة بين الأمّ وولدها وذلك ممنوع شرعًا، ويصيّر هذا كمن اشترى زوجين لا يفترقان، إمّا خفّيْن أو نعلين، فإنّه إذا أصاب بأحد النّعلين عيبًا فإنّه لا يردّه وحده لكونه وحده لا كبير ثمن له بالإضافة إلى ثمنه إذا بيع مع صاحبه. فوجب ردّ السّالم من النعلين مع المعيب لأجْل البَخْس. فكذلك يجب في الأمّ وولدها لأجل الشرع. وكذلك لو أن رجلًا مَلَك أمًّا بانفرادها فباعها بالخيار، ثم اشترى بائعها ¬

_ (¬1) هكذا. ولعل الصواب: ما توجبه.

ولدها بَتْلًا بغير خيار، فإنه ذكر في المدونة: أن الأمّة المبيعة بالخيار، إن كان الخيار فيها للبائع فإنه يُنْهَى عن إمضاء البيع فيها بعد أن اشترى ولدها؛ لأنه إذا أمضى البيع مع قدرته على أن يردّه صار كمبتدىء بيع أمة وأبقى (¬1) ولدها على ملكه. فإن ركب النهي، وأمضى البيع، فإن إمضاءَه يُرَدّة إلا أن يجمعا بين الأم وولدها في ملك واحد. فإن كان الخيار في الأم المبيعة للمشتري، فإن له إمضاء الشراء، ويجبران على أن يجمعاهما في ملك أحدهما، ويبيعانهما من رجل واحد. وقد أشير إلى معارضة هذه التفرقة، من كون الخيار للبائع أو للمشتري، بأنه (¬2) لا ينبغي أن يُفرَّق بينهما على الطريقتين المعروفتين في المذهب في عقود الخيار إذا أمضيتْ، هل يكون العقد إنما انبرم وانعقد في زمن الإمضاء، فيكون البائع منهيًا عن إمضاء العقد إذا كان الخيار له، لكونه عقدًا لِبَيع على أمة وحدها، وعنده ولدها. وكذلك يجب أن يكون المشتري منهيًا عن إمضاء الشراء، لكونه عَقَد الشراءَ في أمة وولدها ساق على ملك البائع. وإن قلنا بالطريقة الاّخرى: إن عقود الخيار إذا أُمضيتْ قدِّرتْ أنها لم تزل ماضية من حين عقد الخيار، وجب، على هذا، أن يجوز إمضاء العقد للبائع والمشتري، لأن كل واحد منهما، إذا أمضى عقدًا، كان جائزًا أن يتبتل حين عقد بالخيار، لكون الولد حينئذ لم يكن في ملك بائع الأمهّ بالخيار. وأشير أيضًا إلى مناقضة ابن القاسم في قوله: إذا كان الخيار للمشتري فإنهما يجبران على أن يجمعاهما في ملك أحدهما أو يبيعانهما من رجل واحد. فقد سامح في جمع (¬3) السلعتين ها هنا لمالكين. وقد قدمنا عنه، فيما سلف، أنه يرى الفسخ أولى من الوقوع في جمع السلعتين. ¬

_ (¬1) في المدنية: إبقاء. (¬2) في (و): فإنه. (¬3) في (م): جميع.

وقد اعتُذِر عنه في هذه التفرقة بأن البائع، لما اشترى الولد بعد أن باع الأمّ على الخيار فيها للمشتري، أتُّهِم فيها على أنه قصد بها إبطال حق المشتري في الخيار في الأم، فلم يمكّن من إبطال حقه في الخيار، وأن تُرَدَّ الأمة التي باعها منه إلى يديه؛ ويمنعه من إمضاء الشراء فيها على حسب ما يقتضيه ما كان له من الخيار فيها. وهذه التهمة لا تتصور إذا كان الخيار في الأمة للبائع؛ لأنه قادر على ردّها إلى ملكه، سواء اشترى ولدها أو لم يشتره. فلما تصورت التهمة في شأن شراء الولد إذ كان الخيار في الأمّ للمشتري، واتُّهم أنه قصد إلى إبطال حق المشتري منع ما قصد إليه ومضى البيع على ما كان عليه. وكذلك يعتذر عنه بإجازته ها هنا جمع السلعتين في البيع إذا كان الخيار للمشتري، لأجل ما كنّا أشرنا إليه من الضرورة إلى الوقوع في مثل هذا إذا مكّنّا المشتري من إمضاء الشراء. كما لو وجدنا أمًّا في يد رجل وولدها في يد آخر، فإنّا نجمعهما في البيع عليهما، إذا لم يعلم هل هما في أيْدِيهما ببيع فنفسخه، أو بغير ذلك مما لا يصحّ فسخه. وكذلك لو كانا في أيديهما ببيع، وفات المبيع بحوالة أسواق، فإنّا نبيعه عليهما لما امتنع الفسخ بحوالة الأسواق، إذ لا يمكن جمعهما إلا كذلك. فكان ابن القاسم يلجىء إلى الفسخ هربًا من جمع السلعتين، إلا أن تدعو الضرورة إلى جمعهما في البيع فيستخفه لأجل الحاجة إليه. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: قد تقدم في غير هذا الكتاب الكلام على ملك أهل الحرب ما في أيديهم، وأنّا نستبيح أموالهم بالشرع إذا قدرنا عليها. وأشرنا في هذا الكتاب إلى هذا المعنى لما تكلمنا على مراباة أهل الحرب ووطء نسائهم. وبالجملة ملكهم ناقص عند من قال: إنهم مالكون لقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} (¬1). وهذه ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 27.

الإضافة تقتضي ملكهم لما أضيف إليهم من أرض ومال. لكن الملك لما كان لنا انتزاعه من أيديهم بالقهر صار ملكًا ناقصًا. وأما أهل الذمة الذين ضربت عليهم الجزية فإنا لا نستبيح أموالهم ما داموا لم ينقضوا العهد، ويؤدّون الجزية. فلو أن أحدًا منهم عنده أمة وولدها فأراد أن يفرق بينهما في البيع، فإنه يُنهَى المسلم عن الشراء منه، لكون التفرقة في ديننا لا تجوز. لكن لو كان الجميع نَصارى، سيدهما البائع، والمشتري منه، والأم وولدها، فإنه إن كانت التفرقة عندهم لا تجوز، كان من حقنا، إذا طلبت الأم المنع من التفرقة، أن نمنَعهم من ذلك؛ لأنه من التظالم، ونحن مأمورون بأن نكف ظلم بعضهم عن بعض. لكن لو كافي ذلك في دينهم سائغًا لكان للنظر في هذا مجال. وبعض أشياخي يطلق القول بمنعهم من ذلك غير ملتفت للتفصيل الذي فصلناه. ولو أن نصرانيًا له أمة نصرانية أزوَجها من عبد له نصراني، فأسلمت الأمة ولها وَلد من زوجها، فإنه يباع معها لأجل حقها في المنع من التفرقة بينها وبين ولدها، وإن كان الولد على دين أبيه في المشهور عندنا من المذهب. وقيل: إنه يتبع أمه في الإِسلام. وبه قال أبو حنيفة والشافعي، لكون الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه. وقد قيل: إنه لا يكون مسلما بإسلام أبيه، وإنما يكون مسلمًا بإسلام أمه. واعتبر من ذهب إلى هذا الأمَ في الدين كما اعتبرها الجميع في الرق والحرية؛ فإن الولد لا يتبع أباه في الرق والحرية، وإنما يتبع في هذا أمه. ولو أن رجلًا اشترى أمة، واشترى عبدُه، المأذون له في التجارة، ولدَ هذه الأمة، فإنا لا نجيز ذلك، وإن كان السيد قادرًا على انتزل ما اشتراه عبده، حتى يكونا كأنهما في ملك واحد، لأن فن مذهبنا أن العبد مالك حتى ينتزع السيد ما في يديه، فإذا لم ينتزع ما في يديه أُجْرِيَ على أحكام المالكيْن.

وقد يطرأ على العبد ديْن فيجب بيع ما اشتراه من ولد أو أمّ في الدين الذي عليه؛ فيكون بيع ذلك تفرقة. فإن فعلا، واشترى السيد الأمة، والعبا ولدَها، أُمِرا أن يجمعا بينهما في ملك أحدهما، أو يبيعاهما من رجل واحد. وإن لم يفعلا فسخ البيع. وقد عورض هذا أيضًا بأنه إذا جاز لهما أن يبيعاهما جميعًا فلا وجه لفسخ البيع، بل الواجب أن يبيع ذلك القاضي عليهما، كما أمرا أن يفعلا. وأصل ابن القاسم أنه إذا قُدِر على تحصيل المقصود من رفع ضرر التفرقة بالجمع في ملك واحد فلا يعدل عنه إلى الفسخ، كبيع المصحف من نصراني. وهذا الذي اعترض به بعض حذاق الأشياخ قد يعتذر عنه عندي بأن البيع إذا كان من العبد وسيّده بالتراضي منهما، صار ذلك كانتزاع ما في يد العبد من ولد أو أمّ؛ وكأنه لما أمَرَ عبدَه أن يبيع ما في يده مع ما في يد سيده انتزع حق العبد في إقرار ملكه على ما في يديه منهما، وهو إذا انتزعه ثم باعهما بعد الانتزاع، لم يتصور في ذلك جمع السلعتين لمالكين، بل هما ها هنا كمالك واحد. وإذا قررنا أن أمره لعبده، ورضاه له بأن يبيع ما في يديه وما في يد السيد، يقدّر كالانتزاع لم يكن ذلك كبيع حاكم يجمع سلعتين لمالكين، ويبتدىء ذلك اختيارًا منه من غير رضي المالكين. هذا مما ينظر فيه. قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: والتصْرِيَة عيب. وإذا علم المبتاع بعد أن حلبها فله الخيار بين إمساكها أو ردها مع صاع من تمر. قال الشيخ الإِمام، رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما التصرية في اللغة؟ 2 - وما الدليل على النهي عنها؟

3 - وهل التصرية عيب يوجب الردّ؟ 4 - وهل يفسد العقد أم لا؟ 5 - وما حكم اللبن المحلوب منها؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: التصرية في اللغة الجمعُ. ومنه قوله تعالى: {عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (¬1) أي في جماعة من النساء. وتقول العرب: صَرّيت الماء في الحوض، وصَرَيته، إذا جمعته. والصَّراة مكان يجتمع فيه الماء سُمِّي هذا المكان بذلك لاجتماع المياه إليه. فالمصراة مأخوذة من هذا, وليست مأخوذة من الصَّرار، ولو أخذت من الصرار لسُميتْ مصرورة. وكذلك المجمّلة (¬2) هي التي جمع لبنها في ضروعها (¬3)، أيضًا. ومنه قولهم: أتيت فلانًا وهو في محفل عظيم، أي في جماعة كبيرة. وهكذا وردت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، في بعضها حكم من اشترى مصرّاة، وفي بعضها حكم من اشترى محفّلة. والمراد باللفظين معنى واحد. وقد ذكرنا أن العرب تقول: صريت الماء في الحوض، بتشديد الراء وتخفيفها. فإذا نهيت الناس عن المّصرية على لغة التشديد في الراء قلت: لا تُصرُّوا الإبلَ؛ كما تقول في النهي للناس، إذا أخذته من حلّ عن الحرم: لا تحلوا الحرم. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما الدليل على منع التصرية فقوله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه أبو هريرة فيه: "لا تصروا الغنم والإبل. فمن اشتراها بعد ذلك فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها، ¬

_ (¬1) سورة الذاريات، الآية: 29. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: المحفَّلة. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: ضرعها.

إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها وصاعًا من تمر" الحديث المشهور، على حسب ما وقع في الموطأ (¬1) والبخاري (¬2) ومسلم (¬3)، وغيرهم ممن لم يشترط الصحيح (¬4) ومن جهة المعنى: إن الغش والتدليس ممنوع في الشرع. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا" (¬5). وهذا إذا أتى لناقته فربط أخلاف الناقة بخيط، يومًا أو يومين، حتى يكثر لبنها، ويمتلىء (¬6) ضرعها، وينتفخ ويعظم في النظر، قاصدًا بذلك التغرير للمشتري، ليعتقد أن الناقة التي ساوم فيها، هكذا يكون ضرعها كل يوم لكثرة لبنها، فيزيد البائع في ثمنها، اعتقادًا منه أنها تحلب كل يوم مقدارًا كثيرًا فوق ما اعتيد منها من الحلاب. والتغرير بالمسلم في إتلاف ملكه لا يجوز، وإن لم يقارنه بيع ولا معاوضة، فكيف به في عقود المعاوضة. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال.: إذا تقرر النهي عن التصرية، فإن ذلك إذا وقع، وبيعت المصراة، فقد اختلف الناس في ذلك. فأكثر العلماء على أنه عيب وتدليس يوجب للمشتري مقالًا. وبه قال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق. وذهب أبو حنيفة إلى أن التصرية ليست بعيب ولا تدليس، ولا مقال للمشتري فيها. ¬

_ (¬1) الموطأ: حديث 1995. (¬2) البخاري: حديث 2150. (¬3) مسلم: إكمال الإكمال: 4: 184. (¬4) انظر البيهقي: 5: 347 - 348، أحمد: 2: 379. (¬5) مختصر أبي داود: 3308 - مسلم: كتاب الإيمان: باب 43: الحديثان 101 - 102 ج1: ص99. (¬6) في (م): يمتنع.

وذكر ابن القصار من أصحابنا هذا المذهب عن أبي حنيفة، وقال: إنّ أصحابنا والشافعية يحكون عن أصحابه أنهم ينكرون هذا. وهكذا ذكر أبو حامد أن أصحابه ينكرونه. والذي حكيناه عنه هو الذي وقفت عليه في نقل المتأخرين من حذاق أصحابه، ويذكرون أن أبا يوسف خالفه وذهب إلى أن للمشتري في ذلك مقالًا؛ وأن محمدًا بن الحسن أحدَ أصحابه موافقُه على هذا المذهب الذي حكيناه عنه. أن يقال: إذا تقرّر تحريم بيع المصراة، فإنه إذا وقع لم يفسد العقد، وإن كان منهيًّا عنه؛ لأنه عليه السلام قال: "إذا رضيها أمسكها"، والعقد الفاسد ليس للمشتري أن يتمسك به. فإن قيل: فإنه منهي عنه، والنهي يدلّ على فساد المنهى عنه. فمثل هذا ما (¬1) اختلف فيه أهل الأصول. فمن قال منهم: إن النهي لا يدل على فساد المنهى عنه، قولًا مطلقًا؛ فلا يلزمه أن يُفسِد بيع التصرية. ومن قال: إنه يدل على فساد المنهى عنه، فإنه يقول: إن هذا النهي لا يدلّ على الفساد. فإن قيل: قد قال القزويني من أصحاب مالك، وابن الجهم في بيع النجش: إنه يفسخ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه. والنهي عن النجش لحق المخلوقين. قيل: إن هذا إنما يقال على مقتضي ما يوجبه الدليل على الجملة، عند من ذهب إلى أن النهي يدلّ على فساد المنهي عنه على الإطلاق، ما لم يقم على إمضاء البيع دليل، وها هنا قد قام على إمضائه دليل، وهو ما قارن النهي عنه من إمضائه إذا اختار المشتري التمسك بالمصراة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - "فإن رضيها أمسكها". والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا تقرر النهي عن التصرية فإن ذلك إذا وقع وبيعت المصراة، فقد اختلف الناس في ذلك. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: مما.

فأكثر العلماء على أنه عيب وتدليس، يوجب لِلمشتري مقالًا وبه قال مالك والشافعي والليث وأحمد وإسحاق. وذهب أبو حنيفة إلى أن التصرية ليست بعيب ولا تدليس، ولا مقال لِلمشتري فيها. وذكر ابن القصار، من أصحابنا، هذا المذهب عن أبي حنيفة. قال: إن أصحابنا والشافعية يحكون عن أصحابه أنهم ينكرون هذا. وهكذا ذكر أبو حامد أن أصحابه ينكرونه. والذي حكيناه عنه هو الذي وقفت عليه في نقل المتأخرين من حذاق أصحابه. ويذكرون أن أبا يوسف خالفه، وذهب إلى أن للمشتري في ذلك مقالًا. وأن محمدًا بن الحسن أحد أصحابه موافقُه على هذا المذهب الذي حكيناه عنه. فمن ذهب إلى أن ذلك عيب يوجب للمشتري مقالًا، فإن الأكثر منهم على أن لِلْمشتري أن يقبل المصراة بهذا العيب ولا شيء له. أو يردها ويأخذ الثمن. وبذلك قال مالك والشافعي. وذكر الطحاوي عن عيسى بن أبان أنه قال: كان الحكم في من دلس بعيب ألاّ يعطى الثمن، لما كانت العقوبة في الأموال، فعوقب هذا بحرمان الثمن. ثم نسخ هذا برد المبيع ويرجع بالثمن. لكن هذا لما كان اللبن الذي كان بالضرع لم يقدر على ردّه لاختلاطه بما يحدث من اللبن عند المشتري، وجب أن يعدل عن الرد للبيع لما تعذر ردّ المبيع بعينه لأجل ما ذكرناه، إلى أن يأخذ قيمة العيب. وهكذا مذهب أحمد بن حنبل أن المقال في هذا العيب، الذي هو التصرية، في طلب المشتري للبائع بقيمة العيب ألا يرد المصراة. والمذهب، الذي أشرنا إلى أن أصحاب أبي حنيفة ينكرون ما حكيناه، ينسبون إليه أن ذلك عيب، ولكنه لا يوجب الرد لتصرف المشتري في المبيع وانتقاصه. وقد كنا قدمنا، في كتاب الرد بالعيب، أن من مذهبه أن النقص

الحادث عند المشتري يمنع من الردّ (¬1) يوجب قيمة العيب. فأما ذهاب أبي حنيفة إلى أن ذلك ليس بعيب ولا تدليس، فإنه يعتمد فيه على ثلاثة طرق: أحدها: أن مجرّد العقد على المبيع المعيب يوجب للمشتري الرد، والحديث الوارد في المصراة ذكر فيه أن للمشتري الردّ بعد أن يحلبها. فاقتضى هذا أنه لا يجب الرد بنفس العقد، بل بأمر حدث بعد العقد. وهو خلاف الأصول. والوجه الثاني أن اللبن لا قسط له من الثمن. ولو كان له قسط لم يجز بيع الشاة التي في ضرعها لبن، لأنه عليه السلام نهى عن بيع اللبن في الضروع (¬2). وإذا لم يكن له قسط من الثمن لم يتصوّر التدليس بأمر لا حصة له من الثمن. والوجه الثالث أن البائع للمصراة لم يشترط كونها تحلب كل يوم مقدارًا كثيرًا فظهر أن الأمر بخلافه، وقصارى ما فيه أنه سكت عن بيان بعض أوصاف المبيع، ومجرد هذا لا يوجب للمشتري مقالًا، والدرك ها هنا على المشتري في اعتقاد الغلط، فلا يوجب له ذلك دركًا على البائع، كما لو باع جارية وهي ثيّب، فقال المتشري: ظننتها بكرًا؛ فإن ظنه لا يوجب له ردها، كما تقدم بيانه في كتاب الرد بالعيب. وكذلك لو سمّن رجل شاته أو بعيرهُ فظن المشتري أنها حامل، فإنه لا يردّها لظنه ذلك. وكذلك لو كان الضرع كثير اللحم، وظنه المشترى كثير اللبن. فإذا كانت هذه الظنون لا توجب للمشتري مقالًا على البائع فكذلك التصرية، يظن المشتري أن المصراة كثيرة اللبن. وكذلك لو باع غلامًا في ثوبه أثر المداد، وبيده الدواة والقلم، فإذا به أمّيّ. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: ويوجب. (¬2) ابن ماجة: السنن: كتاب الجارات: باب 24، حد: 2196. ج 2/ 740.

فأما الوجه الأول فغير مسلَّم؛ لأن عيب التصرية إنما أوجبه العقد، ولكن هذا عيب لم يطلع عليه المشتري إلا بعد العقد والحلاب، فلهذا تأخر الردّ به. ولو ثبت أنها مصراة قبل الحلاب، وأن لينها ينقص عن مقدار ما صُرّيت به لكان للمشتري ردّها وإن لم يحلبها. وأما الوجه الثاني، وهو كون اللبن لا حصة له من الثمن، فإن من اشترى شاة لبونًا، يعلم بمقتضى العادة أن ثمنها إذا كانت تحلب كل يوم قسطًا أقلُّ من ثمنها إذا كانت تحلب كل يوم أضعاف ذلك. فإذا علم أن المشتري يزيد في ثمنها بزيادة لبنها، كان له مقال في الردّ بعيب ينقص من الثمن. ونهيه عليه السلام عن بيع اللبن في الضرع محمول على أنه باعه مفردًا، وهو لا يعلم مبلغه، فيكون المبيع مجهولًا. وأما إذا باعه وباع الشاهّ، ولبنُها الذي في ضرعها تبع لها، فإن ذلك ليس بغرر، لكونه تبعًا لمبيع معلوم كبعض أجزائه. ألا ترى أن بيع الثمرة قبل الزهو بشرط التبقية لا يجوز، لما فيه من الغرر. فلو بيعت النخل وفيها تمر لم يَزْهُ، لجاز ذلك لكون الثمرة ها هنا تبعًا للنخل. ولو باع الجنين منفردًا في بطْن أمه، لم يجز ذلك. ولو باع أمه حاملًا لجاز ذلك. فلا تقاس أحكام التوابع على أحكام المتبوعات. وأما الوجه الثالث الموجب لتخيير المشتري في المصراة كون البائع غش ودلّس، وفعل ما لا يحلّ، وغرر بالمشتري تغريرًا أتلف عليه به بعض ماله. والذي سمّن شاته فعل ما هو مباح له، ولم يقصد التغرير بالمشتري، فيعاقب بالردّ عليه، كما عوقب من ظلم وغرّ. وأما من باع غلامًا في ثوبه أثر المداد، وبيده القلم والدواة، فإن أبا حامد الإسفرائيني تردد في هذا، هل يقال: للمشتري مقال في ردّهِ إذا كان أمّيّا، أو يقال: لا مقال له، لكون المشتري عوّل على أمر محتمل يمكن عنده أن يكون غلامًا لكاتب يحمل دواته وقلمه. فعلى المشتري الدرك إذا عوّل على أمر

محتمل وبالجملة فإنه إذا لم يفعل البائع فعلًا محرمًا عليه، ولا غرر بالمشتري، ولا قصد التدليس عليه، وعوّل المشتري على أمر محتمل حتى يكون مدعيًا في ماظن، فإنه لا مقال له. ولو ثبت أنه عوّل على أمر تقتضيه العوائد، وهو الذي يعتقد فيه هو وغيره من الناس، فكشف الغيب أن الأمر خلاف ما عقد عليه، وتحقق أنه لو كُشِف الباطن ما دخل عليه هو ولا غيره من الناس، فإنه إنّما عقد على المعتاد، فإن هذا مما يوجب له مقالًا، على تفاصيل تعلم مما تقدم في غير هذا الكتاب من أحكام البيوع والعيوب وغير ذلك. هذا عمدة أبي حنيفة والانفصال عنها .. وأما دليلنا عليه، وهو الحديث الصحيح الذي قدمناه، فإنهم يجيبون عنه بطريقين، أحدهما الطعن في النقل. والثاني مخالفة الأصول. فأما الطعن في النقل، فإن بعضهم تجاسر، وقال بالتوقيف (¬1) في حديث أبي هريرة. ونسب ذلك إلى إبراهيم النخعي. وهذا تجاسر عظيم على صاحب مشهور من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، روى عنه خلق من أبناء المهاجرين والأنصار، وروى عنه الأئمة من الفقهاء والمحدثين. وقد قال أبو العباس بن سريج مستعظمًا لهذا الطعن: مثل من قال هذا كمن رأى في ثوبه نجاسة فغسلها بالبول. لأن الطاعن بهذا لما عدل (¬2) على ردّ حديث وحكم نص النبي - صلى الله عليه وسلم - طعن في راوي الحديث من الصحابة رضي الله عنهم. وقد رأيت أبا زيد الدبوسي، وهو من حذاق أصحاب أبي حنيفة، تلطف في هذا الطعن، وقال: أحاديث أبي هريرة تردّ بالقياس الصحيح. وهذا الذي أشار إليه من تقدمة القياس على خبر الواحد مسألة مشهورة في أصول الفقه، ذكرنا حكمها في كتابنا المترجم بـ"كشف المحصول من برهان ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: بالتوقف. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: عوّل.

الأصول". ولكنها إنما ذكرها العلماء في أصول الفقه ذكرًا مطلقًا غير مختص بخبر صاحب بعينه مُسمَّى. ولكن ما ذكرهُ أبو زيد قد يَفهم بعضُ من يقف عليه التعريض بطريقة القادحين الذين ذكرناهم، والله أعلم بما أراد. وأيضًا فإن ابن عمر روى الحديث، وإن كان بلفظ مخالف لِلفظ الذي ذكرناه من رواية أبي هريرة فتأكد (¬1) صحة النقل. وطعنوا أيضًا في الحديث باختلاف الرواة في متنه. ففي بعضها أنه "يردّ صاعًا من تمر". وفي بعضها أنّه "يرد صاعًا من ثمر لا سمراء". وفي رواية ابن عمر في من اشترى مُحَفّلة، فذكر الحديث، وقال: "يردّ مثل أو مثلي لبنها قمحًا". وهذا الاضطراب يوجب ضعف الحديث. وهذا الطعن، أيضًا، غير مسلَّم، لأن جميع الرواة اتفقوا على أن في الحديث إثبات الردّ للشاة إذا شاء. واختلافهم في ما يرد مع الشاة عوضًا عن اللبن مسألة أخرى، وحكم آخر لا يتعدى إلى الحكم الذي اتفقوا عليه، وهو وجوب الرد. وطعنوا في الحديث من جهة مخالفته الأصول؛ فإنه يتضمن رد عوض اللبن صاعًا من تمرة واللبن يختلف بالقلة والكثرة، والأصول تقتضي بأن من أتلف قليلًا يغرم مقداره، ومن أتلف كثيرًا يغرم مقداره، وهذا الحديث قد سَوَّى بين القليل والكثير في الغرامة. والانفصال عنه أن الموضحة ديتها خمسون دينارًا على أهل الذهب، كانت الموضحة كبيرة أو صغيرة، ولم يُستنكر في الشرع هذا، فكذلك تقدير عوض الببن بصاع تمر. ومذهبه أيضًا في العبد إذا قتل، فإنه يغرم ديته وهي عشرة آلاف درهم إلا عشرة دراهم. فسوّى إذ أبي ن العبد العظيم القيمة والعبد الخسيس القيمة في هذا ¬

_ (¬1) في (م): فنأكد.

التقدير لما اقتضاه الشرع والدليل. وقد قال جماعة ممن تقدم وتأخر من العلماء، من أصحابنا وأصحاب الشافعي وغيرهم: إن اللبن الذي كان في الضرع عند العقد يجب ردّه مع الشاة ولكنه يختلط به ما حدث في الضرع في ملك المشترى، وهو غلة، والغلات لا ترد إذا ردَّ المبيع بالعيب، والذي كان في الضرع ليس بغلة، بل هو كالمبيع في حكم التبع، فيجب ردّه. فلما لم يتميز من اللبن ما يجب رده مما لا يجب ردّه، رفع عليه السلام الخلاف والتشاجر والخضام والتداعي بأن جعل عوض اللبن الذي كان بالضرع حين العقد أمرا محدودًا كالقيمة له، وقدره بجنس غير جنسه ليسلم من التفاضل بين لبن ولبن صار عوضًا عن اللبن الأول. وهكذا (¬1) كما قضى - صلى الله عليه وسلم - في غرة الجنين بعبد أو وليدة (¬2)، ولم يفرق بين كون الجنين ذكرًا أو أنثى، مع اختلاف دية الذكر والأنثى. وكذلك - صلى الله عليه وسلم - قصد بهذا التحديد والتعويض رفع التشاجر والخصام في الأجنة، هل هم ذكران أو إناث. وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: تأويل الحديث أن البائع اشترط كون هذه الناقة تحلب أقساطًا معلومة، فظهر أنه لم يصدق، وأنها تحلب أقل مما شرط، فلهذا كان له الرد لأجل فساد البيع؛ لأن البيع والشرط إذا اقترنا في العقد أفسد الشرط العقد إذا كان في معنى هذا الشرط. وهذا الذي قاله تعسف عظيم، وإبطال للأحاديث والظواهر، لأن النبي عليه السلام لم يذكر، لما ذكر حكم المصراة، أن المشتري اشترط مقدارًا من اللبن معلومًا. ولو ساغ أن يضاف إلى لفظ. النبي عليه السلام ما لم يقله، ولم يذكره السائل ولا هو من المشكلات الظاهرة والمحتملات القريبة، لأمكن أن يدعى في كل حديث زيادة فيه بما قد يمكن. وأيضًا فإن البيع الفاسد يجب فسخه، وإن لم يرض المشتري، ولا يسوغ ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: وهذا. (¬2) الموطأ: كتاب العقول: عقل الجنين.

له التمسك به. وها هنا قد قال - صلى الله عليه وسلم - في المشتري: "إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها". والبيع الفاسد لا يقال فيه: إن شاء المشتري أمسكه؛ بل للقاضي ردّه وفسخ عقده. وأيضًا فقد قال في بعض طرق الحديث: "إنه بالخيار بعد ثلاث" والبيع الفاسد يفسخ في الحال ولا يؤخر إلى يوم ولا ثلاث. وأشار أبو حنيفة إلى رده من ناحية مخالفة الأصول؛ فإن الأصل في المبيع المعيب إذا حدث به نقص يمنع من الرد بالعيب لأجل ما حدث عند المشتري من النقص. وها هنا قد أوجب ردّ الشاة المصراة مع نقصها بالحلاب. والانفصال عن هذا بأن هذا النقص لا يعرف العيب إلا به. كما لو اشترى ثوبًا مطويًّا فنشره فانتقص بالنشر كَمَادُه؛ فإن هذا لا يمنع من الردّ لكون المشتري لا يعلم العيب إلا باختبار المبيع، واختباره ها هن ابن شر الثوب المطوي. وكمن اشترى قثاء فكسره فوجده مُرًّا. على ما تقدم ذكره في كتاب العيوب، لما تكلمنا على العيوب الباطنة التي لا تعلم إلا بعد البيع. وذكر أصحاب أبي حنيفة أيضًا أن الأصل في المتلفات المكيلة القضاء بأمثالها؛ وها هنا لم يردّ اللبن ولا مثلة بلْ ردّ عوضه تَمرًا، وهذا خلاف الأصول. والانفصال عن هذا ما تقدم من كون هذا شُرع لِرفع النزاع؛ واللبن إذا حلب غُيّر عن الحال الذي كان عليه في الضرع، ونقله إلى حالة أخرى؛ فلهذا لم يُردّ بعينه، ولا ردّ مثله، لكون ما في الضرع مجهولًا، والمجهول إنما تغرم قيمته. وأشار الطحاوي إلى ثبوت حديث المصراة. ورواه منسوخًا بنهيه عن الدين بالدين. وهذا تعسف في التأويل، في دعوى النسخ بهذا. وإذا كان قد ساهمه في هذه الطريقة أشهب من أصحاب مالك، وأشار إلى كونه منسوخًا بقوله عليه السلام: "الخراج بالضمان". وهو الذي أشار إليه أشهب في المدونة وغيرها، وضعّف حديث المصراة من أجله، وذكر أن مالكًا ضعفه، وهكذا قال ابن شعبان في مختصره: إن حديث المصراة ليس في الموطأ، ولا بالثابت.

يشير إلى أنه لم يتوطّأ على العمل (¬1)، ولا يثبت الأخذ به. لا يستقل (¬2) حجة في رد حديث المصراة، ومالك الذي أشار إلى ضعفه هو الذي رواه. ورواه غيره من أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم وغيرهما. وقوله: الخراج بالضمان؛ عام في المصراة وغيرها، فلا ينسخ العام الخاص، بل المعروف عند أهل الأصول من الفقهاء تخصيص الحديث العام بالحديث الخاص. والنسخ إنما يكون مع مناقضة حديث بحديث، مع أن المناقضة أيضًا تفتقر إلى علم التاريخ حتى يكون الأخير منهما ناسخًا للأوّل، وهذا كله يعسر وجوده في حديث المصراة وحديث: الخراج بالضمان. وإذا ثبت النهي عن تصرية الإبل والغنم بالنص عليها، فالبقر كذلك لأن لبنها فوق لبن الغنم ودون لبن الإبل، فهما كالمنبهان على الوسط الذي بينهما. وقد وقع في رواية ابن عمر العبارة عن هذا بقوله: "من اشترى محفلة" والمراد ما حُفِّل اللبن في ضرعها تسمى محفلة. ومنه قوله: مَحْفَل من الناس، أي جمع كبير. والبقرة التي يجمع لبنها في ضرعها تسمى محفلة. وأما لو كانت التصرية في غير الأنعام، كالحمير، فإنه ينهى عنه. وللمشتري مقال إذا اطلع عليه، لكون زيادة لبنها يزيد في ثمنها لأجل تغذية ولدها. وهكذا لو حُفّلت جارية بأن حبس لبنها، فإن ذلك أيضًا من التصرية المنهي عنها. كذا ذكر أصحاب الشافعي في هذين السؤالين. والذي قالوه يجب أن يُسلَم إذا علم أن اللبن في الجواري وفي الأتانة مما يزاد في الثمن لأجله. وإن ¬

_ (¬1) في (م): لم يتواطأ إلى العمل به. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: وهذا لا يستقل ...

كان هذا مما لا يلتفت الناس إليه، ولا يعرجون عليه على حال، فإنه لا يسلم ما قالوه، ولكن إذا كان الأمر على هذا فلا يقع أحد في التصرية والاشتغال بها، لكونه لا يفيد في غالب الأمر. "والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا تقرر تحريم بيع المصراة، فإنه إذا وقع لم يفسخ العقد، وإن كان منهيًا عنه؛ لأنه عليه السلام قال: إنه إذا رضيها أمسكها؛ والعقد الفاسد ليس للمشتري التمسك به. فإن قيل: فإنه بيع منهى عنه، والنهي يدل (¬1) على فساد المنهي عنه قولًا مطلقًا، فلا يلزم أن يفسد بيعْ التصرية. ومن قال: إنه يدل على فساد المنهي عنه؛ فإنه يقول: إن هذا النهي راجع لحق المخلوقين في أَلَّا يُدلَّس عليهم، ومثل هذا النهي لا يدل على الفساد. فإن قيل: قد قال القزويني، من أصحاب مالك، وابن الجهم، في بيع النجش: إنه يفسخ، لنهيه عليه السلام عنه؛ والنهي عن بيع النجش لحق المخلوقين. قيل: هذا إنما يقال على مقتضى ما يوجبه الدليل على الجملة عند من ذهب إلى أن النهي يدل على فساد المنهي عنه على الإطلاق، ما لم يقم على إمضاء البيع دليل، وهو ما قارن النهي عنه من إمضائه إذا اختار المشتري التمسك بالمصرّاة، وهو قوله عليه السلام: "فإن رضيها أمسكها"، (¬2). والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا اختلف الناس في حكمها إذا حلب لبنها. فكنا ذكرنا عن أبي حنيفة أنه ذكر عنه أنه كان يرى التصرية ليست بعيب يوجب للمشتري مقالًا، فهذا لا يوجب على المشتري في اللبن شيئًا. وجُلّ العلماء على أن لبن المصراة للبائع، لكونه قد جمع في ضروعها حين العقد، وهو مبيع معها، فوجب أن يكون للبائع. وإنما يكون، للمشتري ما حدث من اللبن في ضروعها بعد عقد الشراء وبعد أن صارت إليه، لأنه خراج، والخراج بالضمان. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: لا يدلّ ... (¬2) ما بين القوسين مكرر مع ما جاء في ص 990.

ولكن إذا كان اللبن الذي صُرّيتْ به للبائع، فهل يجب رده بعينه أم لا، إذا قام المشتري بعيب التصرية بفور حلاب أم لا؟ ذهب بعض أشياخي إلى أنه يرد بعينه، ولا يلزم المشتري عوضه، تمرًا ولا غيره، لارتفاع العلة ها هنا، التي من. أجلها ورد الحديث برد عوضه صاع تمر، وهو اختلاطه بملك المشتري اختلاطًا لا يتميز معه ما لبائعها من اللبن وما لمشتريها منه فقضى بردّ الصالح عوضًا عمّا لا يتميّز. وإذا ردّت بعيب التصرية لما حلبت بفور العقد، ارتفعت هذه العلة التي هي الاختلاط فوجب رد اللبن بعينه. وظاهر كلام من تقدم من العلماء خلاف هذا، لكون اللبن إذا حلب غيّره الهواء، فكأنه ليس هو اللبن بعينه الذي كان في الضرع، فلهذا لم يردّ. وهكذا ظاهر المدونة، لأنه ذكر فيها أنهما لو تراضيا برد اللبن بعينه، ما جاز ذلك لأن التمر وجب في ذمة المشتري. فإذا تراضيا برد اللبن وقعا في بيع صاع التمر قبل قبضه (¬1). ولو كان الأمر كما أشار إليه بعض أشياخي لم يحرم ذلك عليهما، لكون المشتري أسقط حقه في ما اختلط، وإذا أسقط حقه وقبله الآخر منه فلا وجه للمنع. إلا أن يقال: إن الواجب في الشرع رد صاع من التمر لا عين اللبن؛ فيتصور حينئذ فيه المنع من بيع الطعام قبل. قبضه. وقد أشار شيخنا إلى حمل ما في المدونة على أنه لم يرُدّ المصراة بفور العقد. والذي ذكرناه يبعد تأويله هذا. وهكذا أشار إلى حمل ما وقع لمالك في مختصر ابن شعبان، لما أشار إلى ضعف العمل بحديث المصراة بأن قال: له اللبن بما علف؛ إلى حمل هذا على أراد (¬2) ما حدث من اللبن في ملك المشتري الذي كان عن علفه، والذي نبهنا عليه من كون تغير اللبن إذا حلب يقتضي إبقاء الروايات على ظاهرها. ¬

_ (¬1) المدونة: 4: 287. (¬2) كذا, ولعل الصواب: على أنه أراد أن ما حدث ...

فلو ردت الشاة بعيب آخر، غير عيب التصرية، فإن ابن المواز ذكر أنه لا يرد عوض ما حلب. وأشار إلى قصر الحديث في وجوب ردّ الصاع على ما ذكر فيه خاصة، وأبقى ما سواه على أحكام العيوب؛ فإن من رد شاة بعيب لا يردّ لبنها، إذا كان غير مقصود في الشراء، ولا حصة له من الثمن فجرى مجرى ما يغتله المشتري. فإذا لم يقم المشتري بعيب التصرية ورضيها، فقد أسقط حقه في ما زاده من الثمن لأجلها لما عظم ضرعها، فصار كالمقر على نفسه أنّ اللبن لا حصة له من الثمن. وذكر بعض الأندلسيين عن ابن مزين أنه ذكر عن أشهب أنه إذا ردها بعيب، وقد رضي بتصريتها، فإنه يرد الصاع. وإلى هذا مال بعض أشياخي. وقال المروزي: إنه يرد الصاع من التمر ولو ردها بغير عيب التصرية. وقال أشهب، في من أكل لبن الشاة وردها بعيب، فإنه لا يردّ عوض اللبن شيئًا. وأشار إلى كونه غلة. وذهب ابن حنبل إلى أن هذا اللبن لما تعذّر ردّه صار ذلك كفوت المبيع، وفوته يوجب قيمة العيب. فمنع من ردّ المصراة لما حدث من النقص في الشاة. وقد كنا حكينا في كتاب الردّ بالعيب طريقة من ذهب إلى أن نقص المبيع عند المشتري يمنع من رده بالعيب، ويوجب قيمة العيب، فكذلك المصراة. وقال عيسى بن أبان: كانت العقوبة في الأموال بأن يحرم من دلس بعيب الثمنَ عقوبة له، ثم نسخ ذلك بأنه لا يحرم الثمن. فلما كان لبن المصراة لا يعرف ما كان منه للبائع ولا ما كان منه للمشتري عدل فيه إلى أخذ قيمة عيب التصرية. وذهب أبو يوسف وابن أبي ليلى إلى أن الواجب قيمة اللبن الذي كان في الضرع حين عقد البيع. وإنما حكم - صلى الله عليه وسلم - بصاع من تمر لأنه في زمنه كان قيمةَ اللبن. وذكر أبو حامد اختلاف أصحاب الشافعي في الصاع من التمر إذا كان يزيد

على قيمة الشاة أو يساويها. فقال بعضهم: يجب أن يرد قيمة الصاع من التمر. ويعتبر فيه قيمته حينئذ بمدينة النبي عليه السلام لما وجب أن يعدل عنه لكونه يقتضي خلاف الأصول من كون البائع يحصل على رد الثمن والمثمون، وهو الشاة وقيمتها، وقال بعضهم: بل يرد صاعًا من التمر، لأن الصاع عوض اللبن لا عوض الشاة. فلا يتصور فيه أن يحصل فيه للبائع الثمن والمثمون. وقال بعض المتأخرين: ظاهر مذهبنا رده الصاع، ولا يلتفت إلى غلائه ولا إلى رخصه. وكذلك اختلف الناس في التصرية إذا كانت في شاة (¬1) كثيرة فحلبت، هل يرد مع كل شاة صاع تمر، أو يرد على لبن الجميع صاعًا واحدًا؟ فذهب أحمد بن خالد الأندلسي، في ما ذكر عنه، إلى أنه يرد صاعًا واحدًا عن الجميع، اتباعًا لظاهر الحديث. وذهب أبو القاسم بن الكاتب إلى أنه يرد عن كل شاة صاعًا. فأما ابن خالد فإنه يحتج بأن النبي عليه السلام أوجب صاع تمر في حلاب الناقة، وهو اضعاف حلاب الشاة، وأوجست في الشاة الواحدة صاعًا من تمر، ولم يلتفت إلى الكثرة والقلة في اللبن؛ فكذلك لا يلتفت إلى زيادة العدد. وأما ابن الكاتب فإنه يقول: إنما قضى بصاع تمر رفعًا للخصام، كما قضى في الجنين بغرة، عبد أو وليدة، مع اختلاف دية الذكر والأنثى، قطعًا للخصام. ثم لو طرحت المرأة أجنّة لقضى في كل جنين بغرة، عبد أو وليدة. فكذلك في الشاة إذا تعددت. وينفصل عما قاله ابن خالد بأن لبن الناقة وإن كان أكثر فإنه أدنى لأنه لا يستخرج منه زبد ولا جبن، فكأنه وإن كثر يساوي لبن الشاة وإن قل. وإذا علم المشتري بالتصرية وعقد الشراء عليها، فإنه لا يكون له مقال في الردّ بها؛ لأنه عيبٌ رضي به. إلا أن يظهر إذا استدام حلابها، أنها تقصر عن عادة أمثالها، فيكون له مقال بذلك على ما سننته عليه بعد هذا. ¬

_ (¬1) هكذا، والصواب: شِيَاه.

وذكر أبو حامد أن هذا عندهم على وجهين، أحدهما أنه عيب رضي به، فلا مقال له فيه. والثاني أن له مقالًا، لكونه يرجو أن يستديم هذا القدر من الحلاب. وكذلك ذكر في المصراة أنه إذا لم يعلم بها حتى حلبها، ثم استدام حلابها، فانتقلت عادتها إلى أن صارت يحبب منها مثل ما صرّاها به، فذكر أن هذا يجري على القولين في من اطلع على عيب فلم يقم به حتى زال العيب، كأمة أعتقت تحت العبد فلم تختر حتى أعتق العبد، ففي ثبوت خيارها بعد عتق زوجها قولان. وقد كنا نحن تكلمنا على أحكام العيب إذا ذهب قبل القيام به في الرد بالعيب. وذكر أيضًا في الجارية إذا صرّيت، فردها بعيب التصرية، أن المسألة عندهم على وجهين، أحدهما: أنه لا يردّ عوض اللبن، إذ لا قيمة له. والآخر: أنه يأخذ قيمة العيب لما لم يُمْكِن ردُّ اللبن، وهو مما لا يقوّم، فاقتضى هذا أخذ قيمة العيب. وأشار بعضهم إلى أنه يمكن أيضًا أن يقال: يرد بدل لبنها صاعًا. ولو كانت أتانة (¬1) صرّيت، فإنه ذكر أن بعضهم ذهب إلى طهارة لبنها. فيقضي هذا أن يرد عوضه صاعًا. وذهب الشافعي إلى نجاسة لبنها، فلا يجب، على مقتضى هذا، أن يردّ عوضه صاعًا. وإذا حلب المشتري الشاة المصراة حلبة ثانية، فلا يعدّ ذلك منه رضي بعيب التصرية؛ لأنه، وإن انكشف له العيب، فإنه قد يجوز أن يكون لفساد مرعى. فإذا حلبها حلبة ثالثة، ففيه قولان: هل يكون ذلك رضي، كما ذكر في الموازية؛ أو لا يكون رضي، كما حكي عن مالك؟ وقال بعض أصحابه: بعد ¬

_ (¬1) تاج العروس: 34/ 154.

أن يحلف المشتري على كونه غير راضٍ. وفي المدونة أحال على قرينة الحال، وهو اعتبار ما يفهم عنه، فقال: إن جاء من ذلك ما يعلم أنه اختبرها عُدَّ ما بعْدَه رضي (¬1). وفي الحديث الذي خرجه البخاري ومسلم في المصراة، أنه عليه السلام (جعل له الخيار ثلاثة أيام). وبعض أصحاب الشافعي يحمل هذا الحديث على أن المشتري اشترط الخيار ثلاثة أيام، لأن الخيار من ناحية العيب يكون قبل الثلاث وبعدها. وبعضهم ذهب إلى أنه لم يشترط، وإنما ذكر في الحديث لأن الثلاث حلبات بها يتحقق أمرها. وإذا لم تكن الشاة مصراة واشتراها المشتري في إبان الحلاب، فإن البائع إذا كان يعلم قدر حلابها فإن عليه أن يبيّنه. للمشتري، كصبرة يعلم البائع كيلها، فإنه إن لم يُعلم به المشتري، وإلا (¬2) كان للمشتري رد ما اشتراه لأجل كتمانه العلم له. ولو كان ذلك في غير إبان الحلاب، فإن ابن القاسم يرى أن المشتري لا يكون له مقال إذا لم يذكر له البائع قدر حلابها. وأشهب يوجب له في ذلك مقالًا. وابن المواز يستدل بثمنها، من كثرته وقلته، على أنه زاد في الثمن لأجل حلابها, ولم يزدْ فيه (¬3). وإذا كان له الردّ، وردّها بعيب آخر، فإنه لا يرد. عوض اللبن الذي كان في ضرعها، لأنه غير مقصود حين العقد، فأضيف إلى ما بعده من الحلاب، وكان الجميع غلّة. وقد قال الشافعي عن محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: إنه قال له: ما تقوليان في الشاة إذا لم تصرّ وردّها بعيب، هل يرد عوض لبنها صاعًا من تمر؟ فقلت له: لا يرد. والفرق بينها وبين التصرية أن المصراة إذا دلس البائع ¬

_ (¬1) المدونة: 4: 286. (¬2) هكذا، والصواب حذف (وإلا) ليستقيم المعنى. (¬3) هكذا، وهي غير واضحة.

بالتصرية ليزاد في الثمن لأجل اللبن، صار اللبن فيها ها هنا مقصودًا، والتي لم تصرّ هو فيها غير مقصود فلا يردّ عوضه. ولو شرط المشتري في شاة أنها تحلب أقساطًا معلومة كل يوم، فحلبت دونها، فإنه يردها بهذا العيب؛ وذلك آكد من ردها بالتصرية. وإن اشتراها على تصديق البائع في ذلك، كان ضمانها منه ولبنها له. وإن اشتراها على الخيار، (فإن صح ما قال البائع، والتزمها لم يكن له من اللبن إلا ما حدث بعد التزامها) (¬1). قال القاضي أبو محمَّد، رضي الله عنه: والحُكرة ممنوعة إذا أشرف بأهل البلد، في كل ما بِهِمْ حاجة إليه، من طعام وغيره. ولا تمنع إذا لم تعد بالضيق والضرر. ومن جلب طعامًا خلّي بينه وبينه، ولم يُجبر على بيعه. قال الشيخ الإِمام، رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما حكم ادخار الجالب؟ 2 - وما حكم ادخار المشتري؟ 3 - وما حكم الطعام في الشدة إذا عرضت؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: ذكر في المدونة وغيرها حكم الاحتكار. والمراد بهذه اللفظة الخزن والادخار. وذلك ينقسم فيه المالكون على قسمين، والمملوكات على قسمين، وحالة الادخار على قسمين. فأما المالكون، فإن منهم من يخزن ما جلبه من مدينة أُخرى ويدخره. ومنهم من يشتريه بمدينته فيدخره. ¬

_ (¬1) في هذا الحكم نظر.

فأما من يدخره وقد جلبه إلى مدينته، فإنه لا يمنع من خزنه وادخاره رجاء غلائه. وقد روى مالك في الموطأ: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا حكرة في سوقنا، لا يعمد رجال إلى فضول أذهاب عندهم فيشترون بها من رزق الله الذي نزل بساحتنا. لكن من جلب على كبده في الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر، يبيع إذا شاء، ويمسك إذا شاء (¬1). فأخبر أن الجالب المسافر إلى مدينة بالطعام بخلاف الساكِنِ بها المشتري للطعام منها. فأباح ذلك للجالب. قال مالك: وكذلك الزارع. ونَهَى عنه المقيمَ بقوله: لا حكرة في سوقنا. ووجه هذه التفرقة أن الجالب للطعام لم يزاحم أهل البلد على شرائه، فيكون ذلك سببًا في غلائه، بل ربما كان الجالب سببًا في رخصه لتكثير ما يقدم به هو وغيره من المسافرين بالطعام. وكثرة الشيء تقتضي رخصه. وقاس مالك على هذا الزارعَ، لكونه مشاركًا للجالب في هذا المعنى، لأنه أيضًا لم يزاحم الناس في شراء الطعام؟ بل زراعته وزراعة غيره تكون سببًا في رخصه بإذن الله تعالى. وأما المملوكات فإنها تكون أقواتًا كالحبوب والقطاني وما في معنى ذلك، وتكون غير أقوات كالعروض وما في معناها. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما حالة الادخار، فإن الادخار لغير الجالب والزارع، إذا أضر بأهل البلد شراء أحدهم لطعام يختزنه ويدخره رجاء غلائه، فإنه يمنع من ذلك. وهذا لا يختلف فيه. وكذلك غير الطعام من سائر المتملكات التي تكون المسامحة بشرائها والتَّجر بها سببًا لإضرار الناس بغلاء أسعارهم ولحوق الضرر بهم، فإنه ممنوع من ادخارها وشرائها للربح. لأن التمكين من هذا لرجاء المنفعة لا يقايل ما ¬

_ (¬1) الموطأ: حديث 1898 باب الحكرة والتربص.

يتضمنه من لحوق الضرر العام للجمهور. ومن الأمثال المستعملة: صيانة رأس المال أولى من طلب الربح. لأن رأس المال إذا عدم عدم الربح. وكذلك. إذا كان طلب هذه المنفعة من الربح الذي يرجوه، يقابله ضرر الجماهير، فإن إزاحة الضرر عنهم مقدم على طلب هذا فائدةً منهم. ومقتضى هذا التعليل ألاّ يمنع من ادخاره للقوت، لما في ذلك من حفظه حياته وحياة عياله، والتحزز من لحوق الضرر به بفقد القوت. وقد وردت الآثار بادخار الأقوات. وقد قيل لبعض المتصوفة: إن من حقيقة التوكل على الله، ألاّ يدخر الإنسان شيئًا يعول عياله، بل إنما يجرد عزمه بالتعويل على الله. والشعبي عليه السلام رأس المتوكلين، فما باله ادخر القوت لأهله؟ فقال: باطنه - صلى الله عليه وسلم - التوكل، وظاهرهُ الاذخار ليسنّ لأمته جواز الادخار للأقوات. وأما الادخار طلبًا للربح، ولكنه قد يتضمن مرفقًا للناس من جهة، وضررًا من جهة أخرى، مثل من يشتري الطعام من السوق الأعظم حيث يجتمع فيه طعام الجلابين، ثم يبيعه على يديه في أطراف المدينة؛ فإن ظاهر المذهب في هذا الجواز، وهو المنصوص في هذا. ولكن سئل مالك عن من يشتري الطعام للطحن؟ فقال: أرى أن يمنعوا من ذلك. وهذا كأنه يشير إلى خلاف ما نص عليه؛ لأن مزاحمة من يبيعه على يديه بأطراف المدينة فيه مرتفق لمن لا يقدر على الشراء من السوق الأعظم لعجزه عن ذلك، أو لكونه يُعرض عن البيع منه إذا طلب القليل، فكان من المصلحة إباحة هذا لتضمنه مصلحة ورفقًا بأهل الحاجة، وإن تضمن غلاء في الأسعار. وكذلك من يشتريه ليطحنه ويبيعه دقيقًا، فيه أيضًا مرتفق بمن لا يتمكن له الطحن لعجزه عنه، أو لكونه إن اشتغل به فاته التغذي بالطعام وقت الحاجة إليه. وكذلك أيضًا من يشتريه ليبيعه خبزًا. هذا كله مسلكه واحد، وهو

الالتفات إلى الموازنة ما بين منفعة ومضرة، أيهما أولى بأن يقدم على صاحبه. فصار شراؤه للاحتكار على وجه يضرّ بالناس ولا يتضمن منفعة لهم ممنوعًا، بلا خلاف. وعلى وجه تتقابل فيه منفعة من جهة ومضرة من أخرى، فيه من الاختلاف ما ذكرناه وأسندنا الخلاف فيه إلى الموازنة ما بين الضرر والمنفعة. وأما إذا كان شراء ما يدخر لا يضر. بأحد من الناس، فإنه إذا كان مما لا تعمّ البلوى بالحاجة إليه، كالبزّ والعطر، فإنه يجوز شراؤه وادخاره بلا خلاف. وإن كان مما تمس الحاجة إليه، كالأقوات وما في معناها، ففيه قولان، المشهور من المذهب في المدونة وغيرها، جواز شرائه للادخار، واعتبار لحوق الضرر وفي الاحتكار عمومًا في كل المتملكات يمنع شراءَها للادخار. وارتفاع الضرر عن الناس إذا اشتريت، لكونها لا يغلو سعرها بشرائها، ولا يلحقهم ضرر من ذلك، إنه يجوز أيضًا في سائر المتملكات. وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون، أنهما يمنعان من احتكار الأقوات والعلوفات، كالحبوب والقطاني، وما يلحق بذلك كاللحم والسمن والزبيب (¬1) والعسل وشبه ذلك. ويذكر أن مالكًا كرهه. وهذا ليس باختلاف في فقه، وإنما هو اختلاف في شهادة بعادة. لأن ابن حبيب أشار في كتابه بهذا المذهب إلى أن إحتكار الأقوات لا يكون أبدًا إلا مضرًّا بالناس، ونحن قد حكينا أن الضرر. إذا لحق ارتفع الخلاف في المنع من إلادخار. وقد وردت آثار يقتضي عمومها ما قال مطرف وابن الماجشون. فروي أنه عليه السلام: (نهى عن احتكار الطعام). وروي عنه أنه قال: (الجالب مرزوق والمحتكر ملعون) (¬2). وإنه أيضًا قال: (من احتكر طعامًا أربعين يومًا بريء من الله، والله بريء منه) (¬3). وروي عنه أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) (¬4). ¬

_ (¬1) في (م): والزيت. (¬2) ابن ماجه: 2: حديث 2153. وضعفه في الزيادات. (¬3) أحمد: الفتح الرباني: 15/ 62، 63. (¬4) ابن ماجه: 2 حديث 2154.

وهذه العمومات ربما اقتضت خلاف التفصيل الذي فصلناه، لكنا نخصصها بما أشرنا إليه من طرق الاستدلال والاعتبار بشواهد الأصول. وقد ذكر أبو حامد الإسفرائيني في أن مالكًا ينهى عن الاحتكار فيما يضر إذا كان من الأقوات؛ ولا ينهى عنه إذا كان خارجًا عن ذلك، مثل السكّر وشبهه. ونحن قدمنا من مذهبه ومذهب أصحابه خلاف ما أشار إليه. قال: وأما صاحبنا -يريد الشافعي- فلم يذكر. هذا. وأشار إلى أنه لم يتكلم على المسألة، ولهذا أسندها لمالك. فإذا وقع الادخار على الوجه الممنوع، فقد حكى ابن مزين عن عيسى أنه قال: يتوب المحتكر، ويخرج ما اشتراه إلى السوق، ويبيعه من أهل الحاجة برأس ماله الذي اشتراه به. وذكر غيره من أصحاب مالك أنه إن لم يفعل هذا بيع عليه من أهل السوق، يشتركون فيه برأس ماله إن علم، أو بقيمته يوم اشتراه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: أما إن احتكر ذلك المحتكر على وجه يجوز، ثم حدث غلاء وشدة احتيج فيه إلى الطعام المحتكَر، فإنه سئل مالك: هل يباع عليه هذا الطعام؟ فقال: ما سمعت. وذكر عنه أيضًا أنه قال: يؤمر بإخراجه إلى السوق فيبيعه من الناس. وقيل أيضًا: إن لم يفعل، فعل الإِمام ذلك. وهذا تغليب لأحد الضررين، لأن الإضرار بهذا بإخراج ملكه عنه بغير رضاه أخف من ضرر الناس بعدم أقواتهم. وقال أبو داود: اتفق العلماء، إلا من لا يعد خلاقه خلافًا، على أن من احتكر طعامًا ثم احتاج الناس إليه، واشتدت فاقتهم إلى الاقتيات به وهو مستغن عنه، أنه إن لم يبعه بثمن مثله فهو عاص. وإذا كان لا حاجة لهم به، فإنه لا حرج عليه في إمساكه رجاء غلائه. وأما المحتكر على وجه يجوز، فهل يأثم بتمني غلاء الطعام ليعظم ربحه فيه أم لا؟ فظاهر مذهب مالك أنه لا حرج عليه في إمساكه رجاء غلائه ومحبته لارتفاع سعره. وقد قال لما سئل عن هذا: ما أحا إلا يحب غلاء سلعته.

وحكى لي أحد أشياخي عن أحد أشياخه منتصرًا لهذا الذي أشار إليه مالك، بأن قال: قد اتفق على أنه لو كانت سفينتان بجزيرة في البحر، إحداهما تتوجه إلى المشرق والأخرى إلى المغرب، أنه يسوغ لركاب كل واحدة من السفينتين أن يتمنوا الريح التي تسيرهم إلى مقصدهم، وإن كان فيه حبس الآخرين، وحبسهم يَلحقهم الضرر به. قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: والتسعير على أهل الأسواق غير جائز. ومن زاد في سعر أُخرج من سوق المسلمين، إلى أن يلحق بالناس. قال الشيخ رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: 1 - أحدهما أن يقال: ما حكم التسعير لمنفعة الجمهور؟ 2 - وما حكم التسعير لمنفعة أهل السوق؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: التسعير على وجهين: أحدهما يتضمن تحجيرًا كليًّا، مثل أن يجبر الإِمام من عنده الطعام أو غيره مما في معناه، على بيعه، كره أو رضي. فهذا لا يسوغ باتفاق. ولا يجوز جبر المسلم على إخراج ملكه بغير اختياره، من غير سبب يوجب ذلك. لكن لو حدث غلاء أو شدة ببلد عدم فيه الطعام إلا عند قوم مخصوصين، إنْ لم يخرجوا طعامهم للبيع من الناس هلك الناس. فإن هذا قد تقدم الكلام عليه، وذكرنا أن الإِمام يأمرهم بإخراجه، لوجوب المواساة عليهم، وكون حياة المسلم واجبة على أخيه المسلم. فإذا أبقى لنفسه من الطعام ما يحفظ به حياته وحياة أهله صار إمساك ما زاد على ذلك يحرم عليه، لما يتضمنه من هلاك أخيه المسلم، والشرع قد تقرر فيه تحريم هذا.

وأما التسعير بمعنى أن يحدّ الإِمام ثمنًا ينهى عن أن يُتَعدى لمن حاول البيع، ويجعل الخيرة إليه في البيع، إن شاء أمسك طعامه وغيره، وإن شاء باعه. ولكنه إذا شاء البيع فلا يتعدى الثمن الذي حَدّ له. فإن هذا أيضًا على قسمين: أحدهما أن يكون الطعام بيد رجل جلبه أو زرعه؛ أو رجل لم يجلبه ولم يزرعه ولكنه احتكره بشرائه من أسواق المسلمين على وجه يجوز له، فإن كان ما بيده من الطعام هو جلبه من مدينة أخرى أو زرعه فإنه لا يُخْتلف في أن الإِمام لم (¬1) يسعر على هذا. وإن كان الطعام بيد محتكره بشرائه من سوق المسلمين، ورأى الإِمام من المصلحة للناس أن يأمرهم ببيعه بثمن يحدّه لهم ولا يتعدوه، فهذا مما اختلف الناس فيه. وأكثر العلماء على النهي عنه. وبالنهي عنه قال ابن عمر رضي الله عنه، والقاسم بن محمَّد، وسالم بن عبد الله، وأبو حنيفة، والشافعي، وهو أحد القولين المشهورين عندنا. وذهب ابن المسيب ويحيى بن سعيد وربيعة إلى تمكين الإِمام من هذا إذا رآه من المصلحة. وهو أحد القولين عندنا. وقد سئل عن الإِمام يقول للجزارين: بيعوا لحم الضأن رطلًا بدرهم، ولحم الإبل نصف رطل بدرهم. إن هذا لا بأس به. ولكن يخاف أن يقوموا. فأشار إلى جواز التسعير في هذه الرواية من ناحية الفقه، ولكن وَقَفَ فيها إلى جواز التسعير من ناحية المصلحة، لأنه لا أحد من العلماء يبيح للإمام أن يحجر على الناس أموالهم تحجيرًا لا مصلحة فيه للجمهور. وإنما يقع الاضطراب فيما فيه مصلحة. فمن يلتفت إلى القضاء بالمصالح أباح التسعير، ومن يلتفت إلى مضرة أصحاب الأمو الذي أن يحجر عليهم في أموالهم الثمن الذي يختارونه منع من التسعير. فصار الأمر ينحصر إلى أنه متى كان التحجير لا يتضمن مصلحة فإنه يمنع منه، ومتى كانت المصلحة لا تقابلها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا.

مضرة ولا مفسدة لأحد فإنه يجوز للإمام فعله. وإنما يقع الإشك الذي ما امتزج فيه ضرر ونفع، كما مثلنا به. وقد أشار ابن حبيب إلى أن الخلاف في التسعير فيما سوى القمح والشعير وشبههما. وهذا الذي قاله لا يتضح له وجه، إلاَّ أن يحمل على أن ذلك في حق جالب الطعام من بلد إلى بلد. وإلى هذا المعنى أشار، لأنه لما ذكر هذا قال: إن القمح والشعير يبيعه الجالب، ولا يمكن من يشتريه منه للتجارة ليبيعه على يديه. بخلاف غيره من الممتلكات التي تباح للتجارة أن يشتروها من الجالبين ليبيعوها على أيديهم. وهذا حكم التسعير على المحتكر قد بيناه والمسألة تستند إلى آثار. فمما يعوِّل عليه من ذهب إلى النهي عنه ما خرجه الترمذي في كتابه عن النبي عليه السلام أنه "لما قيل له: سَعِّرْ لنا، يا رسول الله. فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق وإني لأرجو أن ألقى ربي، وليس أحد منكم يتبعني بمظلمة في دم ولا مال" (¬1) الحديث كما ذكره الترمذي، وأردفه بأن قال: هذا حديث حسن صحيح. وإطلاق هذا الحديث بعمومه يقتضي منع التسعير على الجملة على الجالب والمحتكر في المدينة. وأما من ذهب إلى جواز التسعير فإنه يحمل هذا الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما طلب منه أن يسعر على الجالب، فلم يفعل، وفيه قال ما قال. وقد ذكرنا الاتفاق على أنه لا يسعر على الجالب. ويخص هؤلاء هذا العموم بفعل الصاحب. وقد اختلف أهل الأصول في تقليد الصاحب، لا سيما إن كان إمامًا من الخلفاء الراشدين. وقد ذكر مالك في الموطأ أن "عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بَلْتَعَة وهو يحاول بيع زبيب له، فقال له: بيع بكذا، أو فأدخل زبيبَك بيتك". وقد روى هذا الحديث غير مالك بأتمّ من روايته؛ فذكر أنه إنما ¬

_ (¬1) الترمذي: البيوع: 73. حديث 1314.

"مرّ به، وبين يديه حملان زبيبًا، فقال له: كيف تبيع هذا؟ فقال: رطلين بدرهم. فقال: بلغني أنه تقدم من الطائف رفقة، أخاف أن يقتدوا بك، فرخص على الناس أو أدخل زبيبَك بيتك". ومن يمنع التسعير يجيب عن هذا بأنه: لا يخص حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بمذهب ذهب إليه الصاحب رضي الله عنه. وأيضًا فإنه قد ذُكر عن عمر رضي الله عنه أنه عاد إلى حاطب بن أبي بلتعة فاعتذر إليه، ورجع عن قوله، وأخبره أنه قال ما قال من غير عزم عليه (¬1). وإذا تقرر الخلاف في التسعير، وسبب الخلاف فيه من اختلاف هذه الآثار وتأويلها، فإنا نذكر صورة صفة التسعير. فقد قال ابن حبيب: إذا حاول الإِمام التسعير، فإنه يجمع وجوه أهل السوق الذين يسعر عليهم، ويستظهر على صدقهم بغيرهم ممن هو ليس من أهل السوق، ويسألهم عما يشترون به ما يبيعونه من الناس، فإذا عرف ثمنه سألهم عن مقدار ما يربحون، ونازلهم في ذلك بقدر ما يراه مصلحة للناس، ولا يكون فيه إضرار بهم في الربح، فإن وافقهم على شيء فتراضَوْا به، فحينئذ من تعداه من أهل السوق وعاند أمره أخرجه من السوق. قال: وعلى هذا أجاز من أجازه. قال: وإنما يكون التسعير في المكيل والموزون، طعامًا كان أوْ غيره، دون العروض. فكأنه رأى أن العروض تراد لأعيانها، وتختلف الأغراض فيها، بخلاف المكيل والموزون الذي تتساوى الأغراض في جنسه. وأشار إلى ما كنا قدمناه من الخلاف في التسعير أنه لم يُرِد به جَبر الناس على بيع أموالهم بثمن معلوم، ولا أن يحرم عليهم تعدّي ما يعدّ لهم من الثمن، ولكن إذا تراضى هو وأهل السوق على البيع بسعر صار من خالف ذلك من سوى أهل السوق أدخل ضررًا على المسلمين، فوجب أن يعاقب عليه بإخراجه من السوق، أو غير ذلك. فهذا حكم التحجير والتسعير الذي يعود بصلاح العامة والجمهور. ¬

_ (¬1) انظر تخريج روايات هذا الأثر في الاستذكار: ج 20 ص 70 وما بعدها.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما ما يعود بمصلحة أهل السوق في أنفسهم، فإن ابن القصار ذكر: أن مالكًا رضي الله عنه قال: من حطّ من السعر قيل له: الْحَقْ بسعر الناس أو فاخْرج من سوقهم. واختلف أصحابنا في تأويل كلامه هذا. فقال البغداديون من أصحابنا: مراده بقوله: من حطّ من السعر: أغلى في السعر. قال: وقال بعض المصريين من أصحابنا: مراده بقوله: من حط من السعر؛ أي أرخص فيه. وهذا قد يسبق إلى فهم سامع هذا اللفظ أن المراد بقوله: حط؛ أي أرخص؛ كما قاله المصريون من أصحابنا، الذين حكى عنهم ابن القصار. لكن ما قاله البغداديون من قولهم: إنه أراد بقوله: حطّ؛ أي أغلى. فإنه يتصور في كثير من البلاد؛ وهم الذين يبيعون مثلًا الخبزة بدرهم وفيها رطل، فيعمد آخر في السوق فيبيع بدرهم، ولكن يجعل وزن الخبزة نصف رطل، فكأنه حطّ في وزن المبيع، وهي في الحقيقة غلاء في الثمن. فهذا الذي ذكر ابن القصار؛ ولكنه قال: إن الوجهين ممنوعان عندي، أن يبيع بأغلى أو بأرخص، لأن الأغلى إذا باع به كان فيه تغرير بمن يشتري منه، وإن باع بأرخص كان فيه مضرة بأهل السوق في تكسيد سلعهم. واعتبار ضرر الأكثر أولى، وليس هذا من التسعير ولكنه من رفع الضرر. وقد ردّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الأسرى على الكفار بعد إسلامهم، لما في ذلك من المصلحة لعامة المسلمين في كون الكفار يعتقدون الثقة بما يعاهدونهم عليه. ولكن الرواية المشهورة عندنا في هذا أن أهل السوق إذا اختلف بيعهم، فأرخص بعضهم وأغلى بعضهم، فإنه إن كانت الفئتان متساويتين في العددين أو متقاربتين، فإنه لا ينكر على المرخصين ويقَرّون على ما هم عليه؛ لأن ما فعلوه هو أنفع للجمهور وأصلح لهم. وينظر في الفئة الأخرى التي أغلت في الثمن. فإن قلنا بمنع التسعير، على أحد القولين، لم ينكر عليهم، أيضًا، ويبقى السوق

على ما هو عليه من اختلاف سعره. وإن قلنا بجواز التسعير حط هؤلاء مقدار ما يقتضيه التسعير عليهم لو انفردوا, ولا. يلزمهم أن يرجعوا إلى ما باع به المرخصون. وإن كان إحدى الفئتين كثيرة والأخرى قليلة، فإن كانت القليلة هي التي أرخصت، والكثيرة هم الذين أغلوا، فإنهم يُبْقُون الذين أرخصوا على ما هم عليه؛ وإن كان الذين أغلوا الفئة القليلة، مُنعوا من ذلك لما يؤدي إليه من اغترار الطارئ على السوق ممن لا يعرف الأسعار، فإذا ساومه هؤلاء بالسعر العالي اعتقد أن سائر أهل السوق يبيعون كبيعهم فصار يماكسهم على أن جميع أهل السوق على السعر الذي أخبره هؤلاء. فهذا ظاهر الروايات على هذا التفصيل. والذي ذكرنا عن ابن القصار حكاه قولًا مطلقًا، ومقتضاه على ظاهره، أنه إذا أرخص (¬1) الفئة القليلة منعوا من ذلك لما يلحق الجمهور من أهل السوق من الضرر ببوار سلعتهم، وأن أحدًا لا يشتريها منهم وفي سوقهم من يبيع أرخص منهم. فيكون هذا التفت إلى مضرة أهل السوق خاصة دون منفعة العامة في الترخيص. وهذا الذي ذكرناه في من سوى. الجالبين. وأما الجالبون فقد ذكرنا أنهم لا يسعر عليهم، ولهم أن يبيعوا بديارهم أو بالسوق الأعظم. بخلاف المحتكر فإنه لا يمكن من أن يبيع بداره بل يؤمر بإخراج الطعام إلى السوق الأعظم، لأن بيعه في الديار فيه ضرب من الإخفاء يؤدي إلى إعْزاز الطعام وغلائه. والجالب قد ذكرنا أنه ينبغي أن يلتفت إلى التوسعة عليه ليكثر جلبه إلى المدينة. ويخاف، متى ضُيّق عليه وحجر، ألّا يجلب إلى المدينة شيئًا. فإن اختار الجلابون البيع بالسوق فقد ذكرنا أنهم لا يسعر عليهم. ولكن إن اختلفوا، فباع قوم منهم بثمن غال، والآخرون بثمن رخيص، وتشاكوا ذلك إلى الإِمام، فإنه يعود الحكم إلى ما قدمناه من التفصيل: هل الذي ¬

_ (¬1) هكذا.

أغلى منهم هو الأقلّ فينهى عن ذلك لئلا يمرّ (¬1) الطارئ على السوق بأن يظن أن أهل السوق كلهم كذلك. وإن كان المرخصون منهم قليلًا لم يتعرض لهم، وأجري فيهم الحكم على ما فصلناه في بيع. أهل البلد إذا احتكروا. قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: "ومنه تلقي السلع قبل أن تورد الأسواق (¬2)، فهذا ممنوع بالتلقي أو يتركوا له". قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: 1 - أحدها أن يقال: ما الدليل على منع التلقي؟ 2 - والثاني أن يقال: هل يفسخ بيع التلقي؟ 3 - والثالث أن يقال: ما صفة التلقي؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: ذكر مالك في الموطأ: عن أبي الزناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتلقوا الركبان للبيع. ولا يبع بعضكم على بيع بعض. ولا تناجشوا. ولا يبع حاضر لباب. ولا تصرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردّها وصاعًا من تمر" (¬3). وهذا الذي تضمنه هذا الحديث، وإن اشتمل على خمسة أنواع، فكلها ترجع إلى معنى واحد، وهو نفي الضرر عن الناس. والتصرية ليس تضر يمشتري المصراة (¬4) ولكنه من فعل البائع. والنجش تغرير أيضًا بالمشتري، ¬

_ (¬1) في (و): يعدّ - وفي (م): يفر. ولعل الصواب: يُغَرّ. (¬2) في الغاني: للأسواق. (¬3) الموطأ: الحديث 1995. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: والتصرية تغرير تضر بمشتري المصراة.

ولكنه لم يباشره البائع، وإنما سأل من يزايد المشتري تغريرًا. فنهى عن هذين لمصلحة الناس ونفي الضرر عنهم. وكذلك السوْم على سوم المسلم، فيه ضرر لمن يركن إليه البائع وأراد البيع منه. وكذلك بيع حاضر لباد، فيه مرفق بأهل الحواضر، يشترون ما يأتي به أهل البادية بثمن رخيص. وكذلك تلقي السلع، اختلف الناس في علته، فقال ابن الجهم من أصحابنا: كان النهي عن التلقي في أوّل الإِسلام لئلا ينفرد المتلقي بالرخص دون أهل السوق، وأما الآن فلا يقدم أحد إلا وهو على بصيرة بسعر ما يقدم به، فينبغي أن يكره ولا يحرم. وأشار إلى كون العلة نفي الضرر عن أهل البلد الذي قصد الجالب بلدهم ليبيع منهم. وأشار أبو حامد الإسفرائيني إلى هذه العلة، وأضاف إليها علة أخرى، وهي نفي الضرر عن الجالب بأن لا يغبنه المتلقي. وأشار إلى هذا بعض المتأخرين من الأشياخ. وقد يهجس في النفس في هذا التعليل الذي هو النهي عن غبن الجالب، أنه يناقض النهي عن بيع حاضر لباد لكون النهي عن بيع حاضر لباد يشير فيه إلى تسهيل الطريق إلى غبن البادي؛/ ألا تراه قال "دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض". والنهي عن تلقي الجالب يشير فيه إلى حسم الطريق المؤدية إلى غبنه، ألا تراه يقول، في بعض طرق الحديث، في البائع: إن أتى السوق فهو بالخيارة يشير إلى إثبات حق له في رفع. الغبن عنه. والانفصال عن هذا: أن التلقي ربما يكون من واحد لراكب واحد، فهما متساويان في الحرمة والغرر، فلم يحصل للمتلقي من الترجيح على الجالب ما يوجب تسهيل الطريق إلى غبن الجالب. وأما بيع حاضر لباد، فإن المنفعة في هذا النهي لا تختص بواحد، بل تعم أهل البلد الذين أتاهم البدوي، لكونهم يشترون منه برخص إذا لم يبع لهم سمسار يستقصي لهم الأسعار. وأيضًا فإن التلقي يصلح أن يعلل بعلتين، إحداهما النهي عن غبن الجالب؛ والثاني النهي عن مضرة أهل السوق، بأن ينفرد المتلقي بالربح دونهم. والنهي عن بيع حاضر لباد لا يصلح فيه إلا علة واحدة، وهي رفع الضرر عن أهل البلد في أن يستقصي السمسار للبدوي

الأسعار. على أنه قد ذكر في هذا أنه يمكن أن يكون النهي عن هذا المرادُ به ألا يغتر البدوي بما يقوله له السمسار، وإنما غرضه توفير الأثمان، وأن يبيع بثمن غال ليتوفر جُعْله، فإن الأجعال ربما كانت بقدر الأثمان. وقد أشار المروزي إلى الجمع بين المسألتين، بأن النهي عن التلقي لنفي المضرة، والنهي عن بيع حاضر لباد لئلا يقع الاستقصاء من السمسار الحضري. فكأنه يرى أن المراد بالنهي عن بيع حاضر لباد ألا يبالغ في الاستقصاء، لا على أن البدوي مغبون. وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة أنه يجوز التلقي للسلع إذا كان ذلك لا يضر بأهل البلدة لكون الأخبار تعارضت في هذا، فقال ابن عمر: كنا نتلقى الركبان نشتري منهم الطعام، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله إلى سوق الطعام. وهذا يشير إلى جواز التلقي. فيحمل ما في حديث ابن عمر أن التلقي حينئذ غير مضر. ويحمل حديث النهي عن التلقي على أنه كان مضرًا لئلا تتعارض الأخبار وتتضادّ. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: هل يفسخ بيع التلقي أم لا؟ فالمشهور من المذهب أنه لا يفسخ. روي ذلك عن مالك وغيره من أصحابه. وذهب ابن المواز وابن حبيب إلى فسخه إذا كان قائمًا. ولكنهما اختلفا في فسخه إذا غاب البائع. فأشار ابن المواز إلى فسخه، فقال: يباع ذلك على الغائب. ومقتضى مذهبه أنه إذا بيع عليه كان الربح له والخسارة عليه، لكونه يراه كالبيع الفاسد، والبيع الفاسد، إذا بيعمت السلعة على بائعها، كان له ربحها وعليه خسارتها. ورأى ابن حبيب أنه إذا فات الفسخ بغيبة البائع، فإنها لا تنزع من يد المشتري إذا كان لم يعتد ذلك، وإن كان اعقاله نزعت من يده، وبيعت، وأشرك أهل السوق فيْ ربحها إذا شاؤوا، وإن لم يريدوا أخذها تركت له. وإن كانت السلعة لا سوق لها وقفت لسائر الناس وإن لم يوجد من يشتريها تركت له. فكأنه رأى

الفسخ ليس بمتفق عليه، فوجب ألا يثبت حكمه مع الفوات كما يثبت مع القيام. وقد أشار ابن المواز إلى أن الفسخ إنما وجب عنده لكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو مردود" (¬1). ولم يلتفت ابن المواز إلى كون النهي متعلقًا بحق المخلوقين خاصة، أو بحق الخالق. وقد كنا قدمنا نحن أن النهي إذا كان لحق المخلوقين لم يقتض الفسخ، كما دلّ عليه حديث المصراة، وأنه عليه السلام (نهى عن التصرية، وأشار إلى كون البيع لا يفسخ). وإذا قلنا بالمذهب المشهور: أن بيع التلقي لا يفسخ، لكون الثمن والمثمون سالمين من الفساد، وإنما تعلق بالعقد نهي بمعنى آخر، فإن عن مالك روايتين: إحداهما أن السلعة لا تنزع من يد المتلقي وهي رواية ابن القاسم. والأخرى أنها تنزع من يده. وهي رواية ابن وهب. فكأنه، في الرواية التي أبقاها في يده، رأى أن النهي لا يتسلط على رفع الملك، لكون الثمن والمثمون سالمين من الفساد. ورأى في الرواية الأخرى أنه، وإن لم يفسخ، فيلتفت إلى حق غير المتلقي في ما تلقاه، فيشاركون فيه المتلقي. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: الخروج إلى تلقي السلع الواردة على بلد يمنع منه أهل البلد، تلقوها عن مسافة قريبة أو عن مسافة بعيدة. لأن ما قدمناه من التعليل بنفي الضرر عن أهل البلد أو عن الجالب يتصور فيه هذا التلقي الذي تقرب فيه المسافة أو تبعد. هكذا ذكر ابن حبيب. وفي الموازية: من قدم بسلع على بلد، على أنه متى وجد في الطريق من يشتري منه باع، فإن هذا ينهى عن الشراء منه حتى يقدم المدينة التي قصد إليها، إلا أن يكون أراد أنه إذا مرّ بقرية مأمونة بها سوق، فإنه يبيع بها، فإنه لا يجوز لأهلها أن يشتروا منه. فكأنه اعتبر القصد الأول الذي هو المدينة التي أمّها أو سافر إليها، وما عرض له من الخاطر أنه يبيع في أثناء ¬

_ (¬1) فتح القدير: 6/ 182 حديث: 8868.

الطريق لا يرفع كون المشتري منه بالطريق متلقيًا للسلع. وقد اختلف أيضًا في ما حول المدائن من جنات لها ثمار، هل يجوز لبعض أهل المدينة أن يخرجّ ليشتري منها ويبيع بالمدينة؟ فروى ابن القاسم عن مالك جواز ذلك. وروى عنه أشهب أنه من التلقي. قال أشهب: وليس عندي من التلقي، وهذا لأن التلقي للجالب ربما كان إضرارًا به من غير منفعة، وها هنا ربما أضر بصاحب الملك منع الناس من الخروج إلى بستانه ليشتروا منه، لأنه قد يشق عليه حمل ثماره إلى المدينة وبيعها جملة. فمن الرفق به أن يباح الشراء منه وهو في بستانه. فكأن هذا، وإن أضر بأهل المدينة، ففي منع بعض أهلها من الشراء منه إضرار به أيضًا، فتقابل الضرران، فيقع الترجيح بينهما أيهما الأوْلى أن يعتبر. والنهي عن التلقي يتصور وإن لم تحضر السلعة المبيعة حين العقد، بأن يتصل برجل خبر أنه يقدم عليه غدًا أو بعده سلع اشتُريت له ليبيعها ببلده، فإنه يمنع من كان معه بالبلد أن يشتريها منه على الصفة قبل قدومها عليه. لأنه يتصور في هذا من مضرة أهل البلد وانفراد هذا بالربح ما يتصور في التلقي (¬1) خارج المدينة. ولو وصلت السلعة ومالكها لم يصل فإن بعض المتأخرين قال: ينبغي أن ينهى عن الخروج إليه ليبيعها قبل أن يدخل المدينة؛ لما يتصور في هذا أيضًا من انفراد المتلقي بربح هذه السلع التي وصلت إلى المدينة وصاحبها لم يصل. وإذا كان قرًى، بقرب المدينة أو ببعد منها، فإنهم يمنعون من شراء سلع من مر بهم قاصدًا إلى المدينة، إذا قصدوا بما يشترونه منه التجارة. ويباح لهم أن يشتروا منه أدواتهم وما يحتاجون إليه من أضاحي وملابس وما في معنى ذلك. وأما من حاول شراء ما دخل المدينة إذا مرّ بباب داره، فإنه إن كان لما ¬

_ (¬1) في (و): المتلقي.

يحاول شراءه سوق معلوم، نهي عن الشراء. وإن لم يكن له سوق معلوم، جاز له ولغيرهِ من سكان المدينة شراء ما مرّ بديارهم، أو لَقوْهُ في سكك المدينة وطرقها. ولو وصلت سفن بطعام إلى الساحل، وكان ذلك منتهى سفرهم، فإنه يسوغ لأهل المدينة أن يخرجوا للشراء منهم، لأنهم إن منعوا من الخروج بارت السلع التي بالسفن، فلا يلزم (¬1) أهل السفن إحداث سفر آخر، فقد يشق عليهم .. وهذا أيضًا في ما كنا قدمناه من الخروج إلى شراء ما حول المدينة من الثمار. وذكر أبو حامد الإسفرائيني أن من خرّج لضيعته فإنه إذا لقي سلعة، فهل يجوز له شراؤها لكونه لم يخرج قاصدًا للتلقي والإضرار، أو (¬2) يمنع من ذلك لعموم النهي عن تلقي السلع. وذكر أنه إذا وقع بيعُ التلقي فإن البائع إذا قدم فظهر أنه مغبون، كان له الخيار في فسخه بيعه وإن لم يكن مغبونًا فيه عندهم وجهان. وهذا الذي أثبتوه من الخيار صاروا إليه بما وقع في بعض طرق الحديث من إثبات الخيار للبائع إذا أتى السوق. فمن حمله على عمومه أثبت له، غُبِنَ أو لم يغبن. قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه، في فصل ذكر فيه ما يُرجع لفساد العقد فيه إلى الحال التي وقع فيها العقد فقال: ومنه بيع الحاضر للبادي. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال: 1 - ما الدليل على منع بيع حاضر لباد؟ 2 - وما شروط المنع؟ 3 - وهل يفسخ هذا البيع أم لا؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا. ولعل الصواب: فيلزم. (¬2) ساقطة في (هـ).

قد اشتمل الحديث الأول على فصول، تكلمنا منها على التصرية، وعلى التلقي. وفي هذا الحديث نهيه عليه السلام عن بيع حاضر لباد. وقال العلماء: إن وجه المصلحة في ذلك النظر لأهل الحاضرة على أهل البادية، لكون الحواضر مجتمع الخلق الكثير، ومواضع الأئمة والقضاة والعلماء، فلهم من الحرمة ما ليس لمن هو دونهم في هذه الأوصاف، كأهل البوادي التي الغالب فيها قلة الناس، وعدم الأئمة. وأيضًا فإن الأكثر في أموال أهل البوادي، الذي يأتون به الحواضر ليبيعونه، غلات من أشجار تخلف ما باعوه، وتؤتي أكلها كل حين، ومواش يتكرر اغتلال ألبانها وأصوافها فبالشراء منهم برخص لا يضرهم، كما يضر أهل الحواضر الشراء بثمن غال لأنهم إنما يتجرون بأموال لا يخلف ما فقد منها إلا بتجْر وسعي وطلب أرباح، ومع السعي قد لا يحصل الربح. فاقتضى هذا طلب الاسترخاص في أموال أهل البوادي. وذلك إنما يحصل إذا باشروا البيع بأنفسهم. وأما إذا باع السمسار الحضري فهو لا يغبن لمعرفته بالأسعار وطرق المماكسة. وهذا التعليل الذي ذكروه يقتضي تخصيص الحديث على حسب ما خصصه به مالك رضي الله عنه، فإنه أشار في الموطأ وغيره إلى أن الحديث محمول على الأعراب، أهل العمود، الذين يجهلون الأسعار. فصار هذا كتخصيص عموم بعلة استُنبطت منه. وهذا مما يقدح فيه بعض الأصوليين ويمنع من تخصيص عموم بعلة منه، لأن ذلك كفرع يناقض أصله، وإذا ناقض الفرع أصله لم يتمسك إلا بالأصل دون الفرع. ولأجل هذا الذي نبهنا عليه أشار مالك في رواية أخرى إلى حمل الحديث على عمومه. فقال في الموازية: أما أهل القرى الذين يشبهون البوادي، فلا يبيع لهم الحاضر ولا يشير عليهم. وإذا كان (¬1) وفيما بعد ذلك بالصحراء على الميلين من القرية، فلا يبيع لهم الحاضر، كانوا يعلمون السعر أو لا يعلمونه. ¬

_ (¬1) كلام غامض، والأقرب أن يكون: ما لو بيع بالقُرى.

فأشار إلى تطلب التسمية، وهو كون القرية تشبه البادية ويسمى أهلها بوادي. فإذا حصلت التسمية حمل لفظ الحديث على العموم، غير ملتفت إلى كون هؤلاء يعلمون السعر أو لا يعلمونه. فالمذهب الأول أخرج من التسمية بعض ما تشتمل عليه. والمذهب الثاني نظر في مطابقة التسمية، ولم يزد عليها ولم ينقص منها. لكنه روى عنه في الموازية أنه لا يبيع مدني لمصري ولا مصري لمدني. وقال في العتبية: أرجو أن يكون خفيفًا. وهذا الاختلاف في أهل المدائن، إن حملناه على ظاهره وعموم لفظه، اقتضى منع بيع أهل المدائن بعضهم لبعض، كان الوارد على أهل المدينة عالمًا بسعرها أوْ لا. ولكن هذا لا يصح لكونه إن كان عالمًا بسعر المدينة التي ورد عليها لم يمكن غبنه ولا أن يسترخص منه. والمعنى المشار إليه في الحديث معدوم في هذا، والتسمية أيضًا معدومة، فلا يمكن حمل ذلك على أهل مدينة يعلمون سعر المدينة التي وردوا عليها, لا من ناحية لفظ الحديث لكون هذا الوارد لا يسمى بدويًا، ولا من جهة معناه وتأويله لكونه لا يمكن غبنه مع معرفته بالقيمة والأسعار. ولكن إذا كان يجهل السعر، فها هنا قد يحسن حمل اختلاف هاتين الرواتين عليه. لأن من طلب اللفظ فإنه مفقود ها هنا في المدني لكونه لا يسمى بدويًا، فلا يمنع الحاضر أن يبيع له، وإن طلبنا المعنى، وهو الاسترخاص، فها هنا قد يحسن الخلاف، لأن المدني إذا ورد على مدينة، وهو جاهل بأسعارها، أمكن غبنه، وانتفع أهل المدينة بوروده عليهم، مع كونه في الغالب يربح في ما أتى به، فلم يمنع استرخاصه. وقد يقال: إن المدني إذا ورد من مكان مجمع الأئمة والعلماء والكثرة، فله من الحرمة ولأهل مدينته مثل المدينة التي وَفد عليها، فيجوز أن يبيع له من يمنع من غبنه. فأنت ترى كيف هذا الاضطراب في المذهب! تارة طلب المعنى مع

حصول اللفظ، وإن نقص من اللفظ بعض ما اشتمل عليه، وتارة طلب المعنى وإن زاد على اللفظ ما يشتمل في اللغة عليه، كإحدى الروايتين في منع أن يبيع مدني لمدني، والمدني لا ينطلق عليه تسمية باد؛ وتارة طلب التسمية خاصة، كما نبهناك عليه. وهذا هو سرّ هذه الروايات عندي، ومحصولها من ناحية الفقه ومن ناحية الأصول. وإذا تقرر منع بيع حاضر لباد فإن مالكا قال: ولا يشار على البادي فأجرى مشورة الحاضر على البادي مجرى بيعه له لأن المشورة عليه تقوم له مقام السمسرة له والنيابة عنه في البيع. وقد كره أيضًا أن يخبر الحضري البادي بالأسعار. وهذا المعنى الذي ذكرناه، وإخباره بالسعر كالمشورة، والمشورة كالبيع. قال ابن المواز: هذا في ما أتوا به للبيع. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قال أبو حامد الإسفرائيني: يمنع بيع الحاضر للبادي بأربعة شروط: أحدها: أن يريد البادي البيع. والثاني: أن يريد البيع قبل أن يخرج. والثالث: أن يكون الحاضر هو السائل له في أن يبيع له. والرابع: أن يكون البلد يضرّ به ألاّ تباع تلك السلعة التي أتى بها البادي فيه. والشروط الثلاثة المتقدمة إذا فقدت لم يمنع البيع. وأما الشرط الرابع: أن يكون البلد يضرّ به ألاّ تباع تلك السلعة فيه، فإنه إن كان البلد بعكس ذلك، ففيه وجهان: المنع لعموم الحديث، والجواز لفقد الضرر، وهو المراد في الشرع والمعتبر، وهو الذي أشار إليه في الشرط الرابع. وهو نوع مما أشرنا إليه في تخصيص العموم بتعليل استنبط منه؛ أو المنع من ذلك لأنه كفرع يعود بإبطال أصله. فهو ها هنا مشاهد لنا في ما كشفناه لك من سر المذهب في تخصيص اللفظ بتعليل استنبط منه، أو إجرائه على عمومه. وأما اشتراط كون السمسار هو السائل للبدوي في البيع، فإن هذا يبعد

على أصل مذهبنا، لا من جهة أخذ الحديث ولا من جهة طلب تعليله، فإن الاسترخاص يحصل إذا لم يتولّ الحضري البيع للبدوي، غير ملتفت في هذا إلى كون بيع الحضري وقع لسؤال البدوي له، أو لسؤاله هو للبدوي. وأيضًا فإنه إذا اشتهر عند البدو جواز البيع إذا سألهم أهل البدو، ومنعه إذا كانوا هم السائلين لأهل البدو. وعاد كل من قدم من أهل البدو يسألون السماسرة فتفسد هذه المصلحة التي اعتبرها الشرع. فنحو هذا عندي يرد على الأبهري في مسألة أخرى. وذلك أن المعروف من مذهب مالك وأصحابه أن الحضري يمنع أن يبيع للبدوي ما أتاه به بنفسه، أو ما أرسله إليه مع رسوله. وحكى القزويني عن الأبهري أنه يقصر النهى على ما أتى به البدوي بنفسه. وأما ما بعثه مع رسوله فإنه يجوز للحضريّ أن يبيّعه. وهذا لا وجه له لكون الحديث وتعليله يقتضي المساواة بين ما أتى به البدوي بنفسه، وما أرسله إلى الحضري. مع كون هذا إذًا اشتهر عاد أهل البدو يرسلون ما يبيعونه، حذرًا من أن يغبنوا، فتفسد المصلحة. وهذا كما قيل في الانتصار عندنا لأحد (¬1) الصناع: إنهم إذا اشترطوا ألّا ضمان عليهم في ما يصنعونه، فإن الشرط لا ينفعهم، لأنهم لو نفعهم لاشترطه كل صانع فتفسد المصلحة التي لأجلها ضمن الصانع. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: إذا تقرر هذا، ووقع البيع، فهل يفسخ أم لا؟ الظاهر من المذهب عن مالك وغيره من أصحابه أنه يفسخ. لأنه عندهم بيع محرم. والنهي عن الشيء على جهة التحريم له يقتضي فساده. وقال ابن عبد الحكم: إنه لا يفسخ، وقد تقدم، في ما سلف لنا مرارًا، التنبيه على هذا الأصل. وذكرنا خلاف أهل الأصول فيه، والتفات بعضهم إلى كون النهي يرجع إلى حق الخالق، فيدل على فساد المنهي عنه، أو يرجع إلى حق المخلوق، فلا يدل على فساد العقد، ¬

_ (¬1) هكذا. لعله لضمان.

كما اقتضاه النهي الوارد عن التصرية، فإنه، مَع نهيه عنها، أشار إلى منع فساد العقد وفسخه. ووقفت، لابن الجهم في شرخه مختصر ابن عبد الحكم، على كون هذا البيع مكروهًا. والإشارة إلى منع كونه محرمًا ما يذكر فيه وفي التلقي أن هذا إنما كان في أول الإِسلام، وأما الآن فلا يَرِد جالب إلا على بصيرة من الأسعار، فينبغي أن يكرهَ التلقي وبيع حاضر لباد. وأما التحريم فلا يجوز، ولو وقع البيع فيهما لمضى (¬1). وهذا على أصله في كون هذين مكروهين يتضح فيه معنى الفسخ. وقد أشار الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد إلى اختيار أحد القولين في التلقي، وهو الفسخ لكونه إذا فسخ حصل لأهل السوق المنفعة بما فسخنا التلقي فيه. وأما بيع حاضر لباد فلا يفيدهم الفسخ لأن البدوي لما باع له السمسار عرف السعر فهو لا يمكن غبنه. وإذا كانت العلة في الحديث طلب الاسترخاص منه، وهو ها هنا يتعذر لعلمه بالسعر الذي باع له به الحضري، لم تكن فائدة في الفسخ. وإذا قلنا بمنع الفسخ فإنه لا بدّ من زجر الحاضر الذي باع للبادي. فأما ابن وهب فإنه اقتصر على زجره. وأما ابن القاسم فإنه قال: يؤدب. وهذا اختلاف منهما في مقدار الاجتهاد في إنكار هذا الفعل، وإن قلنا بالكراهة، كما قال ابن الجهم، حسن ما قال ابن وهب من الاقتصار على الزجر دون إيقاع الأدب. قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: وأما ما يرجع إلى الحال، كبيع الإنسان على بيع أخيه الذي ركن إليه وقرب اتفاقهما، فإن العقد يفسخ، على نحو ما ذكرنا في النكاح. قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. 1 - أحدها أن يقال: ما الدليل على المنع من دخول سوم على سوم؟. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب إضافة (من).

2 - وهل النهي عامّ للمسلم والذمي أم لا؟ 3 - وهل يفسخ هذا البيع إن وقع؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: ذكر مالك في الموطأ وغيره من أصحاب الصحاح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يبع بعضكم على بيع بعض (¬1). وروي ذلك عن ابن عمر وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، على حسب ما تقدم إيراده في الحديث عن أبي هريرة مَذْكُورٌ هذا النهي مع النهي عن أنواع غيره. وعن ابن عمر مذكور النهي عن هذا خاصة. وهذا راجع إلى ما تقدم من النظر في مصلحة الخلق ونفي الضرر عنهم. وفسره مالك بأن المراد به النهي عن أن يسوم أحد على سوم أحد تقدمه إذا كان البائع ركن إلى السائم الأول ومال إلى البيع منه. وأشار إلى الاستدلال على هذا الركون والميل بأن يأخذوا في ذكر وزن الذهب، وتبري البائع من العيوب، إلى غير ذلك مما في معناه من الدلالة على الركون من البائع إلى المشتري. فإذا حصل التراكن صار السائم آخِرًا مفسدًا على الأول، ومضرًّا به. ومبنى هذه الأصول، التي قدمناها، على المصلحة ونفي الضرر. وقد كنا أشرنا إلى أن التلقي للركبان، وإن كان التلقي إنما يحصل بين رجلين الجالب ومن يلقاه ليشتري منه، فإنه ينضاف إلى هذا الإضرارُ بأهل السوق، فتأكَدَ المَنعُ. وها هنا يقع الإضرار بالسائم أوَّلًا خاصة. والإضرار يُمنع منه، وينهى رجل أن يضر رجلًا وقد تعلق للسائم أوَّلًا حق بهذا المبيع حتى لم يبْقَ بينه وبين صحة ملكه إلا العقد، فينبغي أن يُمنع السائم الثاني من إبطال ما صار لهذا من حق، لكونه الغالبُ في حالِهِ حصولُ الملك له، كما منع المريض من هبة سائر ماله لمَا تعلق للوارث به من حق، لكون الغالب أنه يصير إليه عن قرب إذا وقع الموت من المرض الذي وقعت الوصية فيه. وخص مالك هذا النهي بحصول التراكن، وإن كان الحديث عامًا لم ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

يشترط فيه التراكن لأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخطب أحد علي خِطبة أخيه. فورد أيضًا هذا الحديث عامًا، ولكنه خص بالحديث الآخر، لما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بخِطبة أبي جهم ومعاوية. فقال: أما معاوية فصعلوك لاَ مال له، وأما أبو يهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، أنكحي أسامة. فلم يذكر نكيرًا على الثاني من الخاطبين المذكورين، فأشار بثالث، مع إعلامه بأنه قد تقدم قبله خاطبان. فاقتضى هذا بناءَ الحديثين أحدهما على الآخر، فيحمل حديث هذين الخاطبين على أنها لم تركن إلى واحد منهما، ويخص به عموم قوله: لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه. الحديث ... فكذلك (¬1) في سوم الإنسان على سوم تقدمه، يحمل النهي على حصول التراكن. وأيضًا فإنْ مالكًا استدل في الموطأ على هذا التخصيص بأن ذكر أنه لو مَنَع مجرد السوم من غير تراكن من سوم رجل آخر، لأخذت أموال الناس بشبه الباطل من الثمن، ولم يشأ أحد أن يمنع آخر من بيع سلعته إلا ساومه فيها. وهذا عكس ما ورد به الشرع من النظر في مصلحة الناس وصيانة أموالهم عليهم. وقد حمل مالك وغيره من العلماء الحديث أيضًا على أن المراد به أن لا يسوم أحد على سوم مشتر، مع كون الحديث ورد بلفظ البيع. لكنهم ذهبوا إلى أن البيع في اللغة يطلق على الشراء وقد قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (¬2) وقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} (¬3) والمراد من هاتين الآيتين ما باعوا به. فأشعر هذا يكون اللفظتين تنوب إحداهما عن الأخرى. لكن حمل بعت على اشتريت ذكر عن أهل اللغة. وأنشدوا في هذا: ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد (¬4) وأنشدوا أيضًا: ¬

_ (¬1) بياض في (و) مقدار كلمة. وهي في المدنية: يطعن. ولعل الصواب: النهي. (¬2) سورة يوسف، الآية: 20. (¬3) سورة البقرة، الآية: 102. (¬4) من أواخر معلقة طرفة بن العبد. انظر: أبو عبيد: الغريب: 624.

وبعت لذبيان العلاء بمَالَكا (¬1) والمراد في هذين البيتين اشتريت. ولو سلمنا أن اللغة وردت بأن بعت يطلق على اشتريت فإن هذا لا يقتضي حمل قوله: لا يبع بعضكم على بيع بعض. على ألا يشتري بعضكم على شراء بعض، لأنه قصر على أحد المحتملين بغير دليل. ولهذا أشار أبو عبيد لما حكى عن أبي (¬2) عبيدة وأبي زيد أنهما ذكرا: أن بعت يكون بمعنى اشتريت، أن الجواب عنه يكون بتخصيصه بالعادة، لأن المعروف أنه لا يقع سوم بائع على سوم بائغ آخر (¬3) .. وقد أشار ابن حبيب إلى أن الحديث إنما الخطاب فيه للمشتري لا للبائع. وأشار بعض المتأخرين إلى أنه إنما أراد ما أراده أبو عبيد من حمل الحديث على السوم في الشراء لا على سوم بائع على بائع لكون الاسترخاص مستحبّا في الشرع. وقد ذكر ابن حبيب أنه وردت به آثار ورغايب. وإذا سام بائع سلعة وأتى بائع آخر فعرض مثلها على المشتري بأرخص منها صار هذا كالمستحب لاستحباب الرخْص، وهو متأول هذا على أن الحديث يحمل على ظاهره من كونه نهيًا أن يسوم بائع على بائع، إذا لم يرد السائم الثاني الاسترخاص. فكأن أبا عبيدة حمله على أحد محمليه بمقتضى العوائد، وحمله ابن حبيب على أحد محمليه أيضًا لكون الشرع استحب الاسترخاص. وهذا إنما يتصور في حق بائع على بائع لا في حق مشتر على مشتر. والغالب في سوم بائع على بائع كون الثاني يعرض سلعته بأرخص مما عرضها به الأول. وأبقاه بعض المتأخرين على أظهر محمليه: وهو أن لا يسوم بائع على سوم بائع، ولكنه ¬

_ (¬1) عجز بيت، صدره: وباع بنيه بعضهم بخسارة. رواه أبو عبيد ونسبه للحطيئة. المرجع السابق. (¬2) انظر غريب الحديث لأبي عبيد. ج 2/ 3، 4. قارن: الغريب له: 624. حيث ذكر الأصمعي عوض أبي عُبيدة. (¬3) انظر غريب الحديث له: الإحالة السابقة. قارن الغريب له، حيث لم يذكر هذا الجواب- الغريب: الإحالة السابقة.

شرط أن لا يكون أراد الثاني الاسترخاص. هذا إذا حملنا كلام ابن حبيب على ما أراده أبو عبيد، ولم يحمله على أنه أراد أن الخطاب في هذا للمشتري لا للبائع في أن البائع لا يتعلق به حرج إذا باع من السائم الثاني، وإنما يتعلق الحرج بالسائم الأول. وذكر أبو حامد الإسفرائيني: أن الحديث يحمل على البائع والمشتري، ولكنه أبقى اللفظ على ظاهره في العرف، فقال: معنى النهي أن يعقد البيع على خيار المجلس كما اقتضاه الحديث الوارد بثبوت خيار المجلس، فيأتي رجل آخر فيقول للمشتري: أنا أبيعك بأرخص. وكذلك لو أتى مشتر آخر فزاد على المشتري الأول. قال: وأما السوم فإنه إن. لم يقع تراكن فلا حرج فيه، وإن وقع التراكن ووكل البائع على العقد فالسوم يحرم على الثاني. وإن وقع التراكن ولم يوكل البائع على العقد ففيه قولان. وهذا النّهيْ أشار ابن حبيب إِلَى قصْره على بيع المساومة لا على بيع المزايدة. ألا ترى أن السلطان يبيع على الميت والمفلس، فيستوجب البيع من اشترى منه ويتأنى السلطان ثلاثة أيام رجاء أن يأتي من يزيده في الثمن. وإن لم يقف عن هذا لكون من يأتيه ساوم على سوم أخيه المسلم، لكون هذا البيع إنما وقع على طلب الزائد، وعليه بني أول مرة. وإذا باع عقار المفلس وأشهره فنادى عليه الشهرين والثلاث، بأن يذكر صفته ونعته ويسميه، ثم يعقد ذلك فإنه يتأنى ثلاثة أيام أيضًا طلبًا للزيادة. ووصف بيع المساومة بأنه يقف الإنسان سلعته بمكان أو بحانوته منتظرًا من يأتيه يساومه فيها. فهذا يمنع السائم الثاني أن يدخل على السائم الأول إذا ركن البائع إليه، وإذا فأرقه الأول قبل أن يستوجب أو رد سومه عليه فإنه إذا عاد إليه لم يلزمه البائع السوم الأول. وبيع المزايدة بأن يطوف بسلعته على من يزيده فيها، وأن هذا يسوغ فيه دخول زيادة على زيادة. فإذا فارق البائع من أعطاه أوَلًا ثمنًا معلومأولم يوجب له البيعَ، ثم عاد إليه فإنه يلزم البيع الذي فأرقه قبل أن يعقدهُ على نفسه. وهذا الذي أشار إليه من افتراق حكم المساومة والمزايدة، في كون المشتري يلزمه بعد الافتراق ما أعطى من ثمن، ولا يلزمه في بيع المساومة، لا وجه له إلا الرجوع في ذلك إلى

مقتضى العوائد، لأن الذي يعطي ثمنًا إن شرط أنه إنما يلتزم الشراء به في الحال قبل أن يفارقه البائع، فإنه لا يختلف في أن البيع لا يلزمه، لا في بيع المساومة ولا في بيع المزايدة. وإن شرط أن البائع يُلزمه، ويكون الخيار للبائع بأن يعرضها على غيره أمرًا معلومًا أو في حكم المعلوم، فإنه لا يختلف أيضًا في أن البيع يلزم المشتري إذا عاد إليه البائع. فإذا تقرر أن لا يختلف في القسمين مع التصريح بهما، فإنهما إذا افترقا مع إطلاق اللفظ من غير تقييد شرط الاختلاف المفهوم عن المتساومين في حكم العوائد، هل افترقا على التزام المشتري أو غير التزامه؟. وإلى هذا أشار ابن حبيب، لأنه ذكر أن هذا إنما لزم في بيع المزايدة بعد الافتراق لأجل أن المشتري إنما فارقه البائع على كونه استوجب المبيع. وإنما نبهت على هذا لأنه ألزم بعض القضاة أهل السوق في أسواق البلد في بيع المزايدة الثمن الذي يُعطَونه بعد مفارقة البائع لهم ثم يعود إليهم. فكانت عادتهم أنهم إذا افترقوا من البائع افترقوا على غير إيجاب منه ولا منهم، اغترارًا بظاهر ما حكاه ابن حبيب وحكاه غيره. فنهيته عن هذا ورددته عن إلزامهم البيع لأجل مقتضى عوائدهم. ونبهته على ما أشار إليه ابن حبيب من التعليل الذي بسطناه ها هنا. وقد تكلمنا على حكم بيع المزايدة في كتاب المرابحة، وقسمنا البيع على ثلاثة أقسام بما يغني عن إعادتها هنا. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا تقرر منع السوم مع ركون البائع إلى السائم الأول، فإنه لا يفترق حكم السائم الأول في أن يكون مسلمًا أو ذميًا. إلى هذا ذهب بعض فقهاء الأمصار. وذهب الأوزاعي إلى أنه يجوز ذلك إذا كان السائم الأول ذميًا. وقصر النهي على كون السائم الأول مسلمًا اغترارًا منه بقوله في الحديث "لا بسم أحدكم على سوم أخيه" فالمراد أُخوة الدين. واليهودي والنصراني ليسا بأخوين للمسلم في الدين. ولم ير الفقهاء أن المراد بذكر الأخ ها هنا اشتراط الدين، وإنما هو تنبيه على تأكد قبح الضرر بين أخوين، كما يقبح ذلك بييت أخوين في

النسب، فذكر ها هنا تهجينًا لهذا الفعل وتقبيحًا له، وقد تقرّر في الشرع أن الحكم بين ذمي ومسلم كالحكم بين مسلميْن. وتقرر أيضًا في الشرع المنع من ضرر المسلم للذمي. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: إذا وضح أحكام دخول سوم على سوم مع حصول التراكن، فإن وقع البيع على هذا من السائم الثاني فقال مالك: يستغفر الله هذا السائم الثاني ويعرضها على السائم الأول، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك. وإلى هذا أشار ابن القاسم فقال: إن البيع لا يفسخ ويؤدب فاعل هذا. وقال غيره: يفسخ. فإن قلنا بأن لا يفسخ العقد وأمرنا المشتري أن يعرضها على السائم الأول، وكان قد أنفق فيها نفقة، فإن كانت النفقة زادت فيها عرضها على الأول بالثمن الذي بذل فيها، وبما أنفق فيها. وإن نقصتها النفقة عرضها بالثمن الأول خاصة. والخلاف الذي ذكرناه ها هنا في فسخ هذا البيع قد تقدم توجيهه في التلقي وبيع حاضر لباد. قال القاضي رضي الله عنه: ومنه بيع النجَش. وهو أن يزيد التاجر في ثمن السلعة ليغر غيره لا لحاجة منه إليها. قال الشيخ رضي الله عنه: قد تقدم كلامنا على النجش فيما سلف، وأشرنا إليه ها هنا لكونه مما اشتمل عليه وعلى غيره حديث واحد، تكلمنا على جميع فصوله لكون المعنى فيها واحدًا كما نبهنا عليه. فقال أهل اللغة: النجش الإثارة، ومنه سمي الصائد ناجشًا لكونه يثير الصيد بما يفعله من التحيل على إثارته ليحصل في يديه، فكذلك الناجش هو الذي يزيد في سلعة ليقتدي به غيره، فكأنه يثير رغبة رجل في شرائها بالزيادة فيها. وهذا قد تقدم ذكر الخلاف في فسخ هذا البيع إذا وقع، وأن المشهور في المذهب أنه لا يفسخ، لكونه كالتدليس، كبيع التصرية. وحكى القزويني عن مالك أن البيع مفسوخ للنهي الوارد عن النجش، والنهي يدل على فساد المنهي عنه .. وهكذا قال ابن الجهم: إن الشافعي قال: إنه عاص والبيع نافذ. ورد عليه أيضًا يكون النهي يدل على فساد المنهي عنه لقوله عليه السلام: (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو

رد) (¬1). وكون النهي خارجًا عن معنى في البيع لا يمنع من فسخ العقد كالنكاح في العدة والإحرام. إلى هذا أشار القزويني وابن الجهم. فإذا قلنا بأنه لا يفسخ، فلأنّ المشتري بالخيار، إذا كان الناجش سأله البائع في أن يزيد ليعرّ به هذا المشتري، بين أن يتمسكَ بالثمن الذي بذل أو يفسخه ويرد السلعة على بائعها إن كانت قائمة، أو قيمتها، إن فاتت، بدل عيْنها. وذكر ابن حبيب أن للمشتري هذا الخيار إذا كان الذي زاد، ليَغُرّه، من ناحية البائع كعبده وولده، وإن لم يكن البائع أمر بذلك. وكأنه رأى أن من كان من ناحية البائع لا يصدق البائع في أنه لم يأمره. وأما إن كان أجنبيًا ليس من ناحية البائع، فالبيع لازم للمشتري، وقد باء بالإثم هذا الذي زاد ليغر غيره، والبائعْ لا إثم عليه لكونه لم يأمر بهذا، والمشتري قد رضي به بالثمن؛ ولو شاء لتثبت واستشار من يعرف القيمة ووجه الصلاح في الشراء. ولو كان التغرير بالزيادة من جهة البائع لكان للمشتري مقال في رد البيع، مثل أن يقول البائع للمشتري: اشتريت هذه السلعة بمائة، فاغتر المشتري بقوله، ثم ثبت بالبينة أو الإقرار أن البائع إنما اشتراها بتسعين، فإن المشتري لا يلزمه ما بذله لكون البائع غره في هذا. وتغريره يوجب كون المشتري مستحقًا لرد سلعته عليه إذا شاء. ولا يقتصر في هذا على قول البائع الأول: أنما بعتها منه بتسعين، لأن المشتري صدقه فيما قال، ولو شاء لتثبت حتى يعلم صدقه أو كذبه. وقد روي في الحديث "غُبن المسترشد ظلم" (¬2). وذلك بأن يشتري المشتري أمة بقول البائع: إن قيمتها كذا أو بعتها بكذا، فإن هذا لا يحل فمه الغبن ولا يختلف فيه. وإنما اختلف في الغبن الفاحش إذا لم يقع فيه من المشتري استرشاد واستسلام للبائع. وذكر ابن حبيب أنه لا خيار للمغبون، ولو كان الغبن كثيرًا، إذا لم يسترشد ويستسلم المشتري للبائع. وقد تقدم كلامنا على هذا الفصل في موضعه. ¬

_ (¬1) اللؤلؤ والمرجان حد: 1120. (¬2) فيض القدير: 3/ 575، 5757.

ومما يلحق بهذا النوع: البائع يقول للمشتري: إني اشتريت السلعة بمائة، وصدق فيها, لكنه اشتراها من مدة طويلة يتغير في مثلها السوق، فإن هذا أيضًا مما لا يجوز للبائع لكونه قد غرّ المشتري بهذا القول. وإنما يجوز له هذا إذا صدق فيما قال، وكان الشراء مُنْذ زمن قريب. ومما يلحق بهذا أيضًا ما سئل عنه مالك في ثلاثة أشراك في سلعة أرادوا التفاصل فيها، فقال واحد منهم للآخر: اخرج منها إذا وقعت المقاولة ليقتدي بك الثالث فيخرج منها، وتخلص لي، فتكون بيني وبينك نصفين. فنهى مالك عن هذا، ورأى أن هذا تغرير وتدليس على الثالث الذي تواطآ عليه، فصار في معنى النجش. ورأى أصبغ وابن حبيب أن هذا لا حرج فيه، بخلاف النجش، لأن قصارى ما في هذا سكوت أحد المتواطئيْن عن الزيادة وامتناعه منها ليبيع الثالث الذي لم يواطِئْهما برخص (¬1). ومن سكت عن المزايدة ليسترخص المبيع فليس بناجش. ومما يلحق بهذا أن المزيد لشراء سلعة لا يسوغ له أن يسأل الجماعة الذين يشترونها ألا يُزَايِدوهُ فيها، وأن هذا إضرار ببائعها، والضرر لا يحل. لكن لو سأل رجلًا واحدًا لساغ ذلك له، لكون الضرر بالواحد لا يحصل. وإنما يجوز سؤاله لواحد على أن يترك ذلك تفضلًا. وأما لو قال له: لا تزد عليّ ولك نصفها، فإن هذه دلسة لا تجوز، كما حكينا عن مالك في مسألة الإشْراك لثلاثة في السلعة، وأن أحدهم إنما ترك الزيادة ليشارك في السلعة، فصار ذلك كالدلسة على الشريك. ومما يلحق بهذا مدح السلعة وذمها، فإن ذلك ربما أوقع في المدلسة، ويؤثم فاعله، ولكنه لا يوجب للمشتري مقالًا في فسخ البيع؛ لأن هذا ليس بنفس المدلسة، وإنما يخاف أن يقع فيها. وكذلك اليمين في عقد البيع فإنه منهي عنه. وروي أنه يمحق البركة. وذكر ابن حبيب استحباب الترخيص في البيع ¬

_ (¬1) ساقطة في -و-.

والشراء والمسامحة وحسن الاقتضاء للثمن؛ فإنه وردت بذلك الآثار. وذكر أيضًا ورود الأثر بأن السوم إنما يكون من البائع. وقد ذكرنا نحن في كتاب المعلم ما قاله بعض أهل العلم في قوله عليه السلام لبني النجار لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبني مسجدهم: ثامنوني في حائطكم (¬1). واستدلاله بهذا على من يكون السوم منه (¬2). قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: وبيع الثمار على رؤوس النخل جائز. وإن استُثْنِيَ بعضها فعلى وجهين: إن كان جزافًا جاز على الإطلاق في القليل والكثير، وإن كان كيلًا جاز في الثلث فدونه. واستثناء الجلد والسّوَاقِطِ في الشاة المبيعة جائز بحيث تقل قيمتها ويخف خطرها, ولا يجوز إذا كان لقيمتها بال. قال الشيخ الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما أقسام الاستثناء؟ 2 - وما الذي يجوز منه أو يمنع في استثناء بعض المنافع؟ 3 - وما الذي يجوز منه أو يمنع في استثناء بعض الرقبة؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: أما الاستثناء، فقد ذكرنا ما قيل فيه من الحدود فيما أمليناه في كتاب الأصول. والغرض ها هنا بيان ما يقع من الاستثناءات في المبيعات. وهو يقع على وجهين: أحدهما استثناء بعض منافع المبيع. والآخر استثناء أجزاء ذات المبيع. والاستثناء لبعض المنافع قد يكون قليلًا وكثيرًا. والاستثناء لبعض أجزاء المبيعات يكون جزءًا شائعًا في الجملة كالقول: أبيعك هذه الشاة إلا ثلثها أو نصفها، وهذه الصبرة إلا ثلثها أو ربعها، أو غير ذلك من أجزائها. ¬

_ (¬1) فتح الباري: 2/ 72. (¬2) المعلم: 1/ 270. فقرة: 226.

ويقع الاستثناء على معيّن من أجزائها. مغيّب كقوله: أبيعك هذه الأمة إلا جنينها. ويقع على جزء معين، كقولك. أبيعك هذه الشاة إلا فخذها وإلا جلدها، أو إلا رأسها وسواقطها. ويقع على جزء غير معين، ولكنه مقدر بكيل أو وزن، كقوله: أبيعك هذه الشاة إلا أربعة أرطال من لحمها، أو أبيعك هذه الصبرة إلا أربعة أقفزة منها. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما استثناء بعض المنافع، فإن كان لكون ما استثني قد خرج عن ملك بائع الرقبة، كمن أكرى داره أو عبده مدة معلومة، ثم باع الرقبة، فإن هذا الاستثناء لهذه المنافع المبيعة إنما يجوز، عند مالك، إذا كان أمد انقضاء أمد الإجارة يقرب، على حسب ما تقدم بيانه فيما سلف من كتابنا هذا في بيع الغائب وغيره. وذلك أن تكون الإجارة في العبد تنقضي بعد اليومن والثلاثة، لأجل ما قدمناه من أنه لا يجوز بيع معين يقبض إلى أجل بعيد، وإنما يجوز إذا شرط قبضه بعد اليومين والثلاثة أو بعد سنة أو أكثر منها، على حسب ما تقدم بياننا لما ذكر العلماء في تقدير ما يجوز استثناؤه من منافع الديار إذا بيعت، وغيرها. ومنع أبو حنيفة بيع ما تقدمت فيه إجارة على الإطلاق. وللشافعي فيه قولان. فمن منعه رأى أن المبيع غير مقدور على تسلميه لمشتريه لتعلق حق من استأجره بعينه ليستوفي منها المنافع التي أكراها، فأشبه بيع ما في يد الغاصب الذي لا يقدر على تسليم ما في يده لمشتريه، ومقتضى البيع في الشرع التسليم. وإذا شرط ألا تسليم للمبيع فسد البيع. وانفصَلَ أصحابنا عن هذا بأن المبيع في الإجارة المنافعُ، وقد كان لمالكِ الرقبةِ أن يبيعها ويُبقي الرقبة لنفسه. وكذلك له أن يبيع الرقبة ويبقي المنفعة لنفسه، أو لمن كان أكراها منه. والمشتري إنما اشترى من المستأجر رقبته، ورقبته على ملك البائع لا يمنع من التصرف فيها بحسب ما يسوغه الشرع له. ولا يقاس هذا على ما في يد الغاصب لأجل أن الغاصب يمنع من الرقبة والمنفعة جميعًا، والمكتري للعبد أو الدار لا يمنع من الرقبة وتصرف المالك فيها بحسب ما أذن له الشرع فيه.

وأما إن كانت المنافع التي استثنى البائع لم يتقدم فيها عقد إجارة، ولكنه باع دابة واستثنى ركوبها، فإن ذلك يجوز عندنا إذا استثنى أمدًا قريبًا، ويمنع إذا استثنى أمدًا بعيدًا. ومن الناس من ذهب إلى جواز هذا الاستثناء على الإطلاق. ومنعه أبو حنيفة والشافعي على الإطلاق .. وسبب هذا الاختلاف تعارض ظواهر الأخبار فقد خرج في الصحيح أنه عليه السلام نهى عن المخابرة والثُّنْيا (¬1) وغير ذلك مما ذكر في هذا الحديث. ونهى أيضًا عن بيع وشرط (¬2). وروي في الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - اشترى من جابر بن عبد الله جمله، واشترط جابر ظهر الجمل إلى المدينة. فلما وصل أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - الثمن والجمل (¬3). فمن يجيز الاستثناء لبعض المنافع يتعلق بظاهر حديثَ جابر. ومن يمنع من ذلك يتعلق بنهيه عن الثنْيا وعن بيع وشرط. وأما مالك فإنه يجيز اشتراط ركوب الدابة إلى أمد قريب، ويمنع ذلك إلى الأمد البعيد، لكون الدابة والعبد يتغيّرَان فيه، فيصير المشتري اشترى ما لم يعلم حقيقته حين يقبضه ويصير إليه، فيكون العقد وقع على غرر فيمنع. وإذا كان الأمر قريبًا فلا غرر فيه، فيجوز حمل حديث النهي عن بيع الثنيا على ثنيا لا تجوز لكونها تتضمن الجهالة بالمبيع. ويحمل حديث جابر على ما لا يتضمن غررًا من الثنيا، فيبنى أحد الحديثين على الآخر، ولا يترك أحدهما للآخر. وقد أشار الطحاوي إلى نصرة من ذهب إلى المنع، بأن المنافع المستثناة لا تخلو من أن يقال: إنها صارت إلى البائع من قِبَل المشتري، وكأن البائعَ باعها مع الرقبة، ثم اشتراها من مشتري الرقبة. أو يقال: إنها باقية على حكم البائع. قال: ولا يصح أن يقال: إنها صارت إلى البائع من جهة المشتري، لأن المشتري لم يملكها قبل العقد، فيكون اشترى الرقبة بها وبما بذل من الثمن. فإذا لم يقدر أنه ¬

_ (¬1) مختصر أبي داود: 5/ 65. حد. 3262. (¬2) البغوي شرح السنة: 8/ 147. الزيلعي: نصب الراية: 4/ 17. (¬3) البخاري: الصحيح: كتاب البيوع؛ باب 34 شراء الدواب والحمير. الفتح: 4/ 320. حد. 2097.

ملكها قبل العقد لم يصح بيعه لها. فمتى قدّر أنه باعها صار كمشتري الرقبة بدنانير وسلعة أخرى لا يملكها، وهذا العقد لا يجوز. قال: ولا يقدر أيضًا أنها باقية على ملك البائع لأن البائع لا يملك ما حدث في المبيع بعد العقد من منافع وهي وقت عقد البيع لم تُخلق فيقدر أن البائع ملكها وأبقاها على ملكه، وإنما هي حين العقد غير مملوكة للبائع لكونها حدثت في ملك المشتري ولا هي مملوكة للمشتري حين العقد لكونه لم يملك الرقبة التي حدثت فيها هذه المنافع. فإذا استحال تصور العقد عليها على الطريقتين جميعًا: أنها مبقاة على ملك البائع أو على أن المشتري اشتراها ثم باعها من البائع، لم يصح العقد، وإنما يصح الاستثناء فيما لولاه لدخل في البيع وهذه المنافع لا يصح أن تدخل في البيع لكون البائع لم يملكها قبل أن تخلق. فلما استحال حقيقة الاستثناء استحال حقيقة هذا العقد (¬1). فإذا تقرر حكم استثناء بعض المنافع، وهي أحد أقسام ما يستثنى فنتكلم على استثناء بعض أجزاء ذات المبيع. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: استثناء بعض أجزاء ذات المبيع فإنه يكون استثناء بعض أجزائه على الشيوع، أو استثناءً لجزءٍ منه معين. فأما الاستثناء لجزء شائع من المبيع، مثل أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه الشاة إلا ثلثها أو أكثر من الثلث أو أقل من الأجزاء التي ذكرناها، فإنه جائز. ولا خلاف في جواز الاستثناء لجزء شائع في الجملة. وقد قال عيسى بن دينار: إن هذا الاستثناء يجوز ولو بيعت هذه الشاة على الاستحياء. وهذا الذي نبه عليه عيسى من حمل الرواية على جواز استثناء جزء من الشاة شائع على الإطلاق، وسوّى بين بيعها للاستبقاء أو للذبح، يفتقر إلى إسناده إلى مسألة أخرى. وذلك أنه قد علم أن ابن القاسم يمنع شراء أرطال لحم يسيرة من شاة، لكون ذلك شراء لحم مغيّب لا يحاط به. وأشهب يكرهه ¬

_ (¬1) الطحاوي: شرح معاني الآثار: باب البيع يشترط فيه شرط ليس منه.4/ 41 - 48.

ابتداء، ويراه إذا وقع ماضيًا، بشرط أن يكون المشتري قد جس الشاة حتى علم مقدار سمنها أو هزالها، فينظر في ذلك الذي قال عيسى: إنه إذا بيعت الشاة على الذبح أنه يجوز استثناء جزء منها شائعًا، هل يكون الحكم ذبحها إذا دعا لذلك البائع أو المشتري، أو يكون الحكم التبقية؟ والذي نص عليه بعض الأشياخ أن الذبح لا يكون إلا بتراضيهما جميعًا، ومن دعا منهما إلى إبقائها حية لتباع عليهما إذا كرها الشركة فإنه يقضى له بذلك. وتوقف بعض الأشياخ في هذا، وترجح (¬1) فيه. فإذا قلنا: ان الحكم أن لا تذبح إلا بالتراضي، صح ما قاله عيسى بن دينار، ولم يقدح فيه بأن يكون شراء لحم مغيب. وإن قلنا: بما ترجح (1) فيه بعض الأشياخ أن الذبح يقضى به لمن دعا إليه، كان فيما قاله تعقب، لأنه يقتضي كون المشتري اشترى ثلاثة أرباع لحم شاة، وهي حية، والبائع اشترى لحم ربعها ابذي استثناه، إذا قلنا إن المستثنى مشترى. واشتراء اللحم المغب منهي عنه كما قدمناه. وإن كان هذا أخفض رتبة من شراء اللحم المغيب، لأن شراء اللحم المغيب لم يقع العقد إلا عليه، وها هنا وقع العقد على شاة حية. وإن كان الحكم عند اختلاف الشريكين فيها أن تذبح، فإنه يجوز أن لا يدعو أحدهما إلى الذبح، ويتراضيا ببقائها حية، ولا يكون ذلك شراء اللحم المغيب ضربة لازب. فيقال على هذا: لا تعقب فيما قاله عيسى على الطريقتين جميعًا، سواء قيل: إن الحكمَ الذبحُ إذا دعا أحدهما إليه، أو الحكم استبقاؤها حية. وهو الذي حكيناه من تنازع الأشياخ في هذا وقع في رواية المتقدمين من أئمتنا ما يشير إلى اختلاف في هذا الأصل. فقد نصوا على أنه من اشترى بدن شاة حية، واشترى آخر رأسها، فإنهما إن اختلفا في ذبحها أو استبقائها، كان القول قول من دعا إلى استبقائها. ويكونان شريكين فيها، هذا بقيمة الرأس، وهذا بقيمة ما سواه من البدن. ولا شك أن هذين المشتركين إنما اشتركا على الذبح، لأن اشتراء أحدهما الرأس يتضمن الذبح إذ لا ينفصل الرأس عنها وهي حية. لكن تُتعَقب الرواية من طريق أخرى، وهي أن هذين المشترين دخل كل واحد ¬

_ (¬1) هكذا. ولعل الصواب: وتردد.

منهما على أنه لا يعلم مبلغ الجزء الذي يكون شريكًا به في هذه الشاة إلا بعد فض وتقويم. وقد منع في أحد القولين جمع سلعتين في البيع لرجلين، لكون كل واحد منهما لا يعلم مقدار ما يستحقه من الثمن الذي باعا به السلعتين. لكن قد يقال في هذا أيضًا. فإن استبقياها حية، والشركة فيها بالقيمة، فقد يتراضيان على خلافه، وإن لم يكن هو الحكم، ويذبحانها، فصارت الشركة على القيمة ليست بضربة لازب. فالجهالة ها هنا ليست بمتعين حصولها. وقد ذكر مطرف عن مالك فيمن اشترى جزورًا وهو مريض، فاستثنى البائع رأسه، فأبقاه المشتري حتى صح، فإن المشتري لا يجبر على نحوه، ويكون عليه عوضه، كما يكون عليه عوض الجلد إذا استثناه البائع. قال: وإن باعه وهو صحيح، فأبقاه المشتري رجاء زيادة السوق فزادت، فإن البائع يكون شريكًا فيه بقيمة الرأس. فأشار بعض المتأخرين إلى إثبات الشركة ها هنا بقيمة الرأس. وهذه الإشارة قد تقتضي أيضًا، فيمن باع شاة واستثنى جلدها فامتنع المشتري من الذبح، أن البائع يكون شريكًا بقيمة الجلد. لكن يقال ها هنا لم يطلق مالك الجواب بالشركة في القسمين، ولكنه أثبت الشركة بقيمة الرأس، إذا أخر المشتري الذبح وكان الشراء، والمبيع صحيح، وإذا كان المبيع مريضًا لم تثبت الشركة. بل أوجب عوض الرأس، وهو ما يعد كالمتنافي. لكن قد يقال: إذا كانت الشاة حين العقد مريضة لا كبير ثمن لها، كما قال في هذه الرواية, ثم صحت فإن ثمنها يرتفع ارتفاعًا كثيرًا لأجل صحتها، حتى يصير الرأس المبيع، وهو مريض، كأنه فاتت عينه وضمنه مشتريه. وبهذا علل في هذه الرواية؛ لأنه قال: إن مشتريها لما أخر الذبح حتى صحت صار ضامنًا لما استثناه البائع. وإذا كانت حين عقد البيع صحيحة ولم يتغير من حالها إلا زيادة السوق وانتقاله، فإن العين المبيعة والمستثناة باقيتان على حالهما لم يتغيرا، فكان من حق كل واحد منهما أن يتمسك بعين ما اشتراه فوجبت الشركة. هذا عندي أقصى ما يقال في هذه الرواية. وقد قال ابن الماجشون، في ثلاثة اشتروا شاة ثم اختلفوا فقال أحدهم:

نذبحها. وقال الآخر: نبيعها. وقال الآخر: نتقاواها (¬1)، فإنهم إن كانوا اشتروها ليأكلوها فإن القول قول من دعا إلى الذبح. وإن كانوا تجارًا أو جزارين فالقول قول من دعا إلى بيعها عليهم ولا تلزم المقاواة لها إلاّ بالتراضي. فأنت ترى كون ابن الماجشون قضى ها هنا بالذبح إذا وقع الشراء عليه، ولم يقض به مالك فيمن اشترى الرأس، على ما حكاه مطرف عنه. فهذا يشير إلى كون المذهب على قولين في هذا، على حسب ما حكيناه من اضطراب الشيوخ فيما ذكره عيسى. فهذا الذي ظهر لي في الروايات مما تستند إليه أقوال الأشياخ. فإذا تقرر حكم الاستثناء بجزء شائع، فإن الاستثناء بجزء معين لا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يكون مغيّبًا كالجنين. والثاني: أن يكون مشاهدًا على الجملة غير مقدّر كالفخذ، أو مقدر كأرطال تستثنى من لحم الشاة. فأما إن كان المستثنى جزءًا متميزًا من الجملة، وهو مغيب كالجنين، فإن ذلك لا يجوز عند مالك وغيره من فقهاء الأمصار. وأجازه ابن حنبل. وذهب الليث أيضًا إلى جوازه على ما سنذكر من مذهبه في ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد احتج مالك في الموطأ على منع هذا البيع المستثنى فيه الجنين بأنه لا يدرى هل الجنين تام أم ناقص، حي أو ميت، ذكر أو أنثى، حسن أو قبيح؟ (¬2) مع كون ذلك ينقص من ثمن الأم. فأشار إلى كون هذا العقد يتضمن غررًا للجهل بحال الجنين، وتجويز أن يخرج على أحد الصفات التي ذكرناها. وهذا التعليل إنما يصح على القول: إن المستثنى مبيع على الجملة، فيكون البائع الذي استثناه مشتريًا له باستثنائه، فيقتضي ذلك كونه اشترى جنينًا لا يعلم صفته، ويقدر أنه باع الأم بمائة دينار وبالجنين الذي استثناه وحقه أن يدخل في المبيع لو لم يستثنه. وأما على القول بأن المستثنى مبقًى، فإن هذا التعليل لا يتضح. لأنه أبقى على ملكه الجنين الذي استثناه، فالجهل بحاله ¬

_ (¬1) تقاوى الشركاء المتاعَ بينهم تزايدوه حتى بلغ غاية ثمنه، فأخذه بعضهم. (¬2) الموطأ: كتاب البيوع: بيع الغرر.

كالجهل ببعض ما يملكه من ماله وخفائه عنه، وذلك لا يرفع ملكه عنه. ولما علم مالك ما في هذا التعليل، أشار إلى طريقة أخرى من التعليل يتصور فيها الغرر عنده، وإن قيل: إن المستثنى مبقى على الملك، فقال: إن هذا الاستثناء يحط من ثمنها (¬1) فكأنه أشار بها إلى أنه وإن قيل: إن الجنين مبقى على ملك بائعه لم يدخل في البيع، فإنه يقتضي إبقاؤه على الملك غررًا في ثمن الأم؛ لأنه وضْع من ثمنها وقيمتها، لأمر لا يدري هل يحصل أم لا يحصل؟ فصار كأنه خاطر في ثمنها. وهذا أيضًا قد يقال فيه بأن هذه المخاطرة لا تعلق لَها بالمشتري، وإنما تتعلق به في تحسين نظره بنفسه فيما باعه، وسوء نظره. فكأنه أمر خارج عن العقد. فهذا منتهى ما يعلل به في منع استثناء الأجنة. فإن وقع البيع فإنه فاسد يجب فسخه. فإن حال سوق الأمة قبل أن يفسخ، فقد فات فسخه، ولزمته الأمة بقيمتها يوم القبض. ويكون الولد له. لأنا وإن قلنا: إن المستثنى مبقى، فإن تبقيته على الملك لا تجوز. فلو ألزمنا المشتري قيمة الأم دون الجنين لكنا أمضينا الفساد الذي كنا نهينا عنه، وكنا كبائع الأم دون جنيها. ولو ولدته الأمّ قبل وجوب القيمة على المشتري وقبضه البائع الذي استثناه لما ولد، فإنا نرده إلى مشتري الأم، ولا يمضي استثناؤه لفساده. وإن فات الولد في يديه بحوالة السوق لزمه بقيمته. وأما إن كان الاستثناء بجزء مقدر بكيل أو وزن، فإنه اختلف قول مالك في ذلك، فروي عنه منع البائع من استثناء أرطال من لحم الشاة التي باع، وإن كانت الأرطال يسيرة. وروي عنه جواز ذلك إذا استثنى أرطالًا يسيرة. فكأنه في رواية المنع قدر أن هذا الاستثناء يقتضي غررًا كنحو ما اقتضاه في استثناء الجنين؛ لأن اللحم المستثنى مغيب عن النظر لا يعلم هل هو سمين أو هزيل؟ فصار البائع لما استثناه كمشتري لحم مغيب. هذا على القول أن المستثنى مشترى. ولو قلنا: إنه مبقى، لكان الغرر ها هنا في جانب المشتري. لأن ¬

_ (¬1) المرجع السابق.

المعروف من المذهب أن هذا الاستثناء يوجب القضاء بذبح الشاة لمن دعا إلى الذبح. وإذا كان الحكم كذلك صار المشتري اشترى ما بعد اللحم المستثنى وهو مغيب. وشراء اللحم المغيب لا يجوز. وكأنه في رواية الإجازة لاستثناء الأرطال اليسيرة قدر أن الغرر في هذا خفيف ليسارة ما استثناه. وكأن ما استثناه أجري عليه حكم الحياة. وشراء شاة حية لا يمنع منه. فإذا كانت الأرطال المستثناة من الشاة كثيرة، فإنه لم يختلف القول في منع هذا البيع وفساده لتضاعف الغرر فيه من وجهين: أحدهما كون اللحم المستثنى مغيبًا، والثاني كون المشتري جاهلًا بمقدار ما يحصل له بعد الاستثناء، ويجوز أن يأتي الاستثناء على سائر لحم الشاة، أو على أكثر لحمها, ولا يبقى له إلا النزر اليسير الذي لا بال له. وهذه المخاطرة الثانية تعدم في استثناء الأرطال اليسيرة. واختلف في تحديد اليسير الذي يجوز استثناؤه ها هنا، فقيل: أربعة أرطال، وقيل: ستة أرطال فما دونها، وقيل: ما تقاصر عن الثلث، وقيل: الثلث في حيز اليسير ها هنا. وقد يقال ها هنا: إن ابن القاسم وافق أشهبَ على جواز بيع الصبرة من طعام واستثناء مكيلة منها هي قدر الثلث. وخالفه في استثناء أرطال من لحم الشاة، فلم يجز ما بلغ الثلث. وهذا إنما يعتذر عنه بأن الغرر في لحم الشاة يدخل من جهة كون اللحم المستثنى مغيبًا، ومن جهة ما يتخوف من كون استثناء الكثير من الأرطال يأتي على أكثرها، وطعام الصبرة مُشاهَد جميعه لا غرر فيه من هذه الجهة. فكان التخاطر فيه أخف من استثناء أرطال كثيرة من لحم الشاة. فلهذا أجاز ابن القاسم استثناء مقدار الثلث من الصبرة ولم يجز ذلك في اللحم. وقد أشار بعض أشياخي إلى إلزام أشهب جواز استثناء الكثير من الأرطال من لحم الشاة، لأجل أنه ذهب إلى أن شراء عشرة أرطال من لحم الشاة لا يفسخ إذا كان المشتري قد حبس (¬1) الشاة وعرف على الجملة سمنها من هزالها. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: جَسّ.

وهذا أيضًا قد يقال فيه: إن الغرر يدخل في الاستثناء من جهة البائع، ومن جهة المشتري، كما بيناه. وها هنا لا يتصور الغرر في مشتري أرطال من لحم شاة من ناحية هزالها من سمنها. وقد أجاز ابن القاسم أن يبيع رطبًا ويستثني البائع منه مقدار الثلث كيلا يأخذه تمرًا. ولا يجوز أن يشتري مكيلة من الرطب على أن يأخذها تمرًا، لكون الشراء معاوضة حقيقيّة يجتنب فيها الغرر، وكون الاستثناء يبقي المستثنى على ملك البائع على قول الأكثر. وكذلك لا يجيز اشتراء أرطال يسيرة من لحم شاة حية، ويجوز أن يستثني البائع لها، من لحمها هذا المقدار، لأجل ما نبهناك عليه. وقد كنا قدمنا رواية مطرف عن مالك في مشتري جزور مريض واستثنى رأسه أو أرطالًا يسيرة من لحمه، فأبقاه حتى صح، أنه لا يقضي عليه بالذبح، ويعطى مثل اللحم الذي استثناه. ولم يوجب الذبح إذا اختلفا فيه. واعتذرنا عن هذا بما يغني عن ذكره ها هنا. وأما استثناء جزء معين منها غير مقدر بكيل ولا وزن، كصوف شاة باعها، فإن ذلك يجوز. ولكن يشترط أن يجزّه البائع بعد اليومين ونحوهما. ولا يجوز اشتراط التأخير أيامًا كثيرة، بخلاف مشتري صوف غنم اشترط تأخير جزازها خمسة عشر يومًا ونحوها، فإن ذلك يجوز له إذا أبقاه ليتكامل نضجه وتعسيله ولم يبقه ليزيده نماء. لأنه إذا باع الشاة واستثنى صوفها على أن يؤخره أيامًا كثيرة فقد صارت الشاة معينة تقبض إلى أجل بعيد. وقد تقدم ذكرنا للمنع من بيع سلعة معينة تقبض إلى أجل بعيد، وذكرنا علّة ذلك في كتاب السلم. وكذلك لو استثنى لبن شاة باعها، فإنما يجوز من ذلك أن يستثني أيامًا يسيرة، بخلاف أن يشتري لبن شاة شهرًا أو أكثر منه، لأجل ما نبهنا عليه من كون مشتري الصوف أو اللبن لم يملك رقبة الشاة ولا عاوض عليها، فيكون كمعين بيع إلى أجل. وأما استثناء جلد الشاة المبيعة في الحضر، فالمشهور من المذهب منعه. وأجازه ابن وهب. وأما استثناؤه إذا بيعت في السفر، فعن مالك روايتان: الجواز، وهو المشهور عنه. والمنع، ذكره الأبهري وغيره. وقال القاضي أبو

محمَّد: إن أصحابنا المحققين يحملون هذا الخلاف على اختلاف حالين، فيمنع في السفر إذا كان للجلد هناك قيمة، ويجوز إذا لم تكن له قيمة. وأشار ابن حبيب إلى منع هذا التأويل الذي قاله القاضي أبو محمَّد، وأجاز استثناء الجلد والأكارع حيث تكون لها قيمة. واعتل بأنه شراء شيء معين فلا يمنع على قوله هذا أن يكون اختلاف قول مالك في استثنائه في السفر يحمل على سفر يكون للجلد فيه قيمة. وإذا قلنا بجواز استثنائه، فإن المشتري للشاة لا يجبر على ذبحها، وإن دعا البائع إلى ذلك لحقّه في أخذ عين الجلد الذي استثناه. والتحقيق عندي يقتضي الجبر على الذبح لتعلق حقه بعين الجلد، كما يجبر المشتري على الذبح إذا استثنى البائع أرطالًا، لتعلق حقه بعين اللحم، كما ذكرناه في المشهور في المذهب. لكن لما استخف أمر الجلد، وكان لا قدر له ولا بال، وذبح الشاة فيه إفساد للمال وبخس في الثمن، غلب أحد الضررين فكان من حق المشتري أن يدفع قيمة الجلد عوضًا ليصون بذلك ماله من إفساده بالذبح. وقال مالك: يقضى لِلْبائع بقيمة الجلد أو شرائه، يعني به مثله. وكأن هذا خارج عن الأصول، لكون العروض إنما يلزم متلفها قيمتها لا مثلها. لكن قد وقع في المذهب القضاء فيها بالأمثال فيما لا قدر له ولا بال. كما قيل: من حرق ثوب إنسان، أنه يرفوه ثم يغرم ما نقص. إلى غير ذلك مما نذكرهُ في مواضعه إن شاء الله تعالى. وإذا تقرر أن الامتناع من الذبح من حق المشتري، وأن البائع لو طلب المثل أو القيمة، قال المشتري: بل يذبح وترْفع الجلد، لكان ذلك من حقه. لأنا إنما عدلنا إلى غرامة العوض لما يلحق المشتري من الضرر بالذبح. فإذا خفّ عليه التزام هذا الضرر عدنا إلى الأصل في أن كل ذي حق أحق بعين ماله. وإذا قضينا بالذبح، إذا دعا إليه المشتري، فإن بعض المتأخرين ذهب إلى أن إجارة الذبح والسلخ تكون على البائع والمشتري بقدر ما يملكه كل واحد منهما من هذه الشاة، لما كانت منفعة الذبح لا يختص بها أحدهما دون الآخر، فوجب أن يشتركا فيها بقدر مالك ل واحد منهما. وينبغي أن يلتفت في هذا الذي ذكرناه

إلى أصل آخر، وهو النظر في المستثنى هل مشترى أو مبقى؟ فإن قلنا: إنه مبقى على ملك البائع، وكان البائع باع ما سواه، وهو اللحم، فإن على البائع السلخ ليتمكن المشتري من أخذ المبيع، كما قيل فيمن باع عمودًا عليه بناء، أو جفن سيف عليه حلية، فإن على البائع أن يزيل ماله من البناء على العمود، وماله من حلية على السيف، ليتمكن المشتري من قبض ما اشتراه. وإن قلنا: إن المستثنى مبقى، وكأن البائع باعها بدنانير وبجلدها، فإن المشتري يقدر بائعًا للجلد وهو ما التصق باللحم، فيختلف على من تكون إزالته، هل عليه أو على البائع منه؛ كما اختلف فيمن باع صوفًا على ظهر غنم، أو ثمرًا في أغصان شجر، هل يكون الجزاز والجذاذُ على البائع أو على المشتري؟ وأما ما أشار إليه من حكينا قوله من الأشياخ: أن الإجارة تكون بقدر قيمة الجلد من قيمة الشاة، فإنه قد اختلف المذهب في الإجارة إذا كان العمل واحدًا في أموال رجال مختلفين والمال مختلف، هل تكون الإجارة على قدر أعمالهم، أو على المساواة؟ فكذلك ما نحن فيه. وأما استثناء عضو معين، كالفخذ أو الذراع، أو غير ذلك من الأجزاء التي لها قدر وبال، فإنه ينبغي أن تجري على الأختلاف في استثناء الأرطال. فإن كان العضو المستثنى فيه أرطال كثير؛ لا يجوز استثناؤُها لحمًا في أصل البيع، فإنه يمنع. وإن كانت قليلة فإنه يجوز. ويختلف في حد القليل على حسب ما قدمنا ذكره. وأما الاستثناء من الصبرة جزءًا شائعا، فإنه يجوز باتفاق، قل الجزء أو كثر، كما قدمناه في استثناء جزء شائع من الشاة. وأما استثناء قيل مقدر منها، فإنه إن زاد مقدار الكيل على ثلث جميعها، منع، لما نبهنا عليه من شدة الغرر في البيع إذا كان المستثنى كثيرًا. وإن كان مقدار ما استثني من الكيل ثلث جميعها فأقل، جاز ذلك. فإن هلكت الصبرة قبل أن يقبض البائع منها ما استثناه، فإن هلاكها منهما جميعًا، يضمن مشتريها ما زاد على المستثنى، ويضمن البائع المستثنى. فأما

كون المشتري يضمن ما اشتراه، فإنه اشتراها على الجزاف. وبالعقد يضمن الجزاف. ويختلف في اعتبار مضي قدر التمكين والتسليم. وهذا إذا تمكن المشتري من أخذ ما سوى المكيل الذي استثناه البائع فإنه يتحقق الضمان عليه. وأما كون البائع لا يرجع على المشتري فيما استثناه منها، فإنه يصح على القول بأن المستثنى مبقى على ملك البائع. وأما على القول بأن المستثنى مشترى، وكأن البائع باع جميع الصبرة بدنانير وبمكيلة منها، فإنه يسبق إلى النفس أن المشتري يكون ضمان المستثنى منه لكونه قد باعه. ولكن هذا يسبق منه إلى النفس أيضًا فساد البيع لما يتصور فيه من كون العقد وقع على بيع طعام بطعام وذهب، وذلك ممنوع. وقد جعله بعض الناس حجة على من أجاز هذا الاستثناء وزعم أن المستثنى مشترى. لكن أصبغ ذهب إلى أن المستثنى مشتَرى فيمن باع دارًا واستثنى البائع سكناها سنة، فانهدمت الدار قبل استيفاء السكنى. فقال: يرجع بائع الدار على مشتريها بقيمة ما بطل من السكنى التي استثناها. ينسب ذلك من جميع الصفقة، ويرجع بمقداره من جملتها، كمن باع دارًا بدنانير وعروض فاستحق العرض فإنه يرجع بمقداره فيما باعه عينًا، أو قيمة، على حسب ما تقدم بيانه فيما مضى. وقال ابن القاسم: لا يرجع البائغ على المشتري بقيمة السكنى، لم يشتره (¬1) البائع من مشتري الدار، وإنما أبقاها على ملكه، فلا مرجع له لما ذهب من ملكه على أحد، كما قلناه في ذهاب الصبرة التي استثنى البائع بعضها. وسلم له أصبغ ما قال في الصبرة ولم يخالفه فيها، وإنما خالفه في استثناء منافع دابة أو سكنى دار. وفرق بينهما بأن الصبرة موجودة جميعها حين العقد، فيقدر المشتري قابضًا لما اشتراه. وكذلك يكون البائع كالقابض لما استثناه. وأما منافع الدار والدابة فإنها لم تخلق بعد فيعد مستثنيها قابضًا لها فيكون ضمانها منه، وإنما هي شيء يخلق في ملك البائع، فيقدر ما خلق في ملكه كأنه باعه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. والمعنى: لأنه لم يشترها ...

ممن باع منه الرقبة. وقد كنا نحن أشرنا إلى ما قاله الطحاوي في منع الاستثناء لمنافع الدابة والدار، وإشارته ليس من هذا المعنى. ولو كان المبيع ثمرة أزهت على رؤوس النخل بيعت جزافًا، واستثنى البائع منها مكيلة هي مقدار ثلثها، فإن ذلك يجوز أيضًا ولو اشترط أخذهُ تمرًا، كما قدمناه. فإن هلك جميع الثمرة جرى الحكم فيها على حكم الجوائح، أنها توضع عن المشتري، ويكون الحكم فيها كما قدمناه في الصبرة إلا من جهة وضع الجوائح على حسب ما يوجبه الشرع. ولو ضاع بعض الصبرة المبيعة لكان البائع هو المقدم فيما بقي، حتى يستوفي المكيلة التي استثناها، ويقدر كأنه إنما عقد على نفسه بيع ما سوى المكيلة التي استثناها، فلا يحصل للمشتري شيء إلا بعد تحصيل البائع ما استثناه. وقد قال بعض المتأخرين: هلا وجب أن يكون الباقي بين البائع والمشتري، كما يكون هلاك الجميع منهما، فكذلك ينبغي أن يكون الباقي بينهما على نسبة ما كان لكل واحد منهما؟ والانفصال عما قاله، ما أشرنا إليه من اعتبار المقصود في هذه العقود. وكأنهما تبايعا على أنه ما دام الطعام موجودًا أو بعضه، فإن البائع يقدم حقه فيه على حق المشتري. وأما استثناء بعض الثمرة التي على رؤوس الشجر كيلا، فإن الجائحة إذا وقعت في بعض الثمر، فإن كانت الجائحة يسيرة مما لا يوضع عن المشتري من الثمر شيء لأجلها، فإنها تكون كالصبرة يقدم فيها حق البائع في استيفاء جميع المكيلة مما بقي منها, لكون ما ذهب كأنه لم يذهب إذ لم يوضع له من الثمن شيء. وأما إن ذهب منها ما يوجب للمشتري وضع شيء من الثمن لكونه أكثر من ثلث الثمرة، فإن ابن عبد الحكم روى عن مالك فيها روايتين: إحداهما أن البائع مقدم في استيفاء جميع المكيلة كما قلناه في الصبرة. والرواية الثانية عنه، وهي اختيار ابن عبد الحكم، أن البائع لا يقدم بجميع التسمية التي استثناها، لكون الشرع أثبت ها هنا حكم الوضع عن المشتري فيما طرأ من جائحة. فإذا وضع عنه من الثمن شيء وضع مما استثناه البائع شيء بمقدار ذلك، لأنه كالثمن وكالمشترَى.

ولو باع الصبرة ميت غير استثناء، ثم أراد البائع أن يشتري منها شيئًا قبل أن يفترقا، وتناقدا الثمن، فإن ذلك يمنع منه مخافة أن يكونا عقدا على ذلك وأخرا إظهاره إلى بعد العقد، إلا أن يكون ما أراد أن يشتريه الثلث فأقل، فإن ذلك جائز؛ لأنهما لا يمنعان من هذا لو أظهراه حين العقد ولا يتهمان على كتمانه. ولو كان الاشتراء لبعض الصبرة بعد أن تناقدا الثمن وافترقا، لجاز ذلك على الإطلاق من غير اعتبار بكونه ثلث الصبرة أو أقل أو أكثر، لكون العلاقة التي يوجبها البيع من التناقد والافتراق يرفع التهفة في بياعات النقود، إلا أن يكونا من أهل العينة فيتهمان على ذلك، كما يتهم أهل العينة في بياعات النقود. وعلى هذا الأسلوب في الالتفات إلى التهم جرى الأمر في المذهب على إجراء التهم التي صورناها في بياعات الآجال ها هنا. ولو بيعت الصبرة بثمن إلى أجل، ثم أراد بائعها أن يشتري شيئًا منها، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الذي اشتراه منها قد رجع إليه، فكأن البيع لم يقع عليه، وحصل من أمرهما أن البائع دفع دنانير نقدًا وطعامًا بثمن إلى أجل. ولو اشترى منها شيئًا على المقاصة من الثمن إذا حل الأجل لجاز ذلك. ولو بيعت الصبرة بنقد، ثم اشترى منها شيئًا إلى أجل، لجرى الأمر فيها على ما كنا قدمناه في كتاب بيوع الآجال من اعتبار التهمة إذا كانت البيعة الأولى نقدًا والثانية إلى أجل، والمتبيعان ليسا من أهل العينة. وقد ذكرنا ما وقع في المذهب في هذا النوع من بياعات الآجال بما يغني عن إعادته ها هنا. وقد علم من المذهب أن من باع نخلًا وفيها تمر لم يؤبر، فإنه للمشتري، ولا يجوز أن يستثنيه البائع. ولو وهب صاحب النخل هذه الثمرة قبل الإبار ثم أراد أن يبيع النخل خاصة، فإن ذلك يمنع منه، لأجل أنه يتصور فيه بيع نخل فيها تمر لم يؤبر، استثنى البائع الثمرة، لكون هذا قد تقدم زوال ملكه عن الثمرة بهبته لها فيكون العقد على النخل عقدًا عليها دون ثمرتها التي لم تؤبر وذلك كاستثنائه. ولم يلتفت في هذا إلى كون البائع حين البيع لا قدرة له على إدخالها

في البيع، ولا ملك له عليها، فيقدر أنه استثناها. وقد كنا أشرنا إلى هذه النكتة قبل هذا، لما تكلمنا على بيع عبد أو دار، وقد أكراهما بائعهما قبل أن يحوّل رقابهما. ولو أبو بعض النخل دون بعض لكان الأقل تبعًا للأكثر في حكمه، إذا كان كل واحد منهما متميزًا عن صاحبه. ولو كان هذا مختلطًا لم يجز للبائع استثناؤه لكون استثنائه على العموم يدخل فيه استثناء ما لم يؤبر. وقد ذكر في المدونة حكم بيع لبن شاة أو شياه، فأعلم أن شراء هذه الألبان إما أن يقع على الكيل أو على الجزاف، وفي كلا الوجهين يقع ذلك في عدد قليل كالشاة والشاتين، أو في عدد كثير كالعشرة ونحوها. فأما العقد على لبن شياه كثيرة فإن ذلك يجوز. ويستوي الحكم فيه بين أن يعقد على الجزاف أو على الكيل، ولكن يجب أن يرفع فيه ما يقتضي الوقوع في الغرر والخطر. ولا يعقد ذلك حتى يعلم من حال اللبن ما يكون الجهل به يتضمن غررًا في المبيع، وذلك بأن يشترط، إذا بيعت على الكيل، كيلًا يعلم أن الغنم تقي به، والزمن لا ينقطع فيه اللبن، فبيعه على الكيل يرفع الجهالة بمقدار المبيع، وبيعه على الجزاف يفتقر فيه إلى المعرفة بقدر الحلاب على الجملة لاختلاف أحوال الغنم في غزارة اللبن وقلته. وإذا كان على الكيل علم المشتري مقدار ما اشتراه. وأما إن كانت الشياه قليلة كالشاتين، فالمذهب على قولين: نهى في المدونة عن شراء ذلك على الجزاف. وأجازه في الموازية وذلك اختلاف في شهادة بعادة. فمن أجاز رأى أن الغالب بقاء اللبن علي ما اختبر منه المشتري قبل العقد، وتغيُّرُه نادر لا يلتفت إليه. ومن نهى عنه رأى أن التغيّر في ذلك ربما تكرر تكررًا يوقع الغرر، فنهى عنه، بخلاف أن تكون الشياه التي اشترى لبنها كثيرة، فإن الغرر ها هنا الذي أشرنا إليه يخف، لكون بعضها وإن خف لبنه في بعض الأيام، فإن البعض الآخر ربما غزر لبنه، حتى ينوب هذا عن هذا. ويجري الأمر فيها على ما عرف من ناحية حلابها. وقد أجاز في المدونة أن يكتري بقرة للحرث ويشترط لبنها إذا كان العقد في إبان لبنها. وأشار سحنون إلى إنكار هذا، ونهى عنه لكونه يتضمن

شراء لبن عَدَدٍ يسيرٍ، وقد ذكرنا عن المدونة أنه لا يجوز ذلك. فمن الناس من رأى ذلك اختلاف قول منه في المدونة، ومنهم من اعتذر عن ذلك، ولم يره اختلافًا من القول لكون اللبن ها هنا لم يعقد عليه منفردًا، وإنما عقد عليه تبعًا للمنافع التي اشتريت منها، وهو الحرث بها، والغرر يتصور في الشيء إذا انفرد، ويرتفع منه إذا كان تبعًا لغيره. ألا ترى أن من اكترى دارًا وفيها شجرة لم تَزْهُ فإنه يجوز له اشتراط ثمرتها إذا كانت. الثمرة تبعًا للكراء، ولا يجوز اشتراء ثمرتها قبل الزهو منفردة. فكذلك العذر عن هذه المسألة. لكن أشار ابن أبي زمنين إلى المناقضة من جهة أخرى، فقال: قد اشترط في المدونة فيمن اكترى بقرة للحرث، واشترط لبنها، أن ذلك يجوز إذا عرف وجه حلابها. فإن بناء الجواز فيها على كون اللبن ها هنا تبعًا، فلمّا (¬1) اشترط وجه المعرفة بحلابها واشتراطه ذلك يؤذن بكونه مقصودًا، وكونه مقصودًا يقتضي منع العقد عليه كما لو عقد عليه منفردًا. وهذا الذي قاله ينفصل عنه بأن الغرر إذا كان من جهة يقدر على رفعها من غير مشقة لم يسامح به. ومعرفة قدر حلابها يمكن أن يطلع عليه من غير مشقة، والعدول عن العلم به إلى الجهل به وقوع في الغرر. فكونه ها هنا تبعًا لا يقتضي العفو عن هذا الغرر الذي يقدر على رفعه من غير مشقة. وأما ما يتوقى من تغير اللبن فكذلك أمر لا يقدر على رفعه إذا كان المكتري يتسلم البقرة للحرث عليها على الإطلاق، فإن البائع تلحقه المشقة في الإتيان إليها لحلابها وقتًا بعد وقت، فدعت هذه المشقة إلى العفو عن هذا النوع من الغرر، كما أجيز اشتراط ثمرة شجرة لم تزه في اكتراء الدار إذا كانت الثمرة تبعًا، لما يلحق المكتري من التأذي بدخول صاحب الدار إليه وتكرر ذلك عليه ليجني ثمرته. وقد قدمنا في العرية إشارة إلى تعليلها بهذا المعنى. وقد اختلف المذهب في هذه البقرة التي اكتريت للحرث، واشترط حلابها، هل يحط من الكراء شيء بسبب ما ارتفع من اللبن أو لا؟ فذهب ابن ¬

_ (¬1) في المدنية: فلماذا.

القاسم إلى أنه يحط منه بمقدار ما قابل اللبن من الكراء. وذهب أصبغ إلى أنه لا يحط منه بناء منه على أن الاتباع لا حصة لها من الثمن، كمال العبد إذا اشترط في البيع، والثمرة المؤبرة إذا اشترطها مشتري رقاب النخل. وإذا كان العقد في شراء اللبن علي ما يجوز، واشترى اللبن علي الجزاف فماتت بعض الشياه، فإنه يحط عن المشتري من الثمن مقدار ما قابل لبن الشاة التي ماتت بعد أعتبار قيمة اللبن في أول الإبان وآخره. وينظر في لزوبم العقد فيما بقي منها. فإذا كان الذي بقي منها حيًا هو الأكثر، فأصل المذهب أنه يلزم البيع فيه على ما تقدم بيانه في كتاب الرد بالعيب. وإن كان الذي بقي منها حيًا أقل الصفقة، فها هنا اضطرب المتأخرون. فمنهم من أشار إلى لزوم البيع، بخلاف ذهاب أكثرها بالاستحقاق، أو رده بالعيب لما كان الاستحقاق والردّ بالعيب من سبب البائع، ويتهم البائع في كونه من سببه ومدلسًا به. والموت أثرٌ لا سبب للبائع فيه فلا يكون للمشتري مقال بذهاب أكثر صفقته كجوائح الثمار، لما كان ذهاب ما هلك من الثمرة لا سبب للبائع فيه، وجب ألا يكون لمشتريها مقال فيما سلم منها ولو كان أقلها. ومنهم من مال إلى أن للمشتري مقالًا، واحتج بقوله في المدونة فيمن اكترى دارين فانهدمت إحداهما، وهي وجه الصفقة؛ أن له رد الأخرى. والانهدام لا سبب للبائع فيه. ومقتضى هذا التخريج إثبات حق للمشتري، ورد ما بقي من الثمرة التي طرأت عليها جائحة، وإن كان هو أقل الصفقة. وذكر في المدونة في هذا الكتاب سؤالًا، وهو: من بني رحًى في أرض لغيره يخرقها نهر، فقال: على باني الرحى. قيمة كرائها، وأما الماء فلا كراء له. وقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن: هل هذا السؤال على أن المراد به النهر الخارق لهذه الأرض ليس بملك لصاحب الأرض، بل هو لغيره، فلهذا أسقط من هذا التقويم كراء الماء. وقيل: إن المراد بهذا القول أن الماء لا كراء له إذا انفرد، وأما إذا كان على هذه الصفقة، فإنه تقوّم الأرض على أن هذا النهر يخرقها. وقال بعضهم: إنما يقع التقويم ها هنا على أن سوْق الرحى بهذا الماء على مكتري الرحى لا على المطالب له بالكراء.

وقد ذهب ابن أبي زمنين إلى مناقضة هذه المسألة بمسألة أخرى فقال: قد قال ها هنا: إن الماء لا كراء له. وقال في كتاب الغصب، فيمن غصب بئرًا فسقى بها: إن له حق الماء. فإن كان النهر مملوكًا فلا فرق بين السؤالين. وكره مالك بيع المواجل المحبّسة. وهم سحنون بأن يشق روايا الماء بالقيروان التي كانت تنقل من الماجل المسبل للناس، ثم وقف عن هذا، وقال: إن فيه مرتفقًا للناس. وكان أصحابه لا يشترون الروايا وهي ملأى لئلا يقعوا في كراهية شراء الماء المحبس. ولكنهم يقولون لصاحب الراوية بكم تبيعها؟ فإذا أعلمهم بالثمن وقد فرّغها قالوا له: خذه وانقل لنا ملأها. يقصدون بهذا أن يكون ما دفعوه إجارة لدابته وخدمته فيها واستقاء الماء، فيسلمون من الكراهة، وكأنه في هذا نائب عنهم في استقاء الماء. وهذا تورع منهم، وإلا فإذا كان القصد في شرائها، وهي ملآنة، المُعاوضة عن حمل دوابهم واستقائهم، فإن هذا يعود إلى الأول الذي أجازوه واستخفّوه. وسنبسط الكلام في هذا المعنى في موضعه فيما بعد إن شاء الله تعالى. تم كتاب التجارة بأرض الحرب. والحمد لله.

كتاب الصلح

كتاب الصلح

بسم الله الرحمن الرحيم صلَّى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلَّم تسليمًا كتاب الصلح قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه في كتاب الأقضية: والصلح ضربان: معاوضة كالبيع، فحكمه حكم البيع فيما يجوز فيه ويمتنع. وإسقاط. ويجوز على الإقرار والإنكار، وافتداء اليمين بشيء يبذله من لزمته جائز، وإن علم المبذول له أنه طالب بغير حق لم يجز له أخذه. قال الإِمام أبو عبد الله رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة (¬1) منها أن يقال: 1 - ما الدليل على جواز الصلح على الجملة؟ 2 - وما الدليل على جواز الصلح على الإنكار على الجملة؟ 3 - وما حكم الصلح على العيب مع الإنكار؟ 4 - وما حكم الصلح بين الورثة في التركة؟ 5 - وما حكم أخذ الأشراك في الديون؟ ¬

_ (¬1) المذكور في الشرح اثنا عشر جوابًا. الخمسة. الأولى منها عما أورده هنا من الأسئلة. والبقية لم يذكر أسئلهّ لها والسؤال الخامس أجاب عنه في السادس.

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:. الصلح على قسمين: صلح على إقرار، مثل أن يدعي رجل على رجل آخر بدار في يديه، أو يدعي بدين له عليه، فيقر المدعى عليه بصحة دعوى المدعي ثم يتفقان على معاوضة عن هذا الذي ادعاه المدعي، فهذا لا خلاف في جوازه. وينظر فيما يجوز منه وما لا يجوز مما تقدم في أحكام البيوع الفاسدة والبيوع الصحيحة. وهو بيع على الحقيقة، وإنما خص بهذه التسمية لكون العوضين في يد أحد الرجلين فالدار المدعى فيها في يد المدعى عليه، والذي يبذله عنها حتى يسلمها له المدعي في يديه أيضًا. وغالب البياعات مناولة يد ليد أخرى سلعة عن سلعة من الطرفين جميعًا. والقسم الثاني: الصلح على الإنكار، وهو أن يدعي رجل على رجل في يديه دار أنها له، وينكر ذلك من في يده الدار، أو يدعي بدين عليه فينكر ذلك المدعى عليه. والأصل في جواز الصلح على الجملة -قبل النظر في هذا التفصيل والتقسيم- الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {لَا خَيْرَ في كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (¬1) ... الآية فتضمنت الحض على الإصلاح والوعد عليه بالأجر العظيم. وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} (¬2) الآية. فأمر بالإصلاح في القتال. وقال تعالى في الفروج أيضًا: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (¬3) ¬

_ (¬1) النساء: 114. (¬2) الحجرات: 9. (¬3) النساء: 128.

وقال تعالى في الحكمين: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَا} (¬1). وطلب كعب بن مالك من أبي حدرد، في حق له عليه، وارتفعت أصواتهما عند باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إليهما وقال: ضع الشطر (¬2). وهذا نوع من الصلح. وخرج - صلى الله عليه وسلم - لبني عوف ليصلح بينهم (¬3). وأبين من هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلح جائز بين المسلمين، الأصلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا" (¬4). فأما تحليل الصلح فتبيين أمثلته: كمن صالح على دار ادعاها بخمر أو خنزير، أو غير ذلك مما لا تجوز المعاوضة به. وأما قوله: أو حرم حلالًا، فمثاله: أن يصالح عن هذا الدار -التي ادعى فيها- على أمة يشترط أن لا يطأها، أو ثوب يشترط أن لا يلبسه أو لا يبيعه، إلى غير ذلك من وجوه التحجير مع ما يدخل في هذا المعنى من تحريم المحلّل .. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلف الناس في الصلح على الإنكار، فأجازه مالك وأبو حنيفة، ومنع منه الشافعي. ونحن نوضح لك المعنى الذي أدى لهذا الاختلاف بعد أن تقدم لك مقدمة، عليها يعرض النظر في هذه المسألة. فاعلم: أن إضاعة المال قد تقرر في الشرع المنع منها. كما تقرر أن حقيقة البيع نقل الملك بعوض. وأن الملك إنما ينتقل عن مالكه بأحد أمرين: إما عطية، وهو بذله بغير عوض لغرض صحيح، وهو طلب الأجر إن قصد الصدقة، أو المجازاة من الموهوب له بعوض آخر، أو بغرض صحيح ببذل المال له. أو ينتقل الملك عن معاوضة وهي التي تسمى بيعًا. والصلح على الإنكار لا يتصور فيه حقيقة الهبة لأنهما لم يقصدا إليها، وإنما قصدا إلى المعاوضة لعوض بعوض. فإذا امتنعت الهبة ها هنا تقديرًا لأجل ¬

_ (¬1) النساء: 35. (¬2) فتح الباري. 6/ 239. (¬3) فتح الباري. 6/ 225. وفيه؛ بنو عمر وبن عوف. (¬4) الترمذي. 3/ 27. حد. 1352.

كونهما لم يقصدا إليها، واستحال البيع لكون من ادُعِي عليه في دار فأنكر، وصالح على عبد دفعه، فإن العبد لا يقابل الدار، لكون الدار والعبد جميعًا ملكًا لحائز الدار وباذل العبد، وهو لم يبذل العبد هبة فيجوز ذلك، ولا بذله عن معاوضة عوض بعوض آخر وأعطى فتصح المقابلة التي يتصور فيها حقيقة البيع. فإذا استحال تصور الهبة والبيع استحال انتقال الملك واستحالة انتقال الملك ها هنا تتضمن استحالة الصلح على الإنكار. ولكن هذه الاستحالة في تقدير المعاوضة. والمقابلة إذا كانت من الطرفينا جميعًا واستحالت من جهة كل واحد من المتعاقدين فلا خفاء بامتناع هذا العقد وبطلانه، كمن باع ولده الحر بولد رجل آخر حر. فإن استحالت من أحد الطرفين دون الآخر فها هنا يقع النظر. فواضح أن الذي في يده الدار وادُعي عليه فيها فأنكر الدعوى، ثم صالح عليها بعبد دفعه للمدعي، أن هذا من جهة المدعَى عليه في الدار لا يتصور فيه حقيقة البيع والمعاوضة، بأن يكون اشترى مالًا بعبد، ولكنها تتصور من الطرف الآخر، وهو جانب المدعي، والمدعي يعتقد أن الدار ملك له، وأن ملكه نقله عنها بعبد أخذه ممن في يده الدار. فهل يقدم ها هنا حكم الاستحالة على حكم الجواز، ويصير هذا العقد كالمستحيل من الطرفين فيبطل، أو يغلب حكنم الجواز على حكم الاستحالة فيجوز ذلك، ويصح العقد، كما يصح إذا كان جائزًا من الطرفين جميعًا؟ فمقتضى هذا منع الصلح على الإنكار في حق من غلب جانب الاستحالة على جانب الجواز، وجواز الصلح على الإنكار في حق من غلب جانب الجواز على جانب الاستحالة. وقد ناقض المغلبون لجانب الجواز على جانب الاستحالة المجيزون للصلح على الإنكار أصحابَ الشافعي المغلبين حكم الاستحالة على حكم الجواز بموافقتهم على أن من شهد على رجل أنه أعتق عبده ثم اشتراه منه، أن الشراء لا يبطل، وأنه يعتق علىْ مشتريه، مع كون هذه المعاوضة تستحيل من جهة المشتري الشاهد بالعتق، وَتَجوز من البائع المنكر للعتق. فكون هذا العقد لا يبطل ولا يفسخ يدل على أن الأصل تغليب الجواز على الاستحالة. وهذا يجيب عنه أصحاب الشافعي بأن هذه الموافقة على هذه المسألة ما

صاروا إليها لأجل تغليب الجواز، وهو مقتضى قول المشهود عليه: إني لم أعتق. فيبقى جَائزًا، ولكن بمقتضى أنه حائز لعبده، والعبد تحت يده، واليد دليل الملك. وشهادة الشاهد عليه قد أسقطها الشرع واطرحها وأثبت حكم يده، فكان ما أثبته الشرع أوْلى بأن يرجح على ما أسقطه واطّرحه. ولو شهد رجل آخر أنه أعتق عبده، وشهد المشهود عليه على الشاهد بأنه أعتق عبده، وكل مالك لعبده ينكر العتق، ثم تبايعا أحد العبدين بالآخر، فإنه لا يصح في جانب أحد هذين المتبايعين دعوى الجواز، بل كل واحد منهما يدعي المنع من المعاوضة التي فعلاها، ثم مع هذا تثبت المعاوضة، ثم يؤخذ كل واحد منهما بعد صحة العقد بمقتضى ما زعم من كون العبد لا يصح أن يملك. فالقضاء، ها هنا، بإمضاء العقد لجهة إسقاط الشرع قول الشاهد، وما أسقطه فهو كالعدم. وقد اشترط بعض أصحاب مالك أن المشتري الذي شهد بالعتق لا يلزمه العتق إلا إذا تمادى على صدقه فيما شهد بة بعد أن ملك العبد بالشراء. وقدَّر أن قوله قبل أن يملكه لما اطرحه الشرع فكأنه لم يقله. وعلى هذا المذهب يتضح هذا التعليل الذي ذكرناه من اعتبار القول الذي رجحه الشرع دون القول الذي اطّرحه. وقد قال بعض الناس في الاعتذار عن إمضاء هذه المعاوضة، بأن الذي يبذله الشاهد بالعتق إنما هو كالفداء للحر من يد من يسترقه. وهذا الاعتذار يتصور لو أعتقه المشتري وعلم أنه يعتق عليه وأن شراءه لا ينعقد فيه، فيصير ما بذله كالفداء للحر. وأما إن لم يكن الأمر كذلك فإنه لا يتحقق فيه معنى الفداء على الحقيقة. وإطلاق القول بأن جانب الجواز يغلب على جانب الاستحالة من غير ترجيح لا يصح لأنه يقتضي جواز معاملة الذمي بما يجوز في شرعه ولا يجوز في شرعنا تغليبًا لحكم الجواز. وهذا لم يقله أحد. وقد ناقض هذه الطريقة وهي ترجيح جانب الجائز بعض أصحاب أبي حنيفة بأن الحائز حجته حوزه ويده. وقوله في الشرع مستغنى عنه، لأن الحوز يكفيه، وقول المدعي ينبغي أن يحمل على الصدق، لأن المسلم إذا أخبر بخبر

ظن به الصدق، ما لمْ يعارضه خبر آخر، وهو قول المدعى عليه، والمدعي مُبطِل قولي مستغنى عنه طرحه الشرع في كونه حجة له، فلا يعارض به قول المدعي المحمول على الصدق، فيجب أن يرجح جانب المدعي في إجازة الصلح على الإنكار. وهذا الذي أشار إليه يلاحظ ما قاله أصحاب مالك: إن الحائز إذا أقام بينة على أن ما في يديه ملكه، وأقام المدعى عليه بينة أنه ملكه، فإن بينة المدعي تسمع، لأن بينة المدعَى عليه مستغنى عّنها في الشرع بالحوز، فلا تعارض بينة المدعي الذي طالبه الشرع بها. وإنما ذكرنا هذا لكونه يلاحظ بعض ما قاله أصحابنا، لا على أنا نعتمد عليه في جواز الصلح على الإنكار. وقد يستدل أيضًا من منع الصلح على الإنكار وجعله معاوضة عن دفع الشر والأذى بالخصام، فإن ذلك يمنع منبما كما يمنع من أخذ الرشوة على ترك السعاية لرجل مسلم إلى السلطان، أو صرف الأذى عنه، لأن بذل المال، على الكف عما يوجب الشرع أن يكف عنه أو على فعل ما يوجب الشرع فعله، لا يجوز. فكذلك الصلح على الإنكار هو بذل مال على الكف عن دعوى المدني للباطل والتحصن من ضرره وأذاه. وهذا ينفصل عنه بأن الصلح على الإنكار معاوضة جائزة في حق المدعي في نفسه، وليست معاوضة في حق المدعى عليه، فآخذ المال يعتقد أنه ما أخذه إلا على وجه جائز، وهو دفع العوض عنه من دار ادعاها أو دين ادعى به. وآخذ الرشوة يعتقد أنه أخذها على ما لا يحل له فمنع من الأخذ على مقتضى قوله، ولم يمنع في صلح الإنكار؛ لأن الذي أخذه جائز له أخذه على قوله. وقد احتج على أصحاب الشافعي بأن المعاوضة في الصلح على الإنكار أن يسلم لهم أنها لا تنصرف إلى معاوضة. مال بمال، فإنها تنصرف إلى شراء يمين ودفع خصام. ومن المصلحة للإنسان أن يفتدي بماله من ضرر يلحقه. ولهذا افتدى عثمان وحذيفة بن اليمان مين يمين وجبت عليهما، وما ذلك إلا

لأن المال أعد للمصالح، ومن المصالح للإنسان بذله في أن يدفع عن نفسه ضررًا به. وقد قال الله تعالى: {صُلْحًا وَالصُّلْحُ} (¬1) وعموم هذا يقتضي جواز الصلح على الإنكار كإسقاط الحقوق والإبراء منها. ويجيبون هم عن هذا، بأن الإبراء إذا لم يكن عن معاوضة فهو مما ينفرد به صاحب الحق، ولا يقف جوازه وفعله على اعتبار جانب مَن عليه الحق. والصلح على الإنكار، وإن قذر كالإبراء والإسقاط، فإنه لم يقع إلا عن معاوضة، والمعاوضة لا تكون إلا من الجانبين جميعًا، وحقيقة المعاوضة تستحيل كما تقدم بيانه، وذكرُ ما قالوا في استحالتها. وقد نوقض أصحاب الشافعي أيضًا بجواز خلع المرأة زوجها على مال، وما يأخذه الزوج ليس يبذل عنه عوضًا ماليًا ليحصل للمرأة. وهم يجيبون عن هذا بأن المعاوضة على إسقاط الحق لا يطلق القول بجوازها عمومًا، لكن في مواضع دل عليها الدليل، ومن الحكمة والمصلحة أن يباح للمرأة بذل مال للتخلص ببذله من ضرر الزوج، وهو عشرفه التي تؤدي إلى سقمها وهلاكها، فلهذا جازت المعاوضة فيه على الإسقاط، ولا توجد مثل هذه الضرورة في الصلح على الإنكار. وهذا ينتقض عليهم تعليلهم فيه بجواز بذل رجل أجنبي لرجل مالًا على أن يخلع زوجته من عصمته، مع كون هذا الباذل للمال لا ضرر يلحقه من بقاء الزوجة في عصمة الزوج، ثم مع هذا أجيز له بذل المال على إسقاط حق، فكذلك يجوز بذل المال للمدعَى عليه على إسقاط الطالب حقه في دعواه عليه. ومن أهم ما يناقَضون به جواز صلح المتوسط، فإن الشافعي أطلق القول بجواز بذل رجل مالًا ليسقط رجل دعواه في مال على رجل آخر. وهذه معاوضة على الإسقاط للحقوق، فإذا جازت منْ أجنبي فجوازها من المطلوب بالدعوى أولى. وأصحاب الشافعي لا يسلمون أن مذهبه جواز صلح المتوسط على ¬

_ (¬1) النساء: 128.

الإطلاق، ولكن يقولون: إن صلحه في دعواه الأعيان لا يجوز، وإنما يجوز في دعواه الديون، بشرط أن يكون هذا المتوسط يقرّ بأن الصدق في جانب المدعي، وأن المدعى عليه أقر عنده سرًا بالحق أو وكله على ما فعل، فتصير المعاوضة من هذا المتوسط كأنها وقعت على بذل مال عوض مال. ودُفِعوا عن هذا الفرق بين صلح المتوسط وصلح المدعى عليه وهو منكر، بأن المتوسط إقراره لا يتوجه على المدعى عليه، ولا يلزمه منه شيء، فأخذ المال من المتوسط لم يبذل عنه عوضًا ثبت ملكه له ولا وجب استحقاقه له، فوجب أن يمنع من المتوسط كما يمنع من المدعى عليه المنكر للدعوى. ومما ينبني على النظر في صرف الصلح على الإنكار أن المدعي المعاوضة عن الدعى فيه، أو المعاوضة على إسقاط الطلب باليمين والخصام، وقوع الصلح على الإنكار بشقص من دار. فقد اختلف هل فيه الشفعة أم لا؟ فقال أصبغ: لا شفعة فيه، لأن البذل في الصلح على الإنكار كالهبة من المدعى عليه للمدعي. واستدل على هذا بأن الصلح إذا وقع على وجه حرام فإنه لا ينقض. واستند في هذا أن علي بن أبي طالب رفع إليه صلح على حرام فقال: لولا أنه صلح لنقضته. والمشهور من المذهب عندنا أن الصلح على الحرام ينتقض قرب زمن الصلح أو بعد. وإنما الذي لا ينقض إذا بعُد زمن الصلح الصلحُ على مكروه. واختلف مطرف وابن الماجشون في نقض الصلح على مكروه، إذا نظر بَحدْثان الصلح. وقد قيل: إن الصلح بشقص من دار فيه الشفعة، وإن وقع الصلح على الإنكار. ويُستشْفَع الشقصُ بقيمة المدعى فيه. وأنكر بعض الأشياخ هذا، ورأى أن الأولى الصلح بقيمة الشقص، كما تكون الشفعة بقيمته إذا عقد به نكاح. ورأى بعضهم أن الشفعة تكون بالأقل من قيمته أو قيمة المدعى فيه. وسنبسط هذا في كتاب الشفعة إن شاء الله. وإنما أوردنا ها هنا الخلاف في الشفعة في الصلح على الإنكار، لأنا قدمنا ما قاله النظار في صرف المعاوضة في

الصلح على الإنكار إلى المعاوضة عن نفس المدعى فيه أوجب الشفعة بقيمة المدعى فيه. وهو أحد القولين. ومن صرفه إلى الافتداء من اليمين لم يوجب الشفعة على ما سيبسط القول فيه في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: أمّا صلح المشتري عن عيب يطّلع عليه بالمبيع قبل أن ينفسخ العقد بالرّدّ بالعيب، فإنّه قد ذكر في المدوّنة، فيمن اشترى عبدًا بدنانير، فاطّلع على عيب، فصالحه البائع، على أن لا يقوم به، بشيء دفعه. وذكر حكم أنواع مِمّا يدفعه البائع في الصّلح عن هذا. ونحن نبدأ قبل ذكر أحكام هذه الأنواع بالتّنبيه على ما تستند إليه فروع هذه المسألة. فاعلم: أن أصل ابن القاسم في هذا الأخذ بالأحوط، وصرف الصلح عن هذا العيب الّذي ذكرناه في المدوّنة إلى كونه استئناف مبايعة ثانية، بعد تقدير كون الأولى قد انفسخت. فيعتبر ما يحلّ ويحرم في هذه المعاملة الثانية. وتعرض هذا على ما تقدّم في كتاب البيوع، من تحريم ما يوقع في ربا أو بيع وسلف أو فسخ دين في دين. وأصل أشهب أن هذه المعاملة الثّانية، وهو الصّلح، ليس بفسخ العقد الأوّل تحقيقًا ولا تقديرًا، وإنّما هو معاوضة عن ترك منازعة وإسقاط حقّ في أن لا يقام بعيب. فيعتبر ما يجوز أخذه عوضًا عن إسقاط هذه المطالبة بالرّدّ، غير ملتفت إلى تقدير كون هذه المعاملة الثّانية استئنافًا لعقد بعد فسخ الأوّل. وقد كنّا قدّمنا نحن ما يلاحظ هذه الإشارة لما ذكرنا اختلاف فقهاء الأمصار على جواز الصلح على الإنكار، وأن منهم من أحاله ومنع منه لكون المعاوضة إنّما تقع على عين المدّعى فيه، والمعاوضة عنه تستحيل في حقّ المدّعى عليه، فيجب أن يستحيل في حقّ المدّعي. وأنّ منهم من أجاز الصّلح على الإنكار وغلّب جانب المدّعي في تصوّر المعاوضة منه على جانب المدّعى عليه. وأنّهم عضدوا ذلك بأنّه قد ينصرف الصّلح إلى إسقاط يمين وجبت على

المدّعى عليه وإسقاط خصام. وكذلك يصرف أشهب ما يفرعه من هذه المسألة في الصّلح عن العيب إلى كونه معاوضة عن إسقاط حقّ في الرّدّ بالعيب. ويصرفه ابن القاسم إلى معاوضة مستأنفة عن العبد. ومِمّا قد يلاحظ أيضًا (¬1) هذه المسألة اختلاف أهل المذهب في فروع كثيرة بني اختلافهم على النّظر فيمن خيّر بين شيئين، هل يقدّر أنّه مالك لما قدَر أن يختاره أم لا؟ والمشتري لهذا العبد المعيب ملك أن يتمسّك به وملك أن يردّه. فهل يقدر أنّه مالك لردّه قبل أن يختار ذلك، فيكون الصّلح على ما ملك في هذه العين. أو لا يكون مالكًا إلاَّ لما اختار وهو التمسّك بالعبد؟ فإذا تقرّر هذا، عدنا إلى مسألة المدوّنة التي مثل بها هذا الأصل. فنقول: لا يخلو الصلح عن العيب من أن يقع بعد أن دفع المشتري الثّمن للبائع أو قبل أن يدفعه. وكلّ واحد من هذين القسمين لا يخلو الصلح فيه من أن يكون بعوض معجّل أو بعوض مؤجّل، وقد فات المبيع أو لم يفت. فإمّا إذا كان هذا العبد اشتراه مشتريه بمائة دينار، مثلًا واطّلع على عيب وقد دفع المائة دينار، فإنّه يجوز أن يصالحه البائع على هذا العبد لئلاّ يردّه عليه بالعيب، بكلّ شيء يدفعه البائع معجّلًا، سوى أن يدفع ذهبًا من غير سكّة الثّمن أو يدفع دراهم كثيرة، فإنّه على أصل ابن القاسم يقدّر كأن المشتري ردّ العبد بالعيب، ووجب له على بائع العبد ارتجاع المائة دينار منه. فإذا أخذ من البائع عرضًا أو طعامًا، صار ذلك كأنّه دفع عن مائة دينار وجب عليه ردّها، العبدَ وما دفر في الصلح عن العيب من عرض أو طعام. ومن عليه مائة دينار دَيْنًا لرجل فدفع إليه عنها عبدًا وطعامًا أو عبدًا وعرضًا، لم يمنع ذلك على الإطلاق. لكن إذا دفع إليه في الصلح دنانير من غير سكّة الدّنانير التّي هي ثمن العبد، صار كأنّه أعطاه العبد وعشرة دنانير من سكّة، عوضًا عن مائة دينار وجب عليه أن يردّها للمشتري، وشراء مائة دينار عليه من سكة بعبد ودنانير لا يجوز، كما تقدّم بيانه في كتاب الصّرف. وإذا صالحه على دراهم كثيرة هي أكثر من صرف دينار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الأولى: على هذه المسألة.

فدفعها نقدًا، فابن القاسم منع ذلك. وأشهب أجازه. فأمّا ابن القاسم فيقدّر كأنه إذا صالحه على مائة درهم، فقد دفع إليه العبد ومائة درهم عوضًا عن المائة دينار التي عليه، فتسعون منها ثمن العبد، والمائة درهم مصارفة عن العشرة الباقية من المائة، واجتماع الصرف والبيع لا يجوز عنده إلاّ فيما قل قدره. وأمّا أشهب فإنّه أجاز ذلك لكونه لا يمنع من البيع والصرف أن يجتمعا في عقد واحد. ولو منع ذلك لجاز، على أصله أيضًا، لكونه لم ير الصّلح معاوضة عن الثّمن الذي قبضه البائع، وإنما يقدّره معاوضة عن إسقاط القيام بالعيب، وأخذ دراهم كثيرة معاوضة عن هذا لا يمنع. ولو صالح البائع على عشرة دنانير من سكة الثّمن يدفعها نقدًا، لجاز ذلك. ويقدّر أنّه دفع من الثّمن الّذي وجب عليه ردّهُ عشرة دنانير ودفع العبد عوضًا عن التّسعين التي بقيت عليه. ولو وقع الصّلح ها هنا بعوض مؤجّل، لمنع جميع ذلك على الإطلاق في سائر الأنواع. فلو فرضنا أنّ البائع صالح على عشرة دنانير يدفعها للمشتري إلى شهر، لكان ذلك ممنوعًا على أصل ابن القاسم، لأنّه يقدر أنّ البائع فاسخ المشتري في المبيع ووجب عليه ردّ المائة دينار بأسرها، وأخذ عبده فقبل منه المشتري تسعين منها معاوضة عن العبد الذي أبقاه المشتري في يده، بشرط أن يؤخّر البائع بالعشرة الباقية إلى أجل. فيصير هذا بيعًا للعبد بتسعين على أن أسلف المشتري البائعَ العشرة التّي وجبتْ له معجّلة فأخرها إلى أجل، وتأخيرها سلف منه للبائع والبيع والسلف محرّم. وإذا وقع هذا جرى على أحكام البيع والسلف. ومقتضى أصل أشهب جواز هذا. لأنّ العشرة التّي يدفعها البائع إلى شهر ليست معاوضة عن العبيد (¬1) ولكنّها معاوضة عن إسقاط القيام به، وذلك جائز. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العيب.

وكذلك لو صالح على دراهم مؤجّلَة، لجاز ذلك على أصل أشهب، لما قلناه، ولم يره صرفًا مستأخرًا. ويمنع على أصل ابن القاسم لكونه صرفا مستأخرًا، لما قرّرناه صرفًا عن العشرة دنانير التّي ذكرنا. وكذلك لو وقع الصّلح بعرض أو طعام في ذمّة البائع إلى أجل معلوم، لمنع ذلك عند ابن القاسم، لكونه أخذ عوضًا عن بعض ثمن العبد، فيكون تأخيره في الذّمّة فسخ دين في ذين. ويجوز على أصل أشهب لكونه معاوضة على إسقاط القيام بالعيب لا ثمن بعض الثّمن الّذي وجب ردّه. هذا حكم هذه الفروع إذا كان البائع قوإنتقد الثّمن ثمّ صالح على العيب. وأمّا إذا كان لم يقبض الثّمن، فإنّك أيضًا تعتبر في هذا ما اعتبرناه على أصل ابن القاسم من كون هذا الصّلح مبايعة ثانية، فيسلك فيها هذا المسلك فيما يحلّ ويحرم. وعلى أصل أشهب يكون ذلك معاوضة عن إسقاط القيام بالعيب. فتعتبر في ذلك ما تجوز به المعاوضة عن إسقاط هذا الحقّ وما لا يجوز. فإذا صالحه البائع على عرض مؤجّل، جاز ذلك. ويقدّر أنّ البائع دفع إليه العبد والعرض في مائة دينار، فذلك جائز. ولكن يشترط تعجيل الثّمن، لكون المائة دينار التّي يحاول البائع طلب المشتري بها إنّما دفع عنها عوضًا عبدًا معجّلًا وعرضا مؤجّلًا، فصارت المائة دينار بعضها رأس مال سلم، وهو العرض المؤجّل، وبعضها ثمن معجّل والسلم لا يحلّ تأخير رأس المال فيه أيّامًا كثيرة، فلهذا قلنا إنّ هذا الصّلح يجوز بشرط ألاّ يؤخّر المشتري دفع الثمن الّذي عليه أمدًا بعيدًا، فيكون قا، عقد على دين بدين، وذلك لا يجوز. وإن صالحه البائع على دنانير ينقدها له، لم يجز ذلك، لأنّه قد أعطى عبدًا ودنانير في مائة دينار، يأخذها من المشتري، وبيع عرض وذهب بذهب لا يجوز. لكن لو زاده دنانير على أن يقاصّه بها من الثّمن، جاز ذلك. وكأنّه هضم عنه بعض الثّمن لأجل العيب. ولو صالحه البائع على تسعين دينارًا يأخذها منه وتبقي عشرة إلى أجل،

لانعكس حكم التّفريع على المذهبين. فيجوز هذا الوجه ها هنا على أصل ابن القاسم؛ لأنه بني التّفريع في هذا على تقدير كون العقد الأوّل قد انحلّ وصار الصّلح مبايعة ثانية، فحصل منه أنّه باع عبدًا بتسعين دينارًا انتقدها، وبعشرة دنانير مؤخّرة. وهذا لا مانع منه. ويمنع ذلك على أصل أشهب. لأنه يرى أنّ العقد الأوّل على حاله، لم ينحلّ، وإنّما الصّلح شراء ردّ بالعيب قد وجب للمشتري، فصار البائع كأنّه وجب له مائة. دينار بحكم العقد الأول، فأخذ منها تسعين وأخّر عشرة إلى أجل، وجعل التأخير عوضًا عن إسقاط قيام المشتري عليه بالعيب، والتأخير سلف، فصار ذلك سلفًا جرّ منفعة للمسلف، وهو إسقاط القيام عليه بالعيب. وكذلك لو صالح على تسعين دينارًا أو دراهم يدفعها للمشتري مؤخّرة، أو عرضًا مؤخّرًا، لجاز ذلك على أصل ابن القاسم لما بيّناه. ومنع على أصل أشهب لكونه يرى هذا الصّلح لم ينحلّ به العقد الأوّل، وإذا كان لم ينحلّ به، فقد صارت العشرة الباقية من المائة التّي هي بعض الثّمن فسخت في عرض إلى أجل أو في دراهم إلى أجل. لكن لو صالحه على أن يأخذ منه المائة كاملة ويزيده عرضًا إلى أجل (¬1) دراهم إلى أجل، لعاد المذهبان على ما قدّمناهما في هذا. ولو كانت الزّيادة من جانب المشتري على أن يستردّ منه البائع العبد، لكان التّفريع على ما قدمناه، ويقدّر المشتري بائعًا للعبد ولما يضيفه إليه من زيادة. فإن كان نقد الثّمن جاز أن يصالحه. على ردّ العبد وعبد آخر معه أو عرض آخر، ويكون كبائع سلعتين بمائة دينار ويأخذها من البائع. ولو صالح على دراهم، لاعتبر أيضًا كونها أقلّ من صرف دينار فيجوز، أو أكثر من صرف دينار فيمنع عند ابن القاسم لأنّ المشتري يكون قد باع العبد ودراهم معه بالمائة دينار التّي يستردّها من البائع وذلك بيع وصرف. ولو زاد المشتري دنانير، لم يجز ذلك، لأنه يكون قد باع عبدًا ودنانير بدنانير يأخذها من البائع. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: أو دراهم.

ولو كان الثّمن لم ينقده المشتري فصالح على دنانير يدفعها للبائع، لجاز ذلك. ويكون قد دفع العبد عن بعض الثمن، والدّنانير التي دفعها هي بقيّة المائة التّي كانت عليه. ولو صالح على عرض مؤجّل، لمنع ذلك، لأنّ المشتري يكون قد دفع ذلك في بعض الثّمن، وبقيّة الثّمن فسخه البائع في عرض إلى أجل، وفسخ الدّين في الدّين لا يجوز. هذا حكم فروع هذا النّوع من الصّلح على العيب. وقد ذكر أصبغ فروع هذا الباب ثمّ أتبعها بأن قال: وهذا في عيب ثابت لا خصومة فيه ولا يمترى هل يلزم الرّدّ به أم لا؟ وأمّا لو كان مِمّا فيه امتراء، لكان ذلك كالصّلح عن العبد وهو قائم، فيجري فيما يحلّ منه. ويجري مجرى الصّلح عن مبيع قائم. واستبعد الشّيخ أبو إسحاق هذا القول ورأى أنّه إذا قدّر الصّلح كمبايعة ثانية، لم يلتفت إلى العيب، هل هو مِمّا يتمارى فيه أو لا يتمارى؟ ونبّهنا نحن ها هنا على اختلاف طريقة ابن القاسم وأشهب في هذه الفروع، واحد ما ذكرناه من التفريع كون البائع يصالح على تسعين دينارًا ويؤخر عشرة إلى أجل. وقلنا: إن ابن القاسم أصله إجازة هذا لكونه يرى الصّلح مستأنف. وأصل أشهب منعه لكون العقد الأوّل لم ينحل فيكون هذا كسلف جرّ منفعة. فيمكن أيضًا أن يقال: فإن ابن القاسم إنّما يصح على أصله هذا التّفريع إذا كان العيب ثابتًا. وأمّا إذا لم يثبت فيحتاط للمنع من سلف جرّ منفعة. ويقدّر أنّ العقد الأوّل لم ينحلّ، لكون العيب لم يثبت. إلى غير ذلك من الفروع التي يمكن إجراء قول أصبغ فيها. فإذا تقرّر أحكام الصّلح على العيب والمبيع لم يفت بل يجب ردّه إذا ثبت العيب، فإن العبد لو مات لكان الحكم فيه ردّ قيمة العيب إذا طلب ذلك المشتري وثبت العيب. فلو تصالحا أيضًا على هذا العيب بعد ذوات العبد، فإنّ الأصل فيه أن ينظر إلى القيمة الواجبة في عيب العبد، فيجعل ما يدفعه البائع

عوضًا عن ذلك. فإن سلمت المعاوضة من الفساد أجزتها، وإن لم تسلم منه فمن وجوه الفساد فيها الصّلح عن هذا العيب قبل أن تعرف قيمته. فقد منع في المدوّنة أن يصالح على ذلك إلاّ بعد المعرفة بقيمة العيب، على مقتضى ظاهر كلامه، وساوى بين كون الصّلح يقع في هذا بدنانير أو دراهم أو عروض. وذكر أصبغ أنّ بعض أهل العلم أجاز ذلك قبل المعرفة بقيمة العيب. وفي الموّازيّة جواز الصّلح عن ذلك بدراهم وإن لم يعرف قيمة العيب والثمن دنانير. ومقتضى هذا، فيما أشار إليه بعض الأشياخ، جواز ذلك في جميع الأنواع التّي يصالح بها على الجملة، كما حكاه أصبغ عن بعض أهل العلم. وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّ الصّلح عن هذا العيب على دنانير من سكة الثّمن ينبغي ألّا يمنع إذا علم على الجملة أنّه دون ما يجب للمشتري من قيمة العيب أو أكثر. وإنّما يمنع إذا شكّ في مقدار ما وقع به الصّلح، هل هو مقدار الواجب، أو تحاكما (¬1) في قيمة العيب، أم لا؟ وقد قال أصبغ: لو كان المشتري لم ينقد الثّمن ومات العبد، فإنّه يجوز التّراضي على حطيطة بعض الثّمن بحسب ما يتّفقان عليه قبل أن يعرفا قيمة العيب. وهذا لا يتّضح فرق بينه وبين المنع كذلك إذا انتقد. لأن الأمر في كلا الوجهين يقتضي أخذ معلوم عن مجهول. لكن يمكن أن يكون أصبغ أشار إلى كون هذا الّذي يطرح من الثّمن يعلم على الجملة أنّه أكثر من قيمة العيب أو أقلّ، فيكون النّقص البيّن والزّيادة البثنة هبة لا معاوضة عن أمر مجهول مقداره. وكذلك لو كان الصّلح على دراهم، إذا قلنا: إن الدّراهم والدّنانير مِمّا تختلف الأغراض فيهما كما تختلف الأغراض بين الدّنانير والعروض. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفيه غموض.

ولو وقع الصّلح ها هنا على عرض يُنقد بعد المعرفة بقيمة العيب، لجاز ذلك. ولو كان يؤجّل، لمنع ذلك، لكونه فسخ دين، وهو قيمة العيب التّي هي دنانير، في عرض إلى أجل. وكذلك لو وقع الصّلح على دنانير مؤخّرة، لمنع من ذلك أيضًا إذا كانت أكثر من قيمة العيب. لأنّه يكون المشتري إنّما أخّر البائع بما يجب له أن يستردّ منه من قيمة العيب لأجل ما زاده على القيمة، وهذا سلف بزيادة. وقد أشار بعض المتأخّرين إلى إلزام من قال بجواز الصّلح عن العيب، وقد فات العبد قبل المعرفة بقيمة العيب، أن يجيز هذا لكونه يرى أنّ ما أخذه إنّما هو عوض عن الجزء الذي بقي عند البائع. فكأنّها معاوضة عن عين ذلك الجزء قبل المعرفة بقيمته، وذلك لا يمنع، كما لا يمنع شراء العبد قبل المعرفة بقيمته. وهذا أمر لا يفيد، لأنّ المحصول في هذا أنّ الجزء الّذي بقي عند البائع قد أخذ عوضه، وحقُّه ألاّ يأخذه، فوجب للمشتري أن يستردّه منه. ولا يمكن أن يقال: إنّه يشتريه الآن منه بعد أن فات العبد، فلا يتصوّر ها هنا ما تخيّله هذا من كون ما يؤخذ ها هنا من العروض إنّما هو بيع للجزء الّذي بقي عند البائع. لكن قد يقال: إنّ من أجاز الصّلح، قبل المعرفة بقيمة العيب، يرى أنّ قيمة العيب أمر لم يدخلا عليه. والشّرع ردّهما إليه مع كونه مجهولًا، وهي جهالة لا يقدران على رفعها حين ابتداء الطّلب، فسومح بالمعاوضة عنها، مع كوز الصّلح في هذا لا يقع إلاّ على ما هو أقلّ من القيمة بالمقدار البيّن. وقد ذكر في المدوّنة من فروع هذا الباب مسألة من باع طوقًا ذهبًا بألف درهم، ثمّ اطّلع على عيب، فصالح البائعَ عن العيب على ألاّ يردّ الطوق عليه، فإنّه إن صالح على دراهم يأخذها عن البائع من سكّة الثّمن جاز ذلك، ويقدّر لمّا ردّ بعض الثّمن أنّ المبيع وقع بما بقي من الثّمن، لم يردّ. ولو صالح على دراهم من غير سكّة التقن لمنع ذلك، لكؤنه يقدّر فيه أنّ البائع باع طوق ذهب

ودراهم من سكة بألف درهم من سكة أخرى، وبيع ذهب وففمة بفضة لا يجوز. وآجاز هذا أشهب. واعتل بأن الصّلح على أن لا يردّ الطوف بالعيب على حسب ما قدّمنا بيانه من مذهبه والتّفريع عليه. ولو صالح البائع على دنانير، لجاز ذلك. ويقدّر أن البائع باع طرف ذهب ودنانير بألف درهم، وذلك غير ممنوع. وأنكر سحنون هذا وقال: مسألة سوء. ومنع الصلح على الجملة، ورأى أنّ بائع الطوق وإن دفع الآن دنانير، فإنّه كصرف تأخر بعضه. وذلك أنّه دفع الطوق بالأمس مثلًا، ودفع اليوم دنانير، وأخذ بالأمس عنهما جميعًا ألف درهم. وتأخير بعض الصّرف لا يجوز. وقد أشار بعض الأشياخ إلى هذا الاعتراض فيما قدّمناه من قولنا، في مسألة العبد إذا اطلع المشتري على عيب وقد اشتراه بمائة دينار فصالح البائع على دراهم يسيرة، فإنّ ذلك جائز، ولا يقدّر فيه أن المائة دينار ثمن لعبد قبض بالأمس ودراهم قبضت الآن. فصار أيضًا كمصارفة تأخّر بعضها. وقد كنّا قدّمنا في كتاب الصرف في الدّينار إذا وجد زائفًا فصالح دافعه آخذه بشيء دفعه إليه على ألا ينقض الصرف فيه. وذكرنا أن أحد القولين المنع من ذلك، لأن إجازته تقتضي تأخير بعض ما وقع الصّرف عليه. وقد أشار بعض الأشياخ إلى تخريج هذه المسألة على هذا. وإليه أشار سحنون أيضًا. لكنّ الشّيخ أبو محمَّد بن أبي زيد، رضي الله عنه، أشار إلى افتراق المسألتين بأنّ الطوق يراد لعينه، والصّرف فيه منعقد لم يبطل بردّه ولا تأخّر بعض الصّرف. وأمّا مسألة الدّينار الزائف، فإنّ الصّرف لم يقع على دينار بحينه، وإنّما وقع على دينار طيب. والدّينار الطيّب الذي عقد الصرف عليه لم يقبض، بل تأخّر قبضه عن العقد، فأخذ الدّينار الرديء وزيادة معه عوضًا عنه تأخير المصارفة، وذلك ممنوع. وقد كنّا نحن بسطنا القول في هذا في كتاب الصّرف، وذكرنا طريقة بعض

أشياخي في التّفرقة في مسألة الزّائف بين أن يكون الصرف عقد على دنانير معيّنة أو غير معيّنة. وإنّما حذا في هذا حذو الشّيخ أبي محمّد بن أبي زيد في هذه المسألة. وأشرنا نحن إلى ما عندنا في ذلك هناك. وأشرنا إلى أنّ أصل أشهب الإضراب عن الالتفات إلى هذه الطّرق، وأنّه يرى أنّ الصّلح في هذا على الإنكار ومعاوضة على ألاّ يردّ بالعيب. ولهذا نصّ ها هنا في مسألة الطّوق على جواز الصّلح بسكّة غير سكة الدّراهم. وابن القاسم يجيز ذلك إذا كان بسكة الدّراهم الّتي هي الثّمن، ويمنع إذا كان بخلاف السكّة. وسحنون يمنع ذلك في الوجهين، لما أشرنا إليه من كونه يرى ذلك يجري مجرى تأخير بعض الصرف. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا صالح بعض الأشراك في أنواع المال بقيّة أشراكه على أخذ نصيبه من أحد أنواع الأموال المشتركة، فإنّه قد ذكر في المدوّنة، في مثال هذا، مسألة من توفّى عن زوجة وأولاد، وترك دنانير ودراهم حاضرة، وعروضًا حاضرة وغائبة، وعقارًا. فإنّ المرأة إذا صالحت على أخذ مقدار نصيبها من الدّنانير خاصة فإنّ ذلك جائز إذا أخذت ذلك من عين الدّنانير التّي تركها الميّت. وإن صالحت على أخذ مقدار نصيبها من الدّنانير، ولكنّها لم تأخذ ذلك من عين الدّنانير التّي تركها الميّت، وإنّما أعطاها ذلك الورثة من أموالهم، فإنّ ذلك لا يجوز. هذا مذهب ابن القاسم. وأجاز ذلك أشهب. وقد استبعد المتأخّرون من الأشياخ هذا الذي قاله أشهب ورواه أنّه يهدم أصولًا اتّفق عليها مالك وأصحابه، وغيرهم من الشافعية والحنفيّة. فمن ذلك جواز بيع دينار بدينارين، وهذا لم يقل به أحد من فقهاء الأمصار. وكذلك ألزموهُ أن يجيز بيع عرض وذهب بذهب. وهذا يمنع منه مالك والشافعي. وصوّروا هذا الإلزام من جهة كون المرأة إذا أخذت عشرة دنانير من ثمانين دينارًا من نفس الثّمانين دينارا كانت واهبة لنصيبها في بقيّة أنواع الأموال،

وهو الثّمن من جميع ما عدا الدّنانير، والهبة مِمّا يجوز لها أن تفعله. فإذا أخذت العشرة دنانير من مال الورثة، صارت قد أخذت من مالهم عشرة دنانير عوضًا عن العشرة التي تستحقّها من عين الثّمانين دينارًا، التّي ترك الميّت، وعوضًا مِمّا تستحقّه من ثمن الدّراهم والعروض والرّباع. وذلك بيع ذهب بذهب وعروض معه، وذلك تفاضل بين الذّهبين لأجل ما أضيف إلى أحدهما. فإذا أجاز أشهب هذا مع ما فيه من التّفاضل، لكونه يقدّر ما زاد على ما باعته من مقدار حقّها من عين الدّراهم التّي تركها المتت هبة للورثة فيلزمه على هذا أن يجيز دينارًا بدينارين، ويقدّر أحد الدّينارين هبة منه. وكذلك يقدّر ذلك في بيع عرض وذهب بذهب، لا سيما وقد فتح أشهب باب هذا الالتزام لمّا حاجّ المخزوميّ لمّا أجاز بيع عبد بعبدين، أحدهما نقدًا والآخر إلى أجل، فألزمه أشهب أن يجيز دينارًا بدينارين أحدهما نقد والآخر إلى أجل. وهذا الّذي ألزمه أشهب تعسّف فية على المخزوميّ عندي، لأجل أنّ الدّنانير لا يحلّ التّفاضل فيها بنصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في الأحاديث الثّابتة، والرّبا في العروض والعبيد يجيزه بعض فقهاء الأمصار، ولو كان في النّساء والتأخير فشتّان ما بين الأمرين. كما أنّ الأشياخ أيضًا تعسّفوا في إلزام أشهب ما ألزموه، لأجل أنّ مبايعة دينار بدينارين أو عرض وذهب بذهب ابتداءً لا ينصرف إلاَّ إلى المبايعة والمعاوضة التّي مبناها على المكايسة. وفي مسألة المرأة قد ينصرف ما فعلوه إلى القصد إلى التخلّص منها بالإسراع بدفع حظّها إليها من مالهم، لكون ذلك أخفّ وأيسر عليها وعليهم. وأمّا إذا صالحت على أحد عشر دينارًا من عين الذنانير التي ترك الميّت، فإنّ ذلك يقدّر فيه أنّ الدّينار الزّائد علي العشرة دفع عوضًا عن دراهم وعروض. فيجوز ذلك على المشهور من مذاهب من منع اجتماع الصرف والبيع، لكون هذه المصارفة وقعت مع المبايعة في دينار واحد، وذلك مستخفّ

ليسارته. وإن كان قد وقع في الموّازيّة منع ذلك، إلاَّ أن يكون نصيبها من الدّراهم الدّرهمين والثلاثة، بناء منه على أن. الصرف والبيع في الدّينار إنّما يجوز إذا كان الصّرف منه هو القليل، على حسب ما بيناه في كتاب الصّرف. أمّا إن صالحت على أكثر من أحد عشر دينارًا, فإنه يتّضح في هذا أنَّه بيع وصرف. فيجيزه من أجاز البيع والصرف ويمنعه من منع ذلك. وإذا أجزنا اجتماع البيع والصّرف، أو صوّرنا كون هذه التّركة لا دراهم فيها حتّى يرتفع حكم اجتماع البيع والصّرف، فإنّ هذه المصالحة جائزة على الإطلاق عند ابن القاسم إذا لم يكن في التّركة دراهم. واشترط ابن الموّاز في جواز ذلك أن تكون المرأة أخذت جميع الدّنانير المتروكة ولم يبق منها بقيّة. وقدر أنّها إذا أبقت منها بقيّة، مثل أن تكون أخذت من الثّمانين عشرين دينارًا، فإنّها إنما تستحقّ من العشرين التّي أخذتها الثّمُن من كلّ دينار، وسبعة أثمان كل دينار إلى الورثة. فاشترت هذه السبعة أثمان منهم بما بقي لها في الستّين دينارًا وهو الثُّمُن من كل دينار، والثُّمُن من العروض. فصار محصول هذه المعاوضة بيعها ذهبًا وعرضا بذهب وذلك ممنوع. وابن القاسم لم يشترط هذا لكونه يرى أنّ العشرين التّي أخذت من عين الثّمانين دينارًا عشرة منها هي نصيبها، والعشرة الأخرى هي تمام العشرين باعت سهامها في العروض، وذلك لا مانع يمنع منه. كما لا يمنع أن تأخذ عشرة دنانير من عين الدّنانير، وتترك ما سوى ذلك. وقد نوقض ابن الموّاز بموافقته في ظاهر كلامه على جواز أخذها عشرة دنانير من عين الثّمانين دينارًا، مع كون ما صوّره في العشرين يتصوّر ها هنا، بأن يقال: إنّما تستحقّ من كلّ دينار من العشرة دنانير ثُمُنه وسبعة أثمان كلّ دينار من العشرة للورثة. فاشترت منهم هذه السبعة أثمان بما سلّمت لهم أيضًا من الثُّمُن الذي يبقى في بقتة الدّنانير، والثّمن في العروض. وهذا عندي قول لا يلزمه. لأنّ من له شرك في دنانير كثيرة الحكم أن تجمع الأجزاء التّي استحقّها من كلّ دينار في دنانير معدودة تميّز له. فإذا أخذت المرأة عشرة دنانير، فقد

جرى الأمر على الأصل في الحكم بجمع الثُّمن (¬1) من كلّ دينار من الثّمانين دينارًا في عشرة دنانير. فإذا انضاف إلى ذلك مبايعة بالعشرة الثّانية، حسن ها هنا أن نسحب على الكلّ أحكام المبايعة تغليبًا لما لا يجوز على ما يجوز. كما يغلب ذلك في صفقة جمعت حلالًا وحرامًا، فإنّا نفسخ جميعًا. فإذا لم تأخذ إلاّ عشرة، لم يقع منهم ولا منها ما يدل على قصد البايعة، فوجب ألاّ يمنع من ذلك، لا سيما إذا قلنا بأنّ الأصل جمع الأجزاء في دينار واحد، كما قلنا، في المشهور من المذهب، فيمن وجد درهمًا زائفأوقد صرفْ دنانير، فإته إنّما ينتقض صرف دينار واحد. لأنّه، وإن كان هذا الدّرهم يقابله جزء من. كلّ دينار، فإنّ هذه الأجزاء تجمع في دينار واحد، فيقع الفسخ فيه. ولهذا لم يشترط ابن القاسم ما اشترطه ابن الموّاز. ولعلّ ابن الموّاز لحظ، فيما قال، أحد القولين في أنّ الصّرف كلّه ينتقض بناء على أنّ أجزاء الدّنانير لا تجمع في دينار واحد، لا سيما إذا قلنا: إنّ القسمة تمييز حقّ، فإنّ المرأة إذا أخذت عشرة دنانير من عين الثّمانين دينارًا فإنّها لم يقع منها مبايعة أصلًا على حال على هذه الطريقة من كون التسْميَة (¬2) تمييز حقّ. وعلى الطّريقة الأخرى أنّها بيع من البيوع قد ينظر فيما نوقض به ابن الموّاز على أنّ ما زاد على العشرة دنانير مبايعة قد اتّفق على كونها معاوضة، والعشرة دنانير مختلف فيها، هل هي تمييز حق أو مبايعة. وما اختلف فيه أضعف ها هنا مِمّا اتّفق عليه. ولو كان في التّركة شيء غائب فصالحها الورثة على دنانير يدفعونها إليها من مالهم، فإنّ ذلك لا يجوز، من أجل كون ما بيع مع الدّراهم والدّنانير لا يجوز فيه التأخير. وأمّا إن وقع الصّلح على عرض، فإنّ الحكم في ذلك يؤخذ مِمّا قدّمناه في أحكام بيع الغائب. فينظر في الّذي غاب، فإن كان قريب الغيبة بحيث يجوز ¬

_ (¬1) صفحة 515 من نسخة المدينة غير موجودة. وكرّرت عوضها ص 516. (¬2) هكذا في النسختين والأولى: كون القسمة.

اشتراط النّقد فيه، ويكون ضمانه من مشتريه، فإنّه يحكم فيه بحكم التّركة كلّها حاضرة. وأمّا إن كان بعيد الغيبة، والغائب من التّركة هو أكثرها، فإنّ هذا العرض الّذي وقع به الصّلح يوقف جميعه حتّى يصير الغائب في حكم المقبوض. فأمّا وقف ما قابل الغائب منه، فإنّ ذلك يتّضح، لكون الغائب البعيد الغيبة لا يجوز شرط النّقد فيه، على ما تقدّم بيانه في كتاب بيع الغائب، وأمّا ما ينوب من التركة فإنّه يمنع أيضًا من اشتراط نقده لجواز أن يهلك ما غاب من التّركة، وهو جلّها، فيقتضي ذلك حل العقد في الأقل، لكون استحقاق جل الصفقة يمنع من إلزام المشتري أقلّها. وأمّا إن كان ما غاب من التّركة هو الأقلّ منها، فإنّ الذي ينوب الحاضر منها من العروض الّذي دفع للمرأة يستحقّ قبضه. ويختلف فيما ينوب من هذا العرض الأقلّ الّذي غاب من التركة. فمن ذهب إلى أنّه إذا استحقّ الأقلّ من الصّفقة، لم يرجع في عين العرض الّذي اشترته به، وإنّما يرجع في قيمته، جاز نقد جميع العرض، ولم يصحّ ها هنا اشتراط وقف هذا المقدار من العرض الذي يقابل الأقلّ الّذي غاب، لأن العرض المعيّن إذا عُقِد البيع به، وتسليمه لمشتريه يجوز ولا يمنع منه الشرع، فإن اشتراط إيقافه أجلًا بعيدًا لا يجوز. وإنما يصحّ البيع للسلع الغائبة بعروض حاضرة يجب وقفها, لأجل أنّ المتعاقدين لا يجوز لهما اشتراط النّقد، فصار كالمغلوبين شرعًا على التأجيل فيه. ولو كان في التّركة ديون ومن عليه الدّيون حاضر مقرّ، فإنّه يجوز للورثة أن يدفعوا للمرأة قدر ميراثها من الدّيون، سلفًا منهم لها, ليرجعوا بذلك عليها إذا تعذّر عليهم القبض من الغرماء. وأقا إن دفعوا ذلك إليها على جهة الحوَالة منها لهم، فإن ابن القاسم يمنع من ذلك، لكونه يرى الحوالة بيعًا، فيحصل من ذلك بيع دين بدين. وأشهب وسحنون يجيزان الحوَالة في هذا إذا لم يقصد دافع/الدّنانير منفعة نفسه. ولو كانت الدّيون طعامًا من قرض أو من بيع، لجرى الأمر فيها مجرى ما ذكرناه من الدّيون إذا كانت دنانير.

وأمّا لو كانت الدّيون طعامًا من سلم، لم يجز للورثة فيه دفع شيء من الأعواض عنه إلاّ أن يكون ذلك على جهة التّولية. وهذا كلّه تعرف أحكامه من مواضعه التّي سلف ذكرها؟ فيما تقدّم من كتاب البيوع. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: ذكر في المدوّنة فيمن ادّعى على رجل بمائة درهم فأنكرها المدّعى عليه، ثمّ صالح المدّعي على خمسين درهمًا منها إلى أجل، أنّ ذلك جائز. وفي الموّازيّة أنّ ذلك لا يجوز. وقد اشترط مالك في المدوّنة في جواز هذا التأجيل كون المدعى عليه مقزًا. وهذا قد يشير إلى أنّه يمنعه إذا كان منكرًا. وسبب هذا الاختلاف ما كنّا قدّمناه في صدر هذا الكتاب من الالتفات إلى مقتضى الصّلح على قول المدّعي والمدّعى عليه. وقد علم أنّ الصّلح إذا كان لا فساد فيه على قول المدّعي والمدّعى عليه، فإنّه لا وجه للمنع منه. وهذا يتصوّر في الصّلح على الإقرار وفي بعض مسائل الصّلح على الإنكار. وإن كان لا يجوز على مقتضى قول المدّعي والمدّعى عليه، فإنّهما يمنعان منه، وإن وقع ذلك، فسخ عليهما. مثل أن يدّعي رجل أن له عنده عشرة أرادب قمحًا سلمًا. ويقول الآخر: بل هي تمر. فيصطلحان على عشرة أرادب من شعير أو فول مؤجّلة، فإنّ ذلك صلح فاسد على قول المدعي أنه أسلف في قمح، لكونه باع طعامًا قبل قبضه وفسخ دينًا في دين، وهو أيضًا فاسد على قول المدّعى عليه؛ لأنّه أعطى في تمر حالّ عليه شعيرًا إلى أجل. فقد فسخ الدين في الدّين أيضًا. فهذا لا يجوز ويفسخ عليهما. ولا يسلّم فيه كون أصبغ يجيزه لمّا قال: إنّ الصّلح على الحرام لا يفسخ، كما تقدّم ذكرنا ذلك عنه وذكر ما احتجّ به. لأنّه قد يريد صلحًا حرامًا على

مقتضى قول أحد الخصمين. مثل أن يدّعي بعشرة أرادب قمحًا فينكرها، ثمّ يصالحه على عروض إلى أجل، فإنّ ذلك على قول المدّعى عليه لا حرج فيه، لأنّه يزعم أنّ دعوى المدّعي باطلة، وإنّما التزم عروضًا إلى أجل وقاية من شرّ المدعي وطلبه له بطلب اليمين. وذلك على قول المدعي لا يجوز، لأنّه يعتقد أنّ الّذي له في ذمّة المدّعى عليه دراهم أو طعامًا ففسخه في عرض أو في طعام إلى أجل. فها هنا يمكن أن يقول أصبغ: إن هذا لا يفسخ لكونه لا حرج فيه على المدّعى عليه. ورأى بعض الأشياخ إصلاح هذا الفساد بعد إمضاء الصّلح، بأن يأمر ببيع العروض إذا قبضت لمّا حل أجلها، فإذا صارت ثمنًا اشترى من ذلك الثّمن ما ادّعاه المدعي، فإن قصر عنه كان جائحة عليه، وإن أربى على ما ادعاه ردّ ما فضل من الثمن للمدّعى عليه، لكون المدعي يقرّ أنّه قد وصل إليه جميع ما ادّعاه فلا حقّ له في الفضلة. وهذا الّذي قاله احتياط لحق الله، سبحانه، في المنع من الوقوع في الحرام الّذي نهى عنه، مع التلطّف في وصول المخلوق إلى حقّه. وهذا لم يشترطه أصبغ في إمضاء الصّلح على الحرام. ولعقه منعه من سلوك هذه الطريقة أنّ فيها ظلمًا على المدّعي. لأنّه يقول: مقتضى هذا الرّأي أن يحال بيني وبين هذه العروض قبل أجلها, لكونكم شرطتم تأخيرها إلى الأجل لتباع، وأنا لم أرض بإسقاط اليمين إلاَّ على تملك هذا الّذي صالحته عليه تملّكًا لا حجر فيه عليّ، ولا يلزمني ركوب المشقّة في بيعه واقتضاء ثمنه. فإن روعي حقّ الله، سبحانه، فينبغي أن يراعَى حقي في ألاّ ألتزم خلاف ما دخلت عليه. فيقتضي هذا فسخ هذا الصّلح بهما قاله بعض أصحاب مالك. فإذا تقزرت هذه الأقسام، فالمسألة التّي ذكرناها عن المدوّنة وجّه الأشياخ مذهب من منع من الصّلح على تأجيل بعض الدّراهم المدّعى فيها لكون ذلك يقتضي سلفًا جرّ منفعة. ووجه المنفعة في هذا كون المدّعى عليه قد يحلف فيبرأ، وقد يردّ اليمين على المدّعي، فيكره اليمين، فيُسقِط ما كره من ذلك بتأجيل ما يقول: إنّه دين حال. ويصير التأجيل سلفًا منه. والمنفعة الّتي

ينالها من هذا السلف ألاّ يردّ المدّعى عليه اليمين. وكذلك لو قام للمدّعي شاهد، فصالح على إسقاط اليمين فيه بالتأجيل، فإن ذلك لا يجوز على هذا التّعليل. والمنفعة ها هنا في إسقاط يمين وجبت عليه أوْضح منها فيما يترقّبه من ردّ يمين عليه. وكلاهما ممنوع على هذا المذهب. وأمّا القول الآخر بإجازة هذا التأجيل، فإنّه يرى أنّ اليمين ليست بمال، وإنّما هي تعبّد من الله سبحانه والمطلوب بها يعتقد أنّه مظلوم، والطّالب يقول: إنّي غلبت على تأجيل بعض حقّي. فلا وجه. للمنع، ولو صالح عن هذه الدّراهم المدّعى فيها بعروض إلى أجل، لاتّضح الفساد على قول المدّعي، لكونه فسخ دينًا في دين على مقتضى دعواه، فلا يحلّ له ذلك. بخلاف تحصيل إسقاط يمين عنه، يعتقد أنّه مظلوم فيها إن طلب بها. وقد وقر لابن القاسم فيمن ادّعى على رجل بمائة درهم فأنكرها، ثمّ قال المدّعى عليه للمدّعي: أجلني بخمسين منها وأنا أقرّ لك بدينك: إن ذلك لا يجوز. ولكنّه إن وقع لم يطلب المدّعى عليه بهذا الإقرار، لكونه يشترط من التزامه التأجيل بالخمسين درهمًا. فإذا لم يصحّ له التأجيل، بطل عنه الإقرار وعاد إلى الخصام. وهذه إشارة إلى ما قلّمناه الآن في القدح فيما قاله بعض الأشياخ من بيع ما وقع الصلح عليه على وجه فاسد. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا كان شريكان في دين على إنسان، فاقتضى أحدهما جميع حقّه من الدّين، أو بعضه، أو صالح عليه، فإنّ ذلك لا يخلو من أن يكون وقع ذلك منه بإذن شريكه ورضاء من أباح له أن ينفرد له بذلك دونه، أو وقع ذلك بغير رضي شريكه ولا إذنه. وهذا أيضًا عَلى قسمين: أحدهما أن يكون ذلك بعد أن أذن له القاضي لمّا رفع ذلك إليه، وأعذر إلى شريكه في الاقتضاء معه، فامتنع عليه، أو اقتصر هذا المقتضى لحقّه على إعلام شريكه والإشهاد عليه بذلك، فلم

يخرج معه للاقتضاء. فأمّا إذا كان أعلم شريكه بذلك وأذن له في الاقتضاء دونه ورضي له بأن ينفرد بما اقتضاه من حقّه، فإنّ ذلك يمنع هذا الشّريك الّذي لم يقتض من الدّخول على شريكه فيما اقتضاه ومشاركته فيه، ولو افتقر الغريم أو فلس. لأنّ ذلك إذا كان عن إذن الشّريك كالمقاسمة بين هذين الشّريكين. والحقّ الشّائع إذا تقاسم فيه الشّريكان وتميّز لكل واحد منهما نصيبه، [تصرّف فيه كيف شاء، ولم] (¬1) يكن لشريكه حقّ في التّحجير عليه، أو مشاركته في التصرّف. فكذلك الدّين ها هنا إذا أذن الشّريك لشريكه في الاقتضاء دونه، يقدر ذلك كأنّ ذمّة الغريم كانت شائعة بينهما، فليس لأحدهما أن ينفرد بأمر متميّز فيما حقّهما فيه على الشّياع، إلاّ أن يقتسماه. والإذن ها هنا كالاقتسام كما بيناه. وكذلك إذا لم يأذن الشّريك لما أعلمه شريكه واستأذنه، فرفع إلى السلطان، فقضى السلطان بالإذن في الاقتضاء لهذا الذي رفع إليه لما أَلدَّ شريكه وامتنع عليه، فإن ذلك كحكم القاضي بالمقاسمة أيضًا. وإن اقتصر على إعلام شريكه، ولم يساعده على الخروج معه للاقتضاء، وأشهد عليه بذلك، فظاهر المدوّنة أنّ ذلك كالمقاسمة أيضًا. وينفرد هذا المقتضي بما اقتضاه ولا يدخل فيه معه شريكه. لكن أشار بعض الحذّاق من الأشياخ إلى حمل هذه الرواية على أنّه أراد بقوله: فلم يساعده على أن يخرج معه. أنّه رضي له بأن ينفرد بالاقتضاء. وهذا التأويل لا يشكّ في صحّة الجواب إذا كان هو المراد بالرّواية. وقد وقع لابن القاسم في هذا أنه إذا استأذنه وأشهد عليه، فلم يخرج، أنّه رضي منه بأن ينفرد بالاقتضاء. وأنّه أيضًا لو رفع الأمر إلى السلطان، لأذن له في الانفراد بالاقتضاء. وهذا الّذي قاله من تقرير امتناعه من الخروج مع شريكه رضي منه بأن ينفرد شريكه بالاقتضاء شهادة بمقتضى عادة. وقد لا تسلم هذه الشّهادة بالعادة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: وتصرف به كيف شاء، لم يكن.

ويمكن أن يلدّ عن الخروج اعتقادًا منه أنّه يدخل معه فيما اقتضى. ولهذا تأوّل من ذكرنا من المتأخّرين ما وقع في المدوّنة على أنّ الشريك الذي استؤذن رضي بأن ينفرد هذا بالاقتضاء. وأشار إلى ثبوت ذلك ووقع منه نطقًا أو مفهومًا. لكن أشار ابن القاسم في هذه الرواية إلى تعليل آخر، وهو كون هذا الشّريك لو رفع الأمر إلى القاضي، ما فعل القاضي أكثر مِمّا فعله هذا المقتضي لحقّه. وأجرى فعله مجرى فعل القاضي. وقد وقع في المذهب فروع تنبّه على الاختلاف فيمن فعل فعلًا لو رفع للقاضي، لم يفعل سواه، هل يحمل فعله محمل فعل القاضي أم لا؟ وهذا الّذي نحن فيه منه. وأمّا إن اقتضى دون أن يُعلم شريكه ويُعذر إليه في الخروج بالاقتضاء، فإنّ المعروف من المذهب أن شريكه يدخل معه فيما اقتضاه. وهذا لما قدّمناه من كون الدّيون التي في الذمّة حقّ كل واحد منها غير متميّز في الذمة من حق صاحبه، كعرض مشترك بينهما متى تصرف فيه أحدهما بشيء كان لصاحبه أن يجيز فعله ويشاركه في التّصرّف الّذي تصرف فيه. لكن حاول بعض المتأخّرين أن يجعل في هذا قولًا آخر، وجعل المذهب على قولين. وخرّج هذا من مسألتين. إحداهما ما ذكر في المدوّنة، فيمن قتل رجلًا عمدا وله وليّان، فصالح أحدهما من حقّه في الدّم على عبد، فإنّه قال: يدخل الوليّ الآخر معه في هذا. قال: وقال غيره: لا يدخل معه. فأشار إِلى أنّ قول الغير: لا يدخل معه. يقتضي ألاّ يدخل معه في سائر الدّيون الّتي اشتركا فيها إذا انفرد أحدهما باقتضاء شيء منها في نصيبه. وهذا التّخريج قد يقدح فيه بأنّ دم العمد ليس بمال، لا سيما على أحد القولين في أنّ أولياء القتيل ليس لهم إجبار القاتل على أداء الدّيّة. وإنّما تؤخذ الدّيّة بالتّراضي من القاتل وأولياء القتيل، والدّم الّذي تعلّق حقهم به ليس بمال ولا يقدرون على تصييره مالًا إلاّ برضا القاتل. ولا يشبه الأموال المحقّقة التّي في الذّمم، وهي مشتركة بين شريكين، يكون من حقّ أحدهما أن يمنع الآخر من عيب هذه الذمة ووهنها وتعريضها للفقر بما يقتضي منها مّما هو مشترك بينهما.

والدّيّة لا يصحّ فيها هذا التقدير، إذ لا يملك الأولياء أخذ الدّيّة بغير رضي القاتل. فإنّهم لا يتعيّن ملكهم له دون ما سواه، بل هم مخيّرون بين أخذ الدّيّة أو القتل. وإنّما هم قادرون على أن يملكوا هذا المال الذي هو الدّيّة. ومن قدر أن يملك مالًا فلا يعدّ مالكًا، على إحدى الطّريقتين عندنا. لكن إنّما يقوّي هذا التّخريج عند من خرّجه كون ابن القاسم لا يرى الدّيّة تؤخذ إذا أبى منها القاتل. مع كون هذا الّذي ذهب إليه يبعد كون العبد إنّما أخذ عن مال. ثمّ مع هذا قال: إنّ أحد الوليّين يدخل مع الآخر في هذا العبد. فدلّ ذلك على أنّ هذا الّذي أشرنا إليه من القدح في هذا التّخريج لا يلتفت عنده إليه. وقد أغلى الشّيخ أبو إسحاق في صحّة هذا التخريج بأنّ العافي عن الدّم أفسد الدّم على أخيه، وأخذ عوض هذا الإفساد مالًا أوْهَنَ به الذّمّة. وأنكر احتجاج من قال في المدوّنة أنّه لا يدخل أحد الوليين على الآخر فيما صالح به عن العفو عن الدّم. كما لا يدخل أحد الشّريكين على شريكه في عبد باع نصيبه منه، لكون الشّريكين في العبد لم يدخل أحدهما على الآخر شيئًا، ولا أخلى ذمّة مشتركة. بخلاف صلح أحد الوليّين الّذي أفسد بصلحه المال وأوهن الذّمّة. وقد ذكرنا ما يمكن أن يقال في منع هذا التّخريج. لا سيما وأشهب يجيز العفو عن دم العمد، وإن وقع في المرض على ما سنبيّنه فيما بعد. وأمّا المسألة الثّانية فهي ما ذكر في كتاب السلم في المدؤنة في رجلين أسلما إلى رجل في طعام فأقاله أحدهما منا نصيبه، فإنّه أجاز ذلك. قال: ولا حجّة لشريكه عليه في ذلك. فنفى ها هنا دخول الشّريك على شريكه في الدّيون المشتركة. لأنّهما قد استحقّا جميع هذا الطّعام في ذمّة الغريم. فأخذ أحدهما عوضه وهو رأس ماله فيه. وذلك أيضًا مِمّا يوهن الذّمّة ويضعفها. ثمّ مع هذا لم يجعل لشريكه مشاركة فيما أخذ. والمذهب فيمن أخذ عين حقّه في الدّين أو أخذ عوضًا عنه، فإنّ لشريكه مشاركته في ذلك إذا لم يستأذنه. ولهذا أنكر سحنون هذه المسألة.

وقد أكثر الأشياخ الكلام على هذه المسألة. فمنهم من ذهب إلى أن لا اعتذار عما وقع في هذه المسألة وقدّرها قولًا آخر في أن الشّريك لا يدخل على شريكه جوابًا عامّا في مسائل هذا الباب. ومنهم من منع تخريج الخلاف في هذا الأصل من هذه المسألة، واعتذر عنها بأنّ إثبات دخول الشّريك على شريكه في هذه الإقالة يؤدي إلى فسادها. وإذا ادّى ذلك لفسادها، بطلت في نفسها. وبطلانها يمنع من ثبوت حقّ الشريك فيها. إذ من شرط ثبوته له أن تكون الإقالة ثابتة في نفسها. واختلفت إشارة هؤلاء إلى طريق الفساد بدخول الشّريك على شريكه ها هنا. فمنهم من أضاف ذلك إلى أنّها إقالة فيها خيار للشريك الّذي لم يقل، هل يمضيها على ما هي عليه، أو يردّ ما تعلّق له من حقّ برده فيها؟ وإثبات الخيار في مثل هذه الإقالة يفسدها. ومنهم من أشار إلى أنّ الّذي أقال إذا شاركه فيها (¬1) أخذ صاحبه الّذي أسلم معه، صارت إقالته من بعض ما يستحقه من السلم، والإقالة من بعض ما يستحقّه من السلم لا تجوز. لا سيما إذا قلنا ها هنا: إنّه يرجع شريكًا لصاحبه الّذي لم يقل فيما في ذمّة الغريم الّذي عليه السلم. ومنهم من اعتذر عن هذه المسألة من طريقة أخرى، ورأى أنّ الّذي عليه الطّعام إذا أقاله أحد الشّريكين، فإنّه يحلّ محل الشّريك الّذي أقاله في الطعام الذي هو سلم في ذمته. فيصير ذلك كتولية الشريك لرجل بقدْر رأس ماله في هذا الطعام، وذلك غير ممنوع. ولا موجب لدخول شريكه عليه فيما أخذه في التّولية. ولا تقدّر هذه الإقالة كبيع لنصيبه من الدّين وصلح عنه فيجب دخول شريكه عليه، لأن بيع الطعام قبل قبضه ممنوع. إلى غير ذلك من الاعتذارات التّي ذكروها ونقلناها نحن عنهم فيما أمليناه في السلم الثّاني. وذكرنا هناك الّذي عندنا نحن في هذه المسألة. فإذا وضح هذا ووجب مشاركة الشّريك لشريكه فيما اقتضاه من الدّين، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما.

فإنّا نذكر ها هنا صفة الدّين التّي تجب المشاركة فيه. فالدّيون التي بين الشّريكين لا يخلو من أن تكون ثمن سلعة اشتركا فيها ثمّ باعاها بثمن معلوم، أو مال اشتركا فيه ثمّ أقرضاه لرجل. أو يكون ذلك ثمنًا لمال لم يشتركا فيه، كسلعتين ينفرد كل واحد منهما بملكها، ثمّ يجمعانهما في البيع من رجل صفقة واحدة، على القول بجواز جمع السلعتين في البيع، وهما ملك لرجلين. ثمّ لا يخلو كل قسم من هذه الأقسام من أن يكتب الرّجلان بينهما هذا على من هو عليه في كتاب واحد، أو يكتباه في كتابين، أو لا يكتبانه أصلًا. فأمّا إذا كان الدّين ثمنَ سلعة اشتركا فيها، وكتبا ثمنها على المشتري في صحيفة واحدة، أو كانت بينهما دنانيرهما فيها شريكان، فأقرضاها لرجل واحد وكتباها عليه في كتاب واحد، فإنّ هذا هو الّذي فرغنا من حكايته المذهب فيه، وأخبرنا أنّ المنصوص في المذهب إيجاب دخول أحد الشّريكين على الآخر إذا اختار ذلك. والقول المخرج في هذا من ألمّه لا يدخل عليه. وقد حكيناه أيضًا. ووجه هذا أنّ المال إذا كان مشتركًا وعاملا فيه رجلًا واحدًا وهما على الشّركة فيه، وأكّدا ذلك بأن كتباه في كتاب واحد، فإن ذلك يقتضي استحقاق ذمّة لهما على المساواة والشّياع فيها، فليس لأحدهما أن ينفرد بما يضرّ شريكه فيما اشتركا فيه بما يوهن ذمّة الغريم ويخلّيها من مقدار ما قبضه، فتقل الثّقة بمعاملته فيلحق شريكه ضررٌ في هذا الّذي اشتركا فيه، فيكون من حقّه أن يرفع الضّرر عن نفسه بالمشاركة فيما أخذه الشريك لنفسه حتّى يكونا قد استويا فيما خلت الذّمّة منه وما بقي فيها، كما كانا مستويين في هذه المعاملة. وإن كانت هذه السلعة المشتركة باعاها جميعًا ولم يكتبا على الغريم كتابًا بثمنها. فالجواب أيضًا ما ذكرناه من حكم الاشتراك في الذّمّة، واعتبارُ رفع الضّرر عن أحدهما ثابت. وإن كتبا ثمنها في كتابين ينفرد كلّ واحد منهما بكتابه، فإنّه لا يدخل أحدهما على الآخر، لكون هذا الانفراد بالكتاب كالمفاصلة في الشّركة،

والمقاسمة لما على الغريم. وقد قدّمنا أن الدّين إذا اقتسماه، انفرد كل واحد بما اقتضاه. وكذلك حكم هذا الذين إذا كان من قرض لمال اشتركا فيه، وكتباه في كتاب أو كتابين أو لم يكتباه، الحكم في هذه الأقسام كما قدّمناه في (¬1) إذا كان الدّين من بيع سلعة مشتركة. وأمّا إذا كان الذين ثمن سلعتين ينفرد كلّ واحد منهما بملك سلعته، فباعاهما جميعًا على القول بجواز ذلك، وكتبا ثمنهما في كتابين، فإنه لا يدخل أحدهما على الآخر فيما اقتضاه، لكونه لا شركة بينهما في ثمن ولا مثمون. وأمّا إن كتبا ذلك في كتاب واحد، فإنّ الشّيخ أبا محمّد بن أبي زيد، رحمه الله اعتبر حال المثمون ولم يوجب لأحدهما الدّخول على الآخر لَمّا كانا غير شريكين فيما باعاه. واعتبر بعض المتأخرين الثّمن، وقدر أنّه لما كتباه في كتاب واحد، صار ذلك كشركة فيه، وإذا ثبتت الشّركة فيه، وجب دخول أحدهما على الآخر فيما اقتضاه. ولا بعد في أن يوجبْ الكتاب الواحد الجمع فيما كان أصله مفترقًا، كمسألتنا هذه. كما لم يبعد كون افتراق الكتابين يوجب التفرقة فيما كان أصله مشتركًا. فإذا لم يبعد هذا، لم يبعد في عكسه. فإذا تقرّر هذا، فإنّه إذا أوجبنا لأحدهما مشاركة صاحبه فيما اقتضاه منه فإنّ المذهب على قولين مذكررين في المدوّنة هل يكقف المشارك لشريكه فيما اقتضاه أن يقتضي جميع دينه، ثمّ يردّ منه على الشريك المقتضى أوّلًا المقدار الّذي اقتضاه وأعطاه إيّاه حتى يعتدلا في مشقّة الاقتضاء، كما اعتدلا في المساواة في هذا المال؟ أو لا يكلّف ذلك، بل يقتضيان جميعًا ما بقي في الذمّة ويشتركان فيه أيضًا؟ وكأنّ من ذهب إلى هذا قدّر أن ما في الذّمّة من عين هما فيه شريكان، وهو كعرض تعدّى أحدهما فأخذ بعضه، فإنّ للآخر أن يجيز فعله وينفرد بحقّه الّذي كان في الذمّة، ويقتضي، جميعه لنفسه. أو يشارك المقتضي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوْلى إسقاط (في).

فيما اقتضاه بحكم تعدّيه في الاقتضاء، ثمّ يرجعان جميعًا مشتركين فيما على الشّريك، لكونه إذا أجاز فعل الشريك اقتضى ذلك أن يجيزه على حسب ما يتضمّنه حتى كأنّه وكّله على الاقتضاء لنفسه، وله (¬1) على أن يبقي ما في الذّمّة على حكم الشّركة. وإذا دخل الشّريك على شريكه فيما اقتضاه، فإنّه يدخل عليه بنسبة ما كان له معه. فإن كان الدّين بينهما نصفين شاطره فيما اقتضاه وأخذ نصفه. وإن كان على الثّلث والثّلثين، قسم ما اقتضاه أحدهما على هذه النّسبة أيضًا. لكن لو كان الدّين بينهما نصفين وهو مائة دينار مثلًا فاقتضى أحدهما من نصيبه عشرة، وهضم عن الغريم أربعين دينارًا، فإنّ في المدوّنة قولين: هل يقتسمان هذه العشرة على حسب ما كانت المشاركة في الدّين في أصل المعاملة. ويقدّر أنّ الهضيمة كأنّها حدثت بعد استحقاق المشاطرة في العشرة حين الاقتضاء. أو يقدّر كاْنّ الهضيمة لمّا قارنت الاقتضاء كالنسبة له، وكأنّه لم يكن للّذي هضم من حقّه أربعين دينارًا سوى عشرة دنانير في الأصل، ولشريكه خمسون ينارًا، فيقتسمان ما اقتُضِي على النّسبة في هذه المشاركة، فيأخذ الّذي لم يقتض من هذه العشرة الّتي اقتضيت خمسة أسداسها, لمّا كان له من جملة الدّين الّذي هو ستّون دينارًا خمسون، وهي خمسة أسداس هذه الجملة، فيأخذ من العشرة خمسة أسداسها، وهي ثمانية دنانير وثلث. ويرجع الشّريك الآخر على الغريم بأحد وأربعين دينارًا وثلثي دينار. ثمّ يختلف في اقتضاء الثّمانية وثلث، هل هي على آخذها من شريكه حتّى يردّها إليه؟ أو على الشّريك الّذي أخذت من يديه. ولو اقتضى العشرة ولم يهضم ما بقي من دينه ثمّ بعد ذلك هضمه، لارتفع هذا الخلاف الّذي ذكرناه واقتسما العشرة نصفين، لأنّ حالة الاقتضاء كان حقّهما في الذّمّة متساويًا، وحينئذ تعلّق حق الشريك بالمقاسمة على المساواة. هذا حكم اقتضاء أحد الشّريكين كلّ المال الّذي يستحقّه أو بعضه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين والأولى حذف: على.

وأمّا لو باع حقّه من الغريم بعرض يكال أو يوزن أو لا يكال ولا يوزن، والدّين ليس بطعام من سلم حتى تفرض المسألة في صلح عن الدّين بما يجوز. ولهذا قيّد في المدوّنة في هذا السؤال أن الصّلح عمّا في الذّمّة مِمّا ليس بطعام ولا إدام. لأجل أن الطّعام والإدام إذا كانا في الذمة، فلا يجوز الصّلح عنهما بعرض. لأنه بيع الطّعام قبل قبضه إذا كان ذلك استقرّ في النمّة من سلم لا من قرض. لأن بيع الطّعام القرض يجوز قبل قبضه. فإن المذهب في هذا أيضًا على قولين مذكررين في المدوّنة. أحدهما أنّه من حقّ الشّريك الّذي لم يصالح أن يشارك شريكه في العرض الذي أخذ، فيكون ذلك بينهما لكونه أَوْهَنَ الذّمّة وأضعفها بما أخذه من عرض. فمن حقّ شريكه أن يمنعه من أن يوهن ذمّة مشتركة بينهما ويرفع هذا الضرر عنه. وهو. لا يرتفع إلاّ بالمشاركة في العرض الّذي أخذ لكنّه إذا قبض، هذا الذي لم يصالح، دينَه، فإنّه يطالبه شريكه، الّذي صالح بالعروض، بقيمة ما أخذ منه وهو نصف العرض. ويعتبر قيمته يوم صالح به الشّريك لا يوم أخذ نصفه منه. والقول الثّاني: أنّهما إذا اشتركا في العرض عادا مشتركين فيما بقي في ذمّة الغريم من الدّين، فيكون بينهما نصفين، لكون ما في الذّمّة حكمه حكم العرض، وإن كانا عينًا. فإذا صالح عما في الذمّة بعرض، فكأنّه تعدّى على عرض مشترك فباع بعضه بعرض آخر، فإنّ للشّريك الّذي لم يبع أن يمضي فعله في نصيبه خاصّة. ويبقى هو على حقه في العرض المشترك ويجيز فعله. ويكونان مشتركين في العرضين جميعًا الثّمن والمثمون. وكأن من ذهب إلى القول الآخر قدّر أنّه إنّما يشاركه لرفع الضرر عنه فيما أوهن به الذمة الّتي حقه باق فيها. ولهذا وجبت المشاركة. فإذا رفع الضّرر عنه بالمشاركة فمتى أمن من هذا الوهن واقتضى جميع حقّه، غرم لشريكه ما أخذ منه، ولو لم يجد عند غريمه إلاّ نصف الحق الّذي له عليه، لم يغرم لشريكه عوض جميع ما أخذ منه وهو نصف العرض. ولكنّه يغرم له بمقدار ما أخذ، وقد أخذ نصف حقّه، فارتفع الوهن في نصف الحقّ الّذي قبض، فعليه أن يردّ لشريكه قيمة نصف ما

أخذ منه وهو ربع العرض. ولا يردّ إليه ما قابل الرّبع الآخر من الدّين الّذي عجز عن أدائه الغريم. فهذه الطّريقة لا تتضمّن كون الشريك الذي لم يصالح يجيز الفعل لشريكه وما يقتضيه فعله ويتضمّنه حتّى يعودا شريكين في الباقي في الذّمّة الّذي هو ثمن لما صالح به. وإنّما يجيز من هذه المبايعة ما أخذ خاصّة دون ما أعطى عوضًا عمّا أخذ. ولا يجري ما أخذه هذا الشريك من شريكه مجرى القرض لهذا العرض، فإن من أقرض ثوبًا، فإنّما يردّ مثله. ومن استهلكه تعدّيًا أو عن بيع فاسد، فإنّما يغرم قيمته. وهذا أوجبته الأحكام، فلا يكون كالعرض الّذي يدخلان فيه باختيارهما جميعًا، ولهذا تلزمه غرامة القيمة ولو كان عين الثّوب الّذي وقع الصّلح به باقيًا لم يتغيّر، والقرض له أن يردّه بعينه على من أقرضه له إذا لم يتغيّر. ومقتضى هذا الّذي أشرنا إليه أنّ الصّلح عن الدّين إذا وقع بمكيل أو موزون، فإنّه يردّ قيمته أيضًا. وإلى هذا ذهب بعض حذّاق الأشياخ، لكون هذا أمرًا أوجبته الأحكام لرفع الضّرر. فلو قضِي في المكيل والموزون بمثله ها هنا لأوشك ألاّ يرتفع الضّرر عن هذا الّذي لم يصالح، بأن تغلو أسعار الطّعام الّذي أخذ مِمّا وقع به الصّلح. فيكلّف أن يشتري مثله فيشتريه بأضعاف ثمنه يوم أخذه، فيكون ذلك أشدّ إضرارًا به عمّا دخل عليه من وهن الذمة بما أخذه شريكه. وقد يرخُص الطّعام أيضًا، فإذا أخذ الشّريك المصالح مثل الطعام الّذي أخذ منه وصالح به وقت كونه غاليًا، وهو حين يغرمه شريكه له لا قيمة له، لحِقَه الضّرر البيّن، وأصل المشاركة إنّما قضى بها للعدل بين الشريكين حتّى يرتفع الضّرر عن أحدهما. ومن الأشياخ من ذهب إلى أنّ الصّلح إذا وقع عن الدّين بمكيل أو موزون فأخذ الشّريك الّذي لم يصالح نصفه، فإنّه إذا قبض دينه ردّ مثل الّذي قبض كيلًا أو وزنًا لا قيمة، كما يردّ من استهلك طعامًا مثله لا قيمته. وقد أشرنا إلى المعنى الّذي يمنع قياسه على الاستهلاك، وهو أنّ

المشاركة إنَّما وجبت للعدل بين الشّريكين في رفع الضّرر عن أحدهما، وهذا المعنى لا يتصوّر في مسألة الاستهلاك للمكيل والموزون. فإن قيل: إذا كان وجوب الرّدّ على هذا الشّريك الّذي لم يصالح بقيمة ما أخذ معلّقًا بأن يأخذ دينه من الغريم فيرذ قيمة ما أخذ من شريكه المصالح، فإن لم يأخذ من دينه شيئًا، فلا يردّ على شريكه شيئًا من عوض ما أخذ منه. فقد يقدّر أنّ الشّريك المصالح لمّا كان وجوب حقّه في الرّدّ عليه معلَقًا بأن يأخذ شريكه دينه من الغريم يكون أحقّ بما في يد شريكه إذا فلس وقد أخذ دينه من الغريم، أو يحاصّ الشّريك المصالح بما وجب له على شريكه من العوض عمّا أخذ منه غرمًا للشريك الذي لم يصالح، لكون هذا الدّين في ذمّة الشّريك المصالح ووجوب قيمة نصف العرض الذي أخذ من شريكه المصالح دينًا في ذمّته، وتعليق هذا الدّين بشرط أخذه من غزيمه لا يخرجه عن كونه دينًا متعلّقًا بالذّمّة تجب المحاضة به كما تجب المحاضّة بسائر الدّيون. قيل: هذا مِمّا تردّد فيه بعض حذّاق الأشياخ ومالي إلى وجوب المحاصّة بهذه القيمة الّتي وجبت للشّريك على شريكه. وهذا تبسط أصوله إن شاء الله في كتاب المديان والتّفليس، ونذكر هناك ما يلاحظ هذا أيضًا مِمّا اختلف فيه الأشياخ وكثرت مناظرة بعضهم لبعض فيه، وهو المفلس إذا ثبت عليه كراء دار لم يسكنها بعد، فهل يحاص صاحب الدّار غرماء المكتري بالكراء ويقدّر دينًا حالًا كما تحلّ آجال الدّيون إذا وقع التّفليس، ولا يلتفت إلى ما يمكن أن يطرأ من هدم الدّار فيسقط الكراء، فتصير المحاصّة بأمر غير ثابت؟ أو يكون ما يترقب من هدم الدّار لا يلتفت إليه لأنّا نستصحب وجوب الكراء وسلامة الدّار، واستصحاب ذلك يلحقه بالدّيون الثّابتة الّتي لم تعلق بشرط. فإذا وضح هذا كلّه، فإنّ الإشتراك في سائر الدّيون يوجب دخول أحد الشّريكين على صاحبه على تفصيل ما قدّمناه. ولو كانت الدّيون وجبت عن وراثة، والوراثة لم يرض الورثة بالشّركة فيها, ولا دخلوا على ذلك، حتى يقدر أن أحدهم إذا اقتضى بعض الدّين المورود فقد أوهن ذمّة دخل الشريكان فيها

على أنّ أحدهما لا يضز بصاحبه. لكن هذا الاشتراك وإن أوجبته الأحكام، فإنّه يجري مجرى ما اشتركا فيه بالطّوع. لأنّ الذّمّة التي ملكوها عمّن ورثوه بينهم على الشّياع، والحقّ إذا كان شائعًا، لم يكن لأحد الشركاء أن يفعل فيه ما يعيب به الحقّ وينقصه. وأشار سحنون إلى أن الدّيون الثّابتة في الذّمم لغير المشتركين فيها كالدّيون الموروثة أو أروش الجناية لا يدخل فيها أحد الشريكين على الآخر، لكون الشّركاء ها هنا لم يلتزموا شركة تتضمّن ألاّ يعيب أحدهما ما اشتركا فيه. ولهذا يلحق بالاشتراك في المال في هذا الحكم ما هو متعلّق به، كوارث ادّعى على رجل أنّ لأبيه عنده دينًا فافتدى المدّعى عليه من اليمين الواجبة عليه بمال دفعه لهذا الوارث المدعي، فإن لمن سواه من الورثة أن يشاركوه فيما أخذ صلحًا عن هذه اليمين. لأنّ الصّلح إنّما وقع عن مال زعم هذا أنّه لأبيه الّذي اشتركوا في وراثته وأنّه مظلوم فيما انتقص من حقّه. فصارت دعواه تتضمّن وجوب مشاركة بقيّة الورثة. ولو استحلفوا الغريم ووصلوا إلى حقّهم منه بالاستحلاف، فإن ذلك لا يمنعهم من مشاركة هذا الوارث الّذي صالح عن هذه اليمين الواجبة بهذه الدّعوى، لأجل ما نبّهنا عليه من كون دعواه تضمنت ثبوت المشاركة فيما أخذ بينه وبين بقية الورثة. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: قد قدّمنا الكلام في السؤال الّذي فرغنا من جوابه الآن أنّ مذهب ابن القاسم أن صلح أحد الوليين عن دم العمد يوجب مشاركة بقيّة الأولياء له فيما أخذ. كما يجب ذلك لهم إذا اقتضى ثمن سلعة باعوها وهم أشراك فيها. وأن غيره منع، في المدوّنة، من هذا، وقاسه على بيع أحد الأشراك نصيبه من عبد، فإنّ بقيَّة أشراكه لا يدخلون معه في الثّمن الّذي قبض. وذكرنا إلزام بعض الأشياخ لهذا القائل أن يمنع المشاركة فيما اقتضى من الدّيون التي هي أثمان سلعة اشتركوا فيها. وذكرنا الفرق بين بيع التصيب من السلعة، وهو مقدار ما يختصّ بالبائع، وبين الدّيون المشتركة، وأنّْ من باع نصف سلعة بينه وبين غيره، فإنّ البيع ينطلق على نصيبه ونصيب غيره .. بخلاف إذا باع نصيبه خاصّة، فإنه لا

مدخل لشريكه في ذلك. وإن كان وقع في الموّازيّة في الدّين المشترك أنّه يدخل الشّريك الّذي لم يغ نصيبه على من باع نصيبه من الدّين المشترك من الغريم أو من أجنبيّ. [مع كون بيعه من أجنبى] (¬1) لا يوهن ذمّة الغريم ولا يخليها، فيجب ألاّ يدخل شريكه في هذا الّذي باعه من أجنبيّ، كما لا يدخل عليه في ثمن نصيبه الّذي باع من عبد مشترك بينهما. وقد ذكر أشهب في المدوّنة أنّ القتيل إذا استحقّ دمه ابناه وبنته، فصالح أحد الولدين عن الدّيّة على مقدارها أو أكثر من ذلك، فإن لأخويه أن يشاركاه فيما أخذ وإن كان أكثر من الدّية. ولم يقيّد أشهب أنّ ما زاد على الدّيّة لا حق للأخوين فيه، فلا يجب أن يشاركا فيه المصالح، لأجل أن الزيادة على الدّيّة إنّما كانت بسبب العفو عن الدّم الّذي هم فيه شركاء، فوجب اشتراكهم في الزّائد على الدّيّة. كما وجب اشتراكهم فيها لما أن كان الجميع عوضًا عن الدّم المشترك بينهم. قال: ولو صالح أحدهم على أقلّ من نصيبه من الدّيّة، وهو خمساها, للزمه ما حطّ من نصيبه. ولم يلزم ذلك أخويه بل يأخذ كلّ واحد منهما من القاتل نصيبه على الكمال. ولو عما أحد الولدين على غير شيء يأخذه، لانتقل حكم الدّم في نصيب من لم يعف إلى حكم الخطإ، فيكون له على القاتل خمسمائة دينار، لكون الدّم امتنع القصاص فيه لعفو أحد الوليين عن نصيبه، ونصيبُه من الدّم المراق لا يتميّز فلمّا ارتفع القصاص، لأجل هذا صار كارتفاعه لأجل كون القتل خطأ. ولو طرأ على الميّت دين لأخذ من الخمس مائة دينار الّتي أخذها الّذي لم يعف، لكون ما يؤخذ من دم العمد من ديّة يورث على فرائض الله، ويرث فيه من لا قيام له في الدّم كالزوجة وشبهها. وإذا ثبت أنّه يورث، ثبت أنّه تقضى منه الدّيون، إذ لا ميراث إلاّ بعد الدّين. بخلاف معتَق يموت بعد موت سيده، فإنّه، وإن كان يرثه عصبة سيّده، فإنّ الدّين لا يقضى مِمّا ترك هذا العتيق، لكون هذا المال إنّما يرثه العصبة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (و).

بالولاء بحكم الشّرع لا على أنّ الميت مَلكَه وتركه موروثًا عنه، لأنّ العتيق لا يملك سيّدُه ما اكتسبه بعد عتقه ولو كان العتيق حيًّا، فكيف به إذا مات والدّيّة وجبت على القاتل المُذهِب للحياة؟ فصارت الدّيّة كأنها تركة للميّت كانت له في حياته، مع كون القتل أتلف ذمته، وأحل مكسبه للغرماء ما يقتضي منه ديونه. ولا مطالبة للوليّ، الّذي أخذت من يده المائة من نصيبه الّذي قبضه من الدّيّة، على القاتل بشيء. ولا يقدّر في هذا أنّ الدّم لمّا انتقل إلى حكم الخطإ في حقّ الّذي لم يعف، انتقل أيضًا في حقّ العافي, فيصير كأنه وجبت له خمسمائة دينار فأسقطها عن القاتل فوهبها. فيقول الآخذ للخمسمائة: إنّما عليّ من مائة الدّين خمسون وعلى العافي خمسون فوهبها، وهبته لا يلزمني أن أقوم بها عنه. لأنّ هذا التّقدير إنما يصحّ لو عفيا (¬1) جميعًا على أن يأخذ كل واحد منهما نصيبه من الدّيّة. فلمّا وجب ذلك لكلّ واحد من الولدين على القاتل وهب نصيبه للقاتل. والعفو ها هنا لمّا وقع على غير شيء، وهذا العفو هو الّذي صيّر الدّم كالخطإ، لم يستقرّ فيه كون ثبوت الدّيّة المعلّقة بالعفو سابقًا لاستحقاقه أيضًا هو نصيبه من الدّيّة على القاتل. ولو ترك هذا القتيل مائة دينار لم يختصّ الدّين بها، بل يؤخذ منها وممّا أخذه الذي لم يعف عن الدّم بالحصص، فيُقضَى من المائة، الّتي ترك الميّت، سدسُها في الدّين، ويؤخذ خمسة أسداس الدّين من الخمسمائة الّتي أخذها الّذي لم يعف، ثمّ يعود الّذي عما فيشارك أخاه في خمسة أسداس المائة، الّتي ترك أبوهما، فيقسمانها نصفين على فرض الله سبحانه. ولو كان أبوهما ترك مدبّرًا ولم يترك هذه المائة دينار ولا غيرها، فإنّ عتق المدبّر يكون أيضًا غير مختصّ بما أخذ في الدّيّة، بل يفرض في العتق على المدبر سدسه، وعلى قابض الخمسمائة خمسة أسداسها على مذهب عبد الملك الّذي يرى أن المدبر يعتق فيما علم به الميّت من ماله وفيما لم يعلم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: عَفَوا.

به. فالمدبّر مِمّا علم به الميّت وما أخذ في الدّيّة مِمّا لم يعلم به. فيعتق المدبر بالحصص في هذين المالين بخمسة أسداسه يعتق في الخمسمائة دينار للّذي لم يعف. وأمّا على مذهب ابن القاسم الّذي يرى أنّه يبدَّأ في عتق المدبر بثلث المال الذي علم به. فإن قَصُر ذلك عن عتق المدبر، أكمل عتقه في ثلث المال الّذي لم يعلم به أيضًا. فيبدأ بعتق ثلث المدبر لأنّه هو المال الّذي علم به، ويبقى ثلثاه، فينوب ذلك المال الّذي لم يعلم به. فإذا قدّرنا أن قيمة المدبر مائة دينار، وقد أخذ أحد الوليين خمس مائة دينار فتضاف إليها قيمة ثلثي المدبر وذلك سبع وستون دينارًا غير ثلث، فيقسط جميع المال أثلاثًا فتكون الخمسمائة خمسة عشر ثلثًا وثلثا المدبر يضاف إلى الخمسة عشر، فيكون جميع المال المتروك سبعة عشر ثلثًا كلّ جزء منها ثلاثة وثلاثون وثلث، فيكمل عتق المدبر. ويرث الّذي لم يعف ثلث المائة وهو ثلاثة وثلاثون وثلث. ويكون بقيّة المال للذي لم يعف. ولو ترك مع المدبر مائة دينار، لعتق على مذهب ابن القاسم ثلثا المدبر، لأنّه ثلث المال الّذي علم به وهو المدبر وقيمته مائة، والمائة الّتي تركها، فثلث المائتين ثلثا المدبر. ويرث الّذي عما ثلث المائة على أصل ابن القاسم. ولو عفا الجريح في مرضه عن هذا الجرح، فإنّ عفوه ماض، وإن لم يترك مالًا، ولا مقال في ذلك لورثته، ولا لغرمائه إن كان عليه دين. وهذا واضح على أصل ابن القاسم الّذي يرى أن ليس لأوليائه إجبار القاتل على الدّيّة. وإنّما يثبت له إذا رضي هو ورَضُوا هم، فعفْوُ الجريح لا يتصوّر فيه إتلاف مال استقرّ لهم، فأتلفه عليهم بالعفو، فيكون ذلك في ثلثه. وإنّما ينظر في هذا على أصل أشهب الذاهب إلى أنّ لأولياء القتيل إجبار القاتل على الدّيّة. فقد صاروا كالقادرين على ملك الدّيّة، فمنعهم من ورثوه من تملّكها، فصار كمتلف مال عليهم. لكن أشهب نصّ ها هنا على أنّ عفوه جائز، على حسب ما ذهب إليه ابن القاسم، وقدّر أنّ قدرتهم على تملّك هذا المال لا يصيّره ملكًا لهم، فيكون متلفًا لذلك عليهم. لكنّه لم يطرد هذا الأصل في القاتل إذا كان عبدًا وقد قتل

حرًّا وعفا الحرّ القتيل قبل موته عن هذا العبد. فإنّ أشهب قال: يكون عفوه هذا في ثلثه. خلافًا لِمَا ذهب إليه ابن القاسم في هذا من مساواته بين كون القاتل حرّا أو عبدًا. فإنّه يرى أنّ عفوه ينفذ. وقدّر بعض الأشياخ أنّ هذا كاختلاف قول من أشهب. وأشار إلى أنّه لا يتحقّق فرق بين كون القاتل على جهة العمد حرًّا أو عبدًا، كما ذهب إليه ابن القاسم. وعندي أنّه قد لا يلزم أشهب هذا لكون جناية العبد متعلقة برقبته إلاّ أن يفديه سيّده. وكأنّه خرج بالجناية من ملك سيّده إلى ملك المجنيّ عليه حتّى يستردّه سيّده إلى ملكه بانفراد، على ما سنبسط هذه الإشارة في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى. وهذا حقّ متعلّق بعين يقدّر أنّ ملكها زال عن سيّد العبد، فهو بخلاف ديّة معلّقة بالذمم وليسمت بعين موجودة حتّى يقدر فيها انفصالها عن ملك مالكها. وذكر في المدوّنة في هذا الكتاب أنّ اجتماع جماعة على قطع يد رجل محمدًا يوجب له قطع يد كلّ واحد منهم. وكذلك الجماعة إذا تعاونوا على قتل نفس محمدًا، فإنّه يوجب لأولياء القتيل قتل جميعهم. وقد يقال ها هنا: إنّ الجماعة إذاْ تعاونوا على إخراج مال من الحرز، فإنّه لا يقطع جميعهم إذا لم يبلغ ما أخذ كلّ واحد منهم ربع دينار. إلاّ أن يكون ما أخرجوه لا يقدر على إخراجه من حرزه إلاّ باجتماعهم. ومقتضى هذا أن يشترط في اجتماع جماعة على قطع يد رجل لا يقطع جميعهم إذا كان كل واحد منهم لو انفرد، لقدر على قطع يده. لكن هذا لم يشترطه أهل المذهب، وما ذلك إلاّ لأنّه لا يتحقّق قدرة أحدهم على قطع يد هذا إلاَّ باجتماعهم، لأنّه وإن كان كل واحد منهم أقوى من المقطوع يده، فإنّه يمكنه الفرار منه والتحيّل عليه بما لا يمكنه من الفرار والتحيّل مع اجتماع الجماعة عليه. ولو قتل رجل رجلًا له وليّان فعفا أحد الوليين عن دم وليّه وصالحه الوليّ الآخر، فإنّ العافي لا مقال له في الدّم ولا فيما أخذ في الصّلح. لكن لو قتله الولي الّذي لم يصالح، لاسترجع حن المصالح ما أخذ. هكذا ذكر ابن القاسم. فلعلّه قدّر أنّ القاتل إنّما بذل ما بذل بشرط بقاء حياته وألاّ يقتل. فإذا حصل القتل من جهة غير الّذي عما وصالح، فإنّ الصّلح يبطل ببطلان المقصود بهذا الصّلح.

ومنع ابن القاسم من الصّلح عن دم العمد بثمرة لم يبد صلاحها. وأمضاه غيره. وهذا أيضًا يلتفت فيه إلى ما قلّمناه من كون ما يؤخذ من دية العمد لا يقدّر أنّه مِمّا يُقْدر على ملكه على أصل ابن القاسم. فيكون مقتضى هذا ما قاله غير ابن القاسم في إمضاء الصّلح ها هنا بثمرة لم يبد صلاحها. أو يقدر أن ذلك كمال مملوك لما قدر على ملكه، على أصل أشهب، فيمنع من هذا الصّلح. وممّا ينظر فيه على هذا الاختلاف لو صالح عن دم العمد بعرض إلى أجل، فإنّه إن قدرنا أن الدّيّة لما قدر على ملكها كالمملوكة فإنّ هذا يُمنع منه أيضًا، لكونه فسخ دين في دين، وذكر في المدوّنة أنّ الجاني عمدا لغرمائه أن يردُّوا ما صالح عليه من مال ليعفى عنه إذا كان قد أحاطت الدّيون بماله. فأمّا منعهم إيّاه من ذلك قبل أن يوقعه، فإن كونهم يستحقّون ذلك مِمّا يتّضح، لأنه يطالبونه بالدّيون فيأخذون جميع ما في يده، فيمتنع الصلح عليه. لكن إذا وقع ذلك قبل علمهم، فهل لهم ردّه أم لا؟ ظاهر المدوّنة أنّهم يمنعون من ردّه، لأنّه ذكر فيمن صالح على جناية تحملها العاقلة، ودفع في ذلك رهنًا، أنّ المرتهن يكون أحقّ به من الغرماء. ولم يقيّد هذا الجواب يكون الجناية محمدًا أو خطأ. ويتضح أن تصرّف الغريم، الّذي أحاط اللّين بماله، بالمعاملة والمعاوضة المطلوب بها التّنمية، أنّ ذلك ماض لما فيه من المصلحة له ولغرمائه. كما يتضح أيضًا ردّ هباته وعطاياه الّتي لا معاوضة عنها. ويبقى النّظر فيما عاوض به مِمّا له فيه مصلحة ومنفعة، وليس في ذلك منفعة لغرمائه كالجناية، وخلِع المرأة، الّتي أحاط الدّين بمالها، نفسها من زوجها بمال تدفعه إليه، فإن هذا المال لم يخرج إلاَّ على جهة المعاوضة، ولكنّها معاوضة ليست بماليّة محضة، فيلتفت في هذا أيضًا إلى كون الغرماء عاملوه على ذلك أو لم يعاملوه عليه. وقد أجازوا لمن أحاط الدّين بماله أن يتزوّج بصداق يبذله ويتسرى أمة، لكون هذا مِمّا تمسّ الحاجة إليه ويتكرّر فعله. فيقدّر أنّ الغرماء دخلوا عليه وأذنوا فيه. وسنبسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.

وذكر في هذا الكتاب من المدوّنة أنّ الجريح إذا صالح الجارح على مال فمات من جُرحِه، أنّ لأولياء القتيل أن يردّوا ما وقع الصّلح عليه ويقتلوه بقسامة، ولهم أن يتمسكوا بالصّلح ويسقطوا القصاص. قال في الكتاب: وليس من حقّ الجارح أن يقول: ردّوا على ما دفعته في الصّلح واقتصوا منّي بأن تقتلوني، لأنّ هذا مِمّا لا منفعة له فيه. وإنما ينظر في هذا لو كان الجرح خطأ فوقع الصّلح عنه. فهل يكون من حقّ المصالح أن يستردّ ما صالح عليه لكون الدّيّة على عاقلته، فيستفيد برد الصّلح سقوطَ الغرامة عنه واسترجاع ما دفع أم لا، لكون هذا الصّلح قد رضي به على الإطلاق؟ أو يقدّر إنّما رضي به ظنًّا منه أنّ الغرامة تختصّ به دون عاقلته؟ وقد اختلف في جواز الصّلح عن هذا الجرح وعن ما يتناهى إليه. فأجيز ذلك لكون الغرر في هذا ليس كالغرر في المعاوضات الماليّة. أو يمنع لما فيه من الخطر. وهذا يستقصَى في موضعه إن شاء الله تعالى. وذكر في المدوّنة في أحكام الصّلح عن اللّماء الصّلح عن موضحتين، إحداهما عمد والأخرى خطأ، وأعاد ذكر الصّلح عن ذلك في كتاب الشّفعة. وكتاب الشّفعة أحقّ به. ولهذا نعيده هناك بأبسط ما نورده ها هنا. فذكر في الكتاب قولين في ماذا يقع الاستشفاع به. فحكى عن ابن القاسم أنّه إذا أوضح رجل رجلًا مُوضِحتين، إحداهما عمد والأخرى خطأ، فصالح الجارح المجروح عنهما بشِقص من دار، أنّ الشّفعة تكون بديّة (¬1) موضحة الخطإ، وهي خمسون دينارًا، وبنصف قيمة الشقص. وذكر عن المخزوميّ أنّ الشفعة تكون بخمسين دينارًا ما قابل موضِّحة الخطإ، وبقيمة ما قابل موضحة العمد من هذا الشّقص. وذلك يعرف بعد التّقويم للشّقص ونسبة ديّة موضِحة الخطإ إلى ما أخذ عن ديّة العمد. فإذا قوّم جميع الشّقص بمائة ديتار، مثلًا، وقد علم أنّ دية الخطإ خمسون دينارًا، فإنّا ننسب ديّة موضِحة الخطإ مِمّا وجب ها هنا في موضِحة ¬

_ (¬1) في المدنية: بقيمة.

العمد، فنجده قد حصل لموضِحة الخطإ ثلث هذا الشّقص، [لكون خمسين دينارًا من جملة، هي مائة وخمسون، الثّلث، فاقتضى هذا كونَ هذا الشقص] (¬1) دفع ثلثُه عن موضِحة الخطإ، وثمنها في الشرع معلوم. فصار دافعه كأنه باع ثلثه بخمسين دينارًا، والباقي بعد ذلك لموضِحة العمد، وذلك ثلثا الشّقص. ومن صالح عن موضِحة عمد بشقص، فإنّ الشّفعة تكون بقيمة الشقص. فكذلك إذا صالح ببعض الشقص عن موضّحة العمد، فإنّ الشّفعة تكون بقيمة ما صالح به عن موضّحة العمد، وهو ثلثا هذا الشقص. وذكر في غير المدوّنة أنّ ابن نافع ذهب إلى أنّ الشّفعة تكون بقيمة الشّقص ما لم تنقص قيمته عن خمسين دينارًا الّتي هي ديّة موضِحة الخطإ. فإن نقصت قيمة الشّقص عن الخمسين دينارًا، فإنّ الشّفيع لا يأخذ الشّقص إلاّ بالخمسين دينارًا. وهذا المذهب الثّالث الّذي اذهب إليه ابن نافع هو اختيار الحذّاق من أتباع أصحاب مالك كابن الموّاز وابن حبيب وسحنون، حتّى أغلى في تصحيح هذا المذهب سحنون، فقال: الصّواب مذهب ابن نافع، وما سواه فليس بشيء. وتبع هؤلاء على هذا الاختيار يبيح بن عمر. وأشار بعض أشياخي وبعض أشياخهم إلى مذهب رابع في هذه المسألة. وهو كون الشّفعة ها هنا تجب بالخمسين دينارًا. وما يشبه أن يكون قيمة لموضِحة العمد. والنّكتة الّتي ينصرف إليها هذا الاختلاف أنّك قد علمت أنّ هذا الشّقص لو كان مدفوعًا كلّه عن موضحة الخطإ، لكانت الشّفعة بديّة موضِحة الخطإ، وهي خمسون دينارًا. ولو كان مدفوعًا عن موضِحة العمد، لكانت الشفعة فيه بقيمته. فإذا دفع عنهما جميعًا، وهما متساويان، وجب أن يقسم المدفوع عنهما بينهما نصفين. فيكون نصف الشّقص دفع عن موضِحة الخطإ، فيستشفع هذا النّصف بثمنها، وهو خمسون دينارًا. كما لو دفع جميعه عن موضِحة العمد، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفين ساقط من (و).

فإنّ الشّفعة تكون بقيمته. والحكم في جزء له كالحكم في جميعه. كما لو باعه بعشرين دينارًا، فإنّ العشرين تقسم عليه، فيكون ثمن كلّ نصف منه عشرة دنانير. وهذا يقتضي ما قاله ابن القاسم. وإن قلنا: إن الدّم ليس من الحقوق الماليّة المحضة، فلا يكون في نفسه ثمنًا للشّقص، وإنّما ثمن الشّقص أعواضه. وأعواض موضِحة الخطإ خمسون دينارًا. وموضِحة العمد عوضها قيمة الشقص. فقد صار الثّمن في هذا الشّقص خمسين دينار أو قيمته في نفسه. ولمّا لم يكن في نفسه ثمنًا مكيلًا ولا موزونًا، صرفت الشّفعة إلى قيمته، كما تصرف لو كان ثمنه عبدًا، فإن الشّفعة بقيمة العبد لمّا لم يكن العبد مكيلًا أو موزونًا. فإذا انصرفت الشّفعة إلى ثمن الموضحتين لا إلى أنفسهما. وثمنهما خمسون دينارًا في انفراد موضِحة الخطإ، وقيمة الشّقص في انفراد موضِحة العمد، وجب أن تكون الشّفعة بذلك على جهة الفضّ على هذين الثّمنين. وإذا فضّ ذلك عليهما وكانت قيمة الشّقص مائة دينار، وقيمة موضِحة الخطإ خمسون دينارًا، فقد صار مدفوعًا عن مائة وخمسين دينارًا. فالّذي يقابل المائة دينار ثلثا الشّقص، فتكون الشفعة بقيمة ثلثيه، وذلك ستّة وستّون دينارأوثلثا دينار. والّذي يقابل موضِحة الخطإ ثلث هذا الشّقص. وثمن هذا الثّلث معلوم. فتكون الشّفعة به. وهذا مثاله ما قيل في أنّ من أوصى لرجل بمائة دينار، ولآخر بمجهول، مقداره يأتي على المال، فإنّ المحاصّة لمّا كانت الوصية بمعلوم ومجهول تقع بالمائة دينار وبالثّلث. فتضرب في الثّلث الّذي تجمع فيه الوصايا بنفسه وبالمعلوم فتكون المحاصّة فيه في نفسه بنسبته إلى المعلوم لمّا امتنع الضّرب بالمجهول، عاد الأمر إلى ما يستحقه هذا المجهول وهو الثّلث. وإن قلنا: إنّ موضِحة الخطإ وإن كان معلومًا ثمنها في الشّرع، فإنّها في هذه المسألة يصير ثمنها غير معلوم، لكون الشّقص ثمنًا لموضِحة الخطإ وديّتها، وثمنا لموضحة العمد وثمنها القيمة المجهولة، فلا يدري ما يقابل موضِحة العمد. وذلك يسري إلى أنّه لا يدري أيضًا ما يقابل موضِحة الخطإ، فكأنه دفع عن مجهولين، فتكون الشّفعة بقيمته الّتي هي عوض عن جميعه. وجميعه مدفوع

عن الموضِحتين، وقيمته بدل. فلتكن قيمته مدفوعة عن الموضِحتين جميعًا. فتكون الشّفعة فيهما بقيمته كما لو كانت الموضِحتان عمدين جميعًا، فإنّ الشّفعة تكون بقيمته. لكن إذا كانت إحداهما خطأ وثمن الخطإ معلوم، وقد علم أنّ الشّقص دفع عنهما جميعًا، فإذا قصرت قيمته عن الخمسين دينارًا، فلا يصحّ أن يحطّ الجارج عنهما ويزول حكم الموضحة المجهولة، ويصير الثّمن ديّة الموضحة المعلومة. فأنت ترى هذه المذاهب الثّلاثة تتصرّف إلى كون نفس الشقص مقسومًا على الموضحتين لمّا كانت المعاوضة به عنهما. أو مقسومًا على ثمنهما لما أن كانت المواضع ليست بأعواض ماليّة. أو يكون غير مفضوض عليهما بالنّسبة والتّقويم ولا على ثمنهما جميعًا، فتكون الشّفعة بقيمة الشّقص ما لم يقتصر عن الخمسين دينارًا، فتصرف المعاوضة إلى المعلوم. وأمّا المذهب الرّابع، فإنّ أصبغ ذكر في هاتين الموضِحتين أنّ هذا الصلح لو وقع بهذا الشّقص على أن زاد المجروحُ عبدًا من عنده، فإنّه تكون الشّفعة بقيمة العبد وبالخمسين دينارًا وبما يجتهد فيه في تقويم موضِحة العمد. فإن كانت قيمة العبد خمسين دينارًا، فهي مثل ثمن موضحة الخطإ. وإذا قوّمت موضحة العمد بخمسين دينارًا، بعد اعتبار حال الجارح وكونه أكثر قصده في المعاوضة الدّفع عن نفسه القصاص لمشقّته عليه، أو أكثر قصده ما يغرمه من مال، لكون القصاص يخفّ عليه، فإنّه يستشفع بالخمسين دينارًا الّتي هي ثمن موضحة الخطإ وبالخمسين دينارًا الّتي هي قيمة العبد وبثلث قيمة الشّقص، لكون الّذي يقابله من الثّلاثة المدفوعة يساوي كلّ واحد منهما الآخر. ولو اختلفت هذه القيم، لكانت الشّفعة على ما تقتضيه النّسبة من اختلافها. فيجعل لموضحة العمد من الشّقص ما قوّمت به موضحة العمد على المثال الّذي أريناك. وهذا كمذهب المخزوميّ في اعتبار النّسبة. ولكنّ المخزوميّ صرفها إلى اعتبار موضحة العمد بأن جعل قيمة الشّقص عوضها. وصرفه أصبغ إلى أن جعل ما يقوّم به موضحة العمد هو عوضها. ثمّ يتّفقان جميعًا على صرف هذا التّقويم إلى الاستشفاع بقيمة ما قابل موضحة العمد من هذا الشقص. وهذا

الّذي نسبناه لأصبغَ من كونه إذا قوّم موضحة العمد بالاجتهاد، نظر ما يقابل هذه القيمة من الشّقص، فجعل الشّفعة بقيمة ذلك من الشّقص ل ابن فس ما قوّمت به العمد من الدّنانير، عليه حمل ما وقع له فيْ ذلك الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد، وأشار إليه غيره من متأخّري الأشياخ. وظاهر كلامه عندي يقتضي كون الشّفعة تؤخذ بما قوّمت به موضحة العمد لا بقيمة ما يقابل هذه القيمة من الشّقص. وذلك أنّه قال: إذا دفع المجروحُ عبدًا وأخذ الشّقص من الجارح، عوضًا عمّا وجب عليه في الموضحتين، وعن العبد، فإنّ العبد يقوّم وتقوّم موضِحة العمد بالاجتهاد. فإن كان العبد وقيمة الموضحة الّتي هي عمد بالاجتهاد وديّة موضحة الخطإ تتساوى، فإنّه يأخذ الشفعة. فقال الشّيخ أبو محمَّد: مراده بهذا أنّ العبد إذا كان الثّلث والموضحتان تتساويان في أثمانهما، هذه بالتّقويم، وهذه بديّتها الشّرعيّة، فإن الشفعة تكون بقيمة ثلث الشّقص المقابل لموضحة العمد. وبعض أشياخي (¬1) يشير إلى أنّ الأوْلى أخذ الشّفعة بقيمة موضحة العمد بالاجتهاد من غير رجوع إلى اعتبار قيمة ما يقابلها من الشّقص. لأنه إذا وجب تقويمها في نفسها بالاجتهاد، وصارت كالموضحة الأخرى الّتي قوّمها الشّرع بخمسين دينارًا، فكما لم يعدل عن الخمسين دينارًا إلى ما قابلها من الشّقص، فكذلك لا يعدل عن موضحة العمد إلى ما قابلها من الشقص. وإذا علمت ما يقابل كلّ واحد من هذه الثّلاث مع التّساوي صرفته في اختلاف قيمها. فلو كان العبد قيمته تقابل نصف أثمان الموضّحتين، لكانت الشفعة بقيمته وبديّة موضحة الخطإ، وهي خمسون دينارًا، وبقيمة موضّحة العمد بالاجتهاد على ما أشرنا نحن إليه، وعلى ما تأوّله الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد تكون الشّفعة في موضّحة العمد بما قابلها من الشّقص، فيؤخذ قيمة ما قابلها من ذلك. ولو كانت الموضحتان خطأ وأخذ الشّقص عنهما وعن عبد دفعه المجروح ¬

_ (¬1) (أشياخي) ساقطة من (و).

كما قلناه، لكانت الشّفعة بقيمة العبد وبديّة الموضحتين من غير خلاف. ولو كانت الموضحتان محمدًا لَقوّمتا بالاجتهاد ونظر إلى ما قابل قيمتهما من الشّقص، وأخذت الشّفعة بقيمة ما قابلهما من الشّقص بعد التّقويم لهما وبقيمة العبد. وعلى ما أشرنا نحن إليه لا يرجع إلى الالتفات إلى قيمة ما قابلهما من الشّقص. وقد أشار الشّيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد إلى مناقضة أصبغ في هذا الّذي قاله من كونه اعتبر في موضّحة العمد قيمتها بالاجتهاد إذا أضيف إليها موضحة خطإ ومحمد، مع كونه يوافق ابن القاسم فيما قاله في المدوّنة في أنّ الجارح إذا دفع شقصًا عن موضحة خطإ وموضحة عمداَّ، أنّ الشّقص يكون بينهما نصفين. ولم يقل أصبغ ها هنا بتقويم موضحة العمد بالاجتهاد أيضًا وينسبها إلى موضّحة الخطإ بل قسَم الشّقص بينهما نصفين. والّذي أشار إليه من هذا يسبق إلى النّفس أنّه لا فرق بين السؤالين، ولكن قصارى ما يمكن عندي أن يعتذر عما قاله أصبغ ها هنا أنّ مسألة المدوّنة لم يوجب الشّرع في شيء ميق ثمن ما يستشفع قيمة، بل حدّ في موضحة الخطإ خمسين دينارًا، وبقيت موضحة العمد على الاجتهاد في حكمها. وفي مسألة المجروح إذا دفع عبدًا وأخذ شقصًا قد اتّفق على اعتبار القيمة في بعض ما يستشفع به وهو العبد. فلمّا ثبتت القيمة في بعض الثّمن الّذي يستشفع به أجرى التّقويم في غيره من الثّمن المضاف إلى ما أوجب الشّرع تقويمه. وهذا غير مستنكر في الأصول أن حكمًا إذا ثبت في شيء حسن أن ينسحب الحكم على ما قارنه ولازمه في العقود. وإذا تصوّرت ما قدّمناه في مسألة المدوّنة في دفع شقص عن موضحتين إحداهما عمد والأخرى خطأ، فإنّ هذا الّذي ذكره أصبغ في زيادة المجروح عبدًا من عنده لمّا أخذ الشقص يتصوّر فيه على مذهب ابن نافع إذا كانت الموضحتان محمدًا، وزاد معهما المجروح عبدًا، فإن الشّفعة بقيمة الشقص ما لم

ينقص عن قيمة العبد، كما كانت في مسألة المدوّنة بقيمة الشّقص ما لم ينقص عن ديّة الخطإ. وعلى مذهب المخزوميّ تكون قيمة العبد كالمعلوم، ويحمل على قيمة الشّقص، وينسب بعضها من بعض، فتكون الشّفعة بما قابل موضحتي العمد من الشّقص، فيدفع الشّفيع قيمة ذلك. ويقسم ابن القاسم الشّقص بين المعلوم والمجهول على حسب ما قلناه عنه. وهكذا تصرف هذه المذاهب فيما إذا كانت إحداهما محمدًا والأخرى خطأ وزاد المجروح عبدًا. هذا حكم الزّيادة إذا كانت من المجروح. فلو كانت من الجارح بأن دفع عن موضحة العمد وعن موضحة الخطإ شقصًا وزاد مع ذلك زيادة، فإنّه لا يخلو أن تكون هذه الزّيادة دنانير من جنس ديّة موضحة الخطإ، أو تكون هذه الزّيادة عرضًا. فإن كانت عرضًا، فإنّ المشهور أنّ البخاري فيها على مذهب ابن القاسم أن يقسم العرض بين الموضحتين نصفين. فيكون نصفه لموضحة الخطإ ونصفه لموضحة العمد. فيستشفع في موضحة العمد بنصف قيمة الشّقص، لكون العوض عنها نصف العرض المدفوع ونصف الشّقص ويستشفع النّصف الآخر بديّة موضحة الخطإ. ولو دفع الجارح مع الشقص دنانير، فإنّ يحيى بن عمر ذهب إلى قصر الدنانير المدفوعة على ديّة الخط ذلك ونها من جنسه. فإذا دفع مع الشّقص عشرة دنانير مثلًا، فإنّه يكون قد قضاه من موضحة الخطإ عشرة دنانير وبقي منها أربعون دينارًا. وقد فرض ابن القاسم (¬1) كون موضحة الخطإ متساوية (¬2) في هذا لموضحة العمد فلتكن قيمتها خمسين دينارًا، كما كانت قيمة موضحة الخطإ. لكن موضحة قد قضى منها عشرة دنانير وبقيت أربعون دينارًا دفع الشّقص عوضًا عن الأربعين وعن ما قدّرنا أنّه بخمسين دينارًا، فيستشفع الشّقص بأربعين دينارًا وبخمسة أتساع قيمة الشّقص، لكون الجملة في التّقدير ¬

_ (¬1) في المدنية: ابن مالك. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مساوية.

تسعين دينارًا وخمسون من تسعين خمسة أتساعها، وهي الّتي تقابل موضحة العمد، وموضحة العمد إنّما تستشفع بقيمة الشّقص أو بما قابلها منه إن كان معها غيرها. ولو دفع عشرين دينارًا مع الشّقص، لكانت الشّفعة بثلاثين دينارًا وخمسة أثمان قيمة الشقص. هكذا على هذه النّسبة حتّى يكون المدفوع من الدّنانير خمسين دينارًا، فيكون المجروح قد استوفى ديّة موضحة الخطإ وتخلّص الشقص كلّه لموضحة العمد، فتكون الشّفعة بقيمته كلّه. وعلى رأي الشّيخ أبي محمّد بن أبي زيد، فإنّ البخاري عنده على أصل ابن القاسم فيما أشار إليه، أن تقسم الدّنانير نصفين، كما قسم العرض أيضًا نصفين. فإذا دفع عشرة قسمها على الموضحتين فكانت الشّفعة بخمسة وأربعين دينارًا بقيمة دية موضحة الخطإ وبنصف قيمة الشّقص المقابل لموضحة العمد. وهكذا على مقتضى ما أشار إليه لو كان المدفوع مع الشّقص مائة دينار، لقسمها نصفين. فتكون الشفعة عنده في موضحة العمد بنصف قيمة الشّقص، مع كون هذا الشّقص دفع وقد دفع معه جميع ديّة موضحة الخطإ. فيستبعد أن يكون قد أخذ المجروح جميع ديّة موضحة الخطإ، ثم يجعل بعد هذا لموضحة العمد نصف الشّقص. وقد ظهر أنّ جميع الشّقص لموضحة العمد، لكون موضحة الخطإ قد سقط حبهمها بدفع ديّتها، فصار كما لو دفع الشّقص عن موضّحة العمد ولم يجرح سواها، فإنّ الشّفعة تكون بجميع قيمة الشّقص. ولكن هذا الاستبعاد يلزم عند بعض المتأخّرين في (¬1) إذا كان المدفوع مع الشقص عرضًا، وقد حصل في نصف قيمته جميع ديّة موضحة الخطإ، فيجب أيضًا أن تكون الشّفعة بقيمة الشّقص كلّه، لكون موضحة الخطإ سقط حكمها بدفع ديّتها عرضًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوْلى حذف (في).

وهذا عندي قد يعتذر عنه بأنّ العرض تختلف الأغراض فيه، ونسبته إلى موضحة العمد كنسبته إلى موضحة الخطإ. فليست إحداهما أحق به من الأخرى. فلهذا أوجب أن يقسم بينهما نصفين. وأمّا الدّنانير فهي من جنس ديّة موضحة الخطإ. فلمّا كانت من جنسها وجب أن يصرف ما دفع من دنانير مع الشّقص إلى كونه قضاء لديّة الخطإ. لكن أصبغ لم يسلك في العرض إذا دفع مع الشّقص مسلك يحيى بن عمر والشّيخ أبي محمّد بن أبي زيد فيتناقض بما ذكرنا. بل قال: لو دفع الجارح مع الشّقص عبدًا، لاعتبرنا قيمة العبد. فإن بهانت قيمة العبد كقيمة الشقص، فقد دفع العبد عن نصف الموضحتين، ونصفُ موضحة الخطإ خمسة وعشرون دينارًا، وموضحة العمد قد قابلها نصف. الشّقص، فتكون الشّفعة في موضحة العمد بنصف قيمته. ولو كانت قيمة العبد من الشّقص الثّلث، لكان العبد قد قابل ثلث الموضحتين وبقي ثلثا الموضحتين للشّقص، فتكون الشفعة بثلثي ديّة الخطإ وبنصف قيمة الشّقص، لأنّ الشّقص مقسوم بين الموضحتين نصفين. ولو كانت قيمة العبد من الشّقص الرّبع، لكانت الشّفعة في موضحة العمد بقيمة نصف الشّقص لا يتغيّر حسابها، وفي موضحة الخطإ بثلاثة أرباع ديتها. وذكر في المدوّنة إذا ادّعى وليّ القتيل على القاتل أنّه صالح على مال يبذله له، فإنّ القصاص يسقط لإقرار وليّ الدّم بسقوطه، ولا يقبل دعواه على القاتل أنّه رضي له بمال ويحلف على ذلك. وذكر أيضًا أنّ القاتل خطأ إذا صالح ظنّا أن الدّيّة تلزم في ماله، فإنّ له نقض الصّلح إذا علم أنّها لا تلزمه. قال بعض الأشياخ: إذا كان مِمّن يجهل ذلك، فلا بد من أن يستظهر عليه باليمين على صحّة عذره. وإن وجد المال الّذي دفع قد أتلفه أولياء الدّم، فإن كان هو المطالب لهم بالصّلح، فإنّه لا يرجع عليهم به، كمن أثاب من صدقة ظنّا أنّها تلزمه. وإن كان هم طالبوه بالصّلح، فإنّهم يغرمون له ما أتلفوه من هذا المال.

وهذا الّذي أشار إليه من التّفصيل في الرّجوع بهذا المال نبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال في المدوّنة ولو أقرّ بالقتل وصالح على الدّيّة تؤخذ من ماله، فإنّه يلزمه الصّلح. ولم يعذره لجهله أنّ ذلك لا يلزمه لأجل الاختلاف في المذهب، هل تكون الدّيّة على المقرّ أو على العاقلة بقسامة فيكون كشاهد لهم على العاقلة إذا كان عدلًا؟ ولم نعذره ها هنا بجهله لمّا صادف فعله واعتقاده أحد الأقوال في مذهب أصحابنا في هذه المسألة. وكأنّه حكم وقع بما اختلف الناس فيه. هكذا اعتذر بعض الأشياخ عن هذا. ولا يتّضح كون هذا كحكم، لأنّا سنبيّن في كتاب الأقضية ما ينفذ من الأحكام بالمختلف فيه. وعلى أيّ صفة يجب إنفاذ حكم الحاكم إذا حكم بما اختلف النّاس فيه. والجواب عن السؤال الثّامن أن يقال: إذا ادّعى رجل على رجل حقًا فأنكر فصالحه، ثمّ ثبت الحقّ بعد الصّلح، فإنّه لا يخلو من أن يكون ثبوته بوجه واضح لا مخاصمة فيه، كإقرار المطلوب بثبوت الحقّ الّذي أنكره أوّلًا. أو يثبت ببيّنة. فإن ثبت بإقرار المنكر له أوّلًا، فإنّ الصّلح لا يلزم المقرّ له، لأنّه إنّما التزمه كالمجبر عليه والمغلوب على حقّه. فإذا قدر على التخلّص من هذه الغلبة والإجبار بالتوصّل إلى حقّه الّذي منع منه، كان له طلبه. وقال سحنون: وله ألاّ ينقض الصّلح ويتمادى عليه، ولا يطالب المقرّ بحكم إقراره. وهذا صحيح لأنّ نقضه حق له لا حقّ عليه للباري سبحانه ولا لخصمه. فوقف إمضاؤه أو ردّه على اختياره. كمن أكره على بيع سلعته بثمن فإنّه إذا زال عنه الإكراه، كان له ارتجاع سلعته، لكونها خرجت من ملكه بغير اختياره، وله إمضاء البيع فيها، لأنّ المكرِه له عاوضه عنها باختياره، وله أن يلزمه اختيارَه. وليس كونه بالخيار في ردّ هذا الصّلح بالّذي يوجب سقوط ضمان ما أخذ في الصّلح عنه، لأنّه لم

يسلمه إليه المنكر لحقّه بغير اختياره، بل لو شاء لاستحلفه وقنع بيمينه. فعدوله عن ذلك، وهو الحقّ الّذي أوجبه الشّرع، إلى المعاوضة عنه معاوضة التزماها جميعًا توجب كون الضمان فيها يجري مجرى العقود الصحيحة الّتي لا خيار فيها. وأمّا إن ثبت الحقّ ببيّنة والمدّعى عليه متماد جحودُه مكذّب للبيّنة، فإنّ ذلك لا يخلو من أن يكون لم يعلم بالبيّنة، أو علم بها فلم يقم بها وهي حاضرة أو غائبة. فإن كانت البيّنة، الّتي ثبت له بها أصل الحق وصدْقه في دعواه، لم يكن علم بها حين الصّلح، ففي ذلك روايتان. إحداهما: أنّ له القيام بها، وهو الّذي ذكره في المدوّنة. والثّانية أن لا قيام له بها، وهي رواية مطرف عن مالك في كتاب ابن حبيب. فكأن من أثبت له القيام قدّر أنّه لما صالح جاهلًا بها، فإنه يُعلَم أنّه لو علم بها ما رضي بما رضي بالصّلح، فكأنّه اشترط فيه هذه المعاوضة، أنّ له النّقض للصّلح متى ثبت أصل حقّه. وصار ثبوت حقّه كعيب يطلع عليه في المبيع، فإنّ له القيام به لجهله به حين العقد، ولو كان عالمًا به، لم يكن له قيام. كما أنّ من لم يصالح على حق ادّعاه فأنكره المدعى عليه فاستحلفه الطّالب، ثمّ وجد بيّنة لم يكن علم بها، فإنّ له القيام بذلك، لأنّ استحلافه كالمشروط فيه أنّه إنّما رضي به لأجل عدم البيّنة، فمتى وجدها لم يسقط حقّه فيما شهدت به. ومن منعه من القيام بالبيّنة رأى أنّ الصّلح وقع مع تجويزه أن يعثر على بيّنة، فيصير كالملتزم لإسقاطها في عقد هذه المعاوضة. ولهذا قال في الرّواية: لو شاء لتربص، فعجلته إلى المعاوضة مع قدرته على التربّص كالمسقط لحقه في هذه البيّنة. كما يسقط حقه في العيب إذا دخل على علم به. لا سيما أنّ

القيام بالبيّنة مبطل عقد المعاوضة [ويبقى منعقدًا] (¬1) والشّرع يلزم عقود المعاوضة إلاَّ عند أمر يوجب حلّها. وقد أخذ ما أخذه في الصّلح ليتصرّف فيه وينتفع به، فلم يمكن من ردّه بعد ذلك لأجل ظهور بيّنة لم يعلم بها. ولهذا كان له القيام ببيّنة لم يعلم بها إذا استحلف خصمه. لأنّ استحلافه له ليس بمعاوضة ولا تصرف في ملك أخذ على جهة المبايعة. فلهذا كان له أن يقوم بالبيّنة الّتي لم يعلم بها. وكان قيامه ببئنة لم يعلم بها بعد الصّلح فيه الخلاف المذكور. وقد قال سحنون فيمن أقرّ في السرّ وجحد في العلانية وقال للمدّعى عليه: أخّرني وأقرّ لك، فأشهد المدّعي في السرّ أنّه إنّما يصالحه لإنكاره، وأنّه متَى وجد بيّنة قام بها، فإنّ الصلح لا يلزمه إذا ثبت جحوده وثبت أصل الحقّ. والظّالم أحق أن يحمل عليه. فأشار إلى أنّه متى اشترط في السرّ قيامه ببيّنة يجدها، فإنّه يمكّن من ذلك. وأمّا إن كان عالمًا بها وهي حاضرة يمكنه القيام بها فعدل عن ذلك إلى الصّلح، فإنّ الصّلح لازم ولا قيام له بهذه البيّنة إذا كان قد صرّح حين الصّلح بأنه قد ترك القيام بها. وإن لم يصرّح بذلك، فقد علم أنّ المذهب على قولين فيمن استحلف خصمه وهو عالم بحضور بينة تحقّق دعواه، هل يكون مجرد علمه بها دلالة على تركها؟ أو لا يكون ذلك دلالة فيكون له القيام بها؟ وأشار بعض المتأخرين إلى كون هذا الخلاف ثابتًا في مسألة الصّلح، كما يثبت في مسألة الاستحلاف على ما تقدّمت إشارتنا إليه. وأشرنا إلى كون الصّلح والمعاوضة أعلى درجة في هذا وأبعد في الفسخ من الاستحلاف خاصّة، لكون الاستحلاف ليس بمعاوضة فيه، ويقدَّر المستحلف بأنّه اعتقد أنّه لا يحلف ويغنيه عن البيّنة، أو أراد إشهاره باليمين الكاذبة. ولا يتصوّر مثل هذا في الصّلح الّذي طريقه المعاوضة. وأمّا إن كانت البيّنة الّتي علم بها بعيدة الغيبة فصالح، فإنّه إن اشترط في الصّلح أنّه متى قدمت قام بها وأعلن بذلك، فإن له القيام بها, ولم يختلف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعلها أو يبقى منعقدًا.

المذهب فيه. وأمّا إن أشهد في السرّ أنّه يقوم بها إذا قَدِمت، ففيه قولان: هل ينفعه هذا الإشهاد كما لو أعلن به واشترطه، فيكون له القيام بهذه البيّنة إذا قدمت؟ أو لا ينفعه هذا الإشهاد في السرّ لكون المدّعى عليه مكّنه من التّصرّف في ماله على جهة المعاوضة؟ ولو علم بماه أودع من بيّنة أو أسرّها, لم يسلم إليه ماله، فلا يكون له القيام بالبيّنة، لأنّ تمكينه من القيام بها يوجب حلّ هذه المعاوضة. وقد قدّمنا أن الأصل في البياعات اللزوم والانعقاد. وقد ذكر ابن القاسم فيمن أخّر من له عليه دين بشرط أنّه متى ادّعى القضاء، لم يستحلفه، واصطلحا على ذلك، أنّ هذا الاصطلاح لا يلزم. ومتى ادّعى المديان القضاء، فإنّ له استحلاف الطالب له بالدّين. وكأنّه قدّر أنّ هذا شرط خلاف ما يوجبه الشّرع، فلم يوفّ له بشرطه. وروي عنه أيضًا في الخصمين إذا اصطلحا على إسقاط البيّنة، أو على أنّ المدّعى عليه إن نكل عن اليمين، غرم من غير أن تردّ اليمين على المدّعي، فإنّ ذلك ماض. وهذا الشرط أيضًا من كون النّكول يوجب الغرامة من غير ردّ اليمين، خلاف مقتضى الشّرع في الدّعاوي المحقّقة لا في الدّعاوي المبنيّة على التّهم. وهذا إنّما يحسن النظر فيه إذا وقع الصّلح في هذا على معاوضة .. وأما إن لم تكن معاوضة والتزم المدّعى عليه أنّه لا يردّ اليمين وأسقط حقه في ردّها، فإنّ هذا لا يختلف في جوازه، لأنه. إسقاط حقّ له على غير عوض، وهو كالهبة. والجواب عن السؤال التّاسع أن يقال: قد قرّرنا أنّ الصّلح على الإقرار بيع من البيوع، لا يختلف في ذلك. وأنّ الصّلح على الإنكار عندنا فيه قولان، والمشهور من المذهب أنّه أيضًا بيع من البيوع، لكون المدعي تتضمّن دعواه أنّ الّذي صالح عليه إنما أخذه على جهة المعاوضة، وإن كان المدّعى عليه ينكر ذلك. وقد تقدّم بيان هذا مبسوطًا. فلو أنّ رجلًا استهلك لرجل سلعة، فإن الواجب عليه قيمتها، فإذا

صالحه عمّا وجب عليه من ذلك، ووجوب القيمة قد اتّفقا عليه، فإنّ ذلك يجري مجرى البيوع. وقد تقدّم فيما سلف من كتاب البيوع بيان ما يحلّ ويحرم في البيوع والمعاوضات. فإذا ثبت وجوب القيمة في هذه السلعة المستهلكة، فإنّه إن أخذ عنها عوضًا نقدًا، جاز ذلك. ولكن بعد المعرفة بمقدار القيمة الواجبة لأنّها في المبيعة بما أخذه صاحب السلعة المستهلكة. ولا يجوز لأحد أن يبيع شيئًا هو جاهل به. هذا إذا وقع البيع بجنس من الأعواض غير الجنس الّذي تقوَّم به السلعة المستهلكة. ويجب على من استهلكها أن يغرمه. وأمّا إذا أخذ من جنس ما تقوّم به السلعة المستهلكة، فإنّه إذا وضح عندهما أنّ المأخوذ أكثر من القيمة بالأمر البيّن أو أقلّ منها، فإنّ ذلك لا يمنع من التّراضي به، ولا يفتقر فيه إلى الوقوف على حقيقة القيمة، لأنّه ليس ها هنا معاوضة عن شيء فيفتقر إلى العلم بما وقعت المعاوضة عنه، وإنّما حصل من هذا أنّه قد وهب صاحب السلعة بعض ما يستحقّ من القيمة، أو وهب دافع القيمة أكثر مِمّا يجب عليه والهبة تجوز وإن كانت مجهولة. وهكذا لو استهلك جزافًا، فإنّ الواجب فيه القيمة. ولا يجوز أخذ عوض عنه من غير جنسه إلاَّ بعد المعرفة بمقدار القيمة الواجبة فيه. وأمّا إذا أخذ من جنسه مثل أن يستهلك صبرة قمح فيأخذ من مستهلكها قمحًا أو شعيرًا أو سلتامكيلا، فإن وضح أنّ الّذي أخذ من ذلك يربي على مقدار الصبرة المستهلكة لو كيلت أو ينقص عنها, لجاز ذلك، لأنّ الأمر ينتقل ها هنا إلى غرامة مكيل من جنس المكيل الّذي استهلك. ويكون ما زاد على ذلك أو قصر عنه هبة، على حسب ما قلناه، وما تقدّمت الإشارة إليه في الصّبرة إذا علم كيلها وطلب ذلك صاحبها في أن يقدم له ما تحقّق أنّها لا تقصر عنه على حسب ما تقدّم بيانه في غير هذا الكتاب. وأمّا لو تراضيا في هذه الصّبرة على غرامة قمح أو شعير أو سلت يتحرّيان كونه موافقًا لمكيلة الصبرة، لم يجز ذلك، لما فيه من المزابنة والتّجويز للوقوع في الرّبا. هذا حكم ما يصطلحان فيه على النّقد. وأمّا إن اصطلحا على التأجيل، فإنّ ذلك لا يجوز أيضًا إذا كان ما اتّفقا

على تأجيله من غير جنس القيمة الواجبة على المستهلك، لأنّ ذلك دين في دين. وأمّا إن كان اتّفقا على ما هو من جنس القيمة الواجبة، فإنّه إن كان ذلك يعلم أنّه مثل القيمة الّتي يقضى بها نقدًا أو أقلّ من ذلك، فإنّ ذلك سائغ، لكون من وجبت له القيمة سمح بتأخير ما وجب له. وهذا معروف، والمعروف لا يمنع منه. فأمّا لو كان التأجيل يعلم أنّه في أكثر من مقدار ما يجب من القيمة، فإنّ ذلك لا يجوز لكونه سلفًا جرّ منفعة. وذلك أنّ القيمة للسلعة المستهلكة إذا كانت عشرة دنانير مثلًا، فإنّ الواجب القضاء بها على المستهلك نقدًا. فإذا رضي صاحب السلعة المستهلكة أن يأخذ عن ذلك خمسة عشر مؤجّلة، فإنّ الغارم لذلك إنّما زاد خمسة دنانير ليؤخَّر بعشرة وجبت عليه. وهذا واضح تحريمه. ويجب أن يلتفت إلى عادة أهل البلد الذي استهلكت فيه، فتكون القيمة بما يتبايعون به هذه السلعة إن كانوا يتبايعونها بالدّنانير، أغرم المستهلك دنانير. وجرى تفصيل حكمها على ما قدّمناه في غرامة جنس القيمة. وإن كانت العادة عندهم بيعها بالدّراهم، كان التقويم بالدّراهم، وجرى الأمر فيها على ما فصّلناه. فإن كان التّقويم بالدّنانير والاصطلاح على دراهم أو التّقويم بالدّراهم والاصطلاح على دنانير جرى الأمر فيها أيضًا على ما فصّلناه في المصالحة على غير الجنس. ولو غصب عبدًا فأبق، لكان لصاحبه أن يغرمه قيمته. وله أن يعدل عن تغريمه القيمة، ويسقط حقّه فيها، ويطلب عبده الآبق. وقد قيل في هذا: لا يجوز المعاوضة عن هذه القيمة بأن يطلب الآبق لأنّه كبيع آبق بقيمة مجهولة. والمشهور جواز ذلك وكون صاحب العبد مخيّرًا بين طلب عبده أو طلب قيمته. وقد انفصل عمّا أشار إليه أهل المذهب الشّاذ بأنّ الضّرورة تدعو ها هنا إلى المسامحة بغرر. لأنّا إن منعناه من طلب عبده فكأنّا أبحْنَا له أو ألزمناه أن يبيعه بقيمة مجهولة. وإن منعناه من أخذ القيمة، فإنه تركها لأمر مجهول أيضًا وهو الآبق، إذ لا يدري حاله حين هذه المصالحة مع أنّ غصبه وإباقه لا يسقط ملك سيّده عنه، والأصل بقاء ملكه عليه. وإنما الشّرع أثبت له حقًّا على

الغاصب بأن يغرمه القيمة إذا شاء، فلا يُمنَع من إسقاط هذا الحقال في أباحت له الشّريعة طلبه ولم توجب ذلك عليه. ولو وقع الصّلح في مثل هذه المسائل على الإنكار بأن يكون ادّعى رجل على رجل أنّه غصب له سلعة واستهلكها وأنكر المدّعى عليه أن يكون غصب له شيئًا، فإنّ جميع ما قدّمناه من التّفريع يعود ها هنا، لكوننا قدّمنا أن الصّلح على الإنكار، كالصّلح على الإقرار، فيما يحلّ ويحرم على المشهور من المذهب. وقد أورد في كتاب الصّلح من المدوّنة فصلًا يتعلّق بشراء المراجع. وقد تقدّم ما يتعلّق به من الكلام في هذا الفصل. ويتأخّر أيضًا فيما يرد بعد هذا من الكتاب ما يتعلق الكلام به عليه. وهناك نبسطه إن شاء الله تعالى. لكنّا نذكر ما يتعلّق بما ذكره في هذا الكتاب. وذلك أنّه ذكر في كتاب الصّلح من المدوّنة أنّ من وهب جنين أمة لرجل ثمّ مات، فإنه ليس للورثة أن يشتروا منه جنين هذه الأمة ليستعجلوا التّصرّف في رقبة الأمة. بخلاف أن يسكن رجل رجلًا دارًا حياته، أو يهبه ثمر بستانه حياته، فإن للورثة ها هنا شراء ما وهب من سكنى أو ثمر، لأجل كونهم ممنوعين من التصرّف في الرّقاب لِمَا تعلّق بها من حقّ الموهوب له منافعها، فدعت هذه الضّرورة إلى أن يعفى لهم عن شراء هذه الهبة، وإن كانت جهولة لا يدري أمدها. ولم يجز ذلك لأجنبيّ يحاول شراءها لكونه يشتري أمرًا مجهولًا لا يدري منتهاه ولا مبلغه، من غير ضرورة دعته إلى ذلك، ولادعت البائع منه. والغرر قد يسامح به إذا دعت الضرورة إليه، ولحقت المشقّة في العدول عن ارتكابه. وها هنا بالورثة أشدّ ضرورة إلى شراء هذه الهبة ليتمكّنوا من بيع الرّقاب الّتي ورثوها, لكونهم يمنعون من بيعها لما تعلّق بها من حق الموهوب. وقد أشار في المدوّنة إلى فروق بين محاولتهم شراء الجنين، ومحاولتهم شراء السكنى أو الثّمرة. فقال: إنّ الثمرة والسكنى ترجع إليهم، والجنين لا مرجع له إليهم. وأشار أيضًا إلى أنّ من اشترى نخلًا أو دارأواغتلّها بوجه شبهة ثمّ استُحِقّها، فإنّه لا تردّ الغلّة. ولو كان اشترى أمة فاستُحِقّت لردّ ولدها

المسترق معها، بخلاف الثّمرة. وأيضًا فإنّ ارتهان الأجنّة لا يجوز، ويجوز ارتهان الثّمرة على ما قاله بعض أهل العلم. وقد يستبعد ما أشار إليه من الفرق بالاستحقاق، يكون الولد في الاستحقاق يردّ ولا تردّ الثّمرة، ولكن إنّما أراد الإشارة إلى أنّ الولد كعضو من أعضائها، وكأن مشتريها بذل الثّمن على سائر أعضائها، والولد كأحد أعضائها، فصار شراء الجنين مقصودًا في نفسه يَمنَعُ الورثة من ذلك. والغلاّت لا تردّ لكونها ليست بجزء مِمّا اشتراه واغتلّه ولم تقع المعاوضة عنها، فلهذا لم ترد. فأشار بهذا إلى تصحيح قوله: إنّ الولد لا مرجع لهم فيه، وهو كأحد أجزاء ما يباع ويشترى بدليل ما قلنا في استحقاق أمّه, والثّمرة بخلاف ذلك. وكذلك إشارته إلى جواز ارتهان الغلاّت ومنع ارتهان الأجنّة، على ما ذكره بعض أهل العلم. فإنّما أراد أنّ الغرر يتأكّد في الجنين ويعظم، ولا يتيقّن حصوله وملكه، ولهذا لا يؤخذ رهنًا؛ لأنّ الرّهن إنّما يؤخذ ثقة بالحقّ، والجنين لا يكون ثقة. بخلاف الغلات، الّتي هي كالحاصلة في الأغلب من العادة، والغرر إذا تأكّد لم يبح للضّرورة، وإذا خفّ أبيح للضّرورة. على أنّ ابن ميسر أجاز ارتهان الأجنّة كما ترتهن الغلاّت، مع كون الغرر يدخلهما جميعًا. وهذا الارتهان إن كان بعد العقد، فلا وجه لمنعه، وإن قارن عقد بيع، فيختلف فيه، على ما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وذكر القولين في ارتهان الغرر إذا قارن عقود البياعات، هل يفسدهما أو لا بناء على اعتباركونه له حصّة من الثّمن أم لا؟ وقد أشار بعض الأشياخ إلى أن القياس جواز شراء الورثة للجنين الموهوب، لكونهم ممنوعين من التصرّف. في أمه حتّى تضع، كما منعوا من التّصرّف في رقاب النّخل أو الدّيار الموهوب منافعها وغلاّتها. لكنّه التفت إلى العذر عن التّفرقة بغير ما فرَّق به في المدوّنة، فقال: لعلّ أمد الوضع قريب، وانتظاره لا يلحق الورثة فيه ضرر كبير، بخلاف من أعمر داره أو بستانه.

لكن قد يقدح في هذا الاعتذار عنده إجازة شراء الورثة لثمر لم يؤبر لمّا كانوا ممنوعين من التّصرّف في رقاب النّخل، لكون الثّمرة التي لم تؤبّر لا يجوز استثناؤها مع كون انتظار جواز البيع قد لا. يطول أيضًا. وهذا يبسط فيما بعد إن شاء الله تعالى. فإذا نجز القول في هذا، فقد ذكر في المدوّنة بعده فصلًا مقتضى التّرتيب أن نورده في صدر هذا الكتاب لما تكلّمنا على الصلح إذا وقع عن عيوب لم تثبت. واتذي أوردناه هناك يعاد ها هنا معناه. وتعرض ما ذكره ها هنا على الأصل الّذي قدّمناه من ذكر خلاف أو وفاق. ولا فرق بين الفصل الأوّل وبين هذا سوى أنّه مثّل في الفصل الأوّل بعبد بيع فطعن المشتري فيه بعيب، لم يقرّ به البائع، فوقع الصّلح بينهما على شيء دفعه البائع، حتى لا يخاصَم في العيب ويردّ عليه به. أو دفعه المشتري حتّى لا يمنع من الرّدّ ولا يخاصم فيه. ومثل في هذا الفصل الآخر يكون الثّمن مؤجّلًا، فذكر فيمن باع سلعة بألف درهم مؤجّلة فطعن بعيب، ثمّ أراد أن يمكّن من الرّدّ به، على أن يدفع شيئًا يضيفه إلى المبيع إذا ردّه بالعيب. فأجاز أن يدفع عرضًا مع هذا المبيع المردود إذا كان يدفع ذلك نقدًا. لأنا قد بيّنّا أن ابن القاسم يقدّر ها هنا أنّ ما وقع الصّلح به كاستئناف مبايعة ثانية. فيعتبر في ذلك ما يجوز في المبايعات وما لا يجوز. فتصوّرَ ها هنا على مقتضى هذا الأصل أنّ المشتري باع العبد الّذي ردّ بالعيب وعرضًا أخر معه بالثّمن المؤجّل عليه، وذلك غير ممنوع. ولو ردّ العبد ومعه دراهم أو رده ومعه دنانير، لمنع من ذلك لما يتصوّر فيه على هذا الأصل من التّحريم. لأنّه إذا ردّ معه دراهم، صار قد باع العبد ببعض الدّراهم المؤجّلة عليه، وما أضاف إليه من الدّراهم، فهي سلف منه للبائع عجّلها له قبل أجلها، وهو لا يستحقّ ذلك عليه، فلمّا كان لا يستحقّ ذلك عليه، صارت الدّراهم المعجلة كسلف منه للبائع يقبضها من نفسه من الثّمن الّذي عليه للبائع إذا حل الأجل. فالعبد إنما بيع بشرط هذا الشّرط، وذلك يفسد البيع. وهذا تصوير صحيح على أصل ابن القاسم. لكن إذا قلنا بأحد القولين: إن ما في الذمم من الدّيون المؤجلة، تُقدَّر

كالحال، ولا يقدر تعجيله قبل أجله سلفًا من معجله للبائع، على حسب ما حكيناه في كتاب بيوع الآجال في مسألة الفرس. فإنّ هذا الّذي صوّرناه من التحريم لا يصح. وكذلك إن ردّ العبد ومعه دنانير، فإن ذلك لا يجوز أيضًا بناء على هذه الطّريقة، لكون العبد كالمبيع ببعض الثّمن المؤجّل، وردَّه مشتريه إلى بائعه ببعض ما عليه من الثّمن المؤجل، ودفعْ إليه عمّا فضل عن ذلك من الثّمن المؤجّل دنانير. وتعجيل ذهب عن دراهم مؤجّلة لا يجوز، لأنّه صرف مستأخر. مع كون هذا يتصوّر فيه أيضًا البيع والصّرف، وهو ممنوع عند ابن القاسم. وهذا أيضًا يقع فيه الخلاف مِمّا قدّمناه في كتاب الصرف من أنّه قد وقعت رواية شاذة بجواز أخذ دنانير عن دراهم مؤجّلة بناء أيضًا على أن ما في الذّمّة كالحال. وأمّا تصوير الخلاف فيه من ناحية اجتماع البيع والصّرف، فذلك مِمّا قد تكرّر مرارًا ذكره. ولو كانت هذه الزّيادة من البائع أيضًا، لجرت هذا المجرى. فيجوز أن يدفع البائع للمشتري عرضًا نقدًا حتى لا يردّ عليه بالعيب. ويقدّر أن البائع كمبتدي بيع هذا العبد وعوض آخر معه يدفعه نقدًا بالثمن المؤجل، لكون ابن القاسم يقدّر هذا الصّلح كاستئناف بيعة ثانية. وأمّا إن دفع البائع دنانير أو دراهم حتّى لا يردّ عليه المشتري بالعيب، فإنّ ذلك ممنوع أيضًا لهذا التّصوير الّذي صورناه. لأنّه يقدر أنّه باع عبدًا ودراهم، أو عبدًا وذهبًا بدراهم إلى أجل، وهذا يدخله الرّبا والصرف المستأخر على حسب ما قدّمناه. ولو لم يطعن المشتري بعيب ولكن البائع سأله في الإقالة فلم يجبه إليها المشتري إلاّ أن يزيده دنانير أو دراهم، فإنّ ذلك يجوز على ما تقدّم بيانه وتأصيله في مسألة حمار ربيعة. وإنما جاز ها هنا زيادة البائع ذهبًا أو دراهم إذا كان ذلك عن استقالة. ومنع إذا كان ليمنع من ردّ بعيب طعن فيه المشتري، لأجل أنّ الثّمن، إذا لم يكن بالمبيع عيب، ثابت مستقرّ في الذّمّة. فيحصل من

هذا أن البائع كمستأنف شراء عبد بدراهم له مؤجّلة وزاد مع ذلك دراهم أو ذهبًا. وهذا لا مانع منه يمنع. وأمّا في الرّد بالعيب فيقدّر أنّ الذي في الذّمّة لمّا لم يتفقا على استقراره، صارت هذه المصالحة كابتداء بيع. وإنّما استقرّ في الذّمّة بهذه المبايعة الثّانية، وهي بيع عبد وذهب بدراهم مؤجّلة، وذلك ممنوع. هذا إذا كانت الزّيادة من البائع أو المبتاع نقدًا والأجل لم يحلّ. وأمّا إن كان الأجل قد يحل (¬1)، فذكر في المدوّنة أنّه يجوز أن يزيد المشتري عرضًا أو دنانير أو دراهم حتّى يمكّنه البائع من الرّدّ بالعيب. وهذا الجواب الذي وقع في المساواة بين الدّنانير والدّراهم يقتضي ظاهره استواء حكمهما، وهما لا يستويان على أصل ابن القاسم؛ لأنّه إذا رد العبد ومعه دراهم، فكأن البائع اشتراه منه ببعض الدّراهم المؤجّلة الّتي أضافها قضاء لما فيه، وذلك غير ممنوع. فأمّا إذا زاد دنانير، فإنّه يتصوّر في ذلك اجتماع بيع وصرف، لكون العبد دفع عن بعض الدّراهم المؤجّلة، والدّنانير الّتي أضيفت إليه دفعت عن الدّراهم التي حلّ أجلها. وهذا بيع وصرف. إلاّ أن يكون ذلك يسيرًا مِمّا يجوز أن يجتمع مع البيع. ولمّا كان مذهب ابن القاسم المنع من البيع والصّرف دعا ذلك الشّيخ أبا محمّد بن أبي زيد إلى أن أصلح هذا الإطلاق في اختصار المدوّنة، فقال: لا بأس أن يزيده عرضًا أو عينًا من جنس الثّمن الّذي عليه. فغيّر نقل ما في الكتاب لما اقتضاه عنده أصلُ ابن القاسم. على أنّه لو أبقي على ظاهره، لكان ذلك جاريًا على مذهب من أجاز البيع والصّرف. وهذا واضح في الزّيادة إذا وقعت على النّقد من جانب البائع أو جانب المشتري. وأمّا إذا وقعت مؤجّلة، مثل أن يزيد المشتري للبائع عرضًا مؤجّلًا، والأجل لم يحلّ، فإن ذلك ممنوع، لكونه بيع دين وهو بعض الثّمن المؤجّل بعرض مؤجّل. وكذلك لو حلّ الأجل، لمنع من زيادة عرض مؤجّل، لكون العرض المؤجّل دفع عن بعض الثّمن الّذي حلّ، فيتصوّر فيه فسخ الذين في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حلّ.

الدين، وذلك ممنوع. وهذا كلّه يعلم حكمه مِمّا قدّمناه في الفصل المذكور في أوّل الكتاب. وكذلك يعلم أيضًا حكم الصّلح على هذا العيب بعد ذوات العبد مِمّا قدمناه. وذكر غير ابن القاسم في المدوّنة في هذا الكتاب أنّ العبد إذا فات بعتق أو تدبير أو موت فدفع البائع للمبتاع دراهم، أن ذلك لا يجوز، لكونه سلفًا من البائع للمبتاع. وأنكر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد هذا الإطلاق، وأشار إلى أن الحكم أنّ يُحَطّ إلاَّ من الثّمن المؤجّل مقدار ما يقابل العيب من الثّمن، ويبقى ما سوى ذلك في ذمة المشتري إلى أجله، فإذا كان هذا العبد بِيع بألف درهم مَثَلًا، مؤجّلة. وكان ما ينوب العيب عشر الثمن.، فإنّ مائة درهم تسقط عن المشتري ويبقى عليه تسع مائة. فإذا كان البائع قد عجّل للمشتري هذه المائة، الّتي الحكم إسقاطها عنه، فإذا حلّ الأجل، دفع التّسع مائة وأخذ المائة الباقية عوضًا عن المائة التي أسلفها فإنّ هذا لا مانع يمنع منه. وكذلك لو كان يأخذ أقلّ مِمّا أسلف. لأنّ السلف بخسارة لا يمنع. وإنّما يمنع السلف بزيادة. فإذا تصوّر ها هنا أن يكون عجّل للبائع هذه الدّراهم لترجع إليه من مقدار العيب من الثّمن أكثر مِمّا أسلف وعجّل. مثل أن يكون الواجب أن يسقط عن العيب مائة درهم من الألف، فعجّل البائع خمسين درهمًا ليأخذ الألف كلّها، فإن هذا الوجه ممنوع. وأشار الشيخ أبو الحسن بن القابسي إلى أنّ المنفعة ليست من الزّيادة في السلف أو النّقص منه، فليعتبر ذلك. ولكن من ناحية أن البائع بادر بذلك وقبله منه المشتري حتّى لا يكشفا عن هذا العيب، ويتخاصما فيه. فربّما كان الخصام فيه يكشف أنّ الأمر بخلاف ما تراضيا عليه. فصارت هذه منفعة حاصلة وهي رفع الخصام بينهما , ولأجلها وقع السلف. والسلف إذا جرّ نفعًا منع، كان النّفع مالًا أو غير مال. وتعليله هذا يقتضي المنع من هذا على كل حال. وتعليل الشّيخ أبي محمّد

يقتضي كون المنع مقصورًا على وجه واحد، وهو كون هذا السلف يفيد مسلفه أكثر مِمّا أسلف. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: سئل ابن القاسم في المدوّنة عن من دفع دراهم لمشتري عبد منه على أن يبرئه من عيوبه بعد إنعقاد البيع. فقال: سئل مالك عن من تبرأ من عيب بدابة باعها أو مشش بيديها، في العقد، أن ذلك لا يبرئه حتّى يبين العيب. ونقل من اختصر في المدوّنة هذا الجواب فأضاف إلى التّبري من مشَش بالدّابة العبدَ، فقال: لا يبرأ من تبرّأ في العقد من عيوب العبد أو مشش بالدّابة حتّى يبينه. وهذا الّذي أضافه المختصرون إلى المدوّنة خلاف المشهور من مذهب مالك في المدوّنة. لأنّه أجاز البراءة من عيوب الرّقيق خاصّة، ومنعها من الحيوان البهيميّ. والّذي نقله المختصرون ها هنا من المساواة بين العبد والدابة خلاف المشهور عن مالك في المدوّنة. وإنّما يصحّ هذا الجمع والمساواة بين العبد والدابة على القول: إنّ البراءة لا تنفع في رقيق ولا حيوان سواه (¬1). وهذه المسألة يلتفت إلى النظر في ما تجوز فيه البراءة من العيوب في أصل العقد. ثم بعد ذلك يلتفت إلى أصل آخر وهو النّظر فيما عقد في المبيع بعد انبرام العقد فيه، هل يقدّرُ أن العقد وقع عليه، وإن تأخّر عنه، أوْ لا يضاف إلى العقد الأول ويكون له حكم نفسه؟ فإذا قلنا بالمساواة بين العبد والدّابة في جواز البراءة من العيوب في أصل العقد، وقلنا: إن ما بعد العقود يقدّر أنَّه قارن العقد، فإنّ المعاوضة على البراءة من العيوب تصحّ بعد العقد كما صحت في العقد، ويستوي في ذلك العبد والدابّة. وإن قلنا: إنّ الذي يفعل بعد العقد لا يضاف إلى العقد وله حكم نفسه، فإن هذه المعاوضة تمنع في العبد والدابة جميعًا. وإن خصّصنا جواز البراءة بالرّقيق خاصة، جرت المعاوضة بعد العقد على القولين المذكورين في إلحاق ما بعد العقد بالعقد على حسب ما اختلف فيه في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سواء.

اشتراء ثمرة قبل الزّهو على التّبقية، وقد سبق العقد على النّخل مجردة. وكذلك العقد على مال العبد، وقد سبق العقد على العبد مجرّدًا من ماله. وفي الموّازيّة لأصبغ جواز المعاوضة على البراءة من عيوب العبد بعد العقد. وهكذا ذكر ابن حبيب فيمن باع جارية أو عبدًا ثم دفع البائع دينارًا ليبرأ من عيوبها، أنّ ذلك يجوز في الجارية لجواز البراءة فيها في أصل العقد، ولا يجوز ذلك في الدّابّة لمنع البراءة فيها في أصل العقد. ولعلّه إنّما ذكر في المدوّنه البراءة من عيب الدّابّة خاصّة ليشير إلى أنّ ما بعد العقد يمنع في العبد كما منعت البراءه في الدّابّة في أصل العقد. فأشار إلى المساواة بينهما في البراءة بعد العقد لا إلى المساواة بينهما في البراءة في أصل العقد. والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: ذكر في المدوّنة في رجل له على رجل دراهم، نسيا جميعًا مبلغَها، أنّ الصّلح يجوز عنها بعرض أو دنانير أو دراهم ويتحالاّن، ومغمز التقيّة فيه واحد. فأشار بهذا اللّفظ إلى أنّ الجهالة تمنع من صحة المعاوضة، لكون المجهول لا يصحّ بيعه ولا شراؤه. ولكنّ هذا في مجهول يمكن رفع الجهالة فيه بِعُدُولِهِمَا، مع إمكان العلم به، إلى المعاوضة على جهل به خطر وغرر. فصارت هذه ضرورة تلجىء إلى العفو عن هذا الغرر. والغرر قد يعفى عنه لمشقّة التحرّز منه. فما لا يمكن العدول عنه أحْرى أن يعفى عنه. لكن وإن استوى حكم الجهل فيما ذكره من الأصناف المصالح بها من عرض ودنانير ودراهم، فإنّ العرض والدّنانير إذا صولح بها عن دراهم لا يتصوّر فيها الرِّبا، وإذا صولح عن دراهم مجهولة بدراهم أمكن في هذه المعاوضة أن يقعا في الرّبا، وهو بيع دراهم بأكثر منها. ولهذا أشار أنّ هذه الدّراهم وإن زاد فيها معنى من التّحريم آخر، فإنّ ذلك لا يؤثّر ها هنا، لكونهما لم يقصدا إلى التفاضل والربا , ولا يقدران أبدًا على العلم بأنّهما سلما منه , فعفي عن هذا أيضًا كما عفي عن الجهالة بالمبيع ها هنا مع كون هذا قد لا يتصور فيه الرّبا. لأنّ ما اصطلحا عليه من الدّراهم إن صادف ذلك كون المصالح به مثل المصالح عنه في المقدار سواء

بسواء، فلا ربا ها هنا. وإن اتفق أن يكون إحداهما أكثر من الأخرى، فإنّ من عليه دراهم يجوز أن يقضي أقلّ منها (¬1) ويكون صاحب الحق واهبًا لبعض حقّه. ويجوز أن يقضي أكثر منها على شروط تقدّم ذكرها في ما قبل هذا الكتاب. واشترط في المدوّنة في جواز هذا الصّلح أن يكون ما يصالح به يؤخذ نقدًا، ولا يجوز المصالحة على تأخيره. وهذا الّذي قاله واضح إذا وقع الصلح بجنس غير الدّراهم الّتي نسيا مبلغها، فإنّ ذلك فسخ دين في دين، ولم تدع الضّرورة إلى العفو عنه. وأمّا إن وقع الصّلح بدراهم هي من سكّة الدّراهم المجهول مبلغها، وفي الجودة مثلها، فإنّ ذلك يجوز إذا تحقّق المصطلحان أنّ الدّراهم المنسيّة أكثر مِمّا اصطلحا عليه، لأنّ المصالح يحسن (¬2) النقص في المقدار والتأخير والإنظار. وأمّا إذا كانت الدّراهم المصالح بها لا يتيقّنان أنّها أقلّ مِمّا نسياه أو يشكّان هل هي أكثر أو أقلّ، فإنّ الإنظار لا يجوز لكونهما يقعان (2). وقد يقعان في زيادة على الواجب بسبب التأخير والإنظار، فيكون ذلك سلفًا جز منفعة. وقد قال أشهب: إنّ الدّرهم المستهلك يجوز الصّلح عنه بدرهم ما كان. وهذا إن أراد به جواز ذلك على أيّ حال، كان الدّرهم المصالح به من زيادة؛ على المستهلك أو نقصان فإنّ ذلك سائغ كما قدّمناه وبيّنّا العذر عنه. وإن أراد أنّ الصّلح عن ذلك يجوز بدرهم يعلم أنّه خلاف سكة الأوّل، فإنّ هذا يمكن أن يقعا فيه في الرِّبا بأن يكون المصالح عنه أدنى في الجودة وأكثر وزنًا، أو أعلى في الجودة وأقلّ وزنًا. ومثل هذا يمنع لما فيه من الرّبا. وتجويز الوقوع في الرّبا كالتّيقّن له في المنع من ذلك. وقد أعتذر أشهب عمّا قاله من هذا الإطلاق بأنهما لم يقصدا المقامرة والخطار. والمقصود تغيّر أحكام العقود على حسب ما ذكرناه في كتاب الصرف في بدل الدّرهم السَّتُوق (¬3) بالدّرهم الطيّب. وأشرنا إلى التّعليل بأنّهما لم يقصدا إلى التّفاضل. وقد قال ها هنا في كتاب ¬

_ (¬1) غير موجودة بنسخة المدنية مع صفحة 554. (¬2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب محسن بالنقص. (¬3) المبهرج انظر القاموس: ستّوق. وهو معرب. انظر المعرب للجواليقي: 251.

الصّلح ابن القاسم: إن مالكًا كره أن يصالح عن دراهم جياد بدراهم زيوف، وهي المحمول عليها النّحاس أو بدراهم مبهرجة. قال: وكره البيع بها والشراء ورأى أنْ تُقطَع. ثمّ ذكر أنه لم يتحقّق هل كره مالك هذا للصيارفة خاصّة لأنّ سؤاله عنهم وقع، أو كرهت لجميع النّاس. قال ابن القاسم: وأرى جواز ذلك إذا لم يغرّبها أحدًا وقطعها. فأشار أيضًا في هذا الكلام إلى المنع من جهة التّغرير والتدليس لا من جهة التّفاضل. والجواب عن السؤال الثّاني عشر أن يقال: ذكر في المدوّنة، فيمن له على رجل قفيز قمح من قرض وعشرة دراهم، أنّ له أن يصالحه على أحد عشر درهمًا. لكون العشرة دراهم قضاء عن العشرة الّتي في الذّمّة، والدّرهم الحادي عشر ثمنْ القفيز القرض. وبيع طعام القرض قبل قبضه جائز. وهذا الّذي قاله يشترط فيه كون الدّراهم التي في الذمة قد حلّت. فيجوز حينئذٍ بيع القفيز القمح بالدرهم حل أجل القرض أو لم يحلّ. ولو كانت الدّراهم لم يحلّ أجلها , لم يجز ذلك، لكون البيع للقفيز القرض بالدرهم إنما عقد على تعجيل دراهم قبل أجلها، وتعجيلها قبل أجلها سلف، والبيع والسلف لا يجوز. وذكر أيضًا، فيمن له على رجل مائة دينار ومائة درهم، أنه يجوز لهما أن يصطلحا على مائة دينار ودرهم. لأنّه يقدر أته قضاه المائة دينار، وأخذ درهمًا واحدًا من مائة درهم. فهو واهب لحقه في الدّراهم. ويجوز تأخير هذا الدّرهم أو تقْدمته. قال: بخلاف التّعاوض بذهب وفضّة بمثلها مراطلة أو عددًا، لأن هذا تبايع، ولكل واحد من الجنسين حضة في الجنس المقابلة له ولصاحبه. وقد تقدّم بيان هذا في كتاب الصّرف. ولو كانت الصالحة على مائة دينار ودينار، فإن تأخير الدّينار الزّائد على المائة لا يجوز؛ لكونه صرفًا عن المائة الدّرهم التي أسقطها، والصرف لا يحلّ فيه التأخير.

ولو أنّ لرجل على رجل ألف درهم فقال: إن جئتني بها رأس الشّهر، هضمت عنك منها مائة، فإنّ ذلك جائز لازم لهما. لكن إن تأخّر عن الشهر بالأمر البعيد، فإنّ الوضيعة لا تلزم، لأنّها معلّقة بشرط، والشّرط ها هنا قد فقد بالتآخير الكثير. لكن لو أتى بها بعد الأجل بالقرب كاليوم، فإن مطرّفًا حكى عن مالك أنّ الوضيعة لازمة. كمن أتى بأضحية أسلم إليه فيها بعد أيّام الإضحى بيوم، فإنّ من له السلم لا مقال له. ولو أتى بها بعد أيّام الأضاحي بزمن بعيد، لم تلزم. وذهب أصبغ وغيره إلى أنّ الوضيعة لا تلزم، وإن أتى بالدّين بقرب الأجل الذي أجل له في الهضيمة. وكذلك على هذا الأسلوب جرى الخلاف بينه وبين مالك إذا أتى بالدّين ناقصًا منه مقدار مَا لا بال له، فإنّ مالكًا رضي الله عنه ألزم الوضيعة، وأصبغ لم يلزمها. والّذي قاله أصبغ هو الأصل على مقتضى اللّفظ الّذي وقع بينهما. والّذي قاله مالك جنح فيه إلى مراعاة القصود دون الألفاظ. والقصد في مثل هذا أن لا يمطل بالحقّ عن الأجل الّذي أجل له مطلًا كثيرًا، ولا ينقص عن مقدار الدّين أيضًا نقصًا كبيرًا. ولو صحّ أنّ هذا القصد عليه وقعت الهضيمة وهو مرادهما باللّفظ، لم يختلف في ذلك كما لو صرّحا به. وقد أشار الشّيخ أبو إسحاق إلى تعقّب ما قال مطرت في الأضاحي. وقال: فإنّ الإتيان بها بعد اليوم الواحد من أيّام الأضاحي هو أولى بأن لا يلزم من له السلم، لكون اللّحم حينئذٍ لا يراد ولا يرغب في شرائه. وإذا بعد الزّمن، عادت الرّغبة فيه. وأشار إلى أنّ القياس كون السلم المعلّق بالذمّة لا يتغيّر بتغيّر الأزمنة حكمه؛ لأنه لو عقد على أنّه ينحلّ لطروّ تغيّر في الزّمن، لفسد العقد. كما لو وقع السلم في الشدّة فأتى المسلم إليه بالطّعام في الرّخاء، (فإن تلوّن هذه الحالة وكون الطّعام في زمن الرّخاء لا تعظم الرّغبة فيه) (¬1). ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ.

وهذا الَّذي أشار إليه من الاستدلال بتلوّن الحال بالشّدّة والرّخاء كنّا قدّمنا في كتاب الصّرف ذكره لما تكلمنا على من باع بدراهم فقطعت، هل يلزم البائع قبولها وإن فسدت أو لا يلزمه ذلك؟ وذكرت مذهب شيخنا أبي محمّد عبد الحميد وأنّه كان يرى الرّجوع إلى القيمة أولى. وكون شيخنا أبي الحسن المعروف باللّخمي أنكر هذا المذهب، واحتجّ بأنّه يلزمه عليه بطلان السلم إذا وقع في زمن الشّدّة ثم حلّ الأجل في زمن الرخاء، وأتى به المسلم إليه. وأنّي خاطبته على ذلك، وأشرف إلى المنع من هذا الاستدلال لكون السلم إنّما يجوز بشرط أن يكون إلى أجل تختلف الأسواق فيه. فمبنى جوازه على مراعاة اختلاف الأسواق. فلو جعلنا اختلافها مفسدًا له لكنا تناقضنا. وإذا اصطلح أحد الخصمين مع صاحبه على أنه إن لم يوافه يوم كذا إلى المحاكمة فكراء دابّته عليه فلم يوافه، فإنّ هذا الشّرط لازم. وهذا الّذي قيل ها هنا بناء على أنّ من أدخل رجل أبو عده في خسارة، فإن ذلك يلزمه. وقد تقدّم بيان هذا في غير هذا الموضع. تم والحمد لله كثيرًا

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة

بسم الله الرّحمان الرّحيم صلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم كتاب الوديعة قال القاضي أبو محمّد رحمه الله: الوديعة أمانة محضة، لا تضمن إلاّ بالتعدي. والقول قول المودعَ في تلفها على الإطلاق مع يمينه، وفي ردها. إلاّ أن يكون قبضها ببيّنة، فلا يقبل منه إلاّ ببيّنة. وليس له أن يودعها غيره إلاّ من ضرورة، ويضمَن أن أودعها (¬1). وليس له أن يسافر بها على كلّ وجه. إلاَّ أن تكون في السفر، فعرضت له إقامة، فله أن يبعثها مع غيره ولا ضمان عليه. وإذا أنفقها أو بعضها ردّ قدر ما أنفق وسقط عنه الضّمان. إلاَّ أن يكون المردود قيمة فقيل: الضّمان باق. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أسئلة. منها أن يقال: 1 - هل يباح الإيداع أم لا؟ 2 - وما الدّليل على سقوط الضّمان في الوديعة؟ 3 - وهل يشترط في رفع الضّمان استدامة الحقّ للمودع؟ 4 - وما الحكم في تلف الوديعة؟ 5 - وما حكم تسليم الوديعة لغيره؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: استدل العلماء على جواز الإيدل بقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا ¬

_ (¬1) في المغربية: ويضمن إن أودعها من غير ضرورة، ويضمن إن أودعها من غير عذر.

الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (¬1) وبقوله تعالى: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬2). وهذا الاستدلال لا يستقل بمجرّده. لأنّ قصارى ما فيه الأمر بردّ الوديعة. وردها غير قبولها. ويصح أن يؤمر بردّ ما قبوله حرام. لكن ترك التعرض لذكر أصل الإيداع يقتضي كونه غير محرم. إذ لو كان حرامًا، لنبه عليه. وكذلك قوله تعالى في الأوصياء {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬3) ومال اليتيم في يد من يليه على جهة الأمانة والإيدل وفيه أيضًا ما ذكرناه من كونه أمَر بردّ الوديعة. وأمّا قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} (¬4). ففيه إثبات الوكالة. والم الذي يد الوكيل على جهة الإيداع. لكن قصارى ما في هذا أنّ أصحاب الكهف الظّاهر من حالهم أنّهم ما فعلوا ذلك إلاّ وهو مباح في شرعهم. وفي الاستدلال بشرع من كان قبلنا خلاف بين الأصوليين. ولمّا ذكرنا إباحة الإيداع من حيث الجملة، فمن شرط الإباحة أن يكون قابض المال على جهة الإيداع مأمونًا عليه. وأمّا إن كان الغالب منه أنّه لا يوفي بأمانته ولا يرده إلى صاحبه، إمّا بجحوده إيّاه وإمّا بدعوى ضياعه، فإن هذا لا تصحّ فيه الإباحة، إمّا لكون اليمين تلزمه فيحلف كاذبًا فيكون دافع الوديعة سببًا في حمل هذا على ما لا يحلّ من اقتطاع حقّ مال مسلم بيمينه. على أن هذا التّعليل قد يعترض لكون البياعات تصحّ بغير شهادة عمومًا في سائر النّاس. وإن كان الإشهاد يستحبّ، وتركه مكروه ولكنّ الكراهة تتقاصر عن التّحريم. وأيضًا فإنّ البياعات تدعو إليها الضّرورات في المعاملات. وقد لا يربح البائع إلاّ في معاملة غير ثقة بخلاف الإيداع. وقد عُلّل هذا الاشتراط بأن في إيدل مَن الغالب أنّه لا يردّ الوديعة إضاعة المال. وقد نصّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نص في البخاري ومسلم عن ¬

_ (¬1) النساء: 58. (¬2) البقرة: 283. (¬3) النساء:6. (¬4) الكهف:19.

النهي عن إضاعة المال (¬1). وهذا أيضًا قد يقال فيه: إن له أن يهب ماله لغير ثقة، ولمن يتلفه في اللّذّات المباحة. فإذا كان هذا لا يَحْرُم الإيداع لغير ثقة. لكن الواهب قصد الملك للموهوب له المالُ. ومن ملَّك المالَ مالكُه يفعل فيه ما يشاء من الأمور الباحة. وهذا المودع لماله لم يقصد تمليك ماله المودع، وإنما قصد صيانته، وصيانته في هذا الوجه سبب إضاعته. فنهى عن ذلك لأجل القضيّة الّتي ذكرناها. وقد منع أصبغ من أتى بلطْخ في جارية، أن يضع قيمتها ويسافر بها ليثبت ملكه لها، ورأى أن ذلك معونة على ما لا يجوز من وطئها. وإن كان في المدوّنة تمكينه من ذلك على الجملة للضّرورة والحاجة إلى صيانة الأموال على أربابها. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد تقرر الاتّفاق على أنّ من أسلف رجلًا مالًا فضاع الم الذي يد المستسلف فإنّه ضامن. كما حصل الاتّفاق على أنّ الوديعة غير مضمونة وتستنبط من ذلك علّة الضمان والتّبرية. فوجدنا الوديعة ملك صاحبها، فكان ضمانها منه. لكون هذه العلّة مركبة عند العلماء من هذا الوصف ومن وصف آخر وهو حصول المنفعة، فإنّ المنتفع بالمال ينبغي أيضًا أن يضمنه، والوديعة لا. منفعة فيها على قابضها على حال. فاجتمع فيها وصفان يحسنان في نفي الضمان: وهو كون المال غير مملوك للموح ولا منفعة له فيه. كما حصل في القرض وصفان لا يحصل معهما نفي التّضمين، وهو انتقال الملك لِلْمستسلف وانفراده بالمنفعة في السلف. والمنفعة بالسلف (¬2) تقرّر الأصلين لأحد الرّجلين بالكلّية لا يشاركه الآخر فيها. وقد نبّه القاضي إسماعيل على هذا التّعليل فذكر أنّ الوديعة لا منفعة فيها لمن هي في يديه على حال، فلهذا لم يضمن. قال: وكذلك القراض لأنّ جلّ المنفعة فيه لربّ المال. وكذلك الشّيء المستأجر لا يضمن لأنّ عُظْم منفعته لمن أجره. فكأنّه تحقّق ما أشار إليه تعلّق ¬

_ (¬1) إكمال الإكمال: 5/ 13 - فتح الباري: 13/ 9 - 11. (¬2) في و: تقرر في تقرر.

الضمان بالمنفعة، وقد عدمت بالكليّة في حقّ من المال في يديه وديعة. وأمّا القراض فمنفعة العامل به غير متيقّنة لأنه قد لا يربح. فأُجْريَ الشّكّ في المنفعة وحصولها مجرى اليقين لعدمها. فقاس ذلك على الوديعة. وأمّا الشّيء المستأجر ففيه منفعة محققة لدافعه ولآخذه. ولكنه رأى أنّ جلّها لدافعه، فأجرى الجلّ مجرى الكلّ. فردّها إلى الوديعة، وهذا بناه على القول المشهور عندنا في الشّيء المستأجر أنّه غير مضمون. وأمّا الرّهن والعارية والصناع: فإنّ المنفعة مشتركة في الرّهن عندنا بين دافعه وقابضه. ولكن جلّها لقابضه يضمنه إذا كان يغاب عليه. ورأى الشافعي أنّ جلّها لدافعها، فلم يضمنه لقابضه، مع كون الوصف الآخر الذي هو عدم انتقال الملك حاصل كحصول ذلك في الوديعة. وقد تكلّمنا على سبب الخلاف في ضمان الرّهان بيننا وبينه. وأشبعنا القول في كتاب الرّهن. وكذلك العارية وأحكام الصّناع يبسط القول في ذلك في موضعه إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد تقرّر أنّ الضّمان إنّما ارتفع في الوديعة عن حائزها لكون حوزه لها لا لمنفعة نفسه على حال. ولو تسلّف رجل الوديعة التي عنده وهي مِمّا لا يراد بعينه كالدّنانير والدّراهم يتسلّفها ثمّ يردّها، وأخرجها من ذمّته إلى أمانته على حسب ما كانت عليه قبل أن يتسلّفها، فهل يسقط عنه الضمان إذا ضاعت بعد أن ردها إلى أمانته وانتفاء الضمان حتّى تصل إلى ربّها؟ فهذا مِمّا اختلف فيه قول مالك رضي الله عنه واختلف أصحابه. فالمشهور عنه وعليه أكثر أصحابه أنّ الضمان يسقط عنه لإخراجها من ذمته وردّها إلى أمانته. وهكذا روى المصريّون عنه. وهو اختيار ابن القاسم وأشهب. ورواه ابن عبد الحكم وأصبغ. وروى عنه المدنيّون أن

الضّمان لا يسقط إذا ضاعت بعد أن ردها إلى أمانته. واختاروا من قوله ما رووه عنه. وإلى هذا ذهب الشّافعي وأبو حنيفة. وسبب الاختلاف الالتفات في هذه المسألة إلى تسلّف الوديعة، هل يَجُوز أو يمنع؟ والحكم فيه يتفصّل. فإنّ من بيده الوديعة (¬1) لا يقدر على ردّها لصاحبها عند مطالبته له بها، فإنه لا يختلف في تسلّفها -وهو على هذه الحالة- أنّه يمنع. فإنّ هذا كأكل مال إنسان بغير اختياره وبغير عوض، ولا خفاء في تحريم ذلك. وأمّا إن كان الحائز للوديعة موسرًا، فإنّ المذهب فيه اختلاف في إباحة السلف من غير إذن لعذر المودع له في ذلك. فابن القصّار من أصحابنا يشير إلى أنّ الإباحة متفق عليها. ولكنّه أشار بذلك إلى الصدر الأول. فقال إنّ ابن عمر رضي الله عنه وعائشة رضي الله عنها تسلفا من أموال أيتام في ولايتهما, ولم ينكر ذلك عليهما أحد، وصار ذلك كالإجماع. وهذا الّذي قاله قد علم اختلاف الأصوليين فيه (¬2) مذهب في مسائل الفروع لبعض الصّحابة. وسكت الباقون عن إنكاره يكون سكوتهم كالموافقة لأصحاب المذهب أو لا يكون سكوتهم موافقة، على ما بيّناه فيما أمليناه في أصول الفقه. والنّكتة النّظرتة الّتي يدور عليها هذا الخلاف أن تعلم أنّ المودع إن صرّح بالإذن لحائز الوديعة في أن يتسلفها، فإنّ ذلك لا يختلف فيه في كون السلف لها مباحًا، لحصول الإذن فيه قطعًا. وإن نهاه عن تسلفها، فلا يختلف فيه أيضًا في أن التسلّف ممنوع مع كون المنع مشترطًا في أصل الإيداع. وهذا هو مقتضى الأصول. لكن قد اختلف المذهب عندنا في اشتراط ما لا يفيد، هل يقضى به على من اشترط عليه أم لا؟ وقد نبّهنا على ذلك في كتاب (¬3). ولكن قد يتصوّر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب إضافة: [إن كان] ليستقيم الكلام. (¬2) بياض بالنسختين مقدار ست كلمات. (¬3) بياض بالنسختين مقدار كلمتين.

ها هنا غرض وفائدة في المنع من تسلّف الوديعة. واشترط ذلك على المودع إمّا لكون صاحبه يتيقّن بطيب أصل كسبه، أو لأنّه إذا صار من عنده الوديعة مطلوبًا به كما يطالب بالديون، وقد تحيط به الدّيون فيرجع المودع إلى المحاصة. أو يحوِجه إلى الطّلب فيثقل على المتسلف الأداء فيما طلبه، بخلاف أن يطلبه في الوديعة وهي حاضرة بعينها فإن ردها بعينها. مِمّا لا يثقل ولا يشق. وإن أطلق الأمر في أصل الإيداع ولم يصرّح بالإذن فيه، فها هنا يقع الخلاف لأجل الإشكال الذي ذكرناه من كون الموح له غرض في عين ماله. فلا يخالف غرضه إلاّ بتصريحه بإذنه في المخالفة. أو يقال: إنّما المعلوم من غرض المودع صِيَانَةُ ماله وحفظه عليه، وإذا صار في ذمّة المودع بتسلّفه له، كان ذلك أبلغ في صيانته على ربّه، لكونه إذا بقي على حكم الأمانة فضاع، كان مصيبة ذلك من ربّه، وإذا صار ذلك في الذمة فلا يخشى ربه من ضياعه. فيكون تسلفه أبلغ في مقصوده من صيانته. فهذا سبب الاختلاف في جواز تسلف الوديعة. وقد قيل فيمن غصب دينارًا فأراد أن يردّ مثله ومنع صاحبَه من أخذ عينه، أنّ له ذلك. وهذا يشير إلى ما نبّهنا عليه من أن الدّراهم كالدراهم والدينار كالدّينار. ولا يتصور غرض يفرّق بينهما. فإذا بنينا على القول إنّ تسلف الوديعة منهيّ عنه، وإن كان المتسلّف موسرًا، فإنّه يكون بتسلفها متعدّيًا. فإن تسلفها ثم ردها، فهل يبرأ بردها أم لا؟ قد قدّمنا ذكر اختلاف قول مالك فيه. فيكون القول بأنّه لا يبرأ بردها إذا ضاعت أوضاع بعضها ويصير كغاصب غصب مالًا ثمّ أخرجه من ذمته وأوقفه، فإنّه لا يبرأ إلاَّ برده إلى صاحبه. (وإن كان هذا يتقاصر عن غصب مال ثمّ أخرجه إلى أمانته، يكون مناول ذلك المال أجراها عليه باتّفاق وتسلّف الوديعة في جواز الخلاف الّذي ذكرناه) (¬1). وإن قلنا: إنّ تسلّف الوديعة مباح، فها هنا قد يعرض إشكال لأن الإباحة بالشرع لا بإذن المالك. فيكون ردها في الذمّة إلى الأمانة. [هذا ما وجد من كتاب الوديعة]. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين غير واضح.

شرح التلقين للإمَام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري 453 - 536 1061 - 1141 الجزء الثالث المجلد الأول تحقيق سماحة الشيخ محمَّد المختار السلامي دار الغرب الإِسلامي تونس

دار الغرب الإِسلامي جميع الحقوق محفوظة الطبعة الأولى- 2008 م دار الغرب الإِسلامي العنوان: ص. ب.: 200 تونس 1015 جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة للعلومات أو نقله بأى شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

شرح التلقين للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري الجزء الثالث المجَلد الأول

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}

كتاب الحوالة

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صلى الله على سيدناْ محمَّد وسلم كتاب الحوالة قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى: معنى الحوالة تحويل الحق من ذمة إلى ذمة تبرأ بها (¬1) الأولى، ما لم يكن غرورًا (¬2) من عيب (¬3) للثانية وتشتغل الثانية، ويعتبر فيها رضي المحيل والمحال دون المحال عليه، ولا رجوع فيها وإن تلف الحق إلا بالغرور. قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما الدليل على جواز الحوالة؟ 2 - وهل يعتبر فيها رضا المحال أو المحال عليه؟ 3 - وما شروط جوازها؟ ¬

_ (¬1) في المغربية: منها. (¬2) في المغربية: غرر. وفي الغاني: غارًّا. (¬3) في الغاني: غيْبة.

4 - وما يحلها بعد إنعقادها من حدوث فلَسٍ؟ 5 - أو ما يحلها من حدوث مجرد؟ 6 - وما يحلها من حدوث ما يبطل الدين المحال عليه؟ 7 - وهل تصح الحوالة على غير دين؟ 8 - وما حكمها إذا كانت على دين قد يستقر؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اعلم أن الحوالة مأخوذة من التحول، والحوالة بالدين قد حصل فيها هذا المعنى، وهو التحول من ذمة إلى ذمة، كما قدمناه في كتاب الضمان، أنه مشتق من انضمام ذمة إلى ذمة. فالدين متعلق بذمتين ضم بعضهما إلى بعض. والحوالة متعلقة بذمة واحدة، ثم يتحول عنها إلى ذمة أخرى. والحوالة تفتقر إلى ثلاثة أركان، محيل ومحال ومحال عليه. والأصل في جوازها السنة وإجماع الأمة. أمّا السنة فما روى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم، وإذا اتْبع أحدكم على مليء فليتبع" (¬1) ورواه أيضًا سفيان الثوري عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مطل الغني ظلم، وإذا أحيل أحدكم على غني فليحتل" (¬2). ولا خلاف بين العلماء في جوازها. وهي مستثناة من الأصول؛ لأنه قد تقرر من أصول الشريعة نَهْيُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) الموطأ: 2: 205. حد. 1968. (¬2) مسند أحمد: 2/ 463.

عن الديْن بالديْن، والحوالة بيع دين بدين؛ لأن من له الدين قد باع الدين الذي يستحقه في ذمة غريمه بدين آخر يستحقه غريمه في ذمة رجل آخر، لكن لما دعت الضرورة إلى ذلك وتضمن معروفُ اورفقًا سامح الشرع به، كما فعل في العرية، أرخص فيها وإن كانت تضمنت وجوهًا محرمة ذكرناها في كتاب العرية: بيع الرطب بالتمر، والجزاف بالمكيل من الطعام، والطعام بالطعام إلى أجل، لكن أبيحت لما فيها من المعروف والرفق والحاجة إليها. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أمّا المحيل فلا يلزمه أن يحيل، ولا يجبر على الحوالة، ولا خلاف في ذلك لأن الحقوق متعلقة بذمته فلا يجبر على أن يقبضها من ذمة أخرى، كما لو باع سلعة معينة فإنه لا يجبر على أن يُعطيَ غيرها، وإن كان مثلها أو أدنى منها. وكما لو أحضر مالأوضعه بين يديه، فأراد أن يقضي منه ما عليه فقال له الطالب للدين: أنا آخذ منك من الدنانير التي ليست هي حاضرة بين يديك. وأما اعتبار رضا المحتال الطالب للدين، فإنه أيضًا يعتبر رضاه، ولا يجبر أن يتحول عن الذمة التي استحق الدين فيها إلى ذمة. كما لو اشترى سلعة بعينها فإنه لا يجبر على أن يدفع إليه مثلها أو أفضل منها. ولا فرق بين استحقاق أعيان معينة، واستحقاق ديون في ذمة معينة. وكذلك لا يجبرهم مستحق الدين على أن يأخذه (¬1) عوضًا عنه جنسًا آخر، مع أنه لو رضي بذلك لاستوفى حقّه. فأحرى أن لا يلزمه التحول إلى ذمة أخرى لا يكون مجرد التحويل إليها استيفاء لحقه. وذهب داود إلى أنه يجبر على التحول، وليس له أن يمتنع منه، تعلقًا بما ذكرناه في الحديث من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا أَتبع أحدكم على مليء فليتبع" فأمَره بالاتّباع، ومجرد الأوامر على الوجوب عند أكثر الفقهاء. ولا شك أن أكثر من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يأخذ.

قال بأنه لا يجبر على قبول الحوالة وأن يبع (¬1) غير ذمته يقول: إن مجرد الأمر يقتضي الوجوب فيلزمهم أن يتأولوا الحديث الذي تعلق به داود وهم يقولون: إنه محمول على الاستحباب، وإنه يستحب لمن أحيل على مليء أن يقبل الحوالة. ولهم في ذلك مسلكان: أحدهما: صرف قوله "فليتبع" على (¬2) الوجوب إلى الندب، لما قدمناه من الأقيسة. وهذا إنما يحسن سلوكه إذا قيل: إن حيل (¬3) الأمر على الوجوب لا يجري مجرى النصوص بل مجرى الظواهر المحتملة، فيحتمل مجرد الأمر الوجوبَ ويحتمل الندبَ. لكنه في الوجوب أظهر فيحسن صرفه على (¬4) الوجوب إلى الندب بالأقيسة. وأمّا المسلك الآخر: فالتمسك بصدر الحديث وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - افتضح (¬5) ذلك بأن قال: "مطل الغني ظلم" وفي تأخير قضاء الدين إلى أن يتحول إلى ذمة أخرى يقتضيها نوع من المطل، وقد وصف النبي عليه السلام المطل بأنه ظلم لا سيما مقتضى قوله: "وإذا أحيل أحدكم على غني فليحتل" يقتضي أن المحتال، إذا أحاله من أحيل عليه على رجل آخر، يلزمه قبول الحوالة، وكذلك إذا أحاله الثاني على الثالث، وهذا يؤدي إلى ما لا يتناهى حتى يخرجنا عن المطل إلى إبطال الحقوق. وأشار ابن القصار إلى طريق من الاستدلال: وهو أن الحوالة أجيزت ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَتْبع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حمل. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى. (¬5) هكذا في النسختين، والصواب: افتتح.

للضرورة والرفق، وبالصحابة رضي الله عنهم حاجة إلى بيان حكمها، وكون القبول واجبًا عليهم، فلو بين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لاستفاض فيهم واشتهر، فلما لم يذكر عنهم الذهاب إلى ذلك اقتضى أنه أمر لا يُلزِم، وإنما هو مستحب، والمندوبات لا تشتهر اشتهار الواجبات. وقد نَبَّهناك على ما تقتضيه أصول الفقه في هذه المسألة. وأما اعتبار رضي المحال عليه فإنه غير معتبر عند مالك والشافعي وأبي حنيفة، بل يجبر على دفع الدين الذي عليه لمن أحيل به عليه. لكن مالكًا رضي الله عنه اشترط في ذلك ألاّ يكون المحال عدوّا للمحال عليه. ولم يذكر عن الشافعي وأبي حنيفة اشتراط ذلك. وذهب الاصطخري إلى أنه يعتبر رضاه بقبول الحوالة عليه كما يعتبر رضا المحيل، ولم يفرق بين محيل ومحال عليه. ويعتموإلاصطخري على أن من حق المحال عليه ألا يدفع إلا لمن يستحق الدين عليه في أصل المعاملة؛ لأنه يعتل بأن له منفعة في الامتناع من الدفع إلى المحال عليه لكون مستحق الدين أوّلًا سَمْحًا في اقتضائه متجاوزًا في استيفائه، فليس له أن يقطع هذه المنفعة عمّن عليه الدين بأن يسلِّط على الاقتضاء منه من هو عليه غليظ في الاقتضاء. والمعتمد في الردّ عليه الاتفاق على أن من له دين على رجل له أن يوكل عليه ولا يمنع من الوكالة. ولا يعتبر في هذا المعنى الذي اعتبره الاصطخري. وأيضًا فإنه إنما حقُّ من عليه دين البراءة منه لا أكثر من ذلك، فإذا وكل عليه فقبضه الوكيل فقد برئ الغريم. وكذلك إذا أحيل عليه به فدفعه للمحال عليه. ولكن اشترط مالك ألا يكون المحال عدوًّا لمن أحيل عليه لكون العداوة إذا ثبتت علم أنه قصد الإضرار والتشفّي من العدو وإيصال الأذى إليه بكل ما يقدر عليه، ولهذا رُدِّت شهادة العدوّ على عدوّه لحصول التهمة في قصد الأذى بالشهادة. وإنما يعرض في هذا إشكال؛ لو استدان رجل من رجل دينًا، ثم حدث بينهما عداوة بعوإلاستدانة، فهل يمنع من له الدين من اقتضاءِ دينه لنفسه لئلا

يبالغ في الاجتهاد في اقتضاءٍ يؤدي عدوَّه به أم لا؟ هذا مما أشار ابن القصار إلى تردد فيه: هل يمنع من الاقتضاء بنفسه، لوجود العلة التي قدمنا في منع حوالة العدو على عدوه، ويؤمر بأن يوكل غيره، أو يمكَن من الاقتضاء بنفسه لأنها ضرورة سبقت العداوة؟ وقد وقعت المعاملة على أن من له حق فإن له أن يقبضه بنفسه، ولا يلزمه أن يوكل عليه ويخرجه من ذمة إلى أمانة يؤتمن الوكيل عليها. وكأن إشارته تقتضي ميله إلى أن لا يمكَّن من الاقتضاء بنفسه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد بيّنا أن الحوالة رخصة مستثناة من نبيه (¬1) - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الدين بالدين، وعلة الرخصة الحضّ على المعروف والرفق، كالعرايا على حسب ما تقدم بيانه. وهذا يقتضي أنها إذا خرجت عما قصد بها من الرفق والمعروف مُنِعَتْ. وهي تخرج عن ذلك باختلاف أجناس البيوع، وباختلاف أنواعها بالجودة والدناءة، واختلاف آجالها. فأمّا إذا كان لرجل على رجل دين، عين أو طعام أو عروض، فلما حل الأجل وطلب الطالب دينه، قال من عليه الدين: لي على فلان دين هو خلاف جنس مَالَكَ عليَّ، فتحولْ إلى ذمته، وخُذْ مَا لِي عنده من عرض عوضًا عنْ مَا لَكَ عندي من طعام أو من عين. فإن هذا، الظاهر منه أنها مبايعة، والمقصود المعاوضة وطلبُ المكايسة والمغابنة لاختلاف المنافع والأغراض في هذه الأعْراض. فمَن تحوّل عن عَرْض يستحقه إلى طعام يأخذه فما ذلك إِلاّ لكوْن الطعام عنده أشدَّ نفعًا وأوفرَ ربحًا. فلمّا خرج ذلك عن طريقة المعروف والرفق مُنِع لارتفاع علة الجواز. وكذلك إذا اختلفت الأنواع بالجودة والدناءة، وكأن من يستحق الدين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نهْيهِ.

تحوّل إلى ذمة أخرى، فيها نوع أفضل من (¬1) المقدار أو في الجودة، من الدين الذي كان له فتحول عنه، مثل أن يكون لرجل قفيز قمح دنيء في ذمة رجل، فلما طلبه به قال له: لي على فلان قفيز قمح طيّب، فخذه منه عوض دينك، أو خذ منه قفيزين مثلَ دَيْنك في الجودة. فإن هذا لم يرض أن يتحوّل عن الدين الذي يستحقه إلاّ بما يربح في الدين الذي تحول إليه من زيادة قيل أو زيادة، جودة. ولو كان الأمر بالعكس: تحول عن طعام له إلى ما هو أدْنى في الجودة، أو أقل في المقدار لجاز ذلك لأنه أكّد دلالة قصده المعروف والرفق، بالتحول، وبكونه يأخذ أدنى مِمَّا لَه. وكذلك إذا كان دين الطالب لم يحلَّ فأحاله من عليه الدين على مثل دينه، وقد حل أو لم يحل، فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه يمكن أن يكون إنما رضي بالتحول عن دين لم يستحقّ قبضَه إلى ذمة أخرى تخوّفُ امن ذمة الذي عليه دينه أن يفلس أو يغيبَ فوجب المنع. فلو كان الأمر بالعكس بأن يتحول عن حامل (¬2) من دين له على دين، حل أو لم يحل، فإن ذلك جائز لظهور المعروف والرفق منه، أو تأكّده إذا انْحالَ بما حلّ على ما لم يحلّ، وترك دينًا يأخذه معجَّلًا بدين يأخذه مؤجلًا. وكذلك إذا كان الدينان لم يحلّ أجلهما، الدين الذي له والدين الذي يريد أن يتحول إليه، فإن ذلك يمنع؛ لأنه يمكن أن يكون إنما هرب عن ذمة غريمه إلى ذمة أخرى، تخوّفُ امن فلس غريمه عند الأجل أو تغيّبه. وكذلك لو كان الدينان مؤجلين، ولكنّ دينه يسبق حلولُه حلولَ الدين الذي أراد أن يتحوّل إليه، فإن هذا، وإن ظهر فيه "الإحسان والرفق من جانب، وهو أن يترك أخذ دين إلى شهر لدين يأخذه بعد شهرين وظاهرُ هذا المعروفُ، فإنه يعارضه أنه يمكن أن يكون إنما رضي بذلك لكون الذمة التي تحوّل إليها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حال.

فيأخذَ الحق منها بعد شهرين أسهلَ تناولًا وأبعدَ من الفلس والفقر من ذمة غريمه التي تحول عنها. وقد قدمنا أن الأصل في جواز الحمالة (¬1) قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم "وهذه إشارة إلى أن الدين [الذي] يتحول عنه لا يكون إلا حالًّا الآن، ما لم يحل لم يستحق قبضه ولا الطلب بهِ، فلا يكون من هو عليه ماطِلًا به. فإذا اقتضى الحديث: الشرط كون الدين الَمتحول عنه قد حل مُنِع التحولُ عمّا لم يحِلّ، لأجل ما بيناه من التعليل في تجاوز حد المعروف والرفقال في هو علة جواز الحوالة. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا تقدمت الحوالة بدين في ذمة فأحيل به على ذمة أخرى على وجه جائز، كما تقدم بيانه، ما يجوز من الحوالة وما يمنع، ثم فلس المحال عليه، فهل للمحال أن يرجع على من أحاله أم لا؟ اختلف الناس في ذلك على خمسة مذاهب: فذهب الشافعي إلى منع رجوع المحال على المحيل على الإطلاق. ولو كان المحيل قد علم فقر المحال عليه فكتم ذلك، وغرّه ودلس عليه حتى قبل الحوالة. وذهب مالك إلى مثل ما ذهب إليه الشافعي، لكنه استثنى وجهًا واحدًا، وهو أن يكون المحيل قد علم فقر المحال عليه وأحاله على فقير لم يعلم المحلل (¬2) بفقره. وذهب أبو حنيفة إلى استثناء وجهين: أحدهما: أن يموت المحال عليه وهو مفلس لم يترك شيئًا. والثاني: أن يجحد الدين ويحلف عليه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحوالة. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: المحال.

ففي هذين الوجهين يرجع المحال على المحيل، وفيما سواهما لا يرجع، على اختلاف عن أصحاب أبي حنيفة في الرواية في جحود المحال عليه الدينَ هل هو وجه يوجب الرجوع على المحيل أم لا؟ وذهب محمَّد بن الحسن وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة إلى استثناء ثلاثة أوجه، اثنان منها ما ذكرناه عن شيخهما أبي حنيفة، وهو أن يموت المحال عليه مفلسًا أو يجحد الدين، أو يفلس وهو حى فيُحجَر عليه. ونحن قد قدمنا مذهب مالك في أنه لا يرى الرجوع لأجل فليس (¬1) المحال عليه، حيًا كان أو ميتًا، إلا أن يكون المحيل قدْ غَرَّ المحالَ، وعلِم بفقرِه، وكتمه عن المحال. وأما الجحود فاختار بعض أشياخنا أنه لا يوجب الرجوع عن (¬2) المحيل؛ لأن المحال فرّط إذا لم يشهد عن (2) المحال عليه، فكأنه لما قَبِل الحوالة بَرِئَتْ ذمة المحيل، وفرَّط في الإشهاد، فصار كالمتْلِف لماله بعد القبض، فمصيبة الجحود منه. أمّا مالك فلا أعرف له نصًا في هذا، لكن ما تشير (¬3) إليه، فيما بعد، في أن الحوالة كالقبض يصح أن الجحود لا يوجب الرجوع على المحيل. لكن بعض الأشياخ أشار إلى أنه لو كان المحال عليه غائبًا فلما حضر جحد الدين، فإن للمحال الرجوعَ على المحيل؛ لأنه لا يمكنه الإشهاد بالحوالة فيكونَ مفرطًا فيه، وأيضًا فإنه قد يعتذر: إنما قبل الحوالة بشرط تصديق المحال عليه بأن عليه الدين للمحيل. فإذا تقررت هذه المذاهب، فنذكر سبب الخلاف فيها. وذلك وجهان: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: فَلَس، (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: يُشِير.

تعلق بأثر، والثاني تعلق بأثر (¬1). فأمّا الأثر فقد قدمنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم وإذا أَتبع أحدكم على مليء فليتبع" (¬2) فيقول مالك والشافعي: قوله: "يتبع" عمومه يقتضي أنه يتبع المحال عليه، فُلِّس أو لم يفلس. وهذا يوجب ألاّ يرجع على المحيل. ويقول أبو حنيفة وأصحابه: قد شرط في أول الحديث كون المحال عليه مليئًا، فقال: "وإذا أَتبع أحدكم على مليء فليتبع" إنما يجب الاتباع مع الملاء، فإذا وقع الفلس سقط الاتباع، وإذا سقط الإتباع وجب الرجوع على المحيل. وقد انفصل الشافعي عن تأويلهم هذا بأن الفلس لو كان يُسقط الاتباع، ويوجب الرجوع على المحيل، لم يكنْ للتقييد بالملاء فائدة، إذا كان الفقر والفلس يوجب الرجوع على المحيل، ولكان القول: إذا أَتبع على إنسان فليتبعْ؛ لأنه إن كان يجد ما يأخذ منه حصل على حقه، وإن لم يجد رجع على المحيل، وإنما فائدة التقييد بالملاء أن يستظهر المحال لنفسه، ويحتاط لدْينه، حتى يقبل (¬3) الحوالة إلا على مليء تثق نفسه به، فإن حدث فلس لم يرجع على المحيل فإذا علم أنه لا يرجع على المحيل احتياطًا (¬4) لنفسه بالكشف عن حال المحال عليه. وأجاب أصحاب أبي حنيفة عن هذا الذي قال الشافعي بأنه إذا ظهر فلسٌ تأخر أخذُ الحق، فإنما أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا التقييد بالملاء أن يحتاط لنفسمعتى لا يتأخر حقه إذا فلس المحال عليه، ووجب الحصاص والخصام فيما عليه، فإنما فائدة التقييد بالإشارة إلى التحرز من لحوق الضرر إما بتأخير الطلب والاستيناء، كما يقول أبو حنيفة، وإما بإسقاط الطلب عن المحيل إسقاطًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب بنظر. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) هكذا في النسختين، والأظهر: [لا] يقبل. (¬4) هكذا في النسختين، والصواب: احتاط.

مؤبدًا. والنظر في إسقاط الطلب عنه، مؤبدًا أو مؤجلًا، فيه احتمال أن يكون هو المرادَ. وأما التعلق بما يروَى في ذلك عن الصحابة، رضي الله عنهم، فإن عثمان بن عفان، رضي الله عنه، رُفِع (¬1) أمر حوالة أو كفالةٍ، فُلِّس المجهول (¬2) عليه، فقال: يرجع صاحبها لا تَوَى على أمن (¬3) مسلم. يعني لا هلاك على ماله. وقد قال الشافعي لمحمد بن الحسنِ: لِمَ جعلتَ فَلَس المحال عليه يوجب رجوع المحال على المحيل؟ فذكر له حديث عثمان، فقلت له: من رواه؟ فقال: مجهول غير (¬4) معروف وهو مقطوع. يعني أن الراوي عن عثمان هذا الحديث لم يلق عثمان، فهو مرسل من جهته، وأن الراوي رجل معروف وهو الراوي الذي أرسل الخبر، رواه عنه رجل مجهول. وقد سمّى هذا المجهولَ، وهذا المعروفَ، ابنُ المنذر في كتابه (¬5). فالتعلق بهذا ضعيف لأن العمل بالمراسيل فيه اختلاف، ورواية المجهول لا يعوّل عليها. وقد شك الراوي فيما رُفع إلى عثمان رضي الله عنه: هل رفع إليه أن ذلك كان حوالة أو حمالة؟ ولا شك أن الحمالة لا تسقط الدين عن المضمون المتحمَّل به. ويتعلق أصحابنا، وأصحاب الشافعي، بأن جد سعيد بن المسيب كان له على عليّ رضي الله عنه دين، فسأله أن يحيله به على رجل آخر، ففلس المحال عليه، فأتى جد سعيد إلى عليّ رضي الله عنه شاكيًا ذلك إليه، فقال له: اخترتَ علينا، أبعدك الله. ولم ينكر ذلك عليه أحد، فدل ذلك على أن فلس المحال عليه لا يوجب رجوع المحال على المحيل. ¬

_ (¬1) أي: إليه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المحال. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: اِمْرِي. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عن. (¬5) انظر تمامه في: البيهقي: السنن الكبرى: 6: 71.

هذا سبب التنازع من أجل تأويل الحديث واختلاف الآثار. وأمّا من جهة الاعتبار، فالنكتة فيه النظرُ في الحوالة هل هي كقبض الحق فيبْرَأُ المحيلُ براءة مطلقة، أو كالمعاوضة فلا يبرأ إلا بعد استيفاء العرض (¬1)؟ فعندنا وعند الشافعي أنها كالمقبوضة، فما حدث بعد (الدين فيه) (¬2) من تلف فمن قابضه، فكذلك إذا فلس المحال عليه، فكأنه إنما يقدم الاستيفاء للمحال بعد أن قبض دينه من المحيل، فمصيبة ذلك عليه، كما لو قبض منه دينه ثم تلف في يديه. ويؤكد أصحابنا هذه الطريقة: أن الحوالة كالقبض، بدليل أن الحوالة إذا كانت بدنانير في ذمةٍ، فأحيل بها على دنانير في ذمة أخرى، فإن ذلك لو لم يكن قبضًا ما جاز إلا بعد التقابض وقبل الافتراق، كما لا يجوز في الصرف الافتراق قبل القبض. وأما أبو حنيفة وأصحابه، فيرونها كالبيع، فيجب الرجوع عند الفلس، كما لو باع عبدًا بثوب فاستُحِق العبد، أو وجد به عيب، فإنه يوجب الرجوع في العوض الذي دُفِع فيه، فكذلك الحوالة إذا ظهر الفلس وجب الرجوع في عوض الدين الذي تعذّر استيفاؤه. فإذا علم أن الحوالة تتعلق تارة بالعين وتارة بالذمة، فوجود العيب في الأعيان يوجب الرجوع في أعواضها، فكذلك وجود العيب في الذمم يوجب الرجوع في أعواضها، وهي ذمة المحيل التي أَخَذَ عنها، بدلًا منها وعوضًا عنها، ذمةَ المحال عليه. ونحن إذا أثبتنا أن الحوالة كالقبض، والفلسُ كحدوث عيب بعد القبض، بطل قيامُهم، وهم بنوا على أن ذلك ليس كالقبض فخرجوا عليه قياسَهم. ثم أيضًا نقول نحن بأنه لو أبرأ من له الدين من عليه الدين من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العوض. (¬2) هكذا في النسختين، ويكون المعنى أوضح بحذف ما بين القوس.

دينه ليبرأ (¬1) منه براءة مؤبدة. وإذا كانت الحوالة مشتقة من التحويل صارت بمنزلة إذا تحول رجل من مكان إلى مكان فقد فرع الأولَ وشَغَل المكانَ الثانيَ، فلا يقتضي هذا التفريغ الرجوع إلى المكان الذي زال عنه، فكذلك الحوالة قد أخلى ذمةَ مَن عليه دينُه، ونقل ذلك إلى ذمةٍ أخرى، فلا يعود الدين بعوإنتقاله إلا بدليل، وهم يقولون، أيضًا: إنما حولت من مكان إلى مكان بشرط السلامة، وحصول الاستيفاء، فإذا لم يحصل له الاستيفاء رجع إلى أصل حقه ورد الحق إلى محله. ونقول نحن، أيضًا: إن بأن (¬2) الحوالة، وإن كانت فيها مشابهة بحقيقة البيع، فإن المقصود منها ما قدمناه من قصد المعروف بدليل أنه لو التفت إلى حقيقة البيع لجازت الحوالة بجنس من الدين على جنس آخر؛ لأن البياعات لا يشترط فيها التجانس بل يجوز بيع عبد. بعبد، وبيع ثوب (¬3) ولا يجوز في الحوالة حوالة ثوب على عبد. فدل ذلك على أنها كالمسلوب منها حقيقة البيع، فلا تقاس على بيع عين بعين، كما قدمناه من قياسهم. وإذا سلبنا منها حقيقة البيع، وكان القصد إبراءَ محلّ وشَغْل آخرَ، لم يجب الرجوع عند الفلس. وأيضًا فإن الأعيان إذا وقع فيها البيع، ثم اطُلع فيها على عيب، صار ذلك كنقض في أجزاء الجميع؛ لأن من باع عبدًا فوجده المشتري مقطوع اليد، فكأنه اشترى عشرة أجزاء مثلًا، فأصاب تسعة أجزاء، والفلس عيب في الذمة، (ونفس الذمة ليست كالعيب في نفس ما حل فيها) (¬4). والشافعي إنما لم يراع تغرير المحيل بالمحال لأنه يرى أن المحال أمكنه البحث عن حال المحال عليه حتى يعلم غناه من فقره في ذلك، فصار كالراضي بالعيب الداخل عليه. وكأن مالكًا رضي الله عنه رأى أن هذا كالعيوب الباطنة؛ لأن القطع على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَبَرَأَ. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب حذف: بأن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: بعبد. (¬4) هكذا في النسختين.

الفقر في الباطن لا سبيل إليه، فإذا لم يغير (¬1) المحيل المحال، فكأنه عيب لا يعلم به، فأشبه العيب بباطن الخشب، وما في معناه، مما لا يجب ردّه بعيب ظهر فيه بعد إفساده، أما إذا علم بالعيب ودلس به فقد غرّ بمن عامله، فوجب أن يرجع عليه بحكم هذا العيب. ومذهب مالك أيضًا أنه لا يلزم المحالَ الكشفُ عن ذمة المحال عليه قبل أن يقبض الحوالة، بل يجوز له قبول الحوالة، وإن كان شاكًا في حال المحال عليه: هل هو غني أو فقير. بخلاف شراء ديْن قد استقرّ في الذمة، فإنه لا يجوز لأحد أن يشتريه بعوض يجوز شراؤه به إلا بعد أن يكون من عليه الدين حاضرًا مقرًا، يُعرف غناه من عُدمه؛ لأن ذمته هي المشتراة، ويختلف مقدار عوضها باختلاف حال الذمة من فقر أو غنى، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولًا، فإذا اششرى دينًا لا يُعلم حالُ من هو عليه، هل هو فقير أو غني، فقد صار اشترى أمرًا مجهولًا (من صحة البيعِ، والبيع) (¬2) ليست ببيع على إحدى الطريقتين عندنا بل طريقها المعروف، فيُعْفَى فيها عن مثل هذا الغرر، لكون الغرر يعتبر كونه مقصودًا كما تقدم بيانه في كتاب البيوع. لكن مذهبنا أنه إذا كان المحال عليه ظاهرَ اليسار، والمحيل يعلَم من باطن أمره أنه فقير لا مال له، فإن ذلك عيب في الحوالة يوجب للمحال أن يرجع عن قبولها، ويطالِبَ المحيل. هذا على أنه لو باع سلعة من رجل يظنّه مليئًا فإذا به فقير مفلس، فإن البائع ليس له فسخ البيع ولا يكون هذا كعيب في الذمة يوجب فسخ البيع، وما ذلك إلا لأن البياعات تتكرر تكررًا كثيرًا لشدة الحاجة إليها وعدم الغنى عنها في جل الناس، والكشف عن ذمة من يطلب شراء سلعة مما يشق، فلو لم يجز البيع للبائع إلا بعد الكشف عن ذمة المشتري ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَغُرَّ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يؤثر في صحة البيع، والحوالة ...

والبحث عنها , لوقفت أكثر البياعات (ولم يمكن انتها وفرضها) (¬1). وأيضًا فإن البائع يدفع للمشتري سلعة تقارب الثمن الذي يحل له في ذمته، فاستغنى بذلك عن الكشف هل عند المشتري زيادة أم لا. وأما بيع الديون التي في الذمم مما لا يقع إلا نادرًالأولا يتكرر، فتكليف البحث عن ذمة من عليه الدين المبيع لا يوقف البياعات المكررة، ولا يشقّ، مع كون المشتري للدين لا يدفع لمن عليه الدين. لكن لو فرضنا أن المحال قَبِل الحوالة على رجل يشكّ في ملائه أو فقره، والمحيل عالم بباطن أمره، وأنه فقبر، فهل يكون علم المحيل بفقره، وكتمانُ ذلك عن المحال، تدليسًا يوجب له الرجوع، أو يقال: إن المحال لمّا قَبِل الحوالة على من يشك في حاله، وليس ظاهر أمره عنده الغنى، فإنه يصير بذلك كما لو قبل الحوالة على فقير يعلَم من فقره ما علمه المحيل. بخلاف أن يقبل الحوالة على من ظاهره الغنى، وقد علم المحيل أن الباطن بخلافه. والأظهر عندي أن يكون له مقال، على أصل المذهب؛ لأنه لو علم بأن المحيل حقق هذا الأمر الذي المحال يشك فيه، لم يقبل الحوالة، فصار قبوله لها كالمشروط بأنه استوى واعتقادَ المحيل في حال المحال عليه. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد قدمنا أن ظاهر مذهب الشافعي أن الحوالة إذا قبلت لا يبطلها جحود المحال عليه الذي أحيل به عليه. وذكر عن أبي حنيفة أن ذلك يبطلها. وعن صاحبيه: محمَّد بن الحسن وأبي يوسف، وذكرنا اختلاف الرواية عندهم في الجحود. وبعض الأشياخ المحققين من أهل المذهب يختار أنها إذا وقعت الحوالة على حاضر مقر بالدين، ويعتلّ لذلك بأن المحال، لما قبل الحوالة، وهو يجوز أن يجحده المحال عليه، وقد أمكنه الإشهاد عليه بأنه يستحق قِبَله ما كان ¬

_ (¬1) هكذا.

للمحيل عليه، فصار إعراضه عن الإشهاد كالتفريط منه، كمتلفٍ مالًا بتفريطه. قال: ولو كان المحال عليه غائبًا، فلما قدم جحد الدين، لكان للمحال أن يرجع على الحميل (¬1) ها هنا؛ لأنه لم يمكنه الإشهاد على من عليه الدين لغيبته، فيعَدّ كأنه أتلف حقّه بتفريطه في الإشهاد. وعندي أن النظر يقتضي فيما قاله هذا الشيخ تفصيلًا. فإن كان الغالب في الديون الإشهاد عليها، فإنما يترك ذلك نادرًا، وقال المحال لما جحد المحالُ عليه وقد كان حاضرًا مقرًا حين الحوالة: إنما لم أشهد عليه لثقتي بأن المحيل قد كان أشهد عليه على ما تقتضيه العادة، فلما كتمني أنه لم يشهد عليه، صار ذلك كالتغرير منه والتدليس عليَّ، فوجب في الرجوع عليه، كما وجب لي إذا علم فقر المحال عليه وكتمه عني، كما قدمناه. وأما إطلاقه القول بأن الحوالة إذا كانت على غائب فقد يجحد الدين كان للمحال أن يرجع على المحيل، فإن ذلك صحيح بشرط أن يكون المحال لم يصدّق المحيل في كونه يستحق دينًا على الغائب المحال عليه. وأما لو صدقه في ذلك وقبل الحوالة وهو يعلم أَلاّ بيّنة على الغائب، فإنه ينظر في هذا هل يكون أبرأه المحيل (¬2) وعلمُه، بأن المحيل يستحق الدين الذي أحاله عليه، يمنعه الرجوع ويصير الجحود كجائحة طرأت عليه لا رجوع له بها على المحيل. وقد اختلف المذهب الاختلاف المشهور في رجل أتى لمن عنده وديعة لإنسان فقال له: أرْسَلَني مَن أودعك إيّاها لأقبضك منها (¬3)، فصدّقه فيما ذكر، ودفع ذلك إليه، فلما قدم صاحب الوديعة أنكر أن يكون أرسل أحدًا ليقبضها، وحكم على دافعها بغرامتها، فهل له أن يستردّها ممن قبضها منه، ويكون إنما صدقه بشرط أن يأتي صاحب الوديعة فيصدق الرسول فيسترد منه ما أعطاه، أو يكون تصديقه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المحيل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إبراء للمحيل. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأقبضها منك.

له يمنعه من الرجوع على الرسول لاعتقاده أن صاحب الوديعة ظلمه في أن طلبه بالغرامة وأخذها منه، فذلك جائحة عليه لا رجوع له بها على من قبضها منه. وهذا يلاحظ ما نحن فيه من اعتبار كون المحال إنما صدق المحيل بشرط أن يأتي الغائب فيقر بالدين أو يصدقه على الإطلاق واعتقد أنه لم يكذب، فيكون ذلك جائحة على المحال. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا باع رجل من رجل سلعة بمائة دينار، ثم أحال البائع رجلًا، له عليه مائة دينار، على مشتري السلعة منه بالمائة دينار، فاستُحقت السلعة من يد المشتري، أو ردّها بعيب حتى انفسخ البيع فيها، فبطل الثمن وسقط عن المشتري، فهل يسقط عن المشتري حق المحال عليه حتى لا يطلبه بشيء، أو يبقى حق المحال ثابتًا على المشتري، في طلبه بوزن الثمن الذي سقط عنه، ويرجع المشتري بما دفع للمحال على البائع الذي هو المحيل عليه؟ في المذهب في هذا عندنا قولان مشهوران: ذهب ابن القاسم إلى أن الحوالة ثابتة، ولا يسقط حقُّ المحال وطلبُه عن المشتري، وإن كان لم يقبض منه ثمن السلعة التي (¬1) أحيل به عليه. وذهب أشهب إلى أن الحوالة قد بطلت ببطلان البيع، ولو كان المحال قد قبض الثمن من المشتري لكان من حق المشتري أن يُرجعه منه، ويَرجع بهذا الذي استرجع منه على البائع الذي كان دينه عليه. ومذهب أشهب هو اختيار ابن المواز وغيره من الأشياخ المحققين، واعتضدوا في ذلك بأن أصحاب مالك اتفقدا على أن المفلس إذا بيع ربعه وعروضه في دين وجب عليه، وأخذ ثمن ذلك غرماؤه، ثم استُحِق المبيع حتى كان من حق من اشترى مال المفلس أن يطلب ما دفع من الأثمان، أن المشتري ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الذي.

يستردّ الأثمان من يد الغرماء الذين قبضوها. وفي هذا التشبيه عندي نظر؛ لأن الغرماء كأنهم هم الذين باعوا بأنفسهم، وقبضوا مما باعوه، فعليهم أن يردوه إذا استحق ما اشتراه المشتري منهم. ومسألة الحوالة قد وقع فيها إدخال يد ثالثة، وهي يد المحال، فصار ذلك كالفَوْت للأثمان، كما ننبّه عليه فيما بعد إن شاء الله تعالى. فإذا تقرر أن في مسألة الحوالة، إذا رفع (¬1) الاستحقاق، عندنا قولان، فإن الشافعية لم تختلف، فيما علمت، في أن المحال إذا قبض الثمن فإنه لا يُستَرَد منه، وأما إن لم يقبضه حتى وقع الاستحقاق أو الرد بالعيب، فإن المزني في جامعه الكبير: أن الحوالة ثابتة. وذكر في مختصره أن الحوالة باطلة. وكان أصحاب الشافعي يشيرون إلى أنهم ليس عندهم، إذا لم يقبض الحوالة، اختلاف في المذهب، وإنما المذهب عندهم على قول واحد. ولكن اختلفوا: هل الصحيح منه ما قاله المزني في جامعه الذي ألّفه قبل مختصره: إن الحوالة ثابتة، أو الصحيح ما نقله في مختصره بعد ذلك أن الحوالة باطلة؟ فمنهم من رأى أن القول الذي تقدم له غلط، ومنهم من رأى أن القول الثاني هو الغلط، ومنهم من تأوّل قوله فقال: معنى القول بثبوتها، أي إذا قبضت، ومعنى القول بسقوطها أي أنها لم تقبض. هذه حكايته المذهب وأما سبب الاختلاف ففيه اضطراب: فأما أصحاب الشافعي فإنه نص القولَ. بثبوت الحوالة بأن الشافعي قال: الحوالة كالقبض. يريد بها أن الحوالة إذا قبضت لم تُستَرَد من يد قابضها، بلا خلاف عندهم. وإذا كانت نفس الحوالة كالقبض لم تبطل وإن بطل البيع. ودفع بعضهم هذا الاحتجاج بأن قال: لم يرد الشافعي بأنها كالقبض في حق المحيل حتى يكون في مسألتنا كقابض الحوالة، وإنما أراد أنها كالقبض في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقع.

حق المحيل، بمعنى أنه لا يرجع عليه، وكونه قد أحال غريمه لكونه قد دفع إليه حقه وقبضه منه. وبعض أشياخي يشير إلى أن هذا الاختلاف مبني على كون الحوالة بيعًا أو ليست ببيع وإنما طريقها المعروف فإن قلنا: إنها بيع لم تُنقض الحوالة بانتقاض البيع الذي أحيل بثمنه، كما قال ابن القاسم، وهي كبيع وقع بعد بيع، ألا ترى أن من باع عبدًا بمائة دينار، ثم أخذ بالمائة دينار من المشتري سلعة، ثم استحق العبد، فإن البيع في الثوب لا يبطل وإن بطل ما يبنى عليه وهو بيع العبد. وكذلك الحوالة إذا قدرناها بيعًا لم تبطل ببطلان البيع الأول الذي بنيت الحوالة عليه. وأنكر بعضهم هذا التشبيه بأخذ الثوب من ثمن العبد فقال: إنما مشتري العَبد إذا استحق من يديه أن يرجع بثمن العبد، وليس الثوبُ هو ثمنَ العبد فيرجع فيه، ولا الذمة هي نفس الثمن، وإنما هي محل الثمن، وثمن الثوب دنانير كانت في الذمة، فإذا بطل البيع في الذمة (¬1) العبد، وبطل الثمن، صار كمن اشترى ثوبًا بدنانير فاستحقت الدنانير من يده فإنه لا يبطل البيع باستحقاقها. لكن إنما يتبين صحة البناء الذي ذكرناه بأن العبد لو باع (¬2) بدنانير ثم اشترى رجل تلك الدنانير من بائع العبد الذي استحقها في ذمة مشتري العبد بما يجوز له أن يشتري هذا الدين، ثم استُحق العبد فإن الثمن لا يبطل بل يلزم مشتري العبد أن يدفعه لمشتريه من البائع، ويرجع هو بذلك على بائع العبد منه. وهذا لم يختلف فيه ابن القاسم وأشهب، وهو يؤكد هذا البناء الذي بنيناه من أن الحوالة إذا قدِّرت كالبيع فإن الصواب ما قال ابن القاسم في أن الحوالة لا تبطل باستحقاق العبد الذي وقعت الحوالة على ثمنه. وإن قلنا: ليست ببيع وطريقها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الذمة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِيعَ.

المعروف بطلت الحوالة كما قال أشهب. ويؤكد ذلك أن هذا الثمن لو تصدق به البائع على رجل، أو وهبه له، فاستحق العبد، أن الهبة والصدقة بطلت لما كانت الهبة والصدقة لم تقبض، فأما إن قبضت وأَفَاتها المتصدق عليه، فإنه لا يُرجع عليه؛ لأنه سلطه المالك لها عليها بالصدقة فأكلها على أنه لا غرامة عليه، فلا يلزمه بعد ذلك أن يغرمها، ويَرجع دافعُها إليه على بائع العبد بما أمره أن يخرجه من ذمته بالصدقة. وأما إن كانت قائمة بيد المتصدق عليه: فهل لدافعها إليه، وهو مشتري العبد، أن يستردها منه لكونه دفع ما لم يُستَحق عليه في الباطن غلطًا منه، والذي دفعه قائم بعينه فرجع (¬1) فيه، أو يمنع من ارتجاع ذلك من القابض وإنما يرجع على بائع العبد منه، كما لو قبض البائع ثمن عبده وتصدق به فإنه يرجع عليه بما تصدق به؟ اختلف قول ابن القاسم في ذلك، وهذا ومسألة النكاح إذا تصدقت المرأة بصداقها على رجل فلم يقبض الصدقةَ المتصدَّقُ عليه حتى طلقها الزوج قبل الدخول، وهو موسر، فإن الزوج يدفع الصداق إلى المُتَصدَّق عليه، ويرجع هو بنصفه على الزوجة التي أمرته أن يدفعه إلى قابضه منه، وصار ذلك بالصدقة كالفوْت للصداق المتصدَّق به، وسقوطه بالطلاق بعد الهبة كسقوط الثمن في مسألة الحوالة بالاستحقاق، وما وقع من الاختلاف في مسألة الصدقة بالصداق، و (¬2) يذكر وجهه في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. وقد أشار بعض الأشياخ إلى بناء مسألة الحوالة على طريقة ثالثة، وهي تقدير الحوالهّ كالفوت لِمَا وقعت الحوالة به، فيكون الأمر كما قال ابن القاسم، و (¬3) ليس ذلك كالفوت؟ فيكون الأمر كما قال أشهب. ولما كان معتمَد بعض الأشياخ في إجراء الخلاف على كون الحوالة بيعًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَيَرجع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

أوليست ببيع، كما تقدم بيانه، نذكر الآن الخلاف في ذلك وسببه. وظاهر المذهب عندنا على قولين: هل الحوالة كالبيع أو ليست كالبيع وإنما طريقها المعروف والإرفاق؟ وكذلك نظر أصحاب الشافعي على أن عندهم في ذلك قولين. واعتل من قال: إنها ليست كالبيع بثلاثة أوجه: أحدها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل" (¬1) وهذا أمر أقل مراتبه أن يحمل على الندب والاستحباب ولم يَرِد الشرع بإيجاب البيع ولا بالندب إليه على الإطلاق، وإنما ورد الشرع بالندب إلى فعل المعروف والإرفاق. الوجه الثاني أن البيع يجوز مع اختلاف الأجناس، ومع الزيادة والنقصان، ولا يجوز ذلك في الحوالة كما تقدم في صدر الكتاب. الوجه الثالث: أن الحوالة تجوز بدنانير على دنانير ويجوز الافتراق قبل التقابض. فلو كان ذلك بيعًا لكان ذلك كالصرف الذي لا يجوز فيه الافتراق قبل التقابض. وأما من لم ينكر كونها بيعًا فإنه يقبل (¬2) بأن حقيقة البيع في اللغة نقل الملك بعوض، وهو ها هنا قد انتقل الملك بعوض فثبت له حقيقة البيع، واشتراط الشرع في جواز هذا البيع شروطًا لا تخرجه عن كونه بيعًا، وكذلك اختصاص الحوالة بتسمية الحوالة، ألا ترى أن بيع الدنانير بالدراهم واختصاصه بحكم، وهو منع الافتراق قبل التقابض، واختصاصه بتسمية وهو الصرف، لا يمنع ذلك من كون حقيقة البيع قد حصلت فيه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يقول.

والجواب عن السؤال السابع أن يقال: قد قدمنا أن حقيقة الحوالة أن تكون على دين، وأن اشتقاقها يوجب ذلك؛ لأنها مشتقة من التحوّل، والتحول لا يكون إلا متضمنًا لمكانين أحدهما هو الذي يزول عنه اللّيث (¬1) فيه. والآخر هو الذي ينتقل إليه. وكذلك الحوالة في الديون تقتضي أن يكون لِإنسان دين في ذمة رجل فيطلب به، فيقول له: تحولْ عن ذمتي إلى أن يصير لك في ذمة رجل أخرى (¬2) عليه دين مثل دينك. وهكذا أصْل المذهب، وعليه بنيت فروع هذا الباب، ألا ترى أن المذهب في رجل تحول بدين على ذمة رجل آخر فلما مات المحال عليه، قال المحال: أحلتني على غير أصل ديْن، فلي الرجوع عليك. وقال المحيل: أحلتك على دين لي عليه. فإن القول قول المحيل. وهذا الذي قاله أصحابنا مبني على ما قدمناه من أن الحوالة حقيقتها أن تكون تحوّلًا عن دين في ذمة إلى ذمة أخرى فصار مدّعيًا أن الحوالة كانت على غير دين بعد اعترافه أنهاكانت حوالة، يدعي إبطال ما أقر به وإبطال حقيقة اللفظ الذي اعترف به. ومن هذا أيضًا ما أشار إليه ابن الماجشون في المبسوط، فيمن تحول بدين له على رجل على رجل آخر فقال المحيل: ادفَعْه إليّ لأنّي إنما وكلتك على قبضه وسلمْه إليّ. وقال المحال: بل كنتُ استحقه عليك دينًا من قبل الحوالة: إن المدعي لكونه حوالةً إذا ادعى من ذلك ما يشبه صدقا (¬3)، وإلا كان القول قولَ المحيل: إنك وكيل لي على القبض. فأنت تراه كيف أشار إلى أن القول قول من ادعى ما يقتضيه اللفظُ وحقيقةُ هذه التسمية وكونُها دالةً على أن الحوالة على دين. ألا ترى أن قرائن الأحوال على أنه ليس بمحال بل هو وكيل، فيكون ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اللُّبْث. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: آخرَ لِي. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: صُدِّق.

القول قول من ادعى ما دلت عليه قرينة الحال. وإن كان قد وقع لابن القاسم في العتبية، فيمن أحال رجلًا بدين له عليه على رجل آخر، فقال المحيل: إنما أحلتك على دين لي يكون ذلك سلفًا عندك ترده إليّ. وقال القابض: ما أخذته إلا عوضًا عن دين كان لي عليك: إن القول قول المحيل. مع كون المحيل ادعى أن هذه الحوالة كانت على غير دين يستحقه المحال. وأشار بعض أشياخي إلى أن هذا كالمخالف لما أصلناه، ولما حكيناه عن عبد الملك، مع كون هذه المسألة آكد في تصديق القابض الذي يقول: ما قبضت دينك إلا من دين كان لي عليك. وهذا اتفاق منهما على أن المقبوض قبض على أنه ملك للقابض. وهذا الذي أشار إليه شيخنا من التخريج للخلاف فيه (¬1)، وذلك أن قول المحيل: إنما قبضته ليكون لي سلفًا عليك، يشبه الحوالة على الديون لأنه لما التزم له أن يسلفه مائة دينار صار ذلك كدين عليه لمن سأله في السلف. وإذا صار كدين له عليه صارت الحوالة ها هنا على دين باتفاقهما جميعًا. وإنما تنتقل المسألة إلى أصل آخر، وهو من قال: قبضت من زيد مائة دينار كانت لي عليه، وقال زيد: إنما دفعتها إليك ليكون سلفًا لي عليك، فإن في المسألة قولين: هل يصدق القابض؛ لأنه ما أقر بعمارة ذمته، ولا أقر إلا بقبضٍ شرَط فيه أنه يستحق، فلا يؤخذ بأكثر مما أقرّ به. والقول الآخر: إن القول قول الدافع في أنه إنما دفع ذلك سلفًا؛ لأن القابض لو أتاه قبل أن يقبض منه شيئًا، فقال له: لي عليك دين، فأنكره المدعَى عليه، فإن الإجماع على أن القول قول المدعى عليه، فكذلك أن يجب أن يكون القول قوله. في صفة ما دفع، وأنه دفعه سلفًا لا قضاءَ عن دين؛ لأن الأصل أن القول قوله في إنكاره دعوى المدعِي عليه الدينَ. والأصل أيضًا أنهما اتفقا على أن هذا المقبوض الذي حازه قابضه أصلُ الملك فيه لدافعه، وإذا وقع اختلاف التداعي قدمنا الأرجح، والرجحان ها هنا في جنبة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والمعنى: فيه [نظر].

من اعتُرِف له بأصل الملك، وادعى عليه أن ملكه سقط، واحتج المدعي بالحيازة، فإن ذلك لا يقبل منه؛ لأن الحيازة، وإن كانت ترجيحًا لدعوى الحائز، فاعتراف الحائز لغيره بأصل الملك أقوى من دلالة الحيازة، ألا ترى أن رجلًا عليه ثوب، فقال له رجل: أعرتك إياه. وقال اللابس الحائز: وهبتَه لي. إن القول قول المقَرّ له بأصل الملك، وأن ثوبه إنما خرج من يده على جهة العارية لا على جهة الهبة، والتمليكِ المؤبد. وهذا الذي ذكرتُه عن بعض أشياخي في أنه جعل المذهب على قولين مما قدمناه في المسألتين: مسألة ابن القاسم في العتبية، ومسألة ابن الماجشون في المبسوط، هكذا الأمر عند الشافعية في مسألة المبسوط إن المذهب عندهم فيه على قولين: أحدهما: أن القول قول المحيل، لما قدمناه من أنه اعترف له من ينازعه أن أصل الملك له. وهو مذهب شيوخهم، وبعض الأئمة من حذاقهم المتأخرين. وهذا التفات إلى المعاني والأصول المفردة في الشرع، واطّراح دلالة اللفظ الذي هو اسم الحوالة، فإن ذلك إنما يكون ترجيحًا في الدعوى ما لم يصادمه ترجيحٌ آخر هو أقوى منه من الاتفاق على أصل الملك، وكون المدعى عليه بدين القولُ قولُه باتفاق. ومنهم من ذهب إلى أن القول قول القابض: إني إنما قبضت ما أستحقه عوضًا عن دين لي عليك، ولم أقبض على أني وكيل لك، تمسكًا من هؤلاء بدلالة هذا اللفظ واشتقاقها على حسب ما قدمناه. وقد بيّنا ضعف اعتلال أصحاب هذا المذهب. وإذا تقرر هذا فإن قضاء القاضي بأن القول قول المحال: إني قبضت ما أستحقه فلا تفريع على هذا المذهب. وإنْ حُكِم بأن القول قول المحيل، ترجيحا له بما قدمناه، فهل للمحال أن يرجع على المحيل؟ هذا مما اختلف فيه العلماء، فمنهم من قال: إذا رفع أمره

إلى القاضي لم يحكم له على المحيل بشيء؛ لأنه قد اعترف المحيل ببراءة ذمته بالحوالة، وألاّ مطالبة له عليه، وأن الذي يستحقه إنما هو في ذمة المحال عليه، فليس له أن يطالب ذمةً بدين، هو معترف ببراءة هذه الذمة من دينه، كما لو اعترف بأنه قبض دينه فإنه لا مطالبة له به، ولا يصح للقاضي أن يحكم له بما يعترف أن الحكم به باطل. ومن الناس من ذهب إلى أنه يحكم له القاضي؛ لأن الذي نفذ له حكم القاضي، من تصديق المحيل في أنه إنما وكل وكالة على القبض، لا يقتضي سقوط دعوى المحال. وهذا القول إنما يتصور عندي لو كان المحيل معترفُ ابدين المحال، ولكن المنازعة إنما وقعت في المقبوض هل قبض على أنه دين المحال، كما زعم قابضه، أو على أنه قبض وكالة (¬1) المحيل، فيصير المحيل كالمعترف بدين المحال، (يقول له: لا أستحقه قِبَلك، بل بَرِئت منه بالحوالة. فإن من أقر بحق لرجل، وقال المقَرّ له: لا أقبضه، إني لا أستحقه إلا بحكم القاضي على المقر له، ويجبر المقَرّ له على قبضه. فكذلك ها هنا) (¬2). لكن عندي أن وجه القول الثاني، الذي أنكره بعض الأئمة الحذاق في مسألة الحوالة هل هي حوالة أو وكالة يلتفت فيها إلى النظر فيمن كان له حق على رجل فجحده إياه، ثم عثر المجحود له الحقُّ على مال الجاحد، وصار في يديه، هل له أن يأخذه قضاء عن حقه المجحود أم لا؟ في المسألة خلاف على الجملة قدمناه في كتاب البيوع. وهذا المحال يقول: إني، ولو اعترفت ببراءة ذمة المحيل من ذمتي، فقد ظلمني في أخذ الدين الذي أبرأته من سببه، فإذا أقر لي بشيء أخذته عوضًا عَمَّا ظلمني فيه، وإن كنت أقول إني لا أستحق عينه ولكني أستحقه عوضًا عن ما غصبني إياه وجحدني فيه، فهذا مما ينظر فيه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وكالة [عن] المحيل. (¬2) هكذا في النسختين.

ومما يلحق بما قلناه، في دلالة الحوالة على أنها على دين، ما وقع لابن القاسم فيمن قال لرجل: خذ الدينَ الذي لك على من الدين الذي لي على فلان، ففُلِّس فلان، فإن المحال يرجع على المحيل، ويقول له: إنما طلبته نيابة عنك لا على أنها حوالة أبرأتك بها من ديني؛ لأن قوله: خذ، أمر يحتمل أن يراد به الوكالة فلا يقع الإبراء بلفظ محتمل. فلو قال له: أحلتك بدينك على ديني على فلان، لوقع الإبراء، لدلالة هذه اللفظة عليه. ومثل هذا ما وقع في المدونة في كتاب المكاتَب، في مكاتَب بين شريكين حل عليه نجْم فقال أحد الشريكين لشريكه بَدِّئْني بهذا النجم وخذ أنت النجم الآخر. فإن ذلك كسلف من المتطوع بتبْدِئَة شريكه لا يبرأ منه إذا تعذر أخذ ذلك من المكاتب في النجم الثاني. وما ذلك، عند بعض أشياخي، إلا لأجل أن قوله "بدّئني" ليس فيه لفظ الحوالة التي تبرأ الذمة بها. ولو كان هذا وقع من أحد الشريكين بلفظ الحوالة لبرئ المحيل. وهذا، أيضًا، عندي مما ينظر فيه؛ لأن ما على المكاتب ليس بدين ثابت مستقر، ألا ترى أنه إذا عجز عنه رجع رقيقًا، فكان الحوالة ليست على أصل الدين. وهذا أيضًا مما ينظر فيه. فإذا تقرر حقيقة الحوالة وأن مقتضاها أن تكون حوالة بدين على دين، فإن لم تكن كذلك، وإنما وقعت حوالة بدين على غير دين، مثل أن يقول رجل لرجل له على آخر دين: تحول (¬1) عليه به، وإنما أقوم بِهِ لك. واتفق من عليه الدين ومن له الدين والمحال عليه على هذا، فإن هذا جائز لا وجه يمنعه. وشذّ بعض أصحاب الشافعي فقال ببطلان ذلك، وأن الحوالة على غير دين لا تصح، تمسكًا منه بحقيقة هذه اللفظة في اللغة، وأنها إذا وُضعت غيرَ موضعها، وعَبَّر عنها (¬2) عن معنى آخر لا تقتضيه التسمية في اللغة، لم يصح ذلك، لكون ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أتَحَوَّلُ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بها.

الحوالة كأنها بيع دين بدين، كما قدمناه، والمراد بها أن يقال من (¬1) له الدين: ملّكْني ملك (¬2) مِن دييب على رجل معين بالدين الذي لي عليك. فالمعاوضة تقتضي نقل ملك بملك، فإذا كانت على غير دين اتضح (¬3) المعاوضة، وإذا لم تصح بطلت. وهذا إفراط في اتباع التسميات. ولو أسقط رجل دينًا له على رجل هبة منه له من غير عوض يأخذه من أخذ (¬4)، لصح ذلك وجاز، إذا قبل ذلك من عليه الدين، فكذلك إذا أسقط حقه عليه بأن يقوم له به رجل آخر على جهة الهبة، وكان المتلزم القيامَ بهذا الحق هو الواهبَ لمن عليه الدين، فصار ذلك كهبة من له الدين، ولا يمتنع في الشرع أن يبذل إنسان مالًا على أن يُسقط رجل حقه من رجل آخر، ألا ترى أن رجلًا لو قال لرجل: اعتقْ عبدَك، وعليّ مائة دينار، لجاز ذلك، وإن كان باذلُ المائة دينار لم يرجع إلى يديه عنها عوض. وكذلك إذا قال له: طلق زوجتك، وعلى مائة دينار. فإن هذا أيضًا لا يُمنَع منه. فإذا تقرر أن الحوالة على غير دين تصح فلا يخلو أن يكون المحال قد علم أنه أحيل على غير دين فرضي بذلك، أو اعتقد أنه أحيل على دين، ثم ظهر أنه إنما أحيل على غير دين. وإن كان عالمًا بأنه أحيل على غير دين، ورضي بذلك، فلا مقال له عند جمهور العلماء، كما قدمناه. وإن كان لم يعلم بذلك، فله مقال في فسخ هذه الحوالة، لأجل اختلاف الناس في سقوط حق المحال على المحال عليه إذا فلس (¬5) عليه أو مات، كما سنبينه في موضعه إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمَن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَالَكَ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمْ تَصِحَّ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: آخر. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا فُلس [المحال] عليه.

فأمّا إذا كانا عالمين، حين قبول الحوالة، بهذا العيب، ودخل عليه، فإنه يلزمه ما رضي به من ذلك. وهاهنا وقع الاضطراب في الروايات إذا وقع الفلس والموت من المحال عليه هل للمحال رجوع على المحيل الذي كان أصل دينه عليه أم لا؟ فأطلق ابن القاسم القول بأن لا رجوع له عليه. وروى ابن وهب عن مالك في رجل قال لرجل: حرّقْ صحيفتك المكتوبةَ على فلان بالدين الذي لك عليه، واتْبَعْنِي. فإنه إذا وقع الفلس أو الموت من القائل ذلك، فإن المحال رجع (¬1) على غريمه؛ لأنه إنما وَعَدَ أن يسلف الغريمَ سلفًا، فلم يصح السلف، فإذا لم يصحّ رجوع (¬2) على غريمه الذي أحاله. ووقع لأشهب أنه إذا وقع الفلس رجع على المحيل، قولًا مطلقًا. وروى مطرف عن مالك فيمن قال: تحملْ لي بمالي على فلان، وأنا لاتبعه (¬3) لسوء معامتله أوْ لِامتناعه بالسَّلْطَنَةِ. فرضي بذلك، فإنه يتبع هذا الملتزمَ للحق، على كل حال، إلا أن يشاء أن يرجع على غريمه فله ذلك. وقال ابن الماجشون: هذا الشرط باطل، والحكم فيه كالحكم في الحمالة المطلقة، وله أن يطلب غريمه إلا أن يقول له: أتحوَّل بحقي عليك. فإذا قال له هذا اللفظَ لم يكن له رجوع على غريمه. فأجرى الحوالة على مقتضاها، واتّبع في اشتقاق التسمية دون ما يراد بها بين هذين اللذين اصطلحا بها على معنى آخر. وقد وقع في المدونة لفظان في الحوالة على غير دين، هل يكون (¬4)، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يرجع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [كان له] الرجوع ... (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا [أ] تْبَعُه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُمَكَّنُ.

كالحمالة، بطلب الغريم مع حضور المحال عليه، أو لا يمكن من طلبه؛ لأنها كحمالة شُرِط فيها التبرئة (¬1) بالمحيل فيوفّى بالشرط. وقد كنا نحن قدمنا في كتاب الحمالة الاختلاف في المذهب في شرط التبْدِئة بالحميل، هل يوفى بهذا الشرط أم لا؟ واعلم أنه يقع هذا لأداء الدين عن الغريم على وجهين: أحدهما: أن يكون الملتزم لقضاء هذا الدين قصد بذلك الهبة، وإسقاطَ الطلب عمَّن هو عليه، لا ليرجع به عليه، ولكن على جهة الضَلة والصدقة، أو يكون قصد بذلك أن يكون سلفًا لمن هو عليه، يقوم عنه بالدين الذي عليه إلى حينٍ أو إلى أن يقدر على قضائه. وقد اختلف المتأخرون في ضبط هذه الرواية التي قدمناها، فأشار بعضهم إلى أن ما ذكر فيه أَلاَّ رجوعَ على المحيل، مَحْمَله على أنه التزم القيام بالدين على جهة الهبة، لا ليرجع به على من هو عليه. وعلى هذا يُحمل ما وقع لابن القاسم، وما ذكرناه عن ابن وهب، مما ظاهره مخالف لما قاله ابن القاسم، فقد صرح يكون ذلك الإلزام سلفًا. وهذا التأويل للروايات له وجه نبه عليه ابن المواز وأشار إلى اختلاف حكم الوجهين: هل هذا الالتزام سلف أو هبة؛ فإنه إذا كان سلفًا رجع مؤدي هذا الدين على من كان الدين عليه، فيقول المحال للمحال عليه: أَليس لو أخَذتُه منك لكان لك به مرجِع على غريمي، فأنا أرجع على غريمي الأصلي، وأنت غريمي الفرعي، وطلبي عليك؛ فإذا فلست، وقد توجه حقي عليك، فلي أن أرجع به على غريمك الذي كان هو غريمي الأصلَ، وأَحلّ في طلبه محلَّك، وأنا، وإن كنت أيرأته بالحوالة، فإني أطلبه من وجه آخر، وهو كونه غريمي، وغريمي الأصليّ صار غريمًا لك، حتى إذا كان التزامه للأداء على جهة الهبة ارتفعت هذه العلة، ولم يكن غريمًا لغريمي، وقد كنت أبرأته بالحوالة فلا رجوع لي عليه. ومن المتأخرين من حمل إطلاق ابن القاسم بأن لا رجوع على المحيل، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التّبْدِئة.

ها هنا، على أن المراد به ما دام لم يفلس، ولم يثبت (¬1)، فيكون ذلك موافقًا لقول ابن وهب، ولقول أشهب. وبعض أشياخي، يعني اللخمي، يرى أن هذا الالتزام للقيام بالدين إذا كان على جهة السلف لمن عليه الدين فإنه لا يختلف المذهب في هذا الملتزم إذا أفلس كان من حق المحال أن يرجع على غريمه الأصلي الذي هو المحيل. وكأن شيخنا هذا أنحى (¬2) إلى ما أشار إليه ابن المواز من أن الرجوع عليه ليس إبطالًا، (ألا ترى الذي تقدم منه) (¬3) وإنما رجع عليه من وجه آخر وهو كون (¬4) غريم غريمه. وكأن هذا الشيخ أيضًا يرى أنه إذا كان ذلك على جهة الهبة جرى ذلك على قولين في رجل وهب مالًا فلم يقبضه الموهوب له حتى مات الواهب وقد (مكنه القابض) (¬5)، فإن الهبة تبطل من غير خلاف عندنا. ولو كان الموهوب له هذا المال قد أحال به رجلًا آخر ثم مات الواهب ففيه قولان: أحدهما: بطلان الهبة لأن هذا المحال يدهُ كيد الموهوب له هذا المال، فإذا كان موت الواهب يبطل الهبة في حق الموهوب له، فكذلك يبطل موته الهبة في حق هذا المحال على الهبة. والثاني: أن الهبة لا تبطل، لكون يد أخرى استحقتها وليست هي يد الموهوب له، فكذلك ها هنا إذا كان الملتزم لفظ الدين التزمه على جهة الهبة ثم فلس الملتزم، فإن حق المحال تعلق بهذه الهبة فلا يُبطِل حقه الفلسُ، ويحاصّ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يمت. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: نحا. (¬3) هكذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كَوْنُه. (¬5) هكذا في النسختين، والأقرب: أمكنه القبض.

غرماءَ المحال عليه، ولا يرجع على المحيل، وتكون الحوالة ها هنا كالقبض والاستيفاء من المحيل. وإن قلنا إن الحوالة ها هنا ليست كالقبض والاستيفاء، وإن الفلس يبطل الهبة في حق هذا المحال، لكونه يحل محل الموهوب له، فإن المحال يرجع على المحيل. وكان يرى أيضًا أنه لا خلاف في أنه لا يُبدَّأ بالطلب هذا الملتزم المحال عليه. وهذا الذي أنكر أن يكون فيه خلاف، ظاهر الروايات إثبات الخلاف فيه. وقد قدمنا لك الخلاف في شرط التبْدِئَة، هل يوفَّى بها أم لا؟ وأن الحوالة على غير دين كالحمالة المطلقة، فيما ذكرناه لك من الروايات. وقد ذكرنا لك عن ابن الماجشون ما ظاهره منع الرجوع على المحيل، قولًا مطلقًا. وذكرنا لك من رواية مطرت ما يقتضي تمكين المحال من الرجوع على المحيل، قولًا مطلقا. والذي عندي من تحقيق القول في هذا الاضطراب في الروايات، والاختلاف في التأويلات، إن هذا المحال إن أبْرأَ المحيل، براءة مطلقة مؤبّدة، وصل إلى حقه من المحال عليه أو لم يصل، وصرح بذلك، وبأنه لا مرجع له على المحيل على حال، فإنه لا ينبغي أن يُختلف في كونه ممنوعًا من الرجوع عليه. وإن قيّد إبراءه له بأن قال: أنا أُبْرِيه ما دمت متمكنًا من الوصول إلى حقي من هذا المحال عليه، فإن تعذّر فأنا باق على حقي على المحيل. فإنه لا ينبغي أيضًا أن يختلف في تمكينه من الرجوع. فإنْ هَجَسَ في النفس أن الحوالة إذا كانت مبايعة فإن المبايعة على هذا الشرط تُمنع، فإنّا قدمنا أنها لم تجر مجرى البيع في سائر أحكامه، وأيضًا فإنها ها هنا ليست عن معاوضة ولا بيع دين بدين، فخرجت عما أشرْنا إليه من هذه المعارضة. ومتى وقع الإبراء مطلقًا ولم يصرَح بأحد الوجهين، فهاهنا قد يحسن الخلاف في منع المحال من الرجوع

على المحيل، وأنه لا يقبل قوله: إني أردت بإبرائه ما دمت متمكنًا من أخذ حقي ممن أحالني عليه، ويقبل قوله ها هنا. وهذا تحقيق القول عندي في هذه المسألة. فإذا كان المحيل ليس له دين على المحال عليه، وإنما التزم أن يقضي عنه الدينَ سلفًا يرجع به عليه، فإن هذا المحال عليه الملتزم لقضاء الدين إذا فُلِّس كان للمحال أن يرجع على المحيل، كما قدمنا وجه التعليل فيه من كونه غريم غريمه، على ما أشار إليه ابن المواز، على ما ذكرنا اضطراب الروايات فيه. فإن وجده معسرًا وأراد أن يتبع المحال عليه، جرى ذلك على القولين المتقدمين في صحة هذه الهبة، التي هي هبة منافع المال , إذ لا فرق بين أن يهب رقبة المال، أو يهب الانتفاع به. فإن قلنا: إن هذه الهبة لا يبطلها فلس الواهب لكون طالبها ليس كالموهوب له، كان للمحال أن يحاصّ غرماء المحال عليه الملتزم لهذه الهبة. فالذي حاصهم بالذي نابه في الحصاص معهم يكون سلفًا في ذمة المحيل، يتبعه به المحال عليه، وهو المسلف له. فإن حاص المحالُ غرماءَ المحال عليه فنابه في الحصاص خمسون دينارًا، وقد كان دينه الذي أحيل به عليه مائة دينار، فقد صار هو والسلف سِيَّان فيما يطلبان به المحيل؛ لأنه بقي للمحال من أصل دينه خمسون دينارًا، وقبض خمسين دينارًا، وهي من مال المحال عليه، فإذا طرأ للمحيل مال تحاصّ فيه غرماء الغريم الأصلي، وهو القابض خمسين دينارًا من مال المحال عليه، مما بقي له وهو خمسون دينارًا، وجب أن يرجع المحال بنصفها وهي خمسة وعشرون دينارًا، فإذا وجب أن يرجع بنصفها وهو خمسة وعشرون دينارًا، فقدإنتقض بالحصاص (¬1) الأول؛ لأنه كان حاص غرماء المحال عليه بجميع دينه، وهو مائة دينار، فلما طرأ لغريمه خمسون دينارًا وأخذ منها نصفها وهو خمسة وعشرون دينارًا وبقيت الخمسة وعشرون دينارًا الأخرى للمسلف، تبين لنا أن الحصاص كان على وجه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحصاصُ.

الغلط، وإنما كان حقه أن يحاص بخمسة وسبعين دينارًا، وهي الفاضلة عن هذه الخمسة والعشرين التي أخذها من غريمه الأصلي، فإذا كانت المحاصة بها لم تكن بالمساواة، كما فعلنا أوّلًا، فلأن غرماء المحال عليه إذا كان دينهم مائةً، وهذا المحال به مائةٌ، كان الحصاص على التساوي يقسم المال نصفين، فإذا صار للمحال خمسة وسبعون كان الحصاص على سبعة أجزاء: للمسلف أربعةُ أجزاء خمسة وعشرون. والذي انكشف لنا أن دينه خمسة وسبعون ثلاثة أجزاء، كل جزء خمسة وعشرون، فيرد المحال من الخمسين، التي قبض، سبعةَ دنانير وسيعًا وهي التي زدنا له في الحصاص غلطًا، وبقي في يده ثلاثة وسبعون غير سبع دينار، فإذا بقي له ذلك حصل الحصاص له بثلاثة أجزاء؛ لأنه قد ردّ جزءًا من سبعة، فيكون الباقي في يديه ثلاثةَ أجزاء من سبعة فتضاف هذه السبعة وسبع إلى الخمسة وعشرين التي طرأت للغريم الأصلي، وهو المحيل، فيكون الجميع اثنين وثلاثين دينارًا وسبع دينار، فيصير ذلك مالًا للمحيل يقسمه غرماؤه، وهما المحال والمسلف أسباعًا، ثلاثة أجزاء منه للمحال وأربعة أجزاء للمسلف يأخذها غريمه. وقد ذكر ابن المواز في كتابه عن مالك وابن القاسم فيمن أحال بدين على رجل آخر، ثم تبين له أنه ليس له على المحال عليه إلا بعضه، فإنه تتم الحوالة فيما يساوي ما لَه عليه، ويصير الباقي حمالةً يتبع بها أيَّهما شاء. وهو (¬1) الذي قاله ابن المواز مما يؤكد ما تعقبته على بعض أشياخي من قوله: إنه لا يختلف في أنه يُبدَّأ بالمحال عليه، وإن كانت الحوالة على غير دين، لما ذكر ابن المواز، ها هنا، من أنه يتبع بهذه الحمالة أيَّهما شاء، مع وقوعها على وجه الحوالة، وإن كانت في الباطن حوالة. قال ابن المواز: وإذا كان لغريمك مائة دينار، والمحيل غائب، فالذي مات يحل ما عليه من دين وجمالك (¬2) فإنك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهذا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حمالة.

تحاص غرماءه بالمائة كاملة، فيصيبك بالحصاص خمسون، منها خمسة وعشرون عن الحول (6) وخمسة وعشرون على الحمالة. فما كان منها للحمالة صار دينًا للميت على المحيل الغائب، ولك أنت عليه بقية الخمسين، التي هي حمالة، وذلك خمسة وعشرون، والميت لك، أيضًا، بها حميل، وبقي لك على الميت خمسة وعشرون الحول (¬1) لا ترجع بها على أحد، فإذا قدم الغائب أخذتَ منه الخمسين، التي عن الحمالة، كلها ,لنفسك وللميت، فترد على الميت منها الخمسةَ وعشرين التي كنت أخذت منه في المحاصّة بسبب المحاصّة. فالذي صار للميت منها تضرب فيه أنت بما بقي لك على الميت من الحول خاصة، وهي خمسة وعشرون، إذًا لم يبق لك من الحمالة شيء، ويضرب غرماء الميت بما بقي لهم، يريد ابن المواز وهو خمسون، فتأخذ أنت ثلثها ولهم ثلثاها. وبنى ابن المواز على هذا وجه العمل في المحاصّة إن لم يوجد في مال القادم إلا خمسة وعشرون، وفصل حسابها على هذه الطريقة، وكذلك إن لم يوجد في يده إلا عشرون. والجواب عن الجميع مأخوذ بما (¬2) قدمناه، وإنما تختلف الأجوبة الذي (¬3) يقتضيه الحساب. وهي أيضًا طريقة يبيح بن عمر في مسألة الزرع الرهن الذي لم يبد صلاحه يُفلّس صاحبه، فيحاص من بيده الزرع الغرماءَ، فإذا حل بيع الزرع كان ما يأخذ من ثمنه مثل ما يقتضيه من الغريم الغائب. وقد تقدم بيان ذلك في كتاب التفليس. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: ذكر في المدونة في الحوالة بالكتابة على مكاتب آخر فقال فيمن له عبد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحوالة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالذي.

مكاتب آحال سيدَه بالنجوم التي عليه على مكاتب لهذا المكاتب الأعْلى،: إن ذلك جائز إذا اشترط تعجيل عتق المكاتب الأعلى، ويتولى سيد المكاتب الأعلى قبض نجوم المكاتب الأسفل، فإن وفّاها له خرج حرًا، وإن عجل (¬1) كان له رقيقًا. وهذا الذي قاله يجري مجرى بيع كتابة المكاتب، فالمذهب جوازه وإن كان فيه غرر؛ لأن مشتري الكتابة لا يدري ما يحصل له عوضًا عن الثمن الذي اشترى به الكتابة هل النجوم، التي على المكاتب، يقبض جميعها منه، ويخرج حرًا، أو يعجز عن أدائها فيصير رقيقا المشتري (¬2) كتابته. وكذلك السيد الأعلى تحوّل على الكتابة التي عقدها لعبده إلى كتابة عبده لعبد عبده، لا يدري هل يستوفيها أو يأخذ عوضها عنها رقبةَ العبد المكاتب، مع ما في هذا من الغرر. ونذكر وجهه في كتاب المكاتب إن شاء الله تعالى، والخلافَ الذي فيه. بل هذا أخف من شراء أجنبي لكتابة مكاتب السيد الأعلى، ها هنا العَبْدَانِ جميعًا المكاتب الأعلى والمكاتب الأسفل كأنهما في حكم ملكِه إذا وقع العجز منهما عن أداء المال، والضرر ها هنا يخفّ لكون الثمن والمثمون في حكم التحول بالكتابة. ولكن عارض الأشياخ الحذاق هذا التقييد الذي وقع في المدونة من قوله: ذلك جائز إذا اشترط تعجيل عتقه. فقالوا: لا معنى لهذا التقييد، واشتراطِ تعجيل مَّا حُكْم يوجب تعجيل العتق وإن اشتُرِط؛ لأن السيد الأعْلى قد أخذ عوض النجوم التي له على عبده الذي كاتبه كتابة عبد لعبده، فصارت هذه مبايعة، وإذا باع السيد نجوم عبده المكاتب منه بنفسه، وأخذ عوضها صار حرًا وإن لم يشترط حريته، كما لو دفع إليه المكاتب جميع النجوم لصار حرًا بدفعها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: عَجَزَ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمُشتري.

إليه وإن لم يشترط حين الدفع أنه عتيق؛ لأن عقد الكتابة على أنه أدى (¬1) كتابته خرج حرًا، يعني عن هذا الاشتراط. وما أرى هذا الاشتراط المذكور في المدونة ملغى مطرحًا، وإنما العذر فيه عندي أن السيد إذا أحيل على كتابة مكاتب لمكاتبه.، فإنه إن لم يتعجل قبض الكتابة، فيكون ذلك كما لو قبض من مكاتبه جميع الكتابة، فيكون حرًا بقبض جميعها. وهذه ها هنا لم يقبض، فيمكن أن يكون القصد بها أن يوقف العتق حتى يعلم ما يحصل للسيد الأعلى، أو يقصدان بذلك أن لا ينادي (¬2) السيد الأعلى نجوم المكاتب الأسفل، فإن عجز قام له المكاتب الأعلى ببقية الكتابة التي كانت له عليه. ولو قصد ذلك لكان ذلك ممنوعًا، في أحد القولين؛ لأن المعاوضة التي لا تجوز بين الأجنبيين سامح بها ما بين العبد المكاتب وبين سيده إذا اشترط تعجيل العتق، لكون السادات مندوبين إلى عتق عبيدهم، ويثابون على ذلك، وموعودون في الشريعة بأن الله تعالى يعتق بكل عضو أعتقوه عض وَا منهم من النار. ولهم أن يعتقوا بغير عوض. وندبوا أيضًا إلى أن يضعوا من آخر الكتابة شيئًا، استعجالًا للعتق، حتى إذا فعلوا ذلك من غير اشتراط تعجيل العتق أُجْرُوا مجرى الأجانب في التعاوض. هذا أحد القولين في المذهب. وقيل بجواز ذلك، وإن لم يشترط تعجيل العتق، التفاتًا إلى أنّ ما يأخذه السيد وما يسلمه كأنه في حكم ملكه، وكأنه نقل ملكه من جهة إلى جهة، وإلى أنه قد أجيز في المذهب قِطاعة أحد الشريكين في المكاتب عن نصيبه، وإن لم يشترط تعجيل العتق، ولا كان هو الحكم، وما ذلك إلا لأن الشريك الذي قاطع لا يقدر على تعجيل عتق نصيبه لحق شريكه فصار معذورًا في ترك الاشتراط لعدم قدرته عليه بخلاف السيد الواحد الذي تملك تعجيل عتق عبده. فهذا العذر عندي في تقييده في المدونة بما ذكرناه عنه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [إنْ] أدّى. (¬2) هكذا في النسختين.

وإذا تقرر هذا فإن المكاتب إذا آحال سيده بنجم حلّ عليه على دين له ثابت على رجل أجنبي فإن ذلك جائز، وَيبرَأُ المكاتب من هذا النجم، ويتبع سيدُه المحالَ عليه، فلس أو مات أو لا مال له، كما قدمناه في حكم الحوالة. وإن كان النجم لم يحل فإن ذلك لا يجوز لما قدمناه أيضًا في شروط جواز الحوالة وأن من شروطها أن تكون الحوالة بما حل على ما حل أو ما لم يحل. وهذا على أحد القولين في المعاوضة بما لا يجوز بين الأجانب هل يجوز فيما بين السيد ومكاتبه إذا لم يشترط تعجيل العتق، كما بيناه وبينا وجه الخلاف فيه. ولو كانت نجوم المكاتب لم تحلّ فأحال بجميعها على رجل له عليه دين ثابت، فذكر في المدونة عن ابن القاسم أنه منع ذلك وقاسه على ما سمعه من مالك من أنه منع أجنبيًا أن يشتري كتابة مكاتب بما لا يجوز. وقال غيره: بل جائز، وهو كمن قال لعبده: إن جئتني بمائة دينار فأنت حر ثم قال له: إن جئتني بألف درهم فأنت حرّ. وأشار الغير بهذا التشبيه إلى أن العتق إنما وقع بما يستقر الأمر عليه في آخر ما يعاقد السيد عليه مكاتبه. وقد عارض بعض الأشياخ تشبيه ابن القاسم هذه المسألة بما حكاه عن مالك من منعه الأجنبي أن يشتري كتابة المكاتب على وجه لا يجوز، بأن ذلك إنما منعه مالك لأنها معاوضة بين أجنبيين لا تعلق لملك أحدهما بالآخر، وهاهنا وقعت المعاوضة بين السيد وعبده، وقد قدمنا أن مكاتبه وما في يديه كأنه في حكم ما يملك. وما أرى عذر ابن القاسم عن هذا إلا أنه لما كانت ها هنا الحوالة بكتابة لمكاتب أجنبي، والمحال الذي هو سيد المكاتب، والمحال عليه، أجنبيان لا تعلق قال أحدهما بالآخر، صار المحال عليه لما قبل الحوالة عليه على هذه الصفة، والمحال أيضًا تحول على أجنبي لا شبهة له في ماله، صار ذلك كشراء أجنبي مكاتبة عبدٍ على وجه لا يجوز.

وقد قال بعض الأشياخ: إن هذا الاختلاف الذي وقع لابن القاسم وغيره في المدونة في هذه المسألة إنما محله على أنهما فعلا ذلك ولم يشترط المكاتب تعجيل عتقه، ولا اشترط السيد بقاءه حتى يقبض ما أحاله عليه، فهاهنا يختلف ابن القاسم وغيره. وأما لو اشترط تعجيل العتق لم يختلف ابن القاسم وهذا الغير المذكور في المدونة في جواز ذلك. وإذا اشترط تأخير العتق حتى يقع القبض فلا يختلفان أيضًا في منع ذلك، وإنما اختلافهما مع الإضراب عن اشتراط تعجيل العتق أو تأخيره. وقد قدمنا نحن الاختلاف في تحويل الكتابة على وجه لا يجوز بين الأجنبييْن مع عدم اشتراط تعجيل العتق. فإن كان الغير المشار إليه في المدونة من الذاهبين إلى منع هذا مع عدم اشتراط تعجيل العتق فالذي حكيناه عن بعض الأشياخ أنهما لا يختلفان في المسألة إذا اشترطا تأخير العتق، صحيح، على ما ذهب إليه. وقد ذكر في المدونة فيمن اكترى دارًا وأحال بالكراء على رجل آخر لا دين له عليه: أن رب الدار لا يطالب المحال عليه بالكراء إلا بعد أن يتعذر أخذ الكراء من المكتري. وقد كنّا نحن قدمنا أنه وقع في المدونة لفظان: أحدهما يدل على أن الحوالة إذا كانت على غير دين فان البداية بالمحال عليه لأجل اتباع لفظ الحوالة وما اشتقت منه، على ما تقدم بيانه. واللفظ الآخر يدل على أن لفظ (¬1) مطرح، وإنما المطلوب المعاني فإذا كانت الحوالة على غير دين فإنما هي حمالة، وتسمية الحوالة لا تغير حكم الحمالة المطلقة، وفيها قولان: هل يبدأ بالغريم أو يكون المتحفل له بالخيار بين أن يبدأ بالغريم أو بالحميل؟ وكذلك اختلف إذا اشترط التبدئة بالحميل هل يوفَى بالشرط، على ما تقدم في كتاب الحمالة، أم لا؟ وحمل بعض الأشياخ ما وقع في المدونة في هذه المسألة من أن رب الدار إنما يبدأ بالمكتري، فإذا عجز المكتري طلبه المحيل (¬2). على أن هذا الشرط ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اللفظ. (¬2) هكذا في النسختين.

إنما وقع من رب الدار لمنفعة نفسه لا لمنفعة المكتري، فيكون حينئذٍ يجري ذلك مجرى الحمالة المطلقة. وأما لو كان ذلك الاشتراط من المكتري لكانت البداية بالمحال عليه، ولا يختلف في هذا؛ لأن المنفعة ها هنا للمكتري ليقوم عنه بالكراء رجل آخر يسلفه إياه حتى يتيسر له قضاء هذا السلف فيقضيه. وذكر في المدونة أيضًا ها هنا فيمن أكرى دارًا بدين له على آخر: أن ذلك جائز إذا شرع المكتري في السكنى. وذكر في كتاب بيوع الآجال من المدونة أن ذلك يجوز، قولًا مطلقًالأولم يقيده يكون المكتري يشرع في السكنى. ومنع في كتاب ابن المواز منعًا مطلقًا، والمنع لكون هذه المنافع مضمونة على ربّ الدار، فإذا انهدمت انفسخ الكراء، فصار ذلك لسبب الضمان كشراء دين بدين. وأمّا القول بالجواز فلأجل أن المنافع لما كانت تُجتنَى من دار معينة كانت كعرض معيّن اشتراه بدين له على آخر. وأما اشتراطه أن يشرع في السكنى فلأن ذلك كالفسخ لدين في دين، وفسخ الدين في الدين لا يجوز فيه التأخير، وإن قلّل من التأخير، ويمنع اشتراط ذلك. وكأن الحمالة كفسخ دين في دين، فلهذا اشترط الشروع في السكنى. وقد أجازوا أن يكتري المكتري دارًا بثمن يكون عليه مؤجلًالأولم يجعلوا هذا كدين بدين كما أجازوا أن يشترى (دين بمعين) (¬1)، ضمانُه من بائعه جاريةً تُتواضع، أو سلعة غائبة. واختلفوا في شراء دين بثمن يشترط تأخير قبضه الزمنَ القريبَ، كما تقدم بيانه في كتاب البيوع. وهذه المسائل قد بسطنا كثيرًا منها في كتاب البيوع، وسنبسط إن شاء الله تعالى في كتاب الأكرية ما بقي منها. وإنما ذكرنا ها هنا لذكرها في كتاب الحوالة من المدونة. تم كتاب الحوالة بحمد الله تعالى. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِدينِ معيَّنِ.

كتاب الغصب والتعدي

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صلى الله على سيدنا محمَّد وسلم كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه: ومن أتلف مالًا لغيره ظلمًا لزمه بَدَلُ ما أتلف. والإبدال ضربان: مثْلُ المتلَف في الخلقة والصورة والجنس وقيمة (¬1). وذلك لانقسام المتلَفات، فالمثل يراعى في المكيل والموزون، والقيمة تراعى فيما عَدَا ذلك من سائر العروض والحيوان. (ثم الاعتبار في القيمة حال الجناية) (¬2) ضربان: منها ما يبطل قدرًا من المنفعة دون جلها والمقصود من العين، فهذا يجب فيه ما نقص. ومنها ما يذهب بجملتها، أو بالمنفعة المقصودة منها والتي (¬3) تراد وإن كانت العين باقية. ففي إتلاف جملتها تجب القيمة، وفي إتلاف المقصود: إن شاء أخذ ما نقص، وإن شاء أسلمها وأخذ قيمتها كاملة. وذلك كالمركوب الذي يُجنَى عليه بما لم يمكن معه ركوبه، إما مشاهدة أو عادة. وكالعبد الذي يُتلف المنفعة منه بقطع يدهِ أو عَرَجِه، وإن بقيت هناك منافع متابعة غير مقصودة. ¬

_ (¬1) في المغربية: والقيمة. وفي الغاني: وقيمته. (¬2) في المغربية والغاني: والاعتبار في القيمة حال الحناية. ثم الجناية .... (¬3) في المغربية والغاني: والتي [لها] تراد.

قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن تناول الأموال بغير حق محرم؟ 2 - وما الحكم فيمن تعدى على مالِ فأتلف ذات الشيء أو بعضها؟ 3 - وما الحكم فيمن أتلف بعض الذات دون جملتها؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: تناول الأموال يقع على وجهين: مأمور به ومنهي عنه. فالمأمور به على وجهين: أمر على الوجوب، وأمر على الندب. وكذلك المنهي عنه على وجهين: وجه على التحريم، ووجه على الكراهية. هذا في العبادات، وأما في غيرها فيتناول على الإباحةِ. فأمّا تناوله على الوجوب فأخذ الزكاة من (¬1) منعها، وذلك معروف للأئمة، وأخذ الحقوق مِمّن منعها، ودفعُها لمستحقها، على حسب ما يجب على الحاكم. وأما المنهي عنه فيتنوع أنواعًا كثيرة: فالمحرم منها أخذه بالباطل، فمن ذلك: السارق يأخذ السرقة وهي أخذه سرًا. وإن أخذه مجاهرة اختطافُ اله، سمي نهبًا، أو على غير جهة التسور عليه بل بالتحيّل فيسمى اختلاسًا، أو بالحرابة فيسمى محاربة، أو بالإستيلاء والقهر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمَنْ.

فيسمى غصبًا، والجميع محرم، ولكن تختلف أحكامه، فلأجل اختلافهما (¬1). واختلاف صفات الأخذ وضعت لكل واحد تسمية. والمكروه ما لم يرد الشرع بالإذن فيه ولا بالنهي عنه على جهة التحريم، كثمن ما يكره بيعه كالكلب وغيره. والدليل على تحريم ما ذكرنا أنه مجرم: الكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس المعقول معناه. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬2) وجميع ما عددنا من المحرمات أكل المال بالباطل، وقد شدد الله الوعيد في ذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (¬3) وخصّ اليتامى بالذكر لكونهم لا يدافعون عن أموالهم ولأن الآكل له إذا اؤتمن عليه أضاف إلى قُبحِ التحريم قبحَ الجناية، وأنه لم يؤد الأمانة. وكذلك توعد الله سبحانه مانع الزكاة بأنه يحيى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. وكذلك توعد النبي - صلى الله عليه وسلم - في منع الزكاة في الأحاديث الصحيحة بأن الماشية تطأ مَن مَنَع من زكاتها بأخفافها يوم القيامة. إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في مثل هذا لشدة الوعيد. وقد اجتمعت الأمة على تحريم أخذ أموال المسلم بغير وجه يبيح. وأما القياس المعقول معناه فإن الله سبحانه نبّه على الحكمة والمصلحة في إيجابِهِ القِصاص من القتل فقال تعالى: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬4) والمراد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختلاقها. (¬2) النساء: 29. (¬3) النساء: 10. (¬4) البقرة: 179.

بذلك أن القاتل إذا قتل ولم يقتص منه استبيحت الدماء، وأفنى الناس بعضهم بعضًا بالقتل ظلمًا .. وإذا عَلِم القاتل أنه يقتل إذا قَتل مع ما ركب الله سبحانه في الطباع والغرائز من الخوف على النفس، كفّ عن القتل لئلا يقتل. فكأن القصاص هو الذي أوجب صيانة نفسه. فكذلك متلف الأموال إن لم يغرمها، ويعاقب عليها إذا ظَلَم في أخذها أدّى ذلك إلى الافتيات على الأموال، حتى لا يُبقي القويُّ في يد الضعيف شيئًا. ولهذا قوله عليه السلام: "كل المسلم على المسلم حرام" (¬1) فذكر نفسه وعطف عليها المال والعرض، تنبيهًا منه - صلى الله عليه وسلم - على أنه لو لم يَزجِر عن ذلك ويشرع فيه ما شرع لَتَلِفَتْ الأنفس والأموال والأعراض. وهكذا عطف المال على الدم، فيما شرعه، من المدعي لذلك، لو قبلت دعواه لاَسْتبيحت الدماء والأموال، فقال: "لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماءَ قوم وأموالَهم" (¬2) فقرن المال بالدم، ونبه على أن الحكمة اقتضت ألا يباح ذلك بالدعاوي. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما من أتلف على رجل شيئًا وجب عليه عوضه. وبذلك قال تعالى: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" (¬3) وظاهر عموم هذا أن من أتلف شيئًا قضي عليه بمثله، من أي نوع كان هذا المتلَف. فأما إن كان هذا المتلف مكيلًا أو موزونًا فالآية على عمومها فيه عند فقهاء الأمصار. وينضاف إلى ذلك المعدود الذي يتماثل أفراده وآحاده، وتقع المعاوضة على العدد، كالجوز والجِلَّوْز وشبه ذلك؛ لأنه إذا تساوت آحاده لم يكن الغَرَض في عين كل واحد بل في مبلغ الجملة، ومبلغها يُعرف تارة بالكيل كالقمح والشعير، وتارة بالعدد، كما ذكرنا في الجوز والجلوز وأشباهها. ¬

_ (¬1) فيض القدير: 5: 11. (¬2) إكمال الإكمال: كتاب الأقضية: 4:5. (¬3) البقرة: 194.

وأما إذا كان المتلَف مما لا يكال ولا يوزن ولا يعدّ، والغرض في عين آحاده، كالحيوان والعروض، حتى لا يصح بيعه جزافًا، فهل يقضى على متلفه بمثله أو بقيمته لا بالمثل؟ وذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أنه يقضى في ذلك بالمثل، كما يقضى في المثل بالمكيل والموزون. وذكر أبو الوليد الباجي في منتقاه عن الشافعي وأبي حنيفة أنه يقضى في ذلك بالمثل، كما حكيناه نحن عن العنبري. وذكر أيضًا أنّها روايةٌ عن مالك، قال: ولكن الثابت عنه أنه يقضى في ذلك بالقيمة. هكذا وجدناه في نسخ من المنتقى، وأراه وهْمًا منه، أو من الرواة الذين ذكروا ذلك عنه. وسبب هذا الاختلاف اختلاف حديثين وردا في هذا المعنى، أحدهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شرْكًا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه قيمة عدْل ولا وَكس فيها ولا شَطَطَ" (¬1) الحديث فقضى في العبد بالقيمة، وعلى هذا يعتمد مالك وأصحابه رضي الله عنهم. والحديث الآخر ما رواه حُمَيد عن أنس بن مالك "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بيت إحدى نسائه فبعثت إليه زوجته الأخرى بقصعة فيها طعام فأخذتها صاحبة البيت فكسرتها، فأخذ - صلى الله عليه وسلم - من بيت هذه الكاسرة قصعة صحيحة فأنفذها لتلك" (¬2) فقد قضى ها هنا في العرض بالمثل. ولكل طائفة من هؤلاء المختلفين كلام وجواب عن الحديث الذي تعلق به الآخرون. فأما أصحابنا فيقولون: البيتان للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما فيهما من الأواني ¬

_ (¬1) إكمال الإكمال: 152:4 - 155. (¬2) الدارمي: السنن: 2: 264.

للاستخدام على ملكه - صلى الله عليه وسلم -، فإنها (¬1) نقَل ملكه من إحدى (¬2) بيتيه إلى بيته الأخرى (2). وللمالك أن يحوّل ملكه من مكان إلى مكان. وقد قيل أيضًا؛ لعله - صلى الله عليه وسلم - (2) أن زوجتيه يرْضَيَان ما فعل من هذا الإِبدال. وإذا وقع التراضي بأخذ المثل فيما تجب فيه القيمة بعد المعرفة بالقيمة فلا يختلف في جواز ذلك. ويجيب العنبري عن حديث "من أعتق شركًا له في عبد" بأن القضاء بالمثل ها هنا يتعذر، إذ لا يوجد غالبًا (¬3) نصفه حر أو ثلثه أو ربعه، على حسب ما تقتضيه المشاركة في الملك، وما تعذرت فيه المثلية لم يحتجّ به في مثل هذا الذي توجد فيه المثلية. والقضاء بالقيمة إنما يستند إلى معرفة مثل المتلَف في الخِلقة والصورة، ثم تقوم هذه المثلية فيصير ذلك اجتهادًا مبنيًا على اجتهاد. فالقضاء بالمثلية في الخلقة والصورة أبعد من الغلط في الاجتهاد في قيمة تستند إلى اجتهاد في المثلية في الخلقة والصورة. وإن تعلق العنبري بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬4) فقضى في الحيوان بالمثل. أجيب عن هذا بأن الهدايا وتحريم الصيد وإثبات الجزاء في قتل الصيد عباداتٌ لم يطلب بها تبيين القضاء بما يجب في المتلفَات، لكون الجزاء مقصورًا على بهيمة الأنعام خاصة، وما يقضى في الجزاء بشيء من الحيوان الوحشي وما في معناه، مع كون الجزاء لا تراعى فيه المثلية على الحقيقة، كقاتل النعامة فإنه لا يؤدي جزاءها نعامة مثلها. إلى غير ذلك مما يذكر في كتاب الحج. ويعلم منه أن ذلك أصل مخالف لما نحن فيه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: الضمان يتعلق بالجاني على ملك غيره بإتلاف الشيء، كطعام يأكله، أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنما .... أَحَدِ ... الآخر. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: عَلِم. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [عبد] نصفه ... (¬4) المائدة:95.

ثوب يحرقه حتى لا يبقى منه شيء؛ أو بإذهاب منافعه التي يتملّك لأجلها؛ أو وضع يدٍ عادية عليه. والإتلاف يكون بعلة مباشرةٍ، كمُحرِق ثوب بنار في يده، فإن الإتلاف علّة التضمين، وقد باشره من أحرق الثوب. أو بما يكون سببًا في وجود العلة، كحافر بئر على جهة العدوان قاصدًا لأنْ يقع فيها إنسان فوقع من ذلك ما قصد إليه. ولكنّ هذه الأسباب تقرُب من العلة المباشرة وتبعد بحسب ما يرد في مواضعه، كمن أزال قيْد عبد قيّده سيده مخافة إباقه، فابق، أو فتح قفَصا فطار ما فيه من الطير، إلى غير ذلك من المسائل التي يكثر تعدادُها، ويُلتفت فيها، على الجملة، إلى الأسباب التي يُقصد بها الإتلاف، ويقع عنها غالبا، أو ما لا يقصد به الإتلاف ولا يقع عنه غالبًا. ثم اعلم أن العين التي أُتلِفت لاخفاء بوجوب الضمان فيها على المتلف، وكذلك إذا لم يتلف ذات الشيء، ولكن بطلت جميع منافعه أو جلها، حتى يصير الباقي في حكم العدم، فإن هذا يوجب الضمان فيه، كما يوجبه إتلاف جملة العين. ولا يختلف في هذا. لكن لو أتلف من منافع ذات الشيء ما هو المقصود في حق قوم يملكونه دون قصد قوم لو ملكوه فهاهنا اختلف الناس في ذلك: فذهب الشافعي إلى أن الضمان بجميع جملة ذات الشيء لا يجب. ومذهبنا وجوب ضمان جملة الشيء وقيمته على الكمال. وهذا كمن قطع ذنب بغلة القاضي التي يركبها، أو غيره من ذوي الهيئات (والاقدر (¬1) الذي) يلحقهم العار من ركوب بغلة قد قُطع ذنبها، فعندنا أن فاعل ذلك يضمن جميع القيمة كلها كما يضمن قيمتها إذا قتلها. وعند الشافعي لا يضمن جميع قيمتها اعتبارًا بما بقي فيها من منافع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: الأقدار الذين.

القاضي (¬1) وغيره من حَرْث بها أو حمل عليها، وما في معنى ذلك من المنافع المقصودة عند الناس عموماته، إلى مراعاة المنافع في عموم الناس لا في أعيان آحادهم. ونحن التفتنا إلى أغراض المالكين بحسب اختلاف أقدارهم، فكان تلف الغرض المقصود عند جنس من الناس كالتلف الذي تعم جميع الناس الضرورة به. وقد وقع التمثيل في هذا القسم بقطع ذنب بغلة القاضي. وأما لو قطعت أذن بغلة القاضي فإن فيه اختلافًا: ذهب بعض من تقدم من أصحاب مالك إلى أنه لا يضمن من (¬2) جميع القيمة، بخلاف الذنب. وذهب ابن القصار إلى أنه يضمن جميع القيمة، كما يضمنها إذا قطع الذنب. وقد كثر الاختلاف من (¬3) هذا الباب، والخلاف فيها هَيّن المدرك لا وجه للإطالة بتعديد المسائل؛ لأن مدارها على أن ما اختلف فيه منها ينصرف إلى الاختلاف في شهادةٍ بعادة فعلى هذا يصرف الاختلاف الذي وقع في قطع أذن بغلة القاضي، فمن رأى أن ركوب دابة مقطوعة الأذن يَعُرّ القاضي ومن كان في رتبته، ضمّن ذلك فاعلَه قيمةَ جميع البغلة. ومن رأى أن ذلك لا يعرّه، بخلاف الذنب، لم يضمن الجاني إلا ما نقص قطعُ أذنها من قيمتها. وكذلك ما وقع من الخلاف في قطع يد عبد أو فقء عينه، هل يضمن جميع قيمته، أو إنما يضمن ما نقص. مع اتفاقهم على أنه لو فقأ عينيه جميعًا أو قطع يديه جميعًا لغَرم جميع قيمته. وإنما كان ذلك كذلك لأنه اتضح عند الجميع أن قطع اليدين جميعًا أو الرجلين أو فقء العينين يصيّر العبد كالتالف وكالمعدوم، وأما قطع يد واحدة فلا يتضح كون العبد كالملحق بالعلم في ذلك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: للقاضي. (¬2) هكذا في النسخين، والصواب: حذفها. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: في.

كما يتضح في قطع يديه جميعًا. فلهذا وقع الخلاف في ذلك: ففي المدونة، في كتاب الديات، أنه لا يضمن في قطع اليد الواحدة أو فقء العين الواحدة جميعَ القيمة، وإنما يضمن ما نقص. وفي المجموعة لمالك أنه يضمن جميع القيمة .. وفرق بعض أصحاب مالك تفرقة أشار بها التي (¬1) نبهنا عليه من سبب الخلاف، فمن كان من العبْيد صانعًا، قطعت إحدى يديه حتى أبطل ذلك صنعته التي إنما يكتسب من أجلها، فإنه يضمن جميع القيمة. وكذلك لو فعل في بعض إناث البهائم ما أبطل به دَرَّها فإن الحكم في ذلك يختلف باختلاف أنواع الحيوان: فمن قطع (ابز) (¬2) رَمَكَةٍ لم يضمن جميع قيمتها، ومن قطع لبن شاة إنما تراه (¬3) للبن ضمن جميع قيمتها. وهذا يؤكد عندك ما أصلناه من كون الخلاف في ذلك يرجع إلى اختلاف في شهادة بعادة. ولو قطع فرج عبد وصيرّه خَصِيّا فإنه يضمن ما نقص. وإن لم ينقصه ذلك شيئًا اقتصر على عقوبته دون تضمينه. وقد قيل: إن ذلك لو زاد في قيمته لجعلت الزيادة نقصًا وضمن قيمة المقدار الذي زاد فيه. فإن زاد الخِصاء في قيمته ثلثَها ضمن ثلث القيمة، وعُد ذلك كالقبض (¬4)، وهذا مذهب بعيد. وإنما التفت هذا إلى أن الخصاء محرّم، وأن بيعه بشرط كونه خصِيًا لا يجوز لكونه يعتق على من أخصاه، فيصير ذلك كالعيب فيه. وإذا ضمنا الجاني جميع القيمة إذا قطع يدي العبد فهل يعتق عليه أو لا؟ هذا أيضًا مما اختلف فيه عندنا على قولين: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِلّذي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَبَن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُرَاد (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كالنقص.

فمن أعتقه على الجاني، الذي لزمته غرامة قيمة جميعه، رآه كمن مثل بعبده، لكونه صار ملكًا له بغرامة قيمته، فصار كمن اشترى عبدًا بثمن ثم مَثّل به. ومن لم يوجب عتقه رأى أن حكم العتق بالمُثلَة مقصور على من مثّل بعبد نفسه، لكون العتق إنما محله ملك المعتِق لا ملك غيره. وكأن هذه الجانية (¬1) وقعت فأوجبت القيمة على الجاني، وأوجبت العتق بالمثلة، فهل يقدّر أن حكم القيمة وانتقال الملك إلى الجاني كالسابق، فيجب العتق، أو يرى أن العتق كالسابق لانتقال الملك بالقيمة، وصادف ملكَ الغير، ولا ينعقد فيه العتق، وإذا قطع (يد العبد وجبت) (¬2) جميع قيمته، فإنه إذا غرم القيمة ملك بها جسم العبد المقطوع اليدين، وصارت غرامة قيمته كشرائه بجملته. هكذا عندنا وعند أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى أنه إذا غرم قيمة جميعه لأجل قطع يده (¬3) يقي العبد على ملك سيده، على حسب ما كان قبل أن تقطع يداه كالحر إذا قطعت يداه، وأخذ ديته كلّها عوضًا عن يديه، فإنه يبقى حرًّا، على حسب ما كان قبل ذلك عليه، فكذلك قيمة العبد تحل محل دية الحر، وأطرافه كأطراف الحر. فإذا وجب (¬4) إتلافُ أطرافه قيمةَ جميعه بقيت الجثة على حسب ما كانت عليه من الرق، و (¬5) كما بقيت جثة الحر على ما كانت عليه من الحرية. وغُلّب في أطراف العبد حكم الآدمية والدينية لا حكم الملكية، فلهذا ألحق أطراف العبد بأطراف الحر. وسلم لهم أبو حنيفة أنه إذا قطع يدًا واحدة للعبد فإنه يغرم نصف قيمته، كما تقدم في قطع اليدين جميعًا بجميع قيمته. ثم مع هذا لا يملك الجاني بغرامة جميع القيمة، إذا قطع اليدين، شيئًا من العبد، لكون ذلك يُشعر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الجناية. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب؛ يَدَيْ العبد، وَوَجَبت. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يدَيْه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْجب. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَذْف الواو.

أن الغرامة عوض الأطراف المقطوعة لا عوض النفس. فإذا (¬1) لم تكن عوض النفس، على حسب ما كانت عليه من الملك. وأما نحن فقد ذكرنا اختلاف أصحابنا في قطع اليد الواحدة، وهل يوجب ضمان جميع القيمة، و (¬2) إنما يوجب ما نقص من غير تحديد لقيمة النقص هل نصف القيمة أو أكثر أو أقل؟ فلا مناقضة علينا في هذا مثل ما نوقض به أبو حنيفة، وكأن أبا حنيفة يعذر عن هذا بأن القيمة إذا لم تكمل على الجاني كان الأرش عوض الطرف المقطوع، وإذا كملت على الجاني كانت عوض النفس، فينتقل ملك النفس إلى الجاني. ونحن لا نحُدُّ في التفرقة بين كثير الجناية وقليلها حَلًّا، وذلك مصروف عندنا إلى الاجتهاد كما قدمنا. وأبو حنيفة يحدّ في ذلك حلًّا، ويرى أن النقص إذا بلغ أكثر من نصف قيمة المجني عليه كان ذلك كثيرًا يوجب التضمين بجميع القيمة، وإذا كان مقدارَ النصف نصفَ القيمة فأقلَّ لم يوجب ذلك تضمين جميع القيمة. وهكذا فعل في البهائم إذا فقأ عين الدابة لزمه ربع القيمة استحسانًا. قال: لما حكي عن بعض الصحابة، والقياس نفي التحديد في ذلك. وإذا كانت البهيمة مما يؤكل فإنه لا يحدّ في عينها حلًّا، إلا أن يكون بعيرًا فيكون في عينه ربع القيمة. وإذا كانت الجناية في حكم الكثير على ما قدمناه من التشبيه على إسناد ذلك إلى الاجتهاد في العوائد، فإن مالكًا اختلف قوله، وظاهر الأمر هل لمالك المجنى عليه أن يغرم الجاني إذا لم يكن غاصبًا للعين وذات الشيء جميعَ قيمته، أو لا يكون له إلا قيمة ما نقص قليلًا أو كثيرًا؟ ففي المدونة من رواية ابن القاسم ما ظاهره أن مالكًا رضي الله عنه اختلف قوله في هذا. وهكذا ذكر بعض أصحابنا أن أصحاب مالك على قولين في هذا. وهكذا لما ذكر ابن القصار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَلِذا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

المسألة وأن لمالك المجنيّ عليه تغريمَ جميع القيمة في الإفساد الكثير قال: هذا المشهور عن مالك. إشارةً إلى الخلاف الذي قدمناه. وإن كانت الجناية يسيرة في ثوب خزق منه شيئًا يسيرًا فإن في المدونة: أنه يرفوه الجاني ويغرم ما نقص بعد الرفوِ فإن الرفوَ لا يُزيل العيب كله زوالًا كليًا. واختلفت طريقة الأشياخ في تعليل هذا: فمنهم من رأى أن ذلك جنوح إلى القضاء بالأمث الذيما تلف من العروض إذا كانت يسيرة؛ ومنهم من رأى أن العلة في ذلك كون الجاني أحوج صاحبَ الثوب إلى رفوِه إذ لا يلبسه ممزّقًا، فكأنه أدخله في مشَقة، فعليه أن يحمل ذلك. كما قيل في أحد القولين، في المجروح: إن على جاره (¬1) مداواته، ثم يغرَم بعد ذلك ما نقص، إن يرى المجروح على شيْن. وما هذا إلا لكون الجارح أدخل المجروح في الحاجة إلى المداواة. ومن المتأخرين من مال إلى أنه لا يبعد أن يقال بأنه يجب عليه قيمة العيب. وكذلك تنازع المتأخرون، إذا كان كثيرًا، هل يلزم الجانيَ رفوُه ثم يغرم ما نقصه العيبُ بعد الرفو، قياسًا على ما قال مالك في الخرق إذا كان يسيرًا. ويكون الخرق الكثير إنما تجب فيه قيمة العيب من غير رفوٍ، وتدخل إجارة الرفو في التقويم للعيب. ورأى هؤلاء أن ظاهر المدونة التفرقة بين الخرق اليسير والكثير، لأجل أنه إنما ذكر الرفو في الخرق إذا كان يسيرًا. ومقتضى تعليل من علل إيجاب الرفو اليسير لكونه أحوج صاحبَ الثوب إلى مشقة الرفو المساواةُ بين الخرق اليسير والكثير. ومن علل ما ذكره في المدونة في اليسير بأنه استخف القضاء في العروض بالأمثال إذا كانت مخترقة يسيرة (¬2) لم يُلزِمْه ذلك في خرق الثوب إذا كان كثيرًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: جارِحِه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَسِيرًا.

وإذا كان الفساد بالتعدي إفسادًا كثيرًا يوجب تضمين القيمة، إن اختار رب الشيء الذي أفسد عليه (فيه الغرض بعد عن ذلك) (¬1) إلى أن يأخذ قيمة الجناية خاصة، ويأخذ الباقي من سلعته التي أفسدت فإن في ذلك قولين: أحدهما أنه لا يمكّن من ذلك، وليس له أن يجمع ما بين شيئين أخذِ السالم من سلعته، وأخذ قيمة ما فقد منها، وإنما له أخذ منفردٌ، إما أخذ عين سلعته خاصة، وإما تضمين قيمة جميعها. فكأنه (¬2) اختار ترك المؤاخذة بالتعدي والجناية، فإن له ذلك لأنه حق له، إذا شاء طلَبَه، وإن شاء العدول عن ذلك إلى أن يأخذ السالم من سلعته بانفراده لكون ذهاب الغرض منها كإذهاب عينها، وإذهاب عينها الواجبُ فيه جميعُ القيمة لا غير، إذ لا يقدر على أكثر من ذلك، فلا يجبر ها هنا. وهذا المذهب هو الذي اختاره أشهب من كبار أصحاب مالك، واختاره اتباع أصحاب مالك: ابن المواز وسحنون، وقالوا في (¬3): إنه كذابح وكاسر العصا، فإن الواجب لرب الشاة ورب العصا أحَدُ أمرين: إما أخذ مذبوحة، والعصا مكسورة، وإما المطالبة بجميع قيمة الشاة وجميع قيمة العصا. وأشاروا في ذلك إلى أنه قول مالك وأصحابه. وهذا الذي مثلوا به وقاسوا عليه، إن عَرِيَ من الخلاف، فإنما ذلك لأنهم أن الشاة الحية إذا ذبحت فإنها صارت جنسًا آخر من الأملاك، وليس له أن جنسًا من جنس آخر أفسد عليه. هذا، والباب كله يجري مجرى واحدًا، وإنما اعتذرنا عن احتجاجهم بذبح الشاة على خرق الثوب المفسد له. وقيل: لصاحب السلعة التي أتلف كثير منها أن يأخذها ويغرم الجاني ما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَإِنْ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيه.

نقص. وهو المشهور من مذهب ابن القاسم. وعنه رواية أخرى أنه ليس له ذلك. وإذا تقرر أحكام التعدي فإن التضمين يكون عن ثلاثة أسباب: أحدها: العقود كالعقد على سلعة بيعًا صحيحًا و (¬1) فاسد (1)، وعقد (1) رهن إلى غير ذلك مما هو في معنى هذا. والثاني: الإتلاف. فإنه يوجب التضمين لجميع القيمة أو لبعضها، على ما تقدم بيانه. والثالث: ضمان المتعلق باليد العاديَة، يد إلاستيلاء على الشيء، والحيلولة بينه وبين مالكه، فإن ذلك يوجب التضمين على الجملة. ولو هلك ما أخذه الغاصب بفوْر غصبه هلاكًا لا سبب له فيه، لم يُسقِط ذلك الضمانَ عنه، ولا مطالبة (¬2) بالقيمة. وسواء في ذلك غصب ما يُنقل ويزال به، كالثياب والحيوان والطعام، أو غصب ما (¬3) ينتقل ولا تتصور إزالته من مكانه، كالأرض والديار وسائر أنواع العقار. وبهذا قال مالك والشافعي. وخالف في ذلك أبو حنيفة ورأى أن غصب الديار وما لا يزال به (¬4) يوجب الضمان، إلا أن يفعل فيه الغاصب إتلافُ افيطلب بضمان ما أتلف. وكأنه يشير إلى أن حكم الغصب لا يتصور في العقار، وإنما يتصور فيه أحد أسباب الضمان الثلاثة التي ذكرناها، وهي الإتلاف. وكذلك يتصور فيه الضمان من ناحية العقود، وإن كان ذلك بمعنى آخر. وكأنه يرى أن أصول الشريعة ما استثنى في ذلك من تضمين العاقلة ما جناه غيرها , لمصلحة اقتضت ذلك، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو فاسدًا، أوْ .... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مطالبته. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما [لا] ينتقل. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: به [لا] يوجب ...

والغاصب لأرض أو دار لم يفعل فيها شيْئًا، لا من نقل ولا من غيره، وإنما فعل في مالك العقار بأن منعه من التصرف في ملكه، وحال بينه وبين ملكه، وأما ذات الأرض المغصوبة فلم يفعل فيها شيئًا. فلأجل هذا نفى الضمان في العقار، (وتابعه في ذلك أبو يوسف. وخالفه محمَّد بن الحسن فقال بقوله) (¬1). ولنا عليه أن القبض يختلف باختلاف أجناس الأموال، فليس قبض الثياب كقبض العبيد، ولا قبض العبيد كقبض البهائم، ولا كقبض الطعام؛ وكذلك العقار إنما جرى العرف في قبضه بالتمكن منه، والاستيلاء عليه، وإزالة يد من كان في يديه. وهكذا قبضه في البياعات، فكذلك يجب أن يكون في الغصوبات .. وقد تقدم (من ذنبه) (¬2) أن القبض في الوهن شرط في صحته فيجب أن يمنع من رهن الديار لعدم تصور القبض فيها على ما أشار إليه. وهكذا لو كانت عند رجل وديعة فمنع صاحبها منها، وحال بينه وبينها، فإنه يكون كالغاصب على أنه لم ينقل الوديعة من يد ربها حِين اعتقاده الغصبَ إلى يده، وإنما تصور الغصب بالاستيلاء عليها ومنع صاحبها. إلى غير ذلك مما تكثر الشواهد فيه. ومما يلحق بهذا مما وقع في مذهبنا في غاصب أمّ ولدِ رجلِ في يديه فإن ابن القاسم ضمنه قيمتها على أنها أمة مملوكة وكذلك ولد أم ولده من غيره، فإنه إذا مات في يديه ضَمِنه عند ابن القاسم، ووافقه سحنون في التضمين لولد أم الولد، وخالفه في تضمين أم الولد نفسها، فرأى أنه لا ضمان عليه فيها لأجل أن ولد أم الولد فيه الاستخدام يؤاجر فصار فيه ضرب من تموّل، فلهذا ضمِن الغاصب قيمته عندهما. وأما أم الولد نفسها فلا تؤاجر، وإذا كانت لا تؤاجر لم يبق فيها ما يتمول ولا يباع ولا يملك. وكأن ابن القاسم يرى أنها لو قتلت ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وتابعه في ذلك أبو يوسف فقال بقوله، وخالفه محمَّد بن الحسن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَذْهبه.

لأخذ سيّدها أرشها، فقد ثبت أن فيها ما يتموّل ولكن ليس في الحال، ولكنه يتوقع في المآل، وتعليق الأحكام بما لا يحصل في الحال وإنما يتوقع في المآل نادر فيه اختلاف. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه: وهو مضمون بقيمته يوم الغصب على أيّ وجه تلف، لا يُبرْئهُ إلا ردّه. ثم لا يخلو رده من ثلاثة أحوال: إما أن يرده ناقصًا في بدنه، أو زائدًا فيه، أو على الحال التي غصبه عليها. فإن رده زائدًا في بدنه لَزِمَ مالكَه أخذُه، وبرئ الغاصب. وذلك كالصغير يكبر، والعليل يصحّ، والمهزول يسمن، وما أشبه ذلك. وإن ردّه ناقصًا في بدنه فالمالك مخيّر بين أن يسلمه (¬1) ويضمّنه القيمة يوم الغصب، وبين أن يأخذه ثم ينظر في ذلك النقص، فإنْ كان من قبل الله تعالى لا بفعل من الغاصب لم يكن للمالك اتباع الغاصب بشيء من قبله، وإن كان بفعل من الغاصب فقيل: له اتباعه بالأرش، وقيل: ليس له إلا أخذه بغير أرش، أو إسلامه والرجوع بقيمته يوم الغصب. وإن رده بحاله (أخذه ولزمه أخذه) (¬2). ولا ضمان على الغاصب (¬3) في زيادة إن طرأت عنده، ثم تلفت في بدَن أو قيمة، ولا له في رده زيادة (قيمة معلم) (¬4) صنعة أو حوالة سوق. ولا أجرة على الغاصب في المدة التي تحبس فيها العين المغصوبة من غير ¬

_ (¬1) هكذا في جميع النسخ، والصواب: أن [لا] يَتَسلمه. (¬2) في الغاني: لزِمه أخْذه. وفي المغربية: أخَذَه. (¬3) في المغربية: غاصب. (¬4) في الغاني: قيمته بتعَلّم. وفي المغربية: قيمة بتعليم.

انتفاع (¬1) ولا اغتلال. فأما إن انتفع أو اغتلّ ففيه خلاف: قيل: عليه بدل ذلك، وقيل: لا بدل عليه، وقيل: ذلك عليه فيما عدى الحيوان. وإذا غصب ساحة (¬2) وبنى عليها لزمه ردها وإن تلف بناؤهُ. وإن أدرك المالك الأرض وفيها زرع للغاصب فله قلعةُ، إلا أن يكون وقت الزرع قد فات، فله الأجرة، وقيل: له قلعه. قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة عشر سؤالًا، منها أن يقال: 1 - ما الفرق بين التعدي والغصب؟ 2 - وما الحكم في تغير ما في يد الغاصب، في بدن أو سوق؟ 3 - وما الحكم فيما يُحدثه الغاصب مما ليس بتغيّر في بدن العبد المغصوب، ولا في سرقة (¬3) من عتق؟ 4 - وما الحكم فيما يحدثه من بيع؟ 5 - وما الحكم فيما يحدثه من هبة؟ (¬4) 6 - وما الحكم فيما أفسده الغاصب ثم أصلحه لهيئته؟ 7 - وما الحكم فيم ابن اهـ الغاصب على حجر أو خشبة غصبها؟ 8 - وما حكم المغصوبات إذا غيرها الغاصب؟ 9 - وما الحكم فيما يغصبه الغاصب من أشجار لينقلها إلى أرض فيغرسها؟ ¬

_ (¬1) في الغاني: انتفاع بها. (¬2) في المغربية: ساجَة. (وهو الأقرب). (¬3) هكذا ولعل الصواب: في سوقه. (¬4) سقط نص السؤال الخامس، والمذكرر هنا خامسا هو السادس، ويمكن أن يستروح الخامس من الإجابة عنه: ما الحكم إذا استهلك الغاصب طعاما مكيلًا أو موزونًا وتغير سوقه؟

10 - وما الحكم فيما يحدثه الغاصب من خلط ما غصبه بغيره؟ 11 - وما الحكم فيما تغير في يديه مما لا يحلّ تموُّلُه؟ 12 - وما الحكم في الغاصب إذا غرم القيمة ثم ظهرت العين المغصوبة: هل يرجع على ربّها أم لا؟ 13 - وما الحكم في الزوائد الحادثة في العين المغصوبة وهي بيد الغاصب؟ 14 - وما الحكم في الإتلاف من غير مباشرة الإتلاف؟ (¬1) فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: قد جرى على ألسنة الفقهاء العبارة عن تناول المال بغير حق على جهة الاستيلاء والقهر، لفظُ التعدي ولفظ الغصب. وقد اختلف طرُق الأئمة في تمييز ما بين هاتين العبارتين، وأحسن ما قيل فيها أن من قصد إلى التعدي على منفعة الشيء كعبد يستخدمه، وثوب يلبسه، ولم يقصد إلى الاستيلاء على رقبة العبد والثوب، ولا الحيلولة بينها وبين صاحبها في التصرف في ملكه، على حسبْ ما يتصرف فيه المالك في الرقاب، فإن هذا يسمّى متعديًا. وكذلك إذا أتلف بعض أجزاء الصيد (¬2)، قاصدًا لذلك البعض معرضًا عن الاستيلاء على ما سواه من أجزاء الشيء، كرجل قطع يدَ عبدِه رجلٌ، أو قطع من ثوبه بعضَه، على أن ينتفع بذلك، وتبقى بقية الأجزاء في يد صاحبها على حسب ما كانت قبل تعدّيه. وقيل من كان لا يستحق الربح الذي لثمرة تصرفه في المال تعديًا، فإنه هو الغاصب. والذي لا يستبد بالربح، كالمكتري والمستعير والمبضع والمقارض، ¬

_ (¬1) جملة الأسئلة المذكورة أربعة عشر سؤالًا. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب الشيء.

يتعديان ما أذن لهما فيه من التَّجْر بالمال فإن هؤلاء لا يسمَّوْن غُصّابًا وإنما هم متعدون. إلى هنا أشار سحنون .. وقيل: من كان إذا أقام بينة على تلف ما في يديه من مال غيره سقط عنه الضمان، وكذلك إذا تلف ما في يديه بأمر لا سبب له فيه، كالمقارض والمبضع والمكتري والمستعير، والمودع والصانع، فإن هؤلاء (¬1) يضمنو سلفًا (¬2) لم يكن من سهم (¬3). والغاصب للرقبة يضمن ما تلف في يديه، كان ذلك التلف بسببه أو بغير سببه. وأيضًا فإن من لا يضمن جملة ذات الشيء بعيب يسير أحدثه فيه فهو متعد وليس بغاصب. ومن كان يضمن جملة قيمة الشيء بعيب يسير أحدثه فيه فإنه غاصب. إلى هنا أشار ابن المواز. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: التغيّر في الذات المغصوبة يقع على وجهين: أحدهما: تغير في ذاتها. والثاني: تغير في سوقها. وإذا لم تتغير في بدن ولا سوق فلا خلاف في أن ليس للمغصوب منه السلعة أن يضمّن الغاصب قيمتها إذا ردها إليه ولم تتغير في سوق ولا بدن، ولا طال مُقامها عند الغاصب، كما لا خلاف في أنها لو هلكت بفور غصبه لها فإنه يضمن قيمتها، كان هلاكها بسببه أو بغير سببه من أفعال الله سبحانه التي لا اكتساب للعباد فيها. وأما إن حاول ردها بعد أن أحدث فيها عيبًا، وامتنع المغصوب منه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [لا] يضمنون ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تلفُ ا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سَبَبِهم.

السلعة أن يقبلها فإنه إن كان العيب كثيرًا فلا خلاف في أن المغصوب منه هذه السلعة لا يلزنه قبولها, وله أن يضمّن الغاصب قيمتها إذا شاء، وله أن يأخذها بعينها ويقبلها منه، على اختلاف تقدم ذكره: إذا أخذها بعينها: هل يسقط حقه في قيمة هذا العيب الحادث فيها لكونه قادرًا على تضمين الغاصب جميع قيمتها، فلا يمكّن من العدول عن ذلك، إلا أن يأخذ عينها على ما هي عليه من نقص وعيب، ولا يكون له أن يجمع بين أخذ عين السلعة المغصوبة وأخذ دنانير أو دراهم في قيمة ما نقص؛ لأنه لما حكم له في أخذ جملة القيمة صار عدوله عنها رضىَ بأخذ العين على ما هي عليه من نقص. وهذا اختيار ابن المواز وسحنون، وهو مذهب أشهب واحد قولي ابن القاسم. وقيل: بل له أخذ عينها وقيمة ما نقص، كما كان بحكم قيمة جميعها إذا هلك جميعها، فكذلك يحكم له بقيمة الذاهب منها خاصة حتى كأنه كلُّها، ويأخذ عين ما بقي منها. وأما إن كان العيب يسيرًا فالمذهب المعروف المشهور أن لصاحبها أن يغرّم الغاصب قيمة جميع جملتها، كما لَه ذلك في العيب الكثير إذا أحدث بها، على حسب ما قدمناه من وفاق أو خلاف في حدوث العيب الكثير .. وفي التفريع لابن الجلاب أنه لا يضمن قيمة جميع جملتها لحدوث عيب يسير، قياسًا على ما اتفق عليه من أن المتعدي لا يضمن جملة الشيء بتعديه على إحداث عيب يسير فيه، ولم يَرَ فرقًا في هذا بين حكم المتعدي والغاصب. وفرقت الجماعة بينهما لأجل أن الغاصب بنفس الغصب والاستيلاء على الرقبة ضمن قيمة جملتها إذا هلكت، فإذا طرأ على أصلِ ضمانِ قد ثبت بجملتها وجبت قيمة جملتها في العيب اليسير والكثير. وأما المتعدي فلم يجب عليه ضمان جملتها بإحداث عيب يسير تعدى في إحداثه، فلما لم يكن هذا العيب الذي أحدثه المشتري مستندًا إلى أصلِ ضمان ضَعُف حكمه حتى فرق فيه بين القليل والكثير. وهذا الفرق مما ينظر فيه بأن الضمان إنما ثبت في الغصب إذا وقع التلف،

والتلف مترقب، فإذا وُجد ما تُرقب منه كشف الغيب أنه كان ضامنًا في الأصل. فالضمان في الغاصب لا يتقرر بمجرد الغصب حتى يمنع من رد العين أو يتغيّر في يديه، وبعض أشياخي كان يخرج ما يذكره ابن الجلاب من الخلاف في الموازية في قوله في غاصب دار انهدم بعضها في يديه فإنه لا يضمن جملة قيمتها وإنما يضمن الغاصب مقدار ما انهدم منها، ويأخذ (¬1) على ما هو عليه؛ وإن انهدم جلها ضمن قيمة العرض (¬2) كلها. فقد فرق ها هنا في كتاب ابن المواز بين حدوث العيب اليسير والكثير في حق الغاصب كما فرق جميع أهل المذهب بين العيب اليسير والكثير في حق المتعدي. وهذا التخريج عندي فيه نظر؛ لأنه يمكن أن تكون الدار كأنها كسلع متفرقة، فإذا تهدّم بيت وسلم سائر البيوت صار ذلك كمن غصب ثيابًا فلحق أحدَها عيبٌ وسلم بقيتها، فإنه لا يضمن السالمَ منها. وإذا أمكن أن تُحمل هذه الرواية على ما تأوّلناه لم يثبت أن في المذهب خلافًا سوى ما ذكره ابن الجلاب. هذا، فأما إذا لم تتغير في بدنها، وإنما تغيرت في سوقه ابن قص، مثل أن يغصب سلعةً، وقيمتُها مائة دينار، فتصير قيمتها بعد غصبه لها خمسين دينارًا، فإنه إذا ردها لصاحبها لم تكن عليه مطالبة. بجملة قيمتها, ولا بمقدار ما نقص سوقها. هذا المعروف من المذهب المشهور فيه. لكن ذكر ابن شعبان في كتابه عن عبد الملك وابن وهب وأشهب أنهم يرون الغاصب إذا طُلِب بقيمة ما غصب قُضِي عليه بأعلى قيمة مرت بالسلعة المغصوبة؛ لأنه يقدَّر كل يوم كمبتدى غصب، فيومَ صارت قيمتها في يديه مائةَ دينار، وقد كانت يومَ الغصب قيمتُها خمسين دينارًا، فكأنه يومئذٍ ابتدأ غصبَها فإذا ألزمناه القيمة يوم الغصب لِمَا قررناه من كونه بكل يوم كمبتدئ غصب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويأخذ [الباقي] على .... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الدار.

السلعة، يلزمه أغلى ما مرّ بها من القيمة، سواء هلكت، أو بقيت عينها ولكن نزل سوقها، فكأنه وجب أن يضمن مانع مالك السلعة منه. وهكذا في كتاب ابن حبيب فيمن غصب دارًا فأغلقها، أو أرضًا فَبَوَّرها ولم ينتفع بشيء من ذلك، فإنه تلزمه إجارة ما منع صاحبَ الدار والأرض مثله. فكذلك يجب أن يضمن الغائب (¬1) السوقال في منع مالك السلعة المغصوبة. وقد أشار في المدونة إلى هذه الطريقة فقال في مكتري دابة أو مستعيرها أمدًا معلومًا، ثم حَبَسها بعد ذلك، فإنْ حَبَسها زمنا يسيرًا كاليوم ونحوه فإنه لا يضمن قيمتها، وإن حبسها زمنًا طويلًا كالشهر ونحوه ضمن قيمتها لأنه حبسها عن أسواقها، وعن منفعة ربّها به. ولكنه قال في المدونة: إن هذين بخلاف الغاصب والسارق فإنهما لا يضمنان بحبس السلعة المغصوبة عن ربّها. وأشار ابن القاسم إلى أن لا فرق بينهما، وقال: لولا ما قاله مالك لرأيت الغاصب والسارق مثل المستعير والمتكاري. فأشار إلى التضمين بالمنع. وفي الثمانية لأبي زيد فيمن غصب دابة من المدينة فسار بها إلى مكة، ثم أعادها إلى ربها، وهي أحسن حالًا مما أخذها، فلربها تضمين قيمتها له، ولولا (¬2) حبسها مدة هذه المسافة ولم يسافرْ بها لم يضمن قيمة جميعها. وكأنه رأى ها هنا أن الحَبْس يضمن به إذا قارنه تعدّ على المنفعة. وذكر ابن حارث في كتابه أن ابن عبدوس روى عن ابن وهب عن مالك أن الغاصب يضمن بحوالة السوق بنقص. وأما ما يحدث بالسلعة المغصوبة وهي في يد الغاصب فإنه لا يخلو أن يكون حدث بها ما أتلف جميع جملتها وأذهبها بالكلية، ولم (¬3) يتلف جميعها، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغاصب. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

ولكنه قد أهلك بعضها. ثم لا يخلو ذلك من أن يكون من فعل الغاصب أو من فعل جانٍ جنى عليها غيرِ الغاصب، ومن (¬1) الأفعال التي لا اكتساب فيها للعباد ولا جناية تضاف إليهم فيها. فأما إذا كانت من فعل الغاصب فقد ذكرنا، أنه على قسمين: إما أن يفعل ما أتلَف به جملة السلعة المغصوبة، أو إنما أتلف بعضها: فإن فعل ما أتلف جملتها، مثل أن يغصب عبدًا فيقتله، فإن مالك (¬2) السلعة التي غصبت منه أن يطالب بقيمتها يوم وضع يدَهُ عليها، وحال بينه وبينها من غير خلاف. وإن أراد التنقّل عن تضمين القيمة يوم الغصب فإن له ذلك إذا انتقل إلى قيمتها في يوم هي فيه أعلى قيمة من يوم الغصب، على ما ذكرنا عن ابن شعبان حكاه عن أشهب وغيره. وليس ذلك في المشهور من المذهب إلى أن يريد التنقل إلى تغريم قيمتها يوم جنى عليها الغاصب جناية تلفها، فإن في هذا اختلافًا، مثل أن يغصب عبدًا، فيبقى في يديه مدة، ثم يقتله فيريد أن يأخذ قيمته يوم القتل ويعوض قيمته يوم الغصب، فإنه يمنع من ذلك في المشهور من مذهب ابن القاسم. وإليه ذهب أشهب. واختلف قول سحنون في ذلك فقال: القتل فعل حادث، فله أن يطالب بالقيمة يوم هذا الفعل الحادث، وإن كان ضامنًا من يوم الغصب، كما أن المشتريَ لسلعة قد ضمنها بالثمن، ثم لو جُنِيَ عليها جناية أهلكها محمدًا، ثم أتى المستحق لها الذي غصبت منه، فإن له أن يضمّن المشتريَ قيمتَها يوم الجناية، وإن كان قد تقدم له ضمانها بالثمن. وهذا الذي قاس عليه سحنون غير مسلم؛ لأن للآخَرِين أن يقولوا بأن ضمان الثمن إنما هو حكم فيما بينه وبين الغاصب الذي قبضه منه، فإنه إذا مات ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمَالِكِ.

العبد في يديه لم يرجع على الغاصب البائع منه السلعة بالثمن الذي دفَع إليه. وأما مالك السلعة المغصوبة فلا علاقة بينه وبين المشتري في هذا الثمن الذي قبضه الغاصب. وأما الضمان المتعلق بالغصب فإنه حكم بين الغاصب وبين مالك السلعة، وهما ضمانان: أحدهما بالغصب لهذا العيد، والآخر بالقتل. فله أن يُرجّح حكم الضمان بالغصب ويطلبه بحكم الضمان بالتعدي عن العبد الذي قتله. وقد رجع سحنون إلى أن ضمان العبد المقتول إنما يعتبر فيه قيمته يوم الغصب، كما قال ابن القاسم وأشهب. وقد ذكر ابن حارث عن عبد الرحمن بأن أبا جعفر الدمياطي أنه حكى عن ابن القاسم أن لصاحب العبد أن يضمّن الغاصب الذي قتله قيمةَ يوم القتل كما ذكره (¬1) ابن عبدوس عن سحنون أنه اختلف قوله في ذلك، وقال في أحد قوليه: إن لرب العبد أن يضمن الغاصب قيمته يوم القتل، وهو غير بين طلب الحكم بالغصب أو التعدي والجناية. وكان أشهب وابن القاسم في المشهور عنه (معنى من ذلك) (¬2) ورأَيَا أنّ القيمة إنما تعتبر يوم الغصب، وكأن الغاصب ملك العبد فيما وجب عليه من القيمة المستقرة في الذمة، ولا يبرأ منها إلا برد العبد بعينه، وقد فات رده واستحال بموته، فصار القتل كأنه إنما وقع وهو في ملك الغاصب، والغاصب إنما أتلف ملكَه، فلا يطالب بقيمته يوم أتلف. وأما إن كان الغاصب لم يتلف جملة ما غصبه وإنما أتلف بعض أجزائه، فإن كان الجزء الذي أتلف من العبد المغصوب يسيرًا كإتلاف بعض أنملة من أصابعه، وشبه ذلك، فإنه يضمن بذلك قيمة الجملة، في المشهور من المذهب، إذا اختار ذلك ربّ العبد. وقد ذكرنا في كتاب ابن الجلاب من كونه لا يضمن قيمة جميع الجملة بالعيب اليسير وأما إن أُحدِث فيه عيب له مِقدار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ذكر. (¬2) هكذا في النسختين.

وبأن، فإنه يلزمه ضمان جملته، من غير خلاف عندنا، إذا شاء مالك العبد. وأما إن اختار مالك العبد أخذ العبد المجني عليه فإنه يمكن من ذلك بغير خلاف، وهل له إذا مُكِّن من ذلك أن يطلب الغاصب الجاني بقيمة ما أتلف من الأجزاء؟ هذا فيه قولان: أحدهما أنه يمنع من ذلك، وإليه ذهب أشهب، واختاره ابن المواز وسحنون، وأشار إليه ابن القاسم، لكن المشهور عن ابن القاسم أن له أن يأخذ مع عين العبد المجني عليه قيمة الجزء التالف، كغاصب عشرة أثواب أتلف واحدًا منها، فإن لربه أخذ السلعة الباقية والمطالبة بالثوب العاشر الذي أتلفه الغاصب. وإذا اختار الغاصب (¬1) أخذ عين العبد المجني عليه، والمطالبة بقيمة ما أتلفه الغاصب منه، فمتى تعتبر هذه القيمة: هل يوم الجناية أو يوم الغصب؟ نص سحنون على أنها تعتبر قيمتها يوم الغصب، (وعد إليه إذا قطعها) (¬2) كثوب من عشرة غصبها الغاصب فأتلف ثوبًا منها، كما قدمناه: والظاهر من مذهب ابن القاسم إنما يغرم قيمة اليد التي قطعها الغاصب يوم الجناية عليها. وقد عارض مذهبه بعض الأشياخ فقال: ما الفرق بين إتلاف الغاصب جميع العبد بقتله إياه وإتلاف الغاصب بعض أجزائه بقطع يده؟ واعترض بعضهم عن هذه المعارضة بأن قال: إذا قتل جملة لم يكن عوض سوى القيمة، فلا يمكن من القيمة إلا بأن يغزم يوم الغصب؛ لأن ذلك كدين ثابت في ذمته، فما حدث بعد ثبوته فهو على ملك الغاصب، كما قدمناه، وأما إذا بقيت العين، وإنما ذهب بعضها، فإن رب العبد يشحّ عليه وله عرض (¬3) في طلب عينه، فلا يباع عليه السالم من العبد، مع تصور الأغراض فيه، بغير اختياره. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المالك. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَرَض.

وقد ألزم سحنون على قوله: إن قيمة اليد إنما تعتبر يوم الغصب لا يوم قطعها. أَلاّ يفرق بين قطع اليد بجناية الغاصب أو بأمر لا صنع للخلق فيه. فإذا تعلق الضمان بفقدها باعتبار يوم الغصب، فلا فرق أن يكون فقدها من فعل الله سبحانه أو من فعل العباد، الغاصب أو غيره، كما أن إتلاف جملة العبد، لسيّده المطالبةُ بقيمته كلها، سواء كان هلاك العبد من قبل الله سبحانه أو من قبل أحدٍ من خلقه. ولو جنى العبد المغصوب وهو في يد الغاصب، جناية استحق بها المجني عليه أن يأخذ أرش الجناية أو يسلم العبدَ سيّلُه إليه، فإن السيد المغصوب، له تضمينُ الغاصب قيمة عبده لِمَا حَدَث فيه عند الغاصب من هذا العيب، كون الغاصب صار العبد عنده على حالة لا يمكن سيلَه التمكنُ منه إلا بغرامة يغرمها عنه، وقد قدمنا أن الغاصب يضمن بحدوث عيب يسير عنده، وإن كان بأمر من الله سبحانه لا صنع للخلق فيه، فكيف بهذا العبد، وهو الحيلولة بينه وبين عبده إلا بغرامة يغرمها عنه. فإذا اختار سيد العبد تضمين الغاصب قيمة هذا العبد لأجل العيب الذي حدث فيه سقط حقه في عين العبد، وكانت المحاكمة في الجناية التي جناها العبد بين الغاصب الذي ملكه بالقيمة، وبين المجني عليه، فإن شاء الغاصب فداه بأرش الجناية، وإن شاء أسلمه في جنايته، ويحلّ في هذا التخيير محل سيد العبد، والحكم فيه هكذا بين سيده وبين المجني عليه، فكذلك يكون الحكم بين الغاصب الذي ملكه بالقيمة وبين المجني عليه. هذا مذهب ابن القاسم. وكأن ابن القاسم اعتبر مبدأَ الحال، وحكمَ العيب الحادث، فَلَهُ أن يضمن الغاصب القيمةَ، وله أن يأخذ العبدَ، فإذا أخذه فهو الذي يغرم أرش الجناية، لكون العيب الذي حدث بهذا العبد أمرًا لا صنع فيه للغاصب. وقد ذكرنا أن المذهب أن العيب إذا كان بأمر من الله تعالى لا صنع للخلق فيه، فإنه ليس لمالك العبد المغصوب، إذا اختار أخذ عين العبد، أن

يُغرّم الغاصب قيمة العيب الحادث عنده. وذهب أشهب إلى أن لسيد العبد أن يطالب الغاصب بالأقل من قيمة العبد، أو أرش الجناية، لمّا كان لا محيص له ولا انكفاك من غرامةٍ: إما قيمة هذا العبد لسيده، وإما قيمة الجناية، فهو إذا غرمها للمجني عليه صار العبد سالمًا من العيب، ونحن إنما ضمّناه القيمة لأجل كون العبد قد حدث فيه عيب، فإذا زال هذا العيب زال حكمه، وصار كعبد غصبه غاصب ثم رده إلى سيده ولم يحدث فيه تغيير في بدن ولا سوق، ولما كان هذا الغاصب لا انفكاك له من غرامة طُلب بأقلّ الأمرين اللذين وجبا عليه، بخلاف عيب طرأ على العبد من الله سبحانه ولم يتوجه فيه على الغاصب غرامة بلا بُدٍّ، ولهذا لم يلزم السيدَ الفداءُ بل ألزمه للغاصب إذا هو أقل من قيمة العبد. وهذا عندي يحمل على أن الجناية التي جناها العبد كانت خطأ منه، فإذا خلص منها بغرامة أرشها لم يبق بعد ذلك عيب. وأما لو كانت محمدًا، وتَعَمُّد مثلها يكون عيبًا لازمًا للعبد وإن برئ منه، فإن هذا التعليل الذي ذكرناه لا يتصور فيه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: اعلم أن الغاصب قد يُحدث فيما غصبه حادث (¬1) لا يعود إلى تغير في ذات الشيء المغصوب ولا في سوقه. وذلك على ضروب، منها: أن يملكه لنفسه أو لغيره. فأما تمليكه لنفسه فبأن يعتق الغاصب العبد المغصوب. فإن عتقه بمجرد (¬2) لفقالا يؤثر في بدن ولا في سوق.، ولكنه لما أعتق ملك غيره لم يلزم المالكَ الحقيقي عتقُ الغاصب. وقد قال عليه السلام في الحديث: "لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك" (¬3) الحديث. كما وقع. وهذا الغاصب أعتق قبل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حادثًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُجَرَّدُ. (¬3) تحفة الأشراف: 65:8: حد. 11277.

أن يملك فلا ينفذ عتقه. لكن لو أراد سيد العبد، ها هنا، أن يلزم الغاصب هذا العتق وينفذ له، فإن ابن شعبان ذكر في كتابه الزاهي أن العبد إذا كان تغير في يد الغاصب، فإن لسيده أن ينفذ عتق الغاصب فيه، ويأخذ قيمة العبد. وإن لم يتغير العبد في يد الغاصب ففيه قولان: ذكر أن أحدهما: أن سيد العبد يمكّن من ذلك. وأشار إلى اختيار هذا القول من القولين اللذين حكاهما .. وقد رأيت الشيخ أبا الحسن المعروف باللخمي صاحب التبصرة، رحمه الله، لما ذكرتُ له هذا القول استبعد أن يكون قوْلًا فحكيته له عن المذهب، فسألني: أين رأيته؟ فقلت له: في الزاهي لابن شعبان، فكلفني أن وقفته عليه، فتعجب منه. وعندي أن وجه هذا القول أن الغاصب وإن أعتق ما لا يملك، ووقع عتقه في غير محل ينفذ عتقه فيه، فإنه لما كان عالمًا بذلك صرف عتقه إلا (¬1) أنه التزم القيمة إن أنفذ سيلُه عتقَه، فصار كمن قال في عبد إنسان: هو حر إن قبل منّي سيدُه فيه مائة دينار. فقال السيد: قبلت. فإن العتق ينفذ. وقد وقع في المدونة في وكيل تعدى فباع بغير العين أنه ضامن. وقد تكلمنا على ذلك في كتاب البيوع، وذكرنا أن بعضهم علّل ذلك يكون الوكيل لما تعدى وباع بغير ما أذن له فيه صار ذلك علمًا على التزامه بثمن المبيع من العين الذي أمران يبيع بها. وقول ابن شعبان: إِنْ تغيّر وأنفذ سيد العبد عتق الغاصب فيه، فإنه تلزمه القيمة. وعَزَا ذلك من الخلاف فيه، نظرًا لِأنّ العتق وقع قبل تضمين الغاصب القيمةَ، فصادف العتق محلًا (غيرَنا بل) (¬2) لعتق المعتق، لكونه أعتق ما لا يملك، فإذا ضمن الغاصب القيمة لأجل التغيير، ففي إلزامه العتق نظر لكونه سابقًا لإلزامه القيمة، وكونه مردودًا، فصار كالعدم. وهذا أيضًا يلتفت فيه إلى المترقبات إذا وقعت: هل تعدّ كانّها لم تزل حاصلة من وقت وُجِد السبب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غيرَ قابل.

المترقَّبُ ما يكون منه، وإنما يقدر الحصول عند الوجود. وهذا ينظر إلى ما قالته الحكماء: إن الوجود على قسمين: وجود بالقوة، وهو مثل النواة تغرس، فإنها يترقب مصيرها نخلةً. ووجود بالفعل، وهو حصولها نخلة كاملة. فإذا قلنا: إن سيد العبد إذا تغيّر عبده في يد الغاصب فاختار تضمينه القيمة، فإن القيمة كأنها لزمته، وملك بها العبد من حين الغصب. أو يقال: إنما يقدّر حصول الملك يوم اختار سيد العبد تضمين الغاصب القيمةَ فيكون العتق وقع في غير ملك، ولِمَا ذكره ابن شعبان من الخلاف في تمكين سيد العبد من إمضاء العتقال في فعله الغاصب وطلبه بالقيمة، فإن هذا يُستبعد، لكون العتق قولًا لم يؤثر في العين ولا في السوق، ووقع من غير مالك، وهذا يصيّره كالعدم، فإذا صار كالعدم فليس لسيد العبد أن يُلزم الغاصبَ القيمة إذا رَدَّ عبْلَه إليه بفور غصبه غيرَ متغيّر لا في سوق ولا بدن. وعندي أن وجه القول بتمكين السيد من إمضاء العتق في إلزام الغاصب القيمة، أن من ذهب إلى ذلك قدّر أن الغاصب المعتِقَ الملتزمَ، بعتقِه، قيمةَ العبد، لتقدم علمه، أن العتق تقرّب من الله سبحانه، وإحسان إلى العبد، ولا يحسن ذلك إلا مع الحكم بنفوذه. وقد قيل في تعدي الوكيل بأن باع بعَرْض فإنه ضامن. وقد تقدم ذكر هذه الرواية وما حملت عليه. لكن يُلتفت في هذا أيضًا إلى أصل آخر، وهو اختلاف الأئمة رضي الله عنهم في المضمونات: هل تُملك بالضمان أوْ لاَ تملك؟. وهذا، وإن أطلقه بعض المصنفين فجعله على مثل ما نحن فيه من ضمان التَّعدّي الغير مشروعٍ لا في ضمانٍ أوجبه الشرع بحكم التوفية على البائع، كمن باع أمة ووجب عليه مراضعتها (¬1)، فإن ضمانها في أيام المراضعة (1) من البائع. ولا يختلف أنه لا يفلكها بهذا الضمان، كيف؛ وهذا قد أخرجها من ملكه، وإنما عليه توفية المبيع، وتوفيته ها هنا إنما تحصل من التمكين من الأمة فارغة من العمل. وأيضًا فإن البائع لا يُضمَّن ضمانَ القيمة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: مواضعتها ... المواضعة.

عن بعض المبيع، وإنما الحكم انفساخ البيع. وأما الغاصب فإنه يُضمَّن بدلَ العين المغصوبة قيمتَها. ولو غصب عبدًا فأبق في يديه، فإن القيمة تلزمه بحكم التعدي. وقال الشافعي: لا يملك الغاصب بها العبد. وقال أبو حنيفة: بل يملكه. ونحن، وإن ضمّناه القيمة، لا نراه بيعًا للآبق، ولو كان بيعًا لم يجز ذلك، لكون الآبق لا يجوز بيعه. ويحتج أصحاب الشافعي على أن الغاصب لا يملك الشيء المغصوب بوجوب قيمة (¬1) عليه، بأن الملك حكم شرعي ورد الشرع بإباحته، والغصب والعدوان ورد الشرع بتحريمه، ولا يصح أن تكون الأمور الغير المشروعة تُبيح الأمور المشروعة التي هي الملك. وأيضًا فإن حقيقة المعاوضة التي توجب الملك صدوها (¬2) عن اختيار المتعاقدين، لا سيما إذا قلنا بأحد القولين عندنا نحن، في أن الأخذ بالشفعة لا يكون بيعًا، لكونه مجبورًا عليه المأخوذ المستشفَع من يده، فإن حقيقة البيع التمكين من التسليم والآبق لا يمكن تسليمه. إلى غير ذلك من الأمور التي تُشعر بأن التعويض عن الشيء المغصوب لا يكون بيعًا، وإذا لم يكن بيعًا لم يُقبَضْ ملكًا. ولو غصب رجل عبدأوهلك في يديه، لزمته القيمة، وليس قِبالة هذه القيمة عينًا تُتملك. وإنما لزمت القيمة للحيلولة بين الملك ومالكه لا لأنها تؤخذ عنها عوضًا وهو عين الشيء المغصوب؛ لأنه قد هلك. وبين أصحاب الشافعي اختلاف في رجل أبق له عبد، فقال له قائل: اعتقْ عنّي بألف درهم. هل يُمنع ذلك لأنه كشراء آبق، أو يجوز ذلك لأن القصد بهذه المعاوضة التقرب، وفكّ رقبته لا تأمل (¬3) مال وتطلب استدامة ملك؟ وكذلك لو اشترى رجل أباه وقد أبقْ لسيده، هل يمنع ذلك لكونه شراء ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيمته. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صُدورُها. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَأثُّلُ.

آبق، أو يجوز لأن القصد إنقاذ أبيه من الرق لاستدامة (¬1) ملك؟ وأصحاب أبي حنيفة يرون أن وجوب القيمة سبب في ملك الشيء المغصوب؛ لأن القيمة بدل منه، فلا بد للبدل من مبدل يقابله. وقد ناقض أصحاب الشافعي أصحاب أبي حنيفة بأن العبد المدبَّر لو غصبه غاصب فأبق في يديه للزمته قيمته. ومذهب أبي حنيفة أن المدبّر لا يحل بيعه، فقد تجب القيمة ولا مقابلة لها بملك، وإنما مقابلتها الحيلولة بين المالك وملكه. وإذا ذكرنا هذا في هذه المسألة لأجل ما حكيناه من الخلاف في تمكين سيد العبد المغصوب منْ إلزام الغاصب قيمة (¬2) إذا أعتقه، فإذا قلنا: صادف العتق ملكًا أنفذ، وإن قلنا الأصل: لم يصادفه لن ينفذ. فلأجل تعلق ما نحن فيه بهذا الأصل نبهنا عليه ها هنا. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: ذكرنا ما يحدثه الغاصب من إعتاق العبد المغصوب الذي في يديه، ونتكلم الآن على بيعه له. فاعلم أن البيع إنما يكون مباحًا فيما يملكه البائع، إذا لم يمنعه من بيعه مانع في الشريعة، والغاصب لا يملك ما غصب، ببيعه (¬3) فيه لا ينفّذ إذا رده مالك الشيء المغصوب. لكن لو أراد مالك العبد المغصوب أن يُجيزَ بيعَه فيه، ويأخذَ العوض عنه، وهو الثمن الذي باعه به الغاصب، فمذهب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما أن ذلك لربّه، ولا يمنع، والبيع نافذ إذا اختار مالك البيع (¬4) إنفاذه، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: لا استدَامة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيمته. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَبَيعُه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المَبيع.

وإجازة ما فعل الغاصب فيه. ومذهب الشافعي المنع من ذلك، وأن هذا البيع لا بد من فسخه، وإنْ أجازَهُ صاحب السلعة المغصوبة لكن باعها الغاصب. والبخاري على ألْسنة أصحابنا أن هذا يرجع إلى الخلاف في النهي، هل يدل على فساد المنهي عنه وردِّه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو ردّ" (¬1) أو يكون مجرد النهي لا يقتضي الفساد والردَّ على الإطلاق، وإنما يوقف ذلك محل الدليل. والخلاف في هذا الأصل مشهور بين الأصوليين، وكان بعض أشياخي يرى أنّ ما بُني على هذا من الفروع، ما كان النهي عنه لحق الخالق سبحانه. وأما ما كان النهي عنه لحق المخلوقين وأن (¬2) ذلك لا يحسن الخلاف فيه لأجل ما ورد في الصحيح من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التصرية، وجَعَل الخيار في إمضاء البيع أورده للمشتري إذا اطلع على عيب التصرية بعد عقده البيع، وما ذلك إلا لأجل أن النهي عن التدليس بالعيوب في المبيعات إنما عليه (¬3) اعتبار حق المخلوق، لا حق الخالق سبحانه. ويعتضد أصحاب الشافعي في أن ذلك (¬4) الشيء المغصوب ليس له إمضاء بيع الغاصب فيه بل يفسخ فيه عقده على كل حال، بإن القول بأن بَيْع الغاصب ماض منعقدٌ على جهة الاستِبْداد به، وإباحةُ التصرف في المبيع دون إذن المالك لا يذهب إليه أحد من العلماء. ومعلوم قطعًا فساد هذا من ناحية أصول الشريعة. وأما أن يقال: البيع منعقد ولكن معلق بقوده (¬5) بإمضاء مالك السلعة ¬

_ (¬1) تحفة الأشراف: 11: 659: حد. 17455. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عِلّتُه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مالك. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نفوذه.

المغصوبة له، فإن هذا أيضًا لا يصحّ؛ لأن الانعقاد يوجب زوال التصرف في الملك، وهو مقتضى عقد البيع في الشريعة، ولا سبيل إلى القول بإباحة التصرف، وأيضًا فإن الإذن لا ينعطف على ما يقتضي (¬1) من الأفعال، وعُدِم بعد وجوده، وإنما يتصور فيما لم يفعل حتى يصادف انعقادُ البيع إذنًا فيه قد تقدم. وقد قال مالك وأبو حنيفة فيمن قال لأجنبية: أنت طالق. ثم تزوجها وملك عصمتها، ثم صار إلى حالة يمكنه وقوع الطلاق فيها، فإن الطلاق المتقدم لملك العصمة لا ينفك (¬2)، مع كون الطلاق يقبل التعليق المؤدي إلى (الغرر، ما لا يُحترز في عقود النكاح) (¬3) وبيع الإنسان ملك نفسه على الخيار قد صادف عقدًا وملكًا مقرّرًا، فيصح أن يضاف الانعقاد إليه لتقرر الملك، بخلاف بيع الغاصب. وهذا إذا باع الغاصب السلعة من رجل لا يعلم أنها مغصوبة، بل يعتقد أنها من أملاك الغاصب، وأما لو علم المشتري أن بائعها غاصب لها فإنه قد ساوى بائعها في الفعل المحرَّم وهو التصرف في ملك الغير بغير إذنه، دون انتقاله عن ملك (¬4) أو عن من ينوب عن الملك (¬5) كالوالي إذا باع في التفليس وغيره، أو عن وليٍّ، كالأب والوصي إذا باعا ملك من في ولائهما، وعلم المتبايعين (¬6) جميعًا بفساد العقد، بخلاف أن يعلم به أحدهما. وقد تقدم بسط هذا في كتاب البيوع. وهذه طريقة قد تتيسر (¬7) إلى مذهب الشافعي في أن بيع الغاصب لا ينفّذ وإن أجازه المالك لأن الغاصب عقد عقدًا يعلم فساده. على أن في المذهب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اِنْقضى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُنَفذ. (¬3) هكذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين، والأوْلى: مِلْكِه. (¬5) هكذا في النسختين، والأوْلى: المالك. (¬6) هكذا في النسختين، والصواب: المتبايعان. (¬7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تشير.

قولين مشهورين عندنا في غاصب باع السلعة المغصوبة من رجل يعلم أنها مغصوبة: هل يمضي البيع إذا أمضاه مالكها أم لا؟ ولكن يجب على ما أصّلناه أن يحمل الخلاف في هذا على أن الغاصب والمشتري عقدا على مغالبة رب السلعة في فسخ البيع وأنهما لا يمكنانه منه. وإن دخلا على أنه يتمكن من الفسخ متى شاء، ولا يقدران على مدافعته عن ذلك، واختار (¬1) ما عنده من إرادةٍ لفسخ البيع أو إمضائه لا يعلم إلا بعد أمد طويل لا يدرى منتهاه، فإنه ينبغي ألاّ يختلف في هذا الوجه، كما لم يختلف في عقد بيع خيار على اشتراط خيار رجل بعيد الغيبة، على المعروف والمشهور من أصل المذهب. ويلتفت أيضًا، إذا لم يدخل المشتري مع الغاصب على كون الانعقاد إنما يثبت بعد مطالعة رب السلعة، أو يعتقدان (¬2) على ترك اعتبار مطالعة (¬3)، إلى ما توجبه الأحكام في تنزل الأحكام منزلة ما عقد المتبايعان باختيارهما أم لا؟ وقد مرّ ذلك مستقصى في مسائل كتاب البيوع. ولو أراد صاحب السلعة المغصوبة أن يُلزم الغاصبَ قيمتَها، وهي لم تتغير في يد المشتري في سوق ولا بدن، لم يمكن من ذلك لقدرته على استرجاع سلعته المغصوبة بعينها من غير ضرر يلحقه في ذلك. هذا مما يمنع منه صاحب السلعة، ولا يكون ذلك من حقه. فإن قيل: هل لا يجري هذا على الاختلاف، الذي ذكرتموه، فيمن غصب عبدًا فأعتقه، فأراد مالك العبد أن يضمِّن الغاصبَ القيمةَ ليُنفَّذ عتقه فيه. وقد حكيتم أن في كتاب ابن شعبان قولين في هذا، فكذلك ينبغي أن يكون في بيع الغاصب، ويكون بيعه لهذا العبد مع علمه أن البيع لا يصحّ إلا فيما يملكه البائع، عَلَمًا على التزامه القيمة، كما كان عتقه العبد علمنا (¬4) على التزامه القيمة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختبارُ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَعْقدان. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مطالعته: (¬4) هكذا في النسختين، والصواب: عَلَمًا.

وقد أشار بعض الأشياخ أن العتق لا يلزمه فيه القيمةُ إذا لم يتغير العبد، كما لا تلزمه قيمة إذا باع العبد المغصوب. وأشار إلى أن جعْل البيع في ذلك أصلًا لا يختلف فيه. ولا يمكن أن يفرق بينهما عندي إلا بأن يقال بأن العتق له حرمة توجب (حق وجه عن) (¬1) ملك المالك بغير اختياره، كعتق أحد الشريكين نصيبه، وما ذاك إلا لحرمة العتق. وهذا مما ينظر فيه. ولو عقد المشتري البيع من الغاصب وهو يعتقد أن الغاصب مالكٌ لما باعه منه، فاطلع بعد ذلك على أن السلعة المبيعة منه مغصوبة، فأراد المشتري الردّ لكون هذا عيبًا لم يدخل عليه، والعيب ها هنا هو انتظار صاحب السلعة المغصوبة، واستعلام ما عنده من إجازة أو ردّ فإنه إن كان صاحب السلعة حاضرًا، أو قريب الغيبة لا يدحق المشتري ضررٌ في استعلام ما عنده، هل يُجبرُ (¬2) البيع أو يرده؛ فإن المشتري لا يُمكَّن من استعجال ردّ هذا البيع، لتعلق حق صاحب السلعة، بل يُلزِمه البيعَ، ويأخذ الثمن. وإن كان صاحب السلعة المغصوبة بعيدَ الغيبة، لم يلزم المشتريَ الصبرُ حتى يقدم، لما يلحقه في ذلك من الضرر من ضمان السلعة المبيعة، والتحجير مع هذا عليه في التصرف فيها. وإذا أجاز صاحب السلعة بيع الغاصب فإن له مطالبةَ الغاصب بالثمن الذي قبضه من المشتري، فإن أراد أن يرل (¬3) عن ذلك إلى أن يطلب به المشتريَ، ويرجع المشتري على الغاصب بما دفع إليه، فهل يمكن من هذا أم لا؟ فيه قولان: المشهور من المذهب أنه لا يمكّن من هذا، وإنما تكون له المطالبة بالثمن المقبوض على من قبضه وهو الغاصب. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وجْهَ حَقٍّ في. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُجِيزُ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ينزل.

وقيل: بل له مطالبة المشتري بذلك، ويرجع المشتري بالثمن الذي دفعه على من قبضه منه وهو الغاصب، إذ لا يلزمه أن يغرّمه مرتين. وكان بعض أشياخي يخرج الخلاف في هذا على اعتبار حقيقة البيع في الشرع، هل هو التقابض أو العقد بالقول؟ فإن قلنا: إن (¬1) التقابض. لم يمكّن صاحب السلعة من أن يرجع بالثمن على المشتري؛ لأن معنى إجازته بيع الغاصب هي إجازة لقبض الثمن، وإذا أجاز قبضَ الغاصب الثمنَ لم يكن له الرجوع به على المشتري. وإن قلنا: إن حقيقة البيع العقد بالقول، لم تكن إجازةُ البيع إجازةَ القبض، فتكون له مطالبة المشتري بدفع الثمن إليه لأنه، لم يجز له الدفع إلى الغاصب. وهذا التخريج على هذا الأصل فيه نظر، لكون هذا الأصل مطالب من أصله بإثباته، وإنما يجري هذا الخلاف على أن الوكيل على بيع سلعة موكَّل على قبض ثمنها وينظر في ذلك: هل توكيله على قبضه ثمنها يتضمنه توكيله على بيعها، فتكون إجازة صاحب السلعة لبيع الغاصب قد تضمن ذلك إجازة قبضه الثمنَ. أو يقال: إن قبض الوكيل لثمن السلعة المبيعة لا يتضمنه توكيله على عقد بيعها، وإنما ذلك بعادة جرتْ أن من وكل على (¬2) قبض الثمن، هذه العادة لم تستقر في إجازة صاحب السلعة بيع الغاصب، وكأنه حين أجاز بيع الغاصب فحينئذٍ انعقد البيع على أن الوكيل معزول عن القبض، وإذا كان معزولًا عنه لم يَبرَأْ المشتري بالدفع إلى وكيل معزول عن القبض. ولو كان المشتري من الغاصب قد أفات السلعة التي اشترى، فإن ذلك لا يمنع صاحب السلعة المقبوضة من إجازة البيع، وطلب الثمن من الغاصب، أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: إنه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: على [بيعِ] قبض ....

طلبه قيمةَ ما فات عند المشتري من الغاصب. تقوّم السلعة يوم الغصب، أو يوم باعها، على ما حكيناه عن بعض أشياخنا من كون البيع تعديًا ثانيًا، وتعقبناه. وهل له أن يطالب المشتري من الغاصب لما قد فات في يد المشتري؟ لا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يفوت ذلك بيد المشتري بأمر لا صنع للمشتري فيه، مثل أن يكون عبدًا قد مات في يد المشتري، فإنه لا مطالبة على المشتري بثمنه ولا قيمته لكونه يعتقد إباحة ما فعل من الشراء. وكذلك أيضًا لا يكون للمشتري مطالبة على الغاصب الذي باع منه بالثمن الذي دفع إليه؛ لأنه، وإن لم يضمن الموت لصاحب السلعة المغصوبة، فإنه لا يضمن له الغاصب الثمن، لكون الذي باع منه قد حصل له، ولم ينتقض عليه البيع فيه بأخذ عين العبد من يده، ولا غرامة لقيمته، فأشبه موتَ العبد في يديه، ولم يستحق، ولم يأت مستحق مستحقه. لكن لو كان العبد الذي مات في يديه انكشف أنه حرّ باعه منه رجل، فإنه يرجع ها هنا بالثمن على البائع منه؛ لأنه أخذ ثمنًا عمّن لا يصحّ أن يكون مثمونًا لآخر؛ بخلاف أن يُكشَف كون العيد الذي مات مملوكًا لغير من باعه منه. ولو انكشف أنه ليس بصريح في الحرية، ولا صريح في الملك والرق، بل فيه عقد حرية مثل المعتَق إلى أجل، وأم الولد، والمدبَّر، والمكاتَب فإن الحكم يفتقد في هؤلاء الأربعة، فمن كان منهم لا يترقَّب عودةً إلى الرق على حال، بل قطع على أنه سيسري به العقد الذي فيه إلى الحرية إن لم يخترمه الأجل، كأم الولد والمعتَق إلى أجل، فإن ذلك يلحق بالحر الصريح، فيرجع المشتري على من باع منه بما دفع إليه من الثمن في موت أم الولد والمعتق إلى أجل، وهما في يديه ولا يرجع بالثمن في المدبَّر ولا المكاتَب لكونهما يترقب رِقُهما بأن يعجز المكاتب، فيصير رقيقًا يصح بيعه، وكون المدبر قد يموت سيده فيباع في دين عليه. وأُجري عليهما ها هنا حكم الرق الصريح.

فلو كان المشتري هو الذي أفات ما اشترى على وجه ينتفع به، كطعام أكله، أو ثوب لبسه، باعه منه غاصب، فإني لصاحب الطعامِ والثوب أن يغرِّما المشتريَ عوض ما انتفع به من مالهما: إما المثل فيما يُقضى فيه بمثله، أو القيمة فيما يقضي فيه بالقيمة. وإن كان لا منفعة له فيما أفات، لا مِمّا اشتراه، كعبد باعه منه غاصب، فقتله المشتري عمدًا، فإن لسيد العبد أن يغزم المشتريَ قيمتَه لكون متعديًا في القتل فاعلًا لما نهى الشرع عنه، فكان لمالك العبد طلبُه بما أتلفه عمدًا. وأما إن أتلفه خطأ، مثل أن يريد ضرب شيء فغلط فأصابت ضربته العبد الذي اشتراه، والخلاف في هذا مبني على ما قدمناه من أن الخطأ والعمد في أموال الناس سواءٌ، يوجب الغرامةَ، إلا أن يكون المتلِف مأذونًا له من المالك، أو من الشرع في التصرف فيما أتلفه خطأ، فإن في ذلك خلافًا: هل يستوي فيه الخطأ والعمد أم لا؟ وإذا طلب سيد العبد المشتريَ قيمة ما أتلف، وكان يوم التَلاف يساوي خمسين دينارًا، فأخذها سيد العبد من المشتري، فهل يعد ذلك كأخذ عين العبد من المشتري، وهو إذا أخذ عين العبد من المشتري فقد اتُّفق على أنه يرجع المشتري على من قبض منه الثمن، وهو الغاصب، بجميع الثمن، أو يقال: إن أخْذ القيمة من بذل (¬1) جنايته، ولا يحل ذلك محل أخذ عين العبد، فيقدّر أن ذلك كموت العبد في يد المشتري، وهو لو مات في يديه لم يرجع على الغاصب من الثمن بشيء مما دفع إليه (ها هنا القيمة بحكم الجناية والمطالبة له على الغاصب إلا بمقدار ما أدخله فيه من خسارة) (¬2)، وهي طلب القيمة منه، إذ لو لكان العبد المقتول مالكه لا يستحقه أحد فقتله. فإنه لا مطالبة عليه بثمنه ولا قيمته، وإنما طولب ها هنا بقيمة العبد الذي قتله بسبب تغرير الغاصب به بأن باع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَدَل. (¬2) هكذا في النسختين.

شيئًا لا يملكه، حتى أوجب عليه غرامة لمالكه. هذا فيه قولان بين ابن القاسم وأشهب: فمذهب ابن القاسم أن مطالبة المستحق للمشتري بقيمة العبد الذي قتله تحل غرامتُها محلَّ عين العبد الذي قتله المشتري. وقد اتُّفق على أن أخذ عين من يد مشتريه يوجب له رجوعه بجميع الثمن على الغاصب الذي باع منه العبد، فكذلك إذا أُخذت منه قيمة العبد فلا يخسر سوى الخمسين دينارًا، وقد رجعت إليه لما أخذ من الغاصب جميع ثمنه الذي كان دفعه إليه. ومذهب أشهب أن البيع لا ينتقض، ولكن يبقى حق مالك العبد، إذا أخذ قيمته من المشتري، في مطالبة الغاصب ببقية ثمن عبده، فإن كان الغاصب باع هذا العبد من المشتري بمائة دينار فإنّ لِسيد العبد، إذا أخذ من المشتري الخمسين دينارًا التي هي قيمة المقتول، أن يرجع على الغاصب البائع ببقية الثمن، وهو الخمسون الباقية؛ لأنه قد كان له أن يجيز البيع ويأخذ الثمن من الغاصب، كما قدمناه، وليس عدوله عن ذلك إلى أن أخذ من المشتري خمسين دينارًا بالذي يسقط حقَّه من طلب الثمن، ولا يقدَّر أنه لما طلب المشتري بالقيمة كأنه أبرأ الغاصب من بقية الثمن، كما سيرد ذلك في قتل رجل عبدًا في يد غاصبه. ولو كان هذا العبد المقتول قيمته يوم غصبه الغاصب مائة دينار وعشرون، وباعه الغاصب من هذا المشتري الذي قتله بمائة دينار وقتله المشتري وقيمته خمسون دينارًا، فإن مذهب أشهب، على ما أصلناه، تمكين سيد العبد من تغريم الغاصب سبعين دينارًا بقية تمام قيمة العبد يوم غصبه الغاصب، وقد كان أخذ سيد العبد من المشتري خمسين دينارًا قيمة عبده، فبقيت له من قيمته يوم الغصب سبعون دينارًا فيأخذها من الغاصب. وأما إذا باع الغاصب ما غصبه، من عرض أو حيوان أو غير ذلك، ثم اشتراه من مالكه الذي غصبه منه، فأراد أن ينقض ما كان عقد فيه من بيع، ويأخذه من الذي كان اشتراه منه، فإنه لا يمكّن من ذلك، كما ذكره في المدونة

واعتل بأن الغاصب إنما قصد باشترائه التحلُّلَ مما صنع. وظاهر هذا التعليل أن هذا الغاصب لو علم أنه لم يقصد باشترائه التّحلل مما صنع، وإنما قصد ملكه بوجه جائز، لمكن من نقض بيعه فيه؛ لأن لمالك الشيء المغصوب نقض بيع الغاصب فيه. فإذا اشتراه الغاصب من مالكه فقد جرى مجرى مالكه في استحقاقه نقض هذا البيع الذي باعه. ولأجل التعليل الذي ذكره جعل حكم الميراث خلاف حكم الشراء، فقال: لو ورث الغاصب ما كان باعه لكان له نقض بيعه فيه. هذا طرد التعليل الذي ذكره لأن (يملك لهذا) (¬1) الذي ورثه ليس عن قصد منه واختيار، فيظن به أنه قصد بتملكه التحلّل مما صنع. وقيل: بل له نقض البيع فيه، كما لو اشترى. وهذا لأنه قد كان للميت الذي ورث هذا الغاصبُ عندما باعه، أن ينقُض البيع فيه، والميراثُ ينقل الملك بحقوقه كلها إلى الوارث، ومن حقوق هذا الملك تمكين المورَّث عنه من فسخ هذا البيع، فكذلك يكون ذلك لوارثه. ولو أن الغاصب لما اشترى الشيء المغصوب من مالكه دلّس عليه، مثل أن يكون باعه بعشرة دنانير، واشتراه من مالكه بثمانية دنانير، ولم يُعلِمه بالثمن الذي باعه به، فإن لمالك الشيء المغصوب أن يطالب الغاصب بالدينارين (الباقية عنه) (¬2) من الثمن الذي باعه به الغاصب؛ لأن من حق مالك الشيء المغصوب أن يجيز بيع الغاصب فيه، ويأخذ الثمن من الغاصب. ولو أعلمه الغاصب بأنه باعه بعشرة دنانير، لأمكن أن يأخذها منه، ولا يبيعه منه بثمانية. وكذلك لو كان باع ما غصبه بثوب ثم اشتراه من مالكه بدنانير، لكان من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَمَلُّكَ هذا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الباقيَيْن.

حق مالكه أن يفسخ شراء الغاصب منه، ويطلبه بالثوب الذي باعه. ولو هلك الثوب في يد الغاصب للزمه قيمته؛ لأنه كالغاصب أيضًا له لكونه مخاطَبًا في (¬1) أن يعلم لصاحب (¬2) الشيء المغصوب بما فعل، ويمكّنه من أخذ هذا الثوب، فإذا لم يفعل صار فعله غصبًا ثانيًا. ولون كان مشتري الثوب من الغاصب هو الذي اشتراه من مالكه، فإن له نقض ما فعله الغاصب من بيعه منه، كما كان لمالكه أن يفسخ بيع الغاصب. وإذا فسخ المشتري من الغاصب العقد الذي بينه وبينه، رجع على الغاصب بما دفع إليه من النظر (2). ولو كان الثمن الذي دفع إليه عرضا رجع بقيمته إذا حال سوقه؛ لأنه هو الذي مكن الغاصب مما دفعه إليه وسلطه عليه، فجرى ذلك مجرى الاستحقاقات في البيوع الجائزة. ولون كان الغاصب الذي باع الشيء المغصوب اشتراه منه مشتريه بخمسة دنانير وقد كان باعه من مشتريه منه بعشرة دنانير، واعترف إذا فعل ذلك بالشيء المغصوب، فإن المالك لهذا الشيء المغصوب بالخيار بين أن يجيز ما فعله الغاصب ثانيًا من أخذ الشيء المغصوب بعينه وأخذ ما ربح فيه الغاصب، وهو الخمسة دنانير، أو يردّ ما فعله الغاصب ثانيًا، ويجيز ما فعله أوَّلًا، ويطالبه بالعشرة التي باع بها ما غصبه إياه. ولو أن هذا الغاصب لم يعترف أن الشراء لمالك الشيء المغصوب، فلم تكن هذه الخمسة دنانير التي ربحها الغاصب ما بين بيعه لهذا الثوب المغصوب وشرائه له، في ذلك ثلاثة أقوال: مذهب ابن القاسم في هذه المسألة أن هذه الخمسة دنانير تكون لمالك الشيء المغصوب، ويأخذ عين الثوب الذي غصب له من يد غاصبه، ويأخذ الخمسة دنانير التي ربح الغاصب، لكون الغاصب لا يمكن من أن يربح في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (في) و (لِـ). (¬2) هكذا في النسختين.

الشيء الذي غصبه. وهذه إحدى طريقيه في أن الغاصب لا يربح. ومذهب أشهب أن هذه الخمسة دنانير تكون للغاصب؛ لأن المالك للشيء المغصوب قد وجده، لما قام في طلبه، في يد غاصب (¬1) لم يتغير في عينه ولا في سوقه، وإذا وجد المالك الشيء المغصوب عين ما غُصب له لم يتغير، فلا مقال له في تغريم صاحبه. وجعك ما تخَلل من ذلك، من بيع وشراء، كالعدم، كما ذكرناه في كتاب البيوع الفاسدة، فيمن اشترى ثوبًا فاسدًا فلم يفسخ بيعه حتى باعه مشتريه صحيحًا، فإن ذلك فوْت يمنع منا الفسخ، ويوجب القيمة يوم القبض. فلو رجع هذا الثوب الذي اشتراه شراء فاسدًا للذي كان اشتراه شراء فاسدًا بوجه صحيح، لم يمنع من فسخ العقد الفاسد الذي كان وقع فيه، وجعْلِ ما وقع بعد العقد الفاسد من بيع صحيح كالعدم. والقول الثالث إن هذه الخمسة دنانير ترجع إلى من كان دفعها للغاصب؛ لأن مالك الثوب المغصوب لما أخذ عين ثوبه فقد انتقض جميع ما كان فيه من البياعات، كما ينقض بالاستحقاق جميع البياعات المتقدمة للاستحقاق. ومما يحدثه الغاصب الغيبة على جارية غصبها فإنه يضمن قيمتها بمجرد الغيبة عليها، إذًا كانت جارية رائعة من جواري الوطْء، سواء عُلم أنه وطئها أو شك في ذلك. إلى هذا ذهب مطرت وابن الماجشون وأوجبا القيمة على الغاصب، لأجل أن ذلك يقتضي شكًّا هل وطئها الغاصب أم لا؟ وذلك ينقص من ثمنها، وأدنى مراتبه أنه كالعيب اليسير، والعيب اليسير يضمن به الغاصب ما غصب، وتلزمه فيه غرامة القيمة. وأيضًا فإن الغيبة عليها مما يقتضي التوقف عن وطئها حتى تستبرأ، فيصير ذلك حَبْسًا لها عن ربها، ومنْعًا لسيّدها منها، وذلك يوجب القيمة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غاصبه.

لكن هذا التعليل يقتضي أنه لو كان أيامُ حيضتها قد أشرفت وقَرُبتْ ألاّ يضمن الغاصب القيمة، إذا كان حبسها عن ربّها بقرب زمنه. وبعض أشياخي يرى أن سيدها إذا كان مقرًّا بو طئها لم يعجل القيمة بل توقف، لجواز أن ينكشف كونها حاملًا فترجع لسيدها أمَّ ولد له فإن حاضت، وتبين أنها غير حامل من سيدها، أخذ القيمة التي وُقفتْ له. ومذهب ابن القاسم أن مجرد الغيْبة لا يوجب ضمان القيمة، خلافًا لما حكيناه عن مطرت وابن الماجشون. وما ذاك عندي إلا أنه يرى أن مجرد الغيبة ليس بعيب في هذه الجارية، ووجوب استبرائها قد تكلمنا عليه في كتاب الاستبراء. ومما يحدثه الغاصب استيلاد الأمَة المغصوبة، فإن ابن القاسم وأشهب اتفقا على أنه ما استولده الغاصب، واغتلّه في الحيوان من لبن وشبهه، فإن مالك ذلك يستحق أخذه للأمهات وما ولدت وما اغتل منها. وإن ضمن مالك ذلك قيمة الأمهات وما ولدت لم تكن له مطالبة بالأولاد ولا بهذه الغلّات. وإن حدث الموت بالأمهات وأولادها جميعًا، أوْ بأخذهما (¬1)، فهاهنا (أسْتخلفا لمذهب) (¬2) ابن القاسم أنهما إذا ماتا جميعًا لم يضمن الغاصب سوى قيمة الأمهات يوم الغصب؛ لأنه إذا ضمنها يوم الغصب صار ما حدث من ولد أو غلّة كأنه حدث في ملك الغاصب، ومن حدث في ملكه شيء لم يؤخذ منه إلا بوجه يوجب ذلك. وعند أشهب أنه، وإن ضمن الأمَّ يوم الغصب، فإنه يضمن مع ذلك قيمة الأولاد يوم ولدت، وقدر أن ذلك كغاصب سلعتين، فإن هلكا جميعًا غرم قيمتهما جميعًا، وبمجرد الولادة صار الولد كسلعة أخرى يجب على الغاصب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأحدهما. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختلفا فمذهب.

ردها لمالكها، فإذا لم يفعل صار كمبتدى غصب لها يوم ولادتها، وانفصال (¬1) الولد منها صار الولد مغصوبًا حين مفارقته لبطن أمه، فيضمن قيمته يوم الغصب. وخرج بعض أشياخي في غرامة قيمته قولًا آخر أنه يغرم قيمة الولد أعلى قيمة مرت به، كما قدمنا حكايته عن أشهب وعبد الملك وابن وهب. وهذا التخريج عندي قد يمانع فيه لأجل أن الولد قد قيل: إنه غلة لا يردّ مع الأمهات، كما سيرد بيانه فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإذا كان لا يجب رده صار كونه مغصوبًا غير مُجمَع عليه فلا يجري ذلك مجرى الغصب "المجمع عليه الذي يقدر فيه الغاصب فيه كمبتدى غصب كل يوم، كما كنّا قدمنا الخلاف في ذلك، وإسناده إلى أصل معروف، وهو أن التماديَ على الفعل هل يقدّر كابتدائه أوْ لا؟ .. وقد بسطنا ذلك في موضعه. وقد نوقض أشهب في هذه المسألة، من التزام الغاصب قيمة الولد إذا مات، بموافقته لابن القاسم؛ لأن الأمهات والأولاد إذا (¬2) كانوا موجودين. واختار مالك في الأمهات تضمين الغاصب قيمتها يوم الغصب، فإن الأولاد تبع للغاصب (¬3)، فكذلك يجب إذا ماتت الأمهات والأولاد وغرم الغاصب قيمة الأمهات يوم الغصب، أَلاَّ يلزمه قيمة الولد الذي مات. فإن مات أحدهما، الأم أو الولد، فأشهب يجري على أصله في أخذ الموجود منهما، وقيمة الهالك إن كان الهالك أُمًّا بيوم غصبها، وإن كان ولدًا فالقيمة يوم وُلِد. وهذا لما قدمناه من كونه يرى الأم والولد كسلعتين غصبتا، فالباقى منهما يأخذه مالكه، والهالك منهما يقوم (¬4) الغاصب قيمته. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وبِانْفصال. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها. (¬3) هكذا. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُقَوَّم [على] الغاصب.

ومذهب ابن القاسم أنه إذا أخذ الموجود منهما ولم يضمّن الغاصب قيمة الأمهات، فإنه لا مطالبة له بقيمة الهالك منهما. وقدّر أن الولد كعضو من أعضاء الأم، والجارية إذا غُصبت فذهب عند الغاصب عضو منها، كيد أو عين، فاختار أخذ الباقي من أعضاء الجارية، فإنه لا يغرم قيمة العضو الهالك إذا كان هلاكه بأمر من الله سبحانه، لا صنع للخلق فيه، كما قدمناه أن هذا هو المذهب، إلا ما يتخرج مما روي عن سحنون في الغاصب إذا قطع يد الجارية التي غصبها أنه يضمن قيمة اليوم (¬1) يوم الغصب على ما مضى بيانه. وإذا تقرر عندك هذا الأصل أن أشهبْ يرى الولد إذا انفصل عن أمه كسلعة غصبت بعد سلعة، فإن لك منها أحكام: قتل الأم أو الولد أو قتلهما جميعًا، فإنه يطالب بقيمة ما قتل يوم غصبه، أو يوم سقط، على ما قدمنا ذكر الخلاف فيه، ويأخذ الموجود منها: الأم أو الولد. وكذلك أيضًا يتضح الحكم على أصل ابن القاسم أنه يراه كعضو منها، وإن انفصل عنها، فإنْ قتلَهما جميعًا لم يضمن إلا قيمة الأمهات يوم الغصب لأنه إذا ضمن قيمة الأم يوم الغصب صار الولد المقتول من جملة أملاك الغاصب. وإن قتل أحدهما، واختار سيدها أخذ الباقي منهما، لم يضمن المقتول منهما إذا كان أخذ القيمة يوم غصب الأم. وإن أُخِذَت يوم القتل لم يقدر الولد من جملة أملاك الغاصب. وهذا التفريع يتضح لمن عرف ما قدمناه من قتل الغاصب لما غصب: هل تعتبر القيمة يوم الغصب أو يوم القتل؟ ومما يحدثه الغاصب التَّجْرُ بدنانير غصبها، فإنهُ، وإن كان حبسها وأنفقها ولم يتجر بها فإنه لا يضمن فيها ربحًا في المشهور من المذهب إذ الربح معدوم، والعدم لا يُملك ولا يُضمَّن. لكن يجب أن يضمن لصاحب الدنانير ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اليَدَ.

مقدار ما كان يربح فيها صاحبها لو تجر فيها يقوّم أقلّ ما يظن به أنه لو تجر بها لاستفاده، على طريقة عبد الملك بن الماجشون فيمن غصب دارًا فأغلقها، فلم يسكنها ولا أكراها، فإنه يطالب بمقدار كرائها، مع كونه لم ينتفع منها بشيء. وقد ذكر ابن سحنون في شاهدين شهدا على رجل له دين على رجل آخر قد حل، أنه آخره به عامًا، فلما انقضى العام، رجعا عن شهادتهما، بعد أن حكم الحاكم بها، أنهما يغرمان ما يظن أن الذي له الدين لو أخذه لما حلَّ وتَجِر به في هذا العام الذي شهدا به عليه أنه تطوع بتأخير الدين إليه لاستفاده، إذا كان الدين المشهود بتأخيره عينًا أو مكيلًا أو موزونًا. وهذا يشير إلى ما قلناه من إلزامْ الغاصب ضمان ما منع من فوائد الأموال. وأما إذا كان الغاصب قد تجر بها وأفاد فيها ربحًا، فلا يخلو من أن يكون لما تجر بها موسرًا حينئذٍ يُعامل على ذمته، أو معسرًا يعلم أنه لولا المال الذي غصبه لما عومل. فإن كان تجر بها، وهو موسر، كان الربح له، ولا يختلف في هذا على المذهب المشهور في أن الغاصب لا يضمن ما منع منه من فوائد. فإن كان الغاصب معسرًا ففيه قولان: هل يكون الربح للغاصب إذا كان معسرًا أو يكون الربح لرب المال؟ وسبب هذا الاختلاف أن نماء المال لم يحدث إلا عن مجموع أمرين: أحدهما: نفس المال المغصوب والثاني: تجر الغاصب، ولو لم يعمل به الغاصب لم يَنْمُ المال. ولو حاول الغاصب. ما يشتريه وهو فقير لم يتمكن (¬1) له ذلك غالبًا. فقد تبين من هذا أن الربح حصل عن اجتماع أمرين: المال وفعل الغاصب في المال، فلا بد أن يستند إلى أقواهما سببًا فيه. فمن رأى أن المال ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يمكن.

هو أقوى سببًا في حصول الربح قال: إن الربح لرب المال. ومن رأى أن عمل الغاصب فيه أقوى سببًا في حصول الربح قضى يكون الربح في المال المغصوب للغاصب. ومما يجري على هذا الأسلوب القولان في زكاة ربح المال: هل يستقبل بالربح حولًا أو يزكى إذا حال الحول على رأس المال؟ وقد مضى في كتاب الزكاة ذكر الخلاف في هذا وذكر الدلالة لكل مذهب من هذين المذهبين. وهو أيضًا ينبني على ما أشرنا إليه ها هنا فيمن قدّر أن أقوى السببين في تحصيل الربح رأسُ المال، أجرى على حكم الربح حكم رأس المال ثم تقدير مضي الحول عليه. ومن رأى أن أقوى السببين في تحصيل الربح عملُ صاحبه فيه وتجره به، استقبل بالربح حولًا. وقد اختلف أيضًا فيمن اشترى سلعة، والناس في صلاة الجمعة، فقلنا بفسخ البيع على أحد القولين، بفساد العقد، فلو فات هذا البيع عند مشتريه وعقد فيه بيعًا صحيحًا جائزًا فربح فيه، هل يتصدق بالربح أم لا؛ وهذا جار على هذا الأسلوب، هل سبب ربح هذا المال الذي يملكه على صفة لا تجوز أوسبب الربح عمله فيه، إلى غير ذلك من المسائل الذي يعتبر فيها هذا الأصل. والجواب عن السؤال الخامس (¬1) أن يقال: إذا استهلك الغاصب طعامًا غصبه، مكيلًا أو موزونًا، قُضِيَ عليه بمثله، ولو استهلكه في أيام الشدهّ وغلاَء الطعام، ثم حُكم عليه في أيام رخاء ذلك الطعام ففيه قولان: المشهور منهما أنه لا يغير الحكم ويقضى بمثله. والقول الآخر أنه يقضى عليه بقيمته حين غصبه الطعام في أيام غلائه. وهذا يتضح على إحدى الطريقتين ¬

_ (¬1). نبهنا على سقوط نصّ هذا السؤال عند تعداد الأسئلة.

اللتين قدمناهما، من أن الغاصب يضمن ما منعه من فائدة في الشيء المغصوب. وأما إن كان الطعام المستهلك جزافًا، فإنما يُقضَى بقميته. ولو طلب صاحب الطعام أن يقضى له بمكيلة يتحقق أن الطعام الجزاف المستهلك لا يقصُر عنها لكان فيه قولان: أحدهما تمكينه من ذلك؛ لأن الأصل القضاء بالأمثال، وإنما عدل عن ذلك إلى القيمة لامتناع الاطلاع على حقيقة المماثلة في الكيل. فإذا طلب صاحب الطعام أن يقضى له بها (¬1) يعلم أنه استهلك عليه، ويعرف مقدار كيله، مُكّن من ذلك. والقول الآخر أنه لا يمكن من ذلك (¬2) أوجب القيمة لصاحب الطعام (بتغير هذا الحكم) (¬3). وإذا استهلك الغاصب الطعام، ووجب عليه مثله، فلم يوجد ذلك حين المحاكمة، فإن يئس من أن لا يوجد أبدًا، قُضِي بالقيمة، وإن رجا وجوده عن قربٍ، ينبغي التلوم في مثله في المحاكمة في هذا، أخّر القضاء بذلك عليه إلى حين وجوده. وإن لم يوأس من وجوده على التأبيد، ولا رجي عن قرب، ففيه قولان: أحدهما أنه يؤخر قضى (¬4) يردّ مثله إلى أن يتفق وجودُه وهو مذهب ابن القاسم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِمَا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة واو العطف: [و] أوجب ... (¬3) هكذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حتى.

والقول الثاني، وهو مذهب أشهب، أن له أخذ القيمة، وإن شاء صبر إلى وجود مثل الطعام. وذكر ابن عبدوس أن اختلاف ابن القاسم وأشهب في هذه المسألة كاختلافهما فيمن أسلم في فاكهة لها إبّان ففات الإبان قبل أن يقتضي، فإن ابن القاسم يقضي بالتأخير إلى عام قابل، كما فعل ها هنا في مستهلك الطعام. ومذهب أشهب أنه يردّ رأس المال، ولا يجوِّز الرضى بالتأخير، ومقتضى هذا لا يجوّز في استهلاك الطعام أن يجيز (¬1) ما بين أخذ قيمته نقدًا أو العدول عنها إلى التأخير لعام مقابل (¬2)، فيكون ذلك فسخ دين في دين. وهذا الذي اعترضه به ابن عبدوس لا يلزم، على أحد القولين، فيمن خيّر بين شيئين، فلا يقدَّر اختيارُه لأحدهما رجوعًا إليه بعد أن اختار الآخرَ فيكون فسخَ دين في دين. وأما على الطريقة الأخرى ففيه نظر ينكشف وجهه مما قدمناه في كتاب السلم لما ذكرنا الاختلاف في ذوات الإبان، هل يلزم التأخير أو المحاسبة، وغير ذلك مما قيل فيه وعِلَل ذلك. وأما لو كان الطعام المغصوب لم يستهلك، ولكنه أبقاه الغاصب بالبلد الذي غصبه فيه، ثم سافر إلى بلد آخر، فلقيه صاحب الطعام، فأراد مطالبته حيث لقيه. فإن ابن القاسم يرى أنه لا يُقضَى عليه حيث هو بالطعام، وإنما يقضى عليه بأن يدفع الطعام أو مثله بالبلد الذي قبضه فيه وإن كان في ذلك تأخيرًا (¬3) لصاحب الطعام عن حقه واستيفائه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُخَيَّر. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قابل. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: تأخيرٌ.

ويرى أشهب إذا بَعُد ما بين البلدين أن يقضى لصاحب الطعام بقيمته بالبلد الذي غصبه فيه يأخذ ذلك حيث لقيه؛ لأن الدنانير والدراهم لا تختلف الأغراض فيها باختلاف البلدان، أو يقضي للطالب بمثل طعامه إذا كان سعر الطعام بالبلد الذي تلاقيا وبالبلد الذي غصب الطعام فيه سواءً، أو كان حيث تلاقيا أرخص. يقضى بهذا التسعير لصاحب الطعام ليُرفع عنه مضرة فا (¬1) استحقه، ولكون الغاصب لا يناله ضرر مع تساوي الأسعار وكون السعر بالبلد الذي تلاقيا فيه أرخص. واختلافهما في هذا كاختلافهما فيما قدمناه إذا وقع الطلب بالبلد الذي وقع فيه الغصب ولم يوجد مثل الطعام. وأما لو نقل الغاصب الطعام إلى غير البلد الذي غصبه فيه، فتلاقيا، الغاصب وصاحب الطعام، بالبلد الذي نقل إليه الطعام، فإن مالكًا رضي الله عنه سَهم (¬2) فيه الأموال المغصوبة على ثلاثة أقسام، ورخص (¬3) كل قسم منها بحكم من الأحكام: ففي العتبية والمجموعة من رواية سحنون عن ابن القاسم عن مالك أن الشيء المغصوب إن كان طعامًا كان القضاء للغاصب (¬4) بمثل الطعام بالبلد الذي وقع فيه الغصب، ليس له إلا ذلك. وإن كان الشيء المغصوب حيوانًا عبيدًا أو دورًا فليس له إلا ما غصب من الحيوان إذا لم يتغير في بدنه. وإن كان المغصوب عروضًا فصاحبها بالخيار بين أن يأخذها بقيمتها (¬5)، أو يَعْدِل عنها إلى تغريم الغاصب قيمتَها بالبلد الذي غُصبت فيه، يأخذه بذلك حيث لقيه. وهذا قول مالك في ترتيب هذه الأحكام على ثلاثة أقسام. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما استحقّه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قسم. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خَصَّ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمغصوب منه. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعينها.

والقول الثالث ما ذهب إليه ابن القاسم وهو المساواة في هذه الثلاثة أقسام في الحكم، فمنعه أن يأخذ الشيء المغصوب وقضى له بما تجب عليه لو كان باليلد المغصوب فيه واستهلك الغاصب ما غصب، فإنه يجب عليه مثل الطعام الذي استهلك، وقيمةُ الحيوان والعروض الذي استهلك، فكذلك ها هنا يقضى على هذا الغاصب بمثل الطعام الذي غصبه ونَقله، وتستوفى منه القيمة بالبلد الذي وقع فيه الغصب للحيوان والعروض، ويؤخذ بذلك الغاصب حيث لقيه صاحب المال. فأجرى جميع الأقسام على الحكم الذي ذكره مالك في الطعام. والقول الثالث، وهو الذي ذهب إليه أشهب، وهو إجراء جميع الأحكام على حكم واحد، ولكنه الحكم الذي حكم به مالك في العروض، بجعل صاحب الشيء مخيّرًا بين أن يأخذ عين الطعام المغصوب والحيوان أو العروض، أو يعدل عن ذلك إلى تغريم الغاصب القيمة، قيمة ما غصب بالبلد الذي وقع فيه الغصب، لأخذه بالقيمة حيث لقيه. وذكر في الطعام أنه يحال بينه وبين الطعام حتى يصل صاحب الشيء المغصوب. وهكذا في الموازية أنه يتوثق لصاحب الشيء المغصوب من حقه إذا منع من أخذ الطعام بعينه. وذهب سحنون إلى المساواة بين العروض والحيوان وأجرى عليهما الحكم الذي أجراه مالك في الحيوان، فقال: ليس لصاحب الشيء المغصوب، من حيوان أو عروض، إلا أخذ عين شيْئه إذا لم يتغير. وما أدري ما يقول في الطعام: هل يجريه هذا المجرى؟ وقد وقع له ما يدل عن ذلك إلا أنه أشار إلى أن اختلاف البلدان يجري مجرى اختلاف الأسعار، والغاصب لا يضمن الشيء المغصوب بتغير سوقه وإنما يمنعه (¬1) بتغير عيْنه. وهذه الإشارة تقتضي ألاّ يكون إلا أخذ الطعام بعينه. لكنه لما ذكر مذهب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يضمنه.

أشهب أنه يمكّن صاحب الطعام من أخذ عين طعامه، أنكر هذا وقال: هذا خلاف الرواية, وإنما له مثل طعامه بالبلد الذي غصبه فيه فإن يكن مذهب سحنون أن الطعام والعروض والحيوان ليس له إلا أخذ عينه، كما قال مالك في الحيوان، صارت المسألة على أربعة أقوال تفصيل مالك للأحكام على ثلاثة أقسام وثلاثة أقوال، أخذ كل صاحب مذهب فيها بما حكم به مالك في قسم من الأقسام الثلاثة. والنكتة التي تدور عليها هذه المذاهب أن من رأى أن اختلاف البلدان كاختلاف الأسواق لم يقض إلا بعين الشيء المغصوب ولو نقِل. ومن رأى ذلك كفوات العين بالكلّية قضى بما قاله ابن القاسم. ومن رأى ذلك كعيب في الذوات المغصوبة خيّره كما قال أشهب. وإذا قلنا بأنه له أن يأخذ عين الشيء المغصوب فقد قيل في مذهب أشهب إنه يأخذه ولا كراء عليه ولا نفقة. والمطالبة، إذا أخذ العين، بالكراء والنفقة يجري على القولين فيما أحدثه الغاصب مِمّا لا يتميز ولا ينفصل وليس بعين قائمة، كتزويق الحيطان وتبييضها، والسقي والعلاج، فإن المذهب على قولين في المطالبة في النفقة في هذا إذا أخذه صاحبه. ولو غصب الغاصب هذا الطعام ونقله ثم باعه بعد نقْله، فأراد صاحب الطعام أن يجيز البيع، ويأخذ الثمن، فإنه لا يمكن من ذلك على ما قاله مالك. وهذا واضح على أصله لأنه لما أسقط صاحب الطعام حقه في أخذ عينه لم يكن له أن يأخذ ثمن العين إذا بيعت. وأما على الطريقة الأخرى، وهي القول بأن له أن يأخذ عين الطعام، فإنه له أخذ ثمنه. وكذلك منعه مالك أن يأخذ طعامًا خلاف الطعام المنقول، ورأى أنه بيع طعام بطعام مؤخَّر، لما كان الحكم عنده تضمينَ الغاصب الطعام بالبلد الذي غصبه فيه. ولو أراد صاحب الشيء المغصوب أن يكلف الغاصب ردّه إلى حيث غصبه لم يكن له في المشهور من المذهب: لكن المغيرة ذكر عنه في كتاب المجموعة، فيمن غصب خشبة من

عَدَن، وأوصلها إلى جُدة، وأنفق في ذلك مائة دينار أن لربّها أن يكلّفه ردّهالأوله أن يأخذها بعينها. قال: ولو كان نَقلها بوجه شبهة وقيمتها، حيث وصلت، أكثَر من قيمتها في المكان الذي منه نقلت، فإن ربها إذا أراد أخذها كُلِّف أن يدفع إلى حاملها الأقل من كرائها، وما زاد في قيمتها. وفي كتاب ابن حبيب فيمن استؤجر على حِمْل ينقله لبلد آخر، فنقل غيرَه غلطًا، أنّ لصاحب الشيء المنقول تضمينَ الناقل وأخذ ما نقله بعد أن يؤدي الكراء عند ابن القاسم، ولا يلزمه أن يؤديه عند أشهب، ولا يُجبَر الحمالُ أن يردّه إلى المكان الذي منه نقله. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: مما يحدثه الغاصب فيما غصبه هبة الشيء المغصوب، فإن مالك الشيء المغصوب إذا وجده في يد الموهوب له، ولم يتغير في سوق ولا بدن، فإن له نقض الهبة، وأخذ عين ماله لا شيء له غير ذلك. وقد كنا قدمنا النظر في تخريج في هذا في مسألة بيع الغاصب لما غصبه، فوجده مالكه في يد مشتريه قائمًا لم يتغير في بدن ولا سوق. وحكم الموهوب له في هذا الوجه كحكم المشتري إذا اشترى من الغاصب. لكن لو تغير الشيء الموهوب في يد الموهوب له تغيّرًا يوجب القيمة على الغاصب لكان له المطالبة بذلك. وقد قال ابن القاسم، فيمن أعار ثوبًا غصبه فلبسه المستعير لباسًا يُنقصه به، فإن لصاحب الثوب أن يغرّم الغاصب قيمة العيب الذي أحدثه الموهوب له، ويأخذ عين شيئه ناقصًا. وإن وُجد الغاصب فقيرًا كان له أن يأخذ عين شيئه، ويرجع بقيمة النقص على الموهوب له الذي أحدثه. وقال أشهب وسحنون: ليس له تغريم الغاصب ما نقص، وإنما له تضمينه القيمة يوم الغصب يغرم ذلك الغاصب. وهذ ابن اءً على أصولهما واختيارهما في أن من ملك أن يضمّن العَين فاختار أخذها بعينها فليس له المطالبة بما نقص منها.

ولو وجد مالك الشيء المغصوب ما غصب له قد هلك، بأن يكون طعامًا أكله الموهوب له، أو ثيابًا لبسها حتى أبلاها، فإن لربها أن يطالب بالواجب له في ذلك، فإن كان الموهوب له ذلك عالمًا بأن الذي وهبه غاصبًا (¬1)، فحكم الرجلين حكم واحد، وهما غريمان لصاحب المال المغصوب، يطلب أيَّهما شاء بعوض ما استُهلك له. وإن كان الموهوب له فعل ذلك ظنًا منه أن الواهب وهب له إنما (¬2) يملكه، فعلى من تكون المطالبة له؟ هذا فيه ثلاثة أقوال: مذهب ابن القاسم أن غرامة عوض ما استهلك من ذلك على الواهب، إن كان مليًّالأولا مرجع للغاصب على الموهوب له بشيء مما غرم؛ لأنه غرّه وسلّطه على أكل الطعام ولبس الثياب على ألا عوض عليه، فكأنه التزم الغرامة عنه لصاحب المال. وإن كان فقيرًا رجع على الموهوب له لأنه أتلف مال هذا الطالب غلطًا منه (على ماله) (¬3) ولم يؤذن له في إتلافه من قبل مالكه، ومن أتلف مال غيره غلطًا فإنّه يغرمه. وفي كتاب الاستحقاق، لغير ابن القاسم، أن الطالب إنما يبدأ بتغريم الموهوب له؛ لأنه هو المنتفع بالمال. وقد يكون صونه (¬4) به ماله فصار لأجل ذلك كالباقي في يديه، وإذا كان كالباقي في يديه، فيه (¬5) يبرأ من الغرامة. ومذهب أشهب أن الطالب بالخيار، يبدأ بغرامة الغاصب إذا شاء، وإن شاء بدأ بغرامة المتلِف لما وُهب له، كما بو كان الموهوب له عالمًا بالغصب وغلطُه لا يدفع عنه وجوب الغرامة عليه. وهو اختيار ابن المواز وسحنون. ولكن أشهب قال: يَطلب الغاصبَ بالقيمة يوم الغصب أو يطلب الموهوب له بالقيمة يوم إتلافه ما أتلف. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: غاصب. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب حذفها. (¬4) هكذا في النسختين، والصواب: صانَ. (¬5) هكذا في النسختين، والصواب: فَلاَ.

ولو كان قيمة الثوب الملبوس يوم الغصب عشرين دينارًا، وقيمته يوم اللباس ثلاثون دينارًا، فإنه إذا أخذ من الغاصب العشرين دينارًا، التي هي قيمته يوم الغصب، لم يَرجع على الموهوب له بالعشرة التي هي تمام قيمته يوم اللباس، وإن كان أشهب رآهما كغريمين وجبت عليهما الغرامة بأمرين مختلفين، وإذا اختار طلبَ أحدِهما فكأنه أسقط الطلب عن الآخر، وجَعَل لصاحب المال الخيار في طلب من شاء منهما قياسًا على حكم المشتري إذا استحق من يده الطعام أو الثياب وقد أفناهما، فإن المستحِق مخيّر بين طلب الغاصب أو المشتري. فكذلك يجب أن يخير بين طلب الموهوب له أو الغاصب، والفرق بينهما عند ابن القاسم وغيره أن المشتري إذا ابتدأ (¬1) الطالب بغرامة كان له مرجع على من باع منه، فلا يلحقه كبير ضرر. والموهوب له إذا بدأ (¬2) الطالب بغرامته، فلا مرجع له على أحد، وقد أتلف ما أتلف مع اعتقاده ألا غرامة عليه فيه، فيلحقه من الرجوع عليه الضرر الشديد. فرأى أن البداية بالغاصب لكونه هو المسلِّطَ للموهوب له على إتلاف هذا المال، فكأنه أتلفه بيده. ورأى غيره أن البداية على الموهوب لأنه هو المنتفع بالإتلاف، ولا منفعة للغاصب في ذلك. ولو كانت قيمةُ ما أتلف يوم الغصب، ويومَ سلّمه الموهوب، ويوم الاتلاف، متساويةً، وأراد المستحق للطلب أن يبدأ بغرامة الغاصب، لم يُختلف في ذلك إذ له أن يرفع عنه المطالبة بما يجب عليه من حكم التسليط على الإتلاف، ولأخذه بمجرد الغصب، فتكون القيمة يوم الغصب. وهذا حكم إتلاف الهبة وواهبُها غاصب. ولو كان واهبها غير غاصب ثم استحقت فإن قول ابن القاسم في ذلك يرى (¬3) على ما ذكره ابن عبدوس في المجموعة ألا طلب على الواهب لأنه وهب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: افْتدَى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَدَى. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: جرى.

هبة تجوز له. ورأى في المدونة في كتاب الاستحقاق فيمن حابى في كراء ما ورثه، وهو يظن أنه انفرد بالوراثة، فطرأ أخ له لم يعلم به، فإن الأخ الطارئ يبدأ بالمطالبة بالمحاباة بأخيه. فإن كان فقيرًا فحينئذٍ يرجع على المكتري. وذكر عن غيره أنه لا يرجع (¬1) له على أخيه إذا لم يكن قد علم. وقد اضطرب الأشياخ في تحصيل المذهب إذا كان الواهب ليس بغاصب، الشيخ أبو محمَّد وغيره يشيرون إلى أنه لا يختلف وأن (¬2) المرجع إنما يكون على الموهوب له المنتفع. وقد يتأول قولُه في المدونة في الوارث إذا طرأ له أخ وقد حابى في الكراء، قوله: يرجع على أخيه، علم أو لم يعلم، أنه أراد بالكراء الذي أخذ. من (¬3) الأشياخ من يشير إلى أن الوارث يرجع عليه بالمحاباة، وأن ابن عبدوس إنما ذكر عن ابن القاسم ما ذكرناه في مشتير اشترى ثوبًا فوهبه. والمشترى بخلاف الوارث لكونه قد دفع فيما وهبه مالًا، والمشتري ضامن، والوارث لم يدفع مالًا، وقد يتهم في أنه عالم فيصير كالغاصب، ولا يتهم المشتري لكونه دفع مالًا. وطرد هؤلاء هذا في هدم الوارث الدارَ ورثها، أو هدمها المشتري، فيكون المشتري غير مطالَب بالهدم. وهذه التفرقة يرد بها ظاهر ما وقع في كتاب القسم من المدونة في الموصَى له بالثلث، إذا قسمت التركة، فوقع استحقاق بعضها، فوجد الدار في يد الورثة مهدومة، أنه لا يرجع عليهم بالهدم. وهذا كله اضطراب، والتحقيق أن ذلك كله جار على الخلاف في من أخطأ على مال غيره، وقد تقدم ذكره. ولو كان الغاصب قد أكرى الدابة من رجل فعطبت تحته، فإنه لا يغرم قيمتَها، على ما ذكره في المدونة من كتاب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مرجِع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة الواو.

العارية، وفي الموازية. وقد ذكر ابن المواز أنه يجب أن يغرم، قياسًا على قوله في رجل استأجر رجلًا يبلّغ له كتابًا إلى بلد، وهو يظن أنه حرّ، فإذا به عبد، وعطب في سفره، فإنه يضمن العبد. قال ابن المواز: لا فرق بين السؤالين. وفرق بينهما الأشياخ بأن العبد إذا حيل (¬1) سيده في الغرامة على عبده لم يُفِدْه ذلك. فصارت الإجارة كالهبة ها هنا، والهبة يُرجع بها على الواهب، وأما عطب الدابّة تحت من اكتراها من الغاصب فإنا إذا أسقطنا الغرامة عن الراكب كان لصاحب الدابة مرجع على آخر وهو الغالب (¬2) فلم يبطل حقه بالكلية. والجواب عن السؤال السابع (¬3) أن يقال: إذا أحدث الغاصب فيما غصبه تفرّق اتصال كسوارين غصبهما فكسرهما، فإن في ذلك اختلافًا في المذهب: ففي المدونة يغرم قيمتهما، وفيها أيضًا: يغرم ما نقص. وفيها أيضًا: قيمة الصياغة. هذه الأقوال مترددة بين كتاب الرهن وكتاب الغصب وروي أنه يصوغهما له. وسبب هذا الاختلاف ما كنا قدمناه من الاختلاف في صنائع المخلوقين: هل تتماثل وتلحق في تماثلها بتماثل المكيلات والموزونات، أو لا تتماثل وتجري مجرى العروض؟ ويلتفت فيها أيضًا إلى أصل آخر: هل يُغلَّب حكم الصناعة على الشيء المصنوع أو يغلب الشيء المصنوع؛ فإن قلنا: إن صنعة المخلوقين تتماثل، وحكما يغلب على حكم ما علمت (¬4) فيه الصنعة، وجب القضاء عليه بسوارين صحيحين. وإن قلنا: إنها لا تتماثل، والصنعة مغلبة على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أحيل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغاصب. (¬3) هو الجواب عن السؤال السادس في تعداد الأسئلة. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عملت.

ذات المصنوع، وجب فيها القيمة. وإن قلنا: إن صناعة المخلوق لا تتماثل، ولا تغلب على الذات المصنوعة، كان الواجب في ذلك ما نقص. وكذلك الحكم في دار غصبها الغاصب فهدمها، فإن ابن المواز قال: لصاحب الدار أن يغرم الغارم (¬1) قيمتها يوم الغصب، ويسلمها له على ما هي عليه من هدم، وله أن يأخذ ما وجد منها على ما هو عليه. وهذا منه بناءً على ما اختاره من الخلاف الذي وقع بين ابن القاسم وأشهب فيمن غصب شيئًا فحدث فيه عيب ينقصه أن ربّه إن اختار أخذ العين والعدول عن القيمة فإنه لا يطالب بقيمة النقص الحادث لكونه ملك تضمين قيمة الجملة. وعلى الطريقة الأخرى وهي مذهب ابن القاسم أنه إن اختار أخذ عين الدار على ما هي عليه كان له المطالبة بقيمة الهدم. وزاد بعض أشياخي على هذا أنّ له أنْ يغرمه قيمة الدار صحيحة وتعتبر القيمة يوم هدمها. وهذا منه تخريج على أحد قولي ابن القاسم فيمن غصب عبدًا ثم قتله: إن لسيده أن يرفع عليه حكم الغصب ويطالبه بحكم التعدي وهي قيمة العبد يوم القتل. وقد كنا نبهنا على ما في هذا من التخريج فيما سلف وإن بقاء العين مع نقص فيها بخلاف تلف العين كلها حتى لا يبقى لمالكها غرض يشح عليه ويتمسك به. وكذلك أيضًا أضاف إلى هذا التخيير في وجهين آخرين وهما مطالبة الغاصب الهادم بقيمة الجدار المهدوم قائمًا، على أن حجارَهُ تبقى على ملك الغاصب، يتصرف بها، أو يطالبه بقيمة التلفيق في الحجار، وهو مقدار ما أتلف عليه، ومنفق (¬2) الأنقاض لمالك الدار. وهذا منه بناء على أن القاعة، لربها أن يختار أخذها بعينها ويطالب بحكم الفساد في الجدار خاصة، ويصيرُ كغاصب سلعتين أبقى إحداهما على الحالة التي غصبها عليها، وأفسد السلعة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغاصب. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تبقى.

الأخرى، فإنه يعطى لكل سلعة حكمُ نفسها: فيُخَصّ الجدار بتميكنه منه، إذا اختار ذلك، ويطلب في الفساد الواجبَ فيه: إما قيمتَه كلها، وهو تقويمه قائمًا على أن الحجارة تبقى للغاصب، أو يختار أخذ الحجار ويطلبه بالنقص الذي أحدثه فيها وهو الهدم. وهذا أيضًا إنما يصح له وإن (¬1) قدر الجدار كسلعة أخرى، على طريقة ابن القاسم في أن من ملك تضمين الغاصب قيمة جملة ما غصب لنقص حدث فيه، فإنه إذا عدل عن ذلك، واختار الذي فسد، فإن له مع ذلك المطالبة بما نقص وهو التلفيقال في نقص. والجواب عن السؤال الثامن (¬2) أن يقال: لو غصب الغاصب سوارين وكسرهما ثم أعادهما على حالهما، فأراد ربهما أخذهما، ففي ذلك قولان: أحدهما: منعه من ذلك، وصرفه إلى أخذ قيمتهما. والقول الآخر: إن له أخذهما ولا غرامة عليه. فمن ذهب إلى منعه من أخذهما يقدر أن الإعادة للصنعة لا تتماثل، وقضى بالقيمة لكون السوارين تجري مجرى العروض، فإنه ليس له أن يجبر الغاصب على أن يأخذ منه عوض القيمة الواجبة عليه من هذين السوارين. وإن قلنا: إن صنعة المخلوقين تتماثل، وتجب عليه إعادة الصناعة، فكذلك فعل. وإذا فعل الواجب على هذا القول لم يطلبه صاحب السوارين بغير ذلك. وإذا غصب دارًا فهدمها ثم أعاده ابن قضها على هيئة ما كانت، فإن شيخنا جرى على الأصل، الذي قدمناه عنه، في أن لصاحب الدار أن يغرم الهادم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب. حذف الواو. (¬2) جَواب عن سؤال لم يذكر في تعداد الأسئلة. ويمكن أن يصاغ: ما حكم من غصب شيئًا وتصرف فيه ثم أعاده على حاله؟

المغيّر للبناء قيمة الدار يوم غصبها أو يوم هدمها، على التخريج الذي ذكرناه عنه، أو يغرم الغاصب قيمة الجدار صحيحًا، ويعطيه هو قيمة الحجار منقوضة، إذ الغاصب لم يفعل أكثر من تلفيق، وهؤلاء (¬1) مطالبة له بالتلفيق، مثل التزويق، كما قدمناه، أو يطالبه بحكم ما أفسده عليه خاصة، وهو التلفيق لا أكثر من ذلك، لكون الحجار التي نُقضت إن اختار صاحبها تغريم الغاصب قيمتها قائمة كانت له فأراد (¬2) أن ينقضها منعه رب الدار من ذلك،، كرجل بني في أرض غيره تعديًا، فإنه له قيمة النقض، إذا اختار رب الأرض التمسك بهالأوله أن لا يملّكه الحجار ويبقيَها على ملكه، ويطلبه بما أفسد فيها وليس إلا التلفيق. وقد قال ابن القاسم في هذا: يطلبه بقيمة ما هدم مبنيًا، ويعطي هو الغاصبَ قيمة الحجارة منقوضة. وهذا أحد الأقسام التي ذكرناها. وجرى ابن المواز على أصله فقال: (يأخذ من الغاصب قيمة ما هدمه منقوضًا، ويعطي هو الغاصبَ قيمة النقض الذي أعاده الغاصب منقوضًا يوم المحاكمة فيه) (¬3). وهذا أيضًا من الأقسام التي ذكرنا. وبنى ابن المواز على أصله في أن من ملك تضمين الجملة فليس له أن يأخذها وقيمة ما انتقصر منها، وهذا قد ملك أن يضمّن الغاصب جميع قيمة الدار، فإذا عدل عن ذلك وطلب أخذ عينها فلا مطالبة له بما نقص. ومما يلحق بما نحن فيه من إفساد الغاصب ثم تلافيه لما أفسد، مسألة من اكترى دابة فتعدّى بزيادة على ما اكتراه، في زمن أو مسافة أو حمل، فإنه إذا اكتراها أيامًا معلومة محدودة، فحبسها بعوإنقضاء الأجل، ثم ردها لربها سالمة، فقد سقط عنه الضمان لتلافيه تعدّيَه وردّها إلى صاحبها سالمة. ولكن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَهُوَ لاَ .... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإن أراد. (¬3) هكذا في النسختين.

لو كان حبسها أيامًا كثيرة كالشهر ونحوه، على ما وقع في بعض الروايات، أو يُحَدّ الأمد بكونه مما تختلف فيه الأسواق، على ما وقع في رواية أخرى، فإنه يضمن قيمتها وإن ردّها سالمة. وهذا لِأجْل كونه حبسها على أسواقها، ومنع ربها من المنفعة بها. وخص في المدولْة هذا الحكم بتعدي المكتري والمستعير، ولم يذكر ذلك في الغاصب إذا ردها بعد زمن كثير وهي سالمة، فإنه قال: لا تلزمه غرامة القيمة. واحتج ابن القاسم إلى إلزام الغاصب الغرامة، ولكنه لم يلتزم ذلك كراهة في مخالفة مالك. والفرق عند مالك بين الغاصب والمكتري أن مقصود الغاصب ملك الرقبة لا تملّك المنفعة، فلم يضمَّن القيمة بحرمان ربها منفعتها، ومقصود المكتري والمستعير غصب المنفعة، ومن جملة المنافع بيعها إذا شاء ربها، وقد منعه، بحبسها، من هذه المنفعة، وهي مقصودة، فضمن ما منعه من ذلك. كذلك لو تعدى المكتري على الدابة في المسافة فإن المعتبر، في تضمينه قيمتها إذا ردها سالمة، ما اعتبرناه في تعديه في الزمان. فإن تعدى مسافة طويلة منع بذلك ربها من أسواقها، ضمن قيمتها إذا شاء ربّها. وإن تعدى مسافة يسيرة لم يكن لربها أن يُضمِّنه القيمة إذا ردّها سالمة، والعلة في تعدي المسافة، إذا كثر وبعد، كالعلة في تعدي الزمان إذا طال وكثر. ولو غصب الدابة في أمد التعدي، فإنه يضمن قيمتها طال زمن التعدي أو قصر. وكذلك إذا طالت مسافة التعدي، أو ققت حتى يولغ (¬1) في ذلك، فقيل: ولو تعدى بها خطوة. وخولف بين تعدي المسافة المحدودة أو الزمن المحدود، إذا وقع الغصب في أمد التعدي، بينه وبين التعدي في زيادة العمل المشروط، فقيل: إذا اكترى دابة ليحمل عليها عشرة أقفزة، فحمل أحد عشر قفيزًا، فإنه يعتبر مقدار ما زاد، فإن كان يعطب في مثله ضمن قيمتها، وإن كان لا يعطب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يوغل.

في مثله لم يضمن القيمة. وذكر لي شيخنا رحمه الله عن بعض أشياخه أنه كان يفرّق بين التعدي بالزيادة في مقدار العمل، والزيادة في المسافة أو الزمن: مجاوزة الزمن المشترط في الكراء تعدٍّ محض لا شبهة فيه ولا إذن يخالطه، فلهذا استوى قليله وكثيره، والزيادة في العمل لم يتمخض فيها التعدي، بل امتزج مع الاذن بالدابة. فالدابة المحمول عليها أحد عشر قفيرًا مأذون في تَسْييرها بشرط أن يكون عليها عشرة قفيزًا (¬1)، فوجب لأجل امتزاج التعدي بالإذن بين أن تكون الزيادة مُهلِكة أو غير مهلِكة. وهذا وإن كان قد يستحسن تصوره فإن شيخنا الذي حكاه لنا كان لا يراه فرقًا واضحًا، ويرى أن السير بزيادة العمل تعدٍّ محضُ، لم يؤذن فيه إلا بشرط، وإذا فقد الشرط صار السير تعديًا محضًا، فأشبه تعديَ المسافة، وتعدي الزمن. ولو كان العطب وقع بعد أن رُدَّت الدابة إلى المكان الذي دخل في عقد الكراء، فإنه إن كان التعدي في المسافة كثيرًا، تلزم فيه القيمة، فلا تسقط القيمة ردها (¬2) إلى موضع الاذن، لتقرر القيمة في الذمة قبل وجود الرد إلى الموضع المأذون فيه. وإن كان تعدي المسافة يسيرًا بحيث لا تلزم فيه القيمة، ففيه اختلاف في المذهب. وإلزامنا القيمة فيما ذكرناه من هذه الأقسام إنما ذلك إذا اختار رب الدابة التضمين للرقبة. وأما إن اختار طلب قيمة المنفعة التي وقع الغصب عليها، فإن له ذلك: يأخذ الكراءَ الأول الذي سمياه، ويكون له فيما زاد عليه مما وقع التعدي فيه في المسافة كراءُ المثل عند ابن القاسم، وعند غيره إنما يكون له طلب كراء المثل إذا كان رب الدابة غائبًا أيام حبَسها المكتري، فيكون له الأكثر من قيمة كراء أيام الحبس، إن كانت مستخدَمة فيها، وبنسبة ما وقع به عقد الكراء الذي لا تعدي فيه، لأجل أنه قد يقع في الكراء الأول مغابنة رضي بها فلا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عشرة أقفزة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِردّها.

تلزمه المغابنة فيما لم يرض به، وهو إمساكها أيامًا لم يؤذن له أن يمسكها فيها. وأما إذا كانا حاضرين جميعًا فذلك رضىً منهما بالتزام الكراء على نسبة ما كان. وسبنسط الكلام على هذا في كتاب الأكرية إن شاء الله تعالى، ونذكر مذهب أبي حنيفة الذي لا يوجب في أصل المنافع أجرة. والجواب عن السؤال التاسع (¬1) أن يقال: إذا غصب إنسان حجرًا أو خشبة فبنى على ما غصب من ذلك بناءً، فهل ذلك كفوت العين، تلزم فيه الغاصبَ القيمةُ، أوليس كفوت العين، لمالك الحجر أو الخشبة انتزاعها من بناء الغاصب؟ هذا مما اختلف الناس فيه: فالمشهور من مذهبنا أن لمالك الحجر أو الخشبة انتزاعها من بناء الغاصب، وإن أدى نزعها إلى فساد بناء الغاصب وانهدامه. هكذا روي عن مالك رضي الله عنه. وقال ابن القاسم في الموازية: يهدم بناء الغاصب ولو كان بناؤه قصورًا. واختلف النقل عن أشهب: ففي النوادر أن مالكًا، رضي الله عنه، مكن صاحب الحجر أو الخشبة من هدم بناء الغاصب، وقاله أشهب. وقال: إن هذا بخلاف من غصب خشبة فصنعها بابًا، فإن هذا لا يُمْكِنُ أن يعاد لهيئته. وحكي عنه في غير النوادر أنه يرى وجوب القيمة على الباني، ولا يهدم بناؤه. وقد نقل عنه هذا ابن حارث في كتابه، ولكن زاد في نقله أن ابن القاسم وأشهب اتفقا على أن البناء المعتمد على الحجر المغصوب يقلع. وإنما اختلفا فيما انتشر عن هذا البناء، وخرج عن اعتماده على الحجر المغصوب، هل يهدم أم لا؟ فقال: إن ابن القاسم قال قولًا مجملًا أنه يهدم .. وقال أشهب: إذا كان لا سبيل إلى انتزاع الحجر المغصوب إلا بهدم جميع البناء فإنه تجب فيه القيمة لصاحب الحجر. ¬

_ (¬1) هذا السؤال رقمه في تعداد الأسئلة السؤال السابع.

وهذا الذي نقله ابن حارث لا أعرفه في المذهب، ولم ينقله فيما علمت غيره من المصنفين، وإنما المشهور في سائر الدواوين ذكر الخلاف عندنا في هدم بناء الغاصب، قولًا مطلقًا عامًا فيما بُنِيَ، معتمدًا على الحجر المغصوب أو لم يكن معتمدًا عليه، لكن (¬1) لا سبيل إلى نزعه إلا بهدمه، فاختلف النقل في ذلك عن أشهب، كما ذكرناه، وما أدري أين وقف ابن حارث على هذا التفصيل و (لكنه لا أنكر) (¬2) هذا التفصيل أن يكون مذهبًا؛ لأن الكرخي نقل عن أبي حنيفة أنه يرى عدم (¬3) ما اعتمد على الحجر المغصوب. وأمّا ما كان مبنيًا بجوانبه أو متصلًا به فلا يرى أبو حنيفة هدمه، بل يوجب فيه القيمة. وهذا التفصيل الذي حكاه الكرخي عن أبي حنيفة هو نفس التفصيل الذي حكاه ابن حارث عن أصحاب مالك. والمشهور من مذهب أبي حنيفة، وهو المذكور في مسائل الخلاف بين أصحاب الشافعي وبين أصحاب أبي حنيفة، أن محمَّد بن الحسن ذكر عن أبي حنيفة أن بناء الغاصب لا يهدم إذا لحقه الضرر بهدمه، قولًا مطلقًا، وتجب القيمة على غاصب الحجر. وقال ابن القصار: هذا هو قياس أصل أبي حنيفة؛ لأنه يرى أن من غصب أشجارًا صغارًا فغرسها في أرض نفسه وثبتت فإنه ليس له قلعها، بل يأخذ قيمتها للضرر لصاحب الأرض. قال: وعندنا وعند الشافعي أن لصاحبها أخذها. وقال: يخيّر إذا كان صاحبها إذا أخذها ثبتت. وسيرد كلامنا على هذه الغروس التي ذكرناها. وأما الشافعي فمذهبه كمذهب مالك في هدم بناء الغاصب إذا كان لا سبيل إلى انتزاع الحجر المغصوب إلا بهدمه. ¬

_ (¬1) المعنى على أنه: لكن [لو كان]، لا سبيل ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لكن لا أُنكر. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هدْم.

وإذا قلنا بهدم بناء الغاصب فهل ذلك هو الحكم المتعين، أو يضاف إلى ذلك أن من حق صاحب الحجر ألاّ يهدم بناء الغاصب، ويطلبه بقيمة حجره؟ هذا أيضًا مما وقع فيه اضطراب: قال بعض الأشياخ: ظاهر المدونة أن هدم البناء لا يتعين، ولصاحب الحجر المغصوبة أن يطالب الغاصب بقيمتها ولا يهدم بناءه، وتعلق في هذا بأنه لما ذكر في المدونة بناء غاصب الحجر عليه، أن لصاحبه هدم البناء، وليس ذلك على من غصب ثوبًا، وجعله طهارة (¬1) لجبة، أن له أن ينتزع الثوب المغصوب، ويفتقه وإن شاء تركه، وأخذ قيمته. وهكذا حكى بعض أصحاب مسائل الخلاف عن المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة أنهم يرون أن صاحب الحجر المغصوب إذا رضي بأخذ القيمة جُبِر الغاصب عليهالأولا يخلّصه من ذلك أن يقول: أنا أرضى بهدم بنائي لتأخذ عين ما غصبتك إياه، اعتمادًا منهم على أن رضاه بذلك من تضييع المال وإفساده، والإنسان محرم عليه إضاعة ماله. وحكي عن المتقدمين من أصحاب أبي حنيفة أنهم يَرَوْنْ خلاف ذلك وأن الغاصب إذا رضي بهدم بنائه لم يمكَّن صاحب الحجر المغصوب من تغريمه قيمته. وأعلا (¬2) بعض أصحاب الشافعية حتى نسب المانعين للغاصب من رضاه بهدم م ابن اه خلافًا لأصول الشريعة، وهم على رد الإجماع. وليس الأمر كما ظن من الإجماع على هذا، وقد كان شيخيَّ (¬3) أبو محمَّد عبد الحميد وأبو الحسن المعروف باللخمي رحمهما الله يميلون إلى منع الغاصب من هدم بنائه لأنه نوع من إضاعة المال لا تجوز. وأما ابن القصار، من أصحابنا، فإنه ذهب إلى خلاف ما ذهب إليه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: ظهارة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَغَلا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: شَيْخَايَ.

شيخاي، رحمهما الله، ورأى أن الغاصب إذا رضي بهدم بنائه لم تلزمه غرامة القيمة بأن غرامة القيمة للحجر موقوفة عن رضي صاحب الحجر والغاصب الذي بني عليها. وسبب الاختلاف في تمكين صاحب الحجر من هدم م ابن اه الغاصب عليها المنازعة في ظواهر وقعت في الكتاب وفي السنة. فأما الكتاب، فقال أصحاب أبي حنيفة: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) (¬1) وظاهر هذا يقتضي أن لا يعتدوا على غاصب هذا الحجر بردها بعينها وإفساد بنائه؛ لأن ذلك ليس بمثل له، فدل على أن الواجب قيمته التي هي عوض مثله. وأجيبوا عن ذلك بأن هذه الآية نزلتْ في الجناية على النفوس والأبدان، فحكمها مقصور عليهما. وأيضًا فإن غاصب الحجر لو أخذه من بناء هدمه على صاحبه ورده إلى ملكه، وبنى عليه مثل ما هدمه على مالكه، لصحّ ها هنا أن يقضى بالأمث الذي هذا: لأنه يهدم عليه مثل ما هدمه هو على صاحب الحجر، وهو يقول في هذا: لا يهدم على الغاصب وإن هدم بناء غيره بسبب هذا الحجر، فلم يقض بالمثل. واحتج أصحابه بقوله عليه السلام "لا ضرر ولا ضرار في الإِسلام" (¬2) ومن الإضرار فساد بناء الغاصب وإتلاف ماله. وهذا أجيبوا عنه بأن منع صاحب الحجر من أخذ حجره إضرار به أيضًالأولا سبيل إلى الإضرار. فيقولون هم: تجب المساواة بين الضررين، فالإضرار بهدم بناء الغاصب يقع ولا عوض للغاصب عنه، والحجر إذا مُنع منها صاحبها أخذ قيمتها، فشتان بين ضررين: أحدهما يؤخذ عنه عوض والآخر (عنه عوض عنه) (¬3). ¬

_ (¬1) البقرة: 149. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا عوض عنه.

وأصحابنا وأصحاب الشافعي لم يسلموا لهم هذا الترجيح الذي وقع (بين الموازية) (¬1) بين الضررين، بل قالوا: لو (¬2) جبر رجل على أن يبيع ماله ويأخذ عوضه أشدُّ الضرر، وقد يكون له غرض في عين ملكه (محله) (¬3) أو لكونه لا يمكنه أن يشتري بالقيمة التي يعطاها عوضًا عنه مثل حجره أو خشبته التي غصبت له. ويرجح أصحابنا هذا بأن الظالم أحقّ أن يحمل عليه. وهذا عندي هي النكتة التي تدور عليها هذه المسألة، وإليه كان يذهب شيخي أبو محمَّد عبد الحميد، رحمه الله، ولا يقول قولًا مطلقًا بما قاله مالك والشافعي من هدم بناء الغاصب، ولا بما قاله أبو حنيفة من (¬4) هدم بنائه، بل يرى أن كل نازلة حكمها، فما اتضح فيه الضرر بهدم البناء أشد من تغريم الغاصب قيمة الحجر لم يهدم عليه البناء، وما كان تغريم القيمة فيه أشد على صاحبه في الإضرار به كان تغريم القيمة أوْلى من هدم بناء الغاصب، وما تساوى فيه الضرر، أو أشكل أمره، رُجُّح جانب صاحب الحجر في تمكينه من أخذ عينهلالكون الظالم أحق أن يحمل عليه. وهكذا كان يرى في كل شيء أخذه الغاصب فأضاف إليه شيئًا آخر فإنه يغلّب فيه أحد الضررين على نحو ما ذكرناه. ومما يرجح به جانب صاحب الحَجر قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (¬5) وغاصب هذا الحجر ظالم. وعموم الأحاديث تقتضي تمكين صاحب هذا الحجر من قلعه وإن فسد بناء الغاصب. من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤدي" (¬6) وفي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في الموازنة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذفها. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من [عدم]، هدم. (¬5) الشورى: 42. (¬6) تحفة الأشراف: 3: 584 حد. 4584.

بعض الروايات "حتى تؤديه" ومنها قوله: "لا يحل مال امرى مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬1)، وقوله: وقوله "لا يحل لأحد أن يأخذ مال أخيه جادًا أو لاعبًا، ومن أخذ عصا أخيه فليردّها عليه" (¬2). وهذه العمومات تقتضي وجوب رد هذا الحجر. وأما الطرق المعنوية التي يعتمد عليها أصحابنا وأصحاب الشافعي، فإنهم يقولون: إذا رضي الغاصب بهدم بنائه وردِّ الحجر الذي غصب مُكّن من ذلك، ولم يطلب بما سواه. وكلّ من قدر أن يرد العين المغصوبة فإنه إذا امتنع من ردّها جبر عليها، كمن غصب ثوبًا فإن عليه رده، فإن لم يفعل أجبر على رده. وقد دافع أصحاب أبي حنيفة هذا الاستدلال يأن من غصب خشبة فبنى عليها، واشتراها من مالكها، ثم اطلع على عيب فيها، فإن له ردها، ومع هذا (لا يجبر على الرد إذا امتنع. فقد أوجدناكم من يتمكن له الرد (¬3) إذا امتنع منه) (¬4) لا يجبر عليه. وهذا لا تصح مناقضتهم به؛ لأنا إنما ذكرنا ما ذكرناه من أن من ملك الردّ فامتنع منه أجبر عليه في الغصب، وهذا ملك الرد بالعيب لا بالغصب، ومن ملك الرد بالعيب فلا يجبر على الرد إذا امتنع؛ لأن الردّ حق له فلا يجبر عليه إذا ترك، ورد الشيء المغصوب حق عليه، فيجبر عليه إذا امتنع منه. ومما به (¬5) أصحاب أبي حنيفة مذهبهم أن من بني على حجر اشتراه من ¬

_ (¬1) البيهقي: السنن الكبرى: 97:6 (¬2) البيهقي: السنن الكبرى: 92:6. (¬3) هكذا في (و)، ولعل الصواب: (وَ) إذا .... (¬4) ما بين القوسين، ساقط من (مد). (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَيَّدَ بِه.

غاصب، وهو لا يعلم بكونها مغصوبة، فإنه لا يُهدَم بناؤه. وقيس على ذلك بناء الغاصب، لاستواء الخطأ والعمد في إتلاف أموال الناس. وهذا الذي قاله، وإن كان هو مذهب مالك على ما نقله القاضي أبو الفرج عنه في الحاوي، وهو مذهب الجماعة الذين ذكرنا اختلافهم، فإنهم لا متعلقًا (¬1) لهم فيه؛ لأن الغصب (¬2) بني الحجر ظلمًا وعدوانًا على ملك غيره، والملك يُحترَم لمالكه، وهذا الغاصب قد أسقط حرمة ماله ببنائه على ما لا يحلّ له أن يبني عليه .. والذي بني على خشبة اشتراها غيرُ ظالم في بنائه، ولماله حرمة لم يهتكها، فلا تهتك عليه بالشرع، بخلاف الغاصب الذي هتك حرمة ماله فلا يصونه الشرع عليه. ومما استدلوا به أيضًا أن من غصب عبدًا فأبق وهو في يديه، فإنه يحكم عليه بقيمته، وما ذلك إلا لتعذر رده، وخسارة في طلبه وتحصيله، وربما كان ما يحسن (¬3) الغاصب في هدم بنائه أضعاف ما يخسره فيما ينفقه في طلب الآبق. وهذا أيضًا لا مستَروح لهم فيه؛ لأن الحجر المبني عليه حاضر مروي (¬4) يتمكّن من ردها إلى صاحبهالأولهذا يجوز بيعها إذا لم يكن فيها خصام، وأمكن تسليمها على ما هي عليه، والعبد الآبق غير مقدور عليه الآن ولا يجوز بيعه. وقد قال بعض الناس: لو أمكن الغاصبَ ارتجاُعه بنفقة كثيرة لم يجبر على ذلك، بل يكون الحكم إغرامه بقيمة العبد. وهذا يقتضي أنه في معنى الهالك. وإن كان بعض الناس رأى أن من حق صاحب العبد أن يطلب الغاصبَ باسترجاعه وإن خسر في ذلك مالًا، ولم يلتفت في هذا إلى قلة الخسارة أو كثرتها. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُتَعلَّقَ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغاصب. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يخسر. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مرْئيّ.

ومما استدلوا به أيضًا أن من غصب خيطًا فخاط به جرحَ بهيمة، فإنه يقضى له بالقيمة، ولا يقضى لصاحب الخيط بانتزاعه من الجرح. وقد ناظر محمَّد بن الحسن الشافعيَّ في هذه المسألة، واستدل عليه الشافعي. لما معناه أن غاصب هذا الحجر لو طلب أخذه من صاحبه لحاجة إليه لم يجبر صاحبه على ذلك. فإذا لم يجبر على تسليم ملكه ابتداء فكذلك لا يجبر على تسليمه انتهاء، وهو بعد البناء عليه، بخلاف الجرح فإنه قد يجبر على تسليم خيط يخاط به الجرح لحرمة الحيوان. فكذلك لا يجبر على نزعه انتهاء بعد أن خيَّط به الجرح. وسلم له محمَّد بن الحسن ما قاله في أنه لا يجبر على تسليم الخيط الذي خاط به الجرح. والمتأخرون من أصحاب أبي حنيفة لا يسلمون هذا ونحن نتكلم على ما تعرف منه سبب الخلاف في هذا، وافتراق الأمو الذي تفاوت الحُرَم. ونقرر قبل الخوض في هذا التنبيه على أن من غصب لوْحًا فأدخله في سفينته حتى صار في انْتشائها كجزء من أجزائها، فإن الحكم فيه، من ذكر خلاف ووفاق، كما قدمناه في حكم من غصب خشبة فبنى عليها، فإن مذهبنا ومذهب الشافعي كون صاحب الخشبة المبني عليها يستحق قلعها وكذلك يستحق صاحب هذا اللوح أن يقلعه من السفينة. ولكن حكم هذا اللوح يختص بحكمٍ لا يختص بمثله الحجر والخشبة المبني عليها؛ لأن هدم الحجر والخشبة المبني عليها لا يتعلق به من الإتلاف أكثر من إتلاف بناء الغاصب، وبناء الغاصب لا حرمة له، كما قدمناه، ولكن السفينة قد يؤدي قلع هذا اللوح منها إلى إتلاف ما فيها، وقد يكون فيها حيوان، إنساني أو بهيمي، أو أموال. فإن كان قلع هذا اللوح يمكن من غير إتلاف ما فيها، مثل أن يطلب ذلك رب اللوح، وهو على البر أو شاطى البحر، فإنه يمكّن من قلع اللوح، وإن فسد نطم ألواح السفينة، كما يمكنه من قلع الحجر وإن فسد م ابن ي عليها. وأما إن كانت في لجة البحر، واللوح بموضع منها إن قلع غرقت وغرق ما فيها، فإنه إن كان فيها حيوان آدمي لم يمكن من القلع لكون ذلك إن مكن منه تضمن هلاك من فيها من رجال أو نساء، وكذلك إن كان فيها حيوان بهيمي فإن له حرمة أيضًا

تمنع من إهلاكه سواء كان للغاصب أو لغيره من الناس. وإن كان ما فيها من الوسق مال، عروض أو عين، ولا يخشى من قلع اللوح هلاك أرواح، فإنه يعتبر هذا المال، فإن كان لغير الغاصب لم يقلع هذا اللوح، مثل ما قدمناه فيمن اشترى حجرًا فبنى عليه، وهو لا يعلم كونه مغصوبًا، فإنه لا يُهدَم بناؤه لكونه غير متعد في البناء، وكذلك المال الذي في السفينة إذا كان لغير الغاصب فله حرمة من جهة مالكه الذي لم يظلم ولا تعدى في حمله هذه السفينة، فلا يجوز أن يتلف ذلك عليه. وأما إن كان ما فيها من الوسق من مال الغاصب، وهو عروض، فإن الأكثر ذهبوا إلى أنه لا يمنع صاحب اللوح من قلعه من هذه السفينة، وإن إذا (¬1) ذلك لهلاك مال الغاصب؛ لأن الغاصب لا حرمة لماله الذي منع به مال الغير، وهو الذي هتك حرمة ماله، فلا يَمنع ذلك من تمكين صاحب اللوح من نزعه من هذه السفينة وإن تلف مال الغاصب، كما لم يمنع كون الحجر المغصوب يمكن منها صاحبها وإن فسد بناء الغاصب الذي بناه عليها، وهذه طريقة بعض الحذاق من أصحابنا كابن القصار وأبي حاموإلاسفراييني من أصحاب الشافعي. ومن أصحاب الشافعي من منع نزع هذا اللوح من السفينة إذا أدى إلى إتلاف مال الغاصب. ويفرق من ذهب إلى هذا بين تمكينه من قلع الحجر التي بني عليها الغاصب وبين منعه من التمكين من نزع هذا اللوح الذي يتلف مال الغاصب، أن الحجر لا يتصور في العقل نزعه إلا بإتلاف بناء الغاصب، إذا كان البناء عليها لا يمكن تعليقه عنها حتى تنزع وحدها، وأما اللوح المغصوب فإنه يمكن نزعه من غير إتلاف مال الغاصب، بأن يؤمر صاحب اللوح بأن يبقى الطلب حتى تصل السفينة إلى المدينة التي أقلعت إليها. فلما كان لهذا الذي هو صيانة مال الغاصب أمد يُنتَظَر، لم يمكن من القلع. ولما كان ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أدّى.

لا أمد يُنتَظر لصيانة بناء الغاصب وجب قلع الحجر في الحال. وهذا فرق يتصور، ولكن إن راعيت الضرر في الانتظار إلى وصول السفينة لم يسلم هذا الفرق. ولكن يجب أن. تعلم أن كل موضع قلنا فيه: إن قلع اللوح لا يجب، فإن لصاحب (¬1) الطلب بقيمته لأجل ضرر الانتظار، ومع هذا له الخيار في التزام هذا الضرر وترك الطلب بالقيمة حتى يأتي الأمد الذي يمكن نزع هذا اللوح فيه، كما لو غصب رجل عبدًا فأبق في يده، فإن صاحبه بالخيار بين أن يغرمه القيمة؛ لأن (¬2) فيما يلحقه من الضرر في انتظار عودة الآبق، وله أن يتحمل مشقة هذا الضرر، وينتظر الآبق حتى يعود إليه. واعم أنّا قدمنا الكلام في مسألة من غصب خيطًا فخاط به جرحًا، ثم أتى صاحبه فطلب نزع الخيط. وهي مسألة كثر الاضطراب فيها، ونحن نذكر لك المقدمة التي وعدناك بالتنبيه عليها في صدر هذه المسألة. وذلك أن الأموال تختلف مقادير جُرَمها في القوة والضعف. فالأموال التي هي جمادات، كالدنانير والعروض، لا حرمة لها في نفسها، وإنما تكتسب حرمة من جهة حق مالكها. وأما الحيوانات فإن لها حرمة من جهة مالكها كالجمادات، ولها حرمة في نفسها وهي جرمة الأرواح، فقد صار لجنس من الأموال حرمة واحدة وهو الجمادات، وللحيوانات حرمتان: إحداهما من جهة مالكها والثانية من جهة نفسها. وهذه الحرمة الثانية هي حرمة راجعة إلى نفس المحترمَ تختلف أيضًا بالقوة والضعف، فليست حرمة نفوس بني آدم كحرمة البهائم، ألا ترى أن من جبره السلطان على قتل رجل مسلم، لا ذنب له يستباح به دمه، وتوعّده بأنه إن لم يقتله قتله السلطان، هو نفسه، فإنه لا تحل له صيانة دمه بإتلاف دم غيره. ولو فرضنا المسألة في كون السلطان أمره بنحو ناقة رجل، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لصاحبه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب الآن.

أو قتل فرسه، لأبحنا له قتل الفرس ونحر الناقة بل نوجب عليه ذلك إذا كان لا يخلّص نفسه من الهلاك إلا بإتلاف هذا المال، وتبقى المحاكمة من الهلاك إلا بإتلاف هذا المال، وتبقى المحاكمة بينه وبين صاحب المال. ومما يوضح أيضًا ما ذكرناه أن للحيوان مزية على الجمادات أن من خربت داره لا يجره (¬1) السلطان على إصلاحها ومن له دابة منعها العلفَ حتى أشرفت على الهلاك فإن القاضي يجبره على علفها خوفُ امن تلفها. واعلم أيضًا أن الأنفُس، وإن كانت لها حرمتان، فربما سقطت بإسقاط صاحبها حرمتها، كما يقتل من قتل، ويرجم من زنى، وهو محصن. فإذا تقررت هذه القاعدة عدنا بعدها إلى النظر في مسألة من غصب خيطًا فخاط به جرحًا، أو خاط به ثوبًا، فجاء صاحبه فطلب نزعَه وردَّه إليه، فأما إن كان خِيط به ثوب فإنه يُنزع من الثوب، إذا كان نزعه لا يتلف المنفعة به لمن يردّ عليه. وأما إن كان لا يمكن نزعه إلا بتقطيعه حتى لا يُنتفع به، فإن له قيمته؛ لأنه طلب مَا لاَ منفعةَ له فيه. وأما إن كان خطب (¬2) به جرح إنسان، وإن نزع أيضًا لم يُنتَفَع به، فلا يمكن من نزعه، وإن كان ينتفع به لكن نزعه يؤدي إلى هلاك نفس الرجل الذي خاط بهذا الخيط أو إتلاف عضو من أعضائه، فلا يختلف في أنه لا يمكن من نزعه. لأنه لو أراد أخذه غصْبًا لمّا احتاج إلى الخياطة به ولم يجد غيره، وإن لم يخط به جرحه هلكت نفسه، فإنه يسوغ له أخذه. وكذلك إذا أدّى نزعه إلى زيادة في الغلة (¬3)، وحدوث المرض المخوف، فإنه قد قيل: إنه لا يمكن من نزعه. وأما إن كان نزعه لا يُتخوف منه تلفُ النفس، أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يجبره. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خيط. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العِلَة.

زيادة في المرض، وإنما يتخوف منه أيضًا تأثير (¬1) البرء، فإن هذا مما اختلف فيه أصحاب الشافعي. وهذا في الحيوان الذي لا يحل أكله، كالإنسان والدواب: البغل والحمار. وأما إن كان مما يحل ذبحه وأكله، فإنهم اختلفوا أيضًا هل يجبر على ذبحه لينزع الخيط المغصوب منه، ويردَّ على صاحبه؛ لأن هذا الجنسَ لا حرمة لروحه تقتضي منعَ ذبحه وأكله، فلهذا مكّن من ذبحه. ومنهم من قال: لا يمكَّن من نزعه لأنه عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة (¬2). وهذا الذبح ها هنا لغير مأكلة، فلم يجب سقوط حرمة الحيوان به. ولو كان الحيوان مما يؤمر بقتله، كالخنزير والكلب، فإنه ها هنا لا يختلف في أن هذا الخيط يُنزع منه، وإن هلك الخنزير والكلب؛ لأن هلاكهما مشروع لنا. واعلم أن قاعدة هذا الباب ونكتته، بعد ما قدمنا لك من اعتبار الحُرَم وتفاوتها، الموازنة بين الضرر اللاحق يصاحب الخيط ومنعه عين ملكه بالقيمة، وبين ما يلحق الجريح من الضرر بنزعه. فما اتضح من الضرر خفته، واتضح من الجانب الآخر ثقله وشدة (¬3) عدل إلى الأخفّ وانصُرف عن الأثقل. هذا أصل الفقه في هذه المسائل. وبعض المتأخرين من أئمة أهل النظر لم يجر في هذا حرمة الحيوان الإنساني والبهيمي مجرى واحدًا، كما حكيناه في هذه التفاصيل عن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي، ورأى أن بهيمة الرجل إذا أشرفت على العطب فإن مَن عنده علَفُها الذي يصون حياتها لا يجبر على بذله لها؛ بخلاف حرمة الإنسان فإنه إذا أشرف على الهلاك من الجوع وجب على من عنده طعام أن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تأخير. (¬2) الموطأ ح 2 ح 1292 - البيهقي ح 2ص 89/ 91. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: شدته.

يعطيه ما يصون به حياته. وطرد هذا الحكم في نزع الخيط، ففرق بين نزعه من البهيمة (¬1). وهذا الاضطراب كله إنما يعتمد فيه على الموازنة بين الضررين، ومراعاة ما بين الحرمتين. ومما يجري على هذا الأسلوب لو كان كبشًا أو ثورًا أدخل رأسه في قدر طباخ، ثم لم يمكن إخراجه رأسه منها، فإنه إن كان لصاحبه سبب في تمكينه إدخال رأسه في القدر، مثل أن يكون هو سائقه أو قائده، فإنه إذا كُسرت قدر الطباخ، فتخلص الثور، ضمن صاحب الثور قيمة القدر؛ لأنه بإفسادها وإن ماله، وهو السبب في تعريض ماله إلى التلف. ولو كان الطباخ هو السبب، بأنْ وضعها وضعًا لا تسلم معه مما جرى فيها من تشبث الثور، وصاحب الثور لاسبب له، فإنه لا يضمن صاحب الثور قيمة القدر. وكذلك إذا كانا غير مفرّطيْن جميعًا لم يضمن صاحب الثور قيمة القدر لأن جرح العجماء جبار، وكذلك لو دخل فصيل ناقة دارًا وأقام فيها حتى عظُم جِرْمه، فلم يقدر أن يخرج من الباب، فإنّا إن هدمنا الباب ليتمكن من إخراجه كان على صاحب الفصيل غرامة ما أفسد من الباب؛ لأنا صنّا ماله بإفساد مال غيره. وهذه المسائل تجري على ما نبهناك عليه من اعتبار الضرر والموازنة بين الضررين. وأُلْحق بذلك سقوط دينار من دواة إنسان، فَلَمْ (¬2) إخراجه إلا بكسرها. وفروع هذا الباب لا تتسع، ومدار جميعها على ما أصلناه لك. وقد كان شيخنا رحمه الله يحكي إذا ذكر هذه المسائل أن جَمَلين اجتمعا في مضيق فلم يمكن إخراج الداخل منهما ولا رد الخارج منهما، فمر بهما بعض القضاة، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام نقصا تقديره: وبيْن نزعه من الإنسان. (¬2) هكذا في النسختين، ويتم الكلام بإضافة: فلم [يمْكِنْ] ....

فقال: يُنحر أحدهما ويشتركان في الباقي. وقال هذه قياس منه على الحكم فيما يطرح من السفينة. والذي قدمناه لْك يعرف الحكم منه في هذه المسألة وغيرها. والجواب عن السؤال العاشر (¬1) أن يقال: إذا غصب الغاصب شيئًا ففعل به فعلًا غير به ذات الشيء المغصوب، فإن في ذلك خلافًا بين فقهاء الأمصار. فمذهب الشافعي أن ذلك ليس بفوْت يمنع صاحب الشيء من أخذه من يد الغاصب، حتى لو غصبه بيضةً فحضنها حتى انفقأت عن فرخ، أو قمحًا فبذره في أرض حتى أسبل وصار قمحًا محصودًا، فإنه يأخذ صاحب القمح قمحه وما تنامى منه. ومذهب أبي حنيفة أن التغير فَوت يمنع صاحب الشيء من أخذه من الغاصب، بشرط أن يكون الغاصب غيّره تغييرًا تنتقل تسميته، وتذهب به المنفعة المقصودة به. وأما مذهبنا نحن، فعندنا ما يدل على الطريقتين جميعًا، طريقة الشافعي وطريقة أبي حنيفة. فقد ذكر عن مالك، رضي الله هـ تعالى عنه، أنه اختلف قوله في الغاصب إذا غصب قمحًا فطحنه، وكذلك رُوي عن ابن القاسم في المجموعة أن الواجب في ذلك مثلُ القمح المغصوب. وذكر عن أشهب في المجموعة أنه يرى أن لصاحب القمح أخذ الدقيق من غير أن يؤدي أجرة الطحن. وظاهر هذا الخلاف فإنه (¬2) إنما وقع في تمكين صاحب القمح من أخذ عين الدقيق. وأما لو أراد تضمين الغاصب مكيلة القمح الذي غصبه لم يُمنع من ذلك ¬

_ (¬1) هذا الجواب عن السؤال الثامن في تعداد الأسئلة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّه.

عند ابن القاسم وأشهب. وسنتكلم على تفصيل ما وقع من خلاف في بعض تغيرات (¬1) الغاصب عندنا، بعد أن نذكر سبب الخلاف بين فقهاء الأمصار على الجملة. فأما مذهب الشافعي ومن وافقه من أصحابنا في بعض فروع هذا الأصل، فإنهم يرون أن التمليك فعل شرعي والغصب فعل ليس بمشروع، فلا يُتوصل بأمر غير مشروع منهي عنه إلى أمر مشروع وهو نعمة من الله سبحانه وإحسان، والغصب إثم وخسران. وقد اعتمد ابن القصار، من أصحابنا، وغيره من أصحاب الشافعي على التعليل بظواهر أحاديث، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه" (¬2) وإذا أبقينا دقيق القمح المغصوب في يد غاصبه لم نجعل عليه رد ما أخذت يده. وكذلك قوله عليه السلام: "لا يحل مال امرى مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬3) فإذا قضينا لصاحب القمح بمثله بدلًا من الدقيقال في صار عن قمحه -ولم يكن فيه أكثر من تفريق أجزاء القمح- وأجزاءُ القمح لم يذهب عينها، وأعطيناه بدلها صونًا- استحللنا ماله بغير طيب نفس منه. وأصحاب أبي حنيفة يقابلون هذه الظواهر بما رواه عاصم بن كليب أن النبي عليه السلام: "كان في ضيافة رجل من الأنصار، فقدّم إليه شاة مصلية، يعني مشوية، فأخذ منها لقمة يلوكها، فلم يسغها فقال: "إن هذه الشاة تخبرني أنها ذُبحت بغير حق. فقالوا: يا رسول الله، إنها لجارنا ذبحناها لنرضيه بثمنها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أطعموها الأسارى" (¬4) فيقول أبو حنيفة وأصحابه: لولا أن تغير الشيء ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغييرات. (¬2) الترمذي: السنن: كتاب البيوع: باب ما جاء في أن العارية مؤدّاة: 544:2 حد 1266. (¬3) تقدّم تخريجه. (¬4) أحمد ابن حنبل: المسند: 293:5.

المغصوب يصيّره ملكًا للغاصب ويزيل ملك صاحبه ما أمر - صلى الله عليه وسلم - بصدقتها، بل كان يأمر بردّها إلى صاحبها الذي ذبحت بغير أمره، والصدقة بمال الغير لا تجوز إلا بوجه يستحق به ذلك عليه. وهذا الاستدلال كأنه في نفس هذا الأصل المختلف فيه. والاستدلال بقوله "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" وبقوله: "لا يحل مال امرى مسلم إلا عن طيب نفس منه" استدلال بعمومات ليس المقصود منها بأن حكم هذا الأصل الذي نحن فيه. فكان التعلّق بهذا الخاص أوّلا (¬1) من التعلق بالعام. وقد اختلفت معاذير أصحابنا وأصحاب الشافعي عن هذا الحديث. فقال بعضهم: إنه مرسل والعمل بالمراسيل فيه اختلاف بين الأصوليين. وهذا العذر إنما يقوله من لم يقل بالعمل بالمراسيل. وأجاب آخرون بأن الشوى مما لا يبقى بل يتغير ويفسد إذا مر زمن تغيّره، فلهذا لم يأمر برده على صاحبه إذ لعله كان غائبًا. وهذا أيضًا تأويل بعيد لأن الحكم في مثله أن يباع الطعام الذي يخشى فساده وصاحبه غائب عنه، ويوقف له الثمن فلا يتحقق هذا الحكم على ما استقر في الشريعة إلا أن يكون كسب صاحب هذا (¬2) الشاة خبيثًا، والكسب الخبيث يتصدق به وإن كره صاحبه. وهذه تأويلات، وإن بعدت، فإنها من الممكنات ولكن ليس في سياق الأكبر ما يدل عليها. وجملة الأمران من غصب شيئًا فأتلف عينه كقصب غصبه ثم أحرقه، أو ثوب غصبه ثم أحرقه، أو عبد غصبه فقتله، فإنه لا يختلف ها هنا أن الواجب على الغاصب بدل ما غصب، المثل أو القيمة .. وإن كانت العين لم تذهب، ولا تغيرت في سوق ولا بدن، لم يختلف في أنه لا يجب عليه البدل. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْلى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صاحب هذه.

فإن تغيرت فهاهنا يحسن الخلاف؛ لأن من حق صاحب الشيء المغصوب ألاّ يزال ملكه من يديه، وأفعال الغاصب كأنها من أملاكه فلا تزال أيضًا عن يده، فأي الأمرين يغلّب؟ رأى أبو حنيفة أن التغيير الذي يُذهب التسميةَ والمنفعة المقصودة، يحل محل ذهاب العين، فإنما يستحق على الغاصب البدل. ورأى الشافعي أن ذهاب العين بالعلم يستحيل معه التملك، إذ المعدوم لا يُتملك، ولا يتصور تملكه للغاصب ولا للمغصوب منه، فلهذا أوجب البدل وانتقال الاسم والمنافع مع بقاء العين ومنافع يتعلق بها الغرض، ويقع التشاحّ فيها، يوجب سقوط ملك صاحب الشيء المغصوب، ونقل ملكه إلى ملك الغاصب، مع كون فعل الغاصب كالفرع والشيء المغصوب كالأصل، وهو الجوهر، وفعل الغاصب كالعرض، والتغليب يكون للأصل على الفرع، لا للفرع على الأصل، وللجواهر على الأعراض لا للأعراض على الجواهر. وأما ضبط مذهبنا وما وقع فيه: فإن المغصوب إذا كان مكيلًا أو موزونًا مما فيه الربا، كالذهب والفضة والقمح، فغصب الغاصب ذلك فصنع من الفضة التي غصبها حليّا أو دراهم، أو طحن القمح فرده دقيقًا. أو كان المكيل والموزون مما لا ربا فيه، كالنحاس والحديد والقطن، فغصب حديدًا أو نحاسًا فصنع منه آنية، أو نسج من القطن ثوبًا بعد أن غزله، فإن في ذلك أقوالًا على الجملة: أحدها: أن الواجب فيه مثل الذي غصبه الغاصب، وتكون صنعته كالفوت لعينه. والقول الآخر: ذلك لا يكون فوتًا للعين، ولا يمنع صاحب الشيء المغصوب من أن يأخذ عين ما غصب له، وإن غيّره الغاصب بما ذكرنا. والقول الثالث: أن ذلك يكون مما فيه الربا فإن هذه الصنعة كالفوت فيه.

وعلل ذلك ابن القاسم وأشهب أن الحكم برده إلى صاحبه من غير أن يغرم عوض الصنعة، كان ذلك ظلمًا للغاصب، وإن أغرم قيمة الصنعة كان ذلك تفاضل أبي ن ما فيه الربا، فيكون صاحب الشيء المغصوب كأنه دفع فضة ومعها أجرة الغاصب وأخذ عنها دراهم. قال أشهب: وليس ذلك مثل القمح يُغصب، فيصيّره الغاصب سويقًا مَلْتوتًا، هذا مما يجوز فيه التفاضل. فأما ابن القاسم فإن طرد أصله في ذلك، وكان مذهبه يضاهي مذهب أبي حنيفة الذي يرى أن التغيرات على الشروط التي ذكرناها عنه، تصيّر الشيء المغصوب كالفائت المعدوم. وأما أشهب فإنه ذكر أن من غصب قمحًا فطحنه دقيقًا، فإن لصاحب القمح أن يأخذه من غير أن يُلزم غرامةَ أجرة الطحن. قال في قمح غصبه الغاصب فلتَّه سويقًا أن الحكم فيه غرامة الغاصب القمح. وهذا كأنه إن اعتبرنا مذهبه من ناحية ما قال في السويق صار كأنه يلاحظ مذهب أبي حنيفة، وإن اعتبرنا ما قاله في الدقيق يلاحظ مذهب الشافعي. وقد قدمنا أن أبا حنيفة يرى أن تغيّر العين لا يكون فوتًا فيها إلا بأن يفعل الغاصب فعلًا ينقل به الاسم ويبدله ويبدل أيضًا لمنفعة المقصودة، والمعنى المطلوب الذي خلق الشيء له، فيقول بأن الدقيق لا يسمى قمحًا وكذلك القمح لا يسمى دقيقًا إلا مجازًا واستعارة له اسم المال كما قال تعالى عن صاحب يوسف: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (¬1) فسمى العنب خمرًا لأنه يؤول إلى الخمر. وكذلك المنفعة المقصودة والمعنى الذي خلق الشيء له، والصورة والشكل، قد يتبدل كله، والقمح صورته غير صورة الدقيق، واسمه غير اسمه، والمعنى الذي خلق له، وهو احتكاره قوتًا، وزراعته في الأرض، لا يوجد ذلك في الدقيق. فلعل أشهب رأى أن هذه الأوصاف تحصل في السّويق، ولا تحصل في الدقيق، ¬

_ (¬1) يوسف: 36.

لقرب ما بين الدقيق والقمح من المنفعة، وكأنه هو الطريق إلى تصيير القمح قوتًا، وهذا بخلاف السويق. وما ذكرناه عن أبي حنيفة من أنه يراعي تبدل الأسماء، قد قاله أصحابنا. وذلك أن أشهب فرق بين من غصب ثوبًا فصبغه، أو قطعه وخاطه، فقال: يرد ذلك على صاحبه إن شاء، بخلاف أن يصير القمح سويقًا لأن الثوب، وإن صبغ وقطع، فالاسم عليه قائم ويسمى ثوبًا، أبيض كان أو مصبوغًا، بخلاف السويق فإنه لا يسمى قمحًا. وهذا (¬1) قال سحنون أيضًا: كلما غُير حتى انتقل اسمه فإن ذلك فوت. فأنت ترى هذين من أئمة أصحابنا اعتبرا تغير الاسم كلما (¬2) اعتبره أبو حنيفة. وقد وقع لهم أيضًا في التفرقة بين من غصب خشبة فصنَعَها بابًا، وبين من غصب خشبة فبنى عليها، تعليل آخر. وذلك أنه قال: إنما حكمنا بأن يبقى التاتوب (¬3) للغاصب ويغرم قيمة الخشبة؛ لأنه صنع شيئًا لا يقدر على ردّه إلى هيئته. وقد وقع لابن الماجشون في كتاب ابن حبيب أن من غصب ثوبًا فصبغه أو فضة فصاغها، أو قمحًا فطحنه، فإن يرد إلى صاحبه، ولا حجة للغاصب بأن يقول: يُتْلف علىّ صنعتي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس لعرق ظالم ... " (¬4) وقد وقع أيضًا لعبد الملك بن الماجشون في المبسوط أن الغاصب إذا صنع فيما غصب شيئًا يسيرًا، فإن صاحب الشيء يأخذه، ولا يغرم قيمة الصنعة. وإن صنع فيه شيئًا كثيرأوافى ثمنَه، فإنه لا يأخذه حتى يدفع قيمة الصنعة، أو يضمن الغاصب ما غصبه، أو يكونا شريكين. وفي الشركة قولان: أثبتها ها هنا عبد الملك، ونفاها ابن القاسم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذا، وقال .... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كَمَا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التابوت. (¬4) تقدم تخريجه.

وكذلك اختلف فيما فعله الغاصب إذا كان له طلب عوضه، هل يعطَى قيمة صنعته، أو يعطى ما زادته صنعته في الثوب المصبوغ، وما في معنى ذلك مما يفعله في الشيء المغصوب، وكأن ما يقعله الغاصب في الشيء المغصوب، إن كان مما يُتملك وأضافه إلى الشيء المغصوب، كحجر له يبنيه في أرض غصبها، فإن حقه لا يسقط من عين الحجر إلا بعوض إذا كان أُسلِم (¬1) إليه انتفع به. وإن كان أضاف إلى الشيء المغصوب ما يتملك، وهو عين مرئية مشاهدة، ولكنها لا تتميز من الشيء المغصوب، ولا يمكن تفرقتها منه كالصباغ، فإن ابن القاسم (¬2) أن صاحب الثوب لا يمكّن من أخذه إلا بعد أن يعطي عوض الصباغ، قياسًا على الحجر التي هي عين قائمة ولكنها تتميز. ورأى أشهب وعبد الملك أن صاحب الثوب يمكّن منه من غير أن يدفع عوض الصبغ، قياسًا على ما يحدثه الغاصب مما ليس بعين قائمة، ولا مما يتميّز بالتفرقة بينه وبين الشيء المغصوب، كالنقش والتزويق فصار الصباغ كفرع بين هذين الأصلين. والجواب عن السؤال الحادي عشر (¬3) أن يقال: إذا غصب الرجل غرسًا فغرسه في أرضه، وفعل ذلك غصبًا أو تعديًا، أو فعل ذلك على وجه شبهة إما بإدلال على صاحب الغرس، ومثله يشبه أن يدلّ عليه، أو يشري ممن يُظن بأنه باعه من ذلك ما يملك، فإن المذهب متفق على أن هذا الغرس يردّ لصاحبه، وإن ثبت في أرض الذي نقله إن كان بحدْثانِ أخذِه. ولا يفترق في هذا الحكم الغاصبُ والمدلُّ والمشتري. وإن طلبَ صاحبه أخذه بعد زمان، وزيادة نماء، افترق حكم الغاصب من حكم المدلّ والمشتري، فيمكّن صاحب الغرس من قلعه في أرض الغاصب الذي غصبه له، ولا يمكن من قلعه من أرض المدل والمشتري، لكن يُلزمان بان يدفعا لصاحب الغرس ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [إنْ] أسلم .... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [يرى]، أنّ .... (¬3) هذا جواب عن السؤال التاسع في تعداد الأسئلة.

قيمته قائمًا إن لم يختر أخذ عينه. ولو كان الغصب في غصن أخذه من شجرة، فأنبته في أرضه، وثبت فيها وطال زمانه، فإن المذهب متفق على أنه لا يؤخذ من يد غارسه، كان غصبًا أو مدلًا أو مشتريًا. وإن طلبه صاحبه بحدثان ذلك أخذه، فيفترق ها هنا حكم الغاصب والمشتري والمدلّ: فيقلع من أرض الغاصب، ويبقى في أرض المشتري والمدل، ويغرمان قيمته مقلوعًا. وكأن هذا المعنى يُلتفت فيه إلى ما سنذكره، إن شاء الله تعالى، فيمن غصب أرضًا فزرعها. وذلك أن نماء هذه الشجرة لم يكن من مجرد ذاتها بنفسها، ولا من مجرد ذات الأرض، وإنما كان النماء بمجموعهما: الأرض والشجر. ومقدار ما كان من كلِّ هذين من النماء لا يتميز، أو لا يوقف على حده، وإذا لم يوقف على حده وجب إضافة النماء إلى أوْلاهما. بالتأثير (¬1) بالغرس إذا أخذ في النماء وطال زمان ذلك، كانت إضافة النماء فيه إلى نفسه أوْلى من إضافتها إلى الأرض، فلهذا يقلع من أرض الغاصب. وطَرْد هذا التعليل يقتضي أن تقلع من أرض المدلّ والمشتري وإن طال الزمان، لكن قال عليه السلام "ليس لعرق ظالم حق" (¬2) والغاصب ظالم فلم يكن لتنميته أرضه حق، والمشتري والمدل غير ظالمين فكان لعرقهما حق، فلهذا أُبْقِي إذا طال الزمان. وأما إذا قصر فكأن عين الغرس لم يتغير فيكون المستحق له أوْلى بعينه. وأما مَلْخُ عود من شجرة فإن إضافة التنمية إليه بتعدّ ولا تتصور إلا بعد واسطة، وهو أن يعرق ويطول مقامه في الأرض، فلذلك يأخذ في الارتجاع والنماء، فلهذا كان حكمه غير حكم الغرس. وقد عارض بعض المتأخرين ما وقع في الرواية في هذه المسألة: من أخذ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فالتأثير. (¬2) تقدم تخريجه.

غصنًا ملْخًا من شجرة على جهة الإدلال بغير (¬1) قيمته مملوخًا، وإن كان أهونَ (¬2) قلعُه الشجرةَ كان عليه غرامة ما نقص من قوة الشجرة. ورأى أن المطالبة بالنقص تغني عن قيمة العود. وهذا لأن كلَّ أمرين متباينين لا يتضمن أحدهما الآخر لا تكون (¬3) غرامة أحدهما وتقويمُه عن تقويم الآخر وغرامته. فإذا كانا متلازمين، لا ينفك أحدهما عنْ الآخر، فكان تقويم نقص الشجرة بالرهن (¬4) الذي حدث فيها يدخل فيه تقويم الملخ الذي أخذ منها. وقد اضطرب المتأخرون فيمن اكترى دابة إلى مسافة معلومة فتعدى المسافة بأميال يسيرة لا يجب عليه لتعديه قيمة الدابة، فإنه إنما يغرم كراء الأميال التي تعدى. ولو أحدث في الأميال، التي تعدى فيها، بالدابة عيبًا تلزمه غرامة ما نقص، فإن بعض الأشياخ رأى أن هذا العيب إن كان بسبب التسيير لم يطلب بغرامتين: غرامة الكراء وغرامة النقص؛ لأن أحدهما قد تضمن الآخرَ. فإن كان العيب من غير جهة التيسير (¬5) طلب بالأمرين: الكراء وقيمة العيب الذي حدث. وهذا نحو ما نبهناك عليه من مراعاة تضمن شيء لشيء. وإن كان بعض الأشياخ رأى أن المطلوب كراء التعدي، ولكن إذا استقر وعلم مبلغه قُوّم العيب الحادث، وحُطَّ من الكراء بمقدار ما حَطّ العيب من قيمة الدابة كلها. فإن كان قُوِّم الكراء بخمسة دنانير، وحَطّ العيبُ الخمسَ من قيمة جميع الداب، (¬6) من الكراء خمسُهُ، لأن الدابة لا يضمن مَن سيَّرها متعديًا عليها جميعَ قيمتها (¬7) ثمَّ التعدي عليها لم يلزمه الكراء. فكذلك إذا ضمن قيمة جزء منها لم يلزمه ما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [يُقوَّمُ] بغير ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أَوْهن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: تغنى. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: بالوَهن. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: التيسيير. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [حُطَّ] .... (¬7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [و] ثمّ ....

ينوب ذلك من الكراء قياسًا للجزء على الكل. وفي الموازية فيمن غصب دجاجة فحضن تحتها بيض غيرها، فإنه يطالبه صاحب الدجاجة بأجرة الحضانة. وربما نقصت الحضانة من قيمتها. وعارض هذا بعض المتأخرين، وأشار إلى أن الطلب بقيمة النقص الذي حدث لأجل الحضانة يعني (¬1) عن الطلب بأجرة الحضانة، لأن الأجرة داخلة في قيمة عين النقص الذي حدث لأجل الحضانة. وبعض أشياخي يشير إلى أن هذا أيضًا إشارة إلى (¬2) الغاصب لا يضمن جميع القيمة بالعيب اليسير إذا حدث في الشيء المغصوب. وقد قدمنا الكلام على هذا. والجواب عن السؤال الثاني عشر (¬3) أن يقال: أما خلط الغاصب ما غصب بشيء من مال نفسه، فإنه لا يخلو من أن يكون خلط بنوع آخر، أو خلط نوعًا بمثله. ولا يخلو أيضًا هذان القسمان من أن يكون المختلط من مال الغاصب بالشيء الذي غصبه مما يمكن تمييز بعضها من بعض، أو لا يمكن. ثم أيضًا يقسم ذلك كله على قسمين من جهة أخرى، وهو أن يكون المختلطان لا تفسد أحدُهما الآخرَ، أو يكون يفسد كل واحد منهما صاحبه، أو يختص الإفساد بأحدهما. فإن خلط الشيء بخلافه، وهو مما يتميز، ولا يُفسد أحدهما الآخر، فإن الغاصب يكلّف تمييزَ بعضها من بعض، ليُمكنه ردّ ما غصبه بعينه على حاله. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُغْنِي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [أَنَّ] الغاصب .... (¬3) هذا جواب عن السؤال العاشر، في تعداد الأسئلة.

وذلك كخلط جوز بقمح، أو رمان يجوز، أو تفاح بالترنج، فإن الغاصب يكلف تمييز ما غصبه مما خلطه به، ليتمكن من رده إلى صاحبه. وإن لم يمكن التمييز إلا بخسارة إجارة، أو غير ذلك، فغرامة ذلك على الغاصِب، لأنه ظالم، وفعل في مال غيره، تعديًا منه، ما أحوجه إلى إجارة يغرمها في تمييزه. ولكن يجب أن تُعتبر هذه المشقة في التمييز. فظاهر مذهبنا أن المشقة إذا عظمت، والخسارة إذا كثرت، حتى كاد ذلك بري (¬1) على قيمة المخلوط، فإن ذلك يصيِّر المخلوط في معنى الهالك التالف، ولهذا قال أصحابنا: إذا خلط الغاصب قمحًا بشعير ضمن لصاحب القمح مثل قمحه، ولصاحب الشعير مثل شعيره. ولم يقولوا: يُكلَّف الغاصب التمييزَ. وبعض أصحاب الشافعي ذكر هذه المسألة، ومثل بالقمح والشعير، وجعل الحكم فيه التمييز. وهذا عندي قد لا يختلف فيه، إذا عظمت المشقة حتى كاد التمييز يستحيل، أن ذلك في معنى الهالك. وإن قلا (¬2) الطعام حتى يمكن تمييزه، ولكن بعد مشقة، فإن ذلك مما لا يمتنع أن يكون الواجب تمييزَه. وأما إذا كان أحدهما يفسد الآخر، فوقع الإفساد فلا شك في التضمين، ووجوب الغرامة على الغاصب. وإن لم يقع الإفساد، ولكنه تعدى في غلط (¬3) ما يسري إلى الإفساد، فضاع قبل أن يفسد، وليس بغاصب، فيضمن بمجرد الغصب. فإن أشهب ذهب إلى تضمين هذا المتعدي في الخلط بمجرد الضياع وإن لم ينته الأمر إلى الفساد. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُرْبِي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قلَّ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خَلْطِ.

وأنكر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد هذا وقال: كيف يضمن، ومجرد الخلط لا يوجب ضمانًا والفساد لم يقع؟ وهذا الذي استبعده الشيخ أبو محمَّد من قول أشهب ربما ظهر له وجه يليق بالمذهب. وقد ذكر في المدونة، فيمن اكترى على حمل دُهن، فشده الحمّال بحبال ضعيفة، فهلك وقد خرج به، ووصل العريش فهلك حينئذٍ، أنه يضمن قيمة (¬1) يومَ شدَّه لا يوم هلكَ. وقدر أنه لما فعل ما تعرض به إلى هلاك الشيء صار ضامنًا له بتعريضه للهلاك وإن لم يهلك. وقد يُقوَّى هذا القول بالمترقَّبات إذا وقعت كأنها واقهعة من يوم السبب الذي أوقعها، وحصلت عنده. على أن مسألة العريش قد وقع فيها ما نتخوفه من الضياع بسبب قد تقدم. والذي ذكره أشهب لم يقع بالتخوف منه من الإفساد بالخلط، لكنه إذا أضيف إليه التعدي لحصول السبب، صار ضامنًا وإن لم يحصل السبب. على أن الذي قاله الشيخ أبو محمَّد أظهر. وأما إن خلط الشيء بمثله، مثل أن يخلط زيتًا بمثله، فإن في هذا اختلافًا: هل من حق المغصوب منه الزيت أن يأخذ الزيت الذي غُصب له من عين هذا المخلوط، أو ليس له ذلك وإنما له مثل ما غصب؟ فمذهب أشهب أن له الأخذ من عين الزيت المخلوط و (¬2) يترك ذلك ويقبل ما يعطَى من غيره مما هو مثل ما غصب له. وذلك أنه قال، في رجل خلط زيتين لرجلين غصبهما منهما جميعًا، فضاع بعض الزيت، قال أشهب: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيمته. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

هو ضامن لما ضاع ولما بقي، وصاحب الزيت إن شاء أخذ ما يقي من الزيت الذي لم يضع أو تركاه. فجعل أشهب لهما الاختيارَ في أخذ حقهما من غير هذا المخلوط. وبهذا قال بعض أصحاب الشافعي. وذهب الشافعي إلى أن الغاصب مخيَّر أن يعطي الزيت، إذا خلطه الغاصب بزيت نفسه، مكيلةَ ما غصب له من غير هذا المخلوط، أو يعطيَه مثله .. وسبب هذا الاختلاف أنه قد تقرر أن من غصب مكيلا فعليه مثله، وإن غصب عينًا وجب عليه ردَّها بعينها على الجملة. فهل خلط هذا الزيت بغيره يصيّره كأنه ليس بعين الزيت المغصوب، لأنه إذا أعطى صاحبَ الزيت المغصوب من الزيت المخلوط فإنه لم يعط عين زيته صار كمن غصب زيتًا مكيلًا فأكله، فإنه مثله (¬1). وقدر أشهب وبعض أصحاب الشافعي أنه معلوم قطعًا أن عين الزيت المغصوب لم تذهب عينه، وإنما اختلط بعين أخرى على وجه لا يتميز بعضها عن بعض، فإذا امتنع المغصوب زيته أن يأخذه من عين هذا الزيت المختلط، مع العلم بأن الذي يعطاه فيه آخرًا هو عين زيته، كان تمكينه من هذا أوْلى من صرفه عن عين زيته إلى مثله، هذا إذا تساوى الزيتان في الطيب. وأما إن كان أحدهما أجود من الآخر مثل أن يغصب الغاصب زيتًا جيدًا فيخلطه بزيت دنيء أو يغصب زيتًا دنيئًا فيخلطه بزيت جيد، من زيت هو له، فإن الحكم، على أصل مذهبنا، أن يغرم مثل الذي غصب كان أدنى من زيته أو أجود. وقال ابن القاسم من غصب قمحأ فخلطه بشعير له، إنه يضمن مثل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنه يعطي.

المغصوب. وقدر أن خلط الجيد (¬1) والدَّني بالجيد كفوت العين، والعين إذا فاتت غرم مثلها. وقال بعض أصحاب الشافعي: أما إن غصب زيتًا دنيئًا فخلطه بزيت جيد من زيت له، فإن له أن يعطي المكيلة المغصوبة من غير هذا الزيت المخلوط. ويجبر صاحب الزيت المغصوب على ذلك منه لأنه أُعطي أفضل مما أُخذ له. ولم يراع من ذهب إلى هذا المذهب أنه صار كالواهب لغيره، فلا يجبر الموهوب له على قبول الهبة، لأجل أن الجودة الحادثة في الزيت الدّنِيّ المغصوب لسبب (¬2) بعين متميزة فيقدر أن من حق الموهوب ألاّ يقبلها، وإنما هي كصفة حدثت في المغصوب زادته جودةً، فإذا سلمها الغاصب فلا يُمكّن المغصوب له من الامتناع من القبول. وإن امتنع الغاصب من أن يعطي المغصوب له من عين هذا الزيت لم يجيز (¬3) على أن يغرم للمغصوب له من هذا الزيت. ولم يلتفت أيضًا صاحب هذا المذهب إلى الغاصب كمحدث صفة في الشيء المغصوب ليست بتميزه (¬4)، ولا عين (4) قائمة، فيكون له أخذ المكيلة التي غصبها من عين هذا الزيت، وإن امتنع الغاصب من ذلك، كما نقول نحن فيمن غصب دارًا فزوّقها: إن صاحب الدار يأخذها بتزويقها، وليس للغاصب أن يمنعه من ذلك. وكما نقول، في أحد القولين، فيمن غصب ثوبًا فصبغه: إن لصاحب الثوب أن يأخذه، من غير أن يغرم عوض الصباغ. وعندي أن أصحاب هذا المذهب مذهبهم أن تزويق الغاصب لا يُؤخذ منه بغير عوض. ولو كان الغاصب غصب زيتًا جيدًا فخلطه بزيت دنيء لكان الخيار ها هنا للمغصوب منه الزيت، عند هؤلاء، إن شاء (¬5) عن جود زيته، وأخذ من غير (¬6) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: بالدنيّ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ليْسَتْ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُجْبَر. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: متميّزةً .... عينًا. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: إن شاء [عفا] (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عين.

هذا المخلوط، وإن شاء لم يعف وغرم للغاصب مكيلة زيته في جودته. ومن أصحاب الشافعي من يرى في المسألتين جميعًا أن الزيت المختلط يباع ويقسم ثمنه على نسبة القِيَم الجيّد والدّنيء من الزيتين. وهذا قول ابن القاسم في غاصب غصب قمحًا من رجل وشعيرًا من آخر فخلطهما جميعًا، ورفع الضمان عن الغاصب، فإنه يباع الطعامان، ويقسم ثمنهما على قيمة القمح، فإن كان قيمة القمح دينارين، والشعير دينارًا، بيع المختلط وقُسم على الثلث والثلثين. وهذه المسألة مشهورة (¬1) عندنا الاختلاف في حكمها، ووقعت فيها من الروايات ألفاظ قد يشكل بعضها، ويوهم أن يكون خلافًا. وتلخيصها أنّ (¬2) صاحب القمح والشعير إذا أَراد أن يستبدّ بالمخلوط ولا يُغرم كلُّ واحد منهما الغاصبَ بمثل ما غصب له، فإن هذا لا يمكَّنان منه عند سحنون ويمكنان منه عند ابن القاسم وأشهب وقد تأول سحنون على أشهب أنهما (¬3) يمنعهما من رفع التعدي، من مسألة سنذكرها. ووقع لأشهب أنهما إذا رفعا التعدي، وتضمين الغاصب، اقتسما المخلوط على مقدار كل واحد منهما، إذا رفعا العداء تراضيًا بذلك؛ لأنهما إن اقتسماه على التفاضل ووقعا (¬4) في الربا وبيع الشعير بالقمح والقمح بالشعير متفاضلًا، وذلك لا يجوز. فإن رفعا العداء على أن يكونا شريكين بقيمة مالك ل واحد منهما لم يجز ذلك عند أشهب، وأجازه ابن القاسم قولًا مطلقًا. لكن تأوله الأشياخ على أن المراد بإجازة ذلك حصول الشركة في المختلط لا أكثر، ولكن المفاضلة فيه بالتقويم على أنه لا يباع يوقع في الربا، كما قدمناه، والشركة فيه على أنهما يقتسمان ثمنه بعد عينه (¬5) على حسب القيم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مشهورٌ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أن [كلًّا من] .... (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف واو العطف. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بيعه.

لا ربا فيه. ويؤكد ما تأولُوهُ أن ابن القاسم على ما رواه أبو زيد عنه، أن هذا المختلط يباع ويقتسمان الثمن على القيم. وروى عيسى عنه في العتبية، فيمن خلط قمحًا بشعير تعديًا، وذهب فلم يُعرَف، قال: يباع ويقسم الثمن على القيمة. واستحب أن لا يقسماه على الكيل. فأما سحنون فإنه لما منعهما من رفع التضمين للغاصب إلى أن الخلط كالإِفات للعين، فإنما يجب لهما على الغاصب مثل ما تلف على كل واحد منهما، ولا يلزم تسليم المختلط لأنه صار بالخلط كالفائت العين، ولهذا قال سحنون، فيما ذهب إليه: والتمثيل لهذه المسألة في رجل غصبه خشبة، وغصب نجارًا عملها: أن النجار وصاحب الخشبة لا يكونان شريكين فيهما، وإنما الواجب فيها القيمة على الغاصب. فهذا قد يشير إلى منعهما من رفع العداء لحق الغاصب ألاّ يُؤخذ منه غير ما وجب عليه. وعند ابن القاسم وأشهب أن التضمين للغاصب حق لهما، ومن له حق فله إسقاطه. وان تصوِّر في هذه المسألة، مع كون الحق لهما في التضمين، حقُّ الله سبحانه، فإنما يُتصوَّر ذلك في أنهما إذا ملك كل واحد منهما أن يأخذ مثل ما أُتلِف عليه، فعدل عن ذلك إلى القناعة بأن يباع المختلط ويأخذ من ثمنه بمقدار قيمة ما أُتلف عليه، صار ينتقل عن معلوم يأخذه إلى مجهول، وهو الذي ينوبه في التقويم، ومن ملك معلومًا فليس له أن يعدل عنه إلى مجهول، لأن ذلك غرر، والغرر ممنوع. على أن هذا الأصل فيه اضطراب في المذهب، فمن ذلك ما ذكروه في الاستحقاق لأكثر الثياب المبيعة: أنّ المشتري له رد بقية الصفقة، ويأخذ ثمنه الذي هو معلوم، وليس له التمسك ببقية الصفقة لقيمة (¬1) ما تمسك به، لأنه انتقل من أخذه الثمن المعلوم إلى تمكينه بقيمة مجهولة .. هذا هو المشهور. وإن كان عندنا فيه خلاف. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقيمة.

ولو ضمن الغاصب أحد هذين الرجلين مثل ما خلط له، وقال الآخر: أَبْقَى معك شريكًا، ولا أُزَال عن عين مالي، فقد وقع لأشهب أن هذا لا يمكن من الشركة. وظاهر قوله أن ذلك لأجل حق الغاصب ألا يشاركه في المختلط وإنما له بعضه. ووقع في غير هذا الموضع ما يشير إلى أن ذلك ممنوع لحق الله تعالى. ولو قال أحدهما لصاحبه: أنا أغرم لك مثل ما خلطه الغاصب، وآخذ المختلطَ كلَّه، فإن أشهب قال: لا يجب ذلك في القضاء ولكن بالتراخي (¬1) يباح لهما. قال يحيى بن عمر: على أنهما لا يفترقان قبل التقابض. ووقع لأشهب في موضع آخر أن ذلك لا يُعلم ولا يَجوز لأن هذا إنما رفع الضمان عن الغاصب أن يأخذ بدل قمحه قمحًا وشعيرًا، ويغرم عن الغاصب لصاحب الشعير الذي أُتلف عليه. فأشار إلى أن للبارى سبحانه في ذلك حقًا. ولا يتصور للبارى سبحانه في ذلك حق عندي، إلا من ناحية الانتقال عن معلوم إلى مجهول، أو من ناحية الوقوع في التفاضل الذي هو ربا محسوس، أو الربا المقدّر في منع نوع بنوع آخر، على ما بسطناه في كتاب السلم، ولعلنا أن نعيد الكلام على هذه المسألة بأبسط من هذا في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى. ومما يلحق بما نحن فيه، وإن كنا قد تكلمنا عليه في جملة أجملناها: من غصب ثوبًا فصبغه، فإنه إن كان الصباغ إذا غُسل خرج منه ما يَنتفِع به الغاصب، وطلب الغاصب استخراجه، فإنه يمكّن من ذلك، ولكن لرب الثوب أن يدفع إليه قيمة ما يستخرج من الصباغ، ويبقى ذلك في ثوبه، وإذا كان لا منفعة له في ذلك (¬2). وهكذا قال ابن مسلمة، من أصحابنا، وهو قياس المذهب، ألا ترى قولهم في غاصب غصب أرضًا وبنى فيها بناء: إن لرب الأرض أن يأمره بقلعه، وإن شاء أعطاه قيمة البناء مقلوعًا، بعد أن يحطّ أجر القلع، لئلا يكون الغاصب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالتراضي. (¬2) هكذا فيْ النسختين، ولعل الصواب إضافة: فَلاَ.

(قد أبطل تلفيقًا له قيمة ولا منفعة له في إبطاله) (¬1) ولصاحب الأرض به انتفاع إن بقي، وهذا إضرار لا يمكّن منه، ولصاحب الأرض أن يقبل هذا الإضرار ويأمره بإزالة ما بني في أرضه. وإن كان الصبغ لا يُنتَقَص منه شيء إن غُسل ففي ذلك اختلاف في المذهب: المشهور عن ابن القاسم أن ذلك ليس بفوت للثوب المغصوب، ولصاحب الثوب أن يأخذه. وروي عن ابن القاسم أن ذلك كالفوت، وللغاصب أن يعطي لرب الثوب قيمته غير مصبوغ، على حسب ما أخذه وكأنه قدر أن ذلك كالفوت لعين الثوب. واعلم أنه لا بد ها هنا من بيع ملك أحدهما على صاحبه مراعاة لملك الآخر، فأيّ الملكين أو لا (¬2) أن يباع على صاحبه؟: المشهور من المذهب أن مالك (¬3) الغاصب هو الذي يباع عليه، ويؤخذ منه باطلًا (¬4) بغير عوض، لأجل أنه عِرق طالق (¬5) والغاصب الذي غصب ظالم، والظالم أحق أن يحمل عليه، ولقوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬6) وكأن من ذهب إلى أن ذلك فوت في الثوب غلّب ها هنا حق الغاصب في أنْ لا يباع عليه، أوْ يُفْعل به ما هو أشد ضررًا، وهو أن يُؤخذ منه الصباغ باطلًا بغير عوض، لأجل أن الثوب قد تغير بفعل الغاصب أخيرًا أنال (¬7) المنفعة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْلى. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِلْك. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بإِطْلاقٍ. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ظَالم. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَزَالَ.

المقصودة منه وهو اللبس، والجمهور لا يلبسون الثياب المصبوغة إلا بعض الأقطار. لما رأى الشافعي التفاوت بين هذين الحقين لم يبع على صاحب الثوب ثوبه بغير اختياره، ولا على الغاصب صبغه بغير اختياره، فقال: إنهما شريكان في الثوب المصبوغ: صاحب الثوب بقيمته أبيضَ، وصاحب الصبغ بقيمة صبغه. وإذا قلنا بالمشهور من مذهبنا، وهو أن حق صاحب الثوب مقدم في أن لا يزال ملكه من يده بغير اختياره فإذا مكناه من أخذه فهل عليه أن يبذل عوضًا بدل الصبغ؟ اختلف المذهب فيه: فقال ابن القاسم: عليه أن يبذل عوضًا عن ذلك. وعلى ما كنا حكيناه عن المبسوط من أنه إذا كانت المنفعة كثيرة لم يأخذه حتى (¬1) عوض الصنعة، أو يكونا شريكين. وكأنه ها هنا (¬2) بين اليسير والكثير تغليبًا لأحد الضررين ففي الإنفاق الكثير يشتد الضرر بالغاصب إن أُخذت صبغته بغير عوض، وفي اليسير يخف ذلك. وكأن من قال لا يأخذ الثوب حتى يأخذ قيمة الصبغ قدّر ذلك كعيْن قائمة، ولكنها، مع كونها عينًا قائمة، لا تتميز عن الثوب المغصوب، فهل يجب على آخذ الثوب عوض هذه العين بأن كانت لا تتميز، كما يجب عليه إذا أبقى بناءَ الغاصب في أرضه أن يعطيه لكونه عينًا قائمة؟ ولكنه يمكن ها هنا تميزه عن الأرض. أو يقال: إن الصبغ، وإن كان عينًا قائمة لا تتميز، فأشبه ما فعله الغاصب من الآثار التي ليست يأعيان كتلفيق (¬3) البناء والتزويق والتجصيص وشبه ذلك، فإنه لا يُعطى الغاصب عوضه. ولو غصب الغاصب ثوبًا من رجل وغصب منه نيلًا فصبغ به الثوب لكان ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: يبذل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: فرّق. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كَتَلْيِيق.

من حق صاحب الثوب والنيل أن يطلبه بعوض كل واحد، ويأخذهما بأعيانهما، ولا يدفع إليه الصبغ لأنها كأخذه التلفيق في الحجر إذا بناه. وإن طلب أخذ العين، وقيمتها ناقصة عن قيمة كل واحد من الصباغ والثوب إذا جمعا، فهل له طلب النقص في أخذ العين؟ يجري على الخلاف، الذي قدمناه، في غاصب غصب عبْدًا، أو (¬1) طرأ عليه نقص يسير، فطلب أخذ عينه فهل له مطالبة النقص أم لا؟ فيه القولان المتقدمان. ومما يلحق أيضًا، لو غصب أرضًا فبنى فيها، أو غرسها، فمذهبنا أن لصاحب الأرض أن يأمر الغاصب بالقلع، أو يعطيه قيمة النقوضر بعد أن يحط أجر القلع. وعند أبي حنيفة أن الغاصب يملك الأرض بغراستها وبنائها، وتلزم قيمتها، بناءً على أصله أن الأرض قد فاتت، فعليه عوضها لتغيّر الاسم، كانت تسمّى براحًا أو أرضًا، فصارت تسمى دارًا أو بستانًا. والمنفعة المقصودة أيضًا قد تغيّرت. وقد مضى الكلام على هذا وضبط مذهب الشافعي فيه. ولو أن الغاصب لما غصب الأرض حفر فيها بئرًا، أو مطمورًا، فإن لرب الأرض، إذا استحقها منه، أن يأمره بردم ما حفر ليزيل ضرر الحفر عنه، وله أن يُبقي الحفر ولا يطالبه بردْمه. (ولو قال له الغاصب: لا بد أن تردمه وإن لم تختر صاحب الأرض) (¬2) فإن ظاهر مذهبنا، ومذهب بعض أصحاب الشافعي، أنه لا يمكن من ذلك، إذ فيه زيادة إضرار به من غير غرض له في ذلك، وربما مُنِعَ صاحب الأرض من غرضه ومنفعته ببقائه محفورًا. ومن أصحاب الشافعي من ذهب إلى أن من حق الغاصب ذلك، وصور له ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَ. (¬2) هكذا في النسختين.

في ذلك غرضًا بأن قال: قد يسقط إنسان أو بهيمة فيُطلب الغاصب بضمانه .. ونوقضوا هؤلاء في هذا بان قالوا: لو غصب نُقْرة فضة، فصنعها دراهم فأراد رب الدراهم أخذها، فمنعه الغاصب من ذلك، وقال: لا تأخذها حتى أسيّلها، وأردّها نقرة كما كانت. فإنه لا يمكّن من ذلك لأنه إضرار بمالك الشيء من غير عوض الغاصب (¬1) في ذلك. وأجابوهم عن ذلك بأن حفر البئر قد بينا أنه قد يتصور للغاصب غرض ومنفعة في ردمه، ورد الدراهم نقرة لا يُتصور فيها غرض أصلًا. على أنه قد يجابوا عن غرض الغاصب بأن يقال: إذا رضي صاحب الأرض ببقائها محفورة، والتزم ضمانَ ما سقط فيها، فقد يرتفع ما صورتموه من غرض الغاصب في ردمها. وهذا أيضًا فيه اضطراب من أصحاب هذه الطريقة في رفْع عوض (¬2) الغاصب بانتقال الضمان عنه إلى صاحب الأرض. والكلام فيه يتسع في اشتراك رجلين في فعل أتلف حيوانًا، أحد الفعلين مباشر للتلف، والآخر سبب في التلف. (وقد يقال الغاصب قد نطلب ولا ينفعني ضمانك لقيتك أو يقرك) (2). ولو كان الذي حفر البئر والمطمر حفر ذلك بوجه شبهة في أرض اشتراها، فإنه إذا استحقت من يديه طلب المستحقّ بقيمة ما أحدث فيها. ولكن الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد، رحمه الله، حمل هذه الرواية على أن المشتري طَوَى التي حفر بحجارة فهي التي تقوَّم. وخالفه بعض المتأخرين، ورأى أن المشتري له المطالبة بقيمة ما فعل في ذلك من منفعة وعمارة بخلاف الغاصب. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غرضٍ للغاصب ... (¬2) هكذا في النسختين.

وهذا الاختلاف عندي يرجع إلى اختلاف المتقدمين من أصحاب مالك في مشتر اشترى قمحًا فطحنه فأخذه المستحق من يده، فقيل: ليس على المستحق أجرة الطحن، لأنه ليس بعين. وقيل: بل عليه أجرة الطحن. وسنبسط هذا في كتاب الاستحقاق إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثالث عشر (¬1) أن يقال: إذا غصب مسلم من مسلم خمرًا فأراقها، فلا ضمان عليه، لأنه فَعَل الواجب من الإراقة التي كان مخاطبًا بها مَن هي في يديه. ولو أمسكها حتى تخللت لوجب عليه أن يردها لمن غصبها منه، لأنها، وإن كانت حين الغصب حرامًا، ليست بمال للمسلم الذي غصبت منه، فقد عادت خلاًّ إنما (¬2) يتمولها المسلم الذي غصبت منه، فوجب أن يرد إليه. ومن متأخري حذاق الأشياخ من خرج فيها خلافًا فقال: من أوجب من أصحابنا إراقتها وإخراجها من يد المسلم، ومنعه من إمساكها ليخللها، أشعر ذلك بأنه غير (جائزاها) (¬3) ولا يد له عليها، فإذا غصبها منه مسلم عنده بقيت ملكًا للمسلم الغاصب الذي تخللت عنده، لأنها، وإن لم يصح وضع اليد عليها وإمساكها للتخليل لا للأول ولا للثاني، فإنّها، يوم صارت خلًا، يصح حوزها وبقاء اليد عليها، فصار الغاصب التي هي تحت يديه يوم تخلّلت كمن وضع يده على طائر لا يحوزه أحد. فأما من لم يوجب إراقتها على من حبسها للتخليل فإنه يقدّر أن من هي في يديه حائز لها، فإذا تخللت في يد الغاصب رُدت إلى الحائز الأول. وهذا الذي قاله هذا الشيخ أبو الطيب عبد المنعم ينظر إلى ما اعتل به ¬

_ (¬1) هذا جواب عن السؤال الحادي عشر في تعدَاد الأسئلة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَائزٍ لَهَا ....

ابن القاسم لما قال: إن مالكًا قال إن احتوى عليها فخللها فإنه يتملكها. وقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد، رحمه الله،: إنما كانت، إذا تخللت، لمن غصبت منه، لأن الغاصب لم تكن له فيها صنعة توجب أن يملكها بها. وهكذا يقول الشافعي إنها ترد إلى الأوّل. وقد ذكرنا نحن مذهبه في أن التغيير في يد الغاصب لا يرفع حق صاحب الشيء من أن يأخذ عين ملكه .. وذكرنا عن أبي حنيفة أنه متى تغير الشيء في يد الغاصب تغيّرا تغير به اسمه والمنفعة المقصودة منه، وضمنه بالقيمة، فإنه يتملك بذلك، ويسقط حق صاحبه في طلب عين هذا الذي غصب فتغيّر. لكنه ها هنا وافقنا في هذه المسألة، ووافق الشافعي فقال: إن الخمر تبقى للغاصب. بناء منه على ما أشرنا إليه من أنها لما كانت (¬1) تحل، ولا تتملك، ولا يجب على الغاصب لها من مسلم بذلها، بقيت (¬2) إذا تخللت. بخلاف لو غصب عصيرًا فخلّله، فإنه يكون النحل له، ويجب عليه بذلُ (¬3) العصير؛ لأن العصير مما تجب غرامته على الغاصب، وقد تغير في يديه، فبقي المتغير له، ووجب عليه بذل (3) الأصل، وهو العصير. وعندنا نحن: أن صاحب العصير غير بين أن يعطي بدله (¬4)، ويَبقى النحل للغاصب، ويأخذه (¬5) من يد الغاصب، على إحدى الطرق التي قدمناها فيمن غصب قمحًا فطحنه، أو شيئًا يُقضَى فيه بالمثل، فخيرّه، أو ما يقتضى فيه بالقيمة فغيّره. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [لا] تحِلّ .... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [له] إذا .... (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَدَلُ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن يعطى. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أوْ.

ومما يلحق بما نحن فيه إتلاف الغاصب ما لا يحل بيعه. فقد بينا حكم غصب مسلم من مسلم خمرا. ونتكلم الآن على غصب المسلم ذمّيا خمرًا فأتلفها عليه. فالمذهب عندنا على قولين عن مالك وغيره من أصحابه: أن المسلم يضمن للذمي ما تلف عليه. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال إن (¬1) الشافعي: لا يضمن له ما أتلف عليه مما لا يحل تموله في شرعنا. وبهذا أخذ عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك. والذي يولغ (¬2) به في المذاكرات في هذه المسألة: أن الاختلاف مبني على اختلاف الأصوليين في الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة أو غير مخاطبين، مع إجماعهم على أنهم مخاطبون بالإيمان بالله ورسوله؟ فمن يرى أنهم غير مخاطبين، والتحريم في فروع شريعتنا، اقتضى ذلك ما قاله مالك وأبو حنيفة من أن من أتلف من المسلمين على ذمي خمرًا أوخنزيرًا فإنه يغرم له قيمته، كما لو أتلف عليه ثوبًا من ثيابه، أو عبدًا من عبيده. ومن يرى أنهم مخاطبون بفروع الشريعة اقتضى ذلك ما قاله الشافعي وعبد الملك من أن المسلم إذا أتلف على ذمّي خمرا أو خنزيرًا فإنه لا يضمن ذلك له، لأنه إنما أتلف عليهم محرمًا عليهم، فلا يضمنه، كما لو تلف (¬3) على مسلم خمرا. هذه طريقة أشياخنا. وأما البغداديون، من أصحابنا، فإنهم يحابون (¬4) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف إنّ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُولَعُ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أتلف. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحاجّون.

أصحاب الشافعي بظواهر، ويحاجهم أصحاب الشافعي بظواهر أيضًا، واستدلالات منا ومنهم. فيُخَصّ أصحاب الشافعي المسألة بعينها يكون الآية التي نزلت في تحريم الخمر إنما هي مقصورة على المسلمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (¬1) الآية وما بعدها. فعلّق التحريم بالمؤمنين، وأيضًا قال: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وإنما يُرجى الفلاح باجتنابه من المسلم لا من الكافر، لأنه ما دام باقيًا على كفره دهو غير مفلح، وإن لم يشرب الخمر. وأيضًا فإنه تعالى قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (¬2) إنما يكره وقوعها بين المسلمين، وأما ما بين الكافرين فإنما يجب (¬3) وقوعها بينهم ليشتغلوا بما بينهم من الفتن عن المسلمين، وقد قال تعالى في آية آخرى: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬4) فجعل هذا أحد عقوباته. وأيضًا قال تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} (¬5) والكافر لا يصلي لأجل كفره، ان لم يشرب الخمر، والمسلم يصلي ولكن يصده السّكر عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة. واحتج أصحابنا بأن عامل عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه: أن الذمي يمر بنا ومعه التجارات والخمر. فأجابه عمر رضي الله عنه: "ولُّوهم بيعها، وخذوا العُشُر من أثمانها" فسمى فعلهم بيعًا، فلولا أنهم يتملّكونها لم يوقِع عليها اسمَ البيع. وأيضًا فإنه قال "ولّوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها" فسمى ذلك ثَمنًا، والثمن لا يكون إلا فيما يُتملك. ¬

_ (¬1) المائدة: 90 (¬2) المائدة: 91. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُحِبّ. (¬4) المائدة: 14. (¬5) المائدة: 91.

وأيضًا فإنهم يتصرفون فيها بشربها وبيعها من بعضهم بعضًا، ولا ينكر ذلك عليهم أحد، فلولا أنها مما يتموّلونها ما أُقِرّوا على ذلك. وأيضًا من جهة الاستدلال: إنه إنما يعتبر اعتقاد الإباحة، وجواز التملك، في حق المتلف عليه لا في حقال في أتلف، ألا ترى أن نَصْرانيًا لو أتلف على مسلم مصحفًا، لضمنه له، وإن كان الذمي لا يعتقد أن للمصحف قيمة. وإذا أتلف المسلم على ذمي خمرًا، فاعتقاد المسلم أن ذلك محرم ولا قيمة عليه لا يُعتبَر، وإنما يعتبر اعتقاد الذمى أن الذي أتلف عليه مما يُتملك وله قيمة. فإن قيل: ينتقض هذا عليكم بعبد كافر في يد رجل كافر، فأسلم العبد فلم يبعه على الكافر حتى ارتد، فقتله مسلم بعد ارتداده ورجوعه إلى ملة سيده، فإنه لا يضمنه، ولم يُعتبر ها هنا اعتقاد المتلَف عليه؛ لأن سيده عنده أنه قد أصاب وأحسن في رجوعه إلى دينه. وانفصل عن هذا بأن العبد لما ارتد هتك حرمة نفسه، وحرمة سيده، وأباح مهجة نفسه لأجل ما فعل، فلهذا لم يضمنه قاتله، والخمر إذا كانت في (¬1) نصراني فهي مما يتصور (أن تبيح نفسها ومالكها أيضًا لم يبحها) (¬2)، فلهذا أوجب ضمانها، بخلاف العبد إذا أسلم ثم رجع إلى الكفر. ويستدل الشافعي أيضًا بأن النبي عليه السلام: "إن الله حرم الكلب وحرم ثمنه وحرم الخنزير والخمر" (¬3) كما أن الثمن بدل منه. وهذا يجاوب عنه بأن الثمن عبارة عما سلّمه مالكه طوعًا منه على أن يسلم إليه عوضًا منه، وأما الاستهلاك فهو بغير اختيار المالك، وإذا كان بغير ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [يَدِ] نصراني. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) جمع المازري عدة أحاديث في هذا الحديث: انظر: أبو داود: السنن: 250:2، 251

اختياره لم يتعلق به تحريم، بخلاف الثمن الذي فعله باختياره وقد تعلق به التحريم. ألا ترى أن أم الولد لا يحل بيعها وأخذ ثمنها، ومن قتلها غرم قيمتها لسيدها فقد صار الثمن ها هنا محرمًا، والقيمة غيرَ محرمة. وكذلك لو أحرم رجل (¬1) في بيته صيدًا ما جاز له أن يبيعه ويأخذ ثمنه مِمّن يذبحه، أو (¬2) ذبحه ذابح بغير اختياره لغرم له قيمته. ومما يلحق بهذا أن من غصب حرًا فباعه فإنه إذا غاب به مشتريه، وطُلِب فاُيس من وجوده، فإنّ غاصبه يضمن ديته لأهله هكذا قال في كتاب ابن حبيب .. وقد تقدم ذكرنا الخلاف فيمن غصب أم الولد، وأن ابن القاسم يرى أنه يضمن قيمتها على أنها أمة إذا فاتت في يده. وسحنون لا يضمّنه قيمةً، قال: كالحرة إذا غصبت. ومراده أنه غصب منافعَها لا رقبتَها، وغصْب منافعها لا تُضمن به رقبتُها. ومما يلحق بهذا غصب جلْد ميتة، فإن ابن القاسم يوجب على مستهلكه قيمته، دُبغ أو لم يدبغ. وحكىَ أبو الفرج عن مالك أنه إذا لم يدبغ فإنه لا يضمن مستهلكه فيه شيئًا، وهكذا في المبسوط. وأما إن دبغ فإنا إن قلنا بجواز بيعه، وأن الدباغ يطهره الطهارة الكاملة، فإنه يقوّم على أنه يجوز بيعه. وإن قلنا: بيعه لا يجوز، وإنما تفيد الطهارة جوَازَ الانتفاع به، فإنه يقوم على أنه لا يجوز بيعه. وذكر في المبسوط أنه إذا دبغ فإن مستهلكه إنما يغرم قيمة ما فيه من الدباغ. وكأنه رأى أن عيْن الجلد نجِسة، والنَجس لا يباع، والدباغ كالساتر لنجاسته، وهو حلال، فهو الذي يقوّم. وهكذا الرَّجِيع، الذي تزول (¬3) به الأرض، إذا أتلفه متلف، جرى على حكم جلد الميتة إذا لم يدبغ. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أحْرز رجل محرم. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَلَوْ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُزبَّل.

وكذلك الكلب المباح اتخاذه إذا قُتِل ظلمًا فإن على قاتله قيمتَه مطلقًا، أو على أنّ بيعه لايحل. وكذلك التمر والزرع، إذا لم يُزْهَ، وأتلفه متلف، فإنه يغرم قيمته، على الرَّجاء والخوف، رجاء أن يسلم من العطب إلى أن يصير تمرًا، أو الخوف أن يعطب قبل ذلك .. وقال في ثمانية أبي زيد فيمن غصب جرة عصير، وقد صار فيها مبدأُ التخليل: يضمنها على رجاء أن تصير خلاّ، أو لمخافة أن تعطب قبل ذلك. وجعلَها كالثمرة إذا أُتلفت قبل الزهوّ. والجواب عن السؤال الرابع عشر (¬1) أن يقال: كنا قدمنا الكلام على الأصل الذي تبنى عليه هذه المسألة وذكرنا نكتًا من حِجاج المختلفين في أصلها، وإن كان الترتيب يقتضي تقديم ما نقول ها هنا إلى ما أشرنا إليه أنه نسق، ونؤخر ذلك المتقدم إلى هذا الموضع ولكن قطع عن هذا الترتيب قاطع. فاعلم أن من غصب عبدًا فأبق من يده، أو دابة فهربت له، أو سلعة خفي عنه مكانها لما طُلب بها، فتلزمه القيمة والضمان، لأجل تعدّيه فيما وضع يده عليه، فحكم عليه بغرامة القيمة. ثم تمكن بعد أدائها من العين المغصوبة، فإن مذهب مالك وأبي حنيفة أن غرامة القيمة، التي قضي عليه بها، تصيّره مالكًا للعين، حتى إذا غرم قيمتها، للعجز عن ردها إلى صاحبها إذا قدر على ردها، فإن ذلك لا يبطل الحكم بالقيمة، بل يمضي عليها، إلاّ أن يتراضيا جميعًا على نقض هذا الحكم، بأن يرد صاحب السلعة السلعة المغصوبة إلى ربها، ويُقضى لصاحب السلعة المغصوبة بردها عليه، ويقضي عليه برد القيمة الذي (¬2) أخذ، ¬

_ (¬1) هذا هو السؤال الثاني عشر في تعداد الأسئلة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التي.

إلا أن يستأنفا تراضيًا منهما على ما يجوز. وهذا إذا كان الغاصب لم يخف السلعة، وظهر أنه إنما امتنع من ردها على صاحبها عجزًا منه على ذلك، لا إخفى (¬1) للسلعة، ورغبة فيها، حتى يكون كالمكرِه لصاحبها على أخذ بدلها عوضًا عن عينها. وكان بعض أشياخي يرى أنه إذا لم يعلم كون الغاصب قد عجز عن ردها، ولم يكن أكثر من دعواه أن العبد أبق، أو السلعة خفيت عنه، ثم وجدت في يديه، فإنه لا يصدق في: إني قد كنت عجزت عن ردّها على صاحبها، وتعذر ذلك عليّ. وهذا بناء منه على استصحاب الحالين، فحاله الأولى كونها في يديه، فصار مدعيًا لخروجها من يديه. والحالة الثانية كونها الآن بعد غرامته القيمةَ، ظهرت في يديه، فيُحمل على أنها كانت كذلك فيما سبق من الزمان. وهذا عندي مما ينتظر (¬2) فيه. وظاهر كلام أشهب أنه إذا اتُّهم بالإخفاء حلَف أنه لم يخفها. وكأنه رأى هذا لأنّ القيمة إنما يقضى عليه بها بناءً على تصديقه فيما ادعاه من العجز عن ردها. فإذا بُنيَ الأمر على ذلك، فإن حَمَله على أنه أخفاه حلف حينئذٍ لمقتضى الحكم بالقيمة. وإذا تحقق أن الغاصب أخفاها، وثبت ذلك، فإنه لم يختلف مالك ولا الشافعي ولا أبو حنيفة في أن الحكم بالقيمة ينتقض إذا طلب صاحبُها نقضَه، وأخْذَ السلعة من يد الغاصب، لِمَا نبهنا عليه من كونه كالمكرَه على بيعها بالقيمة، والمكرَه بالبيع لا يلزمه البيعُ .. ونحن، وإن كنا وافقنا أبا حنيفة، في أن الحكم لا ينتقض فإنا نخالفه في المشهور من مذهبنا في فصل آخر، وهو أن الغاصب إذا ادعى عجزَه عن ردها، وظهر صدقُه فغرم القيمة، على ما وَصف السلعةَ المغصوبة به، وحلَف على ذلك، وقد خالفه رئها على الصفة مثل أن يزعم الغاصب أنها على صفة تساوي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إِخْفاءً. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ينظر.

عشرة دنانير، فيقول صاحبها: بل هي على صفة تساوي عشرين دينارًا، فإن الغاصب إذا غرم عشرة دنانير قيمتها، ثم ظهرت، فتبين كذبُه، فإن المشهور من مذهبنا أن الغاصب إنما يلزمه إكمال القيمة الحقيقية، وهي عشرة دنانير التي جحدها، ويصير كأنه لم يُخْفِ العين بنفسها، فيلزمه غرمها إذا ظهرت، وإنما أخفى بعضَ صفاتها، وجحد بعضَ ثمنها، ويكون ما سواه قد مضى الحكم فيه بالقيمة، وما كذب عليه فيه غرم قيمته. وهذا تغليب لما قابل القيمة الحقيقية فينفذّ فيه ملكا لغاصب. ويستحب (¬1) هذا الحكم والتمليك على الجزء الذي جحده الغاصب. وعند أبي حنيفة أنه يُنقض الحكم بالقيمة، ويَرُد صاحبُ السلعة القيمةَ التي أخذ، ويأخذ عين سلعته. وأجرى جحود بعض صفاتها مجرى إخفائها بجملتها، حتى يصير مكرَها على بيع ما نجحده من صفاتها، كما يصير مكرَها على البيع إذا أخفاها بجملتها. وهذا كتغليب حكم الجزء المجحود منها على الجزء المبيع بالقيمة الحقيقية. وقد وقع عندنا اضطراب في المذهب في تغيير (¬2) الأثمان بالزيادة والنقصان، هل ذلك كتبدّل الأعيان أم لا؟ وقد نبهنا عليه في كتاب الوكالات. وقد وقع عندنا في المبسوط في هذه المسألة مثلُ مذهب أبي حنيفة أن جحود بعض صفات السلعة المغصوبة كإخفائها بجملتها. بناء (¬3) من قال هذا من أصحابنا على ما قدمناه في تعليل مذهب أبي حنيفة. واعلم أن هذه المسألة مبدأ النظر فيها أن تَعلم أن كل عوض لا بدّ له من (معنا بل له) (¬4) في المعاوضة حتى يكون أحدهما ثمنًا والآخر مثمونًا أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ينسَحِبُ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغير. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَنَى. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَعْنىً بُذِل له.

كالمثمون، ألا ترى أن من اشترى سلعة بثمن فإنه من ضرورة هذا العقد أن يكون لثمنه الذي يَدُل (¬1) عوض، وهو السلعة المبيعة، فكذلك إذا أخذ من الغاصب القيمة، فلا بد أن يجعل في مقابلتها عوضًا منها. فنحن وأبو حنيفة نرى أن عوض قيمة العين المغصوبة و (¬2)، إذا ئذلت دنانير في مقابل سلعة صح أن باذل الدنانير قد ملك السلعة بما بذل، وإذا كان قد ملكها فلا ينتقض هذا التمليك بقدرته على ردّها على صاحبها بعد أن كان عاجزًا عن ذلك. ويقول الشافعي: إنما هذه القيمة المأخوذة من الغاصب في مقابلة الحيلولة التي فعلها بمالك السلعة، وحال بينه وبينها، ومنعه من الانتفاع بها. وهذه الحيلولة ليست بسلعة تُملك، فإذا ذهبت الحيلولة، وهي العلة في أخذ القيمة، لم يصح التمليك للسلعة ولا كانت السلعة ملكًا للغاصب حين غرم القيمة. وإذا لم يكن له ملك حين غرم القيمة، فإذا ظهرت بقيت على ملك ربها. وترددت المسألة بين مسألتين أيضًا، وهي أن المتيمّم، لعجزه عن الماء، إذا تيمم ثم وجد الماء انتقل الحكم إلى حال القدرة على الماء، وبطل ما تقدم من التيمم للقدرة على الأصل الذي (¬3) معجوزًا عنه. فكذلك الغاصب العاجز عن رد السلعة المغصوبة إذا أخذ منه القيمة لعجزه عن الردّ، فإذا قدر على الرد الذي هو الأصل انتقل الحكم إليه. في مقابلة هذا أن المُظاهِر إذا عجز عن عتق رقبة، وصام إن قدر، أو أطعم إن لم يقدر، ثم وجب (¬4) رقبة، فإنه لا يجب الرجوع إلى الأصل الذي كان معجوزًا عنه. ورد هذه المسألة إلى هاتين المسألتين ضعيف، لأنهما عبادتان، وحكم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بُذِل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: كان. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَجَدَ.

العبادات خلاف حكم المعاملات. وإذا رتب الله سبحانه في عبادة فرضًا بعد فرض، فقام المكلف بالفرض الثاني لعجزه عن الأول، فلا يلزمه أن يعود إلى الأول، فيصير كالمكلف فرضين، والله سبحانه لم يوجب عليه إلا أحدهما، والمتيمم تيممًا في (¬1) عبادة لم تفرض لنفسها، فإذا لم يفعل المقصود بفرضها، فكأنه لم يفعل ما هو تبَع لها ومراد من أجلها، فيصير كمن حضرت الصلاة ولم يتيمم، والماء موجود في أنه لا يختلف في أن التيمم لا يجوز له. ومن أعظم ما عولت عليه الشافعية في مناقضة المالكية والحنفية أنهم يقولون: إن المدبّر، عندكم، لا يجوز بيعه، وإن كنا نحن نجيزه، ثم إذا غصب (¬2) غاصب فأبق من يده، فإنكم تقضون بالقيمة عليه، والعين التي حرم الغاصب قيمتها مما لا يصح عندكم أن تباع ولا تملك، وهذا يشعر بأن القيمة في المغصوب عوض الحيلولة، لا عوضًا لِتمليك العين المغصوبة إذ المدبّر لا يباع، وكذلك أم الولد يضمنها الغاصب بقيمتها، وهي مما لا يباع عندنا وعندكم ولا يصح تملكها. ثم مع هذا تقضون بقيمتها على الغاصب. فدل هذا على أن القيمة ليست عوضًا عن تمليك الأعيان، بل لأجل الحيلولة. وهذا من آكد ما يحتجون به. ولكنا نجيب عنه بأن المدبر يُترَقب ملكه إذا مات سيده، وعليه دين يستغرقه، فلم يتحقق فيه انتفاء الملك. وأما أم الولد فإن فيه عندنا قولين: ذهب سحنون إلى أنها لا يضمنها الغاصب، كما لا يضمن الحرة. فعلى هذا المذهب لا تصح مناقضتهم. وإن قلنا بمذهب ابن القاسم: إن غاصبها يضمنها، فإنها إذا قتلت لزم قاتلها قيمتُها على أنها رق، ويتملك السيد هذه القيمة عوض الرقبة، كما يتملك أولياء الحر ديته إذا قتل، وهو مما لا يحملك. فقد صار لسيدها حق في قيمتها إذا قتلت، ¬

_ (¬1) في (و): هي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غصبه.

وقيمتها إذا أخذت مما يصح تملكه بإجماع. فما انتفى الملك بالكلية. فيجعل القيمة التي يؤديها الغاصب كالعرض (¬1) عما هو عوض عنها، ويتملكه السيد إذا قتلت. ويناقض أصحاب الشافعي بأن الملك لو لم ينتقل إلى الغاصب الذي غرم القيمة لصار صاحب السلعة المغصوبة قد ملك الثمن والمثمون جميعًا، وهذا لا يصح في أصول الشرع. والجواب عن السؤال الخامس عشر (¬2) أن يقال: إذا غصب الغاصب شيئأ فحدث فيه زيادة عنده، فهل تكون مضمونة في يده كضمان العين المغصوبة، فإن تلفت في (¬3) هذه الزيادة طولب بها، أو تكون في يديه كأنها أمانة فلا يطالب بها إذا ذهبت من يديه، كما لا يطالب بالوديعة إذا ضاعت؟ وكذلك (¬4) مثل أن يغصب جارية فتسمن عنده، ثم يذهب الثمن (¬5)، أو تتعلم القرآن عنده وتحفظه ثم تنساه، وتلد ولدًا، وهي في يد الغاصب. فإذا أُحدِثتْ في يديه زيادة فلا يخلوْ أن تكون الزيادة في القيمة لارتفاع الأسواق، أو زيادة في العين، كالسمن في الجارية. فإن كانت الزيادة الحادثة عند الغاصب ليست في العين المغصوبة، ولكن في سوقها، فإن المعروف من المذهب والمشهور أن الغاصب لا يضمن حَوالة السوق بنقص. وفي الزاهي لابن شعبان أنه يضمن ذلك، حكاه عن أشهب وابن وهب وعبد الملك. وهؤلاء إن ضمنوه هذه الزيادة مع هلاك العين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كالعوض. (¬2) هذا هو جواب السؤال الثالث عشر في تعداد الأسئلة. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (في). (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الكاف، فتصير: وذلك. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: السِّمَن.

المغصوبة فإن ذلك، بناء منهم، يعد كل يوم كمبتدئ غاصبًا (¬1) للسلعة. وقد وقع الاتفاق على أن (¬2) إذا هلكت في يد الغاصب فإن لربها أن يضمّنه قيمتَها يوم أخَذَها منه. وهذا هو الأصلَ، لأنه، يوم الأخذ لها، حال بينه وبين مِلكِهِ، فلزمه ردّ العين، أو عوضها إذا هلكت، وهو، كل يوم، مأمور بردها، إذا لم يفعل صار كمبتدئ غصبها ذلك اليوم. وإذا كان ذلك اليوم الذي زادت فيه قيمتها يقدَّر كأنهُ اليوم الذي (¬3) فيه، اتضح ما قاله. وقد علم اختلاف أهل المذهب في هذا الأصل، وهو التمادي على الفعل، هل يعد كالتمادي عليه ابتداءً أَوْ لاَ؟ ألا تراهم كيف اختلفوا فيمن حلف ألاّ يلبس ثوبًا، فتمادى على لبسه، فمن أصحابنا من يقول: يحنث بتماديه. وقدر أن تماديه على اللباس كابتداء اللباس. ولو نزعه ثم لبسه لم يختلفوا في أنه حانث، ومن أصحابنا من قال: لا حنث عليه، لأن التمادي على الفعل ليس كابتدائه. فكذا يجري هذا الاختلاف في التمادي على الغصب: هل هو كابتدائه؟ والخلاف فيه منصوص كالخلاف فيمن حلف ألا يلبس ثوبًا أو يركب دابة، فتمادى على الركوب واللباس. وإن طُلب الغاصبُ بغرامة زيادة السوق في العين المغصوبة، إذا نَقَصَتْ تلك الزيادة، وعادت القيمة إلى ما كانت عليه يوم الغصب، فذلك مبني على الاختلاف في ضمان الغاصب ما مَنَع، لأنه قد منع صاحبَ السلعة المغصوبة من بيعها فتلك (¬4) القيمة الزائدة، فيضمن ذلك للمغصوب منه. وإذا ضمناه ما نقص من سوقها، مع بقاء عينها، فإنا نضمّنه قيمتها كلّها. فإن قيل: فهلاّ يأخذ عين الجارية التي صارت قيمتها خمسين دينارًا، ويغرم له الغاصب الخمسين التي حرمه إياها؟ قيل: قد تقدم أن (¬5) ملك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَصْبًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أخِذت. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بتِلْك. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضَافة: [مَنْ].

أخذ العين، فلا يَطْلب مع أخذ عينها أخذ ما نقص إذا كان النقصان بأمر لا صنع للغاصب فيه، إلا ما خرجه الأشياخ من مذهب سحنون، فقد يحسن على مذهب سحنون إلى (¬1) أخذ العين وما منعه منما زيادة القيمة. هذا تحقيق النظر عندي في المسألة، على ما ذكروه من الروايات. وقد كنا قدمنا الكلام على هذا، ولكن زدنا في بيانه ها هنا. وأما إن كانت الزيادة الحادثة في عين الجارية المغصوبة متصلة بها لا يمكن انفصالها عنها، كجارية غصبت وهي هزيلة فصارت عند الغاصب سمينة، ثم ذهب سِمنها، فإن ذلك لا يضمنها (¬2) الغاصب عندنا، وعند أبي حنيفة. ويضمنها (2) عند الشافعي. والخلاف في هذا مبني على أن العين المغصوبة يؤمر الغاصب بردّها كل ساعة، وإن لم يطالبه المغصوب له بردّها، لأنه وضع يده عليها تعدّيًا، واليد المتعدية يأمر الشرع بإزالتها. وأما السمن فإنه لم يضع يده عليه تعديًا، وإنما حدث بغير صنعة، وصار في يده بغير اكتسابه، ثم ذهب بغير صنعة أيضًا، فتصير يده بوضعها عليه كالمؤتمَن على وديعة وجدها في تركة أبيه لما مات، فصارت تحت يده بغير اختياره ولا تعدّ منه، فإذا ضاعت، ولم يكن له في تضييعها سبب أو تفريط، لم يضمنها. وكذلك لو حملت الريح ثوبًا من دار رجل، فاوقعته في حَجْر رجل آخر، ووضع يده عليه، ثم ضاع من غير تعدّ منه، فإنه لا يضمنه. فمن أجراه مجرى الأمانة، وشبهه بهذين السؤالين، أسقط الضمان، وهو مالك وأبو حنيفة، ومن رآه مضمونًا على الغاصب، لأجل أنه مأمور برد العين المغصوبة على صاحبها، ووضْع يده عليها واستدامة إمساكه تعدّ منه، ويستحيل أن يردها، وهي سمينة وينزع سننه منها. وهذا يقتضي أن الشرع أوجب عليه ردّ السمن الحادث عنده كما أوجب عليه رد الثمن. فإذا اجتمع على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأولى حذف إلى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب يضمنه.

وجوب ردّ العين وأنه مأمور بردها، وإن لم يطالبه المالك بذلك، وكان لا يتوصل إلى ردّها إلا بردّ ما حدث فيها من سمن وجب أن تكون أيضًا مضمونة على الغاصب كضمان العين المغصوبة، إذ ما لا يتوصل إلى فعلٍ من الواجبات إلا بفعلٍ آخر كان الفعل الآخر الموصّل إلى الواجب واجبًا أيضًا. هذا على حكم الزيادة الحادثة بين (¬1) الغاصب وهي ما لا ينفصل عن العين المغصوبة. وأما إن كانت الزيادة مما ينفصل عن العين المغصوبة، كأمة غصبها رجل فولدت عنده، ثم مات الولد، فقد تقدم كلامنا على هذا، وذكرنا اختلاف ابن القاسم وأشهب في تضمين الغاصب هذا الولد الحادث عنده، إذا مات وهو في يديه. والتعليل في هذا الخلاف مبني على ما ذكرناه في تعليل الزيادة الحادثة التي لا تنفصل. وأما لو كان غصب هذه الأمة، وهي حامل، فإن ذلك أوضح في تعليق (¬2) الغصب بالولد، لأنه كمن غصب وعاءَ، وهو حامل شيئًا مختزَنًا فيه، فإنه يضمنه، ويضمن الوعاء، فكذلك العمل. لكن اختلف قول مالك في العمل هل له حكم، ويقدر كأنه كالمنفصل، أوْ لاَ حكم له؟ وقد وقع عندنا اختلاف فيمن قال لأمته: ما في بطنكِ حرٌّ، ثم حدث عليه دين هل تباع في الدين الحادث بعد عتق الجنين، وهو لم ينفصل أم لا؟ فمن نقد (¬3) البيع فيها فكأنه قدر أن الجنين لا حكم له، بخلاف انفصاله فإن وجوه (¬4) متحقق متيقن ويصح وضع اليد عليه. فإذا كان حملًا لم يتحقق وجوده. ولو حدثت الزيادة في البدن، ثم ذهبت، ثم عادت، ثم ذهبت، وهي من جنس واحد، كجارية غصبت هزيلة، ثم سمنت، ثم هزلت، فإن أصحاب الشافعي عندهم قولان في أن يَضْمن السمن الأول الذي ذهب والسمن الثاني يضمنه أيضًا، أَوْ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِيَدِ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تًعَلُّق. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نَفَّذَ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ؤجُوده.

لا يضمن الأول، ويقدّر ما حدث بعده من السمن عوضًا منه، فكأنْ السمن لم يذهب. وعندي أنّا لو كنا نقول بما قاله: إن الزيادة الغير منفصلة مضمونة لكان أيضًا عندنا في هذا قولان مثل ما عندهم. وهي عندي مخرّجة من اختلاف أصحابنا في الجارية إذا اشتريت وولدت عند المشتري، ونقصتها الولادة، فهل يكون نقص الولادة يُجبر بقيمة الولد، لأن الولد كان عن ذلك النقص، أو لا يجبر لأن النقص في الذمة، ولا يُغرم عنه عوض آخر، فكذلك هذه المسألة. والجواب عن السؤال السادس عشر (¬1) أن يقال: أما الإتلاف بمباشرة الفاعل فإنه لا خفاء في تعلق الضمان به، كمن ذبح رجلًا أو بهيمة، أو طرحهما في مهواة يعلم أنهما يهلكان بطرحهما، أو أخذ ثوبًا فأحرقه، أو طعامًا فأكله. وأما إن كان الإتلاف ليس عن مباشرة قدرة الفاعل له، لكن بواسطة (¬2). وسبب هذا الاختلاف، وهو الذي يذكره المتكلمون من أهل الأصول في كتبهم، أنه من المتولدات عن أسباب يفعلها الفاعل. ونختلف، نحن والمعتزلة، في كون المسبَّب مقدورًا لفاعل السبب، أوليس بمقدور له، وإنما يحدثه البارى سبحانه بعادة جارية، مثل أَلَمٍ يحدث عن الضرر وشبهه. وهذا مستقصى، في كتب علم الكلام. فاعلم أن هذا السبب المؤدي للإتلاف لا يخلو إما أن يكون حدث التلف عن سبب هو فعل من الأفعال، أو عن سبب هو قول من الأقوال. فإن حدث عن سبب هو قول من الأقوال فإن في ذلك اختلافًا في المذهب إذا كان السبب غير متضمن الإتلافَ فلا (¬3) بد، مثل الغرور بالقول، فيقول ¬

_ (¬1) هذا جواب على السؤال الرابع عشر في تعداد الأسئلة. (¬2) سقط جواب أما من النص. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِلا بُدَّ.

الصيرفيّ لمن استرشده في دينار، هو زائف أو طيب، ليأخذه ممن هو له عليه، فيقول له: طيب. والصيرفي يعلم أنه زائف، وتعذر بذله (¬1)، فإن الصيرفي في غرامته، لمن استرشده فكذَبه، قولان. وكذلك لو غرّ رجل رجلًا في جرة أراد أن يصبَّ فيها، فقال له: هل (¬2) صحيحة، وهو يعلم أنها مكسورة، فإن في ضمان الغارّ للزيت قولين. ولو دل رجل رجلًا ظالمًا على مال أخفاه صاحبه، فأخذه الظالم لأجل دلالة هذا الدال عليه، لكان أيضًا في ضمان الدالّ قولان. وذكر الشيخ أبو محمَّد ابن أبي زيد أن المتأخرين من أهل المذهب اختلفوا في ذلك. واختلافهم في هذا يشير إلى اختلاف ابن القاسم وأشهب فيمن (دل محرم على صيد فقتله المحرم) (¬3) فإن القاتل لم يلزمه جزاؤه من غير خلاف، والدالَّ له عليه حتى قتله فيه قولان: ذهب ابن القاسم إلى أنه لا جزاء عليه فيه، وقدّر أن القول ليس بسبب ملجئ إلى تلف هذا الصيد. وقال أشهب عليه الجزاء. وهذا يشير أيضًا إلى الاختلاف الذي حكاه أبو محمَّد عن أصحابنا. ويتعلق بهذا، الأمرُ لغيره بقتل إنسان، فإن المباشر يُقتل من غير خلاف، وفي الأمر الخلاف والتفصيل الذي نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وهكذا لو شكا رجل رجلًا إلى والٍ ظالم، يعلم أنه يتجاوز الحق في المشكوّ إليه، ويغرّمه ما لا يغرمه (¬4)، والمظلوم لا تِباعة للشاكي عليه، فإنه فيه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَدَلُهُ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هي. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دلّه مُحرِمٌ على صيد فقتله للمُحرِمِ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما لا يلزمه.

اختلاف أيضًا: هل يغرم الشاكي للوالي ما استُغرِم المشكوّ أم لا؟ ومن أصحابنا من أسقط الضمان والغرامة على الشاكي إذا كان المشكو قد ظلمه. إلى غير ذلك من المسائل التي يكثر تعدادها، وما ذكرناه هو الأصل في ويعتمد من رأى الغرور بالقول كالغرور بالفعل، وإليه كان يذهب شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد، على الاتفاق على أن الشاهدين إذا شهدا على رجل بمال، فقضى القاضي عليه به، فسلمه لطالبه، ثم اعترفا بعد الحكم أنهما تعمدا الكذب وشهادة الزور، فإنهما يضمنان. وأهل المذهب الآخر يفرقون بين الشاهد إذا رجع وبين من غر بالقول، أن الغرور (¬1) بالقول قادر على ألا يقبل قولَ الغارّ، فصار قول الغارّ، وإن كان سببًا للتلف، فإنه غير ملجيء للتلف، وشهادة الشهود تُلجئ القاضي إلى الحكم، وشتان بين سبب ملجئ وسبب (¬2) ملجئ .. ويقول الآخرون هذا إنما يكون عذرًا في حق الحاكم لأنه في وسعه أيضًا ألاّ يقبل شهادة الشاهدين. ويقول الآخرون إذا ترك القضاء بهما، وقد حرم الشرع ذلك عليه، فصار الشاهدان هم (¬3) السبب الملجئ للسبب .. وقد استقصينا هذا في كتاب الرجوع عن الشهادات. وأما إن كان السبب المتلف كواسطة بين المتلف والتلف، وكان ملجئًا للتلف، فإنه يحل محل المباشرة للتلف، كرجل طلب رجلًا ليقتله ففرّ، فامسكه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المغرور. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: غيْر. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هما.

آخر قاصدًا إمساكه ليقتله الآخر، فإنه مشارك في القتل، ويتعلق به الضمان أيضًا، والمطالبة بالدم. وألحق بهذا الفصل ما ذكره في المدونة فيمن حفر بئرًا ليسقط فيها من أتى ليسرق ماله، فسقط فيها السارق فمات، أو سقط فيها غيره ممن لم يأت للسرقة، فإن الحافر للبئر يضمن ما سقط فيها فهلك، من سارق أو غيره، وقُدِّر ذلك السببَ الملجئ للتلف، على أن الساقط (¬1) فيها مشاركة، لأنه لو اجتهد وتحفظ، حتى يرى ما بين يديه، لم يسقط فيها، ولكن روعي في ذلك قصد الحافر بها للإهلاك، مع كون العادة المعلومة ضرورةً ألاّ يقصد عاقل إهلاك نفسه، فصار الحافر قصَد أهلاكَه إذا غفل عن (¬2) والغالب غفلته إذ لا يتهم أحد في إهلاك نفسه. وكذلك ذكر أيضًا فيمن نصب شبكة (يحرس عتمد) (¬3) فيها من ذئب أو غيره، فعثر إنسان عليها فمات، أنه يضمن ذلك. وهذا عند (¬4) إنما يلحق بالأسباب الملجئة إذا نصب ذلك لما يأتي، من سبع أو ذئب، وهو يعلم أنه لا يكاد يسلم من المرور عليه آدمي، أو ضربه على وجه لا يجوز له، أو في مكان لا يجوز له، قاصدًا إتلاف حيوان فتلف فيه غيره. وهذا أيضًا في المدونة في إطلاق نار أحرقت (لم أر) (¬5) الجارة، واعتبر فيها هل فعل من ذلك ما لا يجوز له، فيكون ضامنًا، أو يجوز له فلا يكون ضامنًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للسّاقط. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (عن). (¬3) هكذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عندنا. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الكلمة التي يصحّ بها المعنى: الأرض.

وإن كان السبب غير ملجئ فهاهنا اضطراب في المذهب وبين فقهاء الأمصار، وذلك فيمن فتح قفصًا مغلوقًا على طائر، فطار الطائر لما فتح الغلق عنه، فإن مذهب مالك تضمين الفاتح، طار الطائر عند الفتح أو بعد تباطئ. ولم يختلف عن أبي حنيفة والشافعي في أنه إذا طار بعد تباطئ فإن الفاتح لا يضمنه. وإنما اضطرب النقل عنهما في طيران هذا الطائر عقيب الفتح من غير مهلة. فأصحاب الشافعي يقولون: إن قوله اختلف في هذا، وعولوا على قوله في بعض كتبه: إن من فتح قفصًا مغلقًا على طائر، فطار، فإنه لا يضمن. وقال في بعض كتبه: إذا وقف الطائر ثم طار، فإنه لا يضمن. فقيد نفي الضمان بتوقف الطائر عن الطيران، فدل هذا على أنه لو طار بالفور لضمن. وفي التعلق بهذا نظر عندي. وأما أبو حنيفة فإن أصحابنا يحكون عنه: لا يضمن الفاتح على حال، وأنه لا يضمن التلف إلا إذا كان بفعل المتلف على جهة المباشرة. وبعض أصحاب الشافعي يحكي عنه أنه إذا طار بالفور فإنه لا يضمن. وهذا الاضطراب كله راجع إلى ما نبهنا عليه من التفرقة بين السبب الملجئ وغير الملجئ. ولهذا لو فتح هذا الفاتح القفص وحرّك الطيرَ بيده ليطير، فإنه يضمنه من غير خلاف، لأنه يصير قد باشر الإتلاف. وإذا لم يكن منه أكثر من الفتح فهو سبب كان عنه فعل آخر، فهل يضاف ذلك إلى الفاعل للسبب أم لا؟ هذا موضع الاضطراب بين الأصوليين من أصحابنا والمعتزلة وبين الفقهاء. ولو لم يكن منه سواء (¬1) فتح القفص، ولكن حاذى القفص رجل فطار الطائر، فإن ابن القصار، من أصحابنا، أفرد الفاتح بالضمان، ولم يلزم القيام (¬2) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سِوَى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: القائم.

على باب القفص غرامة. وفي كتاب الحج من المدونة في صيد رأى رجلًا فذُعر منه، فمات، فإنه عليه جزاؤه. فقد جعل ها هنا الذُّعر الحادث في نفس الصيد، الذي مات من أجله، يوجب ضمانه على الرجل المارّ، مع كون الرجل لم يحصل منه تعد، ولا سبب في الإهلاك، لكنه لما كانت حركتُه سببًا في الذّعر ضمنه. وهكذا قيل في الدابة إذا رأت قائمًا على الطريق فذُعرت منه، فهلكت، فإنه يضمنها. ولو قام في غير الطريق لم يضمن إلا أن تكون منه حركة لأجلها، فافرت (¬1) الدابة. فاعتبر في هذه المسألة كون ما فعل تعدّيًا لا يجوز له، أو مباحًا يجوز له، وهل صدر منه فعل كان سببًا و (¬2) لم يصدر منه؟ فضمّنه بصدور فعل منه، وإن لم يكن متعديًا، على ما أطلق به الجواب. وقد ذكر في كتاب الحج، فيمن نصب فسطاطًا، فتعلق به طائر فهلك، أنه لا يضمنه. فاعتبر جواز الفعل، وكونه مباحًا، وكون الضارب للفسطاط لا مشاركة له فيما فعله الصيد بنفسه. وقد ذكر في المدونة، فيمن فتح دارًا مغلقة على دواب، وليس بها أحد، فخرجت الدواب، فإنه يضمنها. وإن كان بها مكان (¬3) فإنه لا يضمنها. ورأى أشهب أنه إذا كان بها سكان، والدواب مسرحة غير معقولة، فإنه وإن (¬4) كانت معقولة فإنه لا ضمان عليه. وهكذا ذكر في المدونة في سارق فتح دارًا، فسرق منها وخرج، وترك الباب مفتوحًا، فإنه لا يضمن ما أُخِذ منها بعده إذا كانت مسكونة، كان أهلها نيامًا أو غير نيام. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوْلى: فنَفَرَت. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سُكّان. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو.

وتعقب بعض المتأخرين هذا، وأشار إلى أنه هو سبب في التلف، فيجب ضمانه. وهكذا إذا حلّ قيْد عبْد (¬1) خوفًا من هروبه، فهرب العبد، فإن حكمه حكم فاتح القفص على الطائر فطار. وفي الموازية فيمن قال لرجل: خذ عبدي فقيدْه، فلم يقيده، واعتذر بالنسيان، فقال: إنه يضمن. ولو قال: إِقفلْ على هذا الطائر، فلم يفعل حتى طار، واعتذر بالنسيان، فإنه لا ضمان عليه. وأشار بعض الأشياخ إلى أن هذا اختلاف قول منه، وهو كالاختلاف المذكور في المدونة في (إذا مشى بيتًا) (¬2) فمشى على شيء فكسره قال: في تضمينه له اختلاف. ولو كان زقًا مملوءًا زيتًا مربوطًا، فحل رباطه رجل، وأبقاه مستندًا كما وجده، فأتى رجل فأسقطه، أو هبت ريح فأسقطته، فإن أصحاب الشافعي يرون ألاّ ضمان على فاتح الوِكاء، سواء كان سقوطه بفعل إنسان أو هبوب ريح. ويضمّنون الذي أسقطه، لكونه باشر التلف. والذي حل الوكاء أو (¬3) يباشر التلف. وهذا فيه نظر، والأوْلى أن يشترك في الضمان فاتح الوكاء والذي أسقطه من غير علم، إذا عُلِم أنه لو أسقطه متكئًا مربوطًا لم يُهرَقْ ما فيه، ولو بقي محلولًا لم يُهرق ما فيه، فإذن كان التلف يُعلم منه أنه لو انفرد أحد الأمرين لم يتلف الزيت، وإنما تلف باجتماعهما. والذي ماسح الزق فسقط لأجل مماسحته، ولم يتعمد التلف فيه، والذي ¬

_ (¬1) المعنى يتضح بإضافة: [قُيِّدَ] خوفًا .... (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم.

حل الوكاء لم يقصد تلف ما فيه، فإنهما يضمنانه جميعًا لاشتراكهما في التلف. كرجلين أخرجا شيئًا ثقيلًا من (جوز أو) (¬1) انفرد أحدهما لم يقدر على خروجه (¬2)، فإنهما يضمنان جميعًا. وقد نجز القول فيما يحدثه الغاصب والمتعدي، وبقي القول فيما يحدثه غير الغاصب فيما في يد الغاصب. فلو غصب غاصب عبدًا، فقتله رجل في يديه، فإن القيمة تلزم الغاصبَ يوم الغصب، وتلزم القاتلَ يوم القتل. فإن طلب صاحب العبد القاتلَ بالقيمة يوم القتل، فأخذ ذلك منه، وهي أقل من قيمته يوم الغصب، فهل له أن ينتفع (¬3) الغاصب بما بقي من القيمة يوم الغصب؟ فيه قولان: أحدهما أنه له أن يتبعه، لأنه إنما أخذ من القاتل ما أخذ منه لأنه غريم للغاصب، فله طلب غريم غريمه بما وجد عنده، ويرجع ببقية ديْنه على من كان عليه في الأصل. وهذا اختيار ابن المواز. وذهب سحنون إلى أن اختيارَه طلبَ القاتل وعدولَه عن الغاصب إبراءٌ للغاصب، فليس له أن يرجع على الغاصب بما بقي عنده من القيمة اللازمة له يوم الغصب. واحتج سحنون بأن الغاصب لو باع العبد، فأجاز بيعه وأخذ الثمن، فإنه ليس له مطالبته بتمام القيمة. وكذلك لو أخذ القيمة، فليس له المطالبة ببقية الثمن. وهذا الاحتجاج فيه نظر، لأنه إذا أجاز البيع سقطت مطالبته بحكم الغصب، وإذا أخذ القيمة يوم الغصب فإنما باع الغاصبُ ملكَ نفسه، ومن باع ملك نفسه لم يطالَب بشيء من ثمنه. ولو ابتدأ صاحبُ العبد بطلب الغاصب، وكانت قيمته يوم الغصب أقل من قيمته يوم القتل، فإنه فيه، أيضًا، قولان: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حِرْز ولو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إخراجِه. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: يَتْبَعَ.

أحدهما أنه لا يرجع على القاتل بما فضل عنده من قيمته يوم القتل، بل يرجع بذلك الغاصبُ الذي أُغرِم القيمةَ يوم الغصب، وإذا أُغرِمها يوم الغصب صار القتل وقع على ملكه، فله قيمته. وذهب أشهب إلى أن ما فضل عند القاتل، لصاحب العبد أن يأخذه، وإن كان قد استغرم الغاصبَ القيمةَ يوم الغصب. قال: لأن الغاصب لا يربح. وقد وقع لابن القاسم في كتاب السلم مثل هذا في الوكيل إذا تعدّى فاُغْرِمَ: إنه لا يربح. ولو كانت الجناية على العبد، وهو في يد الغاصب، إتلافَ عضو منه، فإن الأمر جار على ما قررناه من الخلاف، فإنْ أحبَّ صاحب العبد أن يأخذ عين عبده، فإنه لا يغرّم الغاصبَ قيمة الجناية، على المشهور من المذهب، في الجناية إذا كانت ليست من قِبَل الغاصب، وعلى ما خرجناه من قول سحنون له أن يغرِّم الغاصب. وإذا كانت قيمة الجناية يوم الغصب خمسةً، وعلى هذا وقع تقويم العبد، وأخذ صاحب العبد جميع قيمة العبد لسائر أعضائه، ووجدنا قيمة الجناية يوم جنى الجاني عشرةً، فإن الغاصبَ الغارمَ لجميع القيمة يوم الغصب إذا أخذ من الجاني عشرةً، فإنه يختلف في الخمسة الزائدة على ما قوم عليه يوم الغصب، هل تكون للغاصب، لأنه لما غرم القيمة ملك العبد فكانت قيمة الجناية له، أو يقال: إنه لا يربح، فتكون هذه الخمسة لسيِّدِ العبد؟ وهذا، من تدبر ما قلناه، فيما يلزم الغاصبَ غرامتُه أوْ لا يلزمه، عرف منه ما فصلناه ها هنا. والجواب عن السؤال السابع عشر (¬1) أن يقال: ¬

_ (¬1) هذا جواب على سؤال لم يُذكر في تعداد الأسئلة.

اختلف الناس في الغاصب هل يضمن منافع الشيء المغصوب أو لا يضمن؟ فذهب الشافعي إلى أنه يضمن سواء استوْفى المنافعَ من الشيء المغصوب، أو لم يستوْفِها ولكنه عطَّلها. وذهب أبو حنيفة أنه لا يضمن المنافع، سواء استوفاها أو عطلها، قولًا مطلقًا. وإن مذهبنا (ففيه اختلافًا) (¬1) عن مالك وعن أصحابه رضي الله عنهم، وذلك على قسمين: أحدهما أن يستوفي المنافعَ ولا يعطلها. والثاني ألاّ يستوفي منافع الشيء المغصوب بل عطله. فأما إن استوفى المنافع، فبعض شيوخنا يحكي أن في المذهب خمسة أقوال: أحدها: أنه يغرم المنافع التي استوفاها، سواء كانت منافع ديار أو عقار، أو منافع حيوان، وغيرها من ضروب المتملَّكات، باع المنافع، وأخذ أثقالها (¬2)، أو انتفع بها في نفسه، ويقول: إنها رواية عن مالك، رواها أشهب وابن زياد. ورواية أخرى عنه أنه لا يضمن شيئًا من ذلك. ورواية ثالثة عنه، رواها أبو الفرج، وهو أنه يضمن منافع الدواب والرقيق، ويغرم العوض عنهما الذي أخذه ولم يحاب فيه في القيمة. وأما إن تولّى ذلك لنفسه، بأن ركب واستخدم، لا يضمن، ولا غرامة عليه للمنافع. وابن القاسم روى عنه رابعة: روى عنه في المدونة أنه لا يضمن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيه اختلافٌ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَثْمانها.

ما اغتلّ أو انتفع به في نفسه في الدواب، والرقيق، ويضمن ما انتفع به من غلة البقر والإبل والغنم. وذكر قولًا خامسًا عن ابن المعدل: إنه لا يغرم قيمة غلّة الحيوان. وهذا الذي ذكرناه عن ابن القاسم إنه قال، في كتاب الغصب: إنه لا يغرم غلة الدواب والرقيق. وقال، في كتاب الاستحقاق من المدونة: إنه يغرم ذلك. ومن المتأخرين من يقول: إن المذهب على أربعة أقوال، ويحكى ما ذكرناه على حسب ما ذكرناه، إلا ما نقلناه عن ابن المعدل فإنه لم يحكِهِ. وتحقيق القول عندي في هذا أن الشيء المغصوب، إن كان رَبْعًا، فإنه اختلف قول مالك فيه، والمشهور عنده (¬1) أن الغاصب يغرم عوض المنافع، سواء انتفع به ابن فسه، بسكناه، أو زراعته فيها، أو أكراها من غيره. هذه الرواية المشهورة المعروفة عندي، وعليها جمهور أصحابه لكن ابن القصار ذكر في كتابه أن الشيخ أبا بكر الأبهري حكى له أن هناك رواية أن الغاصب لا يغرم عوضًا عمّا سكن بنفسه أو أكراه. ونقل بعض أشياخي عن كتاب ابن القصار أن فيه رواية عن مالك أنه لا يغرم غفة شيء، من رَبْع أو غيره، قولًا مطلقاً. وابن القصار لم أقف في كتابه إلا على ما نقلته عنه من قوله: إن الشيخ أبا بكر الأبهري حكى لي أن هناك رواية بأن الغاصب لدار لا يرد غلّتها لأجل ضمانه. ولكن إذا قال في هذه الرواية: إنه لا يرد غلّتها لأجل ضمانه، والدار من العقار الذي يُومَن هلاكُه، وضمانُه يبعُد لبعد تغيّره، فأحرى ألا يرد غلّة الحيوان لسرعة تغيّره الموجب لضمانه. فصار في غلة الديار قولان: المشهور منهما أن الغلة للغاصب، وأن عليه عوض ما انتفع به أو أكراه في الديار والعقار. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عنه.

وأما غلة الإبل والبقر والغنم فالظاهر من المذهب أنها تلحق بالعقار لا بالرقيق والدواب. واعتذر عن هذا بعض المتأخريين بأن غلاتها تحدث بالطبع والحِيلَة (¬1) سواء أراد ذلك الغاصب أو لم يرده، لأن الصّوف تنبت، واللبن يحدث، أراد الغاصب ذلك أو لم يرده بخلاف ما لا يصحّ به الانتفاع إلا بفعل الغاصب، كركوبه الدابة، واستخدامه العبد. وهكذا اعتذر أيضًا بعض المتأخرين عمّا رواه أبو الفرج من كون الغاصب للرقيق والدواب يضمن غلة ما أكراه من ذلك، ولا يضمن ما انتفع به من ذلك بنفسه، لأجل (¬2) أعواض المنافع إذا أخذها صارت كعين كأنه غصبها فعليه ردّها كالصوف واللبن، يفارق ذلك استهلاكه المنافع لنفسه لأنه لم تحصل في يديه عين قائمة. وأما إذا لم يستوْف المنافع ولكنه عطّل الشيء المغصوب، فقد حكينا عن أبي حنيفة أنه لا يوجب عليه غرامة في استيفائه المنافع فكيف إذا عطلها؟ ذلك أحرى (¬3) لا يجب عليه عوضها لأجل التعطيل. وذكرنا عن الشافعي أنه يوجب عليه غرامة ما عطل منها، كما يوجب عليه غرامة ما استوفاه منها. وأما نحن، إن قلنا: يجب عليه غرامة ما استوفاه منها، فهل يغرم عوض ما عطل منها؟ فيه قولان: المشهور الذي عليه الأكثر أنه لا يضمن قيمة ما عطل منها. وقد تقدم كلامنا على هذا في تضمين الغاصب هل يقاس ذلك على ما أتلف أوْ لا يقاس عليه؟ وأجرينا عليه الاختلاف في تضمين الغاصب نقص الأسواق. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الجبلّة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الأوضح إضافة: أنّ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أنْ.

فاعلم أن سبب الخلاف التعلق بظواهر من القرآن: فمن يجعل الغلة للغاصب يقول قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (¬1) وهو إذا ردّ العين المغصوبة فلا يكون عليه غرامة لقوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} (1) وهذا قد أحسن إذا رد العين. وقال أصحاب المذهب قال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} (¬2) وهذا الغاصب ظالم، فيجب أن يكون عليه سبيل، وهو الغرامة لما ظلم فيه من إتلاف المنافع. والتعلق بمثل هذا ضعيف، لوجوه لا تكاد تخفى عمّن قرأ أصول الفقه. لكن اختلاف المذهبين لأجل التعلق بظاهرين وقعا في حديثين عن النبي عليه السلام هو أوْلى ما تُعلِّق به. فمن لم من (¬3) تغريم الغاصب عرض (2) المنافع التي أتلف قال: هو ضامنٌ الأعيانَ التي وقع بها الانتفاع، وقد قال عليه السلام: "الخراج بالضمان" (¬4) والغاصب ضامن. والخراج هو الغلة فلا يجب عليه غرامتها على ظاهر هذا الحديث، لأجل ضمانه. وقد أجاب عن هذا أصحاب المذهب الثاني بأن قالوا: هذا الحديث، وإن كان عمومًا، فقد خرج على سبب، وذلك أن عمر بن عبد العزيز ترافع إليه خصمان في عبد، اشتراه فاغتله المشتري، ثم رده بعيب. فقال عمر بن عبد العزيز: يرد المشتري غلته معه. فقال له مخلد بن حفاف وعروة قالا: إن عائشة قالت: إن النبي عليه السلام قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان. وهذا، وإن كان اللفظ عامًا، فإنه خرج على سبب، وهو الرد بالعيب، والمشتري مالك لما اشتراه، ومباح له التصرف فيه، وله أن يقبل العبد بعينه (¬5) ¬

_ (¬1) التوبة: 91. (¬2) الشورى: 42. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَرَ .... عِوَضَ. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعيبه.

فيكون الخراج له، لأنه حدث عما يملكه بالحقيقة، والغاصب أخذ منافع ما لا يملكه، ولا يحل له التصرف فيه، فلا يصح أن يقاس على المشتري إذا ردّ بعيب، لما بيناه من الفرق بينهما، مع ذهاب بعض الأصوليين إلى أن العموم إذا خرج على سبب قُصِر العموم عليه، واختص الحكم بالسبب، ولم يتعد إلى غيره. مع أن حديث عائشة رضي الله عنها (لم تنقل القضية التي قضى بها النبي عليه السلام قضى في مثلها هذا) (¬1). وهذا أيضًا فيه تنازع بين أهل الأصول. لكن قد روي عن أبي هريرة أنه قال: إن النبي عليه السلام قال: "الخراج بالضمان" ولم يذكر أبو هريرة سبب هذا الحديث عليه (¬2). فعلى رواية أبي هريرة أيبطل (¬3) ما اعترضنا به حديث عائشة رضي الله عنها. وتعويل شيوخنا المحققين، واختيارهم أن الغاصب يرد الغلات في أيّ جنس كان، لأنه، كما وجب عليه ردّ العين، وجب رد منافعها لأجل أن الأعيان لا يملكها على الحقيقة إلا الله تعالى، وإنما تباع وتشترى منافعها، والأعيان لا يصح تملكها، لكن وقعت المعاوضة عنها لأجل أن المنافع لا يصح تناولها إلا من الأعيان، وهذه عهدة قاطعة. وقول أصحاب أبي حنيفة لا نسلّم أن المنافع مما لا يُتموّل، استدلالًا منهم بأن المال مما يتموّل. وإنما يصح التمول فيما يدخر للحاجة إليه، والمنافع لا يتصور فيها هذا، مع أن المريض له أن يهب منافع نفسه في مرضه فيبني دارًا لإنسان، أو يعمل له منفعة قيمتها تزيد على ثلث ماله.، فلا يُمكّن الورثة من طلبه بشيء من قيمتها. وكذلك لا مقال للغرماء في هبة منافعه، ولا يباع ذلك عليه إذا فلس. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، والأوْلى حذفها. (¬3) في (مد): هل يبطلُ؟.

وهذا الذي قالوه غير صحيح، لأن أخذ الابدال والإعراض (¬1) إنما يصح فيما يتمول، ومنافع الأعيان مما يصح العقد عليها بعوض، كما للإنسان أن يؤاجر عبده، ويكري داره. فلولا أنها مما يتموّل لم يصح عقد الإجارة فيها. وبعض أصحاب أبي حنيفة سلم أنها مما يتمول، ولكنه منع من وجه آخر، وهو كون الغصب لا يتصور، كما جمنع أبو حنيفة من تصور الغصب في الديار؛ لأن الغصب إزالة يد المالك بيد الغاصب، والمنافع تعدم عند وجودها فلا يصح استيلاء ربها عليها. فكذلك لا يصح استيلاء الغاصب عليها. ولا يتصور أيضًا فيها الإتلاف، إن لم يصح الاستيلاء عليها، لأن ما يتلف ما صح بقاؤه، والمنافع أعراض تنعدم، ولا يحتاج انعدامها إلى أن يغرمها الغاصب. وهذا الذي قاله كله تخييل لا تعلق له بمسألتنا. والذي يقطع الشغب فيه مناقضتهم بعقد الإجارة على المنافع. وجميع ما اعتلوا به من هذه العلل في كون المنافع لا يضمنها الغاصب موجود في عقد الإجارة عليها. وإذا تقرر ما ذكرناه من الاختلاف في ضمان المنافع بأن الولد ليس بغلة، فيجري فيه مجرى الخلاف الذي قدمنا في ضمان الغاصب للغلات. هذا المنصوص عليه عند جميع أهل المذهب. لكن تأول بعض المتأخرين من الأشياخ تخريج خلاف فيه من المسألة المشهورة في كتاب الرد بالعيب من قوله: إن من اشترى أمة فولدت عنده، واطلع على عيب يوجب تمكينه من ردها، وقد حملت عند المشتري وولدت، فإن الولادة تنقصها، وهذا النقص عيب حدث عند المشتري، ومن اطلع على عيب كان عند البائع، وقد حدث عنده عيب، فإنه، إن اختار الرد فإنه لا يرد حتى يغرم قيمة العيب الحادث عنده. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الأعواض.

وهكذا قال في المدونة في المسألة التي أشرنا إليها، لكنه شرط في الجواب أن لا يكون الولد في قيمته ما يُجبَر به عيب النقص الذي حدث بسبب الولادة. وهذا لا يصح إلا أن تكون الولادة غلة للمشتري. وإذا كان له ملكًا لكونه غلة يستحقها بضمانه للأم، صحّ أن يدفعه في قيمة نقص الولادة. ولو كان ليس بغلة ولا يملكه المشتري، بل هو كعضو من أعضائها، لم يُجبَر به نقص الولادة. واعتُرض هذا التخريج بأن قيمة عيب الولادة إنما يقضى فيه بمقداره من الثمن الذي دفع المشتري للبائع، لا بعرض يدفعه عوضاً عن هذا العيب. وهاهنا قد دفع الولدَ، وهو كعرض من جملة أملاكه عوضًا عن دنانير وجبت عليه قيمةَ عيب نقص الولادة. وألزِم البائعُ قبولَ ذلك منه. وهذا خلاف مقتضى الأصول. وينفصل الآخرون عن هذا الاعتراض بأن هذا العيب سببه الولادة، والولد عنه يكون، فكأنه إنما جبر الشيء بنفسه، والأصل بفرعه، وكأنه نقص اقتضى زيادة، فَمَحَتْ الزيادة النقص حتى عادت الجارية لم يدخلها نقص. ويجبر نقص الولادة بقيمة الولد. قال أبو حنيفة وبكونه لا يجبر عيب الولادة قال غير ابن القاسم من أصحاب مالك. وقد اعتمد من لم يره غلة على الاتفاق على أن الولد يتبع أمّه في الرق والحرية. فابن الحرة حرّ، وإن كان زوجها عبدًا، وابن الأمة عبد وإن كان أبوه حرًا. وهذا قد يقدح فيه بأن هذه أحكام شرعية، فلا يقاس عليها غيرها من أحكام الضمان والإتلاف والتعدي، فإن هذه أحكام عبادات، وما نحن فيه

أحكام جنايات وغصوبات، ألا ترى أن الشرع خالفه (¬1) هذا في الأديان فجعل حكم الولد تابعًا لأبيه في الدين. فإن كان مسلمًا، وأمه نصرانية، فالولد مسلم. وإن كان نصرانيًا، والأم مسلمة، كان نصرانيًا، في المشهور من مذهبنا. وإن كان عندنا فيه اختلاف. ومما يلحق بهذا المعنى غاصب بيضة فحضنها تحت دجاجة، فانشقت عن دجاجة، فإن أشهب جعل الدجاجة التي خرجت من البيضة للغاصب للبيضة، وعليه بيضة مثل الذي غصب. وخالفه سحنون ورأى أن الدجاجة الخارجة من البيضة لصاحب البيضة. والجواب عن السؤال الثامن عشر (¬2) أن يقال: لا يخلو من وطئ امرأة، وقد غلبها على نفسها، إما أن تكون حرة أو أمة: فإن كانت حرة، فإن عليه الحدّ باتفاق. واختلف فقهاء الأمصار في إلزامه صداق مثلها. فأوجب ذلك مالك والشافعي. وأسقط عليه صداق المثل أبو حنيفة. وسبب هذا الاختلاف في إلزامه الصداق مع حدّه، قد اتُّفق على أنه لو وطئها بطوع منها، فإنه لا يلزمه صداق مثلها. كما اتفق على أنه لو وطئها بعقد فاسد فإن عليه الصداق المسمى، أو صداق المثل، على ما فصل في كتاب النكاح، لأجل (¬3) الزنى يقتضي إسقاط الصداق، والوطء بشبهة يقتضي إثبات الصداق .. فاعتبر أبو حنيفة وطء الرجل، فلما رأى أن الحدّ واجب عليه أسقط عنه الصداق، إذ ثبوت الحذ ينفي الصداق. ولما رأى مالك رضي الله عنه، والشافعي أن المرأة لا حد عليها، ونفي الحد يقتضي ثبوت الصداق، أوجب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خالف. (¬2) هذا جواب عن سؤال لم يرد في قائمة الأسئلة. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أنّ.

لها على الواطئ الصداق. والأصول تقتضي اعتبار حالِ من أُوجب عليه الحد، لا من وَجَب له، والصداق ها هنا إنما يجب للمرأة باعتبار حكمَ وطئها أوْلى من اعتبار حكم وطء الزوج. وهذه المسألة إنما أوردناها ها هنا لتعلقها بما فرغنا منه آنفًا لمّا ذكرنا أن أبا حنيفة يرى أن المنافع إذا تلفت عن غير عقد ولا شيهة عقد فإن مُتلفها لا يغرِمها. ولهذا رأى أن الغلات للغاصب كما ذكرنا مذهبه. وأن الشافعي يراها للمغصوب منه. وهكذا في أحد أقوال عندنا، أوجب مالك وأصحابه في وطء المستكرهة الصداق، وإن كانت منافع الفرج قد أتلفها الواطى من غير عقد نكاح ولا شبهة نكاح. وأبو حنيفة يعتمد على ما ذكره أهل الأصول في كتبهم من أن التعليل والقياس إذا أدى لفساد الوضع لم يقبل، كما كنا قدمناه في كتاب الطهارة من أن من يرى تكرير مسح الرأس، قياسًا على الوجه، فإنه لا يصح له هذا القياس، لأجل أن الرأس فُهم من الشرع أنه خفّف الحكم فيه بأن جعل في الوضوء مسحه، والوجه غسله، وتكرير مسحه قياسًا على الوجه تثقيل، ولا مناسبة بين التثقيل والتخفيف في حكم واحد، وما هو في معنى الحكم الواحد. وكذلك في مسألتنا، فيقول: إن الحد يرتفع بالشبهات، وضمان الاتلافات يجب بالشبهات، فلا يجتمع في حكم واحد ما يثبت بالشبهة وما ينتفي بها، فالحد يدرأ بالشبهة، والضمان يثبت بالشبهة، فلا يصح اجتماعهما في مسألة واحدة. وقد اشتهر الحديث الصحيح بأنه عليه السلام "نهى عن مهر البغيّ" (¬1) بتشديد الياء، ويروى بتخفيفها، والمراد بهذا النهي عن مهر الزنى. والجواب عن هذا أن الزنى في مسألة المستكرهة في حق الواطئ لا في حق الموطوءة، لأنها ليست بزانية، ودليل ذلك سقوط الحد عنها، ونهيه عليه ¬

_ (¬1) جزء من حديث. انظر: فيض القدير: 328:6 حد 9456

السلام عن البغي فيما يكون الواطى والموطوءة فيه زانيين جميعًا. وكذلك الجواب عن تعلقهم بأنه تزوج بالمهر اقتضى جميعًا (¬1) بين ضربين: بين ما يدرأ بالشبهة كوطء أحد الشريكين، وما يثبت بالشبهة وهو ضمان الوطء. إلى غير ذلك من المسائل التي تصور فيها هذا، فإنا نقول الذي يستحق المهر المرأة والذي يجب عليه الحد واطؤها، فكان هذا (¬2) حكمان في شخصين أو في مسألتين. وقد احتج الشافعي لنفسه، بأن قال، بأن الواطئ في نكاح فاسد يلزمه الصداق، مع كون الزوجة راضية بالوطء، فإلزام الصداق في مسألة المستكرهة، التي وطئت بغير رضاها، أحرى وأوْلى. وقال بعض أصحابه لو وطئها بطوعها لم يجب الصداق، إذا (¬3) كانا زانيين، ولو وطئها بوجه شبهة لوجب الصداق. وإذا وطئها مستكرهة اختص كل واحد منهما بحكم نفسه، من (¬4) غير زانية، فلها الصداق. وهو زان فعليه الحد. واعلم أنه قد ورد في الشريعة اختلاف أحكام في فعل واحد، ألا ترى أن من قتل صيدا غير مملوك، وهو في الحلّ، فعليه جزاؤه، ولو قتل صيدًا مملوكًا، وهو محرم، كان جزاؤه حقًا للبارى سبحانه، وعليه مع هذا غرامة ثانية، وهي قيمته يغرمها لمالكه. فصار في الفَعْلة الواحدة غرامتان حق لله سبحانه، وحق للمخلوقين. وكذلك من قتل إنسانًا خطأ، فعليه دية لأهله، وعليه كفارة القتل حق لله سبحانه، فهما حقان اختلف سببهما. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: جمْعًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذان حكمين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فهي.

فكذلك لا يستنكر وجوب الحد على هذا الواطى، ووجوب غرامة الصداق. ولا يُعترض هذا بأن قتل العمد لا يجتمع فيه القصاص وإيجاب الدية، لأنهما حقان يستحقهما ولي القتيل على البدل لا مجموعين، والقتل فعل واحد وله بَدَلان قصاص ودية، فلا يجتمع البدلان جميعًا عوضًا عن مُبدَل واحد. ويجري على أسلوب هذه المسألة مسألة قطع يد السارق حدًّا للسارق، وتغريمه لِما سرق. فعند الشافعي أنه يقضى عليه بالقطع، الذي هو حد السرقة، وبغرامة المال الذي سرق. وعند أبي حنيفة أنه إذا قُطِع لا يغرِم ما سرق، ولا يجتمع عليه الحد والضمان، كما قال في وطء المستكرهة: فإنه يحد ولا يغرم صداق المثل، لأنه لا يجتمع أيضًا حدّ وغرامة. وكل واحد من هذين الإمامين جعل حكم وطء المستكرهة وثبوت الحد على الواطى مثلَ اجتماع قطع يد السارق وتغريمه ما سرق، فقال (¬1) واحد منهما في المسألتين بحكم واحد فيهما. ومذهبنا نحن، في المشهور عندنا، أنه لا يتبع بالغرامة لما سرق إذا قطعت يده، إلا أن يكون موسرًا متصل اليسر، على ما يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى. وكذلك سنتكلم في كتاب الحدود على وطء الرجل لأجنبية أُكرِه على وطئها، فإن في حده اختلافًا: فذهب مطرف وسحنون إلى إثبات الحد عليه واعتل سحنون أنه لا يتأتى منه الوطء إلا إذا أنشر وأنعظ، والإنعاظ لا يصح الإكراه عليه، بخلاف المرأة أنها إذا أكرهت على التمكين من فرجها إكراهًا لا تقدر على مدافعته، فإنها لا تحد بغير خلاف. وهذا إذا ثبت إكراه المرأة على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: كلّ.

التمكين من وطئها بشهادة بيّنة عاينوا ذلك، فإنه يقضى لها بالصداق، ويحد واطؤها، ولا يقبل في ذلك أقل من أربعة شهود، وإن قصُر عددهم عن الأربعة حُدّوا حدّ القذف، ثم يكون القضاء لها بالصداق أو القضاء عليها بسقوطه، يؤخذ حكمه من التفصيل الذي نذكره. فاعلم أن المرأة إن لم يشهد الشهود بمعاينة وطئها مغلوبة على ذلك، وإنما شهدوا بمعاينة إدخالها البيتَ أكرهت على ذلك، وخَلاَ بِها المكرِه، فخرجت فادعت الإصابة فإنه يقبل ها هنا شهادة رجلين، لأنهما لم يشهد المعاينة الزنى فيكونان كَقَذَفَةٍ، وإنما شهدا بصفة حالٍ اقتضت العوائدُ أنه يدل على أنها وطئت، فإذا خرجت، وقالت: وطئني، صدّقت مع يمينها. وأُجري ذلك مجرى إرخاء الستور على الزوجة وادعت الوطء، فإنها تصدق لدلالة العادة أن الخلوة على حال إنما يقصد بها الوطء، يوجب تصديق الزوجة، ولشهادة العادة بصدقها. فأما إن لم تشهد بينة بالوطء اغتصابًا ولا حملها للخلوة بها اغتصابًا، وإنما جاءت متعلقة برجل زعمت أنه وطئها، فإن المعتبر في هذا دلالة قرائن الأحوال، ففي أي الجنبتين ثبت الدليل قضي بتصديق من شهد له هذا الدليل: إمّا الرجل المدعى عليه ما ذكرناه، أو المرأة المدعية لذلك. وإنما (¬1) افترقت الأدلة في الجانبين استعمل الترجيح، على حمسب ما يعرفه الأصوليون والفقهاء من الترجيح عند تعارض العلل والاستدلالات الظنية. هذه النكتة التي يدور عليها ما نذكره من تفصيل الأحوال وسبب الخلاف بين العلماء. واعلم أنها إذا دلت الدلالة على كذبها حتى وجب أن تحد حد الفِرية، لقذفها من تعلقت به، فإنه لا يجب لها صداق على الإطلاق. وإن انتفى الحد عنها فقد يجب الصداق في حال، ولا يجب في حال. فإن تعلقت برجل به ما ادعت به عليه، فإن مالكًا صرف ذلك إلى اجتهاد القاضي. وكأنه لم يحسن عنده ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا.

إطلاق القول بتصديقها في دعوتها طلب الصداق، والأحسن عنده إطلاق القول بإسقاطه، لأن ما بني على قرائن الأحوال، التحقيق فيه اعتبارُ قرائن الأحوال في كل نازلة بعينها، وقد تكون قرينة في شخص، (¬1) آخر ولا تدل على مثل ما دلت عليه. ولهذا يقول أهل الأصول إن قرائن الأحوال المثمرة للعلم لا تنضبط بخط ولا لفظ .. وكأن أصحاب مالك رضي الله عنهم رأوا أن تتبّع كل نازلة بعينها والالتفات إلى قرائن أحوالها ضرب من القضاء بجزئيات لا تنحصر ولا تنضبط، وقد يقع فيها الغلط من بعض الحكام ولو أن إثبات قاعدة أجبتم (¬2) لموارد الغلط، ولكنهم اختلفوا في هذه القاعدة، فابن القاسم يرى أنها لا يقضى لها بالصداق. وذكر هذا أيضًا عن مالك. وكأنه رأى أن الأصل براءة الذمة من الغرامة إلا بإثباتات توجب الغرامة، وليس ها هنا سوى دعوة المرأة عليه مالًا، والمال لا يقضى فيه بالدعوى، وليس كون الدعوى تشبه دلالة على تصديق المدعي. ورأى غيره من أصحاب مالك أنها يقضى لها بالصداق، إذ ليس من قبل المدعى عليه ما يدل على كذبها، ومن قبنها ما يدل على صدقها من مقتضى العادة، إذ لا تتهم امرأة أن تفضح نفسها وتضيف إليها الزنى لتستوجب بذلك صداقًا، ولعل الصداق مما يقل قدره، ولعلها (مما لا يحلّ) (¬3) قدرها. وكان بعض أشياخي يلتفت إلى ما أشرنا إليه من اعتبار ارتفاع قدر المرأة وجلالة منصبها. واختلف هؤلاء الموجبون لها الصداق هل يقضى لها بذلك بيمين أو بغير يمين؟ وهذا على ما كنا قدمناه مرارًا في شهادة العادة في التداعي: هل تقوم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: وفي شخص. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَحْسَمُ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّن يَجِلّ.

مقام شاهد واحد، أو مقام شاهدين؟ فمن أقامها مقام شاهد واحد استحلف المدعي معها. وأما إن ادعت ذلك على رجل عدل صالح لا يليق به ذلك ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تُحَدّ له حد القذف. والثاني: أنها لا تحدّ له حد القذف. والثالث: أنها إن كانت تدمي لم تحد، وإن كانت ثيبًا حدّت حدّ القذف. وهذا الاختلاف لما قدمنا تنبيهًا عليه، وذلك أن صلاحه يوجب تصديقه، وفضيحة نفسها توجب تصديقها، فأي القرينتين أولى أن تقدم؟ هذا سبب الخلاف، وإن كان أصبغ، في ذهابه إلى القول الثالث، رأى أنها إذا كانت دمي (¬1)، صار معها دليلان ما تلطخت به من العار والفضيحة، والدم الشاهد على الافتضاض. وإذا كان معها دليلان كان ذلك أوْلى من اعتبار صلاح الرجل وليس ذلك إلا دليلًا واحدًا. وأما الحد لحق البارى سبحانه الذي هو حد الزنى، فلا يجب عليها لما بلغت إليه من فضيحة نفسها. (وأيضًا فإنها بها أشد حاجة إلى قذفة زوجته بالزنى لنفي عن نفسه النسب وجُعلت أيمانه الأربع مقام الشهادات) (¬2). وهذا أيضًا له مدخل في تعليل سقوط القذف عنها في بعض هذه الفروع التي ذكرناها. وأما لو كان هذا الاستكراه وطء أمة، فإن عندنا أنه لا يلزم فيها صداق مثلها، كما ذكرنا ذلك في الحرة، وإنما يلزم فيها ما نقص، على ما ذكرناه في كتابنا هذا في غير هذا الموضع، وذكرنا ما فيه من اختلاف في المذهب وتعليل. ومما يلحق بما نحن فيه من الضمان المتعلق بالإكراه أن من هُدِّد بالقتل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: تدمي. (¬2) هكذا في النسختين.

إن لم يقتل رجلًا مسلمًا، لا تحل إراقة دمه، فإنه لا يحل له ذلك، إذ لا يفدي نفسه بإتلاف نفس رجل آخر. فإن فعل وجب عليه القصاص، وفي المكره له والآمِر له بذلك، مِمّن لا يقدر على مخالفته، اختلاف: هل يجب عليه القصاص أم لا؟ ولو هَدَّد رجل رجلًا بالقتل، أو بإتلاف عضو، على أن يأخذ مال رجل فيحرقه أو يغرقه، ففعل ذلك، فإنه يضمن هذا المال، لأنه وَقَى به نفسه، فلزمه غرامة ما وقى به نفسه من مال غيره. ولو هَدَّده بذلك، على أن يأخذ مال رجل فيحمله إلى الذي هدده بالقتل، فإن المأمور لا يضمن ما حمل من ذلك إلى الغاصب، وإنما يطلب بذلك من صار الم الذي يده ظلمًا. ذكر ابن سحنون، في كتابه، هذين السؤالين، فحكى عن أبيه، في السؤال الأول، أنّ يتلف (¬1) المال يضمنه. وذكر عن نفسه في السؤال الثاني أن المأمور لا يضمن. ولا يتحقق بينهما فرق إلا كون المحرق أو المغرق لمال غيره باشر التلف بيده، ولم يحصل للمهدّد له بذلك غير الأمر، فصار كالسبب الملجئ إلى التلف، وإذا اجتمع في الإتلاف مباشر للتلف وسبب في التلف كان المباشر أوْلى بالتضمين. والمأمور بأن يحمل مال رجل إلى الآمر له بذلك قد هدده، إن عصاه، بأن يفعل به ما ذكرناه، لم يباشر التلف، وإنما يتلفه الذي حصل في يديه، فصار إلى صاحب المال مرجع بغرامة ما حصل في يديه. وهذا كله يجري على ما وقع في المسألة المشهورة التي ذكرناها في كتاب الرجوع عن الشهادات، في شاهدين شهدا عند القاضي بما يوجب قتل رجل مسلم، فلما قتله رجعا عن الشهادة، هل يقتصّ منهما أوْ لا يقتص؟ فيه الخلاف المشهور الذي ذكرناه، وهو كاختلاف (¬2) في المكره لغيره على أن يقتل رجلًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُتْلِفَ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كالاختلاف.

وكذلك لو هُدّد رجل بالقتل إن لم يقطع هذا الرجل المهدّد يد نفسه، فقطعها، ففيه اختلاف أيضًا: هل له أن يقتص من المكرِه له على ذلك فتقطع يده به أمْ لا؟ والجواب عن السؤال التاسع عشر (¬1) أن يقال: إذا ادعى رجل على رجل أنه غصبه شيئًا، وأنكر المدعى عليه، فإن القول قول المدعى عليه، قياسًا على سائر الدعاوي في الحقوق. إلا أن يقيم عليه بينة فيقضى بموجب شهادتها. وقد ذكر في المدونة في المدعي على رجل أنه غصبه سلعة، فأنكر ذلك، فشهد للمدعي شاهدان، أحدهما شهد بأن السلعة، التي ادعاها من زعم أنها غصبت منها (¬2)، ملك لهذا المدعي، وشهد آخر أنه عاين غصْب هذا المدعى عليه لها من يد المدعي، فذكر أن هاتين الشهادتين لا تلفَّق، إحداهما إلى الأخرى. وإنما قال ذلك لأن الشهادتين إنما تلفَّقان إذا استوت معانيهما، واتفقت موجباتهما. والذي شهد بالملك لو انفرد لم يُقضَ للمدعي بما شهد به له الآخر (¬3) يحلِف مع شهادته. ولا يقتصر في اليمين على شهادته، وأنه صادق فيما شهد به، إلا بأن يضيف إلى ذلك ما باع ولا وهب. أو (¬4) انفرد الشاهد بالغصب لحلف المدعي على أنه صادق في شهادته، ولم يلزمه أن يضيف إلى هذا أنه ما باع ولا وهب، لأنه إنما شهد بالحوز، وكون الشيء المغصوب بيد المدعي، فأخذه المدعى عليه من يده بغير اختياره. وهذا لا يتضمن الشهادة بالملك لأن رؤية الشيء في يد مَن هو في يديه زمناَّ قَليلًا لا يدل على أنه مالكه، وإنما يدل على أنه مالكه طول السنين الكثيرة، ولم يَرِد مدع في هذا الذي حازه الحائز ولا نوزع في ذلك، وشاهد تصرفه فيه تصرف المالك، ويستمع دعواه أنه لنفسه، وملك له، ولا أحد ينكر ذلك. فقد ¬

_ (¬1) هذا جواب عن سؤال لم يرِدْ في قائمة الأسئلة. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: منه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: حتى. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَلَوْ.

صار في الشهادتين اختلاف في هذين المعنيين، فلهذا لم يلفقهما (¬1). على أنه إن تعقب هذا بأن الحوز، وإن (¬2) لم يبطل، فإنه يقضى برد الشيء لحائزه، والشهادة بالملك تقتضي ذلك أيضًا. لكن يتصور الخلاف بين الشهادتين من الوجه الآخر، وهو صفة اليمين مع اختلاف حكم الشهادة بالملك والشهادة بالحوز، كما بسطنا القول فيه في كتاب الشهادات من كتابنا هذا. وأيضًا فإنه قد يتصور الاختلاف بين مقتضى الشهادتين من وجه آخر، وهو أن هذه السلعة لو حدث بها عيب في يد آخذها من يد من كانت في يديه، فأراد من أُخذت منه أن يضمّن آخذَها قيمة العيب، فإن الشهادة بالغصب توجب له ذلك، لأن الغاصب يضمن ما حدث عنده، والشهادة بالملك لا تقتضي ذلك، لأن المالك يجوز أن يكون باع ما يملك، أو وهبه، فلا يضمن ما حدث من غير جناية. وقد ذكر في المدونة أن أحد الشاهدين بالملك لو انضاف إليه شاهد آخر، فشهد بأن (هذا الأرض حيز فلان الشهادتين تلفقان) (¬3) ويقضى له بما ادعاه من غير يمين. ولو كان المراد بقوله: إنها حوْزه؛ لأن ذلك كان كما يحوزه، لكان هذا مناقضًا لما ذكره في المسألة التي فرغنا منها، (ولكنه قول على أن المراد بقوله إنها ملكه فهذا لفق الشهادتين) (¬4). وإذا لم يجد المدعى شاهدًا بالغصب ولا بالملك، ولكن أتى بدعوى مجردة، فإنه يعتبر ها هنا حال المدعى عليه، هل هو من الأفاضل، والعدول، وأهل الورع، الذين تدل شواهد حالهم على كذب المدعى عليه (¬5)، فإن ابن القاسم أسقط اليمين عن هؤلاء، لكون الدعوى الأشبه (¬6)، وعاقب المدعي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُلَفَّقَا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذه الأرض حَوْز فُلان [فإن] الشهادتين تُلَفقان. (¬4) هكذا في النسختين. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المدِّعي. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا لا يُشْبه.

لكونه أضاف إليهم معائب تحطُّ أقْدارهم. وقال أشهب: يحلف المدعى عليه الغصبَ على كل حال. وكأنه رأى أن قصد (الادا والانتقاض) (¬1) إنما يتصور فيمن أضاف إلى فاضل أنه سرق مالًا لإنسان، ولا منفعة له في هذه الدعوى فعلم، بذلك أنه قصد الانتقام والإيذاء. فأما إن ادعى (نفسه فيه ضرورة إلى ذلك) (¬2) ويمكن أن يكون قال حقًا دعته الضرورة إلى ذكر هذا الانتقاص. ألا ترى أن الله سبحانه أوجب على قاذف المحصنات المؤمنات حد الفرية، ولم يوجب ذلك على الزوج إذا أضاف إلى المرأة أنها زنت ينتفي (¬3) الولد عنه، لأجل حاجته وضرورته إلى ذكر هذا، واكتفى في نفي الحد عنه بيمينه الأربع مرات على صدق دعواه. وأما إن كان الرجل المدعَى عليه بالسرقة من أوسط الناس أو مجهول الحال، فإنه لا يعاقب المدعي عليه بالسرقة، لأن هذه الدعوى لا يبلغ إنقاصها مبلغَها في انتقاص الأفاضل والصلحاء، مع كونه مضطرًا إلى صيانة ماله بالدعوى. وأما إن كان المدعى عليه مشهورًا بالتسلط والظلم والغصب والتعدي فإنه لا يعاقب المدَّعِي عليه الغصبَ لكون ما عرف من غصبه وظلمه يقوّي دعوى المدعي. وله أن يستحلفه، وللحاكم أن يهدّده، ويعاقبه لعله أن يُخرج ما غصبه. وهذا الضرب والتهديد إنما يتضح القول به إذا قلنا: إن ميت ضرب ليُخرج حقًّا كتَمَه، فأخرجه، فإنه يؤخذ بإقراره لأن سوء حاله، وما علم من ظلمه، مع إخراجه ما غصبه لو (¬4) سرقه على حسب ما ادُّعِي عليه به، كدليلين دلاّ على أنه ما أقرّ إلا بما عنده مما ادُّعِي، كما لو أقر وهوآمن. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الإيذاء والانتقاص. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: لينتفي. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

وقد اختُلف في هذا الأصل عندنا على ثلاثة أقوال: فقيل: من ضربه القاضي ليقر بحق عنده لغيره، فأقر به، فإنه لا يؤخذ بإقرأره، ولو عيّن الشيء المدعى عليه به. وقيل: بل يؤخذ بإقراره إذا عيّن الشيء أو لم يعينه، وهو اختيار سحنون، قال: وإنما يعرف هذا من ابتلي بالقضاء. والقول الثالث: إنه إن أخرج عيْن ما ادُّعي عليه به بعد تخويفه وضربه، أُخذ ذلك منه، وإن كان إنما ادُّعي عليه بشيء صار في ذمته (يأخذ له) (¬1)، كدنانير أو دراهم ادُّعي عليه بعْضُها، فإن ذلك لا يقضى عليه به حتى يقر آمنًا، لأنه لم يحصل ها هنا سوى دليل واحد، وهو ما علم من ظلمه وسوء حاله. بخلاف إذا أخرج العين المدَّعَى عليه بها، فإنه يحصل من ذلك أمارتان على صدق المدعى عليه (¬2). وهذا إذا كان التهديد والضرب والسجن فعل ذلك بحكم شرعي، وأما مَن هدد وضرب، ظلمًا وعدوانًا، ليقر، فإنه لا يلزمه إقراره. ولو ادعى رجل في دار، بيد غاصب مشهور بالغصب، أنها له، لم يُقض له بمجرد دعواه. ولو أثبت أنها ملكه، فزعم من هي في يديه أنه اشتراها منه، ودفع إليه الثمن، فاعتذر المالك بأنه إنما باعها ضربًا (¬3) خوفُ امنه، وأقر بقبض الثمن لأجل مخافته منه أيضًا، والذي الدار في يديه المدعي بشرائها مشهور بالظلم والتعدي والتسلط، فإن القول قول من ثبت له الملك: أني ما بعت منه إلا مخافةً، وما أقررتُ بالثمن إلا مخافة. ولو عاينت البيّنة قبض صاحب الدار ثمنها مِمّن زَعم أنه باعها خوفًا منه، لوجب عليه إذا نُقِض البيع ردُّ الثمن، لمعاينتهم لفظه (¬4) له. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوْلى حذفه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بها. (¬3) هكذا في النسختين، والأولى حذفها. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قبضه له.

ولو ادعى أنه استرده منه سرًّا، لم يقبل دعواه، وهذا لأن معاينة البينة لقبض الثمن يوجب عليه الردَّ، ودعواه ما يُسقط ما أوجبه، الظاهر لا يقبل منه. واستحسن سحنون أن يُشهِد في السرّ على أنه إنما فعل ما ظهر من البيع لأجل مخافته مِمّن أَخَذ الدار منه. لكنه جعل لهذه الدعوى حكمًا بين حكمين، فقالوا لو بني هذا الظالم المشهور بالتعدي ينافي (¬1) هذْه الدار، لم يُمكَّن من أُخِذت منه من أخذها إلا حتى يدفع قيمة البناء قائمًا. ولو شُهِد له أنه أُكرِه على بيعها لكان له أن يعطي قيمة البناء منقوضًا. وإذا وجب ردّ الدار لم يجب ردّ الغلة، فجعله كمن اغتلّ دارًا وبنى فيها بوجه شهبة، إذا لم تثبت حقيقة الغصب، وجعله في أخذ الدار منه ونقض البيع كمن ثبت عليه الغصب. ولا يتضح فرق في هذا إلاّ أن يجعل الاختلاف بين المدعِي والمدعَى عليه كالشبهة في إمكان صدق المدعَى عليه. ومن اغتلّ بوجه شبهة فإنه لا يردّ الغلة، ولا يؤخذ منه ما بناه إلا بقيمته قائمًا، بخلاف أخذ عين الدار منه لأجل أن المدعِي قد أثبت ملكه فيها، وشككنا في هذا الملك هل يسعه أم لا؟ واستصحبنا حال ما ثبت من الملك، فلهذا رددنا الدار ليد المالك. وأما ما بناه هذا الظالم المتعدي فإن ذلك في يده، ونحن على شك في صدق المدعي أو المدعى عليه، فاستصحب حالة ملكه البناءَ، فلم يُخرَج من يديه إلا كما تخرج الأملاك إذا استحقت. تم كتاب الغضب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب حذفها.

كتاب الحجر والتفليس

كتاب الحجر والتفليس

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد وسلم كتاب الحجر والتفليس قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى: المستحق عليهم التحجير (¬1) ضربان: ضرب يستحق عليهم لحقوقهم، وضرب آخر لحقوق غيرهم. فالمستحق عليهم لحقوق غيرهم (¬2) ضربان: صغار وكبار. فالصغار ذكور وإناث. وهم نوعان: عقلاء وغير عقلاء. فمن له أب يحق (¬3) الحجر عليه لأبيه. فإن عدم فوصيّه، ثم وصي وصيه. فإن لم يكن له (¬4) وصي فالحاكم. ثم هم نوعان: عقلاء وغير عقلاء. فغير العقلاء يستدإم عليهم الحجر إلى أن يعقلوا. والعقلاء ضربان: أصاغر وأكابر. ¬

_ (¬1) في م والغاني: الحجر. (¬2) في م والغاني: لحقوقهم (¬3) في م والغاني: فحق (¬4) ساقطة في م والغاني

والأصاغر (¬1) يستدام عليهم الحجر حتى يبلغوا ويؤنس منهم الرشد، فحينئذ يفكّ عنهم الحجر. وذلك في الغلام بأن يُعرَف منه إصلاح ماله وحفظه، وتأتّيه لتنميته، والتحرّر من تبذيره وإضاعته، وإنفاقه في وجوهه. ولا تراعى عدالته في دينه أو فسقه إذا كان مصلحا لماله. وأمّا في الصغيرة فيُرَاعَى مع البلوغ وإصلاح المال أن تتزوج ويدخل بها الزوج. وحدّ البلوغ في المذكور ثلاث علامات، وفي النساء خمس. فالثلاثة التي يجتمعون فيها: الاحتلام، والانبات، والانتهاء من السنّ إلى ما يعلم بالعادة بلوغ من انتهى إلى مثله. وقال أصحابنا: (¬2) مثل ثماني عشرة سنة وما قاربها. وما يزيد به الإناث على المذكور شيئان: الحيض والحمل. وأمّا الأكابر فمن كان منهم مبذرا لماله مضيعا له. ابتدئ عليه الحجر، كان ذلك لعجز عن اصلاحه أو تعمّد لإضاعته في شهواته. ولا يحجر عليهم إلا الحاكم، ولا ينفذ حجر إلاّ بحكم. وأمّا المحجور عليهم لحقوق غيرهم فأربعة زوجات ومرضى وعبيد ومفلسون. فأمّا الزوجات، فكل امرأة ذات زوج فليس لها أن تتصرف في مالها، فيما زاد على ثلثها، بهبة أو صدقة أو عتق وكلِّ ماليس بمعاوضة، إلا بإذن زوجها. [فإن فعلت] الأمر إلى الزوج إن أجازه جاز وإن رده فسخ جميعه. وقيل: ¬

_ (¬1) في م والغاني: فالأصاغر. (¬2) في م والغاني: إلى مثل.

ما زاد على الثلث. ثم ليس لها التصرف في بقية المال الذي أخرجت ثلثه، ولها ذلك في مال (¬1) طرأ لها بعد. ثم ذكر بعد ذلك بقية الأقسام (¬2). قال الفقيه الإمام رحمه الله: "رأينا هنا أن نملي أحكام الحجر وبيان من يحجر عليه، مجموعا مبيّنا جنسه وأنواعه، ونختم أنواعه بنوع الحجر على المفلس، ونتبعه بمسائل المديان والتفليس. فيتعلق بهذا الفصل الذي أورده القاضي عبد الوهاب خمسة عشر سؤالًا منها أن يقال: 1) ما معني الحجر وأنواعه؟ 2) وما الدليل على وجوب الحجر على السفهاء؟ 3) وهل يحجر على البالغ العاقل السقيه؟ 4) وما حقيقه السفه الموجب للحجر؟ 5) ومتى زمان ابتلاء اليتيم؟ 6) وصفة ابتلائه؟ 7) وهل يقف الحجر والاطلاق على الحكم بذلك أو على وجود العلة المانعة الموجبة للحكم؟ 8) وما المعاني التي يعلم بها الحجر؟ 9) وهل يثبت البلوغ بعلامة عليه؟ ¬

_ (¬1) في م والغاني: في مال آخر إن ... (¬2) هكذا. ولعله كلام مقحم في النسختين (و)، (مد)

11) وهل يكتفي بحصوله؟ 11) وهل تردّ عقود السكران لكونه لا يدبر المال؟ 12) وهل يحجر على المغمور؟ 13) وهل يحجر على المرتدّ؟ 14) وهل يحجر على الزوجة؟ 15) وهل يحجر على المفلس؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: أمّا الحجر فمعناه في اللغة المنع والحرز، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} (¬1). وهو يتنوع، في مقصدنا في هذا الكتاب، إلى المنع من تمكين مالك المال منه، وإلى تمكينه منه ومنع تصرفه فيه. ويتنوع المحجور عليهم إلى نوعين: أحدهما من يحجر عليه لحق نفسه ونظرًا لهم، وهم ثلاثة: 1) من لم يبلغ الحلم، ذكرا كان أو أنثى. 2) ومن بلغ مجنونا، ذكرا كان أو أنثى. 3) ومن بلغ سفيها، ذكرا كان أو أنثى. فهؤلاء الثلاثة يمنعون من أموالهم، ويحجر عليهم فيها نوعَا الحجر، وهما: منعهم من أخذ المال، ومنعهم من التصرف فيه، وذلك لحق أنفسهم ونظرًا لهم لا نظرًا لأحد سواهم. ¬

_ (¬1) الفرقان: 22

ولما كان من ذكرناه يعدم النظر لنفسه في هذا عدما كليا، كالمجنون أو عدم انتقاصٍ عن الكمال، كالصغير والسفيه، نظر الشرع لهم فأمر الآباء والأوصياء والحاكم بالنظر لهم صيانة لأموالهم التي بصيانتها قوام حياتهم وحفظ عيشهم. وقد نبه الله سبحانه على هذا التعليل، فقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَامًا} (¬1). فنبه على أن بها قوام الحياة، إذ الحياة لاتثبت إلاّ مع الغذاء، والغذاء لا يتوصل إليه إلا بمال، فإضاعة مالهم كإضاعة حياتهم. والثاني: من يحجر عليه لحق غيره، وهم من يملك رقبة من في يده المال، كالسيد مع عبده، فإن له أن يأخذ ما في يده ويمنعه من التصرف فيه، أو يبقيه في يده ويمنعه من التصرف فيه. فإن شئت عبرّت عن هذا بأن تقول: من يملك ما في يد من يحاول الحجر عليه، على القول بأن العبد غير مالك. أو تقول: من يملك ما في يديه إن شاء، أو يرجى له أن يملك عَين ما في يد من يحجر عليه، كالمريض مع ورثته: فإنهم وإن لم يكونوا ملكوا أعيان ما في يديه لمرضه، فإنهم يُرجى لهم ملك عين ما في يديه. وكذلك أيضًا المرتد مع المسلمين: فإنهم وإن لم يستحقوا إلاَّ (¬2) أعيان ما في يديه، فإنهم يُرجى لهم ذلك إذا لم يرجع إلى الإِسلام. وعلى القول الشاذ عندنا أن المرتد إذا عاد إلى الإِسلام لم يرجع إليه ماله، يلحق هذا بمن ملك الآن عين ما في يد المحجور عليه، كما قلناه في العبد، أو من يملك الانتفاع بما في يد من يحجر عليه، كالزوج مع زوجته، أو يملك ذمة من يحجر عليه وهم الغرماء مع من فلسوه. وهذا أخر التنويع الذي ذكرناه. فحصل من هذا أن الذين يحجر عليهم لحق غيرهم أربعة: ¬

_ (¬1) النساء:5. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف: إلا.

أحدهم: من يملك عين ما في يد المحجور عليه. والثاني من يملك الإنتفاع بما في يد المحجور عليه. والثالث: من يُرجى له أن يملك عين ما في يد المحجور عليه. والرابع: من يملك ذمة المحجور عليهم. على الجملة دون التفصيل، فإنهم يختلفون في التفصيل على ما يذكر كل فصل في موضعه إن شاء الله. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد قدمنا أن المحجور عليهم لحق أنفسهم ولإصلاح مالهم ثلاثة: 1) الصغير 2) والمجنون 3) والبالغ العاقل السفيه. فأمّا الحجر على من لم يبلغ، الأصلُ فيه قوله تعالى {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا. وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬1). فنهى تعالى عن دفع المال إلى من كان صغيرًا، لكنه في إفراط صغره قد عدم النظر لنفسه، ومع مراهقته ناقص النظر لنفسه. فعلق الدفع ورفع الحجر بشرطين وهما: البلوغ وإيناس الرشد. وقال تعالى: (¬2) {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فنبّه على وجوب صيانته عليه حتى ينتقل إلى حالة من يصون ماله بنفسه. ولا خلاف بين العلماء في ذلك، كما لا خلاف بينهم في كونه إذا بلغ ¬

_ (¬1) النساء: 65 (¬2) الأنعام: 152

مجنونا لا يدفع إليه ماله، لمشاركة الصغير في علة المنع من الدفع، بل المجنون أولى بالمنع من الدفع من المراهق، لكونه عَدِمَ العقل بالكلية، ولحق بالبهائم. وأمّا إن كان بلغ وهو عاقل: فمذهبنا ومذهب الشافعي أنه لا يزول الحجر عليه إلاّ أن يونس منه الرشد ومذهب أبي حنيفة أنه بالبلوغ والعقل يرتفع عنه، ولكن دفع ماله إليه يوافقنا عليه، ويرى أنه ممنوع منه حتى يونس منه الرشد، فإن كان أراد أن الحجر يرتفع عنه بالبلوغ والعقل فيما يتعلق ببدنه ونفسه، فكذلك نقول نحن، إذ لا يتهم عاقل سفيه أن يلقي نفسه بالمعاطب المهلكة له، ويتهَّم في المال أن يتلفه في الشهوات الفاسدة. وإن أراد به يمنع من القبض دون التصرف بالبيع والشراء بالقيمة، فنحن نخالفه في هذا، ونرى أنه لا تمضي عقوده إلاَّ أن يمضيها عليه وليه. وهم يقولون إن منعه إذا بلغ عاقلا ولم يونس منه الرشد من قبضه لماله، إنما هو على جهة الاحتياط. فإن بلغ عاقلا. وأنس منه الرشد عقيب البلوغ، فلا خلاف بين العلماء في أنه يرتفع عنه الحجر في قبضه لملكه وفي تصرفه فيه. وإن بلغ عاقلا سفيها وتمادى على سفهه، وله أربع وعشرون في عمره، فإنه لا خلاف أيضًا في أنه لا يدفع إليه ماله. وإن بلغ خمسًا وعشرين سنة وهو سفيه، فجمهور العلماء: مالك والشافعي وغيرهما، على أنه لا يدفع إليه ماله. وانفرد أبو حنيفة فقال: يدفع إليه ماله. والذي قاله الجمهور سبق إلى النفس (بأَدْنَى وخيالٍ صحته، إذ لا فرق بين سنه أربع وعشرون تمضي من عمره ولا سنة غير ست وعشرون ولا خمس وعشرون التي أخذها) (¬1) أبو حنيفة وأقامها مقام الرشد، مع العلم بسفهه ¬

_ (¬1) هكذا في و، م. والأقرب للصواب: بأدْنى خيال ... بين مَن سنُّة ... ولا مَن سنّهُ ... التي أخذَ بها.

وتبذيره الذي هو علة الحجر عليه في سنه أربع وعشرين في عمره عندنا وعنده وعند سائر العلماء. والتحديد بخمس وعشرين ها هنا كالتحكم من غير معنى، ومناقضة المعنى المخيل، وهو كون السفيه المبذر إذا تلف ماله، فقد عدم ما هو قيام له، كما قال تعالى، والعلة مقطوع بكونها لا يفترق وجودها وحصولها في سنة أربع وعشرين أو خمس وعشرين. وإذا تحقق ذلك وتيقن، وكان السفه علة في الحجر، فرفع الحكم مع وجود علته كالتناقض. وهذا واضح، ولا خيال يتحقق في نصرة مذهبه سوى تعلق بظواهر غير مقصود فيها بيان حكم الحجرَ وعلته، كقوّله تعالى {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فدليل هذا عندهم أنه إذا بلغ أشدّه سلم إليه ماله على أىّ حال كان: سفيها أو رشيدا، لأن ما بعد حرف الغاية الذي هو "حتى" نهاية إلى أن لا يُقرَب ماله. وما بعد حرف الغاية يخالف ما قبله. فهذا تعلق ليس بصريح بما يُفعل بمالِه إذا بلغ الأشدّ وكان سفيها، بل يجب أن يرد هذا إلى الإجمال الذي ما بُيّنَ بيانا جليا، من ذكر الشرطين المعلق بهما دفع المال، وهما: بلوغ النكاح، وإيناس الرشد، كما قال تعالى. وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} بعد ذكره بلوغ النكاح. فوجب أن يعتبر الشرط الذي هو إيناس الرشد عقيب البلوغ، لكون الفاء للتعقيب في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} فدلّ هذا الخطاب على أنه إذا طال الأمد بعد البلوغ لا يعتبر الرشد. وهذا أيضًا لا يقابل وضوح العلة في منع الدفع لأجل السفه، وإن العلة متساوية في سائر السنين مع أن الفاء ها هنا ليست للتعقيب، بل هي لتعليق جملة بجملة. وإنما تكون للتعقيب بغير مهلة في العطف على ما بيناه في كتاب الأصول. وقول أبي حنيفة: إن ابن خمس وعشرين سنة يصلح أن يكون جدًا، لكونه

قد يبلغ الإنسان وهو ابن اثنتي عشر سنة، وتلد زوجته في ستة أشهر. فيكون هذا الولد يلد أيضًا بعد أن تمضي اثنتا عشرة سنة ونصف. فيكون الأول جدًا، وأنا أستحي أن أحجر على جد. وهذا ليس بشيء يعول عليه، وإنما هو إشارة إلى استبعاد كون الإنسان يصير جدًا وهو باق على السفه. ونحن نسلم له أن هذا نادر في العادة، ولكن مع ندوره إذا تحققنا السفه فلا يبطلون بها العلم المحقق، ووجودها في النادر كما هي في الغالب. وكذلك، تخيلهم أن سنّ البلوغ ثماني عشرة سنة، وهي حد لوجود العَقل الطبيعي المعتدل. وأشار الشرع إلى سبع سنين تمضي من العمر لكون ما بعدها مبدأ التفطن لما يستحسن ويستقبح، وينهض مقدار ما في الصّبَى من عقل إلى الشوق إلى تدبير نفسه. فإذا أضيف هذا الانتباه من العقل والتفطن إلى ثمانية عشر، بلغ العدد خمسًا وعشرين سنة، فلم يحسن منعه من ماله. وهذا أيضًا خيال بعيد (كتخيل الشرع وضع) (¬1) ها هنا في غير المقصود الشرعي. ولاَخَفاء في سقوط مثل هذا. وكذلك إن تعلق بقوله تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وقوله "رشدا" نكرة في إثبات والنكرة في الإثبات لا تكون عمومًا على الشمول. وإنما تكون عمومًا على البدل، كقوله تعالى {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (¬2). فمقتضى هذا، لو اقتصر عليه، أن الامتثال يحصل بأيّ بقرة شاؤوا. ¬

_ (¬1) هكذا، والأقرب للصواب: (كتخيّل وضع الشرع). (¬2) البقرة: 67.

وبخلاف العموم في تكرار النفي، فإنما يُحمل على الشمول والاستعياب فإذا حصل رشدٌ فا حسن معه دفع المال. والعقل يسمى رشدا. ألا ترى إلى (قول قوم لوط) (¬1) {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}. ولم يردها هنا بالرشد صيانة المال، وإنما أراد ها هنا العقل المقبح إلى (¬2) إتيان الذكران دون ما خلقه البارى تعالى للوطء وكثرة النسل، وأن ترك الإناث اقتصارا على الذكران من الجهل والإسراف كما قال تعالى فيهم "تجهلون". والجهل ضد العلم، وإن كنا لا نرى العقل يحسن ولا يقبح، وإنما ذلك من جهة الشرع، وأمّا من جهة الطباع والعوائد، فإنه يحسن ويقبح. قالوا: فإذا حصل رشدٌ ما وهو العقل، وجب رفع الحجر. وهذا أيضًا غير مسلم، لأن المراد ها هنا بالرشد الذي (¬3) تبذير المال. وقد قال تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء" ثم عقب ذلك بقوله "فإن آنستم منهم رشدا" يريد ما هو ضد السفه ورافع له. فوجب حمل الكلام عليه مع أنه يقتضي قوله "فإن آنستم منهم رشدا" أنه إذا لم يونس رشدا فلا يدفع إليهم المال. فيصير دليل الخطاب ها هنا نكرة في النفي، وهي بخلاف كونها في الإثبات على ما عرف في كُتب الأصول. ثم إنهم إن جعلوا بلوغ خمس وعشرين سنة هي حدّ الدفع للمال، فلماذا أمروا قبلها إذا صح الرشد، وإن كان العلة حصول الرشد في جواز الدفع، فلماذا أباحوا الدفع في الخمس وعشرين سنة مع عدم الرشد ووجود السفه؟ والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأقرب: قول (لوط إلى قومه). (¬2) هكذا في النسختين، والأوْلى إسقاط إلى. (¬3) هكذا في النسختن. ولعل الأقرب: المنافي.

قد قدمنا أن مذهب أبي حنيفة في أن السّفه وإن كان علة في الحجر، فإنها علة لا تطرد. ولأجل هذا قال في السفيه إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة: إنه يرتفع الحجر عليه، لما قدمناه عنه من التعليل. والدليل الذي منع هذه العلة من الاطراد ومذهبه الذي يضاف إليه في الأصول، أن العلة الشرعية لا يبطلها تخصيصها، خلافا لحذاق أهل الأصول. وأما قبل الخمس وعشرين سنة. فإنه يثبت الحجر على من حجر عليه قبل بلوغه، واستدام السفه والتبذير .. لكن ظاهر مذهبه المنقول عنه في كتاب الخلاف أنه إنما يحجر على من تقاصر عمره عن الخمس وعشرين من السفهاء على أن لا يدفع إليه مال، لأن الحجر نوعان: حجر منع من أخذ المال. وحجر منع من التصرف فيه. لأن وجود العقل يثبت استئمان التصرف. والملك يثبت القبض لما ملك والحوز له. ويثبت التصرف فيه. فأمّا أحد نوعي الحجر وهو المنع من أخذ المال، فيوافقنا عليه فيمن تقاصر عمره من السفهاء عن خمس وعشرين سنة. ويشير إلى أن هذا المنع منع احتياط. وأمّا التصرف في المال، بالعقود بالبياعات والأشرية والإقرارات، فإن ظاهر ما نقل عنه أنه لا يحجر على السفيه فيه، ويرى أن المنع من أخذ المال قصارى ما فيه إلحاق السفيه بالفقير الذي عدم المال. وأمّا من منعه من التصرف فيه، فيلحقه بالبهائم التي يستحيل منها التصرف، وهذا مستبعد، ولا يستبعد التشبيه بحال الصغير. ونوقض في هذا بأن المنع من أخذ المال حسيّ مشاهد. وأمّا المنع من التصرف فيه فأمر ليس بحسيّ، وإنما هو إخبار عن حكم الشرع أنه أبطل عقوده وبياعاته، مع أن الحجر على السفيه يُقطع على أن ذلك إنما كان نظرا له، لِمَا عَدِم من النظر لنفسه. ومنْعُه من المال وإطلاقُ تصرفه فيه كالمتناقض، لأنه

بالتصرف فيه يقع في إفساده المال، فلا معنى للتفرقة. وإذا تقرر هذا وهو تذييل لما قدمناه في المسألة التي قبل هذا: فإن من لم يُطلع على تبذيره إلا بعد بلوغه وعقله، فإنه يرى أيضًا أبو حنيفة أنه لا يبتدأ بالحجر عليه. وتابعه على هذا من أصحابه زفر وحده. وأمّا صاحباه المشهوران به: أبو يوسف ومحمد بن الحسن: فإنهما خالفاه في هذا، واتبعا الجماعة: مالكا والشافعي وابن حنبل وإسحاق والأوزاعي وأهل المدينة وأهل الشام في ذهابهم إلى أنه يبتدأ الحجر على الكبير إذا سفه. وما قدمناه في صدر المسألة من كون أبي حنيفة يجوز تخصيص العلة الشرعية، حملت على هذا المذهب، فأباح ترك السفيه البالغ الذي لم يتقدم عليه الحجر على الإطلاق، ومكنه من تصرفه في ماله، ومنع أن يؤخذ من يديه. (والجماعة إذا منع منهم تخصيص العلة كان ذلك كافيا عنده في الردّ على أبي حنيفة) (¬1) ولكن تعلقوا بان طائفة من الصحابة، رضي الله عنهم، ذهبوا إلى الحجر علئ الكبير السفيه. وذكروا قصة عثمان وعلي، رضي الله عنهما، لما اشترى عبد الله بن جعفر أرضًا سبخة بستين ألف درهم، فرفع ذلك علي رضي الله عنه إلى عثمان بن عفان، وقال له: احجر على عبد الله بن جعفر لأنه اشترى أرضا سبخة بستين ألفا. وقد كان عبد الله بن جعفر بن أبي طالب شارك فيها الزبير فصارت بينهما نصفين. فقال عثمان لعلي رضي الله عنهما: كيف أحجر على من شريكه الزبير؟ فلولا أن عليا وعثمان يذهبان إلى الحجر كما طلب علي من عثمان ما خالف الشرع، ولَمَا كان جواب عثمان له أن يقول: شريكه الزبير. إشارة إلى أن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختن. ولعل الأقرب: .. ، لما منعوا التخصيص ... عندهم.

ذلك يدل على ارتفاع الغبن، ولكان جوابه أن يقول له: لا يصح الحجر على الكبير وقد عكسواهم هذا فقالوا: آخر الخبر يقتضي ما قلناه لأن عثمان امتنع من الحجر، ولو كان ذلك جائزًا له واجبا عليه لما تركه. وهذا يجابون عنه بأن عثمان يمكن أن يكون لما رأى الغبن لما صار بين اثنين قلّ مقداره عن المقدار الذي يرد من التغابن، أو يكون احتقر الغبن، وقد قيل عنه: مرّ بها فقال: هذه الأرض ما أشتريه ابن علين. ولعل الزبير وعبد الله بن جعفر يعتقدانِ غلط عثمان في التقويم لها. وقد ذكر أيضًا أن عبد الله بن الزبير لما اتصل به إكثار عائشة رضي الله عنها من العطايا والصِّلات فقال: لتنتهينّ أو لأحجرن عليها. فاتصل بها، فأقسمت ألاّ تكلمه، فأتى إليها معتذرا فقبلت عذره، فأشار أصحابنا إلى أن هذا كالإجماع الذي لا ينبغي أن يخالف، لا سيّما على طريقة من ذهب من الأصوليين إلى أن الصحابي إذا قال قولا وانتشر في الصحابة فلم ينكره أحد منهم، فإن ذلك حجة لا يسوغ خلافها. واحتج أصحابنا أيضًا بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفُ اأَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (¬1) فجعل تعالى للسفيه وليًّا يملل عنه، ومعناه يقرّ عنه بما باع عليه أو اشترى، بمنزلة المكاتبة المذكورة في أول الآية فدل ذلك على أن السفيه لا تمضي أفعاله ولا معاملاته، وإنما يمضي عليه من ذلك ما فعله وليه. وقد قالوا ها هنا: إن السفيه هو المجنون. فقيل لهم: بل السفيه هو المبذر، والضعيف هو الصغير، والذي لا يستطيع أن يملّ هو المجنون. ¬

_ (¬1) البقرة 282

فهذه الثلاثة ألفاظ حَمْلُ كل واحد منها على فائدة أَوْلى من حملها على فائدتين، وهما: الصغير والمجنون. وكذلك إن قالوا: إن أول الآية يدل على ما قلناه لأنه تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1) يخاطب سائر المؤمنين، والسفيه من المؤمنين. فأسند تعالى المداينة إليه، فدل على جواز القضاء بها عليه. وهذا يجاوبون عنه بأن ما ذكره في آخر الآية من استثناء هؤلاء الثلاثة أخرجهم عن عموم الخطاب الأول. والعموم إذا تعقّبه تخصيص أو استثناء وجب المصير إليه. فإن قالوا: إن السفيه قد اتفقنا على أن إقراره على نفسه بما يوجب الحدّ أو العقوبة يؤخذ به، فليكن المال كذلك. قيل لهم: العاقل لا يتهم في أن يقر بباطل يؤدي إلى قتله، ويتهم في أن يقرّ بما يؤدي إلى إتلاف ماله لغرض له في ذلك لا يقع في مثله العقلاء الرشداء. وكذلك إن قالوا: فإنه لو صرح بأن ما يعقده في المستقبل مفسوخا (¬2)، وكان رُشيّد، لم يؤخذ بهذا القول. فتصرف الإنسان في ماله أبسط من تصرف غيره. وكذلك لا يؤثر قول الحاكم: أبطلت عقوده من المستقبل وكيف يحل ما لم يعقد ويبطل ما لم يوجد؟ فيقال لهم: إنما يتسلط الحكم على أن عقوده لا تلزمه. وهذا معنى يتصور قبل العقد، كما يتصور بعد العقد فسخ العقد لكونه غير لازم. فإذا تقرر أن السفيه الكبير يستأنف الحجر عليه، فإن المذهب على قولين ¬

_ (¬1) البقرة 282 (¬2) هكذا، والصواب: مفسوخ.

في صفة السفه الذي يوجب الحجر عليه: فمذهب ابن القاسم أن السفه الذي يمنع السفيه أن يُعطى ماله إذا بلغ يوجب أيضًا استئناف الحجر عليه إن كان كبيرًا مهملا. ومذهب أشهب أن استئناف الحجر لا يسوغ إلا بثبوت سفه ظاهر بيّن. وكأن ابن القاسم رأى أن السفه في الصورتين جميعًا، الموجب لتمادي الحجر والموجب لاستئنافه، لا يفترقان لكون الحكم متساويا والعلة واحدة. وكأن أشهب رأى أن الحجر إذا لم يتقدم استئنافه بالانتقال من انسحاب الحال لا يثبت إلاَّ بأمر بين، لا سيّما مع مراعاة الخلاف لمذهب أبي حنيفة في قوله: لا يستأنف الحجر على الكبير. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا انكشف للمتأمل وجه المصلحة في الحجر على السفيه، انكشف له حقيقة السفه. وذلك أنا قدمنا أن المال به حفظ الحياة وقوامهما. كما نبه الله سبحانه في كتابه بقوله {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَامًا} (¬1). ومن لا يحسن إمساكه وتدبيره، ويبيعه من غير عوض صحيح حتى يعود محتاجا إلى ما يحفظ الحياة به، ولا يجده، ولا ينظر لنفسه، نظر الشرع له بإقامة من ينظر له. فحقيقة السفه على هذا: تبذير المال وإتلافه. وقد جعل الله سبحانه للإنسان دارين: دارًا عاجلة وهي الدنيا، يحتاج إلى تدبيرها وإصلاحها، ودار الآخرة التي ¬

_ (¬1) النساء: 5

يحتاج أيضًا إلى زاد يستعده لها وهو صلاح دينه. فأمّا صلاح الدنيا وتدبيرها، فلا خلاف أنه معتبر في حقيقة السفه والرشد. واختلفت عبارات أهل المذهب عنه: فقيل: هو إحراز المال وصيانته عن التلف والتبذير. وقيل: يضاف إلى هذا كون المالك له يحسن تثميره وتنميته. وينظر فيهما: فإذا اجتمع في تدبير دنياه كونه محتاطا على المال صائنا له عن التلف والتبذير، وكونه منميا له ومثمرا له، لكونه يحسن التجر به ويتحرز في المعاملات من الغبن المتلف له، فإن هذا هو حقيقة الرشد من تدبير الدنيا بلا خلاف. فإن انحلّ أحد الوصفين، فإن كان الانحل الذي جهة إمساكه وصيانته وحفظه، حتى يعتقد فيه أنه إذا سلم إليه أضاعه وأتلفه، فإنه لا يسلم إليه بلا خلاف على الجملة عندنا وعند الشافعي، على حسب ما قدمنا ذكره فيما سلف. وإن كان انحلاله من ناحية كونه لا يحسن التجر به، فهذا الذي اختلفت فيه اشارات المذهب: فكأن من اعتبر هذا الوصف. اعتقد أن المال إذا أمسكه للإنفاق خاصة من غير أن ينظر في تنميته، ويعرض عنها مع تأتّيها وإمكانها لِهَوان المال عليه، فإن ذلك يُفني المال ويلحقه بمن لا يحسن صيانة المال وحفظه. وكأن من ذهب إلى كون هذا الوصف لا يشترط يقول: إنا إذا منعناه من المال، وأقمنا له قابضا له، فإنه لا يلزم القابض للمال، من أب أو وصي أو مُقام، أن يتجر له به، وإنما تلزمه صيانته عليه وحفظه من التلف. فإذا استوى الحال بينه وبين من يكلف حفظ هذا المال، كان إبقاؤه في يد مالكه أولى.

وهذا ينبغي عندي أن يلتفت فيه إلى اختلاف حال كثرة المال وقلته، وتحقق الفائدة فيه، وقوة الظن بحصولها وضعفه. فإذا كان المال قليلًا يفنيه الإنفاق عن قرب، ووجد من ينميه حتى يربح ما يحفظ رأس المال، ويكون المُقام يحسن التجارة فيأباه، فإنه لا يسلم إليه لأن هذا عنوان فساد تدبيره. وكذلك إن كان جاهلا بتنميته، فإن مشاحته في عدم التنمية من غير إظهار غرض صحيح عنوان سوء التدبير. وأما الوصف الآخر وهو حسن تدبير الدين وما يعود بصلاح الآخرة، فإن المذهب عندنا على قولين: أحدهما أن ذلك ليس بشرط في حصول الرشد، بل يكتفى بإصلاح الدنيا، وإن أفسد أموره في الآخرة. وقد قال ابن المواز في الرشد: هو أن يحرز المال وينميه ويكون صالحا في دينه، ولا ينفقه في المعاصي، وهكذا نص * عليه الشافعي أنه يعتبر كونه صالحا في دينه كما قال بعض أصحابنا. لكنه غلا في ذلك حتى شرط في صلاح الدين أن يكون عدلا مقبول الشهادة، وهذا فيه تضييق شديد ولا يكاد معه أن يخرج من الحجر إلا آحاد. وأكثر سكان الأمصار في هذا الزمان لا تقبل منهم إلا شهادة آحاد وهو على غاية من حسن تدبير دنياه، لا سيما إن كانت المعاصي التي تخرجه عن العدالة وقبول الشهادة لا تعلق بينها وبين المال، ولا تأثير لها فيه، كالإكثار من الكذب، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، أو قتل النفس فإن هذه الكبائر لا تأثير لها في صيانة المال ولا تنميته، ووجودها لا يناقض علة الحجر على اليتيم كما قدمناه. لكن إن كانت معاصي تؤثر في المال، كإنفاقه في شرب الخمر والزنا وما في معنى ذلك من الشهوات المحرمات، فإن هذا يحسن الالتفات إليه.

وقد قال في المدونة في الذين يحجر عليهم: "هم الذين ينفقون أموالهم في الفسق والشرب". وهذا إذا كان الإنفاق فيه يأتي على المال ويفنيه، ولا يتحرى صاحبه فيه تجارة يخلف بها ما أنفق، فإنه يتضح ها هنا إلحاقه بالسفهاء. كيف؟ وقد قلنا: إن التبذير في غير الفسوق يوجب التحجير؟ فكيف بالتبذير في الفسوق وركوب الكبائر؟ لكن لو كان هذا يتجر بما في يده تجارة تُصيّر إنفاقه هذا من الآرباح، وباقي المال محفوظ، فإن فيه إشكالًا. وقد يلحق بمن قلنا: إنه لا يحسن الإمساك ولا يحسن التجر. لكن إن كان هذا لا يمكن منعه من هذه المعاصي بعقوبة من ضرب أو حبس وإقامة حدود، ولا يكفّه عن ذلك إلا نزع المال من يده بعد المبالغة في التجر (¬1) له وبه وفي العقوبة له. فإن هذا يكون منعه من المال ليس من ناحية السفه، ولكن من ناحية تغيير المنكر، والمنكر يجب أن يغير بأي طريق أمكن حتى إذا لم يمكن إلا طريقة واحدة تعينت على الجملة. واعتمد أصحابنا البغداديون في الردّ على من ذهب إلى اشتراط صلاح الدين بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أقام الحدود ثم لم يحجر على من أقامها في ماله. وكذلك أقامها أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم، ولم ينقل أنهم حجروا على من أقاموا ذلك عليه. وهذه العمدة التي اعتمد عليها ابن القصار وغيره في الردّ على الشافعي فيما ذهب إليه. وإنما يتوجه على من قال من أصحاب الشافعي: إن طريان الفسق على من يسلّم إليه ماله، ودفع التحجير عنه يوجب استئناف الحجر عليه كما يوجبه طرو التبذير، وإن كان قد سلم قبل ذلك إليه لما رشد. وأمّا مَن قال منهم بأن طريان الفسق في الدين لا يوجب استئناف الحجر بخلاف طريان ¬

_ (¬1) هكذا والمعنى غير واضح.

التبذير، وفرّق بينهما بأن الصغير المحجور عليه إذا بلغ وحاله في الدين غير مرضية، فإنه يحجر عليه وإن كان حسن النظر في دنياه، لأنه لا يؤتمن على مال غيره لفساد دينه فكذلك لا يؤتمن على مال نفسه. فأمّا إذا اؤتمن على ماله وسلّم إليه، فإن طريان فساد الدين عليه بعد ذلك لا يوجب رفع ما ثبت عندنا من أمانته على ماله، حتى نشاهد تبذيره له فيُنتقل إلى الحكم الآخر. وأشار ابن الحارث من أصحابنا إلى اتفاق أهل مذهبنا على أن طريان الفسق على الرشد لا يوجب أستئناف الحجر عليه. وقد احتج المعتبرون لصلاح الدين بما ذكر عن ابن عباس في وصفه الرشد، فقال في أوصافه: "ومن له حلم ووقار". وذِكْرُه الوقار إشارة إلى صلاح الدين. هذا حقيقة القول في إنفاقه في المجنون والمعاصي. وأمّا إنفاقه في الملاذّ والشهوات المباحات، وجمع الجماعة تأكل الكثير منه من الطيبات في المبيتات والمؤانسات، فإن هذا مما فيه إشكال أيضًا. وأشار بعض أصحاب الشافعي إلى أنه يوجب الحجر. وأمّا ابن القصار، من أصحابنا، فذكر ذلك ولكنه شرطه بشرط، فأوجب الحجر على من أنفق في الملاذّ والشهوات وأكثر من ذلك. ولكنه قال: "إذا كان ما فضل عنده من ذلك لا يتصدق به ولا يطعمه." وقوله "ولا يطعمه" بعد ذكر الصدقة، الظاهر أنه أراد به إطعامه لإخوانه، وهذا قد يشير إلى أنه لا يرى ما ذكرناه عن بعض أصحاب الشافعي يوجب (¬1) الحجر. والتحقيق عندي فيه الالتفات إلى ما كنا أشرنا إليه في اعتبار حال قلة المال وكثرته، وحال التَّجْرِ بِهِ وتنميته، وقرائن الأحول التي تكون عنوانا وعلما ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بوجوب

على هَوَان المال عليه وكونه خارجا في تدبيره عن طريقة ذوي السداد، أو تدل على خلاف ذلك. فكل (¬1) واقعة من هذا حكمها. الجواب عن السؤال الخاص أن يقال: قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬2). وقد قدمنا أن الصغير الذي لم يبلغ لا يدفع إليه ماله بالإنفاق لتحقق معنى السفه فيه، وهو قصوره عن العقل التامّ الكامل الذي به يقع تدبير الدنيا والدين. ولهذا جعله سبحانه في هذه الآية علة توجب الحجر. فقد ذكرنا أيضًا السفه علة في الحجر، والرشد علة في الإطلاق. فلا يعلم أحد الوصفين (¬3) الكشف عن حال اليتيم واختباره، وهو معنى قوله تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} واختبروهم حتى إذا بلغوا النكاح {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} معناه علمتم رشدهم. وهذا العلم ليس بعلم ضروري يخلق في النفس ابتداء، لكنه ربما وقع عن طرق ربما تودي إليه، وهي مشاهدة قرائن أحوال، ربما (وقع العلم بطرق) (¬4). فقد صار هذا العلم لا يتوصل إليه إلا بطرق وهذه الطرق هي المحال عليها في القرآن في قوله تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}. فاختلف العلماء في زمن هذا الإختبار لأحوال اليتيم في تصرفاته في المال، وما يتعلق به من معاوضات وصيانات له على قولين: ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: فلكل. (¬2) النساء:6. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: إلاَّ بالكشف. (¬4) ما بين القوسين هكذا.

هل يكون هذا الاختبار بعد البلوغ أو يكون قبله؟ فالأشهر من مذهبنا أنما هذا الاختبار إنما يكون بعد بلوغ اليتيم الحُلُم. وذهب أبو جعفر الأبهرى من أصحابنا إلى أنه يكون قبل البلوغ. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي فيه أيضًا على قولين: وهل يكون الاختبار قبل البلوغ أو بعده؟ فكأن من ذهب إلى الاختبار قبل البلوغ تعلق بظاهر قوله تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاح} فجعل الاختبار قبل بلوغ النكاح وهو الاحتلام. وجعل قبله "حتى" كالغاية لهذا الاختبار. فإن أثر هذا إلاختبار قبل البلوغ بوقوع عام في النفس برشد اليتيم دفع إليه ماله عقيب البلوغ على الفور، ويكون قوله تعالى {آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} إن الفاء فيه للتعقيب والمراد فإن علمتم منهم بذلك الاختبار المتقدم، رشدا فادفعوا إليهم أموالهم على البدار والفور. وقوله {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}. الفاء ها هنا للتعقيب، على طريقة هؤلاء وطريقة من ذهب إلى إفادتها للتعقيب في مثل هذا، على ما كنا بسطنا القول فيه فيما سلف، وفيما أمليناه في الأصول. وبقول هؤلاء إن اليتيم إذا بلغ، يمكن أن يكون في معلوم الله سبحانه قد بلغ رشيدا، والرشيد لا يحل إمساك ماله عنه. فإذا كان الاختبار بعد البلوغ خفنا أن نقع في محرّم، فكان الاحتياط الهروب عنه، ولا يحصل ذلك إلا بالاختبار قبل البلوغ. وأمّا أصحاب المذهب الثاني فإنهم يقولون: قد تضمنت الآية المنع من أن يدفع للصغير شيء من ماله. والاختبار الذي يثمر العلم بالرشد بما يكون بالتصرف في المال. فإذا منع الشرع من دفعه إليه انحسم طريق العلم المؤدي إلى العلم بالرشد، فوجب من أجل هذا أن يكون الاختبار بعد البلوغ. وأيضًا فإن قوله تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}، ومعناه علمتم، وإن كان فعلا ماضيا فهو إذا وضع بعد حرف الشرط كان للاستقبال، فاقتضى هذا كون دفع المال

بعمل يحصل في الاستقبال، والعلم لا يحصل إلا باختبارٍ فاقتضى هذا أن الاختبار إنما يكون بعد البلوغ. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: قد تكلمنا على زمن الاختبار لليتيم. وأمّا صفته، فالنكتة المعوّل عليها، على الجملة، التأمل والاجتهاد في طريق يطلع بها الوصي على اليتيم على باطن أمره ومنتهى ميزه في إمساك المال وضبطه، والمعرفة بتنميته، على حسب ما قدمناه في الاختلاف في حقيقة الرشد. والمعتمد في ذلك قرائن الأحوال، وربما اتفق منها ما لا يضبط بلفظ أو كتابة، لكن يعلمها على التفصيل أن يكون اليتيم إذا نهض على السنن الذي يحتاج فيه إلى من يغذيه ويحفظ عليه طعامه، وصار مستقلًا بنفسه في تغذيته وتدبير طعامه ومنامه، فإنه يدفع إليه دنانير أو دراهم بمقدار ما يشتري به غدَاءه أو عشاءه. ويكون ذلك عليه حتى يعرف منه أنه سلك في ذلك مسلك العقلاء الرشداء. فإذا ثبت هذا الوصف له نقل عنه شيئًا فشيئًا، فيدفع إليه من ماله شيئًا يسيرًا فوق مقدار ما ينفقه في قوته، ويكلف البيع والشراء في أمور لا يستغنى عنها. فإذا استقر في النفس أيضًا في حاله أنه سلك مسلك الرشد، نقل إلى أن (¬1) شيئًا يسيرًا يتجر به، فإن صانه وأنْماه زاده الوصي مالًا آخر حتى يتحقق أنه إن أخذ ماله كله صانه وأنماه، فيدفعه إليه. وقال الشافعي: لو كان من أبناء الوزر الذين لا يليق بهم التجر في الأسواق لاختبر بما يدفع إليه من الانفاق على الأهل، وما في معنى ذلك. ولو كانت امرأة لاختبرت بما تتصرف فيه من أمور الغزل والاستئجار عليه. وهذا المعنى الذي أشار إليه الشافعي يتضمن قولنا: الغرض حصول علم يستفاد من قرائن الأحوال، ولا يضبط جميعها بلفظ ولا خَطّ. ¬

_ (¬1) أي: يدفع إليه.

وقد وقع في إشارات الأشياخ اضطراب في اختبار اليتيم بشيء من ماله: هل ذلك سائغ للوصي مباح له أن يفعله إذا أدّاه اجتهاده وإن لم يحكم بذلك حاكم، أم لا؟ فأشار بعضهم إلى إجراء ذلك على الخلاف الذي وقع في المدونة في اليتيم إذا دفع إليه وصيه شيئًا من ماله يختبره به فاستدان دينًا: هل تتعلق المداينة بما في يديه، ويقضى بدفعه لغرمائة أو لا يقضى لهم بذلك؟ فيستلوح من مذهب القائل بالمداينة لا تتعلق بما في يديه كون الدفع إليه تعدّيًا وسوء نظر. والوصي لا يلزم اليتيمَ فعلُه إذا أساء النظر له ديه. ويستلوح من طريقة من مذهبه إلى أنه يقضى غرماؤه ديونهم من المال الذي في يديه أن ذلك سائغ للوصي. وهذا التخريج ربما كان ليس بالإلزام على مقتضى هذين المذهبين. وقد يكون الدفع مباحًا ولكن الغرماء لم يعاملوا على ما في يديه، فلهذا لم يقض لهم به. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: اضطرب المذهب في السفيه المهمَل، كصغير مات أبوه ولم يوص به أحدًا، ولا اطلع عليه القاضي حتى يحجر عليه، وتمادى على الاستقلال بنفسه في التصرف في ماله إلى أن كبر، ولكنه على حالة السفهاء من يوم موت أبيه إلى أن رجع أمره إلى القاضي. وأمّا الصغير الذي لم يبلغ والمجنون، فإن تصرفهما وعقودهما لا تلزمهما ما دام الصغير لم يبلغ، وما دام المجنون لم يعقل. وأمّا تصرف السفيه الكبير بعد بلوغه ولم يتقدم عليه حجر، كما قلناه، فمذهب اين القاسم أن أفعاله لا تلزمه، وبه قال أبو يوسف، وهي مردودة، فلا يمضي بيعه ولا شراؤه. ومذهب غيره من أصحاب مالك -وهم الأكثر- أن أفعاله في المعاوضة تلزمه، وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن.

وقد روى زياد بن شبطون القرطبي عن مالك أنه سأله عن سفيه عندهم (......) (¬1) البان على ناصية فرسه ويشتري الكلب والبازي بالضيعة الخطيرة؟ فقال: تمضى أفعاله. ثم سألته بعد زمان فقال: تمضي أفعاله ولو كان مثل سفيهكم. ومنهم من فرّق بين كونه بلغ سفيهًا وتمادى على ذلك: فقال بما قال ابن القاسم: من رد أفعاله. وبين أن يكون خرج من السفه بعد بلوغه ورشد ثم أحدث سفهًا بعد ذلك، فإنه تمضى أفعاله في المعاوضات، وتردّ في الهبات الظاهرة والمغابنة الفاحشة. ومنهم من رأى أن السفه الظاهر البيّن يوجب ردّ أفعاله بخلاف السفه الخفي. وأشياخي المحققون يختارون الردّ لأفعاله، ويرون أن السفه علة في الردّ، وليس الحكم بالحجر علة الردّ، لكون الحجر تنْحيَةً عن السفه، والسفه أشده وأوجبه وليس الحكم بالحجر هو الذي أثبت الحجر وأوجبه، بل السفه علة، والحكم كالمعلول فلا ينقلب الأمر، فيصير المعلول علة والعلة معلولًا. وكأن من ذهب إلى خلاف هذا رأى أن ثبوت السفه يحتاج إلى اجتهاد وكشف وبحث، وهو أيضًا مِمّا اختلف المذهب في حقيقته على حسب ما قدمناه فيما سلف. وما كان مختلفًا فيه ويفتقر ثبوته إلى اجتهاد لم يقض به. ويثبتْ حصوله إلا بحكم حاكم، لا سيما أن في رد أفعاله إضرارًا بمعامليه، لأنهم يرون رجلًا يتصرف في ماله ولا ينكر ذلك عليه أحد، فيعاملونه. فلو رددنا أفعاله أضررنا بمعامليه وهم لم يقصروا في الاجتهاد ولم يفرطوا. بخلاف معاملتهم لصغير لم يبلغ أو مجنون، فإن معاملتهم له ترد لكونهم هم المتلفين لمالهم والمفرطين في معاملته، من (¬2) السبب الموجب لرد أفعاله ظاهر بيّن، لا يحتاج ¬

_ (¬1) كلمتان غير واضحتين. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: فإنّ.

إلى أجتهاد ولا حكومة حاكم للصغير (2) والمجنون (¬1) أمران مشاهدان بخلاف السفه. وكأن من ذهب إلى القول الثالث رأى أن السفه كان بيّنًا، فالمعاملون له فرّطوا فلم تَلزمه معاملتهم، وصار السفه البَيّنُ مستغنيًا عن الاجتهاد غير مفتقر إلى حكم حاكم كالصغير والمجنون. وإذا كان السفه خفيًّا فارق الصغر والجنون وافتقر إلى حكم حاكم. وكأن من فرق بين السفه المستصحب من قبل البلوغ، وبين السفه الطارئ بعد البلوغ يرى أن الطارى بعد البلوغ قد ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يوجب الحجر على السفيه بخلاف الحجر على سفيه مستصحب للسّفَه، لا سيما أنه إذا رشد بعد البلوغ عند من عامله لاستصحاب ما عرف له من الرشاد. هذا في عقود المعاوضات، وأما الهبات فهي نوع من الإتلاف، فاشبهت السفه البيّن كما حكيناه عن المذهب الثالث. هذا ضبط المذهب فيما يوجب الحجر وردّ الأفعال، هل هو موقوف على مجرد العلة أو على الحكم به في السفيه المهمَل؟ وأما إذا كان السفه الموجب للحجر مما يشاهد ولا يفتقر إلى تأمل واجتهاد كابن سبع سنين عقد على نفسه معاملة، أو مجنون عقد على نفسه معاملة، فإن هذا لا يختلف فيه في كون أفعاله على الردّ، لأن الذين عاملوه يعلمون بالمشاهدة من حاله معنى يمنع الشرعُ من إلزامه أقواله وأفعاله، ورفع التكليف عنه في العبادات فكيف في المعاملات. وهذا بخلاف السبب الموجب للحجر إذا كان مما يفتفر ثبوته والعلم بحصوله إلى تأمل وتكرير اختبار واطلاع على قرائن أحوال، فهذا الذي يحسن فيه الخلاف. وأما إذا وجد معنى يقتضي رفع الحجر بنفس عدم الموجب له وهو السفه ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: الصِّغَر والجنون.

وما في معناه، أو يقف ذلك على حكم الحاكم بذلك: فأمّا البغداديون من أصحابنا، فإنهم يرون أن ذلك موقوف على حكم الحاكم. وأضاف ابن القصار هذا المذهب إلى مالك رضي الله عنه، فقال: إن السفيه البالغ الذي يجب الحجر عليه لا يخرج من الحجر إلا بحكم حاكم، سواء كان محجورًا عليه بحكم أو بغيره. قال: واختلف قول سحنون في الصبي إذا بلغ ورشد هل تجوز أفعاله بمجرد رشاده أو تبقى على حكم الحاكم بذلك؟ فقال مرة: تجوز أفعاله بمجرد رشاده. وقال مرة أخرى مثل قولنا: إن إطلاق التصرف له في المال يقف على حكم الحاكم. قال: وكذلك اختلف قوله في المفلس إذا حجر عليه: هل يفتقر التحجير إلى حكم الحاكم برفعه أم لا؟ ووافقَنا على أن المجنون إذا عقل يرتفع الحجر عنه ولا يفتقر إلى حكم حاكم. والسفيه البالغ أفعاله على الإمضاء حتى يحكم الحاكم بإطلاق الحجر عنه. ففصل الجواب في هذه الأربعة أقسام، فرأى أن الحجر الذي أوجبه الجنون يرتفع حكمه بذهاب الجنون. والسفه الموجب للحجر في حق البالغ العاقل لا يرفع حكم السفه بمجرد الرشد حتى يحكم به. قال ابن القصار: والباب عندنا في هذا كله واحد. وهكذا ذكر القاضي عبد الوهاب أن الحجر لا يرتفع إلا بحكم حاكم في الصغير وفي السفيه والمجنون والمفلس. وأنكر أشياخي الحذاق هذه الطريقة. وأشار بعضهم إلى أنه لا يحسن خلافٌ في المجنون إذا بلغ رشيدًا جائز الأفعال ثم جنّ، فإن ارتفاع الجنون عنه يرفع الحجر الذي أوجبه الجنون بخلاف أن يبلغ مجنونًا فانه إذا عقل فلا بد من اختبار حاله فيحسن حينئذٍ القول بأنه يفتقر رفع الحجر عنه إلى حكم حاكم. وهذا الذي أشار إليه بعض أشياخي. ثم صرح ابن القصار فيه بخلاف ما ظن، فقال في كتابه في الردّ على الشافعي في قوله الذي حكيناه عنه: إن ارتفاع

الجنون يوجب رفع الحجر من غير افتقار إلى حكمٍ: إن هذا المجنون إذا بلغ مجنونًا فإنه يجب اختبار حاله بعد ارتفاع الجنون ليعلم هل هو رشيد أم لا؟. قال: وإن بلغ رشيدًا ثم جنّ ثم عقل فإنه وإن ارتفع الجنون عنه -وقد كان قبله رشيدًا- لم نأمن أن يكون الجنون غَيَّرَ مَيْزَه وسَدَاد رأيه في تصرفه فيفتقر فيه أيضًا إلى اختبار زوال العقل: هل زال على صورة عاد معها العقل إلى الحال الأول، أو زال على صورة نقص العقل فيها عمّا كان عليه قبلَ ذلك؟. وهكذا رد عليه في المجلس بأن أشار أيضًا إلى هذا المعنى بأن التفليس والتحجير على الإنسان في ماله، ومنعه مما اعتاد فيه يوجب تغيير مزاجه وميزه، وقد يأسف على أن يكون لم يتلف ماله في اللذّات حتى لا يحال بينه وبينه. فيجب أن يفتقر فيه إذا ارتفع الحجر عنه هل يتغير ذلك الذي عرف عنه قبل الحجر أم لا؟ وذكرنا عنه أن السفيه البالغ لا يخرج عن ذلك إذا رشد إلا بحكم. وكنا حكينا عنه أن السفيه المهمل تمضي أفعاله، كما حكاه ابن القصار هناك وهاهنا عنه. فلعلّ هذا الذي قاله في سفيه بالغ حجر عليه بحكم، وبعض أشياخي المحققين يرون أن الصواب اتباع العلة؛ فإذا رشد من حجر عليه بحكم جازت أفعاله وإن لم يحكم بارتفاع الحكم الأول لوجودِ العِلة التي توجب الحكم الثاني، وكذلك يرى أن السفيه المهمل، الصواب فيه (¬1) قال ابن القاسم: من رد أفعاله لأن الحكم بالإطلاق إنما هو ثمرة الرشد ومعلوله، وكذلك التحجير شدة السفه ومعلوله، فلا معنى لاطّراح العلل والالتفات إلى المعلول دونها. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: أمّا ما يتعلق ببدن السفيه البالغ ولا علاقة بينه وبين ماله، فإن إقراره به لازم له كما يلزم العاقل الرشيد، مثل أن يقرّ بقتل رجل محمدًا، فيجب عليه القصاص، وقطع (¬2) عضو منه، أو جرح محمدًا، فإن القصاص واجب عليه كما ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: [ما]، قال. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: أوْ.

يجب على البالغ العاقل الرشيد. بخلاف إقراره بما يُلزم غرامة في ماله. والعلة في ذلك أنه لا يتهم مع وجود العقل عاقل -سفيهًا كان أو رشيدًا- أن يقرّ بما يؤدي إلى قتله أو قطع يده، وهو يقول في ذلك الكذبَ ويتعمده. وأمّا المال فيتهم في ذلك السفيه أن يعطيه إنسانٌ دينًا يستعجل إنفاقه ليتلف ما (¬1) في يد وصيه لهوانها عنده لكونه ممنوعًا منها، وحاله في ذلك كحال العبد. أو أقرّ بمال ما لزمه ذلك إذا كان محجورًا عليه، ولو أقر بما يوجب قتله قصاصًا منه لأخذ بذلك ولم يتهم فيه. وأما عفْوهُ عن غيره فيما وجب له من هذه المعاني: كرجل قذفه فوجب أن يحدّ، أو جرحه محمدًا فوجب أن يقتص منه، فإن المذهب على قولين: أجاز ابن القاسم عفوه عنه لمّا كان ذلك ليس بمال وإنما يصدق (¬2) عليه الشرع المال بجهله بمقداره والحاجة إليه. وأما عرضه فلا يلزم أباه أو وصيه أن يرد عفوه عنه إذ ليس بمال فيتلفه. وقال مطرف وابن الماجشون: لأبيه أو وصيّهِ ألاّ يجيز عفوَه، ويطلب حقه في عِرضه وفي القصاص الذي يجب، ولو كانت التي جُرحها خطأً، فاجاز عفوه عن ذلك؛ لأنه إنما يجب له فيها مال، وليس له أن يتلف ماله ويهبه، ولو كان الجرح جرحًا أدّى إلى موته فعفا عنه عند احْتضاره عن قتل جارحه، وكان اللازم لقاتله الدية، فإن ذلك يكون في ثلثه، كما تنفذ وصايا الصبي في ثلثه، لأن بالموت استغنى مالك المال عن صيانته عليه، بخلاف عفوه عن مال يحتاج إليه إذا بقي حيًا. ولو كان الذي أدّى إلى قتله إنما يوجب القصاص لجاز عفوه فيه، لا سيما على مذهب ابن القاسم الذي أظنه يرى أن الدية في قتل العمد (¬3) إلا برضا القاتل ورضا ولي المقتول. وأمّا على طريقة أشهب الذي يرى أن لولي ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: يصون. (¬3) هكذا، ولعل الصواب إضافة: لا تجب.

المقتول أن يجبر القاتل على الدية. وقد قال مالك: إن لولي القتيل أن يأخذ مالًا من القاتل بغير اختياره ويعفو عنه. (وعن مالك أن يملك عد مالكا (¬1)) على إحدى الطريقتين. وقد بسطنا هذا المعنى في كتاب الرجوع عن الشهادات، وذكرنا ما قيل فيه من الروايات. وأمّا ما ليس بمال ولا هو مما يتملك وتجوز المعاوضة عليه، كطلاق السفيه وخلعه، فإن فقهاء الأمصار على إلزامه الطلاق. وخالف في ذلك ابن أبي ليلى وأبو يوسف ذهابًا منهم إلى أن البضع قد ملك الانتفاع به وإن لم يكن ذلك من الحقوق والمالية المحضة، ففيه علاقة من المال لأن السفيه إذا طلق قد يحتاج في ثاني حال إلى أن يتزوج لئلا يقع في الزنا، فيكون لوليه تزويجه فيغرم عنه صداقًا آخر، وهذا يتكرر منه إذا طلق الثانية والثالثة، وهذا يعود إلى إفساد ماله، فوجب ردّ طلاقه. وقد ردّ ابن القصار عليهما بأن العبد لا يجوز له التصرف في ماله، ولو طلق لزمه الطلاق، فوجب أن يكون السفيه كذلك. وهذا الذي ردّ عليهما به غير لازم لهما لأن العبد إذا طلق واحتاج إلى التزويج لم يلزم سيده أن يزوجه. والسفيه قد يلزم وصيَّه أن يزوجه إذا دعت ضرورة إلى ذلك، فارتفعت في العبد العلة التي وجدت في السفيه. وقد وقع في المذهب عندنا قولان في إعتاقه أمٌ ولده: هل يرد عتقه فيها أم لا؟ وأشار المغيرة إلى تعليل ردّ عتقه بأن ذلك يعود بضرر في ماله لكونه يحتاج إلى تزويج أو سُرّية، فلو كانت أم الولد لكانت تكفيه وتغنيه عن ذلك، وتعفَفه عن الزنا. وهذه الإشارة إلى هذا التعليل قاد بعض الأشياخ المحققين إلى الميل إلى ¬

_ (¬1) ما بين القوسين كلام غير واضح ولعل الصواب: ومن ملك أن يملك عُدَّ مالكًا.

التوقف، والتردد في إلزام السفيه طلاقه لأجل ما يلحقه من الضرر في المال، كما أشار إليه المغيرة وأن يقول بما قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف مِن ردّ طلاق السفيه؛ لأن أم الولد إذا قتلت أو جرحت أخذ السيد قيمتها أو قيمة جرحها، فقد صارت مما يترقب فيها أن تعود مالًا محضًا، وزوجة السفيه لا تعود مالًا أبدًا. وقد تكلمنا في الرجوع عن الشهادة على شهود شهدوا بعتق أم ولد ثم رجعوا عن الشهادة، كما تكلمنا على اختلاف الناس في غرامة شهيدين شهدا بالطلاق على رجل أنه طلق زوجته وقد دخل بها، ثم رجعا عن الشهادة. وأمّا عتق السفيه لأمة (¬1) التي ليس فيها عقد حرية فإن ذلك لا يمضي لكونه أتلف مالًا محققًا. وأمّا عتقه لأم ولده، فالأشهر أنه يمضي لكونه ما أتلف إلاَّ استمتاعًا. وقيل: يرد لكونه قد يحتاج إلى غرامة مال آخر فيما يستعفف به. وعلى القول بأن عتقه فيها ماض: هل يتبعها مالها إذا كان كثيرًا؟ فيه قولان: أحدهما أنه لا يتبعها لكونه أتلف مالًا محضًا. والثاني أنه يتبعها لورود الشرع بأن المعتَق يتبعه ماله فإن قلنا: إن العبد لا يملِك اتضح كالإتلاف، (وكأنه مالًا موضوعًا في جزائه) (¬2) وإن قلنا: العبد يملك بعد ملك سيده أن ينتزع ماله وهي: من ملك أن يملك كالمالك على إحدى الطريقتين التي تقدمت. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: قد علق الله سبحانه أحكام التكليف بالبلوغ، كالمشعر بكمال العقل الطبيعي. وإنما يتطلب بعده عقل يكتسب من التجارب. قال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} (¬3). ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: لأمته. (¬2) ما بين القوسين هكذا في النسختين. (¬3) النور: 59.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاث .. " (¬1) فذكر الصبي حتى يحتلم. وإنزال الماء الدافق هو الاحتلام، ولكنه في بعض الأشخاص قد يعدم وقد يتأخر، فيفتقر حينئذٍ إلى تطلب علامات تدل إليه، وهي إنبات الشعر في العانة، وبلوغ سنين لا يبلغها [إلا]، من احتلم. وهاتان العلامتان يستوي فيهما الذكر والأنثى. وعلامتان أخريان يختصّ بهما النسوان. فأمّا الإنبات: فكونه علمًا على البلوغ (وتكليف الثبوت) (¬2) وتوجه خطاب الشرع، فإنه مما اختلف العلماء فيه: فذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يكون علمًا أصلًا. والمشهور من مذهبنا كونه علمًا على الجملة. ولم يختلف الشافعي في كونه علمًا في أولاد المشركين. واختلف قوله في كونه علمًا على البلوغ في أولاد المسلمين، وكأنه رأى على قوله بالتفرقة بين أولاد المسلمين وأولاد المشركين، أن أولاد المشركين لا طريق لنا إلى العلم بما ذهب من أعمارهم، فاضطررنا إلى اتخاذ الإنبات فيهم علمًا وأولاد المسلمين بين أظهرنالأولا تخفى أنسابهم بالبحث والاختبار، فعدل عن ذلك إلى ما يمكن مما هو الدلالة والعلامة أقوى. وأيضًا فإن أولاد المسلمين (¬3) يتهمون في كتمان البلوغ لئلا تجري عليهم أحكام الكبار من الكفار من قتل وضرب الجزية عليهم، إذ من لم يبلغ من الكفار لا نقتله ولا تلزمه الجزية، وهذه التهمة مرتفعة عن أبناء المسلمين إذ لا يباح دمهم، كبارًا كانوا أو صغارًا، إلا بجناية توجب ذلك، مما لا يسلم له، ¬

_ (¬1) الفتح: 11: 310 - 311. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: وثبوت التكليف. (¬3) هكذا، والصواب: الكفار.

لأن التهمة في كتمان البلوغ قد تتطرق أيضًا في أبناء المسلمين مخافة من إقامة الحدود إليهم (¬1) وإلحاق العقوبات بهم. وأمّا الخلاف المطلق في كونه علمًا في أبناء المسلمين وأبناء المشركين، أو كونه ليس بعلم فيهم، فإن من يراه علمًا يعتمد على ما ورد في الخبر من كونه - صلى الله عليه وسلم - لما حكّم سعدًا في بني قريظة فنزلوا على حكمه، فحكم فيهم بأن يقتل منهم من أثبت فصؤبه - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر أنه حكم فيهم بحكم الله سبحانه وجعل جريان الموسى علمًا على البلوغ (¬2). ومن لم ير ذلك علمًا فإنه يستند أيضًا إلى ظواهر الشرع من قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} (¬3). وقوله عليه السلام: "رفع عن أمتي ثلاث" (¬4) فذكر الصبي حتى يحتلم. فإثبات ما سوى ذلك علمًا يفتقر إلى دليل لا إشك الذيه. والإنبات لا يكون علمًا في العادات لِأنّا نراه يختلف في بني آدم، فمنهم من يتأخر نبات شعره، ومنهم من يعجل ذلك عليهم. فلو جعل نبات الشعر دليلًا كان نبات اللحية أولى، ونباتها يختلف في الناس. وأيضًا فإن ذلك يختلف باختلاف الأمزجة، فينبت الشعر مسرعًا في مزاج ويتأخر في مزاج آخر كما يختلف بالغلظ والرقة واللون بحسب الأمزجة أيضًا. وأمّا كون السنّ علمًا على البلوغ، فإنه يكون دليلًا على الجملة باتفاق، ولكن تقديره كثر الخلاف فيه. ألا ترى أن من ذهب من عمره الثلاثون سنة أو أكثر منها لا يشك عاقل في بلوغه المبلغ الذي يتعلق به التكليف؟ كما أن من لم يذهب من عمره إلا السبع سنين أو العشرة لا يشك عاقل في كونه لم يبلغ مبلغ التكليف، ويبقى بين هذين الطرفين وسائط يقع فيها ¬

_ (¬1) هكذ ا، والصواب: عليهم. (¬2) الروض الأنف: 288:6 - 290. (¬3) النور: 59. (¬4) سبق تخريجه.

التشكك والإشكال، مثل خمس عشرة سنة، ففيه اختلاف الناس: فالمشهور عندنا ثماني عشرة سنة. والشافعي يقدر ذلك بخمس عشرة سنة. وأبو حنيفة يفرق بين الذكور والإناث فيقول: في الذكر سبع عشرة سنة. والإناث تسع عشرة سنة. والتحاكم في هذا الاختلاف يرجع فيه إلى العادات فقد تختلف أهوية الأقطار والجهات، وأمزجة سكانها في هذا التقدير. لكن الشافعي يستند إلى قول ابن عمر: "عُرِضت على النبي عليه السلام عام أُحد وأنا ابن أربع عشر فردني ولم يرني بلغت، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني" (¬1). وقد تقرر في علم الأصول أن الراوي إذا نقل حكماً وذكر سببه، فإن ذلك السبب يكون علة الحكم على الجملة كما روي أنه سها فسجد، فجعل السهو علة في السجود، وكما روي أن ماعزًا زنا فرجم، فجعل الزنا علة في الرجم. فكذلك قول ابن عمر: "عرضت عليه وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني ولم يرني بلغت" (1). فإن هذا يشير إلى أن عدم البلوغ علة حكم الرد، ووجود البلوغ علة الإجازة. وأصحابنا يتأولون قوله: "ولم يرني بلغت" في الحين لطاقة القتال، ويؤكدون ذلك بقول سمرة بن جندب: "عرضت على النبي عليه السلام وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني (وعرضت عليه متأخر ما جازه) (¬2)، فقلت: يا رسول الله، أجزت هذا ورددتني ولو صارعني لصرعته، فأذن عليه السلام في صراعنا فصر عنه، فأجازني" (¬3). وهذا يقتضي إنما اعتبر في هذا إطاقة القتال، ويجعل قول ابن عمر "ولم ¬

_ (¬1) الترمذي: 3: 34 حد. 1361. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: وعرض عليه آخر فاجازه. (¬3) الإصابة: 2: 77 - 78.

يرني بلغت" على أنه أراد: بلغت إطاقة القتال. وأصحاب الشافعي يقولون: إذا أطلق ذكر البلوغ فما يحمل إلا على بلوغ الحلم، وأما بلوغ ما سوى ذلك فلا يذكر إلا مقيدًا بأن يقال: بلغت كذا وبلغت كذا. وأما كون الحيض في النسوان علمًا على البلوغ فإن ذلك لا يختلف فيه. وقد جعله الله سبحانه دلالة على براءة الرحم من العمل في العِدد والاستبراء. وكذلك لا يكون الحمل إلا بعد البلوغ. وقد أخبر عليه السلام بعلة كون المولود ذكرًا أو أنثى، فقال "إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثى بإذن الله" (¬1). والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: أمّا مجرد البلوغ فلا يكون علمًا على حصول الرشد دون اختبار اليتيم حتى يعلم رشده، كما قدّمناه في مقتضى قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}. فإن معناه: فاختبروا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن علمتم منهم رشدًا. وذكرنا الخلاف في هذا الاختبار: هل يقع قبل البلوغ أو بعده؟ وكان بعض أشياخي يحمل على المذهب أن فيه اختلافًا في هذا، وأن أحد القولين كون البلوغ بمجرده دليلًا على الرشد لكون الغالب من بني آدم الحرص على جمع المال وصيانته وتنميته، وإنما يوجد فيهم من هو بخلاف ذلك نادرًا، والأحكام تتعلق بالغالب. وكان بعض أشياخي يحكي عن بعض أشياخه أنه يسير إلى إنكار هذا التخريج، ويقول: إنما قال في المدونة إذا احتلم الغلام فليذهب حيث شاء، وأزال ولاية أبيه عنه بالاحتلام من تدبير نفسه وصيانة مهجته إذ الولد إذا بلغ عاقلًا أَمِن عليه أبوه أن يلقي نفسه في مهواة أو ¬

_ (¬1) مسلم بشرح النووي: 2/ 360 - 362.

يقع فيما يؤدي إلى قتله وعطبه قصدًا إلى ذلك. فالتهمة مرتفعة عن كل واحد في نفسه إذا كان عاقلًا، ولا ترتفع عن كل عاقل في إتلاف المال لكون الشهوات تغلب على عقول كثير من الأحداث فيهون عليه إتلاف المال في تحصيلها. فجعل الباري سبحانه صيانة أموالهم إلى آبائهم، وصيانة أنفسهم قبل بلوغهم. فإذا بلغوا ارتفعت ولاية الأب عن ما لا يتهم فيه الولد وهو صيانة جسمه ونفسه، ولا ترتفع ولايته عن صيانة مال ولده لما قدمناه، فمن حاول أن يخرج قولًا في المال: إن اليتيم يدفع إليه ماله بمجرد البلوغ، كما ذكرنا عن بعض أشياخنا، فإن ذلك تخريج غير صحيح. لكن من أشار إلى الخلاف في هذا من أشياخي كان يعول على ما ذكرنا في المدونة ويعول على ما في كتاب ابن حبيب، في سفيه وجبت له الشفعة بعد رشده أن السنة تحسب عليه من بلوغه. فلو لم يكن بمجرد البلوغ رشيدًا لما حسبت عليه من السنة المشهور التي كان فيها سفيهًا، وأسقطت شفعته بمضي سنة كان في شهور منها سفيهًا. وهذا التخريج أشد إشكالًا. لكونه قد قيل في المذهب: إن الشفعة تجب على الفور، فإن تأخر الشفيع عن الأخذ بالشفعة وقد علم به سقط حقه فيها، كمن اشترى سلعة فاطلع على عيب بها، فإنه إنما يقوم بالردّ بالعيب بفور علمه به. وأمّا إن طال سقط حقه بالقيام به إذا تصرف به في المبيع من غير عُذر. وأما مجرد البلوغ مع حصول الرشد، فإنه يوجب تسليم المال من غير خلاف في الذكران. وأمّا في النسوان فالمشهور في المذهب عندنا افتقارهن إلى شرط ثالث وهو دخول زوجها بمن بلغت عاقلة رشيدة، ولم تبلغ سن التعنيس، وتزوجت، ولكن لم يدخل بها زوجها، فإنها عندنا لا يدفع إليها مالها بخلاف الذكران. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن المرأة البكر إذا بلغت اختبر حالها في مالها: فإن لم تكن فيه سفيهة، فإنه يدفع إليها مالها وإن لم تتزوج.

وحاول بعض أشياخي أن يجعل أيضاً في المذهب قولًا آخر موافقًا لما قال أبو حنيفة والشافعي مع (¬1) كون النسوان كالذكران في دفع مالهن إليهن وإن لم يتزوجن. فقال في كتاب الحبس والصدقة من المدونة: إنه قيل له: ما معنى قوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} قال: بلوغ النكاح الاحتلام في الذكران والحيض في النسوان. ولم يشترط الدخول ولا حمل قوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} على أنهم نكحوا بل حمله على أن المراد به بلغوا سن النكاح والاحتلام، كما قال أبو حنيفة والشافعي. والبغداديون من أصحابنا لمَّا ردوا على أبي حنيفة والشافعي قالوا: قوله تعالى {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} هو المراد به نكحوا ولم يود به بلغوا سن النكاح. ولو كان المراد به غير هذا لقال: حتى إذا نكحوا. ويدل على هذا أن الإجماع على أن الصبي إذا بلغ رشدهُ دفع إليه ماله وإن لم يتزوج. فالله تعالى لم يفرق بين الذكر والأنثى، فقال: حَسِيبًا. فلما أجمع على أن الذكر إذا بلغ رشدًا دفع إليه ماله، فكذلك الأنثى وإن لم تتزوج. وقال أصحابنا: قد قال تعالى {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا}. والذكر إذا بلغ يصح بأن يختبر بأن يعطى من ماله شيئًا يختبر به: فإن أنماه زاد وصيه من ماله شيئًا. فإذا نماه وتكرر ذلك منه حتى عرف أنه رشيد دفع إليه المال. والصبية البالغ البكر محجوبة لا يراها الرجال ولا كثير من النساء، فيستحيل أن يعرف رشدها وهي محجوبة عن الرجال وعن النسوان لا عن أهلها. والذكر يتصرف بين الناس بعد بلوغه، فيختبر حاله: هل هو رشيد أو سفيه؟ فافترق الحال. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: من.

وعندي أن هذا الخلاف إنما يرجع إلى اختلاف في شهادة بعادة: هل يصح الاطلاع على رشد البكر وهي من وراء حجاب، كما يصح الاطلاع على رشد الصبي البالغ؟ أو لا يصح ذلك؟ فهذا سبب الخلاف. والمشهور من المذهب أن الشيب من النسوان البالغ، تحمل على الرشد. واختلفت إشارات المذهب عن بعض أشياخي في مجرد الدخول: هل يقتصر عليه أو لا بد من اختبار حالها بعد الدخول؟ كما اختلف العلماء في مقدار السنين التي تحمل فيها على الرشد إذا أقامتها مع الزوج. وهذا كله يرجع عندي إلى اختلاف في شهادة بعادة وكان بعض أشياخي يرى أن النساء البدويات لا يوسع في حال الرشد بعد الدخول مثل ما يوسع في ذلك في بنات كبار التجار في الحواضر، لأجل أن بنات "الكبرى (¬1) من) التجار في الحواضر لا يُمكن من التصرف والتبدل (1) إلا بعد سنين تقيمها مع الزوج. وهذا يشير إلى ما ذكرناه من التعويل علي الشهادة في العادات، وهذا هو التحقيق. وقد وقع في المدونة اختلاف في البكر اليتيمة إذا تزوجت بدون صداق مثلها: يمضي ذلك عليها أو لا يجوز حطيطتها من صداقها؛ وهذا يمكن أن يجري على الخلاف في فعل السفيه المهمل: هل يمضي أو يحجر القاضي أو يرد أو يحمل على أنه لا يعتبر الدخول في الرشد كما قدمنا عن تخريج بعض شيوخنا في المذهب؟ وإذا تقرر حكم السفيه ووقع بيعه أو شراؤه في حال يجب ألاَّ تمضي أفعاله فيها، فإن عقوده على الوقف، فما كان إمضاؤه من حسن النظر له أمضي عليه. وما كان إمضاؤه سوء نظر له رد عقده فيه. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب الحذف.

فإذا ردّ عقده فيما باعه وقد قبض ثمنه أخذه البائع منه، إن وجده بعينه. وإن وجده أتلفه في ما لا بد له منه مما وقى به ماله، فإنه يؤخذ ذلك من ماله. وإن أتلفه فيما لا حاجة له به لم يرجع به عليه، وكأن البائع هو أتلف ماله لَمَّا دفعه لمن نهى الله سبحانه عن أن يؤتى المال. وإن كان اشترى سلعة وجب فسخ بيعه. وإن تلفت في يديه بغير سببه لم يضمنها. وإن أتلفها فيما وَقَى ماله رجع عليه بالأقل من ثمنها الذي اشتراها به أو قيمتها. ويجري هذا كله على أحكام استحقاق السلع من يد مشتريها. وهو يبسط في كتاب الاستحقاق إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: قد قررنا أن الله سبحانه نهى أن نُؤتي السفهاء أموالنا، ومعلوم قطعًا أن العلة في ذلك كونهم لا يعرفون وجه المصلحة فيها، ومقدار الحاجة إليها، فلا يحسنون حفظها ولا تنميتها. وإذا كانت العلة ذلك، فمعلوم أن السكر يغير العقل والتمييز وأقل مراتبه أن يغطي العقل والتمييز عن درجة الكمال التي تحصل للبالغ العاقل الرشيد، فيجب أن تلحق عقوده بعقود السفهاء الذين لا يلزمهم عقودهم. وقد نبه الله سبحانه على فساد عقله بالسكر بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} (¬1). فنبّه الله سبحانه على أن الخمر يغير العقل حتى يستحسن السكران ما كان يستقبحه قبل أن يشرب الخمر، ويستخف من المتقدم على المحرمات ما لم يكن يسْتخفّه قبل شربه لها. ومعلوم أن ذلك بما حدث في عقله وميزه من فقد أو انتقاص. لكن هذا الحدث هو اكتسب السبب فيه بعد أن نهاه الله عن هذا الاكتساب وحرمه عليه، وهو متعد في شربه الخمر. ¬

_ (¬1) المائدة: 91.

وهذه الأحكام ثلاثة أنواع: حدود، وعقود معاوضات، وعقود غير معاوضات. وهي على قسمين: منها ما لا يحتاج إلى قبول ومنها ما يحتاج إلى قبول: فإن الحدود تلزمه وتقام عليه بما جناه في حال سكره حتى كأنه جناها وهو غير سكران في صحوه. وقد حكى بعض العلماء الإجماع على أنه لو قتل لقتل وجرى حكمه في القتل مجرى حكم القاتل الصاحي، وإن كان مجنونًا جنونًا لا اكتساب له فيه لم يقتل إن قتل ولم تقم عليه الحدود وما ذاك إلاّ لما أشرنا إليه من كونه هو السبب في نقص عقله وتمييزه لأنه لو لم يشرب الخمر باختياره لم يفسد عقله إلا لسبب يطرأ عليه. فصار حكم عقله الناقص كحكم العقل التام؛ لأن هذا النقص هو جناه على نفسه، فصار حكمه كحكم العدم. وقد نبّه علي بن أبي طالب رضي الله عنه على هذه العلة لما اجتمعت الصحابة في الاجتهاد في مقدار الحد الذي يقام على شارب الخمر. فقال لهم علي: "أرى أن يحدّ حد القاذف: ثمانين؛ لأنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى؛ فيقام عليه حدّ القاذف الصاحي" إشارة منه إلى ما ذكرناه. ولم ينكر عليه من اجتمع من الصحابة الاجتهاد في هذا الحكم بهذا التعليل، وهو المعنى الذي أشرنا إليه. ولهذا أقيمت الحدود عليه. وأما عقود المعاوضة التي تحتاج إلى قبول، كبيعه وشرائه، فإن أكثر أهل المذهب على أنها لا تلزمه، ومنهم من ألزمه إياها: فالذين يلزمونها له أجروه مجرى السفيه العاقل، ورأوا أن أقل مراتبه أن يكون كالسفيه العاقل الذي جهله تدبير المال اقتضى ألاّ تلزم عقوده في البيع والشراء، فكذلك السكران، لكونه فقد الميز بالعقل (فقد لا ينتهي إليه السفيه العاقل) (¬1) تقام عليه الحدود ولا تلزمه عقوده، فكذلك السكران تقام عليه ¬

_ (¬1) هكذا.

الحدود ولا تلزمه عقوده للعلة الجامعة بينهما من فقدان العلم بتدبير المال، بل زاد السكران فقدان العقل كما نبّه الله سبحانه عليه، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (¬1) فلو كان السكر لا ينافي العلم لم يجعل الباري سبحانه ها هنا غاية وجود العلم فقدان السكر. وأمّا عقوده في غير معاوضة، ولكنها تفتقر إلى قبول، كهباته، فإنها على القولين في بيعه وشرائه. لكن الهبة تفتقر إلى قبول الموهوب كما تفتقر عقود بياعاته إلى قبول المشتري منه. وأمّا ما لا يفتقر إلى قبول كطلاقه وعتاقه فإنه يلزمه ذلك. هذا المعروف من المذهب. وحكى بعض أشياخي عن بعض أشياخه أنه روى عن مالك أن طلاقه يلزمه، وهو مذهب ربيعة والليث وغيرهما. وما ذاك إلاّ بما قدمناه من التعليل من كونه أدخل على نفسه ما أفسد عقله تعديًا منه وظلمًا لنفسه، فصار فقدان عقله حكمه كحكم العدم، وكأنه باقٍ على ما كان عليه قبل شربه الخمر. وقد علل مالك رضي الله عنه إلزامه الطلاق بكونه قد وقع منه الطلاق، ونحن لا نصدقه مع إيقاعه أنه بغير العقل حين إيقاعه لكونه تعدى في شربه، فلم يصدق فيما يدعيه من ذهاب العقل. ويؤكد هذا أن رفع التكليف عن الصبي والمجنون تخفيف ورخصة وترفيه ورفع مشقة، وفقيد العقل بالشرب قد أتى معصية وركب كبيرة. والمعاصي لا تجلب الرخص، لأن الترخيص في الشيء مسامحة في ركوبه وتسهيل لفعله، والشرع قد أقام الحدّ على أهل الفسوق زجرًا لهم عن معاودة المعصية وطردًا لغيرهم عنها مخافة العقوبة. فلو كان سكره يرفع عنه هذه الأحكام لكانت المعاصي كالرخص له فيها، وهذا عكس موضوع الشرع. ¬

_ (¬1) النساء: 43.

والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال: اختلف في المخدوع في البياعات: هل يحجر عليه لأجل ذلك كما يحجر على من لا يحسن حفظ المال وإمساكه أم لا؟ وسبب الخلاف في ذلك أن أهل حَبّان بن منقذ سألوا النبي عليه السلام أن يحجر عليه، لكونه يخدع في البيوع، فقال له لمّا شكى ذلك إليه، فقال له: "إذا بايعت فقل: لا خلابة" (¬1) فكأن من رأى الحجر عليه، وهو اختيار ابن شعبان، رأى أن التحجير على المغبون لو لم يكن جائزاً لأنكر النبي عليه السلام على السائل في التحجير قوله، وهو عليه السلام لا يقرّ على خطأ وغلط فيما يتعلق بالشرائع. ووجه القول بأنه لا يحجر عليه أنه عليه السلام لم (¬2) إلى ما طلب منه من الحجر، ولو كان سائغًا لأجاب السائل فيه إليه، بل علّمه ما يصون به ماله ويستغني به عن الحجر، فقال له: "اشترط أَلاَّ خلابة". معناه أن يستسلم إلى من يعامله ويشترط عليه ألاّ يغبنه. فإذا ظهر بعد ذلك غبن كان له أن يرد لمخالفة الشرط بخلاف المغبون. وأما المماكس ولكنه غبن لأجل جهله بالقيمة ففيه قولان: إذا كانت المغابنة فاحشة، تقدم ذكرها في كتاب بيع الخيار من البيوع. وقد قدّمنا من حقيقة الرشد ذكر الاضطراب في اشتراط تنمية المال، فهذا المغبون إن كفّ عن التجر فأمْسك ماله، جرى ذلك على ما قدمناه فيمن يحسن إمساك المال ولا يحسن تنميته، فإنه يدفع إليه وينهى عن التَّجْر بِهِ، فإن لم ينته عن التجر خيف أن يتلف جميع ماله. والجواب عن السؤال الثالث عشر أن يقال: ¬

_ (¬1) الفتح: 5: 240 - 241. (¬2) في الأصل: لم إلى. ولعل كلمة سقطت تقديرها: يُجِبْ.

أمّا المسلم إذا ارتدّ فإنه قد إنحلّ ما كان ثبت له من أمان في نفسه وماله، فوجب أن يوقف في نفسه ليقام عليه حكم الله سبحانه في قتله إن لم يتب ويرجع إلى الإِسلام، وكذلك يوقف ماله كما وقفت نفسه، لأنه إن قتل على ردّته كان ماله للمسلمين ولا يرثه ورثته. فهو في نفسه وماله على الوقف ليرى ما يكون منه: فإن رجع إلى الإِسلام صار ماله كما صار نفسه على المشهور من المذهب، وإن استبيحت نفسه بالقتل استبيح ماله، وإذا كان الحكم إيقاف ماله واعتقاله: فهل تردّ أفعاله فيه ويكون محجورًا عليه بنفس الردة؟ أو تكون أفعاله ماضية حتى يحكم القاضي عليه بالحجر؟ أمّا إن رجع إلى الإِسلام مضت أفعاله، وأمّا إن قتل على ردته، ففيه اختلاف في المذهب: فذهب ابن القاسم وأشهب إلى أنه لا يكون محجورًا عليه بنفس الردة حتى يحكم الإِمام بالحجر عليه. ورأيا أن أفعاله ماضية. وذهب سحنون إلى أنه محجور عليه بنفس الردة. فهذا قد يحسن أن يقال: إن الاختلاف في هذه المسألة مثل الاختلاف في السفيه المهمل: هل يكون محجورًا عليه لوجود علة الحجر وهو السفه؟ أو لا يكون محجورًا عليه إلا بالحكم بالحجر؟ وقد كنا قدمنا الاختلاف في ذلك، إلى هذا أشار بعض الأشياخ. وقد يقدح في هذا التمثيل بأن الردة معنى محسوس مسموع فأشبه الجنون والصغر اللذين لا يفتقران إلى حكم حاكم لمّا كان ثبوتهما لا يفتقر إلى اجتهاد، بخلاف السفيه المهمل الذي اختلف فيه، لكن ثبوت السفه فيه يفتقر إلى اجتهاد. لكن يقال في هذا أيضًا: فإن ابن القاسم ذهب في السفيه المهمل إلى أنه ترد أفعاله وإن لم يحكم الحاكم بالحجر. وذهب في المرتد ها هنا إلى أن أفعاله

على الإمضاء، فإن لم يكن اختلف قوله، فهذا يشعر بأن الردة في إيجاب الحجر أخفض رتبة من وجوب الحجر على السفيه المهمل. فهذا هو الحكم فيه قبل أن يقع الحكم بالحجر عليه. وأمّا إن وقع الحكم بالحجر عليه وقتل على ردته فلا شك في أن أفعاله مردودة. وأمّا إن رجع إلى الإِسلام فإن أشهب رأى أن أفعاله مردودة أيضًا كما لو قتل على ردته وكأنه قدّر أن إمضاءها كالنقض للحكم، والحكم الصحيح لا ينقض. وذهب ابن القاسم إلى أن أفعاله تمضي، وكأنه قذر أنه انكشف أن الخجر كان في غير موضعه، وأنا لو اطلعنا على الغيب وعلمنا أنه يعود إلى الإِسلام لم يحكم بالحجر عليه، فلهذا أمضى أفعاله إذا رجع إلى الإِسلام. والجواب عن السؤال الرابع عشر أن يقال: أما تمكين الزوج من الحجر على زوجته في بيعها وشرائها من غير محاباة. فلا خلاف أن ذلك ليس من حقه. وأمّا تمكينه من الحجر عليها في الهبات والعطايا، فإنه مِمّا اختلف الناس فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه ليس من حقه أن يحجر عليها قياسًا عليه في نفسه: أن ليس من حقها أن تحجر عليه إجماعًا. ومن الناس من ذهب إلى أنه يمكن من الحجر عليها في العطايا والهبات على الإطلاق بعكس ما حكيناه عن أبي حنيفة والشافعي. وذهب مالك إلى أنه يمكّن من الحجر عليها إذا زادت في العتق والعطايا على ثلث مالها، قياسًا على المريض، فإنه لا يمنع من هبة ثلث ماله فأقلّ،

ويمنع فيما زاد على ذلك. وسبب الخلاف في هذا من جهة الاعتبار الالتفات إلى شواهد أصول: فقد تقرر في الشرع أن الحجر إذا كان حقًا للمحجور عليه انطلق على منعه مما قلَّ من ماله أوْ جلَّ. وإذا كان الحجر حقًا لغير المحجور عليه، فاختلف أحكام الشرع فيه: فللسيد أن يحجر عليه فيما قل أو جل من ماله، لما كان الحجر ليس حقًا للعبد، وهو حق لسيده. والمريض لما كان الحجر عليه حقًا لورثته حجر عليه فيما زاد على ثلث ماله. فأصحاب كل مذهب اتفقوا (¬1) إلى ما يوافق مذهبهم من هذه الأصول: فأبو حنيفة والشافعي رأيا أن أصول الشرع لا يمنع الرشيد من التصرف في ماله كيف شاء. وأمّا الالتفات في هذا إلى الآثار، فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي عليه السلام قال: "لا يحل لامرأة ملك زوجها عصمتها أن تعطي من مالها شيئًا بغير إذنه". وهذا الحديث مرسل، والعمل بالمراسيل فيه خلاف بين أهل الأصول. وروى ابن حبيب عن النبي عليه السلام معنى هذا الحديث عن النبي عليه السلام مقيّدًا، فقال: "لا يجوز لامرأة أن تعطي من مالها شيئًا له بال بغير إذن زوجها" أو كما قال. وهذا التقييد يوجب رد حديث عمرو بن شعيب إليه، فقال ابن حبيب: رأى العلماء مقدار مالَه بال الثلث استدلالًا منهم بما ورد الشرع به في إطلاق الثلث للمريض وإن تعلق لورثته حق بماله. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: الْتَفتُوا.

وقد علم عند أهل الأصول أن الحكم الواحد إذا ورد فيه مطلق ومقيد رد المطلق إلى المقيد. وأمّا أبو حنيفة والشافعي فإنهما يتعلقان بقوله عليه السلام لما خطب يوم العيد ووعظ "وإذا" (¬1) النساء، فقال: "تصدقن من حُليَكُنَّ" (¬2). فقوله "تصدقن" أمر عام لم يحدّ فيه مقدار ما يتصدقن به، ولو كان ذلك ممنوعًا على الإطلاق كما ذهب إليه بعض الناس لم يقل "تصدقن". ولو كان أيضًا يجوز ذلك في بعض المال دون بعض كما قال مالك لم يطلق الأمر بالصدقة، بل كان يقيدها بأن يقول: تصدقن بمقدار ثلث مالكن. والظاهر أنه إذ خاطب النساء عمومًاْ من غير أن يلتفت إلى من لها زوج أو لا زوج لها، ولا إلى من كان زوجها حاضرًا لهذا بذلك وميت لم يكن حاضرًا. وكان أبو حنيفة والشافعي تعلقا بهذا الحديث. وتعلق مالك بالحديث الذي رواه ابن حبيب. وتعلق المخالف الثالث بحديث عمرو بن شعيب. وأمّا طرق القياس، فقد نبهناك عليها. واختلف المذهب على قولين: إذا تصدقت بأكثر من الثلث هل يرد جميع ما تصدقت به، لكونها تعدّت في هذه الصدقة، وهي فعلة واحدة، فلما ثبت فيها العداء ردّ جميعها، أو يختص الردّ بما زاد على الثلث لأن التعدي مختص به، فيجب في هذا العقد أن يمضي فيه ما يجوز، ويرد ما لا يجوز. وإذا أبحنا لها الصدقة بثلث مالها فأرادت بعد ذلك بقرب زمن أو بُعده تتصدق (¬3) بشيء آخر من مالها؛ فالمعروف. من المذهب أن ذلك لا يمنع منعًا ¬

_ (¬1) هكذا، والصواب إسقاطها. (¬2) إكمال الإكمال: 3/ 34 - 35. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: أنْ تتصدق.

مطلقا لكن القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب ذكرَ في تلقينه هذا أن ذلك ليس من حقها، وكأنه رأى أن الأصل تمكين الزوج من منعها من عطية مالها. وإنما ورد الإذن فيما ليس له بال. فإذا فعلت ما أذن لها فيه فليس لها أن تعود إلى مثله، لأنا لو مكناها من هذا صار ذلك كالموافقة لأبي حنيفة والشافعي في إباحة إعطائها جميع مالها إذ لا فرق بين أن تعطيه كرّة واحدة أو على كرات وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على أن المرأة تنكح لمالها. وأشار إلى أن للزوج غرضًا في كونها موسرة ليتجمل بمالها ويستغني بكثرته عن استقصاء طلب حقوقها منها، وقد يرثها أو تنفق بنية (¬1) منها. فإذا أبحنا لها تكرير العطية حتى يفنى مالها بطل غرض الزوج في ذلك. وذهب أصبغ إلى تفصيل في هذا، فرأى أنه يباح لها تكرير العطية إذا كان بين العطية الأولى والثانية بُعدٌ وتفاوت كالستة أشهر ونحوها، فإنها تمكن من عطية ثلث ما بقي من مالها. وأيضًا فإن كان بين العطاءين اليوم واليومان قدر كالعطية الواحدة في الكلمة الواحدة فيعتبر فيها الثلث. ويختلف إن زادت عليه: هل ترد العطيتان أو يمضي منها مقدار الثلث؟ فإن كان بين العطيتين مقدار الشهر والشهرين ردت العطية الثانية، ولو حملها الثلث بعد إضافتهما إلى العطية الأولى. وهذا القسم أنكره بعض الأشياخ وأشار إلى أنه لا وجه له، لأنه إذا كان بين العطيتين الشهر والشهران وكانتا جميعًا يحملهما الثلث، والثلث مباح لها أن تعطيه، فلا فرق بين أن تعطيه في كلمة واحدة أو في كلمات مفترقات بينهما زمن بعيد أو قريب. وقد اختلف المذهب على قولين مشهورين في صدقتها بثلث مالها إذا تصدقت بذلك للضرر هل تمضي أو ترد؟ كما اختلف في المريض إذا أوصى بثلثه قاصدًا للضرر: فقيل: يرد ذلك فيه لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} (¬2).فشرط في إمضاء الوصية ألاَّ يقصد بها الضرر. فكأن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على بَنِيهِ. (¬2) النساء: 11.

أشهب رأى أن العطيتين إذا كان بينهما هذا المقدار، فإن ذلك علم عنده على قصد الضرر بالأولى والثانية، فيردان جميعًا وإن حملهما الثلث بناءً على أحد القولين في ردّ عطيتها إذا قصدت بها الضرر. وسنبسط هذا إن شاء الله في غير هذا الموضع. والجواب عن السؤال الخامس عشر أن يقال: أمّا الحجر على المفلس وهو الذي يثبت عند القاضي عليه ديون يقصر عنها (¬1) في يديه من المال، وطلب أصحاب الديون القاضي في التحجير عليه، فإن ذلك مما اختلف الناس فيه: فذهب مالك والشافعي رحمهما الله إلى أن القاضي يحجر عليه ويمنعه من التصرف في ماله لحق الغرماء في ذلك، مخافة إن مكن منه أن يتلفه عليهم. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يحجر عليه ولا يمنع من التصرف في ماله. وحجتنا عليه أن النبي عليه السلام حجر على معاذ بن جبل (¬2) هكذا رواه المحتجون بهذا الحديث. ورواه آخرون خلع: خلع معاذ بن جبل من ماله. وأيضًا بحديث أسيْفع جُهَيْنة في قول عمر بن الخطاب فيه مخاطبًا للناس في خطبة خطبها: إن الأسيفع، أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاجَّ، وإنه اِدَّانَ مُعرِضًا، فأصبح وقد رِين به فمن كان له عليه شيء فليأتنا فإنا قاسموا ماله بالغداة إن شاء الله (¬3). وهذا يشير إلى التحجير عليه وقضاء ديونه لغرمائه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والظاهر أنه سقط "ما". (¬2) البيهقي: السنن الكبرى: 6: 48. (¬3) البيهقي: السنن الكبرى: 6: 49.

وأبو حنيفة يُجيبُ عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون الأسيفع ميتًا، فيجوز للإمام أن يقسم ماله ويصرفه لمن يستحقه. وأجيب عن هذا بأن ظاهر هذا الخبر أنه كان حيًّا، إذ لو كان ميتًا لنقل ذلك مع قوله: "وقد رين به" يعني بقوله "رين به": حيط به، من قوله: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (¬1) يعني: غطى وأحاط. وقيل: معنى "رين به": انقطع به. ويجيبون هم عن هذا بأنه لم ينقل في الخبر أنه أحضِر وطلب بالقضاء وعذر إليه. وهذا أيضًا مما يؤكد عندهم حمله على أنه ميت، وإن احتمل أن يكون قال ذلك عمر رضي الله عنه وقد فرغ من الواجب في ذلك كله. وإذا تقرر الخلاف الذي ذكرناه في الحجر عليه، فإن القاضي يعرض عليه القضاء، فإن قَبِل ذلك مكنه منه، محتفظًا على المال لئلا يتلف، وإن امتنع منه باع عليه عقاره وغير ذلك من ماله. وذهب أبو حنيفة إلى أن القاضي لا يبيع عليه شيئًا من ماله إلاّ أن يكون عليه ذهب وله فضة، أو عليه فضة وله ذهب، فإنه يصرف ذلك، أو تكون زوجة طلبت زوجها للإنفاق، فيبيع ذلك للإنفاق عليها. وهذا بناء على أصله: أنه لا يحجر عليه أن يبيع ماله بغير إخساره تحجير عليه، لكنه يرى أن القاضي يحبسه حتى يبيع بنفسه عقاره ويقضي ثمنها (¬2) غرماءه. ونحن نبسط الكلام عليه في كتاب التفليس إن شاء الله تعالى. وإذا تقرر الحجر وأحكامه، فلننظر الآن في من له الحجر: فأمّا اليتيم السفيه الذي لا وصي له ولا مُقَامٌ، فالنظر فيه إلى القاضي: يتولى ذلك بنفسه أويقيم له من ينظر فيه. ¬

_ (¬1) سورة المطففين: 14. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من ثمنه.

وأمّا الصغير الذي له أب، فأبوه يتولى الحجر عليه إلى أن يرشد. وإن مات الأب واستوصى عليه وصيًا فهو المستحق للحجر عليه. وكذلك وصي الوصي يحل في هذا محل الوصي، كما حل الوصي محل الأب. فإذا رشد من له الأب ثم صار سفيهًا فما يحجر عليه إلى (¬1) القاضي، وليس ذلك لأبيه؛ لأنه قد خرج من ولأنه، فصار بذلك كالأجنبي منه الذي ليس له من يستحق النظر له. فيكون الأمر فيه للقاضي. وإذا حجر القاضي على أحد أشهد ذلك في مجلسه. وأمّا فكّ الحجر، فقد قدّمنا أن سبب الحجر إذا ارتفع وزال عاد الأمر في المحجور عليه إلى ما كان عليه قبل ذلك. وقال القاضي عبد الوهاب: "لا ينفكّ الحجر إلا بحكم حاكم"، كما تقدم ذلك عنه. والمشهور من المذهب في الوصي والمقام إذا علمًا رَصيدًا (¬2) لمن في ولائهما، وتبين ذلك لهما، أن لهما أن يدفعا إليه ماله. هكذا قال. مالك رضي الله عنه. وعلى ظاهر كلام القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب يفتقر إلى (¬3) الدفع إلى حكم حاكم. والذي قاله مالك رضي الله عنه هو مقتضى ظاهر القرآن كقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (¬4). ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: إلاّ. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: رُشْدًا. (¬3) هكذا، ولعل الصواب حذف: إلى. (¬4) النساء:6.

يخاطب تعالى سائر الذين في ولائهم من يجب الحجر عليهم بأن (¬1) يؤتوهم أموالهم إلى أن يبلغوا ويعلموا رشدهم فيدفعوا إليهم أموالهم. فجعل الدفع إليهم (¬2) لم يعتبر في ذلك حكم قاض. فكأن القاضي أبا محمَّد عبد الوهاب (¬3) أن الأحوط لمال اليتيم أن يكون الدفع بحكم قاض لأن السفه والرشد قد يفتقر فيهما إلى اجتهاد، فقد يعتقد الوصي رشد من في ولأنه، وأنه قد صار في حيز من يصون ماله وينميه، والأمر بخلاف ذلك في الباطن. فإذا صُرف ذلك إلى القاضي استقصى الأمر فيه بحسب الاجتهاد ولم يوقع الحكم إلا بعد ثبوت ما يوجبه. وإن كان الأمر في ذلك يناط بالوصي فلا يحكم القاضي بارتفاع الحجر حتى يعذر إلى الوصي ويرى ما عنده. فقد صار ذلك مُناطًا بالوصي، فلهذا رأى مالك رحمه الله أن للوصي دفع ماله من غير افتقار إلى حكم حاكم. وقد وقع لسحنون ما ظاهره يؤكد ما قلناه من (¬4) الأمر مناط بالوصي، وبنى، على قوله، فقال في رجل أتاه يتيمه فأخبره أن أباه استوصاه عليه وأنه تبين منه الرشد، وسأله في الحاكم (¬5) بإطلاقه. فبنى سحنون الحكم على أنه أتى فلان ومعه فتى ذكر أن اسمه فلان بن فلان، وأن أباه استوصاه عليه، وأنه قد تبين رشده، فأمرته بأن يدفع إليه ماله وأبرأته. فهذا إن أخذ على ظاهره صح إسناد الحكم إلى قول الوصي من غير أن يثبت ذلك عند القاضي. والأمران القاضي لا يحكم برشد المحجور عليه بمجرد خبره، وأنه المستحق النظر له (عندي رشد) (¬6). ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: بأن لا. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: وَلم. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: رأى أن. (¬4) هكذا، ولعل الصواب: من أن الأمر. (¬5) هكذا، ولعل الصواب: الحكم. (¬6) هكذا، ولعل الصواب: عند ترشيده.

وقد تأول بعض الأشياخ قول سحنون هذا على أنه إنما أراد بقوله "أمرته بالدفع" الإذن في ذلك على مقتضى ما وقع لمالك رضي الله عنه من كون الوصي له الدفع من غير افتقار إلى حكم حاكم. وفي قوله "أبرأته" المراد به أيضًا: أبرأته من الدفع. يعني أثبت له ذلك إثباتًا، لأن الوصي لو نازعه من كان في ولأنه في كونه دفع إليه المال، وأنكر اليتيم أن يكون قبض، لم يقبل قول الوصي إلا بالإشهاد. فكأن قول الحاكم "أبرأته" يريد: حكمت له بالبراءة من الدفع خاصة، (لا يكون المدفوع إليه رشيدًا أو سفيهًا) (¬1). ويمكن أن يكون "أبرأته" على مقتضى قوله: إن المال هذا وارثه رشيد، فيكون ذلك كحكم مشترط فيه أني أبرأته إن ثبت ما قال. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى: فأمّا المفلس إذا طلب غرماؤه أو بعضهم الحجر عليه، فإن الحاكم يحكم عليه ويمنعه التصرف في ماله. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة، منها أن يقال: 1 - كيف صفة الحجر على المفلس؟ 2 - ومن يستحق الحجر عليه؟ 3 - وما الذي يباع على المفلس من ماله؟ 4 - وما الذي يقع الحصاص به؟ 5 - وما حكم المحاصّة التي يترقب انتقاضها؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

6 - وما الحكم في المحاصّة بمال لا يستقر ملكه إلا بعد الموت؟. فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: قد قدمنا اختلاف فقهاء الأمصار في صحة الحجر على المفلس، وذكرنا أن مالكًا والشافعي اتفقا على أن الحاكم يحجر عليه إذا سأله غرماؤه في ذلك، وكان ما في يديه عن (¬1) حقوقهم، وقد وجبت لهم المطالبة به. وذكرنا أن أبا حنيفة أنكر الحجر على المفلس، وهذا مع اتفاق الجميع على أن القاضي إذا نصب لاستخراج الحقوق وممن (¬2) هي عليه إذا امتنع من أدائها، ولكن رأى مالك والشافعي أن وجه استخراجها المؤدي إلى أخذ كل ذي حق حقه أن يحول بين المفلس وبين ماله إن امتنع من القضاء. ويمنعه من التصرف فيه ويبيعه عليه حتى يستوفي الغرماء حقوقهم. ورأى أبو حنيفة أن المفلس حر بالغ عاقل رشيد. ومن كان كذلك فلا يمنع من التصرف في ماله. وكون هؤلاء لهم حق عليه في ماله يصح أن يوصلهم الحاكم إلى حقوقهم بأن يسجن المفلس ويضيّق عليه حتى يبيع عقاره وأثاثه بنفسه ويقضي ما عليه. وهذا الذي قاله لا يكون سببًا عامًا موثوقًا به في حق كل واحد: إن هذا مما يؤدي إلى أخذ كل ذي حق حقه، لأنه من يتجلد على الحبس والتضييق، ويطول ذلك فيصير ذلك مماطلة بحق على مليء به أو ببعضه وهذا إضرار بالغرماء. والحجر عليه يتعلق بكل تصرف ينقص المال الذي في يده، فليس للمفلس الذي حكم بالحجر عليه أن يعقد عقدًا لا معاوضة فيه مما يعود بانتقاص المال الذي في يديه كإعتاقه عبده عتقًا ناجزًا أو عتقًا مؤجلًا، وتكون ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: من. (¬2) هكذا، والأوْلى حذف الواو.

خدمة العبد إلى أجل ليس فيها إن بيعت ما يقضى منه الدين، ونقص ثمن الخدمة عن ثمن الرقبة إن بيعت بالنقد. وكذلك ليس له أن يدبّر عبده أيضًا، على حسب ما قلناه من العتق المؤجل، وكذلك ليس له أن يهب أو يتصدق أو يحبّس، لأن جميع ذلك إبطال لحق الغرماء ونقص من المال الذي استحقوه. وأمّا العقود التي بغير معاوضة ولكنها لا تنقص المال، كطلاقه لزوجه وخلعه ولعانه واستلحاق نسب أو نفيه، أو عفوٍ عن جراح عمد أو عن حدّ وجب له، فجميع هذا لا يناوله (¬1) الحجر عليه. وأما عقود المعاوضة التي هي بيع وشراء، فإنها موقوفة على ما هو أوفر للغرماء وأقرب إلى استيفاء حقوقهم إذا كان البيع والشراء مصروفاً إلى المال الذي وقف. وأما إذا كان مصروفاً إلى ذمته وعقد ذلك على وجه جائز كسَلَم يسلم إليه فيه إلى أجل بعيد، يصح العقد عليه أو ما في معنى ذلك، فليس لغرمائه أن يمنعوه من ذلك لأنه لا يعود بانتقاص المال الذي استحقوه. فإن باع بيعًا بعد الحجر من السلع التي وقفت للغرماء، فإن رأى القاضي أن أخذ أثمانها أوفر للغرماء وأفيد من فسخ البيع أمضاه، وإن رأى أن فسخ البيع والنداء على السلعة أوفر للغرماء وأفيد فعل ذلك. فكذلك سبيلك فيما اشتراه على أن يؤدي ثمنه من المال الموقوف. واختلف قول الشافعي في هذه المسألة: فرأى مرة أن عقوده هذه على الوقف حتى ينظر فيها: هل يفضل بعد قضاء ديونه فيمضي عقده فيهما؟ أو ينقص فينظر في عقده أيضًا. وقال أيضًا قولًا ثالثًا: إن عقوده تفسخ على كل حال. وكأنه رأى أنه لمّا حيل بينه وبين ماله، ونهي عن التصرف فيه، صار عقده عقدًا منهيًا عنه يدل على فساد المنهي عنه. وهكذا مذهبه فيمن غصب سلعة فباعها أن البيع يفسخ ولا ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: يتناوله.

يُمَكَّن الذي غُصبت منه السلعة من إجازة البيع، خلافًا للمشهور من مذهبنا. وقد حكى ابن شعبان عن بعض أصحابنا: أنه يرى في ذلك ما رآه الشافعي من كون بيع الغاصب يفسخ على كل حال وقد كُنَّا قدّمنا نحن في غير هذا الموضع أن النهي إذا كان لحقوق الخلق لم يؤثر فسادًا في العقد قياسًا على المصرّاة. والنهي هاهنا راجع لحقوق الخلق. ثم قد تقرر أن الحاكم إذا انتزع مال المفلس من يديه وحجر عليه التصرف فيه لحق الغرماء، صار ذلك كالرهن يرهنه من له الدين فبيع الراهن فيه لا ينفذ، وقد تعلق حق الورثة بمال من يرثونه إذا مرض، ثم لو باع جميع ماله بأعواض لا محاباة فيها لمضى بيعه، ولم يمنع من ذلك تعلق حق الورثة بماله مع كونهم يستحقون غير ما في يديه ولا يستحقون في ذمته شيئًا؛ بخلاف المفلس الذي يستحقون حقوقهم في ذمته لا عين ما في يديه بل مقدار ما في يديه. فإذا جاز للمريض في ماله عقود المعاوضة، فكذلك يجوز للمفلس المحجور عليه. لكن الحجر على المفلس أضيق من الحجر على المريض، ألا ترى أن المريض له أن ينفق من ماله في الأشربة والأدوية وطيّب الطعام، ما ليس للمفلس أن يفعله، وإنما للمفلس ما يفرضه القاضي من قوته، على ما يبسط في كتاب التفليس إن شاء الله تعالى. وهذا يقتضي القدح في قياس المفلس على المريض لكونهما يختلفان في السعة والتضييق. والذي ذكرناه عن الشافعي فيما يتصرف فيه المفلس ويعقده على نفسه في المال الذي حُجر عليه فيه من بيع أو شراء هو بنفسه قال فيه قولين: أحدهما إبطال هذه العقود. والثاني كونها موقوفة على اعتبار ما يظهر بعد قسمة المال: هل تفضل أو يطرأ مال تخرج منه هذه العقود كلها؟ قال: وبهذا يفتي وعليه يناظر. ووجهه ما أشرنا إليه من كون التصرف لم يصادف مالكًا محققًا يجوز له التصرف فيه، فصار تصرفه باطلًا كتصرف الإنسان في مال غيره بغير إذنه. فإذا قيل بهذا المذهب الذي هو إبطال العقود في الحال

من غير انتظار ما ينكشف بعد قسمة المال. فلا تفريع على هذا. وإن قيل بالوقف: فإن أبا حامد الإسفراييني فرع هذا على أحد قوليهم بأنه إذا ظهر بعد قسمة المال فضلة، فإنه يرد من عقوده الأضعف فالأضعف. فلو فضل بعد قسمة المال فضلة وقد باع ووهب وأعتق فإنه رأى أن التفريع على هذا القول رد الهبة لكونها أضعف من البيع الذي هو المعاوضة، والهبة بغير معاوضة أضعف من العتق الذى له حرمة ويستكمل على الشريك المعتق نصيبُ شريكه لحرمة العتق. ثم يلي الهبة في الإبطال البيع لأنه وإن كان عن معاوضة فإنه ليست له حرمة العتق، فكان العتق أقوى هبة (¬1)، فوجب أن يقدم إمضاؤه في الفضلة التي تبقى بعد قسمة المال على الغرماء لحوالة سوق أو لطريان مال. وهذا الذي فرعه من قال بالوقف، فإنا نحن من القائلين به، ولكن تفترق من (أمين) (¬2) وموافقيهم في هذه الطريقة لأنهم يرون الحجر يوجب تأثيرًا في العقود: إمّا إبطالها جملة، وإما ضعفها وكونها معرضة للإبطال. ونحن نرى إذا ظهر أن العتق والبيع والهبة كانوا (¬3) في حين إيقاعهم مما يجب أن يمضي لو اطلعنا على غيب ما يكون في المستقبل ويظهر، لم يحجر عليه فيها ولا تعقبنا عقوده في عتق أو بيع أو هبة. وأمّا البيع فقد ذكرنا أنه لا يتعقب إذا كان بالقيمة فلو فضلت فضلة بعد قسمة المال فإن البيع قد ذكرنا أنه يجب إمضاؤه، إذا لم يكن إمضاؤه فيه ضرر على الغريم. هذا بفور البيع، فكيف به بعد قسمة المال وزوال حق الغرماء ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: جَنْبَة. (¬2) هكذا. (¬3) هكذا، ولعل الصواب: كانت.

وأما العتق والهبة فيجب أن يقدم الأسبق منهما، فإن كان عتقه سابقًا لهبته وفضلت فضلة صرفت إلى العتق إن لم يكن فيها محمل للهبة مع العتق. وإن كانت الهبة أبتّها، وقلنا: إنه لا رجوع للواهب في هبته، وهي لازمة بالقول كالبيع، فإنها تتقدم على العتق إذا وهب سلعة ثم بعد ذلك أعتق عبدًا. وسنتكلم على ما وقع في المدونة: ثم بعد ذلك وهبها لآخر حازها عنه أو وهب عبدًا ثم أعتقه. وأمّا كتابة المفلس لِعبد دخل في الحجر مع جملة المال، فالظاهر من المذهب أنه لا ينفذ عقده فيه كالعتق. لكن اختلف المذهب على قولين في الكتابة هل هي من ناحية العتق وأحكامه تغلب عليها، أو من ناحية البيع، لما كان العبد إنما يعتق بعوض وأحكام البيع تغلب عليها؟ فإذا قلنا: إنها كالبيع نظر إلى قيمة الكتابة لو بيعت، فإن وفت بقيمة الرقبة نقدًا، أو بيعت للغرماء حتى يظهر أنه لا ضرر عليهم في أمضائها ولا انتقاصَ في ما يأخذونه من المال جاز ذلك، كما قدمناه في بيع المفلس سلعة مما حجر عليه. وقد ذكر أبو حامد الإسفراييني أن المزني اختار القول الذي اختاره وهو في كون عقود المفلس المحجور عليه محمولة على الإبطال. واحتج المزني بأن الشافعي قطع بأن الكتابة مردودة. قال أبو حامد: فيقال له: يا أبا إبراهيم، والكتابة أيضًا مختلف فيها كما اختلف في عقوده كلها التي ذكرناها. وأمّا استيلاد المحجور عليه لأمة فيها (¬1)، فإنه لا يكون تعدّيه في وطئها مبيحًا لإرقاق ولده الحر، لأن من وطئ أمته فأولدها فولده حر بإجماع. لكنه إذا كان لا حجر كانت بهذا الولد الحرّ المجمع على حريته أُمَّ ولدٍ لا يجوز بيعها، ¬

_ (¬1) هكذا.

وهذا لمّا تعدّى في وطئها لم يبطل حق الغرماء في عينها، وهي لما وقفت لهم لمن (¬1) يكن عندها ولد رقيق يجب أن يوقف، فتعدى عليها السيد وإنما افتات (¬2) رقبة الأمة فتؤخر، فإذا انفصل ولده منها بيعت للغرماء، ولا تباع بولدها وهو حرّ ولا تباع ويستثني ما في بطنها، فكان الواجب تأخير بيعها إلى أن تضع. وأمّا لو عقد نكاحها بعد الحجر عليه على أن الصداق لا يكون في المال المحجور عليه فيه، فإن ذلك ماض إذا عقد على وجه صحيح ولا مقال للغرماء لأن مقالهم إنما هو في المال ألاّ يتلفه ولا ينقصه عليهم، وهذا ليس فيه انتقاص لما استحقوه من هذا المال. وأمّا إن عقد النكاح على أن يكون الصداق من أعيان المال المحجور عليه فيه، فإن ذلك لا يمكّن منه ويصير كمن تزوج بمال غيره، فيجرى حكمه على ما يذكر في كتاب النكاح إن شاء الله تعالى. هذا حكم عقوده في ماله. وكذلك لو أتلف مالًا لغيره بعد الحجر لم يجب أن يشارك صاحبُ المال المتلَف للغرماء، الذي حجر عليه المال لحقهم، لأن ذلك كدين استدانه بعد الحجر، فإنما يكون في ذمته فيما يكتسبه فيما بعدُ على حسب ما يفصل فيما بعدُ إن شاء الله تعالى. وأمّا إقراره بعد الحجر عليه بحقوق وديون زعم أنها سبقت التحجير عليه، فإنه إذا قام الغرماء عليه ليفلسوه، فإنه وجه العمل فيه أن يسال عن كل ما عليه، فإذا استوفي ذلك واستسلم، وزعم أن هذه الحقوق هي جملة ما يَعرِف، ثم أتى بعد ذلك مُقِرًّا بدين رجل لا يتهم في إقراره له، فإن بعض الأشياخ أشار ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: لمْ. (¬2) هكذا.

إلى أن ذلك لو كان بالقرب لقبل منه، ويستدل على ذلك بقوله في المقارض إذا فاصل ربّ المال وسلّم إليه ماله وربحَه ثم أتى بالقرب يزعم أنه نسي نفقة، فإن القول قوله في ذلك. فكذلك يجب أن يكون من المفلس. وهذا الذي أراد أن يخرّجه من هذه الرواية يقدح فيه بما أشرنا إليه من أن المفلس إذا حكم الحاكم بالحجر عليه، وأنه ليس له تصرف في هذا المال، قبل (¬1) إقراره بعد ذلك كالمبطل للحكم الذي نفذ من القاضي المحجر عليه، وكأنه أقرّ لأجنبي بمال في يد أجنبي آخر. والعامل في القراض لم يبْدُ منه مَا يدل على المنع من قبوله قوله، وليس دفعه المال والربح ما ينافي كونه له حق في بعض ما دفع أغفله ونسيه. هذا حكم إقراره. وإذا حكم بالحجر، فالظاهر من المذهب ردّ إقراره. هذا حكم الإقرار بديون في الذمم. وأمّا لو ثبت على المفلس دين من ثمن سلعة، فقال بعد التفليس: هذه هي. هل يقبل إقراره أم لا؟ فقيل: لا يقبل حتى تعينها البينة التي شهدت بالبيع والثمن، فحينئذٍ يكون أحق بها من الغرماء. وقيل يقبل إقراره. وأمّا لو كان التفليس لأحد الصناع فقال: هذا لفلان أخذته لنحوكه أو لنصوغه أو شبه ذلك ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك يقبل منه، إذ لو لم يقبل منه لهلكت أموال الناس، لأن الشهادة على التعيين في هذا تتعذر. وقيل: لا يقبل ذلك منه للتهمة بان يكون يصانع بهذا الإقرار من يرد عليه ما أقر له به. ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: قبول.

وقيل: إن علم أن المقر (¬1) دفع إليه جنس ما أقرّ له به، وشهدت بذلك بينة صدقته على الجملة دون التفصيل والتعيين، قبل قوله في التعيين، وإلَّا لم يقبل، إذا لم تعلم أصل الدفع إليه البينة. وقد يستدل على صدقه بعلامات. وقد يستظهر باليمين على المقر (1). وذكر الشافعي أن إقراره بعد الحجر فيه قولان، واختار قبول الإقرار، واحتج له بأنه لو لم يقبل لاقتضى ذلك كون القصار والصباغ إذا فلسا وأقرَّا بسلع في أيديهما لمن استصنعهما بقصارة أو صباغ، لا يقبل ذلك منهما، وهذا يؤدي إلى تلف أموال الناس. وكذلك الدلال الذي يبيع الخدم إذا فلس. قال: وكذلك لو أقرّ المفلس بأن عبدًا من عبيده الذين حجر عليه فيهم عبد قد أبق، فإنه إن لم يقبل إقراره صار ذلك العبد يباع عليه في الدين والعهدة عليه فتلزمه عهدة قد تبرّأ منها. وهذا يقتضي قبل (¬2) إقرار المفلس بعد الحجر. وسنتكلم على إقرار الصناع لبعض من استصنعهم إن شاء الله تعالى. فإن لم يقع الحجر ويحكم به فإنه لا يخلو من أن يكون لم يتبين فلسه ولا أحاط الدين بما في يديه، فإنه إذا كان ذلك كذلك قبل إقراره على الإطلاق، وإن كان أحاط الدين بما في يديه قبل إقراره لما لا يتهم عليه في إقراره. هذا هو المشهور من المذهب. وذكر إسماعيل القاضي في المبسوط عن ابن نافع أن إقراره لا يقبل بدين على الإطلاق. فكأنه رأى أنه لما حسّ يكون ما في يديه مستحقًا عليه سهل عليه الإقرار لمن يستحق ولمن لا يستحق. ورأى الجماعة أن ذلك لا يقع فيه العاقل غالبًا: أن يعمر ذمته ويجعل ¬

_ (¬1) أي: المقَرّ له. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: قبول.

عليه تباعة بحق، وليس ذلك عليه ولم تدفعه إلى ذلك ضرورة، ولا له فيه منفعة، بل عليه المضرة بطلب المقَرّ له في الحال أو في المآل. وأمّا إذا أحاط الدين بما في يديه وأقرّ لمن يتهم عليه: ففيه قولان. واختلف الأشياخ في المختار من القولين: فقال بعضهم: الصواب إمضاء إقراره لأنه يطالب في المستقبل بما انتقص من مال الغرماء الذين وقع التحجير لأجلهم. فالتهمة وإن تصورت من كون المقَرّ له أبًا أو أخًا فهي تنتفي من جهة ما يدركه من نفسه من الضرر والمطالبة بسبب هذا الإقرار. ورأى بعضهم أن المختار ردّ إقراره، لكونه إذا كان قريبًا فإن التهمة تقوى في أن يقرّ له بمال يحاصّ به الغرماء ثم يعيده عليه معجَّلًا ينتفع به، وذلك أفْيَدُ له من كونه يُتَرقَّب مطالبته فيما بعد، والنفوس مجبولة على إيثار العاجلة. والأوْلى الالتفات إلى كل واقعة، فقد يصحب الواقعة من قولين (¬1) الأحوال ما يقوى التهمة أو بعضها (¬2). وأمّا إذا قام عليه الغرماء، فهل يكون قيامهم كالحجر فيردّ إقراره؟ أو يكون قيامهم لا حكم له فيجري الأمر فيه على ما قدمناه من التقسيم؟ اختلفت ألفاظ المذهب في هذا، فقيل: إذا قاموا عليه ليفلسوه لم يقبل إقراره. وقيل: بل إذا قاموا عليه ليفلسوه وسجنوه، فحينئذٍ لا يجوز إقراره. وقيل: بل إذا اجتمع الغرماء لتفليسه، وحالوا بينه وبين ماله، واستسلم، فإنه لا يجوز إقراره. وهذه العبارات تحويم على المعنى الذي يقوم مقام الحكم بالحجر لمّا ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب حذف: قولين. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: يضعفها.

كان الحجر عن هذه الأسباب التي ذكرناها يقع، ولأجله يحكم بالحجر. فمن اشترط الحبس قدر اعتقاله في نفسه كاعتقال ماله والحجر عليه فيه. ومن لم ير ذلك، وأشار إلى اعتقال ماله والحيلولة بينه وبينه، فإنه رأى أن ذلك المقصودُ الذي يتعلق به الحكم حتى يصير المال كالمرتهن للغرماء. وإن لم يكن الغرماء قاموا عليه ليفلسوه ولكن تشاوروا في تفليسه فاجتمع رأيهم عليه فبادر أحدهم إلى استقضائه ماله عليه من الدين لينفرد بذلك دون أصحابه الذين تشاوروا في تفليسه، فإن في ذلك قولين: أحدهما: أن ذلك يحل محل الحجر: إذا وقع الحجر فليس لأحد الغرماء أن يأخذ من ماله شيئًا. والقول الآخر: إن ذلك يمضي له وإن هذا التشاور واجتماع رأيهم على تفليسه لا يحل محل الحجر عليه. وقد اختلف قول مالك في المدونة فيمن أحاط الدين بماله، فخصَّ بعضَ غرمائه بقضاء دينه، ولم يقض الآخرين، أو أرهنه رهنًا بدينه، فمرّة أمضى ذلك. ومرة ردّه. وهذا إذا كان الارتهان بدين استقر في ذمته. وأمّا إن كان رهنًا دفعه في ثمن عقد به سلعة وشرط بائعها أن يعطيه رهنًا بالثمن، فإن هذا الرهن يجري مجرى بيعه وابتياعه. وقد قدمنا أن بيعه بالقيمة يمضي من غير خلاف. وكذلك شراؤه بالرهن المشترط في عقد بيع يحل محل الثمن الذي يشتري به سلعة ويمسكها بائعها حتى يدفع الثمن إليه. وهذا الذي ذكرناه من اختلاف قول مالك إمضاء قضائه إذا أحاط بماله، منشأ الاختلاف فيه هل عامله الغرماء على أن يتصرف في ماله بالبيع والابتياع وفضل الديون، أم لم يعاملوه على ذلك إلاَّ بشرط أن يكون في يديه ما يُقتَضى منه جميع الحقوق التي هي عليه، فيجوز قضاؤه؟ فاتضح الأمر في العوائد على أنهم عاملوه على أنه يتصرف تصرفًا ينمي به المال لا تصرفًا يؤدي إلى نقص حقوقهم، والبيع والشراء بالقيمة لا ينقص من حقوقهم شيئًا، والقضاء ينقص من

حقوقهم، فأشكلت العادة فيه: هل هذا مما دَخل عليه الغرماء معه، لكونه وإن كان نقصًا في الحال فهو إنماءٌ في المآل، لكونه إذا قضى أحد الغرماء عامله الناس الذين يقضي ما عليه من الحقوق أو الأمر بخلاف ذلك؟ ولم يختلف المذهب عندنا في أنه إذا تصرف تصرفًا ينقص حُقوقهم، وليس فيه طلب تنمية المال في الحال ولا في المآل، أن ذلك لا ينفذ، كعتقه عبده أو هبته لرجل بعض ماله. لكن القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب حاول أن يخرّج في عتقه وهبته اختلافًا من اختلاف قول مالك في إجازته له أن يقضي بعض غرمائه دون بعض، فأنكر بعض أشياخي هذا التخريج لأجل ما أشرنا إليه أن القضاء لبعض غرمائه يؤدي إلى الثقة به في المعاملة وإذا عومل نما ماله ووجد ما يقضي منه الديون. والإعتاق والهبات خسارة محضة ونقص في المال لا يفيد نموًّا في الحال ولا في المآل، فلا يحسن الخلاف فيه كما يحسن الاختلاف في جواز قضائه ديون بعض غرمائه وقد أحاط الدين بماله. ولأجل هذه الإشارة التي أشرنا إليها من التعليل المفرق بين عتقه وهبته وقضائه لبعض غرمائه إذا (¬1) ذلك الشيخ أبا القاسم السيوري رحمه الله إلى (¬2) أن استفتاه بعض القضاة في رجل عليه دين لجماعة أحاطت بما في يديه فقضى جميع ما في يديه لأحد غرمائه، فأشار إلى أن ذلك لا يختلف في رده، وإنما اختلف في كونه يقضي بعض ما في يديه ويمسك بعضًا يعامل به الناس، فيتصور ها هنا كون ما قضاه فيه تنمية في المال. وأما إذا عاد فقير إلىِّ شيء (¬3) في يديه فإنه لا يعامل، فيكون ذلك ضررًا بيّنًا ببقية غرمائه. وقد رأيته في بعض التعاليق عن بعض الأشياخ القرويين أنه أشار إلى قريب مما أشار إليه السيوري، فقال: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أدّى. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عاد فقيرًا لا شيء ....

لو كان الدين إلى أجل فجعله لمن استحقه مؤجلًا، وقد أحاط الدين بما في يديه، فإن ذلك يردّ، ولا يختلف فيه كما اختلف في قضاء بعض الديون، لكون الغرماء لم يعاملوه أيضًا على كونه يقضي ديونًا آجلة ويترك قضاء ديون حالة. وحكيت هذا في بعض مجالس (¬1) وكان حاضرًا أحد مشائخ المفتيين، فقال: إن هذا يجب رده من طريقة أخرى، لأن الدين الآجل لو بيع بالنقد لم يساوِ مقدار عدده الذي يؤخذ حالًا إذا قضاه كاملًا، فصار الزائد على ما بين قيمته آجلًا وقيمته حالًّا كالهبة، والهبة ترد من غير خلاف منصوص في المذهب كما ذكرناه. وهذا الذي قاله صحيح، وإنما يبقى النظر: هل يرد جميعها؟ ومقدار هذه المحاباة التي بين القيمتين التي تجري مجرى الهبة. وعلى التعليل الذي ذكرناه نحن في أن الاعتبار بما عامله عليه (غرماؤهم يعاملوه) (¬2) على تعجيل دين آجل، إذ تبين فلسه يجب أن يردّ جميعه لا قدر المحاباة كما يقتضيه التعليل الآخر. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا كان من عليه الديون في يديه ما يقتضي منه جميعَها على الكمال، فلا مدخل للتحجير عليه، لأن القاضي إنما نُصب لاستخراج الحقوق إذا طلبها أهلها، وهو إذا كان عنده ما يفي بجميع ما عليه من ديون، أَمَره بقضائها، أو انتزع القاضي ما في يديه فقضاه لغرمائه، إن لم يقض هو ذلك بنفسه، أو تعذر قضاؤه بنفسه. وأما إذا كان ما في يديه يَقصُر عَمّا عليه من الديون الحالَّة، وليست ¬

_ (¬1) بياض في النسختين بمقدار كلمة. (¬2) هكذا في النسختين.

عليه ديون آجلة، فهو الذي تقدم الكلام عليه وذكرنا صحة الحكم عليه بالتحجير. وإذا اجتمع جميع غرمائه على تحجيره حَجَر لهم عليه وقسم ما في يديه عليهم بقدر أموالهم. وإن طلب بعضهم التحجير وأباه بعضهم، كان من حق من طلب التحجير أن يحجر له عليه، ويسقط (¬1) ما في يديه على من طلب التحجير ومن أَبَي منهم، فيدفع لطالب التحجير ما ينوبه في الحصاص، ويُبقي الآخرون (¬2) ما ينوبهم في يده إن شاؤوا، ولا يكون في هذا الذي أبقوه في يده للمانعين من التحجير حق لمن طلب التحجير وأخذ ما نابه في الحصاص. وإن كانت عليه ديون حالّة وديون آجلة، فهل تحل الديون الآجلة أم لا؟ اعتبر في ذلك مقدار ما في يديه ومقدار ما حل عليه. فإن كان فيما في يديه نقص عن حقوقال فين حلّ ديْنهم فإنه يحكم ها هنا بتفليسه والتحجير عليه، حلت (¬3) عليه الديون الآجلة، على ما سيأتي بيانه وذكر خلاف الناس فيه. وإن كان مقدار ما في يديه هو مقدار الدين الذي حل عليه سواء بسواء، فاختلف الأشياخ في هذا: هل تحل الديون الآجلة ويحكم بالتفليس أم لا؟ فكان من منع من الحكم بالتحجير ها هنا ولم ير حلول الديون الآجلة، لكن الغريم (¬4) وجد سلعته التي باعها بعينها يكون أحق بها، يقول: فإن الغريم (¬5) إذا كان عليه ديون لجماعة، وفي يديه ما يوفي جميعها على الكمال، لا تجري عليه أحكام ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويقسِّط. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للآخرين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: زيادة الواو. (¬4) المعنى على تنظير المسألة بالغريم الذي وجد سلعته. (¬5) أي المدين.

المفلس، لكون كل طالب حق يوصله القاضي منه إلى جملة حقه على الكمال، ولا معنى لتفليسه. وإذا لم يكن من حق أصحاب الديون الحالة تفليسه لأجل ما ذكرناه، وأصحاب الديون الآجلة لم يستحقوا المطالبة بها، فيستحقون تفليسه، بطل تصوّر الحكم بتفليس هذا، لكون الطائفة التي حلّت ديونها يأخذون جميع حقوقهم. على أن أصحاب الديون الآجلة إنما عاملوه على أنه يعامل الناس (ويثقون الناس) (¬1) في معاملته بذمته فإذا أخذ هؤلاء حقوقهم على الكمال، وبقي لا مال له، صارت ذمته معينة (¬2) لا يعامله أحد، وأصحاب الديون الآجلة إذا لم يدخلوا على العيب في ذمته فكان (¬3) من حقهم تفليسه لأجل الضرر اللاحق بهم من فقد معاملة الناس له. وأما إذا كان (¬4) في يديه يستوفي منه جميع غرمائه الذين حلت ديونهم حقوقهم على الكمال أو (¬5) تفضل فضلة تبقى في يديه، قال ابن المواز: في هذا: إنه لا يفلس لأجل ما قدمناه من كون التفليس لا يستحقه أصحاب الديون الحالة والآجلة. وأشار بعض الأشياخ إلى حمل مقالة ابن المواز على أنه يبقى في يديه فضلة يعامل الناس بها ويتاجرهم فيها يرجى تنميته لها ما يقضي به حقوق أصحاب الديون الآجلة إذا حلت. وهذا التأويل الذي أشار إليه بعض الحذاق هو مبني على إحدى الطريقتين اللتين حكيناهما من اختلاف المتأخرين في تفليسه إذا كان الذي في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويثقون. - بحذف الناس. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: مَعِيبة. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: حذف الفاء. (¬4) هكذا في النسختين، والصواب: زيادة (ما). (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وتفضل.

يديه لا تفضل منه فضلة تبقى لأصحاب الديون الآجلة. وقدّر أنه إذا كانت الفضلة لا بال لها فإنها كالعدم، ويلحق بما قلناه من غريم (¬1) لم يكن في يديه إلا مقدار الحقوق الحالة لا أكثر من ذلك. وهذا الذي قاله يصح تصوره إذا كانت فضلة لا يعامل الناس عليها ولا يتأتى فيها تنمية. وأمّا إذا كانت مما يتأتى فيها التنمية التي يرجى منها قضاء الحقوق الآجلة فإن التفليس لا معنى له، كما أشاروا إليه. هذا حكم اختلاف الغرماء في تفليس المديان. وأما صحة حكم (¬2) مع ثبوت ملائه وتعذر إكمال ما عليه من الحقوق لغيبة ماله، إذا طلب الغرماء (تفليس غرمائهم) (¬3) لكون ما في يده نقص من حقوقهم ولا مال له سواه حاضرًا أو غائبًا، فقد ذكرنا أنه يفلس لهم. وأمّا إن كان له مال غائب، الظاهر أنه لا يصل إليه ويخشى كلفة أو يُشك في ذلك، فإنه يحكم بتفليسه، وتحل عليه الديون المؤجلة، ويكون من باع (¬4) سلعة أحق بعينها. وأما إن كان الظاهر كون المال الغائب حاصلًا يؤمن عليه حتى تقضى الديون منه، فإن المذهب على قولين: ذهب ابن القاسم إلى أنه لا يفلس. وفلسه أشهب. وكأن أشهب رأى أن التفليس ها هنا يتعذر (¬5) إكمال الحقوق لأربابها، فلا فرق بين أن يتعذر إكمالها للفقر والعُدم أو لغيبة المال. ¬

_ (¬1) أي المدين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: تفليسه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (غرمائهم) فيَصير: تفليسه. (¬4) أي: له. (¬5) هكذا، ولعل الصواب: لِتعذُّر.

وقد رأى ابن القاسم أن التفليس لا يقع ها هنا لا (¬1) غيبة المال كحضوره مع (¬2) تعذر بيعه في الحال وفي الزمن القريب. وبالغ أصبغ في الحكم بتفليسه كما قال أشهب. ويكتب بتفليسه ويُسْتتمّ الحجر عليه. فأشار إلى أنه إذا فلس ها هنا، وحاصّ أصحاب الديون المؤجلة أصحاب الديون الحالّة، ذهب من بقي له مؤجل إلى البلد الذي به المال فإنه يعجَّل له ما بقي من دينه فإن (¬3) كان الأجل لم يحل، لأجل ما تقدم من الحكم بحلول ديونه الآجلة لمّا حكم بتفليسه. واستبعد بعض الأشياخ هذا، ورأى أن علة إسقاط الأجل الذي للغريم فيه حق، وتعجيل الديون الآجلة حتى يستحق أصحابها المطالبة بها لمخافة ألاّ يجد (¬4) ما يأخذون منه ديونهم إذا حلت الآجال، وهاهنا قد أُمن من ذلك، ووصلوا إلى موضع، غريمهم (¬5) فيه مال مأمون، فيجب ألَّا يعجل لهم قضاء حقوقهم قبل أجلها لارتفاع العلة التي لأجلها عجلت حقوقهم. هكذا يجب عنده ألَّا تعجل لهم حقوقهم إذا فلس الغريم، وطرأ له مال من ميراث، فإنهم يطالبون غريمهم بأن يأخذوا منه ما بقي من حقوقهم المؤجلة قبل أجلها، بل (¬6) ما تعجلوه وحاصّوا به أصحاب الديون الحالة يبقى لهم، وما بقي لهم من الحقوق الآجلة لا يستحقون المطالبة بها عاجلًا. وعلى ما أشار إليه أصبغ يستحقون المطالبة بما بقي لهم عاجلًا، كما لا يرد ما قبضوه لأجل طريان مال ورثه غريمهم. فكما لا ينقض الحكم فيما قبضوه ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: لأنّ. (¬2) أي وإنْ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإنْ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يوجد. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: (له) ليستقيم المعنى. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب عوض (بل): فإنّ.

كذلك لا ينقض فيما طلبوا قبضه من المال الطارى. وهذا الذي استبعده بعض الأشياخ غير بعيد على إحدى الطريقتين عندنا في الحكم إذا وقع في الظاهر (وصوابًا فالكشف في المال أنه ليس بصواب في الباطن لو اطلع عليه) (¬1). وقد اختلف القول في المدونة في المفقود إذا حكم بتمويته، فتزوجت زوجته، فلم يدخل بها الزوج الثاني حتى قدم المفقود حيًا: هل ينقض نكاح الثاني أم لا؟ فقيل: لا ينقض مع القطع على أن الحكم الواقع بتمويته، وإباحة الزوجة للأزواج، كان خطأ في الباطن الذي استأثر الله سبحانه بعلمه، إلى غير ذلك من المسائل المذكور فيها الخلاف في مثل هذا. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد تقرر وجوب التنصلّ من الحقوق والديون، وأن المطل من القادر على أداء الدين ظلم، والظلم من المنكرات، والمنكر يجب على ولاة الأمر تغييره فإذا فلس القاضي رجلًا عليه ديون، وحجر عليه في ماله، وامتنع من القضاء وبيع أمواله بنفسه، فإن القاضي يبيع عليه كل ما في يديه من كسبه، قلّ أوْ جلّ. هذا هو الأصل. قد جنح إليه ابن كنانة مين أصحاب مالك، قال: ولا يترك للمفلس شيء. وانفرد بهذا المذهب دون مالك وأصحابه فإنهم اتفقوا على أن المفلس يترك له من ماله بعض ما لابدَّ منه ولا غنى له عنه. هذا القول على الجملة ومعلوم أن ستر عورته واجب عليه، وإن عجز عنه وجب ذلك على المسلمين. وكذلك حفظ حياته بالغذاء واجب عليه، فإن عجز عنه وجب ذلك على المسلمين فرضًا على الكفاية فمن قام به منهم سقط الفرض عن الباقين. فلو أوجبنا على القاضي أن يبيع عليه ثوبه لأدَّى ذلك إلى كشف عورته أو تلف نفسه، لعدم ما يستره. فكان الواجب إذا عجز هو عن ذلك أن يتكلف له به ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صوابًا فانكشف الحال ....

المسلمون، وأحقهم بتكلف ذلك الغرماء الذين طلبوا إزالة ما عليه من ستر، وأخذ ما في يديه من طعام، فكأنهم هم الطالبون لإحداث هذا المنكر، فوجب عليهم ألَّا يفعلوه. وقد علم أن المرأة لا تلزمها نفقة ولدها إذا كان الأب معسرًا، ومع هذا يلزمها رضاعه، وإن كانت صيانة حياة الطفل من فروض الكفاية فأحق الناس بهذا الفرض الأمّ لاختصاصها به، وطلبها أن تنبذه فيهلك، فنهيت عن ذلك. وإبقاء شيء في يديه إضرار بغرمائه، ونزع ما عليه مما يحتاج إليه وأخذ طعامه أو ثمن الطعام حتى يبقى جائعًا يخشى عليه إضرار به هو أيضًا، فيغلب أحد الضررين فيترك له من الطعام ما يعيش به هو وأهله الأيامَ. هكذا ذكر في المدونة من غير تحديد الأيام ولا تقدير. وفي غير المدونة حدد ذلك بالشهر ونحوه. وقال بعض أصحابنا: لو لم يكن عنده إلاَّ مقدار نفقة الشهر لم يؤخذ له ذلك. وهذا لأجل أنه لو لم يبق له إلا طعام يومه وغده لأمكن أن لا يجد شيئًا يتعلق به في تحصيل قوته كل يوم، فوجب له أن يترك ما يقتات به المدة التي يمكن أن يفكر فيها، ويسعى في أثنائهما، حتى يحصل له طريق يتقدم به إلى قوت نفسه وعياله: زوجته وأولاده الصغار. فتارة أدى الاجتهاد إلى تقدير هذه المدة بالشهر، وتارة أدّى آخرين ذلك إلى نفى التحديد. التحقيق في هذا أن تقدير هذا المقدار بما تقتضيه قرائن حال المفلس، وما عرف من وجوه تكسبه للرزق وقدرته عليه، وسلكوه (¬1) أنواعًا فيها أو نوعًا واحدًا، فيترك له مقدار ما يؤدي الاجتهاد إليه في تحصيله وجهًا تتأتى منه المعيشة. فإذا كان صانعًا إنما ينفق على نفسه وزوجته وولده من خدمته بيديه وعمل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: سلوكِه.

يده لم يترك له شيء، ومن الأشياخ من قال: يستظهر بأن يترك له نفقة اليومين والثلاثة خوفًا من غسله أو مرضه في غده وما بعْدُ، بالأيام اليسيرة. وأما الكسوة فإنّه يترك له كسوته وكسوة أولاده الصغار. وشك مالك في كسوة زوجته: هل تترك له أم لا؟ على أن بعض أشياخي يضيف الشك في هذا إلى ابن القاسم الناقل عن مالك هذه الرواية أنه شك: قال له مالك: وكسوة زوجته، أو لم يقل له ذلك؟ وأكثر المصنفين على إضافة هذا الشك إلى مالك. وقال سحنون: لا تترك له كسوة زوجته فيما يستأنف وأمَّا ما كان عليها قبل قيام الغرماء فيترك لها. وكأن الإشكال وقع في الزوجة لأن كسوتها ونفقتها وجبت على الزوج على جهة المعاوضة، فإذا لم يكسها الزوج أصلًا طلقت عليه، فلم يلحقها الضرر في ترك الكسوة ويلحق ذلك ببنيه الصغار. على أن الكسوة لها ثمن فوق ثمن غذائهما أيامًا، وتستديم لباسَها المدة الطويلة التي قد يَثرى الزوج المفلس فيها ويستغني. ولو كان على المفلس كسوة تقع كسوة مثله بدونها لبيعت عليه، ويُشترى له ما يليق به من لباس مثله على حال ما هو عليه. وأما ثياب جمعته، فإن الأصل كونها تباع عليه كما قدمنا، لأن ذلك أمر خارج عما أصلنا من اعتبار حفظ نفسه بالغذاء أو اللباس، وكسوة الجمعة إنما هي للجمال. لكنه في المدونة لم يوجد (¬1) بيعها عليه إذا لم يكن فيها فضل. وهذا متعقب، إلاَّ أن يكون مِمّن يلحقه ببيع ثياب الجمعة مضرة ومعرة، لم يدخل معه الغرماء عليها، فإن القول بأنها لا تباع عليه له وجه، لأن الذي أصلنا يشارك التعليلَ الأول فيه تعليلٌ ثان، وهو ما علم من مقتضى العادة في معاملة الغرماء. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يوجب.

وعلى هذا أخذ (ديونهم منه) (¬1) وهم لم يعاملوه على أن تباع عليه ثياب ظهره التي لابدَّ له منها، ومن الدثار بها. فينظر إلى ثياب جمعته أيضًا: هل عاملوه على إبقائها له عند التفليس أو على بيعها عليه. وكذلك اختلاف ابن القاسم وأشهب في خاتمه: هل يباع عليه أم لا؟ مبني على الالتفات إلى هذا الأصل، وهو هل عامله الغرماء على بيع خاتمه إذا فلس أم لا؟ وهذا يختلف فيه عوائد البلاد. ولا ينبغي أن يختلف فيه عندنا، في أنه يباع عليه خاتمه لكون أكثر الأغنياء لا يتختمون، فكيف المفلس الفقير. وأما لو فلس الميت لكفن قبل قضاء دينه، كما يكسى من حجر عليه الغرماء في حياته. واختلف العلماء: هل يقتصر في تكفينه على لفافة واحدة أو يكفن في ثلاثة؟ فالواحدة تجزيه، والثلاثة هي المشروع المستحق في أقلّ ما قيل. وعندي أن هذا يتخرج فيه ما حكيناه في ثوبي جمعته لأنهما (إنما إذا بقيت) (¬2) لما كانت من اللباس المشروع المسنون في الشريعة. وكذلك الخلاف في الأعداد التي ذكرناها. وأما تكفين ولد المفلس فهو جار على ما ذكرناه أيضًا من لباس ولده الحي إذا فلس. وأما الزوجة فكذلك أيضًا يجري الأمر في تكفينها، إذا قلنا: إنه لازم للزوج، على أحد القولين، على ما قدمناه من الكلام في كسوتها وهو حي. واختلف في بيع ما عنده من كتب الفقه، فقيل في الموازية: لا يباع ذلك عليه في الدين، ولا يورث عنه ذلك، ووارثه وغيره ممن هو أهل لقراءتها فيها سواء. وهذا مبني على المنع من بيع كتب الفقه، وأما على القول بجواز بيعها فإنه لا ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ديونَه منهم. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إنما أبقيت.

يختلف في بيعها عليه وقد قال محمَّد بن عبد الحكم: بيعت كتب ابن وهب بثلاثمائة دينار بحضرة أصحاب مالك، وكان أبي وصيَّه، ولم ينكر ذلك منهم أحد. وكان شيخنا يتردّد في بيع آلة الصانع إذا فلس، كمطرقة الحداد، وإِزربة (¬1) الكمّاد (¬2)، ومقص الخياط. وهذا يؤخذ حكمه مما قدمناه، فإن كان ذلك يسيرًا، ولا يصح أن يقام أَوَدُه إلاَّ منه، لم يبع ذلك عليه، وحلَّ ذلك محل نفقة الأيام والشهر، كما قدمناه، ولا يباع عليه مُدَبَّره إذا كان التدبير سابقًا للدين، ويباع عليه من خدمته ما يجوز بيعه، وكذلك المعتق إلى أجل. ولكن يختلف أمر الإجارَة فيهما، المدبر يضيق في المدة التي يؤاجر فيها للغرماء بأشد مما يضيّق في إجارة المعتق إلى أجل، لكون العوز في أمَدِ إجارة المدبر من وجهين: موتِ المدبّر، فتفسخ الإجارة بعتقه من تلثه، على ما يذكر تفصيله وتقديره في موضعه إن شاء الله تعالى. ولو دبر ولد أمته، وهو صغير لا يجوز تفرقتها منه، لم تبع الأمة عليه في الدين حتى يبلغ الولد التفرّقة. ولو ورث أباه لبيع عليه في الدين. ولو وهب له أعتق عليه (أو في الدين) (¬3) لأن الواهب إذا علم أن ملك ولده لا يستقر عليه، فكأن الواهب إنما وهبه للعتق لا للملك إلاَّ أن يكون الواهب لم يعلم بأنه أب للموهوب له، وإنما قصد به التملك، فيباع حينئذٍ في الدين. وأمَّا لو اشتراه الابن، فقيل: يفسخ البيع، لئلا يكون سببًا في بيع أبيه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: إِرْزَبَّة، تاج العروس: 2/ 195. (¬2) هو الذي يدقّ الثوب، تاج العروس: 9/ 113. (¬3) ما بين القوسين هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفه.

باختياره، على ما سنبسط في موضعه إن شاء الله تعالى. فأمَّا لو كان المديان نصرانيًا فترك الخمر والخنازير، لم يبعهم القاضي في دين عليه للمسلمين، ولكن يراقب حال الورثة النصارى، فماذا باعوا ذلك وصار في أيديهم أثمانها الجائزة، تملكها باعها في دين الغرماء. وكذلك لو أرسى مركبًا بساحلنا، وفيه الخمر والخنازير، فلا يباع شيء من ذلك لأخذ عشرها، ولكن إذا باعوا أخذ منهم العشر على ما سنبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. وإذا تقرر أن المفلس يباع عليه كل ما وجد في يده مما استقر ملكه عليه سوى ما استثنيناه مما تقدم بيانه، فإنه لا يجبر أن يتطلب زيادة فيما يملك، فلو دعا الغرماء إلى أن يتجر لهم بالمال الذي فلسوه فيه وحجروا عليه التصرف فيه، لم يلزمه ذلك. وكذلك لو وجبت له شُفعة، في أخذها حظُّ الغرماء وزيادة على ثمنها الذي تستشفع به إذا بيعت، لم يجبر على أخذ ذلك، وإن كان الشرع قد جعل له أخذها إذا شاء، لأن الشرع لم يجبر الشريك على الأخذ بالشفعة، وإنما خيره بين الأخذ أو الترك، وإجباره على أخذها خلاف ما أصله الشرع. هذا مع كون الشفعة كابتداء بيع على أحد القولين. وقد قدمنا أنه لا يلزمه أن يتجر للغرماء في المال الذي حجروا عليه فيه، وأيضًا فإنه إذا أخذ بالشفعة وأجبر على ذلك، وبيع عليه ما أخذه بالشفعة، والعهدةُ عليه، فلا (تلزمه إلزام) (¬1) عهدة يدخل فيها بغير اختياره، ولم يستقر ملكه على ما يوجب العهدة عليه فيه. وكذلك لو بذل له أخْذ مالٍ هبةً له أوْ لعينه (¬2) على قضاء الدين، لم يلزمه قبول ذلك، لما يلحقه من مِنَّة الواهب عليه، وكون يد الواهب عليه، وأيضًا فإن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: (يَلزمُه اِلْتِزامُ). (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِعَوْنِه.

الغرماء لم يعاملوه على ذلك. وكذلك لو وَهَب لولده الصغير هبة له أن يعتصرها، فإن غرماءه ليس لهم أن يجبروه على اعتصارها، لأنها أخرجت من ملكه بالهبة، ولا يلزمه استئناف تملكّ كما قدمناه. وهذا كما قررناه في كونه له أن ينتزع مال مدبَّره وأم ولده ومعتقه إلى أجل، ثم لا يُقْضى لغرمائه بأن يجبروه على انتزاع ذلك لما قدمنا. وأما لو باع سلعة على أن الخيار له، أو اشتراها بالخيار أيضًا، وكذلك (¬1) قبل أن يحجر عليه، ثم أراد نقض البيع فيما باعه، أو فسْخَه، أو إمضاء الشراء فيما اشتراه بالخيار، أو فسخه فمنعه الغرماء، فإن هذا أيضًا مما اختلف فيه العلماء. وقد علم من مذهبنا القولين (¬2) في عقود الخيار إذا أمضيت، هل يقدّر أنها كانت معقودة بإمضاء العقد، أو بأنها تنعقد عند إمضاء العقد، ولكنّا نقول: إن بيع المفلس لبعض السلع التي حجر عليه فيها ليس للغرماء فسخه إذا كان البيع أوفر لهم. فإذا دُعِيَ مشترط الخيار في البيع والشراء إلى إمضاء أو فسخ، وذلك أوفر للغرماء، لم يكن لهم تعقب عليه فيما فعل، ولكن لو تغيرت الأسواق وقد باع بالقيمة، فها هنا يجري الحكم على قولين عندنا في عقود الخيار إذا أمضيت: هل تمضي بحكم العقد الأول، وتقدر أنها لم تزل ماضية من حين وقع العقد، فلا يكون للغرماء تعقب فيما فعل إذ وقع ذلك على صفة يلحقهم منه (¬3) انتقاص في المال. وقد وقع في الموازية فيمن حبس على ولده حبسًا على أنهم بالخيار فيه ما شاؤوا، أو باعوا؛ ففلسوا، فإن غرماءهم ليس لهم جبرهم على أن يبيعوه ما (¬4) قدمناه من كونهم لم يعاملوه على كون هذا الحبس داخلًا في أموال التجارة التي بأيديهم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وكان ذلك. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: القولان. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منها. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لما.

ولو كان عند المفلّس دار يحتاج لسكناها وخادم لابدَّ له منها، فإنه يباعان عليه في التفليس. بخلاف ثياب لباسه التي لابدَّ له منها، لكون ما عليه من اللباس لا مندوحة له عنه، وداره التي يسكنها له عنها مندوحة في أن يسكن بالكراء، أو يخدم نفسه أو يستأجر من يخدمه، وهذا بخلاف ما نقول به في الزكاة: إنه يعطاها مَن عنده دار هي مقدار ما يحتاج للسكن، لأن التفليس وبيع ما في يده حق للمخلوقين، وحقوقهم مبنية على المشاحّة، والزكاة هي حق لله سبحانه، وحقوقه تعالى مبنية على المسامحة. (ولو استأذن رجل مسلمًا) (¬1)، ثم ارتد ولحق بدار الحرب فقدّاهم (¬2) المسلمون، فقاتل حتى قتل فإن أصحاب الديون يأخذون ديونهم مما وجد من ماله لكونهم استحقوا ذلك قبل أن يرتدّ، فلما ظلم وتعدى في الارتداد والحروب (¬3) إلى دار الحرب، لم يسقط ذلك ما وجب لهم من الحقوق، ويكون ما فضل من قضاء الديون من مال هذا المرتد من جملة الغنائم التي خمسها لله سبحانه، وأربعة أخماسها للغانمين ولا يكون لبيت مال المسلمين، كما لو قتل على ردته في بلاد المسلمين، فإن ماله يكون لبيت مالهم وهذا لأنه لمَّا قاتل فقتل على ردته استحق ماله سائر المسلمين، والذين استحقوه غير مُعيَّينين. وإذا وقع في الغنائم مال مسلم لا يعرف بعينه خُمِّس، ودخل في الغنائم التي هي للغانمين، بخلاف أن يكون صاحبه معروفًا فإنه لا يقسم في الغنائم. وهذا يبسط في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولو اسْتدَان رجلٌ مسلمٌ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فقاتلهم. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والهروب.

قد تقرر ما يبقى للمفلس وما يباع عليه، وترتيب ما يباع عليه في القول المطلق أنه يبدأ بيع الحيوان لكونه يسرع إليه الموت والتغيير، وأيضًا فإنه يحتاج إلى إنفاق، وكذلك بعد البداية ببيع ما يخشى فساده في الحال أن يقال، كالفواكه التي لا تبقى ثم تباع عليه العروض وما يخشى عليه التلف والضياع. ثم الرباع، فينادى على الرباع الشهر والشهران، ثم يعقد البيع على خيار ثلاثة أيام طلبًا للزيادة على ما استقر على المشتري من الثمن. وربما ظهر في بعض الأحوال ما يقتضي خلاف هذا الترتيب (بزيادة سوق في الحيوان إخراجًا قريبًا أو ما في معنى ذلك) (¬1). فإذا بيع على المفلس ما وجب بيعه قسم على غرمائه الذين ثبتت ديونهم عليه بمعاوضة مالية، على اختلاف أجناس الأموال، من بائع منه عقارًا أو بائع طعامًا أو بائع سلعة، صار في ذمته على حد سواء. وأما كل حق صار عليه من غير معاوضة مالية أخذت عَمَّا لزمه من الديون، لكن له غرض ومنفعة في تحصيل ما صار ثمنه دينًا عليه، وإن لم يكن مما يباع ويشترى، كصداق امرأة أو خلع زوجة بمال دفعته لزوجها عن طلاقها، فإن ذلك يجب الحصاص به. وقد قال مالك في التي صالحت زوجها على عشرة دنانير إلى أجل ثم فلست: إن الزوج يحاص غرماءها وهذا لأجل أنها اشترت منه ما ملك من منافع بضعها، وتخلصت بما نزلت (¬2) له من حبالها. وهذه منفعة مقصودة وغرض صحيح، فلهذا أوجب الحصاص به. وكذلك الصداق تحاص به الزوجة غرماء زوجها لأجل أنه اشترى منها منافع بضعها أيضًا، وبه حاجة إلى ذلك، وقد دخل معه الغرماء عليه. فلم يكن ¬

_ (¬1) ما بين القوسين، هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَذَلتْ.

لهم الامتناع من المحاصة بالصداق (في المحاصة في الصداق) (¬1) في فلس الزوج بلا خلاف فيه منصوصًا عندنا. وأمَّا المحاصة في موت الزوج، فالمعروف من المذهب إثبات المحاصة به كاللباس والإنفاق على المحاصة به في المفلس، يشعر بأنه لا يجري مجرى الهبات، بل يجري مجرى المعاوضات. ولا فرق بين الفلس والموت في وجوب المحاصة. وذكر ابن الجلاب في تفريعه قولة: شاذة أنه لا يحاصر في الموت. وإنما يحاص في الفلس، وكأنه رأى أن الحصاص به في الفلس لا يلحق الغرماء الذين بايعوه بالسلع من الضرر بمحاصة الزوج يلحقهم إذا حاصهم في الموت؛ لأن المفلس تبقي ذمته ويرجى سعيه فيما بعد، حتى يكتسب ما يوفي به هؤلاء الغرماء بقية حقهم، وفي الموت لا يرجى ذلك منه (بل يسوى من كمال ديونهم التي عليه) (¬2). فلهذا فرق بين الموت والفلس تغليبًا لأحد الضررين، فغلب ضرر الغرماء في الموت، وغلب ضرر الزوجة في الفلس. وقد قيل في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} (¬3) معناه عطية. وقيل: بل معناه شرعة وديانة. وأمَّا نفقة الزوجة فيما يستقبل بعد التفليس، فلا مطالبة لها بذلك. فينظر: هل تحاص به أم لا؟ لأنا قدمنا أنه يبقى له من ماله ما ينفق على زوجته ونفسه وأولاده الصغار المدة القريبة التي ذكرناها فيما تقدم. وأمَّا إذا غاب زوجها، ولم ترفع الأمر إلى القاضي شاكية له عدم الإنفاق، لأنها لا تصدق في كونه لم يترك لها نفقة، وإذا لم تصدق في ذلك لم تستحق المطالبة، استحال الحصاص. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) سورة النساء، الآية: 4.

وأمَّا بعد رفعها إلى القاضي فالقول قولها، ويحكم لها بالإنفاق وإذا حكم لها صار ذلك كغيره من الديون الثابتة عليه، وجرى مجرى الصداق الذي بذل في مقابلة استباحة الفرج، فإذا حصل الوطء وجب الصداق والنفقة في مقابلة التمكن من الاستمتاع وهي بعد رفعها إلى القاضي ممكنة من الاستمتاع، فصارت النفقة المقبوض عوضها كاللاحقة بالديون. هذا الظاهر من المذهب وجوب المحاصة في الفلس. وأمَّا محاصتها بهذا الإنفاق بعد الموت، فحكى ابن القاسم أنه اختلف فيه قول مالك، فقال مرة: تحاص به، وهو اختيار ابن القاسم. وقال مرة أخرى لا تحاص به في الموت. ووجه ما أشرنا إليه من كون الضرر يلحق في الموت أشدّ ممَّا يلحق مع حياة المفلس. وقد قيل: لا تحاص بالنفقة في موت ولا فلس. وكأن هذا رأى أن النفقة لما كانت تسقط مع الإعسار ضعفت عن الديون التي ثبتتْ في الذمم مع العسر واليسر. وقد قال سحنون: إنما يحاص بالنفقة إذا كانت الديون محدثة بعد وجوب النفقة لها، فكان حقها عنده قويًا من وجه السبق والتقدم، فإذا تقدمت الديون حازت الترجيح من الوجهين: المتقدم والسبق، ومن كونها تثبت مع العسر واليسر. وأمَّا المحاصة بنفقة البنين الصغار، فابن القاسم نفاها في الموت والفلس. وأشهب أثبتها كما أثبت نفقة الزوجة. فكأن ابن القاسم رأى أن نفقة الزوجة عن معاوضة، فلحقت بالديون التي هي أثمان سلع، ونفقة البنين مواساة لا عن عوض فلم تزاحم الديون فتقع المحاصة بها. وكأن أشهب قد رأى أن الولد من يوم سقوطه في البطن وجبت نفقته على أبيه من غير افتقار إلى قضية قاضٍ، فأشبهت نفقة الزوجة الواجبة التمكين. وأمَّا نفقة الأبوين، فقد قال مالك: لا يقع الحصاص بها في فلس ولا موت.

لكن أصبغ قال: لو قضى القاضي بها لوجبت المحاصة لهم لكونها لما حكم بها ثبتت ثبوت ديون المعاملة. وأمَّا الحقوق الثابتة لا عن معاوضة مالية، ولا عن معاوضة في حكم المالية كالنكاح والخلع، ولا عن مواساة، بل من جهة الإفتيات على من له الحق بغير اختياره كالجنايات فإن بعض أشياخي رأى أنها جارية على القولين في النفقات، وما ذكرنا معها مِمّا ليس ثبْت الديون فيه عن معاوضة. وقد قال في المدونة في الجاني جناية دون الثلث لا تحملها العاقلة: إنه إذا رهن بها رهن أُمضي ذلك للمجنيّ عليه، كما لو قضاه أرش الجناية، فأوجب المحاصة وألحقها بالديون. وقال في كتاب الصلح في جناية العمد: إذا أراد الجاني أن يصالح عليها وعليه ديون، فإن لغرمائه أن يمنعوه من ذلك. وأشار بعض الأشياخ إلى أن ذلك لو وقع لمضى ونفذ، ولم يكن للغرماء ردّه كما لو قضى من (¬1) الصداق وشبه ذلك؛ لأن له منفعة فيما بذل، وهو وقاية نفسه من القصاص، كما للزوج منفعة فيما بذل لحاجته إلى النكاح، والذي يدفع عن جناية العمد ليست بهبة محضة، ولو كان هبة لسقط عن الجاني ما التزم من الأرش إذا مات، كما تسقط الهبة إذا لم تُحَنْ. وهذا الذي أشار إليه قد يسلم له اشتراك الجناية مع النكاح في كون ذلك معاوضة عن منفعة، ولكن إذا قلنا: إن الغرماء عاملوه على أن يتزوج ويتسرى لاطراد العادة بذلك عمومًا فإن جناية العمد لم يعاملوه على أن يفعل ما لا يحل تعمدًا ويتلف ما لَهم فيه. وظاهر مذهب الشافعية الحصاص بأرش الجناية، لكون الأرش وجب بغير اختيار المجني ورأوا إقراره بالجناية آكد باللزوم من إقراره بدين المعاملة ¬

_ (¬1) هكذا.

الاختيارية، لكون الجناية بغير اختيار المجني عليه، كما لو جنى العبد المرتهَن. فإن أرش الجناية أحق برقبته من الذي هو في يده رهنًا وإنما كان هذا كذلك لأن المرتهِن تعلق حقه بذمة سيد العبد لا بعين العبد، وتعلق أيضًا بعين العبد بكونه فعل ما في ثمنه على الغرماء، وأصحاب الجناية لم يتعلق لهم حق بذمة سيّد العبد، وإنما تعلق حقهم بعين رقبته، فقدموا على المرتهِن الذي إن أسقط حقه في عين العبد بقي حقه في ذمة سيّده. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد علم أن إقرار المريض لمن يتهم بتْوليج ماله، وصرفه عن ورثته إليه مردود، ولا يقبل منه، على ما سنذكرهُ جملة وتفصيلًا في كتاب المديان إن شاء الله تعالى. لكن يتعلق ببعض مسائله المحاصّة التي يتبدل حكمها. فمِن ذلك إقرار المريض بدين لأحد ورثته ولرجل أجنبي لا يتهم في الإقرار له. مثل أن يقول في مرضه، ولا يرثه إلا ولدان. أحد ولديَّ عندي (¬1) مائة دينار ولفلانَ رجل آخر أجنبي، عندي مائة دينار ولم يترك سوى مائة دينار، فإن الولد المقَرَّ له يحاصّ الأجنبي، لكون الأجنبي لم يثبت دينه إلا بإقرار هذا المريض، ولو لم يقرّبه له لم يثبت له شيء. وكذلك إنما ثبت الدين لأحد ولديه بإقرار أبيه المريض. فقد ساوى هذا الولد الأجنبيَّ في طريق ثبوت دينهما، ولا يتهم المريض في إقراره لولده في حق الأجنبي، لأنه لو شاء لم يقرّ للأجنبي، فإذا (¬2) تساويهما في طريق ثبوت دينهما وجب أن يتحاصا في هذه المائة، فيقتسمانها نصفين، كأن التهمة إذا ارتفعت من جهة الولد (¬3) الأجنبي فإنها لا ترتفع من جهة المقَرّ له من الولدين مع أخيه، لأن أباهما يتهم أن يؤثر أحد ولديه بميراث ماله على الولد الآخر، على ما ينظر في كتاب المديان. فإذا تطرّقت التهمة من جهة إيثار ¬

_ (¬1) أي: عندي له. (¬2) هكذا في النسختين، ولعله: فإذا [كان]. (¬3) هكذا في النسختين، ولعله: الولد [مع].

الأب لأحد ولديه (¬1) الآخر كان من حق الولد الذي لم يقر له أبوه بشيء أن يشارك أخاه في الخمسين دينارًا التي وقعت له في محاصة الأجنبي فيقسمها معه نصفين حتى يستوفى ما ترك أبوهما، وترتفع التهمة بذلك، ويصير ما أخذه الأجنبي كأنه ليس بتركة لأبيهما. فإذا (قُضي بهذا وقف القضاء ما هذا) (¬2) عن ابن القاسم، وصارت التركة مقسومة على هذه النسبة، للأجنبي خمسون دينارًا، والخمسون الباقية بين الولدين نصفين (¬3): للولد المقرّ له بالمائة دينار الدين، وللولد الآخر الذي لم يقر له بشيء. فكأن ابن القاسم قدْر أنّ ما أخذه الأجنبي كجائحة طرأت على بعض التركة فيما (¬4) بقي بعد الجائحة يقسمه الورثة على فرائض الله سبحانه، ويكون ما أخذه الأجنبي لا يختص بأحد الولدين، وكذلك ما أخذه أحد الولدين الذي لم يقرّ له، يكون ذلك جائحة مختصة بأخيه الذي أخذ منه نصف ما في يديه بحكم التوارث، ولا علاقة بين الأجنبي وبينهما في هذا التوارث فلا يكون عليه من هذه الجائحة التي طرأت على الولد الذي قاسمه نصيب. وخالف أشهب في هذا، ورأى أن الولد الذي لم يقرّ له بشيء إذا أخذ من أخيه نصف الخمسين دينارًا عاد الآخر المأخوذ من دينه يقول للأجنبي: أنا وأنت سيان فيما ترك أبي، لأني وإياك قد تساوينا في مقدار الدين الذي لنا عليه، وتساوينا في طريق ثبوته، وهو إقرار الأب، والغريمان إذا استحقا تركة ميت استحقاقًا متساويًا فلا يفضل أحدهما على الآخر بشيء، ويكون ما ذهب من التركة بينهما جائحة، وما يبقى فلهما. وكأن مشاركةَ الولد، الذي لم يقر له لأخيه، حكمٌ (مستدلًا من) (¬5) سابق المقاسمة لهذه التركة، فيكون مصاب ذلك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعله: ولديه [على]. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نصفان. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فما. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مستند لأمْر.

على الغريمين جميعًا فإذا أخذ من يد المقرّ له نصف ما في يديه عاد على الأجنبي فأخذ منه نصف الخمسة وعشرين التي أخذها منه أخوه، فإذا صارت أيضًا في يد هذا الآخر المقرّ له قال له أخوه الذي لم يقرّ له: أنت لا تختص من مال أبي بشيء دوني، لما قدمناه، فإذا كان الحكم المساواة بيني وبينك، فهذه الإثنا عشر دينارًا ونصف التي رجعت بها على الأجنبي كمال طرأ لأبي لا يستحقه أحد إلا بالميراث ولا وراث إلا أنا وأنت فتقاسمني فيها فإذا أخذ منه نصف الإثني عشر ونصفٍ عاد أيضًا هذا الوارث المقرّ له يقول للأجنبي: من حقي أن تساويني أيضًا في قسمة التركة بحكم الدين، كما هو من حق أخي أن يساوينى في الميراث، وقد أخذ مني ستة دنانير وربعًا، فذلك كجائحة لا أختص أنها بها، فعليك نصفها: ثلاثة وثمن. فإذا أخذ منه ثلاثة وثمنًا رجع هذا الأخ، الذي لم يقرّ له، على أخيه بنصفها وذلك دينار ونصف وستة حبات. فإذا أخذ ذلك رجع الأخ المقرّ له على الأجنبي بنصفها وذلك ثلاثة أرباعه وثلاث حبات. هكذا حتى لا يبقى في يد الأجنبي زيادة على ما يحصل الأخ المقرّ له. هكذا قال أشهب. وقال بعض الأشياخ: لابدَّ أن يبقى كسر لطيف. وهذا الذي قاله صحيح، ولكنه إذا عمل على حساب ذلك على ما أريناك وجب اعتدال الكل في هذه المائة دينار، فيقسمها هؤلاء الرجال الثلاثة أثلاثًا: فيأخذ الأجنبي ثلث المائة، ويأخذ الولدان ثلثيها: أحدهما بحكم الدين والآخر بحكم الميراث الذي أوجب له الرجوع على أخيه وأوجب لأخيه الرجوع على الأجنبي. فإذا ثبت وجوب المساواة بين (¬1) ووجوب المساواة بين أحد الولدين مع الأجنبي، وصح قسمة التركة بينهم أثلاثًا لأنه إذا كانت ثلاثة أعداد ساوى الأول منهما الثاني، وساوى الثاني الثالث فكلها متساوية والذي قاله بعض الأشياخ لابدَّ أن يبقى شيء هذا الذي أشار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفي الكلام نقص لعل تمامه: الولدين.

إليه بأنه يبقى في يد الأجنبي هو جزء لا يتجزأ ولا يتميز بميزان ولا تقدير، ولا يصح القضاء به لعدم تمييزه، ولا فائدة في ذكره. ولو كان المريض، الذي أقرَّ ما ذكرناه، ترك ثلاثة أولاد لقسمت تركته أرباعًا، لكون الولدين (¬1) لم يقرّ لهما الأب يجب لهما أن يقاسما أخاهما الذي أخذ نصف التركة بحكم الدين، فيرثانه ميراثًا متساويًا، فيكون ذلك بين الأولاد الثلاثة أثلاثًا، ثم يرجع الولد على الأجنبي بنصف ما أخذ منه على النسبة التي ذكرناها فلا يزال التراجع دائرًا بين الولدين وأخيهما والآخر المأخوذ منه ما أخذ مع الأجنبي حتى يقع الاعتدال بين الجميع. لكن أشهب لم يطرد هذا الأصل في الرجوع من جهة ثانية، وذلك أنه قد ثبت أَلَّا ميراث إلاَّ بعد قضاء الدين. وكان مقتضى هذا إذا قيل: إن الأخ الذي لم يقرّ له يرجع على أخيه في المسألة الأولى بنصف ما أخذ؛ أن يُمَكّن الأجنبي أيضًا من الرجوع على هذا الأخ الذي لم يقرّ له فيأخذ من أخيه حتى يكمل دينه، إذ لا ميراث إلا بعد قضاء الدين. وأشهب لم يمكن الأجنبي من هذا، ولا أوجب له رجوعًا على الأخ الذي لم يقرّ له بمال أخيه، لأنه لو أوجب له ذلك لعاد الأخ المقرّ له يقاسم الأجنبي في هذا الذي بيده، فإذا قاسمه عاد الأخ الذي لم يقرّ له إلى مشاركة أخيه فيذهب إلى إحالة وعدم الوقف عند غاية. وهذا الذي قاله يدع وابن القاسم إلى ما ذهب من المنع من هذا التراجع الدائر مرارًا. ولو فرضت هذه المسألة على حالها، وأضفنا إليها ثبوت مائة دينار على الميت فإنك قد علمت من هذه المسألة وجوب المساواة بين الأجنبي الذي لا بينة له وبين الوارث في المحاصة بالدين، وعلمت وجوب المساواة فيما بين الوارثين. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: اللذين.

فلتعلم أن الدين إذا كان ببيّنة مع (¬1) تركة الميت أن (¬2) تورث إلا بعد قضاء الدين، فصار ها هنا في هذه المسألة زيادة هذا الوجه، وهو كون الوارث المقرّ له حكمه أن يساوي الأجنبي في قسمة الدين لكونهما ثبت دينهما بطريقة واحدة وهي الإقرار. وحكم الأجنبي أن يساوي من له البينة وإن لم يكن له هو بينة فقد صارت الثلاثة أشخاص حكم أحدهما أن يساوي الآخر وهما الأجنبيان، وحكم أحد الأجنبيين أن يساوي الوارث ولكن حكم الوراث ألا يساوي من له الدين بالبينة وإن كان يساوي من ساواه وهو الأجنبي الذي لا بينة (¬3). فهاهنا ذكر ابن المواز أن الواجب في هذه المسألة إخراج الولد واطّراحه، وقسمة المائة دينار التي تركها الميت ما بين الأجنبيين خاصة. لكن من له البينة يمنع الوارث من أن يرث ويمنعه أيضًا إقرار أبيه له، فصار من هذه الجهة كالعدم، فتقسم التركة بين الأجنبيين، لأجل هذا قال ابن المواز. وقال غيره (فيهما فمن له رأي) (¬4) إن الأجنبيين إذا اقتسما المائة نصفين، رجع الأخ الذي لم يقرّ له وبقية الورثة سواه على الولد المقرّ له فقاسموه، رجع (¬5) بما أخذ منه على من له الدين بالبينة حتى يساويه في خسارة ما أخذ منه، فإذا رجع إليه وساواه رجع بقية الورثة على هذا الذي أخذ من الذي له البينة فأخذوا أيضًا حقه (¬6) من الميراث. هكذا أبدًا حتى لا يبقى في يد الوارث شيء. وأنكر إذا وقعت المحاصة، فإن المحاصة إنما تكون بأن يضرب الولد المقر له بجميع الدين الذي يقر له به ويضرب أخوه بمقدار ما بقي له، ويكون الوارث لا يبقى في يده شيء لأجل حق من له البينة في كونه يمنعه من الميراث. ومن يعود ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن [لا]. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: له. (¬4) ما بين القوسين هكذا في النسختين. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويرجع. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حقهم.

الإقرار له فهو يحاص بجميع ما أُقِرَّ له به ومن سواه يحاص بمقدار ما أبقي له. والقولان جميعًا يتفقان في كون هذا الوراث لا يأخذ شيئًا. لكن يختلف القولان في الأجنبيين: فعلى ما ذكر ابن المواز يتساويان في قسمة هذه المائة، وعلى ما ذكره غيره لا يتساويان، ويكون الذي يأخذه من له البينة أكثر مما يأخذ الذي لا بينة له. وقد وقع تنازع في المخرج على مذهب ابن القاسم الذي قدمناه في المسألة الأولى: فأشار الشيخ أبو إسحاق إلى أن الذي يتخرج على مذهب ابن القاسم ما ذكره ابن المواز من إسقاط الوارث المقرّ له، وقسمة التركة نصفين بين الأجنبيين إذا قسما التركة نصفين، فأخذ كل واحد منهما خمسين دينارًا، عاد الولد الذي (¬1) له فأخذ من الأجنبي نصف الخمسين وهو خمسة وعشرون. فإذا أخذها عاد الأجنبي الذي له البينة فانتزعها من يده لكونه من حقه أن يمنعه الميراث، ويمنعه من نفوذ إقرار أبيه له. فإذا صارت هذه الخمسة وعشرون دينارًا في يد الذي له الدين بالبينة شاركه فيها الأجنبي الذي لا بينة (¬2) واقتسماها نصفين، وعاد المال كله بينهما نصفين، ولم يتكرر التراجع وإنما يقع مرة واحدة، على حسب ما فعل في المسألة الأولى، أن الأخ الذي لم يقرّ له إذا أخذ من يد أخيه شيئًا لم يرجع على الأجنبي ذلك (¬3) حتى يقل تكرار التراجع ودورانه. واستبعدها هنا أن يذهب أشهب في المسألة إلى تكرير التراجع ودورانه لأن من حق من له البينة أن يأخذ كل ما يحصل من يد الولد ثم يشاركه فيه الأجنبي الذي لا بينة له ثم يشارك الأجنبي الوارث فلا يقف ذلك إلى غاية. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أُقِرّ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: له. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِذلك.

ورأى بعض أشياخي أن مقتضى قول ابن القاسم في هذا أن تقسم التركة بين الأجنبي الذي لا بينة له والأجنبي الذي له بينة، فما أخذه الأجنبي الذي لا بينة له قاسمه فيه الوارث، ثم يقاسم الوارث بقية الورثة، ويقف الأمر ها هنا ولا يكون تراجع، ولا يرجع الأجنبي على من له البينة مما أخذ منه. وأشار شيخي هذا أيضًا إلى أن الصواب، على مقتضى القياس في المسألة الأولى التي قدمناها وهي إقرار الأب للأجنبي بدين، ولأحد الولدين، أنْ يرد إقرار الوارث (¬1) على الجملة ويستبد الأجنبي بالتركة، لأن هذا الإقرار إذا تطرقت إليه التهمة من جهة أن الأب أوقعه لإيثار أحد الولدين على الآخر بالميراث، فمقتضى هذا إذا بطل في حق الولد (منع الوارث) (¬2) أن يبطل في حق الأجنبي مع الوارث المقر له لأن هذه التهمة حقيقتها أن يظن بالأب أنه كذب في الإقرار وقصد إلى إيثار أحد ولديه على الآخر .. وإذا كان الإقرار كذبًا لم يتصور إنفاذه في حق الأجنبي أيضًا وكأن أهل المذهب رأوا أن هذه التهمة تتصور من جهة دون جهة فلا يرد الإقرار من الجهة التي تصورت فيها التهمة دون الجهة الأخرى. وقد اختلف المذهب في إقرار المريض لزوجته، ورثته بنت وعصبة، هل يرد هذا الإقرار لكونه يتّهم من جهة العصبة؟ أو يمضي؟ لكونه لا يتهم من جهة ابنته، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ويمكن عندي أن يخرج في هذه المسألة قول آخر، وهو كون الأجنبي الذي له الدين ببينة يحاص الأجنبي بالدّين المقر به للوارث ويستبد صاحب البينة به لأنه هو الذي انفرد برد الإقرار والمنع من نفوذه. وأما الأجنبي الذي لا بينة له فلا قدرة له في هذا الإقرار في حق هذا الوارث، وذلك أنه قد اختلف في مسألة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المورّث. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف ما بين القوسين.

المشتركة إذا كان فيها جَدّ، ووجب أن يشارك الإخوةُ الأشقاءُ فيها الإخوة للأم في الثلث المفروض لهم، فقد قيل: إن الجد يأخذ ما ينوب الإخوة للأم في هذه المشاركة، لكونه هو الذي انفرد عنهم، لمنعهم من الميراث وحجبهم، والإخوة الأشقاء لا قدرة لهم على حجبهم، فلا يشاركون الجد في هذا الذي يختص بالإخوة للأم على أحد قولين. فهذا مما ينظر فيه. ومما يجري على هذا الأسلوب ما ذكره ابن المواز في رجل مات ووارثه زوجة وأخوهُ، وتركته مائة وخمسون دينارًا، ولزوجته عليه بإقراره مائة دينار، فأقرت الزوجة لرجل بأن له على زوجها المتوفَّى مائة دينار، فإن إقرارها تؤخذ به في نفسهالأولا يؤخذ به أخ الميت الوارث معها. فمقتضى قولها أَنَّ الأخ لا يرث معها شيئًا لكون التركة مائة وخمسون والدين مائتا دينار. فالحكم، على مقتضى قولها، أن تقسم المائة وخمسون دينارًا نصفين بينها وبين من أقرت بأن له الدين على زوجها، فيحصل في يدها من التركة خمسة وسبعون دينارًا، وهي قد أخذت من التركة مائة دينار قضاء عن دينها، وبقي خمسون دينارًا، ترث ربعها اثني عشر دينارًا ونصفًا ويرث الأخ الباقي من الخمسين وذلك سبعة وثلاثون دينارًا ونصف. هذا مقتضى الحكم في حق الأخ، فتلزم المرأة أن تنتزع عما فضل في يدها مما تقول: إنه زائد على ما استحقته، وذلك ما زاد على الخمسة وسبعين دينارًا، وهذا الزائد خمسة وعشرون دينار إتمام المائة التي أخذتها في الدين، واثنى عشر ونصفا هو ميراثها الذي تقول فيه: إني لأستحق تراثه، فيحصل لهذا الذي أقرت له الزوجة سبعة وثلاثون دينارًا ونصف، ويبقى من حقه، على مقتضى قولها، سبعة وثلاثون دينارًا ونصف، وهي التي في يد الأخ فتقول للمقرّ له: بقية حقك في يد هذا الوارث ظلمك فيه، وأنا أخذت إلا ما ينوبني في الحصاص وهو خمسة وسبعون، ولك أنت مثلها، فسبعة وثلاثون ونصف أخذتها من يدي، ولك عند الأخ مثلها فذلك خمسة وسبعون مثل الذي أخذت أنا.

ولو طرأ غريم آخو سواهما، له مائة دينار ببينة، لانتزع ما في يدي الرجل الذي أقرت له المرأة وكان أحق به مما أخذ بإقرار أحد الورثة له. فإذا أخذ ذلك من يده قالت له الزوجة: بقية حقك وهو سبعة وثلاثون ونصف في يد الأخ الوارث فاطلبْه بهذا، فإذا أخذتَها منه تساوينا في قسمة التركة، ففي يدي خمسة وسبعون وفي يدك نصفها وهو الذي أخذت من الرجل الذي أقررت له أنا، والنصف الآخر تأخر (¬1) من الوارث، ثم يعود الرجل الذي أقرت له المرأة إلى المرأة فيقول لها: مقتضى قولك أنا ثلاثة غرماء لنا على التركة ثلاثمائة دينار، والتركة مائة وخمسون فيستحق كل غريم نصف دينه وأنت أحد الغرماء في يدك خمسة وسبعون دينارًا وليس لك بالحصاص، على قولك، سوى خمسين دينارًا. فيقضى عليها بأن تعطيه الخمسة وعشرين دينارًا الزائدة على ما ينوبها في الحصاص. هذا إذا كان دين المرأة ببينة. وأما إن كان بغير بينة فإن الطارئ الذي له البينة يأخذ دينه كله ويقضى له من التركة بمائة دينار ويبقى في يد الزوجة خمسون دينارًا بقية التركة، ولا يلزمها أن تدفع لمن أقرت له بالدين شيئًا لأن مقتضى قولها إن التركة عليها ثلاثة غرماء لكل غريم خمسون وهي ليس في يدها أكثر من حقها في الحصاص وهو خمسون دينارًا، فتقول لما (¬2) أقرت له: صاحب المائة ظلمك وأخذ حقك. وممّا يلحق بهذا السؤال ما ذكره ابن المواز في شريكين متفاوضين فلسا وفي أيديهما ألف دينار ومائتا دينار، وعليهما دين من تجارهما وهو ألف دينار، لكن أحدهما عليه لزوجته صَدَاق مائة (¬3) دينار، فإن ما في أيديهما يقسم نصفين فيكون في يد كل واحد منهما ستمائة دينار لكن على أحدهما خمسمائة دينار وعلى الآخر سبع مائة دينار: منها مائتا دينار في صداق زوجته، فإذا تحاص ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تأخذه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لمَن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حَسب تمام الصورة: مائتا.

غرماؤه الست مائة دينار التي في يديه ناب الزوجة من ذلك مائة دينار وخمسة أسباع مائة دينار فيقضى لها بها ويقضى لغرمائه الآخرين بأربعمائة وسبعمائة (¬1) دينار لأن العاجز (¬2)، مما عليه من السبع مائة، مائة، فينوب كلَّ مائة ما (¬3) في يديه من الانتقاص سبعُها، ثم يقال للشريك الذي لا صداق عليه: سلمْ من الستمائة التي في يده (¬4) خمسمائة دينار، وهي المختصة بك من الدين ويبقى من الدين في يديه (¬5) مائة دينار، يقول له الغرماء الذين عاملوه وعاملوا شريكه أنت حميل على شريكك، وقد بقى (¬6) من ديننا عليه خمسة أسباع مائة دينار فبقبضها من المائة التي في يدك حتى تكمل جميع ديننا منك ومنه. فإذا أيسر شريكه قضى ما أدّى عنه وهو خمسة أسباع مائة دينار، ودفع إلى زوجته ما بقي لها عليه وهي سبعا المائة دينار. ومما يلحق بما نحن فيه ما ذكر في المدونة: من عبد له على سيده دين، ففلس السيد، فإن عبده لا يحاص غرمَاءه بالدين الذي له على سيده، لأنه وما في يديه لسيده، فلو حاصهم فقصُر ما في يد سيده عن حقوقهم لبيع لهم في دينهم، ويأخذون مثله ما أخذ من سيده، لكن لو كان على العبد غرماء يستحقون قِبَله ديونًا، لكان من حقهم أن يطالبوه بالحصاص لغرماء سيده، لكونهم يستحقون ما في يده، وقد دفع بعضه إلى سيده، فكأنهم هم الذين دفعوه لسيده وصاروا من جملة غرماء السيد، ولو وجب بين العبد لغرماء سيده فإن الأشياخ اختلفوا في ثمن هذا العبد: هل يختص بثمنه غرماء سيده أو يدخل معهم في المحاصة غرماء العبد فذهب الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد إلى أنه يدخل غرماء ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سبعي مائة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العجزْ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ممَّا. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [يدك]. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يدك. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقي.

العبد في المحاصة في ثمنه مع غرماء سيده، لأنه لما بيع وصار ثمنًا، قدّر هذا الثمن من جملة ما في يد السيد من المال الذي يتحاص فيه غرماء السيد وغرماء العبد. وهكذا وقع في الموازية عبد ضمن عن سيده لرجل مائة دينار، ففلّس العبد، يحاصّ الحميل غرماؤه فنابه خمسون دينارًا، ويرجع على السيد ببقية دينه الخمسين دينارًا، فإذا فلس العبد وجب لغرمائه أن يرجعوا على سيده بما أدى عنه بالضمان، وإذا فلس السيد واحتيج إلى بيع العبد دخل في ثمنه غرماء العبد وغرماء السيد. وهذا مثل ما ذهب إليه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد وقال الشيخ أبو القاسم بن شبلون: لا يدخل غرماء العبد في ثمنه. وقدّر أنّهم لم يعاملوه على أن يأخذ (¬1) دينهم من ثمن رقبته، لأن ذلك مختص بسيده. وإنما عاملوه على ما في يديه من المال، فإذا استوفوه لم يكن لهم حق في الرقبة، فاحتُجَّ عليه بما ذكرناه بالموازية، فقال: ظاهر المدونة خلافه، لأنه إنما ذكر أن العبد إذا بيع كان ذلك لغرماء السيد، ولم يذكر غرماء العبد. وينبغي أن تعلم أن العبد إذا بيع وعليه دين كان ثمنه ناقصًا عن كونه يباع بلا دين. ولهذا قلنا: من اشترى عبدًا فاطلع على أن عليه دينًا فإنه عيبٌ، له أن يرد العبد به. وإذا بيع هذا العبد وعليه دين، فإنه يباع على التنقيص فإن الدين إذا كان كثيرًا كان العيب له مقدار كثير من ثمنه، وإذا كان يسيرًا كان مقدار العيب من ثمنه يسيرًا فيجب أن يبين مقدار هذا العيب، ولا يبين ذلك إلا ببيان مقدار الدين الذي عليه ومقدار الدين الذي عليه، وإن بُيِّنَ، لا يعلم منه مقدار ما يسقط عن العبد من الدين الذي عليه إذا حاص غرماء سيده. فينظر في الطريق إلى معرفة ما يسقط عنه، ولا طريق إلى معرفة ذلك برفع الجهالة بمقدار ما يسقط عنه من الدين إلا بأن تجمع الديون التي على السيد كلها، وينسب دين العبد منها، فإن نودي عليه، قيل بكم يشترى هذا العبد؟ على أنه يحط من الدين الذي عليه بمقدار نسبة الدين الذي له على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يأخذوا.

سيده من ديون الغرماء، مثل أن يكون على سيده دين للعبد، وهو عشرون دينارًا، أو (¬1) لرجل أجنبي على السيد عشرون دينارًا، وعلى العبد لرجل دين عشرون دينارًا، فقد علم من هذا أنه يقع عليه في المحاصة نصف الثمن الذي يشترى به، فإذا قال رجل: عليَّ فيه عشرون دينارًا، وقد علم المشتري ما للعبد وما عليه، قدر ما ينوبه بالمحاصة لغرماء سيده، فقد علم أنه إذا بيع منه بعشرين دينارًا يحط عنه من دينه نصفه وهو عشرة دنانير، وبيع العبد على أنه مديان بعشرة دنانير. وإن قال رجل آخر: أنا أشتريه بثلاثين دينارًا علم أيضًا أن العبد يجب له في الحصاص مثل ثمن نصف ثمنه وهو خمسة عشر دينارًا، تحط من دينه، ويبقى عليه من الدين خمسة دنانير، فيباع العبد على أنه مديان بخمسة دنانير إذا بيع بثلاثين، وإن بيع بعشرين بيع على أنه مديان بعشرة دنانير. فهذا معنى التنقيص كلما زاد ثمنه نقص من مقدار الدين الذي عليه فينقص العيب. ولو قال رجل آخر: أنا أشتريه بأربعين دينارًا. علم أنه ينوبه في الحصاص مثل نصف ثمنه وهو عشرون دينارًا وهي مبلغ ما عليه من الدين، فيباع على أن لا دين عليه. ولو قال رجل: أنا أشتريه بخمسين دينارًا، لم يستحق العبد من الخمسة وعشرين التي هي نصف ثمنه سوى عشرين دينارًا يأخذها غريمه، والخمسة دنانير الزائدة على ما عليه من الدين -وهو عشرون دينارًا- تعود مالًا للسيد، لا حق للعبد ولا لغرمائه فيها فيقضى بها للسيد. فيتحصل من هذا أن العبد إذا ضرب بدينه مع غرماء سيده فإنما يستحق مقدار ما ينوبه في الحصاص إذا كان مثلَ الدين الذي عليه أو أقل منه. فإن كان أكثر من ذلك سقط ما زاد على الدين الذي عليه، واختص بذلك غرماء سيده، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: و.

لأنا قدمنا أنه إنما يضرب مع غرماء سيده إذا كان عليه دين، فإذا لم يكن عليه دين لم يضرب بدينه الذي له على سيده فإذا نابه في الحصاص في ثمنه أكثر من الدين الذي عليه صار ما زاد على الدين الذي عليه كمحاولة أن يضرب مع غرماء سيده ولا دين عليه لأحد. وهكذا لو كان على سيده ألف دينار لعشرة رجال العبدُ أحدهم، لكل واحد منهم مائة دينار، فإنه ينادى عليه فيقال: من يشتري هذا العبد على أن عشر ثمنه يسقط من الدين الذي عليه وهو المائة دينار. وهكذا يباع على هذه التسمية التي بيناها. ومما يلحق بما نحن فيه من تبدل المحاصة ما ذكره في المدونة فيمن ارتهن زرعًا لم يبد صلاحه، ففلس الراهن ولم يُقدَر على بيع الزرع لكونه لم يبد صلاحه، فكان من حق مرتهن الزرع أن يحاص الغرماء بدينه مخافة أن يهلك الزرع، ولم يكن حاصهم، فلم يجد مرجعًا على الغريم وينفرد غرماؤه بماله دون هذا، فإنه إذا حاصهم وأخذ ما نابه في الحصاص، فطاب الزرع. فوجب بيعه في دينه، فإذا بيع أخذ ثمنه الذي هو أحق به من سائر الغرماء، لكون من بيده الرهن أحق بثمن الرهن من سائر الغرماء، فإذا أخذ ثمن الزرع سقط ذلك من دينه، وتبين من ذلك أنه حاصّ الغرماء بأكثر مما يجب له التي كانت بمائة دينار حقها أن تكون بخمسين دينارًا لسقوط خمسين منها فأخذ المرتهن ثمن الزرع فينظر ما ينوبه في المحاصة لو كانت بخمسين دينارًا فيمسكه مما أخذه في المحاصة ويرد ما فضل عن ذلك إلى الغرماء، ويصير ما رده عليهم كمال طرأ للغريم فيتحاصُّ فيه جميع غرمائه. هذا حكم المحاصة الأولى على الجملة. وقال يحيى بن عمر: وإذا وقع لكل غريم نصف حقه نظر فيما بقي من دين هذا المرتهن بعد ما قبض من ثمن الزرع، فأمْسك مما وقع له في الحصاص نصفه (ومن نصفه) (¬1). وهذا نحو ما ذكرناه على الجملة لأنه أخذ في المحاصة شيئًا، فلما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

ثبت أنه حاص بصفقته أمسك الذي كشف العيب (¬1) أن المحاصة به كانت تجب، ورد ما سواه. ولو وفَّى ثمن الزرع جميع دينه لرد جميع ما أخذ في المحاصة. وعلى هذا لا سلفت (¬2) يجرى حكم المحاصة بصداق المرأة قبل البناء بها، فلو تزوج رجل امرأة بمائة دينار ففلس، فإنها تضرب بجميع صداقها مع غرماء زوجها، وهذا لم يذكر فيه خلاف منصوص في المذهب، وهو واضح على القول بأن الصداق وجب كله بالعقد. وأما على القول بأنه مترقب كله أو مترقب نصفه: فلعلَّ من ذهب إلى هذين المذهبين يرى أن الضرورة تدعو إلى المحاصة بجميعه لئلا يبني الزوج بزوجته فيستقر وجوبه إجماعًا، فلا تجد ما تأخذ منه صداقها. فإذا حاصت بالمائة دينار ثم طلقها الزوج قبل الدخول فإنه يتبين لنا أن المحاصة التي كانت بالمائة أنها حقها أن تكون بخمسين دينارًا لسقوط نصف الصداق، فينظر لو حاصت بخمسين دينارًا أن الذي ينوبها في المحاصة فتمسكه مما أخذت، وترد ما فضل عنه للزوج يتحاص فيه جميع غرمائه بما بقي لهم، وهم على حسب ما قلناه في مسألة مرتهن الزرع إذا حاص ثم بيع وأخذ ثمنه. ولو كان الزوج دفع إليها من صداقها نقده وهو خمسون دينارًا، وبقيت خمسون دينارًا مهرًا ففلس، فإنها تحاص بما بقي لها من صداقها وهو خمسون، فتأخذ ما ينوبها من المحاصة بها. فإن طلقها الزوج بعد ذلك فقد علمنا أن الطلاق يسقط عنه نصف جميع الصداق نقده ومهره. فالخمسون دينارًا التي قبضتها من النقد سقط حقها في نصفها وهو خمسة وعشرون دينارًا، فيجب رد ذلك إلى غرماء الزوج، ويصير ذلك كمالٍ طرأ عليه له وتبين أن المحاصة إنما كانت تجب لها بخمسة وعشرين دينارًا فهو الذي يستحقها (¬3)، ويضرب فيما بقي لها من نصف صداقها وهو الخمسة والعشرين المهر الباقي في ذمة الزوج في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الأسلوب. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فهي التي تستحقها.

الخمسة والعشرين التي ردت وفي مال المفلس. ولو صورنا المسألة في أن الزوج كان بيده مائة دينار وعليه لرجل خمسون دينارًا، فدفع من المائة دينار التي بيده الخمسين النقد، وبقي لزوجته عليه الخمسون المهرّ، ففلّس، فإن الزوجة يجب أن ترد خمسة وعشرين دينارًا من النقد، ويضرب في مال المفلس بخمسة وعشرين دينارًا نصف المهر الذي بقي لها على الزوج، ويضرب الرجل الذي له على الزوج بخمسين دينارًا جميع دينه، فيستحق ثلثيْ مال المفلس، وتستحق الزوجة ثلثه، وجملة مال المفلس الخمسون دينارًا الباقية في يديه بعد ما نقد الزوجة ثلثَها، والغريمَ الآخرَ ثلثيها، وفي يد المرأة خمسة وعشرون التي أمسكتها من النقد، وخمسة وعشرون التي وجب لها ردها، وهي إذا ردّتها رجعت تأخذها من الخمسة وسبعين مالِ المفلس، وهي ثلث الخمسة والسبعين جملةِ مالِ المفلس، فلا يرجع شيء، والغريم الآخر بأخذ الخمسين دينارًا فاعتدلا في قسمة مال الغريم لما كان دينهما سواءً: لهما (¬1) خمسون، ولها خمسون، فإذا استمسكت بالخمسين وأخذ الغريم الآخر الخمسين التي في يد المفلس، فذلك مقتضى الحصاص. ولو نقدها الخمسين دينارًا وبقي المهر خمسون دينارًا فطلقها، ثم بعد الطلاق فلس، فمذهب ابن القاسم أن الجواب الذي قدمناه فيما إذا وقع الطلاق بعد التفليس وهو الحكم فيما إذا وقع الطلاق قبل التفليس وإنها إنما تستحق من الخمسين دينارًا النقد التي قبضت خمسة وعشرين دينارًا. ومذهب ابن المواز أنها استحقت جميعها. وقدّر ابن المواز أنه لما طلقها قبل أن يفلس وقد علم وعلمت أن نصف الصداق واجب عليه، وفي يده نصفه، فهما كالراضيين (سا) (¬2) حملة الخمسين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له. (¬2) هكذا في النسختين.

دينارًا النقد عوضًا عن حق جميع حق المرأة فينصف الصداق نقده ومهره كأنها كالمحاسبة والمقاصة. ورأى ابن القاسم أن ذلك محتمل لما ذكر ابن المواز، ويحتمل أن يكون إنما أبقياها على موجب الحكم في قصها (¬1) على النقد والمهر فلا يسقط موجب الحكم الشرعي بأمر محتمل. وهذا يلتفت فيه عندي من (¬2) العوائد وما يفهم من قرائن الأحوال، وإليه يرجع الخلاف. ولو كانت المرأة هي التي فلست وقد نقدها الزوج خمسين دينارًا أو بقي عليه المهر ثم فلست، فإن الحكم أيضًا ما قدمناه من كون الخمسين التي نقدها وجب له عليها أن ترد نصفها لسقوطه بالطلاق قبل البناء، ويجب لها عليه أن تطالبه بخمسة وعشرين دينارًا نصف المهر الباقي في ذمته إذا حلَّ فيضرب الزوج مع غرمائها بخمسة وعشرين دينارًا نصف المهر الذي بقي عليها إن فلس، أو يطالبوه بها إن كان مليئًا وقد وقع لأصبغ ما يقتضي أن الزوج لا يحاص غرماءها بالخمسة والعشرين دينارًا التي وجب عليها أن تردها إليه، فقال، فيمن دفعت له زوجته مالًا على ألا يتزوج عليها ففلس وتزوج عليها، فإنها لا تحاص غرماءَهُ بما وجب لها عليه أن يرده عليها مما أعطته على ألا يتزوج، وقدّر أن بنفس التزويج وجب عليه رد مالها إليها، فصار ذلك كدين عاملته به بعد أن فلّس وما حدث من الدين بعد التفليس فإنه لا يحاص مستحقة الغرماء الذين فلّس لهم، فكذلك يقدر في المسألة التي ذكرناها أن بطلاق الزوج لها وجب له أن يرجع عليه ابن صف ما نقدها، وذلك بعد أن فلست، فصار ذلك أيضًا كدين عاملها به بعد أن فلست. وهذا يتصور الخلاف فيه عندي من الخلاف المذكور في مسألة المدونة إذا طلقها وقد أصدقها حيوانًا فاعْتلته قبل الطلاق، فقيل: لا ترد من الغلة شيئًا، وكأن حق الزوج في نصف الصداق إنما وجب له حين الطلاق، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى.

وقبل ذلك كان لا يستحق في الصداق شيئًا فلا تكون له غلة فيما مضى قبل الطلاق. وقيل له نصف الغلة، وكأن الطلاق كشف لنا أن المرأة ما كانت تستحق إلا نصف الصداق، وكأنها اغتلت نصفه وهو مال الزوج، وهذا كما قدمناه مرارًا في أحكام المرتقبات: هل تقدر كأنها لم تزل حاصلة في مبدأ الأمر، وإنما يقدر حصول ما كان مترقبًا حصوله حين وجد وحصل؟. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: الدين يقضى عندنا من دية المديان إذا مات مقتولًا وكان القتل خطأ، لأن الدية، وإن كان إنما استقر وجوبها بعد موته، فهي مال من ماله، وسببها كان في حياته، فكأنه اكتسبها في حياته؛ وأيضًا فإنها عوض نفسه التي كانت تسعى في الكسب لغرمائه، وكان لغرمائه حق فيها، ويقدمون على الورثة بما ذكرناه من كونها مستحقة في حياته لكونها عوض ذمته التي أفاتها القاتل على غرمائه. وكذلك لو كان القتل عمدًا ورضي ورثته بأخذ الدية، أو تراضى بها ورثته والقاتل، فإن غرماءه أحق به من ورثته للعلة التي قدمناها. ولو عما عن دمه بعد أن جرح الجرح الذي مات منه، والقتل خطأ، لكان عفوه عن الدية لا يجوز إذا رده الغرماء. ولو لم يكن عليه دين لكان لورثته أن يردوا إن (¬1) زاد علي ثلثه مما عما عنه. ولو كان القتل عمدًا لجاز عفوه ولم يكن لغرمائه أن يردوا عفوه لأن الواجبب له القصاص، وإنما تثبت الدية بالتراضي على رواية ابن القاسم، والدم الذي استحقه لا منفعة في إراقته لغرمائه، ولا يلحقهم ضرر بعفوه، فمضى عفوه فيه. وقد كنا قدمنا الكلام على هذا، وأشرنا إلى ما يتخرج فيه على مذهب أشهب القائل إن لولاة المقتول أن يجبروا القاتل على الدية. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف إن.

وكذلك لو لم يعف المقتول عمدًا، ولكن عما الورثة على الدية وعلى الميت دين، فإن عفوهم جائز على غرماء الميت على ما قدمناه. وكذلك لو عما الوارث، وعليه في نفسه دين، لم يكن لغرمائه أيضًا أن يردوا عفوه. وهذا الذي ذكرناه في دم استحقت إراقته فعفا من يستحقها. وأما إذا بطل القصاص وانتقل الحكم إلى الدية، بأن يترك المقتول ولدين فيعفو أحدهما عن الدم بغير عوض، فإن القصاص ها هنا لا يمكن لأن الثاني من الولدين الذي لم يعف إنما يستحق نصف الدّم وإتلاف نصف النفس مما لا يتميز حقه فيه من حق أخيه ولا ينقسم، فإذا بطل حقه في إراقة الدم عاد ذلك مالًا استحقه الذي لم يعف، فلا يمكّن حينئذٍ هذا الذي لم يعف من إسقاط نصيبه من الدية لكون نصيبه من الدم قد امتنع إراقته فصار حقه منحصرًا في الدية وذلك كمالٍ ورثه عن أبيه مما اكتسبه أبوه، فليس له أن يهبه ويبطل حق غرمائه فيه. ولو كان على هذا الذي لم يعف دينٌ قد أحاط بنصيبه من الدية (¬1) على أبيه دين لكان غرماء أبيه أحق بنصيبه من الدية من غرمائه في نفسه، لما قدمناه من كون الدية عوضًا عن النفس التي كانت تسعى لغرمائها. فإن قيل: هلّا قلتم هذا فيما يورث عن الميت بحق الولاء: إن غرماء المعتق أحق بولاء العبد المعتق الذي مات بعد موت سيده الذي أعتقه لكون الولاء إنما يستحق بسبب تقدم في حياة المعتق وهو الإعتاق، فيكون غرماء المعتق أحق به من ورثته قبل (¬2) العبد المعتق إذا مات سيده والعبد حي فإن كسب العبد ملك لا يقدر أحد على انتزاعه منه، وقد يموت عن ورثة يستحقونه دون ورثة سيده، والدية لم يستقر ملكها لأحد دون القتيل ولا يتبدل حكمها ولا تعلق بشرط كما تعلق الولاء بشرط ألَّا يكون العبد المعتق ورثته أحرار. وأيضًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [و] على. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مثل.

فإن ما يؤخذ بالولاء ليس بعوض لذمة المعتق، ولا عامله الغرماء على أن يعتق فيأخذون ديتهم من ولاء العتيق إذا مات، وقد يموت فقيرًا أو يموت غنيًا وله ورثة أحرار يستحقون ميراثه دون ورثة سيده لو كان حيًا. وهذا يفرق بين كون الدين يؤخذ من التركة ولا يؤخذ مما يورث بالولاء. فإذا تمهدت هذه الأصول، فاعلم بعدها: أن الدية إذ أخذت بعد موت الميت، وقلنا: إن الدين يؤخذ منها فلو ترك رجل مائة دينار، وعليه دين مثلها، وقد قتل عمدًا، فوجب في ديته ألف دينار، وكان أولياء الدم ولَديْن له، فعفا أحدهما عن نصيبه من الدم على أن يأخذ ديته، فإن حقه في الدم وفي الدية قد سقط، وبقي حق أخيه الذي لم يعف، وقد استحق خمسمائة دينار (¬1) ونصف الدية. وقد قررنا أن الدية تؤدى في الدين، فإن الغرماء أحق بها من الورثة، فيتحصل من هذا أن الميت ترك ستمائة دينار التي فرضنا أنه مات وهي تحت يده، والخمسمائة دينار التي فرضنا أنها طرأت بعد موته، وهي نصف الدية، فصارت تركته ستمائة دينار. ولكن حكم التوارث فيها يختلف بالمائة التي تركها مالًا له قبل موته، وتورث عليه إن لم يكن عليه دين، (وإن لم يكن عليه دين) (¬2). وإن كان عليه دين يستغرقها دفعت كلها في الدين، والدية يأخذها الورثة أيضًا إن لم يكن عليه دين، وإن كان عليه دين يستغرقها دفعت كلها في الدين، والدية يأخذها الورثة أيضًا إن لم يكن دين، وإن كان عليه دين يستغرقها أدى جميعها في الدين. فيجب على هذا أن تكون المائة دينار التي عليه دين مفضوضة على الستمائة دينار التي ترك، فينوب كل مائة من الستمائة دينار سدس هذه المائة التي تركها، يخرج منها سدسها في الدين ستة عشر إلا ثلثًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب حذف الواو. (¬2) ما بين القوسين زيادة لا معنى لها في النسختين.

والخمسمائة المأخوذة في الدين يخرج منها من كل مائة سدسها، ويرث ما بقي من الدية الولد الذي لم يعف، ولا يأخذ الذي عما من ذلك شيئًا. وأما المائة التي تركها الميت: فإذا أخرج منها ما حظها (¬1) من الدين وهو سدسها، ورث ما بقي منها وهو خمسة أسداسها على فرائض الله سبحانه، يقسم ذلك بين الولدين نصفين، فتكون القسمة اثني عشر جزءًا من أحد عشر جزءًا للولد الذي لم يعف، لأن له في خاصته خمسمائة دينار نصف الدية وله خمسون دينارًا نصف المائة التي ترك أبوهما. فإذا كان له في خاصته خمسمائة وخمسون جعل الجزء خمسين دينارًا، فكان له أحد عشر جزءًا كل جزء خمسون دينارًا، وكان لأخيه الذي عما جزء واحد، وهو خمسون دينارًا، فعليه في الخمسين التي تنوبه نصف سدس الدين، جزءًا من اثنى عشر جزءًا وذلك ثمانية وثلث، وتبقى له إحدى وأربعون وثلثان. وعلى هذا يصح للآخر بعد الدين بسبب الدية والميراث أربعمائة وثمانية وخمسون وثلث. إلى هذا ذهب ابن القاسم في هذه المسألة على ما ذكره في العتبية والموازية، وذكره ابن سحنون عن أبيه، وعن أشهب. ولو كان الدين خمسمائة، وخلف الميت خمسمائة، فإن الدين قال ابن القاسم مأخوذ من التركة ومن الدية يقسم بينهما نصفين، فيخرج نصفه من الدية ونصفه من التركة، ويقسم ما بقي منها بين الورثة نصفين ويؤخذ نصفها من الخمسمائة نصف الدية وتبقى مائتان وخمسون الباقية نصف الدية للولد الذي لم يعف، لا يشاركه فيها أخوه الذي عفا. وهكذا قال أشهب وسحنون فيمن قتل عمدًا، وله ابنان، وترك ألف درهم، فعفا أحد الولدين عن نصيبه وأخذ الآخر نصيبه من الدية، وهو ستة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما هو حَضُّها.

آلاف درهم، فإنها تضم إلى الألف التركة ثم يفضّ الدين على ذلك كله، فيما وقع للألف التي تركها خرج منها وكان باقيها بينهما، ويرجع ذلك إلى إخراج الدين من الجملة وقسم على أربعة عشر سهمًا: للذي عما سَهْمٌ والباقي للآخر. وهذا الذي قالاه في تلخيص هذا الحساب وبسطه إلى أجزاء تخرج إلى ما أخرجه الحساب الأول الذي ذكر فيه الفض للدين على الجملتين: الجملة المتروكة والجملة المأخوذة في الدين، فلا فرق بين أن يأخذ من كل ألف سبعها حتى يكمل الدين، أو يضم المال بعضه إلى بعض فيخرج الدين جميعه بالسوية، فالذي يبقى، بعد إخراج الدين، يقسم على أربعة عشر جزءًا لأن هذه التركة لو لم يكن على الميت دين لكان للولد الذي لم يعف نصف الألف التي ترك أبوه ولا أكثر من ذلك، وهو خمسمائة، ونصفها الآخر وهو نصف مائة للولد الذي عما، والستة آلاف المأخوذة من الدية يختص بها الولد الذي لم يعف. فقد صار للولد الذي لم يعف ستة آلاف وخمسمائة، فإذا قسطت ذلك إلى أن تجعل كل جزء خمسمائة، لأجل أن حق الولد الذي عفا خمسمائة، صارت التجزئة أربعة (¬1) جزء كل جزء خمسمائة، يأخذها الذي عما، وما بقي وهو ثلاثة عشر جزءًا، كل جزء خمسمائة يأخذه الذي لم يعف، فيحصل له لو لم يكن على التركة دين ثلاثة عشر جزءًا، كل جزء خمسمائة فيترك ستة آلاف وخمسمائة ويحصل للذي عما جزء واحد وهو خمسمائة. فإذا كان على التركة دين أخرج الدين من الجميع، وقسم ما بقي على نسبة ما يستحقه كل واحد من الإبنين فالذي يستحقه العافي نصف سبع المال، والذي يستحقه الذي لم يعف ستة أسباع المال ونصف سبع. وهكذا قالا: لو كان على الميت دين في هذه وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة، وأوصى لرجل بألف درهم فإنه يؤدى نصف السبعة آلاف في الدين، فيقسم على الألف التي تركها نصفها، ونصفها الباقي فيه تكون ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: أربعة [عشر] جزءًا.

الوصايا في ثلثه، لأن الوصايا لا تدخل إلا فيما علم به الميت، يأخذ الموصى له ثلث الخمسمائة، وما بقي من المال كله يكون بين الولدين على عشرين جزءًا، للذي عما جزء وهو نصف العشر، والذي لم يعف تسعة عشر سهمًا. وهذا الذي قالاه أيضًا يعرف صحة حسابه مما قدمناه، وذلك أن الستة آلاف المأخوذة في الدية كمالٍ طرأ للميت لم يعلم به لأن ولده إنما عفا عن الدم وصيره مالًا بعد موت أبيه، فلا تدخل الوصايا فيه، وإنما تكون الوصايا فيما تركه وعلم به في حياته، وهو لم يعلم بأنه يرثه عنه سوى الألف درهم التي تركها، وكانت تحت يده في حياته، وقد خرج نصفها في الدين كما خرج نصف الستة آلاف المأخوذة في الدية في الدين أيضًا، فصارت التركة ثلاثة آلاف، وهي نصف ما أخذ في الدية، وخمسمائة وهي نصف الألف المتروكة ميراثًا، تكون ثلاثة آلاف وخمسمائة قضيت في الدين، فإنما تكون الوصايا في الخمسمائة التي بقيت بعد قضاء الدين من الألف الذي ترك، وهو لا يستحق أن يوصي بأكثر من الثلث، وكان ثلث ما ترك يورث عنه وهو مائة وسبعة وستون درهمًا غير ثلث درهم وتبقى ثلثا هذه الخمسمائة يرثه الولدان نصفين العافي والذي لم يعف، فيكون لكل واحد من هذه الخمسمائة سبعة وستين غير ثلث فيصيب العافي من هذا المال كنصيب الموصى له، لأن الوصية عادت إلى ثلث المال، (والثلث يقتسمانه) (¬1) الولدان وتبقى الثلاثة آلاف التي هي نصف المأخوذ من الدية يختص بها الذي لم يعف، فيسقط (¬2) هذا المال الذي بقي بعد قضاء الدين، فوجدنا خمسمائة منه تقسم أثلاثًا، وهو سبعة أجزاء، كل جزء خمسمائة، فتضرب السبعة أجزاء في ثلاثة، لذكرنا الثلث الموصى له وهو ثلث الخمسمائة، فينتهى ذلك إلى أحدٍ وعشرين جزءًا، وقد خرج منها جزء الموصى له بالألف، والذي عدا يستحق مثل ما استحق. وإذا أسقطنا من الواحد وعشرين جزءًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والثلثان يقتسمهما. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيُقسّط.

نصيب الموصى له بقيت عشرون جزءًا، للذي عما جزء واحد منها؛ وهو نصف العشر، فأخذ مثل ما أخذ الموصى له. ولكن نسبة ما أخذ الموصى له ثلث السبع، ونسبة ما أخذه أحد الوارثين بعد إخراج الوصية نصف العشر، ومقدار ما أخذه واحد على ما بينّا. فهذا بسط ما ذكره أشهب وسحنون في هذه المسألة. ولو ترك عبدًا يساوي ألف درهم وعليه، ألف درهم دينًا، فباعه القاضي في الدين، ثم عما أحد الولدين، وأخذ الآخر نصف الدية ستة آلاف، فليرجع عليه أخوه بنصف سبعها، وذلك أربع مائة درهم وثمانية وعشرون وأربعة أسباع درهم. ولو لم يقم الغريم حتى قبض الابن الستة آلاف، فأخذ منها الغريم ألفًا، فإن العبد بين الولدين نصفين (¬1)، والخمسة آلاف الباقية للأخ الذي لم يعف، ويرجع الذي لم يعف على الذي عفا بنصف الدين الذي هو ألف درهم، وهو أحد وسبعون درهمًا وثلاثة أسباع درهم، فإن أداها وإلا بيع من نصيبه من العبد بقدر ذلك. وهذا أيضًا يعرف مما قدمناه. وإنما كثرنا المال ليرسخ تصوره في النفس. ولو ترك أبوه زوجة فعفا الابن وأخذ دية أبيه اثنى عشر ألف درهم، وترك الميت عبدًا يساوي ألف درهم، وعليه دين ألف درهم: فللمرأة ثمن ذلك كله: من العبد ومن الدية، وعليه (¬2) ثمن الدين، وللابن سبعة أثمان التركة من عبد ودية فهكذا يقسم الدين عليهما والميراث. ولو ترك ابنا وابنة وزوجة في هذا السؤال، فعفا الابن عن الدم: فإنه تدخل في ذلك الابنة والزوجة بالميراث، وما على الميت من دين يقضى من الدية ومن المال المتروك، وما بقي يقسم على الفرائض. وهنا (¬3) تعرف أصوله ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نصفان. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وعليها. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهذا.

من كتاب الديات، وأن من له العفو إذا عما واستحق شيئًا دخل فيه من الورثة من لا مدخل له في العفو. ولو وهب المريض عبده لرجل وقيمته ألف درهم، ولا مال له غيره، ثم قتل العبد المريض وله ابنان، فإنما للموصى له ثلث العبد، فإذا قتل سيده فإن شاء الورثة قتله قتلوه، وإن استحيوه على أفي يكون لهم فضت الدية على العبد: ثلثا الدية على ثلثي الورثة فيسقط (¬1) ذلك، وثلث الدية على ثلث العبد فيخير الموصى له بين الفدية بثلث الدية أو يسلمه. وتفريع ما وقع في الروايات في هذه المسألة يعرف من كتاب الديات والجنايات. ومما يلحق بما نحن فيه ما ذكره ابن المواز فيمن قتل عمدًا وترك مدبَّرًا قيمته مائَة دينار، ولم يترك سواه، ولا دين عليه، فعفا أحد الوارثين عن الدم وأخذ الذي لم يعف نصف الدية، فإن العبد يعتق جميعه، ويكون خمسة أسداس مائة دينار، بين الولدين نصفين للعافي والآخر للذي لم يعف. وهذا الذي ذكره مأخوذ مما قدمناه من فض الدين الذي يكون على المقتول عمدًا في مثل هذه المسألة بين ما ترك من مال علم به، وبين ما أخذه أحد ولديه من ديته، فما ناب المالَ الذي مات وهو على ملكه أخرج في الدين، وما بقي من هذا المال الذي مات عنه كان بين الولدين نصفين، ويكون الذي لم يعف عن الدم ينفرد بما أخذ من الدية بعد إخراج ما وقع على ما أخذ من الدية من الدين، وبعد الفض عليهما فالمدبَّر ها هنا حكمه حكم الدين. فقد صار الميت في هذه المسألة ترك ستمائة دينار، وهي التي قوّمنا بها المدبر، وخمسمائة هي المأخوذة في نصف الدية، والمدبر يعتق في المال الذي مات عنه الميت وعلم به، وفي المال الذي طرأ بعد موته ولم يعلم به. وقبض (¬2) قيمته على هذه الستمائة دينار، فينوب ما يختص به في نفسه سدس القيمة، وهي سبعة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يقسط. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فتفضّ.

عشر دينارًا غير ثلث، فيعتق ذلك على الولد (¬1) جميعًا، ويعتق خمسة أسداسه من الخمسمائة دينار التي أخذها الولد الذي لم يعف. فإذا عتقت عليه كمل عتق جميعه بعد أن كان استحق الولد العافي نصف خمسة أسداسه التي اعتقناها في نصف الدية، فيكون يرجع بقيمة نصف هذه الخمسة أسداس التي أعتقت فيما أخذ أخوه، وصار ذلك كعتق من أحد الشركاء فإن نصيب صاحبه يعتق ويرجع بقيمته على شريكه المعتق ويجزئه ذلك بعد بسط الحساب أن الميت كأنه توفي وترك ستمائة دينار منها خمسمائة دينار ينفرد بميراثها أحد ولديه، ومنها مائة وهي قيمة المدبر يرثها الولدان جميعًا. فقد صار للذي لم يعف من هذا المال خمسمائة دينار وخمسون، وصار للذي عما خمسون دينارًا. فإذا نصفنا الخمسمائة تقابل في التجزئة بها الجزء الذي ورثه العافي، صارت عشرة أجزاء كل جزء خمسون دينارًا، وله جزء آخر وهو خمسون دينارًا وهي نصف قيمة المدبر، فصار له أحد عشر جزءًا ولأخيه العافي جزء واحد وهو خمسون دينارًا، فيقسمان ما بقي من المال بعد إخراج المدبّر كله، وذلك خمسمائة دينار على اثنى عشر جزءًا، واحد منها وهو نصف سدسها للذي عما، وهو أحد وأربعون دينارًا ونصف دينارٍ وسدسه، وللذي لم يعف مثل ذلك أحد عشر مرةً، وذلك أربعمائة دينار وثمانية وخمسون دينار (ونصف) (¬2) وثلث فقد تحمل قسمة الخمسمائة دينار على هذه النسبة وهذا الحساب. قال ابن المواز: وقد قيل: لا يكون للذي عما إلا جزء من سبعة عشر جزءًا، والذي لم يعف ستة عشر جزءًا؛ وذلك لأن ثلث المدبر معتق على كل حال، فكأن الميت لم يتركه، وإنما ترك ثلثيه، وقيمة ثلثيه ست وستون دينارًا وثلثا دينار، فهي الموروثة للذي عما وهو ثلاثة وثلاثون دينارًا وثلث، وللذي لم يعف الثلث الباقي وذلك ثلاثة وثلاثون وثلث أيضًا، فيحتاج في هذا إلى بسط (¬3) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الولدين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تقسيط.

الخمسمائة دينار التي أخذت من الدية أثلاثًا، لأجل أن نصيب الأخ الذي عما ثلاثمائة دينار فتصير الخمسمائة المأخوذة في الدية إذا بسطت (¬1) أثلاثًا خمسة عشر ثلثا، كل ثلث منها وهو ثلث مائة دينار. ولهذا الذي لم يعف زيادة على ذلك ثلث المائة التي يستحقها في المدبّر، فصار له ستة عشر جزءًا لكل جزء منها ثلاثة وثلاثون دينارًا وثلث دينار، وللذي عما جزء واحد وهو ثلاثة وثلاثون دينارًا وثلث. فإذا أعتق العبد من هذه الجملة التي هي ستمائة اقتسما الباقي على سبعة عشر سهمًا، للذي عما من ذلك سبُع واحد، وهو تسع وعشرون دينار ونصف غير سبْعِ حبَّات على التقريب، وللذي لم يعف مثل ذلك ستة عشر مرة. فيبلغ ذلك كله خمسمائة دينار الباقية بعد عتق المدبر. وهذا القول الذي ذكره محمَّد أشار إلى رده بأن قال: الأول أحب إليَّ، ألا ترى لوكانت قيمة العبد مائة وخمسون، وعلى السيد خمسون، لكان ينبغي فيما وصفتُ لك ألا يحاصّ إلا بخمسين ثلث قيمة العبد وكذلك يكتفى أن لو كان عليه دين يحيط بالمدير ألَّا يكون له شيء. وهذا القول الذي حكاه وأشار إلى ضعفه هو الذي ينبغي أن يكون جاريًا على أصل ابن القاسم القائل بأن المدبر إذا ترك سيده مالًا علم به، ومال طرأ له لم يعلم به، فإنه يُبَدَّأُ بعتقه من المال الذي علم به، فلو استوعب ثلثه ثلث المال الذي علم به، وكان الميت أوصى بوصايا، فإنها تبطل، ولا يؤخذ من المال الذي لم يعلم به، ويعتق ثلثا المدبر في المال الذي لم يعلم به الميت، وهي خمسمائة ويكون للعافي جزء من سبعة عشر جزءًا دينارًا على ما بيناه بعد في إخراج جميع المدبر وإمضاء العتق في جملته. وأما عبد الملك، فإنه يقول: إن المدبر يعتق فيما علم به وما لم يعلم، فما فضل من المال الذي علم به دخلت فيه الوصايا، وما فضل من المال الذي لم يعلم به لم تدخل فيه الوصايا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قسّطت.

وأما الدين، فالأصل فيه أن يكون شائعًا في جميع المال الذي علم به للميت والذي طرأ بعد موته. والخلاف في هذا يبعد، ولم أقف فيه على نصّ صريح في كونه يبدأ في أخذه بإخراجه من الذي علم به. لكن الشيخ أبا محمَّد بن أبي زيد قال في نوادره: روى عيسى عن ابن القاسم في العتبية فيمن قتل عمدًا وترك مائة، وعليه مائة دينار، وأوصى بوصايا، فعفا عن القاتل على الدية، قال: يقضى الدين من المائة التي علم بها، وتبقى الدية لورثته، وتبطل الوصايا ونبه على هذه الرواية بأن قال: انظر (¬1) فيها غير هذا، والمسألة الأولى في الذي عليه دين ولم يوص بشيء فعفا واحد من البنين بذلك على هذا، فأشار إلى ما كنا قدمناه في صدر هذه المسائل من كون المقتول عمدًا إن ترك مائة دينار وعليه مائة دينار وعفا أحد الولدين فإن الدين يفضّ على أحد المالين، فما ناب المائة التي تركها ميراثًا عنه أخرج لصاحب الدين، وقسم الولدان بقيتها، فكأنه يشير إلى أن هذا يقتضى أيضًا توزيع الدين في هذه المسألة التي رواها عيسى عن ابن القاسم على ما علم به وهي المائة المتروكة، وعلى ما لم يعلم به وهو المأخوذ في الدية. فيجب إذا خرج من الميت (¬2) المتروكة ما نالها من الدين، أن تكون الوصايا في ثلث ما بقي منها مما يقسمه الولدان ميراثًا بينهما. وأشار بعض الأشياخ إلى أن قول ابن المواز ها هنا لو كان عليه دين يستغرق المدبر يجب ألاّ يحاص بشيء، يقتضي أن المدبر إنما يدخل فيما علم به، فإذا أحاط بالمدبر امتنع أن يكون للذي عما به حصاص لكونه لا يرث من الخمسمائة المأخوذة في الدية شيئًا، وإنما يرث في المدبر، والمدبر وجب رد عتقه بالدين الذي يختص إخراجه بالمدبر، وإنما يعتق من جهة أخرى: من كونه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: النظر. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المائة.

يدخل فيما لم يعلم به، والذي لم يعلم به الميت من هذه الدية لا مدخل للعافي فيه. واستبعد مع هذا التأويل لهذه الرواية، وقال: ينبغي ألاّ يختلف في كون الدين يكون شائعًا فيما علم به وما لم يعلم به. وروى عيسى عن ابن القاسم في العتبية فيمن له مدبر قيمته مائة دينار ولا دين عليه، فيقال للذي عما كم يكون لك من المدبر لو لم تكن دية؟ فيقول: ثلثه. فيقال له: فالمدبر يستتم عتقه في الخمسمائة دينار، فيتم عتقه كله، وترجع أنت على أخيك بمثل ما يكون لك من المدبر، وذلك ثلاثة وثلاثون وثلث، ولا يكون ذلك كالدين. يفضّ على المالين كما قال من قال، وذلك خطأ ولا يكون الذي عما أحسن حالًا لأن العافي عن العمد لم يعف عن مال ولذلك لم يضمن الدين. وأما إن كان خطأ فليس لأحد عفو حتى يجمع الدين ثم يخرج ثلث ما بقي للمدبر والوصايا. فأشار في هذه الرواية إلى أنه لا يفض المدبر على المالين بخلاف الدين الذي يجب فضه. فأشار بهذا إلى أن الخلاف إنما يحسن في فض عتق المدبر على المالين. وأما الدين فلا يحسن الخلاف في كونه مفضوضًا على المالين. ومن ترك ثلاثة بنين له على أحدهم مائة دينار، وترك مائتين، وأوصى بمائة، ففي التركة ثلاثمائة، فللوصاية منها مائة، والمائتان بين البنين: لكل ابن ثلاثمائة (¬1) فالذي عليه المائة عنده أكثر من حقه فاقتسم ما حضر بين الولدين والموصى له على سبعة للموصى له ثلاثة، ولكل ابن ممن لا دين عليه سهمان ثم يتبع جميعهم الولد الذي عليه المائة بثلث المائة فما قبضوا منه قسموه على سبعة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ثلثامائة.

وقال محمَّد يأخذ الموصى له ثلث المائتين، ويقسم ما بقي على الثلاثة، فما صار للمديان رجع فيه صاحب الثلاثة ثلاثة أسباعه والوارثان بأربعة أسباعه. وهذا الذي ذكره من القسمة على سبعة لأجل أن الموصى له [له] ثلاثة أثلاث من كل مائة ثلث وكل واحد من الأولاد له في المائتين ثلثا مائة فلهذا تكون القسمة على جزءين: لكل ولد جزءان، وللموصى له ثلاث أجزاء. ولعلنا أن نذكر المسألة، والإشارة إلى ما قاله ابن المواز في غير هذا الموضع. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: وتحل الديون المؤجلة بفلسه، ولا يحل مالَه من دين مؤجل والميت كالمفلس في ذلك كله. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما الدليل على حلول الدين المؤجل بالموت؟. 2 - وما الدليل على حلوله بالتفليس؟. 3 - وهل يحل قولًا مطلقًا أو باختيار من له الحق؟. 4 - وهل تحل الديون المؤجلة إذا كانت معرضة للبطلان؟. 5 - وما الدليل على أن ما للمفلس من دين لا يحل لأجل تفليسه. فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: إذا مات من عليه دين طلبت تركته بالديون كلها، وإن كانت مؤجلة لم تحلّ آجالها. وهذا قول عامّة العلماء وخالف في هذا الزهري والحسن البصري

وعمرو بن دينار. وكان هؤلاء يتعلقون بظاهر قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1) وقوله عليه السلام: "المؤمنون عند شروطهم" (¬2). وإذا عقد بيع بثمن مؤجل لم تلزم المطالبة به إلا عند أجله، لأنه مقتضى الوفاء بالعقد وكذلك أيضًا هو كالشرط في الثمن فيجب أن يوفى بالشرط. وكأن الجمهور يرون أن البائع إنما عقد على ذمة يشق بها، فإذا خربت وذهب عين المطالَب بالمال كان مقتضى العقد أيضًا لا يخرج ماله ويخرج ويعرض به التلف، وأيضًا فإن التركة لم تخل من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تعقل التركة عن الغرماء لحق (¬3) الورثة. أو يمكّن الورثة من قسمتها. أو يمكن الغرماء من أخذ حقوقهم منها. (¬4) بباطل أنها تعقل على الورثة (¬5) على الغرماء لأن في ذلك ضررًا على الجميع. أما الغرماء، فلكون ديونهم إنما تؤخذ مما ترك الميت وتعلق حقهم بأعيان ما ترك، فإذا أوقفناهُ فهو معرض للتلف والهلاك، فلا يجدون مرجعًا بديْنهم والدية (¬6) التي كانت حقوقهم متعلقة بها قد بطلت بالكلية ويلحق أيضًا الورثة ضرر يمنعهم التصرف فيما ورثوه من غير فائدة لهم في ذلك ولا للغرماء مع كون الميت قد قال - صلى الله عليه وسلم -: "نفس المؤمن مرتهنة بدينه حتى يقضى عنه" (¬7)، ¬

_ (¬1) سورة الأنعام، الآية: 1. (¬2) أخرجه البخاري تعليقًا. انظر: الفتح: 5/ 358. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وعَن. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فباطل. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [و] على. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الذمة. (¬7) فيض القدير: 6/ 288. حد 9281. لفظه: نفس المؤمن معلقة ... الترمذي: الجامع الكبير 2/ 375 حد 1078، 79.

وفي تأخير دفعه للغرماء إضرار بالجميع: بالميت والغرماء والورثة. فوجب لأجل هذا أن تحل الديون. وإن قلنا: إن الورثة يمكنون من قسمته، فإن هذا أيضًا إضرار يختص بالغرماء، لكونهم قد لا يجدون ما يرجعون فيه بدينهم إذا تصرف الورثة في مال غيرهم وأكلوه، وهذه إضرار بين لغرماء (¬1). فلم يبق إلا تمكين الغرماء من أخذ حقوقهم منه، ويقسم الورثة ما فضل عن الدين، فتعمّ هذه المنفعة الغرماء والورثة، وذلك أولى مما يضُرُّ بالغرماء والورثة. فالجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أمَّا المفلس إذا حكم بتفليسه والحجر عليه في ماله، فإن ديونه المؤجلة تحل عند مالك وأصحابه رضي الله عنهم. واختلف قول الشافعي في ذلك، فقال مرة: تحل. وقال مرة أخرى: زعم بعض المفتيين إنها تحل، وأشار إلى مالك، ورأى هو أنها لا تحل. والصحيح عند أصحابه أنها لا تحل. ولنا في أحد قوليه إن الموت يقتضي حلول الديون الآجلة لخرابة ذمة المديان، وكذلك يجب أن يكون التفليس لخراب ذمة المديان أيضًا، وحدوث حالة غير (¬2) الذمة، وتعلق فيها حق في المال. وأيضًا فإن المعاملة تقع على الذمة وتقع على أعيان المال، فإذا كان ذهاب الذمة بالكلية التي تقع المعاملة عليها توجب حلول الديون المؤجلة، فكذلك إذا ذهب الأعيان، وبقي الغريم فقيرًا، وحكم بتفليسه والحجر عليه، ويجاب عن هذا بأن المال لو ذهب من يده قبل أن يُحجر عليه لما وجب حال (¬3) الديون المؤجلة فكذلك إذا ذهب ووقع الحجر عليه، إذ لا تأثير للحجر ها هنا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بيّن للغرماء. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغَيُّرٍ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حلول.

كما أن الشافعي أجاب أيضًا عن قياس الفلس على الموت بأن الذمة في الموت خربت خرابًا لا يرجى بعده أن تُعمّر، وفي التفليس، وإن خربت، فإنها ترجى بعد ذلك عمارتها بإفادة المفلَّس مالًا من ميراث أوْ حلة (¬1) أو سعي بسعاية ومعاملات يحدثها. واعتمد من ذهب إلى أنه لا تحل الديون المؤجلة بالفلس على أن التأجيل في ثمن المبيعات له حصة من الثمن. ومعلوم قطعًا أن ما يشترى على أن يوزن (¬2) ثمنه إلى أجل يكون الثمن فيه أوفر من الثمن لو بيع على النقد فإذا قلنا بحلول الديون المؤجلة أفضى ذلك إلى إلزام المشتري ثمنًا لم يأخذ العوض عنه وهو التأجيل. وهذا أقوى ما يعتمد عليه المخالف. وأجيب عن هذا بأنه إنما يدفع الضرر إذا لم يقابله ضرر آخر، ولهذا قلنا إن البائع أحق بسلعته إذا وقع التفليس، وما ذلك إلا لنفي الضرر عنه. وهاهنا إذا رفعنا الضرر عن المشتري بكونه لا يحل الدين المؤجل لَحِق البائعَ ضرر في كون مال المفلس يقسمه من سواه من الغرماء، وإذا حل الأجل لم يجد مرجعًا، والضرر لا يدفع بالضرر من جانب، وكون البائع أحق بسلعته في التفليس لدفع الضرر. وقد يتصور فيه ضرر بالغرماء، وسنتكلم على وجه كونه أحق بسلعته في التفليس بعد هذا إن شاء الله تعالى. وقد تقدم الكلام على أن الديون إذا كانت كلها مؤجلة لم يجب التفليس، لكون الطالبين لم يستحقوا المطالبة، وإن كان بعضها حالّة وبعضها مؤجلة، والذي في يد الغريم لا يفي بالحقوق الحالة فإنه يفلس في حق من حل دينه ومن لم يحل. وتحل الديون المؤجلة وإن بقي في دينه (¬3) بعد قضاء الديون الحالة ما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صِلة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُؤدَّى. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ذمته.

يرجى منه أن يقضي دين أصحاب الحقوق المؤجلة لم يفلس في حقهم. وبسطنا القول في ذلك. وتنازع المتأخرون إذا كان ما في يديه مقدار الحقوق الحالة لا أكثر. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: إذا فلس المديان وعليه دين من عروض أسلم إليه فيها إلى أجل، فإن الأجل يبطل، وتقع المحاصة بالعروض على أنها حلت على المفلس، وهنا يتضح إذا طلب مستحقها في الذمة أن يحاص بها على الحلول. فأمّا إذا أبى ذلك وقال: لا أطلب الحكم بكونها حالة. وقال من هي عليه: قد حكم الشرع بحلول ما على المفلس فلا أؤخرها في ذمتي طلبًا للبراءة منها. كما لو حل الأجل المشروط (وقال من هي عليه: الدين لم يستحق ذلك عليه خذه لا براءة منه) (¬1)، وقال مستحق الدين: لا آخذه فإنه يجبر على أخذه، فإن ابن القاسم ذكر في العتبية أن مستحق العروض المؤجلة في الذمة يجبر على أخذها إذا أراد من هي عليه البراءة منها لما فلس. وعارض بعض أشياخي هذا ورأى أن التعجيل لها قبل أجلها بمقتضى حكم التفليس إنما ذلك لنفي الضرر عن مستحقها في الذمة، مخافة أن تؤخر إلى أجلها فلا يجد مستحقها عند غريمه مالًا يرجع عليه فيه بها، لكونه من سواه من الغرماء قد أخذوا جميع ما في يديه، فإذا رضي هو بهذا الضرر بقي الحكم على ما كان عليه من التأجيل في أصل المعاملة. وكأنه يشير إلى أن هذه القضية بالحلول معللة بعلة فإذا زالت العلة ارتفع حكمها. وقد كنا قدمنا عن أصبغ أنه يقول فيمن كان غائبًا ماله إنه إذا فلس حلت الديون المؤجلة واستتم تفليسه، وذكرنا معارضة بعض الأشياخ في هذا، ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفه.

وقولهم: إن أصحاب الديون المؤجلة إذا ذهبوا إلى موضع به المال فإن القياس: لا يمكنون من أخذ ما بقي لهم حتى يحل الأجل، و (¬1) ارتفاع العلة التي أوجبت لهم الحصاص لما كان المال غائبًا. وهذا خلاف؛ فظاهر (¬2) كلام أصبغ، وكأن أصبغ رأى أن الحكم إذا وقع لم يرتفع لارتفاع عليته. وكذلك في المبسوط لابن نافع أنه إذا مات من عليه الدين المؤجل، فقال ورثته: نأتوا (¬3) الحميل موسر يضمن عنا الدين إلى أجله، وتقسم التركة. فإنهم لا يمكنون من ذلك. وكأنه رأى أن حلول الدين بالموت ضربة لازم فلا يتغير الحكم فيه بزوال علته. وهذا مطابق لما حكيناه عن ابن القاسم أيضًا من كون طلب العروض في المفلس إذا أراد بقاءها في الذمة فإنه لا يمكّن من ذلك. وعارض أيضًا هذا كما عارض ابن القاسم فيما حكيناه عنه. وكأنَّ وجه ما وقع في المبسوط أن من له الدين إنما عامل على ذمة معينة، فالتحويل عنها لا يجب عليه، كما لا يجبر من له الدين. فدخل (¬4) على أن يتحول به على رجل آخر. الجواب عن السؤال الرابع أن يقال: اختلف الأشياخ المتأخرون في الديون إذا كانت من أكرية وهي مؤجلة ففلس المكتري، فهل يحل ما عليه من الكراء أم لا؟ وكثر النزاع بين الحذاق في هذا، ووقفت على تأليف جرى بينهم في هذا. فكأن بعض أشياخي رأى أن ظاهر المدونة يقتضي حلول الدين، وتعلق بما وقع في المدونة من قوله: إذا فلس مكتري المائة (¬5) فإن صاحب الدابة أولى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لارتفاع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الفاء. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نَأتِي بحميل. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف فدخل. (¬5) هكذا في النسختين، والصواب: الدابة.

بالمتاع من الغرماء، ويباع للغرماء منافع الدابة. وظاهر هذا تعجيل حقه في الكراء إذ لا يصح أن يباع للغرماء منافع يأخذونها ويبقى هو طالبًا للكراء من ثمن المبتاعُ (¬1) إذا بيع للغرماء بعد انقضاء المسافة. وقال أيضًا فيمن اكترى أرضًا فزرعها ثم فلس: إنه يحاص الغرماء بالكراء. وظاهر هذا تعجيل الكراء له وإن لم يحل. وذكر لي بعض أشياخي أن القاضي أبا محمَّد عبد الوهاب وقع له في خلال كلامه في شرح الرسالة أن الدين يحل ها هنا. وكذلك ذكر لي عن المبسوط. ولم أقف أنا على هذا في هذين الكتابين فيما أذكر الآن. لكن عندي أن المسألة كالمنصوص فيها على قولين لأنه اختلف المذهب فيمن أكرى دارًا خمس سنين بمائة دينار قبضها، فذهب حول بعد قبضها: هل يزكي جميعها كما يزكي ما في يديه من مال لا يخشى استحقاقه عليه أو لا يزكّي سوى عشرين دينارًا، وهي التي تنوب العام الذي تقضّى، ولا يخشى أن يردها على دافعها وما سواها من السنين الأربع الباقية لا يزكيها الآن، لكون الرابع (¬2) المكترى قد ينهدم فيبطل الكراء، فيجب عليه ردّه. وهذا مبني على اختلاف في الطوارىء النادرة، هل يلتفت إليها وتعتبر [في] الأحكام أم لا؟. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: أما المفلس فلا تحل ديونه المؤجلة لأجل ما حل عليه من ديون هي عليه مؤجلة. وهذا لا خلاف فيه لكون: أن من له عليهم الدين لم تتغير ذمّتهم التي عاملهم عليها، فيكون له مقال في حلولها، ولكن تباع لغرمائه (¬3) حال كما يجوز البيع في مثلها. ولو كانت مما لا تباع أصلًا على حال كطعام أسلم فيه، فإنه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: المتاع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الربْع. (¬3) كلمة غير واضحة.

يؤخر إلى أن يحل الأجل فيقضى منه حق الغرماء. وهذا قد يقال فيه هلا باعه القاضي برأس ماله بمعنى التولية أنه ينظر فيمن يتولاه برأس المال، فيكون ذلك من حق الغرماء ليستعجلوا دينهم. وهذا يقال فيه: إن التولية قد يتضرر منها وأيضًا فإن السلم إنما يقع ليرتفق المسلم إليه بالثمن المعجل ويرتفق المسلم بالرخص وما يرجوه من حوالة الأسواق في التأخير فإذا قضينا في التولية برأس المال بطل غرض المسلم وأضررنا به في فقد الربح. ولو كان في يد أحد الغرماء رهن بيديه (¬1) المؤجل لحل دينه؛ لأنه يرتفع عنه الضرر ويثق بتوصله إلى حقه لأجل الرهن الذي في يده. فكأن الذمة لم تتغير، بخلاف سواه من الغرماء الذين لا رهن في أيديهم. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: وتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس يختلف: فمنهم من يتعلق حقه بمال معين. ومنهم من يتعلق حقه شائعًا في جميع ماله. فالأول كالبائع يجد عين سلعته على حالها لم تفت، فله الخيار بين أخذها بالثمن الذي باعها به أو تركها والحصاص. فإن كان قبض بعض الثمن رده وأخذها. وفي الموت لا رجوع له، بخلاف الفلس، وهو والغرماء أسوة. والثاني هم سائر الغرماء الذين لا يعرفون أعيان أموالهم، فيستوون في المحاصة. ثم قال: والصناع إذا قبضوا السلع وأفلس أربابها فأخبرهم (¬2) فهم أحق بها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بدينه. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: بأجْرِهم. كما في غ، والغاني.

في الموت (¬1). وكذلك مستأجر الأرض للزرع يكون ريّها أحق بالزرع، والسكنى (¬2). قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة، منها: أن يقال: 1 - ما الدليل على كون البائع أحق في الفلس، وأسوة في الموت؟. 2 - وهل تعلق حق غير مشتريها بها يمنع كون بائعها أحقّ أم لا؟. 3 - وما العقود التي يكون صاحب السلعة أحق بها؟. 4 - وما حكم العيب الحادث عند المفلس أو الولد الحادث عنده؟. 5 - وما حكم الثمرة الحادثة عند المشتري؟. 6 - وما حكم ما يضيفه المشتري في التفليس إلى المبيع؟. 7 - وما الحكم في كون البائع قبض بعض الثمن وبقي بعضه؟. 8 - وما حكم التفليس في شراء المنافع؟. فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلف الناس في تعذر استيفاء ثمن السلع المبيعة: هل يوجب للبائع حقًا في فسخ العقد أم لا؟، فذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يوجب للبائع حقًا في فسخ البيع لا في فلس المشتري ولا في موته، وبه قال النخعي والحسن البصري. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفي غ والغاني: في الموت والفلس. (¬2) هكذا في النسختين، وفي غ والغاني: والسكنى يكون ربّها أحق بما بقي من مدة السكنى.

وذهب الشافعي إلى أنه يوجب للبائع حقًا في فسخ البيع إذا كان المبيع قائم العين سواء فلس المشتري أو مات، وبه قال من الصحابة: عثمان وعلي وابن مسعود وأبو هريرة، ومن التابعين: عروة بن الزبير. ومن الفقهاء: أحمد وإسحاق. وذهب مالك إلى التفرقة بين الفلس والموت على حسب ما ذكره القاضي أبو محمَّد، فجعله في الفلس أحق بعين سلعته، وفي الموت أسوة مع الغرماء. والذي يجب النظر فيه في سبب هذا الخلاف يتبع ما وقع من الآثار وذكر تأويلاتها والترجيح بين ما يؤوّل فيها، ثم النظر في طريق الاعتبار. فأما الآثار فينبغي أن تعلم أن مدار الحديث الذي تعلق به العلماء في هذا على أبي هريرة، وإن كان قد روى نافع عن ابن عمر والحسن عن سمرة بن جندب نحو ما روي عن أبي هريرة، فخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باع من ثمنه شيئًا فوجده بعينه، فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أُسْوة الغرماء" (¬1). وأتبع ذلك أيضًا ما رواه يحيى بن سعيد عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجل أفلس فأدرك رجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره" (¬2). وقد اختلف الرواة في النقل عن أبي هريرة لهذا الحديث فأظهرُها في النقل في النقل ما رواه مالك عن طريق يحيى بن سعيد بإضافة المال إلى رجل منكّر لم يذكر فيه صفة انتقال المتاع إلى من هو بيده. ¬

_ (¬1) الموطأ: 2: 209. حد. 1979. (¬2) الموطأ: 2: 211 حد. 1980.

لكن خرج مسلم في كتابه "فصاحبه الذي باعه أحق به" (¬1) فبيّن في هذه الرواية صفة كون المتاع في يد المفلس، وأنه مبيع. وفي بعض الطرق عن أبي هريرة في صفة المتاع في يده فروى عنه قال: "إذا أفلس رجل أو مات فصاحب المتاع أحق به" (3). وهذه رواية للشافعي عمّن حدثه بهذا الحديث (¬2). لأجل هذا الذي رواه لم يفرق بين المفلس والموت كما صنع مالك. ولأجل رواية مالك في موطئه ما رواه عن ابن هشام من التفرقة بين الفلس والموت ذهب إلى ما حكيناه عنه من التفرقة. لكن أصحابنا طعنوا فيما رواه الشافعي وأشاروا إلى القدح في صحته، وأنه لم يثبت عند أهل الحديث. وأصحاب الشافعي قدحوا أيضًا فيما تعلق به مالك مما رواه عن ابن شهاب بكونه حديثًا مرسلًا لأن أبا بكر بن عبد الرحمن لم يسمع من النبي عليه السلام. ومذهب الشافعي ترك الأخذ بالمراسيل إلاَّ مراسيل ابن المسيب. وأجيبوا عن هذا الطعن بأن المالكية والحنفية يقولون بالمراسيل فلا يمنعهم من التعلق بهذا الحديث كونه مرسلًا. على أنه، وإن كان مرسلًا في أكثر الروايات وأظهرها، فقد رواه عبد الرحمن عن مالك مسندًا عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن النبيِّ عليه الصلاة والسلام. وإذا أرسل أكثر الرواة حديثًا وأسنده بعضهم قُبِل المسند وأُخذ به، كما تقبل زيادة العدل في حديث على جماعة رووه، على خلاف بين الأصوليين في هذا الإنفراد: هل يوجب التوقف عن القبول أم لا؟ وهكذا يطعن فيما عول عليه الشافعي في الزيادة التي رواها من قوله: "إذا فلس الرجل أو مات" فإن ذكر الموت ساقط في أكثر الروايات فقبوله ممن انفرد به من الرواة جار على الخلاف الذي ذكرناه بين أهل الأصول. ¬

_ (¬1) مسلم: الصحيح: كتاب المساقاة: "باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس ... " حد. 22، 23، 2524، الأبى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: زيادة الواو فيصير النص: [و] لأجل.

هذا تحقيق القول فيما ورد من الآثار والإشارة إلى ما يقبل منها وما لا يقبل على اختلاف أهل الأصول. وأما القدح فيها فقدل بعضهم إن الذي رواه مالك في الموطإ من قوله عقيب ذكر الفلس ((وإن مات الذي ابتاعه فالبائع أسوة الغرماء)) ليس من كلام النبيِّ عليه الصلاة والسلام وإنما هو رأي وهو مذهب أبي بكر بن عبد الرحمن الراوي عطفه على ما رواه عن النبيَّ عليه الصلاة والسلام في المفلس. وهذا طعن لا ينبغي التشاغل به لأن الراوي إذا قال: قال النبيِّ عليه الصلاة والسلام، وأورد جملًا عطف بعضها على بعض فإن جميعها يحمل على أنه من كلام النبيِّ عليه الصلاة والسلام. ولو توقف عن بعض الجمل لأجل تجويز كون الواو للاستئناف أو حرف العطف وأنه من كلام الراوي لبطل أكثر أحكام الشريعة المأخوذة من السنن. وتعويل هؤلاء على ذكر الموت عقيب ذكر الفلس ساقط في أكثر الروايات لا تلتفت إليه أيضًا، لكون الزيادة من الراوي العدل تقبل على الأصح من مذاهب أهل الأصول. فلو كان القدح من هذه الجملة لكان راجعًا لما قدمناه من كون القوادح الأُوَلِ المختلف فيها. وأما حمل ذلك على أنه فتوى من الراوي خلطها بكلام النبي عليه الصلاة والسلام، فإن هذا لا ينبغي أيضًا أن يضاف إلى الأئمة الرواة العدول لأن فيه تدليسًا وتلبيسًا في أحكام الشرع، وتغريرًا بمن يأخذ بالحديث المروي، ولا يستحيل (¬1) خلافه كما يستحيل (1) مخالفة مذهب الراوي، وقد يرى نفسه أفقه منه، وهذا مما لا ينبغي التشاغل به، وإن كان الشافعي من كبار الأئمة طرق إلى هذا الحديث الاحتمال من هذه الجهة لجواز أن يكون من كلام الراوي. وحاول أبو حامد الإسفرايني تصحيح هذا الذي أشار إليه الشافعي بأن قال: أظن أني رأيت في بعض الروايات: قال أبو بكر: فإن مَات فهو أسوة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

للغرماء. وهذا أيضًا ظن من أبي حامد أنه رأى ما ذكر، ولا يثبت بالظن خبر، مع أنه أيضًا لم يذكر أن هذا الظن بأنه رأى هذه الزيادة منسوبة إلى ثقة سماه، وهذا مما لا يقدح به فيما قدمناه من وجوب حمل الرواة عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام أنه قال كذا وكذا على أنه قول النبيِّ عليه الصلاة والسلام بأسره لا على أن بعضه من كلامهم، وبعضه من كلام النبيِّ عليه الصلاة والسلام. فإذا تحقق لديك ما عرضناه عليك من هذه الأحاديث والقوادح فيها، والانفصال عن القوادح، فالإنصاف يقتضي أن قول أبي حنيفة: أن من له الدين أسوة مع الغرماء في الفلس والموت هو القياس، ولولا الأحاديث التي رويناها لم تحسن مخالفته، لكن الرجل يذكر عنه أنه كان يقدم الأقيسة على خبر الواحد، فيمكن أن يكون صار إلى ما ذهب إليه من جهة القياس ألا يختص هذا الغريم بسلعته لأجل أن ملكه قد زال عنها زوالًا محققًا متيقنًا، فصارت سلعة هذا الغريم كغيرها من السلع المأخوذة عند المفلس وفي تركة الميت. فكما لا يختص بغيرها من سلع المفلس أو الميت بل ذلك يتساوى فيه الغرماء، فكذلك في سلعته لكونها ساوت سائر أملاكه. وأيضًا فإن من باع سلعة بثمن في ذمة المشتري تعلق له حقان في الثمن: حق في كونه في ذمة المشتري، وحق في حبس السلعة حتى يأخذ ثمنها. فإذا أسقط أحد الحقين وهو حبس السلعة حتى يأخذ ثمنها وسلمها لمشتريها فليس له أن يرجع في هذا الحق، ويسترد السلعة إلى ملكه، ويفسخ العقد فيها حتى يعطى ثمنها. ألا ترى أن من باع سلعة وأخذ بالثمن رهنا، ثم سلم الرهن لراهنه، فإنه يبطل حقه فيه ولا يمكن من ارتجاعه عند فلس أو موت ويساوي الغرماء في ثمن هذا الرهن. فكذلك السلعة المبيعة إذا كان من حق البائع أن يحبسها بالثمن فسلّم حقه في ذلك وأسقطه، لم يمكّن من الرجوع في هذا الحقال في أسقط، وبقي الحق الآخر، وهو كون الثمن في الذمة، وهذا الحق استوفى (¬1) فيه هو وسائر الغرماء. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استوى.

لكن أصحابنا وأصحاب الشافعي يقولون: إن البائع، وإن أسقط حقه في حبس السلعة، فإنا لم أقل (¬1): إنه أحق بها في الفلس من جهة أن له الرجوع عما أسقط، لكن من جهة أن عين المبيع قائمة، وما سواه من الغرماء قد فات ما باعوه، فيترجح عليهم يكون عين ما باعه قائمة، فلأجل هذا الترجيح قلنا: إنه أحق بعين سلعته. وأما الرّهن فإنه لم يسبق له عليه ملك، ولا استحق عينه، فإذا أسقط حقه في كونه رهنًا لم يبق له بعد ذلك ما يترجح به في هذا الرهن على غيره من الغرماء. وقابل أصحابنا وأصحاب الشافعي هذا القياس بأن قالوا: إن السيد إذا كاتب عبده فقد انتقل حق في عين العبد إلى معاوضة في ذمة العبد، فإذا عجز المكاتب عن الأداء رجع السيد في العين التي باعها منه، وهي رقبة (¬2)، فالمكاتب كثمن السلعة وعجْز المكاتب عن الأداء كفلس المشترى وعجزه عن الثمن. وهذا، عندي، لهم أن يقولوا فيه بأن السيد لم ينتقل ملكه عن العبد لأجل الكتابة، ألا تراه من حقه أن يمنعه من السلف وإتلاف ماله وفعل ما يعيب رقبة؟ (2) وهذا يشعر بأن ملكه لم ينتقل عنه، ومشتري السلعة له أن يبيعها ويتصرف فيها كما يتصرف في سائر ملكه، فلهذا لا يكون للبائع أن ينقض هذا الملك المستقر. فإن كان هذا الرجل قدم القياس على الخبر الذي ذكرناه فهذا الجواب عنه، مع أنّا ننقل المسألة إلى ما أمليناه في أصول الفقه من كون الخبر يجب أن يقدم على القياس، فهذا طريقةٌ في الاعتذار عنه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نَقُلْ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: رقبته.

والطريقة الثانية رد الخبر من جهة احتمالٍ فيه لا من جهة تقدمة قياسٍ عليه، وذلك أن أصحاب أبي حنيفة يقولون (¬1): عليه السلام: "فصاحب المتاع أولى بمتاعه إذا وجده بعينه" محمول على أن المتاع كان وديعة عند هذا المفلس، أو عارية، أو غصب لمالكه، فإذا احتمل هذا، وأمكن أن يراد بالحديث، لم تكن فيه حجة على أن بائع السلعة أحق بعينها إذا فلس المشتري، لأن الوديعة والعارية ملك صاحبها لم ينتقل عنها، والسلعة المبيعة قد انتقل ملكه عنها. ويرجحون تأويلهم هذا بأنه قال: "فوجد متاعه بعينه" فهذه الإضافة أنها لا (¬2) تكون إضافة على الحقيقة لا على المجاز إذا كان المراد بالحديث متاعه الذي أودعه أو أعاره لأن ذلك متاع المودع والمعير، ولا يقال: إنه متاع المودَع والمستعير، والكلام يجب حمله على الحقائق. ولنا عنه أربعة أجوبة: أحدها: أنا ذكرنا أن في بعض طرق هذا الحديث "فوجد البائع متاعه" وهذا كالنص الذي يبطل تأويلهم. فإن قالوا: معنى البائع ها هنا المساوم الذي لم يقبل البيع، وهو يسمى بائعًا على المجاز، فلا يُنْكرَ حمْل هذا اللفظ على المجاز كما حملتم أنتم قوله "متاعه" على المجاز، وأن معناه الذي كان متاعًا لمن باعه، لأن تجارهم لا يثمر فائدة لِما استقر من علم عند كل أحد أن من ساوم سلعة ولم ينفذ فيها بيعًا فإنه أحق بهالأوليس للمشتري المساوم فيها حق بإجماع، كما أيضًا أن هذا أحد الأجوبة عن قولهم المراد بقوله: "متاعه" أودعه أو أعاره؛ لأنه لا يخفى عن عاقل أن من أودع وديعة أو أعار عارية أحق بوديعته من غرماء المودَع عنده، وحمل كلام النبي عليه الصلاة والسلام على ما لا يفيد والعدول عما يفيد لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب زيادة) قولُه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف: لا.

يذهب إليه أحد، بل الناس يحاشون الأئمة إذا سمعوا كلامهم أو رأوه في دواوينهم من حمله على ما لا يفيد، فكيف النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما بعث ليبيّن للناس ما نزل إليهم، وقال تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} (¬1) والمراد به ما كان أرضًا لهم وديارًا، لأن هذا يستعمل كثيرًا مشتهرًا. والجواب عن السؤال الثاني: أن الحديث مقيد بالإفلاس وقال: "إذا أفلس الرجل". ومعلوم أن الوديعة والعارية صاحبها أحق بها، سواء من فلس وهي عنده أو كان غنيًا، فلو أراد الوديعة لقال: من أودع شيئًا فهو أحق به، ولم يكن للتقييد بالإفلاس معنى. والجواب عن السؤال الثالث أنه قال: ((فوجده بعينه)). والوديعة يأخذها صاحبها وجدها بعينها أو تغيرت. والفلس سنتكلم على حكم وجود ما باع وقد تغيرت. والجواب عن السؤال الرابع: أنه قال: ((فهو أحق بها)) ولفظة "أحق" إنما تستعمل في مفاضلة بين صنفين موجودة في اثنين كقولنا: فلان أفقه من فلان. بمعنى أن فلانًا له فقه أكثر من فقه فلان الآخر وإن استعمل بمعنى السَّلْبِ، كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (¬2). وإن كان أهل النار ليس لهم مستقر ولا مقيل حسن وكما يقال: العسل أحلى من النحل، وإن كان النحل لا حلاوة فيه، فإن هذه إنما تستعمل نادرًا على جهة التجوز. ومما اعتمد في الرد على أبي حنيفة من جهة القياس بعض الحذاق أن الثمن والمثمر شيئان في كون أحدهما عوض الآخر لا فرق بينهما في ذلك. ولو ¬

_ (¬1) سورة الأحزاب، الآية: 27. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 24.

أسلم رجل لآخر ثوبًا في طعام، فحلَّ الأجل، وعجز المسلم إليه عن قضاء ما عليه من الطعام وفلس، لكان من حق بائع الثوب أن يسترده، ويفسخ البيع فيه. فإذا كان فيه: تعذر استيفاء المثمون يوجب للمشتري حقًا في الفسخ، فكذلك يجب أن يكون تعذر استيفاء الثمن يوجب للبائع حقًا، وفسخَ العقد، واسترجاعَ سلعته. وقد ألزم بعض العلماء في السكة إذا انقطعت، أو الفلوس إذا فسدت، وكانت ثمنًا، فإن لبائع السلعة فسخَ العقد لتعذر استيفاء الثمن. وإن كان بعض حذاق الشافعية مال عن هذا ولم يرضه، لكون الأثمان، التي هي الدراهم والدنانير، وإن لم توجد في بلد وجدت في آخر، ولو انقطعت في سائر البلاد على بعد في تصوير هذا فإنها لا عوض في عين هذا إنما العوض منها المالية لا الجنسية، وإنما تذكر في البياعات ليعلم ما تقع المطالبة فيه، والسلع، وإن كانت هي مالية، فالجنسية مقصودة فيها، فلهذا فسخ العقد ((والفلس، ولو نوقض)) (¬1) أبو حنيفة بكونه يرى أن من باع سلعة ولم يسلمها حتى فلس المشتري، فإن بائعها أحق بالاختصاص بها من سائر الغرماء، على اختلاف عندهم: هل يكون أحق بعينها ولو تسلمها المشتري أو تباع ويكون أحق بثمنها؟. وهذا قول يناقض به لكون بقاء السلعة في يده يقتضي ترجيحه وكأنها رهن في يده بالثمن فهذا غاية فيما بيننا وبين أبي حنيفة. وأما ما بيننا وبين الشافعي من الخلاف، فإنا اتفقنا وإياه على أن البائع أحق بسلعته في الفلس دون الموت. وذهب هو إلى أنه أحق بسلعته في الوجهين جميعًا: الفلس والموت. واعلم أيضًا أن سبب هذا الاختلاف اختلاف الروايات عن أبي هريرة، وقد قدمناها. ومما ذكرناه فيها رواية مالك في الموطأ الحديث عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن من قول النبي عليه السلام: "إن البائع أحق بسلعته في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في الفلس، وقد نوقض.

الفلس وهو أسوة في الموت". والشافعي أجاب بنفسه عن هذا بأنه حديث مرسل، وهو لا يقول بالمراسيل. فإن شئنا حاججناه في الأصل الذي خالف فيه، ونصرنا القول بقبول المراسيل من الثقاة، على أصل أصحابنا. وإن شِئْنا منعناه من كون الحديث مرسلًا، وقلنا: قد قدمنا أن عبد الرزاق أسنده إلى أبي هريرة عن النبي عليه السلام. وعبد الرزاق ثقة رواه عن مالك مسندًا. وقدح الشافعي، أيضًا، في الحديث من غير جهة الإرسال، بأن قال: قوله: "وإن مات فهو أسوة الغرماء" يحتمل أن يكون استئناف جملة قالها أبو بكر بن عبد الرحمن حكايته عن مذهبه وذكرنا أن هذا تطرق إلى هدم أصول عظيمة حتى تتعطل أكثر الأحاديث. وأما الشافعي فإنه تعلق بحديث روي عن أبي بريد عن ابن أبي ذئب عن المعتمر عن أبي خلدة عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر حديثًا ساوى فيه بين الفلس والموت، فقال: "إذا فلس المشتري أو مات فصاحب المتاع أحق بمتاعه" (¬1). وهذا أيضًا طعن فيه أصحابنا يكون ابن أبي ذئب انفرد بروايته دون غيره من الأئمة الذين رووا الحديث، والإنفراد يوهن النقل عند المحدثين. ولكن لهم أيضًا أن يقولوا في رواية عبد الرزاق المسند لحديث الموطأ عن أبي بكر عن أبي هريرة أن عبد الرزاق انفرد بإسناده دون غيره من الأئمة الذين رووا الحديث عن مالك وسمعوا منه موطأه ولكن إذا سلكنا طريق الترجيح فرواية مالك مقدمة على رواية غيره، لأنه اشتهر القول من الأئمة: إن ما بعد كتاب الله أصح من ¬

_ (¬1) هكذا الحديث بسنده ومتنه، ونصه في كتاب معرفة السنن والآثار للبيهقي: ((أنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب ثنى أبو المعتمر عن ابن خلَدْة الزرقي أنه قال: جئنا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس، فقال الذي قضى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيّما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه" انظر: معرفة السنن والآثار: 4/ 450 وما بعدها.

الموطأ، وهو إمام في الحديث، وروى عنه الشافعي الأحاديث واعتمد عليها. وأما طريق النظر فإن الشافعي يقول: "فإنا اتفقنا على أن البائع أحق بسلعته في الفلس، ولا فرق بين الفلس والموت، فيجب أن يكون أحق بسلعته أيضًا في الموت، ومن (¬1) ورث السلعة عنه (أعظم أبيه أن يحل محله ويستحق ما يستحق) (¬2)، فإن كان المشتري حيًا وحكمنا لبائع السلعة إذا فلس المشتري (¬3) أحق بها، فكذلك يجب أن يكون أحق بها إذا مات وتركها، لأن ورثته يحلون محله وحقهم في المال على حقه. وهذا القياس يعتمدون عليه، ويرون أن علة كون البائع أحق بسلعته في الفلس ما طرأ على ذمة المشتري من عيب وهو خراب الذمة وفقدها، وهذه العلة بعينها موجودة في موت المشتري. وأصحابنا يجيبون عن هذا بأن تغليب أحد الضررين أصل في العلم عظيم، فإذا قضينا يكون البائع في فلس المشتري أحق بسلعته، فقد أبقينا لمن سواه من الغرماء ذمة يرجعون إليها، وتُرْجَى عمارتها في المستقبل، وملاؤها، ولا يلحقهم ضرر كثير، ويلحق البائع إن منع من سلعته ضرر أشدّ من ضررهم. وهذا قد عكسه القوم علينا فقالوا: إذا كان الغرماء -وهم جماعة- لا يشاركون البائع في سلعته في الموت، وهم سواء (من أن يقضى من ديونهم شيء بذلك آكد) (¬4) في أن لا يقدم عليهم بائع السلعة لعظم ما يلحقهم من الضرر من كونهم لا يرجون قضاء ديونهم في المستقبل، ويرجون ذلك إذا كان المفلس حيًا. وهذا لعمري يضعف الانفصال عن هذا الانعكاس، كما أن قول أصحابنا: إن السلعة إذا كان بائعها أحق بها في الفلس إذا بقيت على ملكه فلو تعلق بها ¬

_ (¬1) في مد: وقد. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: [بأنه]. (¬4) ما بين القوسين، هكذا في النسختين، والأقرب: في أن ......... فتأكّد.

حق للغير فإن بيعها من حر (¬1) أسقط باتفاق تعلق حق البائع بها، ولكن له استرجاعها، فكذلك الوارث وقد تعلق له حق بالسلعة وانتقل الملك إليه، فيكون ذلك مانعًا للبائع من أخذ سلعته. وهذا قياس مطلوب لأن الوارث انتقلت السلعة إليه بغير عوض بذله فيها بخلاف مشتريها بعوض. هذا أيضًا وقد لا يسلم انتقال الملك إلى الوارث إذا كانت التركة أحاطت بها الديون، لقوله تعالى في أحكام الميراث وبيان تفاصيله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬2). فإنما حكم البنت بالنصف، ولكل واحد من الأبوين السدس بعد قضاء الدين والوصية. فجعل تمليكهم لما ترك الميت مشروطًا بعدم ديون تستغرق التركة فالأولى عندي الاعتماد على رواية مالك في الموطأ وترجيح نقله عن نقل غيره وأما الأقيسة فلا تكاد تسلم لنا من القوادح. واعلم أيضًا أن بائع السلعة إنما يكون (¬3) بها إذا لم يكن في يد المشتري ما يوفي ثمنها، ويجتمع الديون عليه كما قدمناه في وصف من يفلس ومن لا يفلس وأما الموت فنحن نقول: إنه لا يكون أحق بسلعته وأصحاب الشافعي يقولون: إنه أحق بسلعته. ولكن يشترطون أن يكون الميت لم يخلف وفاءً لما عليه من الديون. لكن الاصطخري انفرد من جماعتهم وذهب إلى أنه يكون أحق بسلعته في الموت، وإن خلف الميت ما يقضى منه ثمنها وما عليه من الديون، تعلقًا منه بقوله عليه السلام: "إذا أفلس أو مات فهو أحق بمتاعه" الحديث المتقدم. فتعلق بعموم قوله: "أو مات" ولم يشترط - صلى الله عليه وسلم - أن يموت وعنده وفاء بما عليه أو ليس ذلك عنده. وقال بعض أصحاب الشافعي إن في طرق الحديث اشتراط ألَّا يخلف وفاء، فقال: هو أحق بسلعته ما لم يخلف وفاء. وأيضًا فإن كونه أحق بالسلعة معلوم أن علته خراب الذمة وما طرأ عليها من عيب نقص به البائع من ثمن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أحد. (¬2) سورة النساء، الآية: 11. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يكون [أحق] بها.

سلعته، فإذا كان يجد ثمنها بكماله فلا معنى ولا وجه يستحق به استرجاعها، كما لو كان المشتري حيًّا وقضاه ثمنها بكماله. واعتل الاصطخري بأنه إذا مُنع من سلعته فأُعطِي ثمنها فقد يطرأ غرماء آخرون ولم يعلم به (¬1) فيطلبونه باسترجاع بعض الثمن الذي قبَض بحسب ما توجبه المحاصة. كما لو طرأ غريم لم يُعلم به على غرماء فإنه يرجع عليهم بما يوجبه الحصاص معهم. وهذا أيضًا من المجوَّزات التي يندر وقوعها، ولم يلتفت الشرع إلى مثلها، ولو التفت إليه لوجب أيضًا أن يحرم الولد ميراث أبيه لجواز أن يطرأ دين عليه يمنعه الميراث وهذا لا يصح أن يذهب إليه أحد. ومما ينبني على ما نحن فيه مسألة خلاف بيننا وبين الشافعي فإنا نقول في المفلس إذا طلب أحد غرمائه أخذ سلعته بعينها، فقال الورثة أو الغرماء. نحن ندفع إليك الثمن بكماله ودعها. فإن من حقهم ذلك ويمنع البائع من ارتجاع عين سلعته؛ لأنا قدمنا أن علة كونه أحق بسلعته خراب الذمة، وما يطرأ عليه من نقض الثمن الذي باع به، وأخرج سلعته من يده على شريطة أن يوفى له به، فإذا مكن من الثمن على كماله ارتفعت العلة التي من أجلها كان أحق بذلك يزال (¬2) عنه الضرورة (2)، وانتفع الغرماء بتكثير ما يأخذون من ديونهم لجواز أن يكون في السلعة ربح فإن قضوا البائع الثمن بقي لهم الريح فتوفرت به ديونهم وانتقص عن المشتري بعض ما عليه من الديون. وقال الشافعي: لا يمكن الغرماء ولا الورثة من ذلك بل البائع أحق بسلعته ولو دفع إليه الغرماء أو الورثة جميع الثمن، تعلقًا بقوله عليه السلام: "فهو أحق بمتاعه" وهو محمول على عمومه ثم أيضًا يقول البائع: لا يلزمني قبول هذه المنة والهبة كما أني لو وهب لي أحد هبة فلم نقبلها فإني لا أجبر على قبولها، وكذلك لو تبرع إنسان بقضاء دين عن إنسان لم يجبر طالب الدين على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بهم. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فزال - الضرر.

قبوله من غير من هو عليه عند الشافعي. وهكذا يقولون لو قامت الزوجة طالبة للطلاق لعدم النفقة فتبرع رجل بإجراء النفقة عن الزوج، فإنه لا يلزم المرأة قبول ذلك. وأيضًا بأن قد يطرأ غريم لم يعلموا به فيحاص هذا البائعَ في الثمن الذي أخذ على حسب ما قلناه. ونحن لا نسلم له عموم هذا الحديث، ولا قوله: لا يجبر طالب دين على أخذه ممن يتبرع به وتطوع بقضائه عمّن هو عليه، إذا قصد بذلك التخفيف عمّن عليه الدين، ولم يقصد هبة من له الدين، على ما سنبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما قوله: فإنه يترقب ضرر البائع بأن يطرأ غريم فيحاص فيما أخذ من الثمن، فإنا لا نسلم له ذلك، ولا نجعل لهذا الغريم الطارئ مرجعًا على هذا البائع، لكونه أحق بسلعته، فكأنه إذا أُعِطي ثمنها كمبتدي بيعها بعد التفليس برضى الغرماء، فقد سلم عوضًا عن الثمن الذي أخذ فلا يشاركه فيه أحد. فإن تقرر أن مذهبنا على الجملة إسقاط حق البائع فالظاهر من المذهب أن ذلك يسقط حقه في عين السلعة التي باعها من المفلس على الإطلاق، خلاف قول الشافعي: إن ذلك لا يسقط حقه. وقيل: إنما يسقط حقه في عين هذه السلعة إذا بذل له الغرماء ثمنها، إذا كان بذلهم إياه من مال غيرهم، وأما إن كان من مال أنفسهم كان ذلك لا يسقط حق البائع في عين سلعته ولا يجبر على قبول ذلك منهم. وإلى هذا ذهب ابن كنانة. وقيل أيضًا: لا يسقط حق البائع في عين سلعته ولو بذل الغرماء الثمن من مال الغريم، إلاَّ بأن يتلزموا زيادة على الثمن الذي باعها به بائعها ولو درهم واحد، فيعطون ذلك من ديونهم التي على الغريم. فكأن من مكنهم من إسقاط حق البائع في عين سلعته إذا بذلوا الثمن ولو كان ذلك من أموالهم، وهو اختيار ابن الماجشون، أن البائع إنما جعل الشرع له حقًا في عين السلعة لأجل ما يلحقه من الضرر من انتقاص الثمن الذي باع به، فإذا وصل إليه على الكمال

لم يكن له في عين السلعة مقال. وهذا التعليل يستوى فيه كون المال الذي بذلوا للبائع من مال غريمهم أو من مال أنفسهم، لا سيما على أصل مذهبنا الذي قدمنا فيمن تبرع بقضاء دين عن رجل، فإن صاحب الدين يجبر على أخذه منه سواء كان من يتبرع بقضائه فعل ذلك بأمر من عليه الدين أو بغير أمره. وكأن ابن كنانة رأى بذل الثمن إذا كان من مال أنفسهم صاروا كالمسقطين حقه في عين سلعته (¬1) ملكها (1) الشرع إياها وليس ذلك من حقهم، كما ليس من حق رجل أن يشتري سلعة رجل بغير اختياره. فإذا كان البدل من مال غريمهم، فإنهم قدموا هذا الغريم الذي هو البائع بأن يستوفي دينه من مال غريمه الذي باع السلعة منه ويبقون هم على مطالبة الغريم مما لهم في ذمته أيسر، وتصير، زيادة على ما ينوب هذا البائع في الحصاص، تفضيلًا لهذا الغريم على أنفسهم، وذلك لا يمنعون منه. وكان أشهب رأى في المبيح لهم ذلك منفعة ترجع إلى الغريم متيقنة له في الحال، ولا يحصل ذلك إلا بأن يزيدوا على الثمن بزيادة يسقطونها من دينهم على الغريم، وتبرأ ذمته منها الآن. وأما منفعة الغريم فلا يتحقق الآن حصولها، مثل أن يرجى في السلعة إذا أخروها وباعوها زيادةٌ في الثمن، فإن في ذلك تجويز أن يخسر فيها أو تهلك عينها فيعود ذلك إضرارًا بالغريم، لا سيما على أصل من قال: إن النماء في هذه السلعة التي افتكوها من بائعها من غريمهم مستحقة للغريم إن كان ربحًا أو مستحقة عليه إن كانت خسارة. وإلى هذا ذهب أشهب فقال: لا يجبر بائع السلعة على إسقاط حقه في عين سلعته إلا بأن يزيد الغرماء زيادة على الثمن يحطونها من ديونهم على الغريم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سلعةٍ ملَّكَهُ ...

قال: ويكون النّماء والتَّوى عليهم. وأما ابن القاسم فإنه ذهب إلى أن الربح والنماء للغريم والخسارة عليهم. وذهب ابن الماجشون إلى أن الربح والنماء للغريم والخسارة على الغرماء. فتلخص من هذا أن تمكين الغرماء من أخذ السلعة بدفع ثمنها لبائعها على الكم الذيه ثلاثة أقو الذي المذهب: أحدها: تمكينهم من ذلك على الإطلاق. والثاني: تمكينهم بشرط أن يكون البدل من غريمهم لا من مال أنفسهم. والثالث: أن يكون البدل بشرط زيادة على الثمن يحطون مقدار ذلك عن الغريم من ديونهم. وكذلك في الخسارة في هذه السلعة والربح ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك من الغريم. والثاني: أنه من الغرماء. والثالث: أن الربح للغريم والخسارة على الغرماء. فكأن ابن القاسم الذي ذهب إلى أن الربح والخسارة على الغريم، يقول: قد كان ضمانها من الغريم من حين شرائه لها إلى أن قام الغرماء عليه، فإذا بذلوا الثمن رجاء ربح يزيد في مال غريمهم لم يمنعوا من ذلك لأن فيه منفعة للغريم ولهم. وكأن من يقول: ضمانها منهم، يرى أن في هذا إضرارًا بالغريم لأن السلعة إذا أخذها بائعها برىء الغريم من خسارتها وهلاك عينها، فإذا أراد الغرماء أن يمنعوا بائعها من أخذها الذي فيه براءة مشتريها ألحقوا بمشتريها، وهو غريمهم، ضررًا في ذلك. وكأن ابن الماجشون يرى أن الربح إذا حصل وقضي به للغريم لأجل أنهم أخذوها لمنفعة، فإن كان فيها ربح كشف الغيب أمْن مشتريها من الضرر، وإن

كان فيها خسارة كشف الغيب أن ذلك إضرارٌ بالغريم فلا يمكنون منه. ومال بعض الأشياخ إلى مذهب ابن القاسم، لأجل ما اعتللنا من كونهم لم يدخلوا عليه ضمان أمر لم يكن لازمًا بل أنفوا (¬1) الضمان على ما كان عليه وأدخلوه في منفعة يرجونها. ولو كان هذا البائع لهذه السلعة يستحق قِبَل مشتريها دينًا آخر من ثمن سلعة باعها منه وأتلفها مشتريها فينتزع الغرماء بأن يفدوا منه هذه السلعة التي باع وهي باقية بعينها في يد مشتريها فإنها إذا بيعت بربح وزيادة على الثمن الذي فدوها به من هذا البائع الذي استحق عينها فإنه يضرب معهم بثمن السلعة الفائتة في جميع ما بيد الغريم سوى هذه السلعة خاصة، فإن دخول هذا البائع، الذي استحق عينها وفدوها منه بثمنها الذي باعها به، مع سائر الغرماء في ثمنها الذي بيعت به، فيه اختلاف، ولكن مقدار ما يفدونها به، وما حصل لهم فيها من ربح، فلا يختلف في أن هذا البائع الذي فديت السلعة منه يضرب معهم في ربح سلعته هذه التي فدوها منه، وفيما سواها من مال الغريم بالدين الذي له في ذمة الغريم، وهو السلعة التي فاتت ولم توجد عينها. هذا رأي (¬2) بعض الأشياخ المتأخرين أن المذهب على قولين. والذي وقع من الرواية في هذه ما ذكره ابن المواز عن مالك وابن القاسم من قولهما: ويضرب صاحب السلعة الفائتة في ثمن هذه السلعة التي فُدِيَتْ منه مع سائر الغرماء. ولكن ابن المواز أتبع هذا النقل عن مالك وابن القاسم بأن المراد بما قالاه أن البائع الذي فديت هذه السلعة منه يضرب في ربح هذه السلعة التي فديت منه بالدين الذي له على الغريم، ولم يرد أنه يضرب في جميع ثمنها كله. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبقوا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هكذا رأى.

وهكذا صرح أصبغ عن نفسه بأن الغرماء يكونون أحق بها (¬1) وزنوا من فدائها في الذي باعوها به. وإنما يضرب بائع السلعة الذي فديت منه في ربحها وفيما سوى ذلك من مال الغريم. فكأن ابن المواز أشار إلى أن إطلاق مالك وابن القاسم المراد به ما قال أصبغ. وكان بعض الأشياخ أبقى الكلام على ظاهره وأجراه على حقيقته، لأن قوله: يضرب في ثمنها، لا يصرف إلى الربح الذي حصل فيها إلا عن تجوز وتعسّف في الكلام. وأكد هذا عن بعض الأشياخ أن ابن القاسم وأشهب اختلفا فيمن وكل رجلًا على أن يشتري له سلعة ويسلفه ثمنها، ففعل الوكيل، ثم أراد حبسها حتى يأخذ من الذي وكله ثمنها الذي أسلفه. فإن ابن القاسم لم يمكنه من ذلك، ولا جعله من حقه، ورأى أن السلع إنما تحبس بأن ترهن في دينٍ، (¬2) الموكِّل لم يقصد جعلها في يد الوكيل هنا بما أسلفه من ثمنها، ولا الوكيل هو بائعها فيكون من حقه أن يحبسها حتى يأخذ ثمنها. وكأن أشهب رأى أن يد الوكيل كيد الموكل، ولو باشر الموكل الشراء لكان من حق بائع السلعة أن يمسكها حتى يدفع إليه ثمنها، والوكيل الذي اشتراها يحل محل بائعها، فكان من حقه أيضًا أن يحبسها حتى يأخذ ثمنها. فكذلك هذه المسألة لما استحق بائعها عينها، وفاداها منه الغرماء بثمنها، ينبغي أن يختلف فيهم: هل يستحقون من ثمنها مقدار ما فدوها به ويحلون في ذلك محل البائع الذي فدوها منه؛ فكان من حقه أن يأخذ عينها ويبطل حق سائر الغرماء فيها، ولا يكون (¬3) يحلون محل البائع الذي استحق عينها وفدوها منه، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بما. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة واو العطف فيصير: [و] الموكَّل. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف يكون.

ويصير كمن أسلف الغريم مالًا فلا يستبدون بثمن (¬1) من ماله دون غيرهم من الغرماء، كمن لم يسلفه. وعندي أنّا إذا قلنا: إن الضمان منه والربح لهم، كما حكيناه عن أشهب، وجب أن يكونوا أحق (من ثمنها) (¬2) بما فدوها به، وتتنزل منزلة سلعة اشتروها فلا يشاركهم فيها غيرهم ممن لم يشترها. وإذا قيل: إن الضمان من الغريم والربح له والخسارة عليه، فقد يتصور ها هنا ألاّ يكونوا أحق بثمنها الذي فدوها به، وكأنها تباع على ملك غريمه. وقد اختلف المذهب على قولين فيمن له دين على رجل فأحاله بدينه على غريم له باع منه سلعة، ففلس مشتري السلعة المحال عليه. فقيل: يكون المحال أحق بعين السلعة المبيعة من المفلس الذي أحيل عليه بثمنها، لأن المحال إنما يطلب ثمنها كالنائب عمن أحاله بمالَهُ عليه من دين، فلما كان المحيل الذي باعها لو لم يُحِل بثمنها أحدًا، ففلس مشتريها منه، فإنه يكون أحق بعينها من سائر غرماء المفلس، فكذلك من صار إليه من ثمنها من جهته وهو المحيل الذي أحيل على ثمنها. وهذا اختيار ابن المواز. وقال أصبغ: لا يكون هذا المحال أحق بعين السلعة، ولا يحل محل بائعها الذي أحاله في استحقاق عينها عند المفلس، وهذا يلاحظ ما حكيناه عن بعض الأشياخ من إجراء ما قد بنيناه على مسألة الوكيل: هل له أن يحبس ما اشتراه عن موكله أم لا؟ ولكن هذه المسألة ترتبط بأصل آخر، وذلك أنه اختلف عندنا في الحوالة: هل ناحيتها ناحية البيع أو ناحية المعروف، على ما يرد في كتاب الحوالة إن شاء الله تعالى. فلو أن من له ثمن هذه السلعة باع ثمنها الذي هو له على مشتريها بما يجوز بيعه، ففلس مشتريها، لم يكن أحق بثمن السلعة المبيعة؛ لأنه إنما وصل إلى ملك ثمنها في ذمّة مشتريها بمعاوضة، فليس هو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بشيء. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بثمنها.

كالنائب عمّن أحاله. ولو تصدق بائعها بثمنها على رجل (فليس) (¬1) مشتريها فإن المتصدق عليه أحق بعينها، لأن الصدقة معروف والمتصدق أحاله محل نفسه. فإذا قلنا: إن الحوالة كالبيع لم يكن المحال أحق بعين السلعة. (وإن قلنا: طريقها المعروف (¬2) فكان أحق بعين السلعة) (¬3)، كما بيناه من أن مشتري هذا لا يكون أحق بعين السلعة لأجل ما قدمناه. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد تقرر أن مشتري السلعة إذا فلس، وكانت قائمة بيد مشتريها، إن ربها الذي باعها أولى بعينها من غيره من الغرماء. فإن أخرجها من يده ببيع بتل لا خيار فيه فقد سقط حق بائعها في استحقاق عينها لما فلس مشتريها، لكون المفلس الذي اشتراها باعها وهو يملك التصرف فيها قبل أن يفلس، فلا يصح أن يرد عقد مشتريها فيها لأمر حدث بعد العقد وهو التفليس. هذا إذا أزال مشتري السلعة ملكه عنها، فإن لم يزِلْه ولكنْ علق به لغيره حقًّا في عينها، مثل أن يكون اشترى عبدًا فرهنه عند غيره، ثم فلس، فإن الذي في يده هذه السلعة رهنًا أوْلَى بها من بائعها ومن غيره من غرمائه، لأجل ما ذكرناه من كونه تصرف فيها بالارتهان تصرفًا كان من حقه، فلا يُبطل ذلك ما حدث بعده من الحجر عليه. لكن لغرمائه أن يدفعوا ثمن هذه السلعة المرتهنة لبائعها حتى يسقط حقه في عينها على ما قدمناه من كون الغرماء إذا بذلوا ثمن سلعة اشتراها المفلس سقط حق بائعها في أخذ عينها، وقد تقدم ذلك، وذكْرُ مخالفة الشافعي فيه، واختلاف أصحابنا. فإذا دفعوا له الثمن بكماله وسقط حقه، حلّوا محلّ مشتريها الذي أرهنها، فإذا دفعوا أيضًا ما هي فيه رهن لمن هي بيده سقط حقه في كونها رهنًا، إذا كانت رهنًا بما للراهن تعجيله من الحقوق. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وفلّس. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الفاء. (¬3) ما بين القوسين ساقط من المدنية.

وإن لم يبذلوا كان لبائعها أن يفتكها من يد من هي في يده رهنًا، فإذا افتكها استحق عينها، لأنها عادت بعد الفكاك كأنها لم ترهن، وهي سلعة بعينها وجدها في يد المفلس. لكنه من حقه أن يحاصّ غرماء المفلس بما دفعه في فكاكها؛ لأنه صار له ذلك دينًا على المفلس حل فيه محل من كانت رهنًا بيده، أخذ من ثمنها ما هي به عنده رهن، وما فضل من الثمن تحاصّ فيه سائر الغرماء، على ما تقدم بيانه في أحكام الحصاص. وقال الشافعي: إن هذا الرهن إذا كانت فيه فضلة عن دين من بيده الرهن كانت هذه الفضلة للمشتري الذي رهنها يأخذ من سلعته التي كانت رهنًا مقدار ما فضل من دين من هي بيده رهن من عين السلعة المبيعة. ولما كان، عنده، أحق بجميعها إذا لم تكن مرتهنة ووجدت بيد المفلس، فكذلك هو أحق بعين بعضها الذي فضل عمّا بيع في الدين الذي هي به رهن. وسنتكلم على مذهبنا في هذا الأصل إن شاء الله تعالى فيما بعد. فلو كان عبدًا فجنى عند مشتريه، فإن للبائع أن يفتكه من المجني عليه بأرش الجناية، ويستحق عين العبد المبيع لكونه لمّا فداه كأنه لم يجن، وعاد إلى يد مشتريه، فيكون بائعه أحق به، لكنه لا يحاص سائر الغرماء بما فداه به من أرش الجناية، بخلاف ما فداه به من يد مرتهنه لكون هذا العيب طرأ على رقبة العبد. وسنتكلم على تعيين (¬1) العين المبيعة بعيب وغيره. ومما يلحق بما نحن فيه كون مشتري السلعة دفعا (¬2) إلى صباغ يصبغها، فصبغها الصباغ، وهي بيده، ولم يأخذ إجارتها من دافعها إليه حتى فلس، فإن أشهب ذهب إلى أن للبائع أن يفديها من يد الصباغ بالأجرة التي عاقده عليها المشتري لهذه السلعة التي (¬3) فلس، ثم يتحاص غرماء المشتري بما دفعه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تعْييب. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دفَعها. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الذي.

للصباغ، ويستحق (¬1) أخذ سلعته التي باعها وصبغها مشتريها. وحمل على أشهب أن هذا القول منه إشارة إلى كون الصباغ يكون للمفلس أن يشاركه به في السلعة التي اشتراها. وهذا التأويل عليه يبعده ما قدمناه من ذكر الأصل الذي تبنى عليه هذه المسألة وغيرها. فإنا قدمنا أن مذهبه أن من فدى سلعة أو اشتراها فإنه يحل محل من فداها منها (¬2) أو اشتراها، وله إمساكها حتى يقبض ما جعلها (¬3) به من يد من كانت السلعة في يده. فهكذا يجب ألا يحاص بما دفع للصباغ من أجرة بل يكون أولى بما قابل ثمن الصباغ من ثمن هذه السلعة حتى يقبض ما فداها به هذا البائع من يد الصباغ. وقال ابن المواز لا يحاص بائع السلعة غرماء المشتري بما دفع من أجرة الصباغ. واستبعد هذا بعض الأشياخ، وأشار إلى حمله على أن هذا الفداء لا منفعة فيه للمشتري ولا لغرمائه، ولا فائدة لهم فيه ولا ربح، فلا يحاصهم بشيء تطوّعَ به ليست فيه فائدة للغرماء ولا لمن لهم عليه الدين. على أن مقتضى أصله أيضًا ما ذكرناه عن أشهب من أن من فدى شيئًا كان أحق به حتى يأخذ ما فداه به، فلعل ابن المواز أشار بقوله إنه لا يحاص بالأجرة التي دفعها للصباغ، إلى هذا المعنى، وهو أنه يأخذ ما دفع من قيمة الصِّباغ إذا بيعت السلعة، لا سيما على أحد الأقوال التي قدمنا من أن الغرماء إذا دفعوا لبائع السلعة ثمنها كانت الخسارة عليهم دون الغريم، لكونهم إنما يباح لهم فعل ما ينمي ما لهم دون ما ينقصه وينتقصون به من دينهم حتى يرجون (¬4) إلى مطالبته به إذا أيسر. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يستحقون. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فداها. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يرجعون.

ومن هذا الأسلوب ما قيل في شقص من دار بيع وله شفيع يستحق الشفعة، فلم يقم بها، ولا علم باستحقاقه لها حتى فلّس المشتري، فقام البائع طلبًا لهذا الشقص من يد المفلس، لقوله عليه السلام: "إذا وجد البائع متاعه عند المفلس فهو أحق به" (¬1) فقام الشفيع يطلب هذا الشقص لقوله عليه السلام: "الشفعة فيما لم يقسم" (¬2) فتزاحم الحقان في عين هذا الشقص المبيع (¬3) وحق البائع، لأجل تعذر استيفاء الثمن الذي له من المشتري. فمن العلماء من ذهب إلى أن حق الشفيع مقدم في هذا الشقص المبيع لكون حقه المتعلق بهذا الشقص سبق حق البائع لأن الشفعة وجبت له ساعة العقد للبيع في هذا الشقص، فقد كان المشتري (¬4) الذي باعه له فيه التصرف بالمعاوضة وحين تصرف فيه بهذه المعاوضة وجب للشفيع أخذه من يد مشتريه، وفلس المشتري والحجر عليه بعد ثبوت فلسه أمر ثبت ووجب للبائع بعد أن وجب الحق لغيره وهو الشفيع، فلا يبطل حق (¬5) تقدم واستقر وجوبه حدوثُ سبب يوجب حقًا لغير من استحق الأول. وأيضًا، فإنه إذا تزاحم الحقان، ولم يقدّر سبق أحدهما الآخر، رُجّح بينهما فقُدّم أقواهما، وحق الشفيع في استحقاق المبيع آكد من حق البائع المستحق لأجل تفليس المشتري منه، بدليل أن هذا الشقص المبيع لو تداولته الأملاك (¬6) بيع مرة بعد مرة والشفيع لم يعلم لكان للشفيع نقض البياعات وأخذ الشفعة بالبيع الأول (¬7) أخذها بما شاء من البياعات الحادثة بعد البيع الأول. والمشتري إذا باع ثم فلس سقط حق ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) الهداية في تخريج أحاديث البداية 7/ 538. (¬3) هكذا في النسختين، والظاهر أنه سقط منهما: حق الشفيع. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المشترى. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حقًّا. (¬6) هكذا في النسختين، والأوضح إضافة: بأنْ. (¬7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

البائع ولم يقدر باتفاق على نقض بيع المشتري ممن اشترى منه. وهذا يشعر بأن حق الشفيع آكد من حق البائع ولو لم يسبق أحَدُ الحقين الآخر، (وكيف يحق للشفيع وقد سبق؟) (¬1) وهذان ترجيحان يجب لأجلهما أن يكون هذا الشقص الشفيع أولى به من البائع. ومن قال: إن البائع أولى من الشفيع لكون الشفعة وجبت لنفي الضرر، ولا ينبغي أن يُنْفى ضرر عن الشفيع بإثبات ضرر على البائع. وهذا المذهب ضعيف لأجل ما قدمناه مما رجحنا به المذهب الذي ذكرناه. ومن الناس من التفت إلى العدل بين هذين الضررين والموازنة بينهما، بأن يقال: يقضى للشفيع بأخذ عين الشقص المبيع، ويدفع إلى بائع الشقص الثمن الذي يؤخذ من الشفعة، فيُنْفَى الضرر اللاحق بسوء المشاركة عن الشفيع بأخذ عين الشقص المبيع، وينفى عن البائع الضرر بإيصال ثمنه إليه. وإلى هذا ذهب أشهب في كتاب ابن المواز. وهذا لا يصعب النظر فيه على أصل مذهبنا أن البائع إذا وصل إليه جميع ثمنه فإنه لا مقال له في أخذ عين سلعته، على ما كنّا قدمنا من المشهور بين (¬2) مذهبنا. وهاهنا وصل إليه جميع الثمن بكماله، لأن الشفيع يدفع إليه الثمن الذي باعه هو به ممن اشتراه منه. ومن أصلنا أن من تبرع بقضاء دين عن رجل لم يكن لمن له الدين الامتناع من أخذه على ما قدمناه. وإنما يحتاج إلى النظر في هذا على أصل الشافعي القائل بأنه لا يمكّن الغرماء من دفع الثمن إلى بائع السلعة إذا وقع التفليس. فهاهنا اختلفوا على المذاهب التي ذكرناها، وذكروا فيها الثلاثة أوجه. ولكن هذا لو قيل: إن الشفيع إذا دفع الثمن لم يكن البائع أولى به بل يحاص الغرماء فيه. وأما إذا قلنا: إنه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كيف وحق الشفيع قد سَبَقَ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِن.

أوْلى به لأنه ثمن عين سلعته، والغرماء لا حق لهم في عين السلعة، وإنما الحق فيها متردد بين الشفيع (¬1) البائع السلعة، وأن الظن (¬2) يقتضي تمكين الشفيع لكون حقه سبق تفليس المشتري للسلعة. وإذا دفع الثمن كان بائع السلعة أحقَّ به؟، لأنه لولا الشفيع لاستحق عينها دون الغرماء، فإذا قدم الشفيع في أخذ العين، قدم البائع في أخذ عوضها الذي هو ثمن السلعة التي لولا الشفيع لكان أحق بها. وقد قال ابن القاسم في من أصدق عبدين، ففلست المرأة وطلقها الزوج قبل البناء: إنه يرجع شريكًا في العبدين وإنه لما طلق فكأنه استحق نصف العبدين حين دفعهما للزوجة. وللشافعية قولان: لو كان أصدقها شقصًا ففلست فطلقها قبل البناء: هل يكون الشفيع أحق بهذا الشقص، وكأنه وجبت له الشفعة قبل طلاق الزوجة، أو يكون الزوج أحق لكونه لما طلق كان نصف هذا الشقص على ملكه لم يَزَلْ من حين العقد إلى أن طلق. وهذا الأصل مختلف فيه عندنا. وقد اختلف في الغلة هل تكون، إذا وقع الطلاق قبل البناء، للزوجة جميعًا، أو تكون بين الزوجين؟ وينبغي أن يلتفت في هذه المسألة إلى الخلاف في أصل آخر، وهو الأخذ بالشفعة هل يجري مجرى الاستحقاق أو مجرى ابتداء بيع؛ فإن جرى مجرى الاستحقاق وترجح (¬3) في ذلك حق الشفيع. ويلتفت فيها إلى أصل آخر وهو عقد الخيار، فالترقُّبات إذا وقعت هل تقدر من حين إمضائها ورفع الخيار فيها، أو تقدر أنها لم تزل منعقدة قبل إمضاء الخيار؟ فإذا قدر اختيار الشفيع لأخذ الشقص لما علم بوجوب الشفعة له كأنه لم يزل آخذًا له من حين عقد فيه البيع فإن ذلك يترجح به حقه أيضًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: الواو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: النظر. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

وقد اختلف المذهب عندنا على قولين في هذا، وعليه خرجنا مسائل في كتاب البيوع. وعلى هذا اختلف الناس في مشتري السلعة على خيار إذا فلس قبل قطع الخيار: هل للغرماء أن يمنعوه من إمضاء البيع إذا كان ذلك من سوء النظر لهم، أو من فسخه إذا كان من سوء النظر لهم، بناء على أن من قطع الخيار بالإمضاء أو الرد فيه ينفذ البيع أو الفسخ فيكون المفلس كمستأنف عقد بعد الحجر عليه، فيكون للغرماء ما تعقبه، أو يقدر إمضاء العقد أو فسخه لم يزل من حين عقد الخيار فيكون الإمضاء والفسخ سبقا التفليس والحجر، فلا يكون للغرماء فيه مقال. وقد قال في المدونة: إن من وهب هبة وفاتت في يد الموهوب بتغيرٍ بدنٍ، فإن الواهب يكون أحق بعينها في الفلس خاصة لكون ذلك كالبيع بثمن ثابت في ذمة المشتري، فكذلك القيمة إذا ثبتت في هبة الثواب. وقال بعض الأشياخ: لو لم تفت الهبة ولم تلزم قيمتها فإن البائع يكون أحق بها في الفلس والموت لما كان الموهوب له بالخيار بين أن يقبلها أو يردها فكأنها لم ينعقد فيها بيع حتى فلس أو مات قبل أن تلزم القيمة التي كان بالخيار في التزامها. والسؤال عن الجواب الثالث أن يقال: الملك ينتقل في (¬1) يد مالكه على ثلاثة أنحاء: هبة وقرض وبيع. 1 - فأما انتقاله على جهة الهبة، التي لا تقصد مكافأة عنها، فلا مدخل له ها هنا لأن الواهب لم يستحق عوضا عن سلعته التي وهب فتعذر عليه فيكون (¬2) له استرجاع الهبة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنْ يكون.

وأما إن كانت هبة طلبًا للمكافأة فحكمها حكم البيع، وقد ذكرنا ما قيل فيها. 2 - وإن انتقل الملك بعوض على جهة المتاجرة والمعاملة فبائع السلعة أحق بها في الفلس عندنا، وعند الشافعي كما تقدم. 3 - وإن كان الملك انتقل عن جهة القرض والسلف ففي ذلك قولان: أحدهما: أن المتسلف للسلعة إذا فلس لا يكون الذي أسلفه إياها أحق بها إذا فلس من تسلفها. هكذا ذكر في "كتاب ابن المواز". وقد قال فيه: لا يكون أحق سواء قبض السلف أو لم يقبض لأن الحديث إنما ورد في البيع. وقوله: أو لم يقبض؛ قد يسبق إلى النفس اعتراضه لأن من في يده سلعة لم يسلمها فهو أحق بها في الفلس والموت. لكن القرض لما كان إلى أجل، على مقتضى العادة في القرض، صار من حق المستسلف أن يطالب المسلف بالتسليم فلا يكون له حبس ما أسلف. وإذا لم يكن له حبسه لم يكن أحق به ولو قيل: له الرجوع في ذلك، وإن لم ينتفع المتسلف بذلك، كما قيل في من أعار أرضًا فإن له الرجوع في ذلك إذا لم يؤجل كان ها هنا قد يتصور كأنه أحق لكونه يستحق الرجوع. هذا إذا قيل: إن معير الأرض يرجع وإن لم ينتفع المستعير أصلًا. وهذا مِمّا ينظر فيه، ويبسط في موضعه إن شاء الله تعالى. وقال الأصيلي: بل يكون أحق بها كما يكون أحق بها في البيع. فأجراها الأصيلي مجرى عقود المعاوضة. وأيضًا، فإن في أكثر الروايات: إذا وجد متاعه بعينه فهو أحق به، على ما قدمناه لما ذكرنا نصوص الأحاديث في هذا. ولم يفرق في هذه الرواية بين أن يكون متاعه دفعه قرضًا أو دفعه بيعًا. وأيضًا، فإن طريق القرض المعروف والإحسان، فكأنه لم يقصد المعاملة على ذمة فخربت وافتقرت، فيكون ذلك عيبًا يوجب له ارتجاع عين سلعته. وكأن من ذهب إلى المشهور في المذهب من كونه إنما يكون أحق في

البيع خاصة، ورأى أن في الرواية الصحيحة من الموطأ وكتاب مسلم أن البائع أحق فخص هذا الحكم البيع (¬1)، فيبقى ما سواه على مقتضى القياس. وقد كنّا قدمنا الإشارة إلى أن مذهب أبي حنيفة أنه لا يكون أحق في الفلس ولا في الموت. هو القياس؛ وإنما عدلنا عنه لأجل الآثار المروية التي قدمناها، لأن الصحيح عندنا أن خبر الواحد مقدَّم على القياس، لا سيما أن المتسلف لو أراد أن يرد السلعة التي أقرضها بعينها لم يكن لصاحبها أن يمتنع من ذلك، بخلاف لو كانت بيعًا. وهذا يشعر بأنه لم يكن القصد المعاملة له على ذمة فخربت ولحقها عيب. وإذا قلنا: إنه يكون أحق بسلعته في الفلس، فإنما ذلك إذا كانت عروضًا أو غيرها مما ليس من أعيان النقود كالدنانير والدراهم. فإن كان المطلوب في الفلس (ارتجاع دنانير أو دراهم ففيها قولان: 1 - ذهب ابن القاسم إلى أنها في الفلس) (¬2) يستحق دافعها عينها وإن كانت ثمنًا، كما يستحق أيضًا البائع عين سلعته إذا فلس مشتريها، فهكذا يستحق المشتري عين دنانيره أو دراهمه إذا فلس قابضها وانتقض البيع. فقاس الثمن على المثمون. وروى أشهب في الموازية أنه لا يكون [حق] وأن الثمن في هذا بخلاف المثمون. والأحاديث إنما ذكر فيها "إذا وجد سلعته، أو وجد متاعه" والدنانير والدراهم لا تنطلق عليها هذه التسمية في عرف الخطاب، فلم تدخل في الأحاديث الواردة. وينبني هذا الخلاف على أصل معروف فيه الخلاف عندنا وهو: هل تتعين الدنانير والدراهم كما تتعين العروض أو لا تتعين؟ فإن قلنا: إنها تتعين، ترجّح القول بأنها تُستَحَق عند الفلس. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالبيع. (¬2) ما بين القوسين ساقط من المدينة.

وإن قلنا: لا تتعين، صار وجود عينها لا يفيد لما كان لقابضها أن يعطي بدلًا مثلها. فكأنها لأجل ذلك كسلعة فاتت في يد مشتريها. ومن شرط هذه المسألة صحة الشهادة بأنها عين الدراهم بأن تكون البينة لم تفارق قابضها ولم يشترط ذلك في كتاب الغصْب. ومن الأشياخ من أخذ كل واحدة من المسألتين على ظاهرها. وقال لما كان الغاصب ظالمًا ينبغي أن يحمل عليه لم يثقل عن المغصوب له في الشهادة بأن تكون البينة لم تفارق الغاصب. وأما مسألة التفليس لم يكن قابضها ظالمًا فثقل عليه في تصحيح الشهادة. وهذا ضعيف وإنما الأولى أن يسلم للشهود ما شهدوا به. ومتى أيقنوا وهم من اليقظة والحذق بحيث لا يؤتي عليهم، قبلت شهادتهم. وقد يطلعون على قرائن الأحوال أو تكون لهم علامات في الدنانير والدراهم يتحققون بها أنها هي التي رأوها فيما قبل وإن غابت عن أبصارهم. وبالجملة فالغالب فيما لا علامة لهم فيه أنهم لا يعرفونه إذا غاب عنهم وأمكن إبدالها. فإذا تقرر هذا فلو باع منه بدراهم فخلطها قابضها، وعلم الشهود أنها هي التي خلطت بدراهم قابضها، فإن ابن القاسم يجعل دافعها أحق بها في الفلس. ولا يكون خلطها بمثلها مانعًا له من أخذ ما دفعه بالقسمة لهذه الدراهم. وكذلك لو كان زيتًا أو عسلًا وما في معنى ذلك من المائعات التي لا تتعين فإنه لا يمنع خلطه بزيت آخر أو عسل آخر مثله سواء في الهبة (¬1) أن يقسم ويأخذ دافعه عند الفلس ما دفع، لأنا وإن قلنا: إن القسمة بيع من البيوع، فهذا الذي هو أخذه هو بعينه عوض ما صار لصاحبه مما خلطه به، فإذا كان أحق بعين الشيء كان أحق بعوضه بعينه. وإن قلنا: إن القسمة تمييز حق، فذلك أوضح في كونه أحق بما دفع، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في الهيئة.

لأن ما أخرجته القسمة كأنه دفع ما دفع لم تقع فيه معاوضة. وهذا إذا خلط الشيء بمثله. وأما إن خلطه بجنس آخر، كمن باع زيت زيتون فخلطه مشتريه بزيت فجعل عنده، ثم فلس المشتري، فإن أصبغ قال لا يكون بائع الزيت أحق به، ورأى أن الزيتين متباينان ولا يتميز أحدهما من الآخر صار ذلك كالفوت؛ ولمن (¬1) اشترى سلعة فأفاتها فإن بائعها يحاصّ الغرماء بثمنها، وطرد أصبغ هذا الأصل، قال: وكذلك لو خلط قمحًا نقيًا بمغلوث أو بقمح مسوّس حتى أفسده، فإن ذلك فوت أيضًا. ورأى بعض الأشياخ أن خلط القمح النقي بالمغلوث والجديد بالمسوس، لا يمنع البائع من كونه أولى بما باع بعد أن يقوّم الخليط، ويكون بائع السلعة أحق بما يصير له من القيمة. وأجرى على المسألة المشهورة إذا اختلط شعير بقمح أو زيت بربيق فإن ذلك من استحقاق العين بعد التقويم، على ما ذكر في الروايات، فيما يستحق، مما سنبسطه في موضعه إن شاء الله تعالى. وأمّا الشافعي فإنه رأى إنْ خلط زيتًا اشتراه بزيت أجود منه، مثل أن يكون الذي اشتراه يساوي قفيزًا بدرهمين والذي خلط به يساوي قفيزًا بأربعة دراهم فإنه ذكر قولين: فإذا قلنا: إن ذلك كالفوت فلا تفريع على هذا. وإن قلنا: إن ذلك ليس بفوت، فظاهر كلامه يقتضي أن يكون شريكًا بالقيمة في عين الزيت. وتأول بعض أصحابه عليه أن يكون شريكًا في عين الزيت، لما يوقع ذلك فيه من التفاضل. وأما إن خلطه بأدنى منه، فإن أصحابه متفقون، إلاَّ من شذّ منهم، أنه من حقه أن يأخذ المكيلة التي باع من هذا الزيت المختلط؛ لأنه يأخذ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَن.

أقل من حقه، فقد باع قفيزًا طيبًا فأخذ قفيزًا دونه، ولبائع السلعة أن يأخذها بعينها وإن نقصت. ومما يلحق بما حكاه العقود لو اشترى سلعة ثم باعها ثم فلس، فقام بائعها في طلب الثمن، فإنه إنما يجب له محاصة الغرماء بالثمن؛ لأنه لم يجد عين سلعته في يد مشتريها. لكن إذا حكم بالمحاصة وأخذ ما صار له من مال الغريم، ثم ردها مشتريها الثاني بعيب فيها، فإن المذهب انتقاض ما سبق من المحاصّة ورد السلعة إلى يد المفلس ليأخذها البائع منه، وكأن يد (¬1) مشتريها الثاني لها كشف أن البيع لم ينعقد فيها لما ردت بالعيب، ويقدر أنها لم تخرج من يد مشتريها الأول، وإذا كانت لم تخرج من يده فلا شك أن بائعها أحق بعينها، فإذا استحق العين رد على الغرماء ما أخذ منهم في المحاصة. وقد قيل في مثل هذا: إن الحكم إذا وقع لم ينقض. وذلك أن ابن حبيب ذكر فيمن اشترى سلعة ثم باعها ولم يعلم بعيب فيها، فبعد البيع أعلم به، أخذ قيمته لكونه لا يمكنه رد السلعة بعينها. فبعد أن أخذ قيمة العيب ردها مشتريها منه بالعيب، فإنه لا يرد على بائعها ما أخذ منه من قيمة العيب ولا يصير كسلعة لم تبع اطلع فيها على عيب، فالحكم أن المشتري غير بين أن يقبلها بعينها ولا يأخذ من الثمن شيئًا، أو يردها ويأخذ الثمن لمنع ابن حبيب من ردها، وقال: ذلك حكم مضى، يأخذ قيمة العيب، فلا ينقض. وإذا رجعت السلعة إلى يد بائعها الثاني فكذا ينبغي إذا حكم بالحصاص لا ينتقض به أيضًا. وهذا يلتفت فيه إلى كون الردّ بالعيب هل يكون نقضًا له من أصله حتى كأنه لم يقع فيه عقد، أو يقدر كأنه ابتداء مبايعة الآن لما رد بالعيب. فإن قلنا: أنه نقض للبيع من أصله، تأكد ما قيل في مسألة المحاصة إنها تنتقض. وإن قلنا: إنه كابتداء بيع تأكد القول المخرج بأنها لا تنقض. على هذا لو اشترى سلعة ودفع ثمنها ثم اطلع على عيب وقد فلس بائعها فقضي له بالردّ فإنه إذا ردّ ووجد الثمن الذي دفعه ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: رَدّ.

للبائع قد فات فإنه يحاص بالثمن. وإن وجده باقيًا بعينه وهو عرض كان أحق بعينه وإن كان دنانير أو دراهم فعلى القولين اللذين قدمناهما. وأما إذا لم ترد السلعة بالعيب وفلس البائع، فالمسألة على قولين هل يكون أحق بثمنها وتباع خاصة دون الغرماء على أحد الأصلين أن الرد بالعيب كابتداء بيع، فله أن يحبسها حتى يستوفي ثمنها، أو لا يكون أحق بها إذا اختار ردها، وتباع، ويكون أسوة الغرماء في ثمنها بناء على أن الرد بالعيب نقض للبيع من أصله، وكأنه لم يشترها، ولكنه له دين على صاحبها فإن وجده بعينه أخذه، وإن لم يجده بعينه حَاصَّ الغرماء بثمنها. وقد قيل: له إمساكها ومحاصة الغرماء بقيمة العيب، وكان هذا فداها به لما كان إذا ردّها لم يرجع إليه الثمن كله الذي دفع، وصار ذلك في حقه كحدوث عيب بها، فله إمساكها وأخذ قيمة العيب. وكذلك لو اشتراها شراء فاسدًا وقد دفع الثمن، ففيه أيضًا قولان: هل يكون أحق بإمساكها حتى يقبض ما دفع من الثمن، وتصير في يده كالمرتهنة بالثمن، أوْ لا يمكن من ذلك، لأن انتقاض البيع ها هنا مجبوران عليه البائع والمشتري، فكأنه لم يقع فيه عقد أصلًا لما كان الشرع ردّه، فلو فاتت في يد المشتري لوجبت عليه القيمة وبقيت السلعة في يده. ومما يخرج على هذا الأصل أيضًا ما ذكره أشهب عن مالك فيمن باع رطبًا، ففلس المشتري بعد أن صار الرطب تمرًا، فقال مالك: لا يكون البائع أحق به في الفلس. قيل له: إن رطبه بعينه؟ فلم يجز ذلك، ورأى أنه كمن باع رطبًا بتمر، وهذا ربا لا يحل. وقال أشهب بجوازه بناء على أن التفليس كنقض بيع من أصله، فكأن هذه الثمرة لم يقع فيها بيع فيكون بائعها أحق بها عند الفلس. وكأن مالكًا رأى أن أخذ السلعة عند الفلس كابتداء شرائها بالثمن الذي في

ذمة المشتري، ولا يجوز أن يأخذ عن ثمن رطبٍ تمرًا، كما لا يجوز بيع التمر بالرطب. وكذلك لو فرضنا المسألة بأنه باع شاة حية فذبحها مشتريها أو قمحًا فطحنه، أو زبدًا فصيّره سمنا، فإن ذلك كله على الخلاف الذي قدمنا: إن قلنا: أخذ السلعة عند الفلس نقض للبيع من أصله أجزناه. وإن قلنا: إنه كابتداء بيع مضى هذا كله وقدرنا في الشاة الحية إذا ذبحت كأنه بيع اللحم بالحيوان. فكذلك الزبدة مع السمن والقمح بالدقيق على مذهب من صار أنه لا يجوز المعاوضة في ذلك، على ما قدمناه وشرحناه في كتاب البيوع. وعلى هذا الخلاف المذكور فيمن باع عبدًا فأبق عند المشتري ثم فلس، فذهب أشهب إلى أن بائعه ليس له طلبه وترك المحاصة، بل يتعين حقه في المحاصة بثمنه، بناء على أن الأخذ (¬1) عند المفلس كابتداء بيع، فليس له أن يبتدىء شراء آبق بدين له في الذمة. وذهب ابن القاسم وأشهب إلى أن طلب الآبق جائز. واختلفا إن لم يجده: فقال ابن القاسم ليس له الرجوع إلى المحاصة، وقدر أنه لما تركها بطلب الآبق كأنه أسقط حقه فيها. وهذ ابن اء على أن أخذ السلعة نقض للبيع من أصله، فكأن البيع لم ينعقد، فيكون لبائع العبد طلبه وان أبق. ومقتضى هذا البناء ألاّ يرجع إلى المحاصة لانتقاض الثمن بانتقاض البيع. وكأن أشهب استخف رجوعه إلى المحاصة وقدّر أنه ليس بتارك لحقه فيها لما (أخذ عين العبد) (¬2) فلم يحصل له ما رجاه. وقد عورض أصبغ في منعه اختيار طلب الآبق لأجل أنه كمشتري آبق بما نابه، إذا قدر ذلك فيه، ومنع منه لأجل الغرر في شراء الآبق، فإنه يقدر فيه أيضًا ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) أي: أخذ في طلب عين العبد.

كأنّه كبيع آبق لما يصير له في المحاصة فلم ينفك الاختيار لأحد الأمرين من غرر فلا ينبغي أن يمنع أحدهما ويسوّغ للآخر. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: قد قدمنا أن الأحاديث الواردة في كون البائع أحق بسلعته في الفلس شُرِط فيها: إذا كانت السلعة قائمة بعينها. وقد علم أن السلعة قد توجد بعينها لم يتغير شيء من صفاتها، أو يوجد عينها وقد تغيرت صفاتها. فأما القسم الأول وهو وجودها ولم تتغير، فلا إشكال فيه لأنه أمر محسوس. وأما القسم الثاني، وهو تغيرها، فإن الضابط في هذا الوجه اعتبار التغير هل أفرط حتى صار الشيء كأنه جنس آخر ويراد لغرض آخر، فيكون كفوات العين، يجب للبائع المحاصة ولا يكون له حق في العين، أو يكون التغير يسيرًا فلا يبطل حقه في العين إذا شاء. وقد نبه مالك على هذه المسائل عن من اشترى ثيابًا فقطعها، فقال: لا أدري، لكن لو كان اشترى جلودًا فقطعها نعالًا لكان ذلك فوتًا. فأنت ترى كيف أسقط حق البائع في النعال لما كان الغرض في الجلد المبيع خلاف الغرض في النعال. وقطع الجلد نعالًا تغيير شديد. وأشكل الأمر عنده في الثياب، فقال: لا أدري. لكون السؤال فيه إجمال لاختلاف تفصيل الثياب. فإذا تقرر هذا فاعلم أن الحادث في المبيع قد يكون بأمر من الله سبحانه لا صنع للخلق فيه، أو يكون بجناية جان، أو يكون بفعل فعله المشتري. فإن كان الحادث فيه عيبًا حدث من قبل الله، فإن المعروف من المذهب تخيير البائع بين أخذ سلعته على ما هي عليه من عيب، وبين تركها والرجوع إلى

المحاصة مع الغرماء، قولًا مطلقًا من غير تفصيل لحكم العيب. لكن بعض الأشياخ أشار إلى ما كنّا قدمناه في صدر هذه المسألة، فقال: لو اشترى عبدًا فهرم عنده ثم فلس، أو كان صغيرًا فكبر ثم فلس، لجرى ذلك على القولين في الكبر والهرم: هل هي فوت يمنعان الردّ بالعيب أم لا؟ وقد ذكر ابن شعبان في مختصره عن مالك أنه قال: إذا اشترى جارية فحدث بها عيب، فالبائع بالخيار بين أن يأخذها بقيمتها أو يتركها ويحاص بالثمن. وجعل بعض أشياخي هذه الرواية على أن المراد به يأخذها بقيمتها بأن ينسب ذلك من الثمن الذي وقع به البيع، فيحط عن البائع مقدار النقص الذاهب الذي عابها، ويكون له الخيار فيها سواه: هل يأخذه بما قابله من الثمن، أو يتركه ويحاص بالثمن، كمشتري سلعتين فاتت إحداهما في يديه ثم فلس. ويحتمل عندي أن يكون المراد أخذها بقيمتها على ما هي عليه، ويحاسب بذلك من الثمن؛ لأن الغرماء لا حق لهم في عين سلع المفلس إذا لم يكونوا هم باعوها منه، وإنما حقهم في مقدارها فإذا دفع البائع لهم قيمتها على ما هو (¬1) عليه من عيب، كان أوْلى بها ويحاسب بذلك من الثمن، وتكون قيمتها بدل عينها فيكون ذلك بما قلنا: إن الغرماء إذا دفعوا إليه ثمن سلعته سقط حقه في عينها، فكذلك إذا دفع هو إليهم قيمة السلعة المعينة كان هو أحق منهم أيضًا، إذ لا فائدة لهم في عينها. وأما القسم الثاني، وهو أن يكون العيب الحادث كان عن جناية جان، فإن البائع أحق بعين سلعته بمقدار قيمة ما بقي منها بعد الجناية من قيمة الذاهب بجناية الجاني، بسبب (¬2) ذلك من الثمن. فإن كانت الجناية برِئت على غير ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بنسبة.

نقص ولا عيب في الأمة المجني عليها أو العبد المجني عليه، وقد أخذ المشتري بذلك أرشًا، فإن البائع إذا اختار أخذ الجارية لا يكون (¬1) حق في الأرش الذي أخذه المشتري بل يكون ذلك. كالغلة التي لا يردها. وقد قال ابن المواز: لو أخذ المشتري أرش موضحة وبرئت على غير عيب، ثم اطلع على عيب فرده به فإنه لا يرد أرش الموضحة، وأجراه مجرى الغلات لما كان ذلك لا يورث (¬2) في الذات. وأما إن كانت بجناية المشتري بأن يكون لبس الثوب حتى خلق فإنه يكون الذاهب بلباسه كالذاهب بأمر من الله سبحانه لا يحط عن البائع لأجله شيء إذا اختار أخذ العين، فإما أن يأخذ الثوب الخلق بجميع الثمن أو يتركه ويحاص بثمنه. قال ابن الماجشون: إلا أن يكون الثوب قد بلي بلاءً فاحشًا فيكون ذلك فوتًا. والأوْلى ها هنا أن يكون كما لو ذهب بجنايته، فيحط عن البائع مقدار ما أذهبه اللباس على صفة ما ذكرنا من التقويم ونسب من الثمن. وأما التغيير في الجارية المعينة (¬3) من جهة الولادة فإن المعروف من المذهب عندنا أن الولد ليس بغلة، بل هو كعضو من أعضائها، فيجب رده معها في التفليس، كما يرد يدها أو رجلها، فكذلك ولدها. فإذا قدرناه كعضو من أعضائها، فالبائع بالخيار من أن يأخذها وولدها، أو يتركها ويحاص بجميع الثمن. ولو مات أحدهما إما الأم وإما الولد لكان الباقي منهما كأنه جميع المبيع. ¬

_ (¬1) هكذا، والصواب: لا يكون [له] حق. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يؤثر. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المَعِيبة.

لكان الباقي منهما كأنه جميع المبيع فالبائع بالخيار بين أن يأخذه بجميع الثمن، أو يتركه ويحاص بالثمن الذي (¬1) الموت ها هنا مجرى عضو ذهب بأمر من الله سبحانه فلا يكون للبائع إذا اختيار (¬2) العين مقال في أن يحط عنه مقدار ما ذهب إما الأم وإما الولد. (لكن ينبغي أن يتحمل ما حكيناه عن ابن شعبان) (¬3) من كون العيب الحادث من الله سبحانه للبائع فيه مقال إذا اختار أخذ العين وكانت الأم هي الميتة وبقي الولد. وأما لو كان الذاهب ليس بموت، ولكن ببيع عقده المشتري قبل أن يفلس، فإنه يعتبر في ذلك: هل البيع وقع في الأم خاصة وبقي الولد؟ فيكون البائع بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء تركه وحاصّ بالثمن الذي باع به. وإن كان البيع في الولد وبقيت الأم وحدها، فإن في الموازية عن مالك أن البائع بالخيار بين أن يأخذ الأم بجميع الثمن، ولا يحط عنه لأجل الولد شيء، أو يتركها ويحاص بالثمن. وأنكر سحنون هذا، وقال: لا أدري ما هذا. وقال في مختصر ابن الجلاب إنه يحط عن المبيع مقدار ما قابل الولد بالتقويم حين البيع ينسب ذلك من الثمن. ورواه يحيى بن عمر عن ابن القاسم. وهذا هو أصل المذهب؛ لأن الولد إذا لم يكن غلة وجب رد عينه إذا كان قائمًا من غير خلاف منصوص عندنا في المذهب، فكذلك يجب أيضًا أن يحاسب البائع بثمنه على نسبة ما قلناه في التقويم، ويكون (¬4) لمّا استحق أخذ عينه من غير خلاف في هذه الرواية" ولو غيرها يستحق قيمة العوض عنه من الثمن كما قدمناه. وكان بعض الأشياخ المحققين يعني (¬5) السيوري يرى أن الولد غلة. ويعتمد على هذه الرواية التي في كتاب ابن المواز لا سيما أنه قال في الرواية: لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأولى حذف الذي وأجروا الموت. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختار. (¬3) هكذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين، حذف ويكون. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أعني.

يحاسب بعوض الدار لأنه كغلة من الغلات فنَصَّ ها هنا على أنه يجري مجرى الغلات. بعض أشياخى، يعني (¬1) اللخمي، يمنع هذا التخريج من المذهب في كون الولد غلة من هذه المسألة ويقول لما وجد الولد ثم ذهب من غير عيب لحق أمه صار ذلك بمنزلة ما قدمناه عن ابن المواز أنه أخذ أرش موضحة وبرئت على غير عيب فإنه إذا أراد (¬2) العبد لا يرد الأرش لما كانت العين على ما هي عليه من غير نقص. وهذا اعتذار قد لا يسلم له لأن الولد ها هنا لما وجب رده بعينه مع أمه صار لمّا بيع كسلعة باعها البائع مع آخر فاتت إحداهما فإنه يحط عنه مقدار الفائتة إذا اختار أخذ عين السلعة الباقية. وكذلك أيضًا تخريج الخلاف في كون الولد غلة من مسألة كتاب الرد بالعيب: أنّ الأمة إذا ولدت عند المشتري وردها بالعيب يرد معها ما نقصتها الولادة وأعابتها. قال: إلا أن يكون قيمة الولد ما يُجبَر به عيب الولادة فلا يرد المشتري قيمة هذا العيب. فإما (¬3) جعل من حق المشتري أن يدفعه عوض عيب لزمته قيمته على ذلك على أنه كالغلة يملكها المشتري ولا يردها إذا ردّ بالعيب. واعتذر أيضًا عن هذا الولد كأنه نفس العيب الذي حدث عند المشتري وهو عيب الولادة فإذا كانت قيمته تجبر عَيب الولادة فكأن الأمة لم يلحقها عيب حدث عند المشتري. ويؤكد هذا الاعتذار أن الولد (كان غلة) (¬4) لا يجب على المشتري ردّه لم يلزمه رده مع أمه، ولا كان من حقه أن يعطي عن قيمة عيب حدث عنده عبدًا آخر كما ليس من حقه أن يعطي في قيمة ما حدث عنده عوضًا. ومن حاول من الأشياخ تخريج الخلاف في هذا من هاتين المسألتين يشير ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أعني. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أراد [ردَّ] العبد. (¬3) هكذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [إنْ] كان غلة.

إلى أن ما ذهب إليه الشافعي من كون الولد غلة قد قيل عندنا في المذهب والشافعي يراه غلة وذلك مشهور من مذهبه ومذهب أصحابه. لأنه اختلف قوله في العمل: هل له حكم أم لا؟ فقال مرة: لا حكم له، بدليل أن من أعتق أمة حاملًا لحق لولدها في بطنها العتق كما يلحق يدها ورجلها. وقال مرة: للحمل حكم، بدليل أن من أعتق ما في بطن أمته لم تعتق الأم الحامل بعتق ما في بطنها وذلك يشعر: ليس كعضو منها. وأجرى أصحابه تفصيل هذه المسألة على هذين القولين فقالوا: لو باعها وهي غير حامل فحملت عند المشتري من زنا أو تزويج، ووضعت، فإنه إذا ردها لم يرد الولد معها. ولو باعها وهي حامل ثم ردها قبل أن تضع لردّ الولد معها. ولو ردّها بعد أن وضعت لجرى ذلك على القولين: هل يقال: لا حكم للحمل، فيكون الولد غلة؛ أو يقال: له حكم، فيكون الولد ليس بغلة وكأنه اشترى سلعتين. وإذا فلس وهي حامل وقد حملت عند المشتري فإن قلنا: لا حكم للحمل، رجع فيها وفي حملها لأنه كاليد والرجل. وإن قلنا: له حكم، كان الولد للمبتاع كالنماء المتميز. وإن باعها وهي حامل فأسقطت ثم فلس المبتاع، فالحمل على القولين: إن قلنا: لا حكم له. لم يكن له غير الجارية. وإن قلنا: للحمل حكم، فكأنه باع عينين فتلفت إحداهما، ثم فلس، فإنه يأخذ الموجودة ويضرب بحصة ثمن التلف. وإذا قلنا: في الولد المنفصل: إنه غلة، كما قال الشافعي، فالمشهور عندهم: إذا انفصل عن الأم وكان المشتري فإن التفرقة بينهما ممنوعة فتباع الجارية وولدها فيكون للبائع ثمن الجارية وللمفلس ثمن الولد تغرم (¬1) الجارية ذات ولد لأنه رجع فيها وهي ذات ولد فيقول: قيمتها تسعون وقيمة الولد عشرة فيكون للبائع تسعة أعشار الثمن وللمفلس عشرة إلا أن يختار البائع أن يعطي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تُقوَّم.

قيمة الولد فيكون ذلك له ويأخذ الأمة وولدها. ومن أصحاب الشافعي من قال: ليس له الرجوع في الأم إلا أن يعطي قيمة الولد. والذي ذكرناه ها هنا عندهم من إعطاء قيمة الولد إذا أراد أن يأخذ الأم فيه إشارة لما كنا وجهنا به ما حكيناه عن مختصر ابن شعبان. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: النماء الحادث في الحيوان المبيع لا يخلو من أن يكون من جنسه ولا يتميز عنه كالسِّمَن، فهذا لا خلاف فيه أنه يأخذ الأمة المبيعة بعينها على ما هي عليه، إذ لا يمكن تمييز هذا النماء. أو يكون النماء من جنس النامي، ولكنه متميز عنه كالولد. وقد تكلمنا على حكمه. أو يكون من غير جنسه كالغلة في الربع والعبيد، والصوف في الغنم والألبان وما يكون عنها، والثمار في الأشجار. فأمّا غلة الرباع وما يؤخذ في أكريتها، وفي إجارة العبيد، فإن ذلك إذا قبضه المشتري، وقد استحقه، لم يرد في الفلس مع الربع والعبيد، من غير خلاف. ولو لم يقبضه، ولكنه قد حل على المكتري فإنه أيضًا لا يقضى على المشتري برده، وإن كان لم يقبضه لأنه إذا حل واستحق على المكتري صار ذلك كالمقبوض، وكأنه حق للمشتري أخَّرَ به مَن هو عليه، فصار ذلك قبضَه، واستئنافَ إعادته إلى ذمة من هو عليه. وأمّا ما اغتل المشتري من صوف قد جزّه وأفاته، ولم يكن موجودًا في حين عقد الشراء، أو ثمر جدّه، أو لبن حلبه، فإن هذا لا يرده أيضًا، من غير خلاف؛ لأن المبيع كان في ضمان مشتريه قبل أن ينقض البيع فيه بالتفليس،

(والخراج بالضمان) (¬1)، كما ورد في الحديث. وأمّا إن كان لم يقبض ذلك ولا انفصل هذا النماء عمّا هو متصل به، فإن ذلك لا يخلو من قسمين: أحدهما أن يكون اشتراء الغنم ولا صوف عليها، والشجر لا ثمر فيها. فإن كان الأمر كذلك فإنه إذا وقع التفليس، وقد كمل الصوف وحان جزازه، فإنه يرده مع الشاة المردودة بالتفليس، من غير خلاف منصوص عندنا فيما علمت .. وإن كان ذلك ثمرًا أثمرته الأشجار المردودة بالتفليس، ففي ذلك قولان في المذهب: ذكر في المدونة في كتاب الشفعة أنه يرد الثمرة مع أصولها إذا وقع الحكم برده الشجر قبل أن تجدّ من أصولها، ولو كانت قد يبست، بخلاف الشفعة فإنها يأخذها الشفيع ما لم تيبس، وإن كانت لم تفارق أصولها. وفي كتاب ابن حبيب: أنها لا ترد إذا أُبِّرَتْ، وإنما ترد إذا لم تؤبر. فكأنه في المذهب المشهور رأى أنها ما دامت متصلة بأصولها صارت كأغصان الشجر التي ترد مع أصولها، وكالولد الذي في البطن الذي يتبع أمه في حكمها. وكأنه في القول الآخر أنها بالإبار تصير غلة، ألا ترى أن البائع إذا باع شجرًا وفيها ثمر قد أبو فإنها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع، وما ذلك إلا أنها إذا أبرت صارت كسلعة ثانية أضيفت إلى الشجر فلا تدخل في عقد البيع إلا باشتراط، فكذلك لا ترد مع الأصول في الفلس، لأنها صارت كملك حدث في يد المشتري فاستحقه وإن لم يقبضه كما يستحق المقبوض من الثمر إذا جدّه. وأما إذا اشترى غنمًا وعليها صوف قد تمّ أو شجرًا فيها ثمر: فأمّا الصوف فإذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

وقع العقد وهو على ظهور الغنم قد كمل فالمشهور أنه لا يكون غلة للمشتري ولو جزه. وأمّا الثمر فإن كانت موجودة حين العقد ولكنها لم تؤبر فلا خلاف في أنها لا تكون لها ها هنا حصة من الثمن، فإن أبرت فظاهر المذهب على قولين: 1 - إن لها حصة من الثمن؛ لأنها لم تدخل في البيع إلا باشتراط، واشتراطها يشعر بأن الثمن الذي بذل المشتري، لها حصة فيه، ولولا اشتراطه لها ما بذله بكماله. 2 - والقول الآخر: إنها إنما يكون لها حصة من الثمن إذا وقع العقد عليها وقد طابت وأزهت. وهذا ظاهر كتاب ابن المواز على رأي بعض الأشياخ. وليس هو عندي في كتاب ابن المواز كالنص الجلي. ووجه هذا المذهب أن الثمرة إذا أزهت جاز بيعها بانفرادها. ومن قبل أن تزهي لا يجوز بيعها بانفرادها على شرط التبقية. وما ذلك إلا لكونها إذا أزهت وحل بيعها استقلت بحكم نفسها، وصارت لها، لأجل ذلك، حصة من الثمن، كمن بذل مالًا عوضًا عن سلعتين يجوز إفراد كل واحدة منهما بالعقد. وذهب أشهب إلى أن لا حصة لذلك من الثمن لا في الصوف، ولا في الثمرة، ولو اشترى الصوف وقد كمل، والثمرة وقد طابت. وقدر أنه لما كانت هذه الأشياء متصلة بأصولها، وهي في حكم البيع لها لم تقع المعاوضة إلا على أصولها خاصة من الثمن، كمال العبد إذا اشترطه المشتري. وإذا قلنا بالمذهب المشهور من كونها لها حصة من الثمن، والثمر إذا أزهت، على أحد القولين، أو أبِّرت، على القول الآخر، فما دامت متصلة بالأصول فإنه يجب ردّها. وإن جز الصوف أو بدت (¬1) الثمرة، فالمشهور أن الصوف إذا كان قائمًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: جُذَّت.

بعينه ردّ مع الغنم. وأما الثمرة فلا تردّ مع الأصول إذا جُذّت وكانت قائمة بأعيانها. والفرق يعتبر بينهما. لكن أقصى ما يتصور من ذلك أن الشجر إذا اشتريت وفيها ثمر قد أزهي حتى جعلنا له حصة من الثمن، فلو قلنا: إنه إذا جذّ يرد بعينه صار كَمَنْ اشترى رطبًا وأخذ عنه تمرًا يابسًا، وبيع التمر بالرطب لا يجوز، لا سيما إذا قلنا: إن أخذ السلعة في الفلس كابتداء شرائها بالثمن الذي في ذمة مشتريها. وقلنا: إن تغيّر صفاتها يخرجها عن كونها هي العين التي اشتريت، وقد قدمنا أن الاختلاف فيمن اشترى رطبًا ثم فلس بعد أن صار ذلك الرطب تمرًا، وأن أحد القولين عندنا أنه لا يجوز في التفليس، حمايةً للذريعة من أن يقع أخذه في بيع الرطب بالتمر. فعلى هذا البناء يحسن أن يقال في الصوف إذا جز فإنه يرد بعينه، كمشتري سلعتين ثم يفلس فإنه ينتقض البيع فيهما إذا شاء البائع. وأما الثمرة إذا جذّت فيتعلق بها حق الله سبحانه، وهو يمنع من بيع الرطب بالتمر، فلهذا لم ترد بأعيانها. ولكن إذا لم ترد قسط الثمن على الشجر وعلى الثمرة يوم البيع، فما ناب هذه الثمرة المجذوذة الحاضرة حاصّ به، وما ناب الشجر سقط عن المشتري إذا اختار البائع أخذ الشجر بلا ثمر. ولأجل هذا قيل في رد هذه الشجرة (¬1) التي اشتريت وهي مؤبرة (¬2) ردت بالعيب بعد أن جذ ثمرها، إنه يرد المشتري الثمرة بعينها مع الشجر إذا رد بالعيب، وإن فاتت مكيلتها أو قيمتها رطبًا إن جدّها رطبًا، وما ذلك إلا مخافة أن يكون البائع علم بالعيب ودلس به حتى صار كالقاصد إلى بيع الثمرة قبل الزهو بشرط التبقية. لما كان رد العقد ها هنا بسبب البائع ومن جهته، فتطرقت إليه التهمة وحُمِيَتْ الذريعة، وردت الثمرة مخافة أن يتم للبائع مأخذ (¬3) إليه من الفساد بإمضاء البيع في الثمرة خاصة. ¬

_ (¬1) في (و): الشجر. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [و] رُدَّت. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما قَصَد.

وقد اختلف المذهب على قولين إن ردت هذه الثمرة في التفليس، وقد سقاها المشتري وأنفق عليها نفقة، هل يطالب بما أنفق وسقى لأنه لولاه ما وجد عين الثمرة المردودة، أو يكون لا مطالبة به بل تكون خسارته منه لكون ذلك ليس بعين قائمة الآن، كصباغ ثوب اشتراه ثم فلس، أو (نبعه) (¬1) بناها ثم فلس. وإذا قلنا: إنه لا مطالبة له بالسقي مع كون الثمرة لولا السقي لم توجد، فأحرى ألا تكون له مطالبة بأجرة الجزاز. وإذا قلنا: إن المطالبة بالسقي نظر فيما يتخرج في الجزاز من هذا القول الآخر. ومما يلحق بهذا ما اكتسبه العبد عند المشتري ثم فلس المشتري، (فيأخذ البائع العبد بما اكتسبه عند المشتري، إذا كان لم ينتزعه منه، ولا انتزعه المشتري منه قبل أن يفلس، لم يأخذ ذلك من يده، وبقي في جملة ما له لا يختص به البائع دون غيره من الغرماء) (¬2) لأنه إذا انتزعه المشتري قبل التفليس صار قد رد العبد على صفة ما أخذه عليه، وصار ما انتزعه من كسب كثمار جناها أو غلة حَصَدَها. وأمّا لو كان في يد العبد مال اشترطه المشتري فإنه إذا بقي ذلك في يد العبد إلى أن فلس المشتري فإنه يرد ماله معه. ولو هلك ماله قبل أن يرد بالتفليس لم يكن للبائع إلا أخذ العبد على ما هو عليه بغير مال بالثمن كله أو المحاصة بثمنه، وكذلك لو كان ذهاب ماله بانتزاع المشتري واختار البائع أخذ العبد، فإنه لا يأخذه إلا بالثمن كله من غير أن يحط منه شيئًا بسبب ما ذهب من مال العبد. وكأنهم قدّروا أن مال العبد لا حصة له من الثمن وإنما اشترى عبدًا ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) ما بين القوسين هكذا في النسختين، ويظهر أن فيه اضطرابًا. ويمكن تصحيحه بـ لو انتزعه .... لم يؤخذ.

له مال، وعلى ذلك بذل الثمن على نفس المال فزوال المال من يده كتغيير بعض صفاته، ولو كان ذلك من الرد بالعيب فإن المشتري إذا انتزع مال العبد وأراد أن يرده بالعيب، فإنه يرد معه ماله الذي انتزعه إذ ليس له أن يرده وقد حدث فيه عيب لا يحط لأجل العيب شيئًا، والمفلس إنما يأخذه بعينه إذا شاء أو يبقى العبد على ما هو عليه. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: المشتري أباح له الشرع التصرف في المبيع بنفس تسلمه وكون العقد صحيحًا، فإن أحدث في المبيع حادثًا من شيء أضافه إليه، أو صنعة عملها فيه، فإن ذلك لا يخلو من أن يكون أضاف إلى البيع (¬1) أجسامًا متصيرة (¬2) في البصر، ويمكن تمييزها بالانفصال، وذلك مثل البناء والغرس، فإنه إذا اشترى أرضًا فبنى فيها، ثم فلّس، فإن البائع لا يسقط حقه في عين المبيع لقوله عليه السلام: "فهو أحق بمتاعه إذا وجده بعينه" (¬3)، وهذا قد وجده بعينه فيجب أن يكون أحق به. لكن المشتري إذ ابن ي بوجه جائز صار له حق فيما بناه اختلط بالمبيع، فلا يسقط حقه فيه أيضًا. فهاهنا اختلف العلماء في حكم هذا الاختلاف (¬4) فإن مالكًا رضي الله عنه فإنه ذهب إلى أن البائع إذا أراد ارتجاع أرضه مكّن من ذلك، ولكن بشرط أن يشارك المشتري بقيمة ما بناه، تقوّم الأرض على حال ما هي عليه من بناء، ثم يقوم البناء على حياله، والأرض بغير بناء، فيكونان شريكين في الأرض وبنائها بحسب ما اقتضاه التقويم. قال في الموطأ: وتفسير ذلك أن تكون الأرض ببنائها تساوي ألفًا وخمسمائة درهم، فتكون قيمة البناء ألف درهم، والأرض بَرَاحًا خمسمائة درهم، فيكونان شريكين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوضح: المبيع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: متميّزة؛ كما سيأتي في قسيم هذا. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الاختلاط.

في هذه الدار: ثلثاها لمن بناها والثلث لبائعها براحًا (¬1). وذهب فيمن بني أرضًا اشتراها بوجه شبهة فبناها، إلى خلاف هذا. فجعل من حق من أتى فاستحقها أن يعطى قيمة البناء قائمًا فتصير الأرض وما فيها من بناء لمن استحقها لمن هو في يديه وباع ملك هذا المشتري عليه بغير اختياره. وجعل البناء في التفليس لا يباع على بانيه حتى يجبر على تسليمه بقيمته للبائع، وما ذلك عندي إلا لأجل أن من اشترى أرضًا من سوق المسلمين معتقدًا أن الذي باعها هو مالكها حقيقة، فبنى فيها بناء يعتقد أنه مباح له فظهر أنه أخطأ في اعتقاده، وبنى في أرض غصبها بائعها منه، ولم يسقط ملك المغصوب منه الأرض عنها على حال، ولا تغير ولا تبدّل، فكان استحقاقه لأرضه واضحًا، وحرمة ملكه متأكدة، وحرمة بناء المشتري غير متأكدة، لأنه ظهر أنه بني في أرض لا يملكها، ولو اطلع على باطن الأمر ما حل له التمسك بها ولا البناء فيها، فلما قوي أمر المستحق وضعف أمر هذا المشتري، حكم عليه بإخراج ما في يده من البناء بغير اختياره. وأمّا من اشترى أرضًا من مالكها فبنى فيها، ففلس فإن بناءه صادف ملكًا محققًا له في الظاهر والباطن، واعتقاده أن البناء مباح له صواب لا غلط فيه، وإنما حدث عيب في ذمته أوجب للبائع الخيار في استرجاع ما في يديه ورده إلى ملكه بعد أن خرج على ملكه، فإن حُرمة بنائه متأكدة فلم يجبر على أن يسقط حقه في عين بنائه بأن يدفع إليه قيمته، ولم يجعل مالك ولا أحد من أصحابه البناء ها هنا فوْتًا أحال العين وغيَّرها حتى يسقط مقال بائعها في ارتجاعها، ولا يكون له إلا طلب الثمن والمحاصة به. لكنهم اختلفوا فيمن اشترى أرضًا فبنى فيها، ثم اطلع على عيب: هل بناؤها فوت يمنع الرد بالعيب ويوجب أخذ قيمته، أو لا يكون ذلك فوتًا. ¬

_ (¬1) الموطأ: 2/ 211 - 212 في 1982.

وأشار بعض أشياخي إلى تخريج الخلاف من هذه في الفلس إذا بني. وأشار أيضًا إلى اختلاف مقدار البناء والنفقة فيه، فيكون الكثير فيه يفيت الأرض والقليل لا يفيتها. فأمّا تخريجه الخلاف من مسألة العيب، فقد يدافع فيه، ويقال له: إن العيب لما كان من جهة البائع ويتّهم فيه بالتدليس بأنه أسقط حقه في إمضاء البيع على ما هو عليه، بأن يرضى المشتري به أو ينقضه ويأخذ ثمنه. والتفليس لا يتصور فيه من جانب البائع تفريط ولا تلحقه تهمة. وأما إشارته أيضًا إلى اعتبار البناء بالقلة والكثرة فإن ظاهر المذهب يمنعه من ذلك. وذلك أن مالكًا ذكر في الموطأ ما حكيناه عنه من كون الشركة واجبة بقيمة البناء وقيمة الأرض. ومثّل ذلك بأن يكون قيمة البناء ألفًا وقيمة الأرض خمسمائة، ولم ير ذلك فوتًا، وإن كان قيمة البناء الثلثين وقيمة الأرض الثلث. لكن أشار بعض أصحاب الشافعي إلى هذه الطريقة وحمل كلام الشافعي عليها. وذلك أن الشافعي ذهب في هذه المسألة إلى أنه إذا وقع التفليس وأراد البائع ارتجاع المبيع، فيقال للبنّاء (¬1): أقلع بناءك وغرسك حتى تردّ إليه الأرض براحًا كما اشتريتها، فلا يبقى له مقال. ولو كان في قلع الغرس والبناء ما يعيب الأرض فإن الشافعي ألزم المشتري قيمة هذا العيب إذا اختار البائع ارتجاع الأرض؛ لأنه عيب أحدثه ليُخلّص ملكه في يديه، فيجب أن يطالبَ بأرش ما جناه على ملك الغير، لكونه جنى هذه الجناية على ملك الغير لمنفعة نفسه وتخليص ملكه. قال الشافعي وإن لم يساعده المشتري على قلع بنائه وغرسه قيل للبائع: ادفع إليه قيمة بنائه، نحو ما نقوله نحن في بناء المشتري بوجه شبهة ثم استحقّت عليه الأرض. فإن امتنع البائع من دفع قيمة البناء، فقال الشافعي: يسقط حقه في ارتجاع أرضه ولا يكون له إلا المحاصّة. وقال في بعض كتبه أيضًا: لا يسقط حقه في عين أرضه. فالمزني وغيره من أصحابه يحل ذلك على اختلاف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للباني.

قوله منه. ومن أصحابه من لا يراه. اختلف قوله: يسقط حقه في عين أرضه، على أن للبناء قيمة كثيرة. وقوله: لا يسقط حقه في عين أرضه، على أن للبناء قيمة يسيرة. وهذا نحو ما ذكرته عن بعض أشياخي وهو خلاف ظاهر مذهبنا. والقسم الثاني وهو أن يحدث المشتري في المبيع جواهر يميّزها البصر ولا تتميز بالعقل يتميز انفصال، كصبغ الثوب ودباغ الجلد. فهذا فيه عندنا قولان: المشهور أن ذلك لا يكون فوتًا. وقال ابن وهب في أحد قوليه: إن ذلك فوت. ورآه كتغيير في العين يصيرها كأنها ليست هي العين المبيعة، فلم يجعل للبائع إلا المحاصة. ورأى مرة أخرى أن ذلك ليس بفوت. وعلى هذا القول ثبت أن ذلك ليس بتغيّر يخرج العين عن الغرض المقصود منها حين البيع فيكون شريكًا. واختلف المذهب على قولين بماذا يكون شريكًا في الفوت؟ فقال ابن القاسم: بقيمة الصبغ. وذهب غيره إلى أنه شريك بما زاد الصبغ في قيمة الثوب أبيض. وإلى هذا أشار ابن المواز وكأنه ناقض ابن القاسم بقوله في الصبّاغ إذا استؤجر على صباغ ثوب فدفعه إلى ربه، ففلس ربه: إن الصباغ يكون شريكًا في الثوب بما زادت قيمة الصبغ فيه. فكأن من رأى الشركة بالقيمة قدّر أنها سلعة ملكها (¬1) أضافها إلى مِلك رجل آخر إضافة لا تتميز. فكانا شريكين في هذا المختلط بقيمة ما لكل واحد. ومن رأى أن الشركة إنما تكون بما زاد الصبغ في قيمة الثوب على أن ينزع صباغه منه فصار كأنه هو المتلف لماله بإضافته إلى ملك غيره إلا أن يكون ما فَعله يزيد في قيمة الثوب أبيض. فتصير تلك الزيادة كمعنى منفصل عن ملك الغير فيختص بها من أحدثها. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مالكها.

وهكذا مذهب الشافعية كون الشركة يعتبر فيها ما زاد الصباغ في قيمة الثوب. وقد ذكرنا ما أشار إليه ابن المواز عن ابن القاسم في صبّاغ استؤجر على صِباغ ثوب فصبغه وسلمه إلى ربه، ثم فلس ربه، أنه يكون شريكًا في الثوب بما زاد فيه الصبغ. وقال: ويحاص بقيمة الأجرة التي عقدت الإجارة بها. وعارض بعض الأشياخ الحذاق هذا وقال: إذا كان شريكًا بما زاد فلا معنى لتمكينه من المحاصة ببقية الأجرة. ورأى أنه كمن اختار أخذ سلعته بعينها وهي ناقصة عمّا باعها عليه فلا تكون له المحاصة بعيب حدث فيها من قبل الله سبحانه على المشهور من المذهب. وأما لو اشترى قمحًا فطحنه ثم فلس، فإن المشهور من المذهب أن ذلك فوت يمنع من أخذ عين القمح المطحون. ولكن اختلف في ذلك لو طحن القمح ووجب ردّه من ناحية العيب: هل يكون طحنه فوتًا أم لا؟ وقد كنا قد قدمنا إجراء بعض أشياخنا إجراء الخلاف في مسائل العيوب في هذا النوع من مسائل التفليس. وقد اختلف المذهب في غاصب غصب قمحًا فطحنه: هل يكون للغاصب وعليه مثله؟ أو يكون لربه أن يأخذه مطحونًا، لكون الطحن ليس بمعنى مفيت للعين ولا زائد في جواهرها؟ والقمح تقل فيه اختلاف الأغراض إذا تماثل. وكذلك اختلف فيمن اشترى قمحًا فطحنه ثم استحق من يده: هل يأخذه مستحقه مطحونًا ويدفع إجارة الطحن أو لا يدفع إجارة الطحن لكون ذلك ليس بعين قائمة كما لا يلزم مستحق الأشجار أن يغرم قيمة السقي والعلاج على أحد القولين عندنا، لكون ذلك مما لا يتميز ولا يمكن انفصاله؟ ولو كانت جارية فسمنت أو غلامًا علم القرآن، فإن في هذا أيضًا اضطرابًا

بين العلماء: هل هذه الآثار حكمها حكم الأعيان لكون ما أحدثه المشتري ليس بجواهر متميزة (ليس إليها التصرف) (¬1)، وإن لم تنفصل؟ وقد أشار بعض الأشياخ إلى إجراء الخلاف فيمن اشترى قمحًا فطحنه ثم فلس من اختلاف المذهب في جواز بيع القمح بالدقيق بناء أيضًا منه هذه الطريقة على أحد القولين عندنا في كون ارتجاع السلعة بالتفليس كبيع مستأنف. ويجري الأمر في الطحن على أنه تفريق أجزاء كقطع الثوب. وقد ذكر ابن حبيب أن قطع الثوب قميصًا في التفليس فوت يمنع البائع من أخذه. وكذلك اتخاذ الخشبة تابوتًا أو بابًا، أو ذبح الكبش، أو جعل الزبدة سمنًا. وهذه مسائل يكثر تعدادها، وما ذكرناه منها يرشد إلى ما أضربنا عنه منها. الجواب عن السؤال السابع أن يقال: أخذنا الكلام على هذا السؤال وإن كانت توجب الرتبة إيراده في الفصل الذي ذكرنا فيه اختلاف العلماء: هل يكون البائع أحق بسلعته في الفلس والموت أم لا؟ لكونه ها هنا إذا قبض بعض ثمن سلعة باعها ثم فلس المشتري، فإن أبا حامد الإسفرايني ذكر عن مالك مذهبًا في هذه المسألة (أو ثبت عنه، ألحقنا المسألة بما كنا فيه الآن) (¬2). وذلك أنه حكى عن مالك أنه يقول فيمن باع سلعة فقبض بعض ثمنها وبقي بعضه: إن ذلك فوت يمنع البائع من ارتجاع سلعته. واحتج عن مالك هذا في (¬3) رواه في موطئه من قوله: إذا باع سلعته ولم يقبض من ثمنها شيئًا فالبائع أحق بسلعته، على نحو ما قدمناه من نص الحديث. ورأى أن مالكًا لما اشترط، فيما رواه، من كون البائع أحق بسلعته في الفلس لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما.

يكون قبض من ثمنها شيئًا، يقتضي دليل هذا الخطاب أنه إذا قبض شيئًا من ثمنها فلا يكون أحق بها. وهذا عندي لا يثبت عن مالك، فلعل الإسفرايني فهم عنه هذا من تقييده ما رواه في موطئه يكون البائع لم يقبض من ثمنها شيئًا. وأما مذهب مالك رضي الله عنه فإنه يخيّر البائع بين أن يردّ جميع ما قبض ويرتجع سلعته، أو يتمسك بها ويحاص ببقية الثمن، ولا يطلب ثمن سلعته بل تباع له وللغرماء؟ ومذهب الشافعي أنه يرتجع من سلعته بمقدار ما بقي من الثمن إذا شاء، أو يسلم ذلك ويحاص بما بقي من الثمن. مثل أن يكون اشترى عبدًا بمائة دينار، فقبض من ثمنه خمسين، فإن الخمسين المقبوضة تقابل نصف العبد والخمسون الباقية تقابل نصفه أيضًا. فعند مالك أن البائع إن شاء رد الخمسين التي قبض واسترد جميع العبد، وإن شاء طلب الخمسين الباقية وحاصّ الغرماء فيها وترك جميع العبد. ومذهب الشافعي أن الخمسين المقبوضة يسقط حق البائع في نصف العبد وتبقى الخمسون الأخرى كأنها ثمن عبد كامل، إن شاء طلب بها مال المفلس مع جملة الغرماء، وإن شاء استرد نصف العبد. ولو كانت سلعة كثيرة تختلف قيمتها، لكان الفضّ والتقويم على هذه النسبة. فلو اشترى ثلاثة أعبد بمائة دينار، قيمة أحدهم نصف الثمن وهو خمسون دينارًا، والآخر خمس الثمن وهو عشرون، وللآخر ثلاثة أعشار الثمن وهو ثلاثون دينارًا. وكانت العبيد عند المفلّس لم يفت منهم أحد، وقد قبض ثلاثين، لكان البائع بالخيار في أن يرد ثلاثين دينارًا، أو (¬1) يأخذ الثلاثة أعبد، أو يسلم جميعهم ويحاص بثمنهم. ولو كانت الثلاثة أعبد متكافئة القيم لكان هذا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: و.

وعند الشافعي أن يكون شريكًا بمقدار ما بقي من الثمن فيهم، إن شاء، أو يمضي البيع ويحاص بما بقي من الثمن. ولو تقدم بعض الثمن وفات في يد المشتري بعض المبيع لفُضَّ ما بقي من الثمن على المبيع كله، فيرد مما قبض ما قابل الموجود من المبيع وأخذه إن شاء وتمسك بما قابل المبيع الفائت وحاص بما بقي من ثمنه. ولو كان ما باع عبدين متكافئين بمائة دينار وفات أحدهما، وقد قبض خمسين دينارًا، فإن الخمسين دينارًا المقبوضة مقبوضة نصفين: نصفها وهو خمسة وعشرون تقابل العبد الفائت، فيتمسك بها ويحاص بالخمسة والعشرين الباقية من ثمنه، والخمسة والعشرون الأخرى المقابلة للعبد الموجود الذي لم يفت هو بالخيار بين أن يردها ويأخذ العبد، أو يتمسك بها ويترك العبد، ويحاص بالخمسين الباقية من ثمنه. ومذهب الشافعي أنه يكون الخمسون المقبوضة مقابلة العبد الفائت كلُّها، وتبقى الخمسون في مقابلة العبد الحاضر، فيكون بالخيار إن شاء تركه وحاص بثمنه، وإن شاء أخذه وسقط عن المشتري ثمنه وهو الخمسون الباقية. وكأن الشافعي رأى أن البائع إذا باع سلعة وقبض نصف ثمنها فجعلنا المقبوض لا يرد، وهو في مقابلة نصف السلعة، واختار ألاّ يحاص فإنه يكون شريكًا في العبد فيما يكون من حقه أن يرده كله أو يكون من حقه أن يرد بعضه. وكان مالك قدر أن الشركة تصيّر العبد معيبًا فيلحق المشتري من ذلك الضرر. وإنما جعل البائع من المفلس أحق بعين سلعته لإزالة الضرر عنه فلا يزال الضرر بضرر يلحق المشتري. وأصحاب الشافعي ينفصلون عن هذا بأن هذا الضرر قد لا يلحق، لكون الشركة إنما يقع الضرر فيها مع استدامتها، وهذا المفلس يباع ماله فلا يلحقه الضرر، ولو لحق ضرر بانتقاص الثمن لأجل الشركة، فذلك يسيرٌ، وضرر البائع

في منعه أخذ سلعته وغرم ثمنه ضرر كثير، فيجب أن يكون مقدَّم الاعتبار. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: قد تكلمنا على حكم التفليس في شراء أعيان المتملكات، وسنتكلم على حكم التفليس في شراء المنافع. والتفليس يتصور في شراء المنافع من ناحيتين: من ناحية تفليس بائعها، والأخرى من تفليس مشتريها. فأمّا إذا فلس بائعها فلا يخلو أيضًا الأمر من وجهين: أحدهما: أن يكون شراء منافع في الذمة، مثل أن يسلم رجل دنانير إلى رجل في أن يحوك له غزلًا ويصبغ له ثوبًا، أو ما في معنى ذلك من الصناعات، على أن يكون العمل في ذمة قابض رأس المال، فيجري مجرى السلم. فإذا فلس الصانع وجب لدافع الدنانير أن يحاصّ بماله في الذمة من عمل، يقوم العمل يوم الحكم، فإن اختار دافع الدنانير التمسك بالعمل الذي اشتراه نظر إلى ما أخذه في الحصاص وهو قيمة العمل، فاستؤجر له به من يعمل ما على المفلس الصانع من ذلك العمل، ويكمل دافع الدنانير من عنده سلفًا للصانع ما يستوفي جميع العمل، ويتبعه بمقدار ما أسلفه من ذلك. وهذا السلف، وإن كانت له فيه منفعة، فهو لصيانة المال لا لطلب زيادة في مقدار السلف. وقد قدمنا في شراء الأعيان إذا وقع الفلس أن للغرماء أن يدفعوا من أموالهم جميع الثمن الذي يستحقه البائع رجاءً لما يتوفر لهم من ثمنها إذا باعوه، فيحسبون ذلك من ديونهم، على أحد الأقوال التي قدمناها. وإن كان العمل سلعة واحدة فله أن يفسخ ما اشترى من صبغه إذا كان يتعذر عليه أخذ جميعها من مال المفلس، وتبعيضها كالعيب الذي يوجب ردّ ما اشتراه. وكذلك لو كانت سلعًا، والتبعيض مما يضرّ به فإن له الفسخ. وإن اختار الفسخ كانت المحاصة بجميع الثمن الذي دفعه فما صار له من ذلك

أخذه، واتبع المفلس ببقية الثمن، لأنه إذا اختار الفسخ تعلق حقه بارتجاع الثمن فإنما يحاصّ به، وإن اختار إمضاء العقد تعلق حقه بما اشتراه فيحاصّ بقيمته. ولو اختار التمسك بالقيمة فحصل له في المحاصّة مقدار من المال، فتغيرت بعد ذلك أسعار الإجارة، فإن ذلك حكمه كما سبق فيمن أسلم في طعام ففلس المسلم إليه، فإنه يحاص بماله في الذمة، ويوقف ما صار له في الحصاص حتى يشترى له بعض الدين الذي في الذمة. فلو علا السعر حتى صار يشتري له أقل مِمّا يشتري له يوم الحصاص، لم يكن له نقض ما تقدم من حصاص وقسمة بين الغرماء الذي هو أحدهم. ولو تغير السعر برخص حتى صار يشترى له أكثر مما كان يشتري له يوم قسمة المال بين الغرماء، لكان الفاضل عما يشترى له مِمّا اقتضاه السعر يوم قسمة المال للغرماء، ويدخل معهم فيه، ويصير كمال طرأ للمفلس فإن غرماءه يتوزعونه وهو أحدهم. وذهب ابن الماجشون إلى أن هذا الفض الذي حدث بمقتضى اختلاف الأسعار يستبدّ به هذا الغريم الموقف له المال، ويشترى له ما بقي له في ذمة المفلس، بناء على أصله، فإن مصيبة ما وقف من ذلك ممن له الدين. وإذا كان ضمانه منه فنماؤه له يحسب من دينه. ولو كانت المنافع التي اشتريت منافعَ رجل بعينه لم يكن لمن اشتراها مدخل (¬1) للصانع من الأموال إذا فلس بل تكون أمواله لغرمائه الذين يستحقون عليه المال. وأما الذي استأجره فإنما استحق حركاته فلا يتعدى ما استحقه إلى أن يكون له نصيب من ماله. ولكنه من حقه أن يجبر الصانع المفلس على أن يعمل له ما استأجره عليه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما.

ولو كان الذين استأجروه جماعة لقدّم منهم الأول فالأول. وإن جهل الأول منهم اقترعوا على من يقدم. لكن لو كانت العادة التي دخل عليها كل من استأجر هذا الصانع لا يقدم الأول فالأول بل يقدم من شاء، فإنه ها هنا يبقى على العادة التي دخل معه عليها جميع ما استأجره. هذا حكم تفليس بائع المنافع المضمونة والمعينة. وأما الحكم في تفليس من اشترى المنافع: فإن الصانع إذا استؤجر على حياكة أو صبغ ثوب صباغًا (¬1)، أو صياغة حلي فصاغه، أو خياطة ثوب فخاطه، أو قصارته فقصره، إلى غير ذلك من أنواع الصناع، فإنه إذا فلّس دفع (¬2) هذه المصنوعات إليه قبل أن يشرع في العمل، فإنه إن شاء تمادى على العمل وحاصّ بثمنه، وإن شاء فسخ العقد لكونه تعذر (¬3) عليه استيفاء الثمن، فله أن يفسخ البيع إذا (¬4) لم يمكن إيصال الثمن إليه، ولا يكون من حقه (¬5) أن يصبغ (¬6) الثوب، ويكون شريكًا بالصباغ؛ لأن مقتضى العقد أحد الأمرين: إمضاؤه على ما هو عليه وعلى ألاّ يكون شريكًا بصبغه أو نسجه إذا تعذر الثمن على بائع منافعه قبل أن يعمل. وإن فلس دافع هذه المصنوعات بعد أن عمل الصانع ما استؤجر عليه، وذلك لم يخرج من يده، فإنه له حبسه حتى يستوفي أجرته وسواء في ذلك فلس ربّ المصنوعات أو مات، فإن ذلك كالرهن في يده حتى يستوفي أجرته، ومن ارتهن فإنه أحق به من غرماء راهنه. وحاول بعض أشياخي تخريج خلاف في هذا، إذا لم تكن العادة جارية بأن الصناع يمسكون الأشياء التي أوْدَعوها صنعتَهم حتى يأخذوا إجارتهم، فإنا إذا لم نجعله كالرهن باشتراطٍ أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فصبغه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دافع. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يتعذر. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذ. (¬5) أي: المفلس. (¬6) أي: للمفلس.

بعادةٍ جرى ذلك على القولين فيمن فرغ من صنعته ثم ضاع المصنوع ببينة بعد فراغ العمل فيه، قولان: أحدهما أنه يستحق الإجارة بفراغه من العمل، بناء على أن الثوب (¬1) قبض الصنعة لما فرغ الصانع منها وأكملها، فصار قبض الثوب لها كقبض مالك الثوب. ولو وقع التفليس بعد أن سلّم الصانع لأربابه لكانوا أسوة فيجري على هذه الطريقة إذا قلنا: إنهم أسوة وقلنا إن الصنعة إذا كملت في الثوب صار ذلك كقبض مالكه الثوب، إلا أن يكون الصانع له إمساك الثوب حتى يستوفي الأجرة. وهذا التخريج قد يُتعقب يكون من باع سلعة فمِن حقه إمساكها حتى يأخذ الثمن. وليس هذا الحكم بمقتضى العادة، وإنما هو بمقتضى الشرع على ما أدى إليه النظر من ذهب إلى أن المشتري يقدَّم بدفع الثمن قبل أن يقبض المبيع. ومن سلك هذا فلم يستند إلى العوائد إلى (¬2) ما ذكرناه من كتاب البيوع. وإذا كان الأمر كذلك فليكن ذلك الرهن شرعًا والرهن من حق مرتهنه أن يمسكه حتى يستوفي دينه في الفلس وفي الموت، فيكون ما ذكره أهل المذهب من هذا جاريًا على هذا الأصل الذي قدمناه سواء كانت عادة أو لم تكن، وسواء كان الثوب كالقابض للصنعة أو لم يكن؛ لأن الثوب وإن كان قابضًا لها أيضًا مقبوض للصانع، فالصانع قابض للقابض فيكون من حقه أن يحبس الصنعة وما حلت فيه، وإن كان قابضًا لصنعته لأن الكل مقبوض في يده، فلا يجري ذلك مجرى من أسلم (¬3) الثوب إلى ربه، لأن يده زالت عنه بالمشاهدة فيحسن أن يقال: إنه أسوة، بخلاف ما لم تزل عنه يده، ولا عمّا حل فيه. وأما الاختلاف في الإجارة فقد بيّنا على أنه من باع سلعة فضمانها منه حتى يمكّن المشتري من قبضها فيتركه باختياره. أو يكون يضمن المبيع بالعقد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صاحب الثوب. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سلّم.

قبل أن يمر مقدار التسليم وتمكين المناولة، على حسب ما بينا هذا في كتاب البيوع. هذا الحكم إذا لم يسلّم الصنعة. وأما إن سلّمها فالمشهور أنها إن كانت عينًا قائمة كرقَاع رقع الصانع بها الثوب الخَلَق أو جلودًا رقع بها الفرّاء، أو ما يعمله الصيقل في سيوف، فإن هذا إذا سلّم الصانع المعمول فيه إلى ربه كان شريكًا بمقدار ما سلّم ممَّا له عين قائمة. والقولان فيما يقدر ما سلّمه من هذه الأعيان: هل يكون شريكًا بقيمته لأنه هو المبيع، وكأنه سلعة أضيفت إلى سلعة على وجه يتعذر فيه الانفصال والتمييز فيكونان شريكين في ذلك. وأشار ابن حبيب في هذه المسألة إلى أن الشركة تكون بمقدار ما زاد الصانع، كما في أحد القولين في الصباغ أنه يكون شريكًا بما زاد. وظاهر الروايات أن الرِّقاع تقوَّم، ويقوَّم الثوب ويكونان شريكين بنسبة هذا التقويم. والذي قاله ابن حبيب في مسألة الترقيع: إنه يكون شريكًا بما زاد، لم يجعل للصانع محاصة بقيمة ما سمي من الإجارة، خلاف ما نذكره عن ابن المواز. وظاهر الروايات إطلاق التقويم والشركة على حسب ما قلناه، لكن الصباغ (¬1) قال: هذا إذا كانت الرقاع هي الأكثر مما استؤجر عليه، فيما سوى ذلك مما عمله البائع من خياطة، أو ما في معناها، أو كانت رقعة في الثوب أو رقعتين مما يُحتقر ويكون كالتبَع للخياطة التي تكون في الثوب، فإنه لا تكون الشركة، ويكون الصانع أسوة كما لو سلّم الصانع ما صنعه وأخذه ربّ الشيء المعمول فيه ما عمل، وهو مما لا عين له قائمة تتميز كالقصارة أو الخياطة فإنه ها هنا يكون أسوة لكونه قد باع ما هو كالغائب الذي ليس بعين قائمة فأشبه من باع طعامًا فأكله مشتريه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

وأما إذا كان عينا قائمة، فيصير المبيع غير فائت فيكون أحق به على جهة الشركة كما يكون بالسلعة المنفردة إذا باعها وفلّس مشتريها. وقيل: بل يكون أحق بسلعته وإن كانت قصارة أو حياكة (¬1)، على حسب ما حكيناه من كون (¬2) أحق بما دفعه وهو عين قائمة غير متميزة، فيكون شريكًا بذلك. وهذا القول وقع على الإطلاق، ولم يفترق (¬3) غير من ذهب إليه من كون الصنْعة عينًا قائمة (¬4) وليست بعين قائمة؛ لأن العمل المستأجر عليه قد فُرغ منه، وعُدِمَ وَفَاتَ في نفسه، فلا فرق بين ما يكون عنه من عين قائمة أو غير قائمة. وقد أضيف إلى هذا القول الذي حكيناه فيما ليس بعين قائمة كالخياطة والقصارة والصبغ فذكر القولان فيما سلّمه الصانع من قصارة أو خياطة أو صبغ: هل يكون أسوة في الجميع أم لا؟ وإضافة الصباغ إلى هذا النوع الذي هو القصارة والخياطة فيه نظر، لأن المعروف من المذهب أن الصباغ يجري مجرى العين القائمة، وإن كان لا يمكن انفصاله. وقد قدمنا الكلام على الصانع إذا صبغ الثوب ودفعه إلى ربه أنه يكون شريكًا بما زاد فيه الصبغ ويحاص ببقية ما سمي له من الإجارة التي عقدا عليها. واعترض بعض الأشياخ الحذاق هذا بأن الجمع بين كونه شريكًا بما صبغ ثم طلبه المحاصة بما بقي من الإجارة كالمخالف لأصل المذهب، لأن من اختار أخذ سلعته ناقصة لا يحاص بما انتقَصَ منها. وقد يدافع عندي هذا الاعتراض بأن لمن أخذ سلعته ناقصة فقد أخذ ما باع بعينه وفسخ البيع رضًا به عمّا له في الذمة. ¬

_ (¬1) في المدنية: خياطة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كونه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يفرّق. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

وهذا إذا أخذ ما زاد الصِّباغ على قيمة الثوب أبيضَ، فإنه أخذها (¬1) هو أحق به من الغرماء، لكون ما زاد الصباغ في الثمن كعين قائمة هو أدخلها في مال المفلس فيكون أحق بها، ثم يضرب ببقية ما سمي له من الأجرة، فكأنه إنما أمضى عليه عقد الإجارة، واختص منه بقدر ما زادت صنعته دون غيره من الغرماء، وبقي بقية التسمية، تُطلب بها الذمة، فيحاصّ بها. ولو وقع التفليس في شراء منافع ظهور الدواب أو بطون السفن، فإنه إذا فلس المكتري كان صاحب الدابة وصاحب السفينة أحق بالمحمول على دابته أو في سفينته، سواء كان رب الدابة والسفينة مصاحبًا لدابته أو سفينته أو لم يكن مصاحبًا لها. فأمّا إذا كان مصاحبًا لذلك فكان جائز (¬2) لما حمله. والصانع قد قدمنا أنه أحق بالمصنوع إذا كان في يده لم يسلّمه إلى ربه، لكونه كالرهن، فكذلك صاحب الدابة يكون أحق بما على ظهرها إذا لم يسلمه إلى ربّه. وأما كونه أحق، وإن لم يكن مصاحبًا لدابته، فإنه قدر أن ظهر دابته وبطن سفينته نابا عن حَوْز يده، وكأن رب المتاع المحمول لما سلم ذلك إلى الدابة والسفينة فكأنه سلمه إلى مالكها. لكن عبد الملك بن الماجشون ذكر قولًا مبسوطًا محصوله: أنه من سلم إليه شيء انفرد به، وبعُد به عن صاحبه، وفوّض أمره إليه، فإنه يكون أحق به كراعي الماشية إذا سلمت إليه وفوِّض أمرها لتدبيره، وزالت يد صاحبها عنها، أو استؤجر لطلب آبق فحصله في يده، أو على جلب مال من بلد فجلبه وحصل في يديه، فإن هذا، وما كان في معناه، يكون حائزه أحق به. وأجراه مجرى الرهبان لأن (¬3) الحَوز. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أخذ مَا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَائزًا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأجل.

وهذا القول منه قد يشير إلى أن من حمل متاعًا على دابته ولم يصاحبها، وإنما صحبها صاحب المتاع، فإن رب الدابة لا يكون أحق يعدم (¬1) الحوز. وقد أشار ابن المواز إلى قريب من هذا المعنى: من استأجر بقرًا يدرس بهم (¬2) في الأندر فإن صاحب البقر إذا درس بها وانقلب ليلًا وترك الطعام في الأندر فإنه أحق به لأن الأندر لا ينقلب به، ولا هو مما ينتقل. بخلاف صانع يعمل لك نهارًا في بيتك، ثم انصرف ليلًا فإنه لا يكون أحق بالمصنوع مما يصح الانقلاب به، فتركه بيد صاحبه مع القدرة على نقله يشعر بعدم الحوز. ولو كان المكترى دارًا لم يكن صاحب الدار أحق بما فيها من المتاع إذا وقع التفليس. وذلك أن الساكن بالدار هو الحائز لمتاعه الذي هو فيها، ولا مدخل لرب الدار أن (¬3) في حيازة هذا المتاع فلهذا لم يكن أحق به. وذهب عبد الملك بن الماجشون إلى كونه أحق بما في الدار، وقدر أن الدار بها صون هذا المال وحفظه، فأشبه ما اتفق عليه المذهب من كون مكري الدابة أحق بما عليها والعلّة في ذلك كون الدواب والسفن إذا حملت المتاع أو الطعام من بلد إلى بلد فما ذلك إلا لطلب الأرباح، فيقدر ما زاد من الربح بسبب هذه النقلة كأن ربّ الدابة أفاده لرب المال وأعطاه إياه، فكان أحق به. ولكن قد يقتضي هذا التعليل الذي ذكروه أنه يكون أحق بالأقل مِمّا زاد السفر، أو سمَّيا في عقد الكراء. وذهب عبد الملك إلى أن أصحاب الدار أحق بما فيها من المتاع، وإن كان السكان انفردوا بحوزه. قد (¬4) يشير إلى خلاف ما أشار إليه بعض أشياخي من كون صاحب الدابة لا يكون أحق بما على ظهرها إذا لم يصاحبها لأن المتاع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لعدم. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بها. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذفها. (¬4) أي: وهذا قد ...

الذي بالدار لم يصاحبه أيضًا صاحب الدار، ولا له عليه حوز ولا يد. فهذا مما ينظر فيه تخريج مذهبه في المتاع المحمول على ظهر الدابة. هذا في تفليس المكتري. وأما لو كان الذي فلس هو مكري الدابة، وكان الكراء في ذاته (¬1) بعينها، فإن المكتري أحق بها من غير خلاف، كمن اشترى سلعة معينة ففلس بائعها قبل تسليمها فإن العقد فيها لا يبطل بتفليس بائعها. وأمّا إنْ كان الكراء مضمونًا، وإنما اكترى منه حمل متاع أو طعام مضمون عليه في ذمته، ووصوله إلى المكان الذي اكترى إليه، فإنه إن لم يسلم إليه دابة يركبها لم يكن أحق بشيء من دوابه. وإن سلم إليه دابته يركبها أو يحمل عليها فذهب ابن القاسم في المدونة على أنه أحق، وفي غير المدونة لم يكن أحق، ولو كان يدير (¬2) الدابة تحت الراكب. والقول الثاني أن الراكب لا يكون أحق. فكأن المذهب الأول بناه على أنه إذا سلم إليه دابته فكأنه عيّن حقه فيه (¬3)، فصارت كالمكتراة بعينها. والمذهب الثاني قدّر فيه أن الكراء إنما (¬4) كان مضمونًا فإنه لا يتعين على حال بدليل أن الدابة القياسلمت إليه لو ماتت في خلال الطريق لكان على ربها خلفها، فأشعر ذلك بانها لا تتعيّن بالتسليم. والدابة المعينة إذا اكتريت وهلكت في الطريق فإن الكراء ينفسخ وليس على ربها خلفها. وأمّا لو كان الكراء في أرض لزرع، فزرعها المكتري ثم فلس، فإن مذهب مالك وأصحابه أن صاحب الأرض أحق بذلك في الفلس لا في الموت. وفي المذهب قول آخر: أن صاحب الأرض أحق في الفلس والموت. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دابّة. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيها. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لمّا.

وذهب الشافعي إلى أنه لا يكون صاحب الأرض أحق لا في الفلس ولا في الموت. ورأى أن الحديث الوارد يكون بائع السلعة أحق، قد اشترط فيه: إذا وجدها بعينها، وهذا إنما باع منافع وقد فاتت وليست موجودة، فلا يكون أحق فات (¬1) لاستحالة وجود عين يشار إليها بأنه أحق بها. وكذلك عنده لو اشترى ماء فسقى به الزرع، فإن صاحب الماء لا يكون أحق بالزرع. وكأن مالكًا وأصحابه قدّروا أن صاحب الأرض لما أكراها، ومعلوم أن ذلك الزرع الذي نَبْتُهُ فيها عنها (¬2) يكون وكأنه بعض أجزائها صار صاحب الأرض وكأنه بائع الطعام، وقد وجد طعامه بعينه، فيكون أحق به في الفلس وأسوة في الموت كمن باع سلعة بعينها. ومن ذهب من أصحابنا إلى أنه يكون أحق في الموت أيضًا كما كان أحق في الفلس قدّر أن الزرع لِمَا يكون من الأرض وصارت الأرض كالحائزة له فحوزها له كحوز صاحبها، فكأن بائع هذا الطعام باعه ولم يخرج من يده، فيكون أحق به في الموت والفلس كما لو باع سلعة معينة ففلس مشتريها وهي في يد بائعها. وأشار الشافعي إلى الرد على ما ذهب إليه مالك بأن من اشترى طعامًا فعلفه دابته فإن بائع العلف لا يكون له حق في الدابة، وإن كان بعض أجزاء الدابة تولّد عن العلف. وأشار أيضًا إلى أنه لا يوقف على حقيقة ما كان عن الأرض وعن البذر ولا يعلم حقيقة ذلك إلا الله سبحانه، فلما استحال العلم هنا بحقيقة ذلك لم يمكن أن يُعلق الحكم بما لم نعلم حقيقته. ولنا نحن أن نجيب عن هذا بأنه وإن لم نعلم حقيقة ذلك فإن التغليب في مثل هذا مما جرى في الشرع أمثاله، فنغلب ها هنا حكم الأرض لأن ما نبت ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بما فات. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تولّد عنها.

فيها الغالب أنه مضاف أكثره إليها وأقله إلى الزرع المحصود لرب الأرض تغليبًا لكون المتولد عن بذر الغاصب هو الأقل والمتولد عن أجزاء الأرض هو الأكثر. فإنما يبقى النظر في صحة هذا التغليب. وكذلك مذهبنا أن الأجير في خدمة الزرع أحق به في الفلس دون الموت. وعلى القول الآخر هو أحق به في الفلس والموت. والتعليل في ذلك كالتعليل الذي قدمناه في كون صاحب الأرض أحق بالزرع في الفلس خاصة، وفي الموت على القولين. وكذلك لو استدان الزارع دينًا أحيى به زرعه، فإن صاحب الدين يجري مجرى صاحب الأرض ومجرى الأجير في خدمة الزرع. ولو اجتمع أجراء ولكن استؤجر واحد وانصرف ثم استؤجر آخر لكان الآخر أحق بالزرع من الأجير الذي عمل قبله. وقيل يُراعى أكثرهما عملًا فيكون أحق بالزرع وقيل يتحاصان. فكأن من قدَّم الأخير رأى أنه أحيى الزرع ولولاه لم ينتفع بعمل الأول وبطل، فكان لذلك أحق به. فإن فضل عنه شيء كان ذلك الأخير (¬1) للذي قبله. ومن راعى الأكثر سلك مسلك التغليب في هذه الأمور إذا اختلطت كما ذكرناه الآن. ومن قال بالمحاصة رأى أن ذلك مما لا يتميز مقدار المنفعة بعمل أحدهما دون الآخر فكانا شيئين (¬2). وكذلك لو استدان دينًا يبيح به زرعه ثم استدان دينًا آخر فإن الدين الآخر أحق مما قبله. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذفها. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: شريكين.

ولو اجتمع أجير وصاحب الدين الذي أنفق في الزرع لكان الأجير أحق من صاحب الدين هكذا رأى بعض الأشياخ. لكن الذي وقع في العتبية أن من استدان دينًا فزرع، ثم استأجر أجيرًا فعجز فاستدان دينًا للزرع، فإن صاحب الدين الأخير أحق لأن به حيي الزرع وتمّ، (وموجير الذي قبله) (¬1) ولولاه ما تمّ الزرع كان الأجير أولًا أو آخرًا فإن الآخر يكون أحق. وقال الشيخ أبو محمَّد: هكذا في أصل الأمهات للأخير. فأصلحته أنا: الأجير. وإصلاحه هذا يصيّر الكلام غير مرتبي بعضه ببعض. وأيضًا ما في الأمهات لا يظهر غلطًا بل يمكن أن يريد: فإن الأخير الذي أخذ منه الدين أوْلى. وإليه أشار بقوله: الآخر مقدم لأنه أحق، وقدم ذكر دين بعد دين، وذكر في السؤال أن بالدين الآخر حيي الزرع. فأشار في أول السؤال إلى أن ربه عجز عن إحيائه. وهذا كله يقتضي أن الذي حيي به الزرع أوْلى وأحق. ولو اجتمع أجير وصاحب الأرض ومن ارتهن الزرع فإن الأجير وصاحب الدين (¬2) يقدمان على من بيده الزرع رهنًا لكون الزرع بعملهما وجد من مالهما. فإن فضلت كانت للمرتهن. وعن مالك روايتان في اجتماع صاحب الأرض والأجير في الزرع، فروي عنه أن صاحب الأرض مقدم على الأجير، وإنما يأخذ الأجير مما فضل كراء (¬3) صاحب الأرض تغليبًا لحكم الأرض على حكم العمل في الزرع. والرواية الثانية عن مالك: أنهما يتحاصان لأن ما نبت من الزرع لا يوقف على حقيقة ما كان من عمل الأجير (وعن الأحق الأرض) (¬4). ولو اجتمع مع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب:. الأرض. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [عن] كراء. (¬4) ما بين القوسين هكذا في النسختين، والمعنى من حق صاحب الأرض.

صاحب الأرض أجير (¬1) وقلنا: إن صاحب الأرض والأجير يتحاصان، وأن الأجير الأخير مقدم على الأجير الذي قبله، لكان المنصوص في الرواية أن صاحب الأرض والأجير الأخير يتحاصان. وقد يتخرج على طريقة أخرى أن الأجير يحاص صاحب الأرض بالأجير الذي قبله؛ لأن صاحب الأرض لو انفرد مع الأجير الذي قبله لحاصه، فإنما منع من محاصة الأجير السابق لرب الأرض هذا الأجير المتأخر، فلهذا المتأخر أن ينفرد بسهم هذا الأجير الذي قبله ويحاص به رب الأرض، كما تقول في جد وأخ شقيق: إنهما يقسمان المال نصفين، فلو كان مع الأخ الشقيق أخ لأب أخذ الشقيق ثلث المال وأخذ الجد ثلثه لأن الشقيق يقول للجد: لو انفرد معك الأخ للأب لقاسمك في المال، وإنما عصمك من أن يقاسمك المال وجودي أنا فتكون أحق بما منعك هذا الأخ للأب أن يأخده منك (¬2). قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: وإذا جمع الحاكم مال المفلس ليبيعه، فتلف قبل بيعه، فتلفُه من المفلس. فإن باعه فتلف ثمنه فالتلف من الغرماء، وقيل من المفلس. وإذا ادعى المديان الفلس، ولم يعلم صدقه ولا ظهرت أمارة بصدقه (¬3)، لم يقبل منه، وحبس إلى أن يتبين (¬4) أمره ومدة الحبس غير مقدرة، وهي موكولة إلى اجتهاد الحاكم. فإذا ثبتت عسرته خلّى سبيله، ولم يكن للغرماء مطالبته، ولا إجارته ولا أخذه بعمل صنعة يكتسب منها، ولا استئناف (تملك إلى أن ييْسر) (¬5). وكل دين ثابت في الذمة يستحق المطالبة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أجيران. (¬2) هي من مسائل المعادّة: يحاسب الشقيق الجدّ بالأخ للأب، فيستحق الجد الثلث، ويعود الشقيق على سهم الأخ للأب فيأخذه، لحجبه. (¬3) في (م): تصدّقه. وفي الغاني: لصدقه. (¬4) في (م) والغاني: ينكشف. (¬5) في الغاني: بملك إلى أن يوسر.

به (¬1). (¬2). قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ممن يكون ما ضاع مما وقف من مال المفلس. 2 - وما حكم الاستدانة: هل هي جائزة أم لا؟ 3 - وهل إذا ثبت عسر الغريم ومنع القاضي من مطالبته: فهل يمنع الغرماء من ملازمته؟ 4 - وهل لهم أن يستأجروه في ديونهم؟ 5 - وهل تقبل دعواه الفقر أو لا؟ 6 - وما حكم الغلط في القضاء للديون؟ 7 - والغلط في بيع الورثة لتركة المديان؟ 8 - وما حكم من سكت من الغرماء عن القيام بالتفليس وقد قام به أصحابه؟ 9 - وما حكم إقرار المريض بالدين؟ 10 - وما حكم إقرار أحد الورثة بدين على من يرثه؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: روي عن مالك فيه ثلاث روايات: أحدها: أن ضمان كل ما ضاع مما وقف من مال المفلس لغرمائه من المفلس حتى يصل ذلك إلى أصحاب الدين هذه رواية أشهب عن مالك، وأخذ ¬

_ (¬1) (به) ساقطة في الغاني. (¬2) في (م): يستحق المطالبة به لم يحبس فيه وفي الغاني: يستحق المطالبة به فإنه يحبس فيه.

بها ابن عبد الملك وسواء في هذه الرواية كان المال الموقوف عينًا وعرضًا أو غير ذلك من أنواع الأموال. وروى عبد الملك بن الماجشون أن ضمان هذه الأجناس من الأموال من الغرماء الذين وقفت لهم عينًا كان أو عرضًا، ويضمن، ذلك من حضر من الغرماء أو غاب، ومن علم ومن لم يعلم، يضمن بقدر نصيبه. وبهذا المذهب أخذ ابن المواز. وروى عنه ابن القاسم أن ما كان من العين دنانير أو دراهم وجدت بعينها فيما وقف عليه، أو صارت ثمنًا لما بيع عليه، فإن ضمان ذلك من الغرماء، وما كان عرضًا أو غيره سوى العين فضمانه من المفلس. هذه الثلاث روايات مشهوراتٌ عن مالك. وذكر عن المغيرة قولًا رابعًا: إن ما كان من الدنانير يختص بضمانه من الغرماء من كان دينه دنانير، وما كان من الدراهم اختص بضمانه من له الدراهم. وذكره ابن الجلاب عن عبد الملك. والمعروف الثابت عندنا عن عبد الملك ما قدمنا حكايته عنه، كما ذكرنا عن المغيرة أيضًا هذا المذهب وقد ذكر عنه وعن ابن وهب ومطرف أنهم يقولون بما روان ابن القاسم. وكذلك اختلف النقل عن أصبغ هل يقول بما رواه ابن القاسم أو بما رواه ابن الماجشون؟ وجملة الأمر أنه قد تقرر أن الديون في ذمة الغريم، وأن عليه توفيتها بكل ما يكال ويوزن ويصيرها معينة لمستحقها ممكّنًا منها. وهذا يقتضي تصحيح ما رواه أشهب. ولكن هذا الوقف لهذا المال لا منفعة فيه للغريم وقد حيل بينه وبينه ومنع منه لأجل الغرماء وتحصيل منفعتهم به، فيجب أن يكون الضمان ممن له

المنفعة. وهذا يقتضي تقوية ما رواه ابن الماجشون. وكان ابن القاسم رأى أن العين مهيأ لتناول الغرماء له، لم يبق فيه من حقهم إلا قسمته بينهم، وتمييز حق من حق، والقسمة ليست ببيع على أحد الطريقتين، فلهذا ضمنوا العين، بخلاف العروض فإنها تفتقر إلى أن تباع وتصير أثمانًا فيقسم بينهما (¬1) الثمن. فكان ضمانها من المفلس لكون العروض لم يستحقوا أعيانها. فإن قيل: فمن كانت ديونه عروضًا إنما يستحق العروض؟ قيل: إنما يستحق أن يضرب له بقيمة العروض، وقيمتها من العين، ثم يشترى له بما وقع له في المحاصة مثل عروضه التي هي له في ذمة الغريم، فقد صار حقه في الدنانير والدراهم دون العروض، فشارك غيره من الغرماء في ضمان العين. وكأن المغيرة سلك الطريقة التي أشرنا إليها إن ثبت نقلها عنه، ورأى أن من له الدنانير يختص بضمان الدنانير دون من له الدراهم فإنه يختص بضمان الدراهم، لأن كل واحد منهما لا يستحق خلاف العين التي له في الذمة إلا بأن تباع له بالجنس الآخر إن كان دنانير بيعت بالدراهم وإن كانت دراهم بيعت بالدنانير. فإذا افتقر إلى المعاوضة أشبه العروض التي تفتقر إلى البيع. ولهذا قال، فيما حكيناه عنه: وأما العروض فمن المفلس. وكان طرد هذا التعليل يوجب أن يكون من له طعام ووجد من مالي المفلس مثله فإنه يكون ضمانه منه. وقد حكى ابن المواز أن ابن القاسم فلو (¬2) قيل له: فلو أخذ المفلس من العين الموقوف ما اشترى به سلعة فربح فيها؟ فقال: يكون الربح له يقضي منه دينه، فقيل له: كيف يكون له ربح ما ضمانه من غيره؟ فسكت. وعندي أن له أن يقول: فإن المال إذا حيل بينه وبينه فتعدى على الدنانير فتَجَر فيها فإنها باقية في ذمته بالتعدي، وإن كانت برئت ذمته منها لو لم يتعد. ومن تعدى على دنانير أو دراهم فتجر فيها فالربح له لأجل تعديه. وهذا يدفع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بينهم. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب حذفها.

المناقضة التي نوقض بها دفعًا ظاهرًا. ولعله إنما سكت استثقالاَ" للمعارضة التي هي كالمناقضة، والله أعلم. وإذا تقرر الخلاف ومنشؤه من جهة النظر، فإنه لو بيعت دار على مفلس بمائة دينار ليقضي ثمنها في دين عليه، وهو مائة دينار، فضاع الثمن من يد أمين القاضي، فإن ضمانه، فيما حكاه ابن المواز عن ابن الماجشون وأصيغ، من الغرماء، وعليهم يرجع مشتري الدار إذا استحقت من يديه، ويقدر كأنهم قبضوا الثمن من قبل ضياعه وضاع وهو في أيديهم، فيكون للمشتري الرجوع بثمن ما استحق عليهم. ولو وجدهم فقراء والمفلس قد صار في يديه مال لكان أحق به من الغرماء لكونه إنما يأخذ ذلك من يد المفلس عنهم إذا بقي من ديونهم على المفلس ما يأخذ هذا الثمن الذي دفع منها، ولا يكون أسوة في هذا بل يقدم عليهم لكونه إنما يأخذ ذلك عنهم. فهكذا حكى ابن المواز عن ابن الماجشون. وفي كتاب ابن حبيب أنه يرجع من استُحِقَّت الدرا من يده على المفلس، فإن لم يجد له مالًا رجع على الغرماء. وأما على رواية أشهب فإنه إنما يرجع على المفلس لكون الضمان منه حتى يصل الغرماء إلى حقوقهم، وهم ها هنا لم يصلوا إليها. وقد اختلف قول الشافعي في هذا الفعنى فقال، فيما رواه المُزني عنه: إن المشتري الدار يرجع على المفلس التي بيعت عليه الدار بالثمن الذي دفع، ويقدم على غيره من الغرماء، روى عنه حرملة والربيع أنه يكون أسوة الغرماء. وهكذا قال أشهب، من أصحابنا، أنه يكون أسوة الغرماء، خلافَ ما ذكرناه عن ابن الماجشون ولكن ابن المواز أشار إلى طريق يرجع بها على الغرماء، وهو كونه يأخذ ذلك من الغريم (قضاء عنهم مما بقي لهم على الغرماء من ديونهم) (¬1). ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين.

ولكن قول الشافعي: إنه يقدم عليهم، نَحَا به طريقه أخرى، وذلك أن من يتولى بيع مال المفلس بإجارة يقدم في أخذها على الغرماء، لكون ذلك مصلحة لهم، وبسعي هذا الأجير يتوصلون إلى ديونهم وكذلك ها هنا من المصلحة لهم أن يقدم مشتري هذه الدار عليهم، حتى يشق من يشتري شيئًا من مال المفلس على يد القاضي أنه لا يخسر ويقدم على الغرماء. وإذا لم نقل بتقديمه، وجعلناه يحاصّ الغرماء إذا استحق ما في يده، وقف الناس على (¬1) شراء ما يبيعه القاضي على المفلس. وأما القول الآخر الذي ذهب إليه أشهب، وهو أحد قولي الشافعي، من كونه أسوة مع كونه دينًا كالطارئ بعد الحجر، فإنما كان ذلك كذلك لكون هذا الدين يثبت في ذمة المفلس بغير اختياره، ولا دخل على أن يؤخر حقه في الرجوع على صاحب الدار عن حقوق الغرماء الذين سبقوه. بخلاف ما لو عامله رجل بعد الحجر عليه، فإنه لا يحاص الغرماء في المال الموقف ليباع لهم، لأنه عامله باختياره على أن يكون الثمن فيما يكتسبه من مال غير ما حجر عليه فيه. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬2)، فهذا يعم الدين كله، سواء كان من قرض أو بيع، وقد استدان النبي عليه السلام ورهن درعه، ولكنه مع هذا شدّد في وجوب القضاء، وخاطب الطائفتين جميعًا:. مَن عليه الدين ومَن له الدين وذكر ما يدل على منع المطل به مع الغنى، وبالغ في التحضيض على القضاء، وذلك أنه كان لا يصلي على من مات وعليه دين، وما ذلك إلا لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بعظيم موقع صلاته على الميت، وعظيم الانتفاع بها في الآخرة، وشدة التأسف على ترك صلاته على من لم يصل عليه وهذا من أعظم الدواعي لهم إلى أداء الديون التي عليهم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عن. (¬2) البقرة: 282.

"إن صاحبكم محبوس دون الجنة بدين عليه" (¬1) في رجل استشهد. لكن أصبغ حمل الأحاديث الواردة في التشديد في الدين على أنها منسوخة، وأنها كانت قبل أن يفرض الله سبحانه الزكاة، ويأمران يقضي بها عن الغارمين، فصار بعد ذلك الإثم على السلطان إن لم يقض عن الميت دينه دون أن يكون في ذلك إثم على من مات معسرًا، إلا مَن ادان في سرف أو فساد. وذكر نحو ذلك عن ابن شهاب، وأكد ذلك بقوله عليه السلام: "من ترك مالًا لورثته" (¬2) وفي رواية: "من ترك الكل للعيال التقيد ومن ترك دينًا فعلينا دينه" فقال رجل: يا رسول الله فمن لنا بعدك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: يأخذ الولاة بكم بمثل ما يأخذكم به لغرمائكم يوم القيامة" (¬3)، ثم صار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يصلي على من مات وعليه دين. وروي: أن معاذًا لما خلعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ماله لغرمائه، وبقي لهم فقالوا: يا رسول الله، كيف بالتباعة؟ فقال عليه السلام: "لا تباعة في الدنيا ولا في الآخرة" (¬4) يريد بالتباعة الإثم. وروي: "أن من ادّان دينًا ينوي قضاءه أداه الله عنه وإذا لم ينو قضاءه أتلف الله". وفي حديث آخر: "إذا مات أخذ من حسناته وإن كان ينوي قضاءه فالله قادر أن يرضي عنه غريمه، وروي: أنه من ادان في غزو أو حج أو كفن ميت لا كفن له أو في صلة رحم أو نفقة على العيال أو في نكاح لخوف العنت فعلى الله سبحانه، وعلى ولاة المسلمين أن يقضوا عنه". ¬

_ (¬1) مسند أحمد: 4/ 136 - 5/ 207 (¬2) فتح الباري: 11/ 444. (¬3) الطبراني عن سلمان: انظر السيوطي: رواه مختصرًا جامع الأحاديث: 6/ 332 - حد 21628. (¬4) أقرب صيغة لهذا الحديث ما رواه البيهقي عن جابر. انظر: السنن الكبرى: 6/ 50.

وفي حديث آخر: "قضى الله عنه يوم القيامة وهذا كله تشديد في الديون وتحذير من ترك قضائه وخاطب أيضًا طالبها من جهة أخرى بالرفق والمسامحة، فقال: "أحب الله عبدًا باع سمحًا، إذا قضى سمحًا، إذا اقتضى سمحًا" وقال: "ليأخذ حقه في عفاف واف" (¬1) أو غير ذلك وروي أنه عليه السلام قال: "من سره أن يفرج الله كربه ويعطيه سؤله" وفي حديث آخر أن يظله الله في ظله فلينظر معسرًا أو يخفف عنه" إلى غير ذلك مما أضربنا عن ذكره مما تعلق بهذا الحديث. والجواب عن السؤال الثالث: قد قررنا أن القاضي إذا رُفع إليه مَن عليه دين كان عليه أن يمكّن غرماءه من استيفاء حقوقهم، فإن تنصل منها الغريم وقضاها فلا مقال (له عليه الدين) (¬2). وإن امتنع من ذلك باع عليه ما ذكرناه، وكشف عنه، فإذا ثبت عسره أطلقه، ومنع الغرماء من مطالبته، حتى يجد ما يقضي منه دينه، وليس لهم بعد ذلك أن يلازموه عند مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: بل لهم ملازمته واتباعه والتصرف معه حيث يتصرف، ويدورون معه حيث دار، ورأى أن ثبوت إعساره إنما يستوفي عنه مطالبتهم، وأما كل ما يؤدي إلى عشورهم (¬3) على مال يأخذون منهم (¬4) حقوقهم فلا يمنعون منه. وهم إذا منعوا ملازمتها (¬5) أمكن أن يكسب مكسبًا يخفى عنهم، فصار المنع من ملازمته يؤدي إلى إبطال حقوقهم. ¬

_ (¬1) جزء من حديث أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 6: 53. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لمنْ له عليه الدين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عثورهم. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ملازمته.

ويحتج أيضًا برواية زياد عن أبيه حبيب أنه قال: أتيت بغريم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: "الزمه" ومرّ بي بعد ذلك وأنا معه فقال لي "ما فعلت يا أخا تميم مع أسيرك" (¬1) وهذا أمر بملازمة الغريم. وأجيب عن هذا بأنه لما وافقنا على أنه لا تجب مطالبته فكذلك لا تجب ملازمته، ألا ترى أن الدين إذا كان مؤجلًا فليس للغرماء أن يلازموا الغريم وإن قرب الأجل لما كانوا لا يستحقون المطالبة، فلهذا لم يستحق (¬2) الملازمة وأما حديث حبيب، فهي قضية في عين لم، يذكر سببها، ويمكن أن يكون أراد الملازمة حتى يثبت دينه عليه، أو حتى يخاصمه بين يديه. وإذا احتمل ذلك لم يكن لأبي حنيفة حجة في هذا الحديث مع احتماله. ولنا عليه ما روي: "أن رجلًا أصيب في ثمار ابتاعها، على عهد النبي عليه السلام، فأكثر دينه فقال عليه السلام: "تصدقوا عليه" فلم يبلغ وفاء دينه فقال - صلى الله عليه وسلم -: "حذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك" (¬3). وقد روي "أن معاذًا كثر دينه فلم يزد النبي عليه السلام غرماءه على أن خلع لهم ماله" (¬4). والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: قد قدمنا القول فيما يباع على الغريم إذا حكم بفلسه. وكان من حق هذه المسألة أن تذكر هناك، لكن تَوَخَّيْنَا موافقة الترتيب في المدونة. فعند مالك والشافعي وأبي حنيفة أن المفلس لا يؤاجر في الدين. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي عن هِرماس بن حبيب عن أبيه عن جده: انظر السنن ج 6 - ص 52/ 53. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يستحقوا. (¬3) البيهقي: السنن: 6/ 49 - 50. (¬4) البيهقي: السنن: 6: 50.

وذهب بن عبد الله قاضي الكوفة وعبيد الله بن الحسين العنْبري وأحمد وإسحاق إلى أنه يؤاجر في الدين إذا كان يكتسب ما يفضل عن نفقته. ونحن نقول: إن الله سبحانه قال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (¬1) والمفلس وإن كان قادرًا على الاكتساب بخدمته فهو ذو عسرة، والله سبحانه حكم فيه بأن يؤخر إلى نظرة وجَبْره على أن يؤاجر نفسه ليس هو التأخير إلى نظرة. وذهب المخالفون في ذلك إلى التعلق بما روي أنه عليه السلام "باع سراق (¬2) في دين عليه" (¬3)، وروي أنه "باع حرًا في دينه" (¬4)، وهذا الحديث لا بد للمخالف أن يضمر فيه إضمارًا إذا وقع الاتفاق على أن الحر لا تباع رقبته في الدين. وإذا ثبت الافتقار إلى إضمار فأضمروا هم في قوله "باع حرا في دينه" أنه أراد: باع منافعه. ولنا نحن أن نضمر أنه أراد به: باع ماله. وأيضًا فإنا نقول: يمكن أن يكون رضي الحر بأن يؤاجَر في الدين. ونحن لا نمنع من ذلك إذا رضي بها الحر، وإنما نخالف من ذكرنا مذهبه في أنه لا يجبر على ذلك إذا امتنع. وأما قوله "باع سرقًا في دين" فيحتمل تأويلات ثلاثة، وهو: أن يكون هذا الرجل عبدًا، ونحن نسلم بيع العبد في الدين. لكن لهم أن يقولوا: أما تأويلك أن يكون المراد أنه آجره برضاه فتعسف لأجل أنه إذا كان رضي ذلك لم يحتج إلى أن يؤاجره النبي عليه السلام. ¬

_ (¬1) البقرة: 280. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: سَرِق. انظر البيهقي السنن: 6: 50 (¬3) البيهقي: السنن: 6: 50. (¬4) البيهقي: السنن: 6: 50.

قلنا: يمكن أيضًا أن يكون تولّى النبي عليه السلام ذلك ليقسم إجارته على غرمائه، إذ المحاصة بين الغرماء يفتقر فيها إلى التحاكم. وقد ذكر في حديث "سرق" تأويل آخر: أنه كان في أول الإِسلام، وكان الحر يباع في الدين حينئذ. وذكر بعض العلماء أن زيد بن أسل قال: "لقيت رجلًا بالاسكندرية سميَّا بهذه التسمية، فسألته عنها، فقال: إني قدمت المدينة وذكرت لهم أن مالي سيلحقني، فعاملوني، فلم يصل إليهم مال، فدفعوني إلى النبي عليه السلام فقال: "أنت سرق" وباعني بأربعة أبعرة، فاشتراني رجل أراد عتقا، فسأله الغرماء عن سبب شرائه لي فأخبرهم أنه يريد عتقي، فقالوا: لست بأرغب منّا في الخير فأعتقوني أجمعون" (¬1). هذا معنى هذه الحكاية المروية. وقد انعقد الإجماع على أن الحر لا يباع في الدين فإن ثبت ما ذكر في هذا الخبر فقد كان ثم نسخ. وكان بعض أشياخي يحمل ما ذكرناه عن المذهب في هذا على أن ذلك في التجار الذين يعاملون على أموالهم وذممهم. وأما إن كان صانعا صعلوكًا يعلم أنه لا يكتسب إلا من عمل يده فإنه إنما يعامل الناس عليه. فإذا استدان دينًا وفضل له من عمل يده ما يجب أن يصرف مثله (بمثله من المفلسين) (¬2) فإنه يجبر على التكسب من عمل يده، وإذا امتنع من ذلك استأجره القاضي ويصير عمل يديه ها هنا كمال التاجر الذي يعامل عليه. هذا إذا عومل بدين وأما لو استؤجر على شيء بعينه، مثل حياكة ثوب. يحوكه بنفسه، فإنه يجبر على عمل ذلك وإن أدى إلى أن يقتات من تكرم الناس. وتصير هذه المنافع كانه باع سلعة معينة فعليه تلسيمها وإن أضر ذلك به، ما. لم يخش عليه منه تلف النفس لعذر القوت ولو تكفف الناس. ¬

_ (¬1) البيهقي: السنن: 6: 50. (¬2) ما بين القوسين ساقط من المدنية.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا رفع الغريم للقاضي، وطلبه بقضاء ما عليه من ديون ثبتت عنده عليه، فادعى العجز عنها، فإنه يعتبر في ذلك وجهان: أحدهما سبب الدين. والثاني: حال الرجل الذي عرف بها. وأما اعتبار سبب الدين، فإنه إن كان الدين عن معاوضة مالية، كمن اشترى من رجل متاعًا أو ما في معناه من أنواع ما يتجر به، فلما طلب بالثمن وقد قبض المثمون وزعم أنه عاجز عن ذلك فإنه لا يصدق في ذلك بالاتفاق بمجرد قوله، حتى يظهر ما يدل على صدقه. وذلك أن الغِنَى مما يعلم قطعًا، والفقر مما لا يعلمه إلا الله سبحانه، ومَن يدعيه في نفسه. وأما سائر الناس - فتجوز عقولهم أن يكون عند الرجل مال أخفاه، لكن ربما كانت قرائن أحوال تبلغ إلى العلم ولكنها مما لا يمكن تنويعها وتقديرها، وهي أيضًا مما يندر ويشذ. واستصحاب الأصول هو مقتضى الشرع وقد علم أن هذا أخذ المثمونات فإذا ادعى الفقر قيل له: فأين المثمونات؟ فأظهرها لياخذها أصحابها أو يأخذون أثمانها. وقد صار ها هنا كالمعلوم الكذب في ظاهر المظنون، فلهذا قلنا لا يقبل دعواه الفقر إلا أن يثبت ما يدل على صدقه من جوائح طرأت على ما في يده فعلمت بنظر فيها إذا ثبتت. والنوع الثاني من أسباب الاستدانة أن يكون ذلك عن معاوضة ولكنها ليست بمالية، كمن وجب عليه صداق امرأة، فالصداق ثمن لمثمون ولكن المثمون مما لا يباع ولا يشترى. ويلحق بذلك نوع ثالث وهو أن يكون الدين عن غير عوض لا مالي ولا غير مالي كنفقة الأبوين والأولاد، وكمن وجب عليه تقويم شِقص في عبد عتق نصيبه منه، فهذا قد يقع فيه إشكال، بخلاف ما كان عن معاوضة. فوقع في المبسوط لمالك رضي الله عنه ما يشير إلى أنه يصدق في دعوى الفقر لأنه قال:

إنما يفلس الرجل التاجر، وأما من كان ليس بتاجر ولا يتهم أن يكون أخفى مالًا فليس يفلس ولا يستحلف. فأشار إلى أن التجار إنما يُطلبون بديون عن معاوضة، فنحن نستصحب ما عرفوا به من المَلإ حتى يثبت خلافه، وإلى مثلهم تطرق التُّهم بأنهم أخفوا المال. وأما من ليس بتاجر وكان مشتهرًا بالصعلكة وقلة ذات اليد، فالظاهر صدقه في دعواه الفقر، فيقبل ذلك منه. وقد مال بعض الأشياخ الحذاق إلى ما هو المعروف من المذهب من أن دعوى الفقر لا يقبل من الغريم من غير التفات إلى سبب المداينة. وقال: إن الأغلب من الناس اليسار فهذا مسلك آخر وهو رد النادر إلى الأغلب والغالب عنده من الناس اليسار. والطريقة الأخرى استصحاب الحال في كون من أخذ الأعواض فهي باقية عنده وأثماره أو عُرف بالمال فإنه يستصحب ذلك منه حتى يثبت خلافه. وبالجملة قد نبهتك على أن المطلوب من ثبوت الفقر غلبة الظن، إذ لا (يحتج القطع) (¬1) على باطن الأمر. وغلبات الظنون تختلف وتستمد من الالتفات إلى مجاري العادات في أمثال الأشخاص المدعين الفقر، وقرائن حال كل واحد بعينه، وإن لم يمكن ذلك فيه فيتلقى من مقتضى العوائد في أمثاله. فهذا الذي يجب أن يعتمد عليه. ومما ينبني على هذا الأصل مما ورد في الروايات ما ذكره في المبسوط عن عبد الملك بن الماجشون من كون (¬2) وجب عليه تقويم بقية عبد قد أعتق هو منه نصيبه، فإنه يقبل منه دعواه عجزه عن القيمة التي وجبت عليه إن لم يكن له مال ظاهر، وقد سئل عنه جيرانه ومن يعرفه فقالوا: لا نعرف له مالًا ويحَفف، وقال سحنون: جميع أصحابنا على هذا إلا اليمين فإنه لا يوجبونه. وقد قدمنا عن مالك في المبسوط أنه من ليس بتاجر ولا يتهم بإخفاء ماله أنه لا يفلس ولا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحتاج للقطع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: مَن.

يستحلف. وكأن من استحلفه قدر، أن أقصى أحوال هذه القرائن إن شرطنا بأنه صدق من دعواه الفقر. ولو شهدت بينة بفقره وإعساره فلا بد أن يستحلف خلافًا لأبي حنيفة في ذهابه إلى أن من شهدت بينة بكونه معسرًا فإنه لا يستحلف مع شهادة البينة بذلك. وبالغ في الإنكار عليه بعض العلماء وقال: إن الشهادة بالفقر إخبار بظاهر الأمر دون باطنه فلا بد من أن يحلّف على صحة ما ادعاه من باطن أمره الذي لا يصح أن يعلمه من شهد بفقره وهذا كمن استحق سلعة بشهادة بينة أنها ملك له، فلا بد أن يحلف: أنه ما باع ولا وهب لكون الشهود لا يعلمون هذا الباطن بل يجوز أن يكون باع أو وهب. ولأجل الالتفات إلى تصحيح ما ادعاه من الباطن أشار مالك إلى الوقف عن قبول شهادة من شهد بفقر رجل وإعساره، وهو معروف بالمال والملاء، وقال: من أين يعرف الشهود ذلك؟ إلا أن يكون اطلعوا على الأسباب التي ذهب ماله لأجلها، يشهدون بأمر يقطعون: وهو ذهاب ذلك المعلوم من المال. وإلى هذا أيضًا ذهب الشافعي فقال: لا تقبل الشهادة يكون الرجل المعروف بالملاء معسرًا، وتقبل الشهادة إذا ذكر الشهود أسباب ذهاب ماله. إلى هذا المعنى أشار الشافعي، وهو نحو مما أشار إليه مالك. وهكذا أيضًا مذهب الشافعي في مراعاة استصحاب الأصل الذي عليه الإنسان من غنى أو فقر. وهذا الاستصحاب في مثل هذا السؤال أشار إليه الشرع: فمن ذلك ما روي: أن رجلين أتيا إلى النبي عليه السلام فسألاه في الصدقة، أعطيكما بعد أن أعلمكما أنها لا حقالغنئ فيهالأولا لذي مكسب فيها (¬1)، فاعطاهما الصدقة تعويلًا على ظاهر أمرهما أنه لم يعلم لهما مالًا. وروي عنه أنه عليه السلام قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاث" وذكر إلى أن قال: ورجل ذكر أنه أصابته جائحة ¬

_ (¬1) مشكاة المصابيح: 1/ 57 - حد 1832.

فاجتاحت ماله لا حتى تشهد بينة من ذوي الحجا من قومه أن جائحة اجتاحت ماله (¬1). فاستصحب في الحديث الأول كونه لا يعلم له مالأوالأصل عدم المال وإنما يكتسب بعد ولادة الإنسان وبلوغه الاكتساب. وعول في الحديث الثاني على استصحاب كونه مليئًا على موجب اعترافه بالملاء أو العلم بذلك بغير اعترافه، فإذا كشف عنه فأخبر بعَضِّ جائحة ماله قابل الظن بصدقهم الظن باستصحاب ما كان عليه من حال. وكان هذا الخبر المستفاد من ناحية خبر ثلاثة من قومه أقوى من الظن المستفاد من استصحاب حال ما كان عليه. ولم يطلب في هذا ما طلب من تحديد الأعداد في الشهادات لأن المطلوب ها هنا حصول غلبة الظن بصدقه من كون ماله قد أصابته جائحة. فصار الناس على ثلاثة أقسام: معلوم الغنى: فنحن نستصحب غناه حتى يثبت خلافه. ومعلوم الفقر بالبيّنة وبقرائن حاله ومقتضى صنعته ومتكسبه. ومجهول الحال. فهذا المجهول الحال الذي لا يعلم فقره أو غناه، وقد يُلتفت فيه إلى اعتبار سبب المداينة على ما قلناه من المعروف من المذهب على ما حكيناه عن بعض الأشياخ من كون الغالب من الناس اليسار. فهذا المجهول الحال يحبس حتى يستبرأ أمره وينكشف للقاضي ويثبت عنده إعساره فيطلقه من الحبس. وقد قال مالك: لا يحبس في الدين حر ولا عبد إذا لم يتّهم بأنه أخفى ماله. إلا أن يحبس مقدار ما يستبرأ أمره ويكشف عن حاله. وحبس الغريم عند دعوى العجز عن القضاء ثابت على الجملة عند مالك والشافعي وأبي حنيفة ومدة الحبس غير محدودة بل موكلة إلى اجتهاد القاضي. ويستعد (¬2) تحديدها في كل شخص من اعتبار ما كان عليه من ظن به أنه لا يعجز ¬

_ (¬1) مسلم: " الصحيح: الزكاة: حد 2366. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُستمد.

عن قضاء هذا الدين، ومن كونه ممن يتجلد على الحبس، وهو عنده أخف من إظهار ما كتم من مال، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى من قرائن الأحوال. فلكل نازلة حكمها، هذا هو التحقيق فيها. قال عبد الملك بن الماجشون من أصحابنا: يحبس في الدريهمات اليسيرة نصف شهر ونحوه، وفي الوسيط من ذلك الشهرين والثلاثة، وفي الكثير من المال الأربعة أشهر وهكذا نقل عن أبي حنيفة: إنما يحبس الشهرين والثلاث قولًا على الإطلاق. ونقل عنه أنه يحبس أربعة أشهر. وبعض أصحابه قال: أربعة أشهر حبس لمن كان غنيًّا، وما سواه لمن لم يكن كذلك. وبالجملة فلا يقوم على التحديد دليل، فإنما يعتبر فيه ما ذكرناه من حصول غلبة الظن بصدقه في فقره، أو يشهد له من يعلم كثيرًا من باطن حاله كالشريك، والصديق، والمخالط. وقد استدل بعض الناس على حبس الغريم بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (¬1) وهذا في معنى الحبس. ولو استدل بهذه الآية على حبس الغريم ما كنا قدمناه عن أبي حنيفة من كونه يرى أن الغرماء أصحاب الديون أن يلزموا غريمهم ويدورون معه حيث دار، لكان ذلك أولى من الاستدلال بها في حبس الغريم. وإذا ثبت وجوب الحبس على الجملة بالتشديد فيه والتضييق والتسهيل فيه بحسب أيضًا ما تقتضيه غلبات الظنون، فيضيق في حبس الملك (¬2) المتهم بإخفاء المال المعروف بسوء القضاء ما لا يضيق فيمن كان بخلاف هذا الحال. وقد اختلف المذهب في تمكين زوجته من الكون معه في الحبس بموضع يسوغ لها أن تكون فيه لتبيت معه أو لتخدمه، ولا يخرج لتمريض قريب إلا الأبوين والولد والأخوة ومن مثلهم في القرابة، ولا يخرج لمن سوى ما ذكرنا من القرابات. ¬

_ (¬1) آل عمران: 75. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المليّ.

فإذا اشتد مرضهم وخيف عليهم الموت فأراد أن يخرج ليسلم عليهم فإنه يؤخذ عليه كفيل ويمكن من ذلك. ولا يخرج بحج، ولو كان أحرم به لم يمنع ذلك حبسه وهو محرم، ولو كان قد نزل بذلك مكة أو عرفة لم يحبس لقرب الأمر في ذلك، ويؤخذ عليه كفيل ولا يخرج لصلاة الجمعة ولا العيدين. وقال بعض أشياخي: هذا الذي ذكره محمَّد بن عبد الحكم من أنه لا يترك للخروج لصلاة الجمعة إنما يصح على قول من شذ من الناس ورأى أن صلاة الجمعة فرض على الكفاية. ذكرناه في كتاب الصلاة من كتابنا هذا. وعندي أن هذا لا يخرج منه كون من ذهب إليه يرى أن صلاة الجمعة فرض على الكفاية لأن صلاة الجمعة عبادة لها بدل، وهي تسقط لأعذار في أحد القولين لشدة المرض، وقد أبيح التيمم والانتقال عن الطهارة بالماء إذا طُلب المتوضئ في الماء بثمن كثير، فكذلك لا يبعد أن يكون الخوف على تلف مال الغرماء إن خرج هذا للجمعة عذرًا في إسقاط فرض الجمعة والأولى عندي ألا يمنع من ذلك إذا كان يقع منه ذلك لا (¬1) صفة لا يلحق الغرماء منها ضرر ولا إضاعة لمالهم. ولو فرض (¬2) وهو في الحبس لم يخرج إلا أن يذهب عقله فيخرج حتى يعود إليه عقله، لأنه إذا ذهب عقله لم يعلم حيث هو هل هو محبوس أو مطلق؟ ولا فائدة حينئذ في حبسه. ولو كانت له أمة واضطر إلى أن تمكن من خدمته في مرضه ويخشى عليه إن لم يمكن من ذلك مكن منه أيضًا على صفة لا يحلق منها الغرماء ضرر أشد من ضرره. وجميع ما ذكرناه في حبس المفلس يعلم (¬3) كل مفلس إلا مفلسًا له حرمة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مرض. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَعُمُّ.

على طالب الدين منه كالأبوين فإنهما لا يحبسان في دين الولد عليهما لأجل حرمتهما عليه ووجوب برهما لديه، وتحريم الباري سبحانه عقوقهما على الولد وقد قال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (¬1) وهذا غاية في المبالغة في النهي عن فعل ما يؤذيهما ويكون عقوقا لهما. وحبسهما لا يخفى عن العقلاء أنه أبلغ في أذاهما من أن يقال لهما: أف. ولكن لا يظلم أيضًا الولد لهما بل يتكلف القاضي من التشديد عليهما ما يؤديه الاجتهاد إليه في تخليص دين الولد عليهما، وإيصال ذلك إليه. لكن لو كان الأب امتنع من الإنفاق الواجب عليه لابنه الصغير ولم يمكن القاضي أخذ ذلك منه إلا بحبسه فإنه يحبسه في ذلك. وعلل ابن عبد الحكم هذا بأن ذلك إن لم يفعل أدى ذلك إلى ضرر الولد وهلاكه. وعندي أنه يمكن أيضًا أن يضاف إلى ذلك علة أخرى وهي أن الولد الصغير غير مكلف، وإذا كان القاضي هو الذي حبس والد الصغير فكأن الصغير لم يعق أباه ولا هو الذي حبسه وأنه حبسه من لا حرمة بينه وبينه، وهو القاضي، في حق الله سبحانه الذي طُلب به القضاة في صيانة حياة من لا يعرف صيانتها وصيانة ماله. ولو كان على هذا التعليل ابنة بلغت بكرًا في حجر أبيها فهي مخاطبة بأن لا تعق أباها، وطلبت هي حبسه في الإنفاق عليها عُدنا إلى التعليل الأول وهو: ما يلحق الولد من الضرر وخوف الهلاك لسبب عدم الإنفاق. ولو كان في يد الأب مال لولده وعلى الولد دين يحبس الأب، ها هنا حتى يسلم ما في يديه، إن لم يقدر على تخليص ذلك منه بغير الحبس. وكان هذا لِحَقِّ رجل آخر وهو الذي له الدين على الولد وهو أجنبي من الأب، ¬

_ (¬1) الإسراء: 23.

(وهذا أجنبي من الأب) (¬1) وهذا مثل ما اتفق أن السيد لا يحبس في دين لعبده عليه لأن له انتزاع ماله، إلا أن يكون على العبد دين فحبس فيه سيده لحق غرماء العبد. وأما الجد والجدة فإنهما يحبسان في دين ولد ولدهما لنقص حرمتهما عن حرمة الآباء والأمهات. لي في إطلاق هذا القول الذي وقع في المذهب نظر. وقد يختلف حال الأجداد وتأكد حرمتها على أبناء البنين ويختلف مقدار المال الذي يطالب به ولد الولد. وقد اختلف في القصاص من الأجداد على ما سيرد ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما إذا طلب الولد تحليف أحد أبويه على مال له عنده جحده إياه، فإن المذهب على قولين: أحدهما وهو المذكور في المدونة: لا يمكن الولد من تحليف أبيه. وفي الموازية أنه لا يمنع من ذلك، ولكن يكون ذلك جرحة عليه يوجب رد شهادته وكونه عاقّا. ولابن الماجشون في ثمانية أبي زيد أنه لا يمنع من ذلك، ولأن (¬2) فعله لم يكن عاقا. فوجه المنع من تمكين الولد من تحليف أبيه ما أشرنا إليه في تعليل منعه من حبس أبيه، لأن التحليف أيضًا في امتهان الأب وهتك لحرمته فيمنع الولد منه. ووجه القول بتمكينه من ذلك أن التحليف (لا يبلغ في هتك الحرمة) (¬3)، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والظاهر أنه تكرار. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَإِنْ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف في.

وللولد حق من جهة طلب ماله، فلا يسقط حق الولد لحق الأب لاحترامه. وهذا التعليل يطابق ما ذكره في الثمانية من تمكينة من تحليفه ولا يكون عاقا بذلك. وأما الذي في الموازية فإنه يسبق إلى النفس تعارضه لأن العقوق منكر، والمنكرات على القضاة تغييرُها والمنع منها. لكنه أفتى القاضي بما يجب عليه من التمكين، ثم خاطب الولد بالكف عن ذلك لما فيه من العقوق. فكان فرض القاضي التمكين وفرض الولد أن لا يفعل ما مكن منه. فهو خطاب لشخصين. والذي يختاره أشياخي في هذا الاعتبار حال الأب، وارتفاع قدره، ومقدار ما يحط من نزلته مبادرته إلى اليمين، ومقدار أيضًا ما يحط ذلك من مقدار الولد. ثم الالتفات إلى مقدار الدين: فإن كان الدين حقيرًا والولد موسرًا، وهو رفيع القدر في الناس، ويحط ذلك أيضًا من مقدار الولد، فإنه لا يمكن من ذلك. فالعكس في عكس هذه الأحوال فكأن هذا مبني عند أشياخي على تغليب أحد الضررين لما تقاوم الحقان: حق الأب في أن لا يُعَق، وحق الولد في أن لا يؤخذ منه ماله. هذا الحكم في الغرماء أقارب كانوا أو أجانب إذا تفالسوا. وأما إن لم يدع الغريم الفلس وسأل الإمهال حتى يجتمع ما يقضي منه الدين، فإن سحنونا ذهب إلى أنه يمهل اليوم ونحوه، ويؤخذ عليه حميل بمال فإن لم يأت بحميل سجن. وفي كتاب ابن حبيب أنه يؤخذ بقدر الاجتهاد في مقدار كثرة المال وقلته. وهكذا في المبسوط من غير تحديد لمقدار التأخير. ولم يذكر في الكتابين أخذ حميل عليه كما قال سحنون. ورأى بعض أشياخي أن المذهب على قولين في أخذ الحميل وفي

الاستحلاف على صحة عذره أنه يتعذر عليه القضاء في الحال. والخلاف في أخذ الحميل ينبني على الالتفات إلى ما دخل عليه الغرماء على غريمهم في الدين المؤقت بأجل محدود: هل التحديد والتوقيت دخل المتعاملان على أنه لا يتعدى، فيكون تعديه لسبب حدث بخلاف ما دخلا عليه يوجب الحميل، أو يقال إن التوقيت كالمتضمن لزيادته عليه معتادة في حكم الاقتضاء، فيصير كأنها مضافة إلى الأجل فلا يلزم الحميل كما لو طلب من له الدين حميلًا به قبل حلول الأجل. واختلف اختيار الأشياخ: فبعض أشياخي يرى أن لا يؤخذ الحميل، وبعض أشياخي يرى التمكين من طلب الحميل. والسبب في الخلاف ما أشرنا إليه. وإذا طلب المفلس أن يثبت فقره ليسلم من الحبس، فهل ينجيه من الحبس أخذ حميل بوجهه أم لا؟ فمذهب ابن القاسم أنه إذا أتى بحميل لا يحبس. ومذهب سحنون أنه لا ينجيه إتيان حميل بوجه من الحبس. وسبب هذا الاختلاف أن حميل الوجه إذا أحضر من تحمل بوجهه، وأثبت الغريم المحَمَّل بوجهه فقره، وحلف أنه ما أخفى مالًا ولا يجد ما يقضي، فإن الحمالة تسقط، ولكن بشرطين: إحضار الغريم، وإثبات فقره. وفقره لا يثبت بمجرد الشهادة بكونه فقيرًا حتى يحلف، كما قدمنا ذلك، وذكر مخالفة أبي حنيفة في يمينه. فإذا تحمل رجل بوجه الغريم المفلس فإنه يمكن أن يهرب الغريم فإن أثبت الحميل فقر الغريم في غيبته بقي استقلال (¬1) القضاء بفقره يمينه على أنه ما أخفى مالًا، وذلك مما لم يمكن أن يحلفه الحميل عنه. وكان ابن القاسم يرى أن هذه يمين استظهار وحبسه قد يمنعه من السعي في إثبات فقره فيلحقه الضرر بالحبس، ولا يوقع في هذا الضرر بعد يمين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والمعنى على مطالبته بيمين القضاء على عدم الغريم.

استظهار. فلو التزم الحميل أنه إن تعذرت هذه اليمين التي يُطلب بها الغريم إذا حضر لقام (¬1) بالمال، ارتفع هذا الخلاف بين ابن القاسم وسحنون. وكان الخليفتان رضي الله عنهما يضيفان إلى يمين المفلس على أنه ما عنده ما يقضى منه، وأنه إن وجد مالًا في المستقبل ليقضى منه. فأضافا رضي الله عنهما إلى اليمين على صفة الحال اليمين على ما يكون في الاستقبال. وهذا تأكيد في الاحتياط والاستظهار لئلا يقوم الغريم بعد مدة يمكن أن يكتسب الغريم فيها مالًا فيطلب صاحب الدين استخلافه أنه لم يكتسب في هذه المدة مالًا فيتكرر ذلك فتكون تقدمة اليمين عليه كالحاسم لمضرة التكرير. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: قد تقرر في أصول الشرع بناء الأحكام على الاحتياط وصيانة الأموال على أربابها. فإذا وجب تفرقة مال مديان على غرمائه فلا تخلو من أن يكون غير معروف بالمداينة والإكثار منها حتى يغلمب على الظن، ويقتضي ظاهر الحال ألا طالب لماله سوى (من حاول القاضي أو يقضيه دينه) (¬2)، أو يكون مكثرًا للاستدانة حتى لا يغلب على الظن أنه قد أحاط بجميع غرمائه في الحال، وإن كان كذلك، وإنما يفرق القاضي تركته على الغرماء وقد مات، فإنه يجب الاستيناء في قضاء من حضره من الغرماء والبحث عمن سواهم، حتى يغلب على الظن أنه قد أحاط بجميعهم. وأما إن كان مفلسًا فانه اختلف: هل يستأني بقضاء من حضر من الغرماء كما يُستأنى بتركته أم لا؟ ففي المدونة قولان في هذا المعنى: فذكر ابن وهب عن مالك أن الغائب إذا مات استؤني بقسمة تركته على غرمائه. وكذلك إذا فلس. وقال غيره لا يستأنى قسمة مال المفلس بين غرمائه كما يستأنى في تركة ¬

_ (¬1) أي: لغرم. (¬2) هكذا في النسختين، والمعنى: من طلب من القاضي إلزام المدعى عليه قضاء دينه.

الميت. (قد انقطعت وخربت بالضرر بالمبادرة بقسمتها على من حضر من الغرماء بعظم موقعه لجواز طريان غريم فلا يجد ما يعلى فيه دينه وإن عدى على الغرماء وهم تفرقوا شق ذلك عليه) (¬1). وأما المفلس فإن هذه العلة موجودة أيضًا في ماله إذا قسم بين غرمائه، فيجب فيه الاستيناء على أحد القولين، ولا يجب على القول الآخر، لأن الضرر في ذلك يتقاصر عن الضرر في قسمة تركة الميت بين غرمائه، فلم يلحق حكمه بحكم من مات مفلسًا مع كون الغرماء استحقوا أخذ ديونهم معجلة، وتأخيرها إضرار بهم. فغلِّب في التفليس ضررهم، بخلاف حال الموت، لعظيم الضرر فيه إذا فرق المال بين من حضر. فإذا تقرر هذا فقضى الورثة أو الوصي ديون الميت لمن حضر، ثم طرأ غريم آخر، فإن بادروا بالقضاء وقد أمروا بتأخيره والاستيناء فيه إذا كان الميت معروفُ ابالاستدانة كما قدمناه، فقد تعَدَّوْا في المال، وأعطوا من حضر من الغرماء حقوق غيرهم، فيكونون ضامنين لهذا التعدي، فلهذا الغريم الطالب أن يرجع على الغرماء القابضين للمال بما ينويه في الحصاص لكونهم قد أخذوا عين ما استحق، ومن بيده مال استحقه آخر عليه فللمستحق أن يطالب به من هو في يديه. فإن وجد الغرماءَ القابضين لديونهم فقراءَ فللغريم الطارئ أن يطالب الدافعَ لهم هذا المال الوارث أو الوصيَّ، لأجل تعديه في دفعه كما بيناه. لكنه لو أراد طلب الوارث أو الوصي مع حضور الغرماء القابضين، وكونه يمكنه أخذه كما يمكن ذلك من الوارث والوصي، فإن بعض الأشياخ -يعني ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين. ولعل المعنى لأن ذمته قد انقطعت وخربت بالضرر بالمبادرة بقسمتها على من حضر من الغرماء يعظم موقعه لجواز طريان غريم فلا يجد ما يعلى فيه دينه ...

أبا إسحاق- يشير إلى أنه بالخيار في طلب القابض لكونه في يديه حق الطارئ، أو طلب الدافع لكونه تعدى عليه بتسليم حقه لغيره وبعضهم يشير إلى أن المسألة على قولين في طلب الدفع. وفي المدونة كلام فيه إشكال حمله بعضهم على التخيير وحمله بعضهم أنه اختلاف. وقد اشتهر الخلاف في الغاصب إذا غصب شيئًا فوهبه لأحدٍ، ثم أتى المغصوب ذلك منه طالبًا له، وقد فات في يد الموهوب له، هل تكون البداية بطلب الغاصب المتعدي في الدفع لهذا المال، أو طلب القابض المنتفع به، أو يكون بالاختيار في طلب من شاء منهما؟ لكن قد قيل إن الذاهبين إلى القول بالبداية بالغاصب إنما صاروا إليه لأنه إذا غَرم لم يرجع له غرمه على الموهوب له لكونه سلطه على الإتلاف على ألاَّ عِوَضَ عليه، كما قيل فيمن أثاب (¬1) في صدفته ظنًّا منه أن الكفارة تلزمه، فأكلها قابضها فإنه لا يرجع عليه الدافع إليه، لأنه هو الذي سلطه على إتلاف عَين شبيه (¬2) على ألاَّ عوض عليه غلطًا منه على ماله. وفي التفليس إذا رجع الغريم الطارئ على الوارث أو الوصي كان للوارث أو الوصي أن يرجع بما غرم على الغريم القابض بما دفعه إليه لأنه لم يسلّم ذلك على جهة الهبة، بل في معنى المعاوضة عمّا على أبيه الذي ورثه وإبراء لذمة أبيه. "فإذا غرم الغريم الطارئ رجع بذلك على من دفع إليه، فلا فائدة في تمكين الغريم الطارئ من طلبه وعدوله عن الغريم القابض من غير عذر ولا فائدة له، ولا للقابض في ذلك) (¬3) بخلاف مسألة الغاصب فإن في العدول عن تغريم القابض فائدة له في أنه لا يرجع عليه بما أتلفه مما وهب له. وقد قررنا أن الطارئ إذا استغرم الوارث أو الوصي الدافعين لهذا المال فإن لهما أن يرجعا على من دفعا إليه لما ذكرناه. فقد يقال في هذه إنه قد يتخرج فيه خلاف من مسألة الوكيل إذا تعدى، والسلعة التي وكل على بيعها قائمة، إنه يضمن ما تعدى فيه، ويكون تعديه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين ولعلها عين شيئه. (¬3) ما بين القوسين هكذا في النسختين.

التزامًا لغرمائه ما رسم، كوكيل أُمِر أن يبيع سلعته بعشرة فباعها بثمانية فإنه يغرم العشرة إذْ حال بين الموكل وبين أخذ سلعته بتعديه فيعد ذلك منه التزامًا لما سماه من الثمن. لكن الدافع للغرماء إنما سلطهم على عين مال، فإذا أتى من يستحقه لم تلزمه غرامة، ولا يعد ملتزمًا لذلك، مع احتمال فعله للالتزام، أو قصد إلى مجرد التعدي خاصة. هذا حكم المرجع في هذا التعدي. وأما حكم ضمان القابض له فإنه إذا قدم غريم لم يعلم به وقد قسم المال بين الغرماء الحاضرين، وجعلنا له طلمب الوارث الدافع بما بقي في يديه من مال الميت فإنه إن أكله ضمنه لهذا الطارئ، لأنه أكل مال غيره، عمدًا أو خطأ، فيضمنه له. وإن ادعى تلفه، وهو مما يغاب عليه، لم يصدق في ذلك، لأنه أمسكه لمنفعة نفسه أو لاعتقاد تمَلكّه، فلم يصدق في ضياعه، كما لا يصدق في ضمان العواري والبرهان، ولو قامت له بيّنة بضياعها من غير سبب له في ذلك فإن ابن القاسم أسقط عنه الضمان. ولم يسقطه عنه أشهب مرورًا على أصله في العواري والبرهان أن الضمان فيها لا يسقط بإقامة البينة على الضياع. واختار بعض أشياخي مذهب ابنْ القاسم رواه (¬1) مبنيًا على أصول المذهب لأن كل مستحق عينًا في يد غيره فإنما له أخذ العين من يد غيره فإن أنفقها غيره محمدًا ضمنها، وإن أتلفها خطأ ففي ضمانه قولان: إذا وضع يده عليها بوجه جائز، كمن اشترى عبدًا من سوق المسلمين فقتله عمدًا، ثم استحق، فإن قاتله يضمنه. وإن قتله خطأ ففي غرامته القيمة لمستحق العبد قولان. وإسناد هذه المسألة للأصل الذي قال، قد يقع إشكال من ناحية أن من غصب له عبد فاستحقه من يد مشتريه بوجه شبهة، فإنه إنما يستحق العين لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ورآه.

أكثر. والوارث إذا مسك مالًا فالغريم لم يستحق عينه، وإنما استحق مقداره، فلو قضاه الوارث دينه من مال آخر لم يكن له مقال. ففارق ذلك استحقاق العين لا غيرَها. هذا حكم ضمان الوارث لما بقي تحريره (¬1) من تركه الميت المفلس. وأما ضمان الغريم القابض إلى (¬2) قبضه، فالمعروف من المذهب أنه يضمنه على أي حال كان تلفه، إذا قام عليه غريم طارئ طلبه في المحاصة، حتى ذكر ابن المواز أنه لو وقف لغريم غائب نصيبه من تركة الميت فضاع كان ضمانه منه. ولو طرأ غريم وقد ضاع مال الموقوف لغرم من وقف له المال لهذا الطارئ حصته التي تجب له في المحاصة بدينه حتى كأن هذا المال الموقوف قبضه من وقف له فيجب الرجوع عليه بما قبض. وعارض بعض الحذاق من الأشياخ هذا وقال: إنما ينبغي أن يضمن الغريم الموقوف له المال ما وقف له، بمعنى أنه يبرأ المفلس من دينه الذي قبض منه ما أوقف له لا غير ذلك. وأما أن يكون يضمن ذلك في حق غيره فلا وجه له، كما نقول فيمن اشترى عبدًا من سوق المسلمين فاستحقه من يده رجل فإنه يأخذه، ولو وجده مستحقه قد مات في يد المشتري لم يكن له أن يغرّمه قيمته وإنما له تغريم الغاصب له، وأما مشتريه وإن كان ضامنًا له فإنما معنى ضمانه له أنه لا يرجع بالثمن على الغاصب الذي قبضه منه. وإن كان الغيب قد كشف أنه أخذ منه ثمن ما لا يستحق أن يأخذ ثمنه فكذلك إنما يضمن هذا الغريم بما نابه في الحصاص، بمعنى أنه يسقط دينه به بمقدار ما قبض. وأما أن يضمنه لغيره فلا يجب ذلك كما لم يضمن المشتري المغصوب منه العبد قيمتَه، وإن كان ضمانه منه لما مات في يديه. وإذا طرأ غريم على الغرماء فقد ذكرنا أنه يقضى له عليهم بالمحاصة على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تحت يده. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لما.

حسب ما يقضى له لو كان حاضرًا حين قسمه مال الغريم. هذا إذا لم يبق في يد ورثة المفلس الميت شىء من التركة، بل نزع جميعًا (¬1) فقضي ذلك للغرماء الحاضرين. فأمّا إن بقي شيء من تركة المفلس بيد ورثته، فإنه يحسب ذلك من دين هذا الطارئ، حتى كأنه أخذه من جملة دينه، فإنما تكون له المحاصة لما فضل من ذلك وبمقدار ذلك يرجع على الغرماء الذين اقتسموا التركة. وهذا لأجل أن الغريم لو كان حيّا وقضى غرماعه وبقي في يديه ما يقضى آخرين (فأبيح فيه) (¬2) فإنه لا يرجع الغرماء الذين لم يقبضوا من دينهم شيئًا على الغرماء الذين قبضوا دينهم لكون غريمهم بقي في يديه ما يأخذه الأخ (¬3) فكذلك ورثته. فلو مات رجل وترك ثلاث مائة دينار (لرجع) (¬4) فأخذا جميع دينهما من التركة، وبقي في يد الورثة مائة دينار، فإن من طرأ، وله دين على الميت جملته مائة دينار، لا يرجع على الغريمين القابضين للمائتين لكون غريمه قد ترك ما يأخذ هذا الطارئ في دينه منه بأسره. ولو كانت التركة مائتين وخمسين دينارًا فقبض الغريمان الحاضران المائتين وبقي بين الورثة خمسون دينارًا".ثم طرأ رجل استحق على الميت مائة دينار، فإنه إنما يحاص الغريمين القابضين للمائتين بخمسين دينارًا؛ لأن الخمسين الباقية بيد الورثة يقدر أن هذا الطارئ قد قبضها وصارت إليه من جملة دينه فإذا لم يجب له أن يحاص إلا بالخمسين دينارًا فإذا وجبت المحاصة بما صار كان الغريم الطارئ كالمحاص معهم فتقسم المائتين وخمسين على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: جميعها. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الآخرون. (¬4) هكذا في النسختين، والمعنى يقتضي: ولدائنين عليه مائتا دينار.

الثلاثة رجال الحاضرين والرجل الطارئ، فينوب كل واحد منهم ثلاثة وثمانون دينار وثلث دينار. فهذا الطارئ يحسب عليه من ذلك ما في يد الورثة وهو الخمسون دينارًا ويبقى له ما ينوبه في الحصاص ثلاثة وثلاثون دينارًا (¬1) يرجع بذلك على الغريمين القابضين للمائتين، فيرجع (كل واحد منهما بسبعة دنانير إلا ثلث) (¬2). فإن طرأ للميت مال فإنه يرجع فيه هذا الغريم بالخمسين دينارًا التي بقيت بيد الورثة التي قررنا أنه كالقابض لها في حكم الحصاص بينه وبين من سواه من الغرماء، ولم يقدر أنه كالقابض لها في حكم براءة ذمة غريمه حتى يصل ذلك إليه أو يوقعه له قاضٍ، فتكون يد القاضي في قبضه كيده، ويرجع أيضًا بسبعة عشر دينارًا غير ثلث التي أوجبت له المحاصة (ويقصر التركة لا يأخذها) (¬3) ويرجع الغريمان القابضان للمائتين بما أديا من هاتين المائتين عن الميت، وذلك ثلاثة وثلاثون دينارًا وثلثا دينار حتى يكمل دين سائر الغرماء. هذا الحكم في المحاصة في تركة الميت إذا طرأ غريم لم يعلم به. وأما لو كان ذلك في فلس غريم حيّ ذمته باقية، فإن ابن حبيب ذكر عن عبد الملك أنه إذا فلس رجل لقوم لهم عليه ديون، فوجد في يده ألف درهم ومائة درهم، فأخذ الغرماء ألف درهم، وأوقفت المائة الفاضلة عما أخذه الغرماء، أو رُدّت إلى الغريم فأنفقها، ثم طرأ غريم له مائة درهم فإنه يضرب مع الغرماء الذين قبضوا الألف بجزء من أحد عشر جزءا فينوب على هذا الذي ذكره أحد وتسعون درهمًا إلا جزءا من أحد عشر جزءا من درهم. وعارض بعض الأشياخ الحذاق هذا وقال: إنما يجب أن يضرب هذا الغريم بجزء من اثني عشر جزءا. وذلك أنه يستحق في التركة مائتي درهم، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب زيادة: وثلث. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على كل واحد منهما بسبعة عشر دينارًا إلا ثلثا. (¬3) هكذا في النسختين.

وديون الغرماء غيره ألف درهم فله سدس المال، لكون المائتين هي سدس الألف ومائتي درهم هي جملة الديون. فإذا حاص في المائة التي قصرت التركة عنها كان عليه في الحصاص سدسها لكون دينه من جملة الديون هو السدس، فإنه سقط عنه بالحصاص سدسها صار له مائة درهم وخمسة أسداس المائة الأخرى، وهو ثلاثة وثمانون وثلث، فيحسب عليه المائة التي أوقفت أو ردت إلى المفلس فأنفقها حتى كأنه قبضها في حكم المحاصة، ويرجع على الغرماء بخمسة أسداس المائة التي قصر الموجود بين الغريم عنها، وبقيت لسائر الغرماء في ذمة هذا الغريم. فكأن ابن حبيب قدّر أن المائة الموقوفة لما جعلت (في حكم المحاصة) (¬1) في حكم المقبوض وقدر أن هذا الغريم الطارئ قبضها صار كأنه لم يكن له من الدين إلا مائة درهم، هي التي لم يعلم بها الغرماء، فأضربوا عنها في القسمة لما تحاصّوا، فيكون على هذا الطارئ إنما يضرب بهذه المائة التي لم يقبضها حسّا ولا تقديرا، حتى كأنه لم يكن له دين سواها. وقدر من ذكرناه من الأشياخ أنه إذا لم تبرأ منها ذمة الغريم كانت المحاصة بجملة دينه المائة الموجودة التي لم يبرأ منها الغريم، والمائة الأخرى العاجزة (¬2) من مال المفلس. وكذلك لو ظن أن الغريم في يده ما يفي بجميع ديونه فقضى ما في يده لغرمائه وفضلت فضلة، ثم طرأ غريم، فإنها تحسب عليه في دينه. وذكر ابن حبيب أن هذا مذهب عبد الملك ومطرف. قال: وخالفهما أصبغ ورأى أن الفضلة عما أخذه الغرماء الحاضرون و (¬3) إنما تحسب على الطارئ في باب المحاصة في فلس ميت لكون ذمته قد انقطعت فصار ما بقي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في المحاصّة. (¬2) هكذا في النسختين، والمعنى: الناقصة عن الدين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

منها بعد ما أخذه الغرماء كأن الغريم الطارئ استحق عينه فيحسب عليه في حكم المحاصة خاصة. وأما المفلس الحي فإن ذمته باقية، فلا يحسب ما فضل عن غرمائه للذين لم يقوموا بتفليسه كمديان فلسه بعض غرمائه ولم يقم بعضهم بتفليسه ولا طلب منه دينه، فيكون الدين باقيًا في ذمته في حق من لم يرض بتفليسه، حتى كأنه لم يفلس لأحد من الناس. هذا حكم ما يكشفه الغيب من الغلط في المحاصة. وأما البيع للتركة فإنه قد تقرر في الشرع ألا ميراث إلا بعد قضاء الدين. قال تعالى بعد أن ذكر الفرائض وما ترثه البنت والبنتان والأبوان والأزواج: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬1). فإنما ملك البارئ سبحانه من ذكر من الورثة ما سماه لهم في كتابه بعد أن تخرج ديون الميت ووصاياه. فإن باع الورثة سلعة الميت، وهم يعلمون بأن له غرماء أو يظنون ذلك، لكونه مشهورًا بالاستدانة فإنهم قد تعدّوا في البيع لأنفسهم ليرثوا ما ترك ميّتهم من غير أن يقضوا ديونه، ولا يختلف في كونهم منهيّين عن هذا البيع، ولكن لحق غيرهم من المخلوقين وهم الغرماء، فإن فعلوا كان للغرماء نقض ما باعوه لأن الغرماء استحقوا ذلك دون الورثة. فصار الورثة في بيعهم كمن باع سلعة غيره، فلصاحب السلعة أن يفسخ بيعه هذا إذا لم يقدر على قضاء الديون إلا بفسخ البيع في هذه السلع. فأمّا إن قضيت الديون من غير حاجة إلى فسخ البيع، مثل أن يقبضها (¬2) الورثة من أموالهم أو يسقط الغرماء حقوقهم، فإن المذهب على قولين: أحدهما: أن البيع لا يفسخ. وهو الأشهر من المذهب، لأن النهي عن ¬

_ (¬1) النساء: 11. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يقضيها.

هذا البيع لحق المخلوقين وهم الغرماء فإن سقطت حقوقهم فقد ارتفعت العلة الموجبة لفسخ البيع، فيرتفع الحكم الذي هو الفسخ بارتفاعها وهكذا النهي الواقع لحق المخلوقين ألا ترى أن النبي عليه السلام نهى عن التصرية لأجل التدليس على المشتري، فإذا اطلع المشتري على هذا العيب ورضي به لم يجب فسخ البيع لزوال حق المخلوق الذي هو علة. النهي. وروى أشهب عن مالك في ورثة عزلوا من التركة أضعاف الدين، وباعوا ليرثوا: إن البيع يفسخ ولو قضيت الديون. فكأنه على هذه الرواية قدر أن هذا البيع سلم من الغرر والتحريم في ثمنه ومثمونه، فتعلق به حق الله سبحانه ففسخ. وإن سقط حق المخلوق فيه، كبيع عند صلاة الجمعة، وبيع التفرقة بين الأم وولدها. فإن قلنا بارتفاع الفسخ عند ارتفاع الديون ففي الموازية أن المشترين لهذه السلع إذا دفعوا قيمة ما فما أو نقص عندهم يوم قبضوه لم يكن للغرماء فسخ البيع. وهذا لأجل أن الغرماء لم يملكوا أعيان سلع الميت وإنما ملكوا مقدار هذا (¬1) كان كمقدار ديونهم. ألا ترى أن الورثة لو قضوا ديونهم لم يكن للغرماء أخذ شيء من السلع التي تركها الميت، فكذلك المشترون إذا دفعوا قيمة ما قبضوه فكأنه هو الذي استحقه الغرماء في تركة الميت فأشبه ذلك قضاء الديون. وترجح بعض الأشياخ في هذا الذي قلنا أن للغرماء نقض البيع فيه لو كانت أمة باعها الورثة، على الصفة التي ذكرنا من كونهم تعدوا في البيع، فأعتقها المشتري أو اتخذها أم ولد، وهو لم يعلم، فقام الغرماء طالبين لديونهم هل من حقهم أن يردوا عتق هذ واستيلاده لكون البائع كأنه باع سلعة غيره، أو يمضي ذلك لكون الغرماء ها هنا لم يستحقوا عين هذا المبيع وإنما استحقوا مقداره، ولو دفع إليهم هذا المعتِق أو المستولد قيمة الأم لم يكن لهم انتزاعها من يده، على ما ذكرناه في الموازية. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مقدارها إذا ...

فإذا أبقوه (¬1) حين قيامهم بديونهم فقيرا (¬2) لم ينقضوا ما فعل من عتق أو استيلاد لكونه قادرًا على صرفهم عن انتزاع ذلك من يديه إذا كان مليئًا يمكن (¬3) من دفع قيمة ذلك إليهم. وأمّا إن باع الورثة بيعًا لم يتعدوا فيه لاعتقادهم ألا دين على ميتهم، ثم طرأ غرماء فإن المطالبة إنما تتوجه للغرماء على الورثة البائعين القابضين للأثمان دون المشترين سواء كانت السلع قائمة في يد المشترين أوفائتة كون (¬4) الغرماء لم يستحقوا الأعيان المعينة وإنما يستحقون أثمانها، وأثمانها قد صارت في أيدي الذين باعوها بوجه جائز، فإنما تتوجه المطالبة على الورثة خاصة لكون ما استحقه الغرماء في أيديهم لا في يد من اشترى. وأشار بعض أشياخي إلى تخريج الخلاف في هذا النوع إذا كان المبيع جارية فأعتقها المشتري أو اتخذها أمّ ولد، ففي كتاب الخيار من المدونة لغير ابن القاسم: إنها إذا فاتت بعتق أو استيلاد لم يكن للغرماء أخذها، بدليل هذا الخطاب عنده إذا (¬5) لم تفت بشيء من هذا المعنى فإن للغرماء أخذها. ولأن هذا القول ينبني على أن العتق والاستيلاد لهما حرمة تمنع من نقض البيع. وأما إذا لم يقع الفَوت بشيء من هذا المعنى فإن الغرماء وإن لم يستحقوا أعيان هذه السلع فإن الورثة أيضًا لم يستحقوها إلا بعد قضاء الدين. فكأنهم باعوا ما لم يستحقوا، وكان الغرماء أولى باستحقاقه من الورثة فلهذا نقض البيع فيه إذا طلب ذلك الغرماء. وذكر ابن القاسم في العتبية في ميت مات وترك مائتي دينار، وعليه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ألْفَوْهُ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام نقصًا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يتمكن. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِكون. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الخطأ عنده فإذا.

أضعافها، وترك ورثة صغارًا فتجر الوصي لهم بها، ثم طرأ غرماء، فإنهم يأخذون ما في يد الوصي في ديونهم وأرباحه إن كان فيها ربح، ولا يضمنون هذا المال إذا تلف ولا يُرجع به عليهم، بخلاف ما لو كان الورثة كبارًا فإن الربح لهم إذا تجروا، فيه وهم ضامنون لما قبضوه إذا أنفقده أو أتلفوه، فلم يكن للغرماء في ربح ما يضمنه غيرهم، بخلاف الورثة إذا كانوا صغارًا فإن الربح للغرماء لكونهم لا يطلبون هذا المال من ذمة الصغار إذا كبروا. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: إذا قام رجل واحد من جملة الغرماء طالبًا لتفليس غريمه، وإيصاله إلى حقه، وتفليسه وحبسه إن لدّ وعجز عن القضاء، فإن ذلك له. ولا يسقط حقه في ذلك إضراب الغرماء الآخرين عن مساعدته عن ذلك، إذا لا يلزم إتلاف حقه إذا رضي الآخرون في إتلاف حقوقهم أو الصبر بها. وهذا واضح، لكنه إذا مكن من القيام بذلك فمن ساعده من الغرماء على ذلك أُعطي نصيبه أيضًا من الحصاص كما يُعطى هذا القائم نصيبه في الحصاص، أو جملة حقه إذا لم يظهر عجزه عن قضاء حقوق الآخرين. ومن لم يقم من الغرماء طالبًا لحقه فهل يعذر أيضًا بتسليم حقوق الطالبين إليهم حتى لا يكون له بعد ذلك مرجع عليهم؟ فيه قولان في المدونة: ذهب ابن القاسم إلى أنه ذلك منه علم أنه أسقط حقه في مشاركة أصحابه. وقال غيره: ليس ذلك رضا بتسليم حقوقهم إليهم دون مشاركتهم إلى أن يظهر ما يدل على أنه غير (¬1) مسقط لحقه. وجملة الأمران مجرد السكوت عن. مشاركة هؤلاء الغرماء ومحاصته هل هو في العادة كقرينة دالة على رضا الساكت بإسقاط حقه بمحاصة، أو ليس ذلك بدليل في العادة؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف غير.

وحمل بعض الأشياخ هذا الخلاف المذكور في المدونة على أن المُراد به إذا كان الغرماء الساكتين حاضرين بالبلد، ولم يشاهدوا القسمة بين الغرماء القائمين بالتفليس، وقدر أن مشاهدتهم للقسمة لمال الغريم كالتصريح بإسقاط حقه فلا يحسن الخلاف فيه. وكأن هذا المتأول للاتفاق على أن مشاهدة القسمة علم على إسقاط الحق يرى أنها في الدلالة على إسقاط الحق في المحاصّة أقوى من الدلالة على مجرد السكوت. وكأن الغَيْرَ إلى هذا أشار في كلامه. وهذا منشأ الكلام فيه الاستشهاد بالعادات على المقصود مثل (¬1) هذه الأوجه للخلاف المذكور سوى اعتبار هذا من جهة العادات. وكأن ابن القاسم وغيره اختلفا في شهادة بعادة. وكان سحنون يشير إلى قصر الخلاف في هذا في مال المفلس إذا قام به بعض غرمائه طالبًا تفليسه. وأما لو كان ذلك في مال ميت فُلِسَ بعد موته وأخذ بعض غرمائه حقوقهم فإنه لا يسقط حق من سكت عن القيام معهم، وله أن يرجع على الغرماء القابضين فيحاصّهم، لأجل أن ذمة الميت خربت وانقطعت، فلا يظن أن من له حق فيها مسقط لحقه على الإطلاق وواهب له. بخلاف المفلس الحي فإنه بقيت ذمته فيقول: الغرماء في الصبر على طلب (¬2) بقاء ذمتهم واكتسابه، والرجوع على الغرماء فيما قبضوه، فلا يكون سكوتهم كالهبة لحقهم على الجملة بخلاف الميت الذي انقطعت ذمته، والرجاء في اكتسابه. وقد قال بعض الأشياخ: إن قول ابن القاسم في المدونة في سكوت بعض ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من مثل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الطلب.

الغرماء عن المفلس الحيّ إشارة إلى أن الميت بخلاف ذلك، كما قال سحنون لتقييده كلامه بحياة المفلس. وقد قال ابن القاسم: إن الغريم إذا شاهد الورثة يقتسمون المال ولم يطلب دينه ولا عذر له في سكوته على الطلب، فإن ذلك علم على أنه أسقط حقه في طلبهم. وهذا كله من التفرقة بين الحيّ والميت في حق بعض الغرماء أو التفرقة بين الميت إذا سكت، عند قسمة ماله، غريم، وقد قسم ماله وارث، أو غريم، وقد قاسم ماله غرماء، لا وجه له إلا الاستشهاد بمقتضى العادات في الدلالات على المقصود. فمتى اتضحت قرينة حال تدل أن القصد إسقاط الحق سقط ومتى كانت قرينة الحال فيها التباس وإشكال لم يسقط الحق بالاحتمال. وقد يستظهر باليمين على الساكت فيما يدغيه من قصده. هذا الحكم من (¬1) الساكت من الغرماء وبين من قبض منهم دينه. وأما إذا أوضح (¬2) التفليس وحكم به، ثم عامل الغريم قومًا آخرين فإن المفلِّسين القابضين لدينهم وما نابهم في الحصاص منه لا طلب لهم فيما في يده مما اكتسبه في المعاملة الثانية الحادثة بعد التفليس، لأن ما في يديه الآن مال الغرماء الذين عاملوه بعد التفليس، فليس للغرماء الأولين أن يأخذوا حق غريمهم من حقوقهم السابقة التفليس. وأما الساكتون عن التفليس فقد ذكرنا حكمهم مع الأولين الذين فلسوه. وأمّا حكمهم مع الآخرين الذين عاملوه بعد التفليس، فإن في الموازية أن لهم مشاركة الآخرين إذا فلسوه. وكأنهم لما لم يفلسوه هم جملة غرمائه. ولو كان الغريم طالبون (¬3) جماعة لم يقوموا بتفليس واختلفت تواريخ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وضح. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: طالِبوهُ.

معاملتهم له، واختلف به الحال بي استغناء وفقر، فإنه إذا قام عليه الغرماء تحاصّ جميعهم في ماله، مَن عامله وهو مُثرٍ ومن عامله وهو معدم. فكذلك هؤلاء الساكتون الذين سبق دينهم التفليس مع الذين عاملوه بعد التفليس، لكون العلة في منع التفليس الدخول مع الآخرين كونَ ما في يديه بعد التفليس، معلوم أنه مال الآخرين الذين عاملوه بعد التفليس. وهذه العلة تتصور في الساكتين عن تفليسه كما تصورت في القائمين بتفليسه. وكأن مطرفا رأى أن الذين لم يفلسوه وسكتوا عن طلبه لم يسلموا كونه مفلسًا. ولو قاموا كما قام أصحابهم لأظهروا له مالًا خفيًا فلا يثبت في حقهم حكم التفليس الدال على أن ما في يديه من المعاملة الثانية. وقد وقع لابن القاسم في كتاب السرقة: إذا كانوا (¬1) أحد غرماء المفلس غائبًا فقدم بعد الحكم بتفليسه ومعاملته لقوم آخرين، فإن هذا الغائب القادم لم يدخل مع الآخرين بدينه، على نحو ما حكيناه عن مطرف في سكوت بعض الغرماء الحاضرين عن تفليسه. ولو قام جميع الغرماء بتفليسه وتحاصوا في ماله فأبقى بعضهم ما نابه في الحصاص في يد غريمه، ومكنه منه، بعد أن حيل بينه وبينه، فإن هذا كمعاملة ثانية يضرب بها مع الآخرين الذين عاملوه بعد التفليس ويكون الضرب بعدد ما أعادوه (¬2) عليه لأن ذلك كاستئناف معاملة ثانية. وقد وقع في كتاب ابن حبيب أن هذا الذي أبقى نصيبه في المحاصة في يد هذا الغريم يُغْرَم بدينه كله، وقدّر أن الزائد على مقدار ما أعادوه إليه مما بقي من دينه عليه كأنه لم يقم بتفليسه فيه ولا في ما نابه من الحصاص لكونه أبقى ما نابه في يد غريمه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كان. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أعاده.

وقد قلنا: إن في الموازية تمكين الساكت من الغرماء على التفليس من دخوله مع الذين عاملوه بعد التفليس، على حسب ما تقدم بيانه. ولو أن هذا الذي فلس وعامله قوم آخرون طرأ له مال في فائدة يُعلم أنها ليست من مال الآخرين، كميراث ورثه أو أرش جناية أخذها، أو ربح حصله في المعاملة الثانية، لكانت المحاصة تجب في هذه الفائدة للغرماء الأولين والآخرين إذا قام الأولون بتفليسه، لارتفاع العلة التي ذكرنا أنها هي المعاملة المانعة لدخول الأولين فيما عامله به الآخرون وهي العلم بما في يديه هو من مال الآخرين لا حقّ للأولين فيه. فإذا طرأ على الآخرين انتقاصٌ في ديونهم ضربوا بما انتقص لهم في الفائدة الطارئة واشترك فيها الأولون والآخرون. وإذا لم يفلسه الآخرون وطرأت فائدة فقام الأولون طالبين لأخذ بقية حقوقهم منها مكّنوا من ذلك، ولم يمنعهم الذين عاملوه بعد التفليس من ذلك، لأنه ما دام قائم الوجه، للمبيع (¬1) ويشتري ويعامل. الناس، فهو محمول على أن ما داينه به الآخرون باق في يديه. لكن لو تبين انتقاصىُ ديونهم من يده لكان من حقه (¬2) الكشف على ذلك حتى ينكشف ما يوجب مشاركتهم في هذه الفائدة الطارئة. وقد ذكر في الموازية عن أشهب في رجل مات وعليه لرجلين ألفا درهم: لكل واحد منهما ألف درهم وترك الميت المديان عبدًا قيمته ألف درهم وألف في رهم ناضة فرفعت (¬3) الألف الناضة إلى الغريم الحاضر وبقي العبد، فإن العبد إذا هلك أو طرأ الغريم الغائب، فإنه لا يرجج على الغريم الذي قبض الألف بشيء، على ما كنا قدمناه أن ما بقي عند الورثة يحسب على الغريم الغائب، ويمنعه ذلك من الرجوع على الغريم الحاضر الذي أخذ حقه. ولو كان العبد قيمته خمس مائة درهم يوم موت سيده، ولكنه مضى عليه ما بين سيده وموته ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يبيع. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حقهم (أي الآخرون). (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فدُفعت.

في نفسه (ومن) (¬1) كان يساوي فيه ألف درهم يحسب ذلك على الغريم الغائب وكأن سيده مات عن عبد قيمته ألف لما كان لا يمر يوم إلاَّ ومن حق الغريم الغائب أن يأخذ العبد فيه بدينه، ومن حقي الورثة أن يبيعوه ويسلموا ثمنه إلى الغريم، فما طرأ بعد ارتفاع قيمته من موت أو نقص سوق فهو محسوب على الغريم الطارئ كما تقدم بيانه فيما سلف. ولو بيع العبد وقُضي ثمنه ألف درهم للغريم الحاضر، وبقيت الألف الناضة فضاعت لحسبت على الغريم الطارئ كما حسب العبد، إذا بقي ثم هلك، على الغريم الطارئ. ولو بيع العبد للغريم (¬2) الحاضر ودفع ثمنه إليه ثم رد بعيب البيع (¬3) ثانية فما نقص من ثمنه من حق القابض لثمنه أن يرجع، على الغريم الطارئ إذا قبض الألف الناضة، بما ينوبه من الحصاص في مقدار ما نقصه العيب، وهذا الذي ذكره ها هنا من اعتبار أعلى قيمة مرت بالعبد من يوم مات سيده إلى يوم موت هو فحوى أحد القولين فيمن غصب عبدًا قيمته مائة دينار ثم صار بعد ذلك يساوي ألفا، ثم مات فإن الغاصب يضمن أعلى قيمة مرت به، لأنه كلَّ يوم مخاطب بأن يرد العبد على سيده، فيُعدُ كل يوم غاصبًا مبتدئًا للغصب فيمن (¬4) قيمته التي هي ما مرّ به. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أن هذه المسألة التي ذكرنا عن الموازية قول ابن المواز عزل العبد للغائب: إن ذلك لأجل أنه مال مفلس مات، وأنه بخلاف المفلس الحي. وقد قدمنا نحن فيما قبل مسألة مطرف وابن الماجشون وذكرنا أنهما يريان أن ما فضل بيد الورثة أو الغريم المفلس يحسب على الغريم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: زمن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من الغريم. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فبِيع. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في.

الطارئ، وذكرنا مخالفة أصبغ لهما في الفلس خاصة، وأنه لا يحسب ما بقي في يديه بعد أن يغرم إليه الغريم الطارئ. وكذلك لا يحسب عليه ما وقف بعد قضاء الدين، فمتى طرأ غريم لم يعلم به على غرماء فإنه يطالب كل واحد منهم بمقدار ما ينوبه في الحصاص، ولو طرأ وارث على ورثة ففيه قولان: مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أنه كغريم طرأ على غرماء، إنما له أن يطالب كل واحد من أصحابه بما ينويه في الحصاص خاصة، ولا يرجع عليه بأكثر من ذلك ولو غاب بقية أصحابه. ومذهب أشهب وغيره أنه يقاسم الوارث القادم من وجد من الورثة فيما في يديه على مقتضى الفرائض التي فرضها الله تعالى في مال الميت لورثته، ثم يرجعان جميعهم على من لقياه من الورثة على هذا الأسلوب حتى يعتدلوا في المال الاعتدال التي (¬1) توجبه أحكام الفرائض والمواريث. وأما طروء غريم على وارث أو موسى لهم فإنه يستوفي حقه منه لكون البارئ سبحانه قدم حق أصحاب الديون عني الورثة والموصى لهم فقال {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (¬2). وسنبسط هذا في كتاب القسم إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: إقرار المريض بدين لرجل يقع على وجوه، منها أن يقر بدين لأجنبي أو يقر بدين لوارث أو صديق ملاطف أو يقر بدين لأجنبي ووارث أو لأجنبي وصديق ملاطف. وكان مقتضى الترتيب عندنا أن يجمع ذلك كله بعد ذكر فصل تذكر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الذي. (¬2) النساء: 11.

فروعه، ولكنا قدمنا العذر عن سبب الاخلال بالرتبة الواجبة عندنا في حكم التأليف، وأنا قد توخينا ترتيب المدونة. وقد تقدم كلامنا في كتاب التفليس على إقرار المريض بدين لوارث أو لأجنبي وصديق ملاطف. وذكر في المدونة في كتاب المديان حكم إقرار المريض بدين لأجنبي أو لوارث. فأما إقرار حكم المفلس الصحيح بعد الحجر فقد تقدم بيانه في كتاب التفليس. وكذلك إقراره بعد الحجر وقد تبين فلسه وأقرّ لمن لا يتهم أولمن يتهم في إقراره وذكرنا الخلاف في ذلك في المذهب. وكذلك ذكرنا قضاءه لبعض غرمائه دون بعض وقد أحاط الدين بماله. وأمّا المريض فإنه إذا قضى دينًا لبعض غرمائه ثم مات من مرضه، فالمنصوص في المذهب أن ذلك لا ينفذ لأن قضاءه حينئذ يحمل على التوبيخ (¬1) لمن قضاه دينه وإيثاره على من سواه من الغرماء. بخلاف قضاء من تبين فلسه فإنه يمضي على أحد القولين لأجل أن ذمته باقية يطلبها من لم يقض دينه من الغرماء ويضايقونه في طلب حقوقهم ولا يقصد التوبيخ (1) والإيثار إلا مع إضرار نفسه بطلب من لم يقض حقه من غرمائه. وأمّا المريض فإنه إذا قضى بعض كرمائه ثم مات ارتفع عنه بموته ضرر طلبهم فتقوم التهمة بقصده إيثار قوم من غير ضرر يلحقه من قوم آخرين. لكن ذكر سحنون في المدونة عقيب قوله: إن قضاء المريض لا يجوز، أن غيره قال: المريض لم يحجر عليه في بيعه وشرائه أو إقراره. فحمل هذا القول بعض الأشياخ على أن ظاهره يقتضي جواز قضائه لبعض غرمائه. وإنما أورد هذا القول استدلالًا بجواز معاملته وإقراره على جواز قضائه، فيكون على هذا في المدونة قولان في قضاء المريض الذي أحاط الدين بماله أيضًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التوليج.

وإلى إمضاء قضاء دينه ذهب سحنون. وأما لو كان عنده ما يوفي سائر الديون التي عليه (وليس بتصريح في إجازة القضاء لبعض الغرماء دون بعض) (¬1). ويمكن أن يكون أراد التنييه على مذهب المخالف الذي يمنع إقرار المريض وعليه ديون استدانها في الصحة شهد بها عليه بينة. فإن هذه المسألة مما اختلف فيها فقهاء الأمصار: فمذهب مالك والشافعي أنه إذا أقر بدين في مرضه لأجنبي ليس بصديق ملاطف ولا تتطرق إليه تهمة في إقراره له فإنه يحاصّ الغرماء الذين داينوه في الصحة ولهم بديونهم بينة. ومنع ذلك أبو حنيفة ورأى أن الديون الثابتة عليه في الصحة ببينة مقدمة على حق هذا الذي أقر له كما لو أقر بعد الحجر والتفليس بدين لم يحاص هذا المقر له الغرماء الذين حجروا عليه بسببهم (¬2)، بهذا الدين الذي أقر به بعد الحجر. لكنه يبقى للمقر له ذمة المفلس المحجور عليه حتى يكتسب ما يقضيه منه الذي أقر له به. والعلة في ذلك أن حقوق الغرماء المحجَّر على المديان بسبب ديونهم كأنها تعلقت بعين المال الذي حيل بينه وبينه، فليس له أن يتلفه عليهم بالإقرار. وكذلك إقرار المريض بدين وعليه ديون استدانها في الصحة تشهد بها بينة فإنه أيضًا إنما يكون للمقر له المطالبة فيما يطرأ للميت من مال لا فيما تعلق به حق الغرماء. ودافعه أصحابنا عن هذا القياس بأنه لو قامت بينة المقر له بعد التحجير بصحة ما أقر (له به الغريم) (¬3) لقضي له بذلك وحاصّ به الغرماء الذين وقف ¬

_ (¬1) ما بين القوسين، هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) ما بين قوسين في النسختين، ولعل الصواب: به للغريم.

لهم المال. ولو قامت بينة بأنه عامل بعد الحجر واستدان لم تنفع إقامة البينة هذه في وجوب المحاصة لهذا الذي عامله بعد الحجو. وأمّا المريض لو قامت بينة على معاملته في مرضه لقضي بصحة هذا الدين وحاص به مستحقه الغرماء الذين عاملوه في الصحة. فقد افترق حكم البينة إذا عامل المفلسُ المحجورُ عليه بينة (¬1) من حكم معاملة المريض بالبينة، فإذا ثبت أن البينة إذا قامت على معاملةٍ في مرضه واستدانتها وجب أن (¬2) على حسب ما يقضى لمن داينه في الصحة. فإذا أقر لمن يتهم عليه وجب أيضًا أن يقضى له ذلك، ويقام (¬3) البينة على إقراره كقيام البينة على معاملته في المرض، لأنه لا يمنع من الإقرار ولم يحجر عليه فيه. ويمكن أن يكون ما ذكرناه من (¬4) غير ابن القاسم في المدونة إلى هذا المعنى أشار. وإن استدل المخالف على أن من ارتهن رهنا فإنه أحق بعين رهنه من غيره من الغرماء الذين لا رهن لهم، فكذلك يجب أن يكون غرماء الصحة إذا كانت ديونهم ببينة مقلَّمين على الدين الذي أقر به في المرض، ويرجح الدين السابق في الصحة على هذا الذي أقرّ به في المرض، لكون تصرف الصحيح في ماله أبسط وأمضى لأنه له أن يهبه وليس للمريض أن يهب جميع ماله مع كون غرماء الصحة قد تعلق حقهم بعين المال فوجب أفي يقدَّموا كما قُدم المرتهن في الرهن على غيره من غرماء صاحب الرهن. أجيب عن هذا بانا لا نسلم أن غرماء الصحة تعلق حقهم بعين مال المريض؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لكان ضياع مال المريض منهم، ولكان لهم أن يمتنعوا من أخذ ديونهم إلا من عين ما ترك. ولو بذل لهم أحد الورثة أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ببيّنة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل هناك سقط، والصواب: [أن يُقضى]. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيام. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عن.

أجنبي ديونهم لم يتعلق لهم حق في عين المال. وكذلك الرهن لا يتعلق الحق بعينه بدليل أن صاحبه له أن يدفع الدين من غير ثمن الرهن، وأنه إذا ثبت ضياعه يسقط حقه في ضمانه. وإنما للغرماء أن يمنعوا المريض من الإتلاف لماله المضرِّ بهم من غير معاوضة. وأمّا ما سوى ذلك من تصرفه فيه بالمعاملات والإنفاق منه فإنهم ليس لهم منعه. فالترجيح الذي ذكروه ما بين غرماء الصحة المقر له في المرض غير مسلم لهم بما ذكرناه. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: وأما ما ذكرناه من إقرار المريض لأحد ورثته وسقناه في خلال التقسيم فإنه أيضًا مما اختلف الناس فيه: فذهب أبو حنيفة إلى أن إقرار المريض بدين لأحد ورثته مردود على الإطلاق. وإطلاق القول فيه كما أطلقه في إقراره في موضعه بدين وعليه ديون ثبتت في الصحة ببينة. وأفا الشافعي، فالمشهور عند أصحابه أن مذهبه (¬1) إقرار المريض لأحد ورثته بدين. ومنهم من يحكي فيه قولين. ومن أصحابه من ينكر الخلاف عنه في هذا، ويرى أن مذهبه إمضاء هذا الإقرار على الإطلاق. وأما مذهب مالك وأصحابه فإنهم يعتبرون التهمة في هذا الإقرار، فمهما ظهر ارتفاعها مضى الإقرار، ومهما ظهر حصولها ووقوعها رد الإقرار. فكأن أبا حنيفة يرى أن المريض (¬2) له أن يغيّر حدود الفرائض التي سماها الله سبحانه بين الورثة ولو صرح بأن مراده تغييرها لم يلتفت إلى قوله وقسم ماله على فرائض الله سبحانه بين ورثته. فإذا لم يصرح بها ولكنه قال قولًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [إمضاء]. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل هناك كلمة سقطت فيصير: [ليس] له.

يؤدي إلى تغييرها ردّ قوله. وإذا أمضينا إقراره بدين لأحد ورثته فقد صار ذلك تفصيلًا له فيما يأخذه من ميراثه على سائر الورثة، وهو ممنوع من التصريح بالتفضيل فكذلك إذا لم يصرح به، وقال قولًا يؤدي إليه. وكأن الشافعي رأى أنه لو أقرّ بدين لأجنبي لا يتهم في الإقرار به، ولا دين عليه لأحد، فإن إقراره ماض، وكذلك إذا أقر لأحد ورثته بدين فإنه ماض ولا يتحقق تهمة في هذا الإقرار، فيفارق حكم. الوارث حكم الإقرار للأجنبي ومن هو كالمنصرف عن الدنيا، ومقبل على الآخرة تبعد عنه التهمة، ألا تراه لو استلحق ولدًا لقبل ذلك منه، ولحق به، ولم يتهم على أنه قصد إلى إبطال حق من سواه من الورثة، فكذلك إقراره بالدين. ونحن نجيب عن هذا بأنه لو صرح بأن قصده أن يفضل وارثًا على وارث لم يتم مراده في ذلك، فكذلك إذا دلت قرائن الأحوال على قصده التفضيل. وأما استلحاق الولد فأحد القولين عندنا أنه يعتبر فيه التهمة. وعلى القول (¬1) الإعراض عن الالتفات إليها، فإن التهمة في استلحاق الإنسان تبعد ممن هو سائر إلى الآخرة عن قرب. فكذلك لا يبعد أن يفترق مع قوة التهمة من قصد التفضيل وتبعد التهمة في استلحاق نسب ليس هو منه. فإذا تقرر منشأ الخلاف، فاعلم أن المسطور في الروايات في هذه المسألة فيه اضطراب ولكن إنما يقع الاضطراب فيما التهمة فيه، وينبغي أن يعرض ما وقع في هذه المسألة من وقائع عند أصحابنا واختلاف على الالتفات إلى شهادة العوائد بالتهمة وحصولها في الإقرار، وشهادة العوائد في ارتفاعها. ومهما اضطربت العوائد وأشكل أمرها فإلى هذا يصرف منشأ الخلاف. فكأن من أمضى الإقرار اعتقد ارتفاع التهمة، ومن أصرفها (¬2) اعتقد حصولها ووقوعها، فيفتقر ¬

_ (¬1) لعل هناك سقطًا، ولعله [الآخر]. (¬2) هكذا في النسختين، ولعلها: أقرّها.

حينئذ إلى النظر هل الأصل إمضاء الإقرار حتى يثبت ما يدفعه من التهمة، أو الأصل ردّه كما قال أبو حنيفة حتى يثبت ما يمضيه؟ وقد وقع في المدونة في هذا ما يوهم في هذا النوع تنافرًا. فقال في إقرار الرجل في مرضه بدين لزوجته وله ولد: إن إقراره لها نافذ إلا أن يعرف بالميل إليها، وإبعاد لولده، فيردّ إقراره. وهذا لأن في طباع البشر ومقتضى الجبلات الميل إلى الأبناء أكثر من الميل إلى الزوجات. فاستدل بالعوائد ها هنا على إمضاء الإقرار إلا أن يثبت الحال ما يناقض هذا الاستدل الذي كونه عوف منه ضد مقتضى العادات في هذه الزوجة وهذا الولد. ثم قيل له بعد ذلك: فغير الزوجة والولد من القرابات؟ فقال: لم أسمع من مالك في هذا شيئًا، وأشار إلى رد الإقرار مع التساوي في القرب. وقد اختلف في شهادة رجل لأحد ولديه على الآخر وهما متساويان في المنزلة عنده: هل تمضي شهادته لأن التهمة في المشهود له يدفعها بعد التهمة في المشهود عليه. ولم يذكر اختلافًا في إقراره بدين لأحد ولديه ويرث مع هذا الولد ولد آخر مساويه في المنزلة. ولا يبعد تخريج الخلاف في الإقرار بالدين من الشهادة لأحد الولدين على الآخر إلا أن يقال: إن الشهادة للولد مردودة من ناحية السنة والشريعة فلا ينفصل القول فيها. وقد اختلف في إقراره بدين لولد عاقّ، وله ولد سواه غير عاق، بإمضاء هذا الإقرار لارتفاع التهمة لأجل عقوق المقر له، ورُدّ لأجل أنه يمكن أن يكون يحنو على العاق ويرحمه، ويخشى عليه الفقر يعد موته لسبب سوء سيرته وتدبيره. وقد اختلف أيضًا في الإقرار إذا تطرقت إليه التهمة من جانب وارتفعت من جانب آخر. مثل أن يقر بدين لزوجته ووارثه ابن عمه، فإن العادات تشهد بإيثار الزوجة على ابن عمه .. ولو أقر لابن عمه لمضى ذلك له، لكون الزوجة آثر

عنده من ابن عمه. فلو انضاف إلى هذ ابن ت للمقر فإنه اختلف في نفوذ إقراره لزوجته. فقيل: يرد إقراره لأن الإقرار لها ينقص ميراث ابن عمه فيتهم بقصده تفضيلها على ابن عمه. وقيل: بل يقضي هذا الإقرار لكون ابنته التي هي آثر عنده من زوجته يلحقها من هذا الإقرار انتقاص من حقها أيضًا ومن مقدار ميراثها. فما يلحقها من الضرر في هذا الجانب يرفع التهمة من الجانب الآخر وهو قصد الضرر بابن عمه. وكذلك لو أودع ولده وديعة ببينة ثم أقر في مرضه أنه أخذها منه من غير بينة تشهد للودد بالردّ، فإنه قد قيل: إقرار الأب مردود لأن دعوى ردّ الوديعة المأخوذ ببينة لا يقبل إلا أن يقيم الذي ردها بينة تشهد بردها فكانه أبرأه مما لا يصدقه الشرع في البراءة منه. وقيل: بل ينفذ هذا الإقرار لأن الولد لو ادّعى ضيعها لقبل ذلك منه بغير بينة، فترتفع التهمة في هذا الجانب الآخر أيضًا وإن ثبت من جانب سواه كما صورناه. وهذا على إحدى الطريقتين لأن قول المودع مقول (¬1) في الرد بغير بينة لقدرته على ادعاء الضياع فيصدق على ما يبسط في موضعه إن شاء الله تعالى. وهذا كله يشير إلى إشكال في كون الأصل إمضاء الإقرار حتى يتضح ما يوجب ردّه، أو الأصل ردّه حتى يتضح ما يوجب إمضاءه. وقد ذكر في المدونة أن أصل قول مالك والذي يعتمد عليه في هذا اعتبار التهمة فإذا ظهرت ردّ الإقرار. وظاهر بعض الروايات كون الإقرار ماضيًا حتى تظهر تهمة فيه. وكذلك الإقرار في المرض بدين لصديق ملاطف تعتبر فيه أيضًا التهمة. وهي تتصور بأن يكون عليه دين ببينة لقوم أباعد من القرابات فيتَهم أيضًا أن يؤثر صديقه عليهم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مقبول.

ولكن ذهب ابن عبد الحكم إلى إمضاء إقراره للصديق الملاطف وإن كان ورثته أباعد. وذهب أحمد بن ميسر في هذه المسألة إلى اعتبار حال المقرّ في اعتقاده ودِينه: فإن كان يعتقد التأثيم في ذلك فقصده التوليج (¬1)، وهو من أهل الدين والصلاح، فإن إقراره نافذ. ولو كان من (¬2) الأباعد بنت لهذا المقر لجرى ذلك على الاختلاف الذي قدمناه من كون التهمة تتصور من جانب هروبه بماله من عصبته الأباعد، وترتفع من جهة ما يلحق ابنته من انتقاص فرضها. وقد اختلف في أحد الأبوين إذا. أقر بدين لصديق ملاطف: هل يتهم لإيثار الصديق عليهما بماله، على حسب ما ذكرناه في كتاب الوصايا الأول من المدونة أو لا يتهم في ذلك، كما ذكره في الموازية، وهو الأشبه في مقتضى العادات. وإذا رددنا إقراره لصديقه الملاطف لتصور التهمة التي بناها (¬3) فإنه يجري في ذلك مجرى اختلاف من وجه آخر وهو ارتفاع التهمة يكون ما أقرّ به للصديق الملاطف يقدر على أن يعدل عن الإقرار به ويجعله وصية له، فلا يكون لأحد رذه. فإذا تصورت التهمة من جانب وارتفعت عن هذا الجانب اللاحق وهو قدرة المقر على أن يجعل ذلك وصية لصديق فلا ترد. وهذا كما ذكرناه في المكاتب إذا أقر في مرضه أنه قبض كتابته واتهم في ذلك فإنه إذا كانت الكتابة تخرج من ثلثه نفذ إقراره، وعجل عتقه، لارتفاع التهمة في هذا الإقرار بالقبض، أن يجعله وصية فلا يرد. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوْلى إضافة: بعيد. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب تعويض (من) بِـ: مَعَ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بينّاها.

ويتخرج أيضًا على قول آخر: إن هذا الإقرار، وإن لم يحمل جميعَه الثلث، فينفذ منه مقدار ما حمله الثلث. ويكون ذلك على التخريج الأول من رأس المال لأن الديون إنما تقضى من رأس المال. وهذا التخريج الثاني مما ذكره في المدونة في كتاب العتق في إقراره بتعيين من أعتق أن فضلة قيمته تكون في الثلث، فلا يخرج هذا إلا من الثلث. وجميع ما صورناه من التهمة في إقرار بدين في المرض يتصور في إبراء المريض من ديون له أيضًا وجميع أيضًا (¬1) ما ذكرناه مما يوجب رده التهمة فإنه إذا ظهر ما يدل على صدق المقر له على الجملة دون التفصيل نفذ الإقرار، كما قال في الأخت المقرَّ لها بدين فرد إقراره، قال: ألا يعلم أنها كانت تقتضيه منه في صحته. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: إذا أقر أحد ولدي الميت على أبيه بألف درهم، ولم يترك الميت الألفي (¬2) درهم ولا وارث له سوى ولده المقر بهذا وولد آخر وهو منكر لهذا الإقرار، فعن مالك في هذا روايتان: إحداهما أن هذا المقر لا يلزمه إلا إذا (¬3) نصف هذا الدين الذي أقر به، يدفع ذلك للمقر له مما ورثه عن أبيه، وقد ورث ألف درهم، وورث أخوه الألف الآخر. فماذا سقط الدين على الألفين ناب كل ألف منها خمس مائة درهم، والمقر إنما في يده نصف التركة وهو ألف درهم، فعليه منها نصف الدين وهو خمس مائة درهم، ويبقى في يده خمس مائة درهم يرثها، ويُحيل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما ذكرناه أيضًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلاَّ ألْفَيْ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذفها.

المقر له على أخيه فيستحلفه على الخمس مائة درهم التي بقيت من دينه إن تمادى على جحوده. هذه رواية ابن القاسم عن مالك وبها أخذ ابن القاسم وإليه ذهب أبو حنيفة. وروى أشهب عن مالك أن المقر له يأخذ جميع دينه من الألف التي هي جميع ما ورثه المقر. وبهذه الرواية أخذ أشهب. وإليه ذهب الشافعي. ومشاهد (¬1) الخلاف اعتبار الموجود من هذه التركة الذي أخذه الولد المنكر للدين: هل يقدر ذلك كالجوائح التي تطرأ على بعض التركة، كغصب بعضها، أو ذهابها بأمر من الله سبحانه. فإن الدين ينحصر إلى ما بقي منها، فلا ميراث إلا ما فضل عن الباقي منها بعد الجوائح. فيقدر أن ما أخذ الولد المنكر للإقرار لما ظلم في أخذه، صار كذهاب بعض التركة بالغصب، فتعين قضاء الدين مما فضل عن الغصب، ولا يستحق أحد فيها ميراثًا إلا بعد قضاء الدين كله. ألا ترى أنه لو قامت بينة بالدين، ووجد الغريم الذي له الدين بعض التركة في يد بعض الورثة، وبقيتها قد أتلفه من أخذه من الورثة، وهو فقير، فإنه لا خلاف أن يؤخذ الدين كله من جميع الموجود في يد الوارث الحاضر، ويصير ما أخذه الوارث الآخر كأن الميت لم يتركه، فيتعين قضاء الدين من الموجود الذي اختص به الوارث الحاضر المليء. فكذلك يجري حكم الإقرار مجرى حكم إقامة البينة. وأما الرواية الأخرى فقد أشار إلى تعليلها بأنه لو أخذنا المقر بجميع الدين، ونزعنا جميع ما في يديه، لم يقر أحد من الورثة بدين على أبيه، لأجل أنه يؤخذ منه جميع ميراثه فيه ويبقى بلا ميراث دون غيره من الورثة. فاقتضت ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَنْشَأ هذا.

المصلحة على هذا المذهب تسهيل باب الإقرار بالحقوق على الورثة، فإذا علم الوارث أنه لا يؤخذ منه إلا مقدار ما ينوب ميراثه من الدين إذا قسط الدين على ما في يد المقر ويد غيره خف عليه الإقرار وانتصل (¬1) من هذا الحق. وإذا علم أنه يؤخذ من يديه ما يُستحق عليه منه وما يستحق على بقية الورثة هرب من هذا الإقرار وكان هذا من الدواعي المعينة على جحد الحق. وهذا كما يقال: إن شاهد الزور إذا أقر أنه شهد بالزور لم يعاقب، إذ لو عوقب لم يرجع أحد عن شهادة شهد فيها بالزور، فكانت المصلحة تقتضي رفع حق الله سبحانه ها هنا في العقوبة على شهادة الزور، كما كانت المصلحة تقتضي ألا يؤخذ المقر من الورثة إلا بما ينوبه ويسقط حق المقر له لأجل هذه المصلحة أيضًا. وإن كان الموجود من المال بيد الوارث الذي يعتقد أنه ليس بغاصب له ولا ظالم في جحوده الدين، على ظاهر ما يقول يقدر كأنه موجود لم يقسم فيكون قضاء الدين مقسطا على جميع المال، وعلى ما في يد كل وارث إذا كان جميعهم حضورًا أملياء. وإذا وجد التقسيط كان الجاحِد من الورثة كأنه انفرد بالظلم من إمساك حق هذا المقرّ له. وقد اعتمد بعض البغداديين من أصحابنا على القياس على الوصية فقال: اتفق على أن أحد الورثة إذا أقر بوصية من أبيه لرجل فإنه لا يؤخذ بجميعها مما في يديه، بل من ثلث ما في يديه، حتى كأن التركة حاضرة لم تقسم، فيكون الثلث مقسطًا على جميعها. وسنتكلم نحن إن شاء الله تعالى على طروء موصىً له على أحد الورثة وكيف تكون مقاسمته له في كتاب القسم. وعلى هذا الاختلاف جرى الأمر بين ابن القاسم وأشهب في مسألة وارثين شهدا بأن أباهما أعتق عبدًا له معيَّنًا، وهو مقدار ثلث التركة، فردّت شهادتهما للتهمة في جرّ ولأنه، إن كان ممن يرغب في ولأنه، وجازت شهادة الأجنبيين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وتنصل.

بالوصية بالثلث، فأخذ الثلث الموصى له بثنث المال، وصار العبد بالمقاسة إلى الوارثين. فمذهب ابن القاسم أنه يعتق ثلثا العبد عليهما، وثلثه الباقي قد طرأ الغصب عليه فيه، وقد أخذ المشهود له بثلث المال بناء على أن الموجود من المال كأنه باق لم يقسم. وذهب أشهب إلى أنه يعتق عليهما جميع العبد، بناء على أصله الذي قدمناه من وجوب أخذ الدين كله من يد المقِرّ من الورثة. وسنبسط الكلام على هذه المسألة في موضعها إن شاء الله تعالى. وهذا الذي ذكرناه من إقرار أحد الولدين على أبيه، والولد الآخر منكر، إنما يكون الحكم فيه ما ذكرناه إذا كان المقر غير مقبول الشهادة، لعدم العدالة، أو لكونه سفيها في ماله لكنه عدل، على أحد القولين في منع قبول شهادة السفيه وإن كان عدلًا. وأما على القول بقبول شهادة السفيه إذا كان عدلًا في غير ما فيه إتلاف ماله فإن المقر له يحلف مع شهادة الولد، ويستحق جميع الدين، لأن من قام له شاهد بمال على ميت حلف مع شهادته واستحق جميعه. وإذا كان الشاهد سفيهًا لكنه عدل، وقُضي بأحد القولين في قبول شهادته، فإنه ها هنا إذا حلف المقرّ له مع شهادة المقر أخذ جميع دينه من الأخ الجاحد للدين، ويصير ذلك كالدين: إذا ثبت ببينة فإنه لا يختلف في أخذ الدين كله مما في يد أحد الورثة، سواء كان جاحد للدين أو مقرًا به. فكذلك ها هنا إذا حلف مع شهادة الولد العدل السفيه استحق جميع الدين. ولكن لا يؤخذ ذلك من يد هذا الشاهد السفيه العدل؛ لأنه كالإتلاف لماله بإمضاء إقراره لما يؤدي إلى تلفه. واليمين ها هنا مع شهادة المقر تتضح فائدته (¬1) عندي على طريقة ابن القاسم في أنه لا يؤخذ من المقر إذا كان مردود الشهادة إلا مقدار ما ينوبه من الدين، وإذا كان ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

ممن تقبل شهادته أفاد المقرَّ له اليمينُ مع شهادة المقر بأن يأخذ دينه كله ويرجع على الوارث الجاحد. وأما على طريقة أشهب، الذي يرى أنه يأخذ الدين كله مما في يد المقر فإن هذا مما ينظر فيه لكون هذا المقر له لا فائدة في يمينه إذا وجد طريقًا إلى أخذ جميع دينه من يد المقر. فكانه إنما يحلف لإفادة غيره، وهو هذا المقرّ يفيده أن يرجع إلى أخيه، وينفي عن نفسه المطالبة بما وجب عليه. وهذا بيان الحكم في إقرار أحد الورثة بدين في ذمة أبيه. وأمّا لو أقر باستحقاق رجل عرضا من تركة أبيه مثل أن يترك عبدًا فيقول أحد الولدين: هذا العبد لفلان وليس لأبي .. فإن نصيب هذا المقر يُقضى به للمقر له، لكون المقر يعتقد أنه لا يحلِ له أن يرثه عن أبيه لكون هذا المقر له يستحقه. ولا يقضي إقراره هذا في نصيب أخيه إذا لم يكن عدلًا ممن يحلف المقر له مع شهادته، ويصير العبد نصفين بين الولد الجاحد لهذا الإقرار، وبين المقر له. ولو كان الأب ترك عبيدًا جماعة، فقد قيل: الحكم ما ذكرناه، وليس للمقر له سوى نصف العبد المقر له به. وهو ظاهر كتاب الوصايا في المدونة، لأنه ذكر أن الميت ترك عبيدًا كثيرة، وأطلق الجواب بما ذكرناه. وقيل: إذا لم يسلم المنكر لهذا الإقرار فإنه يكون جميعه له، ويرجع المقر له على المقر بمقدار ما زاد نصيبه في القسمة، عوضًا عن نصيبه في هذا العبد سلم، ويصير كمن باع عبدًا لغيره، فإن عوض العبد المبيع عليه العبد وإن صار بالقسمة إلى المقر أخذ جميعه المقر له لاعتراف من صار له بالقسمة أنه قد صار إلى يديه جميع العبد، وليس لأبيه فيه ملك ولا شركة في ملك، وإنما ملك جميعه هذا المقر له) (¬1). ¬

_ (¬1) الفقه واضح، وفي الكلام اضطراب.

ولا يلزم أن يتخرج في هذا الخلاف المشهور فيمن فدى من أيدي اللصوص شيئًا أنه يستحق على مالك الشيء المفدى ما فداه به، إن شاء ربه أخذه، لأنه لولا الفداء ما وصل إليه رَبُّه إن (¬1) الفادي لمال غيره دخل في ذلك باختياره، وقدر أنه من حسن النظر لرب المال، وهذا الولد المقر إذا صار إليه جميع العبد الذي أقر أنه لغير أبيه فنصفه الذي يستحق ميراثه أخوه المنكر لهذا الإقرار، وإن كان هذا المقر قد دفع عنه عوضًا من ماله حتى خلص جميعه إليه فإنما هذا إنما هو بالجرّ، وحكم الشرع يوجب القسمة ولم يدفع عوضًا باختياره ليفديه لصاحبه، بل أخوه عنده في حكم الغاصب الذي غصبه نصف هذا العبد بدفعه لأخيه المقر، وأخذ من مال أخيه عوضه. والغاصب إذا غصب للإنسان سلعة، ودفع إليه سلعة أخرى عوضها، وجبره على ذلك كله، فإن السلعة المدفوعة لهذا المغصوب منه سلعة يستحقها صاحبها إذا كانت مغصوبة أيضًا من غير أن يدفع عنها عوضًا، فيبعد الخلاف في هذا الذي يقدر أنه فدى لما كان بالجبر والإكراه، ويحسن الخلاف فيما كان بالاختيار. ولو فدى فاد شيئًا مما كان في يد أهل الحرب، وأخذوه في غنائم المسلمين، لرجع بما فداه لأنه كالمشتري له من قوم يستحلون في شرعهم تملكه، على ما بسطنا حكمه في كتاب الجهاد. والجواب عن السؤال الحادي عشر (¬2) أن يقال: إقرار الوصي على من في ولأنه بحق فيما تولى المعاملة لهم فيه، فيقبل قوله فيما أخذه من غرمائه أو باع منهم أو اشترى؛ لأن الشرع أقامه مقام أبيهم، وأبوهم أقام الوصي مقام نفسه. وكذلك أقام الشرع آباءهم مقام أنفسهم، لو كانوا بالغين رشداء لعجزهم عن النظر لأنفسهم، فجعل ذلك لأبيهم، وليس لأبيهم ولا لوصيهم أن يدعي على أحد بدعوى توجب لليتامى مالًا لم يثبت. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعله: لأن. (¬2) هذا السؤال من تعداد الأسئلة.

والوصي والأب كالأجنبيين لا علاقة بينهما وبين اليتامى. لكن ما تولى الوصي المعاملة فيه فله المطالبة به والدعوى، لأن فعله يقوم مقام فعل اليتامى بأنفسهم. ولو ادعى اليتامى لأنفسهم، وهم رشداء لمكنوا من ذلك. وكذلك من أحله الشرع في محفهم ونائبًا عنهم. فلو قال الوصي: قبضت مالًا من الغريم لليتامى من سلف أسلفه أبوهم في حياته، أو ثمن سلعة باعها في حياته، لم يقبض بذلك على اليتامى، وإنما يكون شاهدًا لمن عليه الدين، من سلف أو بيع، فإن كان عدلًا حلف معه الغريم، وبرىء من الديون التي كانت للأب. وإن لم يكن عدلًا، وردت شهادته، لم يبرأ الغرماء من الديون التي كانت للميت عليهم. وكذلك لو كان الوصي عدلًا، ونكل الغرماء على اليمين مع شهادته، لم يبرأوا أيضًا من الدين. واختلف هل يلزم الوصي إذا قبض هذا المال من الغرماء لليتامى أن ينظر فيه كما ينظر في غير ذلك من أموالهم أم لا؟ فقال: ليس ذلك عليه، لاعتقاده أنه أخذ ظلمًا وعدوانًا، ممن هو برىء منه. فمقتضى قوله: يبرأ الغريم، أنه لا يحل له النظر لليتامى فيما أخذلهم من ذلك. وقيل: بل يَنظر فيه كما ينظر فيما سواه من أموالهم التي هي على ملكهم بالوجه الواضح، لأنه قد التزم النظر في مإل هؤلاء اليتامى وصيانة مالهم فليس له التخلص من ذلك بعد التزامه وموت أبيهم الموصي عليهم، بل يتهم في هذا الاعتراف ببراءة الغريم أن يكون أراد التخفيف عن نفسه، وإسقاط المشقة عنه، في تكلف صيانة هذا المال وحفظه والنظر فيه. وأما إقراره بأنه باع لهم سلعة كذا واشتراها، وأخذ أثمان ما تولى بيعه من أموال اليتامى فإن قوله في ذلك مقبول ما دام اليتامى في ولايته لم يرشدوا ويكون هذا الإقرار كإقرار اليتامى على أنفسهم وهم رشداء كما قدمناه. وأما لو كان إقراره بقبض هذه الديون التي عامل بها من أموال اليتامى، فإن المذهب على قولين في الاكتفاء بمجرد إقراره:

ففي الموازية أنه لا يكتفي بذلك دون أن يحلف الغرماء الذين أبرأهم الوصي مع شهادتهم بإبرائهم إن كان عدلًا. وهذا كنحو ما ذكر في المدونة في إقرار أحد الشريكين المتفاوضين بعد موت شريكه وانقطاع المعاوضة بالموت: أن السلعة التي في يد فلان رهناها في كذا وكذا دينًا استدناه، فإنه جعل الشريك ها هنا شاهدًا أيضًا، مع كونه أضاف هذا الإقرار إلى من كان مقبول القول فيه على شريكه، ولكنه وقت إيقاع هذا القول لم يكن مصدقًا على شريكه. وهذا على نحو ما اختلف في شهادة الحميل وعلى نحو ما اختلف في الوكيل على بيع سلعة إذا أقر بعد بيعها بفساد البيع، لأنه أضاف هذا الإقرار وأسنده إلى زمن كان فيه وكيلًا، ولكنه لم يُسمع منه إلا الآن في زمن انقطعت وكالته فيه. وكذلك الوصي وقع منه هذا القول مسندًا إلى زمن كان مقبول القول فيه، ولكنه وقع منه هذا القول في زمن صار غير مقبول القول فيه. وذهب سحنون إلى أن الوصي مصدق في ذلك. هذا المذهب بناء على إحدى الطريقتين اللتين ذكرناهما. وقد اختلف في العامل بالقراض إذا قال بعد المعاملة: نسيتُ النفقة. هل يصدق أم لا؟ وهو لو قال ذلك في زمن لم ينفصل فيه من رب المال لصُدِّق أيضًا (¬1). وإذا ادعى الوصي أنه دفع ما على الأيتام من ديون وخالفه مستحقوها، وأنكروا أن يكون دفع إليهم شيئًا، فإن القول قولهم، إذ لا يبرأ من عليه دين بمجرد قوله: إني قضيته، إلاَّ ببيّنة أو دلالة عادة. ويضمن ذلك لليتامى، لكونه فرض (¬2) إذا قضى ديونهم بغير إشهاد على مستحقها. فإن اعتذر بأنه قد أشهد ولكن الشهود غابوا أو ماتوا أو قسموا (¬3). فإن أشهب لم يقرره (¬4)، ورأى أن الأصل عدم الإشهاد، وإنما يبرأ الوصي بالإشهاد. فظاهر فعله التعدي، ودعواه رفع التعدي لا يقبل منه بإثباتٍ ¬

_ (¬1) هكذا، والأوْلى حذفها. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فرَّط. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نَسُوا. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يعْذرْه.

استصحابًا لحال الأصل في عدا (¬1) الشهادة. ورأى سحنون أن الزمن إذا طال حتى يمكن ما قال، فإن قول الوصي مقبول. ورأى أن الأصل براءة الذمة فنحن نستصحب حال براءة ذمته ولا نعمرها بالشك، هل صدق أم لا؟ وإذا كان الوصي عالمًا بان على الميت دينًا وخفي، له أن يقضيه ويسدده من غير أمته (¬2)، إذ لا بينة تشهد بصحة الديون سواه، فإنه يجوز له فيما بينه وبين الله تعالى أن يفعل ذلك فإن شهد به عدول عند قاض وحكم به، وجب عليه الدفع، وإن أراد الاقتصار على سماع الشهادة بنفسه وقبولها لتحققه عدالة الشهود دون الرفع إلى القاضي، فإن أشهب يسوغ له ذلك، قال: والثقة أن يرفع إلى القاضي. وهذا لأن اليتامى لو بلغوا وجرحوا الشهود وسقطت شهادتهم، ووجب لهم استرجاع هذا المال، كان للوصي أن يسترجعه أيضًا إن ضمنّوه إياه. وبعض الأشياخ مال إلى أنه لا يجب على الوصي ضمان في هذا المال؛ لأن القاضي لو رفعت إليه الشهادة لم يعذر فيها إلا الوصي، فإن سلمها أنفذ القضاء إذا كان الشهود عدولًا. فلأجل انحصار هذا الأمر إليه، وإن رفع إلى القاضي، ينبغي ألاّ يتعلق به ضمان ما دفعه على هذا الوجه. وقد ذكرنا في كتاب المديان مسائل تتعلق بأحكام الهبة واشتراط الحوز في إمضائها، وذكر منها أنه من استقرض دنانير ثم وهبها قبل قبضها لآخر، وذكر الخلاف في هذا إذا وقع الموت قبل الحوز. وسبب الخلاف كون هذه الهبة يتعلق بها حق لغير الموهوب. كما اختلف فيمن وهب سلعة فلم تقبض منه حتى باعها الموهوب له ثم مات الواهب: هل تبطل أم لا؟ وسبب الخلاف كون هذه الهبة يتعلق بها حق المشتري بها (¬3) بعوض، والمعاملات بعوض لا يبطلها عدم الحوز. وكذلك لو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عدم. (¬2) هكذا في (و)، وفي (مد): إذنه. والأوْلى: إذْنٍ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لها.

كان الأول مستقرها (¬1) والثاني مستقرضًا أو كان الأول موهوبًا له والثاني موهوبًا له، فإن الخلاف جار على ما ذكرناه. لكن في فروع هذا الباب ما ينبغي أن يلتفت فيه إلى حلول القرض بموت من هو عليه وإن كان مؤجلًا، حتى يؤخذ من تركته، إلى غير ذلك مما سنبسط أصوله في كتاب الهبة إن شاء الله تعالى وذكر في المدونة أيضًا أن من ضمن عن ميت دينًا لزمه الضمان. قال: وإن علم أنه فقير ثم طرأ له مال فإنه لا يرجع عليه". لأن الضمان عن هذا المعتقد فقده على جهة الحسبة. ولو كشف الغيب أن له مالًا خفي عن الضامن، فإن بعض الأشياخ اختار تمكينه من الرجوع فيه، لأنه لو علم به لما ضمن ذلك عنه على أن لا يرجع عليه به. ولو أتى المديان من عليه (¬2) الدين ببعض دينه، وهو معسر ببقيته، للزم صاحب الدين قبوله منه. ولو كان موسرًا فامتنع من له الدين من أخذه إلا كاملًا، فإن ظاهر إطلاق قول مالك في هذه المسألة خير (¬3) من له الدين على قبول ذلك. وقال ابن القاسم: إنه لا يجبر على ذلك. وهذا يلتفت فيه إلى هذا التبعيض في القضاء: هل يلحق من له الدين فيه ضرر أم لا؟ ويلتفت أيضًا إن ثبت الضرر إلى ما جرت به العادة في مثل هذا. والله أعلم. تم كتاب الحجر والتفليس بحمد الله تعالى. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مستقرضًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له. (¬3) هكذا في (و). والصحيح ما في (مد) وهو: جبر.

شرح التلقين للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري 453 - 536 1061 - 1141 الجزء الثالث المجلد الثاني تحقيق سماحة الشيخ محمَّد المختار السّلامي دار الغرب الإِسلامي تونس

دار الغرب الإِسلامي جميع الحقوق محفظوظة الطبعة الأولى- 2008 م دار الغرب الإِسلامي العنوان: ص. ب: 200 تونس 1015 جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق استعادة المعلومات أو نقله بأي شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ الفوتوغرافي، أو التسحيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.

شرح التلقين للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري الجزء الثالث المجلد الثاني

كتاب الإقرار

{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وصلى الله على سيدنا محمَّد وسلم قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: المقَرّ به ضربان: حق الله (¬1) تعالى، وحق الآدمي. فأما حق الآدمي. فليس للمقِر الرجوع فيه. وفي حقوق الله تعالى كالزنى والسرقة وشرب الخمر روايتان، إلا (¬2) أن يكون رجوعًا إلى الشبهة (¬3) أو أمر يشبه فإنه يقبل. وإذا أقرّ بدراهم أو دنانير، أو جمع من أي الأصناف كان، لزمه ثلاثة، إلاّ أن يفسره بزيادة عليها. وسواء أورده بصيغته أو بصيغة التصغير، كقوله: دريهمات. وإن أقر بمال لزمه ما يفسره به، [إلا] (¬4) ما لا ينطلق [عليه] (1) في العرف اسم مال لندارته. وفي وصفه بالكثرة والعظم تلزمه زيادة على ما يلزمه بمطلقه (¬5). ¬

_ (¬1) في المغربية حق لله (¬2) في النسختين: أو، والصواب ما في غ، والغاني: إلاَّ (¬3) في غ، والغاني: شبهه (¬4) الإكمال من غ، والغاني (¬5) في (غ): لمطلق

ويصح استثناء الكثير من القليل، والقليل من الكثير، ومن الجنس وغيره. والتهمة مؤثرة في منع الإقرار. وذلك في حالين: حال المرض والإفلاس (¬1). ففي الموض يقبل إقراره للأجانب أو من لا يتهم عليه من صديق (¬2) ووارث. ويردّ فيما تقوى فيه التهمة من ذلك. وفي الإفلاس لا يقبل إقراره لغريم سوى غريمه (¬3)، وإذا أقر أحد، إلابنين بثالث لم يثبت نسبه، وأعطاه (¬4) ثلث ما في يده. وكذلك الإقرار بزوجة أو بدين أو بوصية. وفي ثبوت الحكم بلفظ الإقرار على وجه المدح والشكر خلاف. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: كان الترتيب عندنا يقتضي أن شرح كلام القاضي عبد الوهاب على هذا الترتيب الذي أوردناه عنه، ولكن قدمنا العذر مرارًا عن مخالفة هذا الرأي عندنا، وهو أنّا سئلنا أن نتوخى رتبة المدونة وإن خالف رتبة كحّاب التلقين. فاعلم أن هذا الفصل يتعلق به اثنان وعشرون سؤالا. منها أن يقال. 1) ما الضابط لمن يجوز إقراره؟ ولمن لا يجوز إقراره؟ 2) وما الضابط لمن يجوز الإقرار له؟ 3) وما الحكم في الإقرار إذا سيق مساق الاعتذار؟ ¬

_ (¬1) في (غ): الغاني: وحال الافلاس (¬2) في (غ): أو. (¬3) ما بين القوسين ساقط من الغاني. وفي غـ: غرمائه (¬4) في الغاني ويلزمه إعطاءه.

4) وما حكم الشك في المقَر له؟ 5) وما حكم الشك في المقَر به؟ 6) وما حكم الإضراب عن الإقرار الأول وصرفه إلى الثاني؟ 7) وما حكم الإستثناء في الإقرار؟ 8) وما حكم الاستثناء إذا تكرر؟ 9) وما حكم تقييده بالمشيئة أو بالظن؟ 10) وما الحكم في الإقرار بشيء يتعلق به غيره: هل يدخل ما تعلق به في الإقرار أم لا؟ 11) وما الحكم في الإقرار بما لا يكون دعاء (¬1) للمقَرّ به؟ 12) وما الحكم فيمن قال: أخذت كذا من كذا؟ 13) وما الحكم في الإجمال والإضمار في ألفاظ الإقرار؟ 14) وما الحكم في الإقرار إذا دخل فيه حرف الابتداء وحرف الغاية؟ 15) وما الحكم في الإقرار على جهة الكناية؟ 16) وما الحكم في الإجم الذي مقادير الأجناس؟ 17) وما الحكم فيما أطلق من عموم الإقرار؟ 18) وما الحكم في الإقرار على جهة المجاوبة والاستفهام؟ 19) وما الحكم في الإقرار بشرط الخيار فيه؟ 20) وما الحكم في تكرار الإقرار؟ 21) وما الحكم في الإبراء من الديون؟ 22) وما الحكم في إقرار أحد الورثة؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: وعاء.

والجواب عن السؤال الأول أن يقال: قد تقرر أن الناس نوعان: منهم من لا يتوجه عليه التكليف. ومنهم من يتوجه عليه التكليف. فالذي لا يتوجه عليهم ذلك (¬1) لم يبلغوا الحُلُم، ومن فقد عقله بجنون أو إغماء أو سكر، على اختلاف في السكران. فأما من لم يبلغ الحلم ولا بلغ كمالِ التمييز، كالأطفال الذين لا يميزون المصالح من المضار ولا يكفون عما يضرهم ولا يعلمون ما ينفعهم، فإن إقرارهم لا يختلف في أنه غير لازم. وأما المراهق منهم، ومن استقلّ بتدبير نفسه، فكذلك أيضًا عندنا، وعند الشافعي أنه لا يلزمه إقراره، قولًا مطلقًا. وألزمه أبو حنيفة إقراره بشرط أن يأذن له وليه في ذاك. وتعلق أصحابه بما روى (ابن عمر: أن أبا سلمة) (¬2) قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -"قم يا غلام فزوج أمّك" الحديث (¬3). وقد قيل: إنه كان عمره ست سنين أو سبع سنين. وأجيبوا عن هذا بأنهم غلطوا بين اسم واسم، فإذا قيل: إن عمر المخاطَب الذي ظنوه ابن ست سنين ونحوها هو عمر بن سلمة كان يصلي بقومه وهو صغير، وبه يحتج الشافعي على جواز إمامة الصبي الصغير في الفرائض. وأما من خاطبه النبي عليه السلام بأن يزوج أمه فيمكن أن يكون بالغا. وقد علم أن إقرار الوصي لما لم يتولّ المعاملة فيه له لا ينعقد، ولا يلزم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب إضافة: مَن. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: ابن عمر بن أبي سلمة. 7/ 131. (¬3) روي هذا الحديث بروايات مختلفة. انظر: البيهقي وابن التركماني 7/ 131 قارن: الطحاوي: شرح معاني الآثار: 3/ 11 - 13 الزيلعي: نصب الراية: 3/ 186، 187

اليتيم. فإذا كان قوله عن يتيمه لا يلزم اليتيم. فأحرى أن لا يلزم ما أقرّ به اليتيم في أن يقول ما يؤدي في الظاهر إلى ماله. وأما المجنون والمغمى عليه فواضح ردّ إقرارهما؛ لأن الواقع منهما من القول إنما ينبعث عن النفع (¬1) الذي يحركها الطبع، لا على النفس التي يحركها العقل والقصد. فأما السكران فقد بسطنا القول فيه في موضعه مما سلف، وذكرنا أن في طلاقه في المذهب قولين. الأشهر منهما إلزامه الطلاق. ولكون الطلاق من ناحية الحدود يلزمه. وفي إلزامه بيعَه وشراءَه قولان أيضًا. وهذا لأن في بيعه وشرائه، يجريان (¬2) في إقراره، فيكون المذهب على قولين في سقوط إقراره قياسًا على المجنون لفقد عقله، وإمضاء اقراره لكونه عاصيًا في شربه ما أذهب العقل. وأما من خاطبه الشرع وكلفه، وهو البالغ الرشيد، فالأصل إلزامه إقرارَه. ودليل ذاك الكتاب والستة وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (¬3) فنص ها هنا على التقرير على الإقرار فنبّه بذلك على إلزام المقرّ ما أقر به. وكذلك قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (¬4). وكذلك قوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين: ولعل الصواب: يجري ما (¬3) آل عمران: 81 (¬4) غافر: 11.

لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} (¬1). وكذلك قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (¬2) وهذا تنييه أيضًا على تأكيد إلزام المعترف باعترافه وأنه حكم عليه بما اعترف به من ذنب. وكذلك قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} (¬3) والمعترف شاهد على نفسه. فلولا أن شهادته على نفسه تقبل ما كان لهذا الأمر فائدة. وقد قال تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} (¬4)، فأمر ولي اليتيم أن يملي في إثبات الشهادة على من في ولأنه. وهذا يتضمن جواز إقرار وليه عليه. وقد علم أن تصرف الإنسان في مال نفسه (أو بيع من تصرفه في مال غيره) (¬5)؛ لأنه يتصرف في مال نفسه بالمجاملات والهبات، ولا يتصور (¬6) في مال اليتيم بالعطايا والهبات. فإذا جاز إقراره على من في ولأنه، فأحرى أن يجوز إقراره على نفسه. وأما السنة فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "واغدُ يا أنيس على امرأة الآخر فارجمها" (¬7) فأباح - صلى الله عليه وسلم - القتل بالاعتراف بما يوجبه مع أكيد حرمة النفس ودرء الحد بالشبهات، فأحرى في المال أن يكون الاعتراف قد يقضى به على المعترف. ¬

_ (¬1) الملك: 11 (¬2) التربة:102 (¬3) النساء: 135. (¬4) البقرة: 282 (¬5) هكذا في النسختين، وفي الكلام سقط واضح، ويمكن تقديره: بهبة أو بيع يختلف عن تصرفه في مال غيره، (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولا يتصرف (¬7) طرف من حديث. انظر: فتح الباري 5/ 397.

وكذلك رجم ماعز لما اعترف. وأمّا الإجماع فلا خلاف في إلزام المقر به عن نفسه ما لم يمنع من ذلك مانع. والموانع ها هنا سفه المقر: فإقراره لا يلزمه وإن كان بالغا مليئا؛ لأنه إنما حجر عليه صيانة لماله، فلو ألزمناه إقرارهْ في ماله لأتلفه، وهذا نقض لحكمة الشرع في منع الله سبحانه أن يؤتى السفهاء أموالهم. وإنما وجب رد إقراره في حال سفهه لم (¬1) يلزمه ولو (¬2) رشد؛ لأن ذلك لم (¬3) ألزمناه إياه بعد رشاده لم يفد الحجر عليه. وأما لو أقرّ السفيه بحق يتعلق ببدنه لا بماله، كاعترافه بشرب خمر فإنه يضرب الحد، ويؤخذ باعترافه. وكذلك اعترافه بالزنى وبالسرقة، فإنه يؤخذ باعترافه أيضًا بما يتعلق ببدنه. والفرق بين اعترافه بما يوجب الحد عليه أو القصاص أنه إذا كان عاقلًا فلا يتهم العاقل أن يوقع نفسه في قتله، أو قطع عضو من أعضائه، أو ضرب يؤلمه، ويتهم في المال أن يتلفه بهواه في نفسه وعمايته، من كون فقده يضرّبه. وهذا في حق من حجر عليه لحق نفسه. وأمّا من حجر عليه لحق غيره كالمفلس. فقد ذكرنا حكم إقراره بعد استقرار الحجر عليه، وأن ذلك لا يوجب أخذ شيء مما وجب عليه فيه من ماله. ولكنه يبقى في ذمة (¬4) المقرّ له. وذكرنا إقراره قبل الحجر عليه وقد أحاط الدين بما له لمن يتهم عليه ومن لا يتهم عليه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَلم (¬2) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: حذف الواو (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لو (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في ذمته للمقرَ له

وكذلك المريض تعلق به حجرٌ ما لِحق ورثته. فقد تكلمنا على إقراره في مرضه بدين لأجنبي، وعليه دين ببيّنة. وكذلك إقراره بدين لوارث. وذكرنا في كتاب المديان ما بين فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأبي حنيفة من الاختلاف، في هذا، وما وقع فيه أيضًا في المذهب من الاختلاف، فيستغنى بمطالعته هناك عن إعادته ها هنا. وأمّا من حجر عليه لحقّ سيده، فسنتكلم على إقراره في كتاب المأذون له في التجارة إن شاء الله تعالى. وقد أوضحنا حكم الإقرار بحقوق الخلق مجردة من حق الخالق، وحقوق الخالق مجردة من حق الخلق. وقد يقع ما هو مشترك بين هذين الحقين مثل الإقرار بأنه سرق مالًا، فإن السفيه والعبد يؤخذان بإقرارهما فيما يتعنق بأبدانهما من قطع أيديهما إذْهما عاقلان، ولا يتهم العاقل في اقراره باطلًا بما يوجب قطع يده، ويتهم في المال، فيقطعان، ولا تلزمها غرامة لما ذكرناه، وإن كان للشافعية قولان في إلزامهما الغرامة: أحدهما: ما حكيناه عن مذهبنا من أن الغرامة لا تلزمهما. والثاني أن ذاك يلزمها لكون هذا الإقرار بلفظ واحد يتضمن شيئين أحدهما مرتبي بالآخر. فإذا وجب أحدهما وهو القطع ارتبط به الآخر الذي لا ينفك عنه في الشرع وهو غرامة المال. وأمّا تمكين المقرّ من الرجوع عن إقراره في حقوق الله سبحانه، على خلاف فيه، إذ لم يتعذر (¬1) عن إقراره (¬2) يجب قبوله، فإن ذلك مبني على أن حقوق الله مبنية على المسامحة، إذ هو سبحانه يتقدس من أن يلحقه الضرر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يعتذر (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [بما] يجب قبوله.

والأذى بمعصية العاصي إذا. وجب حده. وحقوق المخلوقين يلحقهم الضرر في تمكين المقرّ من الرجوع عن إقراره، فلهذا اتفق على أن المقرّ بحق المخلوقين لا يقال فيه ولا يفيده الرجوع عنه. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: إذا أقرّ الرجل بمال لمن يستحيل أن يكتسب المال ويضاف إليه، كقوله: لهذا الحجر عندي مائة دينار، فإن هذا الإقرار ساقط، بإسناد الملك لمن يستحيل أن يملك على حال من الأحوال، لكن لو أسند ذلك إلى من يصح أن يملك على صفة، ويستحيل أن يملك على صفة أخرى، كقوله: لهذا العمل عليّ مائة دينار، فإن ذلك لا يخلو من أن يقيد هذا الإقرار بصفة يصح أن يضاف الملك إلى العمل، كقوله: لهذا العمل عليّ مائة دينار من وصية أوصي له بها، أو سبب ميراث. فإنه إن قيد الإقرار بذلك صحّ؛ لأنه العمل يصح أن يملك الوصية بمال وبالميراث. وإن أطلق ذلك، ولم يذكر سبب إضافة هذا الملك إليه، وتعذر استفساره، فهل يمضي هذا الإقرار أم لا؟ ذكر ابن سحنون أن هذا الإقرار يمضي، ولو أضافه إلى سبب يستحيل، كقوله: لهذا العمل عندي مائة دينار. أسلفها لي. وتعد هذه الزيادة ندما. وهكذا ذكر ابن عبد الحكم أن الإقرار يلزم فيمن قال: لهذا العمل عندي مائة دينار، ولم يذكر سببا. وهكذا قال أصحاب أبي حنيفة: إن هذا الإقرار (¬1) بالحمل لا يلزم. لكنهم قالوا: يلزمه إذا أقرّ له حين ولد. قال محمَّد بن عبد الحكم: ولا فرق بينهما. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للحمل

ذكر هذا في مناقضته لهم. وللشافعي قولان في لزوم هذا الإقرار إذا أطلقه ولم يذكر سببا. وعندقي أن الذي يتخرج من المذهب إبطال الإقرار مع الإطلاق؛ لأن في الموازية فيمن قال: لرجل عليّ مائة دينار، أو على فلان، أن هذا الإقرار لا يلزم، ولا يوجب غرامة على المقرّ؛ لأنه لا يتحقق غرامة ذمته بشيء لهذا المقرّ له، وإنما شك في ذاك فلا تعمر ذمته بشك. قال ابن المواز: إلا أن يكون تشكك المقر بين نفسه وبين صبي ابن شهر بأن يقول: لك عندي مائة دينار، أو عند هذا الطفل، الذي هـ وابن شهر، فإن المائة تلزمه لكون ابن شهر ممن لا يصح أن يُمَلِكّ ولا يكتسب. فإذا رأى ابن المواز هذا التردد في الإقرار بين المقرّ وبين رجل آخر يصح أن يملِكّ يُبِطل الإقرار، ورأى أن ابن شهر بخلاف ذلك، وأنه كالقائل: لك عندي مائة دينار أو عند هذا الحجَر. فدل ذلك على أن ابن المواز يحمل إطلاق هذا القول على نفى اللزوم. وإذا قال ذلك في ابن شهر وراَه، كالحجَر مع خروجه إلى وجوب وتيقنِ حياته. فأحرى أن يقول ذلك فيمن كان حملًا لا يدرى أحيّ هو أم ميت. هذا الذي يتخرج عندي من المذهب، وإن كان قد اختلف في إطلاق قول له وجهان: أحدهما يصححه والآخر يفسده. على ماذا يحمل منهما؟ كمن أكرى داره سنة بثوب معين، فإن شرَط انتقاده صح الكراء. وإن شرط تأخيره إلى انقضاء السنة بطل الكراء، وإن أطلق القول، ولم تكن عادة تقتضي أحد الوجهين، فإن ظاهر المدونة حمل هذا الإطلاق على الفساد، وأن الكراء فاسد حملا لمطلق هذا القول على الوجه الذي يفسده. وفي كتاب ابن حبيب إن الكراء صحيح حملا لمطلق هذا القول على الوجه الجائز الصحيح في الشرع، وهذا قد ينظر إلى ما نحن فيه. وأمّا لو قيد هذا الإقرأر بوجه يستحيل عقلا، كقوله، لهذا العمل عندي مائة دينار من معاملة عاملني بها. ومعلوم قطعا استحالة معاملة العمل. فهذا إن

قلنا: إن الإقرار المطلق يفسد، فأحرى أن يفسد هذا بلا خلاف، على هذا القول؛ لأنه إذا فسد القول مع إطلاقه، واحتماله لأن يراد به الوجه الصحيح فأحرى أن يفسد مع تقييده بما يحيله ويفسده. وإن قلنا: إن القول المطلق يُحمل على ما يصح ويثبت، فإن ابن سحنون ها هنا ألزم هذا الإقرار، ورأى أن ذكر ما يستحيل كالعدم على ما قدمناه عنه. ومذهب الشافعية هذا على قولين، وذلك في كل إقرار صدر من المقر، ولكنه أضاف إليه المقر من القول ما يفتضيه ويرفعه، حتى طرد ذلك في مسألة ليحر عندنا فيها اختلاف. منصوص. وهو إذا قال الإنسان لرجل آخر: لك عندي مائة دينار، وقضيتك إياها. فإن هذا لا يقبل منه دعواه القضاء إذا لم يكن على جهة الشكر أو الذم، بل في مجلس الخصام. وأما نحن فلا يبعد أن يكون هذا مما يجري على قولين: أحدهما أن هذا الإقرار لا يلزم لأنه لفظ واحد آخره يحيل أوَّلَه ويرفعه، فكأن المقر لم يحصل منه إقرار، ولا يؤاخذ بأكثر مما أقرّ به. وعلى طريقة ثانية يكون الإقرار لازمًا، ويتعلق الحكم بصدر الكلام الذي ليس فيه إحالة، وَيعد ما أضاف إليه، بعد استقلال معناه، كالندم منه، واستدراك رفع ما يلزم بإقراره. وعندنا خلاف فيمن قال: أنت طالق إن شاء هذا الحجر، فقيل: إن ذلك لا ينفعه فيه هذا الشرط، والطلاق واقع، ويعد نادما بهذا الشرط الذي اشترط بعد صدور الكلام منه مفيدٍ مستقبلٍ (¬1) بنفسه، وهو قوله: أنت طالق. فكأنه لما ثب عليه الطلاق بهذا القول ندم على وقوعه منه فأراد أن يرفعه بقوله: إن شاء هذا الحجر. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مستقلّ

وكذلك اختلف عندنا فيمن قال لرجل: تسلفت منك مائة دينار، وكنت لم أبلغ، أو كنت سفيها لم أرشد، على ما يبسط القول فيه بعد هذا، إن شاء الله تعالى. فقد قيل: إنه يعدّ هذا الاستدلال منه: كنت صبيًا، أو سفيهًا، كالندم على ما أوجبه عليه إقراره بالدين. فإذا تقرر الحكم فيمن أقر لحمل بمال، وتبين الحكم في تقييده بما يمكن أن يسند الملك فيه إلى العمل، وما يستحيل أن يسند إليه، وتبين إطلاق القول من غير تقييد، فإنه يجب أن ينظر وضع هذا العمل: فإن خرج ميتًا لم يثبت الإقرار؛ لأن الميت كالعدم، ولا يُدرى هل كان حيّا في البطن حين هذا الإقرار، أو حين السبب الذي أضيف إليه الإقرار، أو لم يكن حيّا. هكذا ذكر ابن سحنون. وإن خرج حيّا في زمن يعلم فيه أنه كان موجودًا حين ثبت الملك له، وذلك أن يولد حيّا في دون ستة أشهر، علمنا أن هذا الملك صادف كونه مخلوقا، فإن وُضع بعد سنين تجاوز أقصى العمل، وهو أربع سنين، أو أكثر منها على الخلاف المعلوم، علمنا أنه لم يكن مخلوقا حين ثبوت هذا الملك، فلا يصح أن يحكم له بهذا الملك. وإن كان ما بين هذين الوقتين اللذين هما أقلّ أمد العمل وأقصاه، وكانت الحامل ليست بذات زوج، ولا سيد يطأها، فإن ذلك يحمل على أنه كان مخلوقا، إذ يحل إضافة الزنى لها، وكون هذا الولد زنت به. ولو ولدت ولدين: أحدهما حي، والآخر ميت، لكان المال كله للحي منهما خاصة. وإن وضعتهما جميعًا حيّين لقسم المال بينهما نصفين، ذكرين كانا أو أنثيين أو أحدهما ذكر والآخر أنثى. إلا أن يذكر المقر سبب استحقاق هذا المال: صار إليهما عن مال لأبيهما عندي. فيكون للذكر سهمان وللأنثى سهم واحد، على حسب ما توجبه الفرائض. ولو قال: وجب لهما عن أخيهما الذي من الأب، لقسم أيضًا للذكر مثل ما للأنثيين.

ولو قال: عن أخيهما، ومات ولم يبين، فذكر محمَّد بن عبد الحكم في هذه المسألة قولين: أحدهما: أنه يقسم على السواء. والثاني أن ينقسم أثلاثا، فيكون لكل واحد منهما سهم. ويبقى السهم الثالث، فيعلم أن الأنثى تسلم نصفه للذكر فيعطاه، ويبقى النصف من هذا السهم الثالث فيدعيه كل واحد منهما، فيقسم بينهما نصفين فتصح الفريضة من اثنى عشر: للذكر سبعة أسهم وللأنثى خمسة. ومما ينخرط في هذا السلك قول القائل لرجل: لك على مائة دينار، زورا وباطلا. فإن المقر له إن صدّقه في كونها باطلا وأن القول كذب، لم يختلف في سقوط هذا الإقرار، وإن كذبه في قوله: إنها باطل، وطلبه كلامَه، قال (¬1) فإن المنصوص أيضًا أن المقر لا يصدق في هذا، ويقضى عليه بما أقرّ به، ويعد قوله باطلًا كالندم ورفع ما ثبت عليه من الإقرار. وحكى بعض أصحابنا أن هذا متفق بيننا وبين المخالف. وإسناوإلاتفاق على هذا مما ينظر فيه. ولو قال له: لاحق لك على، وصدّقه المقَرّ له، ولكنه بعد القول كما قال: لا حق لك عليّ، وصدقه المقر له، أشهد لي على نفسك بمائة دينار. فإن ذلك يحمل على أن ذلك هبة، إنما يقضى بها على المقر ما لم يمت أو يفلس أو يمرض لا تفاقهما على أنه لاحق عليه، يقتضي أن قوله بعد هذا: لك عليّ مائة دينار، المراد به الهبة، والمخالف أسقط هذا القول ولم يقض به على حال، وكأنه يرى أنه لم يلفظ بلفظة الهبة، وقد تقدم من اتفاق المقرّ والمقرّ له: أَلَّا حق له عليه إبطال هذا الإقرار أصلًا، كما لو قال: لك عندي مائة دينار باطلًا وزورا، واتفقا على تصديق هذا القول، فإن هذا القول لا يقضى به. وكذلك لو أقر أنه باع منه داره، ووصل اقراره فإن (¬2) ذلك توليجا زورا (¬3) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعلها زائدة (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأن (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: توليج زور

فإن الحكم فيه ما قدمناه من تصديق المقَر له وتكذيبه لقوله: إنه توليج وزور. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: اعلم أن الإقرارات الأصل فيها أن تؤخذ على ظواهرها وما تفيده في اللغة أو العرف. لكن ربما اقتضت قرينة الحال ونساق المقال، ما يخرجها عن مقحضاها وينقلها عن هذا الحكم الذي أصلنا فيها. فقد كنّا قدمنا في كتاب الشهادات فيمن أقرّ لرجل بدين ووصل إقراره بأنه قضاه إياه، وأورد ذلك في (أنثى دحته الرجل وشطره أو أنثى ذمه له) (¬1). وذكر تسلطه وتعايظه (¬2) في الحقوق، وهو من هذا السلك الذي نحن فيه. ولكن ما يرد أيضًا من الإقرار مورد الاعتذار فإنه يسقط حكمه. وقد روى أشهب عن مالك فيمن اشترى سلعة فسأله البائع في أن يقيله فقال له: تصدقت بها على ابنتي. ومات الأب فقامت الابنة تطلب هذه السلعة بمجرد اعتذار الأب وإقراره بأن الملك لها. فقال مالك: لا يقضى لها بذلك. وليس بقاطع. وكذلك روى أيضًا عن مالك فيمن سئل أن يكري داره فقال: هي لابنتي حتى أشاورها، فقامت الابنة طالبة بهذا الإقرار، فإن ذلك لايقضى به. وكذلك سئل مالك: من يسأله أحد من بني عمه أن يسكنه دارا، ثم سأله ثان من بني عمه، فقال: هي لزوجتي، ثم سأله ثالث من بني عمه، فقال: هي لزوجتي، فقامت هذه الزوجة بهذا الإقرار والتكرر، فإنه لا يقضى عليه به. وكذلك لو أضاف الملك إلى أجنبي، فقال: الدار لفلان، معتذرا بذلك لمن سأله في بيعها منه، ووافق أصبغ مالكا وأصحابه على هذا. وسواء طلب المقرّ له أخذ هذه الدار بدعواه أنه يملكها، (فربما قبل هذا الإقرار، أو أراد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أثناء مدْحَتِه الرجل وشكره وأثناء ذمه له. (¬2) هكذا في النسختين.

طلبها بمجرد هذا الاعترإف فإنه لا يقضى بها) (¬1). ولكن أصبغ ألزم المقر اليمين على أنه لاحق للمقَر له فيها. فإن نكل عن هذه اليمين نظرت في المقَر له: فإن كان يدعي ملكها بحق قديم قبل وقوع هذا الإقرار من المقر، فإنه يحلف ويستحقها. وإن كان إنما أراد أن يملكها بهذا القول، فإنه لا يقضى بهذا القول إذا أنكر (¬2) المقر عن اليمين. وظاهر ما نقلنا، عن مالك وما رواه الأكثر من أصحابه يقتضي أن هذا المقر لا يستظهر عليه باليمين بناء على أن هذه قرينة حال تقوم مقام الشهادة على أنه لم يقصد التمليك وإنما أراد الاعتذار ومدافعة من سأله. وكأن أصبغ رأى أن هذه قرينة لا تفيد القطع ولكنها أفادت الظن، فأكدها باليمين على صحتها. ولكن ظاهر كلامه تعلق اليمين في دعوى المقر له أنه يملكها قبل الإقرار وطلبه بملكها بمجرد الإقرار. لكن قوله لا يقضى على المقر بالنكول عن هذه اليمين إذا طلب المقر له تملكها بمجرد الإقرار يقتضى ألا تجب اليمين أولًا في هذا الوجه لأن اليمين الذي إذا نكل الإنسان عنها لم توجب عليه شيئًا لم يتعلق عليه ابتداء. وكأنه إذا قال: ملكتها قديما صحّ رجوع اليمين لدعوة اليقين. فإذا أراد طلبها بمجرد هذا القول فإنه لا يتيقن ملكها فلهذا لم ترجع اليمين عليه. وكذلك أيضًا قال أصبغ لو سليم (¬3) سلعة ليبيعها فقال: كنت بعتها من فلان بكذا أو كذا، أو كنت تصدقت بها عليه أو وهبتها له، فإنه يؤاخذ بهذا الإقرار. بخلاف قوله: هي ملك لفلان. واعتذر بأنه إذا قال: كنت بعتها من فلان أو وهبتها له فقد أقرّ بفعل يجب امضاؤه وهو البيع والهبة، وإذا قال: هي ملك لفلان، فلم يقر بفعل. وهذا الذي فرق به لا يتضح، لأنه أيضًا يجب أن يقضى على المقر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نكل (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: في

بإقراره، سواء أقرّ بفعل أو أقر بملك. وقد حكينا عن مالك في صدر هذه المسألة فقال: تصدقت بها على ابنتي وماتت (¬1)، فإن الابنة لا يقضى لها بذلك إذا طلبت القضاء به. قال: وليس هذا بقاطع. وهذا ظاهره يخالف مذهب أصبغ، وان الاعتذار بالاقرار بالملك أو بالاقرار بالبيع والهبة سواء في كونه لا يلزم المقَز له ما قاله من هذا وهو الأصل إذا كانت قرينة الحال تدل على أنه إنما قصد بهذا الإقرار المدافعة، وقال الكذب والعذر. لكن ما حكيناه عن مالك وقع فيه أن السائل لمالك ذكر له أن هذا الناطق بالاعتراف بالتهمة مات. وقد يدافع أصبغ عن هذا بأن يقال: فإن البطلان ها هنا لأجل عدم الحوز في الهبة، ولا يكون ذلك حجة على تفرقتي بين اعتذاره بأنه باع أو وهب وبين اعتذاره بأن الملك لفلان. لكن ظاهر قول مالك رضي الله عنه أنه أبطل الإقرار لكونه خرج مخرج الاعتذار لا يكون الحوز لم يثبت، ألا تراه قال: وليس هذا بقاطع، ولم يعلل يعدم الحوزة ولكنه مع هذا ليس كالنص الجلي وكذلك قال أصبغ: ولو سأل رجل رجلًا أن يزوجه ابنته، فقال: زوّجتها من فلان، فقام فلان طالبا لهذا المقر بأنه زوجه ابنته فإنه يقضى له بتزويجها، سواء قال هذا المضاف إليه التزويج: إني كنت تزوجتها قبل أن يقول أبوها هذا المقر ما قال، أو طلب كونها زوجا بمجرد هذا الإقرار الخارج مخرج الاعتذار. واعتل بأن الهزل واللعب يثبت في النكاح والطلاق والعتاق، كما ورد في الأثر "ثلاث هزلهن جد ... " (¬2). وهذا الاعتلال منه بعيد على أصله، لأنا قدمنا عنه أن الاعتذار بأنه باع أو وهب يقضى به عليه. ولا يرجع حكم هذا الإقرار مخرجه مخرج الاعتذار. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مات. (¬2) الحديث بتمامه أخرجه الترمذي بسنده إلى أبي هريرة. انظر الجامع الكبير 2/ 476 - حد 1184.

بخلاف أن يعتذر بالاقرار بالملك مطلقا. فإذا كان هذا أصله، كما حكيناه عنه، فلا حاجة إلى أن يعتذر عن هذا في النكاح ويقول: إن النكاح هزله جد، والنكاح كالمعاملات والبياعات، فهذا التعليل منه ينافي ما قاله أوّلا من (¬1) المعتذر بأنه باع لا يقبل اعتذاره ويلزمه إقراره. ولم يفرق أصبغ بين أن يطلب هذه الزوجة المقر بها بدعواه انه تزوجها قبل الإقرار، وبين أن يطلبها بمجرد هذا الإقرار. وخالف ابن كنانة في هذا: إن طلبها بمجرد هذا الإقرار لم يقض له بها، وإن طلبها بدعواه أن أباها زوجها منه قبل هذا الإقرار الخارج مخرج هذا الاعتذار فإنه يقضى له بتزويجها. وهذا يبسط القول فيه في كتاب النكاح بأوسع من هذا إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: الشك يقع من المقرّ في محلين: أحدهما: من يستحق عليه ما أقر به مع علمه بجنس المقر به. والثاني: أن يشك في المقر له مع علمه بالمقر به. فأما إن شك فيمن يستحق ما أقرّ به مثل قوله: لزيد على ألف درهم أو لعمرو. فإن ظاهر هذا اللفظ يتقثد بعمارة ذمته بألفء درهم وتشكيكه من يستحقها: زيد أو عمرو. فالذي وقع لأشهب وسحنون في هذا فيما حكاه ابن سحنون عنهما أن الألْف لزيد وهو المنطوق به أوّلا في الإقرار فيستحقها كلها، ولكن بعد أن يحلف: إني أستحقها عليك أنها المقر، وإني لا أعلم لعمرو فيها شيئًا. ولو قال: أتحقق ما أقر لي به، ولكنه (¬2) أطلبه بموجب إقراره، فإن من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من [أَن] المعتذر (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لكن

حته ذلك، ولكن إنما يحلف لعمرو: إنه لا يعلم له فيها حقا. وكذلك يحلف المقر لعمرو: إنه لا يستحق قِبَله شيئًا. ولا يكون لعمرو مطالبةٌ على المقرَ. فإن نكل المقر عن اليمين لعمرو حلف عمرو واستحق عليه الألْف مثل ما استحق صاحبه الذي هو زيد. وقال ابن عبد الحكم: إن اتفق زيد وعمرو وقسصت الألف فذلك لهما، ولا يمكّن المقر من امتناعه من أدائها لهما، لأنه تضمن إقراره تيقنه بعمارة ذمته بالألف درهم، وإنما وقع شكه: هل يستحقها زيد أو عمرو؟ وإذا رضي زيد وعمرو بقسمتها فلا مقال للمقر. وإن ادعى الألف كل واحد من زيد وعمرو لنفسه وحلفا عليها اقتسماها. وإن نكلا عن اليمين اقتسماها أيضًا لتساويهما في الدعوى، وتساويهما في طرق الترجيج بينهما في اليمين أو في النكول. وهذا إذا كان المقر يجحد الإقرار وينكر دعواهما. وقال ابن عبد الحكم، في موضع آخر من كتابه،: هذا إذا كان يحلف المقِرّ لهما لتسقط عنه غرامة ألف ثانية. فإن نكل عن اليمين عنه. ولم يسقط ابن عبد الحكم عن المقر الغرامة أصلًا ولو حلف لهما، ولكنه حكى عن أبي حنيفة أنه إذا حلف لهما سقط عنه حكم الإقرار الذي شهدت به البينة. وقال ابن عبد الحكم: هذا فاسد، أرأيت لو كان اقراره هذا في دنانير بأعيانها أو دار بعينها؟ ومذهب ابن عبد الحكم أن المقر لو رفع التشكك عنه، وقال: هي لزيد وحده، أو لعمرو وحده، لقبل منه ذلك، وحلف لمن أنكر أن يكون له. ذكر ذلك فيمن قال: لزيد عندي مائة دينار، ولعمرو أو خالد عندي ألف درهم، أن الدنانير يختصّ بها زيد، إذ مقتضى اللفظ أنه لا يشك في استحقاق زيد عليه ما أقر له به من دنانير، وإنما الشك في الدراهم: هل هي لعمرو أو لخالد. وذكر ابن سحنون هذه المسألة، فقال: أمّا الدنانير فإنه يقضى بها لزيد في إجماعهم، وأما الدراهم فيقضى بها لعمرو، ويسقط حق

خالد فيها. وقال غيرنا: بل يسقط في الدراهم حق عمرو وخالد جميعًا. والذي ذكره ابن سحنون في إثبات الدراهم لعمرو لكونه المنطوقَ به أولًا في لفظ التشكيك، في سقوط حق خالد، هو الذي حكاه فيما ذكرناه عنه أوَّلا عن أشهب وسحنون. وذكر ابن المواز فيمن أقرّ أنه تسلف مائة دينار من زيد أو عمرو، أو صارت إليه وديعة من زيد أو عمرو، وأنه يقوم لكل واحد منهما ما شك في كونه مستحقا له عليه من سلف أو وديعة، من غير يمين تلزم كل واحد من المسلّفين أو المودعين. كما لو ادعى رجل على رجل بمال فشك المدعَى عليه في صدق المدعي، فإن المدعي يقضى له بما ادعاه من غير أن يستحلف. لكنه ذكر أن المقرّ على جهة التشكيك لو مات لم يقض في هذا في تركته إلا بعد إليمين على زيد وعمرو. وأشار إلى أن الفرق بين حياته وموته كونه إذا مات يجوز -لو بقي حيا- ان يرفَع التشكيك عن نفسه وينكر الإقرار، فلهذا استظهر باليمين على من طلب تركته. وإذا كان حيا وتمادى على تشككه فقد أمن من رجوعه عن الشك إذا قضي عليه وهو لم يرجع عن الشك. وذكر أيضًا أن هذا الذي أقر على جهة التشكك لو بقي حيا وأكذب عمروًا وزيدًا في دعواهما عليه بما أقرّ على جهة التشكك، فإنه يحلف لهما، ويرد اليمين، ويغرم لمن رد اليمين عليه. ومقتضى أهل المذهب أن يكون إنما يقيده (¬1) ألا يغرم لكل واحد منهما الجملة التي أقر بها، كما يلزمه لو بقي على تشككه. لكن ما قدمناه مما حكيناه عن أبي حنيفة يسقط حكم الإقرار الأول إذا حلف لهما ولا يغرم لهما شيئًا. فأنت ترى هذا الاضطراب في شك المقر فيمن يستحق ما أقرّ به. وتلخص منه أربعة مذاهب: أحدها: إثبات الغرامة لكل واحد ممن شك المقرّ في كونه يستحق عليه ما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعلها يقيده

أقرّ به. ورأى أنه لا يسوغ له التمسك بمال يشك فيه: هل يستحقه غيره عليه. ورأى ابن عبد الحكم أن اقراره إنما يتضمن الشك فيمن يستحق ما أقر به. ولكن مقتضى قوله: إنه يتيقن عمارة ذمته بالألف التي أقر بها لا أكثر منها، ويشك في مستحقها فيقضى عليه بما تيقنه، ولا تلزمه الغرامة مع الشك، على ما ذكرناه أيضًا عن أبي حنيفة. لكنه لخص من مضمون الإقرار جملة متيقنة، وإنما وقع الاشكال فيمن يستحقها، فيقسم بين المتشكك فيه، فتبرأ ذمته مما اقتضاه قوله من المتيقَّن. وكأن أبا حنيفة أفرد كل واحد من زيد وعمرو معه، وكل واحد منهما لا يستحق المقر أنه يستحق قبله شيئًا، فلا تلزمه غرامة له بالشك، فلهذا أسقط الإقرار على الجملة والتفصيل. ولكن هذا المذهب الذي حكيناه عن أبي حنيفة نقله عنه ابن عبد الحكم فيما إذا أنكر المقر أن يكون لواحد منهما قِبله شيء، وأنكر ذلك عليه وقال: هذا فاسد. أرأيت لو كان هذا الإقرار تبقي له ما أدري ما يقول أبو حنيفة في هذا. فإن التزمه لم يكن لابن عبد الحكم -بما ذكرنا- مناقضة له. وأطرد ما علل مذهبه به. وابن عبد الحكم لم يسقُطه على الجملة فيسقط ذلك حكم التيقن. وقد قال، فيما حكيناه عنه،: إنه يخرج المُقرّ الألف يقسمها زيد وعمرو، ليبرأ مما تيقن استحقاقه عليه. قال: ولو أبرأه زيد أو عمرو من هذا الإقرار وقال: لا استحق قِبَل المقر شيئًا لم يلزم المقر غرامة الآخر الذي لم يُبْرِه لإمكان أن يكون الحق لمن أبرأه منه، وقد أسقط عليه، فإن عدم التيقن مع إبراء أحد الرجلين، وهو إنما تثبت الغرامة إذا حصل التيقن على الجملة أو هو لا يحصل مع اعتراف أحدهما المقر (¬1) أنه لا يستحق قبله شيئًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمقر

فهذا تلخيص المذاهب الأربع والاشارة إلى الأصول التي بنيت عليها. فإذا تقررت المذاهب الأربع فإن طريقة أشهب وسحنون إسقاط حكم اللفظ الواقع بعد حرف الشك. وما أراهما صارا لذلك إلا حملًا منهما ما وقع بعد حرف الشك يعدّ ندما من المقر، فكأنه لما قال: لزيد عليّ ألف درهم، ندم على ما فرط منه مما يوجب عمارة ذمته، فاستدرك هذا بأن قال: أو لعمرو، ليرفع حكم ما اقتضاه اللفظ الأول من كون قائله متيقنا أن لزيد عنده ألفَ درهم. وابن عبد الحكم يرى أن الألف عمرت ذمته بها، ولكن لا يدرى من يستحقها، قسمت بين من يشك في إستحقاقه لها. وابن المواز يرى أن شك المقر لا يرفع عنه المطالبة بما شك في كونه في ذمته لمن أقر له به ولم يُلزم المقر له يمينا لأنه لا يُمكّن من ردّها على الشاك. والمذهب الرابع الذي قدمناه إسقاط حكم الإقرار مع الشك بأسره. ونحن نضرب لهذا مثالا حتى يرسخ في النفس تصور التفريع على هذه المذاهب: فإذا قال القائل: لزيد عندي مائة دينار، أو لعمرو. فهذا (¬1) اللفظ الذي صورنا فيه المذاهب الأربع. فلو زاد زيادة فقال: لزيد عندي مائة دينار، أو لبكر وخالد، فإن مقتضى هذا اللفظ كون هذا المقر متيقنا أن في ذمته مائة دينار، وهو يشك: هل جميعها لزيد، المسمى أوّلا، أو لا شيء له فيها وجميعها لخالد وبكر جميعًا، فتقسم نصفين بين المشكوك فيها وهو زيد فيأخذ نصفها، وبكر وخالد يأخذان النصف الآخر. وهذا مذهب ابن عبد الحكم في هذه المسألة. ¬

_ (¬1) في مد: بهذا

ومذهب سحنون فيها أن المائة كلها لزيد، ويسقط ميت سماه بعده على جهة الشك فيه، كما قدمناه. وعلى مذهب ابن المواز يغرم مائتين: مائة لزيد ومائة يقسمها بين بكر وخالد، لكونه شاكًّا في كون بكر وخالد يستحقانها عليه. وأصله التغريم بالشك. وعلى المذهب الرابع، الذي حكيناه، تسقط عنه الغرامة للجميع: زيد ومن ذكر بعده. ولو قال: لزيد ولعمرو عندي مائة دينار، أو لبكر وخالد، فهذا أيضًا مقتضى لفظه كونه متيقنا أن في ذمته مائة دينار لا يدري من يستحقها عليه: هل زيد وعمرو أو بكر وخالد فإن سماها بعد ذلك للأوليْن: زيد وعمرو، وتحقق أنها لهما سقط حق بكر وخالد بعد يمينه لهما إن أنكرهما، وإن لم يعينها لزيد وعمرو وبكر وخالد قسموها أرباعا، وإلى هذا ذهب ابن عبد الحكم. وذهب ابن سحنون: بل تكون لزيد وعمرو، ويسقط حق بكر وخالد بناء على أصله الذي ذكرناه في إسقاط ما بعد حرف الشك. وعلى أصل ابن المواز يغرم مائتين: مائة لزيد وعمرو يقتسمانها، ومائة لبكر وخالد يقتسمانها أيضًا. وعلى المذهب الرابع يسقط الإقرار كله. ولما ذكر ابن سحنون هذا المذهب في هذا قال: وقال غيرنا: يكون ثلث هذه المائة لأول من سماه وهو زيد، ويكون ثلثها أيضًا الآخر لآخر من سماه وهو خالد، ويسقط حق بكر. وهذا المذهب الذي حكاه لم يظهر لي وجهه إلا أن يقدر أن الشك إنما وقع في رجل واحد وهو بكر الذي جعله ثالثا فيمن سماه، ويكون المراد أنها لزيد وعمرو، ولما ذكر زيدًا بحرف التمليك وهو اللام في قوله: لزيد، وذكر عمروا بحرف العطف والتشريك الذي هو الواو، وذكر بكرا بحرف التشكيك

وهو قوله: أو، وعطف على حرف الشك بالواو فقال: وخالد، وحرف الواو قد أوجب أولًا في عمرو المشاركة لزيد، وكذلك خالد لما عطف بالواو وجب أيضًا أن تكون له مشاركة في المائة الباقية، لكنه لما عطفه بحرف الواو وعلى حرف الشك لم يعطه شيئًا، ولكنه أفاد فيه. عطفُه بحرف الواو انتقاض ثلث المال عن زيد وعمرو لعطفه عليهما بحرف الواو، ولكنه لم يعطه هذا الثلث لوقوع هذا العطف بعد حرف شك. ولم أقف لهذا المخالف على تعليل في هذا، ولكن ذكر ابن سحنون فيمن قال: لزيد علي مائة درهم أو لعمرو وخالد. أن مذهبه كون المائة كلها لزيد، ويسقط حق عمرو وخالد فيها، لكون عمرو إنما سمّاه بعد حرف الشك وعطف خالدًا عليه فصار عمرو وخالد مشكوكا في استحقاقهما لهذه المائة. ومن مذهبه تقدير ما بعد الشك ندما لا يؤاخذ به المقر كما قدمناه، لكن ذكر عن نفسه أنه كان يقول: إنما يسقط حق عمرو خاصة لأنه هو الذي باشر اسمه حرف الشك، وتكون المائة بين زيد وخالد. فقرر أن خالدًا معطوف على زيد فيكون شريكًا له في المائة، ولم يجعله معطوفا على عمرو، وقال: لم يتبين لي أن الشك بين الثاني والثالث وهو عمرو وخالد فيسقط حكمهما. وهذا المذهب الذي رجع عنه. كأنه يلاحظ التعليل الذي عللت به مذهب المخالف. وقد قدمنا يمين المقر لمن طلبه بها (فمن يسقط) (¬1) حقه في الإقرار. لكن ابن عبد الحكم قال: لو قال: عليّ مائة دينار لزيد أو لغلام عمرو، وغلام عمرو غير مأذون له في التجارة، فإن الحكم أن تكون نصفين بين زيد وغلام عمرو بناء على أصله الذي قدمناه. لكنه ذكر أن زيدا الحر إذا حلف أخذ النصف وإن نكل أخذ العبد جميع المائة من غير يمين عليه، لأنه لو أقر بكونها لزيد دونها (¬2) لم يلزمه اقراره لحق ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ممن سقط (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دونه

سيده في مال أوجبه الحكم لعبده. واقرار العبد بما يتلف مال سيده (¬1) ولا ينفذ له ولا يلتفت إليه. فإذا تقرر الحكم في تحققه في ذمته مالًا معلومًا وتشكك فيمن يستحقه عليه، فلو أضاف إلى هذا الشك في جنس ما استحق عليه، مثالُه أن يقول: لفلان عليَّ مائة دينار أو لفلان علي مائة درهم، فإنه إذا أنكر أن يكون لكل واحد منهما عليه بأقل الجنسين اللذين أقر بهما وهذا الدينار فيكون بين الرجلين المقر لهما إذا اتفقا على أخذه. وكذلك إذا قال: لزيد علي مائة دينار ولعمرو عليّ مائة قفيز قمح، أو لخالد عليّ مائة قفيز شعيرا. فإن زيدا يقضى له بالمائة دينار، ويبقى الشك في الإقرار ما بين عمرو وخالد، فإن أقر لأحدهما وانكر الآخر حلف له، وسقط حق من حلف له صاحبه، وإن نكل عن اليمين وحلف المنكول له عن اليمين غرم المقر، وإن حلف لهما قضي عليه بالأقل ثمنا من القمح أو الشعير وكان بين زيد وخالد اللذين أقر لهما على جهة التشكيك. هذا مذهب ابن عبد الحكم كما قدمنا ذكره. ومذهبه انه تثبت المائة دينار لزيد وتثبت المائة قفير لعمرو، وسقط حق خالد، لما قدمناه لكونه يرى أن ما وقع بعد حرف الشك فإنه كالندم والقصد إلى رفع ما ثبت عليه بحكم ما قبله من الإقرار لعمرو. وقد ثبت الأمر في هذا أيضًا على ما قدمناه من التخريج على المذاهب الأربع. وإن كان الإقرار في شيء معين فقال في عبد في يديه: هذا العبد غصبته من زيد أو من عمرو ونسيت الآن ممن غصبته منهما (¬2). فإنه يدفع العبد إليهما جميعًا إذا ادّعاه كل واحد منهما. ويغرم مع ذلك قيمته أيضًا، لأنه أتلف على أحدهما عبدا بنسيانه له. ثم يكون له (¬3) العبد بين زيد وعمرو نصفين. وكذلك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها

تكون القيمة بينهما نصفين، إذ ليس أحدهما أحق بأن تقبل دعواه في العبد من الآخر، فصار كمالٍ يدعيه رجلان لا يدفعان عنه، وليس أحدهما أرجح في دعواه من الآخر، والحكم أن يقسم بينهما بعد ايمانهما. وكذلك هذا العبد وهذه القيمة. فإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان العبد للذي حلف منهما، وسقط حق الآخر لنكوله عن اليمين لصاحبه. ولم يسقط حق الناكل في نصف القيمة لكون المقر شاكا في استحقاق الناكل لها. وقد تقدم اللفظ (¬1) بالحكم على هذا المقر بإخراجها من يده. ولو كان مثل هذا التشكيك في وديعة معينة فقال: أودعني هذه الوديعة زيد (¬2) وعمرو ونسيت من أودعنيها منهما. فإن فيها قولين: هل يضمن لأجل نسيانه فيقضى بها لزيد ويقضى عليه لعمرو بمثلها، ويقسم (2) بينهما نصفين بعد أيمانهما أولًا يضمن لأجل نسيانه شيئًا لكونه مغلوبا عليه فصار كأنه تلف بغير اكتسابه ولا جنايته؟ فإذا تقرر الحكم في تحقق المقر أن في ذمته جنسا من المال وشك في أحد رجلين يستحقانه فأضاف إلى الشك في المستحقيْن الشك في جنس المستحَق عليه، كما قدمنا الأمثلة في الوجهين، فلو كان التشكيك ها هنا من المقر، هل تجب عليه مطالبة لشخص سماه أولًا تجب؟ مثل أن يقول: لزيد علي مائة دينار، أو هي له على عمرو، أو يقول: لزيد عليّ مائة دينار، أو ليست له علي، أوله عندي وديعة، أو ليست له، أو غصبته مالًا أو لم أغصبه إياه. فإن المذهب على قولين في هذا النوع من التشكيك: فمذهب ابن المواز ومحمد بن عبد الحكم أن هذا ليس بإقرار يؤخذ به ¬

_ (¬1) في مد: الغلط (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو

المقر. وقدَّره لما كان غير متيقّن بعمارة ذمته على حال كقول ملغى مطّرح، إلا أن يضيف هذا الشك إلى من يستحيل أن يضاف إليه، كقوله: لزيد عندي مائة دينار أو هي له على هذا وأشار إلى رضيع ابن أيام، أو هي له على هذا الحجر. فإن هذا الإقرار يؤاخذ به، وتكون المائة عليه وحده لأنه لم يصرفها عن ذمته إلى من يمكن أن تكون عليه. ومذهب ابن سحنون أن هذا الإقرار لازم يطلب به المقر وحده دون ما (¬1) أضافه إليه على وجه الشك فيه، ويعد ما وقع بعد أحرف الشك كالندم منه، كما قدمنا ذكر طريقته في غير هذا من الشكوك. وكذلك مذهب أبيه سحنون. وقد قال ابن سحنون إن غيرنا خالفنا في هذا. قال: وقد جامعونا إلا أبا يوسف أن القائل: لزيد على مائة دينار أو على هذا الحجر، أن المائة تلزمه دون الحجر، ويعدّ كالنادم. وكذلك فيمن (¬2) ذكرناه من الشكوك. وكذلك قال فيمن قال: لزيد عليّ مائة دينار أو لعمرو على خالد مائة دينار، فإن المائة تلزمه ويكون ما بعد إقراره على نفسه من الشهادة على خالد إن تيقن صحتها شهد بها. وقال: قال غيرنا: لا يلزمه هذا الإقرار. وهذا كله إذا حقق هذا الأصل الذي قدمناه سهل بناء هذا كله عليه. وأستلوح منه أن من ذهب في هذه المسألة التي ذكرها ابن سحنون ان اقرار هذا على نفسه ليس إقرارا بيقين يتيقنه، وإنما هو على جهة الشك، هل يلزمه ذلك أم لا؟ وإنما تلزم عمرًا لخالد. ومما يتفرع على مذهب ابن عبد الحكم على هذا الأصل ما ذكره بنفسه في رجل قال: لزيد علىّ مائة دينار أو انما هي له على ولدي، فإن هذا ليس بإقرار كما قدمناه على أصلّ ابن عبد الحكم، لكن ابن عبد الحكم قال: لو مات الولد وترك مائة درهم فورثها أبوه وزوجته، فإن الزوجة تأخذ ربعها، ويبقى ثلاثة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَن (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما

أرباعها للأب فيسلمها لمن أقر له بذلك، فإن المائة له عليه وعلى ولده الميت، لكون اقراره المتقدم تضمن أنه لا يحل له أن يمنعها منه، لأنها إن كانت الدنانير دينا عليه فلا يحل له منع المقر له بها منها، وإن كانت على ولده فلا يحل له، أن يرث ولده قبل أن يؤدي الدين الذي عليه. لكن ابن عبد الحكم قال: لو كان ترك الولد مائتي دينار فإن الأب لا يلزم أن يؤدي إلا ثلاثة أرباع إحدى المائتين التي ورثها. وكأنه رأى أن المقر له إنما يستحق من المائتين التي ترك الولد مائة واحدة، فغصبت الزوجة ربعها من هذا المقر له وظلمته في إمساكه عنه، فتكون جائحة ذلك منه، ولا يلزم الأب أن يغرم ما أخذته الزوجة من هذه المائة، وإنما عليه قدر نصيبه من المائة التي أقر بها. وقد فرضنا نحن الكلام في ولدين ورثا أباهما، وأقر أحدهما بدين على أبيه: هل إنما يلزمه ذلك منه ما ينوبه فيما ورث خاصة، وما أخذ الولد المنكر للدين جائحته على الغريم لا يطالب به المقر. وقد بسطنا القول في ذلك، وهذا منه. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذ الأصل ما أصلناه في السؤال الذي فرغنا منه الآن وهو شك المقر فيمن يستحق عليه، علم منه ومما أصلناه فيه، الحكم إذا شك المقر فيما يُستحَق عليه. وقد يشك فيما يستحق عليه وهو متجانس أو مختلف. ومثاله في المجانس قوله في ثوبين بيده: لفلان هذا الثوب، أو هذا الثوب. أو عبدين: لفلان هذا العبد، أو هذا العيد الآخر. فقال ابن القاسم في المستخرجة في هذا: إن المقر يحلف أنه لا يعلم أيّ الثوبين للمقرّ له، فإذا حلف المقر له أنه ما يعلم هو أيضًا أي الثوبين له، فإن حلفا كانا شريكين. وإذا عين المقر أجودهما حيث سلمه للمقرّ له من غير يمين. وكذلك إن طلب

المقر (¬1) أدناهما أخذه بغير يمين، ورأى أن التهمة ترتفع عن المقر إذا عين الأجود، وعن المقر إذا عين الأدنى. ورأى أشهب أنهما إذا نكلا جميعًا قضي للمقر له بأدنى الثوبين. ونحن نؤصل لك سبب هذا الاختلاف، وما تدور عليه أكثر فروع أنواع شك المقر فيما أقر به. فاعلم أن ما يتيقنه المقرّ فإنه لا محيص له عنه، وما شك فيه وأيقنه المقرّ له أخذه، على خلاف في أخذه له: هل يأخذه بيمين أو بغير يمين؟ وإن شكّا جميعًا: المقرّ والمقرّ له، ففي هذا قولان: أحدهما: أن الذي شكّا فيه تسقط غرامته ولا تجب مطالبة المقر من أجله استصحابا لبراءة الذمة. والقول الثاني: أنه يقسم بين المقر والمقرّ له لتساويهما في إمكان كون المشكوك فيه لهذا أو لهذا: فيقسم بينهما نصفين، كمالٍ تداعياه رجلان، فإن بنينا على القول بقسمة المشكوك فيه فقد صار أدنى الثوبين كالمتيقن استحقاق المقر له. وإنما يتعرض الشك إلى الأجود من الثوبين: هل يستحق هذه الجودة المقر أو المقر له؟ فيقسم نصفين بين هذين الرجلين. فيخرج من هذا ما ذهب إليه ابن القاسم من كونهما يشتركان في الثوبين حتى يكون أدناهما بينهما وأجودهما بينهما أيضًا فتقع القسمة في المشكوك فيه. ورأى أشهب أن الأدنى هو الذي يتحقق على المقر والأعلى من الثوبين يشك فيه فلا يستحقه المقر له مع الشك فيه. ومن أصحاب مالك من سلك طريقة أشهب وبناه على ما بني عليه مذهبه إلى أنه لا يستحق عين الثوب الأدنى وإنما يستحق قيمته، وهو اختيار ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المقَرّ له

محمَّد بن عبد الحكم، وأشار إلى تعليل ذلك بأنهما لو كانا (¬1) جاريتين لم يحسن أن تسلم أدناهما بعينها إلى المقر له فيستبيح فرجها من غير اعتراف ملكها ولا من هي في يديه أنها لمن أقر له. وإلى هذا المعنى أشار ابن المواز. ولكن الشيخ أبا محمَّد بن أبي زيد أشار إلى حمل هذا الاعتلال على أن الطالب لا يعلم أيضًا عين من يستحق، كانه إذا علم أنه يستحق الأدنى من الجاريتين صار القول قوله، ولم يستبح الفرج على شك بل على يقين أنه له. وقد كنا نحن تكلمنا في كتاب البيوع على من تبايعا جارية واختلفا في ثمنها وتحالفا وتفاسخا، وعادت إلى يد بائعها: هل يطؤها لأن المشترى لما حلف فكأنه وإن كذب في اليمين كالراضي بدفعها عوضا عن الثمن، فيحل للمشترى وطؤها، ولا يحل للبائع وطؤها لاعتقاده أن المشتري ملكها، وإنما ظلمه في جحوده بعض الثمن وردها عليه ظلما وعدوانا. وهذه تلاحظ المسألة التي تكلمنا عليها الآن. وقد قال ابن المواز في مثل هذا التشكك من المقرّ فيما يُستَحَق عليه إذا شهدت على إقراره البينة، وهو يجحد: إنه يحبس حتى يأتي بإحدى الجاريتين، وإن أدى الاجتهاد إلى ضربه ليقر فعلنا. وهذا التفاوت (¬2) إلى ما أشرنا من كون المقَر له لا يستبيح شيئًا بالشك. وذهب ابن عبد الحكم إلى أنه لو قال: غصبت فلانا هذا العبد أو هذه الجارية، ثم أنكر وطلب استحلافه، فنكل عن اليمين، وادعى المقَر له العبدَ والجاريةَ، وحلف عليهما فإنه يقضى له بهما جميعًا. وكأنه رأى أن المقر إذا طلب منه أن يحلف على العبد أو الجارية ليُعتن حق المقَر له، فنكل عن اليمن وحلف المقر له لمّا ادعاهما جميعًا، صار كل شخص من المملوكين العبد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كانتا (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التفات.

والجارية طلب مدعيهما جميعًا أن يحلف المقر على كل واحد منهما أو على أحديث فلم يفعل، صار كمن ادُّعِي عليه بشيء ونكل عن اليمين، فإن المدعي يحلف ويستحقه. وهكذا قال سحنون فيمن قال: لفلان عندي مائة درهم أو دينار، فإنه تلزمه المائة درهم ويحلف على الدينار ويسقط عنه. فإن نكل عن اليمين، وادّعى الطالب الجميع: المائة درهم والدينار، يحلف ويستحق الصنفين جميعًا. وهكذا أصل سحنون، فيما قدمناه مما حكاه في السؤال الذي قبل هذا أن ما بعد حرف الشك ساقط، ويعد كالندم من المقر فقال: إذا قال: لفلان عندي مائة دينار أو ذكر (¬1) حنطة، فإن المائة دينار تلزمه والكر يسقط إذا حلف المقر على أنه لا يستحقه عليه. وإن نكل وادعاه المقَر له حلف واحدة. وفرع على هذا فروعا مبنيّة على هذا الأصل فقال لمن قال: لفلان عليّ مائة درهم ودينار (¬2) وكُرّ حنطة، فإن المائة تلزمه بإجماعنا والدينار يلزمه عند سحنون، ويسقط عنده ما بعد حرف الشك وهو كرّ الحنطة إذا حلف عليه فإن نكل وادعاه الطالب حلف وأخذه. وكذلك لو قال: لفلان عندي مائة درهم ودينار (2) وكر حنطة وكر شعير، فإن المائة درهم تلزمه في اجماعنا وكذلك الكر الشعير، ويلزمه الدينار عند سحنون، ويسقط عنه كرّ الحنطة، ويلزمه الشعير في اجماعنا. وقال غيرنا: تلزمه المائة درهم والكر الشعير، وهو أول اللفظ وآخره، وأمّا ما بينهصا وهو الثاني والثالث فإنه يقضى عليه بأقلها قيمة. فأنت ترى كيف أشار (¬3) سحنون ها هنا إلى الاتفاق على لزوم كر الشعير لما وقع عقيب حرف العطف وهو الواو. فكأنه إنما عطف بحرف الواو على الأمرين المتقدمين ولهما (¬4) المائة درهم والدينار، وخص ما بعد حرف الشك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كُرُّ (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سحنون بحذف ابن (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهما

خاصة وهو الحنطة التي ذكرها في ثالث مرتبة. وقد قدمنا عنه ما حكاه عن نفسه من اختلاف قوله إذا قال: لفلان عندي مائة درهم، أو لفلان، وفلان، أنه كان يذهب إلى الأول والثالث هما اللذان يستحقان هذه المائة، وقدر أن الثالث المذكور بخلاف العطف إنما عطف على الأول الذي الاقرار له لازم قال وكتب هذا وأشار إلى رجوعه عنه إلى الشك وقع بين الثاني والثالث، وكأن المائة درهم لازمة، فلما قال بعدها: أو لفلان دينار ومائة درهم، صرف هذا الشك إلى الثاني والثالث، خلاف ما أشار إليه ها هنا من الاتفاق. وهذا ينبغي أن يتأمل كلامه. وجميع ما تفرع من هذه المسائل مبني على ما قدمنا تأصيله لك. وقد كئا قدمنا مذهب ابن عبد الحكم في الشك في الإقرار: المتيقنُ به من الإقرار هو الألزم ويقسمه المتداعيان فيه المستويان في شك المقر فيهما جميعًا. وهكذا قال: إذا قال: لفلان عندي مائة درهم أو مائة دينار، فإنه يكون للمقرّ له أقلهما، جريا منه على الأصل الذي ذكرناه. فاحتفظ بما أصلنا ذلك في هذه المسائل فعليه يدور جميعها مع التفاتك إلى مقتضى عبارة المقرّ في اللغة أو في الحرف. فإذا تحصل لك معناها عرضت المعنى على المذاهب التي أصلناها لك. ولو قال في عشر: فلان عنده لفلان أحدها لطُلب بتعيينها، فإن عيّنها لم يقض عليه بخلاف ما عتن، وإن لم يعيّنها وشك أفي واحدة هي من العشرة عاد الأمر إلى ما عقدناه لك في هذا السؤال الذي نحن فيه وهو شك المقر في أحد ثوبين، وفي هذا ممتنع (¬1). ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَقْنَع.

والجواب عن السؤال السادس أن يقال: إذا وقع في الإقرار اضراب عنه بعد النطق به فإن ذلك لا يخلو أيضًا من أحدهما: أن يكون إضرابا عن ذكر من يستحق. والثاني: أن يكون إضرابا عن الجنس المستحَق. فأمّا إن كان إضرابا عن من يستحق، مثاله قول القائل: لزيد عندي مائة دينار بل هي لعمرو. فإن هذا الحرف الذي هو "بل" عند النحاة وضع للإضراب عن الأول المذكور، وصرف ما نسب إليه من ذكر بعد حرف "بل". فأما المذكور أوّلا فإنه يغرم له ما أقر به وهي المائة دينار في قوله: مائة دينار عندي لزيد بل لعمرو. ولا خلاف في استحقاق زيد لهذه المائة على المقر. ويغرم لعمرو مائة أخرى باعترافه بها له. ولا يسقط حق زيد في استحقاقه على المقر المائةَ دينار بإقراره لعمرو بمائة دشار. ويحمل ذلك على أن عليه مائتين: إحداهما لزيد والأخرى لعمرو، كما لو قال: لزيد عندي مائة دينار ولعمرو عندي مائة دينار أخرى. ولو قال غصبت هذا العبد من زيد بل من عمروة لكان لزيد، ويقضى عليه لعمرو بقيمته. وأشار ابن سحنون إلى مخالفة أشهب في حكم عمرو. فقال: قال أشهب قولًا أباه سحنون وذلك أنه قال فيمن قال: غصبت هذا من زيد أو عمرو، بل من خالد: إن العبد لزيد، ويحلف لمن شك فيه. ولم يعجب هذا سحنونًا لإجماع العلماء على من قال: غصبت هذا العبد من زيد بل من عمرو إن العبد لزيد، ويقضى لعمرو بقيمته. وقد اتفق سحنون وأشهب فيمن قال: غصبت هذا العبد من زيد وعمرو (¬1) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بل من زيد. (كما سيأتي)

من زيد أنه يقضى بالعبد لزيد وعمرو نصفين بينهما، ويغرم لزيد نصف قيمة العبد إن أراد ذلك زيد. وإن أراد زيد أن يغرم له قيمة العبد كله فذلك من حقه لكونه لما قال: بل من زيد. أضاف غصبه لجميع العبد إلى ملك زيد، فليس له أن يغصبه عبدًا كاملًا. ويرد عليه نصف عبد. وهذا لما كان بالخيار بين أن يأخذ النصف على ما فيه من عيب الشركة وبين أن يرده على المقر ويغرمه قيمة جميع العبد، قال: وهذا يدل على قول سحنون: وكذلك لو قال: غصبت هذا العبد من زيد وعمرو، بل غصبت جميعه من عمرو. فإن العبد يكون بين زيد وعمرو نصفين، ويطالبه عمرو بنصف قيمة العبد إذا شاء، لكونه استهلك هذا النصف عليه لاقراره به لغيره، ولكن بعد أن يحلف كل واحد من زيد وعمرو لصاحبه: أنه ليس له فيه حق. فإن حلفا كان الحكم ما ذكرناه. وكذلك إذا نكلا. وإن نكل زيد، الذي لم يقض له إلا بنصف العبد، عن اليمين، وحلف عمرو، فله أخذ جميع العبد على مقتضى إقرار المقر لقوله: بل هو لعمرو، ونكولِ زيد عن اليمين لعمرو. ولكن يكون نصف القيمة لزيد لاعتراف المقر أنه قد غصبه نصف العبد لمّا قال: غصبت هذا العبد من زيد وعمرو. فقد يتضمن هذا القول أن زيدا يستحق نصف العبد، فإذا اتلفه عليه بإقراره أن جميعه لعمرو استحق قيمة ما تلف عليه. ولو كان الناكلَ عن اليمين عمرو، وقد حكمنا له بنصف (قيمة العبد) (¬1) كله لزيد إذا ادعى جميعه وحلف عليه ونكل عمرو. ويبقى لعمر نصف القيمة التي أوجبها على المقر اقرارها (¬2) بأن جميعها (2) لعمرو. قال: وقرأت على سحنون قول أصبغ: لو قال: مائة دينار عندي لزيد من دين أو تعدّ أو وديعة، بل هي لعمرو. لغَرِم لكل واحد منهما مائة، ولو كان ذلك في سلعة فقال: هذا العبد غصبته من زيد بل من عمرو. فإن كان ذلك قاله قبل أن يقبض زيد العبد كان العبد بين زيد وعمرو نصفين. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: القيمة، والعبد (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إقرارهُ - جميعه

ولو قال: غصبته من زيد، ثم قال بعد ذلك: من عمرو، وقد قبض زيد العبد: فإن. العبد يكون لزيد، ويغرم لعمرو قيمته. قال سحنون: أصاب إلا في الذي قاله في العبد فإن الحكم أن يكون العبد لزيد ويقضى عليه لعمرو بقيمته، سواء قال: بل هو لعمرو بعد أن قبضه زيد (¬1) وقبل أن يقبضه؛ لأنه إذا قبضه صار كالمستهلك له. وهذا الذي ذكره عند أصبغ قد أشار إليه أيضًا أشهب فقال: لو مات رجل ولم يترك وارثا سوى ولده، فقال ولده: هذه وديعة عندي لفلان وفلان معه. فإن قال ذلك نسقا وكلاما متصلًا قضي بالوديعة لهما. وإن قال: هذه وديعة لفلان، ثم بعد حين قال: أو لفلان معه، أو لفلان دونه، وكان عدلا، فهو كالشاهد على أبيه: يحلف المقَز له آخرأً عني ما شهد به، ويقضى له بموجب الشهادهّ. وإن لم يكن الولد عدلا أو نكل المقر له (¬2) آخرًا عن اليمين معه قضي بذلك للمقر له أوّلا، ولا غرامة على الوارث إلا أن يدفع ذلك إلى المقر له أوّلا، فيضمن للثاني لاستهلاكه حقه بالدفع. وهذا ينظر فيه إلى طريقة أصبغ. ولعل الذي أنكره ابن سحنون على أشهب فيما قدمنا ذكره عنه محمله على ان العبد لم يقبض أوّلا، فيكون ذلك مطابقا لما حكيناه عن أشهب في هذه المسألة، في اقراره (¬3) الوارث بهذه الوديعة لإنسان ثم أقر بعد ذلك لآخر. ولا شك أن مذهب أشهب أن مجرد الإقرار الثاني بعد أن أقر للأول ليس بإتلاف على الثاني يوجب على المقر القيمة. وقد ذكر سحنون فيمن قال في عبد في لديه: هو بيني وبين فلان، وسمى رجلًا ثالثا: أنه قيل: إن الذي سماه في الإقرار أوّلا له نصف العبد، لاعتراف المقر أنه بينه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو (¬2) من هنا انقص. بـ مد (¬3) هكذا، ولعل الصواب، إقرارِ

وبينه، (ويكون لمن أقر له ثانيا، أنه بينه وبينه، نصف العبد الذي بقي في يد المقر، ويكون المقرّ له ثالثا نصف الربع الذي وقع في يد المقر وهو الثمن، ويبقى للمقر الثمن) (¬1). قال: وسمعت بعض أصحابنا يقول: يقضى للمقر له أوّلًا بنصف العبد، ويغرم بقيمة هذا النصف لمن أقر له به بعد ذلك. ولو قال: هذا العبد كله لزيد بل لعمرو ولم (¬2) يكن لعمرو على المقر شيء. قال أشهب: إلا أن يدفعه المقر إلى من أقر له به أوّلا. وهذا نفس ما حكيناه من الخلاف في إثبات الغرامة على المقر لكونه أتلف بالقول لا بالفعل. وكأن أصحاب هذه الطريقة رأوا أن الاستهلاك الموجب للضمان هو دفع الملك لمن لا يستحقه. وأما استهلاك بالقول الذي أقتضى الشرع من أجله الاستهلاك فلا يوجب الضمان وكأن قوله: هذا العبد لزيد، وقوله بعد ذلك: بل لعمرو، وَإِذَنْ حصل منه اتلافه على عمرو بقول قاله لا بفعل فعله. وقد اختلف المذهب عندنا في الشهود بزنى المحصن، فرجم بشهادتهم، ثم رجعوا عنها وقالوا: تعمدنا الكذب: هل يقتلون كما لو قتلوه بأيديهم، ويكون قولهم هذا الذي ألجأ القاضي إلى قتله كقتل بأيديهم أم لا؟ وأمّا ما ذكرنا عن أصحاب هذه الطريقة من التفرقة بين المقر له أوّلا: هل قبض أو لم يقبض، فإنهم قدروا أن القبض له تأثير يمنع من الشركة. وقد قيل في المذهب الأشهر عندنا: إن من اشترى سلعة من وكيل بائعها فباعها بائعها من آخر بعد أن باع الوكيل، ولم يعلم الوكيل بذلك: إن المشتري الثاني أحق بها إذا قبضها، فإن لم يقبضها كان الأول أحق بها. وقدّر من ذهب إلى هذا أن القبض شبهة توجب الترجيح على من هو أحق بالملك على الحقيقة وهو المشتري الأول. وهذا مما يطول استقصاؤه، ولعلنا أن نورد استقصائه في الموضع الذي يتعلق به الكلام على هذا الأصل. هذا الحكم في الإضراب عمن يستحق. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا. وهو غير واضح (¬2) هكذا، ولعل الصواب حذف الواو.

وأما الاضراب عما يستحق المقر له مثل أن يقول: له عندي كذا، بل له عندي. فإنه لا يخلو من أن يكون رجع في الإقرار الثاني إلى زيادة عما أقرّ به أوّلا، والنوع واحد، أو إلى أنقص منه، والنوع واحد. فإن رجع إلى زيادة عمّا أقر به أوّلا قضي عليه بالزيادة التي رجع إليها، مثل أن يقول: لزيد عندي مائة دينار، بل ألف دينار. فإنه يقضى عليه بألف دينار لا أكثر، لكونه أضرب عن المائة ورجع إلى الاعتراف يكون المائة ألفا. وهذا الحرف الذي هو حرف "بل" يسميه النحاة حرف إضراب في قول العرب: جاء زيد بل عمرو. فكأن المراد أن زيدًا لم يجىء وإنما جاء عمرو. ذكر ابن سحنون عن المخالف أنه يقول: إن القياس إلزام المقر الجملتين جميعًا ما أقرّ به أوّلا وهو مائة دينار، ثم ما رجع إليه وهو ألف دينار، فيغرم الألف ومائة دينار. قال: ولكنا نستحسن أن لا يُلزمَ المِقر الألف دينار. وانكر ابن سحنون هذا القول، وقال: كيف يخالَف القياس بغير أثر، ولا قول سلف. والكلام في الحكم بالاستحسان للمخالف للقياس يتسع، وموضعه كتاب الأصول، وللأصوليين في تأويل الانشحسان المتبع دون القياس تأويلات مبسوطة في كتاب الأصول. وكأن من رأى أن القياس أن يغرم المقر الجملتين يقول: فإن قول المقر: لزيد عندي مائة دينار، أوجب استقرار مائة في ذمة المقر، فليس له إسقاطها، وقوله: بل له ألف دينار، إقرار بجملة ثانية، فيؤخذ بالجملتين. ولو كان الاضراب عن الأول إلى ما هو أقل منه، مثل أن يقول: لزيد عندي ألف دينار بل خمسمائة، والكلام متصل بعضه ببعض، لم تلزمه إلا خمسمائة دينار، ويقدر ما أضرب عنه كأنه استثناء بالقول الثاني. ولو قال: لزيد عندي ألف دينار إلا خمس مائة لم يقض عليه إلا بالخمس مائة، وكذلك إذا بدّل حرف الاستثناء وهو "إلا" بحرف "بل" فقال: بل خمسمائة دينار. ولو قال: بل خمسمائة دينار، بعد انقضاء القول الأول، واستئناف هذا الاضراب بعد زمن

لم يقبل ذلك منه كما لا يقبل الاستثناء المتراخى عن النطق بالمستثنى منه. هذا في الإضراب عن المقدار بأقل أو بأكثر. وأما لو كان الإضراب عن الصفة لجرى ذلك مجرى الإضراب عن المقدار مثل من يقول: لزيد عندي مائة درهم سودٍ بل مائة درهم بيضٍ. فإنه يقضى له بالبيض لكونه زاد في الإقرار، فهو كزيادة المقدار. ولو قال: له عندي مائة درهم بيض بل سود. لقضى بالسود لأنه كالمستثني مقدار ما بين السود والبيض. وأجرى أصحابنا الدنانير والدراهم هذا المجرى وقدروه كاختلاف الصفات. فإذا قال له: لك عندي درهم بل دينار. فإن الدرهم يسقط ولا يلزم المقر إلا الدينار، وكأنهم رأوا أن الدينار كالعبارة عن عشرة دراهم. ولو قال له عندي درهم بل عشرة دراهم لقضي عليه بالعشرة دراهم كما قدمنا. وذكروا عن المخالف لنا أنه يرى إلزام المقر الدرهم والدينار جميعًا لكونهما كالنوعين. وناقضوه بأنه يرى أنه من قال: له عندي دراهم بيض بل سود، أنه يلزمه أفضلهما. وكذلك ينبغي أن يلزم المقر الدنيار ويسقط عنه الدرهم لكون الدينار أفضل. ولو اختلف النوع مثل أن يقول: لزيد عندي قفيز قمح بل قفيز شعير فقال محمَّد بن عبد الحكم من أصحابنا: إن في المسألة قولين: أحدهما: يلزمه الشعير لكونه أقل قيمته من القمح، فكأنه استثنى من القمح مقدار ما بينه وبين الشعير فلا يلزمه (¬1) الشعير. قال: والقول الآخر، وهو قول عندنا: إنه يلزمه القمح والشعير جميعًا. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: فلا يلزمه [إلا] الشعير.

وكذلك لو قال: له عندي رطل دهن بنفسج بل دهن خيري. للزمه دهن الخيري لأنه إن كان أفضل فهو كالزيادة في الإقرار، وإن كان أدنى فهو كالاستثناء من الإقرار، كما قلناه في الدراهم البيض والسود. وكذلك قوله: له عندي سمن بقري بل غنمي. لجرى الأمر على هذا الأسلوب، يلزمه الجميع، كما حكيناه في الدرهم والدينار. ولو كان على المقر وثيقة بمائة درهم وعشرة دنانير فقال: قبضت دينارًا بل درهما، لجرى الأمر على القولين في النوعين على ما ذكره بعض أصحابنا. على أن هذا قد تقدم إثبات النوعين في ذمته، ثم بعد هذا صدقوه في أنه لم يرد قبض النوعين جميعًا. وكل ما ذكرناه ها هنا في إضرابه عن نوع إلى نوع أدنى، وقلنا: يقبل منه ولا يلزمه إلا أدنى، فإنه يحلف على ذلك عند الذاهبين إلى هذا المذهب. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: اعلم أن الاستثناء نوع مما قسمته النحاة في أقسام الكلام. وهو في الشرع يدل في أكثر الكلام في الأحكام في الإقرار بالمعاملات والطلاق والعتاق والحدود وغير ذلك. وله عند النحاة أحرف تختص به كقوله: له عندي كذا إلا كذا، بحرف الأصل في حروف الاستثناء. وكذلك قوله: "غير" و"خلا" و"حاشا" و"عدا"، إلى غير ذلك مما ذكرته النحاة في كتبهم. وهو يقع على قسمين: أحدهما. الإستثناء من جنس المذكور. والثاني: أن (¬1) الاستثناء من غير الجنس. فأما الاستثناء من جنس المذكور فكقوله: له عندي مائة درهم إلا درهما. ¬

_ (¬1) هكذا والأولى حذفها

وأمّا الاستثناء من غير الجنس فكقوله: له عندي مائة درهم إلا قفيز حنطة، أو إلا ثوبا. فأمّا إذا كان الاستثناء من الجنس فإنه يقع على ثلاثة أضرب: أحدها، استثناء قليل من كثير، كقوله: مائة درهم، إلا درهما أو إلا عشرة. والثاني: استثناء يساوي المستثِني ما استثنى منه كقوله: عندي مائة درهم إلا خمسين درهما. والثالث أن يستثني أكثر عدد من أقله، كقولك له عندي مائة درهم إلا تسعين، أو إلا ثمانين. فأفا إذا استثنى أقل العدد فإنه جائز. ولم يذكر فيه خلاف عند، عامة العلماء والنحاة. وذكر عن قوم شذّوا فقالوا باستقباح ذلك إلا أن تدعُوَ ضرورة إليه، كاستثناء الكسور. كقولك: عليّ مائة درهم إلا (¬1) عشرة دراهم أو إلا نصف درهم. أن قول القائل: عندي مائة درهم إلا عشرة دراهم يعني عنه قوله: له عندي تسعون درهما. والكلام الصحيح ما استغني عنه (1) عن الإطالة والحشو إلاَّ (¬2) يفيد. ونقضوا ذلك عليهم بقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} (¬3)، وهذا استثناء أقل من أكثر (¬4) من غير أن يكون كسرا في العدد. وأجابوا عن هذا بأن هذا في معنى الكسر لأن التجزئة المفتوحة (¬5) من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إلا عشر درهم. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: إلا [أن] يفيد (¬3) العنكبوت: 14 (¬4) إلى هنا ينتهي النقص من (مد). (¬5) هكذا، ولعل الصواب: مفتوحة

النصف إلى العشر، وهذا كالكسر، لأن الخمسين من الألف كنصف العشر، فصارذلك في معنى استثناء الكسر. وهذا الذي قالوه مستنكر عند جميع العلماء من أهل الفقه واللسان. وأمّا استثناء الأكثر من الأقل، فالمشهور عند سائر الفقهاء جوازه. وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأكثر أهل اللسان. وخالف فيه من الفقهاء عبد الملك ببن الماجشون من أصحاب مالك، فلم يجزه، ومن النحاة ابن درستويه فلم يجزه أيضًا، وذكر أنه ناظر على ذلك أبا علي بن أبي هريرة وهو من كبار أصحاب الشافعي. واعتذر بعض الأشياخ عن ابن الماجشون بأنه لم يخالف في الحكم، وإنما خالف في استعمال العرب لذلك، فرأى أنها لم تستعمل استثناء الأكثر من الأقل، ولكنها وإن لم تستعمل ذلك فلا يسقط حكم الإستثناء في إقرار المقر إذا قال: له عندي مائة درهم إلا تسعين درهما. ويعتمد في ذلك على أن الاستثناء إنما يتبع فيه لسان العرب، وفي غيره من أنواع الكلام، ولم ينقل عنها استعمال استثناء الأكثر من الأقل، فوجب ألا يدخل ذلك في أحكام اللسان. واعتمد الجمهور على قوله تعالى: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ في الْأَرْضِ} (¬1) إلى قوله: {مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) فاستثنى في هذه الآية المخلصين تارة، واستثنى تارة الغاوين ولا بد أن يكون أحدهما أكثر من الآخر في الظاهر والأغلب. فتحصل من ذلك جواز استثناء الأكثر من الأقل. فانفصل بعضهم عن ذلك بأن قال: المخلصون ها هنا الملائكة والنبيون، وهم المراد بذلك إذ لم يذكر في صدر هذا الكلام لفظ سائر العباد، ومعلوم أن الملائكة والنبيين وجميع من في السماوات هم أكثر من الغاوين. وهذا إذا حمل الكلام عليه كان استثناء من النوع الذي أجزناه وهو استثناء ¬

_ (¬1) الحجر: 36، 42

الأقل من الأكثر، مع أنه أيضًا إذا لم يُعلم من (¬1) الأقل السامع جاز ذلك. وإنما يقبح إذا استثنى ما يعلم السامع أنه أكثر مما أبقاه. وتعلقوا أيضًا بقوله تعالى: {قمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} (¬2) وهذا لما ذكر الزيادة اقتضى ذلك الاستثناء (¬3) الأكثر من الأقل لأن قوله تعالى: {إِلَّا قَلِيلًا} استثناء جار على الأصل وهو استثناء القليل، وقوله تعالى: {نِصْفَهُ} كأنه بدل من قوله تعالى: {قَلِيلًا} وعطف عليه قوله: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}. وأنشدوا أيضًا في ذلك قول الشاعر: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكمًا بالحق قواّلا وهذا استثناء الأكثر من الأقل وإن لم يكن بحرف الإستثناء لكنه بكلمة ثابت مناب حرف الاستثناء، وهو قوله: التي نقصت تسعين من مائة. وأيضًا فإن التخصيص للعموم هو بيان مراد المتكلم، ويجوز التخصيص وإن كان ما خصص أكثر مما بقي في العموم، وكذلك يجب أن يكون في الاستثناء. وهذا إنما يحسن الحجاج به على مذهب من قال من الأصوليين: إن اللغة تؤخذ قياسًا. وأما من أنكر القياس على اللغة فإن هذا لا يلزمه. وكثيرًا ما يتحد المعنى وتختلف أحكام إعرابه عند العرب، فلا يبعد أن يكون إخراج الأكثر من العموم يحسن عند العرب إذا كان بغير لفظ الاستثناء ويقبح إذا كان بحرف الاستثناء متصلًا بالكلام. وقد أشبعنا هذا الفصل فيما أمليناه من أصول الفقه في إيضاح المحصول من برهان الأصول. وأمّا إن كان الإستثناء مساويا للمستثنى منه فإن المانعين لاستثناء الأكثر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُعلَم الأقلُّ [من]. (¬2) المزّمِل: 2، 3. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استثناء.

من الأقل قد اختلفوا في ذلك: هل يلحق بالأقل أو بالأكثر؟ فظاهر كلام ابن القصار إلحاقه بالأقل. وابن درستويه نص على المنع منه وألحقه بالأكثر. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: قد فرغنا من حكم الاستثناء إذا انفرد. ولكنه قد لا ينفرد ويلحق به استثناء آخر مثل أن يقول: له عندي عشرة دنانير إلا ستة إلا اثنين، فإن هذا يجب أن تعلم أن الاستثناء الثاني إنما يكون مما يليه من الخطاب، والذي يليه الاستثناء الأول، فإذا قال: له عندي عشرة دنانير، إلا أربعة، صار الباقي ستة. فإذا قال بعد قوله: إلا أربعة إلا اثنين، فالإثنان ها هنا مستثناة من الاستثناء الذي قبلها وهو أربعة. فقوله: أربعة إلا اثنين يصير الباقي من أربعة اثنين فهي المستثناه من العشرة، فيكون عليه ثمانية دنانير، لأن الإستثناء لا يكون أبدا إلا ضد المستثنى منه. فإذا كان الكلام إيجابًا كقولك: له عندي عشرة دراهم، كان قوله، عقيب ذلك: إلا درهمين نفيا لإيجاب الدرهمين عليه، والنفي ضد الإثبات. ولو كان افتتاح الكلام نفيا لكان الاستثناء اثباتا، كقولهم: ما جاء أحد إلا زيدًا، فكل أحد لم يجىء وزيد قد جاء، فهو ضد ما قيل في أحد. فإذا تقرر هذا فتسهيل معرفة هذا إذا كثر أن تُبقي من العدد الاستثناء الأولَ، وما بعد الاستثناء الثاني تثبته، وما بعد الاستثناء الثالث تنفيه، وما بعد الاستثناء الرابع تثبته، هكذا أبدًا. فلو قال رجل: لفلان عندي عشرة دراهم إلا تسعة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة إلا خمسة إلا أربعة إلا ثلاثة إلا اثنين إلا واحد! لكان للمقَرّ له على المِقر خمسة دراهم، لأنك تنفي التسعة من العشرة فيبقى واحد. فإذا قال: إلا ثمانية، فذلك إسقاط الثمانية من التسعة، وهو إثبات، لكون التسعة نفيا، فيضيف الثمانية إلى الدرهم فيصير معك تسعة. فإذا قلت: إلا سبعة فذلك أيضًا إسقاط لبعض ما أثبت من الثمانية، وقد كانت الثمانية اثباتا فتكون السبعة نفيا فيبقى اثنان، فإذا قلت: إلا ستة، فيكون ذلك اثباتا لكون

السبعة نفيا، فيضير معك ثمانية. فإذا قلت: إلا خمسة، كان ذلك نفيا، لكون الستة إثباتا، فيبقى معك ثلاثة. فإذا قلت: إلا أربعة، أكان ذلك نفيا، لكون الأربعة إثباتا، فإذا قلت: إلا ثلاثة، كان ذلك نفيا لكون الأربعة إثباتا، (¬1)، فإذا قلت: إلا اثنين كان ذلك إثباتا، لكون الثلاثة نفيا، فتبقى معك ستة. فإذا قلت: إلا واحدًا، كان ثفيا لكون الاثنين إيجابا، فتبقى معك خمسة. هكذا وجه العمل في تكرير الاستثناءات بعضها من بعض. واعلم أنه بقي من تقسيم الاستثناء: استثناء الكل من الكل، مثل أن يقول: له عليّ ألف درهم إلا ألف درهم. واستثناء أكثر من الجملة كلها فيقول إلا ألفي درهم. فإن هذا الاستثناء باطل باتفاق، فيصير في معنى قوله: "له عندي ألف درهم لكنّ ذلك كذب وباطل". فلا يقبل ذلك منه. وذكر ذلك ابن سحنون وقال: هذا الحكم في اجماعنا. وذكر غيره أيضًا الاتفاق على من قال: امرأتي طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، فإن الطلاقَ الثلاثُ، لكونه أثبت الكل ثم رفع الكل. وقد فرع العلماء مسائل في تكرير الاستثناء في الطلاق، فإذا قال القائل: امرأتى طالق ثلاثًا إلا ثلاثا لزمه الثلاثة، كما قلنا. ولو قال: امرأتي طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا إلا اثنين. لم يلزمه سوى طلقة واحدة، لما أصلناه لك من كون الاستثناء مضافًا لمقابله. فإذا قال: أنت طالق ثلاثًا، فقوله: إلا ثلاثًا، نفي الثلاثة، وقوله، عقيب ذلك،: إلا اثنين، نفي من الثلاثة التي قبلها. فهذا مما للعلماء فيه ثلاثة مسالك: أحدها: يلزمه الطلاق الثلاث. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب كان ذلك إثباتًا فيصير معك سبعة فإذا قلت إلا ثلاثة كان ذلك نفيًا لكون الأربعة إثباتًا فيصير معك أربعة ..

والثاني: يلزمه طلقتان. والثالث: أنه تلزمه طلقة واحدة. وسبب الخلاف في هذه المسالك أن قوله: أنت طالق ثلاثًا (¬1)، قد قدمنا أن هذا الاستثناء لا يلتفت إليه ولا يعتد به، والطلاق الثلاث لازم باتفاق. وقوله، عقيب ذلك: إلا اثنين، مستخرج مستثنى من قول باطل لا يعتد به، فإذا كان الأصل باطلا كان ما أخذ منه باطلا أيضًا، وبقي حكم اللفظ الأول، وهو قوله: أنت طالق ثلاثًا، ثابتا لازما، لكون الاستثناءين الواقعين بعده ساقطين. وأمّا المسلك الثاني، وهو إلزامه طلقتين، فإنه مبني على أن قوله: إلا ثلاثًا، إنما أُجمع على سقوطه إذا اقتصر عليه؛ لأنه نفي للكل بعد أن أثبته، وهاهنا لم يقتصر عليه بل عقّبه ووصله لما يرفع الاستحالة، وهو قوله: إلا اثنين، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثًا، لكن أنت طالق إلا (¬2) اثنين؛ لأنا قدمنا أن الاستثناء من النفي إيجاب. والمسلك الثالث، وهو الزامه طلقة واحدة، مبني على أن الاستثناء الأول ساقط، والساقط كأنه لم ينطق به، فكأنه قال: طالق ثلاثًا إلا اثنين فتبقى واحدة. وإنما يبقى النظر فيما قد يشكل، وهو أن يزيد في الأول على الثلاث، فيقول: أنت طالق أربعة إلا ثلاثة، فإنه يلزمه الثلاث لكون الطلقة الرابعة لم يَرِدْ بها الشرع، فالنطق بها كالعدم. يحصل من هذا إذا كانت كالعدم أنه كالقائل: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، وقد، قدمنا الاتفاق على كون هذا الاستثنا، لا ينفع، فلو قال: أنت طالق مائة إلا طلقتين أو طلقة، لزمه الثلاث. وقد يتصور أن ما قلناه من كون ما زاد على الثلاث لا يعتد به وكأنه لم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: إلا ثلاثًا إلا اثنين: (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف إلا.

ينطق به أنه لا يلزمه إلا طلقتين، إذا قال: أنت طالق مائة إلا واحدة ويكون الاستثناء من الثالث (¬1) لكون الزائد عليه كالعدم. ومَن قال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة، فإنما تلزمه طلقتان. لكن هذا لما أبقى الاستثناء عددًا هو: ثلاثًا، أُخِذ بما أبقى بعد الاستثناء. فالقائل: أنت طالق (إلا مائه واحدة) (¬2) قد أبقى من المستثنى منه ثلاث طلقات وأكثر منها، فأُلزِم الثلاثة، فيعتبر في هذا المعنى ما أبقى بعد الاستثناء، فإن أبقى ثلاثًا فأكثر لزمه الطلاق الثلاث بحكم قصده إلى ما أبقى من المستثنى منه، بخلاف قوله: أنت طالق خمسًا إلا ثلاثًا، للزمه (¬3) الثلاث لكون حكم ما زاد على الثلاث إلى الخمس في اللفظ الأول ساقط فكأنه قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا. ولو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ستًا، للزمه الطلاق الثلاث على الطريقتين جميعًا، إن راعينا ما أبْقي بعد الاستثناء فقد أبْقي ثلاث. فإن لم يراع الباقي، وراعينا كون ما زاد على الثلاثة كالعدم وكأنه لم ينطق به، صار كالقائل: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، وكأن الستة عبارة عن الثلاث، فتدبر ما قاله أصحابنا في هذا من التفاتهم إلى عدد ما أبقى من المستثنى منه، فإن أبقى ثلاثًا فأكثر أحدثهما (¬4)، فإن لم يبق ثلاثًا ولكنه طلق أولًا زيادة على الثلاثة صارت الزيادة على الثلاثة كالعدم. فإذا قال: أنت طالق خمسًا إلا ثلاثًا لم يعتبر الباقي، واعتبر حكم إسقاط ما زاد على الثلاثة وهي الطلقة الرابعة والخامسة. فإذا أُسقطَتَا في النطق صار كالقائل: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا. ومما يشكل في مسائل الاستثناء قول الرجل: له عندي درهم ودرهم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الثلاث (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مائة إلا واحدة (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تلزمَه (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أُخِذَ بهما.

ودرهم إلا درهم. فإن هذا أيضًا فيه مسلكان للعلماء: أحدهما: أنه يعتد بهذا الاستثناء، ولا يلزمه سوى درهمين، لأن قوله: له عندي درهم ودرهم ودرهم المراد ثلاثة دراهم، ولا فرق عند العرب والناطقين بين قولهم ثلاثة دراهم وبين العبارة بدرهم ودرهم ودرهم؛ لأن النحاة قد جعلوا أن قولهم: جاءني الزيْدون بدلًا من قولهم: جاءني زيد وزيد وزيد. فإذا كان ذلك بدلًا نفع الاستثناء كما ينفع في قوله: ثلاثة دراهم إلا درهما. والمسلك الآخر: أنه لما فضل ها هنا، وأتى بلفظ الآحاد عاد الاستثناء إلى الدرهم الأخير، فيصير إذا عدناه (¬1) إلى الدرهم الأخير كمستثني الكل من الكل، فكان قوله: إلا درهمًا، راجعًا إلى الدرهم الأخير خاصة فيبطل الاستثناء. هذا حكم الاستثناء إذا كان من الجنس انفرد أو تكرر. وأما إذا كان الاستثناء من غير الجنس مثل أن يقول: له عندي مائة دينار إلا مائة درهم، أو إلا عشرة أقفزة قمحًا، أو إلا عشرة ثياب، أو إلا عشرة أعبد، إلى ما يشبه ذلك مما يتقدر بالكيل (¬2) أو وزن أو عدد. فهذا مما اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال على الجملة: فمذهبنا ومذهب الشافعي صحة هذا الاستثناء والاعتداد به. ومذهب محمَّد بن الحسن وزفر اطّراح هذا الاستثناء وكونه لا يعتد به ولا يُسقط من الجملة التي استثنى هذا منها شيئًا. وفصل أبو حنيفة فذهب إلى أن كل ما يقدر بكيل أو وزن أو عدد. مثال العدد أن يقول: له عندي مائة درهم إلا مائة بيضة، أو إلا مائة جوزة. فإن الاستثناء يؤثر ويعتد به ويسقط مقداره من الجملة الأولى التي كان الاستثناء منها. وإذا كان مما لا يقدر بكيل أو وزن أو عدد اطرح حكمه، ولزمته الجملة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصوابْ: أَعَدْناه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب بكيل.

الأولى التي استثنى منها بأسرها. وحكى هذه المقالة عنه محمَّد بن عبد الحكم وأنكرها فقال: لا فرق بين ما يقدر وما لا يقدر بكيل أو وزن أو عدد. وذكر ابن سحنون أن استثناء الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير مما يعتد به. فإذا قال: له عندي مائة دينار إلا فائة درهم طرح من المائة دينار مقدار صرف المائة درهم. وكذلك إن قال: له عندي ألف درهم إلا عشرة دنانير طرح من الألف درهم مقدار صرف العشرة دنانير. وأشار إلى الاتفاق على ذلك لكون الدنانير والدراهم كالنوع الواحد فحصل منه استثناء الشيء من جنسه. وقد قدمنا أن استثناء القليل من الكثير إذا كان من جنس واحد لم يختلف في صحة الاستثناء. وأما إن قال: له عندي مائة دينار إلا عشرة أقفزة قمحًا، فذكر ابن سحنون أن فيه قولين: أحدهما: الاعتداد بهذا الاستثناء واطراح قيمة العشرة أقفزة قمحًا. والقول الآخر: إن الاستثناء باطل. وهكذا ذكر ابن المواز في استثناء الدنانير من الدراهم أن ذلك يعتد به ولم يذكر فيه خلافًا. وكذلك لو استثنى ما لم يقدر بكيل أو وزن أو عدد مثل أن يقول: له عندي مائة دينار إلا ثوبًا أو عبدًا، فإن فيه القولين المتقدمين: أحدهما أن هذا الاستثناء لا يعتد به. والثاني أنه يعتد به. ويقال للمقِرّ: صف الثوب أو العبد، وتحط قيمة ذلك مما أقرّ به من دنانير أو دراهم. فكذلك لو قال: له عندي عبدًا (¬1) إلا ثوبًا، لكان في ذلك القولان اللذان ذكرناهما عن حكايته بعض أصحابنا كما تقدم: أحدهما: اطراح هذا الاستثناء وإلزام المقر عبدًا. والثاني: الاعتداد به واطراح قيمة الثوب من العبد. والقول قول المقر في صفة ذلك كله: المستثنى والمستثنى منه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عبد.

وذكر بعض الأشياخ الحذاق أن في الاستثناء من غير الجنس قولين. واختار القول باطراحه، وصرف إلى كونه ندمًا من المقر. وهذا المذهب الذي حكيناه من اطراح الاستثناء من غير الجنس قولًا على الإطلاق وجهه أن حقيقة الاستثناء بيان المراد بالخطاب وإخراج بعض ما يشتمل عليه الخطاب أو يصلح أن يشتمل عليه فإذا قال: له عندي مائة درهم، اشتمل ذلك على المائة كلها، فقوله: إلا درهما إخراج لبعض ما اشتمل عليه اللفظ الأول وبيان المراد به. فالقائل: له عندي مائة درهم إلا حمارًا أو إلا عبدًا لا يفيد هذا الاستثناء إخراج ما اشتمل عليه اللفظ الأول ولا بيان المراد به، فصار من الكلام اللغو المطرح الذي لا يفيد، فلهذا لم يعتد به، لأن الاعتداد به يبطل حقيقة ما ذكرنا من حقيقة الاستثناء وفائدته. وأمّا الذاهبون إلى الاعتداد به فإنهم يقولون: المرجع في حكم العبارات ومقتضاها إلى اللغات، ولغة العرب يقع فيها كثير الاستثناء من غير الجنس فإبطاله إبطال لفظ جرى على ألسنة العرب وجاء به القرآن. فأما القرآن، وهو أصدق شاهد على إثبات اللغة، فقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (¬1) والظن ضد العلم وليس من جنسه. وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (¬2) والتجارة حلال وأكل المال بالباطل حرام. فقد استثنى الشيء من غير جنسه لكون التجارة مباحة، وليست من أكل المال بالباطل. وقوله تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (¬3) وابتغاء وجه الله بالصدقة والصلاة ليست من النعم التي يجزي بها الإنسان صاحبه. ¬

_ (¬1) النساء 157. (¬2) النساء:29. (¬3) الليل: 19، 20.

وقال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (¬1) وإبليس ليس من الملائكة، بدليل قوله في آية أخرى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (¬2). وأما ألسنة العرب فقد ذكر سيبويه أن أهل اللغة يثبتون الاستثناء من غير الجنس. قال: وإنما اختلفوا في إعرابه إذا كان منفيً: هل هو بالنصب أو بالرفع؟. وأمّا الأشعار فقد قال الشاعر وهو النابغة: وقفت فيها أصيلًا (¬3) أسائلها ... عيّت جوابا وما بالرَّبع من أحد إلا الأُوَاريَّ لَأْيامَّا أباينها (¬4) .... والنواك الحوض المظلومة الجلد (¬5) والأواري ها هنا ما يحسن (¬6) بها الخيل من وتد وحبل. واحدها آرِيٌّ وسيماخية (¬7) والجمع أواخي. والوتد والحبل لا ينطق عليه اسم "أحد" فصار ذلك استثناء من غير الجنس. وفي هذا البيت روايات منها: وقفت فيها طويلًا كي أسائلها. ومنها: وقفت فيها أصيلانا. كما ذكرنا، فقيل: إنه جمع أصيل كرغيف ورغفان. ¬

_ (¬1) الحجر:30. (¬2) الكهف:50. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: أصَيْلانًا. (¬4) هكذا في النسختين، والصواب: أُبَيّنُها. (¬5) هكذا في النسختين، والصواب: والنُّوي كالحوْض بالمظلومة الجَلَد. انظر بالنسبة للتعاليق - 3 - 4 - 5 - ديوان النابغة صنعة ابن السكيت 2، 463. (¬6) هكذا في النسختين، والصواب: يُحْبس. (¬7) هكذا في النسختين، والصواب: وتسمى آخيّهُ تاج العروس 27/ 42، 43.

ويروى: أصيلًا كي أسائلها. والأصيل العَشِيّ. وكذلك اختلفوا في إعرابها: فيروى إلا الأوارَيَّ بالنصب، ويروى إلا الاوارِيُ بالرفع. قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو لِمَ. رفعوا الاواري في هذا الاستثناء؟ قال: لاعتقادهم أنها من جملة البيت. فكأنه يقول: وما بالرّبْع إلا الأُواريُّ. والربع: المنزل في الربيع، ثم كثر استعمالهم له حتى صار كل منزل يسمى (¬1) ولأيًامَّا: مَعناه طويلًا. والنُّوْيُ ما يحفر حول البيت. والمظلومة الأرض التي حفر ذلك بها. كأنهم وضعوا الحفر في غير موضعه. والجَلَد: الأرض التي لا حجارة فيها. وبالنصب في مثل هذا جاء القرآن. قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (¬2) اتباع (¬3) بعد حرف الاستثناء، وإن كان من غير الجنس كما قدمناه وقال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس واليعافير والعيس ليسا من الإنس. وقد بسطنا القول في هذا الفصل فيما أمليناه من أصول الفقه في كتابنا المترجم: بشرح المحصول من برهان الأصول. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفي الكلام نقص لعله: رَبْعًا. (¬2) النساء: 157. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اتباعَ [بالنصب].

وإذا تقرر كون ذلك لغة، بدل ما أوردناه من الشواهد، وجب ألا يطرح وأن يعتد به. ولهذا أشار بعض الفقهاء من أصحاب مسائل الخلاف إلى أنه استثناء على الحقيقة لأنه إذا قال: له عندي مائة دينار إلا ثوبًا، وطرحنا قيمة الثوب، وهي دينار من المائة دينار صار استثناء من الجنس. وذكر عن بعض العلماء قيل له: كيف يتصور معنى هذا اللفظ من هذا الاستثناء؟ فقال: يمكن أن يكون المقر (¬1) له على المقر مائة دينار فأعطاه منها ثوبًا له شبه بثمنه من المائة دينار، فلما طلب بالإقرإر عبر عنها بالذي جرى، أن قال: له عندي مائة دينار إلا ثوبًا، يعني دفعته إليه قَضَاء على بعض المائة، عند الذي قال: يصح أن يتصور معناه ويصح ويقع في الوجود دعواه أنه قضى ثوبًا أم لا؟ هذه مسألة أخرى. وذكر ابن سحنون لو قال: لزيد عندي ألف درهم ولعمرو مائة دينار إلا عشرة دراهم. فإن هذا الاستثناء لا ينفع ولا يعتد به لأنه ردّه إلى الجملة الأولى التي هي ألف درهم بعد أن حال بين الاستثناء والمستثنى منه بجملة أخرى، فلم يصح رجوع ألاستثناء إلى جملة، وتكلم، بعد جملة أخرى، كما لو استثنى بعد أن سكت سكوتًا انفصل به حكم الخطاب الأول، فإنه لا يقبل. وكذلك نطقه بجملة أخرى يقدر كالسكوت، ولكن لو قال: لزيد عندي ألف درهم ولعمرو مائة دينار إلا عشرة درإهم لصرف هذا الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وحط من المائة دينار صرف عشرة دراهم على ما قدمنا بيانه، ويصير كأنه ملحق بما قدمناه من إلاستثناء من غير الجنس لكون ذلك من التقدير كالجنس الواحد. وقاعدة المذهب في هذا الاستثثاء بعد الإقرار بمالين إن كان الإقرار لرجل واحد فإن الاستثناء يصح كقوله: لزيد عندي مائة دينار وعائشة درهم إلا دينارًا واحدًا. واختلف هل يحط الدينار من المائة دينار أو يحط من المالين؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِلمُقَرِّ له.

وكقوله: لزيد عندي ألف درهم ومائة دينار إلا ألف درهم. هذا مما اختلف فيه على قولين: هل يبطل هذا الاستثناء لكونه ذكر ألف درهم ثم استثناها كلها، واستثناء الكل باطل باتفاق لو تجرد، فكذلك يكون ها هنا: يقضى عليه بألف درهم والمائة دينار. وقيل يقضى عليه بالمائة دينار خاصة لأن الاستثناء يعود إلى الجملتين جميعًا. ولا شك أن المستثنى أقل من الجملتين فيصح الاستثناء إذا صرفناه للجملتين، فتبطل الألف التي استثناها وتصح المائة دينار، كما لو قال: عندي (¬1) كُرّ حنطة وكُرّ شعير إلا كر حنطة وقفيز شعير. فإن المذهب على قولين: أحدهما إبطال (¬2) الكر القمح ويقضى عليه به لكونه استثناه بعد إقراره به. ويصح استثناؤه في الشعير. وقيل يصرف الاستثناء إلى الجملتين فيحط منهما الكر القمح والقفيز الشعير، ويلزمه ما بقي من الشعير. وهذه مناقشة في صرف الاستثناء المتعقب للجمل: هل يصرف إلى جميعها وتكون كالجملة الواحدة استثنى بعضها، وإنما ينصرف الاستثناء ها هنا إلى الجملة المجانسة لما استثناه. ولو كان الإقرار لرجلين، فقال: لزيد، عندي مائة دينار ولعمرو ألف درهم إلا مائة دينار، فإنه إن قال: صرفت الاستثناء للجملة الأولى، أبطلنا استثناءه وألزمناه الجملتين، وإن قال: صرفته للأخرى صح استثناؤه، إذا لم يستغرق استثناؤه جميع الجملة الأخيرة. وإن قال: صرفته للجملتين فُضِّ عليهما هذا المستثنى، فما ناب الجملة الأولى أبطلناه، وما ناب الجملة الثانية صححناه. وقد قدمنا أن من شرط الاستثناء أن. يكون متصلًا بالمستثنى منه، وانقطاع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له عندي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إبطال [اسثثناء] الكرّ القمح.

ذلك بالسكوت يبطل الاستثناء، فكذلك إن قطعه بكلام لا تعلق به (¬1) بالجملة الأولى (¬2): لزيد عندي مائة دينار، أسرجْ لي يا غلام دابتي، إلا ألف درهم، فإن هذا الاستثناء ساقط مطرح. وإن قال: لزيد عندي مائة دينار، أستغفرُ الله، وأراد الاستغفار من الذنوب، لم يؤثر هذا الاستثناء وكان باطلًا، ولو أراد الاستغفار من نسيان هذا المستثنى لصح الاستثناء. وكذلك لو قال: لزيد عندي مائة دينار، اشهدوا عليّ، إلا دينارًا. فإن في هذا قولين: أحدهما: صحيح الاستثناء لكون قوله: اشهدوا عليّ، له تعلق بالجملة الأولى. والقول الآخر: إن هذا الاستثناء باطل. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: إذا علق الإقرار بمشيئة الله سبحانه، فقال: لفلان عليّ مائة دينار، إن شاء الله. على (¬3) قولين: أحدهما -وعليه الأكثر من أصحاب مالك -: أن هذا التقييد بالمشيئة لا يؤثر، ويلزم المقر مائة دينار، ولا يسقط عنه قوله -عقيب الإقرار- إن شاء الله. حتى إن ابن سحنون ذكر أن أصحابنا أجمعوا على ذلك. ولعله أراد من تقدم من أصحاب مالك، لأن محمدًا (¬4) بن عبد الحكم قالا جميعًا: إن هذا الإقرار غير لازم. وذكر ابن سحنون هذا المذهب عن أهل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: كَأنْ قال. (¬3) هكذا في النسخسّين، ولعل الصواب إضافة: فقد اختلف فيه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة ت واو العطف، فيصير الكلام: محمدًا وابن عبد الحكم. أي محمَّد ابن المواز.

العراق، وأن أباه سحنون أنكر هذا المذهب، وأشار إلى حجة أهل العراق على سقوط هذا الإقرار أن الشاهد لو شهد فقال: لفلان على فلان مائة دينار، إن شاء الله. فإن هذه الشهادة ساقطة. ورد عليهم سحنون بأن قال: لو قال: له عندي ألف درهم إلا ألف درهم، أو قال: له عندي ألف درهم بل لا شيء له عندي، فإنهم قد جامعونا على أن هذا الاستثناء أو الاستدراك لا يؤثّر ولا يسقط الإقرار، وإن أسقطوا ذلك؛ لأنه يشعر بالشك، والشك في الإقرار لا يبطله. وقد قالوا: لو قالوا (¬1): لزيد عندي مائة دينار، وعقب ذلك بقوله: شككت في ذلك، وكان قوله متصلًا، فإن ذلك لا يسقط الإقرار. فأشار سحنون إلى أن الإقرار إنما يصح إن ورد عقيبه ما يسقط بعضه كاستثناء قليل من كثير. وأما إذا أورد بعده ما يسقطه كله، فلا يؤثر ما أورد من ذلك، والإقرار لازم. وقد هجس في نفس ابن سحنون هذا المعنى، فقال لأبيه سحنون: هلاّ كان قوله: إن شاء الله، يؤثر في الإقرار ويُسقطه كما أثّر قول الحالف: والله إن فعلت كذا، إن شاء الله، أن اليمين ينحل. فقوله: إن شاء الله، يحل جميعَ اليمين، فكذا يجب في الإقرار. فقال له سحنون: لم تأت بنظير، وقد أجمعَ العلماء على الفرق بين الإقرار واليمين، ألا ترى أن القائل: عبدي حز، وسكت، أن العتق يلزمه. ولو قال: والله، وسكت فإنه لا يلزمه في هذا القول شيء. فأشار إلى قوله لعبده، أنت حر، إن شأء الله، لا يؤثر لكون قوله: أنت حر، كلام مستقل بنفسه فلا يؤثر فيه الاستثناء بمشيئة الله تعالى، ولا يرفع الاستثناء حكم لفظ قد استقلّ. ولو قال: والله لا فعلت هذا، إن شاء الله. لأثر هذا الاستثناء لكون قوله: إن شاء الله، إنما يرجع إلى رفع القسم الذي هو قوله: والله، ولا يرجع إلى الفعل المحلوف عليه. وإنما أثر ذلك في اليمين لرجوع هذا الاستثناء إلى لفظة لا تفيد إذا تجردت مما يضاف إليها. وقوله: له عندي ألف دوهم، يفيد، وإن تجرد هذا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قال.

الكلام مما وصل به من قوله: إن شاء الله. فهذا تعليل القول بأن هذا الإقرار لازم، ولا يسقطه تقييده بقول المقر، إن شاء الله. وقد ذكره سحنون بنفسه. وأما مذهب ابن المواز ومحمد بن عبد الحكم فإنما صارَا إليه، لأنه قول المقر: إن شاء الله، تشعر بالشك. وهكذا أيضًا أشارا إلى هذا التعليل فقالا أو أحدهما: لا يلزم ذلك، لأن المقر أدخل بهذا شكا. وبالجملة فإن محصول هذا يتعلق بشك المقر في إقراره: هل يقضى عليه أم لا؟ وقد قدمنا نحن، فيما سلف، أن المقَرّ له إذا أيقن بما شك فيه المقر قضي له على المقر لكونه موقنًا وكون المقر شاكًا. واختلف: هل يقضى له بيمين أو بغير يمين؟ فلو كانا جميعًا شاكين لسقط الإقرار في أحد القولين. وقد صرح سحنون بأن الشك في الإقرار لا يبطله، كما حكينا أعنه في هذه المسألة. وصرح من خالفه من أصحابنا بأن علة سقوط هذا الإقرار كونه مشعرًا بالشك. لكنه يمكن أن يعلل أيضًا طريقة سحنون يكون تعقيب الإقرار بما يسقطه كله يعد ندمًا، ولا يلتفت إليه، كما قدمنا هذا عنه في مسائل ذكرناها. لكن يقتضي هذا التعليل أنه لو ابتدأ القول بلفظ الشك لكان بخلاف كونه يؤخر القول حتى يصله بعد حصول الإقرار. لكن مطلق قوله الذي حكينا عنه أن الشك لا يبطل الإقرار يقتضي خلاف هذا التعليل. وقد حكى ابن حبيب عن عبد الملك بن الماجشون أن المقر لا يلزمه إقراره، وإن افتتحه بلفظ الشك، فقال عنه، فيمن قال لرجل: أظن أن لك عندي كذا وكذا،: فإن هذا الإقرار لا يلزمه، ويحلف المقر على أنه لا يحقق ذلك. فهذا تصريح بسقوط الإقرار ولو صدّر به الكلام حتى يمتنع صرف الشك إلى كونه ندمًا. فأنت ترى سحنونًاكيف علل في رده أهل العراق هذا بعلتين: إحداهما: أنه كالاستثناء الرافع للكل فلا يقبل.

والثاني: أنه كالشك، على ما اقتضاه التقسيم الذي ذكرناه عنه في رده على المخالف. وقد ذكر ابن سحنون فيمن كتب على نفسه ذكر حق، وقال فيه: ومن قال بهذا الذكر فهو ولي ما فيه إن شاء الله، أن بعضهم قال: فإن هذا الإقرار ساقط. قال: وقال أبو يوسف: بل هو لازم. مثلَ قولنا. وأشار إلى أبي يوسف كأنه نقض بهذا أصلهم. وهذه المناقضة قد لا تلزم لأن مذهبنا أنه إذا قال: لك عندي ألف درهم أقضيك إياها الآن، أو إلى شهر إن شاء الله، إن هذا الإقرار لازم، ولا يذكر في مذهبنا في هذا اختلاف، لكون هذا الاستثناء راجعًا إلى القضاء لا إلى الإقرار. فيمكن أن يكون أبو يوسف قال عقيب الإقرار: قول المقر: ومن هذا الذكر فهو ولي ما فيه. المراد أنه يَقبضه (¬1). جعل هذا الإقرار صريحًا لصرفه قوله: إن شاء الله إلى قول القائل: فهو ولي ما فيه. ولسنا نقصر هذا الخلاف الذي ذكرناه عن المذهب على هذه اللفظة، وهي قول: إن شاء الله، بل الخلاف جار. ني كل لفظة تسد مسدها كقوله: لك عندي ألف درهم إن شاء الله، وإن أراد الله، وإن قضى الله أو رضي الله. فإن هذه الألفاظ ترجع إلى الإرادة. وبذلك قال أصحابنا في قوله: لك عندي ألف درهم إن أوجب الله ذلك، أو إن يسر الله أو رزقني الله مالًا. وكذلك: عندي (¬2) ألف درهم إن كان ذلك حقًا. وهذا صحيح كله إذا جرى العرف بأن المراد به الإشعار بالشك فيما سبق من القول، ولكن بعضه أوضح بالإشعار بالشك من بعض. وقوله: إن يسّر الله، أو رزقني الله مالًا، هذا فيه إشكال واحتمال فيما يراد به. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب يفضيه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: له.

وإذا تُصور سبب الخلاف وعلته، فالمتَبَع في ذلك حكم الألفاظ في اللغة أو العرف، وقد يختلف عرف الناس في ذلك باعتماد على ما أشرنا إليه من قول القائل. هذا بيان تعليق الإقرار بمشيئة الله سبحانه. وأما تعليقه بمشيئة مخلوق (¬1) عندي مائة دينار إن شاء زيد، فإنه لم يختلف المذهب في أن هذا الإقرار ساقط، وإنما اختلف في تعليل سقوطه: فأما ابن سحنون ومحمد بن عبد الحكم فإنهما عللا سقوطه يكون ذلك مخاطرة وتقرير (¬2) بالمال. وذلك مما لا يجوز، لأن مشيئة زيد لا يعلمها هذا القائل: هل يشاء إثبات هذه المائة على هذا المقر فتثبت أم لا يشاء فتسقط؟ فصار ذلك مخاطرة وتقريرًا (2). وقد اتفق على أن: لك عندي مائة دينار إن هبت الريح، أو تكلم زيدٌ. أو دخل فلان الدار، أن ذلك ساقط غير لازم، لكون ذلك مخاطرة وإضاعة للمال. وأما ابن المواز فإنه علل ذلك بكونه على ثقة بأن زيدًا لا يشاء أمته (¬3) إتلاف ماله، فيعتذر عن قول زيد: قد شئت، بأنه إنما ظن به أنه لا يشاء فكأنه اشترط في الإقرار هذا القدر، كما لو قال رجل لمن ادعى عليه بمال: أنا أرضى بشهادة فلان عليّ. فشهد علمِه، فإن الشهادة لا تلزمه لكونه يعتذر عما التزم بأن يقول: أنا قلت ذلك والتزمته لاعتقادي وظني به أنه لا يقول إلا حقًا. وكذلك هذا في الإقرار المعلق بمشيئة زيد. ومذهب الشافعي أن الإقرار المعلق بمشيئة الله سبحانه، أو بمشيئة زيد، ساقط، كما ذكرنا عن أصحابنا. وعلل أصحابه سقوط الإقرار إذا علق بمشيئة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: كقوله: له. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغريرًا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه.

زيد بتعليل ثالث ما ذكرناه عن أصحابنا، فقالوا: إن كان هذا المعنى (¬1) يعلم أن (¬2) ذمته ما أقربه، فلا يثبت ذلك عليه مشيئةُ زيد، ولا يُسقط ذلك عنه كون زيد لم يشأ، وإن كان ليس في ذمته شيء فلا يثبت ذلك عليه قول زيد: قد شئت أن يكون في ذمتك مال. ومما يلحق بهذا المعنى الذي نحن فيه من الألفاظ المشعرة بالشك، وإن لم يكن لّعليقا بمشيئة، قول الإنسان: لفلان عندي مائة دينار في علمي، أو ظني، أو فيما أحسبه، أو فيما أرى، إلى غير ذلك من هذه الألفاظ المستعملة في هذا المعنى. فذكر ابن سحنون أن هذا الإقرار لازم. وذلك ينبني على ما ذكرناه عنه في كونه يرى أن الشك في الإقرار لا يبطله، كما كررنا ذكر ذلك عنه. وذهب محمَّد بن عبد الحكم ومحمد بن المواز إلى سقوط هذا الإقرار بهذا اللفظ الذي وصل به، كما يسقط ذلك الشهادة إذا وقع اللفظ من الشاهد، فقال: أشهد أن لزيد على عمرو مائة دينار في ظني، أو في علمي، أو في حسبانِي. ولو قال: لفلان عندي مائة دينار في "علم فلان، أو في شهادة فلان، فإن القولين في ذلك أيضًا. وذهب ابن سحنون ثبوت الإقرار. وذهب محمَّد بن المواز ومحمد بن عبد الحكم إلى سقوط هذا الإقرار. واتفق الثلاثة (محمَّد (¬3) بن علي) أنه لو قال: عندي مائة دينار بشهادة فلان. لكان إقرارًا صحيحًا ثابتًا، لأن إدخال حرف الباء ها هنا يشعر بتصحيح ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: المَعْنيُّ. (¬2) هكذا، ولعل الصواب: أْنّ [في] ذمته. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المحمّدون على ...

الإقرار، وقصدِ المقرّ إلى تأكيده بقوله: عندي كذا بشهادة فلان، أو بعلم فلان. وأمّا الحرف الآخر وهو قوله: في شهادة فلان، أو في علم فلان، فلا يتضح تأكيدًا بل يحسن حمله على تأكيد الإنكار، وكأن المراد أنه: لا شيء له على، وإنما يزعم ذلك فلان في شهادته، أو في علمه. ولو قال: في قول فلان أو بْقول فلان، لاتّضَحَ كون ذلك يجري مجرى الإنكار لأن يكون عليه. وعلى هذا يجري قوله: في قضاء فلأن أو فتيا فلان، أو في فقه فلان لكون هذا الحرف يشكل أَمرُه: هل المراد به تكذيب فلان المضاف إليه القضاء والفقه والفتيا (¬1). وقوله: في قضاء، يمكن أن يكون المراد أنهما تحاكما إليه فقضى بما قال المقر، لكون العبارة عن هذا تختلف، ويجري الأمر فيها على حسب ما قلناه. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: قاعدة هذا الباب النظر في حكم لفظ المقر من جهة اللغة أو من ناحية العرف المستعمل في الخطاب بين الناس، فيقضى عليه بموجبه. وما أشكل واحتمل قبل قوله أنه لم يرده بإقراره، وينظر في يمينه على ما ادعاه من قصده. والمسائل المتعلقة بهذه القاعدة لا تكاد تنحصر. ومثل هذا ما ذكر في الروايات أن عن قال: هذه الدار لزيد. بهانت الدار للمقز له بأبنيتها وبيوتها. وكذلك لو قال: هذا البستان لفلان. لكان ذلك له بشجره، ولو قال: هذه الأرض لفلان. وفيها زرع، لم يدخل الزرع في الإقرار، لكونه مما لا يتأبد مقامه في الأرض، ويتكرر إحداثه فيها، وازالته منها، يخلاف البناء في الدار والشجر في البستان، وهذا واضح في مقتضى عرف الناس وخطابهم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أوْلا؟.

وكذلك لو قال: هذا الجبّة، وهذه الوسادة لفلان، لكان ذلك له ببطانة الجبة وحشوها، وكذلك الوسادة تكون له بحشوها. ولو قال في راوية حَمَلَهَا على دابته: هذه الراوية لفلان فيها ماء أو عسل أو زيت. وقال: أردت ما في الراوية من ماء أو زيت، ولم أرد الجلد لصدق في ذلك. ولو قال: استعرت منه هذه الراوية وقال: أردت الماءَ الذي فيها. لم يصدق. لأن ذلك لا ينطلق عليه في العوف اسم العارية إذ لا يستعار الماء والزيت. ولو قال: (هذا المزاد (¬1)) لفلان. لصدق في قوله: إنما أردت الجلد الذي هو الظرف خاصة. ولو قال: هذه الصرة لفلان. ثم قال: إنما أردت الخرقة لا الدنانير التي فيها. لم يصدق لأنه لا تستعمل هذه اللفظة في خرقة منفردة فتسمى سورة. ولكن لو قال: هذا المِصَرّ، وقال: لم أرد ما فيه من ذهب. لصدِّق؛ لأن هذه اللفظة في المصرّ دون ما يصر. ولو قال رجل، في وصيته عند موته،: لفلان الزير الذي بمكان كذا. وكان مملوءًا قمحًا أو زيتًا، لسلّم ذلك إليه بما فيه، لكون العادة أن الزير إنما يكسب لما يجُوز (¬2) فيه من زيت أو قمح. ولو كان فيه ما جرت العادة بأنه لا يخزن فيه كالثياب لم تكن الثياب داخلة في هذا اللفظ، إلا أن يكون الموصي عليه (¬3) علم بهذا وبكونه تخزن في هذا الزير. فقد اتضح بهذا (¬4) المُثُل ما ينبني ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذه المَزَادَة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب:. لما يجوز (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بهذه.

على القاعدة التي قدمنا. ووجه ما وَقع في الروايات من ذلك مما ذكرناه ويستغنى به عما لم نذكره. ولو وقع في هذا المعنى استثناء، أو ما هو في معنى الاستثناء، لكانت القاعدة في ذلك أيضًا أن ينظر فيما ألحقه بالخطاب مما استدركه: هل يبطل حقيقة التسمية وما أقرّ به فلا يقبل ذلك منه، أو لا يبطل ذلك؟ فقيل فيه: إذا كان نسقًا قولًا متصلًا مثل أن يقول: هذا البناء لزيد ولكن الأرض لي. فإن ذلك يقبل منه عندنالأولا يقبل منه عند المخالف. وكذلك لو قال: هذه الأرض لفلان. وبناؤها لي، وهذا البستان لفلان ونخله لي، (والبستان لفلان) (¬1) لقبل ذلك منه عندنا؛ لأن هذا الاستدراك لا يبطل حقيقة ما تقدم من القول الأول ولا يناقضه. لكن وقع في العتبية لابن القاسم فيمن قال: هذه البقعة بيني وبين فلان وبناؤها لي. إن البناء تابع للأرض، فيكون يقضى له بالبقعة. وخالفه أصبغ في ذلك ورأى أن الإقرار يمضي على ما هوعليه، ويكون البناء للمقر. وكأن ابن القاسم رأى أن قوله: (هذه البقعة لي) (¬2)، ينطلق عليها وعلى بنائها. فإذا قال: البناء لي، فكأنه كالراجع عما أقر به أولًا. ولو قال: هذه الأمة لفلان؛ ولها أولاد، لم يدخل أولادها في هذا الإقرار لكونهم لا تشتمل عليهم تسمية أمهم التي هي قوله: فلانة ولم يكن ذلك إقرارًا، ولكن وقعت به شهادة. لكن أولادها بائعين (¬3) لها في الملك .. وكذلك يكون للمقَرّ له بها ما عليها من كسوة، وما في يدها مما تحوزه بحكم إطلاق الإقرار بالملك، لكون العبد عندنا يَمْلِك، وحوزُه حوزٌ، وكأن المالك هو الحائز لما حازه مملوكه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والبستان [لي، والنخل] لفلان. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هذه البقعة بيني وبين فلان. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تابعين.

ولو قال: هذا سرج دابة فلان. ذكر ابن عبد الحكم وغيره أن في هذا إشكالًا، ووجه هذا الإشكال أن الإضافة تكون للملك، وتكون للاختصاص. والتمليك كقولك: المال لزيد. والاختصاص دون التمليك كقولك: هذا السرج للدابة. لأن الدابة مما لا يعقل ولا يصح أن تملك. فيمكن أن يكون المراد بقوله: هذا سرج دابة فلان هو الذي أركب به عليها. ولو قال أو أشار إلى باب خشب، وقال: هذا الباب لي ومساميره لفلان، أو مساميره لي وخشبه لفلان. لمضى الإقرار على ما هو عليه، وكانا شريكين في الباب بمقدار قيمة ما لكلّ واحد. ولكن لو قال: هذا الباب لفلان، ومساميره (¬1)، لكن في ذلك قولان. وسبب الخلاف ما قدمناه من النظر في هذه التسمية: هل هذه اللفظهَ، التي هي بابُ، اسم لخشب مركبة بمسامير فيكون استثناء المسامير كالمبطل لحكم هذه اللفظة أم لا؟ وكذلك لو قال: غصبته هذا الخاتم، وفصُّه لي، لكان فيه قولان: أحدهما: إن هذا الاستدراك لا يقبل منه، لأنه لما قال: غصبت هذا الخاتم كالمقر لغصب فصه، ثم نفى ذلك، فلا يقبل منه ما ذكره من نفي ما أقرّ به، ويكون في هذا إشكال فلا يخرج عن ملكه بالشك. ولو قال: هذا الخاتم لفلان إلا فصه لي ولكن (¬2) فضته لي. أو قال: هذه الجبة لفلان لكن بطانتها لي، فإن ذلك يقبل منه عندنا. وخالف في ذلك غيرنا، فقال: لا يقبل منه. وسبب هذا الخلاف ما قدمناه من كون الاستثناء يبطل حقيقة اللفظ الأول أوْ لا يبطله. وعلى هذا تجري سائر المسائل التي لم نذكرها للاستغناء عن ذكرها بما قدمناه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ومساميرهُ [لىِ]. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

ومما ينخرط في هذا المسلك: إذا أقرّ بشيء هل يدخل وعاؤه في الإقرار أم لا؟ وذلك على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقر بما لا يستقل بنفسه دون وعاء يكون فيه كالزيت. والسمن، والعسل. مثل أن يقول: غصبته زيتًا في زقّي أو سمنًا في قلتي. فإن هذا يقضى به على المقر: بالزيت والزق، وبالقلة والسمن، للعلم بأن الزيت والسمن وما أشبههما من المائعات لا يوجد أبدًا إلا مختزنًا في ظرف ووعاء. هذا المشهور من المذهب. ونص عليه محمَّد بن عبد الحكم وقال: إذا (¬1) غصبت ثوبًا في منديل، أو قمحًا في غرارة، لم يلزمه المنديل ولا الغرارة، ولا يؤخذ بأكثر مما أقر به من ثوب أو قمح بخلاف قوله زيتًا في زق. قال: والفرق بينهما أن الزيت لا يوجد إلا في ظرف، والثوبُ قد يدخل يده في عَيْبة هو فيها، أو منديلًا هو فيه، فيؤخذ وحده دون وعائه. وقد نقل ابن عبد الحكم ما يقتضي ظاهره أنه لا فرق بين قوله: زيتًا في زق أو ثوبًا في عيبة. ويرى أن اللازم في هذا الإقرار الزيتُ دون ظرفه والثوب دون العيبة. وهكذا قال الشافعي: إنه لا يقضى بالوعاء. ولو قال: غصبته زيتًا في زق لكن الصحيح (¬2) النص الذي هو. صحيح ما حكيناه عن محمَّد بن عبد الحكم وغيره مما ذكر عنه قد يناول (¬3). والقسم الثاني: أن يكون الوعاء مما قد يستغنى عنه مما هو حال فيه ولكن قد ينقل بما هو فيه حالّ، كقولك غصبته ثويًا في عيبة أو ثوبًا في منديل أو قمحا في شكارة. فهذا عندنا فيه قولان منصوصان: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا [قال]. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذفها. (¬3) هكذا قىِ النسختين، ولعل الصواب: يُتَأَوّل.

أحدهما: أنه يقضى عليه بالثوب وبالعيبة وبالثوب والمنديل وبالقمح والشكارة. وإلى هذا ذهب سحنون وهو مذهب أبي حنيفة. والقول الآخر: إنه لا يقضى عليه إلا بالثوب دون العيبة وبالقمح دون الشكارة. وبهذا قال الشافعي. ويحتج من ذهب إلى مذهب سحنون وأبي حنيفة بأن قوله: غصبته ثوبًا، كلام فيه احتمال، فإذا فسر هذا الاحتمال أخذ بالتفسير أيضًا فقوله: غصبته ثوبًا، يحتمل أن يكون وحده ويحتمل أن يكون معه غيره. فإذا قال: غصبت ثوبًا في عيبة، صار ذلك كقوله: غصبته ثوبًا وعيبة، وكان قوله: ثوبًا في عيبة، تفسيرًا لما أجمله مما غصبه. وحجة الشافعي وابن عبد الحكم أن قوله: غصبت ثوبًا، كلام مستقل. وقوله: في عيبة يحتمل أن يكون إنما أراد الإخبار يحمل الثوب الذي أخذه منه لا أنه غصبه. وإذا احتمل ذلك لم يقض به، لأن الذمم لا تعمّر بأمر محتمل. والقسم الثالث: أن يكون أقر بشيء ذكر محله، ومحله مما يستغني عنه الشيء الذي أقر بأخذه ولا ينتقل بانتقاله، كقوله: غصبت قمحًا في بيت. فإن القمح قد يستغني عن البيت، والبيت أيضًا لا ينتقل بنقل ما وضع فيه. وقد قال في كتاب ابن سحنون: يلزم مَن ضمَّنَه البيت وجَعلَه مقِرّا به أن يضمّنه القصْرَ إذا قال: غصبته في قصر، أو يضمّنه السفينةَ إذا قال: غصبت قمحًا في سفينة، أو يضمّنه الغلامَ (¬1) إذا قال غصبته دابة عليها سرج أو عليها لجام، أو جمل عليه عِدْل، ألزمه الدابة بسرجها أو لجامها، والجمل بعدله. وهكذا كله إنما مداره على اعتبار ما يقتضيه اللفظ في اللغة أو في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وفيه نقص بين "الغلام" و"إذا قال ... ".

حرف (¬1) الاستعمال كما قدمناه، وهو سبب الخلاف فيما ذكرنا الخلاف فيه. وإذا قال: غصبته سرجًا على دابة، لم يتضمن ذلك دخول الدابة في هذا الإقرار. وإذا قال: غصبته دابة عليها سرج، فقد تضمن هذا القول دخول السرج في الإقرار. ولم ير الشافعي قوله: غصبته منديلًا فيه ثوب، وزِقًّا فيه زيت، يتضمن الإقرار بما ذكر أنه فيه، ورأى أنه لا يؤخذ بأكثر من المنديل ولا بأكثر من الزق. وهذا كأنه خلاف لما حكيناه عن المذهب كقوله: غصبت دابة عليها سرج. ولو قال غصبت عبدًا مع عبد، لكان قولًا محتملًا: هل المراد: غصبتُه عبدأومعي عبدٌ شاركني في الغصب، أو المراد أنه غصب عبدين؟ فيقبل منه ما ذكر أنه مراده مع يمينه. ولو قال: غصبته عبدًا ومعه عبد، لم يؤخذ بعبدين لأنه قد يكون مع العبد المغصوب هذا العبد المشار إليه يُماشيه ويصاحبه ولا يكون في يده. بخلاف قوله: غصبته عبدًا ومعه ثوب لأن الثوب لم (¬2) يستقل بنفسه، وإنما يكون بيد أحد. ولو قال: غصبته ثوبًا أنا ورجل سماه فإن ابن عبد الحكم قال: لا يلزمه إلا قيمة نصف ثوب بناء منه على مذهبه في اللصوص الغُصّاب، إذا تشاركوا، أن كل إنسان منهم لا يطلب بما أخذه صاحبه. وأشار هو إلى هذا فقال: وبعض أصحابنا يرى أن المشتركيْن في الغصب يضمن كل واحد منهما على صاحبه من ذلك. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عُرْف. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا.

والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: قد ذكرنا حكم من أقر بشيء في وعاء: هل يدخل الوعاء في الإقرار أم لا، وهذا الفصل: إذا أقر بشيء في شيّء لا يكون وعاء له مثل: إن له درهم (¬1) في درهم، أو دينار (1) في دينار أو درهم (1) في عشرة دراهم أو في عشرهّ دنانير أو عشرة دنانير في درهم أو مائهّ درهم في عشرة دنانير. فان هذا معلوم أن أحدها لا يكون ظرفًا للآخر، وإن كان اللفظّ وهذا الحرف الذي هو قوله: في كذا، يدل على الوعاء والظرفية. وقد اختلف في هذا: فمذهب سحنون حمل هذا على أن المراد يضرب الشيء في الشيء، فيكون اللازم ما خرج من الضّرب. وهذا الذي يسميه الحساب التجربة، ومعناه إجراء العدد في عدد، كقوله: أربعة في أربعة بستة عشر، وعشرة في عشرهّ بمائة، إلى غير ذلك منا سائو العدد المضروب منها العدد في مثله. فإذا قال: له عندي دينار في دينار ودرهم في درهم، لم يلزمه عند سحنون سوى درهم واحد. وإذا قيل: له عندي عشرة دراهم في عشرة دراهم، لزمه مائة درهم. ومذهب ابن عبد الحكم أنه لا يلزمه إلا العدد الأول، ويسقط ما ذكر بعده من قوله: في كذا، إذا حلف المقر أنه لم يرد بذلك التضعيف، وصرف الحساب. وسبب هذا الاختلاف ما قدمناه مرارًا من كون الاعتماد في هذا على ما يفيده لفظ المقر من ناحية اللغة أو من ناحية عرف الاستعمال. وكأن سحنونًا رأى أن الظرفية لما استحالت وامتنع أن يكون الدرهم وعاء للدرهم، بخلاف ما قدمناه في السؤال الذي قبل هذا من قوله: له عندي زيت في زق، وجب حمل ذلك على معنى آخر مستعمل في العرف وهو ضرب ¬

_ (¬1) هكذا بالرفع في النسختين، ويصع الكلام بالنصب أو حذف إنّ.

الحساب، فألزمه العدد الخارج من المضروب فيه فقال: إذا قال: له عندي عشرة دراهم (¬1)، لزمه مائة درهم، لكون فذا اللفظ يستعمل في ضرب الحساب فوجب العمل عليه لكونه الظاهر فيه. وكأن محمَّد بن عبد الحكم لم ير ذلك كالصريح في ضرب الحساب بل هو محتمل لأن يريد معنى غير ضرب الحساب، مثل أن يكون المراد به عشرة دراهم في مائة درهم أخذتها منه. فلا يجب حمل هذا اللفظ، مع احتماله لهذا المعنى الثاني، على ضرب الحساب إذا حلف أنه لم يرد ضرب الحساب. فهذا سبب الخلاف بين هذين المذهبين. ولو كان ما ذكره كالجنسين مثل قوله: له عندي عشرة دراهم في عشرة دنانير، لم يكن فيه خلاف عندنا في أنه لا يحمل ذلك على ضرب حساب لاختلاف الجنسين، ولكون العادة في الاستعمال إنما جرت بضرب الشيء في مثله في الجنسية، كقوله: عشرة دراهم في عشرة دراهم. وأمّا مع اختلاف الجنسية فذلك مما لا يستعمل، فلا وجه لحمل لفظ المقر على ما لا يستعمل في الخطاب. وهكذا لو قال: له عندي درهم في قفيز قمح، لكان ذلك اعترافًا بالسلَم، فكأنه قال: أسلم إليَّ فلان درهمًا في قفيز قمح، فيكون المقر له بالخيار في قبول هذا الإقرار فيبقى الدرهم سلمًا في القمح، أو تكذيب المقر في ادعائه من السلم، ويطالبه بالدرهم، ويصير هذا داخلًا في باب التداعي في السلم. وقد تقدم حكمه في كتاب البيوع وينطبق أيضًا في هذا النوع متى حمل على أنه لم يرد ضرب الحساب، وإنما أراد عقود معاوضة: هل أقر بما يجوز أن يؤخذ بعضه عن بعض، فيكون إقراره لازمًا له، أو يكون مما يحرم فيفسخ ما ادعاه من المعاوضة ويرجع إلى رأس المال؟ ولو قال: له عليَّ درهم فوقه درهم وتحته درهم للزمه ثلاثة دراهم، لأن هذا اللفظ يستحيل معناه. ¬

_ (¬1) أي: في عشرة دراهم.

وكذلك لو قال: له عليّ درهم ومعه درهم، للزمه درهمان لكون هذا اللفظ إحالة (¬1) فيه. ولو كرر القول فقال: له علىّ درهم درهم، للزمه درهم، لكون هذا اللفظ يصلح للتأكيد ويصلح للتعداد، وْقد قال النحاة قد يؤكّد الشيء بتكرير لفظه كقوله: جاء زيد زيد، ويؤكد بغير صِفة (¬2) لفظه كقوله: جاء زيد نفسه، أو جاء القوم كلهم أجمعون أكتعون أبصعون. فإذا كان هذا التكرير يستعمل في اللسان للتأكيد فلا وجه لإلزام المقر غرامةَ ما الأصلُ براءةُ ذمته منه مع احتمال لفظه في الإقرار. وقد اختلف أهل الأصول في تكرير الأمر بالصفة (2) بعينها: هل يحمل على التعديد أو على التأكيد كقول الله سبحانه: "صلِّ، صلِّ" هل يلزم المكلفَ صلاتان حملًا لكل لفظة على أنها تفيد غير ما أفادته الأولى، أو يحمل ذلك على التأكيد، وهذا الباب منه في المدونة: إذا قال لها: أنت طالق طالق، فإنه يسأل عما أراد: هل التأكيد أو التعديد؛ وهذا لكون اللفظ محتملًا للوجهين. ولو قال: له عليَّ درهم على درهمين، ففي ذلك قولان: هل يلزمه ثلاثة دراهم، ويكون "على" ها هنا بمعنى "مع" أو لا يلزمه إلا درهم واحد، وكأنه قال: أعطاني درهم (¬3) بعوضه درهمين. وهذا الباب يتسع القول فيه، والنكتة فيه ما قدمناه في صدر هذه المسألة من اعتبار إفادة اللفظ في اللغة أو في العرف. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [لا] إحالة ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الصيغة. (¬3) هكذا

والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال: إذا (¬1) أخذت هذه الدراهم أو هذا الطعام أو هذا الثوب أو هذه الدابة من دار فلان أو من فدان فلان أو من فندقه أو من حمامه أو من مسجده. وزعم أن الشيء الذي أخذه هو له دون صاحب المحل الذي كان فيه الشيء. فإن النكتة في هذا أن ينطق (¬2) إلى الحوز، فإنه دليل الملك؛ ويد الإنسان إذا كان فيها شيء فهو له في ظاهر الحكم، وكذلك ما أحله محل يده من بيت سكناه أو مما يحوزه يغلق عليه أو حائط أو زرْب. فإن هذا كله يحل محل يده. فإذا قال المقر: أخذت هذا الثوب أو هذه الدابة من بيت فلان، والبيت يسكنه المقَرّ له ويمنع منه الناس ولا يُدْخل إلا بإذنه فإن ذلك يحل محل يده. فلو قال إنسان: أخذت هذه الدراهم من يد فلان أو من كُمّه، لكنها لي؛ فإن ذلك لا يقبل منه لكونه يدعي (¬3) الظاهر كونه لمن في يده. لكن لو قال: أخذت ذلك من فندق فلان أو من مسجده أو من حمّامه، وهي لي، لمن (¬4) يكن ذلك للمقر له لكون الحمام والفندق يُدخلان بغير إذن، فليسا بحائزين لمالك (أرهما وبناهما) (¬5) ولا يحل ما كان فيهما مجل ما كان في يده لكونه أباح لسائر الناس الدخول في هذه الأرض فلم ينفرد بحوزها دونهم. فإذا ادعى أن ذلك الشيء المأخوذ له لم يكن أحق به ممن صار في يده، لكونه والرجل الذي صار في يده هذا الشيء يستويان في إباحة المكان لهما كالطريق، فكذلك الأرض إذا كان منع منها الناس صاحبها فحازها ببناء أو غلْق أو زرب قضيئ بما فيها له. وإن كانت مرعىً لسائر الناس لم يترجح على ما (¬6) أخذ ما كان فيها من ثوب أو دابة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا [قال:]. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُنْظر. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يدعي [ما] الظاهرُ ... (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أرضهما وبنائهما. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَن.

وكذلك لو قال: أخذت هذا السرج من على دابة فلان، وهذا اللجام أو هذا الحيل. فإن ذلك يكون لفلان صاحب الدابة، لكون دابة الإنسان كالحائز لسرجها ولجامها والحوز دليل الملك. ولو كانت الدابة في يده ويتصرف فيها ويركبها فقال: أخذت سرجًا من على سرجها فهو لي، لكان ذلك له، لكونه إذا كانت في يده ولا يد لربها عليها صار هو الحائز لسرجها الذي يركب عليه دون ربها. وعلى هذا الأسلوب تجرى مسائل هذا الباب. لكن اختلف على قولين في دار بين رجلين شركة بينهما، فقال أحدهما: أخذت هذا، لثوب منها. وادعى الآخر أنه له. فقيل: هو لآخذه لكونه مباح له دخولها والتصرف فيها، فصار ذلك كدار يحوزها. وقيل: بل ذلك نصفين بينهما، كما كانت الدار نصفين بينهما، فكذلك ما فيها. ولو انفرد أحدهما بسكناها وحيازتها ومنع الآخر منها لكان ذلك له دون صاحبه الذي لا يحوزها معه. ومما يلحق بما نحن فيه من تعليق الإقرار بشرط أو ما في معناه، قول الإنسان: لزيد عندي مائة درهم إن حلف عليها، أو إن شهد له فلان بها. فحلف زيد أو شهد له فلان، فإن ذلك لا يلزم المقر؛ لأنه يتعذر (¬1) بأن يقول: ظننت أنه لا يحلف ثقة بدينه وبوَرَعه على إليمين الكاذبة. وكذلك: ظننت أن فلانًا لا يشهد عليّ. ولو قال: إن حكم بها فلان عليّ. فتحاكما، للزمه ذلك، لأن الرجلين إذا تحاكما إلى رجل فقضى لأحد حيث على الآخر، فإن القضية تلزم المقضي عليه، وليس له الرجوع عنها. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يعتذر.

والجواب عن السؤال الثالث عشر أن يقال: مراتب الإجمال يتفاضل فيها الإشكال في ما يقع من المقال. وقد بسطنا في ما أمليناه في أصول الفقه حقيقة الإجمال والظاهر والنص ومذاهب الناس في ذلك. فإذا قال المقر: لفلان عندي شيء، أو قال: له عندي حق. فإن هذا في غاية الإجمال؛ لأن قوله: "شيء" ينطلق على ما لا يحصى من الأجناس والمقادير وقد مثل المحصلون المجمل في الخطاب بقوله تعالى: {آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (¬1) لأن الحق المفروض أداؤه يوم الحصاد لم يبين ما هو حتى بيّنه - صلى الله عليه وسلم -، وذكر المراد بما أنزل الله، فكذلك إذا قال إنسان: لزيد عندي حق أو قال: له عندي شيء، فإنه يقال له: بيّنْ ما أردت بقولك "حق" وبقولك "شيء"، فيقضى عليه بما يبين من ذلك ويفسّره قلّ أوْ جلّ، إذا أمكن أن يريد بما أجمل ما فسره به. (ولو قال: له عندي حق في هذا الغنم، ثم فسر ذلك بأنه عشر شياه منها، لقبل منه ذلك إذا فسر بجزء من مائة جاز من الجنس الذي يذكر في تفسيره، وهو عشر العشر لقبل منه ذلك) (¬2) ويجلف إن طلب استحلافه المقرّ له، ويتهم بأنه أراد أكثر مما أقر به. وذكر ابن سحنون فيمن وصى لزيد بحق في هذه الدار أنه يقبل منه ما فسر به الحق ما لم يذكر ما لا يشبه ولا يمكن أن يوصي به، كقوله: وصّى له بإصبع من هذه الدار. لأن هذا مما لا يوصَى به في غالب العادة، فلم يقبل من المقر ما تكذبه فيه العادة. وإن امتنع من التفسير ولجّ في الامتناع سجن، ولم يخرج من السجن حتى يقر. ¬

_ (¬1) الأنعام: 141. (¬2) هكذا في النسختين.

لكن ابن المواز قيّد ما وقع في المدونة من إطلاق هذا الجواب بأن قال: إذا كان المقرَ له لا يدعي علم ما أقر له به، فإن ادعى علم ذلك، وطلب من المقر أن يفسر ما ذكر ويحلف عليه، فامتنع صار ذلك كمن وجبت عليه يمين فنكل عنها، فإن الطالب يحلف ويستحق ما حلف عليه. ولو قال: لزيد معي سهم في هذه الذار، أو جزء أو نصيب أو حق أو طائفة. فإنه يقبل منه ما زعم أنه أراده بهذه الألفاظ لانطلاقها على ما يقل ويكثر من الأجزاء والسهام. لكن أشهب ذهب إلى أن القول قوله في هذه الدار حتى لا يقبل منه تفسيره بأقل من الثمن. وتحديد أشهب هذا بالثمن لا يكاد يظهر له وجه يتضح .. وليس كون الفرائض التي لم يذكر الله سبحانه فيما (¬1) أقل من الثمن للزوجة إذا كان معها ولد فالذي (¬2) يدل على إطلاق القول بأن: له معي في هذه الدار حق يقتضي أنه أراد الثمن. ولو قال: له معي في هذه الدار حق، وفسر ذلك بأنه أراد بابها أو جدعها (¬3)، فقد اختلف قول سحنون في قبول ذلك منه. وكذلك لو قال: له حق في هذه الشجرة، وقال: أردت ثمرها، أو كان في الدار وقال: أردت بقولي هذا القمح الذي فيها. فإن ذلك كله مما اختلف فيه قول ابن القاسم: هل يصدق المقرّ في ذلك أم لا؟ ومما يلحق بهذا الباب إذا قال: لفلان معي في هذه الدار شرك، أو قال: له في هذه الدار شرك ولم يقل: "معي". فإن هذا أيضًا من الألفاظ المحتملة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيها. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالذي. (¬3) هكذا في النسختين.

المشكلة. فيقبل تفسيره هذه الشركة بأنها بالربْع أو بالثُّمن أو بغير ذلك من الأجزاء التي يمكن أن تسمّى شركة. وذكر ابن سحنون أن بعض أصحابنا قال: يحمل ذلك على النصف، وهو ظاهر مذهب أشهب. وذكر ابن سحنون أن غيرنا فرّق بين أن يقول: له فيها شرك معي، وبين أن يحذف قوله: "معي". فإذا قال: "معي"، قبل منه ما فسره من الأجزاء. وإن لم يقل "معى" عمل على النصف. وهذا أيضًا لا يكاد يظهر له وجه. وكذلك إذا قال: هذه الدار بيني وبين فلان، فإنه يقبل منه ما ذكر أنه لفلان من الأجزاء فيها، وهو اختيار الحذاق من أصحاب مالك من المحمدين كابن سحنون وابن عبد الحكم وابن المواز. والقول الآخر: أنه لا يقبل منه تفسيره بأقلّ من النصف. وإذا قال: أشركت فلانًا بنصف هذه الدار.، فهو شريكه بالنصف. ومقتضى اللفظ أنه إنما الشركة في نصفها، فيكون له ربعها، على أحد القولين، في إطلاق الشركة، لكون الرواية أنه يقضى له بالنصف. وحملوا لفظة "في" على حكم "الباء"، وقوله: أشركته في النصف، كقوله: أشركته بالنصف. ويجب أن تعلم ما قدمناه مرارًا من المعتبر في هذا الباب على كثرة ما ذكر فيه من الروايات، فالاعتماد على إعطاء اللفظ حقه في اللغة أو في عرف الاستعمال، وما احتمل رُجع فيه إلى تصير المقِرّ، ويقبل منه ما يذكر إذا أمكن ذلك. وقد أكثر ابن عبد الحكم وابن سحنون في تتبع ألفاظ المقرين، ولا فائدة في التطويل بها، وقد أخبرناك الأصل الذي اعتمدوا عليه. ألا تراهم قالوا: إذا قال: لزيد عندي بقرة. أن ذلك ينطلق على الذكر والأنثي. قالوا فيه خلاف.

ولا وجه للاختلاف في هذا إلا ما صرفته العادة في الاستعمال. فمنهم من رأى أن القول "بقرة" ينطلق على الذكر والأنثي، كقوله في بني آدم: هذه نسمة (¬1). إن ذلك لا ينطلق إلا على الإناث من البقر. (ولو قال: له عندي طير. ثم سئل عنه فقال: مذبوح، لم يقبل منه، لكونه لو وصل الكلام المجمل بالتفسير لقبل منه كونه مذبوحًا إذا قال: له عندي طائر مذبوح) (¬2)، فلو فسّر ذلك بدجاجة حية لقبل منه، ولو فسر بنعامة لم يقبل منه. وهذا كله شهادة بعادة مرادةٍ بهذه الألفاظ. ومما هو من جملة هذا النوع الذي أجمل فيه الإقرار قول الإنسان: لزيد عندي مال. فإنه لا يخلو أن يَقتصر على هذا القول، أو يقيّده بأن يقول: مال عظيم. فإن أطلق القول واقتصر على قوله: لزيد عندي مال، فقد اختلف المذهب في ذلك. والأشهر فيه أنه يقضى عليه في الجنس الذي أقرّ به بمقدار نصاب الزكاة لا أقل مثله. قال ابن المواز فيمن أوصى بأن: لفلان عندي مالًا: إنه يقضى في تركته بنصاب الزكاة من المال وهو عشرون دينارًا إن كان من أهل الذهب ومائتا درهم إن كان من أهل الورِق. وهكذا ذكر في التعليل أصبغ عن ابن وهب فيمن قال: لفلان في هذا الكيس، أنه يقضى عليه فيه بنصاب الزكاة. والقول الثاني: انه يرجع في تفسير ذلك إلى المقِر، فيقبل منه ما فسر قوله به، ولا يقضى عليه بزيادة على ما فسر إقراره به. ذكر هذا ابن سحنون، واختاره الشيخ أبو بكر الأبهري، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقال ابن القصار: ليست هذه الصبحألة منصوصة لمالك. والذي يجري عندي على مذهبه إلزام المقر نصاب القطع في السرقة وهو ربع دينار أو ثلاثة دراهم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام نقص هو: [ومنهم من رأى]. (¬2) هكذا في النسختين.

وسبب هذا الاختلاف أن الضابط لطرق النظر في هذه المسألة (درهمًا إلا) (¬1) مقتضى اللغة ومقتضى الشرع أو عرف الاستعمال. فمن ذهب إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار أبي بكر الأبهري، من أصحابنا، عرض هذه المسألة على هذه الثلاثة أنواع، فلم يجد في اللغة لهذا الاسم الذي هو "مال" تحديدَ المقدار، ولا وجد ذلك في الشرع، ولا وجده في عرف الاستعمال، فأبقاه على حكم الإجمال، وقضى بما يفسره المقر من هذا الذي أجمله. ومن حدّ ذلك بما ذكرناه عنه (وما حدوا واحدًا) (¬2) وهو اتباع إشارة الشرع لكن لما وجد في الشرع تحديدين أحدهمأوهو الأقل وهو قطع يد السارق في ربع دينار ومنع النكاح بأقل من المال من ربع دينار استشعروا من هذا أن هذا المقدار له حرمة فلهذا استبيحت به هذه الحرم من فروج أو قطع أيد. فوجب أن تحمل ألفاظ المقرين بمال على هذا المقدار الذي حده الشرع. وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقطع في التافه وإنما يقطع في ربع دينار" (¬3) فأشارت إلى أن ما قل عن ربع دينار في حكم التافه المحتقر، وما كان محتقرًا تافهًا لم تحمل هذه التسمية عليه. وقد قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬4) فأطلق المال على نصاب الزكاة فاقتضى هذا حمل إطلاق "مال" على هذا المقدار. ويقول الآخرون: وقد قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (¬5) وهذا يقتضي أن ما يستباح به فرج المرأة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مردّها إلى. (¬2) هكذا في النسختين. وهو غير واضح. (¬3) البيهقي، السنن الكبرى: 8/ 255، 256. (¬4) التوبة: 103. (¬5) النساء: 24.

وهو ربع دينار يسمى "مال". ورد هؤلاء مذهب الأبهري من أصحابنا وأبي حنيفة والشافعي في قولهم فيمن قال: لزيد عندي مال، وفسّر ذلك بقيراط أو حبّة: أن ذلك يقبل منه. بأن قالوا: معلوم في العادة أنه لا يطلق غنيّ ولا فقير على القيراط أو الحبة اسم "مال" على حال من الأحوال، فلا يصح أن يقبل من المقر تفسيره بذلك، لأنه (¬1) بأنه أراد حبَّة أو قيراطًا. وأما إن فسره بربع دينار فإن هذا التفسير قد يليق بعرف الفقراء من الناس، وإن بعد ذلك في عرف الأغنياء. فإذا كان صنف من الناس يطلقون قول "مال لأ على الربع من دينار لم يقض على المقر بأكثر منه، بخلاف القيراط والحبة فإن هذا لا يطلقه أحد من فقير أو غني على هذا المقدار تسمية "مال". فلو قيد هذا الإطلاق بأن قال: له عندي مال عظيم، فقد اختلف فيه أيضًا: فاختار الشيخ أبو بكر الأبهري من أصحابنا أن هذا التقييد والوصف لا يؤثر، وأنه يقبل من المقر بهذا ما فسره به، ولا يقضى عليه بأكثر مما فسره وهو مذهب الشافعي. وذكر ابن سحنون عن أبيه وأهل العراق أنه لا يقبل منه تصير ذلك بأقل من ظ ب الزكاة. وهذا اختيار ابن القصار. وكأن الشافعي والأبهري رأيا أن "العظم" لا حدّ له، ويتفاوت تفاوتًا كثيرًا، كما أن المال لا حدّ له، ويتفاوت تفاوتًا كثيرًا، وما تفاوت هكذا من وصف أو موصوف لم تفد الصفة فيه زيادة على ما أفاده الإطلاق من غير تقييد، فيرجع في ذلك لاحتماله، أطلق أو قيد ووصف، إلى تصير المقر له (¬2) لا سيما ولا يشك أحد في أن هذا الوصف بالعظم لا يصح التحديد فيه لا بإسناده إلى لغة أو شرع أو عرف أو استعمال. وكأن من ذهب إلى التحديد بنصيب الزكاة يرى أن هذا الوصف لا بد أن يفيد فائدة، وإلا يكون الكلام لغوًا لا فائدة تحته، ومعلوم أن المال يكون عظيمًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والكلام أوضح مع حَذفها. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المِقرّ.

ويكون حقيرًا، فلولا أن قوله "عظيم" أفاد رفع هذا الاحتمال وهو كون المال حقيرًا قليلًا، ما حسن النظر به. ألا ترى أن قولهم: رأيت رجلًا طويلًا، أفاد هذا الوصف زيادة فائدة لم تكن في الإطلاق، إذ (¬1) قال: رأيت رجلًا، وهو رفع الاحتمال أن يكون رأى رجلًا قصيرًا. فكذلك إذا قال: له عندي مال عظيم، يجب أن تكون لهذه الزيادة فائدة، وإلا فيكون قوله: "عظيم" كقوله حقير، ويكون هذا من جنس ما لا ينطلق (¬2) به عاقل. هذا حكم إقراره بمال مطلقًا أو مقيدًا موصوفًا. وأما إن وقع الإجمال من ناحية العدد لا من ناحية الجنس، مثل أن يقول: لزيد عليّ دراهم، أو يقول: لزيد عندي دينار (¬3).فإن هذا أيضًا لا يخلو من أن يكون الناطق بهذا اللفظ نطق به مطلقًا، أو نطق به مقيدًا، بأن يقول: له عندي دراهم كثيرة. فأما إن أطلق القول فقال: لزيد عندي دراهم، فإن ذلك يحمل على ثلاثة دراهم. وكذلك إن قال: له عندي دينار (1)، فإنه يحمل على ثلاثة دنانير لأن ذلك هو العرف في الاستعمال عند الناس. قال ابن سحنون: وهذا إجماع فيما علمت. وكذلك لو صغر الجمع فقال: له عندي دنينرات، فإنه يقضى عليه بثلاثة، لحصول صيغة الجمع، ولا يبالَى بصيغة الجمع إذا حصلت، كانت مصغرة أو غير مصغرة. وأما إن قال: له عندي دراهم كثيرة، أو قال: له عندي دنانير كثيرة. فإنه اختلف في هذا الوصف: هل له زيادة فائدة على ما أفاده الإطلاق فيقبل منه تفسيره أنه أراد ثلاثة لا أكثر منها؟ هذا مما اختلف فيه أيضًا مذهب الشافعي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ينطق (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دنانير.

والشيخ أبو بكر الأبهري من أصحابنا إلى أن هذه الزيادة وهي الوصف بالكثرة لا تفيد أكثر مما يفيده الإطلاق، ويحمل ذلك على ثلاثة دراهم أو ثلاثة دنانير، ويقبل منه تصير ما أجمله بعدد لا يتقاصر عن الثلاثة. وتوجيه هذا المذهب مأخوذ مما قدمناه من أن لفظ الجمع وهو قوله: دراهم، يقع على الدراهم الكثيرة والدراهم القليلة، فلم يفد التقييد زيادة على ما أمكن دخوله في القول: له عندي دراهم. وإنما تكون الزيادة لها حكم في هذا المعنى إذا أفادت ما لم يفده القول الأول، ولا أمكن دخوله فيه. ومَن سوى هؤلاء الرجلين: الشافعي وأبي بكر الأبهري رأوا أن هذا التقييد بالوصف فيه زيادة فائدة على الإطلاق. واختلفوا في تحديد هذه الزيادة: فقال محمَّد بن عبد الحكم: لا يقبل منه التفسير بثلاثة إلا أن يزيد عليها، فإذا زاد عليها قبل تفسيره ولم يحدّ هذه الزيادة. وذهب ابن المواز إلى تحديد هذه الزيادة فقال: إذا قال: هي أربعة درأهم، قبل منه ذلك. فكأنه رأى أن هذه الزيادة لا تكون بالكسر والجزء من الدرهم، وإنما تكون بواحد كامل، فلهذا قال: يحد ذلك بأربعة. وذكر محمَّد بن عبد الحكم أنه قيل: يحذ ذلك بخمسة دراهم. وكأنه رأى ثَمّ عدداَّ بَين الكثرة والقلة، فلو قال: له عندي دراهم لا كثيرة ولا قليلة لقضي عليه بأربعة دراهم لأن هذا العدد يرتفع عن القليل وهو ثلاثة دراهم وينحط عن الكثير وهو ما زاد على أربعة. فإذا كان سلْب هذا الجمع الوصف بالقلة والكثرة يقتضي أربعة وجب أن يكون ما زاد على ذلك يوسف بالكثرة وهو خمسة. وذكر أيضًا أنه قيل: تسعة دراهم. قال: ولا وجه لقول النعمان: يحدّ ذلك بعشرة دراهم، ولا لقول أبي يوسف: يحد ذلك بنصاب الزكاة مائتي درهم.

وهذا الذي ذكره محمَّد بن عبد الحكم عن أبي يوسف من التحديد بنصاب الزكاة هو الذي ذكره ابن سحنون في كتابه وقال: يقضى عليه بنصاب الزكاة. وذكره أيضاَّ اَبن القصار عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن واختارا ذلك. وقال يقضى بنصاب الزكاة. وذكر أنه ما رأى لمالك. في ذلك نصًا، ولا لأصحابه سوى محمَّد بن عبد الحكم فنقل عنه بعض ما نقلناه عنه مما ذكره في كتابه. وتوجيه هذه المذاهب مأخوذ مما تقدم سوى من قال: يقضى بخمسة دراهم، فإنا ذكرنا ما قيل في توجيهه. وأما مذهب أبي حنيفة، وهو التحديد بعشرة دراهم، فإنه رأى أن أهل اللسان ذكروا أن المجموع على قسمين: جموع قلة وجموع كثرة. فما تقاصر عن العشرة سموه جمع قلة، والعشرة فأكثر منها يسمى عندهم جمع كثرة. وأما من ذهب إلى التحديد بتسعة، فإنه رأى أن القول: له عندي دراهم، يفيد أقل الجح وهو ثلاثة دراهم، فإذا قال: كثيرة، فإن (¬1) ذلك تضعيف الجمع الذي أشار إليه، وتضعيفه يكون بتكريره ثلاث مرات أيضًا، فكأنه قال: له عندي ثلاثة مضروبة في ثلاثة، وذلك تسعة. هذه جملة المذاهب في هذه المسألة، وهي سبعة مذاهب قد ذكرناها إلى توجيهها وفي هذا مقنع. ومما ينخرط في هذا السلك إذا قال رجل: لزيد عندي جُلّ مائة أو عُظْمها، أو أكثرها، أو نحوها، أو قريب منها. فإن هذا مما اختلف فيه المذاهب أيضًا على قولين: أحدهما أنه لا يقبل منه دعواه، بأنه قصد بهذه العبارة أقل من ثلثي المائة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أفاد.

والقول الثاني: أنه يقبل منه إذا زعم أنه أراد نصف المائة وزيادة دينار واحد عليها. وكذلك لو أقر بجُلّ ألف دينار، لقبل منه عند هؤلاء تفسيره لذلك بأنه أراد خمس مائة وزيادة دينار واحد. وذكر ابن سحنون عن رجل من أصحابنا ناظر أباه سحنونًا في المسألة، وذهب إلى أنه يقبل منه في قوله: جل المائة، ما فسر قوله به ولم يحدّ ذلك بِحَذً فيما حكاه عنه. وهذا الاختلاف لا حدّ له ولا سبب سوى إسناده لما ذكرناه مرارًا من النظر في المعتاد في إطلاق هذا اللقظ، فالذين قالوا: يحمل على ثلثي المائة فأكثر، قدروا أن الثلث في حيز القليل، فإذا سقط من المائة فالثلثان الباقيان هما جلها وأكثرها. والذين قالوا: يحمل على نصف الجملة وزيادة دينار واحد عليها، اعتقدوا أن هذا المقدار من المائة يطلق عليبما اسم الجُل والأكثر. وهذا بعيد في عرف الاستعمال عندنا. وعلى هذا النوع من الاختلاف أجروا الاستثناء المجمل أيضًا في هذه الجملة، وهو أن يقول: له عندي مائة دينار إلا شيئًا، أو مائة دينار إلا قليلًا. فإن القولين المذكورين قبلت (¬1) في هذه المسألة وهي إلزامه ثلثا (¬2) المائة فأكثر، أو نصفها وزيادة واحد، وتصديقه فيما فسّر به. هكذا ذكر ابن سحنون عن الذي ناظر أباه في المسألة. وذهب إليه أحمد بن ميسر فقال: إذا قال: له عندي عشرة إلا شيئًا، قبل منه ما يدعيه أنه أراد من مقدار ما استثناه. وذكر عبد الملك في هذه المسألة معنىً أشرنا إليه في حكم الاستثناء الذي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيلا. (¬2) مكذا في النسختين، ولعل الصواب: ثلثي.

قدمناه، وقال: قوله: إلا شيئًا، يصرف إلى لحسن (¬1) في الكلام، فإذا قال: له عندي مائة إلا شيئًا، أسقط من المائة تسعة، وإذا قال: ألف إلا شيئًا، أسقط من الألف تسعة وتسعون. وأشار في هذا إلى أن الاستثناء إنما يحصل بالكسور كقوله تعالى: {ألف سنة إلا خمسين عامًا} (¬2) قال: ولا تجد أحدًا يعبر عن الألف بألف إلا مائة، بل هو يقول: تسع مائة. وذكر أيضًا أنه قال: له عندي ألف وشيئًا (¬3)، ومات قبل أن يفسر ذلك، فإن ذلك الشيء ساقط لا حكم له لجهلنا بما أراد به من الأجناس والمقادير. وهذا أيضًا توجيه الخلاف فيه على حسب ما تقدم. وإذا قال رجل: لزيد عندي نيف وخمسون دينارًا. لكان القول قولَه فيما أراد بالنيف، فيقبل ما ادعاه وكثر (¬4) حتى لو قال: أردت بالنيف جزءًا من الدينار لصدق. وإذا قال: له عندي بضع عشرة درهمًا. فإن مالكًا نصّ على أن البضع يحمل على ثلاثة دراهم، وهي أقل ما ينطلق عليه هذا الاسم، ورآه منطلقًا على الثلاثة إلى التسعة. وقد اختلف الناس وأهل اللغة في هذه التسمية فبعض أهل اللغة صار إلى ما حكيناه عن مالك، وبعضهم صار إلى أنه إنما يطلق على الواحد إلى الخمسة. وقد ذكرنا هذا في كتابنا المترجم بالمعلم. وهذا الذي ذكرناه في الإقرار المحتمل المتردد بين أعداد كاليضع، فإنه (¬5) شك المقِر في مقدار البضع الذي عليه وشك المقَر له في هذا المقدار أيضًا، فإنه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما يحسن. (¬2) العنكبوت: 14. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: شيء. (¬4) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: قَل أو كَثُر. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنه [إنْ] ...

يقضى بالأقل، ويسقط ما زاد على ذلك، لكون الأقل متيقنًا، وما زاد عليه مشكوك فيه، فلم تثبت في الذمة غرامة بالشك. والقول الآخر أنه يقسَم المشكوك فيه بين المقِر والمقَر لهما (¬1) لتساويهما في الشك في ثبوته ونفيه. ولو أيقن أحدهما وشك الآخر، لكان القول قول الموقِن منهما، سواء كان المقِرَّ أو المقَرَّ له. وأختلف في تحليف الموقن على ما ادعاه ما دام المقِر حيًا، فلو مات قبل أن يسأل عما أراده لم يصدق المقر له، لجواز أن يكون المقر لو بقي حيّا لفسر ما أراد فيبْقى الأمر على ما حكيناه من الأخذ من تركته الأقل خاصة، أو يؤخذ الأقل ويُقسَم ما شك فيه. ولو وقع الإقرار (¬2) منهما في الأجناس لا في المقدار مثل أن يقول: لزيد علي ألف، فإن المقر يسأل عن هذا الألف: ما هي من الأجناس؟ فيقبل قوله في الجنس الذي أراد هل هو دينار أو دراهم أو طعام أو ثياب؟ لكن لو عطف على هذا الإبهام عددًا للسرج (¬3) فيه بالجنس مثل أن يقول: له عليّ (¬4) ألف درهم، فإن هذه المسألة مما اختلف الناس فيها: فذهب الشافعي إلى أنه يقبل قوله في بيان الجنس الذي أجمل، ولا يكون ما أجمل (¬5) عليه تفسيرًا للعدد المجمل، سواء كان ما عطف على المجمل مما يقدر بكيل أو وزن أو عدد، كالدنانير والدراهم والطعام [أ] وغير ذلك مما (¬6) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقع الأختلاف. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صرّح. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له عليّ [ألف] وألف درهم. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عطف. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّا [لا] ...

يوزن أو يكال أو يعد، وإلى هذا ذهب ابن القصار من أصحابنا. وذهب أبو ثور ومحمد بن عبد (¬1) الحسن أنه يقضى عليه فيما أجمل بجنس ما عطف عليه من المفسر، سواء كان ما بعد حرف العطف مما يقدر بكيل أو وزن أو عدد أو لا يقدر. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان ما بعد حرف العطف مما يقدر بكيل أو وزن أو عدد فإنه يكون تفسيرًا لما أجمل قبله من العدد، مثل أن يقول: له عليّ ألف ودرهم، أو: ألف وقفيز قمح، أو: وألف أقفزة قمح. وإن مال: ألف ورمانة، كانت الألف رمانًا. بخلاف أن يقول: له عنبي ألف وثوب، أو: ألف وعبد، فإنه لا تكون الألف ثيابًا ولا عبيدًا، وإنما يُقضى فيها بما يفسره من الأجناس. وإلى هذا ذهب سحنون، وكأنه رأى أن ما يقدر بكيل أو وزن أو عدد مما يثبت في الذمة بغير عقد معاوضة، (فإنه إذا ذكر وكان مقدر لكون ما تقدم في ذمة المقر أيضًا لكونه يستقر مثله في الذمة بالاستهلاك وإن لم يكن ذلك عن معاوضة) (¬2). وإذا قال: ألف وثوب، لم يكن ذكر الثوب تفسيرًا للألف لأن من استهلك ثوبًا فإنما تلزمه قيمته، ولا تعمر ذمته بمثله، فلم يحسن أن يكون (¬3) ذكره تفسيرا لما تقدم من اللفظ المجمل. وهذا الذي يعول عليه أصحاب هذا المذهب من أصحاب أبي حنيفة استدلال لا يتضح تعلقه بما نحن فيه، بل تجد العرب تعطف الشيء على مثله وعلى خلافه، فتقول رأيت زيدًا ومحمدًا من غير الهتفات في هذا العطف إلى ما يقدر أو لا يقدر. ولكن أضطرب أصحاب الشافعي في فرع من فروع هذا الباب وهو إذا قال: له عندي ألف وثلاثة دراهم، أو ألف وخمسون درهمًا. هل يقبل قوله في تصير الألف في هذه المسألة، أو تكون هذه المسألة بخلاف ما تقدم، ولا يقبل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف عبد. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الأوضح إضافة: ما.

تفسيره لما أجمل من العدد، لكونه أراد ما بعد حرف العطف بل سقط عليه إذا قال: له عندي ألف وثلاثة دراهم، لكون الألف دراهمَ أيضًا. وكذلك إذا قال: ألف وخمسون درهمًا تكون الألف دراهم أيضًا. فذهب الاصطخري من أصحاب الشافعي إلى أنه يقبل تفسيره لما أجمل، ورأى ألاّ فرق بين قوله: ألف ودرهم، وبين قوله: له ألف وثلاثة دراهم أو ألف وخمسون درهمًا. ورأى أبو إسحاق وغيره من أصحاب الشافعي، وهو المشهور من مذهب الشافعية، أن هذه المسألة بخلاف ما ذكرناه من أخواتها لأنه إذا قال: له ألف درهم فقد ذكر بعد حرف العطف وهو الواو لفظة أفادت زيادة على العدد المتقدم، فكان ذلك هو المراد بها وقصرها على هذه الإفادة خاصة. وإذا قال: له عندي ألف وثلاثة دراهم، كانت الألف والثلاثة من قبيل المجمل في سائر الإجمال (¬1) وقوله "دراهم" (¬2) وقوله "درهم" لفظ فيه بيان الجنس، ولكنه ما أفاد زيادة في العدد، فتصرف إفادته إلى أنه أراد بيان جنس ما تقدم من الجملتين اللتين هما الألف والثلاثة أو الألف وخمسون. وأيضًا فإن الإعراب يختلف فيهما: فإذا قال: له عندي ألف درهم ودرهم، بالرفع، فبالرفع فكذلك (¬3) معطوف على قوله (¬4):. وإذا كان معطوفًا عليه حتى استحق إعرابَه، لم يستحق بيان الجنس. وإذا قال: له عندي ألف وثلاثة دراهم، فذكر الدراهم ها هنا ليس معطوفًا على إعراب الألف التي في مجملة فكانت تفسيرًا لها. وذكر ابن القصار من أصحابنا هذه المسألة وكأنه تردد بين المذهبين: مذهب الاصطخري الذي حكيناه، ومذهب أبي إسحاق وكأنه مال إلى مذهب أبي إسحاق. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعله: الأحوال. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو. (¬3) هكذا في النسختين، والكلام يستقيم بحذفها. (¬4) هكذا في النسختين، والكلام يستقيم بإضافة: ألف.

والجواب عن السؤال الرابع عشر أن يقال: إذا قال رجل: لزيد عندي من مائة درهم إلى عشرة دراهم، أو من درهم إلى مائة درهم، فبدأ بأقل العدد فجعل الغاية أكثر منه، أو عكس ذلك فقال: له عندي من عشرة دراهم إلى درهم واحد، فإنه لم يختلف المذهب عندنا، فيما علمت، في أن حرف ابتداء الغاية يقتضي دخول البداية في النهاية، فالدرهم الأول، في قوله: له عندي من درهم إلى عشرة دراهم، داخل في الإقرار ولازم للمقِر، كما يلزم الدرهم الثاني والثالث إلى التاسع. وإنما اختلف المذهب إلزامه ما بعد حرف الغاية وهو الدرهم العاشر، فاختلف في ذلك قول سحنون رضي الله عنه، فقال بإسقاطه، في أحد قوليه، ولم يلزم المقرَّ إلا تسعة دراهم، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال مرة أخرى بل يلزم المقر الدرهم العاشر فيقضي عليه بعشرة دراهم كلها. وجعل ما بعد الغاية داخلًا في الجملة، كما جعل أهل المذهب الدرهم المذكور بعد حرف ابتداء الغاية لازمًا داخلًا في الجملة. وهذا (¬1) إذا قال: له عندي من عشرة دراهم إلى درهم، يلزمه الدرهم العاشر إلى بقية الجملة ويختلف في الدرهم الذي جعله غاية: هل يدخل في الإقرار فتلزمه العشرة دراهم أو لا يدخل في الإقرار فتلزمه تسعة دراهم؟ وكذلك لو اختلف نوع ما بدأ به المقر وما جعله غاية، مثل أن يقول: له عندي من درهم إلى دينار، ينبغي أن يجري على ما أصلناه لك من هذا الاختلاف. ومقتضاه أن يلزمه الدرهم ويختلف في الدينار. وإلى هذا أشار محمَّد بن عبد الحكم في رده على أبي حنيفة، فقال: إنه يقول: إذا قال: له عندي من عشرة دراهم إلى عشرة دنانير، إنه تلزمه العشرة دراهم وتسعة دنانير، فقال ابن عبد الحكم: هذه مناقضة، والإشارة إلى أنه إذا كان مذهبه أن ما بعد حرف الغاية غير داخل في الإقرار فإنه ساقط، فكذلك يجب أن تسقط العشرة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهكذا.

دنانير كلها؛ لأن ابن سحنون أجرى اختلاف قول أبيه، فيما حكيناه عنه، في قول المقر: له عندي من درهم إلى عشرة، إنه يلزمه التسعة، واختلف قوله في الدرهم العاشر، فيمن (¬1) قال: له عندي مائتا كُرّ حنطة إلى كر شعير، إن الحنطة تلزمه من غير خلاف، وأما الشعير الذي جعله غاية فإنه يلزمه جميعه على أحد قولي سحنون، وعلى القول الآخر يلزمه كر (¬2) القمح ويحط من كر الشعير قفيز شعير، وهذه منه إشارة إلى أنه وإن اختلف النوع فلا بد أن يسقط مما ذكر بعد حرف الغاية شيئًا حتى يُجري على الأصل مقتضى حرف الغاية أن ما بعدها لا يدخل فيه، وكان (¬3) الكرُّ: له أجزاء يحط منها جزءًا واحدًا وهو قفيز. وهكذا ذكر عن أبي حنيفة فيمن قال: له عندي مائتا كر حنطة وكر شعير، أنه يَلزمه كل الحنطة والشعير، لكنه يحط من الشعير مقدار ما ذكرناه وهو قفيز. وقال محمَّد بن عبد الحكم: إنما يجب أن يقضى عليه بفضل ما بين كر الحنطة وكر الشعير. وهذا الذي قاله هو مقتضى اللفظ في حكم اللغة، وهو الذي ذكره من التفريع في هذه المسألة ظاهر المذهب عنده أنه بني قول الإنسان: لزيد عندي مائتا درهم إلا (¬4) عشرة دراهم وبين قوله: عندي من درهم إلى عشرة دراهم، إلى (¬5) حكم الغايتين حكم واحد يثبت الدرهم ويختلف في الدرهم العاشر المذكور بعد حرف الغاية. لكن ظاهر مذهب الشافعية التفريق بين العبارتين إذا قال: له عندي مائتا درهم إلى عشرة فإنما تلزمه ثمانية دراهم وهو جملة ما بين المبدأ والمنتهى. وإذا قال: له عندي من درهم إلى عشرة، قالوا: فيه قولان: أحدهما أنه تلزمه ثمانية، مثل ما قالوا في العبارة الأولى. ¬

_ (¬1) الجار والمجرور يتعلق بقول المازري: لأن ابن سحنون أجرى ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كل. (¬3) هكذا في النسختين، والأوْضح إضافة: لَمّا. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [أنَّ] بعد إلى.

والقول الثاني، عندهم، وهو الصحيح في مذهبهم: إلزامه تسعة دراهم، كأحد قولي سحنون عندنا. ومذهب (¬1) أبي حنيفة. فلم يختلف القول عندهم في مذهبهم في هذه المسألة أن ما بعد حرف الغاية وهو الدرهم العاشر. وإنما اختلف القول عندهم في ما بعد حرف ابتداء الغاية وهو الدرهم الأول فيثبت أو يسقط، فأما الدرهم العاشر فإنما حكوا القول بإلزامه عند محمَّد بن الحسن. والذي حكوا عن ابن الحسن هو أحد قولي سحنون عندنا كما ذكرناه. واعلم أن المذهب عندنا في هذا الأصل على مسلكين: أحدهما صرف هذا اللفظ إلى يقين القائل بما ذكره لا إلى الشك فيما قاله، فيجري الأمر فيه على هذه الطريقة كما بيناه. والمسلك الثاني صرف ذلك إلى أن القائل أشعر تشككه فيما قال، وهو مذهب محمَّد بن عبد الحكم ومحمد بن المواز. قال محمَّد بن عبد الحكم قال: لو قال قائل: في هذا الشيء من رطل إلى رطل ونصف، لكان الرطل متيقنأونصف الرطل مشكوكًا فيه. وقد قال النبي عليه السلام في مخرجه إلى بدر: "القوم ما بين سبع مائة إلى ثمان مائة" (¬2). وهكذا قال ابن المواز فيمن قال: لفلان عندىِ (مائتي عشرة دراهم إلا عشوين درهمًا) (¬3): إن هذا المقر إن رجع عن شكه وأيقن بسقوط العشرة الثانية قُبِل ذلك منه، ولم يلزمه إلا العشرة الأولى، ولكنه يحلف إن ادعى المقَر له تحقيق استحقاقه عليه عشوين دينارًا (¬4)، وأقا إن كان المقر له لا يحقق ماله عنده، وإنما يطلب بمقتضى إقراره، فإنه لا يمين على المقر إذا قال: تيقنت ما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: و [أما] ... (¬2) في سيرة ابن هشام: "بين التسعمائة والألف،: 2/ 256. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما بَيْن عشرة دراهم إلى عشرين درهمًا. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: درهمًا.

كنت شاكًا فيه، وتحققت سقوط العشرة. فلو تمادى على شكه في العشرة الثانية وتيقن المقر له بكونه يستحقها عليه لأخذها، على اختلاف في يمينه. ومذهب ابن المواز ألاّ يمين عليه كما قدمناه عنه فيما سلف. فإذا ثبت أن مذهب هذين الرجلين من أصحابنا حمل هذه العبارة على الشك من المقِر فيجري الأمر فيها على ما قدمنا بسطه من كون المقر له إذا كان موقنًا أخذ بيمين أو بغير يمين على الخلاف، هل يسقط الشك ولا يكون له حكم، إذ لا تعمر الذمم بالشك وتُقسَم بأن المقر والمقر له لتساويهما في هذا بين كون هذا ثابتًا أو ساقطًا. وقد ذكر ابن المواز فيمق قال: فلان سلفني ما بين خمسين دينارًا (¬1)، أن هذا المقر إن زعم أن شكه ارتفع، وتحقق. أنه ليس له قبله أكثر من خمسين دينار ان ذلك يقبل منه ولا يمين عليه، إلا أن يحقق عليه الدعوى المقر له في هذه الزيادة على الخمسين فيحلف له، وإن تمادى على شكه وأيقن بثبوتها المقر له أخذها من غير يمين. قال: وإن امتنع هذا المقر من الإقرار بهذه العشرة الزائدة والتصريح بالإنكار لها فإني أجبره على الإقرار أو الإنكار، قال: وقال لي عبد الملك: إنه يحبس حتى يقر أو ينكر. قال: وهذا صواب لأن مالكًا قال هذا: فيمن ادُّعِي عليه شيء ولم يقر ولم ينكر. قال ابن المواز: لكن الاستحسان عندي أن يحلف أنه ما وقف على اليمين عليها إلا لشكه، لم نغرمه العشرة الزائدة على الخمسين. وعارضه الشيخ أبو إسحاق على هذا الذي ذهب إليه، وقال: إذا كان لا بد له من غرامة هذه العشرة الزائدة على الخمسين فما فائدة تحليفه على أنه إنما وقف عنها لكونه شاكًا؟ وهذا الذي اعترض به اعتراض صحيح إذ اليمين إنما تجب إذا كانت ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام نقص بإتمامه: والستين. كما سيظهر فيما بعد.

طالبها (¬1) مفيدة وللمطلوب بها مدافعة عنه حقًا. وهذا إذا كان لا بد ميط الغرامة واليمين لا يفيد في هذه الغرامة فلا معنى لها. ولكن إن بنَيْنا هذه المسألة على أحد القولين في أن المقر له إذا أيقن بهذه العشرهَ أنه يستحقها، وتمادى المقر على شكه، أن المقر له لا يأخذها إلا بيمينه، أفادت هذه اليمين التي استحبها ابن المواز لكون المقر له يتهم المقر في إظهار الشك نطقًا بلسانه، وكونه في باطنه غير شاك، بل يعرف ثبوت هذه العشرة عليه، فيقول: المقر له فائدة في استحلافه على كونه شاكًا وأنه وقف عن ذلك لأجل شكه لأنه متى صَرّح بالإقرار أخَذْتُ هذه العشرة من غير يمين أَحْلِفُها، وإذا صرح بالإنكار طلبتُه باليمين. لكن قد يقال في هذا: إذا صرح بالإنكار فلزمته اليمين، فله ردها عليه، فإن لم يحلف لم يستحق شيئًا، فلم يتحقق لك في يمينه على شكه فائدة واضحة، إلا أن يقال: قد لا يختار التصريح فزَدّ اليمين عليه، بخلاف يمين تجب عليه من غير أن يكون له ردها عليه. فهذا مما ينظر فيه. وقد أشار الشيخ أبو إسحاق إلى ظاهر الموازية كون الشك في مثل هذا على قول هل يسقط المشكوك فيه ولا يجب إلا المتيقَن لكون براءة الذمة هي الأصل، أو يُقسَم المشكوك فيه نصفين فتقسم هذه العشرة الزائدة على الخمسين، نصفين إذا شكا جميعًا: المقر والمقر له. وقد أفادت هذه المسألة أيضًا كون ابن المواز يذهب إلى أن ما بعد حرف الغاية داخل فيها لقوله: نغرمه الستين كلها. والجواب عن السؤال الخاص عشر أن يقال: إذا أقر بعدد لم يصرح به ولكنه كنّى حسنه، فلا يخلو من أن يكون قرنه بتفسيره، أو لم يقرنه يتفسيره. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [في] طلَبِها.

فإن لم يقرنه بتفسيره رُجع في تفسيره إليه. فإذا قال: له عندي كذا، فهو كقوله: له عندي شيء، أو: له عندي واحد، فيقال له بتن ما الذي له عندك مما ينطلق عليه اسم شيء، أو اسم واحد. فيقبل ذلك منه. فإذا قال: له عندي كذا، فسره بثوب واحد، قبل ذلك منه. وإن قال: له عندي كذا، ولم يكرر هذا اللفظ، أو كرره مرة، أو مرتين وهو في تكريره مكرر له بحرف عطف أو بغير حرف عطف، فإن ظاهر ما نص عليه محمَّد بن عبد الحكم من أصحابنا، وغيره من البغداديين المالكيهّ، استفادة المراد بهذه الكناية من إعراب ما وقع بعدها من التفسير. فإذا قال: له عندي كذا دراهم، قضي عليه بأقل الجمع وهي ثلاثة دراهم، على ما تقدم بيانه قبل هذا. وإن كان قال: كذا درهمًا، فظاهر مقتضى الإعراب إلزامه عشرين درهمًا لأن العشرة وما انخفض عنها إلى أقل الجمع لا يقال فيه "درهم" وإنما يقال فيه "دراهم"، وكذلك تسعة دراهم، وثمانية دزاهم، إلى ثلاثة دراهم. وما زاد على العشرة فهو عدد مركّب من قولك: أحد عشر إلى تسعة عشر فينتصب ما بعدها من التفسير كما قاله النحاة، فإذا بلغت إلى عشرين قلت: عشرين درهمًا، وقضيته. فصار مقتضى الإعراب في دوله له عندي كذا درهمًا، إلزامه عشرين درهمأوذلك أقل ما ينتصب عليه قوله: درهمًا، موحد الأعداد الغير مركبة. وإن قال: له كذا درهمٍ، بالخفض، فقد قال ابن القصار: لا إعراب فيه نصًا، وذكر أنه يحتمل أن يراد بهذا اللفظ "درهمًا" لأنه إذا ذكر الدرهم موحدًا باللفظ فإنما يطلق على: "جزء من درهم" و"ربع درهم"، فإذا كان هذا الجزء أقل ما ينطلق ما فسر بهذا الإعراب لم يجب أن يتحرى فيه أقل ما ينطلق عليه. إلى هذا أشار ابن القصار. ولما رأى بعضَ أصحاب الشافعي احتجوا على مذهبهم في إلغاء حكم الإعرأب وإلزام الناطق بكذا درهمًا واحدًا، فقال: لا خلاف بيننا وبينهم. يشير إلى من خالف الشافعي، بأنه إذا قال: له كذا درهمٍ، أنه لا يلزمه مائة درهم،

وكان مقتضى الإعراب إلزامَه مائة درهم؛ لأن النطق بـ"درهمٍ" بالخفض، تفسير لعدد كنّى عنه أقل (¬1) مائة درهم، وما قصر عن المائة درهم إنما ينطق به بالنصب، فيقال: تسعون درهمًا وثمانون درهمًا. ولما أشار ابن القصار إلى مافعة (¬2) هذا الحجاج فإنه لا يسلم حمل هذا اللفظ على مائة درهم لاحتمال أن تكون عبارة عن بعض درهم، فقال: إن بعض النحاة قال لي: إن هذا اللفظ يحمل على مائة درهم. هكذا حكى عن بعض النحاة، وأهل اللغة. ولكنه أشار إلى أنه لا يسلم ذلك. وذكر الطحاوي أيضًا عن بعض العلماء أنه يحمل ذلك على مائة درهم. هكذا مقتضى حكم إعراب الدرهم بالنصب والخفض. وأمّا لو قاله بالرفع فإني لا أعرف أنا فيه نصًا، ويمكن أن يكون يحمل على درهم واحد، ويكون خبرًا عن مراده بكذا، فكأنه قال: له عندي كذا وهو درهم. فيكون الرفع إخبارًا عن (¬3) المقِر عنْ مراده بقوله "كذا". وقد ذكر سيبويه في كتابه أصل هذه المسألة فقال: إنها من الألفاظ المبهمة، والكناية عن العدد كقولهم: قال: كيت وكيت (¬4)، كناية عن الحديث، وكذلك ذيت وذيت (1). وذكر عن الخليل أن "كذا" يحلّ محل القول كالعدد وذكر بعض أئمة النحاة أن الكاف ها هنا للتشبيه واللى إلا فاصلة بينها وبين الجنس المذكور بعدها، فينتصب ذلك على التمييز في قولهم: كذا وكذا درهمًا، كقوله: أحد وعشرين درهمًا. وإن "كذا" لَمَا يدل بمجرده على عدد، وإنما يدل عليه الجنس الذي يبيِّن، واختلاف إعرابه أوجب اختلاف العدد على ما ذكرناه وما سنذكره. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقلُّه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: متابعة. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من. (¬4) راجع تاج العروس: 4/ 522.

فقال: إذا أعرب بالرفع، فقال: له عندي كذا وكذا درهمٌ، فإن اللازم فيه درهم واحد، لكونه لا يدل على عدد معلوم، فاقتصر على دلالة النطق بدرهم، وهو اسم مفرد فلا يلزم المقِرَّ أكثرُ منه. ولو نصب لزمه أقل عدد يُنصَب بعده الدرهمُ المفردُ، وذلك، على ما قلنا نحن، عشرون درهمًا. هذا إذا أفرد هذا اللفظ فقال: كذا، مرةً واحدة. وأمّا إن كرره فقال: له عندي كذا وكذا، فهو محمول، عندنا وعند أبي حنيفة، على أحد عشر درهماً، لأن أوّل عدد منصوب في المركبات من الأعداد هو أحد عشر درهمًا، فلا يقضى إلا بما أفاده الإعراب يقينًا، وما زاد عليه مما يشك فيه، لم يقض به على هذا المقر. ولم يختلف قول الشافعي في هذا أنه يلزمه درهم واحد. فأما نحن فبينّا وجه قولنا وقول أبي حنيفة، وصرفنا ما يستفاد من ذلك إلى مقتضى النطق باللسان العربي، قال تعالى: {أنزلناه حكمًا عربيًا} (¬1) وأضاث الأحكام إلى لسان العرب. فأفا الشافعي يعتمد (¬2) على أن مجرد القول: له عندي كذا، لا يفيد جنسًا ولا عددًا معلومًا أكثر من واحد، فعلى المقر بيان جنس هذا الواحد لا أكثر. فإذا ثبت أن مجرد القول "كذا" إنما يفيد واحدًا، وتفسيره بالدرهم يفيد بيان جنس هذا الواحد لا أكثر من ذلك، ولم يفد زيادة عدد ولا يقضى (¬3) منه، صارت لفظة "كذا" إنما تفيد واحدًا، ولفظة الدرهم إنما تفيد بيان جنس هذا الواحد. فإذا كرر "كذا" مرتين، وكانت الأولى منهما إنما تفيد واحدًا، فالثانية كذلك، وتكون مؤكدة لها. وإذا صلحت أن تكون مؤكدة للواحدة، لم يقض عليه بزائد على ذلك بالشك والاحتمال، والعرف يُؤكد الشيء بلفظه فتقول: ¬

_ (¬1) الرعد: 37. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيعتمد. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نقصا.

جاء زيد زيد، وتقول: الطريق الطريق، احذرْ احذر، إلى غير ذلك مما اشتهر في لسانهم. فهذا معتمد الشافعية في هذه المسألة. وقد صار بعضهم وهو أبو إسحاق إلى اتباع مذهبهم في هذا، وهو إلزام المقر درهمًا واحدًا إذا كانت المقر عامّيًا لا يعرف مقتضى الإعراب، فإن كان غير عامي عَدَل عن مذهبهم وألزَم المقِرَّ ما قلناه أحد عشر درهمًا. ولم يذهب إلى هذا التفصيل سواه. وأما إن كرر ذلك بحرف العطف فقال: له عندي كذا وكذا درهم. فإنه حكي عن الشافعي ما ظاهره أنه اختلف قوله، فقال مرة: يلزمه درهمان وقال مرة: يلزمه درهم واحد. فمن أصحابنا من سلم أنه اختلف قوله في ذلك، ومنهم من لم يسلم ذلك، وتأول عليه أنه إنما قال بإلزام درهمين إذا أعرب بالنصب، فقال: كذا وكذا درهمًا؛ لأنه لا يحسن التأكيد مع دخول حرف العطف، وإنما يقع التأكيد مع عدم حرف العطف فإذا قال: كذا كذا، بغير واو، حسن أن تكون "كذا" الثانية مؤكدة لـ"كذا" الأولى كما بيناه. فإذا دخل حرف العطف فقال: كذا وكذا، ارتفع حكم التأكيد، وحمل قوله "كذا" على درهم، وقوله بعد ذلك: وكذا، على درهم آخر. فأما إن رفَع الدرهم، فإنما يلزمه درهم واحد، لأنه كالقائل: له عندي كذا وكذا، وهو درهم، فأخبر عن نفسه أن مراده ب "كذا وكذا" درهمٌ واحد؛ لأنه يجوز أن يكون أراد بقوله أولًا "كذا" نصفَ درهم، وقوله بعد ذلك بـ"كذا" نصف درهم فأخبر عن الجميع فقال: وهو درهم، وإذا احتمل ذلك لم يقض عليه بأكثر منه. ومنهم من صرف اختلاف قول الشافعي إلى اختلاف حالين، لا اختلاف إعرابين، فقال: إذا لم يكن للمقر نية صرف ذلك إلى درهمين لأنه مقتضى ظاهر الإعراب، على حسب ما بيناه، فإن زعم أنه أراد درهمًا واحدًا صدّق في ذلك لأنه لم يخالف نصًا، وإنما خالف ظاهرًا محتملا. ومذهبنا نحن ومذهب أبي حنيفة إلزامه في قوله: كذا وكذا درهمًا، أحد وعشرون (¬1) درهمًا، لأن ذلك أول عدد مركب يعطف فيه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: واحدًا وعشرين.

الثاني على الأول، فقال: أحد وعشرون (1) دينارًا، وما زاد على ذلك، وإن كان يقال، فإنه مشكوك فلا تعمر الذمم بالشك. وذكر عن أبي يوسف أنه ألزمه في هذا أحد عشر درهمًا، وعن محمَّد بن الحسن أنه ألزمه، في أحد قوليه في هذا، عشرون درهمًا. وهذه المذاهب لا تسند إلى أصل، وإنما تسند إلى ما بيّنّا ما حدّه من جهة الآحاد أو من جهة الاعتياد. والجواب عن السؤال السادس عشر أن يقال: إذا ذكر عددًا مشتملًا على جنسين ولم ينسب بعضها إلى بعض مثل أن يقول: لزيد عندي مائة دينار ودراهم، أو مائة ذهب وفضة أو مائة قمح وشعير، إلى غير ذلك مما اختلف أجناسه وأنواعه، فإن مذهبنا قبول قول المقِرّ في تقدير كل جنس من هذا العدد، فيصدّق إن قال: الدراهم تسعون والدنانير. عشرة. وكذلك إن قال: القمح عشرة أقفزة والشعير تسعون قفيزًا. وذهب أهل العراق إلى أنه يقضى عليه بالتَّسوية بين الجنسين، فتكون الدنانير خمسين والدراهم خمسين. وكذلك. يكون القمح خمسين قفيزًا والشعير خمسين قفيزًا. ورأى (¬1) أن هذا مقتضى هذه العبارة، وأن عطف أحد الجنسين على الآخر يوجب الشريك (¬2) في المساؤاة في المقدار، وفروا (¬3) على هذا الأصل حتى محوا (¬4) عقود النكاحات والبياعات، وإن أطلق بهذا اللفظ مثل أن يقول: تزوجتك بمائة قفيز قمح أو (4) شعير أو مائة ذهب أو (4) فضة، أو يعتك هذا العبد بمائة قفيز قمحًا أوشعيرًا، فإن النكاح والبيع ينعقدان على الصحة، وإن لم يبين حين العقد مقدار كل واحد من الجنسين. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: رَأَوْا. (¬2) هكنا في النسختين، ولعل الصواب: التشْريك. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَجَرَوْا ..... صَحَّحُوا ... (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَ.

ومذهبنا نحن أن هذا لا يوجب التشريك في المساواة في المقدار. وإنما يوجحت التشريك في المساواة في الإعراب، فيرجع إلى تفسير المقر ويصدّق في بيان ما أراد. ولو وقع بهذا عقد نكاح أو بيع لكانا فاسدين فسخا لكون مقدار كل جنس لا يعرف من هذه العبارة فصار العقد وقع بثمن مجهول. لكن ابن المواز أشار إلى سلوك طريقة أهل العراق إذا مات المقِر ولم يبيّن، فقال في مريض أوصى بأن لفلان مائة ذهب وفضة. فإنه يجبر على أن يبين المقادير، فإذا مات قبل أن يبين كان القول قول ورثته، كما كان القول قوله. وإن لم يعلموا المقدار الذي أراد الموصي، وعلم ذلك المقَرّ له قبلت دعواه من غير يمين عليه، إذ لا أحد يدافع دعواه بيقين. وإن لم يعلم ذلك لا من جهة الورثة ولا من جهة المقر له حُمِل ذلك على التسوية، وقُضي للمقَر له في مال اليتيم (¬1) بخمسين ذهباً وبخمسين فضة. وهذا الذي أشار إليه ابن المواز بَناهُ على إحدى الطريقتين اللتين ذكرناهما أن المشكوك فيه في الإقرارات يقسم نصفين، كمالٍ يدعيه رجلان على القول الآخر، إنما يقضى بما يتيقن من حق له في الإقرار. وقد ناقض ابن سحنون ومحمد بن عبد الحكم أهل العراق وقالا: هم يسملمون لنا أن من قال: لزيد عندي ثلاثة أثواب، وذكر أن القول قول المقر في مقدار كل واحد من الجنسين فيلزمهم أن يقولوا بما قلنا: إن القول قول المقر في تقدير الأجناس. وهذا عندي لا يلزمهم؛ لأن هذا العدد إن قضي فيه بالتنصيف قصرت العبارة وخرجت عن مقتضاها، ويكون القضاء بثوب ونصف من كل واحد من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الميّت.

الخمسين (¬1) وهو قد قال: ثلاثة أثواب، وهذه العبارة تقتضي أن يكون كل ثوب كَاملًا فلا يلزمهم ما ألزمهم أصحابنا في هذا السؤال. هذا حكم إجمال الأجناس مع تساوي العدد. وكذلك لو كثرت الأجناس فقال: له عندي مائة قفيز من قمح وشعير وأرُز وسمسم، لقبل منه بيان مقدار كل جنس عندنا، ولم يقبل منه ذلك عند أهل العراق. ولكن إذا ذكر أربعة أجناس قضي عليه بخمسة وعشرين قفيزًا من كل جنس حتى تكمل المائة. ولو وقع ها هنا استثناء مع ذكره جنسين لكانت المسألة على قولين. مثل أن يقول: له عندي قفيزان قمحًا وشعيرًا إلا ربع قفيز فإنه: قيل: يحط ربع قفيز بالسوية بين القمح والشعير، فيسقط من المكيلة ثمن قفيز قمح وثمن قفيز شعير، ويوكل إلى أمانته بيان مقدار ما يقدره في باقي الجنسين. وقيل: بل يوكل إليه التقدير في الاستثناء والمستثنى منه. وهذا يقوى على القول يأنّ الاستثناء إذا تعقب الجمل صلح أن يكون عائدًا لجميعها. هذا إذا أقر بعدد من جنسين والإقرار لرجل واحد. وأما إن كان الإقرار بجنس واحد لرجلين، مثل أن يقول: لزيد وعمرو عندي ألف درهم. فإن المذهب أن يكون ذلك بينهما نصفين على المساواة. ولو عاد بعد ذلك وقال: لزيد من هذه الألف ست مائة درهم ولعمرو أربع مائة درهم، لقبل ذلك منه، وقضي عليه بغرامة المائة الزائدة على النصف لمن أقر له بهالأولم يحطّ للآخر من النصف شيئًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الجنسين.

وكأن أصحابنا رأوا أن ظاهر هذه العبارة الواقعة يُلازم التمليك، وعطف الثاني على الأول يُوجب التسوية. وهذا أيضًا قد يناقضنا به أهل العراق ويقولون: هلاّ قلتم: إنه يقبل قول المقر في بيان مالك ل واحد من الرجلين. والتحقيق في هذا يقتضي المساواة. بين السؤالين إلا أن يكون عرف الاستعمال فرق بينهما فيصار إليه. وتقدم بيان مذهبنا في مقتضى قول القائل: شريكي في هذه الدار فلان، هل يحمل على المساواة أم لا؟ وهذا كله إذا وقع الإقرار مطلقًا، ثم بعد حين بيّن المقادير. وأمّا إن كان البيان متصلًا من غير صُمات مثل أن يقول: لزيد عندي مائة ذهب وفضة ثلثاها فضة، فإن ذلك يقبل منه بغير خلاف. وكذلك إذا قال: لزيد وعمرو ألف درهم ثلثاها لزيد، فإن ذلك يقبل منه بغير خلاف. والجواب عن السؤال السابع عشر أن يقال: إذا أقر بدنانير أو دراهم وقيد إقراره بوزنها وسكّتها وغير ذلك من صفاتها، فإنه لا يؤخذ بغير ذلك، إلا أن يبهون إقراره قد (¬1) فيه كونها في ذمته ثمنًا للبيع فيخالفه المقَر له فيما قتد به من سكة أو وزن فإن ذلك ينتقل حكمه إلى ما قدمناه في كتاب البيوع من اختلاف المتبايعين في الثمن الذي تبايعا به. وإذا ادعى أحدهما ما لا يشبه كونه ثمنًا للمبيع المذكور فإن ذلك، مع قيام السلعة، جار على القولين المذكورين في كتاب البيوع. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قيَّدَ.

وأما إن قيد ذلك يكون ما أقرّ به في ذمته من مرض (¬1) فإن ذلك يقبل منه إذا قيد ذلك بما يقرضه الناس بعضهم لبعض. وأما إن قيد بما الغالب أنه لا يقرضه الناس بعضهم لبعض فقد ذكر ابن سحنون فيمن أقرّ بفلوس وقيدها بأنها الفلوس الكاسدة، وقد ذكر المقر أنجها من قرض فإن أهل العراق وأصحابنا اختلفوا، فقال بعضهم من هؤلاء وهؤلاء: لا يقبل ذلك من المقر، وقال بعضهم: بل يقبل ذلك من المقر. فأطلق هؤلاء قبول الإقرار ولم يشترطوا فيه كون القرض مِمّا يشبه أو لا يشبه. وهذا لأن الأصل براءة الذمة للمقر، والقرض ليس بمعاوضة تجري العوائد بضبطها بأجناس وصفات، ولهذا قبل ذلك منه. ولو وصل الإقرارَ بقوله: وديعة، ثم ذكر بعد ذلك أنها زيوف وبهارج لقبل ذلك منه، بخلاف لو قيد الإقرار بكونها غصبًا ثم ذكر أنها زيوف أو بهارج فإنه لا يقبلَ ذلك منه. واعتل ابن سحنون بأن المقر بغصب الدنانير ذكر وجهًا يوجبها في ذمته، بخلاف المقر بوديعة لأن الأصل براءة ذمة المودعَ مما أقر به، والأصل في الغصب وغيره من قرض أو بيع كون ما أقر به في الذمة، فلهذا يقبل من المقر بالوديعة ما فسر إقراره به من كون الدنانير المودعة من الدنانير الزائفة أو البهارج، ولا يقبل قوله إن فسرها رُصاصًا أو ستوقة. وحكى عن أبيه أنه لا فرق في هذه الأوصاف من قول المقر: إنها ستوقة أو رصاص أو زيوف أو بهارج، إلا أن يصفها بما لا ينطلق عليه اسم دراهم، مثل أن يقول: إنها رصاص محض غير مخلوط بفضة، فإن ذلك لا يقبل منه لإبطاله حقيقة الاسم الذي أقر به. ولو كان تقييد المقر بما أقر به غيرَ متصل بإقراره، بل بعد فَتْرة، فزعم أن الدنانير التي أقر بها زيوفًا أو بهارج أو ناقصة عن الوزن المعتاد في البلد الذي أقر به، فإن ذلك لا يقبل منه لكونه عاري الذمة، فيستصحب براءة ذمته وعُرُوّها عن المطالب فلا يثبت عليه إلا بأمر لا إشك الذيه، على حسب ما حكيناه مما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قَرْض.

ذكره عن أبيه، ما لم يقيده (¬1) إقراره بما يبطل الحقيقة التي أقر بها. لكن ذكر محمَّد بن عبد الحكم أنه إذا أقر بدراهم وديعة ثم قال: هي مغشوشة، فإنه اختلف قول ابن القاسم: هل يقبل ذلك منه أم لا؟ ولعله أراد في القول: لم يقبل ذلك منه إن الدراهم المغشوشة لا ينطلق عليها تسمية دراهم، فيكون ذلك موافقا لما ذكرناه عن سحنون. ولو أقر بدنانير بلد، ثم بعد ذلك نسبها إلى سكة بلد آخر، لم يقبل ذلك منه، بل يحمل إقراره بأن المقَرّ عليه كذا وكذا، على أن المراد به سكة اليلد الذي أقر وهو به .. ولو قال: لفلان عندي دينار في منزل. ثم مات المقر، لحمل إقراره على دينار جيّد. ولو قال: له دينار في منزل لا أعرف هل هو جيد أم دنيء ولا أعرف وزنه. ثم مات، لم يتضمن إقراره إلا أقل فا ينطلق عليه تسمية دينار. ومما يلحق بهذا النوع من دعواه تخصيص العام لو كانت للمقر أجناس الديون على رجل فقال: الدين الذي لي على فلان هو لفلان، ثم بعد ذلك إنما أردت أحد الأجناس الذي لي عليه، وله عليه دنانير ودراهم وطعام وعروض، فقال: إنما أردت الدراهم أو الطعام، فإن ذلك لا يقبل منه. وهذا إنما يحسن على قول بعض أهل الأصول:. إن العموم ظاهر قوي في الاستيعاب والشمول، فيكون المقر على هذه الطريقة قد ادعى ما يبطل ما هو الظاهر من كلامه، ومقتضى إقراره. وهذا أيضًا بناء على أن الألف والسلام ها هنا تقتضي الإيعاب على ما ذكرناه فيما أمليناه في كتاب الأصول. ولو كان من عليه الدين مقرًا لرجل: أن من له الدين أقر له عنده بأن هذا الدين له أو أنه أمره بدفعه إليه، وصاحب الدين غائب، لم يثبت إقراره بما ذكر عنه من عليه الدين، فإن في جبى على دفع ذلك لهذا الذي أقر أنه له قولين: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: يُقيّد.

فذهب ابن المواز وابن عبد الحكم أنه لا يجبر على ذلك، ولا يلزمه الدفع إلى من أقر له بالدين الذي عليه، لأن ذلك لا يبرئه. وذهب محمَّد بن سحنون إلى أن القاضي يجبر هذا المقر على دفع هذا المال الذي عليه. وإن كان الغائب الذي نه الدين بوثيقة وإشهاد إذا قدم فأنكر ما حكم عنه من عليه الدين فإنه يصدق ويطالب الغريم بدينه، والقول قوله فيه: إني لم أقر عندك ولم آمرك به، وكأنه رأى من عليه الدين معترفًا أن الذي عليه قد استحق هذا الذي أقر له تملكه، فلا يحل له أن يمنع رجلًا ملكه، لجواز أن يأتي رجل آخر فيظلمه ويغرمه مئل ذلك. والجواب عن السؤال الثامن عشر أن يقال: أما المجاوبة بنعم، فهو صريح في الإقرار، قال الله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} (¬1). وكذلك المجاوبة ببلى، قال الله تعالبى. {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} (¬2)، وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (¬3). ولكنها تستعمل في إنكار البقاء (¬4) فيكون إنكار البقاء (4) إثباتًا، ولهذا قال بعض النحاة: لو كان جوابهم لله سبحانه لما قال لهم: ألست بربكم، فقالوا: نعم، لكان ذلك كفرًا، وكأنهم صدقوا بقولهم "نعم" أنه ليس بربهم. وكذلك قول "أجل" فإنها بمعنى نعم، فإذا قال إنسان لآخر: لي عندك مائة دينار، فأجابه بأن قال له: أجل، كان ذلك إقرارًا بالمائة دينار. وكذلك قوله: ¬

_ (¬1) الأعراف: 44. (¬2) المُلك: 9،8. (¬3) الأعراف: 172. (¬4) هكذا في النسختين، والصواب: النفي.

نعم. وكذلك إن قال له: أليس لي عندك مائة دينار؟ فقال: بلى. فهو إقرار بها. ولو أجابه على قوله: أعطني مائة دينار التي لي عندك، فقال له مجاوبًا عن هذا: سأعطيكها، سأبعثها إليك، وسأدفعها إليك، وليست عندي مهيأة كلها. فإن هذا إقرار بها. ولو قال له: اجلس فأزن (¬1)، أو فاتزّنها.، أو قال له: فأنقدها أو انتقدْها (¬2)، فإن المذهب على قولين في هذه الألفاظ: فمذهب سحنون إن هذا إقرار بها. ومذهب ابن عبد الحكم أن هذا ليس بإقرار بها، واعتلّ بأنه لم يضف ذلك إلى نفسه، وإنما قال: اتزن أو اتزنها، وليس بتصريح بمن يزنها له. لكن لو قال: اتزنها منِّي، أو اتزن منّي، أو تنقد مني، لكان ذلك اعترافًا لإضافة هذا الفعل إليه. وذكر عن أصحاب أبي حنيفة أنهم يفرقون بين ذكر ضمير يعود إليها، وبين ألاّ يذكر ضميرًا. فيجعلون ذلك إقرارًا إذا قال: أتزنها. ولم يجعلوه إقرارًا إذا قال: أتزن، أو إذا قال: أنتقد. وذكر ابن سحنون فيمن قال لآخر؛ غصبتني هذا الغلام، فادفعه إليّ، فقال: غدًا. قال: أقر له به، في إجماعهم. وهذا يرد على أصحاب أبي حنيفة فيما ذكرناه عنهم من أنهم إذا تقاضى غريمه فقال له: اتزن؟ أنه لا يلزمه بهذا القول شيء. قال: فكذا يجب على قوله "غدًا" ألا يكون إقرارًا حتى يقول غدًا أدفعهُ إليك. ولو قال زيد لعمرو: أخبر بكرا بكذا، أن له على ألف دينار، أو قال (¬3): ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وكلام ابن عبد الحكم الآتي يقتضي: اتزن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف لك. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قل.

له ذلك أو أعلمه بذلك. لكان هذا إقرارًا على ما ذكره ابن سحنون في كتابه. وكذلك لو قال زيد لعمرو: أخبرْ بكرا، أو أعلمْ بكرا، أو قم (¬1) لبكر: إن لي عليك ألف دينار، وقال: نعم، فإن هذا إقرار. وأما إن قال زيد لعمرو: لا تخبر بكرا أن له عليَّ مائة دينار، لكان في هذا قولان: أحدهما أن هذا (1) لبكر بالمائة دينار وكأنه أقر بها ونهى عمرًا عن إظهار هذا الإقرار وأمره بإخفائه وكتمانه. والقول الآخر إنه ليس بإقرار. فكأن من ذهب إلى هذا ورأى أن هذا القول لا يضمن (¬2) أكثر من النهي عن أن يحكي عنه هذا لكونه ليس بصدق، أو نهى عن ذكره لغرض آخر لا لكونه حقًا أمره بكتمانه عنه. وكذلك لو قال زيد لعمرو: أعطني لجام دابتي أو سرجها، أو اعطني باب داري، أو ثوب غلامي، فقال: نعم. فإن في ذلك على (¬3) قولين: هل يتضمن قوله "نعم" الإقرار بكونه سلمه ملك الدابة، وملك الدار، وملك العبد (¬4) ولم يسلم له ذلك، وإنما سكت عن إنكار إضافة هذا الملك له. ومما يلحق بهذا الذي ذكرنا الاختلاف فيه السكوتُ عن إنكار الدعوى. فقد وقع في العتبية عن ابن القاسم فيمن قال لرجل: لِمَ سَكنت فلانًا في دارك، هل بإجارة أو باطلًا؟ فقال: باطلا. والساكن يسمع ذلك فلا ينكره، فإنه لا يكون ذلك منه تسليمًا لكون الدار ملكًا للقائل: أسكنتُه باطلا، لأنه قد يعتذر بأن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أن [إقرار] لبكر ... (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: يتضمن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف على. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

يقال: ظننت أنه يداعبه، ويحلف. وقال أيضًا فيمن سئل عند موته: هل لأحد عندك شيء؟ قال: لي (¬1)، قيل له: ولامرأتك؟ قال: لا. والمرأة تسمع لا تذكر حقها. فإنها تحلف أن حقها عليه ولا يضرها سكوتها. وذكر فيمن أتى إلى رجل جالس في جماعة فقال: اشهدوا أن لي على هذا الجالس مع هؤلاء مائة دينار، وانصرف، إن سكوت المدعى عليه بهذا يكون كالإقرار بها. وقد ذكرنا في كتاب التفليس إذا شاهد رجل تركة رجل تقسم بين ورثته، وتقضى منها الديون التي عليه، ولم يطلب دينًا فإن سكوته عن ذلك كالإقرار بسقوط دعواه عن الميت وسقوط حقه. وكذلك الحكم في ميت ترك ولدين: أحدهما مسلم والآخر نصراني، فزعم كل واحد منهما أن أباه مات على دينه، وجُهِل حال الأب، لكنه صُلّي عليه ودفن في مقابر المسلمين، والولد النصراني لا ينكر ذلك فإن هذا تسليم في كون أبيه مات مسلمًا. وكذلك إذا قال الزوج لزوجته المطلقة: راجعتك، فسكتت عن إنكار ذلك، ثم بعد ذلك زعمت أن عدّتها انقضت قبل قول الزوج: راجعتك، فإن ذلك لا يقبل منها، وسكوتها عن إنكار قوله كالتصديق له أن عدتها لم تنقض. وكذلك قال سحنون في موص قال، عند موته، بأن جاريتي هذه تعتق بعد موته، والجارية تسمع ذلك ولا تنكره، فلما أن مات زعمت أنها حرة في الأصل، فإن ذلك لا يقبل منها. فهذه مسائل جعل السكوت فيها عن الإنكار كالنطق بالتصديق. وما ذكرناه من ترك إنكار المدعى عليه بمائة دينار قولَ المدعي: اشهدوا عليه بها، أن ذلك كالتصديق للدعوى، ممكن أن يقدر هذا أن العادة في مثل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا.

هذا مع ذكر الإشهاد أنه لا يشبه السكوت عن إنكار هذا. وبالجملة فقد ذكرنا ما وقع في هذا وأضربنا عن ذكر ما سواه من أمثاله. والتحقيق فيه الالتفات إلى قرائن الأحوال، فمتى دلت على كون السكوت مصدقاَّ قَضي بذلك عليه، وإن دلت على كونه منكرًا لم يقض عليه بالتصديق، وإن أشكل الأمر لم يقض عليه بالتصديق مع الاشكال والاحتمال، وقد يستظهر عليه باليمين على صدقه فيما لا يعتذر به من سكوته إذا أدى الاجتهاد لتحليفه. وهذا هو المعتمد في الفتوى في هذا الأصل وفي غيره عندي، وعند بعض أشياخي المحققين. وأما الإقرار على جهة الاستفهام ففيه قولان: مثل أن يقول زيد لعمرو: أَلَكَ عندي مائة دينار؟، فيقول المسؤول: نعم، فيرجع المستفهم عن استفهامه وينكر كونها عليه، فمذهب محمَّد بن المواز ومحمد بن عبد الحكم أن ذلك لا يكون كالتصريح بالإقرار بالمائة دينار. وذهب ابن سحنون أن ذلك إقرار بها. وكأن ابن سحنون قدّر أن استفهامه كالشك في كونها في ذمته، لمن استفهمه عنها، والمسؤول عن ذلك يحقق أنها له قِبَل المستفِهم، فكان من حقه طلبه بها. وكأن من لم يجعل ذلك إقرارأ قدر أن الشاك قد يرتفع شكه ويعود إلى اليقين، فيصدق في ارتفاع شكه، ويحلف على ذلك. ولو قال: لك عندي مائة دينار ولم أقضك إياها؟ على جهة الاستفهام له، فإنه يطالَب بالمائة دينار من غير اختلاف، لأنه إذا أقر بها ثم ادعى قضاءها لم يصدق، فأحرى إذا لم يدع القضاء بل شك فيه ألاَيبرَأ مما أقر به. قال ابن المواز: ويقضى بها للمقر من غير يمين لأن المستفهِم لمْ يدّع القضاء وإنما شك فيه، والمقَر له موقن بأنه لم يأخذ من المقِر شيئًا. وذكر ابن سحنون أن رجلًا قال لآخر: أليس قد أقضيتني أمس ألف

درهم فقال الطالب: بلى أو نعم، ثم جحد المقِر، فالمال يلزمه. وسوَّى ها هنا بين الجواب بنعم وببلى، وقد ذكر بعض أئمة النحاة أن الجواب بنعم في حرف النفي بخلاف الجواب ببلى، فقال في قوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}: لو قالوا "نعم" بدل قولهم "بلى" لكفروا. وقد قدمنا هذا. وساوى ابن سحنون ها هنا في الجواب في قوله: أليس لي عليك ألف درهم، بين أن يقول السؤول "بلى" أو "نعم". وهذا. خلاف ما ذكرناه عن بعض النحاة، وكان بعض النحاة أجراها مجرى الإنكار للقول، فإذا قال: "ألست بربكم" فوقع الاستفهام على حرفٍ نَفَى به أن يكون ربهم؛ فإذا قالوا "نعم" فقد صدّقوا النفي وكفروا. وإذا قالوا "بلى" فقد أنكروا النفي، وإكذاب النفي إثبات. فعلى مقتضى هذا يكون الجواب في مسألة ابن سحنون إذا قال الطالب "نعم" فقد أقر بأنه لا يستحق قِبَل المستفهم، وإذا قال "بلى" فقد أثبت بأنه يستحق قبله ألف درهم لأنه نفى ما نفاه المقر وإذا نفى النفي كان مثبتًا كما بينّا. وقد ذكر محمَّد بن عبد الحكم في هذه المسألة: أن المستفهم لا يلزمه شيء. قال ابن عبد الحكم: ويحلف المقر. وقد يقع المجاوبة عن القول ما (¬1) يشكل أيضًا مثل لو قال رجل لآخر: أقرضتك ألف درهم، فقال: لا أعود لها، فهو إقرار فيما ذكر ابن سحنون. ولو قال: غصبتني مائة، فأجابه: ما غصبت قبلها، فقال سحنون (¬2): هو إقرار بها. ولو قال: أقرضتك مائة، فقال: ما استقرضت من أحد بعدك أو غيرك أو قبلك. فذكر ابن سحنون أنه إقرار، وذكر عن أبيه سحنون، وعن أهل العراق أنه ليس بإقرار. وكذلك لو أجابه: لا أعود لها، فإنه إقرار عند ابن سحنون وليس بإقرار عند أبيه سحنون. وقال ابن عبد الحكم: لو قال اقضني المائة التي لي عليك، فقال: إن أخرتني بها سنة أقررت لك بها. فليس بإقرار، ويحلف. وكذلك لو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِما. (¬2) هكذا في النسختين.

قال: إن صالحتني عنها أقررت لك، فليسر هذا أيضًا بإقرار. وقد قدمنا ما تضبط به هذه الأجوبة وما يستدل على المراد به من قرائن الأحوال ومن سياق الخطاب. والجواب عن السؤال التاسع عشر أن يقال: قد تقرر أحكام سقوط الخيار في عقود البياعات. وأمّا اشتراطه في الإقرار مثل أن يقول: لزيد عندي ألف درهم على أني بالخيار. فإن ابن سحنون ذكر أن في هذا قولين: أحدهما: أن هذا الاشتراط يقع وهو ثابت. والآخر: أنه ساقط لا تأثير له. ولكنه نقل الأول نقلًا يدل على الاتفاق في ثبوت الدين الذي أقر به، وإنما صرف الخلاف هل يؤخذ المقِر بالدين الذي أقر به حالاّ ولا ينفعه قوله: على أني بالخيار ثلاثة أيام، أو تكون الثلاثة الأيام كالأجل المضروب لقضاء الدين، فلا يؤخذ به إلا بعد انقضاء الثلاثة أيام، كما لو قال: له عندي ألف درهم، إلى أجل سماه، فإنه لا يؤخذ به إلا بعد انقضاء الأجل باتفاق، وإن كان بعض من شذّ من أصحاب الشافعي خرج فيه قولين عندهم في أن المقر بأن لزيد عليه مائة درهم إلى سنة، فإنه لا يقبل في دعوى التأجيل. وأنكر هذا التخريج بعض حذاق أصحاب الشافعي. وإنما دعانا إلى صرف ما حكاه ابن سحنون من الاختلاف إلى كونه اختلافًا: هل يؤخذ بما أقر به حالّا أو يكون شرط الخيار ينفعه في تأجيله مقدارَ الأيام التي ذكر أن له الخيار فيها. وذلك أنه قال في المسألة قولان: أحدهما: أن ذلك يكون كالأجل المضروب فإن بانقضاء الأجل يلزمه ما

أقر به. ولم يقل: إن لم يرجع عن إقراره، ولا قال أيضًا: إن لم يختر سقوط هذا الدين عنه. واتبع ابن سحنون الخلاف الذي ذكرناه بمُثُل لا يحسن الخلاف فيها، مثل أن يقول: له عليّ ألف درهم غصبتها، أو كانت وديعة استهلكتها. فإنّ شرط الخيار في هذا غير لازم ولا ينبغي أن يختلف فيه، لأنه أسند الجواب إلى سبب يلزمه به الإقرار من غير خيار له في ذلك بإجماع. ولم. يصرح ابن سحنون بذكر الخلاف في هذا المثال، وإنما أبرزه عقيب المسألة الأولي التي ذكرناها عنه إيرادًا قد يسبق إلى قارئ كلامه تصور الخلاف في هذه المسألة أيضًا. وكذلك أيضًا عطف على هذا الإقرار بالكفالة بشرط الخيار مثل أن يقول: تكفلت لزيد بمائة دينار على أني بالخيار. فذكر أن المكفول له إن صدقه في اشتراط الخيار كان له الخيار فيما أقر به بين أن يتمادى على التزام الكفالة أو يرجع عنها. فإن أنكر المكفول له شرط الخيار وادّعى أنه تكفل من غير شرط، فإن من شرط دعوى الخيار ها هنا لا تقبل. وهذا الذي ذكره ابن سحنون في هذه المسألة لا وجه له عندي، إلا أن يجريه على أصل ابن القاسم فيمن أقر ببيع وزعم أنه اشترط الخيار فيه، فإن ابن القاسم يرى أن القول قول من ادعى رفع الخيار، وأنه يشترط بين المتبايعين. فإن كان أراد هذه الطريقة (فلها ذكر وجه وإن لم يرده فيما أعلم له وجهًا على أصل هذا المذهب) (¬1). وقد أَتْبع كلامه على هذه المسألة بما يدفعنا بما ظننا به. وذلك أنه قال: ولو ادعى البائع أنه باع على الخيار لم يصدق. وهذا الذي ذكر في البيع هو مذهب ابن سحنون كما حكيناه، فكأنه بهذا يشير إلى التفرقة بين دعوى الخيار في الكفالله ودعوى الخيار في البيع. وهذا لا يظهر عندي للتفرقة فيه وجه واضح، ولو صرف بصرف الخيار إلى الرجوع عما أقر به فلا يختلف أن ذلك اشتراط ساقط، مثل أن يقول لرجل: قتلت ابنك، أو استهلكت مالك، وأنا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب وان لم يردها فما أعلم

بالخيار في رجوعي عن إقراري. فإن هذا الاشتراط ساقط، لأن الإقرار إخبار عن أمر لازم سبق وجوبَه التصريحُ بالإقرار له، وما تقضّى لا يُقدّر الآن موجوداً حتى يُخيَّر الإنسان فيه. فهذه النكتة توضح طريق الصواب في هذه المسائل، فإن صرف الخيار إلى الرجوع عن الإقرار (في حقوق إلى الخلق لا ينفع إلى حقوق الخالق ينفع اشتراطه) (¬1) إذا كان ذلك مما يجوز فيه الخيار. وعندنا أن اشتراط الخيار في الكفالة يجوز. ومنعه أصحاب الشافعي ورأوا اشتراط الخيار في الكفالة باطلاً. فلو قال: أتكفل بما لزيد على عمرو على أني بالخيار. لكانت هذه الكفالة ساقطة ذهاباً منهم إلى أن الخيار عذر وإنما رخص في اشتراطه في البياعات لمسيس الحاجة إليه لكون المشتري يفتقر إلى اختيار ما اشتراه والمشورة في بيعه، وكذلك البائع قد يفتقر إلى المشورة في ثمنه، فرُخّص لكل واحد منهما اشتراط الخيار لأجل هذه الضرورة، ولا ضرورة في اشتراط الخيار في الكفالة إذا كانت لا يرجع بها على المكفول لكون ذلك كالهبة منه والواهب لا ضرورة به إلى اشتراط الخيار. وقد قدمنا أن مذهبنا جواز اشتراط الخيار في الكفالة. وإليه ذهب أبو حنيفة، ورأى أن البياعات إذا جاز اشتراط الخيار فيها عن كونها عقود معاوضة والغرر يجب أن ينفى عن عقود المعاوضة، فأحرى أن يجوز اشتراط الخيار فيما لا معاوضة فيه. وإن وقع الاختلاف بين الكفيل والمكفول له هل وقعت الكفالة بشرط الخيار أم لا؟ فإن لأصحاب الشافعي في هذا قولين: أحدهما: تصديق من ادعى وقوعها بغير شرط. والثاني: تصديق المُكفِّل في أنه اشترط الخيار. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في حقوق الخلق لا ينفع، وفي حقوق الخالق ...

وقد قدمنا نحن في كتاب البيوع الكلام على اختلاف المتبايعين في مثل هذا المعنى، وعلى اختلافهما في دعوى الخيار في عقود البيع. وبالحملة فإن المقر بشيء إذا وصل قولَه بصفة لا تحل (¬1) الصفة إمّا أن تكون تقييدًا ببعض أوصافه، أو رفعًا لبعض عدد جملته، أو رفعًا للكلية من الجهة التي منها ثبت أو دفعا له بالكلية من غير الجهة التي منها ثبت. فمثال الصانة في الإقرار بتقييد بعض أوصافه قول الإنسان: لزيد عندي مائة دينار من سكة كذا. فإن هذا لا يختلف في قبول هذا التقييد منه. ومثل رفع بعض عدد الجملة كقوله: له عندي مائة دينار إلا عشرة، أو استثنى أكثر العدد كقوله: له عندي مائة إلا تسع وتسعون. ومثال رفع الجملة من الجهة التي فنها ثبت الإقرار كقوله: عندي ألف درهم إلا ألف درهم، وأنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا. فإن الاتفاق على أن الاستثناء في الطلاق لا ينفع لكونه رفع جملة ما أثبت، فيصير الكلام متناقضًا غير مقيد. وكذلك في استثناء جملة المال. وإن كان الإقرار يرفع الكل من غير جهة ثبوته مثل قوله: له عندي مائة دينار قبضتها (¬2) له. فإن أصحاب الشافعي صرحوا بأن مذهبهم على قولين في هذا. وعندنا أنه لا يقبل دعواه القضاء من غير خلاف منصوص. وإن كان بعض الأشياخ حاول تخريج خلاف فيه على أصل أشهب، وتردد في ذلك. وقد تقدم كلامنا عليه. وكذلك عند أصحاب الشافعي قولان منصوصان أيضًا فيمن قال: له عندي مائة درهم من ثمن خمر أو خنزير. فإن هذا كله باب واحد عندهم، وهو يرفع جملة ما أقر به من غير جهة ثبوته. وهذه المسائل قد تكلمنا نحن عليها وعلى أصولها في كتاب البيوع. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تخلُو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقبضها.

والجواب عن السؤال العشرون أن يقال: لا يخلو المقر بعدد إذا كرر الإقرار: إما أن يكرره بمثل العدد الأول، أو بخلافه. فإن كرره بمثل العدد الأول، مثل أن يقول: لزيد عندي مائة دينار، يقول هذا يوم السبت، ثم يصبح فيقول: لزيد عندي مائة درهم (¬1) فهل يحمل هذا على تكرير العدد فيلزم بمائتي دينار: المائة الأولى التي أقر بها يوم السبت والثانية التي أقر بها يوم الأحد، أو يلزمه مائة واحدة، ويلزم (¬2) التكرير على التأكيد؟ عندنا أنه يحمل على التأكيد دون التعديد إذا زعم المقر أن ذلك مراده. ولم يقع في المذهب عندنا تصريح بخلاف هذا القول. وقد أشار ابن سحنون إلى ما ذكرناه من اتفاق أهل مذهبنا على هذا، وهو الذي ينصره البغداديون من أصحابنا ويضيفونه إلى مالك رحمه الله تعالى. وإن كان قد ذكر ابن سحنون ما رمز به إلى أن هذا مختلف فيه عندنا فقال، في غير كتاب الإقرار من كتابه،: اضطرب قول مالك في هذا وآخر قوله: إنه إنما تلزمه مائة دينار واحدة، وحمل (¬3) على التكرير على قصد التأكيد لا على قصد التجديد. وهذا الذي أشار إليه ابن سحنون من اضطراب قول مالك يقتضي أنه أشار مرة إلى حمل ذلك على التعديد وإن المقر تلزمه مائتان، وهو مذهب أبي حنيفة. لكن أبا حنيفة استثنى في مذهبه نوعأواحدًا من الإقرار وهو أن يقع التكرير في مجلس الحكم، مثل رجل أشهد على نفسه يوم السبت بأن لزيد قِبَله مائة دينار، ثم رفعه زيد إلى القاضي فأقر عند القاضي بمائة دينار، ثم زعم أنه إنما أراد بما أقر به المائة التي كان أشهد بها. فإن أبا حنيفة صدق المقِر في هذا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دينار. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحمل. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف على.

النوع من الإقرار خاصة، وحمل ما سواه من تكرار الإقرار على أن المراد به عددان اثنان، ولم يصدقه في قصد التكرير إلى التأكيد. وصاحباه محمَّد وأبو يوسف صارا إلى ما صرنا إليه، وخالفاه في مذهبه هذا. وهو إنما استثنى هذه المسألة من الإقرارات استحسانًا، وإلا فهو يسلم أن القياس أن تجري مجرى أخواتها. وكأنه رأى أنه مضطر إلى الاعتراف بين يدي القاضي لما سأله المَاضي، فصارت ضرورة إلى ذلك، وإكرامه (¬1) على أن يجيب عن السؤال كقرينة حال تصدقه في أنه إنما أقر بما تقدم إشهاده به. ونحن لا نفرق بين سائر المجالس في هذا سواء كانت عند الحاكم أو عند غيره، بناءً على أن الأصول تقتضي حمل كل لفظة على فائدة مجدَّدة، وعلى هذا أتى لسان العرب أنها إنما تتكلم بالكلام المفيد ولا تجدد كلمة واحدة إلا لفائدة مجَدّدة. وهذا يقتضي أن قوله: يوم السبت مائة دينار، يفيد عمارة ذمته بمائة دينار، ثم قوله بعد ذلك: لزيد عندي مائة دينار تفيد مائة أخرى، وإلا لو أفادت الأولى بعينها لم تكن لهذه اللفظة فائدة. وهذه المسألة تنظر إلى اختلاف أهل الأصول في تكرير الأمر بالفعل الواحد، مثل أن يقول الباري سبحانه لرجل "صلّ صلّ" فإن الأصوليين مختلفون هل يحمل ذلك على صلاتين، أو صلاة واحدة ويكون التكرير للتأكيد. ومنهم من وقف بين هذين. المذهبين ورأى أن هذا اللفظ محتمل لهما. وكذلك إذا قال لزوجته: أنت طالق طالق، وأشهد رجلين على قوله لها: إنها طالق. ثم أشهد آخر بمثل هذا اللفظ، ثم أشهد آخر بمثل هذا اللفظ، فإن ذلك يحمل على ثلاثة تطليقات. وقد اختلف إشارات أهل المذهب إلى هذا الذي ذكرناه في مسألة الطلاق: هل يجري تكرير الإقرار بالمال مجرى التكرير بالطلاق أم لا؟ فظاهر ما أشار إليه ابن القاسم أنهما شيئان وحكمهما واحد. وأشار ابن القصار إلى خلاف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإكراهه

هذا الرأي، ورأى أن الطلاق، وإن حمل. على التعديد، فإن الإقرار بالمال لا يجب حمله على التعديد. واعتل بأن الطلاق إيقاع لا إخبار، والإقرار بالمال إخبار، والإخبار يصلح فيه التعديد والتأكيد. وإذا احتمل ذلك لم يلزم التعديد بأمر محتمل. والطلاق إيقاع، وحكم الإيقاع يقتضي التعديد. وقد ذكر ابن شعبان في مختصره عن مالك فيمن أشهد رجلًا بأن قال: امرأتي طالق، ثم آخر، ثم آخر، فإنه يصدق في دعواه إرادة التأكيد. وبعض أشياخي يميل إلى ما ذكره ابن القاسم، ويرى أن قوله: أنت طالق ليس بإيقاع بل هو كالإخبار، والمراد بقوله: أنت طالق أي أنت ذات طلاق. هكذا يقول أهل اللغة إن قول الرجل: امرأتي طالق، المراد به أنها ذات طلاق كما قالوا: رجل لابن، أي ذو لبن، رجل تأمر، أي ذو تمر. وهذا، إذا ثبت عن اللغة صار الطلاق معنى الإخبار، فلم يفترق الحكم كما أشار إليه ابن القاسم. وهكذا على ما ذكرناه عن ابن القصار يجري القول في تكرير الأمر بفعل واحد، فإن قوله "صلّ" يقتضي إيقاع الفعل، وكذلك قوله الثاني، فلا بد من إيقاعين بخلاف قوله: له عندي مائة دينار، ثم بعد ذلك قال: له عندي مائه دينار. والجواب عن السؤال الحادي والعشرين أن يقال: قد قدمنا في صدر كتاب الإقرار جملة، منها يؤخذ حكم هذه المسألة وأخواتها. وذكرنا أن الألفاظ الواقعة من المقر تؤخذ معرفة معناها من اللغة أو عرف الاستعمال. وهكذا الأمر ها هنا في البراءة، إذا وقعت، فإنه يعتبر لفظ الذي أبرأ هل هو تصريح في سائر المطالب أو محتمل؟ فما كان تصريحًا لم يصدق في دعواه خلافَ ما اقتضاه النصر والتصريح. وما كان محتملًا فالقول قوله فيه وفيما أراد بما قال. فإذا قال رجل: مالي قِبَل زيد حق. فإن ذلك يحمل على أنه أبرأه من سائر

الحقوق، وكانت الديون في ذمته أو أمانة عنده. وإذا قال: مالي عنده حق، فالأمر عندنا كذلك يحمل على (¬1) هذا القول على الإبراء من الديون والأمانات كقوله: مالي قبله حق. وإن قال: مالي عليه حق. فاختلف سحنون واينه في هذه المسألة. فرأى سحنون أن هذا الإبراء يعمّ سائر المطالب، ديونًا كانت أو أمانات، وحكمها حكم اللفظين المتقدمين، وهي قوله "قِبَله" أو "عنده". ورأى محمَّد ابنه أن ذلك إنما يحمل على ما كان مضمونًا كالديون والعواري المضمونة. وعندي أن سحنونًا إنما عول على أن لفظة "على" تقتضي ما وجب؛ والذي يجب هو المضمونات والوديعة والقراض، يلزم (¬2) ردها. فصار ردها لما أن كان واجبًا على الإنسان دخل ذلك في قوله: "لي عليه". ورأى ابن سحنون أن هذا اللفظ إنما ينصرف إلى نفس المال لا إلى رده، فقيس (¬3) الوديعة ليست على المودَع، وإن كأنه عليه أن يردّها. فوجب عنده حمل هذا القول على الديون والمضمونات، دون ما سوى ذلك من الأمانات كالوديعة والقراض. ومذهب أبي حنيفة كمذهب ابن سحنون في أن قوله: "لي عليه" إنما يحمل على الديون دون الأمانات. وخالفَنا في قوله: "لي عنده"، فحمَله على الأمانات خاصة، وهذا الذي دعاه إلى التفرقة بين قوله "لي عنده" و"لي عليه" فحمل قوله: لي عنده، على الأمانات، وحمله قولَه: لي عليه، على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف على. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: [فـ]ـيلزم. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فنفْس.

المضمونات، إنما رأى لفظة "عندي" لا يشار بها إلا إلى معتن، والديون غير وعندنا أنه يشار بها إلى ما كان حاضرًا عند المطلوب، وإلى ما كان في ذمته. والحق في هذا اتباع ما قدمناه من الالتفات من المراد بهذه الألفاظ في حكم اللغة أو في حكم الاستعمال أو عرف التخاطب. والجواب عن السؤال الثاني والعشرين أن يقال: كان مقتضى الترتيب عندنا أن يجمع إقرار المريض بحق لأحد ورثته، وإقرار المفلس لغريم، مع هذه المسألة وهي إقرار أحد الورثة بوارث، لأنها إقرارات تتضمن سقوط من ثبت له حق. ولكنا لما كنا توخينا ترتيب المدونة تكلمنا على إقرار المريض لأحد ورثته، وإقرار المفلس لغريم، فمِما أمليناه من كتاب التفليس والمديان. وكذلك ما تقدم كلامنا على إقرار أحد الورثة بدين على الميت الموروث. فاعلم أن إقرار الوارث بوارث آخر، لا يخلو هذا الإقرار من أن يكون يمَطابق عليه جميع الورثة، وهم واحد أو جماعة، أو مختلفون فيه: فمنهم المصدق للمقر بزيادة وارث يدخل معهم، ومنهم المكذب. وإحدى الصُّوَر في ذلك أن يموت رجل ويخلف ابنين، فيقول أحد الابنين لرجل آخر إنه ابن لأبيهما وإنه أخوهما، ويخالفه في ذلك الابن الآخر. فهذا يتعلق به حكمان: أحدهما: ثبوت نسب هذا الطارئ الذي أقرّ له أحد الولدين بحكم (¬1) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذفها.

بكونه ابنا للميت، كما أن الولدين الثابتي النسب أباه (¬1) جميعًا. والحكم الثاني: مشاركة المقَرّ له لهذا المقِر ما في يده من المال الذي أخذه بالميراث. فأفا إثبات النسب حتى يُقضى بكونه ابنًا للميت فلا سبيل إليه، ولا خلاف وأمّا المشاركة في المال للمقر فذلك مما اختلف الناس فيه. فمنع ذلك الشافعي وأصحابه وبه قال ابن سيرين. ولم يختلفوا في هذا. وأثبت المشاركة مالك وأبو حنيفة. وبذلك قال عثمان البتي وابن أبي ليلى. وينبغي أن نستفتح النظر في هذه المسألة، بأن نلحظها بكونها من المعاوضات المشكلات عند بعض الحذاق من أئمة أهل النظر. والنكتة التي وقع الإشكال بسببها أن إقرار أحد الولدين يكون هذا الرجل الثالث ابن أبيهما إقرار بلفظ وبمعنى واحد وهو ثبوت النسب. وأمّا الحكم الآخر، وهو المشاركة في الميراث للمقر، فهو فرع عن ثبوت النسب، وكأنّ النسب مقدمة ونتيجتها الميراث. فإذا كان النسب مما لا يجري أو (¬2) لا يقبل التبعيض حتى يكون نسبا من جهة وليس بنسب من جهة أخرى، ويبطل ثبوت النسب بهذا الإقرار باتفاق، وجب أن يبطل ما تفرع عنه وكان نتيجة له. ولا شك في أن بطلان الأصل يبطل به الفرع. وكذلك بطلان المقدمة ييطل النتيجة. وهذا أصل مقرر معقول. ومقتضاه صحة ما قال الشافعي من أن هذا المقر لا يُنزع من يده شيء مما ورث للمقَر له، لبطلان ثبوت نسب هذا المقر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبُوهم. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا يُجزّأ وَ ...

له، وهذا يقتضي بطلان ما تفرع عنه وهو الميراث. فهذا المعنى هو الذي يلحظه من صَار إلى مذهب الشافعي. فأمّا من صار إلى مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة فإنهم يلحظون المسألة من جهة أخرى. وذلك أنه قد تقرر أيضًا في أصول الشرع أن من أقر على نفسه أُخِذ بما أقر به بغير خلاف، ومن أقر على غيره لبم يؤخذ الغير بإقرار هذا عنه. فإذن حكم كل واحد من هذين الإقرارين متفق عليه، فيجب أن يجري الإقرار الواحد الذي يتعلق به حكمان مجراهما لو انفرد كل واحد منهما وتجرد عن صاحبه، فلا يقتضي ثبوتَ النسب لأنه إقرار على الغير. وهذا المقر إنما قال: إن أبي وَلَدَ هذا، فذلك إقرار على أبيه فلا ينفذ إقراره على غيره. وقد تضمن هذا الإقرار أنه معترف بأن هذا المقَر له يستحق مشاركته في ما في يده، وذلك إقرار منه على نفسه، فوجب أن يقضى عليه به، كما لو انفرد هذا الإقرار. فكأن المذهب أعطى كل واحد من الإقرارين المرتبطين حكمَه لو انفرد دون ما قُرِن به. والمذهب الأول بناه على أن الإقرارين المرتبطين إذا بطل أحدهما بطل ما اقترن به مما لا يصح إلا بصحته. فهذا سيب الإشكال لما أريناك .. وصور الشافعي هذه النكتة بصورة أخرى فقال: إذا قُضي على المقر بحق عليه، لأجل هذا الإقرار، وجب أيضًا أن يقضى بمالَه من حق تضمنه هذا الإقرار. والمراد بهذه الإشارة أن إقراره هذا إذا ألزمه ذلك أن يسلم يعض ما في يده فيجب أيضًا أن يقضى له بأخذ ما في يد غيره بمقتضى هذا الإقرار، حتى إذا مات المقَر له وله أخوة ثابِتُو النسب فيجب أن يشاركهم هذا المقر فيما في أيديهم من المال الذي ورثوه عن هذا المقر له. وليس لأحد أن يورّث رجلًا بالنسب وله نسب ثابت يقتضي رفع حكم هذا الإقرار. ويرجح مذهبه من صار إليه (¬1) تبعيض هذا الإقرار، وأعطى كل واحد من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلى.

الإقرارين حكم نفسه، لو انفرد، بمُثلُ يقر بها فيقول: لو قال رجل لزوجته: طلقتك على مائة دينار التزمتِها. فأنكرتْ المرأة ذلك، فإن الطلاق واقع، والمال ساقط. فقد تبعّض هذا الإقرار، وهو شيء واحد، فسقط منه دعواه على غيره. بالمائة دينار، وثبت منه إقراره على نفسه بالطلاق. وكذلك يجب ثبوت المشاركة في الميراث للمقر وإن سقط النسب. وكذلك في العتق لو أقر بالعتق وادعى على العبد بأنه أعتقه على مال. وكذلك لو أقر بأنه باع عبدًا من رجل سلمه إليه فأعتقه مشتريه وأنكر المدعى عليه الشراء والعتق، فإن العتق لا يرد (للاعتراف ومالك) (¬1) العبد بأنه صار حرًا وذلك إقرار على نفسه، ولا يقبل قوله في دعواه البيع لأنه إقرار على غيره ودعوى عليه. وكذلك لو أقر بأنه ضمن لرجل دينًا له على رجل فأنكر المدعى عليه بالدين أن يكون عليه دين، فإنّ الضمان لا يِسقط، عن (¬2) بعض من صار إلى هذه الطريقة. وكذلك لو أقر لامرأة بأنها أخت له فإن نسبها لا يثبت من أبيه لكونه إقرارًا على غيره، ولكن هذا النسب وإن سقط فإن التحريم ثابت عليه، ولا يحل له أن يتزوجها طردًا للأصل فإنه يؤخذ بإقراره على نفسه ولا يؤخذ غيره بإقراره عليه. فقد علم: التحريم إنما يثبت في هذه المرأة فرعًا عن ثبوت النسب، والنسب لم يثبت وهو أصل التحريم، والفرع عنه وهو التحريم ثابت، فكذلك يجب أن يكون الحكم في إقرار أحد الولدين بولد ثالث. وكذلك لو ادعى رجل على رجل أنه اشترى منه شِقصًا في دار فأنكر المدعى عليه الشراء، فطلب الشفيع الشفعة بمقتضى إقرار المدعي أن ملكه انتقل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لاعتراف مالك ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عند.

انتقالًا يوجب الشفعة، (فيطلب دعواه على المشتري وثبت عليه الشفعة) (¬1) لكون ذلك إقرارًا على نفسه بحق الشفيع، على رأي بعض أصحاب الشافعي، وهو الأصح عندهم في هذه المسألة. وإن كان أبو العباس بن سُريج من الشافعية طرد الأصل، وأسقط الشفعة ها هنا فلا تلزمه مناقضة. وكذلك طرد الأصل من الشافعية القاضي حسين فلم يحرم على المقر المرأة التي أقر بأنها أخته، فرد إقراره بنسبها، فتبع ذلك التحريم فلم تلزمه. واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذه المناقضات بهذه المسائل بأن الطلاق والعتاق (يجوز أن يغير عوضًا) (¬2)، ويثبتان. فصار العوض فيهما غير مرتبي بالطلاق كارتباط الميراث بالنسب. فإذا لم يثبت الارتباط في الطلاق والعتاق مع العقد، صار المقر بالطلاق والعتاق مدعيًا في مال ليس من شرطه أن يرتبط بغيره. وكذلك دعواه على رجل أنه اشترى منه عبدًا فأعتقه، فإنه أقر بأن هذا المشتَرَى قد أتلفه مشتريه بالعتق، والتألف لا سبيل إلى رده، بخلاف الولد أقر بثالث فإنه لم يتضمن إقرارخ أمر به قد تلف. ومسألة الشفعة يعتذر عنها من أصحاب الشافعي من قال بثبوتها بأن المقصود في دعوى البائع حصول الثمن وإلا فمالك الشقص قد أقر أنه خرج من يده، فإذا دفع له الشفيع الثمن حصل على غرضه فلا وجه لمنع الشفيع من الشفعة. ونحن، وإن قلنا بسقوط الشفعة، فإنا نعتذر أيضًا على المناقضة بها وبما ذهبنا إليه من مشاركة المقر له بالنسب للمقر فيها بيده بأن المدعي لبيع النصيب إذا حكم القاضي باستحلاف المدعى عليه، فقد حكم بإبطال الدعوى، وإذا حكم بإبطال هذه الدعوى سقطت الشفعة المبنية على الدعوى، ألا ترى أن الولد لو قال لرجل: أنت ابن أبينا. ومعلوم ضرورة أن الرجل المشار إليه بأنه أخوهم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فتبطل .... ، وتثبت ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يجوزان بغير عوض.

أسن من أبيهم وأمهم، فإن هذا الإقرار باطل ولا تجب مشاركة المقر للمقر له لتبيّن كذبه، والحكم بإبطال إقراره ودعواه. وقد أشار في المدونة إلى هذا التعليل في اختلاف المتبايعين في ثمن الشقص إذا تحالفا وتفاسخا، فإن الشفع لا يأخذ بالشفعة وإن دفع الثمن الذي ادعاه البائع. وأشار إلى أن التحالف يوجب رد البيع وما قُضِي برده فلا شفعة فيه. وممّا يرجح به مذهبه من قال بالمشاركة أيضًا أن من ادعى على رجل بدنانير أنه غصبه إياها، وقال المدعى عليه: بل هي وديعة عندي فخذها، فإنه يقضى عليه بتسليمها لمدعي الغصب، وإن كان مدعي الغصب قد أبطل الجهة والسبب الذي أوجب على المدعى عليه التسليم. ومما يعتمدون عليه أيضًا أن القضاء برد السبب (¬1) حكم في الظاهر. وإذا كان المقر يعلم قطعًا صحة ما أقر به لكونه عاين الولادة. وهذا الباطن لو صار ظاهرأوخرج إلى الوجود لوجبت المشاركة في الميراث بإجماع الأمة. فإذا كان يعلم صدقه باطنًا قطعًا. فصدقه بقطع منه على وجوب المشاركة، لم يسقط وما وجب وجوبًا قطعيًا، لما اقتضاه الحكم الظاهر الذي يعتقد مَنِ المال في يده أنه حكم باطل. وقد أشار بعض حذاق الأئمة النظار، إلى كشف سرّ من هذه الأسرار، وهو أن مجرد السبب (1) وإن قطع عليه، أنه لا يوجب بمجرده التوارث حتى تنضم إليه الموالاة التي يقتضيها السبب (1). ألا ترى أن الأخ الكافر لا يرث أخاه المسلم، وإن كان يُعلم قطعًا أنهما أخوان، لأن اختلاف الدينين أوجب التقاطع. وكذلك العبد المملوك لا يرث أباه، لاستحقاق سيده جملة منافعه، فصار ذلك كالمعدوم في حق أبيه، والعدم لا يتصور فيه موالاة. وكذلك لو كان أبوه عبدًا قد خلع رقُّه الموالاةَ، فلم يكن للنسب تأثير في وجوب الميراث. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: النسب.

وهذا المقر وإن علم في الباطن أن هذا المقر له أخوه فإن كون الظاهر بخلاف ذلك يوجب عدم الموالاة. فحصل من هذا أن مجرد النسب والقرابة لا يوجب التوارث إلا أن تنضم إليه علة أخرى وهي الموالاة. فلهذا لم نغلب ها هنا حكم الباطن على الظاهر لعدم العلة الأخرى وهي الموالاة. وأما التخريج بطريقة ثبوت النسب، ولا يشترط فيه الموالاة، ولهذا تحرم على المسلم ابنته الكافرة، وإن لم يكن بينها وبينه موالاة. وهذا يرد ما حكيناه عن القاضي حسين من اقتحامه على تحليل المقر لها بأنها أخت. وإذا تقرر حكم إقرار بعض الورثة بوارث، وخالفه من سواه من الورثة، وتقرر ما ذكرناه من الاتفاق على أن نسب المقر له لا يثبت، وأن الشافعي لما رأى الاتفاق على نفي النسب ألحق به نفي المشاركة في الميراث للمقر. وأن مالكًا وأبا حنيفة، وإن لم يثبتا النسب، فإنهما أثبتا المشاركة في الميراث. ولكن اختلفوا في صفة المشاركة فعند أبي حنيفة أنها تكون للمساواة (¬1)، فيعطي المقر للمقر له نصف ما في يده، حتى كأنه لم يرث أباهما سواهما. ويقدر من ذهب إلى هذا المذهب أن الذي أخذه الجاحد النسب كأنه لم يكن من التركة، وكأنه جائحة وظلمه على المقر والمقر له نصفانْ، والذي في يد المقر يكون بينهما نصفين. وأشار بعض أصحابنا إلى هذه الطريقة. والمشهور من مذهبنا أن المقر يعطي للمقر له العدل. ويقر أن الولدين إذا أقر أحدهما بولد ثالث وجحد الآخر فإن المقَر له إنما يستحق ثلث التركة، وثلثها نصف ما في يد المقر ونصف ما في يد الجاحد، فالذي في يد الجاحد كأنه إنما غصبه للمقَر له فلا يلزم المقَر أن يغرَمه عن الغاصب. وقد قيل: إن هذا النصيب الذي هو نصف الثلث يكون نصف (¬2) المقر له والنصف الآخر لبقية الورثة الجاحدين. وكأن من ذهب إلى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالمساواه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نصفه للمقَر.

أن (¬1) هذا يرى أنه إذا كان الواجب أن يقضى على المقر بما فضل في يده على نصيبه الذي يستحقه لو قسمت التركة أثلاثًا فكأن محصول إقراره التبري منه، واعتقاده أنه لا يستحق فيه ميراثًا. فإذا أنس عن نفسه مِلك هذا النصيب صار المقَر له يدعيه، وبقية الورثة الجاحدين يقولون: ليس لك فيه شيء، قيقسم ذلك بين المقرَ له وبين الورثة الجاحدين. وهذا أضعف المذاهب، ولا يتُصوّر له عندي وجه سوى ما ذكرته. ويرد الجميع على الشافعي في إنكاره أن يستحق المقَر له شيئًا بما قدمناه من أنه إقرار يتبعض، بعضه يجب أن يمضي، كقول بعض (¬2) المقر: يعض هذا المال الذي في يدي لزيد، فلأنه يقتضي إبطال الإقرار لزيد كما لو أقر لزيد على أبيه وأنكر ذلك بقية الورثة، وقد قدمنا جوابه عن هذا أيضًا. هذا حكم إقرار بعض الورثة لرجل بالنسب وإكذاب بقيتهم له. وأما القسم الثاني وهو أن يتفق جميع من يستحق التركة على الإقرار بالنسب، فلا يخلو أن يكون المستحق للتركة جماعة، اثنان فصاعدًا، أو واحد. فإن كانوا جماعة فلم يختلف عن الشافعي وأبي حنيفة في ثبوت نسب المقَر له باتفاقهم على الإقرار. وأما نحن فلا نحفظ عن مالك نصًا نجليًا في إثبات النسب، ولكنه تجب المشاركة في المال، على حسب ما قدمناه. لكن ابن القصار، من أصحابنا، لما ذكر المذاهب، وحاج المخالفين، (يكون تكرر كلامه هذا السؤال) (¬3) في أثناء معاريض تعرض إليها، فاقتضى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف أن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعض. (¬3) هكذا في النسختين.

كلامه أنه سلّم أن مذهبنا كما حكيناه عن الشافعي وأبي حنيفة من كون النسب يثبت بإقرار من يحيط بجميع التركة إذا كان المحيط بها اثنين فصاعدًا. وأشار بعض الأشياخ إلى إبعاد هذا عن أصول المذهب. وسلم ابن القصار أن المحيط بالتركة إذا كان رجلًا واحدًا فإنه يشارك في الميراث ولا يثبت نسبه. ومَرّ في ذلك على أصل المذهب الذي قدمناه في الفصل الأول، وإليه ذهب محمَّد بن الحسن فرأى أن المشاركة تثبت بإقرار الواحد المستحق لجميع التركة، ولا يثبت النسب. ولكنه تثبت (¬1) النسب وإذا (¬2) كان المقرون جماعة استحقوا جميع التركة. وهذا المذهب المشهور عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة رواية أخرى وهي إثبات النسب والمشاركة في الميراث إذا أقر من يحيط باستحقاق التركة كلها، واحدًا كان هذا المستحق لجميع التركة أو جماعة. وبه قال صاحبه أبو حنيفة (¬3). وإليه ذهب الشافعي وذهب بعض الناس إلى أنه لا يثبت النسب كان المقر بهذا النسب واحدًا أو جماعة. وهذا المذهب لا أحفظ الآن من ذهب إليه. فيعتمد الشافعي وأبو حنيفة، في الرواية المشهورة عنه، التفرقة بين إقرار الواحد المحيط بالتركة وإقرار الجماعة بأن شهادة الواحد بالنسب لا تقبل، فإقراره على غيره أحرى ألا يقبل، لكون الشهادة على الغير أقوى من الإقرار عنه. فلو شهد رجلان على رجل، وهما عدلان، لقضي عنيه. ولو ذَكَرَا ذلك على جهة الخبر عنه لم يقض بذلك عليه. وإذا شهد عدلان فأكثر منهما قضي بشهادتهما، فكذلك إذا أقر (¬4) بالنسب جرى إقرارهما مجرى شهادة العدول، فقبل ذلك من إقرارهما، وإن لم يكونا عدلين، إذا أحاطا بالتركة، لأنهما إذا أحاطا بها حلاّ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَثْبت. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف الواو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صاحبه أبو يوسف. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقرَّا.

محل الميت المضاف إليه الميت (¬1)، والميت الذي أضاف (¬2) إليه النسب إذا استلحق ولدًا ثالثًا قُبِل ذلك منه، فكذلك تقبل من ولديه المستحقين لجميع ما ترك. وسلم أصحاب الشافعي ما قلناه عن كون الشهادة عن الغير أقوى من الإقرار عنه إلا في هذا السؤال فإنهم قالوا: الإقرار ها هنا آكد من الشهادة، لأن جميع الورثة يقبل منهم إذا أقروا، ولا يقبل في ذلك شهادة غير العدول، ممن لا يرث وتقبل شهادة جميع الورثة، وإن لم يكونوا عدولًا. ويعتمد من ينكر إلحاق النسب بمجود إقرار من يحيط بالتركة على أن الولاء كالنسب، كما تقرر في الشرع. ثم إقرار الورثة بالولاء يوجب ثبوتَه في حق غيرهم، فكذلك الإقرار بالنسب. ويطعن في قياس إقرار الوارث الواحد المحيط بالتركة على استلحاق الميت بنفسه، فإن للميت أن يستلحق النسب، وله أن ينفيه عن نفسه باللعان، وليس ذلك لورثته. ويُنفَصل عن هذا بأن استلحاق جميع الورثة يُتصور، ولا يتصور نفي جميعهم لأن الورثة إذا نفوا حمل امرأة، فليسوا حين النفي بجميع الورثة، لكان (¬3) ما في بطن الزوجة أحد الورثة، فيستحيل مع هذا أن يتصور تطابق جميع الورثة على النفي والمنافي أحدهم، فلا يقبل دعواهم عليه. والأب يتصور فيه الاستلحاق والنفي فلهذا تساويا في حقه. واعتمد الشافعي في نصرة مذهبه في إلحاق النسب بإقرار من يحيط بالتركة، واحدًا كان أو جماعة، بحديث عبد بن زمعة، وذلك: أن زمعة كانت له وليدة، فلما أن مات تحاكم فيه ابن سيد هذه الوليدة واسمه عبد فقال: هو أخي ولد على فراش أبي، وقال سعد بن أبي وقاص: أخي عتبة بن أبي وقاص عهد أنه أَلمّ بهذه الوليدة في الجاهلية، وأن الولد ولده. فقال - صلى الله عليه وسلم - لما تحاكما إليه: ¬

_ (¬1) هكذا في النسمختين، ولعل الصواب: النسب. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أضافا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأنّ.

"هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر" (¬1) فاعتمد الشافعي على هذا الحديث وجعله حجة في ثبوت النسب باستلحاق الواحد المحيط بالتركة، كما ألحقه عليه السلام ها هنا بزمعة، ولم يدّعه إلا وحده. ودُوفِع عن هذا بمدافعات: أحدها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعول في القصة على مجرد استلحاق هذا الواحد الذي هو عبد. وإنما عوّل على الفراش، فذكر أن الحكم أنه لعبد، وأشار إلى علة الحكم فقال: "الولد للفراش" يريد: ولأجل هذا قضيت لك به يا عبد. ويجاوب عن هذا بأن الفراش لم يكلف النبي عليه السلام عبدًا إثباتَه، بل ظاهر الحديث أنه عوّل فيه على مجرد قوله، ولا فرق بين أن ينفرد الواحد بالإقرار بسبب النسب وهو (¬2) الفراش. والانفصال عن هذا: إلا أن يدعى أن الفراش اشتهر اشتهارًا استغني به عن طلب إثباته. ودفع الشافعي أيضًا عن احتجاجه بهذا الحديث لم يرد على قوله: "هو لك يا عبدبن زمعة" بيان هل لعبدبن زمعة ملك، لكونه ولدته أمة أبيه فهي وولدها عبيد لمن ورث زمعةَ وهو ولده عبدٌ، أو أراد هو لك أخ. والأظهر أنه أراد: هو لك عبد لأن هذه اللأَمَ تقتضي الملك، كما يقال هذا الغلام لزيد. وأجيبوا عن هذا الاعتذار بأن أبا داود قال في رواية هذا الحديث: ليس هو لك بأخ (¬3). فلا يلتفت إلى روايتهم: ليس هو لك بأخ (¬4). قال أصحاب الشافعي: لم يَرْوِ هذه الرواية عدْل ولا ضعيف، مع أن التعليل يقتضي إن (¬5) ¬

_ (¬1) الموطأ: كتاب الأقضية: القضاء بإلحاق الولد بأبيه: 2/ 283، حد: 2157. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو. (¬3) مختصرًا بي داود: 3/ 183، باب: الولد للفراش، حد: 2178. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: هو لك. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّه.

أراد: هو لك أخ، ولم يُرد: أنه لك ملك، لأن الفراش لا يدل على الملك، ألا ترى أن رجلًا لو تزوج أمة رجل فولدت، فإن الولد ملك لسيدها لا لزوجها الذي هو صاحب الفراش، وإنما لزوجها النسب لأجل الفراش ورواية من روى "هو لك عبدٌ" لا يجب حملها على أن المراد: أنه لك يا عبدُ بن زمعة عبدٌ مملوك. ولأن المخاطَب لم يصرح - صلى الله عليه وسلم - باسمه، وإنما أراد إخباره بأن هذا الوليد لك عبدٌ مملوك، لأنه لا يصح أن يكون المراد: هو لك يا عبدٌ، بحذف حرف النداء، وهو شائع في لسان العرب، قال الله تعالى خبر عن مخاطبٍ: {يوُسُفُ أَعْرِض عَن هَذَا} (¬1) والمراد: يا يوسف. ودُوفع الشافعي أيضًا عن هذا الحديث، بأن عبدًا لم يكن جميعَ ورثة زمعة، بل كانت أخته سودة تشاركه. وإذا أقر بعض الورثة فلا يختلف في أن النسب لا يلحق. ويجاوب عن هذا بأن سودة كانت مسلمة، وكان زمعة أبوها مات كافرًا ووُلد عبدٌ حينئذ على دين أبيه، فلا تستحق سودة مشاركته في الميراث، إذ لا يرث المسلم الكاَفر، فصار عبدٌ هو المحيط بجميع التركة. ودوفع الشافعي أيضًا، عن احتجاجه بالحديث بأنه عليه السلام: أمرها أن تحتجب من عبد (¬2) فلو قضى بأنه أخوها لم تحتجب منه، إذ لا تحتجب المرأة من أخيها. فدلّ ذلك على أنه لم يقض بلحوق ابن زمعة نسبًا. وأجاب الشافعي عن هذا بأنه قد كانت آية الحجاب قد نزلت، وحكمه مشهور، فلو كان الحجاب الذي أمرها به لكونه (احسا منها) (¬3) لما احتاج إلى إعادته. ¬

_ (¬1) يوسف: 29. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: من أخ عبد. (¬3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب أجنبيا منها.

كتاب الحمالة

كتاب الحمالة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمَّد وسلم قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وأما الحمالة فمعناها شغل ذمة أخرى بالحق. ومعناها ومعنى الكفالة والزعامة والضمان واحد. ولا تصح إلا بحق يمكن استيفاؤه من الضامن، أو بما يتضمن ذلك كالكفالة بالوجه لمن عليه مال تصح الكفالة بما عليه. فإن جاء الكفيل به برىء. وإن لم يأت به لزمه ما عليه، إلا أن يشترط أنه لا يلزمه إلا إحضاره فقط، فلا يلزمه شيء من المال، الآن (¬1) بموت المتكفل به فلا يلزم الكفيل شيء شرط أو لم يشترط. وتصح في المعلوم والمجهول وقبل وجوب الحق وبعده، وعن الميت والحي. وإذا كانت بالمال لم يُبرىءْ الضمينَ إحضارُ الغريم. وإذا كانت بالوجه برئ بأي الأمرين كان. وللطالب أخذ الضمين عند تعذر أخذ الحق من الغريم، وفيه مع القدرة على الغريم خلاف. قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل عشرون سؤالا، منها أن يقال: ¬

_ (¬1) في الغاني، والمغربية: إلاّ أن يموت.

1) ما حقيقة الحمالة في البغة والشرع؟ 2) وما الدليل على جوازها؟ 3) ومن تَصِحّ الحمالة عنه؟ 4) وما الذي تصح الحمالة به؟ 5) وهل تصح الحمالة بما لا يجب؟ 6) وهل تصح الحمالة على المحجور عليه؟ أو تصح الحمالة منه؟ 7) وما أنواع المتحمل به؟ 8) (¬1) 9) وهل يصح أن يؤخذ بالحميل حميل؟ 10) وهل تتوجه المطالبة على الحميك مع إمكان أخذ الدين من الغريم؟ 11) وهل يتوجه على الكفيل الطلب بمجرد إقرار المتكفل عنه؟ 12) وهل للكفيل أن يرجع على الكفالة (¬2)؟ 13) وما حكم الكفالة الممتنعة لعدم الإمكان؟ 14) وما حكم الكفالة الممنوعة شرعًا؟ 15) وما الحكم في أحد الحملاء إذا دفع أحدهم الدين بشاهد واحد؟ 16) وما الحكم في تداعي الحميل والمتحمل له؟ 17) وما الحكم في تأخير المتحمل له الغريم أو الحميل؟ (¬3) ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما الحكم في موت المتحمل به بالوجه؟ (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عن الكفالة. (¬3) سقط في النسختين، ما بعد السؤال السابع عشر. وسننبه على مفهوم السؤال الناقص عندما يورد الجواب عنه

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: الحمالة، في اللغة، والكفالة والضمانة والزعامة، كل ذلك بمعنى واحد. فتقول العرب: هذا كفيل وحميل وضمين وزعيم. هذه الأسماء هي المشهور استعماله (¬1) في اللغة. وتقول أيضًا: قبيل بمعنى ضمين قال تعالى: "أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلًا" (¬2): ففيه اختلاف بين المفسرين: فمنهم من ذهب إلى أن المراد بقولهم "قبيلًا" أي: متكفلين. وقد اختلف في اشتقاق الضمين: فقيل: هو من ضم ذمّة إلى ذمة: وقيل: هو مشتق من التضمين، فإذا قيل فيما يلزم الشيء: هذا يضمن كذا، بمعنى أنه، يلزمه إلزامًا لا ينفك عنة. وهذا المعنى يقرب من الأول لأن في ذلك أيضًا معنى انضمام الشيء إلى الشيء. والغرض بها في الشريعة الثقة بالحق كالغرض بالرهان. وهذا الذي ذكرناه في اشتقاق الضمانة إنما يصح على مذهب فقهاء الأمصار. وجمهور العلماء الذاهبين إلى أن الضمانة مخالفة للحوالة، وأن الكفالة والضمانة لا يبرأ بها من عليه الدين كما لا يبرأ من عليه الدين بدفع الرهن فيه. وإنما المراد أن يكون الحق في ذمتين، كما يراد بالرهن في الحقوق كون الحق في ذمة من عليه الدين وفي عين الرهن الذي دُفع فيه فكانت ذمة انضمت إلى ذمة، وكان ذمة تضمنت ذمة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استعمالها (¬2) الإسراء:92

وذهب ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو ثور وداوود إلى أن الدين يبرأ من هو عليه إذا تكفل به رجل عنه. ويمكن أن يبهون رأى أن الحق إذا كان واحدًا! فلا يكون الواحد في محلين، كما في الاجتماع: لا يكون جسْم في مكانين. وهذا لا يصح التشبيه فيه لأنه يعلم ضرورة استحالة كون الجسم في مكانين بخلاف الدين فإنه يصح أن يكون في ذمتين لأنه ليس بذات تفتقر إلى مكان تحل فيه. وإنما الغرض بالكفالة أن يكون الحق في ذمة، فإن تعذر استيفاؤه منها انتقل إلى ذمة أخرى، ولا يُستنكر انتقال الجسم من مكان إلى مكان. هذا على أحد القولين في الحميل لا مطابقة (¬1) عليه مع إمكان أخذ الحق من الغريم. وإنما تتوجه عليه المطالبة عند تعذر ذلك من الغريم: وعلى القول بتخيير صاحب الدين بين طلب ذمة الحميل فليس في ذلك أيضًا ما يستحيل، فكأنه خُيّر بين محلّين يستوي حقه من أيهما شاء، كما خير الله في كفارة اليمين بين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فأي الأمرين اختار المكلف فهو الواجب عليه، فكذلك من له الدين وله كفيل: أي الذمتين اختار طلبها فإن ذلك في حقه كالجالس في مكان يمكنه أن يختار (المنتقل منه إلى جهة اليمين أو من جهة الشمال) (¬2). والحوالة يُنمي اسمها عن تنقل الحق عن ذمة ومصيره في ذمة أخرى، كما يقال: تحول زيد من هذا المكان إلى هذا المكان. ومعناه خرج عن المكان الأول فصار في المكان الثاني. والضمانة بعكس هذا، لأنها تتضمن إضافة ذمة إلى ذمة. هذا سبب الخلاف من جهة المعنى المستند للعقليات. وأما سبب الخلاف من جهة الشرعيات فإن ابن أبي ليلى ومن وافقه يرون ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مطالبة (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التنقُّل منه ... أو إلى ...)

أن النبي عليه السلام اجتنب الصلاة على من مات وعليه دين ولا وفاء له، فلو كانت الحمالة لا تفيد براءة المتحمَّل عنه من الدين الذي عليه لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صلى على من عليه دين وإن كان قد تحمل به أبو قتادة (¬1)، إذ لا فرق بين أن يكون عليه الدين لغريمه الأول أو لمن صار غريمًا فالمحتمل (¬2) عنه. ويجاوبون عن هذا بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمتنع من الصلاة على من عليه دين إذا خلف وفاء. وإذا تُحمّل عن الميت صارت ذمة الحميل وماله كمال الميت فصار كمن مات وترك وفاء بالدين. وأما سبب الخلاف من جهة ألفاظ الحديث، فإن ابن أبي ليلى يقول: قد قال لعلي: جزاك الله عن الإِسلام خيرًا، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك. فلولا أن الدين يسقط عن الميت بالحمالة لم يصح التشبيه بأنه افتك الرهن. ويجابون عن هذا بأن المراد أنه فكه من امتناع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة عليه التي توجب له الجنة، فصار تحمّله الدين المقتضي صلاة النبي عليه كافتكاكه من هذه العقلة. وقد قال في الحديث: معلقة بدينه حتى يقضى عليه. وتعلقوا أيضًا بقوله في بعض طرق حديث أبي قتادة (¬3) عليك وقد يرى منه. وهذا يقتضي أنه يبرأ بالحمالة. ويجاب عن هذا بأن اللفظ ليس بخبر عن حكم الله تعالى، فإن الحمالة تبرىء من الديون وإنما المراد التزامه للدين. ولهذا أجابه أبو قتادة عن هذا بأن قال: نعم (¬4) لا يفتقر فيما أخبر به من الأحكام - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يقال: نعم. ويؤكد ¬

_ (¬1) حديث صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المديان ورد بعدة روايات كما سيأتي. انظر: البيهقي: السنن الكبرى: 6: 75 (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمتحمل (¬3) بياض بمقدار كلمتين في "و". وخمس كلمات في "مد" (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: وَ

هذا بأن أبا قتادة قضاه بعد يومين أو ثلاثة، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " الآن بَرَدَ جلده" فلو كان بنفس الحمالة برئ من الدين لكان جلده قد برد من وقت الحمالة ولم يقف ذلك على قضاء الدين عنه. وهذا واضح. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أمّا الدليل المعتمد عليه في جواز الحمالة فالكتاب والسنة مع الاتفاق على جوازها على الجملة. فأمّا الكتاب فقد قال تعالى: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬1). والمرادب "زعيم" كفيل كما قدمناه. فقد أثبت بهذه الآية الزعامة وهي الكفالة. وهذه كفالة بالمال. وقال في السورة بعينها: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ الله عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} (¬2). وهذه حمالة بالوجه، وهو أحد أقسام الحمالة على ما سنبينه بعد هذا إن شاء الله. وهذا الذي ذكر فيه الموثق والمعاهدة وإن لم يكن تصريحا بلفظ الحمالة ففيه معناها، ولكن هذا شرع من كان قبلنا. وإنما يكون هذا مما يعتمد عليه على مذهب من قال من الأصوليين: إن شرع من قبلنا نحن مخاطبون به إلا أن يأتي في شرعنا ما ينسخه. ولم يرد في شزعنا ما ينسخ جواز الحمالة بل ورد ما يؤكد جوازها. وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والمنحة مردودة والزعيم غارم (¬3) وقوله فيما رواه قبيصة "لا تحل الصدقة إلا لثلاث: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى ¬

_ (¬1) يوسف: 72 (¬2) يوسف: 66 (¬3) جزء من حديث. انظر: أبو داود: مختصر السنن: 5/ 199. حد: 3421

يؤديها (¬1) فجعله - صلى الله عليه وسلم - من الغارمين الذين تباح لهم الزكاة. ولولا أن الحمالة لزمته ما كان من الغارمين. وقد أباح الله تعالى الرهبان في الحقوق، ومعلوم أن ذلك القصد به الاستيثاق بالحق فلهذا جاز، فكذلك الحمالة. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: الكفالة تجوز عن الحي والميت والفقير والغني. هذا مذهمب الجمهور من فقهاء الأمصار. ولم يختلف أحد من أهل العلم من جواز الحمالة عن الحي موسرًا كان أو معسرًا، ولا في الحمالة عن الميت إذا مات موسرًا. وإنما اختلفوا في الحمالة عن الميت إذا مات معسرًا: فالجمهور على جواز الحمالة عنه، كما ذكرنا. وانفرد أبو حنيفة والثوري فمنعا ذلك. وصاحبا أبي حنيفة: محمَّد بن الحسن وأبو يوسف ذهبا إلى ما ذهب إليه الجمهور من جواز الحمالة على من مات معسرًا. ودليلنا على أبي حنيفة ما خرجه البخاري من حديث سلمة بن الأكوع أنه قال: أُتي النبي عليه السلام بجنازة، فقال:. أعليه دين؟، فقالوا: نعم فقال: هل ترك شيئًا؟ فقالوا: لا، فقال عليه السلام: صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة عليّ دينه، يا رسول الله. فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). هذا كالنص في جواز استئناف (¬3) الحمالة بدين، مات وهو عليه، وهو معسر. ¬

_ (¬1) جزء من حديث. انظر: أبو داود: مختصر السنن: 2/ 237 - 238 حد 1575 (¬2) فتح الباري: 5/ 380 (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استئناف الحمالة بمدين.

وهم يدافعون هذا بأن هذه ليست بحمالة، وإنما هو كالعِدَة وكالتبرع والتطوع بقضاء حق عن آخر، من غير أن يكون كفيلا به وظاهر سياق الحديث يقتضى خلاف ما تأولوه لأنه - صلى الله عليه وسلم - امتنع من الصلاة على هذا الميت. فلما قال أبو قتادة: عليّ دينه صلى عليه. فلولا أن هذه حمالة لم يصل عليه لأنه كان - صلى الله عليه وسلم - في أول الإِسلام لا يصلي على من مات وعليه دين، وما ذلك إلا تحضيضا على الوفاء بالديون. وأيضًا فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت تقتضي الغفران للميت وتحجزه عن النار" (¬1). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "نفس المؤمن مرتهنة بدينه حتى يقضى عنه" (¬2) فكأنه إذا كان مرتهنًا بدينه كالمحجوز عن الجنة، فصارت صلاته كالمنافية لما قال. وقد قال لما صلى على السوداء التي كانت تَقُمّ المسجد: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله نورها بصلاتي عليهم" (¬3)، فلما فتح الله الفتوح قضى الديون عن الغرماء، فقال: من ترك مالًا فلورثته ومن ترك كلًّا فعليّ" (¬4). وهذا الذي رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع وإن لم يكن نصا في الحمالة فقد روى الحديث، جابر فقال فيه: "مات وعليه ديناران فتحملها أبو قتادة فقال - صلى الله عليه وسلم -: هي عليك والغريم منها بريء" (¬5) فهذه الرواية قد صرح فيها بلفظ الحمالة فلا مطمع لهم في تأويلها على غير الحمالة. وهكذا روي أيضًا "أن رجلًا مات وعليه درهمان فلم يصل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال علي رضي الله عنه: هي عليّ فصلى علمه، وقال له عليه السلام: جزاك ¬

_ (¬1) (¬2) البيهقي: السنن الكبرى: 6/ 75. الترمذي: الجامع الكبير: 2/ 375 (¬3) فتح الباري: 3/ 448 - البيهقي: السنن الكبرى: 4/ 46، 47، 48 (¬4) مسلم: إكمال الإكمال: 4: 324 (¬5) البيهقي: السنن الكبرى: 6/ 75

الله عن الإِسلام خيرا وفك رِهانك كما فككت رهان أخيك" (¬1) الحديث. وأما سبب الاختلاف في هذه المسألة من جهة الاعتبار فإن أبا حنيفة يرى أن الدين لا بدّ له من محل، ومحله الذمة أو عين مال، وذمة الميت قد هلكت وتلفت بتلف صاحبها، لأن الذمة وصف من أوصاف الإنسان الحي، وإذا ذهبت الحياة ذهبت الذمة، وهو لم يترك عين مالي يقضى منه دينه. فلما استحال تصور محل الدين في حق الميت المفلس استحال توجه الدين عليه فاقتضى ذلك سقوطه عنه، والساقط لا تصح الحمالة به. وهذه عمدة القوم. ونحن نعتمد على أن الإبراء منه يصح، والتبرع بالقضاء يصح أيضًا. فلولا كون هذا الدين ثابتا لم يصح التبرع بقضائه ولا الإبراء منه. ونعتمد أيضًا على الاتفاق على أنه لو كانت الحمالة في حال الحياة ثم مات الغريم فقيرًا لم تسقط الحمالة. فلو كان الأمر كما قال أبو حنيفة إن الموت يسقط الدين إذا لم يترك الميت مالًا، لسقطت الحمالة التي كانت في حياة الميت؛ لأن الحمالة تبع لثبوت الدين وفرع عنه، فإذا سقط الأصل سقطت فروعه وما يتبعه. ألا ترى أن من تكفل بصداق امرأة فارتدت قبل الدخول سقط صداقها بارتدادها أن الكفالة به ساقطة أيضًا لما سقط الأصل سقط الفرع. وهم ينفصلون عن الإبراء والتطوع بقضاء الدين أن المراد بذلك سقوط الإثم عنه في الآخرة. ونحن نقول: بل حصول الإثم يدل على أنه لم يسقط وهم يقولون جوابا عن هذا: الآثام من حقوق الآخرة والديون من حقوق المعاملات في الدنيا، ونحن إنما أسقطنا عنه الدين في الدنيا لأنه ميت، وفي الآخرة يصير حيًّا، والحي تتوجه إليه المطالبة. والموتة التي بين الحياتين: حياة الدنيا وحياة الآخرة تجري عليه فيها أجكام الآخرة كما تجري عليه أحكام ¬

_ (¬1) البيهقي: السنن الكبرى: 6/ 77

الاعتقادات الدينية، وقد يجرى على الأجنّة في البطون، قبل أن يخلق فيها الحياة، أحكام الحياة، لأنه سائر إليها، فلهذا أجاز الإبراء والتبرع بالقضاء والمتبرع بالشيء له الرجوع عنه إذا لم يلزمه، والكفالة التزام فافترقت حقيقتها (¬1). وإنما مطالبة الحميل مع كون الميت مات فقيرًا، وإن الالتزام كان في الحياة، والكفيل في يديه مال يقضى منه الدين، فصار ذلك كمالٍ تركه الميت يقضَى منه الدين بإجماع. ونحن ننازعهم في كون مال الكفيل كتركة الميت لأن الميت له أن يوصي فيما ترك، ويكفن منه، (ويقبر فيه بالحقوق) (¬2)، وليس له ذلك في مال الكفيل. وينفصلون أيضًا عن جواز الحمالة بدين على من ثبت إعساره، فإنه يرجى له أن يكتسب مالًا فصار السقوط في حق الحي المؤجل إلى أجل ينتظر، والميت لا ينتظر أن يكتسب مالًا. ونحن نقول جوابا عن هذا: يصح أيضًا أن يطرأ له مال لم يُعلم الآن، أو تكون له ذخيرة خفيت عنا، كما يمكن أن تكون ذخيرة للحي المعسر أخفاها هنا. ويقولون هم أيضًا: نحن إنما أسقطنا الدين عمّن هو معسر في علم الله سبحانه، فإذا كان للميت مال خفي عنا، فلم يعسر في الباطن. وهذا كله معارك من جهة الاعتبار نكتته هل سقط الدين عن الميت بموته مفلسا فيسقط عن الحميل لكون الأصل إذا سقط سقط الفرع، أو يقدروا دينه باقيا فيصح التزامه؟ فإذا أضربنا عن هذا كله، وثبت التعلق بحديث أبي قتادة لا سيما على رواية جابر قدم ذلك على هذه المحاجة، لكوننا نرى أن خبر الواحد الصحيح مقدم على القياس، وفي هذا مقنع. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حقيقتهما (¬2) هكذا في النسختين

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: الحمالة بالمجهول جائزة عندنا وعند، أبي حنيفة. ومنعها ابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري والليث بن سعد وأحمد والشافعي. وخرج ابن شريح، للشافعي قولًا آخر بجوازها سننبه عليه فيما بعد. ولقد ذكر في المدونة فيمن ضمن ما قُضِيَ به لزيد على عمرو أن ذلك يلزمه، ولم يشترط علم الضامن بما يُقضَى به. وذكر في المدونة أيضًا: فالقائل: (6) بايعْ فلان (¬1) والثمن عليّ. أن ذلك يلزمه. (ولم يشترط الضامن ها هنا ثمن اثمانًا للمبايعة) (¬2). وقد وقع لمالك في الموازية والعتبية في من وصّى لولده أن تقضى ديونه، ولا يعلم مقدار الديون ولا مقدار التركة، أن ذلك جائز. ولو طرأ غريم لم يعلم به لَلَزِم الولدَ القيامُ له بدينه، لكون أصل الضمان وقع على غير معلوم وهذا منه. وكذلك أيضًا ذكر فيمن مات وجمليه ديون فقال أحد ورثته لغرمائه: سلموا إليّ تركته، إلى أجل سماه، وأنا أقوم بديونكم، أن ذلك جائز إذا قصد به المعروف، وعلم أنه إذا فضلت فضلة عن الديون كلها يستحقها الميت دخل بقية الورثة فيها فقسموها على الفرائض المشروعة. وأما لو كان على (¬3) النقص عليه يقوم به للغرماء، وينفرد بزيادة إن ظهرت، فإن ذلك لا يجوز لأنه يضمن نقصا مجهولا رجاء أن يربح ربحا مجهولًا، وهذا لا يجوز. ومذهب الشافعي ما ذكرناه عنه من منعه لضمان المجهول، وكأنه أجراه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: القائل ... فلانًا (¬2) هكذا في النسختين، والكلام غير واضح، والمعنى: لزوم الحميل الثمنُ الذي تم به البيع. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على أن.

مجرى المعاوضات التي لا تجوز فيها الجهالات. ونحن أجريناه مجرى الهبات التي تجوز فيها الجهالات. وقد ذهب بعض الأئمة إلى كراهية هذا المجهول، وعلّل ذلك بأنه قد يظهر ما يندم على إخراجه من ملكه وهبته لغيره، فلا يحسن أن يفعل معروفًا يؤديه إلى الندم عليه. وقد نبهنا عن نكتة سبب الخلاف في هذا: هل تجري الكفالة مجرى عقود المعاوضات فتمنع فيها الجهالات والغرر، أو مجرى عقود الهبات والعتق والوصايا فتجوز فيها الجهالات والغرر وأصحابنا يستدلون على جوازها من الظواهر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود} (¬1) وقوله عليه السلام: "الزعيم غارم" (¬2) وهذا العموم يقتضي الجواز. والمخالف يمنع من هذا الاستدلال، ويرى أن المراد بقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} العقود الجائزة. وفي جواز الكفالة بالمجهول وقع الخلاف. وكذاك الزعيم غارم. وفي كون هذا زعيما كفيلًا وقع الخلاف. ويعتمدون أيضًا على جواز الكفالة بالعهدة في المبيعات. وتتصور في ذلك الجهالة والغرر لألمه قد يستحق جميع المبيع وقد يستحق يعضه، ولا يدري المضمون له مقدار ما يرجع على الكفيل. وقد اشتهر في سائر الأمصار والأعصار كَتبة العهدة إلى (¬3) المبيعات، ولم ينكر ذلك أحد مع ما فيه من الجهالة. وإن كان قد يحكي أبو العباس بن سُريج قولًا آخر عندهم (¬4) في جواز الكفالة بعهدة المبيع، ولكن حذاقهم يرون أن مذهبهم جواز ضمان عهدة الدرك في المبيعات. ¬

_ (¬1) الانعام: 1 (¬2) سبق تخريجه (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في [عدم] جواز

ويجيب المخالفون عن هذا الاحتجاج أيضًا بأن الحمالة إنما تعتبر حين العقد، والمتكفَّل به ها هنا حين الكفالة معلوم وهو الثمن، فإن الكفيل يجب عليه ردّه إذا وقع الاستحقاق، وإنما تؤثر الجهالة في الكفالة حين عقدها ووقوعها ألا ترى أن من باع عبدًا من أعبد ثلاثة فإن ذلك لا يجوز لكون المبيع مجهولًا حين العقد. ولو استحق (¬1) الأعبد الثلاثة، وقد باع جميعهم صفقة واحدة لوجب الرجوع بمقدار ما استحق،. فكذلك الجهالة بالعهدة لا تؤثر فيها الجهالة بمقدار ما يستحق كما لم يؤثر ذلك في جواز البيع المجتمع على اجتناب الغرر الكثير فيه. ويحتج أصحاب الشافعي على المنع من الكفالة بالمجهول بأنه يثبت عقد شيء في الذمة لا يُدرى مبلغه، فوجب منعه كالأثمان. والكفيل إنما يحل محل المشتري الذي تكفل عنه بالثمن فإذا كان المشتري لا يجوز له أن يشتري بثمن مجهول، فكذلك الكفيل لا يضمن أيضًا شيئًا مَجهولًا. ويناقضهم أصحابنا هذا بأن الذمة قد ثبت فيها حق مجهول عن عقد، كمثل صداق المثل إذا قضي به في النكاح الفاسد، وهو مجهول، وعوض عن عقد، فدل ذلك على أنه لا يستنكر ثبوت حق مجهول في الذمة عن عقد. ويجيب أيضاَّ أصحاب الشافعي عن هذا يأن التثبيت خلاف الثبوت، لأن المراد بالتثبيت تعاقد المتعاملين على ثمن مجهول تشترى به السلعة. والمراد بقولنا ثبوت ما يوجبه الشرع في الذمة بغير اختيار المتعاملين، والزوجان إذا تعاملا على صداق فاسد، ووقع الدخول، فالقضاء بصداق المثل الشرع أوجبه، بخلاف ما يقع المتعاملان فيه اختيارا. واستدل أصحاب الشافعي بأن من تكفل ببعض دين على آخر لا تصح به الكفالة لكون ذلك كفالة بمجهول. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، وسياق المعنى يقتضي إضافة [أحد]

واختلف الجواب عن هذا الاستدلال، فأشار بعضهم إلى أن الكفالة ببعض الدين كفالة بمجهول لا تعلم حقيقته حين الكفالة، ولا يعلم ذلك بعدها في ثاني حال، بخلاف من تكفل بمجهول مثل ما يقضي به القاضي على رجل، أو ما شهدت، به بينة، أو ما يبايع به فلانا، كما مثلنا به الكفالة بالمجهول فيما قدمناه، فإن هذا كله يكشف مقدار ما تكفل به الكفيل إذا قضى القاضي بالدين، أو شهدت به البينة، أو (بيع به المكفول له المكفول عنه) (¬1). وذكر البعض لا يعلم مقداره حين الكفالة ولا بعدها. ويدافع أصحاب الشافعي هذه التفرقة بأن العلم بالمجهول بعد انعقاده جهل لا (¬2) يؤثر، ألا ترى أنه لو باع منه عبدًا غائبًا لم يوصف، ولم تتقدم مشاهدته، لفسد البيع، ولو قدم العبد وأحيط به علمًا بعد ذلك. وأما ابن القصار، من أصحابنا، فسلك في الجواب طريقة أخرى، فقال: لا تمنع هذه الكفالة، لكن يقال للكفيل: بيّنْ لنا مقدار ما أردت بقولك: أتكفل ببعض الدين. فيلزمه ما أقرّ به من ذلك. وهذا أيضًا قد يقولون فيه: إن هذه الكفالة إنما انكشف مقدارها بعد وقوعها فعاد الأمر إلى الجواب الأول. فإذا صح ذلك فإن رضي المتحمل به والمتحمل له ليس بشرط في صحة الكفالة، بل يجوز أن يقول الرجل: أنا حميل لك بمن يثبت لك عليه دين وينعقد لك عليه، ثم يكون المكفول له بالخيار بين أن يقبل ذلك منه أو لا يقبل. وكذلك لو لم يرض المتحمل عنه بالحمالة فإن من حق المتحمل له أن يطالب الحميل بما التزم من ذلك، كما لو التزم لرجل أن يقضي له دينا على رجل آخر. وهكذا الظاهر من مذهبنا أنا لا نشترط في صحة الحمالة معرفة من ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يوثر بحذف -لا-.

يتحمل له: هل سهل في الاقتضاء أوصعب. والثالث اشتراط المعرفة فيمن يتحمل له لأن المعاملة انحصرت بين الحميل وبينه ولا يشترط معرفة من تحمل عنه. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: اعلم أن الحقوق المتحمل بها تتنوع أنواعها: فمنها حمالة بحقوق تتعلق بالأبدان، وهي حقوق الله سبحانه، كالحد في الزني وشرب الخمر والقطع في السرقة، فهذا لا تجوز الحمالة به، إذ لا يجوز أن ينوب فيه أحد عن أحد، فيشرب رجل الخمر ويقوم الآخر بدلا عنه. وكذلك في حقوق الخلق المعلقة بالأيدان، كرجل قتل رجلًا أو قطع يده عمدًا، فيقول آخر، اقتصوا مني بدلا منه. ولو كانت الحدود التي هي من حقوق الله سبحانه إنما تثبت بالإقرار لكان التكفل بالطالب للمقر جائزًا على القول عندنا: إن للمقر الرجوع عن اقراره وإن لم يظهر له عذر، وعلى القول بأن هروبه كالرجوع عن الإقرار. واختلفت الرواية في حديث العامرية: هل كفل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أقرت بالزنى وهي حامل حتى تضع حملها أو لم يكفل؟ وذلك جار على ما نبهنا عليه من هروب المقر ورجوعه عن اعترافه. وأما الحقوق المالية فإنها أيضًا تنقسم على أقسام: فمنها حق واجب لازم استقر وجوبه ولزومه كأروش الجنايات وقيم المتلفات، وأثمان السلع بعد قبضها، وصداق الزوجة بعد الدخول بها، فلا خفاء بجواز الحمالة بها. وكذلك لو كانت عقودًا لازمة ولكنها قد يطرأ عليها ما يسقط اللزوم، كصداق الزوجة قبل الدخول بها، فإنها قد ترتدّ فيسقط جفيعه، أو تطلق فيسقط نصفه. وأثمان الاجارات قبل استيفاء المنافع، فإن الدار المكتراة قد تتهدم فيسقط الكراء والعبد المستأجر قد يموت فتبطل الإجارة، فهذا أيضًا قد تصح الحمالة به.

ومنها ما ليس بعقد لازم كالجعالة على مذهب من رأى أن الجّعل لا يلزم بالعقد كقوله: إن جئتني بعبدي الآبق ذلك عشرة دنانير، فإن هذا تصح الحمالة به أيضًا قبل المجيء بالآبق، فإن جاء به لزم الحميلَ ما تحمل به وإن لم يأت به سقطت الحمالة. ولأصحاب الشافعي في هذا القسم قولان: أحدهما الجواز لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (¬1)، فهذه كفالة بالجعالة. والقول الآخر أن ذلك لا يجوز، لأن الثمن في الجعالة ليس بدين ثابت لإمكان الرجوع عن العقد على طريقة من ذهب لذلك، وإنما تصح الحمالة بما ثبت من الديون، ألا ترى أن الكتابة لا تصح الحمالة بها لما كانت ليست بدين ثابت على المكاتب، والحميل يحل محل المتحمل عنه، فإذا كان الدين ليس بثابت عدى الأصل فأحرى ألا يكون ثابتا على من هو فرع عنه وتبع له وهو الحميل. وينفصل هؤلاء عما في هذه الآية -على القول بأنا متعبدون يشرع من كان قبلنا- بأن الحمالة ها هنا ليست مما يراد بها التزام المنادي بهذا الحق نيابة عن الملك، وإنما ورد هذا مورد التأكيد بأن الملك قال هذا الذي نادى به المنادي. وقد خرج بعض الأشياخ قولًا بجواز الحمالة بالكتابة من قول أشهب فيمن قال لرجل: كاتب عبدك وعليّ مائة دينار. فإن هذا يجوز. فيتخرج من هذا جواز الحمالة بالكتابة لأن الحمالة بالكتابة عند من خرج هذا إنما منعت لأن المقصود من الحميل حصول العتق للمكاتب فإذا عجز ولم يحصل له العتق وجب بطلان الحمالة فبطلت من الأول. وهذا التخريج قد يقال فيه: إن من كاتب عبده على أن أعطاه حميلا بالكتابة، فقد اعطاه حميلًا بدين قد لا يثبت، فلم يصح ذلك لما قدمناه. وهاهنا في مسألة أشهب إنما دفع إليه مالًا على أن يستأنف الكتابة ويرفع حقه في بيع العبد. ¬

_ (¬1) يوسف: 72

وهذا مما ينظر فيه لإشكاله. والمعروف من مذهب الشافعي أن الحمالة بما لم يجب ممنوعة. ومذهب مالك وأبي حنيفة جوازها ولزومها وقد أضاف أبو العباس ابن سُريج إلى الشافعي قولًا آخر بجوازها، من قول الشافعي بنفقة الزوجة مدة مقدرة جائزة. وأنكر عليه هذا بعض حذاق أصحابه، وقال: قد اختلف قول الشافعي في نفقة الزوجة: هل تجب بالعقد ويستقر وجوبها بمضي الأزمنة أو إنما تجب يومًا فيومًا؟ فقوله: إن الحمالة بنفقة الزوجة مدة معلومة جائزة بناءٌ منه على أن النفقة وجبت بالعقد، لا على القول بأنها لم تجب حين الحمالة وإنما تجب فيما بعد. وقد كنا قدمنا الكلام على الحمالة بالدرك عند استحقاق المبيعات وذكرنا جوازها عندنا وعند أبي حنيفة وفي المذهب المشهور عند الشافعية، وأن بعض أصحاب الشافعي خرج قولًا آخر: لكونه حمالة بما لم يجب، والحمالة بما لم يجب عندهم ممنوعة. وأنكر عليه هذا من أصحابنا ابن القصار، وأشار إلى الإجماع على جواز ذلك وأن الناس في سائر الأمصار يكتبون ضمان الدرك في المبيعات ولم ينكر ذلك أحد. وأشار في الرد عليه هو وأبو حامد إلى أن السلع المبيعة إن لم تستحق فلا ضمان، وإن استحق (¬1) فقد كشف الغيب باستحقاقها أن العمل (1) لم يضمن (1) وما وجب. وأما ضمان ذلك الدرك فيما يحدثه المشتري من غرس أو بناء إذا وجب له ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استحقت -الحميل- وتحذف واو العطف.

الرجوع بذلك عند إلاستحقاق فإنه يجوز عندنا أيضًا وعند أبي حنيفة، لأنا وإياه لا نمنع ضمان المجهول ولا ضمان ما لم يجب. والشافعي يمنع من ذلك ويرى أن الحمالة ساقطة لكونه في ضمانًا بأمر مجهول، وكونه ضمانا لما لم يجب، وضمان الأعيان لا يصح لأن العين لا تصير بعينها في الذمة. فلو أعاره ثوبًا لم تصح الحمالة بعينه لكونه إن هلك لم يقدر على رده بعينه. وأما ضمان قيمثه إن أتلفه المستعير فذلك عند الشافعية على قولين لأنه ضمان ما لم يجب بعد. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: المحجور عليهم على: نوعين: أحدهما محجور عليه لحقّ نفسه، وهو الحر السفيه والثاني لحقّ غيره، وهو المريض والعبد والزوجة والمديان. فأما المحجور عليه لحق نفسه، وهو الصغير الذي لم يبلغ أو البالغ السفيه، فإنما تصح الحمالة عنهم ويرجع عليهم بما أدّى الحميل إذا كان الدين الذي تحمل به الحميل عنهم مما يلزمهم، كاستدانة استدانها الصغير أو السفيه أنفقها في قوته وحفظ حياته، مما لو لم يفعل ذلك لباع القاضي عليه من ماله مثل الذي استدان، وكذلك ما استدان في إصلاح رباعه مما لو لم يفعل هو ذلك لفعله القاضي، فإن هذا تصح الحمالة به عنه. وإذا أدى الحميل ما تحمل به قضي بالرجوع على الموتى عليه. وأما دين لا يلزم المولّى عليه وهو ساقط عنه بحكم الشرع، كمال استدانه لينفقه فيما لا يسوغ الإنفاق به، والحميل إنما تحمل عنه بشرط أن يكون له مرجع على المولّى عليه، فإن هذا الدين ساقط على المولى عليه، وعن الحميل لكون الحميل إنما تحمل بشرط أن يكون له مرجع، فإذا منعه الشرع من المرجع سقطت عنه الحمالة لعدم شرطها. وإن تحمل بما يعلم سقوطه عن المولى عليه

لزمته الحمالة، وصار كواهب ماله بغير عوض لغير (¬1) له في ذلك. وأمّا المحجور عليهم لحق غيرهم، فمن ذلك العبد: فإنه إن لم يكن مأذونا له في التجارة لم تصح منه الحمالة بغير إذن سيده. في ذلك قولان: منع ذلك ابن القاسم، وأجازه عبد الملك بن الماجشون، حكى ذلك عنه ابن المواز، وحكاه عنه إسماعيل القاضي في المبسوط. وذكر إسماعيل القاضي تعليله لذلك بأنه مصلحة للعبد واستئلاف لمن يعامله ويتحمل به كما يتحمل هو بغيره. وإن كان ذلك بإذن السيد صحت الحمالة بغير اختلاف في العبد القن المأذون له في التجارة. وهل تصح في المكاتب أم لا؟ فيه قولان: أحدهما الجواز، والآخر المنع. وهما مبنيان على تمكين العبد من فسخ كتابته مع قدرته على أدائها. فإن قلنا بتمكينه من ذلك صحت الحمالة منه إذا أذن له سيده، وإن قلنا بمنعه من تعجيز نفسه وفسخ كتابته فكانت حمالته قد تؤدي إلى رقه وعجزه لم ينفع في ذلك إذن سيده لأن سيده، وإن أسقط حقه بالإذن، فيبقى حق الله سبحانه في منع العبد من إرقاق نفسه مع قدرته على فكها من الرق. وأما إكراه سيده له في الحمالة وهو عبد قن لم يكاتبه، فإن ابن القاسم في المدونة منع سيده من اجباره على الحمالة. فإذا قال له سيده: تحمل لفلان عن فلان. فقال العبد: لا أفعل. فأشهد سحده أنه ألزمه هذه الحمالة، فذلك لا يلزمه عند ابن القاسم ويلزمه عند غيره. وقد أشار ابن القاسم إلى هذا الخلاف في المدونة لأنه لما قال: لا يجبره عقب ذلك بأن قال: وقد قال مالك، فيمن قال لعبده: أنت حرّ وعليك مائة دينار،: إن ذلك يلزم العبد. فأشار بهذا إلى مقتضى مذهب مالك أن له إجباره على الكفالة، وتعمير ذمته، وإن طلب به بعد عتقه، كما ألزمه تعمير ذمته إذ قال له: أنت حر وعليك مائة دينار. وأما إجباره لمكاتبه فلمس له ذلك إن كان يقتضي تعجيزه، وليس لسيده المكاتِب أن يعجز ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لغرض

عبده عن إذا (¬1) نُجُومه، ولا له أن يفسخ كتابته. ولو تحمل العبد القن عن سيده فإن الغريم له مطالبة السيد بمالَه عليه من الديون، (ويتبع عنده هذا الذي تحمل به في هذا الدين إذا لم يجد السيد بما لم يقضه منه) (¬2) وله أن يترك مطالبة السيد ويتبع العبد في ذمته عند ابن القاسم، وقال غيره: ليس له ذمة العبد إلا إذا لم يجد السيد ما يقضي منه دينه. فمن الأشياخ من رأى أن ابن القاسم إنما أجاب بهذا الجواب بناء على أحد قولي مالك في أن للغريم أن يتبع الحميل مع كون المتحمل عنه موسرأ. وإن كان اختيار (¬3) من قولي مالك خلاف هذا فكأنه اختلف خياره، كما اختلفت (¬4) قول مالك. ومنهم من رأى أنه لم يختلف اختياره كما اختلف قول مالك. ومنهم من رأى أنه لم يختلف اختياره وكأن هذه المسألة خارجة عما أصل. وإنما أراد أن السيد فُلسّ فلهذا مكن الغريم من اتباع العبد الحميل. وأما ذات الزوج فإنها إن تحمّلت بمقدار ثلث مالها فأقلّ لم يكن للزوج منعها من ذلك. وإن كان بأكثر من ثلث مالها وتحملت بذلك عن رجل معسر فإن للزوج منعها من ذلك. وإن كانت تحملت بذلك عن رجل موسر ففيه قولان: هل تمكن من ذلك؛ لأنها إنما منعت لحق زوجها من إتلاف ما زاد على الثلث، وهاهنا لم تتلف من مالها شيئًا لكون من تحملت عنه موسرًا حاضر النقد ولا مضرة على الزوج في ذلك. وإن لم تكن ذات زوج، وهي رشيدة، جازت كفالتها. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أداء (¬2) هكذا في النسختين، والكلام غير واضح (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختار (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: اختلف

وإن كانت ذات زوج وتحملت بزوجها (¬1) أو تحملت له صح ذلك، لأن المنع من إتلاف ما زاد على الثلث لحق زوجها، فإذا أذن لها في ذلك بأن تحملت له أوتحملت عنه لصحت الحمالة (¬2). فلو ادعت أنه أكرمها على ذلك، وأجبرها على أن تحملت له أو تحملت عنه، فإنها لا يقبل ذلك منها إلا بإثبات. وفرق أشهب بين حمالتها به أو حمالتها (¬3) فقال في حمالتها به مثل ما قال ابن القاسم: إن ذلك لا يقبل منها إلا أن يثبت ذلك ببينة، أو يكون التحمك له عالمًا بأن زوجها أكرهها على أن تتحمل به، فتسقط الحمالة. وإن انكر المتحمل له أن يكون عالمًا بذلك فإنه يلزمه اليمين إذا كان ممن يظن به العلم بذلك كالجار والقريب في النسب. وأما إن زعمت أنه أكرهها على أن تتحمل له، فإنه إن عرف بالإساءة إليها وقهرها فالقول قولها، وكأنه رأى أن هذه قرينة حال تشهد بصدقها، فكان القول قولها. وإن تحملت البكر التي لا يولي (¬4) عليها باب ولا وصي لجرت حمالتها على القولين في أفعال السفيه الهمل هل تمضى أو ترد؟ على مابسطناه في كتاب الحجر. ولو بلغت التعنيس، وهي بكر في بيت أبيها، وأونس رشدها، فتكفلت، فاختلف قول مالك في ذلك: فألزمها الكفالة مرة، ومنعها أخرى، ومرة صرف ذلك إلى ما يقوله الأب من إمضاء أو ردّ لكونه أخبرُ بحالها وباطن أمرها. وأما كفالة المريض فإنها في ثلثه، لأن الكفالة كالهبة لمنافع مال يؤديه عن رجل ثم يرجع عليه بعد حين. ¬

_ (¬1) أي: بإذن زوجها (¬2) هكذا، والصواب حذف اللام (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو حمالتها له. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولاية.

ولو تكفل في مرضه ثم صحّ لزمته الكفالة. ولو مرض بعد صحته ومات لأخذ من رأس ماله. فإن قيل هلا سقطت إذا مات بعد صحته لأنها كهبة لم تقبض حتى مات الواهب؟ قيل: في هذا اختلاف في المذهب. فإن قيل: إن عدم الحوز فيها كعدم الحوز في الهبات. وقيل (¬1): هذه بخلاف الهبات، لأن الهبة لم يتعلق بها حق سوى حق الموهوب له، وأما الحمالة فهي هبة لمن عليه الدين بأن يقضى عنه دينه ثم يرجع به عليه إذا أيسر، ولكن تعلق بهذه الهبة حق لغير الموهوب له وهو المتحمل له المستحق للدين، وهو ليس بالموهوب له، فصارت الهبة ها هنا كالمقبوضة لزوال يد الموهوب له عنها وحلول غيره محله، فصار هذا كالحوالة، والحوالة ها هنا كالقبض من الموهوب له، فلهذا أمضاها. وقد اختلف فيمن وهب سلعة لرجل فلم يقبضها الموهوب له حتى باعها من رجل آخر، ثم مات الواهب وهي في يديه، فقيل ببطلان الهبة لعدم الحوز، وقيل بإمضائها لتعلق حق المشتري بها، والمشتري ليس بموهوب له وإنما يستحقها عن معاوضة، وعقود المعاوضة لا تفتقر إلى حيازة. على هذا يحيل الأمر في مسألة المدونة (¬2) في القائل لرجل: ما ناب لك على فلان فأنا حميل به، فمات الحميل قبل أن يقضى بالدين على المتحمل به فإن ذلك يؤخذ من تركته إذا قضي به، على الخلاف الذي ذكرناه ونبهنا عليه، وكأنّ الحميل يحل محل الغريم والدين الذي على الغريم ثابت في ذمته والحميل قد حل محله، فيتوجه ذلك في ذمته. وأما حمالة من أحاط الدين بماله فالحكم، كما بين، أن لغرمائه أن يردوا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: حذف الواو (¬2) المدونة. 9/ 186

ذلك؛ لأنها هبة لما في يديه، وقد استحقوه عليه، وليس لمن أحاط الدين بماله أن يهب، على ما بيناه في كتاب التفليس، وذكرنا ما قيك فيه من تخريج خلاف. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: قد ذكرنا في السؤال الذي أمليناه ها هنا، وهو ما تصح الحمالة به، أن الحمالة لا تصح بالحدود التي هي حق لله سبحانه، إذ لا يجوز أن يحد رجل لرجل آخر، ولو أوصى بذلك، وكذلك الحقوق البدنية التي للخلق كالقصاص، فإنه لا يجوز أيضًا التحمل بها على أن يقطع أو يقتل رجل بدل ما يوجَب على آخر بالقصاص في النفس أو قطع اليد. إلى غير ذلك مما اشتمل عليه ذلك الفعل. واقتضى الترتيب أن نملي هناك ما نمليه هنا من الكلام في الحمالة بالوجه. فاعلم أن المحتمل به إما أن يكون ببدن الإنسان المطلوب مال أحال عليه. فإن كان التحمل ببدن الإنسان ولم يشترط ما عليه من المال، فإن هذه الحمالة اختلف الناس فيها، على ما نقله بعضهم، وذلك أنه لم يختلف عن مالك وأصحابه ولا عن أبي حنيفه وأصحايه، في جواز الحمالة بوجه من عليه دين. وبذلك قال جمهور العلماء فمنهم شريح والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وغيرهم، حتى أن بعض أصحابنا البغداديين وبعض أصحاب الشافعي يشيرون إلى إجماع السلف على جواز ذلك. وإنما وقع النزاع، في إثبات الخلاف في هذه المسألة وارتفاع الخلاف فيها، في لفظة وقعت للشافعي فاختلف أصحابه في تأويلها، وذلك أن ابن القصار، من أصحابنا، يقول: إن الشافعي قال بالجواز، وقال بالمنع، وكيار أصحابه ينكرون إضافة المنع إليه، ويرون أنه موافق لمذهب الجماعة، وإلى هذا أشار أبو حامد الاسفرايني، فذكر أن المعروف عنه في كتبه جواز الحمالة بالوجه. ونقل ذلك عنه من كلامه في الإقرار، والمواهب، وفي اختلاف

العراقيين، وفي الظاهر من قوله اللعان. ونقل عنه، في كتاب الدعوى والبينات، أنه قال: إذا ادعى رحل على رجل أنه تحمل له ببدن رجل فأنكر المدعى عليه، فإنه يحلف، فإن نكل حلف المدعي قال: الحمالة بالوجه عندي ضعيفة. فحمل هذه اللفظة المزني وأبو إسحاق من أصحابه على أن مراده المنع بجواز الحمالة بالبدن. وأنكر ذلك غيرهما من أصحابه، وتأول قوله: إنها ضعيف، من جهة القياس لامن جهة الآثار. وتأويل هؤلاء عندي محتمل لما قال، بل ربما كان أظهرَ في سياق كلامه. وبعض أصحابنا الناصرين لما عليه الجمهور يشير إلى أنه إجماع السلف، كما قدمناه وأن الناس في سائر الأعصار يشترطون ذلك، ويكتبون ويشهدون فيه، ولم ينكره أحد من الحكام ولا غيرهم ويؤكدون هذا بما روي أن عبد الله بن عمر طلب علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، بمال له عليه فتكفلت به أم كللثوم ابنة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهي زوجة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك عبد الله بن عمر الطالب وعليّ المطلوب ولا غيرهما. وبذلك ما روي أن رجلًا من بمسجد عبد الله بن النواحة، فسمعه يقول: أشهد أن مسيلمة رسول الله، فإنه سمعه ووقف حتى سمع أصحابه يصرحون بذلك، فأتى ابن مسعود فأخبره بذلك، فاستدعاهم فأقر عبد الله بن النواحة، فقال له ابن مسعود: وأين القرآن الذي كنت تقرؤه؟! كنت (¬1) أمنع نفسي به منكم فضرب عنقه، واستشار في أصحابه، فأشير عليه بأن يستتابوا، وتكفل به (¬2) عشائرهم فاستتابهم فتابوا، وكفل به (2) عشائرهم، فقال ذلك إنه مذهب مشهور. وأجيب عن هذا بأن محل كفالة أم كثلوم بأبيها علي بن أبي طالب رضي الله عنه إنما كانت بالمال، وهو ظاهر اللفظ لأنه قال: فطلبه بمالي أَنْ كان له ¬

_ (¬1) أي: فأجاب (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لهم

عليه، فتكفلت به أم كلثوم. فهذا الضمير في قوله به يعود على أقرب المذكورين وهو المال، والكفالة بالمال لا ينكرها أحد. وأجيب عن حديث ابن مسعود بأن المرتد إذا استتيب لم يلزمه أن يأتي بمن يتكفل به، هذا لا يؤخذ بظاهره باتفاق. ابن القصار، من أصحابنا إلى أن مدافعة هذا الانفصال بأنهم كانوا متهمين بأن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل الاستتابة فكفل بهم عشائرهم ليرفعوا خبرهم إليه، ويمنعوهم من الرجوع إلى الكفر، فصارت الكفالة ها هنا لها مدخل في الإفادة. وتعلق من أجاز ذلك بقوله في خبره عن أخذه يوسف {إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1) ويقولون خبرًا عن أبيهم يعقوب: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} (¬2) فهذه كفالة بالوجه. واجيب عن هذا أيضًا بأن شرع يوسف كان الشرع فيه استرقاق السارق، وبهذا جعل الصواع في رحل أخيه ليستبيح بذلك منعهم منه، وهذا منسوخ في شرعنا، على أن الاسترقاق ليس بكفالة ولا بقول أخوته "خذ أحدنا مكانه" كفالة به. وكذلك قوله تعالى: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ} (¬3) ليس بصريح في الجواز للكفالة بالوجه، وإنما هي معاقدة ومعاهدة عاهدهم أبوهم على أن يعيدوا إليه ولده. هذا، وذلك ليس بكفالة. واستدلوا أيضًا على جواز الكفالة بالوجه: بأن الكفالة بالمال أجيزت لما فيها من المصلحة والرفق والإحسان إلى المتكفل له بأن يستوثق من حقه بضمان ¬

_ (¬1) يوسف: 78 (¬2) يوسف: 66 (¬3) يوسف: 66

هذا الكفيل، وإحسان أيضًا بالمتكفل عنه بأنه يطلق سراحه من الاعتقال والتضييق عليه، وهذا المعنى موجود في الكفالة بالوجه، فوجب أن تجوز لأن الغرض بها تحصيل المال الذي على المطلوب. فصار المقصود بها سببا لجوازها لكون الحمالة لم يختلف في جوازها. واحتج المانعون لها بأن ضمان الأعيان ودخولها في الذمم لا يصح كما لا يصح السلم في عين مرئيّة تكون في الذمة؛ لأن معنى الذمة ها هنا استحقاق المطالبة مادامت الذمة موجودة، والعين المضمونة إن بقيت فلا فائدة في ضمانها، وإن هلكت فلا يقدر أحد من الخلق على إعادتها بعينها، فصار ضامنها (¬1) في الذمة في معنى المستحيل. فكذلك الكفالة ببدن الإنسان لا تصح لكونها عينًا مشاهدة. ولا يصح دخولها في الذمة، وكل مالًا يصح ضمانه حالي تلفه فإنه لا يصح ضمانه حال بقائه. أصله الوديعة لأن الإنسان لا يضمن الوديعة التي أودعت عنده إن تلفت ولا يضمنها حالي بقائها. وعكسه الغصب يضمنه إن تلف وإن كان باقيا في يده. واجيب عن هذا بأن الوديعة وإن كانت عينا قائمة فإنه مخاطب بردّها إلى صاحبها، ووداها (¬2) إليه فعل إلزامه (¬3) إياهْ قبوله للوديعة. فكذلك لا يمنع أن يتعلق بضمان الوجه حكم وهو إحضار المكفول له يستوي (¬4) حقه منه. وقد قيل في هذا أيضًا: لا نسلم أن الرد واجب، إذ لو كان عبدًا فأبق ما لزم المودعَ طلبُه. ولو كان شيئًا ثقيلًا مالزم المودعَ حملُه إلى ربّه، وإنما يلزمه رفع يده عن الوديعة، وتمكين صاحبها منها، وذلك ليس بفعل يفعله في العين المودعة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ضمانها (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وردّها (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَلْزَمَهُ (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ليَسْتَوْفِيَ

وبالجملة فإن اعتمادهم ينحصر إلى أن الحمالة بالوجه لا فائدة فيها. وكل ذلك منهم بناء على أصلهم؛ لأن المشهور من مذاهب الشافعية أن المتحمَّل بوجهه إذا مات أو غاب حيث لا يعرف مكانه فإن الحميل بوجهه لا غرامة عليه، ولا يقضى عليه بالحق الذي كان في ذمة المتحمل بوجهه. وانفرد أبو العباس بن سُريج من أصحاب الشافعي فقال: تلزم حميلَ الوجه غرامةُ المال إذا (¬1) المتحمل بوجههْ أو مات. ومذهبنا نحن أنه إذا غاب توجه الطلب على حميل الوجه بالمال، على ما نفصله فيما بعد. وانفرد أيضًا من أصحابنا محمَّد بن عبد الحكم يرى ما رأته الشافعية من أن الحميل بالوجه لا يُطلب بالمال إذا غاب المتحمَّل بوجهه. وهذا لأن غيبة المتحمل بوجهه، حيث لا يعرف مكانه، لا يدخل تحت قدرة الحميلَ إحضاره ولا يتمكن هذا منه، والحمالة إنما تكون بما يمكن، والمال ليس هو المتحمَّلَ به ولا دَخَل تحت قوله: أنا حميل بوجهه، لا تصريحا ولا توليجا (¬2) فلا يلزم الضامنَ خلافُ ما اقتضاه لفظه. وكأن محمَّد بن عبد الحكم (¬3) روى ها هنا مع ما رواه ابن الجهم عن مالك كطرفي نقيض، لأن ابن الجهم روى عن مالك أن الحميل بالوجه إذا أحضر من تحمل بوجهه، وهو فقير، فإنه لا يبرأ من غرامة المال، وإنما يبرأ بإحضار الغريم، إذا أحضره موسرًا، حتى يمكّن المتحمَّل له من أخذ حقه منه، والفقير لا يتمكن من أخذ الحق منه فإحضاوه فقيرًا كغيبته. والذي ذكرناه من الاختلاف في صحة الحمالة، ومن إلاختلاف في إغرام الحميل بالوجه المال إذا غاب المتحمَّل بوجهه إنما ذلك إذا اطلق لفظ الحمالة بالوجه ولم يقيد ذلك بما يُبْرِئُه من المال، مثل قوله: أنا حميل بوجه غريمك، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذا [غاب] (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَلويحًا (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [ما] رَوى

وليس عليَّ مما عليه من المال شيء. أو يقول: لا أضمن لك شيئًا سوى وجهه. فإن هذا القول أيضًا يقتضي أنه لا يضمن إلا الوجه الذي استثناه يعد أن زعم نفي الضمان لكل شيء سوى ما استثناه. ولو وقع اللفظ مطلقا فيه احتمال، مثل أن يقول: أنا حميل لك، وضمين لك بفلان. فهل يحمل على حمالة الوجه أو على حمالة المال؟ فاختلف المتأخرون في هذا: فذهب بعض الأشياخ إلى أنه يحمل على حمالة الوجه لكونها أقل الأمرين وأدنى المتحمَّلين والأصل براءة الذمة، فلا تعمر بأمر محتمل (¬1) وهو اختيار أشياخي. وذهب بعض الأشياخ إلى أنه يحمل ذلك على حمالة المال، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الزعيم غارم" فأطلق الزعامة بمطلق الزعامة، وهي الضمانة، فاقتضى ذلك عنده حمل اللفظ على حمالة المال. وهذا الاستدلال منه غير واضح، لأنه إنما قصد بالحديث بيان حكم وجوب المطالبة للكفيل بما ضمنه، ولم يقصد به بيان إطلاق هذه اللفظة التي هي الضمانة على ماذا تُحْمَل. على أن الغرامة إنما تكون في المال لا في الأبدان، إذ البدن لا يصح أن يُغرَم، فكأنه، قال: والزعيم غارم لما ضمن. والضمانة التي تتصور فيها الغرامة إنما تكون في المال. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: إذا علمت إن المشهور من المذهب أن الحميل يغرم المال إذا غاب المتحمل به، وأن المشهور عند الشافعي أن لا يغرم مالًا إذا غاب أو مات. وخالف في هذا رجل واحد عندهم وهو ابن سُريج كما خالف المشهور عندنا في غيبة المتحمل بوجهه ابن عبد الحكم فقال. لا يطالب الحميل بغرامة مال كما فرضناه. فإنّ حدثَ الموت بالمتحمل بوجهه لا يخلو إما أن يكون ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: مشكوك.

مات بالبلد، أو مات بعد أن غاب عن البلد. فإن كان مات وهو بالبلد فالمعروف من المذهب أن الحمالة ساقطة، بخلاف لو تغيب عن البلد، أو تغيب في البلد فإن الغرامة لازمة. وذلك لأنه مع التغبيب يمكن احضاره، والتغيب مما يكتسب ويكتسب التحفظ منه، فإنما أخذ الحميل بالوجه ليتحفّظ بمن تحفل بوجهه حتى لا يغيب، فإذا غاب توجهت الغرامة، لأنا إنما أجزنا الحمالة لما تؤدي إليه من الغرامة، وأن القصد بها تحصين ما في الذمة من الدين. والموت لا يمكن اكتسابه ولا التحفظ منه. فلهذا لم يضمن الحميل لموت المتحمَّل بوجهه لعدم القدرة البشرية على دفع الموت (¬1) من فرغ عمره. ولو وقع الموت بعد أن تغيب المتحمل بوجهه فإن المذهب على قولين: أحدهما: هذه الحمالة سقطت بالموت، كما تسقط بالموت لو كان المتحمل به في البلد. وإليه ذهب أشهب. والقول الثاني: إن هذا الموت بغير البلد لا يُسقط هذه الكفالة. وإليه ذهب ابن القاسم. فكأن من أسقط الحمالة بالموت في الغيبة رأى أن الموت لما وقع قبل مطالبته الحميل (¬2) تحمل به، صار ذلك كموت المتحمل به بالبلد، لكون الكفيل مغلوبا في الحالين على إحضار من تكفل بوجهه سواء مات بالبلد أو غائبًا عنه. ومن ذهب إلى المطالبة بهذه الحمالة رأى أن مجرد الغيبة أوجبت غرامة الكفيل، بحصول التعدي بها، لكون الغيبة توجب الغرامة في المشهور عندنا. فموت الشخص بعد وجوب سبب يوجب الغرامة وهو الغيبة، لا يرفع عنه الحكم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عمّن (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [ما] تحمل به

هذا إذا كان قد غاب المتحمل بوجهه وقد حلّ أجل الدين. فأمّا إن كان لم يحلّ، فعلى أصل أشهب الذي ذكرناه، تسقط الكفالة. وأما ابن القاسم فإنه اعتبر موت المتحمل بوجهه: هل وقع في زمن يتّسع أن يمضي الكفيل ليأتي به، فتسقط الكفالة حينئذ، لكون هذا الغائب مات قبل أن تتوجه عليه مطالبة بالدين، وكون الكفيل لم يفرّط ولا تعدى في أمره. وإن بقي من أجَل الدين مالًا يُحصّل أن يذهب الكفيل إليه، فيأتي به، لزمت الكفيلَ الغرامةُ. قال ابن القاسم وإن قلت لكم غير هذا فاطرحوه. وروي عنه أنه قال: إنما تعتبر في هذا مسافة قدوم الغريم بنفسه، من غير أن يضاف إلى هذا مسافة للخروج ليؤتَى به. وكأنه قرر في اعتباره مسافةَ السير والرجوعَ كون الغريم قاصدًا المنع من الحق حتى يُنفَذَ إليه فيؤتى به لأخذ الحق منه. واعتبر في القول الآخر أنه يُحمَل على الوفاء، و (¬1) التنصل من الحق، فأتى بنفسه من غير أن يُستدعَى خَوْفًا ميت إثمه بالمطل. وإذا تقدم حكم الموت والغيبة، وأن على الكفيل المطالبة لإحضاره: فهل يتُلَوَّم له ليحضره أم لا؟ وقد غاب المتحمل بوجهه. أما ابن وهب فإنه ذكر أنه يطالب بالغرامة ورأه أن ذلك جارٍ مجرى الحمالة بالمال، فإن الحميل ليس من حقه أن يؤخّر ليحضر الغريم فكذلك الحمالة بالوجه. وبعض أشياخي يحمل قول ابن وهب، هذا، على أنه خلاف المشهور من المذهب في تمكين الحميل من طلب الغريم الذي تحمل بوجهه والتزم له في ذلك. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: و [عدم] التنصل

وبعضهم يحمله على أن مراده أنه لا يمكن من التلوّم الذي يضرّ. ورأى أن كلامه محتمل لهذا المعنى. ويشير إلى ارتفاع الخلاف في التلوم. وإذا قلنا بالتلوم، وهو المشهور من المذهب، وقد غاب غيبة قريبة، ومقدار التلوم قيل فيه: اليومُ، ونحوه وقيل: يومان، وقيل: ثلاثة أيام. واختار بعض الأشياخ: يوم واحد، لأنه مقدار ما يتلوم في الحضور، وذلك ثلاثة أيام لكون الحميل يسافر فيأتي بالغريم مسافة يوم ويتأخر في طلبه يوم، ويأتي به في اليوم الثالث. وإذا قيل: التلوم يومان اقتضى ذلك تأخيره خمسة أيام. يومان في السفر إليه ومثلها في القدوم به ويوم في طلبه. والقول بثلاثة أيام أبعد، لأن ذلك يقتضي سبعة أيام. والأصح عندي في هذا مراعاة الضرر، فيُنْفَى، عمن له الحقُّ، ضررُ التأخير الذي يضر به، وينفى عن الحميل ضرر الاستعجال الذي يضر به. فإذا تقرر هذا وأن الحميل بالوجه يبرأ باحضار من تحمل بوجهه، معسرًا أحضره أو موسرًا، في المشهور من المذهب، وإن كان قد روى ابن الجهم عن مالك أنه لا يبرأ إلا باحضاره موسرًا، لأنه إذا أحضره معسرًا لم ينتفع من له الدين بإحضاره، فصار حضوره كتغيبه، فإنه لو غاب وتوجهت الغرامة بغيبته، فأراد الكفيل بوجهه أن يثبت فقره لتسقط الكفالة عنه، لكونه إذا ثبت فقره انكشف من ذلك أن غيبته لم تضر بمن له الدين، لأنه لو احضره ما أفاد حضوره. فإن هذا: مقتضى المذهب سقوط الكفالة بإثبات فقر المتحمل بوجهه إذا غاب. لكن إنما يتوجه الحكم بالتقرير مع اليمين بعد إقامة البينة لأنهم (¬1) لا يعلمون له مالًا. فإذا كان حاضرا وأثبت فقره وحلف سقطت الكفالة لاستيفاء شرائط الحكم بالفقر. وإذا أثبت الكفيل فقر الغريم وهو غائب بقي من تمام ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأنهم

الحكم بالفقر يمينُه. واستحلافه مع غيبته يتعذر. فهذا قد يجري على قولين عندنا، لكون هذا اليمين يمينَ استظهار، لأجل التهمة بأنه أخفى مالًا، ويمين الاستظهار والتهم ليس من القوة ما للأيمان الواجبة عن الدعاوي المحققة. واختار بعض أشياخي في هذا الاكتفاءَ بثبوت فقر الغريم في غيبته، وعدمُ استحلافه لا يثبت غرامة على الكفيل لأجل عدم اليمين، لما ذكرناه من كونها يمين استظهار. وهذا على المشهور. وأما على رواية ابن الجهم عن مالك: فلا شك في أن هذا الذي ثبّته الكفيل لا يسقط عنده (¬1) الكفالة، لأن ما رواه ابن الجهم أثبت فيه غرامة الكفيل بالوجه، ولو حضر الغريم وأثبت فقره وحلف على صحة فقره، فكيف بهذا الذي لم يحضر ولم يحلف. واعلم أن الحمالة بالوجه تقتضي عندنا الزام الكفيل إحضار الغريم الذي تحمل بوجهه لوجاء بنفسه إلى من له الدين فقال له: ها أنا جئتك ومكنتك من نفسي وطلبي فأسقط الكفالة بوجهي عن الذي تكفل ذلك به. فإن ذلك لا يسقط الكفالة. هكذا ذكر في المدونة وغيرها. لكن ابن المواز قال: إلا أن يكون الكفيل بالوجه قال للغريم: اذهب فسلم نفسك إلى من له الدين عليك. ففعل الغريم، فإن ذلك يسقط الكفالة إذا ثبت ذلك، ويكون حينئذ الغريم كوكيل للكفيل على تسليبم الغريم لمن له الدين. ونحن لا نشترط أن يُحضر الكفيل الغريمَ بنفسه، بل يجزيه أن يوكل من يحضره لربّ الدين. ومذهب الشافعية سقوط الكفالة بتمكين الغريم من نفسه صاحبَ الدين لأن القصد بكفالة الوجه: لا يتغيب الغريم عن من له الدين إذا طلبه به. وهو ها هنا لم يتغيب، وحصل المقصود من الكفالة، فلا يلتفت إذا حضر المقصود، إلى من حصل ذلك به: هل بالكفيل أو بالغريم؟ وإلى هذا ذهب محمَّد بن عبد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عنه

الحكم من أصحابنا، واختاره بعض أشياخي وزاد عن هذا أن يمكّن (¬1) من له الدين من طلب الغريم لكونه حاضرًا بين يديه وهو غير ممتنع عليه، يسقط الكفالة إذا ترك طلبه اختيارًا منه، وجرى ذلك مجرى تمكين الغريم من نفسه أو إتيان الكفيل به. وهذا الذي قاله مما ينظر فيه، لإمكان أن يكون من له الدين إنما أعرض عن طلبه، ولم يجحف به، ثقة بأن الكفيل بوجهه يصونه عن التعب متى أراد طلبه، أو يمتنع الغريم من التغيب مراعاة لمن تكفل به، لئلا يسأله في الكفالة به فيفعل ذلك محسنا إليه فيسيء هو ويغيب حتى يغرم الكفيل. لكن لو انضم إلى ذلك قرائن أحوال تَعلم منها ان الطالب أسقط الكفالة عن الكفيل لأجل تمكّنه من الغريم لحسن هذا الذي ذهب إليه. وإذا تقرر أن تمكّن من له الدين من الغريم لا يسقط الكفالة، فإن الكفيل لو أتى بالغريم الذي تكفل بوجهه، وسلمه إلى من له الدين بموضع لا تأخذه الأحكام فيه، فإن هذا التسليم لا يسقط الكفالة إذا كان الغريم قادرًا على الامتناع ممن له الدين بسلطان أو فتنة أو كونه في مفازة لا يجد من يحكم له عليه، وهذا لأن المقصود من الكفالة بالوجه تحصيل الغريم حتى يؤذن (¬2) ما في ذمته. فإذا كان تحصيله في حال يمتنع به من أراد (¬3) الحق، فالمقصود بالكفالة غير حاصل، فلم تقصد (¬4) مع عدم المقصود بها. فلو سلمه بموضع يتمكّن من الطلب ولكن لا تحضر بينة، فإن ابن المواز رأى أن الكفالة تسقط، وإنما يمتنع سقوطها إذا وقع تسليم الغرماء في حال يمتنع الغريم بنفسه من أداء الحق ويمكنه ذلك. وأما عدم البينة فإنه ليس ذلك منه ولا من سببه، فلهذا لم يتعين وجود البينة مع كون فقدها يمنع من التمكن من الغريم. وقال محمَّد بن عبد الحكم: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَمَكُّن (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يؤدّي (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أداء (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تحصل

إنما تسقط الكفالة إذا سلمه تسليمًا لا يمكن الامتناع منه كما لا يمكنه الامتناع وقت الحمالة. وأشار بعض الأشياخ إلى أن هذا كالاختلاف (¬1) لما قاله ابيت المواز، وعلى هذا لو سلم الكفيل الغريم وهو محبوس في حبس القاضي، فإن هذا التسليم يسقط الكفالة، لكون المتكفَّل به يتمكن من طلبه وهو في الحبس، ويحاكمه عند القاضي الذي حبسه حتى يمكنه من حقّه، ويقضي بذلك على المحبوس. وإن وجب حبسه زاد في مقدار أمد الحبس لأجراء هذا الطلب الثاني بحسب ما يقتضيه الاجتهاد. لكن لو كان الحبس بغير حق ولا سبب فيه للغريم، بل حبسه سلطان تعدّيا عليه، ومُنع منه. فإن هذا يجري مجرى موته، وموته مسقط للكفالة، فكذلك إذا كان هذا الامتناع ليس من الغريم ولا سبب له فيه. وقد ينظر إلى هذه الطريقة التي اختارها بعض الأشياخ ما قاله ابن المواز من التسليم بموضع لا بينة فيه على الغريم، فتسقط الكفالة لكون عدم التمكن من أخذ الحق لا سبب فيه للغريم، وإنما يبقى النظر في إشارة محمَّد بن عبد الحكم في الكلام الذي ذكرناه عنه: إنما تسقط الكفالة بتسليم لا يمكنه الامتناع إلا كما يمكنه وقت الحمالة. فهذا مما ينظر فيه. وقد يفارق الموت حبسَه تعديا؛ لأن الموت غادٍ ورائح ولا يُرجَى صاحب التمكن من الطلب في المستقبل، ولا هو المقصود بكفالة الوجه، والمحبوس ظلما يمكن تتاول الحق منه والإعذار إليه فيه، والمقصود بحمالة الوجه أن يكون سببا إلى تحصيل ما في الذمة، فهذا مما ينظر فيه. ولو كانت الكفالة مؤجلة فأتى الكفيل بالغريم قبل الأجل لم تسقط الكفالة عنه، لكون من له الدين لم يستحق الطلب فلا يفيده احضار الغريم، وهو لا يستحق طلبه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الأولى: كالخلاف.

ولو اشترط المتحمل له على حميل الوجه أن يحضر له غريمه يبلد سمّاه فأحضره بغيرها من البلاد مما تأخذ فيه الأحكام لا مضرة تلحق المتحمل له في أخذه هناك، فإن محمَّد بن عبد الحكم ذكر في كتاب. الكفالة من كتابه أن في المسألة قولين. وهذا عندي قد يلاحظ مسألة الشروط التي لا تفيد. وكذلك ذكر محمَّد بن عبد الحكم لو اشترط على الحميل إحضار الغريم ببلد تأخذه فيه الأحكام فخرب ذلك البلد، وصار مما لا تجري فيه الأحكام، فإن إحضار الغريم فيه قولان أيضًا: أحدهما أن (الغريم (¬1) لا يبرأ) لأنه وفّى بما اشترطه له عليه. والثاني أنه لا يبرأ، لأن المقصود حين الاشتراط التمكن من أخذ الحق من الغريم. وإذا صار البلد المشترط لا تجري فيه الأحكام بطل المقصود بالحمالة فلم تسقط. ولو اشترط الكفيل في الكفالة بالوجه: أنك إن لقيت غريمك سقطت الكفالة عني. فإن هذا الشرط يعتبر. فإذا لقيه سقطت الكفالة. لكن إذا كانت اللقيا بموضع يتمكن منه ومن طلبه. فأمّا إذا كان بموضع لا يتمكن من طلبه فهذه اللقيا لا تفيد، فأشبه ذلك إحضار الكفيل في موضع لا تأخذه فيه الأحكام كما تقدم بيانه، إذا أطلق الحمالة ولم يقيدها بموضع يحضو فيه الغريم، لكنه يتمكن فيه من الطلب فإنه تسقط الكفالة كما بيناه، ولو عدم البينة فيه كما حكيناه عن ابن المواز وعند أصحاب الشافعي إن الكفالة لا تسقط مع الإطلاق لذكرها (¬2) إلا بأن يسلمها بالبلد الذي وقعت الحمالة فيه، قياسًا على السلم المطلقال في لا يقيد فيه القبض ببلد، فإن القبض يكون بالبلد الذي وقع فيه العقد. وهذا القياس لا نسلمه لأن السلع تختلف لاختلاف البلاد في أسعارها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الكفيل يبرأ (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بذكرها

وفيها اغراض للناس، ألا ترى أنه لو باع سلعة بدنانير إلى أجل فحلّ الأجل، والمتعاقدان في بلد آخر، فإنه يقضى بالدنانير لعدم اختلاف الاغراض فيها باختلاف البلاد، بخلاف غيرها (¬1) فيه اغراض باختلاف البلاد، وتسليم الكفيل بالوجه المكفول بوجهه يحصل الغرض فيه للمكفول له في سائر البلاد، ولا يبقى على "هذا إلاما قاله ابن المواز من سقوط الكفالة بموضع يسلم فيه الكفيل الغريم ولا بينه للطالب. وقد ذكرنا ما فيه. ولو اشترط الكفيل ألاّ مطالبة عليه بالمال، وإنما عليه طلب الغريم والبحث عنهُ، فإن له شرطه، ولا يغرم مالا إن غاب الغريم، ويؤمر بطلبه، وإن لم يفعل واتهم فيه حتى يفعل. وإن طلب فلم يجد فلا غرامة عليه. ولو كان الغريم قد غاب إلى بلد قريب لكلف الكفيل طلبه فيه حتى يحضره وقد قيل: القريب ما كان على مسافة اليوم واليومين. وقد قيل: يعتبر في هذا ما يقوى الكفيل عليه فيكلَّفه، وما يضعف عنه من السفر فلا يكلفه. وقيل: لا (¬2) يكلف السفرَ، وإن كان أيامًا، إلاَّ ما كان بعداً متفاحشًا خارجا عن أسفار الناس المعتادة. ولو كان الكفيك يطلب عيب (¬3) الغريم ولقيه فتركه حتى عاد (¬4) ففرّط فيه، فإنه يغرم المال، وكأنه المقاصد بذلك إتلاف مال غيره بعد أن التزم صيانة (¬5). ولو زعم الكفيل لما أمر بالخروج في طلب الغريم إنه فعل لصدق في ذلك، إذا كان ذلك بعد مدة يمكن أن يخرج ويرجع. وبعض أشياخي كان يخرّج هذا على مسألة المدونة في الأجير المستأجَر على تبليغ كتاب إلى بلد آخر، فقال: بلّغت: هل يصدق في ذلك أم لا؟. في المدونة قولان. فكذلك تصديق الكفيل ها هنا في قوله: خرجت وعدت، يجري على القولين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بخلاف غيرها [مِمّا] فيه (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إسقِاط لا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عَيْنَ (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غاب .... (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: صيَانَتَه

وهذا فيه نظر لكونه ها هنا يحاول بمجرد دعواه إثبات دين في ذمة أخرى، والديون لا تثبت في الذمم إلا ببينة، وهاهنا لا تثبت بدعواه دينا على آخر، وإنما يبرىء نفسه مما التزم من الطلب وهو مما لا يمكن فيه إقامة اليينة، فكأن الكفيل والمكفول له دخلا فيه على تصديق الكفيل. فهذا مما ينظر فيه. وقد تكلمنا على موت المكفول بوجهه، وبيّنّا أن موته يسقط الكفالة. فلو كان الموت إنما حدث بكفيل الوجه، فإن المشهور من المذهب أن الحمالة لا تسقط عن حميل الوجه بموته، وكأنه إنما التزم حقا في ذمته، فلا يسقط بالموت. ورأى عبد الملك بن الماجشون أن موت الكفيل بالوجه يسقط الكفالة عنه، ولا يطالب بها ورثته بعده. وكأن ما التزم من الكفالة معلق بعينه كما علقت بعين المكفول به. وإذا قلنا بأن الكفالة لا تسقط طُلِب ورثة الغريم، فإن لم يفعلوا تعلقت الغرامة بتركة الكفيل بالوجه، على حسب ما نبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى في موت الكفيل بالمال. وإذا تقرر أن موت الغريم يسقط مطالبة من تكفل بوجهه، لكونه مغلوبا على (¬1) احضاره بأمر لا قدرة له على دفعه عنه، وهو الموت، بخلاف التغيّب الذي يمكنه أن يتحفظ به حتى لا يغيب، فإن موت الكفيل بالوجه فيه قولان: هل تسقط الكفالة بموته فيطالب احضارَ الغريم و (¬2) ورثتُه، ويؤخذ الدين من تركته، وهو المشهور؟ أو تسقط الكفالة كما حكيناه عن عبد الملك ابن الماجشون. وأما موت الكفيل بالمال فإن الكفالة لا تسقط عنه بموته من غير خلاف، إذا كانت في أصل العقود. ولو كانت بعد العقد، فهل تبطل بالموت أو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على [عدم] إحضاره (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف واو العطف.

تجري مجرى الهبات؟ فيه قولان. وقد تقدم ذكر ذلك. ولو كان الدين مؤجلًا فمات الحميل بالوجه، وقلنا بالمشهور إن موته لا يسقط الكفالة، فإن ورثته مطالبون بإحضار الغريم، فإن أحضروه سقطت الكفالة، كما لو أحضره الميت الذي تكفل به فمات، ورثوه. لكن قال ابن المواز: إذا أحضره أحدُ الورثة برئت التركة من المطالبة، ولو كان الدين مؤجلًا. وعارض هذا بعض الأشياخ المتأخرون، وقالوا: لا يحسن أن تسقط الكفالة المتوجهة في تركة الكفيل بالوجه إذا مات، بإحضار ورثة (¬1) الغريمَ قيل الأجل، لأن ذلك إحضار لا يفيد من له الدين، إذ لا يقدر على مطالبة الغريم الذي أتي به إليه قبل أن يحل الأجل. ولعل ابن المواز رأى أن حكم هذه الحمالة المؤجلة حقت بموت الحميل كما يحلّ على الحميل المال الديُن المؤجلُ إذا مات الحميل به، وما ذلك إلا لما يلحق ورثته من الضرر في منعهم قسمة التركة. وقد يتعلق بهذا حق المتحمّل له لإمكان أن يحل الأجل ويتغيب الغريم، فتتوجه الغرامة على الكفيل بوجهه وقد مات، فيكون الحكم أن يؤخذ من تركته ما ترك عليه من دين استحقه المتحمل له. ولا تصح قسمة ميراث ميّت قبل أن تقضى ديونه. وأما الديون المؤجلة فإنها تحل بموت الغريم من غير خلاف. وهل تحل على الحميل بالمال بموته أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: اختار ابن القاسم أنها تحل كما تحل على الغريم بنفسه إذا مات. ومذهب عبد الملك أنها توقف حتى يحل الأجل، فإن لم يوجد للغريم مال أخذ ما وُقف من تركة الحميل فدفع لمن له الدين. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ورثتِهِ

ومذهب ابن نافع أن تركة الحميل إذا كانت مأمونة واسعة، فإنها لا يؤخذ الدين منها معجلا ولا موقوفًا حتى يحل الأجل. وإن كانت غير مأمونة عجل الدين. فكأن القولَ بني على أحد قولي مالك في أن من له الدين غير إذا حل دينه، بين أن يطلب به الغريم أو الذي تحمل ما عليه. فيصير على هذا على هذا القول الحميلُ بالمال كالغريم نفسِه، فإذا اتفق على أن الغريم نفسَه إذا مات حل الدين المؤجل الذي عليه فكذلك الحميل، لأنه كغريم آخر. وعلى القول الثاني لمالك أنه لا يمكن من أخذ الدين من الحميل إلا إذا تعذر أخذه من الغريم (لأجل الدين) (¬1). ولكن يبقى النظر في وقفه إلى أجل، ومنع الورثة من التصرف في مقداره من التركة لحق من له الدين، إذ إبقاؤه مضرة على الورثة، وعلى من له الدين، لإمكان أن يضيع فيضير (¬2) ضياعه الورثة ويضر من له الدين. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: أمّا تكثير الحملاء بالوجه أو بالمال فذلك جائز، لأن الغرض بالحمالة التوثق فأشبهت الرهبان، والبرهان يجوز أخذها وإن كثرت أنواعها. ولا فرق في هذا بين الحمالة بالمال أو الحمالة بالوجه. ولو تكفل ثلاثة رجال بوجه رجل لصح ذلك وبرىء من الحمالة من أحضره منهم وحده، ولا يبرأ الحميلان الآخران حتى يحضره كل واحد منهما. ولو انضاف إلى هذا أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة حميل بصاحبه لسقطت الكفالة عنهم أجمعين بإحضار واحد منهم الغريم، لأن كل واحد منهم لما تحمل بصاحبه صار كالوكيل له على احضار الغريم. وقد قررنا أن موت الغريم لا يسقط الحمالة بالمال ويسقط الحمالة لالوجه، وموت الحميل بالمال لا يسقط ¬

_ (¬1) ما بين القوسين، هكذا في النسختين (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَضر

الحمالة، وموت الحميل بالوجه فيه قولان كما قدمنا. ولو تحمل زيد لعمرو وتحمل يزيد و (¬1) بكر، وحمالة كل واحد منهما بالمال فإن موت عمرو لا تسقط الحمالة عن زيدل ولا عن بكر لما أصلنا. ولو تحملا بالوجه جميعًا فإن موت عمرو يُسقط الحمالة عن زيد، وإذا أُسقطت عن زيد سقطت عن بكر لأنه كالفرع عنه، وإذا سقط الأصل يسقط الفرع. ولو مات زيد لسقطت الحمالة عن تركته على مذهب عبد الملك ولم تسقط على المذهب الآخر، وإذا سقطت عن زيد بموته سقطت عن بكر لأن بكرًا حميل بوجه زيد، وموت المتحمَّل بوجهه يسقط. لكن لومات بكر لجرى سقوط الكفالة عنه وعن تركته على القولين المتقدمين في سقوط الكفالة عين الحميل بالوجه إذا مات. ولو غاب عمرو لأُخذ زيد بالدين، ولو غاب زيد لأخذ بكر بما توجه على زيد من الغرامة. ولو اختلفت طرق الحمالة من هذين الرجلين: فتحمل زيد بالوجه، وتحمل بكر عن زيد بالمال، فإن موت عمرو يسقط الحمالة عن زيد؛ لأنه حميل بالوجه وقد مات من تحمل بوجهه. وإذا سقطت عن زيد سقطت عن بكر لأنه كالفرع عن زيد. ولو غاب عمرو لتوجهت الغرامة على زيد، فإن لم يوجد له شيء غرم عنه بكر الذي تحمل عنه بالمال. (ولو كان يمكن هذا) (¬2) زيد تحمل بالمال وبكر تحمل بوجه زيد، فإن بكرا إذا أحضر زيدًا سقطت عنه الحمالة. ولو مات زيد لسقطت عنه الحمالة أيضًا. ولو مات بكر فإن الحمالة ثابتة بعد موته. وأشار بعض الأشياخ إلى أنه لما قال: هي ثابتة، ولم يقل تؤخذ من تركته بيمين لأنه لم تتوجه على من تحمل بوجهه غرامة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف واو العطف (¬2) هكذا في النسختين

وأشار غيره من الأشياخ إلى أن ذلك جار على الخلاف في موت الحميل بالمال إذا كان الدين مؤجلًا هل. يحل بموته أم لا وإن كان لم يتوجه غرامة على من تحمل عنه بالمال؟ وكذلك يكون حكم بكر ها هنا يجري على القولين: هل يؤخذ من تركته، إذا مات، الدين، و. إن كان الدين لم يتوجه على زيد الذي تحمل بوجهه وهو حميل بالمال مطالب. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: قد قدمنا أن الحمالة بالمال لا تبرىء ذمة المتحمَّل عنه، بل يصير الدين متوجها في ذمتين: في ذمة الغريم وذمة الحميل. وذكرنا فيما سلف أن من الناس من ذهب إلى أن الحمالة بالمال تبرىء ذمة المتحمّل عنه وذلك كالحوالة: فإن حقيقة الحوالة أن يكون الدين في ذمة واحدة ثم ينتقل إلى ذمة المحال عليه وتبرأ الذمة الأولى وهي ذمة الغريم الذي عليه الدين. وذكرنا سبب الخلاف في هذه المسألة وأن جمهور العلماء على أن الحمالة لا تبرىء ذمة المتحمَّل عنه. ولكن اختلف هؤلاء في تمكين من له الدين من طلب الحميل بما تحمل به من (¬1) تمكنه من أخذ دينه من ذمة غريمه الذي عامله بأصل الدين، في الأكثر على أن من له الدين مخيّر بين أن يطالب بدينه الغريم أو الحميل، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وبه قال مالك في أحد قوليه. وله قول آخر أنه لا يمكن من له الدين من طلب الحميل مع إمكان أخذ دينه من غريمه. والروايتان عنه مشهورتان في المدونة وغيرها. واتفق الجميع على أن من له الدين إذا حيل بينه وبين أخذ حقه من الغريم لفقر حدث بالغريم، أو تغيّب، أو لَدَدٍ، أو امتناع لا يقدر معه على الانتصاف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مع.

منه، فإن له أخذ الدين من الحميل. وسبب الخلاف في تمكين من له الدين بطلب الحميل مع تمكنه من أخذه من الغريم قوله عليه السلام "والزعيم غارم" (¬1) يعم سائر الأحوال: حالة كون الغريم حاضرًا موسرًا يتُمكن طلبُه بالدين، وبين كونه ممتنعا من أدائه. وهذا كالعموم في المعنى، وفيه اختلاف بين الأصوليين. فاقتضى هذا العموم تمكين من له الدين من طلب الحميل على أيّ حال كان الغريم. وكأن من ذهب إلى رفع التخيير بين طلب الحميل والغريم إذا أمكن أخذ الدين من كل واحد منهما رأى أن قوله في هذا الحديث "والزعيم غارم" فيه إشارة إلى أنه إنما يغرم ما قد صار في حيز التلف لكون الغريم فقيرًا أو ممتنعا فيصير الحميل غارمًا لما هو في حكم التالف. وكأن هؤلاء رأوا أن لفظة الغرامة تشعر يكون ما يؤدى عوضا عن ما هو في حكم الفائت التالف، وإنما يقال غرم زيد قيمة ثوب استهلكه، ولا يقال إذا اشتراه وأدى ثمنه غرم زيد ثمنه هذا المألوف في الاستعمال. وهذا يقتضي ألا يتوجه على الحميل. مطالبة إلا عند فوت أخذ الحق من الغريم. ويرجح أصحاب هذه الطريقة مذهبهم بأن القصد بأخذ الحميل، التوثق في الدين، وكون الطالب للحميل إذا اشترطه في أصك المعاملة فإنما يفعل ذلك توثقا من مشتري سلعته، حذَرًا أن يفتقر أو يتغيب، فصارت الحمالة في معنى الرهبان، بل (¬2) القصد من الرهبان التوثق من الغريم مخافة أن يفتقر أو يتغيب فيكون الرهن يقضى منه الدين. وقد اتفق على أنه لا يمكن الطالب من أخذ حقه من الرهن إلا عند تعذر استيفاء الدين من الراهن، فكذلك لا يمكن من له الدين من طلب الحميل إلا بعد تعذر استيفاء الدين من الغريم. ومقتضى التحقيق عندي في هذا أن الحمالة التزام لم يلزم في أصل الشرع فلا يتجاوز فيه حدّ ما التزمه الملتزم وتطوع به. فلو صرح حين الالتزام بأن قال: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذْ

إنما أتحمل عن فلان بما عليه من دين بشرط أن يطرأ عليه فقر، أو يحدث منه تغيب فإنه لا يختلف في أن من له الدين لا يمكن من طلب الحميل إلا عند حصول الشرط الذي علق الالتزام به. فإن اتفق هذا أوجب أن ينظر إلى قوله: أنا حميل عن زيد بما عليه من الدين: هل هو نص في الالتزام على أي حال كان الغريم فيقضى بمقتضى لفظه ويمكن المتحمل له من مطالبته مع إمكان أخذ دينه من غريمه أو يكون هذا اللفظ محتملا لكونه إنما أراد الالتزام بشرط أن يتعذر القضاء من الغريم حتى تكون الحمالة كالرهان فيقبل قوله إن ذلك مراده، وقصارى ما فيه أن يحلف على أن ذلك مراده، ولا تعمر ذمته بالشك والاحتمال. ولو جرت عادة قوم في الحمالة أنها إنما تتوجه عند تعذر أخذ الحق من الغريم حتى صارت العادة كالقرينة الدالة على مراد المتكلم، لكان ذلك كما لو قيّد الحمالة نطقا بشرط فقر الغريم أو تغيبه. هذا حكم الكفالة المطلقة المقيدة بشرط تعذر الاستيفاء من الغريم. وأما المقيدة بالتمكن من طلب الحميل مع إمكان استيفاء الحق عن الغريم، مثل أن يشترط من له الدين أن يبدّأ به بالطلب، وإن كان غويمه حاضرًا يمكن الاستيفاء منه، فإنه اختلف قول مالك رضي الله عنه في هذا الشرط والتقييد: هل يؤثر ويقضَي به أو يكون مصرَّحًا لا تأثير له؟ فرآه مرة مؤثرًا يوجب القضاء به، ويمكّن من له الدين من طلب الحميل، وإن أمكن أخذ الحق من الغريم. ورآه مرة غير مؤثر، وقال: لا يمكّن من ذلك، واعتل لهذا القول بأن قال: أيُتبع ربع الحميل وعقاره والغريم حاضر موسر وهذا من الاضرار؟! وإنما يتصور الخلاف في هذا الشرط على القول بأن من له الدين لا يمكّن من طلب الحميل مع حضور الغريم وإمكان أخذ الحق منه، وأما إذا قلنا: إن الحمالة المطلقة يتوجه معها طلب الحميل، وإن كان الغريم يمكن الاستيفاء منه، فأحرى أن يقال بهذا مع التصريح في أصل الحمالة بأن من له الدين أن يبدأ

بطلب الحميل. ومقتضى الفقه في هذه المسألة ردها إلى أحكام الشروط، وهي منوّعة أنواعها كثيرة، ذكرناها في كتاب البيوع، وذكرنا أن من اشترط شرطا مباحا ولكنه لا منفعة له فيه ولا غرض يعتمده العقلاء فإن المذهب على قولين: هل يقضى له بشرطه لأن عليه وقعت المعاملة، أوْ لا يقضى له به لكونه كاللّغْو من الكلام المطَّرح؟ وقد قال في المدونة فيمن أكرى داره على أنه لا يسكنها المكتري إلا بعدد معلوم فأراد المكتري الزيادة في العدد فإنه يمكّن من ذلك إذا لم يلحق صاحبَ الدار منه ضرر وهذا من النوع الذي نحن فيه. وإن شرط مالًا يفيد لم يقض به في هذه المسألة التي ذكرناها في الأكرية. ولو كان في شرط التبدئة بالحميل منفعة لمشترطه لكونه يتعب في اقتضاء الغريم لوجب الوفاء بشرطه. وإنما يحسن الخلاف إذا شرط التبدئة بالحميل، وكان تناول الحق من الغريم ومن الحميل على حد سواء في ارتفاع المشقة وسهولة الطلب. ولو كان اشتراط التبدئة بالحميل إنما وقع ذلك من الغريم بأن يقول مشتري السلعة لبائعها: أعطيك فلانا حميلا بالثمن على أن تعبدًا بطلبه. وكان المشتري (¬1) في هذا الاشتراط غرض، مثل أن يعلم أن الحميل إذا وزن (¬2) عنه الثمن آخره عليه، ولم يقبضه فما وزن (2) عنه إلا بعد حين، لكان ذلك أيضًا شرطا مفيدا يقضى به. وأما لو كان دفع الحميل الثمن رجع به في الحال على المشتري، وكان دفع الثمن للبائع والحميل على حد سواء لا منفعة فيه لجرى ذلك أيضًا على القولين في شرط مالًا يفيد. ومما ينخرط في هذا المسلك ما قدمناه في الحمالة، فإن محمدًا بن عبد الحكم ذكر في كتابه في الحميل بالوجه إذا اشترط عليه المتحمّل له بوجه غريمه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمشتري (¬2) هكذا في النسختين

أن يحضره له في بلد سماه، فأحضره له في بلد آخر يمكنه فيه الطلب كما يمكنه في البلد المشترط إحضار الغريم فيه، فذكر في المسألة قولين. وهذا أيضًا من شرط مالًا يفيد هل يوفى به أم لا؟ وقد ذكرنا هذه المسألة وما يلحق بها في أحكام الحمالة بالوجه. وأصحاب الشافعي ذكروا هذه المسألة أيضًا وأشارو إلى أنه إذا أحضره ببلد آخر غير البلد المشترط، ولا مضرة على المتحمل في ذلك فإن الشرط ساقط، وذكروا قولين. و (¬1) لو اشترط حضوره في البلد الذي سماه بمكان فأحضره بموضع آخر منه. وهذا كله يؤكد ما حكيناه من الاختلاف في اشتراط مالًا يفيد: هل يقضى به أم لا؟ ومما يلحق: بالمسألة التي نحن فيها اختلاف الحميل ومن له الدينَ في كون الغريم فقيرًا حتى يتوجه الطلب على الحميل من غير خلاف، أو كونه مليئا حتى يجري وجه الطلب عليه على اختلاف قول مالك الذي ذكرناه في صدر هذه المسألة فيه قولان: أحدهما: حمله على الغنى حتى ينكشف من حاله ما يدل على فقره، فيرتفع الخلاف في توجه الطلب على الحميل. والقول الآخر: حمله على الفقر حتى يظهر ما يدل على ملائه. وقد قدمنا في كتاب التفليس سبب هذا الاختلاف وأشرنا إلى أنا إن قلنا: إن الغالب في الناس الغنى، والفقر نادر، صار من ادعى الفقر ادعى خلاف الغالب فلا يقبل ذلك منه. وإنا إن قلنا: إن من اشترى سلعة ثم ادعى الفقر والعجز عن ثمنها لا يصدق. وعلة كونه لا يصدق أنه أخذ عوضا عما يُطلب به من الثمن، فيستصحب وجود ذلك في يديه حتى يظهر ما يدل على تلفه من يده، والحميل لم يأخذ عوضا فصدق في دعوى الفقر، كما ذكرناه هناك في تصديق الإنسان في أنه فقير "إذا طلب بالإنفاق على أبويه لما كانت هذه المطالبة لم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: و [كذا] لو ...

يؤخذ عنها عوض. على أن الحمالة تشعر باعتراف الحميل بأنه قادر على قضاء ما تحمل به فيطالب بموجب اعترافه. وهذا بسطناه في كتاب التفليس. والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال: إذا تكفل رجل عن رجل بما وجب عليه من دين أو بما يوجَب في المستقبل، صحّتْ الكفالة، وإن لم يعلم الكفيل بمقدار ما تكفل به، كما قدمنا أن هذا مذهبنا فيه، وأن الشافعي لم يجز الكفالة بالمجهول. لكن لا يخلو الوجوب من أن يثبت ببينة أو بإقرار المتكفّل عنه، إذا قال رجل: لي عند زيد مائة دينار، أو لي عليه دين. فقال عمرو: أنا كفيل بذلك. فإن ذلك يجب عليه على الجملة إن ثبت الدين. ولا يخلو ثبوته إما أن يكون ببينة تشهد به، أو بإقرار المدعَى عليه. فإذا جاء زيد فأنكر أن يكون عليه دين ولم تشهد عليه بينة به وحلف على بطلان دعوى المدعي لم يلزم الكفيل مطالبة، لأنه إنما ذكر أنه كفيل، والكفالة تسمية لمن ضمن دينا يؤديه ثم يرجع به على من أداه عنه بخلاف الحميل الذي مقتضاه أن يؤدي رجل عن رجل في دينًا على ألَّا يرجع به عليه. فإذا كانت الحمالة (¬1) مقتضاها رجوع الحميل (1) بما أدى بخلاف الحميل، وأتى زيد فجحد أن يكون عليه هذا الدين، وحلف على ذلك، فقد برىء من المطالبة بإجماع، وإذا برىء منها لم يصح أن يرجع عليه الكفيل بما تحمل به. والحمالة تسمية لما لَه به مرجع كما قررنا. ولا يكون قول هذا: أنا حميل. تصديقا للمدعي فيما ادعاه، لما ذكرناه من كون الحمالة تسمية لما له به مرجع. ولو نكل عن اليمين وردها على المدعي حلف المدعي وثبت الدين، ولزم الكفيلَ القيامُ به إذا كان المدعى عليه معسرًا، ثم يرجع به على المدعى عليه لأن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: الكفالة رجوع الكفيل

ثبوت هذا الدين بنكول المدعى عليه ويمين المدعي كثبوته بالبينة. وذكر في كتاب الشفعة من المدونة أن زيدا إذا أتى فجحد الدين، وحلف عليه، أن للمدعي تحليفَ الكفيل بأنه لا يعلم ثبوت هذا الدين. فإن نكل الكفيل عن هذه اليمين غرم. وهذا لأن الكفيل إذا أقر بثبوت الدين وأن المدعي يستحقه فكأنه يعلم أن المدعي إذا استحق هذا الدين استحق على الحميل به أن يقوم له به. ولا يضر ها هنا كون الحميل لا مرجع له لأنا إنما ذكرنا هذا التعليل فيما لم يعلم الحميل بثبوته من الدين فيحمل لفظ الحمالة على أنه قصد أن يتحمل بما يجب الطلب به، فإذا لبم يعلم وجوب الطنب به فلا مطالبة عليه، وها هنا هو عالم بثبوت الدين وإن المتحمل له يستحقه على المدعي عليه، فصار جحود المدعى عليه كجائحة طرأت على الحميل منعته أن يرجع بما يجب له الرجوع وأما كون الكفيل ها هنا إذا نكل عن اليمين أنه لا يعلم صحة هذا الدين فإنه يغرم من غير أن يُرجع اليمين على من يطالبه بالغرامة، فإن هذا هو الأصل في أيْمان التهم أن النكول عنها يوجب الغرامة، إذ المتَهِم لغيره لا حقيقة عنه (¬1) بباطن الأمر، والإنسان ممنوع أن يحلف على ما لا يعلم صدقه في يمينه. وفي الموازية، في المريض إذا قال عند احتضاره: لي على فلان مائة دينار، ثم مات، إن المدعَى عليه يحلف، ولم يراع في يمينه الخلطة لكون المريض يعتقد أنه منتقل إلى الآخرة، فتبعد التهمة في أن يدعي محالًا، فتسقط مراعاة الخلطة ولا يكون انتفاء هذه التهمة (¬2) اليمين يوجب قبول دعواه، كما قلنا في القسامة صيانة للدماء واحتياطا لها لكونها لا يتمكن احضار البينة فيها ويتمكن ذلك في المعاملات بالمال. ولو أتى زيد فأقر بصحة الدعوى عليه: فهل تلزم الكفيل الغرامة أم لا؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عنده (¬2) هكذا في النسختين، بمقدار كلمه

صرّح ابن المواز بأن ذلك لا يلزم بمجرد الإقرار دون أن تقوم بينة على ذلك. وظاهر المدونة إلزام الكفيل الغرامة بمجرد إقرار زيد المدعَى عليه لأنه قال في المدونة إذا أتى زيد فجحد: إن الكفيل لا تلزمه غرامة لأن زيدًا قد جحد فقال: نفي الغرامة بجحود زيد يدلس ذلك أنه لو أقر للزم الكفيل الغرامة. فمضى الأشياخ على أن المذهب على قولين في إيجاب الغرامة بمجرد الإقرار. وكذلك لو كانت الحمالة بما يستحب (¬1) من دين كقول رجل لآخر: عامل فلانا وبايعه، وأنا كفيل لما تبايعه به، فإن هذه الكفالة لازمة عندنا كما قدمناه. ولو أنكر المتحمَّل به أن يكون عامل هذا لكان القول قوله، وتسقط الحمالة عن الحميل، على حسب ما فصلنا القول فيه. ولو ثبتت عليه المعاملة ببينة لأخذ الحميل بذلك. ولكن قال غير ابن القاسم في المدونة: إذا عامله بما يشبه. وأطلق ابن القاسم الجواب. وحمله بعض الأشياخ أن مراده بالإطلاق ما قيد به الغير من مراعاة الشبه وأن ذلك مما يمكن أن يكون أراده ابن القاسم وهو الأظهر. وإن لم يجحد المتحمل به المعاملة ولكنه أقرّ بها فإن ذلك يجري مجرى القولين اللذين قدمناهما. ففي المدونة أن الكفيل تلزمه الكفالة إذا ثبتت المعاملة. وفي الزمياطة (¬2): أن الكفيل تلزمه الكفالة بإقرار المتحمل عليه بالمعاملة، وإن لم تعاين البينة المعاملة، ما لم يكن الإقرار بعد أن نهاه الكفيل عن المعاملة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يستحق (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: الدمياطية

وظاهر ما قال أنه إذا كان الإقرار بالمعاملة بعد أن قال الكفيل: لا تعامله، أن الإقرار لا يعتدّ به. وبالجملة فإن التحقيق في هذا اعتبار مقتضى اللفظ الواقع من الحميل. فإن صرح: بأني لا أتحمل إلا بما يثبت بالبينة، فإنه لا يختلف في أنه لا يطلب بمجرد إقرار المدعي عليه. وإن صرح بالتزام الحمالة إذا ثبت الدين ببينة أو بإقرار المدعى عليه فلا يحسن الخلاف في هذا. وإنما وقع الإشكال إذا أطلق: أنا حميل بما وجب لك على فلان، أو بما سيجب. فإن الوجوب هو الثبوت قال تعالى: {فَإِذا وَجَتَ جُنُوبُهَا} (¬1) يعني: سقطت عن جنوبها، وما ثبت ببينة فقد استقر. وما يعتبر فيه ما يقول المدعى عليه من جحود أو إقرار، فكأنه غير ثابت، فلا يحمل إطلاق هذا اللفظ على أن الحميل أراد أنه يتحمل بما يجب بالبينة أو بالإقرار. أو يقال: فإن من أقر بحق عليه لآخر قضي عليه بما أقر به باتفاق. هنا يقضى عليه لو شهدت البينة به. فإذا كان الإقرار يوجب الغرامة كما توجبه (¬2) البينة، وجب أن يتوجه الطلب على الحميل بمجرد الإقرار. هذا التحقيق فيه. وإذا احتمل اللفظ وأدى الاجتهاد إلى الاستظهار باليمين على الحميل أنه ما أراد بالحمالة إلا أن يكون حميلا بما يثبت بالبينة دون الإقرار، فيستحلف على ذلك، ويبرأ من الغرامة بمجرد الإقرار، أو تكون قرينة حال أو عادة تدل على القصد بهذا اللفظ فيرجع إليها. هذا مقتضى النظر عندي في هذه المسألة. وإذا حملنا إطلاق القول: عاملْ فلاناً وأنا حميل لك بما تعامله به، على أن المراد بالعاملة بما يشبه أن يتبايع به الرجلان في مقتضى العادة كما قال غير ¬

_ (¬1) الحج: 36 (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: توجبها

ابن القاسم في المدونة: إذا عامله شيئًا فشيئا حتى إذا انتهى إلى ما يشبه سقط ما زاد عليه من معاملة تستأنف. وأما لو عامله دفعة واحدة بمال كثير لا يشبه أن يكون الحميل تحمل به، فإن بعض أشياخي رأى أن الغرامة ساقطة عن الحميل، لكونها معاملة واحدة وقعت على خلاف ما اشترطه الحميل فلم يلزمه منها شيء. وعندي أن هذا قد تتخرج فيه طريقة أخرى، وهي أن يلزم الحميلَ من هذه المعاملة مقدارُ ما يشبه أن يعامل به، وتسقط عن الحميل المطالبة بما زاد على ذلك. وقد أشرنا في كتاب الوكالة إلى هذا الأصل في مسألة إذا وكله على أن يبيع له ثوبه باثنى عشر، فباعه بعشرة، فإن. الآمر لا يلزمه أن يبيعه بعشرة. فلو قال المشتري للآمر: أنا أتحمل لك بدرهمين بحال ما أمرت به. فهل يسقط مقال الآمر أم لا؟ في ذلك قولان. وكأن سبب الخلاف أن من تعدى من جنس إلى جنس اتضح كونه متعديا، وأن ما عقده على الموكل لا يلزم، وأن من عقد على الجنس المأمور به وعلى العدد اتضح لزوم ذلك للآمر، ومن عقد على الجنس وقصّر في العدد أو زاد: فهل يكون ذلك بهذه الزيادة في الجنس أو النقصان كالمتعدي إلى جنس آخر فلا يلزم ذلك، أو لا يكون ذلك كالتعدي إلى جنس آخر، فإذا أكمل عدد الجنس صار العقد الواقع من الوكيل هو العقد الذي أذن فيه رب السلعة. فكذلك مسألتنا إذا أمره أن يعامله بما يشبه، وكان الذي يشبه مائة دينار، فعامله صفقة واحدة بمائتي دينار، فهل تكون المائة الزائدة أخرجت المائة المأذون فيها عن جنسها، فصار ذلك كله غير مأذون فيه، أو لم تخرجها عن جنسها، فإذا سقطت المائة الزائدة على ما يشبه بقيت المائة الأخرى هي نفس المائة المأذون فيها. وقد ذكر محمَّد بن عبد الحكم فيمن قال لرجل: بيع من فلان دارك بألف درهم، وأنا ضامن لك الثمن فباع منه الدار بألف وخمس مائة درهم فذكر أن في

المسألة قولان (¬1): أحدهما: أن الحميل لا تتوجه عليه غرامة، لأن زيادة الخمسمائة على الألف المأذون فيها تصيّر الألف كأنها جنس آخر غير ما تحمل به، فأشبه من قال: بيع دارك بألف وأنا ضامن لك بالثمن، فباع منه بستانه، فإن ذلك لا يلزم. وقيل: يلزمه إذا باع منه داره بألف وخمس مائة الألف التي تحمل بها الحميل، وتسقط عن الحميل الخمسمائة الزائدة، ولا تكون هذه الزيادة مخرجة الألف عن كونها مأذونا فيها. وهذا الذي ذكرناه عن محمَّد بن عبد الحكم أنه ذكر فيه قولين في كتابه فيمن قال: بع منه دارك بألف وأنا كفيل لك، فباعها بألف وخمسمائة أن في ثبوت الألف على الكفيل قولين بما نبهناك عليه، يؤكد عندك أن هذا الأصل مختلف فيه، وأن الذي قاله بعض أشياخي إحدى الطريقتين (على أن قد يبدوا عوض) (¬2) في مسألة ابن عبد الحكم بأن يقول الحميل: إنما التزمت الحمالة لغرض لي في ذلك، وهو أن تبيعها منه بدون القيمة، فإذا بعتها منه بأكثر لم تلزمني الحمالهّ، لبطلان الغرض الذي تحملت لأجله. فيكون هذا القول على هذا التعليل خارجًا إلى أصل آخر، وبه علل هذا القول. والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال: أمّا ما استقر وجوبه سابقا للحمالة فإن من تحمل به لا يمكّن من الرجوع عن الحمالة، كما: قال: لي عند فلان مائة دينار، فقال له آخر: أنا كفيل لك بها. فإذا ثبتت على زيد بالبينة وجب على الكميل الغرامة، ولا يمكّن من الرجوع عن هذه الحمالة. ولو كان إنما تكفل بما سيجب، مثل أن يقول: عامْل فلاناً وأنا كفيل لك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: قولين (¬2) هكذا في النسختين.

بما تعامله به، فإنه يمكّن من الرجوع عن ذلك لكون هذا لم يلتزم ما قد وجب وإنما التزم ما سيجب، والرجوع عن الشيء قبل وجوبه بخلاف (¬1) الرجوع عنه بعد وجوبه. وقد اختلف المذهب فيمن وعد رجلا أن يعطيه مائة دينار في المستقبل ثم امتنع من أن يعطيه، فقيل: يقضى عليه بها، وقيل: لا يقضى عليه بها، وقيل: إذا كان الوعد له سبب قضي به، وإذا كان لا سبب له لم يقض به. وهذا إذا رجع الكفيل قبل المعاملة. وأما إن رجع بعد وقوع المعاملة فلا ينفعه ذلك، ولا تسقط عنه الغرامة، لأن من أدخل رجلا في إتلاف مال لزمه ما أدخله فيه. وقد أشار بعض أشياخي إلى أن التمكن من الرجوع قبل المعاملة إنما يُمكّن منه إذا أطلق القول بالحمالة فقال: عاملْه وأنا كفيل لك بما تعامله به. وأما إن قيّد فقال: عامله بمائة دينار وأنا كفيل لك بها، فإنه لا يمكن من الرجوع عن ذلك وإن لم تقع المعاملة، لكون المسِمّي مائةَ دينار حَدَّ غايةً معلومة ينتهي إليها. ومن أطلق ولم يحدّ فليس هناك غاية تطلب، فلا يمنع من الرجوع فيها. ألا ترى أن من أكرى داره سنة لزم هذا العقد بالقول لهما جميعًا. ولو أكراها كل شهر بدينار لكان لكل واحد منهما الرجوع فيما يستقبل من السكنى لما لم تكن غاية يُنتهَى إليها. واعتمد أيضاً على ما وقع في المدونة فيمن أعار أرضه رجلًا يغرس فيها ويبني وحدَّ أجلًا معلوما، فليس له الرجوع، وإن لم يحدّ أجلا فله الرجوع على ما ذكره في المدونة، واشترط فيه، ولا فرق إلا ثبوت العارية وتحديدها وانتفاؤها (¬2). وقد كان بعض الأشياخ يجري هذه المسألة على اختلاف القول في الهبة: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خلاف (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وانتفاؤه.

هل تلزم بالقول أو لا تلزم؟ والحمالة كالهبة لمنافع، لأن الحميل يدفع عن الغريم مالًا هو كالسلف له ليأخذه منه بعد حين، فكأنه وهبه منافع مال. وهذا يبسط في كتاب الهبات إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثالث عشر أن يقال: قد قدمنا أن الشافعي منع في أحد قوليه الحمالة بوجه الغريم، وما ذاك إلا لكونه عينا لا يدخل تحت القدرة بقاؤها وتحصيلها والتمكن منها عند الأجل المضروب للضمان. ومما يلحق بهذا المعنى ضمان الدرك في المبيعات: فضمان درك الأثمان عند إلاستحقاق جائز لأنه مقدور على ردّه، إن كان عينا، أو قيمته إن كان عرضا قد فات. وقد كنا ذكرنا خلاف بعض أصحاب الشافعي فيه. وأمّا ضمان درك المبيع المتعلق بعينه على أنه إن وقع استحقاق لزم البائع تحصيلها وأعطى كفيلا ضامنا لتحصيلها فلا يصح، لعدم القدرة عليه. وإن المستحق لعين السلعة لا يملك الحميل أن يأخذها منه بغير اختياره، إلا أن يغصبه فيها، والغصب لا يحلّ، ولو حلّ. فقد لا يمْكِن، فهي أعلى رتبة من ضمان وجد (¬1) الغريم، لأن مال (¬2) ضمان وجد (1) الغريم غرامة الدين الذي عليه إن تغيّب، وضمان الدّيون يصح، وضمان تخليص عين السلعة من مستحقها لا يصح. لكن (¬3) وقع ذلك على غير قصد إليه بل تأكيد درك الثمن فإنه لا يفسد البيع ولا يؤخذ الضامن بغرامة، إذا كان ذلك تلفيفا من الموثقين لم يقع العقد عليه، ولهذا قال في المدونة: إن ذلك تلفيف من الموثقين إذا قالوا: وضمن فلان درَكَ هذه السلعة. ولو أريد به عينها لم يجز. ولهذا أجري الرسم منا ومن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب. وجه (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مآل (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لكن [إن] وقع

أشياخنا: الفتوى بترك الاعتداد بما يقوله الموثقون في وثائقهم: شهد على فلان وفلان بما نسب إليهما في هذا الكتاب طوعا في صحة عقولهما وجواز أمورهما. وأن ذلك لا يكون ترشيدا لمن وصف بِإنه جائز الأمر لكونه لم يقصد الشهود إلى الشهادة ولو قصدوا إلى الشهادة بذلك لم يحل لهم أن يشهدوا حتى يكونوا اختبروا من وصف بذلك وعلموا رشده. ولهذا يقول الموثقون إذا أرادوا ذلك: وعلى علم بكون فلان وفلان رشيدين لا يولىَّ عليهما. على حسب ما اعتادوه من العبارة في هذا المعنى. لكن بعض الاشياخ إنما يرى هذا تلفيفا من الموثقين إذا أدرجوه في آخر الوثائق، جريا على ما اعتادوه. وأما إذا وقع في أحكام القضاة فوصفوا رجلا بأنه جائز الأمر، فإنه لم تجرِ عادة بأنهم يصفونه بذلك تلففا، بل قصدًا إلى ثبوت ذلك الوصف عندهم. فإذا عقد ضمان الدرك لتخليص عين السلعة عند إلاستحقاق قصدا إليه، وقد قلنا: إن ذلك لا يجوز، فلو وقع الاستحقاق فهل تلزم الكفيل مطالبة أم لا؟ فيه قولان: أسقط مالك رضي الله عنه في المدونة عن الكفيل غرامة شيء لأجل هذا الضمان، ورآه لا يُثبت عليه غرامة. وحكى في المدونة عن غير ابن القاسم أن الكفيل تلزمه غرامة الأقلّ من الثمن الذي دفعه المشتري للبائع، أو قيمة السلعة التي أخذت من يديه بالاستحقاق، وضمن له هذا الكفيل تخليصها من مستحقها. وتكون القيمة يوم الاستحقاق. يريد يوم تنزع السلعة من يد مشتريها بحكم الاستحقاق. فمالك رضي الله عنه نظر إلى هذا الضمان من مقتضى لفظه، فأسقط حكمه، واللفظ إنما هو صريح في ضمان تخليص عين السلعة، وذلك لا يقدر عليه، كما بيّناه، وما لا يقدر عليه لا يُلزَمه الإنسان، والثمن لم يذكر في هذا

الضمان فيطالب به الكفيل، ولا يطالب أحد بغرامة ما لم يلتزم غرامة (¬1) فلهذا لم يوجب على هذا الكفيل غرامة. وأما قول الغير في المدونة: إن الكفيل تجب عليه غرامة الأقل من الثمن الذي دفعه المشتري، ثقة بضمان هذا الضامن لتخليص السلعة، أو قيمتها يوم الاستحقاق إن كانت قيمتها حينئذ أقل من الثمن الذي دفعه المشتري للبائع، فإنما ذلك منه اطّراح بحكم (¬2) اللفظ والتفات إلى المعنى. ومعلوم أن المعنى والقصد بأخذ الحميل التوثق فيما يدفعه الإنسان ويضمن له دركه، فلولا ثقة مشتري هذه السلعة بقول هذا الكفيل: أنا ضامن تخليصها، لم يدفع إلى البائع من الثمن الذي دفع إليه فيها، فكأنه أتلفه الكفيل عليه بسبب هذا الضمان، فتلزمه غرامته. إلا أن تكون قيمة السلعة حين انتزاعها من يد مشتريها أقل من الثمن الذي دفع فيها فلا يلزم الكفيل إلا غرامة هذه القيمة ويرجع المشتري بتمام ماوزن من الثمن على البائع الذي قبضه منه، لأن الكفيل يقول للمشتري - أرأيت لو لم تُستحق هذه السلعة من يديك: هل يلحقك ضرر لأجل ضماني أم لا؟ فلم يجد المشتري مدفعا لقوله، لأنه إن غبن في الثمن فالغبن لم يكن من جهة هذا الكفيل، وإنما كان من جهة جهل المشتري بالقيم، فدرك جهله عليه، فإنما أضر ضمانه المشتري أخذ السلعة من يديه فلا يكون عليه أيضا أكثر مما خرج من يديه من الثمن. فهذا وجه قول الغير. فإذا غرم الكفيل القيمة، وهي أقل من الثمن، فإن حق المشتري من إكمال ما دفع من الثمن لا يسقط عمّن قبضه منه، وهو البائع، وإنما يسقط عن الكفيل لأجل ما ذكرناه من كونه لم يضمنه. وبعض أشياخي يشير إلى أن هذا الخلاف إنما يتصور إذا كان الكفيل ومشتري السلعة جاهلين بحكم هذا الضمان، فيكون جهل المشتري المضمون له الدرك قد أعان على تلف مال المشتري من جهة التغرير به غلطا منه. وأما إذا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غرامته (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لحكم

علم المشتري يكون هذا الضمان ساقط (¬1) وجهل ذلك الضمان (¬2)، فيبعد الخلاف في هذا، لأن المشتري وثق بما يعلم أنه غير لازم ولا موثوق به ولا قصد الكفيل إلى التغرير به فيطالب بغرامة. وكذلك لو كانا عالمين جميعا: الكفيل والمشتري، بكون هذا الضمان ساقط (1). وإذا كان المشتري معتقدا كون هذا الضمان لازما، والكفيل يعلم أنه غير لازم، فلا يحسن الخلاف، لكون الكفيل ها هنا انفرد بالتغرير بالمشتري فضمن له ما يعلم أنه ساقط، والمضمون له يظن أنه ثابت. وهذا الذي أشار إليه في هذا القسم فيه إشكال لكون الكفيل إذا انفرد بالعلم، وكان المشتري جاهلا، إنما وقع منهما التغرير بالقول، وإتلاف المال بالتغرير بالفعل يوجب الضمان باتفاق، كمن أخذ من إنسان زيتا فأفرغه بيده في زير يعلم أنه مكسور لا يثبت فيه الزيت وصاحب الزيت جاهل بذلك، ولو سأله صاحب الزيت عن زيد هل هو صحيح فنَصبُّ فيه الزيت؟ فقال المسؤول: هو صحيح، فصُبَّ فيه زيتكَ. وهو يعلم أنه مسكور، وصاحب الزيت يجهل ذلك، فإن في غرامة هذا الغارّ بالقول قولان (¬3) في المذهب. فهذا إن أخذت هذه فصورت المسألة من هذه الطريقة لم يبعد تصور الخلاف في غرامة الكفيل. لكن قد يقال: هذا كالغرر بالفعل، لأنه زاد هاهنا على التغرير بالقول التزامَ تخليص مالٍ من ذمته، ودفعِ عوضه، (فكأنه ارتفع بذلك عن رتبة التغرير بالقول التزام تخليص مال من ذمته ودفع عوضه، فكأنه ارتفع بذلك عن رتبة التغرير بالقول مجردا من التزام الدرك. فهذا ينظر فيه إذا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: ساقطًا (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: الضامن (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: قولين.

شاء الله تعالى.) (¬1) فإذا صح القول في حكم هذه الكفالة بتخليص هذه السلعة عند إلاستحقاق، فإن البيع يفتقر إلى النطق في صحة أو فساد، وفساده متعلق باشتراط المشتري على البائع حين العقد بتخليصها، فإن هذا الشرط فاسد كما بيّنّا، والعقد في المبيع إذا قارنه شرط لا يجوز، قد أوعبنا الكلام عليه في كتاب البيوع الفاسدة، وذكرنا هناك ما يؤثر في صحة البيع ويوجب فسخه على كل حال، وما يجب فسخه إن لم يُسقط المشترط من المتبايعين هذا الشرط الذي اشترطه، وإمضاء البيع إذا أسقط شرطَه، أو يسقط الشرط على كل حال ويمضي البيع. وبعض أشياخي يرى أن هذه الثلاث طرق تجري في هذه المسألة، وتختلف فيها على هذه الثلاثة مذاهب. هذا الحكم في كفالة من تكفل بتخليص السلعة. وأما الكفالة بثمنها عند إلاستحقاق أو عند ردها بعيب، فقد تقدم الكلام عليه، وذكرنا أن العلماء بأسرهم على جواز ذلك. وأما (¬2) أبا العباس بن شريح ذكر فيه اختلافًا عن الشافعي، وأنكره عليه حذاق أصحابه. لكن إذا تكفل كفيل بضمان الدرك في الثمن فوجد البيع فاسدًا يجب فسخُه وإبطالُ الثمن عن المشتري فهل يبطل ذلك عن الكفيل أم لا؟ ذلك جار على القولين المتقدمين في الكفالة بتخليص السلعة هل تسقط الكفالة لأنه كالمتكفل بما هو في حكم المستحيل طبعًا، فكذلك الكفيل هاهنا تكفل بثمن كالمستحيل ثبوته شرعًا فيجب سقوطه. وعلى القول الآخر يكون كفيلًا لِأقلَّ من الثمن أو القيمة، لكون الكفالة هي السبب في إخراج المتكفَّل له ما كان في ملكه إلى المتكفَّل عنه. فإن كان الثمن أقلّ من القيمة فلم يتكفل يأكثر منه فيغرمه، فتجب على الغريم هذه القيمة التي هي بدل العين، وتصير القيمة كأنها ثمن ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وأَنَّ.

السلعة، والكفيل إنما تكفل بالثمن، ومع الفَوْت قيمتها ثمنها. وفي الموازية لابن القاسم: إن الكفيل لا تلزمه غرامة. وهذا على أحد القولين في المدونة في ضمان تخليص السلعة، لأن الثمن قد سقط عن المشتري، وما سقط عنه سقط عن الحميل. وعين السلعة لم يتحمل بها ولا ببدلها، الذي هو قيمتها، فلم يجب عليه شيء. وهكذا لو كان المبيع مكيلاً أو موزونًا، غيرَ الدنانير والدراهم، فتكفل كفيل بثمنه فوجد البيع فاسداً، أو قد فات المبيع، فوجب على المشتري ردّ مثله، فإن الكفيل لا غرامة عليه لأنه لم يتحمل بهذا المثل، والثمر الذي (¬1) به سقط. وعلى القول الآخر عليه غرامة الأقل من الثمن أو مثل المبيع، لما قدمناه من التعليل. ولو كانت الكفالة بالثمن، وهو مؤجل، ووجد البيع فاسدًا، فإن الكفيل لا يطالب بغرامة حالَّة لأنه إنما تكفل بثمن مؤجل، فلا يلزم أكثر منه. فإذا حل الأجل: فهل عليه غرامة أم لا؟ ذلك على القولين المذكورين فمن أعطى اللفظ حقه لم يُلزِمه شيئًا، لأنه إنما تكفل بالثمن، والثمن قد سقط بالشرع، وغير ذلك لم يتكفل به فلا يطالب بما لم يتكفل به، ومَن راعى القصدَ فإن الكفالة توثّقٌ للمتكفَّل له والقصد بها ذلك، ولا يخرج ملك الإنسان من يده إلا أن يكون الثمن أو قيمة المبيع في ذمة يثق بها لزمه الأقل كما قلناه. وفي المبسوط لعبد الملك بن الماجشون فيمن باع زيتًا بمائة دينار إلى أجل، فوجد البيع فاسدًا، فلا يغرم الحميل حتى يحل أجل الثمن، فإذا حل غرم الثمن، واشترى به زيتًا، وهو الذي وجب على المشتري، وأمّا الثمن فقد سقط. ويشتري الذي غرمه الكفيل بمكيلة الزيت التي وجبت على المشتري، ولم يُطلب الكفيل بما بقي من الزيت، وإنما يبقى في ذمة المشتري الذي أتلفه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسحختين، ولعل الصواب: الذي [تحمَّل] به.

وهذا هو أحد القولين في إلزام الكفيل الأقل من الثمن أو مثل المبيع إذا فات. وفي الموازية لأشهب فيمن باع دينارًا بدراهم إلى أجل: أن الكفيل لا مطالبة عليه. وهذا لما قلناه من كون الدراهم التي تحمّل بها أسقطها الشرع وأبطلها. والدينار لم يتحمل به فلا يطالب بما لم يتحمل. وعلى القول الآخر وما ذكرناه عن عبد الملك يكون عليه الأقل من الدراهم التي تحمل بها والدينار الذي وجب رده. والجواب عن السؤال الرابع عشر أن يقال: الحمالة قد تمنع من أوجه، منها: أن تقع الحمالة بعوض يأخذه الحميل، فإن ذلك لا يجوز. ويسلك في تعليل المنع مسلكان أحدهما: أن ذلك من بياعات الغرر. وبيع الغرر ممنوع منه، وذلك أن من اشترى سلعة وقال لرجل: تحمّل عنّي ثمنَها، وهو مائة دينار وعلى أن أعطيك من حمالتك عشرة دنانير. أو قال البائع السلعة: تحمل عنّي بالدرك في ثمنها إن وقع استحقاق، وأنا أعطيك عشرة دنانير. فإن ذلك معاوضة وقعت على جهة الغرر إذ لا يدري الحميل: هل يفلس عن (¬1) من تحمل عنه أو يغيب فيخسر مائة دينار، ولم يأخذ إلا عشرة دنانير، أو يسلم من الغرامة فيرجع (¬2) العشرة دنانير من غير خسارة. وهذا نفس الغرر والمخاطرة، فلهذا منع. والمسلك الثاني: أن المنع يردّد هذه المعاوضة بين أصلين ممنوعين لا تنفك عنهما. إما أن يكون الحميل لا يطالب بغرامة ليسار من تحمل عنه، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب حذف (عن) .. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصوإب: فيأخذ.

فيكون قد أخذ العشرة دنانير باطلًا، وأكل المال بالباطل نهى الشرع عنه .. أو يكون يغرم ما تحمل به، ولكنه يرجع به على من تحمل عنه متى أيسر، فيكون ذلك سلفًا جر منفعة لأنه يسلف من تحمل عنه هذه المائة دينار، ويرجع بها عليه متى أيسر، وقد حصل معه زيادة على ما [سلف] وهي العشرة دنانير التي قبضها ثمنها (¬1) للحمالة فيكون ذلك سلفآ بزيادة، وذلك ممنوع. فإذا وقر ذلك فسخ، ورد. الحميل ما أخذه. ويبقى النظر في إلزامه الحمالة مع رد العوض الذي أخذ عنها، فإن كان العوض بذله من له الحق فلا مطالبة على الحميل، لأنه قد ردّ على ما تحمل عنه ما أعطاه عوض الحمالة. فإذا بطل العوض بطل المعوض عنه، وصاحب الحق هو الذي جنى على نفسه البيعَ بغير حمالة إن كان لما أعطى من تحمل له العشرة دنانير وهو يعلم أن ذلك لا يجوز. وأمّا إن كان دافع العشرة دنانير من عليه الحق، ومن له الحق غير عالم بذلك، فإن الحمالة لازمة لأن المشتري الذي عليه الثمن لم يبع منه البائع السلعة إلا لثقته بالحميل، فإذا عامل المشتري الحامل معاملة فاسدة ولم يعلم بها البائع، فلا يسقط حق البائع في الحمالة، لكون الحميك غرّه بحمالته حتى أخذ سلعته من يده، فمن حقه أن يطالبه بثمن سلعته التي تلفها (¬2) عليه بحمالته. هذا إذا انفرد بعلم ذلك الباذلُ لعوض الحمالة. فأما إن علمًا جميعًا: مَنْ له الحق ومن عليه الحق، بأن الحمالة وقعت بجُعْل، فكان لمن له الحق المتحمَّل به مشاركة وسبب في تحمل الحميل، فإن الحمالة ساقطة، لكون من له الحق علم أن الشرع يسقطها ويمنع منها، وله سبب في ذلك وسعي فيه. وأما إن لم يكن إلا مجرد علمه، دون أن يكون له سبب في ذلك، ففيه قولان: أحدهما: سقوط الحمالة، والمنع من مطالبة الحميل بما تحمل به، وهو مذهب ابن القاسم. والثاني: إن ذلك لا يُسقط عن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: ثمنًا. (¬2) هكدا في النسختين، ولعل الصواب: أتلفها.

الحميل المطالبة بما تحمل به وهو مذهب ابن المواز. وسبب هذا الخلاف ما قد يعرض من إشكال في هذا السؤال، وذلك أن من له الحق إذا كان عالمًا بأن الحميل لم يتحمل إلا بعوض أخذه، ويعلم أن ذلك لا يجوز في الشرع، فكأنه باع بغير حمالة، لا (¬1) مطالبة له على الحميل. أو يقال: فإن الحميل قد علم أن العوض الذي تحمك من أجله، يؤخذ من يديه، ومع هذا التزم الحمالة بالثمن، فكأنه تحمل بغير عوض أخذه، والحمالة بغير عوض تلزم، فَمَن التفت إلى أن من (¬2) علم من له الحق بفساد الحمالة إسقاط لحقه في القيام به أسقط المطالبة عن الحميل. ومن التفت إلى أن (¬3) علم بأن العوض الذي أخذه يؤخذ منه ومع هذا التزم الحمالة بالثمن، أثبت عليه المطالبة بالثمن. وأما إن جهلًا جميعًا الحكم، فقد قال أصبغ: إن الحمالة ساقطة. وعلى مقتضى ما حكيناه عن ابن المواز: إن الحمالة ثابتة. وسبب الخلاف في هذا أيضًا يلاحظ ما عللنا به إذا علمًا جميعًا. وذلك أن من له الحق إذا تيع بهذه الحمالة وهي لا تجوز، جهلًا منه بأنها لا تجوز، فكانه الجاني على نفسه إتلاف ماله، فلا. مطالبة له به على الحميل. والحميل أيضًا لما التزم الحمالة بعوض، وذلك لا يجوز، فكأنه بجهله أتلف مال من تحمل له غلطًا منه عليه، والخطأ والعمد في أموال الناس سواء. فهذا الحكم في هذه المسألة إذا علمًا جميعًا، أو علم أحدهما وخفي عن الآخر ما صنع باذل المجهل (¬4). وإذا تقرر أن الحمالة بعوض يأخذه الحميل ممنوعة، لأجل ما ذكرناه، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَلاَ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (من). (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن [مَن] علم. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الجعل.

وأن العوض مردود، ومطالبة الحميل وسقوطها فيه التفصيل الذي ذكرنا، فيبقى النظر في صحة البيع وفساده. وقد كنا قدمنا أن بعض الأشياخ أجرى حكم صحة البيع وفساده على بياعات الشروط فيمن تكفل بخلاص السلعة. ولكن ذلك أمر يعود إلى نفس المبيع ويتعلق بالمتعاقدين بكونهما دخلا جميعًا عليه، والحمالة يجعل ها هنا كأنه أمر خارج عن الثمن والمثمون وعن ما يشرك المتعاقدين جميعًا فيه، لا سيما إذا كان أحدهما غير عالم بما صنع الآخر من بذل العوض في الحمالة، فهذا مما ينظر فيه. ولو تحمل الحميل بعوض شرْطَ أن يأخذه غيره، ولا يأخذه هو، لكان ذلك أيضًا ممنوعًا، لما ذكرناه من التعليل. لكن لو كان الغير الذي شرط ذلك له هو من تحمل عنه، لكان في ذلك قولان، مثل أن يحل دين على رجل فيقول له من له الدين: أنا أضع عنك -عددًا سماه- وتعطيني به حميلًا إلى أجل آخر، فإن هذا فيه ثلاثة أقوال: الجواز، والكراهة، والتحريم. ففي الموازية عن مالك وابن القاسم جواز ذلك. وذكر عن أشهب أنه روى عن مالك الجواز، وروى عنه الكراهة. وفي العتبية لمالك أن ذلك لا يصلح، وشبّهه بحميل آخر (¬1) عوضًا عما تحمل به، فقال: لا يصلح ذلك، وهو كما لو قال له: اعطني عشرة دنانير من دينك وأنا أعطيك حميلًا. وهذا التشبيه يشير إلى التحريم. وفي العتبية عن ابن القاسم: لو قال له: اعط غريمك عشرة دنانير، وأنا أتحمل لك بما عليه: إن ذلك جائز وعلى القول الآخر يحرم ذلك. وكأنه في هذا القول قذر أن الحميل تحمل بعوض أخذه لنفسه ثم وهبه الغريمَ. وفي القول الآخر: أَن منفعة ذلك للغريم لا يتصور فيه ما صورناه في الحميل إذا أخذ عوضًا لنفسه، فيكون ذلك سلفًا بزيادة أو أكل المال بالباطل. ولو كان الدين مؤجلًا ولم يحل أجله، فقال من له الدين للغريم: أعطني ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أخذ.

به حميلًا إلى الأجل نفسه، أو اعطني رهنًا، وأنا أحط منه، عددًا سماه، فإن في ذلك قولين: ذهب أشهب إلى الجواز. وذهب ابن القاسم إلى المنع. وكأنه قدر أن الحميل إنما يؤخذ ها هنا خوفَ التفليس عند الأجل فتجب النظرة اليسيرة فإذا شرط استعجال ذلك ميب الحميل قضاءً عن الغريم، صار كأن الغريم عجّل دينًا قبل أجله، على أن وضع عنه من له الدين بعض دينه، وضعْ وتعجلْ لا يجوز، كما بيناه في كتاب البيوع. ومما ينخرط في هذا المسلك الذي نحن فيه من أنواع الحمالة الفاسدة أن من سأل غريمه أن يعطيه حميلًا بما لَه عليه من دين فإن ذلك لا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يسأله أن يعطيه حميلًا بالدين إلى أجله الذي دخلا عليه، أو يعجله له قبل أجله، أو يؤخره عنه إلى أبعد من أجله. فإن أخذ منه حميلًا قبل الأجل على أن يقضي الدين عند أجله الذي أجلاه، فإن ذلك جائز على الإطلاق، وهو إحسان من الغريم إلى من له الدين. والقصد بهذا التوثق من الدين، ورفع ما يَخشى من له الدين من فلس الغريم أو غيبته، والحمالة من مصالح العقود في البساعات، ولهذا أجيزت. فإن أعطاه حميلًا على أن يعجل الدهين قبل أجله، والدين من قرض عين أو عرض أو ثمن بيع، فإن ذلك جائز لأنه تضاعف إحسان الغريم إليه بأن وثقه من الدين وزاده مع ذلك إحسانًا بتعجيله إليه قبل أجله. وأما إن كان الدين عوضًا من بيع فإن هذا لا يجوز لأن الغريم ليس له تعجيل ما عليه من حق العروض المؤجلة إذا كانت من بيع، لأن لمن له الدين عوضًا (¬1) في بقائها في الذمة لتضمن له إلى الأجل، فلم يقبل التعجيل من له ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَرَضًا.

الدين إلا بسبب الحميل الذي أعطاه، والمعاوضة على خط (¬1) الضمان لا تجوز، حسب تقدم في كتاب البيوع. وأما إن أعطاه حميلًا بالدين يؤخره إلى أبعد من أجله، فإن ذلك لا يجوز، لكون التأخير عن الأجل المشترط كابتداء سلف، لأن من له الدين يستحق قبضه إذا حل أجله، فالتأخير إلى أجك ثان تطوعَّ به، كأنه قبض دينه ثم رده على من أعطاه له سلفًا منه بشرط حميل يوثق به قبل انقضاء الأجل الأول، فصار ذلك كسلف، وهو التأخير، جرّ منفعة وهو توثق الغريم بالدين قبلَ أن يحل أجله، مخافة أن يفلس الغريم قبل الأجل أو يتغيب. ولكن إذا وقع سقطت الحمالة، ولم يؤخذ الحميل بغرامة قبل انقضاء الأجل ولو فلس الغريم، لأن من له الدين أعطى ماله بغير حميل، فلم يغرّه الحميل في الأجل الأول ولا تلف (¬2) عليه شيئًا، فلهذا سقطت الحمالة. وأما إذا وقع الفلس في الأجل الثاني الذي اشترطاه عوض الحمالة، فإن ذلك مختلف فيه على قولين: هل تسقط الحمالة عن الحميل في الأجل الثاني، لكون أصلها فاسدًا حرامًا، والحميك لا يطالب في معاملة فاسدة، أو تلزمه الغرامة لأن رب المال إنما يسمح ببقاء ماله في الأجل الثاني ثقة بحمالة الحميل، فكأنه أخرج من يده ما لا ثقة بحمالته، ولولا ذلك ما خرج من يده ومن عن (¬3) غيره حتى أتلف عليه مالًا لزمته غرامته؟ وفي الموازية سقوط الحمالة. واحد قولي ابن القاسم إثبات الغرامة عن الحميل. وهذا يلتفت فيه إلى ما قدمناه قبل هذا من تعليل إثبات الغرامة أو نفيها عن الحميل إذا تحمل بجعل أخذه، وقوإنفرد بالعلم بالتحريم أو انفرد به ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعاِ الصواب: حَطّ. (¬2) ححكذا في النسختين، ولعاِ الصواب: أَتْلف. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَرّ.

المتحمل له أو علماه جميعًا على ما بسطنا القول فيه فيما تقدم. ولو كان بذل الحميل في هذه المسألة رهنًا أخذه لكان ذلك أيضًا ممنوعًا، لأنه سلف جر منفعة، والسلف هو التأخير إلى الأجل الثاني، والمنفعة إعطاء الرهن في الأجل الأول، وقد كان ذلك غير لازم لمن عليه الدين، ولولا هذه المنفعة ما تطوع من له الدين بالتأخير. وإن وقع هذا ففي الموازية أن قابض الرهن يكون أحق به من الغرماء. بخلاف الحمالة فإنها ساقطة. وأراه إنما فرق بينهما لكون حق المرتهن به تعلق بعين، وقد قبضها وحازها، فصار ذلك الفوت في المعاملة الفاسدة، (والحميل لم يجزه المتحمل له، ولا حقه فيه) (¬1) متعلق بعين استحقها عليه. وقد وقع في الموازية قولًا مطلقًا: إن الرهن والحميل جميعًا ساقطان، ولا يكون من بيده الرهن أحق به وقد قبضه. وهذا يبسط فيه القول في كتاب الرهون إن شاء الله تعالى في أحكام الرهان الفاسدة. ولو كان الدين قد حك فأعطاه حميلًا على أن آخره به، فلا يخلو من عليه الدين أن يكون موسرًا به، ولو طلبه من له الدين لحكم له بجميعه، فإن ذلك الآمر كذلك جائز إعطاء الحميل والرهن بشرط التأخير إلى أجل آخر، ويقدر في هذا أنه لما ملك قبض جميعه صار كأنه قبضه ثم استأنف سلفًا إلى أجل بحميل أو رهن، فإن ذلك لا يتصور فيه وجه يوجب المنع. وهذا مذهب مالك وابن أبي سلمة وغيرهما. وأما لو كان الغريم عليه ديون، أو تحاصّ من له الدين الذي سئل في التأخير بحميل لو (¬2) يستوف إلا بعض دينه فأخره بشرط حميل، فإن هذا لا يجوز، لما ذكرناه من كون التأخير كابتداء سلف، واختصاص هذا الغريم دون الغرماء برهن يستوفي منه جميع دينه، أو بحميل، وقد كان لا يتمكن إلا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم يحزه ... ولا حق له فيه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم.

من استيفاء بعضه، سلفًا جرّ منفعة وهي استيفاء جميع الدين من الرهن أو من الحميل. وأمّا إن كان معسرًا ليس عنده شيء، وعليه دين لهذا الرجل الذي أشرنا إليه (بما له في التأخير) (¬1) ويعطيه حميلًا إن آخره أجلا الغائب (¬2) فيه أنه يجد ما يقضي منه الدين، ويكون موسرًا به كأصحاب الثمار والغلات المنتظرة، فإن ذلك جائز إذا كان أجل التأخير كأجل ما يتوقع من سير (¬3) هذا الرجل. وكذلك لو كان التأخير يقصر زمنه عن الزمن الذي يسر (¬4) إليه (هذا، فإن) (¬5) أيضًا جائز لكونه في هذين الوجهين التأخير واجب علمه شاء أو لم يشأ. وأما إن كان الزمن الذي يتوقع فيه يسره متقدمًا على الأجل الذي آخره إليه، فإن ذلك ممنوع عند ابن القاسم لما يتصور فيه من سلف جرّ. منفعة، وتعود المسألة إلى المسألة المتقدمة، وهو إذا أعطاه حميلًا قبل الأجل أن يؤخره إلى أجل آخر أبعد من الذي دخلا عليه، لأن ما قابل زمن يسْره كالأجل المشترط، وما بعد زمن يسْرِه أجل غير مشترط تطوع فيه من له الدين بسبب ما أخذ من التوثق بالدين قبل أجل اليسر. وأجاز هذا أشهب. وأَرَاهُ لأجل أن اليسر مما لا يقع (¬6) بوجوده عند الأجل المتوقعة (¬7) فيه فالتهم فيه تضعف. ولو حل الأجل ووجب الطلب فقال من عليه الدين لمن له الدين: أسلفني مائة أخرى غير المائة التي حلّ أجلها وأعطيك رهنًا أو حميلًا بالمائتين جميعًا، القديمة والحديثة، لمنع هذا؛ لأنه سلف جرّ منفعة، وذلك أن المائة الثانية إنما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الغالب. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُسر. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَيْسَرُ. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإن هذا. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقطع. (¬7) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المتوقع.

أسلفه إياها لأجل ما أعطاه من التوثق بالمائة الأولى بالرهن أو الحميل. فكذلك لو قال له قبل أجل المائة الأولى: أسلفني مائة دينار على أن أعطيك حميلًا أو رهنًا بالمائتين جميعًا إلى أجل المائة الأولى أو إلى أبعد مدني ذلك الأجل، فإن جميع ذلك يمنع لما صورنا فيه من سلف جر منفعة. ولكن إن وقع ذلك ففي الموازية أن الحمالة ساقطة في المائتين جميعًا، المتقدمة والمتأخرة. وأمّا الرهن فذكر أن بعض أصحابنا قال: يكون مفضوضًا، نصفه للمائة الأولى يكون بها رهنًا، ونصف المائة (¬1) الثانية، فيسقط كونه رهنًا لسقوط السلف والقضاء برده إلى صاحبه معجلًا، لأن السلف الذي يجرّ نفعًا يفسخ إذا وقع. فاختار ابن المواز أن جميع الرهن يكون بالمائة الأولى، وهو أيضًا المذكور في المدونة. وهذا يبسط من كتاب الرهن إن شاء الله تعالى، وقد نبهنا ها هنا أن الرهن آكد من الحمالة في تعلق الحق بالحميل أو الرهن الفاسد لأجل ما قدمناه من التعليل. فذكر في الموازية ثبوت الرهن، والاختلاف في صفة ثبوته وإسقاط الحمالة، قال: لأن كل حمالة وقعت في معاملةٍ حرام، فإن الحمالة تبطل، وقد قدمنا نحن فيما سلف في إلزام الحميل المتحمل بالثمن في بيع فاسد هل تسقط عنه الحمالة أو يجب عليه الأقل من الثمن أو القيمة، وبَيّنّا وجه ذلك. فإذا تحقق وجه الحمالة في هذه المسائل فلو حلّ الأجل ودفع الحميل رهنًا لمِؤخر بالدين إلى أجل آخر، فإن الرهن إن كان ملكًا للغريم، وهو قادر على أن يستبد بثمنه، فيأخذ منه جميع ذلك، كان ذلك جائزًا. ولو كان الرهن ملكًا لغيره استعاره من رجل ليرهنه من له الدين، جرى ذلك على حكم الحمالة، صحيحِها وفاسدِها، ويصير مالك الرهن كأنه حميل بالدين. ولو كان الراهن اكترى ليرهن، لم يصح كراؤه، بخلاف أن يكتري ليلبس، أجلًا معلومًا، إن كان ثوبًا، لأجل أن هذا المكتري ليرهن إذا أجل الكراء أجلًا لم يصح الرهن، لأن الأجل. قد ينقضي قبل وصول الدين إلى ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للمائة

مستحقه فيبطل بانقضاء الأجل كونه رهنًا، وإذا بطل كونه رهنًا عند انقضاء الأجل بطل كونه رهنًا من أصله. وإن كان. لم يضرب لذلك أجل فالكراء من غير أجك محدود غير لازم، فيصير ما يؤديه من الكراء كل يوم كزيادة أخذها عوض التأخير بالطلب، مع كونه غير منعقد، وإذن لم ينعقد كونه رهنًا. ولو كان له عليه عشرة دنانير من ثمن مبيع، فأسلفه عشرة أخرى، على أن أعطاه حميلًا بالعشرين، لكان ذلك ممنوعًا لما يتصور فيه من سلف جر منفعة، وهو أن الحميل بالعشرة الأولى إنما تطوع به من هي عليه لأجل ما أسلفه مستحقها من العشرة الأخرى. ولو كانت عشرة السلف هي المتقدمة فباع منه سلعة بعشرة أخرى، على أن يعطيه حميلًا بالعشرة الأولى التي هي السلف، وبالعشرة الثانية التي هي ثمن المبيع، فإن ابن القاسم يمنع ذلك لكونه كرهن بجعل وهو يمنع من الرهن من (¬1) الجعل. ويتضح تصور ذلك بأن تكون قيمة السلعة المبيعة عشرة، وإنما أسقط بائعها الدينار العاشر وباعها منه بتسعة على أن جعل الدينار الذي أسقطه من قيمتها عوضًا عقا أعطاه من الرهن، فصار رهنًا بجعكء وأشهب يجيز ذلك لأنه لا يمنع رهنًا بجعل. ولو كانت الحمالة معلقة بجهالة، مثل أن يقول الحميل: أتحمل لك بدينك ما دام الغريم حيًا، أو ما دمت أنا حيًا، لم يحرم ذلك إذا كان في أصل سلف أو بعد (¬2) عقد بيع. وأما إن كان في أصل بيع فإن ذلك يراه ابن القاسم غرِ جائز وتسقط الحمالة لكونها حرامًا. وقال أصبغ: أجاب على غير تأمّل، بل ذلك جائز، والحمالة لازمة، لكون هذا الاشتراط بين الحميل والمتحمل عنه، وبائع السلعة خارج عن هذه المعاملة، فلم يَعُدْ ذلك بفساد البيع، ولا فساد الشرط. وهذا إذا كان البيع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالجعل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو بعد عقد.

بحميلٍ أقلَّ ثمنًا منه إذا بيع بغير حميل صارت الحمالة لها حصة من الثمن، فإذا كانت فيها غرر صار العقد في بعض الثمن، ففسد البيع لكون الغرر قد عاد إلى نفس الثمن. وهذا وجه ما قال ابن القاسم. وقد تقدم الكلام على هذا المعنى، وسيرد أيضًا في كتاب الرهن ما يتضح بة بعض ما ذكرناه من أحكام الرهبان الفاسدة. والجواب عن السؤال الخامس عشر أن يقال: إذا دفع أحد الحملاء لصاحبه المتحقَل له سقط حق المتحمل له، وبقي النظر في رجوعهم بعضهم على بعض. وهذا إذا ثبت وصول الحق إلى صاحبه بشاهدين أو باعترافه. فأمّا إن لم يثبت ذلك إلا بشاهد واحد فإن الدافع للحق يحلف مع شهادته، ويسقط المتحمل له (¬1)، ويرجع الدافبم على أصحابه بما أدى عنهم. لكن لو لم يقم ذلك الشاهد إلا بعد موت الدافع فإن ورثته يحلون محله ويحلفون مع شهادته، ويسقط حق من له الحق، ويرجعون على شركاء أبيهم في الحمالة بما أدى أبوهم عنهم، فإن نكل الورثة (¬2) اليمين فقد ذكر في المدونة: يحلفون مع الشاهد إذا مات أبوهم الذي ب فرع، فإن نكلوا حلف بائع السلعة أنه لم يقبض شيئًا، وطلب من شاء منهم بمالَه من (¬3) له الحق. قال: ولا يحلف الشريكان، ويغرمان ما عليهما من ثلثي ثمن السلعة، إلا أن يقول: نحن أمرناه بالدفع، من مالنا دفع. فإنهم يحلفون ويبرأون. وقد تأول الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد (¬4) بعض ما وقع في هذا الجواب من إطلاق، وقيد مطلقه. ونحن نورده في أثناء كلامنا على هذه المسألة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: به. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: عن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف له. (¬4) بداية نقص في نسخة (مد).

فاعلم أن الشريكين (لا يخلوان من) (¬1) أن يزعما أن شريكهما الذي دفع وشهد له الشاهدين (¬2) بذلك أنهما لم يدفعا إليه شيئًا وإنما دفع ذلك من مال نفسه. أو يزعمان أن المال الذي دُفع هما دفعا ذلك ببينة. فإن ذكر (¬3) أنهما لم يدفعا إليه شيئًا، وإنما دفع ذلك من ماله فلا مدخل لهما في اليمين مع الشاهد، لأنهما مقران أن ثلثي الثمن باق في ذمتهما. فإذا كانا يغرمانه على كل حال ولا فرق بين أن يغرِما ذلك الورثة (¬4) أو يغرماه إلى البائع. وإنما يحلف القائم بالشاهد فيما يجتلب بيمينه مع الشاهد له منفعة. أو يدفع مضرة. وثلثا الثمن ها هنا لا بد لهما من غرامته، فلا يجتلبان باليمين مع الشاهد بسقوط شيء من هذه الغرامة. ولهذا علل في المدونة قال: لا يحلفان لأنهما يغرمان. لكن إن كان الشريك الدافع الذي مات معسرًا فإنهما يلحقهما مضرة إن لم يحلفا مع الشاهد، لكون البائع له أن يغرمهما ثلث الثمن الذي على الميت، فيمكنان ها هنا من اليمين مع الشاهد لينفيا عن أنفسهما غرامة هذا الثلث. وهكذا تأول الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد على المدونة، وحمل مطلق قوله: إن الشريكين لا يحلفان مع الشاهد لأنهما يغرمان: أَنَّ المراد غرامة هذا الثلث الذي على الميت، وقد مات معسرًا. وأما لو مات موسرًا فلا كبير فائدة لهما في اليمين مع الشاهد، لأن للبائع أن يأخذ ذلك من تركة الميت، ولو أخذه منهما رجعا به في ذمة التركة. وهذا تأويل صحيح، وما قيد به من إطلاق المدونة ظاهرٌ وجهه. لكن ذكر الشيخ أبو محمَّد أنهما لا يُغرمان الورثة شيئًا، وإن كان قد قال: إن الميت في فرع ذلك من مال نفسه. وذلك إقرار منهما بأن الميت استحق طلبهما بما دفع ¬

_ (¬1) هكذا في نسخة (و)، والأوْلى: إمّا أن يزعما. (¬2) هكذا في نسخة (و)، والصواب: الشاهدان. (¬3) هكذا في (و)، والصواب: ذكرًا. (¬4) هكذا في (و)، والصواب: للورثة.

عنهما. فحجة الشريكين بأنه لما دفع ذلك بغير إشهاد يستقل به القضاء صار دفعَ دفعًا لا يبرىء بشريكه (¬1). وبذا دفع من ماله قضاء عن شريكه (1) ما لا يَبْريان به فلا مطالبة له عليهما، ولا لورثته، لأنه كمن لا يدفع عنهما شيئًا. وهذا على أصل ابن القاسم يتضح، ولو كان قد دفع عنهما بأمرهما، لكون ابن. القاسم يرى أن الوكيل على دفع مال لغير من وكله يضمنه إذا دفعه بغير إشهاد، والذي وكله غير حاضر لدفعه حتى يكون راضيًا بترك الاشهاد. وإذا وجب على الشريكين غرامة الثلثين، وقد حلفا مع الشاهد لتسقط الحمالة بالثلث عنهما، فلمن يدفعان هذين الثلثين؟ قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد: يدفعان (¬2) ذلك للورثة، ويكون للبائع أن يطلب الورثة بثلث الثمن الذي على أبيهما، فيغرم الورثة ثلثي الثمن الذي أخذوه من الشريكين، لأنه كمال طرأ لأبيهم وعليه دين فلا يرثوه حتى يقضى منه الدين وأنكر الشيخ أبو إسحاق هذه الوجوه، ورأى أن الأصل غرامة هذين الثلثين لبائع السلعة، لأن يمينهما إنما كان لإسقاط غرامة الثلث عنهما الذي كان على الميت وتحمل به. وأمّا الثلثان فلا يصح أن يحلفا عليهما ليكونا ملكًا للورثة بيمينهم، لأن الورثة حرروا (¬3) أن يحلفوا مع شاهدهم فأبوا ونكلوا، ونكولهم يقتضي رجوع هذه اليمين على البائع، فيحلف ويستحق هذين الثلثين على الشريكين. فلا يمكن، مع كون هذا هو الأصلَ، أن يكون يمين الشريكين إنما أفادهما تمليك الورثة لهذين الثلثين، إذ لا يحلف أحد ليستحق غيره بيمينه مالًا من غير أن يحلف (¬4) الحالف بيمينه لنفسه مالًا ويدفع عنه مغرمًا. ¬

_ (¬1) هكذا في (و)، ولعل الصواب: شريكيْه. (¬2) نهاية النقص من نسخة (مد). (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: طولبوا. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يجلب.

وأكد الشيخ أبو إسحاق هذا التعقب الذي تعقبه عن الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد بأن أشار إلى أن للبائع أن يطلب الورثة بالثلث الذي على أبيهم متى طرأ له مال كما لو حلفوا بأنفسهم مع الشاهد، فإن البائع يسقط طلبه عنهم. فكأنه رأى أن الشيخ أبا محمَّد أحل يمين الشريكين محل يمين الورثة في ملكهم لهذين الثلثين، ولم يحل يمين الشريكين محل يمين الورثة في إسقاط الطلب عنهم بهذا الثلث. واعلم أن الذي قاله الشيخ أبو إسحاق من أن الأصل ألاّ يحلف أحد ليستحق آخر مالًا صحيح مسلم. ولكن إذا لم يكن للحالف فائدة في يمينه سوى أن يملّك رجك بيمينه رجلًا آخر مالًا، وهاهنا يمين الشريكين إذا مات الثالث عديمًا أفادَتْهم سقوط غرامة نصيبه بما حلفا: أللهما (¬1) يستفيدان بما نفي غرامة محنهما (وهي الغرامة عنهما) (¬2) ويمينهما على الشاهد صدق يتضمن تصديقه في كون الورثة يستحقون هذا الثلث، وإن حلفا على ما يفيدهما، وتضمن ذلك ما يفيد غيرهما ضاعَت ها هنا اليمين، وانسحب يمينهما على ما يفيدهما، لأنهما أمران متلازمان، فإثبات أحدهما يقتضي ثبوت ما يلزم عنه. وقد وقع لهذا نظير تكلمنا عليه في كتاب البيوع في يمين أحد المتبايعين على ما القول قوله فيه، ويضيف إلى ذلك ما القول فيه قول خصمه. لكن يفتقر في هذا الاعتذار عن الشيخ أبي محمَّد إلى اعتذار آخر عمّا نقضه به الشيخ أبو إسحاق وهو قوله: هلا أفادت يمينهما أيضًا إسقاط الطلب بالثلث عن الورثة كما أفادت تمليك الورثة الثلثين. والعذر أيضًا عن هذا بأن الورثة قدّروا أنفسهم أن يحلفوا مع الشاهد ويسقطوا الغرامة عن أنفسهم، فلما نكلوا صاروا ممكّنين للبائع من يمينه على ما نكلوا عنه، فإذا مكنوه من ذلك وحلف استحق طلبهم بالثلث بخلاف الثلثين، فإن إقرار الشريكين بأن الشريك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّهما. (¬2) هكذا في النسختين.

الثالث دفع ذلك عنهما من ماله، وسقوط حق البائع بينهما يقتضي أن يؤخذا بمضمون ما حلفا عليه وهو كون هذين الثلثين صارا ملكًا للميت. هذا حكم قبل (¬1) الشريكين: إنا لم ندفع لشريكنا مالًا. وأما لو قالا: دفعنا إليه المال ليدفعه عنه و (¬2) عنه،؛ فإن الشريكين ذكر في المدونة أنهما يحلفان مع الشاهد، ويبريان مما عليهما من ثلثي الثمن، ويبقى طلب البائع على الورثة لأجل نكولهم عن يمين قدَروا على أن يبرئوا أنفسهم بها. ولكن من حق الشريكين أن يحلّفا الورثة أنهما لا يعلمان أنهما دفعا لأبيهما هذا الثلث الذي دفعاه إليه من مالهما ليدفعه عن نفسه إذا كان الورثة ممن يظن بهم علم ذلك، كمدع يدين على ميت طلب يمين ورثته على أنهم لا يعلمون ذلك. وتعقب الشيخ أبو إسحاق أيضًا هذا الوجه، وأشار إلى أن اليد دليل الملك، وما دفعه الشريك الثالث الذي مات من يده هو ملك له. ولا يقبل قول الشريكين إن ذلك ملكًا لهما، كما لو كان حيًا. وأما ها هنا فالورثة الذين محل (¬3) الميت الذي ورثوه فقد قدروا على أن يحلفوا ويكون ذلك ملكًا لمن ورثوه، فتكلموا (¬4) عن ذلك، فصاروا بنكولهم كسقصي (¬5) حقهم فيه، وإذا سقط حقهم فيه صاروا كحائز أقر بأن ما في يديه لا حق له فيه، أو كمالٍ ليس في يد حائز يدعيه. ولكن مقتضى هذا التعليل أن يرجعوا إذا حلفوا على الورثة بالثلث الذي على أبيهم متى طرأ لهم مال, لأنهم حلفوا على تصديق الشاهد، والشاهد شهد بأنه دفع جميع الثمن، وثلثُ هذا الثمن إذا حكم يأنه من ماله كان للشريكين أن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: قول. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عنّا. (¬3) أي: [حلوا] محلَّ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فنكلوا. (¬5) هكذا في النسختين، والصواب: كمسقطي.

يرجعا به على ما يطرأ للميت من مال. وهكذا قال ابن أبي زمنين أنهبم إذا ادّعَوْا أنهم إنما دفعوا الثلثين خاصة بقي طلب البائع على الشريك الذي مات. وإن قالوا: دفعنا الجميع، وحلفوا على ذلك فقد أثبتوا يمينهم (¬1) على الميت استحقاقهم على الميت ثلث الثمن الذي عليه، فكان لهم مطالبته به. والجواب عن السؤال السادس عشر أن يقال: هذه المسألة مشتهرة بالست حملاء، ذكرها في المدونة، وذكر بعض تفصيل حساب التراجع بينهم، وأُفردت بتَواليف من جماعة من الأشياخ. ونحن تقدم قبل الخوض فيها القول الضابط لما يوجب رجوع من دفع المال على من لم يدفعه منهم ومنعه من ذلك آخرًا. فالذي ينجر إليه الأمر في هذا اعتبار حكم اللفظ الواقع من الحملاء هل هو نصر صريح في كون بعضهم حملاء عن بعض أو في كون بعضهم ليس بحميل عن بعض، أو يقع اللفظ مشكلًا محتملاَّ؟ فإذا قال الحملاء، وهم جماعة،: نحن نتحمل بهذا الدين، وبعضنا حميل عن بعض فلا خفاء ها هنا بأنه إذا غرم جملة المال أحدهم كان له أن يرجع على أحدهم إذا لقيه بنصف المال حتى يساويه، لكون هذا الحق تعلق بذمة أحدهم على حسب ما تعلق بذمة الآخر، فكأن من أدى جميع الحق أداه عن نفسه وعن الرجل الآخر، إذا لقيه، من الحملاء. ولو كان اللفظ وقع بأن قال: أيكم شئت أخذت بالدين الذي لي على فلان. ولم يزد على هذا اللفظ، لم يقتض هذا اللفظ كون الواحد منهم إذا غرم يرجع على صاحبه حتى يساويه. ولو قال: كل واحد منكم حميل بجميع المال، لاقتضى هذا حمالة بعضهم عن بعض على ظاهر ما قيل في ذلك. وكأنه لما أتى بلفظة "كل" وهي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بيمينهم.

من ألفاظ العموم، صار كل واحد منهم حميلًا بجميع المال، وكأنه تحمل بذلك عن صاحبه الذي شاركه في الحمالة. ولو قال: أنتم حملاء بهذا المال، ومن شئت أخذت بحقي، لم تؤثر هذه الزيادة، ولم تغير الحكم الذي قلناه في التراجع. لكن يأخذ من شاء منهم بالحق، وإن كانت بقية أصحابه أملياء حضورًا. فإن لم يقل ذلك جرى على الخلاف في أخذ الحميل مع إمكان الأخذ من الغريم. وقد ذكر هذه المسألة في المدونة في الست حملاء وساوى بين أن يقول: على أن بعضهم حميل عن بعض، أو على أن كل واحد حميل بجميع المال عن واحد أو اثنين أو ثلاثة. وفي كتاب ابن المواز: إذا كانوا أربعة فقال لهم: أنتم حملاء بالمال. فلقي صاحب الحق أحدهم فأغرمه جميع المال، فإنه يرجع على من لقيه من الثلاثة الحملاء بربع الحق. والمشهور خلاف هذا، وأنه لا يرجع الغارم بما غرم على أحد من أصحابه الحملاء. وهكذا في الموازية في موضع آخر منها، وكذلك في المدونة؛ لأن الشرط إنما كان ممن له الحق أن يغرم من شاء منهم، فإذا استغرم أحدهم جميع الحق فإنما ذلك غرامة عمّن تحمل عنه بأصل الدين، وليس غرامتَه عمّن تحمل معه حتى يغئر هذا اللفظ كقوله: بعضهم حميل عن بعض، لوجب أن يرجع على من لقيه بنصف الحق الذي أداه. والذي في الموازية أنه يرجع بربع الحق، وهذا لا يظهر له وجه، إلا أن يكونوا مشترين للسلعة، فعلى كل واحد منهم ربع ثمنها، فالغارم لجميع الحق يرجع بهذا الربع على مشتري ربعها فيكون لهذا وجه، أو يكون المراد أن كل واحد تحمل بربع الحق، ومع هذا فله أن يُلزم جميعَ الحق من شاء منهم. فإذا استغرم الحق أحدَهم رجع هذا بالربع على من كان تحمل به. فهذا الذي يظهر في تأويل هذا المذهب. وقد ذكر في المدونة في حمالة بعضهم عن بعض في مسألة الست حملاء. وفي الموازية ذكر مسألة الأربعة حملاء، وقال في تفصيل حساب

تراجعهم الذي تركوه فيما بعد: سواء كان هذا الحق على الأربعة دينًا عليهم، أو حمالة تحملوا بها عن غيرهم. وهذا للإطلاق (¬1) المساواة بين الوجهين لا يصح، لأنها إذا كانت دينًا عليهم فلقي صاحب الحق أحدهم، فأخذه بجميع الحق، فأمّا ما ينوبه من هذا الدين إنما غرمه عن نفسه، ولا يرجع به على أحد، وإنما يكون التراجع بحق الحمالة فيما زاد على ما ينوبه عن نفسه. فإذا كانت حمالة عن غيرهم (¬2) فليس على أحد الحملاء منهما في نفسه نصيب فيختص به ولا يرجع به على أحد. فإذا لقي من له الحق أحَدَ الحملاء الذين تحملوا عن غيرهم، والدّين ست مائة، فلم يجد عنده إلا مائة، فأخذها منه، فإنه إذا لقي حميلًا آخر طلبه بالمشاركة في هذه المائة لكونهما تساويا في الحمالة بها عن غيرهم. وإذا كانا مشتريين في سلعة فلقي من له الحق أحدهم أخذ منه هذه المائة لا يرجع بها على أحد هن الحملاء لكونه من نفسه أدّاها. وظاهر قول ابن المواز يقتضي أنها إذا كانت حمالةً عن غيرهم فغرمها أحدهم فإنه إذا لقي حميلًا آخر فمن تحمل معه لا يرجع عليه بشيء من هذه المائة. وهذا لا وجه له إلا أن يكون المفهوم من هذا اللفظ عندهم أن تحمل بعضهم عن بعض إنما يكون بما زاد على نصيب كل واحد منهم إذا قسم الدين عَليهم فيكون لهذا وجه، ولكنه بعيد ميت مقتضى اللفظ الضابط لما يوجب التراجع أَوْ لاَ يوجبه. وأمّا تفصيل حساب التراجع، فالقول فيه على الجملة إنهم إذا تحمل بعضهم عن بعض فإن الفكر إنما يتعب في هذا حتى تحصل المساواة بين من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الإطلاق. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غيره.

غرم من الحملاء وبين من لم يغرم منهم، ومن لقي منهم من غرم من لم يغرم طلبه بالمساواة حتى يعتدلا في الغرامة، وإذا لقي آخر طلبه بالمساواة حتى يعتدل معه، ويكون كل واحد منهم إنما يغرم مثل ما أغرم من لقيه. ولو غرم أحدهم لرجل وساواه، ثم لقيه آخر فمن غرم فإن حقيقة المساواة أن يقول له: غرمت لصاحبك قبل أن تلقاني كذا وكذا، فأسقطها مما غرمت بالحمالة، ونساويك فيما فضل عن ذلك مما غرمته بالحمالة. هذا القول الجملي في هذه المسألة. ولكن جرى رسم الأشياخ المؤلفين بسط حسابها في كتبهم، واجتهد بعضهم في ذلك، وبالغ حتى أفردها بالتأليف، ونحن نذكر مسألة المدونة وبسط حسابه في التراجع حتى ينتهي ذلك إلى اعتدال جميعهم. قال: إذا كان لرجل منه (¬1) مائة درهم على ستة رجال على أن بعضهم حميل ببعضٍ بجميع المال، فإذا لقي أحدهم فليأخذه بست مائة درهم: مائة عن نفسه وخمس مائة بالحمالة، ثم إن لقي الغارم الست مائة أحدَ أصحابه أخذه بمائة أداها عنه، وبنصف الأربع مائة عن الباقين لأنه حميل معه بهم بجميع ما يأخذه منه، ثلاث مائة، وبقي له مما غرم ثلاث مائة. ثم إن لقي ثانيًا قال له: غرمت ثلاث مائة عن نفسي، ومائتان (¬2) بالحمالة عن أربعة، أنت أحدهم، تلزمك، في خاصتك، خمسون، وتبقى مائة وخمسون، أنت معي بها حميل، عليك نصفها خمسة وسبعون. فجميع ما يأخذه منه مائة وخمسة وعشرون، فصار جميع ما يأخذ من صاحبيه أربع مائة وخمسة وعشرون (¬3)، وبقي له مما أدى بالحمالة خمسة وسبعون. ثم إن لقي ثالثًا قال له: أديت بالحمالة خمسة وسبعين عن ثلاثة، أنت أحدهم، فادفع لي ثلثها: خمسة وعشرين، ونصفَ ما ¬

_ (¬1) هكذا في (و) وفي (مد): منهبم، ولعل الصواب: ستّ. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب: مائتين. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: عشرين.

يبقى مما أديته بالحمالة، لأنك معي به حميل، فجميع ما يأخذ منه خمسون، وتبقى له خمسة وعشرين (¬1). ثم إن لقي رابعًا قال له: بقي ما أديت بالحمالة خمسة وعشرين، هي عليك، وعلى صاحبك السدس، فأعطني نصفها: اثني عشر (¬2) ونصف ما بقي وذلك ستة وربعٌ، فجميع ما يأخذه منه ثمانية عشر وثلاثةُ أرباع، وبقي له مما غرم ستةٌ وربعٌ. ثم إن لقي السادس فيأخذ منه ستة وربع (¬3) وهو باقي مما وذى بالحمالة. (هذا الملحق وعليه أسقطه من كتابه وأمر بطرحه. قال: هكذا) (¬4) قال اللخمي: إن غرامة هذه الستة وربع من أصل الدين. وخالفه في ذلك ابن يونس وقال: إنما يغرم من الحمالة. وهو الأرجح عندي على ما أصلوه في هذه المسألة فالسادس إنما يغرم هذه الستة وربع (¬5) ميت أصل الدين عليه لا بالحمالة؛ لأنه لم يبق يعده حميل أدى الأولُ عنه. هذا بيان أول الحملاء الذي عدم (¬6) جميع الحق في أول مرة. ونعود بعده إلى الذي يليه وهو الثاني الذي لقيه ثلاث مائة فإنه إذا لقى الثالث الذي كان غرم للأول أيضًا مائة وخمسة وعشرون (¬7) فيقول له: إني قد أديت بالحمالة من هذه الثلاث مائة التي غرمت مائتين عن أربعة، نصيبك خمسون، فيأخذها منه، وتبقى مائة وخمسون أنت معي بها حميل. فيقول هذا الثلاث (¬8) قد أديت أيضًا أنا بالحمالة للأول خمسة وسبعين، نساويك في مثلها، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: عشرون. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب إضافة (نصف) فيصير الكلام: اثني عشر [ونصفًا] ونصف ما بقي .... (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: ربعًا. (¬4) هكذا في النسختين. (¬5) هكذا في النسختين، والصواب: ربعًا. (¬6) هكذا في النسختين، والصواب: غرم. (¬7) هكذا في النسختين، والصواب: عشرين. (¬8) هكذا في النسختين، والصواب: الثالث.

وتبقى لك خمسة وسبعين (¬1) فخذ نصفها: سبعة وثلاثين ونصفًا. فجميع ما يأخذه منه سبعة وثمانون ونصف. فجميع ما وَدَّى هذا الثالث للأول والثاني مائتان وأثنا عشر ونصف وبقي الثاني يطالب بمائة واثني عشر ونصف وهو ما أدى بالحمالة، لأنه ودّى ثلاث مائة، منها عن نفسه مائة، ومائتان بالحمالة، رجع إليه ما ودّى بالحمالة سبعة وثمانون ونصف، ومائتين (¬2). فالباقي له مما أداه بالحمالة، وهو مائة واثنا عشر ونصف. ثم إن لقي أيضًا الرابع الذي كان غرم للأول خمسون (¬3)، فيقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصف على ثلاثة، أنت أحدهم، يلزمك ثلثها في خاصتك، وهي سبعة وثلاثون ونصف، فيأخذها منه، ويقول له بقيت لي خمسة وسبعون أنت معي بها حميل، اعطني نصفها، فيقول هذا الرابع: قد وديت أنا بالحمالة الأولَ خمسةً وعشرين، ساويتكَ في مثلها، وبقيت لك خمسة (¬4)، فخذ نصفها فجميع ما يأخذ منه: اثنان وستون ونصفٌ. فجميع ما ودى الرابع للأول والثاني مائة واثنا عشر ونصف، وبقي هذا الثاني يطلب ما أداه بالجمالة وهو خمسون. ثم إن لقي الخامس، فيقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة، أيها الخامس، عنك وعن السادس، خمسون عليك نصفها خمسة وعشرون، فيأخذها منه، ويقول له: بقيت لي خمسة وعشرون أنت معي حميل بها، فيقول له الخامس: قد وديت أنا أيضًا بالحمالة للأول ستة وربعًا، ساويتك في مثلها، وبقيت لك ثمانية عشر وثلاثة أرباع، عليَّ نصفها وذلك سبعة وثلاثة أثمان. فجميع ما ودى له الخامس أربعة وثلاثون وثلاثة أثمان، وجملة ما ودّى هذا الخامس ثمانية عشر وثلاثة أرباع، وللثاني أربعة وثلاثون وثلاثة أثمان فجميع ذلك ثلاثة وخمسون وثمن، وبقي هذا الثاني يطلب الخمسة عشر وخمسة أثمان. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: سبعون. (¬2) هكذا في النسختين، والصواب حذفها. (¬3) هكذا في النسختين، والصواب: خمسين. (¬4) مكذا في النسختين، والصواب: خمسون.

ثم إن لقي السادس يأخذها منه. ثم إن لقي الثالث الذي غرم للأول والثاني مائتين واثني عشر ونصفًا لقي الراببم فقال: بقي لي مما وديت بالحمالة مائة واثنا عشر ونصفًا عن ثلاثة، أنت أحدهبم، فأعطني ثلثها وهو سبعة وثلاثون ونصف، فيأخذها منه، ويقول له: بقي لي مما أديت بالحمالة خمسة وسبعون، أنت معي بها حميل، فيقول له هذا الرابع: قد وديت أنا أيضًا بالحمالة للأول خمسة وعشرين، وللثاني خمسة وعشرين، فذلك خمسون ساويتك بمثلها، وبقيت لك خمسة وعشرون فخذ نصفها اثني عشر ونصفًا فيصير جميع ما يأخذه منه خمسين، وجميع ما ودى هذا الرابع للأول وللثاني وللثالث مائة واثنان وستون نصف. ثم إن لقي الخاص فيقول له: بقيت لي مما وديت يالحمالة اثنان وستون ونصف، عنك وعن السادس، عليك منها نصفها: أحد وثلاثون وربع، فيأخذها منه، ثم يقول له: بقي لي أحد وثلاثون وربع، أنت معي بها حميل، فيقول له عذا الخامس: قد وديت أيضًا للأول ستة وربعًا، وللثاني تسعة وربعًا وثمنًا، وذلك خمسة عشر ونصف وثمن ساويتك فيها. وبقيت لك خمسة عشر ونصف وثمن أيضأ عليّ نصفها سبعة وثلاثة أرباع ونصف ثمن، فيدفعها إليه فيصير جميع ما أخذ منه سبعة وثلاتون ونصف ثمن، ويصير جميع ما ودّى هذا الخامس للأول وللثاني اثنين وتسعين وثمنًا ونصف ثمن. ثم إن الثالث إن لقي السادس فيقول له: بقي لي مما وديت عنك بالحمالة ثلاثة وعشرون وربع ونصف ثمن، فيأخذها منه، فيذهب وقد غرم مائة. ثم إن الرابع الذي غرم للأول وللثاني وللثالث مائة واثنين وستين ونصفاَّ لَقي الخامس فيقول له: بقيت مما وديت بالحمالة اثنان وستون ونصف عنك وعن السادس عليك نصفها: أحد وثلاثون وربع، فيأخذها منه ثم يقول له: بقيت لي أحد وثلاثون وربع، وأنت معي بها حميل. فيقول له الخامس: فقد وديت أنا أيضًا بالحمالة للأول والثاني والثالث ثلاثة وعشرين وثلاثة أثمان

ونصفَ ثمن، ساويتك فيها، وبقيت لك سبعة وستة أثمان ونصف ثمر، علي نصفها: ثلاثة وسبعة أثمان وربع ثمن، فيأخذها منه، فيصير جميع ما يأخذه الرابع من الخامس خمسة وثلاثون وثمن وربع ثمن، وجميع ما ودى الخامس للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرون وثلاثة أرباع ثمن. وبقي الرابع يطلب سبعة وعشرين وربعًا وثلاثة أرباع ثمن. ثم إن لقي السادس فيأخذها منه، فيذهب وقد أخذ مائة. ثم إن الخامس لقي السادس وقد كان ودى للأول والثاني والثالث والرابع مائة وسبعة وعشرين وربعًا وثلاثة أرباع ثمن، عليه منها مائة، بقي يطلب سبعة وعشرين وربعًا وثلاثة أرباع ثمن، فيأخذها من السادس، فيذهب وقد غرم مائة. فيذهب السادس وقد غرم مائة: للأوّل ستة وربع، وللثاني خمسة عشر وخمسة أثمان، وللثالث ثلاثة وعشرون وثلاثة أثمان ونصف ثمن، وللرابع سبعة وعشرون وربع وثلاثة أرباع ثمن، وللخامس مثلها، جميعُ ذلك مائة. فقد خلص من ذلك أن كل واحد منهم إنما غرم مائة وكمل حسابها. وقد ذكرنا عن المدونة أن قوله: كل اثنين حميلان بجميع المال عن أصحابهما، أو عن اثنين، أو عن واحد، أو على أن كلّ واحد حميل بنصف جميع المال، فذلك كله سواء. فإن لقي رب المال اثنين منهم أخذ كل واحد منثهم بثلاثمائة، وإن لم يلق إلا واحدًا أخذه بثلاثمائة وخمسة (¬1): مائة منها عليه من أصل الدين، ومائتان وخمسون بالحمالة, لأنه بنصف ما بقي كفيل. ولو قال: على أن كل ثلاثة حميل بجميع المال، فإن لقي واحدًا أخذه بمائة عن نفسه وبثلث ما بقي. ولو لقي ثلاثة وأخذ منهم جميع المال، فلقي أحدهم واحدًا من الذين لم يغرموا فإنه يقول له: أديتُ بالحمالة مائة عن ثلاثة، أنت أحدهم، فأعطني ثلثها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: خمسين.

عن نفسك، ونصفَ باقيها بالحمالة عن الباقين. ثم إن لقي الآخرَ لذلك أخذ الثلاثة الغارمين معه رجل عليه بنصف ما فضله حتى يكونا في الغرم سواء. فإن اقتسما ذلك ثم لقيا الثاني الذي غرم معهما. أوّلًا دخل معهما فيما في أيديهما من قِبَل الثالث المرجوع عليه حتى يصير ما أخذ الثالث بينهم أثلاثًا. وهذا يوضح لك ما تقدم أن محصول الأمر متى لقي إنسان منهم إنسانًا آخر أن يساويه فيما أدّى وفيما أخذ من غيره من جملة الحملاء. والجواب عن السؤال السابع عشر (¬1) أن يقال: ذكر في المدونة في رجل له على رجل ألف درهم من قرض وألف دينار من حمالة، فدفع له ألفًا ثم اختلفا بعد دفعها، فقال القابض: هي الكفالة، وقال الدافع: إنها من القرض. يذكر عن مالك أنها تقسم بين الحقين نصفين. وذكر عن غيره أن القول قول المقتضي مع يمينه؛ لأنه هو ثمن (¬2) مدعى عليه. فاعلم أن هذه المسألة أو ما يُيدَأ فيها بذكر فائدة اختلافهما في ذلك. وهذا تظهر فائدته إذا كان الغريم المتحمَّل عنه، والحميل الذي تحمل به موسرين؛ لأنه يقول القابض: إنها إنما أخذتها من الكفالة كرامة منه في مطالبته المكفول به، وخفة طلب الكفيل بما عليه من قرض. وقد صرح ابن المواز باسم الغير الذاهب إلى أن القول قول القابض، فقال: هو مذهب عبد الملك، واحتج بأنه مؤتمن. وذكر عن أشهب أنه ذهب إلى ذلك أيضًا، وقال: القول قول المقتضي، لكنه خالف عبد الملك في الحجة، واعتلّ بأن الدافع (¬3) قضاء ما ذكر أنه قضاه من الحقين، والقابض منكر لأخذ هذا الحق، فصار القول قول المنكر ¬

_ (¬1) هذا الجواب لا ينطبق على نص السؤال السابع عشر المذكور في تعداد الأسئلة أوّلَ كتاب الحمالة، ويمكن صياغته: ما الحكم إذا كان على رجل قرض وحمالة ودفع ما يفي بأحدهما ثم اختلفا في تعيينه؟ (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأنه مؤتمن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قد دفع.

المدعى عليه. واختار ابن المواز تعليل ابن الماجشون. وهذا يُلتَفت فيه إلى ما قدمناه مرارًا في كتاب البيوع وفي غيرها من أصل ابن القاسم، وأصل أشهب في تبعيض حكم الإقرار، كالقائلَ: لك عندي فائة دينار وديعة، وقد ضاعت، فهي منك. ويقول الآخرة بل سلفًا أخذتَها مني فضياعها منك. فإن ابن القاسم يبعض حكم الإقرار، ويراه مقرًّا لإنسانٍ يقال، وخصص إقراره بأحد الأحوال التي يؤخذ عليها المال، فقال: أخذت منك مائة دينار وديعة، والوديعة وصف من أوصاف هذه المائة، فاقتضاؤها على هذا الوصف دعوى منه. وأصل أشهب أنه لا يؤخذ بأكثر مما أقرّ به على الصفة التي أقر بها، والتقييد الذي قيد قوله به، فكذلك ها هنا القابض يقول أخذها من الكفالة أو من القرض، فصار تقييده لا يؤخذ فيه بأكثر مما أقرّ به. وأمّا مالك رضي الله عنه وابن القاسم فذهبا في هذه المسألة إلى أن كل واحد منهما يحلف، فإذا حلفا قسم المقبوض بين الكفالة والقرض، ورأيا أن ليس أحدهما أحرى بالتصديق من الآخر لأن الدافع كان المال في يديه، ولا يخرج من يده إلا على الصفة التي يقول: إني أخرجت هذا المال عليها, ولا يؤخذ بغير ما أقرّ به. وكذلك القابض يقول: أخذته على صفة كذا فلا يؤخذ أيضًا بأكثر مما أقر به. فإذا تساويا في ابدعوى على هذا الأصل، ولم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر وجب قسم هذا المال بينهما كما (¬1) ليس في يد أحد، ادعاه رجلان فإنه يقسم بينهما. وهذا إذا ادعى كل واحد منهما (¬2) قد بيّن حين الدفع الوجه الذي دفع عليه من قضاء دين أو قضاء ما وجب بالحمالة. فأما إن اتفقا على أن كان الدفع منهما (¬3) ولم يقع بيان لارتفع الخلاف الذي قدمناه بين مالك وبين عبد الملك وأشهب على ما ذكره ابن المواز، وذلك لما أشرنا إليه من كون ما ادعاه أحدهما وحلف عليه ليس بأرجح مما ادعاه الآخر وحلف ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كمالِ. (¬2) هكذا في النسختين، والمعنى: [أنه] قد بيّن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بينهما.

عليه فإذا تحالفا لما زعم كل واحد منهما أن البيان قد وقع حين الدفع وجبت التهسمة، فكذلك أيضًا إذا اتفقا على الإبهام المانع من اليمين وجبت أيضًا القسمة. وكأن أشهب وعبد الملك رأيا أنه إذا زعم كل واحد منهما أنه قد بين حين الدفع تصور في المسألة مدع ومدعى عليه، والمدعى عليه هو القباض، فقيل (¬1) قوله مع يمينه. وإذا اتفقا على الإبهام خين الدفع واستحال في المسألة مدع ومدعًى عليه، والدفع محتمل فوجب القسمة بين محتملين. وتعليل عبد الملك بأن القول قول القابض لأنه مؤتمن، فلاحظ أحد أقوال مالك رضي الله عنه في اختلاف المتبايعين في الثمن: إن القول قول المشتري إذا قبض السلعة وبان بها, لأنه رآه كالمؤتمن على ما يدفع من الثمن، وكأن البائع لما دفع السلعة للمشتري من غير إشهاد، وهو يجوّز مخالفته في مقدار الثمن، صار ذلك كالتصديق له فيما يدعيه من الثمن. وإن كان هذا التعليل عندي في هذه المسألة ضعيفًا, لأنه يقتضي أنهما لو اختلافا في جنس الثمن لكان المشتري أيضًا مصدَّقًا فيه لأنه كالمؤتمن، وهذا لم يقله مالك رضي الله عنه. هذا الحكم إذا اتفقا على البيان حين الدفع واختلفا في صفته، واتفقا (¬2) على الإبهام وعدم البيان. فأمّا لو اختلفا في ذلك فقال: أحدهما: لم يقع بيان حين الدفع، وقال الآخر: بلِ وقع البيان. فإن ابن المواز حكى عن أصبغ أن القول قول من ادعى البيان. قال ابن المواز وهذا خلاف لابن القاسم وهو مذهب أشهب وعبد الملك. فأشار بعض الأشياخ إلى معنى المخالف (¬3) من أصبغ لابن القاسم أن مقتضى أصل ابن القاسم أن تجري المسألة على حكم التداعي فيما يحوزه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: قُبِل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المخالفة.

رجلان، كثوب حائز به، قال أحدهما هو لي كله، وقال الآخر: بل نصفه. فإن مذهب ابن القاسم أن المدعي في النصف قد سلم النصف الآخر لمدعي الكل، وبقي النصف، فمدعي الكل يدعي جميعه، ومدعي النصف يدعيه ولا يدعي أكثر منه، فوجب أن يقسم بينهما جميعًا، فيكون ثلاثة أرباع الثوب لمدعي الكل، وربعه لمدعي النصف. فكذلك من يزعم ها هنا أن الدفع وقع مبهمًا، فإنه يسلّم أن الحكم يقتضي كون المال يقسم نصفين بين الحقين، فقد سلم أحدَ النصفين لمدعي البيان، والنصفُ الآخر يشتركان في الدعوى فيه، فمدعي البيان يدعيه ويقول: شرطت حين الدفع أنه أحد الحقين وسميتُه، والذي زعم أنه وقع مئهمًا إنما استحقه بمقتضى حكم الإبهام، فيقسم بينهما نصفين. وهذا التخريج مما يتأمل, لأن (يدعي الكل ومدعي النصف تصريح) (¬1) كل واحد منهما قد صرح بدعواه، وهاهنا مدعي الإبهام لم يصرح بأنه لا يستحق إلا النصف، وأن الاسم (¬2) الآخر مسلم لمدعي البيان، وإنما الأحكام على قوله أوجبت قسمة المقبوض نصفين، فهو غير مسلم إلى مدعي البيان أنه يستحق النصف قطعًا بل الأمر عنده محتمل، ولأجل احتماله أوجبت الأحكام القسمة فلا يكون مصرحًا بتسليم النصف لمدعي البيان فهذا مِمّا ينبغي أن يتأمل. وأما قول ابن المواز إنه مذهب أشهب وعبد الملك فهذا أشد إشكالًا مَن الأول، فإن كان مدعي الإبهام هو القابض فمقتضى ما حكيناه عنهما أن القول قول القابض فيصح ما قال ابن المواز, لأن أشهب وعبد الملك يزعمان أن القول قول القابض. وأما إن كان مدعي الإبهام هو الدافع ومدعي البيان هو القابض فمقتضى ما حكيناه عنهما أن القول قول القابض، ولا يتصور ها هنا، على أصلهما، قسمة المال، كما أشار إليه أصبغ. وقد ذكرنا في صدر هذه المسألة فائدة اختلافهما في هذا، وهو اختلاف الأغراض في طلب الدين الذي هو قرض ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأن مدعي الكل ومدعي النصف مصرح. (¬2) هكذا في النسختين.

أو الحق الذي هو بالحمالة. وكذلك أيضًا إنما يفيد تصور القسمة واختلافهما إذا كان الغريم المتحمل بالدين الذي عليه موسرًا الآن، ومعسرًا حين الدفع، على القول بأن من له الحق لا يمكّن من طلب الحميل إلا عند تعذر استيفاء الحق من الغريم. فإن، ها هنا، يقول الدافع: إنما دفعتها مما وجب لك عليّ. وأما إذا كان الغريم الذي تحملت بما عليه موسرًا يوم دفعى إليك، فلم تجب لك عليّ حينئذٍ المطالبة بالحمالة، وكذلك هو موسر الآن، فلا تجب عليّ أيضًا المطالبة بالحمالة الآن. فإنه ها هنا لا يقسم المال، ويكون القول قول الدافع. وأمّا على القول بأن الحميل يُطلب مع إمكان أخذ الحق من المتحمَّل عنه، فإن القسمة (¬1) ها هنا تصح لكون الحقين جميعًا قد وجب أداؤهما .. وأما لو كان الغريم المتحمَّل عنه موسرًا حين الدفع عنه، ومعسرًا الآن، فلا فائدة في القسمة ها هنا, لأنه يجب عنه الآن الأداء لعسره، فلا فائدة للدافع في كون ما دفع مقسومًا لوجوب قضاء الحقين عليه. وإن كان الغريم موسرًا يوم (¬2) الدفع ومعسرًا الآن، لم تفد القسمة لوجوب الحقين جميعًا على الرجل الذي عليه القرض، وعليه: أي ما تحمل به لكون من تحمل به معسرًا. ولو كان (يعكس بذلك يكون) (¬3) الغريم معسرًا يوم الدفع وموسرًا الآن، وقلنا: إن المتحمل (¬4) له مطالبة الحميل. وإن كان الغريم موسرًا فإنه أيضًا لا فائدة في القسمة لأن القابض يقول للحميل: لي طلبك بالحمالة، وإن كان من تحملت عنه حاضرًا موسرًا. وما ذكرناه من القسمة أيضًا إنما يصح إذا كان القرض والحمالة قد حلاّ ¬

_ (¬1) في (و): القيمة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: معسرًا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بعكس ذلك: بكوْن. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المتحمل [له] له.

جميعًا ولم (¬1) يحلا، وأصلنا لو حل أحدهما دون الآخر فإنه لم يختلف أيضًا وأن القول قول من زعم أن المقبوض مِمّا حل لا مما لا يحل, لأن ما حل قد وجب فيصرف القضاء إليه، وما لم يحل لم يجب، فلا يصرف الدفع إليه. فتلخص من هذا أن مَن له الحق إذا استحق طلب كل واحد من المدينين لم يجر اختلافهما في النوع الذي قصد في القضاء، ومتى لم يستحق الطلب بأحد النوعين حمل ما دُفع على ما استحق أخذه لأنه يدعي عليه أنه يتطوع بما لم يلزم، فيكون القول قولَه في أنه لم يتطوع. وعلى هذا أيضًا يجري ما قلناه: إن الحقين إذا حلاّ فقد وجبا جميعًا، وإذا لم يحلا فقد تساويا أيضًا في نفي الوجوب، وإن حل أحدهما، فالذي حل قد وجب والذي لم يحل لم يجب، فلا يحمل بما دفع على التطوع وقضاء ما لم يجب. هذا هو المنصوص في الموازية، كما قدمناه، وقد سلمه بعض أشياخي. ولكنه قدح في كون الحقين لم يحلا، ورأى صرف القضاء إلى القرض، لكون الحمالة لم تجب، فيقول الدافع: تطوعت بقضاء ما عليّ دون ما ليس على. وهذا الذي قاله لا يتضح, لأنه متطوع بالتعجيل في الحقين جميعًا. ومما يلحق بهذا الذي نحن فيه (أن رجلًا لو) (¬2) كان له ذكر حق على رجلين وقد شرط: أيهما شاء أخذه بحقه. فقال: لم يبق لي عليهما حق، فإن وصل هذا الكلام بأن قال: لأن فلانًا منهما أخذته بجميع الحق، وهو دفع جميعه إليّ. واتفق الغريمان على أنهما لم يقبض منهما سوى مائة دينار واحدة، وهي جميع الحق لأن الدفع كان بمحضرهما جميعًا، فقد أسقطا عنه المطالبة، والادعاء عليه، وصارت الدعوى مترددة بينهما. فإن كان واحد منهما يقول ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أوْ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب تقديم لوْ.

لصاحبه: أما (¬1) كنت الدافع إليه. فيقبل إقراره أن فلانًا منهما هو الدافع إليّ، وإن لم يكن عدلًا, لأنه لو أنكر الدفع أصلًا لكان القول قوله. فإذا أقر به لأحدهما فقد سقط حقه عنهما وسقط حقهما عنه في أن لا يطالباه في إقرارهما في أنه ما أخذ أكثر مِمّا وجب له، فتبقى الدعوى مترددة بين الغريمين، فيحلف المقر له بأنه هو الدافع لصاحبه، وأن صاحبه لم يدفع من الحق، فيستحق بيمينه الرجوع بنصف ما دفع على صاحبه, لأن الدفع ثبت له بإقرار المقر له وصار صاحبه مدعيًا عليه أنه قد سقط عنه ما قضى عنه، فلا تقبل دعواه إذا حلف المقَر له. فإن نكل المقَر له، وحلف الآخر، كان هو المستحق الرجوع بنصف الحق على المقَر له, لأنه يقول: أنت تعلم أني أنا الدافع، والمقِر لك أقر بباطل، فإذا لم تحلف على دعواي، فقد رددت اليمين عليِّ فيحلف (ويستحق ما تقتضيه دعواي عليك) (¬2). وكذلك لو كان المقر نسقًا (¬3) قولَه: فأبقى (¬4) لكما عليَّ شيء، بقوله: وفلان منكما هو الدافع إلى فلان، فإن القول قوله في أن الآخر لم يدفر إليه شيئًا. ولكن إذا لم يحضرا جميعًا الدفع ولا عِلْم عند أحدهما ببطلان ما ادعاه صاحبه، فإنه لا يصح أن يكون ها هنا شاهدًا لمن أقر له, لأن الآخر مدعًى عليه بأنه دفع إليه فأنكره، فلا يكون إنكاره شهادة على من ادعى عليه، ولكن يحلف له على أنك لم تدفع إلى شيئًا. فإذا حلف له سقطت دعواه، ووجب أن يرجع المقَر له بنصف ما دفع على صاحبه هذا الذي ادعى الدفع وحلف له جاز ادعى ذلك عليه. ولو نكل المقرُّ صاحبُ الحق عن اليمين لهذا الذي ادعى عليه أنه دفع إليه لأخذ منه المائة دينار التي ادعى عليه، ودفر منها خمسين إلى صاحبه الذي أقر له صاحب الحق بأنه هو الذي دفع جميع الحق إليه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أن. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نسَق. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَا بَقِي.

وأمّا لو قال: ما بقي لي عليهما شيء، ثم قال، بعد ذلك، لما سئل: فلان منهما هو الذي دفع ذلك إليّ، فإن ابن القاسم أطلق الجواب فقال: صاحب الحق شاهد، فإذا كان عدلًا حلف معه من أقرَّ له، واستحق الرجوع على صاحبه. ولم يقتد قولَه هذا يكون المقِر عيَّن مَن دفع إليه متصلًا بقوله الأول أو منفصلًا. فكأنه أشار بهذا إلى أن قوله ما بقي لي عليهما شيء. ظاهر هذا القول يقتضي أنهما جميعًا دفعا إليه, لأن أصل الدين عليهما جميعًا وإنما شرط الطالب لهما أن يطلب من شاء منهما فكأنه إذا أخذ منه الجميعَ فقد أخذ نصف ذلك عن الدين الذي على الدافع إليه والنصف الآخر بالحمالة عن صاحبه، والأصل أن الإنسان إنما يُطلب بما عليه في نفسه. وقوله بعد الانفصال من قوله الأول: فُلانٌ منهما هو الدافع، فكأنه كالرجوع عن مقتضى قوله الأول، وقد اقتضى قوله الأول كونَ الدفع منهما جميعًا، فيكون على مقتضى هذا التعليل بريان جميعًا من طلبه إذا لم يكن يعينه لأحدهما نسقًا بقوله الأول. فإذا لم يحضر كل واحد منهما دفع صاحبه وحلف لمن أنكر أن يكون هو الدافعَ إليه، وحلف أيضًا هذا الذي أنكرهُ أن يكون دفع إليه على أنه دفع إليه ما ينوبه بحسب ما اقتضاه كلامه الأول. (ويرى ولا رجوع لأحد الغريمين على صاحبه إذا وقعت الأيْمان بينهما) (¬1) وإذا كان الكلام والتعيين متصلًا بقوله الأول، ولم يكن عدلًا، حلف كل واحد من الغريمين لصاحبه. وإن كان عدلًا قُبلت شهادته في التعيين لارتفاع التهمة عنه في شهادته إذا اتفقا على أنه لم يقبض سوى مائة واحدة. فصار محصول قوله أنه شهد يكون أحدهما استحق أن يرجع على صاحبه بنصف الذي قضاه عنه. وإذا لم يتفقا على ذلك صار كل واحد منهما مدعًى عليه فلا تقبل شهادته عليه. وإذا لم يكن الكلام منسوقًا أعطى الجملة الأولى وهي قوله: ما بقي لي عليكما شيء أظهر محتمليها عنده وهو كون الدفع منهما جميعًا. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين.

وإذا عين بعد ذلك من دفع إليه، ولم يتفقا على إبرائه، طلباه بمقتضى قوله الأول، وكان الحكم ما ذكرناه. ويتخرج على أصل المذهب قول آخر أنه يقبل قوله في التعيين كان ذلك منه متأصلًا (¬1) بكلامه الأول، أو منفصلًا عنه, لأن اللفظ المحتمل يُقبل تفسير قائله له، فسره متصلًا أو منفصلًا. وهذا هو التحقيق على مقتضى الأصول، إلا أن يكون أحد محتمَليْ الكلام أظهر من الآخر فينظر في قبوله (¬2) تفسيره إذا لم يكن متصلًا. ومما يلحق بهذا اختلاف من له الحق مع الحميل في الجنس الذي تحمل به، مثل أن يقول الحميل: تحملت لك بألف درهم، ويقول المتحمَّل له: بل تحملت لي بخمس مائة دينار. ويكون الفتحمل عنه صدّق مَن له الحق، فإنه ها هنا يكلف الحميل إخراج الألف درهم من ذمته التي أقر بها للطالب، ويشتري بها ما يدعيه الطالب. فإن وفت بخمس مائة دينار سقط حق الطالب، وبرِىء الحميل، وتبقى المطالبة بين الحميل وبين من تحمل عنه. فإذا غَرِم المتحمل عنه ما أقرّ به من الخمس مائة دينار، التي ادعاها الطالب عليه، بيعت أيضًا واشتري بها الألف درهم التي غرمها الحميل عنه. فإن وفّتْ برىء كل واحد من طالب ومطلوب وحميل، وإن زادت لم يستحق الحميل هذه الزيادة لأنها أكثر مما أداه عن المتحمل عنه، وترجع للغريم. وإن انقضت (¬3) عن الألف درهم التي أداها الحميل حلف المتحمل عنه أنك لم تتحمل عني بالألف درهم التي أديت عني، بل بما أقررتُ به وبرىء من النقص. وإن نكل حلف الحميل واستحق وطالب بهذا النقص من أداه عنه. ولو اختلف الثلاثة فقال الحميل: تحملت بألف درهم، وقال الطالب: بل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: متّصلًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قبول. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نقصت.

بخمسمين دينارًا، وقال الغريم المتحمَّل (عنه ابنا علي) (¬1) مائة إردب قمح، فإن القول قول الغريم، فيما يقر به فيؤخذ منه القمح، ويباع، فإن وفّى الخمسين دينارًا التي ادعاها الطالب، وإذا سقط حقه برىء الحميل لسقوط حق الطالب لهما، وسقطت الأيْمُنُ عن جميعهم. وإن كان القمح إذا بيع لم يبلغ ثمنه الخمسين دينارًا التي ادعاها الطالب، ولكنه بلغ الألف التي أقر بها الحميل، أُخّرت يمين الحميل رجاء أن ينكل الغريم عن اليمين فيغرم للطالب ما ادعاه إن كان موسرًا. وإذا حصل الطالب على من (¬2) ادعاه سقطت اليمين عن الحميل. فإن لم يحلف ونكل عن اليمين، أو كان معسرأوحلف، فهاهنا ينتقل الحكم في النظر فيما بين الطالب وبين الحميل، فيكون القول قول الحميل فيما تحمل به، فمن حق الطالب أن يحلفه عن بقية ما قصرت عنه الألف درهم إذا أشترى بها دنانير فلم تبلغ الخمسين دينارًا التي أدعاها الطالب، ومن حق الحميل أن يحفف الغريم أيضًا إذا قصر (عن ما أخرجه عن ما أداه الطالب) (¬3). والغرض من هذا أنه متى قدر على رقع الأيمان وتقليلها برىء من ذلك متى قدر عليه، كما تقدم في كتاب الدعاوي والأيمان. ومما يلحق باختلاف الحميل والمتحمَّل له: رجل تحمل لرجل بدنانير له على رجلين، فأتاه بأحد الدينين ليقضيه عن أحد الغريمين، فقال المتحمل له: لا أقبضه إلا على الغريم الآخر، فقال في الموازية: القول قول المتحمل له، إلا أن يكون المطلوب مخوفًا (¬4) فيكون الذي أتى به الحميل مقسومًا. ولم يبيّنْ عن ما مراده بقوله: المطلوب، هل أراد به الحميل أو أراد به أحد الغريمين؟ ولا بيّن أيضًا هل الحميل موسرٌ بالدينين جميعًا، أو ليس هو موسرًا إلا بأحد الدينين الذي للمتحمّل له. قد حمل بعض الأشياخ على ابن المواز مراده بالمطلوب أحد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: (عنه: إنما على ....) (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما أخرجه عما أدّاه للطالب. (¬4) هكذا في النسختين.

الغريمين، وأن مراده أيضًا كون الحميل غير موسر إلا بأحد الدينين: فأما تأويله أن المراد أنه غير موسرٍ إلا بأحد الدينين فإن الحميل إذا كان موسرًا بالدينين جميعًا، والغريمان معسران، لم يكن لاختلافهما عمّن يكون القضاء فائدة, لأنه إذا قبضه (¬1) المتحمل له عن الغريم الذي قال: لا أقبض منك إلا عنه، طلبه بالقضاء عن الآخر. وإن كان الغريمان موسرين، فكذلك أيضًا، إذا قلنا بأحد قولي مالك أن له طلب الحميل مع يسر الغريم. فيصح ها هنا أيضًا أن القول قول من له الدين: إني لا أطلبك إلا عمّن شئتُ أنا دون من شئتَ أنت. وكذلك إذا كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا وقلنا: له مطالبة الحميل بالقضاء عن الموسر، صار في حقه كأنهما معسران. وإن قلنا: ليس له مطالبته فمن دعا منهما إلى كون القضاء عن المعسر، قبل ذلك منه. وبالجملة فإن الذي له الدين يجب أن يكون هو المبدَّأ في قبول القول لأنه حق له يطلبه ممن شاء. لكن إن ظهر غرض وفائدة في اختلافهما فيمن يقضى عنه من الغريمين فكأن لمن له الدين فائدة فيمن اقترح أن يكون القضاء عنه، وللحميل فائدة فيمن اقترح أن يكون القضاء عنه، كان العدل بينهما قسمةَ المال بين الغريمين كما يقسم الم الذي التفليس بين الغرماء. وإذا اشترى الغريمان في الزمن الذي ينتظر يسيرهما إليه لم تظهر فائدة أيضًا للحميل فيما دعي (¬2) إليه. لكن إذا ادعى (¬3) إلى كون القضاء عن أقربهما يُسْرأ، فقد يكون له في ذلك غرض أن يصرف له الآن مما في يديه مقدار ما يترك للمفلس من الإنفاق على استبعاد هذا الغرض. ومما يلحق بهذا أيضًا: إذا غاب الغريم فقضى الحميل عنه الدين بعد حلول أجله، ثم قدم الغريم فأثبت ببينة أنه كان قضاه أيضًا قبل سفره فإن رجوع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قبض. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دعا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دعا.

الحميل ها هنا بما قضاه إنما يجب له على من قضاه له، وهو المتحمل له، لا على من فضاه عنه, لأن دفع الحميل يعد قضاء الغريم خطأ منه على نفسه، وأداء ما لا يلزمه أداؤه، ولا تكون له مطالبة على الغريم لأنه أدى عنه ما لا يلزمه، وقد سقط بأداء الغريم له. وإن ثبّت الحميل دفع (¬1) بعد حلول الأجل، قبل أن يدفع الغريم كان له الرجوع بما دفع على الغريم، لكونه دفع عنه مالًا يلزمه، والغريم هو الذي غلط على نفسه فدفع ما لا يلزمه. وأما إن عُلم بالدفع منهما وجُهلت التواريخ لم يجب للحميل رجوع على الغريم مع الشك في كونه يستحق الرجوع عليه أو لا يستحق، إلا أن يكون دفعه بقضية من سلطان فيرجع على الغريم. وهذا الذي ذكره في الرواية من كونه يرجع على الغريم مع الشك إذا كان الدفع بقضية من السلطان لا يتضح وجهه إلا أن يكون قدّر أن السلطان، لما قضى عليه بالدفع لمن له الدين، تضمنت قضيته هذه أنه قضى له بالرجوع عن الغريم، فلا تنتقض قضية السلطان بالشك، بخلاف إذا لم تكن هناك قضية وإنما تطوع الغريم بالدفع. والجواب عن السؤال الثامن عشر (¬2) أن يقال: إذا حل الدين فأخّر من له الدين غريمه الذي عليه الدين، فلا يخلو أن يكون الغريم عند التأخر (¬3) معسرًا أو موسرًا. فإن كان الغريم معسرًا لم يكنَ ذلك إسقاطًا لحمالة الحميل الذي تحمل بالدين, لأنه أخّر به من لم يجب له عليه بعسره وهو الغريم، وقد وجب له أخذ الدين من الحميل فلا يكون عدوله عن طلب ما لا يفيده طلبه وهو الحميل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دفعًا. (¬2) هذا جواب عن السؤال السابع عثر المذكور أولَ كتاب الحمالة. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التأخير.

الموسر. وأمّا إن كان الغريم حين التأخير موسرًا، فهل يكون تأخيره إسقاطًا لحمالة الحميل أم لا؟ في هذا قولان: فذهب اين القاسم في المدونة أن ذلك لا يكون إسقاطًا لحمالة الحميل. وقال غيره: بل هو إسقاط لحمالة الحميل .. واعلم أن هذا الاختلاف إنما هو راجع إلى اختلاف في شهادة العوائد وما تقتضيه. فلو نص من له الدين حين تأخير الغريم على أنه أسقط الحمالة عن الحميل لم يكن له رجوع عن ذلك. ولو نصر على أنه بتأخير الغريم غيرُ مسقط لحمالة الحميل لم تسقط الحمالة مع اشتراطه ما اشترط. فإذا لم ينص عن هذا ولا عن هذا، وإنما أخر الغريم تأخيرًا مجردًا، فذلك عند ابن القاسم أمر محتمل للقسمين جميعًا، فلا يسقط حقه في الحمالة مع الشك. ورأى الغير أن ذلك في العادة إنما يكون مع إسقاط الحمالة لكونه قَدَر على أخذ دينه من الغريم فأخذه (¬1)، وقد علم أن ذلك مما يضر بالحميل، لجواز أن يُفلَّس الغريم قبل حلول الأجل الثاني فيطلب الحميل بالغرامة، وقد كانت ساقطة عنه على أحد القولين، أَوْلَه بها مرجع فدل ذلك على أنه قصد بتأخير الغريم رفع هذا الغرر عن الغريم. ومن أشياخي مَن تأول هذا الخلاف على أن الغريم لم تتغير حالته، بلَ كان موسرًا يوم تأخيره، وموسرًا عند الأجل الثاني عند استحقاق الطلب. وأما لو كان موسرًا عند التأخير ثم أفلس، فإنه يبعد الخلاف في ذلك، لأنه كمُتلفٍ مالَه بنفسه فلا مطالبة له عن الحميل. وعلى الطريقة الأولى التي عللت بها وهي طريقة بعض أشياخي أيضًا لا يفتقر إلى هذا التأويل الذي ذكرته عن بعضهم. وَهذا إذا لم يعلم الحميل بالتأجيل فرضيه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فأخّره.

وأمّا لو علم به فأنكره لكان من حقه ذلك ويقال للمتحمَّل له: إما أن تُسقط الحمالة فيصح لك التأخير. وإمّا أن تتمسك بها فلا يُمكن من التأخير لحق الحميل ونفي الضرر عنه بالتأخير ولو لم يعلم الحميل بالتأخير حتى حل الأجل الثاني لم تسقط الحمالة عنه، ولكنه يحلف عند ابن القاسم: أنه ما كان ذلك منه رضي بإسقاط الحمالة، إذا أنكر ذلك الحميل بعذر التأخير. وأوجب اليمين عليه أشهب: أنه لم يقصد بتأخير الغريم إسقاط الحمالة. وهذه يمين تهمة فإذا قويت التهمة قوي الاستحلاف، وإذا ضعفت ضعف الاستحلاف. وأمّا إن أخر الحميلَ فليس ذلك بتأخير للغريم, لأنه لو أسقط عنه الحمالة بالكلية لبم يسقط الدين على الغريم. فكذلك إذا أخر عن الكفيل الطلب لم يكن ذلك تأخيرًا للغريم لأنه يتصور ها هنا إلى الرفق بالحميل والإحسان إليه بالتأخير لما أحسن هو بتحمل ما لا يلزمه، لكنه يحلف أيضًا: لم يرد بتأخير الكفيل تأخير الغريم. فإن نكل عن هذه اليمين لزمه تأخير الغريم أيضًا، بناء على الأصل في أيمان التهم: أن النكول عنها يوجب غرامة ما نكل عنه. وقد وقع لمالك ما يشبه ما نحن فيه: في رجل عليه دينان لرجل، أحد الدينين بحميل والآخر بغير حميل، فمات الذي عليه الدين، وترك مَا لاَ يفي بالدينين، فإن الذي ترك يقسم بين الدينين، ويُطلب الحميل بما بقي عليه من الدين الذي تحمل به بعد ما أُخِذ من التركة ما أسقط عنه بعضَ ما تحمل به. فسأل بعضُ الورثة من له الدين أن (يحال إلى) (¬1) الميت مما بقي عليه من الدين، ففعل، فإن ذلك ليس بإسقاط عن الحميل ما بقي من الحمالة، بعد أن يحلف أنه لم يرد بما فعل إسقاط الحمالة. وهكذا حكى ابن المواز أيضًا عن أشهب عن مالك في ورثة سألوا من له الدين أن يحالل الممت بما عليه، أن ذلك لا يكون إسقاطًا للحمالة عن الحميل بهذا الدين، إذا حلف من له الدين أنه لم يرد إسقاط الحمالة، قال ابن المواز في هذا. وفي موضع آخر قال: في هذا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُحالِلَ

شيء. فأشار إلى قدح في هذا الجواب. وصرح بعض المتأخرين بما أشار إليه ابن المواز فقال: تسقط الحمالة عن هذا الحميل إذا حالل من له الدين الميتَ, لأن معنى التحليل ها هنا إسقاط الدين على كل، سقطت (¬1) الحمالة بما سقط, لأنها فرع عن ثبوت الدين في الذمة، فإذا بطل الأصل بطل الفرع. وهذا الذي أشار إليه ابن المواز من القدح، وصرح به بعض المتأخرين، يسبق إلى النفس صحته، وأنه لا وجه لما وقع في الرواية. لكن عندي المخرج من هذا أن الناس يعتقدون أن من له الدين يطالب به من له عليه في الآخرة، ويؤكد اعتقادَهم هذا قوله عليه السلام: "نفس المؤمن مرتهَنة بديْنه حتى يُقضى عنه" (¬2) فأشار إلى أحكام الآخرة، وأن مَن مات وعليه دين كان الأمر فيه هكذا، وامتنع من الصلاة عليه حتى يقضَى دينه، كما تقدم ذكر هذا الحديث وما يتعلق به من مسائل الخلاف مبسوطًا. فإذا تقرر هذا وأمكن أن يريد من له الدين لما سئل في أن يحلل الميت الذي عليه الدين أن يؤيد بتحليله أن لا مطالبة عليه في الآخرة، وأسقط إثم المطل عنه إن كان مَطَله. وهذا مما يختص بالغريم الذي قد صار إلى الآخرة دون الحميل الذي هو حي، ويقضى عليه في الدنيا بأحكام المعاملة، حلف من له الدين أنه لم يرد إلا أحد الوجهين وهو التباعة في الآخرة دون الدنيا، وبقي الحميل مطلوبًا بما تحمل به، فلا يسقط عنه بالشك والاحتمالِ أمرٌ قد كان وجب عليه بيقين. والجواب عن السؤال التاسع عشر (¬3) أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والأوْضح: [فـ]ـسقطت. (¬2) تحفة الأشراف: حد: 14981. ج 10/ 360. (¬3) هذا من الأسئلة الساقطة في أول كتاب الحمالة، ويمكن صياغته من الجواب: وما الحكم إذا تحمل بدينين لرجلين؟.

إذا تحمل رجل لرجلين بدينين لا شركة بينهما فيه، فقضى أحدَهما، فلا مدخل للغريم الآخر معه، إذا كان الغريم مليئًا بجميع الدينين (¬1). وإن قضى أحد الغرماء وقد أحاط الدين نجماله، فقد قدمنا اختلاف قول مالك. وتأول بعض الأشياخ أن هذا الاختلاف إذا قضى جزءًا من ماله، ويبقى (¬2) في يده جزء، بخلاف أن يقضي جميع ما في يديه لغريم، ويبقى فقيرًا. وأما إن كان الدين مشتركًا بين رجلين فاقتضى أحدهما دون الآخر، فهل لصاحبه أن يشاركه فيما اقتضى؟ تقدم بيان ذلك مبسوطًا في كتاب البيوع، وأن المشهور من المذهب مشاركة من لم يقبض لمن اقتضى، على تفصيلَ في صفة المشاركة، تقدم أيضًا بيانه، وأن هذا إذا كان اقتضى أحد الشريكين دون استئذان صاحبه وإعلامه. وأما إذا رفع أمره إلى السلطان فأمَرَ شريكه بالاقتضاء معه، فلم يفعل، فإنه لا يشاركه، ويصير ذلك كحكم القاضي بينهما بالقسمة لهذا الدين، وتمييز أحدهما من الآخر. وذكر في المدونة أن الإشهاد على شريكه بأنه امتنع من الاقتضاء معه ينوب مناب الرفع إلى القاضي. وتعقبه بعض الأشياخ وأشار إلى أنه يمكن أن يكون المراد: الرفع إلى القاضي يتعذر، فقام الإشهاد مقامه للضرورة إلى ذلك. وهذا كله قد مضى مبسوطًا. لكن ذكر في المدونة في هذا الكتاب أن الحميل إذا تحمل بدينٍ مشترك بين رجلين، فأتى أحدهما فدفع إليه الحميل ما ينوبه من الدين، والحميل موسر، في يديه ما يقضي منه الشريك الآخر الذي لم يقبض لغيبته، فإن القضاء صحيح جائز. وإنما يبقى النظر في مشاركة الغائب إذا قدم من اقتضاء (¬3) وهذا الخلاف الذي أشار إليه إذا لم يرفع المقتضي أمره إلى القاضي، فإن رفع الأمر إليه، والحميل موسر بجميع دين الشريكين، فإن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الدين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: وبقي. (¬3) هكذا، وفي مد: اقتضاه.

القاضي يقضي لهذا الدافع إليه بجميع حقه، ولا يتعرض لحق الغائب بل يبقيه في الذمة على حسب ما كان. وأمّا إذا لم يكن في يد الحميل إلا نصف الدين الذي عليه فإن القاضي إذا قضى لهذا الحاضر بحقه عليه كان قضاؤه باطلًا، والدفع إلى أحد الغريمين فاسد. فلم يختلف المذهب ها هنا بأن الشريك القديم يشارك الشريك الحاضر فيما اقتضى. فإذا كان جميع الدين مائة دينار، وهي بين الحاضر المقتضي والغائب نصفان، فرفع الأمر إلى القاضي، فلم يجد في يد الغريم سوى خمسين دينارًا، فقضى بجميعها للشريك الحاضر لأنها منتهى جميع دينه، فإن الشريك الغائب إذًا قدم يقاسم المقتضي للخمسين , التي أخذ، نصفين، لكون قضية القاضي له بجميع الخمسين خطأً وغلطًا يجب أن يُنقض الحكم فيه. ولو وقع الغلط في مقدار ما ينوب في المحاصة، مثل أن يكون الدين مائهّ (¬1) دينار، وهي بين الشريكين نصفين، ولم يوجد في يد الحميل سوى خمسين دينارًا، فقضى له القاضي بجميعها، فإن الغلط ها هنا إنما وقع في أن زاده عشرة دنانير على ما ينويه في المحاصة، فإن من الأشياخ من ذهب إلى أنه يمضي له القاضي بأربعين دينارًا، وهي التي تنوبه في المحاصة ولم يقع فيها غلط في الحكم فلا مشاركة فيها وإنما الغلط في زيادة عشرة دنانير وهي التي ترد إلى الشريك الغائب. ومنهم من ذهب إلى أن المشاركة تقع في جميع الخمسين دينارًا وكأن الغلط لما وقع في (¬2) سرى ذلك إلى كلها لأنها قضية واحدة , فإذا ظهر الغلط فيها وجب نقض الحكم غير ملتفَتٍ فيه إلى ما كان منه صوابًا, لأن الصواب لم يقصد إليه، فكأنه لم يقع الحكم به. واحتج هؤلاء بما قيل في القاسم إذا غلط أن حكمة ينقض. وتأول الآخرون هذه الرواية على أن المراد غلطُه فيما تختلف فيه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ثمانين دينارًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وقع في [بعضها] سَرَى ...

الأغراض كالرباع وغيرها، وتختلف أجناسه، وأما الدنانير فجنس واحد فغلطه في بعضها لا يسري إلى ما أصاب فيه منها, لكونها لا تختلف فيها الأغراض، ولا يمكن ذلك في الرباع التي تختلف فيها الأغراض, لأن الغلط (¬1) بعضها يصيّر ما بقي مغلوطًا فيه لاختلاف الأغراض فيه. وأما لو قضى القاضي لهذا الحاضر الدافع إليه بمقدار نصيبه في المحاصة، ووقف نصيبَ الغائب، فإن هذه القضية ماضية، ولا مشاركة للغائب، إذا قدم، فيها (¬2) قبفحه الحاضر من الحميل، لكون ما وقفه القاضي كأنه قبضه، ومصيبته منه. وأما إن لم يوقف القاضي نصيب الغائب، ولا بقاءه (¬3) في ذمة الحميل، وليس عند الحميل سواه، فإن ظاهر كلام ابن القاسم أن ما أخذه الحاضر بحكم هذه القسمة يمضي له ولا يشاركه فيه. وعلى هذا تأول يحيى قول ابن القاسم في المدونة: إن القاضي فعل ذلك ولم ينتزع من يد الحميل نصيب الغائب. وقال غير ابن القاسم في المدونة: بل هذه القضية خطأ تُنقض كما لو قضى للحاضر بحقه كله. واعتذر الشيخ أبو محمَّد (¬4) بن القاسم بأن القاضي لم يقصد سوى التمسمة بين الشريكين فمضى للحاضر ما قسم له، لكون ذلك هو المقصود بالقضاء، ولم يردّ ذلك لأجل غلطه على الغائب. واعترض هذا بأنه يجري مجرى التفليس للغريم، فيجب ألاّ يبقى في يديه من غاب، فلو لم يكن ذلك كالتفليس على هذا التعليل لاقتضاء هذا أنه لو قبض الحاصر نصيبه كله لمضى ذلك كله له، لكون من أحاط الدين بماله له أن يقضي غريمًا دون غريم. وبالجملة فإن في كلام ابن القاسم احتمالًا، وإنما يلتفت في هذا إلى كون هذا كالتفليس فتجري فيه أحكام التفليس، أَوْ لاَ يكون كالتفليس فتجري فيه أحكام ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [في] بعضها ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما، (¬3) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: أبقاه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أبو محمَّد [عن] ابن القاسم.

المديان لقوم من الغرماء دون قوم. والجواب عن السؤال العشرون (¬1) أن يقال (¬2): قد تقرر أن من له دين على غريم وأخذ به حميلًا فإن دينه متردد بين ذمتين، فإذا دفع الغريم أو الحميل فلا خفاء في جواز ذلك. وأن غير ما عليه تغييرًا في الصفة أو تغييرًا في النوع (¬3) في الجنس فإن ذلك إذا كان من (¬4) عليه الدين فقد مضى ذلك في كتاب البيوع، بتنا فيها ما تجوز المعاوضة به وما لا تجوز، دينًا كان أو غيره. وإن كان ذلك من الحميل فشرى لنفسه ليملك بما دفع من الدين الذي على الغريم، وتبرأ ذمة نفسه منه، فإن ذلك أيضًا أصوله مفردة في كتاب البيوع، فيلتفت في ذلك إلى كون ما يفعله الغريم من تغيير الصفة والجنس في قضاء الدين قد عري من الوجوه الممنوعة، المذكورة فيما تقدم في شراء الديون والسلم فيها. وإن كان يقضي ذلك عن الغريم لا ليملك ما عليه، فهاهنا أيضًا تفاصيل جملتها ترجع إلى ما قدمناه من الممنوعات في المعاوضات من غرر أو وقوع في وعلى هذه الأصول يعرض صلح الكفيل لمن له الدين عن نفسه أو عن الغريم، وبيان هذا، على التفاصيل في صلح الكفيل، أنه لو تكفل بمائة دينار عن رجل مؤجلة عليه، فأراد، قبل الأجل، الكفيلُ أن يصالح من له الدين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والصواب: العشرين. (¬2) هذا من الأسئلة الساقطة، في أوّل كتاب الحمالة، ويمكن صياغته من الجواب: ما الحكم في صلح الكفيل عن الدين؟ (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: أو. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمّن.

بخمسين دينارًا، فإن ذلك لا يجوز على الإطلاق، كان الدين سلعة أو قرضًا، لأنه يقع في "ضع وتعجل" إن صالح عن الغريم. وإن صالح عن نفسه وقع في سلف بزيادة، أسلف من له الدينَ خمسين ليأخذ من الغريم إذا حل الأجل مائة. وإن كان الأجل قد حصل (¬1)، فصالح عن دنانير طيّبة بدنانير أَدْنَى منها، فإن ذلك جائز إن كان صالح عن الغريم، وذلك للعلم بأنّ العادة جرت بأن الغريم متى قدر أن يدفع أقلّ مما عليه فلا يدفع أكثر منه، فيصير الكفيل إذا صالح عن دنانير طيبة يدنانير ونهى (¬2) يعلم من مقتضى العادة أن الغريم لا يدفع إليه إلَّا دنانير دنية مثل ما دفع هو لمن له الدين. ولأن دفع الحميل دنانير طيبة عن دنانير دنيئة في ذمة الغريم فذلك منه مكارمة لمن له الدين وهو يعلم أن الغريم لا يلزمه أن يتطوع بأجود مما عليه، فإنما يدفع إليه الدنانير التي عليه فلا يكون في هذا وقوع في ربا ولا في غرر، فلهذا جاز ذلك. لكنه لم يطرد الأصل في المدونة في هذا الذي قلناه في الكفيل بطعام جيّد حلّ أجله، وهو من سلم، فإنه منع الكفيلَ أن يصالح من له الدين إذا حلّ الأجل بطعام أجود مما تحمل به، أو طعام أدنى منه، وإن فعل ذلك قضى (¬3) عن الغريم لا يشتريه لنفسه. وعلل ذلك بأن ذلك بيع للطعام قبل قبضه، لأجل ما يكون لمن عليه الدين من الخيار في أن يدفع مثل ما دفعه الكفيل لمن له الدين، أو يدفع خلاف ذلك، وهو الدين الذي عليه، فيصير من له الدين كبائع الطعام قبل قبضه. ولو كان تغيير هذه الصفة في الطعام المسلم فيه مِمّن عليه الدين، لجاز ذلك, لأنه مبادلة طعام جيد بدنيء أو دنيء بجيد، بخلاف الكفيل. وهذا التعليل يقدح في الأصل الذي قلناه, لأنه يجري في دفع الحميل عن سكة طيبة سكةً دنيئة وعن سكة دنيئة سكةً طيبة، فيكون ذلك أيضًا بيعَ ذهب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حل. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَدْنَى. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قضاءً.

بأدْنى منه أو أجود منه، ليس يدًا بيد، فيجب أن يمنع. وأمّا ما أشار إليه من التفرقة بين الطعام والدنانير، من كون ذلك في الطعام بيعًا له (¬1) قبضه فإنه لا يتضح هذا الفرق, لأن بيع الطعام قبل قبضه إنما يكون إذا باعه بغير جنسه من عوض (¬2) أو طعام، وأما بيعه بجنسه فإنه لا يكون بيعًا قبل قبضه، بدليل أنه أجاز ذلك فيمن عليه هذا الطعام، وهذا الذي أسلم فيه ورآه مبادلة، لا بيع الطعام قبل قبضه. لكن قد يفرق بين من عليه السلم إذا قضى أجود أو أدنى برىء هو وبرىء الحميل، ولم يكن فيما دفع خيار لأحد، والكفيل إذا دفع ذلك على غير الصفة التي تحمّل بها ثبت التخيير لمن عليه الدين، هل يقضي للحميل مثل ما قضى عنه أَوْ لاَ يقضيه إلا ما كان عليه؟ لكن هذه التفرقة وإن صحت من هذه الجهة فإن مقتضاها منع الصلح بسكة طيبة عن دنيئة أو دنيئة عن طيبة، لأجل ما يدخل في ذلك من التخيير للغريم، فيصير ذلك كالمبايعة ذهب بذهب أدنى منه أو أعلى، ليس يدًا بيد. ولو اتفق أن يكون صلح الكفيل في الطعام بما يخالف صفته ما تختلف الأغراض فيه، كمن صالح عن محمولة بمحمولة أدنى منها، والدنانير لا يتصور اختلاف الأغراض فيها على حال، لأمكن أن يكون هذا فرقًا بين صلح الكفيل عن طعام بأجود منه أو أدنى، أو عن دنانير ودراهم بأجود منها أو أدنى. ولو كان الصلح عن دنانير مؤجلة بدراهم معجلة لمنع ذلك من الغريم والحميل, لأنه صرف مستأخر، عخل دراهم عن دنانير إنما تستحق إلى أجل، سوأء كان ذلك الصلح من الغريم أو من الحميل. ولكن قد قيل، في قول شاذّ عندنا: إن لمن عليه دنانيرُ مؤجلةٌ أن يدفع عنها دراهبم معجلة، إذا رضي بذلك من له الدين. وبعدما (¬3) تأجل ها هنا كالخالّ، فيجوز ذلك، على هذا القول، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [قبْل] قبضه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عرض. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُعَدُّ.

من الغريم، أو من الحميل إذا صالح بذلك عن إذن الغريم ورضاه، فيصير كالوكيل على هذه المصارفة. وأمّا إذا حلّ فأراد الكفيل أن يصالح من له الدين عن الدنانير تكفل (¬1) بدراهم لدفعها إليه، فإن فعل ذلك صلحًا عَمن له الدين فقد اختلف قول مالك في جواز ذلك، فقال مرة بالمنع من ذلك لما يتصور فيه من وجهين محرمين، وهو أنه دفع دراهم يكون الغريم عليه فيها بالخيار، إن شاء دفع له مثل ما دفع ويكون كأنه أسلفه دراهم أبرأ بها ذمة نفسه وذمة الغريم، (فلا يتصور ها هنا الوقوع) (¬2)، أو يدفع إليه الدنانير التي عليه ولا يجيز ما عقد إليه (¬3) من مصارفة، فيكون الحميل قد دفع دراهم معجلة لمن له الدين ويأخذ عوضها دنانير ممن عليه الدين ليست يدًا بيد، وذلك ممنوع، وتجويز الوقوع كتحقق الوقوع فيه، كما بيناه في كتاب الصرف، ويتصور فيه أيضًا معاوضة فيها غرر, لأنه دفع دراهم لا يدري هل يرجع إليه مثلها فيكون ذلك سلفًا أو ترجع إليه الدنانير التي هي على الغريم فيكون ذلك بيعًا، وذلك غرر، ودفع ما يكون تارة بيعًا وتارة سلفًا. وأجاز ذلك مرة أخرى، كما قدمناه في كتاب البيوع من أن المقصود متحيل (¬4) أحكام العقود، (والقصد ها هنا من الحميل بما دفع عنه التخفيف عنه من الطلب، ومكارمة أن يجيز فعله فيكون سلفًا، أو يجيز فعله فيكون أخذ منه عما دفعه لمن له الدين لم يقصد به المبالغة وإنما قصد به التخفيف عنه فجاز ذلك) (¬5). واعلم أن نكتة هذا الخلاف أن الحميل إذا دفع دراهم لمن له الدين عن دنانير، فإنه قد أبرأ نفسه بما دفع مما (¬6) عليه من المتحمَّل بالدنانير، وأبرأ بهذا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: [التي] تكفل [بها]. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عليه .. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يحيل. (¬5) ما بين القوسيْن هكذا في النسختين. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما.

الدفع الغريم أيضًا، وقد حصلت المناجزة بينه وبين من له الدين فلا يتصور في ذلك صرف مستأخر، بل صرف منه ما في الذمة بدراهم دفعها إليه في الحال، وذلك غيرِ ممنوع. لكن مقتضى هذه المصارفة إثبات خيار لمن عليه الدين فيما يدفع للحميل عن هذه المصارفة. وقد صورنا في هذا التخيير الوقوع في الصرف المستأخر، فهو صرف ناجز فيه أوَّلًا، وتضمنت هذه المناجزة تأخيرًا من جهة أخرى، فهل يقضى في هذا الحكم المناجزة (¬1)، وهو السابق لثبوت التخيير، أو يلتفت في هذا إلى ما تصور بعدها مما يوقع في تأخير المصارفة وكأن ما يلزم عن الأول يقدّر في الأول ويتصور فيه. بالتحميل (¬2) تصور فيها بين الحميل ومن له الدين , والتحريم يتصور فيها بين الحميل والغريم كما بينا. وقد قال ابن المواز في حميل جُبِر على قضاء الدين لعُدْم الغريم، فدفع عن دنانير دراهم، فإن ذلك جائز، ولكن تؤخذ الدنانير من الغريم فتصرف بدراهم، وتدفع الدراهم إلى الحميل قضاءً عما دفع الحميل وأسلف. فإن تقايلا بذلك (¬3). وإن قصرت الدراهم التي صرفت عما دفع الحميل لم يطلب من عليه الدين بنقصها، وكان مُصيبة ذلك من الحميل الذي دفع خلاف ما تحمل به. وإن كان فيه فضل رُدَّ إلى الغريم، لكون ذلك فضل بعد أن قضى الحميل جميع ما دفع. قال ابن المواز: وقد رجع ابن القاسم عن هذا، وقال: هذا حرام بين الغريم والحميل. فأنت ترى كيف أشار إلى ما قلناه من أن التحريم إنما ينشأ في المسألة فيما بين الغريم والحميل. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالمناجزة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فالتحليل. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: فذاك.

واعلم أن هذا الذي قال ابن المواز لا ينبغي أن يختلف في جوازه, لأنه لا يتصور فيه وجه من التحريم، لكون من عليه الدين لم يُلزَم بأكثر من دفْع ما عليه، والحميل أخرج دراهم سلفًا، وعاد إليه مثل سلفه. فما صورناه من وقوع في الربا، أو غرر في المعاوضة، يرتفع في هذه المسألة. وإنما يتصور فيها الخلاف إذا لم يُجْبَر على القضاء، وأثبتنا التخيير للغريم، وأن يدفع ما عليه، أو يدفع إلى الحميل ما دفعه عنه. فإذا تقرر حكم صلح الكفيل عن دنانير تحمل بها بدراهم يدفعها لمن له الدين، فلو كان هذا الصلح عن هذه الدنانير بمكيل أو موزون مما يقضى بمثله، وصالح بذلك بشَرْيٍ منه للدين الذي تحمل به، فإن هذا يعتبر فيه ما يعتبر في شراء الديون التي في الذمم، من النظر فيما يشترى به الدين، هل يجوز أن يكون ثمنًا للدين أم لا, وهذا يعرف حكمه مما قدمناه في كتاب البيوع وبيناه، مما يجوز أن يكون رأس م الذي السلم، وعوضًا عما أسلم فيه، من اعتبار اختلاف الأغراض إلى غير ذلك مما بيناه. ومن شرطه أيضًا أن يكون الغريم الذي بيع الدين عليه حاضرًا مقرًّا بالدين الذي عليه، لئلا يقع الغرر والتخاطر في العقد بالجهل بما يجري على الغريم في ذمته، وجواز جحوده لما عليه .. لكن وإن كان شرط في المدونة مثل ذلك في شراء الحميل الدين الذي تحمل به، فإن الرواية في المدونة اختلفت في إثبات كونه مقرًّا، ففي بعضها إسقاط اشتراط كونه مقرًا، وفي بعضها إثبات ذلك، كالأجنبي إذا اشترى دينًا لم يتحمل به. ووجه إسقاطها أن الحميل مطلوب بغرامة الدين الذي اشتراه، فكأنه اشترى الدين الذي عليه واشترى ما لا يخشى سقوطه بخلاف الأجنبي الذي اشترى دينًا لم يتحمل به، وقد أنزل الحميل منزلة الغريم حتى كأنه هو. وبهذا منعوا أن يشتري الحميل الدين المسلم فيه بدنانير هي أكثر من رأس مال المسلم، كما يمنع من ذلك الغريم الذي عليه السلم, لأن الغريم إذا أسلم إليه مائة دينار، وأقاله من له السَّلَم على مائة دينار وخمسين، فإن ذلك لا يجوز،

لأنهما يتهمان على أن المائة الأُولى أخذها سلفًا، وأظهرا أن يزيدا أكثر من السلف، وذلك حرام إذا كان بشرط، وقد حصل أمرهما في هذه الإقالة على أن المسلِم أخرج مائة دينار فرجع إليه أكثر منها، فيتهمان أن يكونا جعلا تسمية ما وقع السلمُ فيه زورأ ومحلِّلًا لسلف جرّ منفعة. وهذه العلة مفقودة في الحميل إذا اشترى المسلم فيه بأكثر من رأس المال, لأنه لم يقبض شيئًا فرد أكثر منه فهو في هذا كالأجنبى تولى سلمًا في عروض بأكثر من رأس مالها, لكنهم منعوا ذلك في الحميل، وإن فقدت فيه هذه العلة، لكونه أحل نفسه محلّ الغريم، فكما منع ذلك في الغريم منع فيمن حل محله وهو الحميل، لا سيما إذا قلنا بإحدى الطريقتين: إن حماية الذرائع قد يتصور أن يكون للحماية حماية. هذا إذا اشترى الحميل هذه الدنانير يمكيل أو موزون لنفسه. وأمّا إن اشتراها للغريم حتى يكون الغريم بالخيار إن شاء أمضى على نفسه ما فعله الحميل من المعاوضة على الدنانير التي عليه بمكيل أو موزون، فيَغرم للحميل مثل ما دفع عنه، وإن شاء لم يُجِز فعلَه، ولم يغرم سوى الدنانير التي عليه، فإن هذا اختلف فيه القول في المدونة: ففي كتاب الحمالة جواز ذلك، وفي كتاب السلم منعه. وسبب الخلاف فيه ما تقدمت الإشارة إليه من كون هذه معاوضة فيها غرر، لأجل أن الحميل أخرج مكيلة من الطعام، ولا يدري هل يرجع إليه مثلها، فيكون ذلك سلفًا أسلفه الغريم، والسلف جائز، و (¬1) يكون ذلك بيعًا، باع طعامًا بالدين الذي على الغريم، وما يكون تارة بيعًا وتارة سلفًا يمنع منه، ولكن المعاملة بين الحميل ومن له الدين لا غرر فيها, لأن من له الدين أبرأ ذمة الغريم وذمة الحميل بهذا الطعام الذي وصل إليه، لكن ذلك يتضمن تخيير الغريم، وتغييره (¬2) يصور فيه الغرر الذي قلناه. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تخييره ..

والعقد إذا تضمن شيئًا ولزم عنه، فهل يكون ذلك كالمعقود عليه المقصود بالعقد أم لا؟ هذا سبب الإشكال الذي اقتضى الاختلاف. وأما لو كان الصلح عن الغريم بعوض (¬1) إنما يلزم الغريم، إذا أمضى هذا الصلح عنه، قيمةُ العوض (1) الذي دفعه الحميل وهي دنانير من جنس ما عليه. فإذا كانت قيمته مائة دينار مثل المائة التي عليه، يمكن في هذا غرر, لأنه إنما يغرم مائة دينار سواء أجاز الصلح ورده (¬2). وإن كانت قيمة العرض أكثر من المائة دينار أو أقل منه، فمعلوم من جهة العادة أنه لا يختار أن يدفع إلا الأقل من الأمرين: إما المائة دينار أو قيمة العرض. وهذا يرتفع معه ما صورناه من الغرر. وعندي أن هذا الذي أطلقه أهل المذهب من الجواز للصلح على الدنانير التي على الغريم بعوض (2) إن كان ذلك يقوم بالدنانير. وأما إن قوِّم بالدراهم ودفع الحميل العرض على أنه لا يدري ما. يرجع إليه، إما دنانير وهي التي على الغريم، وإما دراهم، فإن المسألة قد ترجع إلى المسألة الأولى في دفع دراهم عن دنانير. وقد حاول الشيخ أبو إسحاق تخريج خلاف في هذا فقال: قد منع في الموازية، في هبة الثواب، أن يخرج رجل عن الموهوب له عرضًا، يكافىء به عن الهبة قضاء عن الموهوب له، مع كونه إنما يقضي له بقيمة أقلِّ العرضين: إما العرض الذي هو هبة، وإما العرض الذي دفعه أيضًا عن الموهوب له، وهو يعلم أيضًا أن الموهوب له لا يختار إلا الأقلّ من القيمتين. فكان الواجب له، على مقتضى التعليل الذي ذكرناه في صلح الكفيل، أن يجوز هذا أيضًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العَرْض. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أو.

وهذا الذي قاله من التخريج فيه نظر، وذلك أن الهبة للثواب، الأصل منعها, لأنها معاوضة فيها غرر، إذ لا يدري الواهب ما يعوض عنها. لكن إنما جازت قياسًا على نكاح التفويض كما نصّ عليه أئمة المذهب فصارت كالرخصة، والرخصة فيها اختلاف: هل يقاس عليها أم لا؟ فلا يقاس هذا الرجل الثاني، المتبرع بالمكافأة عن غيره، بالموهوب له السابق، مع كون الغرر في هذا أوضح, لأن الموهوب له الغالبُ أنه لا يكافىء بأقل من قيمة الهبة، بل الغالب أن يكافىء بأكثر منها بما لا يدرى حقيقة مبلغه. فكأن العلة ها هنا بالعكس من علة الحميل، مع كون هذا الثاني إنما هو كمشترٍ حقًا على غيره لا يعرف مبلغه ولا جنسه، فهو بخلاف الموهوب له الذي يقبل الهبة على أمر يضمر أنه به يكافىء. وإذا أخذ الكفيل من الغريم سلعة على أن يؤدي عنه ما تحمل به عنه من دنانير أو دراهم فأتى من له الدين فألزم الغريم أن يعطيه دينه، فأعطاه دينه، (في أن) (¬1) البيع في هذه السلعة لا ينفسخ, لأن من اشترى سلعة بدنانير أو دراهم فاستُحقت الدنانير أو الدراهم من يد البائغ، فإنه يرجع بمثلها على المشتري، ولا ينفسخ البيع. فكذلك ها هنا يرجع الغريم على الحميل بالدنانير التي قضاها عنه. وإذا صالح من له الدين الكفيل على الخمسين دينارًا، وقد تحمل له بمائة، وقد حل الأجل، جاز ذلك وسقطت المطالبة عن الحميل بالخمسين دينارًا، وبقيت المطالبة بها على الغريم. وإذا تحمل رجلان لرجل بألف درهم فأخذ أحدهما من صاحبه مائة درهم، على أن يؤدي عنه ما توجه عليه بالحمالة، فإن ذلك لا يجوز إذا كان ذلك قبل حلول الأجل، أو كان ذلك بعد حلوله، والذي له الدين غائب, لأن قابض المائة استعجلها قبل حلول أجلها، أو بعد حلوله، والذي يستحق قبضها منه غائب، فتبقى في يديه ينتفع بها، حتى إذا حل الأجل وقدم الغائب، قام له ¬

_ (¬1) هذا ساقط من (مد)، ولعل الصواب: فإنّ.

بدينه ما يختص بحمالة صاحبه الدافع إليه المائة درهم، فصار دافع المائة إليه كالمسلف لها، قد ينتفع مدة ثم يؤدي عنه ما وجب عليه بالحمالة، ويرجع هو به على الغريم، وذلك سلف جر منفعة، فيحرم. فإن كان الأجل قد حل ومستحق قبض الدين حاضر، ولم يقصد قابضُ المائة منفعةَ نفسه، بل التخفيف عن صاحبه أو مكارمة من له الدين لم يحرم ذلك لأنه لا يتصور فيه سلف جر منفعة. ولو أن من له الدين صالح عن الألف (¬1) درهم بخمسين درهمًا، فإن دافع المائة درهم يرجع على صاحبه الذي قبضها منه بخمسة وسبعين درهمًا, لأن هذه الخمسين كأنها هي أصل الدين، لا يستحق من له الدين أكثر منها، وبها وقعت الحمالة، فعلى كل واحد من الخمسين منها خمسة وعشرون درهماً، فيبقى في يد قابض المائة درهم خمسة وعشرون يؤديها عن صاحبه ويدفع هو عن نفسه خمسة وعشرين فالفاضل من المائة لدافعها خمسة وسبعون لمّا ظهر أنه لا يستحق عليه إلا الحمالة بخمسة وعشرين. ولو كان الصلح عن هذه الألف بمائة وخمسين درهمًا لرجع دافع المائة على قابضها بخمسة وعشرين درهمًا, لأن الصلح لما وقع بمائة وخمسين درهمًا ظهر أن الحمالة إنما توجهت بمائة وخمسين درهمًا بين الحميلين نصفين، فعلى دافع المائة خمسة وسبعون درهمًا فيعسها (¬2) قابض المائة منه ويفضل له من المائة خمسة وعشرون يزيدها قابض المائة إلى دافع المائة. ولو كان الصلح بمائتين لم يسترجع دافع المائة من قابضها شيئًا، لكونها مقدار ما يظهر أنه توجه عليه بالحمالة. فلو كان الصلح بخمسمائة لم يسترد أيضًا دافع المائة شيئًا، يؤدي قابض ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المائة. (¬2) هكذا في النسختين.

المائة جميع الخمسمائة التي وقع الصلح عليها، مائة منها هي التي دفع إليه صاحيه وأربعمائة منها عن نفسه، وثلاث مائة عما التزم اداؤه عن صاحبه الذي تحمك معه، ويرجج الحميلان كل واحد بما أدى لمن له الدين، وإذا كانت الحمالة بثمن طعام فلما حلّ أجل الثمن طُلب الحميل به، فأداه، ثم أراد أن يأخذ من الغريم الذي أداه عنه طعامًا من صنف المبيع، أو من غير صنفه، أقلَّ من كيله أو أكثر، فذلك جائز، ولا يحل الكفيل ها هنا محل من تكفل عنه بثمن الطعام المبيع, لأن مشتري قمحٍ بمائة دينار إلى أجل، إذا حل فأراد أن يمّضى عن المائة دينار فولًا أو طعامًا غيره، لم يجز ذلك، على ما قدمناه في كتاب البيوع, لأنهما لتهمان على أن أظهرا بيع قمح بدنانير، وأبْطنا بجع قمح بفول إلى أجل وبحع الطعام يالطعام إلى أجل لا يجوز. ولا يتصور هذا في الحميل بدنانير إذا أراد أن يأخذ من الغريم، عنها طعامًا, لأنه لم يخرج من يده إلا دنانير وهي التي أداها بالحمالة، ورجج إلى يده عوضًا عنها طعامٌ، وبيع دنانير (وطعام) (¬1) بطعام إلى أجل جائز. وإذا كان بائع القمح هو الذي أخذ عن ثمنه فولًا، خرج من يده قمحٌ ورجع إليه بعد مدة فولًا، وذلك لا يجوز. وكأن ظاهر هذه العلة تقتضي أن بائع القمح لو كان قد تسلف دنانير مثل ثمن القمح من رجل، وأحال بها على الرجل الذي باع منه القمح ألاَّ يمنع هذا المحال، أن يأخذ طعامًا ممن أحيل, لأنه لم يخرج من يده طعام ثم رجج إليه طعام عوضه، لكن يمنع من ذلك ها هنا لأن هذا المحالَ يَدُه كيد المحيل له، وكأنه عنه يقبض، ألا ترى أن المحيل لو غرّه بفلَس المحال عليه لكان له الرجوع على من أحاله، فلما كانت يد المحال كيد المحيل له، وهو بائع القمح، وبائع القمح لا يجوز له أن يأخذ من ثمن طعامه طعامًا، فكذلك من حل محله، وكانت يده كيده. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف (وطعام).

وإذا تحمل من طعام من سَلَم فدفع إلى الحميل الذي تحمل عنه بالطعام دنانير لشتري بها طعامًا، ويقضيه عنه، فدفع الحميل ذلك الطعام من عند نفسه، فاتصل ذلك بالذي عليه السلَم فأجاز فعله، لم يمنع من ذلك. ولو كان أعطاه الدنانير ليدفع عنه بها طعامًا من عند نفسه لم يجز ذلك إلا أن يكون قبضه منه أو وكّل من يقبض ذلك منه، ثم يقضيه عنه لمن له السلم. ولو وكل الحميلَ بدفع ذلك عنه، فإنه تردد القول فيه عندنا: فقيل: يجوز. أو لا يجوز (وها الآن بما) (¬1) وأشاروا إلى ضعف الجواز وارتفاع المنع. وإذا تكفل الكفيل بطعام في الذمة، فتطوع لمن تحمل له بأن يعجله قبل الأجل على صفهّ ما هو عليه، لم يمنع من ذلك، كما قدمناه. ولو أن أجنبيًا لم يتحمل، تطوع بدفع هذا الطعام إلى من استحقه على أن يحيله على غريمه يقضيه منه عند أجله، لم يجز ذلك, لأن الحوالة كالبيع، فيصير ها هنا من له الطعام كبائع له قبل قبضه من الذي أخذ منه الطعام وأحاله به على غريمه. وقد تعقب بعض الأشياخ هذا، وأشار إلى أن الحميل قبل الأجل لم تتوجه عليه مطالبة، فإذا دفع قبل أن يتوجه عليه، صار كالأجنبي التي (¬2) لم تتحمل. لكنهم لما رأوا أن الحميل تتوجه عليه المطالبة إذا حل الأجل، كما تتوجه على الغريم المتحمل عنه إذا حل الأجل، فارق ذلك حكم الأجنبي الذي لم يتحمل ولم تجب عليه مطالبة لا في الحال ولا في المآل .. وإذا تقرر حكم الحميل وأداء الدين الذي تحمل به، فلا يخلو: إما أن يؤديه من عند نفسه من شيء ملكه قبل المطالبة بالحمالة، أو يشتريه بثمن ثم لا يخلو ذلك أيضًا، في الوجهين جميعًا، من أن يكون ما أدّى مكيلًا أو موزونًا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الذي.

أو عرْضًا مما يقضى فيه، في الاستهلاك، بالقيمة. فأمّا إذا أدى من شيء قد تقرر مِلكه عليه، وكان مما يكال أو يوزن رجع بمثله على من أداه عنه، من غير خلاف, لأنه كالمسلف لمن أداه عنه، ومن أمملف مكيلًا أو موزونًا فإنما يرجع بمثله. وإن كان الذي أداه من ملك نفسه حيوانًا أو عروضًا فمذهب أشهب وغيره من أصحاب مالك أنه يرجع أيضًا بمثله كما يرجع أيضًا بذلك في سلف العروض. واختلف قول ابن القاسم فيه: ففي الموازية عنه: أنه يرجع بمثله كما قالت الجماعة. وفي الواضحة أنه يرجع بقيمته كما يرجع بالقيمة في العروض في البياعات الفاسدة والاستحقاقات والاستهلاكات. وأمّا إن كان كُلِّف القضاءَ فاشترى ما يقضيه بثمن، فإنه يرجع بمثل الثمن الذي اشترى به، سواء كان ما اشتراه وقضاه مكيلًا أو موزونًا أو عروضًا، ولا يعتبر في ذلك قيمة العروض لأنه لما كلف شراءه، صار ذلك كأنه وقع بإذن الغريم الذي تحمل عنه، فكأنه أسلفه الثمن فلا يرجع عليه إلا به. ولهذا التعليل اختار بعض المتأخرين التفرقة بين أن يكون تحملا عنه بإذنه أو بغير إذنه: فإن تحمل عنه بإذنه صار كالإذن له في السلف. وإن تحمل عنه بغير إذنه لم يكن له رجوع إلا بالأقلّ مما اشترى، أو قيمة ما أدى عنه لأن الغريم يقول: من حقي إذا كنت معسرًا التأخيرُ، فأنت أضررت بي في تعجيل ما يجب تأخيره، فإذا كانت القيمة الآن الأقل فلا أعطيه أكثر منها. تم كتاب الحمالة والحمد لله.

كتاب الاستحقاق

كتاب الاستحقاق

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وصلِّ الله على سيدنا محمَّد وسلم كتاب الاستحقاق قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب، رحمه الله تعالى ورضي عنه، في فصل تضمن أحكام الاستح قال: ومن بني أرضا أو غرسها، ثم جاء مستحقها، فلا يخلو الباني أو الغارس أن يكون غاصبا، أو مبتاعا - من غاصب، أو محيا مواتا. فأما الغاصب فللمالك أخذه (بقلع أو بغرس) (¬1) أو دفع قيمته (¬2) إليه مقلوعا بعد حط أجرة القلع. وأما المبتاع من غاصب فلا يخلو أن يكون عالمًا بأن البائع غاصب أو غير عالم: فإن كان عالمًا فحكمه حكم الغاصب. وإن كان غير عالم فالملك لمالكه، ويدفع إلى الباني أو (¬3) الغارس قيمة العمارة قائمة. فإن أبي دفع الآخر إليه قحمة أرضه براحًا. فإن أبى كانا شريكين بقدر قيمة اليراح براحًا وقيمة العمارة قائمة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. وفي المغربية: يقلع بنائه وغرسه. وفي الغاني: بُنيانه. (¬2) في الغاني: قيمة (¬3) في المغربية: والغارس.

وحكم المحيي مثل ذلك. قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة عشر سؤالا، منها أن يقال: 1) ما الدليل على أن مستحق الأرض يستردها ممن هي في يديه؟ 2) وما الحكم فيه إذا استردها؟ هل تسترد بثمن أم لا؟ 3) لو وَجد من هي في يديه قد أحدث فيها حدثا، هل يمنعه ذلك من أخذ المستَحَق أم لا؟ 4) وهل إذا مُكِّن من أخذها يعطي البانيَ والغارسَ قيمة ما بني وغرس، قائما أو منقوضا؟ 5) وما الحكم في مشتري منافع الأرض دون رقبتها إذا بني أو غرس؟ 6) وما الحكم في زارع الأرض بوجه شبهة أو تعّديا منه؟ 7) وما الحكم فيمن بني بناء يُحزم (¬1) في أرض لا تحزم (1)؟ أو بني ما لا حرمة له في ارض محترمة؟ 8) وما الحكم فيمن كانت في يده رِباع بوجه شبهة فأكراها، وحابط (¬2) في كرائها؟ 11) (¬3) وما الحكم في المستحِق إذا أجاز الكراء، هل للمكتري في ذلك مقال؟ 12) وما الحكم في دعوى المشتري ضياع ما استُحِق من يديه؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يحترَم. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حَابَى. (¬3) سقط السؤال العاشر من تعداد الأسئلة.

12) وما الحكم في استحقاق المعاوضة عن الدعاوي؟ 13) وما الحكم في الاستحقاق إذا وقعت المعاوضة؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: ما (¬1) الدليل على تمكين المستحق للشيء إذا لم يكن أزال ملكه عنه، بأنه يعلم ذلك من قواعد الشرع ضرورةً، كما يعلم تحريم الزنى ضرورة، من غير حاجة إلى إسناد ذلك إلى حديث يُروى. ثم لو سلكنا إثبات هذا بالاحاديث لكانت كثيرة، كقوله عليه السلام في خطبة الوداع، "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم" هذا الحديث المشهور، وقد أضيف ذلك إلى النبي عيه السلام، وذكر أنه قاله في مجمع عظيم، وهي الحَجة التي (¬2) عَقِبها وحج المسلمون فيها، فلو كان الراوي لهذا كاذبا لكذّبه كلّ من حضر. وكقوله "على اليد أن ترد ما أخذت حتى تؤديه" (¬3) وكقوله "كل ذي مال أحق بماله" (¬4) وقوله "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬5) وكقوله عليه السلام "من أحْيي أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق" (¬6). وخرج أبو داود عن عروة: "أن رجلين اختصما إلى النبي عليه السلام: غرس أحدهما نخلا في أرض آخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (ما). (¬2) هكذا في النسختين، ولعل هنادَ سقطاهو: تُوُفى. (¬3) فتح الباري: 4: 322، 323 كتاب بالحج: باب الخطبة أيام مني [هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهي الحجة التي مات عقيبها]. (¬4) تقدم تخريجه (¬5) فيض القدير: 5: 20 جد. 6305 .. (¬6) سبق تخريجه.

صاحب النخل أن يخرج نخله" (¬1) فاقتضى مجموع هذه الأحاديث تمكينَ الإنسان من ماله الذي أُخذ منه بغير حق مع قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (¬2). والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلفت الأحاديث في مستحق ماله الذي لم يسقط ملكه عنه وهو في يد مشتريه هل يأخذه بثمن أو بغير ثمن؟ فخرج النسائي وأبو داود عن سَمُرة بن جُندُب قال عليه السلام "من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق ويتبع البائع من باعه " (¬3). وخرج الترمذي إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (قضى أنه إذا وجدها في يد رجل غيرِ متَّهمٍ، فإن شاء أخذها بما اشتراها، وإن شاء اتبع سارقه"، قال الترمذي: وقضى بذلك أبو بكر وعمر (¬4) وخرج النسائي أيضًا "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بأنه إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متَّهم يخيّر سيدُها: فإن شاء أخذ الذي سرُق منه بثمنه وإن شاء أَتبع سارقه" قال: وقضى بذلك أبو بكر وعمر (¬5). فأنت ترى اختلاف ظواهر هذه الأحاديث. ففي كتاب أبي داود ما ظاهره أن المستحق يأخذها بخير ثمن، وإنما يطلب مشتريَها بثمن الذي دفعه لمن باع منه البائع الذي قبض الثمن منه. في كتاب الترمذي أن المستحق لا يأخذها إلا بعد أن يدفع الثمن إلى مشتريها، وأَضاف هذا المذهب إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وأما النسائي فروى الحديثين أحدهما مثل ما رواه أبو داود. والثاني مثل ما رواه الترمذي وكأن ما رواه الترمذي وأضافه إلى أبي بكر وعمر رضي الله ¬

_ (¬1) المندري: مختصر أبي داود: 266. حد: 2950. (¬2) البقرة: 188. (¬3) النسائي شرح السيوطي: 7: 314. أبو داود: البيوع: حد. 3531. (¬4) أخرجه النسائي بهذا اللقظ. 7: 313. (¬5) أخرجه النسائي بهذا اللفظ: 7: 313.

عنهما وجْهُه توخّي العدل بين الرجلين, فقد قال عليه السلام: "كل ذي مال أحق بماله" (¬1). وهذا يقتضي كون المستحق لا يمنع من أخذ عين ماله، والمشتري له حق أيضًا في الثمن الذي دفع، ولولا دفعه ما صارت السلعة إليه من يد السارق الذي باعها منه، فكأن مستحقها لم يمكْن أخذهُ إلا بعد ما (¬2) دفعه مشتريها فصار ذلك كمن فَدَى من يد اللصوص شيئًا بمال دفعه إليهم، فإن في أحد القولين، أن صاحبه لا يمكّن من أخذه من يد فَادِيه إلا بوَزْن ما دفع فاديه فيه. ولم يُذكر هذا تخريجا للخلاف عندنا في هذه المسألة من الخلاف المذكور عندنا فمن (¬3) فدى من يد اللصوص شيئًا هل يمنع مالكه من أخذه إلا بعد أن يدفع الفداء, لأن الفادىِ من أيدي اللصوص (يدُل فيه مال يدُلّ) (¬4) لمنفعة غيره على أنه يتملكه، فكأنه جرى مجرى من وإن على المسلم ماله لئلا يتلف عليه، والمشتري من السارقال في يظنه هو المالك (¬5) ولى يقصد بما دفع من الثمن صيانةً على ربه, لأنه لم يعلم به، وإنما قصد بذلك تملك السلعة التي باعها منه، فصار كمن غلط على مال نفسه، فدفعه لغير مستحقه. والفادي لم يأخذ مال نفسه، غلطا منه، لتحصيل منفعه نفسه. وإنما ذكرنا هذا لما بين المسألتين من الملاحظة على الجملة، ألا ترى أن القاضي إذا شهد عنده عدلان بأن رجلًا مات، فباع تركته، ثم أتى حيّا أنه لا يمكن من أخذ السلع، التي اشترى مشتريها، إلا بعد أن يدفع ثمنها لمن بيعت منه, لأن المشترى لهذه السلع إنما يذل فيها الثمن لمنفعه نفسه، وليملكها على التأبيد، لكن ها هنا أيضًا يحكم القاضي بصحة تمليك المشتري لها عوضا مما دفع من الثمن، وهو حكم صحيح في الظاهر، وإن كان باطلا في الباطن. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِمَا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيِ مَنْ. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بذل فمِه ما بذل. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (و).

(والاحكام تؤخذ على الملك عنه إلى المشتري) (¬1) بخلاف من اشترى من السارق طوعا منه، (وقد يتعامى عن كون. ما بيع منه مستوفى) (¬2) ويترك البحث عنه فصار كمشارك للسارق في سرقته. ألا ترى فيَ الحديث الذي ذكرناه قال: "فوجدها في يد رجل غير متهم" وهذا كالإشارة على ما قلناه. على أنّا سنتكلم بعد هذا على تفرقته في المدونة بين كون الشهود تعمدوا شهادة الزور بموت هذا الرجلِ، أو شُبِّه عليهم. وفي كلامنا على ذلك ما يوضح ما ذكرناه ها هنا على الجملة، ان شاء الله تعالى. وهو الذي ذكرناه دليلًا على صحة ما ذهبنا إليه نحن وغيْرنا من كون المستحق يأخذ سلعته من يد مشتريها بغير ثمن يغرمه له، لقوله عليه السلام "كل ذي مال أحق بعين ماله" ولم يذكر وجوب غرامة عليه، بعمومه (¬3) يقتضي أنه أحق بعين ماله على كل حال، مع كون غلط المشتري لا يؤاخذ به المالك المستحق, لأن غلطه جناية عن نفسه بأن دفع الثمن لغير مستحقه، فلا يُسقط ذلك حق من استحق العين التي لم تخرج عن ملكه. وقد ذكرنا ما ذكره أبو داود في (الرجلين اللذين اختصما في نخل غرسها أحدهما في أرض الآخر فأمر عليه السلام بقلع النخل ورد الأرض على صاحبها) (¬4) ولم يذكر أنه غرسها غصبًا أو بوجه شبهة وشراء. والجواب عن السؤال الثالث ان يقال: إذا تقرر أن من استحق أرضًا من يد مشتريها من غاصبها وهم (¬5) لم يعلم بالغصب، أنها ترد على مالكها ولو غرسها من هي في يديه، أو بني فيها وهو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعله مسروقًا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَعُمومُه. (¬4) سبق تخريجة (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وهو.

غاصب أو مشتريًا (¬1). خلافا لأبي حنيفة لأنه ذهب إلى أن من غصب أرضًا فبنى فيها أو غرس أن صاحب الأرض (¬2) لم يمكن منها بل الحبهم عنده أن يعطيه الغاصب الذي بني أو غرس، قيمة أرضه. إذ قيل ذلك في الغاصب فأحرى أن يقوله فيمن اشترى أرضا فبنى فيها بوجه شبهة، وكأنه قدر الأرض في حكم ما تلف عينه وانعدمت، فعلى متلفها غرامة قيمتها. ورأى مالك وأصحابه عكس ما رآه أبو حنيفة، وأن صاحب الأرض أوْلى بها، وأن حكم الغرس والبناء في التَّبَع لها، وورآها أبو حنيفة في حكم التبع للغرس والبناء، فلهذا أخرج ملكَه عن صاحبها، وأعطاه قيمتها. ولنا عليه ما ذكرناه من كتاب أبي داود من كون النبي عليه السلام أمر مَن غرس في أرض غيره بأن يقلع غرسَه، كالنص في الرد عليه. والحكم تغليب حكم الأرض علق (¬3) حكم البناء فيها والغرس. وكان شيخي أبو محمَّد عبد الحميد، رحمه الله، يبني هذه المسألة على اعتبار تغليب أحد الضررين، ويرى أن مالكا، رضي الله عنه، إنما ذهب إلى تغليب حكم الأرض لكونها أكثر ثمنا مما بُني فيها أو غرس. وما عظم كان أكثر حرمة مما قلّ ثمنه. ويشير إلى أن الأمر لو كان بالعكس وكان البناء عظيما، والأرض محتقَرة، لكان البناء هو المغَلَّبَ، ويكون للباني أو الغارس أن يعطي صاحب الأرض قيمتها. هذا على طرد هذا التعِلل، ولكنه كان يقول: ربما كانت العلة عند مالك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُشتَرٍ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على.

في تغليب حكم الأرض كون مِلكِها سبق ملكَ ما أُحْدِثَ فيها من البناء والغرس، والسبق له تأثير في الترجيح، لا سيما أنه مِلْك صحيح في الظاهر، خلاف ما أُحدث من البناء والغرس، وطرد هذا التعليل يقتضي ألا يفترق الحكم في كون الأرض قليلة الثمن أو كثيرة الثمن. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إذا غلبنا حكم صاحب الأرض، وأسقطنا حكم الباني والغارس، وأزلنا ملكه عن ذلك، فإنه: إن كان غاصبا فله نقض م ابن ي أو غرس ممن له منفعة إذا أخذه وأزاله، ولكن لصاحب الأرض المغصوبة أن يعطيه قممة بنائه وغرسه منقوضا بعد أن تُحَطَّ أجرة النقض والقلع، على ما بيناه في كتاب الغصب. وأما إن كان مشتريا, ولم يعلم بأن من باع منه غاصب، فإن رب الأرض من حقه أن يزيل مِلْك الباني والغارس عن بنائه وغرسه بالقيمة. وهل يكون التقويم لذلك على أنه منقوض، كما قلناه في الغاصب، أو على أنه قائم؟ المعروف من المذهب: يقوَّم على أنه قائم .. وذكر شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد أنه قيل، فيمن بني بوجه شبهة، أنبما يُعطَى قممة بنائه منقوضا. وأظنه إنما حكى ذلك عن شيخه أبي القاسم السيوري أنه نقله. فإن صحّ هذا، فإنه أجراه صاحب هذا المذهب مجرى الغاصب لكون غلطه على أرض غيره لا يوجب بقاء بنائها. والمعروف من المذهب خلافُ ذلك. فكأنه لما كان له شبهة فيما أحدث لم يجر مجرى الغاصب، وقد قال عليه السلام "من أحي أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق" (¬1) دليل هذا الخطاب أنه إذا لم يكن ظالما فلبنائه حرمة، وحرمته أن يكون قائما. وهذا يقتضي ما ذهب إليه الجمهور من كونه يُعطَى قيمةَ بنائه قائما. وقد روي عن مالك أيضًا: يُعطَى ما أنفق. وهذا ربما ¬

_ (¬1) سبق تخريجه.

رجع إلى القول بأنه يعطَى قيمة بنائه قائما, لأن التقويم يكون بمقدار النفقة إن لم يعئن المُنفَق. وذهب ابن سلمة إلى أنه إنما يُعطَى قيمة ما زادت قيمة بنائه وغرسه في قيمة الأرض براحا. وكأن من ذهب إلى هذا رأى ان صاحب الأرض إذا غُلِّب حكمه فمقتضى هذا لا لعطَى صاحب الأرض إلا مقدارَ ما انتفع به من فعل الباني والغارس. وأما إذا أعطاه قيمة بنائه، وإن لم يزد البناء في قيمة ارضه فكأنه لم يغلب حكمه على صاحب النساء إذا حكم عليه بخسارة مالًا ينتفع به. وبعض أشياخي يرى أن الأوْلى القضاء بأقلّ المذهبين، فإن كانت الزيادة في القيمة هي الأقل لم يكلَّف صاحب الأرض خسارةَّ، لما غلبناه من تغليب حكمه. وإن كان قيمة البناء أقلّ وقد رفع الضرر عن الباني إذا أعْطِيَ قيمة ما بني. وإذا قلنا: يعطَى قيمةَ ما بني، فهل تُعتبر قيمته يوم بناه، أو يوم المحاكمة؟ في ذلك قولان، وهما مبنيان على ما كررناه مرارًا في كتاب البيوع وغيرها: أن كل أمر مترقب حدوثه ووقوعه، وهو مسند إلى سبب تقدّم إيقاعَ الحكم به، فهل يقدَّر، إذا وقع الحكم به، كأنه لم يَزَل الحكم ثابتا فيه، فيعطَى، على هذا قيمةَ بنائه يومَ بناه، أو يقدر أنه إنما تحّمل الحكم يومَ وقوعه، ولم يُلتفت إلى تقدم السبب الذي أسند الحكم إليه، فيعطَي قيمته بنائه الآن. وقد مثلنا الفروع التي تجري على هذا الأصل بما يُصحِّحُ ما قلناه. وإذا تقرر تغليب حكم صاحب الأرض في أن له التملك بأرضه، وطرد الغارس والباني عن غرسه وينائه، لكن يعو أن يعطيه عوضا، على الخلاف في تقدير العوض، كما قدمناه، فإنه إن امتنع من ذلك، فعن مالك روايتان: أحدهما، وهي المشهورة عندنا، أن لصاحب الغرس والبناء أن يطرد المستحق أيضًا عن أرضه، كما يرى المستحقُّ في أن طرد الباني والغارس عن بنائه وغرسه، ولكن يعد أن يعطيه قيمة أرضه، فإن امتنع من ذلك الباني والغارس

أيضًا كانا شريكين: مستحقَّ الأرض يكون له منها ومن غرسها وينائها بمقدار قيمة أرضه بَراحًا، ويكون للباني والغارس من الأرض والبناء والغرس قيمته غرسه أيضًا ما بني أو غرس قائمًا على الخلاف الذي قدمناه. وروي عن مالك أيضًا نفي الشركة وأنه إذا امتنع مستحق الأرض من دفع قيمة البناء أجبرَ الباني أو الغارس على دفع قيمة الأرض. وكأن الذاهب إلى هذا رأى أن البناء والغرس فوت في حق الباني والغارس، إذا امتنع مستحق الأرض من أن يعطيه قيمة البناء والغرس، فجَبر الغارسَ والبانيَ على دفعْ قيمة ما أفاته باليناء والغرس. وكأنه في القول المشهور رأى أن ليس أحدهما أولى بأن يُقدَّر البناء فوتًا في حقه من الآخر. فإذا لم يترجح أحدهما عن الآخر كانا شريكين، فلا يجبر صاحب الأرض على دفع قيمة الأرض. ولو كان من اشترى أرضًا فبناها وغرسها، ثم أتى مستحق فلم يستحق جملتها وإنما استحق نصفها، فإن النصف المستحَق يجري فيه وفي حكم بنائه وغرسه ما قدمناه في مستحق جميع الأرض، لا فرق بينهما في هذه الأحكام كلها. لكن إنما تختص هذه المسألة بالنظر في الشفعة، فإنه إذا استحَق نصف الأرض كانت له الشفعة في النصف الباقي على ملك المشتري، إلا أن يكون المستحِق لا يتمسك بنصف الأرض الذي استحق، ولكن أغرم الباني أو الغارس قيمة ما بني وغرس في النصف الذي استحقه، فإنه لا شفعة له، على أحد القولين فيمن كان له نصيب في دار لأجله وجبت الشفعة فيما بيع منها، فباع النصيب الذي به يستشفع قبل أن يأخذ الشفعة. ولو أنه أعطى الباني أو الغارس قيمة بنائه وغرسه في جميع الأرض لمالك (¬1) جميعها النصف بالاستحقاق والنصف بالشفعة. وإذا لم يعط قيمة البناء، ولا اعطى الباني أو الغارس قيمة الأرض، وكانا شريكين، فالمذهب على قولين في كونه يستحق جميع النصف الذي اشتراه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمَلَكَ.

المشتري، أو يسقط من الشفعة بمقدار ما سقط من ملكه في النصف في المستحَقال في به وجب له الشفعة لأجل الشركة فيه. وهذا يبسط في كتاب الشفعة إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا اكترى رجل دارًا أو أرضا مدة معلومة من مشتري الأرض والدار، فأتى مستحق فاستحق الأرض أو الدار بعد أن مضى بعضُ مدة الكراء، فإن ما مضى من المدة لا سبيل إلى رده وارتجاعه، وكذلك لا سبيل للمستحق في أخذ كرائه, لأن ذلك يقضى به المشتري (¬1)، لآن الاستحقاق من يد المشتري بوجه شبهة لا توجب عليه رد الغلة إلى المستحق، كما سنبينه فيما بعد، إن شاء الله تعالى. وأمّا ما بقي من المدة فإن للمستِحق أن يجيز عقد مكتريها، وهو مشتري الأرض بالمسقى الذي وقع به العقد، ويصير كمن بيعت سلعة (¬2) بغير إذنه، فإن له أن يجيز بيعها، ويأخذ الثمن، ولكن بعد أن يعلم مقدار ما ينوب باقي المدة من الإجارة التي عقد بها البيع، لئلا يكون كمبتدى عقد كراء مدةً بثمن مجهول لا يعلم مقداره. وهذا على أحد القولين في جمع السلعتين، وفيمن اشترى عشرة ثياب فاستُحِق منها ثمانية فأراد أن يتمسك المشتري بالاثنين الباقيين منهما، فإنه يمنع من ذلك في المدونة، وأجيز في كتاب ابن حبيب. وهذا الخلاف انبنى على من ملك أن يملك هل يعد مالكًا (أو أن يقدر كالمالك) (¬3) (إلا اختار أحد الوجهين اللذين خير بينهما) (¬4). ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: للمشتري. (¬2) هكذا في النسختين. ولعك الصواب: سلعتة. (¬3) هكذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين.

وقد تقدم بسط هذا الاختلاف في كتاب البيوع، وذكر سبب الاختلاف ولو كان هذا المكتري للأرض عشر سنين, مثلًا، يبني ويغرس، ثم أتى مستحِق فاستحق الأرض، فإن ما نص (¬1) من مدة الكراء مقدارُ كرائه لمكري الأرض الذي اشتراها، وما يُستقَبل من الزمان إلى انقضاء العشر سنين الحكمُ للمستِحق، فَيُخَيَّرُ بين إجازة العقد، وردّه، ويبقى الشجر والبناء بقيمة العشر سنين، فإذا انقضت أُمر الغارس أو الباني بقلع بنائه وغرسه، أو يعطيه قيمتَه منقوضا بعد أن يحطّ من ذلك أجرة النقض. وهذا لما بيناه في كتاب الغصب. وأما إذا لم يجز الكراء، واختار فسخ ما بقي من مدة الكراء، فإنه لا يلزمه أن يُبقي الغرس والبناء يقية مدة الكراء لأنه كمن استحق سلعة بيعت بغير إذنه فله فسخ العقد فيها وردها إلى يديه. ولكن في مقابلة هذا كون المكتري الذي غرس وبنى بوجه شبهة يلحقه الضرر في إفساد ملكه، وإبطال الانتفاع به بقية المدة التي اكتراهًا، كما يلحق الياني في أرض اشرّاها الضرر في قلع بنائه وغرسه، فلهذا أعطيناه قيمة البناء والغرس قائمًا. وهكذا قال في المدونة في المكتري إذا فسخ المستِحقُّ للأرض بقية مدة الكراء، فإن يُعِطي المكتري الذي بني أو غرس قيمة بنائه أو غرسه قائمًا، ويرجع المكتري الذي بني وغرس على ما (¬2) أكرى منه بما ينوب المدة التي فسخ كراءها مستِحق الأرض، كما يرجع من اشترى سلعة فاستِحقتْ من يديه (قيمتها عن) (¬3) من باعها منه. وقد أكثر المتأخرون من الاشياخ القدح في هنا الجواب بأن قالوا: أما قوله: إن المكتري إذا فُسِخت عليه بقية كراء المدة، وأعطِي قيمةَ بنائه وغرسه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَضَى. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَن. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقيمتها على.

قائمًا، فكيف يصح رجوعه عن المكري منه بجميع ما قابل من الكراء بقيةَ هذه المدة، وهو قد أخذ بقية قيمة المدة من مستحق الأرض لمّا اعطاه قيمة بنائه وغرسه قائمًا، ومعنى كونه قائمًا أي باقيا في الأرض، فلا يصح أن يرجع بالثمن الذي أعطاه المكري، وبقيمته ذلك على مستحق الأرض، فيكون قد أخذ ثمن ما اكتراه مرتين، وهذا لا يصح. وكذلك أيضًا عارضوا قوله في المدونة: إن المستِحق يعطي للباني أو الغارس قيمة بنائه قائمًا، فيصير قد قوّم له مالًا يملكه، وهو جزء من الأرض التي بطل عقْد كرائه فيها. وقد كنا نحن قدمنا ذكر الخلاف في مستحق الأرض من يد مشتريها، وقد بني فيها أو غرس، هل يجب على المستِحق أن يعطي الباني قيمة ما زاد بناؤه وغرسه في الأرض أو لا يعتبر ما زاد، ولعطيه قيمة بنائه وغرسه قائمًا؟ فإن قلنا: إنه إنما يعطى ما زادت قيمة البناء والغرس في قيمة الأرض برأحا، فإنه يقال ها هنا: ما حكم قيمة الأرض براحا؟ فيقال: مائة دينار، ثم يمّال: كم قيمتها بهذا البناء والغرس؟ فيقال: مائة وخمسون دينارا. فنعلم أن مستحق الأرض إنما انتفع من قِبَلِ الباني أو الغارس بخمسين دينارًا، فيقضى له بها. وأما إذا قلنا: مستِحق الأرض يعطي البانَي أو الغارس، وقد اشترى الأرض وغرسها وبنى فيها، قيمة بنائه وغرسه قائما، فإن مَحْمَل قوله في المدونة، في مكترٍ غرس الأرض التي اكتراها وبنى فيها: إنه يقضَى له بقيمة بنائه وغرسه قائمًا. المراد بهذا الإطلاق: قائما في الأرض إلى انقضاء العشر سنين التي عقد الكراء عليها. ولم يرِد قائما قياما مؤبّدا, لأن المكتريَ لم يملِك التأبيد في إبقاء الغرس أو البناء على التأبيد، فكيف يقوّم له ما لم يعاوِض عنه ولا إستحقه ولا دخل في ملكه؟ وبعض المتأخرين يشير إلى إبقاء هذا اللفظ الذي في المدونة على

إطلاقه، ولكن بعد إن يصوّر التقويم على صفه (يخلى فيها) (¬1) من اعترض ما وقع في المدونة بما ذكرناه، فيقول: إنما يصح إطلاق هذا اللفظ على أن تكون صفة التقويم ان يقال: بكم يبقى هذا البناء؟ وما قيمته مبنيا؟ غيرَ ملتفتٍ في ذلك إلى هدمه بعد مدة معلومة، أو إبقائه على التأبيد, لأن من استأجر بناء يبقى له في أرضه، فإنه إنما يقع بينه وبينه المكايسة فيما يأخذ في اليناء خاصة، ولا يلتفت المكري والصانع إلى كون ما يبنى يهدم بعد سنة أو بعد عشر سنين. فإذا لم تختلف الإجارة في أمد هدمه، لم يحصل في ذلك ما اعترض به من كون الباني قد قوّم له جزء من الأرض لا يملكه. وعبر بعضهم أيضًا عن هذا المعنى، محاولًا دفع ما ذكرناه من الاعتراض يكون الباني قد قوم له جزء من الأرض، فإن صفة التقويم أن يقال: بكم يُشترى هذا البناء على أن يضعه مشتريه في البقعة التي بني فيها، إذا كان مالكَها وهي براح؟ فإذا فُعِل هذا سقط الاعتراض. أو يكون الباني أو الغارس قد قِوّم لهما جزء من الأرض. ولو امتنع المستحق من قيمة البناء والباني امتنع أيضًا من دفع قيمة الأرض كانا شريكين بقيمة البناء قائمأوقيمة الأرض براحا، لضعف الاعتراض لكون الباني والغارس قد قِوّم لهما جزء من الأرض، وهما لا يملكانه, لأنا إذا أدخلنا في التقويم للأرض براحا مغارسَ الشجر وأساسَ البناء، فلم يُظلَم صاحب الأرض. وكذلك أيضًا إذا قومنا للباني والغارس بناءه قائمًا، فيتساوى، هو ورب الأرض، في تقويم هذا الذي هو مغارس البناء, لأنّا لم نسقط حق صاحب الأرض في تقويمه إذا أراد الشركة بقيمة الأرض. وقد يقال، عندي، في دفع هذا الاعتراض الذي ذكرناه: إن مستحق الأرض لما كان قادرًا على أن يُلزم البانَي، والغارسَ قيمة الأرض براحا، فعدَل عن ذلك إلى أن يغرم الباني (¬2) والغارس قيمة بنائه وغرسه الذي فعله بوجه شبهة، وباعتقادٍ انه يملك ذلك على التأبيد، في حق المشتري إذا كان هو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للباني.

الغارسَ أو في حق المكتري، أي الأجل، صار عدول رب الأرض عن تقويم الغارس والباني قيمة الأرض براحا، كالرضى بإمضاء ما فعل، وتصويب ما اعتقد من أنه يفعل ذلك على جهة الملك المؤبد. وإذا قررنا الأمر كذلك سقط الاعتراض الذي ذكرناه. وإذا اكترى الأرض ليزرعها، وقد اكتراها من مشتريها، فأتى من استحقها قبل أن يحرثها مكتريها فواضح حكم ذلك: أن له فسخ العقد، ومنع المتكري منها. فإن أتى المستحق وقد حرثها المكتري، ولكنه لم يزرعها، فيه قولان: هل يغرم المستحق قيمة الحرث أو يأخذ الأرض ولا غرامة عليه لذلك؟ وهذا مبني على الاختلاف فيما فعله الغاصب في دار غصبها مما ليس بعين قائمة ولا يتميز كالتزويق، فإن فيه اختلافا، فإذا تسلم الدارَ صاحبُها فقيل: يتسلمها ولا غرامة عليه، وكأنه الأَشهَر في أصل المذهب. وأما المشتري إذا فعل مثل ذلك، فقيه أيضًا اختلاف، وكأنّ الأشهر في أصل المذهب أنه يلزم المستحق قيمةُ ما عمل. وقد اشتهر فيمن اشترى قمحا فطحنه، فأتى رجل فاستحق القمح، فوجده مطحونًا، هل يأخذه ولا غرامة عليه في الطحن، أو يغرم قيمة الطحن؟ وإذا قلنا: إنه إذا استحق الأرض فإنه يغرم أجرة الحرث، فإن امتنع غرم له المكتري كراء السنة التي اكتراها أو حرثها زرعا، فإن امتنع المكتري أيضًا من ذلك فقيل: تسلم الأرض. وعلى الطريقة الأخرى يكون هو ورب الأرض شريكين في حرث هذا العام. وهذا كالاختلاف في قطع الثوب الذي دفعه القصار إليه غلطا منه عليه، فيقطعه (¬1) قابضه وخاطه، فإنه اخُتلف فيه إذا امتنع مستحقه من أجرة الخياطة، وامتنع الذي خاطه من دفع قيمة الثوب، هل يسِلّمُ الثوبَ مخيطًا، أو يسلمه ويكون شريكًا بمقدار الخياطة؟ ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فقطعه.

ولو اتى المستحق وقد زرع المكتري الأرض، فإنه ليس له قلع زرعه, لكونه وضعه يوجه شبهة، وليس له أن يتلف مال غيره إذا لم يكن تعدى من استحق الأرض من يديه في الزراعة، ولكن يأخذ المستحق كراء الأرض إن كان استحقها في الإبان, لأن زراعتها قد منع ربها من الانتفاع بها، وكان الأصل أن لمستحقها قلع الزرع، ولكن صيانة الأموال عن التلف اقتضت منعه من ذلك. ولكن أيضًا لا يلزمه أن يصون مال غيره بإتلاف مال نفسه، فلهذا كان له كراء هذا العام. ولو أتى بعد انقضاء الإبان (لم يكن للكراء) (¬1)، وكان كراع هذا العام لمشتري الأرض الذي أكراها, لأن الزارع لم يمنعه من الانتفاع بها، إذ لا قدرة لمستحقها عن الانتفاع بها إذا (¬2) ذهبت أيام الزراعة. وقد قال ابن الماجستون: لو استحقها المستحق، وقد مضى بعض أيام الابان، ففضْل ما بين الكراء في أول الإبَّان ويومَ جاء المستحق، يكون لمكري الأرض قدرُ ما مضى من الإبان كفوت جميعه. ولو خوصِم المستحق في استحقاقه فلم ينقض الخصامُ حتى مضى الإبان، ففيه قولان: هل يكون الكراء للمستحق، أو يكون الكراء لمكري الأرض, وهذا على الخلاف في المُتَرَقّبَات إذا ودعت مسنَدة لأسباب متقدمة، هل يقدر كأن الحكم وقع في تاريخ السبب الذي يستند إليه الحكم، أو أنه وقع يوم الحكم؟ وقد عهلم الخلاف في المدونة فيمن اعتق عبده في سفر، ثم قدم، فأنكر العتق، وقدم من يشهد عليه بعد إنكاره، فحكم بالشهادة، هل يقدّر كان الحكم يوم أعتق في سفره أو الآن وقع؟ وقد يقال ها هنا: إن مدافعة المستحق إن كانت بتأويل ووجهِ شبهة، فإنه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لم يكن له الكراء. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذ.

يحسن القضاء بإسقاط حقه في الكراء، وإن كانت المخاصمة له بباطل واضح، فإن الكراء يكون له، وقد حضرتُ مجلس الشيخ أبي الحسن اللخمي وقد استفتاه القاضي في امرأة دعت زوجها للدخول فأنكر النكاح، فأثبتته عليه، فأفتاه بأنه تعتبر مدافعته لها في النكاح هل كان من الزوج بتأويل وشبهة فلا يطالب بالنفقة أيام الخصام، أو دافعها بباطل واضح فيكون كالغاصب لها حقَّها في النفقة فيقضى لها بذلك؟ وهذا نحو ما أشرنا إليه نحن في هذه المسألة. ولو كانت الأرض تزرع بطونا لكانت كالسكنى، فما مضى من البطون لمكري الأرض، وما بعد ذلك من يوم الاستحقاق (¬1) ويكون للمستحق، لكون الأرض التي تزرع بطونا يمكن مستحقَّها أو (¬2) يزرعها يوم استحقها، فأشبهت السكنى. وقد كان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يشير إلى التردد في السكنى، لأجل أنه إذا أكرى المشتري الدار وانتقد الكراءَ، وهي مأمونة، صارت بقيةُ السنة كالمقبوض، كما قالوا في أرض النيل إذا رويت: إن المنافع كالمقبوضة. وإن كانت بقية الستة في الدار المأمونة كالمقبوض منافعها، صار ذلك كما لو أتى المستحق وقد انتقضت (¬3) جميع السنة. وهذا الذي تردد فيه بعيدٌ عما يقتضيه جميع روايات المذهب في أحكام الاستحقاق, لأن ذلك إنما يحصور فيه قبض ما لم يوجد في أحكام أُخَر، مثل: لو أكرى داره خمس سنين بخمسين دينارًا فهل يزكي الخمسين كلَّها إذا مَضى حول واحد, لأن بقية الخمس سنين كالمقبوض، ولا خلاف أن السنين كلها لو ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَنْ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: انقضَتْ.

انقضت لو جبت زكاة الخمسين دينارًا .. أو يقال: لم تلزمه زكاة الخمسين دينارًا لجواز ان تتهدم الدار فيجب رد بعض ما انتقد من الكراء. ففي مثل هذا يحسن الخلاف فيما بين المكتري والمكري. وأما المستحق فلم يختلف فيه أنه من يوم الاستحقاق ملَك المنافعَ التي توجَب فيما بعد، وإذا لم يختلف في ملكه لها لم يُختلف في استحقاقه لما قابلها من الكراء. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: من زرع ارضا في يديه فلا يخلو من قسمين: أَحدهما ان يكون يعتقد ان زرعها له مباح. أو يعتقد أنه حرام عليه. فإن اعتقد أن زرعها مباح له، فلا يخلو من قسمين: أحدهما أن يكون اعتقد الإباحة لكونه بذل فيها عوضا لمن باعها منه، وهو يظن أنه مالكها، أو اعتقد الإباحة، وبم يبذل فيها عوضا, لأنه أحياها وهي أرض ميتة، أو ورثها. فأما من بذر فيها، وهو يعتقد الإباحة، وقد بذل عوضا أو لم يبذل عوضا، فإنه لا يخلو الذي أتى فاستحقها من أن يكون صادفه ولم يصنع فيها سوى الحرث خاصة، أو صنع فيها الحرث والبذل (¬1) وقد انقضى الإبان قبل ان يأتي، أو لم ينقض. فإن لم يفعل فيها مشتريها بعوض، أو محييها، سوى الحرث، فإن مطالبته لمستحقها بقيمة الحرث يجري على القولين فيمن اشترى قمحا فطحنه فحكم لمستحقه بأخذه، فهل يغرم قيمة الطحن؟ فيه قولان. وقد تقدم ذكر ذلك والإشارة إلى علّته. وإن كان المستحق لم يأت، وقد انقضى إبان الحرث، فلم يختلف المذهب في أنه ليس له قطع ما زرعه الزارع في هذه الأرض بوجه شبهة، وذلك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: البذر.

لأجل أن الزارع قد خسر مالًا في الحرث والبذر معتقدًا أنه مما يباح له ملكه، فلو مكنا المستحق من قلعه ظلمنا الزارع، وهو لم يقصد الظلم ولا اعتقده، ولو منعنا المستحقَّ أيضًا من أن يقلع هذا الززع، ومنعناه أيضًا من أن يأخذ كراءه لظلمناه وحرمناه الانتفاع بماله، وهو يمكنه إذا قلع زرع الزارع أن يزرع في الأرض لنفسه، فيكون قد أبطلنا ملكه ومنعناه من الانتفاع به، لأجل المخافة أن يتلف مثل ذلك على الزارع، وهو غير مالك، وهذا ظلم للمستحق، فإذا منعناه من قلع الزرع صيانة بمال (¬1) الزارع، وأعطيناه العوض صيانة لماله أن يحرم منفعته ويمنع من زراعته كُنّا قد عَدَلْنا بينهما. أما إذا أتى المستحق بعد ذهاب الإبان، فذلك أحرى ألاّ يمكَّن من قلع زرع الزارع، ولكن لا يعطيه عوضا, لأنّا لو قلعنا الزرع لم يُفِدْ ذلك المستحقَّ شيئًا، بل تبقى الأرض عارية من الزراعة لا منفعة له بها، فلا يجب أن يعطيه قيمة منفعة ولم يتمكن من الانتفاع، ولا تُتصور له منفعة. وإذا حكمنا للمستحق بكراء الأرض إذا أتى إبان الزراعة، فإن له الأكثرَ من المسمَّى إذا كان مشتري الأرض قد أكراها. أو قيمة كرائها لأنه لا يلزمه أن يُبقيَ الزرع على عوض دون القيمة، والمغبون في القيمة، أو الواهب لبعضها، غيرُ مالكها، فلا يلزم مالكَها ما وهبه من لا يملكها. وأما إذا كان زارعا متعديا غاصبا للأرض، فإنه إذا أتى مستحقها, ولم يحدث غاصبها حرثا، فواضح تمكين مستحقها منه. وإن كان غاصب الأرض لم يحدث فيها سوى حرثها، فهل يطلُبُ المستحق لها، إذا أخذها، بقيمة الحرث أم لا؟ على القولين المذكورين في كتاب الغصب فيما أحدثه الحادث من حوادث ليست بعين قائمة ولا تتميز كتزويق الحيطان في الديار. وأما إن أتى المستحق، وقد حرثها الغاصب، وبذر فيها، فإنه إن كان لو قلع لا منفعة للغاصب فيه، ولا له قيمة من المستحق من أخذ الأرض ما فيها، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمالِ.

إذا لا فائدة للغاصب فيما نقله (¬1) منها، وابقاؤه في الأرض لمالك الأرض فيه فائدة. فقدم حقه على حق الزارع. ولكن مع هذا لَوُ أَشَارَ ربّ الأرض ألاّ يقبل هذه القائدة، ويقول للغاصب. اقلع هذا الزرع, لأن ملككَ خبيث، حتى أرزع أنا مكانه من مالي. لكان من حقه. فلو أراد مستحق الأرض ألاّ يأمره بالقلع ولا يقبل هذا الزرع ليملكه بتفسه، ولكن رضي بأن يبقى الزرع بكراء يأخذه من الغاصب بذلك، فإن في الموازية: المنع من تراضيهما بذلك, لأنه لما قدَر صاحب الأرض أن يبقي الزرع لنفسه بغير عوض ييذله فيه، صار للغاصب على معنى كراء يأخذه منه، فإن ذلك، وإن سمي كراءً، فإنه شراء من الغاصب لهذا الزرع الذي ملكه مستحق الزرع ليبْقيه لنفسمعتى يحصده بغير عوض يبذله له. وهذا الذي قاله ابن المواز إنما يتضح عندي على إحدى الطريقتين المشهورتين في المذهب: مَن ملك ان يملك هل يعد كالمالك أم لا؟ في ذلك قولان. وهذا لما خُيِّر بين أن يأمر الغاصب بقلع هذا الزرع ليتمكن من زراعة أرضه بمال نفسه، وبين أن يصرف الغاصب عنه ويبقيه لنفسه باطلا، صار كأنه اختار إبقاءه لنفسه، ثم بعد اختياره لذلك باعه من الغاصب الزارع على التبقية أن يحصده الغاصب، ويأخذه، وبيع الزرع قبل بدوّ صلاحه على التيقية لا يُختلف في منعه. وأما إذا قلنا بأنه لبم يختر ملك هذا الزرع، وإنما اختار قلعه، فصار الغاصب كأنه قلعه، ثم استأنف عقد كراء في زراعة هذه الأرض، فإن ذلك لا يتصور فيه كون الكراء ها هنا كالشراء للزرع. وأما إن أتى مستحق الأرض وقد صار الزرع إذا قلع انتُفع به، وصار له ثمنٌ ولكن الإبّان لم ينقضِ، فإن له أن يأمر الغاصبَ بقلع الزرع ليزرع الأرض وإن أراد ألاّ يأمر الغاصب بالقلع، ويهعطيه قيمته مقلوعا، ويبقيه لنفسه، ففيه قولان، هل يجوز ذلك، لكون الحكمِ قلعَ الزرع إذا شاء المستحق، فكأنه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قَلعَه.

اشتراه بعد قلعهِ ببيْعته واعاده إلى أرضه، أو يقال: لما كان من حق الغاصب أن يأخذه ليبيعه، أو لترعاه دوابه، صار ما أخذه فيه من المستحق ليبقى في الأرض كابتداء بيع زرع مَلَكَ أخْذَه قبل أن يبدو صلاحه، وعقد فيه بيعا على أنه يبقى لمشتريه، وهو المستحق إلى أن يبدو صلاحه. وقد تقدم ما يعرف منه سبب هذا الخلاف لما ذكرنا في الموازية من تصور كون الكراء كالشراء في المسألة التي فرغنا منها الآن. وأما إن أتى مستحق الأرض بعد ذهاب إبان الزراعة، ففيه روايتان: المشهور منهما أنْ ليس له أن يأمر الغاصب بقلع زرعه لأن في ذلك إبطالا لمال الغاصب، واتلافَه عليه من غير منفعة لمتلفه. وهو المستحق، إذ لا يمكنه ان يزرع هذه الأرض بعد مضي الإبان، والرواية الأخرى إن لمستحق الأرض أن يأمر الغاصب بقلع هذا الزرع، وإن كان بعد ذهاب الإبان، لقوله عليه السلام "ليس لعرق ظالم حق" (¬1) وهذا الغاصب ظالم، فلا يجب أن يكون لعرقه حق، والتبقية حق، وقد نفى عليه السلام أن يكون له حق. وأما إن أتى هذا المستحق وقد حصد الغاصب الزرع وجمعه، فالمعروف من المذهب عند مالك وأصحابه أن الزرع للغاصب، وعليه كراء الأرض، وهو عوض المنافع التي قد أفاتها الغاصب، وصارت معدومة، ومن غصب شيئًا فأتلف عينه فإنما عليه قيمته. وروى الداودي في كتاب الأموال عن مالك رواية شاذة: إن الزرع لصاحب الأرض، وعليه للغاصب ما أنفق في ذلك. ومال إلى هذا المذهب، واحتج فمِه بحديث مروي، والحديث الذي احتج به خرّجه الترمذي فقال الترمذي في كتابه: قال النبي عليه السلام "من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فالزرع لرب الأرض وعليه ما أنفقه" (¬2) واححج الداودي لصحة هذه الرواية الشاذة عن مالك بأن من غصب أمة فولدت، فإن ولدها يكون لصاحب ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) الترمذي: السنن: 3/ 41. حد. 1366.

الأم، وقدّر أن النطفة كالبذر، والنماء في بطن الجارية كالنماء في بطن الأرض. وقد ورد هذا السؤال إلى المهدية، وشيوخ الفتوى فيها متوافرون، فأفتى السُّلَمي، وهو اشهرهم وأفقههم مُنْذُ نحو ستين عاما، بأن الزرع لرب الأرض. واحتج بما احتج به الداودي، وسطره في جوابه معتمدا عليه، وكأنه نسب هذه الحجة إليه، ووافقتُه أنا في الفتوى حينئذ باختيار هذا القول، وكان معنى الجواب الذي كتب في ذلك: أن الزرع إنما حدث من مجموع أمرين لو انفرد احدهما لم يكن هذا النماء: أحدهما الأرض، فإنها لا تُنبت من غير بذر، والآخرُ البذر، فإنه لا ينبُت في غير أرض، فكان مقتضى هذا الاشتراك أن يكون النماء الحادث مقسوما بينهما, ولكن لا يقفُ على حِدّ ما يكون عن كل واحد منهما من التنمية سوى الله سبحانه الذي خلقهما، وخلق ما يكون عنهما. فلما لم يعلم ذلك وجب إلحاق النماء بأرجحهما، فالأرض ها هنا مرجحة على البذر، لكونها مما لا يُزال بها ولا يُنتقل، والقمح المبذور في الأرض مما يُزال به ويُنتقل. وقد منع أبو حنيفة تصور الغصب في العقار لهذه الغلة. فكان إلحاق النماء بالأرض أولى، مع كون تنميتها للنبت ليس بظلم ولا حرام، وتنمية البذر ظلم وحرام، والحلال أرجح من الحرام. وقد قيل: إن الأرض قابضة لما فيها، وصاحب البذر لما أودعه الأرضَ زَالَ قبضه عنه، وبقيت الأرض هي القابضة، وقبضها قبض لصاحبها، فكان إضافة هذه التنمية إليها أولى، مع أن سبحانه نبه على علة شرع القصاص مِمّن قتل آخذه (¬1) ظلما فقال تعالى {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬2) والمراد به ما كانت الجاهلية تعبر عنه بعبارة ظهر فَصَاحةُ القرآن فيها وعلوُّها عنها، وكانت تقول "القتل أنس للقتل" ويعني بذلك أن القاتل إذا لم يُقتل بمن قتله استبيحت الدماء، وتفانى الناس بالقتل, لأن كل من علم أنه لا ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أخاه. (¬2) البقرة: 179.

يُقتل إذا قتل تكرر منه القتل، وإذا علم أنه يُقتل كفّ عن القتل، فأنزل الله هذا المعنى بلفظ بليغ لا يُلْحَق فقال: {وَلَكُمْ في الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (¬1) يريد أن القاتل إذا اقتص منه حفظت حياة بني آدم، فكأن القصاص صار لهم حياةً. ثم فيها تنمية (¬2) على العدل، وهو قوله "القصاص" والقصاص إشارة إلى العدل، فورد هذا المعنى في القرآن بلفظين وهما القصاص حياة، من غير تكرير، واوردته العرب بثلاثة ألفاظ، وفيها التكرير، وليس فيها إشارة للعدل، وإذا نبه صاحب الشرع على أن القصاص إنما شرعه لصيانة الدماء، فكذلك يجب أن يكون الزرع لصاحب الأرض المغصوبة، صيانة للأموال والأرَضين عن أن تغصب. وحرمة المال يجب ان تصان كحرمة الدم. وتعقبت استدلال الداودي بقياس الزرع على حمل الأَمَة, لأنه قد اتفق المذهب على أن من اشترى أرضًا فَزَرَعَهَا، فإن الزرع له. ولو اشترى أمة فاستولدها، فإن الولد لمستحقها, ولكن لا يسترقّه لحُرمة الحرية فيه، بل يأخذ قيمتَه. فإذا افترق الحكمان في الأمة والزرع، فيما كان بوجه شبهة، فكذلك يفترقاد فيما كان على وجه الغصب, لأن الولد من جنس أمّه، فهو كعضو منها يردّ معها، وإن كان استولدها بوجه شبهة، بخلاف الزرع الذي هو ليس بجنس الأرض المغصوبة. هذا معنى الجواب الذي كان فرط منّى حين افتيت به قديما. فإذا وضع حكم الزراعة مع اعتقاد الإباحة، وثبوت الشبهة، وحكم الزراعة مع اعتقاد التحريم وارتفاع الشبهة، فإنه قد يعرض بين هذين ما يشكل هل هو من هذا الطرف أو من هذا الطرف مثلما في المستخرجة لابن القاسم في ارض ادعاها رجلان كل واحد منهما يدعيها لنفسه، فيأخذ أحدهما فيزرع فيها فُولًا، ثم بعد حين أتى خصمه فزرع فيها قمحا، فأبطل بذلك ما زرعه الأول من القول، فحكم فيها بعد ذلك ¬

_ (¬1) البقرة: 179 (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تنبيه.

للأوّل الذي زرعها فولا، فقال اين القاسم: يبقى القمح المبذور لزراعه، ويؤدي الكراء إذا كان الإبّان لم يذهب، ويغرم لصاحب القول ما اتلفه عليه وأبطله من القول، قيمتَه على الرَّجاء والخوف أن لا يسلم. ولو توجّه الحكم بهذه الأرض للآخر النبي زرعها قمحا كان عليه قيمة القول على الرَّجاء والخوف ويخفف عنه في التقويم. ويشير بالتخفيف في التقويم إلى أن صاحب القول (¬1) ولو مُكِّن من إيقافه (¬2) فسلم، لوجب عليه الكراء لمن حكم له بها وقد زرع فيها قمحا. وكان بعض أشياخي رأى أن هذا الذي قاله إنما بناه على أحد القولين في أن الاختلاف ما بين الخصمين بشبهة (¬3)، واحد الخصمين إذا زرع مع اعتقاده أنه ادعى باطلا، وحُكم له بغير حق، فإن هذه شبهة تُلحقه بحكم من اشترى ارضا فزرعها. وأما على القولين (¬4) بأن الاختلاف ليس يشيهة، وأنه يجري مجرى الغصب حكمُ من زرع منهما، وقد توجه الحكم لخصمه حكم الغاصب إذا زرع، وقد بينّا حكم الغاصب إذا زرع فأتى مستحقُّ فاستحق الأرض. وعندي أن هذا الذي وقع لابن القاسم يجري على أمر مختلَف فيه، هو أولى مما قاله شيخنا. وهو أن المذهب على قولين في المترّقبات وإذا وقعت، هل تعدّ كأنها إنما حصلت (¬5) اليومَ وقوعها، أو تقدّر أنها لم تزل حاصلةً. وقد تكرر هذا وبيّناه في كتاب البيوع. ولو لم يكن منه إلا ما في كتاب العتق من المدونة فيمن اعتق عبده بحضرة شهود، وجحد العتقَ، ثم استعمله. ذلك تقدم بيانه. ومما يلحق بهذا ما ذكره عبد الملك بن الماجشون في ثمانية أبي زيد في ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حذف الوإو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إبقائه. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الباء. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: القول. (¬5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَصل.

شريكين، في أرض، وهي مما ينقسم، فبنى فيها بناء، فقال ابن القاسم فإن وقع النصف الذي وقع بالقسمة للباني [بغير البناء] (¬1) وإن وقع في نصيب شريكه كان له أخذه بالقيمة، على ما تقدم في المشتبري إذ ابن ي أو غرس فاستُحِق ما في يده. وقد بيّناه. ولو كانت الأرض مما لا ينقسم ويجب بيعها جملةً، لكان الثمن إذا بيعت به ينظر فيه: ما زاد البناء على قيمته براحا، فيكون الباني كما قيل في مركب بين شريكين أصلحه أحدهما فإنه إذا بيع كان لمن أصلحه ما زاد في ثمن الإصلاح. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: كان الترتيب عندنا يقتضي أن نؤخر الكلام على هذه المسألة إلى كلامنا على من اشترى أمة فاستولدها فصار لها بالالستيلاد حرمة، ولكن قدمنا الكلام على هذه المسألة ها هنا باتصالها بأحكام الأبنية. واعلم أن من بني داره مسجدًا فأتى من استحق الدار فإنه باستحقاقها لما صار مستحقا لإزالة ما بني فيها، أو يتملكّه إن كان مما يُتملكّ، على ما تقدم تفصيل القول فيه. فقال ابن القاسم في المدونة، فيمن بني داره مسجدًا، فأتى من استحق الدار: إن المسجد يهدم. وأطلق القول في ذلك، ولم يفرق فيه بين كون الباني للمسجد بناه وهو غاصب للأرض، أو مشتر لها. وتأول هذا الإطلاق سحنون على أن محمله على كون الباني غاصبا للأرض. وأما لو كان بوجه شبهة كالمشتري للأرض بني فيها مسجدًا، فإن الحكم عند سحنون أن يعطي مستحقُّ الأرض بَانِيَ المسجد قيمَة بنائه قائمًا. فإن أبى أعطاه الباني قيمة الأرض. فإن أبى كانا شريكين، على حسب ما تقدم بيانه في حكم من بني بوجه شبهة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والمعنى أن القسمة إذا أن إلى أن الباقي وقع في نصيبه البناء فإنه يأخده بدون مقابل.

وعارضه ابن عبدوس في هذا الجواب لكونه يقتضي إبطال التحبيس. فانفصل له عن ذلك بأنه إذا أخذ قيمه البناء صرفه في حبس مثله. ومذهب بعض أشياخي أن المذهب على قولين في كون البناء للمسجد وقع بوجه شبهة: فسحنون يجري حكم مالًا حرمة له من الأبنية، ويمكنّ (¬1) المستحق من أن يعطي قيمة البناء قائما. وظاهر إطلاق قول ابن القاسم أنه يهدم، ولو كان البناء بوجه شبهة، لأنه (¬2) يفصل في جوابه. وأيضًا فإن سحنون وافقه على أن الباني لو كان غاصبا للأرض لهُدِم المسجد عليه، والحكم في الغاصب، إذ ابن ي مالًا حرمة له، تمكينُه من تكليف الغاصب قلع بنائه، وإعطائه قيمة النقض بعد أن يحط أجر القلع، كما قدمناه في البناء الذي لا حرمة له. فإذا وافق سحنون ابنَ القاسم في افتراق الحكم في بناء الغاصب مالًا حرمة له، وماله حرمة فلم يفكهت المستحق من إعطاء قيمة النقض للغاصب، ومكنه من ذلك إذا كان البناء لا حرمة له، فكذلك ينبغي أن يفرِّق الحكم فيمن بني بوجه شبهة بين أن يبني مالًا حرمة له أو يبني ماله حرمة. واعلم أن مثار الخلاف في هذه المسألة تزاحُمُ حقيْن فيها: أحدهما حق الله سبحانه، وهو المنع من إبطال الاحباس وتملِكُّها، والثاني حق المخلوق، وهو الباني، في أن لا يُبِطل عليه ملكَه، ويُفسِد بناءَه، فتذهب نفقته باطلا، فأي الحقين يقدم؟ قدّم ابن القاسم حق الله سبحانه في أن لا تُغيَّر الاحباس ولا تُتَملك، فأمر بهدْمها, ولم يلتفت إلى ابطال حق الباني في البناء. وغلب سحنون حق الباني، فلم يتلفْ عليه ما انفق، وجعل له أخْذَ قيمة ¬

_ (¬1) أي: يُلزِم. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: لَمْ.

بنائه قائمًا. ولكن هذه العلة قد تُنقَض عليه بموافقة ابن القاسم إذا كان غاصبا للأرض، بأن بناءهَ يُهدم ويُعطى نقضَه يبني به مسجدًا آخرَ. وفي ذلك أيضًا إبطالٌ لحق المستِحق للأرض, لأنه إذا مُكِّن من اعطائه قيمة النقض، بقي النقض مبنيا له. (لكن هذا الحق الذي صورناه له ليس له فيه إيطال ما أنفقه، وإنما فيه حِرْمانه أخذَ بنائه، وتلفيق فعله غيره، وشتان بين اتلاف ملك محقق وبين منع إنسان من أن يأخذ ملكا من يد غيره لم يسبق له فيه ملك. فهذا العذر عنه عندي في تفرقته بين كون البناء الذي يحترم بناؤه بَناهُ غاصب، ولو بناه من له شبهة في البناء. (وبعض أشياخي يشير إلى هذا الخلاف في بناء يصح الانتفاع به ويبعد وهو على صورته، وأمّا مالًا يحل الانتفاع به وهو على الشكل الذي هو عليه (¬1)). وإذا قلنا: يهدم هذا المسجد، فإن انقاضه تنقض (¬2) فيبنى بها مسجد يقرب من المسجد المهدوم. وإن تعذر بناء المسجد بذلك البلد، فقال بعض الأشياخ ينُقل إلى مكان أخر وتؤدَّى أجْرة نقله منه، ويبنَي هناك بالانقاض مسجدًا. وهذا مما ينظر فيه لأن المحبِّس قد يكون له عوض (¬3) في بناء المسجد في بلده، فإذا نُقِل خولف غرضه فيه، فينظر هل تُرَمّ به مساجد في البلد بعينه أم لا فيكون ذلك أقرب إلى قصد المحبس. وسنتكلم على هذا الأصل في كتاب الحبس، إن شاء الله تعالى، فإن فيه اضطرابا في المذهب. هذا حكم البناء المحترم في أرض غير محترمة. وأما حكم البناء الغير المحترم في أرض محترمة، فإن سحنونًا قال، فيمن ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تنقل. (¬3) مكذا في النسختين، ولعل الصواب: غرَض.

بني في أرض ثبت بعد ذلك أنها حبس: إن بناءه يهدم. قال ابن عبدوس: قلت: كيف يهدم عليه بناؤه، وقد بناه بوجه شبهة؟ قال: من يعطيه قيمته؟. قال: فقلت له: يكونان شريكين في الأرض والبناء. فأنكر ذلك. فقال من حضر: يكون ذلك بيعًا للحبس. وسحنون يسمع فلم ينكر ذلك. فقال: فقلت له: يعطَى المحبِّس قيمة البناء. فلم ير ذلك. فاعلم أن الأصل الذي نبهنا عليه في تزاحم الحقوق يجري ها هنا، أما الشركة أو إعطاء الباني قيمةَ الأرض المحبسة، فإن ذلك إبطال للحبس، وبيع له، نهى الله سبحانه ألاّ (¬1) تباع الأحباس. وأما هدم البناء، ففيه إفساد المال على الباني، وله حق في ألاّ يَفْسُد ماله، كما قدمناه، فيمن بني داره مسجدًا. لكن هناك مالك الأرض يصحّ أن يمكن من دفع قيمة البناء، وها هنا ليس يوجد مالك الأرض المحبسة فيؤمر بإعطاء قيمة البناء، (فالثمن من اعطاه قيمة البناء وتعذر ذلك) (¬2)، فافترق الجواب في السؤالين عند سحنون. وأما منع سحنون في هذه المسألة من تمكين المحبِّس من اعطاء قيمة البناء، فإنْ كان مراده أنه يعطي ذلك ليتملك ويبقيه في الأرض المحبسة، فإن ذلك تغير (¬3) للحبس، وقد يكون الحبس وقع لغرض منفعة يُبطلها البناء في الحبمس، مع كونه إذا أبقاه على ملكه تملَّك بعض أجزاء أرض الحبس، وإن أزاد أن يُلحقه بالحبس اعتبر فيه ما ذكرناه من تغيير المقصود بالحبس والمنفعةِ التي حُبِّس عليها. والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: امّا من اغتلّ، وهو مشتر قد دفع ثمنا فيما اشترى، فقد تقدم أن الغلآتِ له إلى يوم الاستحقاق، على ما فصلناه هناك. وأما من بيده الربّاع، ولكن لم يؤدِّ عنها عوضًا، كوارث ورث أرضًا عن أخيه، فأكراها، فأتى ولد الميت فاستحق ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنْ. (¬2) ما بين القوسين هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تغْيِير.

جميعها، (¬1) وأتى أخ فاستحق مشاركة هذا الأخ في ميراثهما فإن الغلّة تؤخذ جميعُها من يد مكتريها إن أتى مَن يحجُبُه عن الميراث، أو يؤخذ نصيب القادم إليه من الميراث، وهذا إذا أكرى بالقيمة. وأمّا إن حابي في الكراء فهو واهبٌ لمَا حطَّ من قيمة الكراء، فلا تلزم هذه الهبة القادمَ الذي إستحق جميع هذه الأرض، أو استحق بعضَها، إذ ليس للإنسان ان يَهَب مال غيره، ولكن ينظر فيمن يُرجَع عليه بهذه الهبة، الثي هي المحاباة، هل الوارث الواهب (1) والمكتري المنتفع بالأرض والدار؟ وأما الرجوع على المكتري إذا كان الوارث الذي اكترى منه وحاباه معسرا فلم يختلف القول عندنا أنه يرجع عليه بهذه المحاباة, لأنه قد أنتفع بمال الوارث القادم بغير عوض بَذَلَهُ في مقدار ما حاباه الوارث الذي أكرى منه، ومن انتفع بمال غيره بذِر عوض من غير أن يأْذَن له المالك في الانتفاع به، فإنه يغرم للمالك قيمته ما انتفع به. وأما إن كان الوارث الذي أكرى هذه الأرض موسرًا ففيه قولان: أحدهما انه يرجِع الوارث القادم على أخيه الذي أكرى نصيبه يغير إذنه. وإلى هذا ذهب ابن القاسم في المدونة وقال غيره: لا يرجع الوارث القادم على الوارث الذي أكرى وإن كان موسرا. واعلم أن من أتلف مال غيره تعديا وظلمًا، فإنه يطالب به بغير خلاف. وإن أتلفه خطأ وبوجه شبهة، وهو مأذون له في التصرف إذنا خاصا، فإن فيه قولين: هل يضمنه أم لا؟ إذا كان لم ينتفع بإتلافه فإنه يرجع عليه بعوض ما أتلف. وتفصيل ذلك أن الغاصب إذا وهب لرجل ما غصبه، والموهوب له غير عالم بالغصب، فانتفع به الموهوب له معتقدًا انه لاعوض عليه فيه، فأتى من ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَوْ.

استحق، فإن فيه ثلاثة أقوال: احدها أن المستحق يبدأ في الغرامة بالموهوب له المنتفعِ بهذا المال، وإن لم يوجد عنده مال رجع على الواهب (¬1) والقول الثالث ان المستحق بالخيار بين أن يبدأ بغرامة الواهب أو بغرامة المنتفع الموهوب له. وسبب الاختلاف أن ها هنا إتلافين: أحدهما: بالتسليط والتمكين في مال الغير، وهكذا فَعَل الغاصب فيما غصبه ثم وهب, لأنه سلّط الموهوبَ له على إتلاف هذا المال ودَفَعه إليه ليُتلفه. والثاني: أن الموهوب له باشر الإتلاف والمباشرة للاتلاف هي الأصل في غرامة الاعواض وأما الأسباب المؤدية إلى الإتلاف من غير أن تكون مباشرة للإتلاف، ها هنا يَضطرب العلماء، وينظر المحققون فيما صار كإتلاف من الأسباب فيُلحقونه بحكم الإتلاف، وما بَعُد من ذلك حتى كأنه لم يكن سببًا في الإتلاف لم يُجروا عليه حكم مباشرة الإتلاف. وهاهنا إتلافان: أحدهما من الغاصب بالتسليط والتمكين، والتسليط سبب يزاحم الإتلافَ مباشرةً. وإتلاف الموهوب له، وإن كان مباشرة، فإنه مخطى في الإتلاف معتقدًا أنه أتلف مالًا عِوَضَ يلزمهْ فيه، والغاصب سبب الإتلاف، وهو وإن لم يكن باشَرَهُ فإنه يعلم أنه متعدٍّ في ذلك، فاعلٌ مالاَ يحلّ له، وإن لم يكن مباشرًا على مباشرة إتلاف يحلّ، والحرامُ يرجَّح على الحل الذي وجوب الغرامة. أو ترجح المباشرة للإتلاف، وإن كانت حلالًا في الظاهر، على سبب الإتلاف. وإن كان حرامًا. ها هنا وقع الاختلاف في أي الأمرين أرجح؟ فمن حكم ببداية غرامة الغاصب الواهبِ رتجح جانبَه في الغرامة بكونه فَعَل مالًا يحل ¬

_ (¬1) القول الثاني ساقط في النسختين، ولعله: والثاني: أنه يبدأ بالواهب.

له. ومن رجّح في الغرامة جانب الموهوب له رجحها بالمباشرة، فلهذا حكم ببدايته في الغرامة. ومَن ساوى بين الترجيحين خيّر صاحبَ المال فيمن يبدأ بغرامته، هل الواهب الغاصب أو الموهوب له؟ هذ حكم هبة الغاصب. وأما هبة من وهب بوجه شبهة، فالأشهر من المذهب أنه لا غرامة عليه. وذهب ابن القاسم إلى الحكم بغرامته، كما حكيناه عنه ها هنا في الوارث إذا أكرى محابيا في الكراء. وهذا أصل مقرّر في المذهب أن. متلِف الشيء إذا انتفع به غرم عوضَه وإن كان بوجه شبهة في يديه. وإن لم ينتفع بإتلافه، وقد أتلفه خطأ، ففيه قولان، ألا ترى ان من اشترى طعامًا فأتلفه، ثم أتى مستحقه، فإن مشتريه الذي أكله يغرمه له. ولو اشترى عبدا فقتله عمدًا، ثم أتى مستحقه، فإنه يغرمه له أيضًا لأن تعمُّدَ القتل لا يحِل، فضمِن وإن لم ينتفعْ، لأجل تعديه وظلمه، فإنْ قتلَه خطأً ففيه قولان: تضمينه، وإن لم ينتفع بذلك، لكون الخطأ والعمد في اموال الناس سواء، أوْ لاَ يضمنه لإذْن الشرع في التصرف له خاصّا. وهذا التأصيل الذي أصلناه يجب أن يستوي حكم المشتري إذا وهب ما اشتراه فأتلفه الموهوب له، وحكم الوارث إذا وهب ما ورثه, لأن الأصل الذي رددنا هذا الفرع إليه يستوي فيه (من وهب في يديه بوجه شبهة كان الذي في يديه كالمشتري، أو بغير عوض) (¬1). على أن بعض المتأخرين حاول الفرق بين هبة من كان في يديه الشيء الموهوب بعوض أو بغير عوض، فقال: أما إذا كان في يديه بعوض فيحسن ألا يغرم ما وُهب، وإن كان في يديه بغير عوض فإنه يحْسن أن يغرم, لأن الوارث الذي في يديه المال بغير عوض إذا وهبه لغيره اتُّهِم في أن يكون عَلِم أن يكون شاركَه وارثٌ آخُر، فكتم ذلك وأخفاه، وعقد هذا على الموهوب له بمال غيره، والمشتري يبعد هذه التهمة فيه لأنه أدى ثمن ما وهب، فلا يتهم في أن يتلف مال نفسه بالهبة. ¬

_ (¬1) ما بين القوسين هكذا في النسختين. ولعل معناه: من كان شيء في يديه بوجه شبهة كالمشتري بعوض أو الموهوب بغير عوض.

ومن سلك هذه الطريقة تأوّل ما وقع لابن القاسم في المدونة في الوارث إذا أكرى وحابى فقَدِم أخوه، فإنه إنما قال ابن القاسم: يرجع على أخيه بالمحاباة, لأنه لم يُرد فيما وهب عوضا، فتصورت منه، بما ذكرناه، التهمة. فعلى هذه الطريقة ترتفع في هبة المشتري, ويكون الحكم فيها ألاّ يغرِم المشتري ما وهب. ومن الأشياخ من حاول أن يرفع الخلاف في المشتري من طريقة اخرى، فيحْمل قوله في المدوتة: إن الأخ القادم يرجع على أخيه بالمحاباة، على أن الأخ الذي اكترى علم أن للميت أخا آخر، وهو إذا كان عالماً صار غاصبا، والغاصب يغرم، وإنما اختلف في البداية (¬1) أو بالموهوب له، كما قدمناه، ويرى أن قوله في المدونة: يرجع على أخيه بالكراء، علم أو لم يعلم، ثم قال: فإن حايى في الكراء رجع على أخيه. فإنما هذا الكلام مستأنف معناه إذا كان الأخ عالماً. وكان شيخي أبو محمَّد عبد الحميد، رحمه الله يرى أن في هذا الكلام احتمالا، كما أشار إليه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد، ولكن الظاهر عند شيخنا أن هذا الكلام، وهو قوله "وإن حابى" معطوف على ما تقدم. وقد تقدم قوله: سواء علم الأخ أو لم يعلم. ويعتضد من تأول عن ابن القاسم أن مراده بإطلاق القول في الرجوع على أخيه إذا حابى كونُ الأخ عالماً، فإنه قال في المدونة: إذا اشترى دارا فأكراها فهدمها المكتري فترك (¬2) له مشتريها الذي أكراها قيمة الهدم، فإن مستحقها إذا قدم لا يرجع على الواهب، ويرجع على المكتري بما وهبه من قيمة الهدم. فأسقط هاهنا الرجوع بالهبة لما كان الواهب وهب بوجه شبهة. وهذا الاستدلال ممن استدل به غير صحيح, لأن المشتري لم يسلّط ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضاقة: بِهِ. (¬2) في (مد): ردّ.

المكتري على هدم الدار، ولا أمره بذلك، ولا أمكنه منه، وإنما وجبت على المكتري الهادم قيمة الهدم في ذمته، فاعتقد المكتري أنه يستحق ذلك في ذمة الهادم بوجه ما يعتمد أنه يملكة، فإذا كشف الغيب أن غيره هو مالكه لم تلزمه غراهة ما وهب، ولا يلزمه طلبه. بخلاف الأخ إذا أكرى فحابى فإنه سلط المكتري الساكن على إتلاف المنافع، ومكنه منها بغير عوض، فصار كالمسِلّط على الإتلاف، وقد قدمنا أن المسِلّط على الإتلاف كالمباشر له. واعلم أن المتأخرين كثر اضطرابهم في ضيط المذهب في هذا فمنهم من يرى أن الخلاف إنما يتصور في هية الغاصب لرجل قَبِل الهبة، ولم يعلم أن واهبها غاصب. فقيل بغراهة الموهوب له الذي انتفع بالهبة، وقيل: بل المستحق السلعة المغصوبة فيمن (¬1) يبدَّأ بغرامته. وإن استغرم الموهوب له المنتفع، ففيه اختلاف أيضًا: هل يرجع بما كرم على الواهب بأنه غرّه أم لا؟ وهذا تقدم مبسوطًا. وأما الواهب إذا وهب ما يعتقد أنه له، فإنه لا يطلب بغرامة، موسرا كان أو معسرا. وهؤلاء الاشياخ يشيرون إلى ارتفاع الاختلاف في هذا ولا يفرقون بين الواهب مشتريا أو وارثا. ومنهم من يرى أن المذهب على قولين في الرجوع على الواهب إذا وهب ما يعتقد أنه ملكه، ولا يفرقون بين كون الواهب مشتريا أو وارثا. وهذه طريقة الحذاق من الأشياخ بناء منهم على ما عُرف من أصول المذهب أن المنتفع بوجه شبهة يغرم. وإذا لم ينتفع وإنما سلط غيره على الانتفاع، أو أخطأ فأتلف ما في يديه بغير انتفاع منه، فإن المذهب على قولين، فيمن اشترى عبدا فقتله عمدًا، فإنه يضمنه, لكونه فعل مالًا يحلّ له، وإن قتله ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل العواب حذف: فيمن.

خطأ ففي تضمينه قولان لأنه أتلف على وجهٍ لا منفعة له فيه، وسواء كان المتلِف مشتريا أو وارثا. ومنهم من يشير إلى طريقة ثالثة، ويرى أن الواهب إذا كان مشتريا فوهب، فإنه لا يضمن، وإن كان وارثا فإنه يضمن. ويعتلّ هؤلاء بأن الواهب إذا وهب ما ورثه فإنه يُتَّهم أن يكون علم من شاركه في الميراث، فكتم ذلك، وأظهر أنه أتلف ما وهب غلطا منه، والمشتري يَبْعُد تصور هذه التهمة فيه، لكونه بذل ثمنا فيما وهبه، فلا تتطرق إليه هذه التهمة. وهذه الطريقة بعيدة عن ظاهر الروايات، ألا ترى أن ابن القاسم قال، فيمن اشترى ثوبا فوهبه لمن لبسه حتى أبلاه: إن الواهب لا يضمن. وقال في المدونة، في كتاب كراء الدور والأرضين, في الوكيلَ إذا وُكِّل على كراء دار فحابى: إنه يضمن. وهذا مما غرّ أصحابَ هذه الطريقة، ورأوا أن الفرق بين المسألتين كون المجموعة (¬1) وقعت في مشترٍ بذل عوضا فوهب، ومسألة كراء الدور والأرضين وقعت في وكيل لم يبذل عوضا. وقد نص ابن القاسم في المدونة، في كتاب القسم، على فساد هذه الطريقة، فقال، فيمن وُصِّيَ له بثلث دار، فأتى فوجدها قد فاتت في يد الورثة بهدم: إنه لا يضمن الورثة قيمة الهدم، قال: ألا ترى أن مالكا قال، فيمن اشترى دارا فهدمها، ثم أتى مستحقها: أنه ليس له تضمين المشتري قيمة الهدم. فاستشهد بنص مالك في المشتري على من ملك الشيء بغير عوض. ولو كانا يفترقان عنده، كما أشار إليه بعض الأشياخ، لم يكن لاستدلاله وجه، ولم يساو بين مسألتين مفترقتين، على رأى هؤلاء المتأخرين الذين أشاروا إلى ما ذكرنا. وإنما التحقيق ما قدمنا مرارًا من أن الخطأ والعمد في إتلاف أموال الناس سواء، إلا أن يكون المتِلف له إذن خاص فيُخْتلفَ فيه. وقد ذكرنا مثل هذا في مسائل. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

ومما يلحق بهذا حكم اغتلال الوارث لما ورثه، فإنه متى طرأ عليه وارث يستحق جميع ما في يديه، ويحجبه عن الميراث، كولد طرأ على الأخ، أو طرأ عليه وارث فشاركه فيما ورث، كأخ طرأ على أخ، فإنه يطلب القادمُ من قَبضَ الميراثَ واغتله بما اغتل، بخلاف المشتري إذا اغتلّ فإنه لا يردّ الغلة لكونه بذل عوضا فيما اغتله، فلا يجتمع عليه حِرمانُ انتفاعه بالعوض الذي بذل، وحرمانُ الاغتلال، وأيضًا فإنه لو هلك ما اشتراه في يديه لم يرجع بالثمن، وكان ضمان الثمن منه. وقد قال عليه السلام: "الخراج بالضمان" (¬1) والوارث لم يبذل شيئًا، فيكون ضمانه منه، ولا حَرَمَ التَّجْرَ بثمن يحَسُن أن يرجع بالغلة. وكذلك الحكم في هذا الوارث لو لم يغتل، ولكنه لو سكن أو زرع، فإن للوارث القادم أن يرجع عليه بقيمة ما انتفع به. هذا هو الأصل في المذهب، وهو الذي قاله ابن كنانة. لكن ابن القاسم فرّق بين انتفاعه بنفسه، واغتلاله، فقال: يردّ الغلة، ولا يؤدي كراء ما سكن، إذ قد يكون في نصيبه ما يكفي، عن سكنى نصيب أخيه. فكأنه لم ينتفع بمال أحد ولا هو غاصب له، فإنه لا يغرم عن منافعه عوضا. وهذا يقتضي انه لو طرأ وارث حجبه حتى لا يرث شيئًا، فإن للوارث القادم أن يطلبه بقيمة ما انتفع به، لارتفاع العِلَّة التي ذكر ابن القاسم من كون (¬2) إذا شاركه في الميراث فإنه يمكن أن يكتفي بمقدار نصيبه الذي ورث. والجواب عن السؤال التاسع (¬3) أن يقال: إذا اشترى دارا فأكراها فأتى مستحق فاستحقها فله فسخ العقد فيما لم يَفتْ من المدة، وكراؤه لمن اشترى الدار فأكراها، كما تقدبم بيانه، (¬4) لو كان ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: كَوْنِه. (¬3) هذا جواب عن السؤال العاشر في تعداد الأسئلة. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: و. فيصر الكلام: ولو.

الذي اكراها شرط نقد جميع الكراء حين العقد، فلما جاز (¬1) المستحق ما فعله المكتري من عقد الكراء بالنقد قال المكتري: إنى أتخوف ميت المستحق، أن يَبطُل الكراء بما يطرأ على الدار، ولا نجده (¬2) عند المستحق مالًا أرجع فيه، فلا أقبل منه إجازته الكراء، فإن في المدونة: لا مقال له إذا كان المستحق مأمونا ولادين عليه، وإن لم يكتب مأمونا أو عليه دين كان من حىّ المكتري أن يسترد النقد، ويقال للمستحق: تجيز العقد على أنَك (¬3) تنتقد ما انتقده المكري وإنما تأْخُذُ بحساب ما سكن المكتري أوْ تفسخ الكراءَ. وقد تعقب الأشياخ ها هنا كون المستحق عليه دين, لأنه لو فُلّس، وأحاطت الديون بما في يديه، كان الساكن أحقّ بسكنى الدار من سائر غرماء المستحق فلا يلحق الساكنَ ضرر لكون المستحق مديانا. وأما التعليل يكون الدار مخوفة فإنه لا يجوز اشتراط النقد في الدار التي يُخاف سقوطها، وبطلان عقد الكراء فيها، كما لا يجوز كراء أرض غير مأمونة ويشتوط النقد فيها، على ما سيرد بيانه في كتاب الدور والأرضين، إن شاء الله. لكن لو كان النقد تطوَّعا من المكتري، وأراد بهذا التطوع مكارمة الذي أكرى الدار منه، لم يلزمه أن ينقد هذا الكراء للمستِحقّ إذا كان المستحق غيرَ مأمون على صفة ما ذكرنا، كمن وهب هبة أراد بها عين الموهوب له، فلم يقبضها حتى مات، فإنها لا تورث عنه. ولو أراد هذا المكتري بتطوعه بالنقد، بعد صحة العقد، ابراءَ ذمته من الكراء، (أو لم يؤدّ عين) (¬4) الذي أكرى له الدار لكان من حق المستحق أخذُ الكراء, لأنه تبرأ ذمته أيضًا بقيض المستحق (¬5) والكراء، فلم يبطل عليه غرض يكون له سببه (¬6) مقال. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَجاز. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: نجدِ. (¬3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: لا تنتقد. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَلمْ يؤَدِّ لِعَيْن ... (¬5) هكذا فيّ النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو. (¬6) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِسَببِه.

ولو كانت الدار إذا انهدمت بقي من نقْضها ما يَوفّي بالنقد الذي يأخذه المستحق لارتفعت علّة التخوّف منه، وكان من حقه أن يأخذ النقد. وإذا تقرر أنه بالخيار بين أن يجيز العقد أو يفسخه، فإنه بأن (¬1) لا يُمضي العقدَ إلا بعد علمه بمقدار ما ينوب ما مضى من شهور السنهّ التي لا حق له في غلتها وما ينوب المشهور التي تبقى من السنة التي يستحق هو غلّتها, لأنه إذا أجاز ذلك صار (¬2) ملك الفسخ فاستأنف الإجارة بثمن مجهول. وهذا الأصل مختلف فيه: يمنعه ابن القاسم، ويجيزه غيره. وكذلك الخلاف في جمع رجلين سلعتيهما في عقد واحد من غير معرفة كل واحد منهما ما ينوبه من الثمن. وعلى هذا خرج الاشياخ الاختلاف في هذه المسألة من إلاختلاف في جمع السلعتين. وكان بعض أشياخي يرى أن هذه المسألة ليست كمسألة جمع السلعتين، لأن هذا إذا أجاز عقدَ المُكري، فكأنه صار وكيلا له، والوكيل له أن يبيع بثمن لا يعرف حدَّه الموكِّل، لا سيما علي القول بأن المترقَّبات إذا وقعت فإنه يُقَدَّرُ وقوعها يوم الأسباب التي انقضت أحكامها، وإن تأخرت الأحكام عنها، وقد قدمنا هذا مرارا. ومما ينخرط في هذا السلك مكتري دار فاستُحقت منها بيت، أو استُحق منها جزء معلوم، كنصفها أو ثلثها مما يلحق المتكرىَ ضررُ باستحقاقه ومشاركته في السكنى، فإن المكرّي إذا كان له الردّ فلا تنبغيّ له الإجازة إلا بعد أن يَعلم مقدار ما يلزمه فيما يستحقُّ، على أحد القولين اللذين ذكرناهما الآن. وقد وقع في المدونة في هذا السؤال، لغير ابن القاسم أنه لو استُحق نصف الدار أو ثلثها لم يكن للساكن أن يتمسّك بما بقي لأنه يكون تمسَّكَ بمجهول. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف بأن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة: (قدْ).

وتأول سحنون أن مراد غير ابن القاسم بما قاله كونُ المشهور تختِلف قيمتُها، فلا يتصوّر ما اعتلّ به الغير، إلا أن تكون المشهور تختلف قيمتها. وأما إذا تساوت قيمتها فلا شك أن ما استحق معلوم، وما بقي من السَّنَة معلوم, لأن من اكترى دارا بعشرة دنانير فاستحق نصفها فإنه معلوم أن ما سكن، وهو نصف السنة، تنوبُه خمسة دنانير، وكذلك تنوب الخمسةُ الباقية، فما اعتل به غيرُ ابن القاسم من الجهالة لا يتصور ها هنا. وهذا الاستدراك الذي استدركه سحنون على ما قاله غير ابن القاسم تدارك (¬1) أيضا الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد على تأويل سحنون على أنه سكن بعض السنة، والشهور تختلف، بهذين (¬2) الشرطين تتصور الجهالة التي أشار إليها غير ابن القاسم. وأما إذا لم يسكن، والشهور مختلفة، فإنّ اختلافها لا تتصور معه الجهالة, لأنه يبدأ بالنصف، الذي لم يُستحق من أوَّل السنة، فيسكنه إلى آخرها، فلا تصور ها هنا جهالة. وممّا يلحق بما نحن فيه أن المستحق إذا أجاز العقد، فهل يحلّ محلّ المكتري (¬3) الذي تولّى العقد أم لا؟ مثالهُ أن يُكري رجل أرضا بِعبدٍ أخذه من المكتري، فأتى مستحق استحق العبد وأخذه من يد مكْري الأرض، فإن الكراء ينفسخ من مكري الأرض ومكتريها, لكون صاحب الأرض إنما رضي بكرائها بعبد بعينه لغرض له فيه، فإذا استِحُق العبد رجع فيما أعطاه عوضا عن العبد، وهي منافع الأرض التي أكراها. وهذا إذا لم يكن المكتري أفات الأرض بأن زرعها ولا بأَنْ حرثها، فإنه إن كان المكتري زرعها أو حرثها، فإن ذلك فْوت فيما بين المكري والمكتري. وإنما لمكتري الأرض أن يرجع بقيمة كراء السَّنَة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَدَارَكَهُ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والأوْلى: فبِهَذَيْن (¬3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: المكري.

التي وقع العقد عليها. وأما إن أتى من استحق العبدَ فلم يأخذْه، وقال: أنا أجيز العقد، وآخذ عوض العبد، وهي منافع العبد، وأحُلّ في ذلك محك مكتريها إذا ارتجعها. فأما إن وجد المكتري قد زرعها، فذلك فوت، وليس له ارتجاع الأرض، لما يتضمن ارتجاعها من إفساد زراعة المكترى وأما إن وجدها لم يزرعها المكترى، ولكنه قبلها (¬1) فإن فيه قولين: أحدهما: إن ذلك فوت أيضًا في حق المستحق، كما كان فوتا فيما بين المكري والمكتريء والقول الثاني: إن ذلك ليس بفوت، وللمستحق أن يعطي الحارثَ قيمةَ حرثه، ويأخذ الأرض. فإن أبى أعطاه الحارثُ قيمة كراء السنة. وهذا لأن المستحق لعين الشيء لم يأذن لمن هو في يديه أن يتصرف فيه، ولا سلّطه، على حرثه والتصرف فيه، ولا أذن له في ذلك، فكان من حقه أن لا يُفيت الأرض بحرث لم يَأْذن فيه، ولم يسلط المكتري عليه، بخلاف الحكم بين المكري والمكتري فإن المكريَ قد سلط المكتري على حراثة الأرض والتصرف فيها، فليس له أن يبطل حكم تصّرفٍ أَذِنَ فيه وسلط المتصرف عليه. وهكذا لو اشترى رجل عبدا فأعتقه، ثم أتى مستحق عيْن العبد، فإن له أن يبطل عتق المشتري لكونه لم يسلط المشتري على التصرف، فكان له ردّ العتق. ولو أنه أجاز بيع العبد، وأراد أن يأخذ عوضه، وكان عوضه جاريةً أعتقَها من هي في يديه، فهل له أن يرّد عتقها ام لا؟ هذا على القولين المتقدمين: ففي الموازية: يحل محل من استخق عين الجارية، فيرد عتقها. ولو استولدها من هي من يديه لأخذَها وقيمةَ ولدها. وخالفه سحنون ورأى أن من أجاز بيع ما استحقه، واراد أن يأخذ عوضه، فوجده في يد مشتريه قد حال سوقُه، فإنه يُمنَع من أخذه. كما يكون الحكم بين ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: قَلَبَها.

البائع والمشتري إذا استُحِق ما في يد أحدهما، وأراد أن يرجع فيما دفع، فوجده قد حال سوقه، فإنه يُمنَع من أخذه بعينه، وإنما له أخذ قيمته. وهذا عندي يجري على الأصل الذي ذكرناه مرارا، وهو المترقبات إذا حصلت هل يعد حصولها يوم وجودها، وكأنها فيما قبْلُ كالعدم، أو يقدّر أنها لَم تزَل من حين حصلت أسبابها التي أثمرت أحكامها وأُسنِد الحكم إليها، فإن قلنا: إنها إنما يقدر حصولها يوم المحاكمة، وفيما قبل ذلك هي كالمعدومة، فإنه تقوى ها هنا طريقة ابن المواز. وإن قلنا: إنه أجاز العقد فكأنه لم يَزَلْ ماضيا، فكأنه كالإذْن في التصرف، فتقوى طريقة سحنون وبالله التوفيق. ومما يلحق بهذا الاسلوب ما ذكره في المدونة فيمن أوصى بوصايا فأنفذها الوَصي، ثم أتى من أثيت أن الميت الذي وَصَّى مملوك له، وحُكم له بذلك، فإنه إن كان الميت مشهورا بالحرية فلا تباعة على الوصي، ولا تلزمه غرامة ما أنفذه من وصاياه. ولو باع في وصاياه سلع الميت لكان لمن استحق رقبة الميت أن ينقض البياعات إذا لم تتغير السلع في يد من اشتراها, ولكن بعد أن يدفع أثمانها لِمنَ اشتراها من الوصي. وكذلك قال فيمن شهد شهود بموته على مشاهدة شخصٍ ميتا، كقتيل قتل في معترك، فإن الشهود الذينْ حكم القاضي بشهادتهم إن كان تعمدوا شهادة الزور (ترد فيما باع من تركته، و) (¬1) كانت باقية في أيدي مشتريها لم تتغير، أو كانت فاتت أو تغيرت. وأما إن اشتبه عليهم بأن رأوا شخصا؟ ميتا فاعتقدوا أنه فلان الذي شهدوا بموته أو تقلوا ذلك عن شهود أشهدوهم على شهادتهم، فإن البياعات ماضية إذا تغيرت في يد مشريها، وإن لم تتغير فللقادم الذي شُهِد بموته أن يأخذها من يد مشتريها بعد أن يدفع إليه الثمن. وأما زوجته فترد إليه في القسمين جميعًا، تعمدوا الزور في شهادتهم أو كانوا شبّه علمهم، فأمضى العتق في المدونة إذا كان الشهود شبه عليهم، ولم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يرد ما بيع من تركته كانت ...

يمضه إذا كان تعمدوا الزور. وفرق بين حكم الزوجة وحكم البياعات، ولم يفرق يينهما إسماعيل القاضى في الميسوط، ووأى أن الحكم يزول (¬1) عصمة الزوجة نافذ إذا زوجها (¬2) آخّر، فأمضى الحكم وإن كان غلطا في الباطن في الزوجة والمال, وإن اختلقت الحرمة فيهما. وكذلك قيل أيضا: إن العتق يردّ، ولو كان الشهود شُبه عليهم. فصار في امضاء العتق قولان، وفي امضاء الحكم. بزوال العصمة عن الزوجة قولان: فالتفرقهّ بين الزوجة والبياعات عند من ذهب إلى هذه الحِرمة (¬3) الفروج والاطلاع على العورات وانتشار الحرمة والمصاهرات، والتسوية بين العصمة وبياعات السلع لم. لأجل نفوذ الأحكام بما هو صواب في الظاهر. واعلم أن هذه قاعدة التفرقة بين كوفي الشهود شهدوا وقد تعمّدوا الزور، أو شهدوا غلطا منهم، قد اتفق المحققون أنه لا يتصور فيها فرق واضح بين حالتي الشهود حتى (إذا مد اليح) (¬4) الشيخ ابا القاسم السيوري إلى أن قال في هذا وفي غيره من أمثاله الذي لا يتصور قيها فرق: إنهما قولان جمعا في التأليف، وكأن السامع سمع تخصيص السائل لمالك بأن الشهود تعمدوا الزور، فقال: تنقض الأحكام المبنية على شهادتهم. ولو سئل حينئذ سؤالا مطلقا غير مقيد بتعمد الزور لأجاب بنقض الأحكام. وسئل مرة أخرى، وقد قُيِد له السؤال بشهادة شهود شبِّهَ عليهم؟ فقال: تمضي الأحكام. وقد (¬5) أطلق السّؤال حينئذ لقال أيضًا تمضي الأحكام. وهذا هروب من الاعتراف بأنه لا يتضح له فرق إلى ما يوقع الرواة في جهالة أو تكذيب. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِزَوال. (¬2) هكذا في النسختين، ولعيالصواب , تزوّجَهَا. (¬3) هكذا في النسختين، ولعا الصواب: لِحِرمة. (¬4) هكذا في النسختين. (¬5) هكذا في النسختين, ولعل الصواب: وَلَوْ.

وكذلك اعتذر القاضي إسماعيل عن هذه التفرقة بأن قال: إنما فرق مالك بين كون الشهود تعمدوا الزور، أو شبه عليهم، إذا كان الورثة هم الذين تلوا (¬1) بيع مال الميت. واما لو حكم بذلك الحاكم لم يفترق الحكم بين كونهم شهدوا بالزور أو شُبّه عليهم. وهذا الذي تأولوه نص على خلافه في المدونة, لأنه ذكر في تمثيل كون الشهود شبه عليهم، قال: أو شهدوا عند القاضي على شهادة قوم أشهدوهم. بنص (¬2) على التفرقة وإن كان ذلك بحكم. وغير الشيخ أبي القاسم السيوري من الأشياخ الحذاق يرى ما رأى من الفرق لا يتصور، فاقتصر على اعترافه بذلك، ولم يتكلف فرقا ولا تأويلا، لكن قصارى ما يمكن عنده أن يقال في هذا: إن الشهود إذا تعمدوا الزور صاروا بشهادتهم كمن غصب مال هذا الذي قَدِم حيًّا فباعه، فإن لمستحقه أن ينقض البيع، وينقض العتق أيضًا، بخلاف كون الشهود شبّه عليهم, لأنهم إن شبه عليهم لم يحلوا محل الغصّاب لهذا المال، فلم يُرَدَّ اذن تغير. وهذا أيضًا لا يتضح, لأن التعويل، إن كان على حكم القاضي، فالقاضي لم يخرج في حكمه، ولا تعمد باطلا، بل ماجوز (¬3) في حكمه فلا يلتفت إلى ما وراء ذلك من كون الشهود تعمدوا الكذب أو لم يتعمدوه. وإن كان الحكم لا تأثير له فكذلك أيضًا يجب للمستحق أخذ ماله وإن تغير, لأنه لم يأذن في التصرف فيه، وقد بيع ملكه عليه بغير إذن منه غلطا من بائعه، فإنه لا ينبغي (¬4) ملكه لهذا البائع. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تَوَلَّوْا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فَنَصّ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَأجْورٌ. (¬4) هكذا في النسختين.

والنكتة التي يجب أن ينظر فيها في. هذه المسألة أنَ الحاكم (¬1) ها هنا بما ظاهره الصواب والحق وباطنه خطأ وباطل، فهل يغقب حكم الظاهر على حكم الباطن فتنفذ الأحكام، أو يغلب حكم الباطن على حكم الظاهر فتردّ الأحكام؟ هذا هو وجه التحقيق عندي في المسألة. وهذه النكتة يجري عليها فروع كثيرة قد اختلف بعضها أهل المذهب، وقد عُرف أن المشهور من المذهب في امرأة المفقدد إذا حكم بِتمْوِيتِه ثم قدم حيًّا، وقد تزوجت رجلًا بني بها، أنها لا تُردّ إلى الأَوّل. واختلف قوله إذا جاء المفقود حيّا، وقد عُقِد نكاحها ولم يدخل الزوج الثاني بها، هل يفسخ النكاح أم لا؟ وقال في المنعى (¬2) لها زوجها انها ترد إليه إذا قدم حيّا، وإن دخل بها الزوج الثاني, لأن هذه لم يجتهد في أمرها، فيقول على حكمه في الظاهر بالصواب وإن كان خطأ في الباطن. وكذلك إذا حكم الحاكم بطلاق امرأة على زوجها لأجل عدم الإنفاق، فأتى الزوج فوجدها قد تزوجت، فأثبت أنه قد ترك لها الإنفاق. وكذلك إذا شُهِد عليه بأنه قال: زوجتي عائشة طالقٌ. فادّعى أن له (¬3) بلد آخر بعيد زوجة أخرى تسمى عائشة، وهي التي قصد طلاقها، فلم يقبل دعواه، فتزوجت عائشة المحكوم بطلاقها ثم أثبت ببيّنة أن له ما ادعاه من زوجة تسمى عائشة. وكذلك إذا باع القاضي سلع رجل غائب في دين قضاه لمن أثبت الدين على الغائب، ثم أتى الغائب فأثبت أنه قد قضى الدين. فقد قيل: إن هذا الغائب يمكّن من أخذ سِلَعِه المبيعة إذا دفع للمشتري ويرجع مشتريها على من دفع إليه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّ الحاكم [حَكمَ] ها هنا .. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المَنْعِيّ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِبَلدَ ..

الثمن. وكان بعض أشياخي يرى أن مقتضى قول مالك أن يكون للغائب إذا ثبت أنه قد قضى الدين، وأرتجع ما بيع (¬1) انه طلب باطلا فأشبه شهود الزور، وفي هذا الذي قال نظر؟ وكان أيصَا يرى أن ما ذكره في المدونة أن الموصى إفا انكشف أنه مملوك يعد نفوذ وصاياه لا يحسن الخلاف فيه، ويمكن من رد الوصايا لأن الحكم لم يقع عليه، وإنما وقع على غيره، بخلاف من حكم موته فجاء حيّا. وفي المجموعة في من جعل أكثر زوجته بيدها إن غاب عتها مدة معلومة، "فاختارت الفراق لأجل غيبته، وحكم لها الحاكم بذلك, فأثبت أنه لم يغب: أنها ترد إلى عصمته، ولو دخل بها الثاني. وكان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد يرى ان هذه المسائل يعتذر (¬2) فرق واضح بين بعضها عن بعض، والخلاف يحسن أن يجري في جميعها من بعضها في بعض. على أنه قد قيل في امرأة المفقدد: إن القاضي لما حكم على زوجها المفقود، بالفراق، وكان متعرّضا في حكمه إلى جواز الخطأ عليه، وأنه قد لكون حيّا, فتجويره لهذا صار كالحكم بإمضاء الخطأ الذي ينكشف في ثاني حال وقوعه منه. وعندنا روايتان في القاضي إذا حكم بشهادة من اعتقده أنه عدل، ثم بعد الحكم ثبت إنه كان مستَجْرَحَا هل له نقض حكمه أم لا؟ وقيل في هذا: إنما يحسن الخلاف فيه لأن تعديل الشهود كان عنده بالظن أن الشهود المعِدَّلين صدقوا، فالتجريح بعد ذلك مبني أيضًا على إن الشحهود المجرِّحين صدقوا، ولا يرد ظن يظن، وقد أتفق على أن القاضي إذا حكم بحكم أخطأ فيه النصَّ الجليَّ أن حكمه يردّ لأجل القطع على خطئه. وإذا قدم المفقود حيّا، أو المشهود بموته قدم أيضًا حيّا، فإن الخطأ في ¬

_ (¬1) بياض في النسختين بمقدار كلمتين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصوإب: يَتَعَذَّرُ.

الحكم مقطوع به أيضًا. ولعلّنا أن نتكلم على هذه المسائل كل مسألة في الكتاب الذي وضعت فيه في المدونه، ومما يلحق بهذا ما ذكره في المدونة في رجل بني لرجل يناء، فأتى رجل فأثْبت أن الباني مملوك له، فقال: يرجع المستحق بقيمهَ إلبناء على من له البناء، وصار العبد كغاصب وهب ما في لديه عن (¬1) ملك غيره لرجل فانتفع به الموهوب له وأفاته، فإنه قد قدمنا الاختلاف فيمن يبْدأُ المستحِق بالرجوع عليه، هل الواهب أو الموهوب، أو يخير بينهما؟ وهذا الخلاف في الرجوع على الغاصب والبداية ترتفع (¬2) ها هنا, لأن العبد الواهب لمنافعه إذا أتبعه سيده يقيمتها، وما في لديه من قيمتها مال لسيده، فكأنه لم يأخذ غرامة. عن أحد، بخلاف الغاصب إذا وهب فإن المستحِق إذا بدأ به أخذ مال غيره. وهذا واضح، ولكن حمل ابن المواز المسألة على أن السيد إذا وجد البناء قائما. ولو وجده مهدوما لم يرجع على صاحب البناء بشيء، وقدّر أن العوض عن البناء إنما يستحقه السيد إذا كان البناء موجودا فسلمه لمن بُني له، فإذا كان معدوما فإئه لم يسلّم للباني ما يطالبه بعوضه. وكأنه رأى أن التعليق (¬3) إذا ذهب فكأن الذي بني له لمن (¬4) يتسلم ما يكون عوضا للمنافع. وقد قيل في الصاتع إذا فرغ من الصنعة فضاع الثوب المصنوع عنده ببينة، إنه لا أجر له، وإن كانت حركاته قد فاتت وكأنه أودعها في الثوب. وسنبسط الكلام على هذه المسألهّ في كتاب تضمين الصناع. ومما يلحق بهذا ما يحدثه المشتري يوجه شبهة: من اششرى دارا فهدمها ¬

_ (¬1) هكذا في النسخين، ولعل الصواب: مِن. (¬2) هكذا في النسختين، ولحل الصواب: يَرتفع. (¬3) هكذا في النسختين. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمْ.

فإن المستحِق إذا أتى لا يطالبه بقيمة الهدم, لأنه غير متعدّ في الهدم، وإنما هدم ما ظنّه ملك نفسه لمصلحة، فلم يضمنه. وكذلك الخلخال لو كسره لم يضمن كسره. وأما لو كان ثوبا فقطعه فإن ابن المواز رأى انه يضمن قيمته القطع. وكذلك لو كانت فضة فكسرها فإنه يضمن قيمة ما أفسده. والفرق يينهما بأن الدار إذا هدمت يمكن أن يعاد البناء لهيئته، والثوب إذا قطع لا يمكن أن يعاد لهيئته. وهذا الفرق لا يتضح، ولا مناسبة بينه وبين الأصل الذي يتفرع منه هذا وغيره. وظاهر المدونة أنه لا يضمن الثوب أيضًا إذا قطعه. والأصل الذي يناسب هذا الفرع وأمئاله أنا قدمنا مرارا أن الخطأ والعمد في أموال الناس سواء، ما لم يقارن الخطأَ اذنٌ خاصّ، فإنه اختلف فيه على قولين: هل يلزم به الضمانُ أم لا, وهذا الأصل يُجري لك الخلافَ في الدار إذا هدمت، والثوب إذا قطع. ومما يلحق بهذا لو اشترى أمة بكرا فافتضها، ثم أتى من استحقها، فإنه لا يخرم ما نقصها الافتضاض عند مالك وابن القاسم، ويضمنه عند سحنون. وهذا أيضًا يجري على هذا الأصل الذي ذكرناه ها هنا ولكن بع وإسناده إلى أصل آخر، وهو أنه قد تقرر (¬1) المشتري إذا انتفع. بما اشتراه، مثل ان يكون ثوبا لبسه حتى أبلاه، ثم أتى مستحقه، فإنه يغرمه قيمته، لكون أنه انتفع بمال غيره، وصان بذلك مال نفسه. وإذا. لم ينتفع به وأتلفه غلطا ففيه القولان المذكوران، فينظر في الوطء هل هو يجري مجرى اللباس للثياب، والطعام في الفوت، فيكون المشتري ضامنًا للافتضاض، أو يلحق بما لا منفعة فيه فيجري على الأصل الثاني (¬2) إتلاف المال خطأ بإذن. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تقرّر [أَنَّ] ... (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الثاني [في] ...

والجواب عن السؤال العاشر (¬1) أن يقال: أما من اغتلّ ما في يديه ثم استُحِق عليه، فلا يخلو من أن يكون اغتل بوجه شبهة، معتقدًا لإباحة اغتلاله، أو لإباحة انتفاعه بنفسه فيما في يديه، أو معتقدًا تحريم ذلك عليه. فأما المغتل معتقدًا للإباحة بوجه شبهة فإنه إذا أتى (¬2) ما في يديه لم يغرّمه الغلة، وكانت الغلات له لأجل ضمانه. وهم خمسة أنواع من جهة الأحكام، فتنزع ما في يد المغتل باختياره، أو باختياز المغتل، كمن اشترى عبدًا فاغتلّه ثم اطّلَع على عيب فاختار المشترى ردَّه على بائعة فإنه لا يردّ الغلات إذا رد العبدَ أو غيره مما اغتله ثم رده بالعيب. أو مشتر اشترى عبدا فاغتله ثم أفلس، فلبائع العبد أن يسترد العبد إن شاء، وإذا استرده لم يطالب مشتريَه بغلته. فهذا الرد باختيار البائع أو باختيار المبتاع، أو يكون الرد باختيار ثالث غير البائع والمشتري، وهو الشفيع، إذا استحق شِقْصًا بالشفعة واختار أخذه من يد مشتريه بالثمن الذي وَزَن فيه، فإنه لا يستحق أن يأخذ الغلة. وكذلك من اشترى من غاصب لا يعلم أنه غاصب، ثم أتى سيد العبد المغصوب فاختار أخذ عبده، ونقض بسعه، فإنه لا مطالبة له، على المشتري، بغلة. والقسم الخامس ما نقض فيه البيع من غير اختيار المتبايعين، ولا باختيار رجل ثالث غيرهما، كمن اشترى عبدًا شراء فاسدًا، فاغتله، ولم يحلْ وهو في يديه، ولا تغيرّ العبد في نفسه، فإن القاضي إذا نقض هذا البيع لم يأمر المشتريَ بردّ الغلة. هذا حكم بوجه شبهة. وأما من اغتل متعديا، فقد تقدم القول فيه كتاب الغصب، وذكرنا ¬

_ (¬1) هذا السؤال ساقط من تعداد الاسئلة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أتى [المستحِقّ لما] ...

أنه يرد الغلات، في إحدى الروايات، قولًا مطلقًا، ولا يردها في الآخر قولًا مطلقا. واختلف إذا لم ينتفع الغاصب بما غصب، مثل أن يكون غصب دارًا فأغلقها، فإن في تضمينه كراءها قولين ذُكِرا في كتاب الغصب. وكذلك إن لم يكن انتفع بها ولكنه سلط غيرَه على الانتفاع، كغاصب لعبد باعه ممن لم يعلم أنه غصب، فإن مشتريَه لا يردّ الغلة كما تقدم. وأما تغريم الغاصب لما اغتله المشتري، ففيه قولان أيضًا، وهما مبنيان على ماذكرناه الآن من تضمينه ما مَتع انتفاعَ مالكه به وإن لم ينتفع هو بنفسه. وأما الوارث, فإنه يحل محل ورثتة (¬1)، فإن ورث ولد أبا، وأخذ من تركته عبدا غصبه, أو دارا اغتصبها، فاغتلها وهو لا يعلم ان أيا غصبهما، فإنه تؤخذ منه المغلات كما كانت تؤخذ من أبيه لما حل محلّه فيما ترك فملَكة بغير عوض حل محله فيما اغتل أيضًا مما ورث، فكما كان أبوه يردّ الغلات فكذلك يردها هو. وأما وارث المشتري، فإنه يحل محل أبيه أبيه أيضًا: كونه لا يردّ الغلة كما لا يردها أبوه. وأما الموهوب له لدار المغصوبة، أو العبد المغصوب وهو لا يعلم بكونهما مغصوبين، فإنه إن كان الواهب له مشتريا فإنه لا يرد الغلة أيضًا، ويحلّ في ذلك محل وارث المشتري. وأما لو كاد الغاصب هو الواهب، والموهوب له لا يعلم بكونه غاصبا، فإن في تغريم الغاصب ما اغتلّه الموهوب له قولين: نفى عنه اشهب الغرامة فيما اغتله الموهوب له, وأثبتها عليه ابن القاسم. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مُوَرِّثِه.

وهذا الخلاف أيضًا مبني على تضمين الغاصب ما حَرمَ صاحبَه من الانتفاع ومنعه منه. وأما الموهوب له له فهل يغرم الغلة ام لا؟ أما إن كان الغاصب الواهب موسرًا، فإن الموهوب له لا يغرم الغلة. وأما إذا كان معسرًا فإن ابن القاسم أثبت عيه الغرامهّ، ونقاها اشهب. فأين القاسم رأى أن الموهوب له هاهنا، كالوارث للغاصب، وقد قدمنا إن وارثَ الغاصبِ يرد الغلة لما اغتلِّ (1) ما لم يدفع فيه عوضا ولا دفعه ابوه الذي ورثه عنه، فكذلك الذي وهبه الغاصب فإفه اغتل ما لم يدفع فيه عوضا, ولا دفعه فيه من وهبه. والأصل في جميع هذه المسائل قوله عليه السلام "الخراج بالضمان (¬2) " وكأن هذا الباب باب التسبب، فنيه على أن الخراج سبب ملكه الضمان، وهذا العموم ذُكر أنه خرج على سبب، وهو أن رجلين تخاصما عند النبيّ عليه السلام في خراج عبد رُدَّ يعيب فقال عليه السلام: "الخراج بالضمان" (2) مشيرا بذلك إلى أن المشتريَ لما كان ضامنا لما كان في لديه لو هلك، ولا يرجع بالثمن، قكذلك يجب أن تكون له المنفعة يالغلة، قإن التَّوى ضدّ النماء، فإذا كان النقصر والتلف على من في يديه العيد المردود بعيب، فكذلك يجب إليه أيضًا. وقد اختلف الأصوليون في العموم إذا خرج على سبب هل يقضى على سببه، وتكون الألف والسلام. للعهد، والمراد يها السبب التىِ أجيب عنه باللفظ العام، أو يكون اللفظ متعديا شاملًا للسبب وغيره, فإن قلنا: إنه مقصور على السبب لم يتعلق به في (¬3) المشتري إذا اغتل، فأتى من أستحق ما في يديه، ولا في ¬

_ (11 هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لمّا. (¬2) سيق تخريجه. (¬3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حذف في.

الأربع مسائل التي ذكرناها. وإن قلنا: إنه يجب حمله على العموم الذي اقتضاه الخطاب في اللغة حسُن التعلق به في جميع المسائل التي ذكرناها. لكن يبقى ها هنا نظر آخر، وهو تحقيق الضمان الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بأن الغاصب يضمن عين ما اغتلّ إذا هلك، ويرد قيمته إن كان عبدًا أو دارًا. وإن كان هلاكه بغير سبب منه يحسن التعلق فيه بقوله "الخراج بالضمان" والمشترىِ إذا هلك ما في يديه من غير سببه لم يضمنه للمستحِق، ولا يغرم له قيمته، وإنما يُتصور فيه الضمان من جهة أنه إذا هلك ما في يديه لم يرجع بالثمن على الغاصب الذي باعه منه، فصار الضمان يُتصور في الغاصب في الأعيان، ويتصور في المشتري من الأثمان، وقد ذكرنا أن الحديث خرج على سبب، وهو التحاكم في غلة ما رُدَّ بعيب، فقال عليه السلام: "الخراج بالضمان". والمشتري إذا هلك ما في يديه قبل أن يطلع على العيب لم يرجع بالثمن على البائع، ولم يضمن غير ما في يديه. فصار الضمان ها هنا كالمشار به إلى ما تُضمن عينه أو يضمن ثمنه. وكان الشيخ أبو القاسم السيوري أفتى بأن الغلة يردها المشتري من الغاصب وإن لم يكن علم أنه غاصب، ويقول: قد اغتل المشتري مال غيره من غير إذن مالكه في التصرف فيه، ولا تسليطٍ للمشتري في ذلك، فيجب أن يردّ غلّة ما اشتراه، كما وجب باتفاق ان يردّ عين ما اشتراه. وقد بيّنا على مأخذ الخلاف في هذا، ومنشأ النظر فيه. وإذا وضح حكم اغتلال الغاصب وما فيه من الاختلاف في حكم اغتلال المشترى، فالذي يغتَلّ، هو وارث أو موهوب له، لا يردّ الغلة إذا لم يتحقق كون من ورثه غاصبا. وهو محمول على انه اغتل بوجه شبهة لا على جهة التعدي. ولو اغتل وهو غير متيقنٍ الإباحة. ولا متيقن التعدي، وإنما هو على الظن، مثل أن يشتري دارًا من رجل زعم انها لرجل غائب وكّله على بيعها، فإن

سحنونا عوّل في ذلك على ما تدل عليه قرائن الأحوال أو تقييده (¬1) من الظنون بصدْق الوكيل، فقال: إن كان هذا الوكيل ينظر في الدار، ويقوم بأمر الغائب، فأتى الغائب فأنكر الوكالة فإن المشتري لا يردّ الغلة. وإن كان لا سبب بينه وبين الغائب يدل المشتريَ على أنه صدق في الوكالة، فإنه يردّ الغلة. ولو كان هذا الاغتلال لمن اشترى حرًّا يظنه عبدا فتبين أنه حر، فإن المذهب على قولين، في رد مشتريه ما اغتل منه، فالمشهور والمعروف من المذهب أنه لا يرد الغلة، وذهب المغيرة إلى أنه يرد الغلة. وهو اختيار شيوخنا الحذاق، لأجل أن الأصل في ردّ المغتل الغلة أو بقائها في يديه قوله عليه السلام "الخراج بالضمان" والحرّ لا تُضمن عينه إذا بيع على أنه مملوك، ولا يضمن ثمنه لأنه لو مات في يد مشتريه لرجع بالثمن على من باعه منه لكونه اشترى مالًا يصح تملكه في الشريعة، ولا عقد البيع عليه، ولا يضمنه بائعه بقيمته أو بالثمن الذي أخذ فيه، فوجب رد الغلة لعدم تصور الضمان في عين هذا الحرّ في ثمنه. ولو اشتراه وله مال لكان المال تبعًا للحرّ. ولو جُرِح هذا الحر فأخذ منه أَرْشا، لكان هذا الأرش لهذا الحر. وكذلك لو وُهب له مال فإنه إذا حكم بحريته بقي المال له. ولو كانت جاريةً فوطئها وهي بكر أو ثيب، لم يكن عليه في الوطء، غرامة عند مالك وابن القاسم. وذهب المغيرة القائل برد الغلة إلى انه يرد عوض الوطء كما يرد الغلة، وعوض الوطء عنده ها هنا صداق المثل. واعلم انّا قدمنا في كتاب الغصب اختلاف فقهاء الأمصار فيمن وطئ حرّة غير ممكِّنة له من نفسها، بل أكرهها على وطئها، هل يلزمه لها صداق المثل أم لا يلزمه لها غرامة، بل يقتصر فيه على الحد المشروع في الزنا؟ وأشرنا إلى سبب الخلاف في هذا، وهوا لنظر في كون منافع الفرج هل هو من الحقوق المالية التي يلزم في استهلاكها الأعواض، أو ليس هو من الحقوق المالية بدليل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: تفيده.

أن منا تزوّج امرأة، وبذلك لها صداقًا فإنه لا يحلّ له أن يُكري فرجَها من غيره. وورد يشعر بأن منافع الفرج ليست بمال يقوَّم، أو يقال بأن الشرع لما منع استباحته إلا بمال، وما سواه مما هو بمال أياح تملكه يغير مال. وهذا يشعر بأنه من الحقوق المالية، أو يقال جوابا عن هذا: إن التعبد يمنع من استباحة الفروج إلا بعوض، من يأب العبادات المشروعه لا من باب المعاوضات والمعاملات وقد تقدم بيان هذا في كتاب الغصب. فإذا تقرر هذا أو قلنا: إنه ليس من الحقوق المالية ولكنه مما ينتفع به، ويصان به المال، جرى على القولين فيمن أخطأ على مال الغير هل يغرمه لصاحبه أم لا إذًا قارن هذا الخطأ إذن، كمن اشترى عبدا فقتله خطأ، فإن في إلزامه غرمه قيمته قولين، تقدم ذكرهما مرارا، هذا وجه التحقيق في منشأ الخلاف في إلزام واطىء الحرة على أنها أمة، وقد اشتراها، بصداق مثلها. والجواب عن السؤال الحادى عشر أن يقال: قد قررنا في كتاب الرهن النكته التي يعلم منها ما يضمن ومالا يضمن, ومنشأ الخلاف في فروع هذا الباب، وهو من قبض الشيء لمنفعة نفسه لا لمنفعة دافعه إليه فإنه يضمنه، ومن قبضه لمنفعة دافعه ولا منفعة لقابضه فيه فإنه لا يضمنه. ومن اشترى عبدا من سوق المسلمين فإنه معلوم إنما قبضه لمنفعة نفسه فيجب عليه ضمانه، على مقتضى ما أصلناه، فإن أقياستحق استحقه، وطلب أخذ عينه، فدافعه مشتريه عن ذلك، فإن قال له: ضاع لي, فإن المعروف من المذهب أن هذا يجري مجرى الرهبان والعواري، فيصدَّق المشتري ها هنا في دعواه ضياع مالًا يغاب عليه، كالعبد والدابه، (أو مرتهنا) (¬1) ما لم يتبين كذيه بأن يدعىِ الموت بمكان به جماعة لا يخفي عنهم موته، (ويصير كأنه لا يغاب عليه، دلالة على صدق المشتري في دعواه التلف والموت، كما لو أقام البينة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

على ضياعه، على حسب ما بسطنا القول فيه، وفي قيام البينة في كتاب الرهن) (¬1). ولو كان ادعى الضياع فيما يغاب عليه, كالثوب والطعام، فإن المشهور من المذهب أنه لا يصدَّق، كما لا يصدق في الضياع إذا ادعى ذلك في الرهن والعواري. وذهب أصبغ إلى أنه يصدق المشتري في الضياع فيما يغاب عليه مع يمينه. وإذا قلنا: إنه لا يصدق، فهل يستحلف على الضياع، وإن كان لا يد من غرامته القيمة, أم لا؟ المعروف من المذهب أنه يستحلف على ذلك. ويتخرج على قول آخر أنه لا يحلف على ذلك. قال مالك في مثل هذا: لو أحلفته على الضياع ما ضمَّنتُه وكأن هذا القول المخرج وجهُه أن اليمين مقتضاها في الشريعة تصديق الحالف. وإذا حلف المشتري ها هنا على الضياع وجب تصديقه، وهو إذا صدِّق لم يضمنْ، كما إذا صدقته البينة في دعواه الضياع، فإنه لا يضمن. وإذا كان أمران متلازمان فإثبات أحدهما إثبات للآخر، واليمين يقتضي التصديق، والتصديق يقتضي ففي الضمان. فهذا وجه القول المخرج. وأما وجه القول المشهور فإن ها هنا حقّين: طلب المستحق للعين وطلبه بقيمتها إن تلفت. قإن حلف على الضياع لم تتضمن يممِنه إلا المقصود بها، وهو أنه ما أخفى العين. وأما الغرامة والتضمين فإنه ليمس المقصودَ باليمين، فيبقى على أصله. وبالجملة فإن هذا ينبني على الخلاف في أيمان التّهم، تتعلق وتثبت ثبوتا مطلقا، على حسب ما قدمناه عن بعض الأشياخ في إطلاق هذا إطلاقًا عامًا (¬2) ولمسائل هذا النوع ومخالفة غيره له في هذا. وإذا صدقنا المشتري في الضياع، فإنه لا يرجع بالثمن على البائع منه، لأن الضياع ها هنا كالهلاك، وقد قدمنا أن العبد إذا مات في يديه لا يضمنه, وإن ثبت استحقاقه لمدعيه, وإنما يأخذه مدّعيه بعوضه على البائع، فيغرِّمه الثمن أو القيمة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

ولو باعه المشتري لكان للمستحق إجازة بيعه، وأخذ الثمن، ويصدق المشتري في مبلغ الثمن إن ادعى ما يشبه. وإن ادعى مالًا يشبه من جهة الأسعار لم يصدق، وإن ادعاه من جهة عيب حدث عنده يالمبيع فإنه: إن كان المبيع حيوانا صدِّق في ذهاب جزء منه، كما يصدق في ذهاب جملته، ومن صدّق في ذهاب الكل صدق في ذهاب الجزء. وإن كان عرضا جرى الخلاف في تصديقه على القولين المتقدمين: فالمشهور أنه لا يصدق في الجزء كما لم يصدق في الكل، وعلى مذهب أصبغ يصدق في ذهاب الجزء كما صدق في ذهاب الكل. وكذلك يجري الخلاف في تصديقه في التاريخ الذي وقع فيه البيع، إذا اختلفت الأسعار باختلاف التواريخ، فإن بهان سعره يوم يضمنه وهو يوم القيام عليه بالاستحقاق أرفعَ من سعره في التاريخ الذي زَعَم أنه ضاع فيه فإنه لا يصدق فيما يزعمه من نقص القيمة الواجبة عليه، على القول المشهور، ويصدق على مذهب أصبغ. والجواب عن السؤال الثاني عشر أن يقال: إذا كان بيد رجل دار، فأتى رجل فادعى انها له، فلا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يصدِّقه في دعواه مَن الدار في يديه. والثاني: (¬1) ينكر ذلك عليه. فأما إن صدقه في دعواه فالحكم تسليمها للمدعي. فإن تراضيا بأن يدفع من في يديه الدار بالعبد (¬2) ويسلم الدارَ مدعيها إِلىَ من هي بيده، فأصل المذهب ومقتضاه أن هذا يجري مجرى البياعات. في حكم الاستحقاقات، فيرجع كل واحد منهما، إذا استحق ما في يديه، في العِوَض الذي عاوض به، فإن استُحِق ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، والاوْلى إعادة: أَنْ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الباء.

العبد رجع المستحَقُّ من يده العبدُ في عين الدار من غير خلاف، كما لو باع عبدا بدار، فاستِحق العبدُ، فإنه يرجع في عين الدار. وأما إن استحقت الدار فالمعروف من المذهب أن من أُخِذت الدار من يديه أنه يرجع فيأخُذُ العبدَ الذي دفعه عوضا عنها. وقيل: لا يرجع في العبد، ولا مقال له في هذا الاستحقاق، لأنه لما صدَّق المدعيَ وأقرَّ بأن الدار ملكٌ له تضمّن اقرارُه هذا تكذيبَ بينة المستحق للدار الطاري عليها، وإذا كُذبت بينةُ المستحِقِ فقد صار معترفا بأن الدار أُخِذت من يده بغير حق بل بحكم الغصب، ومن اشترى دارًا فَغصبت منه بعد أن قبضها، فإنه لا مرجع له على بائعها بإجماع، فكذلك هذا. من هذا الأسلوب في هذا المعنى الاختلاف المشهور فيمن أودع وديعة عند رجل، فأتى رجل ممن (¬1) عنده الوديعة فقال: فلان أرسلني إليك لنقبض منك الوديعة التي أوْدعك فدفعها إليه، فأتى المودِع فكذَّب الرسول، وقال: لم أبعثه إليك، واستغرمَ الوديعةَ دافعَها في تعدّيه في الدفع لما أودعه، فأراد المودَع لمَّا أُغرِم الوديعةَ ليرجع بها على قايضها، فقيل: يمكّن من ذلك، وكأن من ذهب إلى هذا رأى أن مجرد الدفع لا يقتضي تصديق الرسول تصديقا مطلقا، وإنما صدّقه بشرط أن يأتي صاحب الوديعة فيصدّق الرسولَ، فإذا كذّب الرسولَ فإنه له أن يرجع على الرسول بِفِقْدَ انِ الشرطِ الذي دفع الوديعة عليه. وقيل: لا مرجع له على الرسول, لأنه كالمصدق له في الظاهر والباطن، ومعتقدا أن صاحب الوديعة ظلمه في غرامتها، فلا يظلم هو غيره. واعلم أنه لو وقع للتصريح (¬2) حين الدّفع بأحد هذين الوجهين، إما كون دافع الوديعة يقول: أدفعها إليك بشرط أن يأتي صاحبها فيصدقك، فإن أتى فكذبك أعدتَها إليّ، فهذا لا يُختلف أن الدافع إذا غرمها رجع بها على الرسول. أو يقول: أصدقك في الظاهر والباطن، فإبئ أتى صاحبُها فغرمنيها فإنه ظلمني وظلمك، فلا رجوع لي عليك. فهذان الوجهان لا يحسن الخلاف فيهما. وإنما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِمَن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التصريح.

يحسن الخلاف في الدفج مطلقا، هل يُحمل على هذا الوجه أو على الوجه الآخر؟ وقد قال الطحاوي: مذهب أهل المدينة وابن أبي ليلي أن الصلح على الإقرار لا يرجع المقِرّ مدعَّى عليه بما دُفِع إليه إذا وقع الاستحقاق فيما أقرّ به المدعَى عليه، هذا حكم الاستحقاق (الاعواض في الدعاوي) (¬1) إذا وقع الإقرار بصحتها. وأما إذا وقع الاستحقاق، والمدعى عليه متماد على الإنكار، وعاوض عن المدّعَى فيه، وهو منكر للدعوى مكذب لها، فإنه إذًا استُحِق ما في يد المدَعى عليه، هل ترجع فيما دفع أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال، مثاله أن يدعي رجل دارا في يد رجل، فينكَر المدَعى عليه ما أدعاه المدِعي، ثم يتراضيان على أن يدفع إليه عبْ"، ويتركَ خِصَامه في الدار، فيستحق الدار فإن ابن القاسم ذُكِر عنه أنه يرجع في العبد الذي دفع إن كان قائما، أو قيمته إن فات. ومذهب سحنون أنه لا يرجع في العبد قائما أو كان فائتا. والقول الثالث ذكره في المجموعة، وفصل فيه القول بين كون الاستحقاق وقع بقربٍ من هذه المعاوضة ودفْعِ العبدِ، ويين أن يقع الاستحقاق إذا طال الزمان، فرأى أنه يرجع في القْرب، كما حكيناه عن ابن القاسم، وبعد طول الزمان لا يرجج، كما حكيناه عن سحنون. واعتل الذاهب إلى هذا بما يقع بالمدعي من الضرر الذي بسبب من استحقت الدار من يده، بأن يقال: كنتُ أتمادى على خصامك بأخذ الدار من يديك ببّينة تشهد لي بما يوجب ذلك، فلما دفعتَ إلىّ العبد أهملتُ السعيَ في بينتي وتحصيل شهادتهم، وسبب ذلك دفعُكَ العبدّ إليّ، فليس لك مرجع عليَّ مع كونك سببا في تعطيل شهادة بينتي. واعلم أن منشأ الخلاف في هذا، أن من الأقوال ما تكون له نتائج وتلزم عنه لوازم لا ينفك منها. فمن نظر في هذا وجد المدعَى عليه يقول المدَّعي: مالك في الدار شيء، ولكن أَدْفعُ إليكَ هذا العبد تنزُّها منّي عن الخصام. ولا يصح أن يتصور هذا مقتضى قوله: مالَك في الدار شيء، أن يكون العبد ¬

_ (¬1) هكذا في (و). وفي (مد): في الاَعْواض للدّعاوي.

معاوضة عن الدار, لأن قوله: مالك فيها شيء، يلزم عليه ويتضمَّن إستحالةَ المعاوضة عنها، فيتضح على هذا البناء ما قاله سحنون إذًا صرف المعاوضة إلى إسقاط الخصام إلى معاوضة ملكٍ يُمْلَكُ وإذا كان ومعاوضة عن الخصام فقد أسقطه المدعي، وهو متماد على إسقاطه، فصحت المعاوضة، فلا تنتقض بعد هذا. وإن التُفِت في هذا إلى قول المدعي: إن الدار ملكي، فاللازم على هذا القول ومتضمَّنُه أن المعاوضة بالعبد وقعت عن نفس الدار، وهي نقلُ ملكٍ عوضا عن ملكٍ، وإذا كان ذلك كذلك وَضُح ها هنا ما قاله ابن القاسم من رجوع من أُخِذت الدار من يديه في للعبد الذي دفع، وصار ها هنا حُكْمان يتدافعان على محلّ واحد فأيهما يثبت وينفى (¬1) الآخر. هذا سبب هذا الخلاف. وأما الذي في المجموعة فالتفت فيه إلى علة أخرى وهي ما ذكرناه عنه، وهي تعطيل بيّتة المدعي، ويكاد للحق هذا البناء ما علم في المذهب في رجل قال لآخر: لك عليّ دين، فقال المقر (¬2): ليس لي علمك دين. فإذا نظرت إلى مقتضى كل واحد منهما وجدَته كهذه المسألة التي ذكرناها. وقال أبو بكر ابن اللباد وأبو سعيد ابن أخي هشام: المعروف من مذهب أصحابنا أن الدار إذا استحقت رجع دافع العبد في عبده، وأما إن وقع الاستحقاق (¬3) ففيه قولان: ذهب ابن القاسم أنه يعود إلى الخصام في الدار، كما ثبتت الدار للمدعي فباعها بعبد فاستحِق العبد، فإنه يرجع في عين الدار إذا كانت ثبتت له قبل الصّلح. وذهب سحنون إلى أنه لا يرجع في محين الدار، ولا إلى الخصام فيها, ولكن يرجع بقيمة العبد، لكون رجوعه في محين الدار غيرَ ممكن, لأنه لم تثبت له، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة: له. (¬3) هكذا في النسختين، ولعك الصواب: إضافة: فيه.

ورجوعه إلى الخصام إيقاع له في الغرر، والغرر مما يجتنب في الشرع، فلم يبق إلاّ رجوعه بقيمة العبد، كمن صالح عن دم عمدٍ أَوْ خلعٍ، وما في معنى ذلك. وأيضًا فإن الغالب في الصلح على الإنكار أن المدعي لا يأخذ قيمة ما ادعى فيه، وإنما يؤاخِذ (¬1) في ون ذلك اغتناما منه لئلا تصح له الدعوى فيقتصر على قيمة ما أَخَذ. ولو ادعى في شقصِ من دار فصالح المدعي عن دعواه بنصيب من دار، فهل يقضَى في هذه المعاوضة بالشفّعة أم لا؟ عند ابن القاسم أنه يقضى فيها بالشفعة، بناء على ما قدمناه بأن المعاوضة، وإن كانت وقعت في إنكار الدعوى، فإنها تجري مجرى البياعات. وقال أصبغ لا شفعة في هذا، وكأنه رأى أنها دفع للخصام، والخصام ليس بمال، وما ليس بمال لا يقوّم، والشفعة إنما تكون في الحقوق المالية، لا سيما إذا قلنا: إن الهبة لشقص بغير عوض لا شفعة فيه، على أحد القولين، فكذلك فذا يكون أخذ الشقص الذي وقع به الصلح كالهبة. وعلى قول سحنون تكون الشفعة بقيمة الشقص المأخوذ لا يقيمة الشقص المدعى فيه، وكأنّ الشقص المصالح به لما أُخِذ بالشفعة صار كاستحقاق، واستحقاق العبد وقع عن مدافعة من خصام في مال فأجرِي حكمه في الشفعة مجرى المال. ولو وقع الاستحقاق في نصف هذا العبد لكان قابض العبد بالخيار بين أن يرضى بعيب الشركة في العبد، ويمضي الصلحَ في نصف الدار، ويخاصم في النصف الآخر، أو يقبل نصف العبد عوضا عن دعواه في جميع الدار. فإن قبل نصف العبد عوضا عن جميع الدار فلا مقال لمن في يده الدار، وإن لم يقبل ذلك إلاّ عوضا عن نصف الدار، وطلب الخصامَ في النصف الآخر، فإنه ينقلب الخيار إلى من في يديه الدارّ, لأنه يقول: دفعتُ العبد على ان لا تخاصمَني، فإذا خاصمتني في نصف الدار، وخصامك في نصف الدار كخصامك في جميعها، فلا امكّنُك من ذلك. هذا البخاري على طريقة ابن القاسم. وأما على طريقة سحنون الذي يوجب الرجوع بجميع قيمة العبد إذا وقع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يأخذ ..

الاستحقاق في جميعه، فإنه له ردَّ جميع العبد وأُخِذ بقيمة جميعه لعيب الشركه فيه. والجواب عن السؤال الثالث عشر أن يقال: قد علم أن الغالب في المعاوضات كون الاثمان أحدَ النقدين، إما دنانير أو دراهم. وواضح أن من اشترى عبدًا بدنانير فاستُحق المثمونُ، وهو العبدُ، أن البيع ينفسخ، ويرجع مشتري العبد بالدنانير أو بالدراهم التي دفعها ثمنا عن العبد. وإن استحقت الأثمان، وهي الدنانير أو الدراهم، ينفسخ البيع، ووجب على المشتري غرم الثمن ثانيا, لأنه إنما وقع (¬1) على البيعِ على أن الثمن في ذمة المشتري، فإذا عيّنه بالدفع وأُخذ كان على المشتري خَلفُه. ولكن إذا لم يدفع المشتري الثمن حتى رضي، هو والبائع، بأن يأخذ عن الثمن، الذي هو الدنانير أو الدراهم، عوضا، مثل أن يبيع عبدا بمائة دينار فيتراضيان على أن يأخذ عنها ألفَ دِرهم، فإن الاستحقاق ها هنا في الطرف الأول والآخر، ولا يتصور في الواسطة, لأن العبد المبيع يمكن أن يأتي فن يستحقه فيأخذه، فيبطل البعير فيه، ويمكن أيضًا أن يأتي من يأخذ الدراهم التي أخِذت صرفا عن المائة دينار ويستحقها بعينها، وأما الدنانير التي في الذمة ولم تخرج من الذمة فلا يمكن أن يقع فيها استحقاق. فإن وقع الاستحقاق في العبد المبيع بمائة دينار ثم أَخَذَ عن المائة دينار ألف درهم، فإن البيع في العبد انفسخ بالاستحقاق، (ولو كان ثمن العبد مائة دينار) (¬2). فإذا بطل المثمون، وهو العبد، بطل الثمن الذي هو المائة دينار، فلو كان المشتري دفعها لرجع بها ولكنه لما لم يكن دفعها كان الأصل ان يرجع بها على البائع وتبقى الدراهم للبائع. لكن نقلنا (¬3) عن هذا الأصل للاحتياط للربا لأن البيع في العبد كان بمائة دينار ثم دفع عن المائة دينار ألف درهم، فلو أوجبنا رجوع مشتري العبد بمائة دينار يوم الاستحقاق، وقد كان ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب حذف (على). (¬2) هكذا في النسختين، والأوْلى حذف ما بين القوسين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: انْتَقَلْنَا.

تقدم عقد الصرف ودفع الدراهم منذُ أيام، لحصل من أمرهما أنه دفع بالأمس دراهم وأخذ اليوم عنها ذهبًا، وهذه صورة الصرف المستأخَر، فوجب أن ينتقل عن الأصل، ويرجع مشتري العبد بما نَقده. ولو وقع البيع للعبد بمائة دينار، فتراضيا على أنا أَخَذ بدلا عن المائة دينار جاريةً، فاْستُحِق العبدُ، فباستحقاقه انفسخ البيع فيه، (¬1) بطل الثمن وهو المائة دينار، وبطلان الثمن كاستحقاقه، وهو ثمن الجارية، وقد قررنا أن استحقاق المثمون لا يُبطلِ العقدَ، بل يجب خَلَفُه، فعلى آخذ الجارية عوضا عن المائة دينار أن يخرم ثمنها لمّا وقع الاستحقاق، والبطلان في ثمنها بإبطال المثمون، إلاَّ أن يُعلم أن بائع العبد، الذي أخذ الجارية، أخذها بثمن بخْسٍ طلبًا للتخلُّص ممن اشترى منه العبد، وترفّها عن اقتضائه، ومخافة عن مخاصمة غرمائه، فيكون الحكم ها هنا، إذا تيين ذلك، وإنه هو العقد، أنا يرجع بائع الجارية فيها بعينها، أو بقيمتها إن فاتت لأنه إنما اخذها بثمن بخس، على أن وهَبَ بعض الدنانير التي له على بائعها. فإذا بطلت الهبة لكون الثمن بطل باستحقاق العبد بطل العقد في الجارية لبطلان بعض الثمن الموهوب، وهو معيّن لا يلزم خلَفه كما يلتزم (¬2) خلف الأثمان إذا استحقت. هذا حكم الاستحقاق في الطرف الأوّل وهو العبد. وأما الاستحقاق في الطرف الآخر، وهو دراهم أخِذت عن دنانير، أو جارية أخذت عن دنانير، فإن الدراهم إذا استُحِقت بطل الصرف فيها، وإذا بطل الصرف فيها بقيت الدنانير في ذمة مشتري العبد، فعليه أن يغرمها لبائع العبد منه. وأما إن كان الطرف الآخر جارية فاستُحِقت، فإن البيع يبطل فيها، ويرجع مشتريها، وهو بائع العبد، بمائة دينار التىِ عقَد بها بيع عبده. ولا يبالي ها هنا يكون الجارية أُخذت بثمن بخس, أو بقيمتها لأن البائغ اشتراها من المشتري ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إضافة (وَ). (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَلْزَم.

لعبده بالمائة دينار، التي لك (¬1) على مشتري عبده، ومن اشترى جارية بمائة دينار، وهي تساوي خمسين دينارا, فاستُحِقت من يده، فإنه يرجع بجميع ثمنها، وهي المائة دينا، ويبطل مالحقه من الغبْن فيها, لأنه غُبِنّ لأجل ما اشتراه، فإذا بطل ما اشتراه بطل عنه ما غُبِن فيه. هذا ييان القول في هذا، واختصار العبارة عنه أن يقال: إذا وقع البيع بأحد النقدين، وأخِذ عنه النقد الآخر من النقد، واستحق العوض المبيع، فإن الرجوع بما نقد، وإن أُخِذ عنه خوض فالرجوع بما عقد، والغبْن عن العيْن بما نقَد، والغرض (¬2) عن العين بما عَقَد. ولو أراد المستحق للعقد أن يجيز البيع فيه على أن يكون له الثمن الذي وقع به العقد، وهو الدنانير، لكان من حقه ذلك. ولو أراد أن يجيز على أن يكون له العَرْض الذي أخذ عوضا عن الدنانير، التي هي ثمن العبد، لم يمكْن له ذلك لأنه إذا أراد أن يأخذ الدّنانير مُكِّن من ذلك لأنها عينُ ثمن عبده (الذي نقدا عليه) (¬3) في بيعه, وإذا أراد أن يأخذ الجارية المدفوعة عن الثمن لم يُمكَّن من ذلك, لأن من تعدّى على دنانير لرجل، فاشترى بها سلعة، فإنما على المتعدي الدنانيرُ التي اشترى بها, وليس عليه دفع ما اشتراه بها, لما قدمنا من أن الاثمان في الاستحقاق يجب خَلَفها، والمثمونات في الاستحقاق لا يجب خلافها. وله إذا أجاز البيع أن يأخذ الدنانير من المشتري, لأنه لم يدفعها إلى من باع منه، وإنما دفع إليه عوضها، فهي باقية في ذمته، فللمستحق أخذها. وإن كان قد دفعها فإنه يطِالب بالثمن قابضَه الذي تعدّى على العبد فباعه. وأما المشتري فلا مطالبة له عليه, لأنه دفع الثمن إلى من يعتقد أنه يستحقه، وفي ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: العِوَض. (¬3) هكذا في النسختين.

كتاب ابن سحنون أن له مطالبة المشتري بالثمن وإن كان قد دفعه. واراد بعض الاشياخ الحذاق أن يجري هذا على الخلاف في أصل اشتهر الخلاف فيه، وهو متلف مال غيره بوجه شبهة لا إذن له في التصرف فيه، كمشتري عبد قتله خطأً، وهذا البناء الذي بناه صحيح إذا قلنا: إن صاحب العبد إذا أجاز البيع فكأنّ البيعَ لم يزَلْ جائزا، أو العقدةُ ماضيةُ، ويصير يائع العبد كالوكيل لمالكه على البيع، ومنُ وكِّل على البيع فله قبض الثمن. وأما إذا قلنا: إنه إذا جاز البيع إنما ينعقد اليوم لا فيما قبلُ، والمشتري قد دفعه فيما قبلُ فهذا ينظر فيه. هذا حكم بيع العرْض بالأثمان التي هي النقود. وأما بيع عَرْض بعرض، ودفع عنه أحد النقدين، مثل أن يشتري عبدا بجارية، ثم يدفع عن الجارية مائة دينار، فاستُحق العبدُ، فإن استحقاقه يُبطل البيعَ في الجارية، ويوجب ردّ الجارية على بائعها، وبائعها هي باقية في يديه لأنه باعها أوَّلًا، ثم لم يدفعها حتى اشتراها بالدنانير التي دفَع، فبقيت في يديه، وإذا بقيت في يديه ردّ الدنانير قابضُها. واما لو استُحِقت الجارية لرجع في عبده، إن كان قائما، أو قيمته إن فاتت (¬1)، ويرد الدنانير التي قبض. والدنانير تردّ في الوجهين جميعًا، ويبطل العقد الأول والثاني. ولكن إذا بطل العقد الأول، باستحقاق العبد، وجب رد الجارية، فإنها في يد من يجب عليه رد العبد، والعبد ليس في يد بائعه، فوجَب رجوعه في عينه أو قيمته إن فات. ومما يلحق بهذا لو اشترى عبدا بمائة دينار فاطلع على عيب، فأراد ردّه على بائعه، فصالحه بائعه على أن يترك خصامَه فيه، ويعطيه عبدا آخر، فإن مذهب ابن القاسم في هذا أن العبدين، الأولَ والثاني، يقدر كأنهما اشتُريا في صفقة واحدة وكأن العقد في العبد الأوّل إنما وقع الآن حين أضيف إليه العبد الذي أخذه المشتري صلحا، فينظر في استحقاق أحد العبدين، الأول والثاني. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فاتَ.

فإن كان المستحَقُّ (وجد الصفقة) (¬1) رد الباقي في يديه، وإن كان المستحَق منها هو أقلَّ الصفقة لزم الباقي بحصته من المائة دينار التي هي ثمن العبد الأول، وصارت في الآخر ثمنا للعبدين جميعًا. وقرر ابن القاسم ها هنا أنه لما ملك ردّ العيْن بالعيب فكأنه ردّه ثم اشتراه، هو والعبد الآخر، بالمائة دينار التي وجب على بائع العبد الأول أن يردها إليه. ومذهب أشهب أن العبد الثاني إنما أخذ عوضا عن ترك المخاصمة والمحاكمة في العيب، فإن وجَد فيه عيبا ردّه، وبقي على حقه في الخصام في العبد الأول، وإن وجد عيبا في العبد الأوّل غير الذي صالح عليه كان له ردّه بالعيب الذي اطّلع عليه بعد الصلح. وقد مرّ أشهبُ على أصله في كون الصلح عن هذا ثمنا لرفع الخصام، فإن جاز أن يصالح عن العبد بدراهم، وإن كان ثمنه دنانير، ولم يلتفت إلى وقوعها في الربا لما قدّر أن هذا اشترى لرفع الخصام، ورفع الخصام ليس بمال ولا مما يتقوم، وكان طَرْد هذا يوجب جواز الصلح عن هذا بعبد أو بثمرة لم يبدُ صلاحها ولكن الشيخ أبا القاسم السيوري منع من هذا. وما أراه منع من هذا إلا أن الخصام مما فيه خطر وغرر، وإذا أخذ عوضا عنه العبد الآبق فهو عاوض عن غرر بغرر، فاشتد حكم الغرر لأنه طارئ في الطرفين جميعًا بخلاف إذا تُصوّر التحريم والمنع من جهة واحدة. ولأجل هذا التعليل خرجنا فيه خرج أهل المذهب المشهور عنهم في أحكام الاستحقاق إلى أن الاستحقاق إذا وقع كان الرجوع في عين العوض عن الشيء المستحق، (وإن فات وجب الرجوع في عينه إذا كان لم يفت رجع في قيمته) (¬2). فقالوا، فيمن صالح عن دم عمد بعبد فاستُحق العبد: إن الرجوع لا يكون في الدم فيستباح، ولا في الدية، وإنما يكون في قيمة العبْدِ إذا استحق ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وجه الصفقة. (¬2) هكذا في النسختين:

وكان الأصل في هذا أن يرجع إلى إراقة الدم لأنها عوض العبد المستحق ولكم لحرمة الدماء وجب ألا تراق بعبد (¬1) العفو عنها ويرجع في الاستحقاق إلى قيمة العوض. وكذلك قالوا، في الخلع بعبد بذلت المرأة لزوجها على أن فارقها، فاستحق العبد، فإنها لا ترجع إلى العصمة. وكان مقتضى الأصل الذي ذكرناه أن ترجع إلى العصمة، ولكن إذا حرّمت الفروج فلا يصح بعد التحريم استباحتها إلا بعقد. وكذلك لو تزوج رجل امرأة بعبد، فاستحق بكونه مغصوبا، أو بإثبات كونه حرّا، فإن المرأة ترجع بقيمة العبد الذي أستحق من يدها، وكان مقتضى الأصل أيضًا أن ترجع في منافع فرجها أو تمنع الزوج منها, لكن الصداق يجب بالوطأة الأولى، فكان ما بعدها من الوطء ليس بعوض عن الصداق فترجع فيه، وأيضًا فإن حل العصمة لا يكون إلا بطلاق، والزوج ها هنا لم يطلق: لكن المعْيرة رأى أن إستحقاق العبد، الذي هو الصداق، يوجب رجوع المرأة على الزوج بصداق المثل، وهو عوض ما دقعت من منافع بُضعهلا، لما لم يكن الرجوع في نفس ما دفعت وهو منافع البضع, لما قلناه. وكذلك المكاتَب إذا قاطع سيده على عبد معين، أو سلعة معينة، وأعتق المكاتب لأجل ما أدأه من عوض الكتابة، كما يكون حرًا إذا أدّى سائر نجومها بعينها، فإن استحق العبد الذي جُعِل عوضا عن الكتابة، فإنه إن علم أنّه متعد فيه، لكونه لا يملكه، فإن العبد يعود إلى كتابته، وكأنه أراد استعجال العتق قبل وقته، فعوقب بحرمانه، ولأجل كونه عن (¬2) سيده الذي باع كتابته منه بعبد له فيه غرض، فإذا أخذ العبد وبطل غرض سيده الذي أخذه، رجج فيما كان العبد عوضا عنه وهو الكتابة. وأما إن كان دفع إليه عبدا يعتقد أنه ملكه، واستُحِق، والعبد لم يعلم حين دفعه لسيده أن العبد الذي دفعه عوضا عن كتابته مستحَقٌ، ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَعْدَ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: غَرَّ.

فإنه يرجع السيد عليه بقيمة العبد المستحَق حق يديه، ويتبعه بهذه القيمة إن كان فقيرا, ولم يمكن من الرجوع أي ابقائه عن (¬1) الكتابة لأن الكتابة غرر لا يدري السيد ما يحصل قيها وهل يعجز العبد المكاتب عن أدائها فيرق، أوْ لا يعجز فيعتق، والوجوع إلى الغرر ممنوع، كما قدمناه في الصلحع عن دار ادعاها مدع، ومن هي في يديه ينكر. وهذه المسائل الخمس يخرجوا (¬2) بها عن الأصل المشهور لأجل ما عللناه، وهي الصلح عن دم العمد، وأخذ عوض عن الخلع، وعن النكاح، أو عن دعوى ينكرها المدعَى عليه، أو عن كتابة المكاتب. ولا يظن أن المغيرة رجع إلى الأصل المشهور فيمن تزوجت بعبد فثبت أنه حر, لأنه قد قال كما قالته الجماعة في القول المشهور: تزوجت بعيد فاستحِق بكونه مغصوبا، لرجعت بقيمة العبد لأجل أنه مما يصح تملّكه، ولو أجاز سيده المستحِق له فعلَ غاصبه، ونكاحَه به، لمضى ذلك. بخلاف الحر الذي يستحيل أن يُتملكَّ شرعًا، فصار ذلك في الحر كمن تزوجت على ألاَّ صداق لّها، واشتراط عدم الصداق يوجب صداق المثل، فلم يخرج عن المذهب المشهور إلا في هذه المسألة لكونها يتصور فيها معنى آخرُ يوجب للزوجة الرجوع بقيمة ما دفعتْ، وهو صداق المثل. ولأجل هذا التعليل فرق سحنون بين فساد النكاح وصحته فيمن تزوجتْ بعبد فاستحِق بحرية، أو برق، فقال: إن استحِق بحريهّ فُسخ النكاح قبل الدخول، وان استحق برق لم يفسخ النكاح، ورجعت الزوجة بقيمة العبد. وهذمه التفرقة لأجل ما ذكرناه من كون العقد على الحر يستحيل في الشرع, فصار الفرج مبذولا بغيو عوَض, بخلاف أن يستحق العبد برق، فإنه وقع العقد بما يصح تملكّه. وإن كان ابن القاسم ساوى, ها هنا، بين استحقاق ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين, ولعل الصواب: على. (¬2) هكذا في النسحتين، ولعل الصواب: خرجوا.

هذا العبد الذي جُعِل صداقا، بين كونه يستحق بحرية أو برق، فقال: يفسخ النكاح قبل الدخول. وقال ابن كنانة وابن الماجشون: لا يفسخ في الوجهين جمعيا ويقضى فيه بقيمة العبد المستحَق يحرية أو برق. وهذا الذي ذكرناه من الاختلاف في فساد هذا النكاح مبني على علم أحد المتبايعين بالفساد هل يفسخ العقد أم لا؟ فعلم الزوج يكون العبد الذي جعله صداقا لا يحل العقدُ به يغلّب عليه بالفساد على جهل المرأة بذلك فيفسخ النكاح، ولو علمت المرأة بهذا وجهل الزوج لكان ما ذكرناه من الخلاف باقيا على حاله، ولو جهلاه جميعًا لصحّ النكاح. وقد يلحق هذا مع جهليهما جميعًا بمسألة من تزوج بقلال خل، فإذا بها خمر، وجهل ذلك الزوج والزوجة، وظناه خلاّ. وهذا مبسوط في كتاب النكاح. وإذا أردت خروج هذه المسائل عن الأصل المشهور لأجل ما اعتذرنا به عن أهل المذهب، ولكونها ليست من الحقوق المحقق كونها مالًا، كبيع عبد بجارية ولا من الحقوق التي لا عوض لها كهبة عبد يستحق من الموهوب له، فإنه لا رجوع لما كان في يديه العبد فأخذه منه على من وهبه إياه، وإذا وقعت المعاوضة بالحقوق المالية المحْضة وجب الرجوع عند الاستحقاق، كمن اشترى عبدا بجارية، ولكن المعروف من المذهب ما قدمناه ميت أن الرجوع في الاستحقاق بما دفعه من استُحِق الشيء من يديه لا بقيمة ما أخِذ من يديه، فإن كان مادفعه قائما أخذه بعينه، وإن فات وهو مكيل أو موزون أخذ مثله. هذا إذا فات بالتلف والهلاك. وأما بحوالة الأسواق فإنه لا يفوت بها ويرجع من استُحِق الشيء من يديه في عين ما دفع ولو كان الذي دفع عرْضا لفات بحوالة الأسواق ورجع في قيمته. وقد بسطنا القول في ذلك في كتاب البيوع الفاسدة، وأشرنا إلى التفرقة بين حوالة السوق في العروض في المكيل والموزون. وقد كان شيخنا أبو محمَّد

عيد الحميد، رحمه الله، يشير إلى أن المذهب على قولين في هذا، هل يجب الرجوع بقيمة ما دفع أو بقيمة ما قبض واستحق من يديه؟ ويرى أن الخلاف في هذا مبني على معرفة المقصود، هل القصد في بيع عرض في عرض القِيمَ والأثمان أو الأعيان؟ فإن كان القصد الأثمان كان الأوْلى الرجوعَ بقيمة ما قُبض واستحِق من يديه، وإن كان المقصود الأعيانَ كان الأوْلى أن يرجع بقيمة ما دفع. وقد وقع في المدونة مسألتان ظاهرهما يقتضي أنهما مبنيتان على القول الشاذ: أن الرجوع يكون مما (¬1) قبض لا بما دفع. إحداهما: ما ذكره فيمن أسلم ثوبين في فرس يقبضه إلى أجل معلوم، فأتى من استحَق أحد الثوبين، فقال: إن كان الثوب المستحَق هو الأدْنى رجع بقيمته. فأطلق القولَ ها هنا بأن الرجوع في الاستحقاق بقيمة ما قبض، وهو الثوب الأدنى، لا بقيمة ما دفع. وهذا هو المذهب الذي ذكرناه. وعند ابن المواز انه يرجع بقيمة الثوب الأدنى فيما يقابله من الفرس، فإن كان الثوب الأدْنى هو الرُبُعَ من الثوبين جميعًا سقط العقد في ربع القوس، ويرجع من استحِق الثوب الأدْنى من يده في ربع الفرس، ويأخذ فرسا كاملا. هذا على مذهب ابن القاسم الذي يراعي ضرر الشركة، وينقل من استحق الرجوع بجزء مما دفع إلى أخذ قيمة ذلك الجزء، لأجل ما طرأ على من أخذ الكل استحقاقُ جزء من الكلّ الذي أخذ. وإن أشهب "يخالفه في هذا، ويرى أنه يرجع في عين الجزء الذي دفع، ومراعاة حقه في العين هي التي تقوّم، على ما يبسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد وقع اضطراب في الزمن الذي يعتبر فيه قيمة هذا الجزء الذي بطل في الفرس، إذا حل أجل السّلَم، هل يعطي مَن عليه الفرس قيمة رُبُعِه، الذي ذكرنا أنه عَدَل ابن القاسم إليه، لأجل ضرر الشركة يوم دفع الفرس، لأجل أنه حينئذ وجبت الشركة، ورفْع ضررها لأخذ (¬2) القيمة. وهذا اختيار بعض الأشياخ، ثم ¬

_ (¬1) هكلذ! في النسختين، ولعل الصواب: بما (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأخْذ.

أو تراعى قيمته إلى الأجل (¬1) الذي وقع إليه السلم، كما يجب أن تراعى قيمة الثوب المستحق الذيهو الأدْنى من قيمهّ الثوب الأرْفع يوم وقع العقد، وإن تأخر الاستحقاق عن زمن العقد، وقد تردد بعض الاشياخ الحذاق في هذا لأَجْل أن الشركة إنما. وجبت يوم دفع الفرس وجُعلَت القيمة يدلا من العين نسبة (¬2) الثوب الأذنى من الثوب الأعْلى، فإنهاْ تراعى يوم وقَع العقد السلم لأن ذلك التقويم، ليس ببدل عن أصل، بخلاف التقويم لربع الفرس فإنه بدل عن العين. وأما المسألة الثانية، التي وقعت في المدونة فإنها مذكورة في كتاب الشفعة، في رواية الدبّاغ، فيمن باع شقْصًا بطعام، فأخنه الشفيع بمثل ذلك الطعام، ثم استحِق من يد بائع الشقص، فإنه يرجع بمثل الطعام. وهذا رجوع بما قبض لا بما دفع، وإدط كان ابن المواز: هذا غلط (¬3)، وإنهما يرجع بقيمة الشقص. وقد ذكرنا أن الحكم عند أبن القاسم *الرجوع في قيمة الجزء المدفوع لأجل ضرر الشركة. وقال فيمن اشترى جارية بعبّد فاستِحق نصفُ أحد العوضين، فإنه بالخيار بين أن يرد نصفه من يده, لأجل ضرر الشركة، ويأخذ قيمة العوض، الآخر، أو يتمسك بالنصف الذي بقي في يديه، ويرجع بنصف قيمة العبد, وهي مجهولة، ومن أصلًا مقتضى مذهبه أنه إذا استحِق بعض ما في يديه، وتمكن من رد ما بقي في يديه، أنه ليس له أن يتمسك بقيمة ما بقي في يديه، بنسية ما يقال ذلك من الثمن، مع كون الثمن معلوما، فكذلك ينبغي ألا يمكَّن هذا من التمسك بالنصف الذي بقي في يديه مع كون ما يرجع به من القيمة مجهولا لا يستند إلى معلوم. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعانى ورضي عنه: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الأجل (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بنسبةِ، (¬3) هكذا في النسختين, ولعل الصواب: إضافة [قال]: هذا.

ومن ابتاع أمة فأولدها ثم استحقت فولدُها حرٌّ. وفي أخذها روايتان: إحداهما (¬1): إن له أن يأخذ قيمتها, وتكون أم ولد للواطيء وفي أخذ قيمة الولد خلاف. وإن غَرَّتْ بأنها حرة فللسيد أخذها وأخذ قيمة الولد إن كان ممن لا يعْتق عليه. وأما (¬2) الغاصب إذا وطئ الأمة المغصوبة فإن السيد يأخذها، وولدها ملك (¬3) له ولا يلحق النسب بالغاصب. قال الفقية إلامام رحمه أدنّه تعالى ورضى عنه، يتعلق بهذا الفصل أربعة اسئلة. منها إن يقال: 1 - ما الحكم في استحقاق الأمهّ وقد ولدت ممن هي في يدية بوجه شبههّ نكاح أو ملك يمين؟ 2 - وكيف يُقوَّم ولد المستحَقة؟ 3 - وهل يقوّم بماله أو بغير ماله؟ 4 - وما الحكم فيه إذا قتل؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال. أما الأمة إذا ولدت من رجل وطئها بوجه شبههّ، فلا يخلو أن يكون وطأ بنكاح أو بملك يمين. فإن كان وطأ بنكاح صحيح قلا خلاف أن ولده منها تبَع, لأنه يسترقّه ¬

_ (¬1) في الغاني والمغربية: أحداهما: أن للمالك أن يأخذها. وفي الأخرى ... (¬2) في الفاني والمغربية: فأما، (¬3) في الغاني والمغربية: مِلْكًا.

مستحق أمّه كما يسترق أمّه، كالاختلاف (¬1) أيضًا أن نسبه لاحق بأبيه وإن كان الولد مملوكًا لغيره، وهو سيد أمه. وهذا إذا كان الناكح لها عالمًا برقها. وأما إن جهل رقّها فقيل له: إنما حرة، فاستولدها على أنها حرة، فإن المعروف من مذهب مالك وأصحابه أنه إذا أتى سيدها فاستحقها، وهو لم يأذن في نكاحها ولا غَرَّ الزوج بذكر أنها حرة، فإن سيدها يأخذها بعينها. لكن ذكر ابن الجلاب في تفريعه رواية شاذة وهي القضاء على الزوج بقيمتها، كأحد الأقوال (¬2) كالواطىء أمة بملك اليمين فأتى سيدها فاستحقها وقد ولدت من مشتريها. وأما استيلادها بملك اليمين فأتى من استحقها فإن مالكًا رضي الله عنه اضطرب قوله في ذلك فقال مرة: يأخذها سيدها وقيمةَ ولدها. وهو اختيار ابن القاسم، وعليه كثير من العلماء، ويحكى ذلك عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم رجع عن هذا المذهب فقال: يأخذ سيدها قيمتَها وقيمة ولدها. ثم رجع عن هذا إلى مذهب ثالث، فقال: يأخذ سيدها قيمتها يوم حمَلت ولا يأخذ قيمة ولدها. وبهذا أفتى لما استُحقت أم ولد إبراهيم. وتابعه على هذا جماعة من كبار أصحابه كاين كنانة وابن دينار وغيرهما. ثم رجع عن هذا إلى المذهب الأ وَل، وهو أنه يأخذها بعينها وقيمة، ولدها. قال ابن كنانة: وعلى هذا المذهب مات. واعلم أن سبب هذا الاضطراب الموازنة ما بين ضررين تَقابَلا من جانبي رجلين. أما ضرر مستحق الأمة إذا مُنِع من أخذ عيْنها، فهو ما يدركه من بيع ملكه بغير اختياره، وأصول الشرع تقتضي ألاّ يخرج ملك إنسان بغير اختياره، وهو ظاهر الأحاديث كقوله عليه السلام: "كل ذي مال أحق بماله" (¬3) وقوله عليه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كَلاَ خلافَ. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: على الواطىء. (¬3) فيض القدير: 5: 20 حد 6305

السلام "لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬1) هذا الضرر اللاحق بالمستحق. وأما الضرر اللاحق بمستولد الأمة بوجه شبهة، فهو ما يدركه من المعرّة من كون أم ولده تباع وتشرى وتستخدم، فيلحق من ذلك أولاده أشدُّ المعرة وأكبرُ المضرة، ومالحق أولاده من ذلك يلحقه. فأي الضررين أوْلى أن يعتبر؟ هذا سبب الاختلاف، فتارة (رجحا جانبه) (¬2) المستحق لظاهر الحديث الذي ذكرنا, ولمشاهدة (¬3) الأصول. لا يخرج ملكه بغير اختياره إلا فيما نص الشرع عدى جبره عدى بيعه. وقد عضد هذا القول باتفاق أهل المذهب على أنه إذا استولد أمة بنكاح يظنها حرة أنها تؤخذ من يديه وإن كان يلحقه من المعرفة ويلحق بنهيه (¬4) منها مثل مات يلحقه، ويلحق بنهيه (¬5) في استحقاق الأمة إذا استولدها سيدها بملك اليمين فاستحقت. وهذا عندي قد يعذر عنه بأن من تزوج الأمَةَ يعتقد أنها حرة، لم يدخل على الرقبة ولا على تملكها، فإذا وقع استحقاق (لم يَلزَمْه بذل قيمتها، والمعاوضة على ما دخل على أنه لا يعاوض عنه ولا يصح في الشرع تملكه. بخلاف من استولد بملك اليمين فإنه دخل على تملك الرقبة بثمن بذله فإذا وقع الاستحقاق) (5) حسن أن يلزم عوض ما دخل على تملّكه، وهي قيمة الأمة التي استولد ألا ترى أن سحنونا قال فيمن تزوج امرأة بعبد مغصوب أو بحرّ كَتَمَ حريته عنها: إن النكاح يفسخ في تزوُّجه بعبد مغصوب، كما قدمنا ذكر ذلك عنه، وتوجيهَه من أن الحرّ لما استحال فلكه شرعًا صار عقد النكاح به كعقد النكاح بغير صداق، بخلاف عقد نكاحٍ بعبد يصح تملّكه. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: رجّح جانب. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لِشهادة. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَنِيهِ. (¬5) ما بين القوسين ساقط في (مد).

فإذا تقرر أن منْشَأ هذا الاضطراب والاختلال الموازنة بين الضرر الذي يلحق عن استُحص الأمة من يديه، ويلحق بنيه منها، فإن المستحق لو رضي بأخذ القيمة وأسقط حقه في عين الأمة، فهلى يرتفع الخلاف لأجل رضاه بهذا أم لا؟ في ذلك قولان: ذكر ابن القاسم في كتاب القسم من المدونة: اختلاف قول مالك يرتفع إذا رضي المستحق بأخذ القيمة. وهكذا ذكر ابن المواز. وقال ابن الموأز عن اشهب: إن هذا خطأ، وأشار إلى أن الاختلاف باقٍ مع رضي المستحق بأخذ القيمة، فكأنَّ ابن القاسم غلّب جانب المستحق باستحقاقه العينَ، فإذا رضي بإسقاط حقه في العين، وقنع بأخذ القيمة ارتفعت العلة التي من أجلها رجّح جانبه، وصار كالطالب لمستولد هذه الأمة بحق إفاتته لها بالاستيلاد، وكأن أشهب غلب جانب من استحقت الأمة من يديه في أن لا يُجبر على شراء مال غيره بغير اختياره. ومذهب الشافعي أن من وطئ أمة بملك اليمين فاستولدها، ثم أتى سيدها فاستحقها، فإنه يأخذها بعينها وقيمةَ ولدها يوم (........) (¬1) , أو يأخذ من مستولدها مثل المثل، وأرش البكارة إن كانت بكرا، وقيمة ما استخدمها، أو قيمة ما عطّلها عن الخدمة إن كان لم يستخدمها, لأنه يرى أن الغلات تردّ في الاستحقاق (حق مشتري اغتل بوجه شبهة) (¬2) كما حكيناه عن الشيخ أيىِ القاسم السيورى من أشياخنا وأجرى الحكم في إيلاد من استولد أمة بملك اليمين بوجه شبهة مجرى استيلاد الغاصب في الغلة، وفي غرامة أرش البكارة. وإنما يفترق المشتري والغاصب في ثبوت الحدّ على الغاصب، وسقوطه عن المشتري، (¬3) في لحوق الولد واسترقاق الولد. وأمّا ما حكيناه عن مالك من إلمذهب الثالث من أنه يرى أن المستحق ¬

_ (¬1) فراغ بمقدار كلمة في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وضع الواو.

يأخذ قيمة الولد يوم الحمل ولا مطالبة له بقيمة الولد، فإنما ذلك لكونه يعتقد أن وطأها إفاتة لها لأجل حبسها للاستبراء من هذا الوطء، كأمة من (¬1) شريكين وطئها أحدهما، فإنه يضمن قيمتها بوطئها وإذا ضمن القيمة بالوطء صار الولد قد وضعته أنه، وقد ثبتت له الحرية، بوجوب غرامة أبيه قيمة أمه، وإذا غرم قيمة أمه فقد ملكها بالقيمة، وإذا ملكها بالقيمة صار استولد أمة استقر ملكه عليها، فولده حرّ منها. ومقتضى هذا المذهب أنها لو ماتت قبلَ أن يأتي مستحقها للزم واطئها قيمتُها لوجوبها عليه بنفس الوطء. ومقتضى أيضًا هذا التعديلا أن تكون أمَّ ولد لواطئها, لأجل ما عللت به من وجوب القيمة عليه، وإنما استولد من استحقَّ ملكَه عليه. وإذا قلنا: إن قيمتها انما تجب عليه يوم استحقاقها بأنها (¬2) لا تكون أم ولد، على ما ذكرناه عن اشهب من أن وطئها (¬3) لا يجبر على بذل قيمتها إن رضي المستحق بذلك، وإنما عليه تسليم عينها، وإن غرم قيمتَها فكأنه افتداها. وإن ولدت وهي رقيق ولا (¬4) تكون أم ولد. وأما على مذهب ابن القاسم، الذي ذكرناه عنه، أن الخلاف يرتفع في أخذ عينها، إذا رضي المستحق بأخذ قيمتها، فإن بعض أشياخي ترجح فيه. وعندي أنه انما ترجح فيه لأجل الاختلاف في المترقبات إذا وقعت الأحكام بها مستندة لأسباب تقدمت، هل يقدّر الحكم الحاصل يوم السبب الذي اقتضاه فيما بعد، فحسن أن تكون أمَّ ولد، وإن قضي بالقيمة يوم الاستحقاق, أوْلاَ يُلتفت إلى السبب، وكأن الحكم إنما وقع هو وسببه يوم الاستحقاق، فلا تكون أمَّ ولد. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بين. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإنّها. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: واطئها. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف الواو.

على هذا التفريع ينبني أيضًا طلب المستحق لها، وهي حامل لم تضع، فإن قلنا: من حقه أن يأخذها بعينها أُخِرّ الحكم إلى ان تضع فتُسلَّم إليه، وإن قلنا: إن الحكم أخذ قيمتها دون عينها حُكِم له يالقيمة على ما هي عليه يوم استحقها. وأما الحكم في ولدها فإن الأصل أن يكونوا (¬1) تبعًا. لها في الحكم. فإن أخذها سيدها يسترقها فكذلك ينبغي أن يسترق ولدها، لكن منع من ذلك كون المستولد وضع نطفته على أن ما يكون عنها من ولد هو حرّ، وفعَل ذلك بوجه شبهة غيرَ متعدٍّ فيه، فامتنع الرقّ ها هنا احتياطا للحرية وتغليبًا لأحكام الحرية على أحكام الاسترقاق، كما أصلته الشريعة، والولد ليس بغلة فيُقضى بهم (¬2) للمستحق ولا يصح استرقاقهم (2) لما ذكرناه من الشبهة وكون الواطىء وضع نطفته على أنّ ما يكون عنها حرّ، فلم يبق إلا القضاء بقيمتهم (2) لأجل أن سبب إتلاف هذا الملك، والحيلولة بينها وبين سيد الأم، واطئها، فلزمه قيمةُ ما أحال بينه وبين مالكه. ويؤكد هذا الاستدلال قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن قال يقضى فيهم بأمثالهم. وأشار أيضًا إلى مراعاة المثلية على الحقيقة، فقال: اشتبارهم، يعني قياسهم بالشبر. وهذا كالإشارة إلى ما حكيناه عن العنبري أن العروض يقضى فيها بالأمثال. ولكن هذا ملكٌ غير مستقر، ولا تصح المعاوضة عنه بالبيع والشراء، فصار كفرع خرج عن أصوله، لأجل ما اشرنا إليه. ومتى تكون القيمة في الولد؟ المشهور من المذهب، وعليه الأكثر أن القيمة فيهم تعتبر يوم الاستحقاق لهم، يقوّمون كأنهم عبيد على ما هم عليه. وقال المغيرة: بل تعتبر قيمتهم يوم وُلدوا، وهو مذهب الشافعي وكأنه رأى أن تقويهم في الرحم لا يصح, لأنّا لا نثق بأنهم موجودون، ولو وثقنا بذلك لم ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يكون. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بِهِ -استرقاقه- بقيمته.

تتحقق صفتهم فنقوّمها. والحيلولة التي سبب الضمان التي قدمنا ذكرنا لا تتصور، والولد مجهول في بطن أمه، فلم يبق إلا اعتبار القيمة يوم وُلِد, لأنه، ذلك اليوم، حَالَ ابوه بينه وبين مستحقه، ومنعه تملكَه، فما حدث بعد ذلك من نساء (¬1) فإنه لا يضمنه كما لو مات بعد الولادة لضمن القيمة. وأشار أشهب في الرد إلى هذا المذهب أن الواطىء غير متعدّ، ومن كان في يديه الشيء بوجه شبهة فإنه لا يضمنه بتعديه عليه، فوجب أن يكون الموت قبل الاستحقاق يرفع الضمان عن أبيهبم فلاْ يجب على أبيهم فداؤهم بالقيمة إلا يوم الاستحقاق. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما تقويم الولد المستحَق أمّه فقد قررنا أن الأب تلزمه قيمته, لأنه حال بين المستحِق وبين استرقاقه الولد الذي هو تبع لأمّه، وعضو من أعضائها، فكان كالجاني على مال غيره بالإتلاف. وكون سيّد الأمة التي استولدها لا يصح أن يُرقّ ولدَهُ لكونه وضع نطفته على أن ما يتكّون منها حرّ، والحكم بالحرية ها هنا من غير عوض إتلاف لمال المستحِق، فوجب أن الحكم تقويم الولد على أبيه. فإن وجب ذلك فالتقويم، على مقتضى ما ذكرناه، على أن الولد الذي استُحِقت أمّه عبد مرقوق مثلُ أمّه، لكونه تابعًا لها في الحرية والرق. وهذا ظاهر ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولو كانت الأمة المستحقه فيها عقد حرية من سيدها الذي استحقها، مثل أن يكون دبَّرها فاشتراها مشتر من يد من غصبها فاستولدها مشتريها، ثم أتى سيدها الذي يستحقها، فإن التقويم ها هنا يكون بحسب حال الامّ لأن ولد المدبَّرة مدبَّر هذا مذهب ابن القاسم في هذا الولد الذي استحقه (¬2) أمّه، أنه يُغرَّم على ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ولعل المراد: من زائد. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استُحِقت.

الرَّجاء والخوف، بأن يُعتَق من ثلث سيده، أو يرق إذا مات سيده وعليه دين يستغرقُه. والمشهور الذي عليه الأكثر من أصحاب مالك خلاف هذا وأنه يقوَّم: رقيق. ألا ترى انه لو اشترى المدبَّرَ رجلٌ فأعتقه لكان العتق فيه فوتًا، ولا يرجع على البائع بشيء من الثمن على إحدى الروايتين. وهذا يستقصى في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، وفيه يتكلم على استحقاق ولد المكاتبة والمعتقه إلى أجل. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: اختلف المذهب على قولين: هل يقوّم ولد المستحقه بماله أو يقوم بغير مال؟ فمذهب ابن القاسم في العتبية إلى أنه يقوم بغير مال، ووافقه على هذا ابن كنانة وهو ظاهر المدونة من موضعين اثنين: أحدهما ما قاله ابن القاسم في كتاب الاستحقاق: إن الأب إذا كان فقيرًا أخذت القيمة من مال الولد. وهذا لا يتصور أخذه من مال الولد على أن يقوم بغير مال. وأما إذا قوّم بماله فكيف تكون قيمته بعضًا لماله وقيمة رقبته؟ وقد اختلف في أمّ الولد إذا جنت ووجب على سيّدها أن يفديها بقيمتها لكون الجاني تعلق حقّه بعينها, ولا سبيل إلى استرقاقها لما أحدثه سيدها من الاستيلاد لها المانع من بيعها. وفيها أيضًا قولان: هل يلزم السيدَ أن يفديها من الجناية بقيمتها فقيرةً أو بقيمتها بمالها الذي. في يدها؟ فكأن من رأى أن التقويم يكون بالمال قدّر أن من استقر فيه الرقّ فإن ماله لمن ملك استرقاقه، فلولا ما فعل مشتري الأمة من استيلادها لكان ولدها يأخذه مستحقُّها بماله، وقد حال بينه وبين أخذ المال، فوجب أن يغرم قيمة عوضه لأجل الحيلولة، كما يغرم قيمة الأمة. وكأن من رأى أن التقويم يكون بغير مال، رأى أن الرق لم يستقر في هذا الولد، فيكون لمن يملك رقَّه أن ينتزع مالَه، والحرية في هذا الولد هي

الأصل، والحر لا يمُلك عليه ماله. وكان بعض اشياخي يرى أن التقويم بماله أَوْلَى لأنه تجب عليه غرامة قيمة نفسه عند ابن القاسم إذا كان أبوه فقيرًا، فكذلك يجب أن يقوّم بماله، وإن كان الغير رأى أن الأب إذا كان فقيرًا فإن الولد لا تلزمه غرامة قيمة نفسه. وكأن شيخي هذا يرى أن القياس أن تكون الغرامة على الولد، ولو كان أبوه موسرًا, لأنه أحق بل يجب عليه فداء نفسه وانتقاذها من الرقّ فكان أولى بالغرامة من أبيه وإن كان موسرًا. وهذا الذي قاله، رحمه الله، لا يطابق التعليل الذي عللنا به وجوبَ القيمة على الاب, لأنا علّلنا ذلك بأن الأب كالجاني على ملك غيره يالحيلولة بينه وبين مالكه، فلهذا وجبت عليه القيمة، والولد لا جناية له في هذا, ولا علاقة بينه وبين إتلاف مال الغير، فلهذا لم يكن أوْلى بالغرامة خلاف ما أشار إليه شيخنا. وقد اختلف ايضا في تعلق الغرامة بالأب هل هي بشرط أن يكون حيًّا، أو تتعلق به حيًّا، وتؤخذ من تركته ميتًا, كما اختلف في أم الولد إذا جنت، ومات سيّدها، فقيل: التباعة بالغرامة على سيدها إن ترك مالًا، وإن لم يترك مالًا لم تغرم هي في فداء نفسها شيئًا. وقيل: إن الغرامة على سيدها تُؤخذ من تركته. والجواب عن السؤال الرابع ان يقال: إذا قتل هذا الولد عمدًا فإن استحقاق المطالبة بهذا الدم لأبيه، ولاحق للمستحق لأمّه في طلب هذا الدم. فأبوه غير بين أن يقتل قاتله (ولا يعتد منه) (¬1) المستحق، بأن يقال له: قد تعلق لي حق بفكاك ولدك من الرق، فيجب أن يتعلق لي حق بالعوض الذي يؤخذ فيه، وهي ديته. لأن قتل العمد إنما تجب ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَعْتَرضُ.

فيه الدية بتراضي القاتل وأولياء المقتول، وما يحتاج فيه إلى تراضي المتحاكمين فليس بحق ثابت لأحدهما. ولو قلنا بمذهب اشهب، بأن لأولياء القتيل أن يجبروا القاتل على أن يدفع لهم الدية، لكان الانفصال عن هذا الاعتراض بأن أشهب لا يرى الدية حق (¬1) متعين (1) لا معدل عنه، وإنما يرى أن يملك أولياء الدية أن يتملّكوه، ومن ملك أن يملك فلا يعد كالمالك، على إحدى الطريقتين، لا سيما وأشهب يقول: إن القتل لو كان خطأ، وأخذت الدية جبرًا من العاقلة، فإن المستحق لا يأخذ منها قيمة الولد، خلافًا لما ذهب إليه ابن القاسم من أن المستحق يأخذ من الدية قيمة الولد. وإن قصرت الدية عن قيمة الولد فلا تباعة على الأب. وكأن هذا يلتفت إلى أصل آخر، وهو أن الدية المأخوذة في الحُر هلْ هي كالبدل من عينة والقيمة له، كما تكون قيمة العبد إذا قُتِل بدلا من عينه، فيحسن على هذا أن يأخذ المستحق قيمة الولد من الدية التي أخذها أبوه من العاقلة. أو يقال إن الدية في قتل الخطأ ليست كالقيمة لشيء مستهلّك، كتقويم العبد إذا قُتِل، فلا يكون بدلا من العين (إذا لم نكن) (¬2) وإذا لم تكن بَدلًا لم تؤخذ منها القيمة. وإذا قلنا بمذهب ابن القاسم إن المستحق يأخذ قيمة الولد من الدية المنجَّمة على العاقلة، فإنما يأخذ القيمة من نفس ما نُجِّمّ على العاقلة، فإن قَصُر النجم الأول عن قيمة الولد التي تجب للمستحق أخّر طلبه حتى يحل النّجم الثاني، فيأخذ حقّه منه. وإن قصر أيضًا فيؤخر أيضًا حتى يستوفي الدية من العاقلة. ولو أنفقها الأب ما رجع المستحق على العاقلة, لأنهم دفعوها لمن لا يستحق قبضها. ولو قطع عضو من الولد المستحَق قبل أن يأتي المستحِق فأخذ الأب دية ذلك العضو مثل أن يأخذ دية يدِ هذا الولد إذا قطعت، فإن المستحِق إذا لم يكن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حقًّا متَعَيّنًا. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حذف ما بين القوسين.

له في دية اليد شيء على مذهب أشهب القائل بأنه لا تؤخذ القيمة من دية الخطأ في قتل النفس، وإنما للمستحق قيمة الولد على أنه مقطوع اليد، وعند ابن التهاسم أنه يُحكَم للمستحق بقيمة الولد يوم المحاكمة في الاستحقاق على أنه مقطوع اليد،، ثم ينظر ما بين قيمته صحيحًا يوم جُنِيَ عليه وبين قيمته مقطوعَ اليد ذلك اليوم، فيستحق المستحِق لأنّه بين أخذ قيمته مقطوع اليد، ما بين قيمته صحيحا يوم قطعت وقيمته مقطوع اليد، يأخذ ذلك من دية اليد، فإن قصرت عنه دية اليد لم يطلب المستحق بزيادة على ما أخذ. وإن أخذ المستحق قيمة اليد من الدية التي أخذها الأب، وفضل من ذلك فضلة، فقد قال ابن القاسم: إنها للأب. وتأول الأشياخ أن هذا الإطلاق ليس على ظاهره، وأن المراد به أنها للأب ينظر فيها لولده. وهذا التأويل، وإن اقتضاه القياس، عندهم، فإن ظاهر الكلام لا يقتضيه. وهكذا وقع لسحنون في أحد قوليه: إن الفاضل يكون للأب قولًا مطلقًا أيضًا. وإن كان سحنون قد قال إن دية اليد للولد لأنها كَمَالٍ له، وماله يبقى في يده، ولا تؤخذ منه قيمة، مع كون الأب موسرًا، فكذلك ما هو ثمن لعضو من أعضائه. ولكن سحنون، بعد أن قال هذا، قال: أُوقِفُ القولين حتى انظر فيهما. وعلى هذا الأسلوب يجري الحكم في ولد هذه المستحَقة إذا لم تضعه وضرَب بطنَها رجل فأسقطته، فوجب على الضارب غرة، عبدٌ أو وليدة. فإن أشهب يرى أن هذه الغرة تكون للأب، ولا جق لمستحق الأم فيها طردًا لأصله: إن القِيَمَ لا تؤخذ من الديات. ودية الجنين كدية الرجل الكامل. وكما لا يأخذ المستحق قيمة الولد من دية الرجل الكامل فكذلك لا يأخذها من دية الجنين. ومضى ابن القاسم على أصله أيضًا في هذا كما حكيناه عنه من أن المستحِق يأخذ قيمة الولد على أنه عبدُ من الدية الكاملة، فكذلك يأخذ عشر قيمة أم

الجنين, لأن ذلك هو دية الجنين الأمة (¬1) فيقضى له من الغُرة بمقدار قيمة عشرة (¬2) الأمة. فإن قصرت الغرة عن ذلك فلا مطالبة على الأب بزيادة على ما قبض من دية الجنين وهو الغرة الواجبة فيه. تم كتاب الاستحقاق والحمد لله. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للأمة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عشر.

كتاب الرهن

كتاب الرهن

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} صلى الله على سيدنا محمَّد وسلم كتاب الرهن (¬1) قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ورضي عنه: معنى الرهن احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفي الحق من ثمنها، أو من ثمن منافعها عند تعذر أخذه من الغريم، مفردة كانت أو مشاعة. وهو جائز لكل دين لازم أمكن استيفاؤه من ثمنه، كالدين من قرض أو بيع أو قيمة متلف أو غير ذلك. ويصح عقده قبل وجوب الحق وبعده ومقارنًا له. قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل أحد عشر سؤالًا منهما أن يقال: 1 - ما الدليل على جواز الرهن على الجملة؟ 2 - وما الدليل على جوازه في الحضر؟ 3 - وهل ينعقد الرهن قبل ثبوت الحق في الذمة؟ 4 - وما الذي يصح رهنه من مشاع أو مفرد؟ ¬

_ (¬1) في المغربية والغاني: الرهون.

5 - وهل استدامة القبض في الرهن شرط في صحّتها (¬1) أم لا؟ 6 - وهل يجوز رهن المجهول؟ 7 - وهل يجوز رهن الغرر؟ 8 - وهل يجوز اشتراط كون المبيع رهنًا؟ 9 - وهل إذا رهن العصيرَ فصار خمرًا ثم تخلل يبقى على حكم كونه رهنًا أم لا؟ 15 - وهل تحل الخمر إذا تخللت؟ (¬2) فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: أما جواز الرهن على الجملة فالكتاب والسنّة وإجتماع الأمة، فأما الكتاب فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬3) فذكر الرهن على معنى الأمر به كما أمر بالشهادة، ووصفه بما تمّمه ويؤكد عقده فقال: "مقبوضة". وأما السنّة فورد فيها ذلك قولأوفعلًا. فأما القول فقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا يَغْلَق الرهن" (¬4) وما رواه أيضًا أبو هريرة من قوله - صلى الله عليه وسلم - "الرهن مركوب ومحلوب" (¬5) و"الرهن من راهنه له ثمنه وعليه غرمه" (¬6). ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب، صحته. (¬2) لم يذكر إلا عشرة أسئلة. (¬3) البقرة: 282. (¬4) الموطأ: 2: 271: حد. 2132. كتاب الأقضية. (¬5) فيض التفسير: 59:4 حد: 4545. وفيه: محلوب. بالحاء. (¬6) البيهقي: المسنى الكبرى: 6: 39. وقد روه: "الرهن من صاحيه الذي رهنه له عُنْمه وعليه غُرْمه".

وقد روي هذا عن أبي هريرة من طُرق أخرى من لفظ آخر. وأما رواية ذلك فعلًا فإنه قد روى أيضًا أنه عليه السلام رهن درعه عند يهودي بالمدينة في شعير أخذه لأهله (¬1). وقالت عائشة رضي الله عنها: "فإنه مات عليه السلام ودرعه مرهونة" (¬2). وأجمعت الأمة على جواز الرهن على الجملة. واختلفت في أحكام بعض تفاصيله، كما نورده في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أما جواز الرهن في السفر فقد نص عليه الكتاب كما ذكرناه. وأما جوازه في الحضر فجماعة العلماء على إجازته سوى مجاهد وداود، فإنهما منعا الرهن في الحضر تعلقًا منهما بدليل الخطاب من قوله تعالى "وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة" (2) فدل هذا التقييد بالسفر على أنه لا يجوز الرهن في الحضر. والردّ عليهما في هذا الذي تعلقا به أنَّا نلتفت في هذا التعارض الذي ظننّاه إلى أنواع من أصول الفقه، منها القول بدليل الخطاب، فإن حذاق المتكلمين من الأصوليين أنكروه، فعدى مذهب هؤلاء (يبطل هذين الرجلين) (¬3) بدليل الخطاب الذي ذكرناه في هذه الآية. وإذا قلنا بدليل الخطاب التفتنا فيه إلى أصل آخر من أصول الفقه، وهو النظر في دليل الخطاب: هل يقدم عليه، إذا وقع في القرآن خبر واحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يكون هو المقدم على خبر الواحد؟ ¬

_ (¬1) البيهقي: المسنى الكبرى: 6 , 36. (¬2) البقرة: 283. (¬3) هكذا في النسختين.

فإن قلنا: إن الخبر مقدّم على دليل الخطاب سقط أيضًا تعلقهما بهذا الدليل، وكونه عليه السلام رهن درعه بالمدينة، والمدينة حاضرة وهي وطنه ووطن أصحابه. ويلتفت أيضًا إلى فعله عليه السلام هل هو مقصور عليه أو (¬1) مختصر به حتى يقوم دليل على تعديه إلى أمته، أو يكون حكمًا متعديًا إلى أمته حتى يقوم دليل على اختصاصه به دون أمته؟ فإن قلنا بتعديه أيضًا سقط ما تعلقوا به مع مجموع الأصول التي قدمنا ذكرها. فهذا وجه العمل فيه من أصول الفقه. ويلتفت أيضًا إلى أصل آخر وهو التعلق بدليل الخطاب إذا لاح أنه يقصد به اختصاص الحكم بالمذكور. وإنما خص بالذكر الوصف المذكور لكون العادات مقتضية له. فإن قلنا: لا يتمسك بمثل دليل الخطاب الذي اقتضى موجب العادة تقييدة بالذكر لم يصح لمجاهد ودواد التعلق بهذه الآية. إن الله سبحانه لم يذكر السفر ها هنا قصدًا إلى تخصيص الحكم بالمذكور. لكن مقتضى العادات أن الكتّاب والشهود يوجَدون في الحضر غالبًا، ويتعذرون (¬2) وجودهم في السفر غالبًا، فكأنه تعالى يقول: اكتبوا وأشْهِدوا إذا تداينتم، وإن تعذر الشهود والكتاب فخذوا الرهن خوفًا من الجحود، أو خوفًا من فوت الحق بالعُدْم والفلس. ومما يؤكد هذا التأويل أن الرهن على شرطين وهما: عدم الكتاب والسفر. وقد اتفق على أنهما لو كانا مسافرين ولم يَعْدِما الكتاب لجاز لهما ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أي. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويَتَعَذَّرُ.

الرهن. فدليل الخطاب يقتضي أنه لا يجوز في هذه الجهالة (¬1) الرهن لعدم أحَدِ الشرطين، فإذا كان لا يُختلف في جواز الرهن في السفر وإن وجد الكاتب دل ذلك على أن هذا الاشتراط غير مقصود به تخصيص الحكم بالمذكور. وهذا واضح لأنه إذا لم يُعتبر أحد الشرطين فالآخر مثله لا يعتبر أيضًاوهو السفر. وقد اعتُذِر عما وقد في هذا الحديث من كونه عليه السلام رهن درعه عند يهودي، وعَدَل عن مياسير أصحابه كعبد الرحمان بن عوف وعثمان بن عفان المشهورين بإفراط اليسار، وغيرهما. وذكرنا في كتابنا المعلم العذر عن ذلك، وأنه عليه السلام يمكن أن يكون قصد بذلك تعليم أمته جواز معاملة أهل الكتاب لئلا يظنوا أنّ كفوهم وعملهم بما لا يحل في شوعنا يمنع معاملتهم. وهذا جواب صحيح لا قدح فيه. وقيل: إنه عليه السلام عدل عن ذلك لاعتقاده أن أصحابه لا يأخذون منه الرهن فيما يريد أن يتسلف منهم، ولا يطلبونه بالقضاء لما تسلفه ولو بذل ذلك (عليهم لنقل) (¬2) عليهم قبول ذلك منه. فلهذا عدل إلى رجل يهودي ترتفع هذه العلة فيه. وقد ركّب بعض الناس على هذا العذر فائدة أخرى، وقال: إن هذا يدل على أن مَن له دين فأبرأ مَن هو عليه أنه لا يفتقر في ذلك إلى قبول مَن عليه الدين الذي أسقِط عنه على قول بعض العلماء الذاهبين إلى هذا. وهذا استنباط فيه إشكال لا ينتهض دليلًا على هذه المسألة, لأنه عليه السلام عدل عن ذلك لِما أشرنا إليه من أنه يعتقد في أصحابه أنهم لا يقضونه (¬3) فيما أسلفوه له، ولو بذله لهم وقد أسقطوه ولزمهم (¬4) قبول ذلك لثقل ذلك ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحالة. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إليهم لَثَقُلَ. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يَقْتضونَه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أَلْزَمَهُم.

عليهم وشق، فآثر عليه السلام رفع هذه المشقة عنهم سواء كان يلزمه قبول إسقاطهم وإبراؤه من دينهم أولًا يلزمه. وأضاف هؤلاء إلى هذا فائدة ثانية، فقالوا: فيه دليل على أن الرهن لا ينفسخ بموت الراهن، لقول عائشة عليها السلام "مات عليه السلام ودرعه مرهونة "عند يهودي" ولم تقل: انفسخ الرهن بموته. وهذه أيضًا فائداة قد اتضح حكمها من غير هذا الحديث، مع كون سكوتها عن ذكر الفسخ ليس بصريح في إثبات الفسخ ولا نفيه. وذكروا أيضًا فائدة ثالثة فقالوا: فيه دلالة على جواز معاملة مَنْ بعضُ مالِه حرام. لان اليهود يستحلون في المعالات ما يمنعه شرعنا. ثم (¬1) هذا قد عاملهم عليه السلام. وهذا يرجع إلى ما ذكرناه نحن مع العذر عنه عليه السلام وأنه قصد تعليم جواز معاملة أهل الكتاب. وهذا أيضًا يُلتفت فيه إلى كونهم مخاطبين بفروع شرعنا وهم على كفرهم، فيكون لهذه الفائدة وجه وإن كان قد تقدم فيه إشكال، أو يقال: إنهم غير مخاطبين فلا يثبت التحريم علينا في معاملتهم. وذكروا أيضًا فائدتين قد ذكرناهما، وهما جواز الرهن على الجملة، وجوازه في الحَضر، ردًا على مجاهد وداود كما بيناه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: للرهن ثلاث حالات: 1 - أحَدُها: أن يؤخذ الرهن بعد ثبوت الحق في الذمة. 2 - والثاني: أن يقارن الرهن انعقاد الحق في الذمة. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الأوْلى: ثم إنه مع هذا.

3 - والثالث: أن يستحق الرهن (¬1) انعقاد الحق في الذمة. فأما أخذ الرهن وقبضه بدين قد تقدم في الذمة فبعد تقرّره تبرَّع من عليه الحق بدفع رهن به، فإن هذا جائز بإجماع. وكذلك إذا قارن اشتراطُ الرهن انعقادَ الحق، فإنّه أيضًا جائز بغير خلاف. على أن بعض الناس أشار إلى أن الأصل في الجواز القسمُ الأول، وهو التطوع بالرهن بعد ثبوت الحق في الذمة، مثل أن يقترض رجل من رجل آخر دينارًا من غير أن يشترط دافعُ الدينار أن يأخذ رهنًا، لكن مَن عليه الحق تطوّع بعد قبضه السلفَ بأن دفع به رهنًا، أو يبيعه سلعة بثمن من غير أن يشترط البائع رهنًا، فبعد إنعقاد البيع تطوع المشتري بدفع رهن بالثمن، لكن أجازةَ اشتراطِه في العقد كالرخصة، لأجْل الضرورة الداعية إليه, لأن من باع سلعة ولم يشترط رهنًا، أو أسْلف دنانير ولم يشترط رهنًا، قد يطالب المشتريَ أو الذي تسلف منه بأن يدفع له رهنًا، فلا يساعده، فيكون ذلك داعية لسدّ باب المعاملات، فلأجل هذه الضرورة جاز اشتراط الرهن حين عقد البيع أو القرض، وإن لم يكن ذلك رهنأ بحقٍّ قد استقر. وهذا الاستعذار لا نحتاج نحن إليه لأجل أنا نجيز تقْدِمة اشتراط الرهن على عقد البيع أو السلف. والحالة الثانية (¬2) أن يتقدم ذكرُ الرهن والتزامُه على انعقاد الحق الذي يؤخذ به الرهن. فهذا مما اختلف الناس فيه ومثاله: أن يقول رجل لرجل: إن بِعتَني ثوبَك هذا غدًا دفعتُ لَك في ثمنه عبْدي هذا رهْنًا، وإن أقرضتَني مالًا غدًا دفعتُ إليك عبدي هذا به رهنًا. فهذا يجيزه مالك وأبو حنيفة، ويمنعه الشافعي. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إضافة، الرهن [قبْل] انعقاد. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الثالثة.

وسبب هذا الاختلاف التنازع في ظواهرَ وأقيسةٍ. فأما الظواهر فإن الشافعي يقول: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬1) إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}. وقوله تعالى: "تداينتم" صيغته صيغة الأفعالُ الماضية، لكنه لما دخل عليه حرف الشرط صيّرة للاستقبال. لكن وإن صيّره ذلك للاستقبال فإن ما عُلِّق به بحرف التعقيب إنما يكون بعد حصول الفعل، وبعقِبِه, فذلك قوله تعالى " إذا تداينتم بدين" يعني في المستقبل يعني " فرهان مقبوضة" هذا الحرف، الذي هو الفاء، يقتضي أن الرهن يكون بعد وقوع المداينة، واقتضى هذا المنعَ من انعقاد الرهن قبل ثبوت الحق في الذمة. وقابل ذلك أصحابنا بقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فعمَّ جميعَ الأحوال، ولم يشترط ها هنا كون هُذا الرهن المقبوض مقارنًا لثبوت الحق أو متقدمًا عليه أو متأخرًا عنه. والشافعي يرى إن هذا عطف على ما تقدم، والمراد: وإن كنتم على سفر وقد تداينتم فلم تجدوا كاتبًا ولا شاهدًا فرهان مقبوضة. ويقابل أصحابنا استدلاله هذا بالآية بقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬2) لم يشترط فيه كونه سابقًا لثبوت الدين أو متأخرًا عنه أو مقارنًا له، فهو على عمومه. وكذلك ظاهر لمحوله عليه السلام "المؤمنون عند شروطه" (¬3) فعم سائر الشروط، منها الرهبان السابقات (¬4) لعقد الييع واللاحقة له. لكن الشافعي قد يرجح استدلاله بأن التعلق بظاهر كلامٍ يختص بالمسألة ¬

_ (¬1) البقرة: 282، 283. (¬2) المائدة: 1. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: السابقة.

بعينها، وقد ذكر الرهن والمداينة، أَوْلَى من التعلق بكلام لم تختص به المسألة هذا سبب الاختلاف من جهة الظواهر. وأما من جهة الاعتبار فإن الشافعي يقول: إنما يتصور في النفس حقيقة الرهن بأن يكون رهنًا بحق استقر في الذمة، وأما رهْن بغير شيء ولا بحق فلا يُقبل، ولا يتصور فيه كونه رهنًا. وهذا يضطر إلى أنّ الراهن من حقّه أن يكون متأخرًا عن ثبوت الحق، أو مقارنًا له، لأجل الحاجة والضرورة الداعية إلى اشتراط الرهن في العقود كما نبهنا عليه. وأيضًا فإن الظاهر من القرآن أن الرهن أقيم مقام الشهادة، عند تعذر أخذ الشهادة، ليكون الرهن ثقة بالحق، ومانعًا من فواته والطلب به. ألا ترى قوله تعالى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} (¬1) والمراد أن الرهن يستوثق به في الحق كما يستوثق بالشهادة. وقد تقرر أن الشهادة لا تصح إن سبق (¬2) ثبوت الحق المشهود به، فكذلك الرهن الذي أقامه الله سبحانه مقامها، ألا ترى أن رجلًا لو قال لشاهدين: أَشهِدا عليَّ بأن فلانًا يُقرِضني بالغداة مائة دينار. فإن هذه الشهادة غير مستقلة ولا يقضي بها على المشهود عليه، (ولا يأمره بها) (¬3)، فصارت ملغاة مُطّرحة، فكذلك الرهن الذي أقيم مقامها إذا تقدم عقدَ السلف أو البيع لم يكن رهنًا، كما لم تكن الشهادة التي ذكرنا شهادة ينتفع بها. وأصحابنا يجيبون عن ذلك بأن الرهن السابق، الذي ذكرنا مثاله، كأنه انعقد إنعقادًا مرقبًا، فإن صح السلف بالغداة كان ذلك المذكور بالأمس رهنًا، وخيِر القائلُ لذلك على تسليمه لمن أسلفه، ولمن باعه منه. لكنه لم يستقرّ كونه ¬

_ (¬1) البقرة: 282، 382. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: سبقتْ. (¬3) هكذا في النسختين.

رهنًا بمجرد قول أمس، لكن ما فعلاه اليوم من قرضٍ أو بيعٍ والذي فعلاه اليوم أوجَب جبر المشتري أو المقترض على دفع ما جعله بالأمس رهنًا. وجرى ذلك مجرى الشروط التي يتأخر المشروط عن زمن العقد. لكن وإن تأخر عن ذمة (¬1) إذا أتى زمنه تعلق الشرط بالمشروط تعفُق وجوبٍ، كقول القائك: إنْ طلقتَ زوجتَك فعلي مائة دينار، أو اعتقتَ عبدك فعلى مائة دينار. فإن هذا الشرط إذا تقدم بقي على الترقّب فإنْ وقع الطلاق أو العنق إثر الشرط، وصار مع المشروط كالواقعيْن في زمن واحد، أو يفد (¬2) أنهما، وإن تزاحما في الزمن، فإن المشروط لم يحصل إلا بعد حصول الشرط، كقوله لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق، فلا تأثير لهذا القول، لكنها لو دخلت وجب الطلاق. والشافعي يلغي هذا الشرط في الرهن ويوجب القرض والبيع من غير زمن (¬3)، ولو أخذه لم يكن في يديه رهنًا، فهو كالأمَانَة. وهذا إضرار بالذي يُقرض والذي باع لأنهما إنما التزما إخراج ملكهما بشرط الرهن، وإذا قال: إذا بعتَ مني عبدك غدًا بمائة دينار فعبدي هذا رهن بها. فأصْبَحا وتبايعا, ولزم البيع عند الشافعي إذا عقداه من غير رهن، فلهذا ألزمَ البائعَ بيعًا التزمه على صفة ما ألزمه إياه مع سقوط الصفة، لا سيما والرهن كأنه جزء من الثمن، ولا يصح أن يُلزمَ من باع سلعة بمائة دينار أَلا يقبِض في ثمنه (¬4) إلا تسعين دينارًا. وأما قياسهم على الشهادة، فإن الشهادة ها هنا لا تصح إلا عن أمر معلوم عند الشاهد، ألا ترى قوله تعالى {اوَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (¬5). وعلمهما بقول هذا القائل اليوم: إذا بعتني غدًا عبدك بمائة دينار رهنتك عبدي هذا، لا يكون علمًا فيهما بما يفعلانه في الغداة من بيع أو غيره، وإنما يصير الثمن في الذمة ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: ذلك. (¬2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: يُقدَّر. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: رهن. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ثمنها. (¬5) يوسف: 81.

بانعقاد البيع، وهذان الشاهدان لم يعلما به، بخلاف الرهن فإنه لا تعلق له ها هنا، في صحة كونه رهنًا بالعلم، كما تتعلق الشهادة بعلم الشاهدة. ويتعلق أصحابنا من جهة الاعتبار بأن الرهن إذْن من مالكه في إمساك الرهن وحفظه، والإذْن ها هنا يصح تقدُّمُه، ألا ترى أن القائل لو قال لرجل: أذنت لك أن تقبض بالغداة هذا الثوب وديعةً عندك، فإن هذا يصح. فإذا قبضه بالغداة صار وديعة بالقول الذي كان بالأمس، ولم يكن متعديًا في قوله: أذنت لك أن تقبض عبدي هذا غدًا على أنه رهن عندك. ألا ترى أن النبي عليه السلام لما بعث عسكرًا إلى الشام قال: "أميركم فلان، فإن قتل فأميركم فلان، فإن قتل فأميركم فلان (¬1) فعلق الإذن بشرط، على ما ذكر في الحديث، واحد بعد واحد، ثلاث مرات. فلا يستنكر في الشرع تعلق الإذن بأمر يكون في المستقبل. وقد قال أصحاب الشافعي: الرهن لا يتعلق بالصفات ألا ترى أنه لو قال: إذا طلعت الشمس بالغداة فخذ عبدي رهنًا بالحق الذي استقر في ذمتي لك، فكذلك إذا تقدم على عقد البيع صار الرهن علق بصفة. وقد تردد كلام ابن القصار في هذا فقال: إنما يتعلق الرهن بصفة تُفِيد كقوله: إن صبرت عليَّ، بالدين الذي حل لك عليّ، شهرًا فخذ عبدي رهنًا، فهذا القول ينعقد ويصح. وأما تعليقه بزمن لا فائدة فيه، للراهن ولا للمرتهن، فإن ذلك لا يصح. ثم قال: إنه لا يمتنع، على أصولنا، صحة هذا القول، وكون هذا رهنًا إذا طلعت الشمس. وهذا الذي تردد فيه، ظاهر المذهِب فيه ما قال من كون ذلك يصح, لأن القائل ذلك كالواهب منفعة لمن له الدين وتطوع ببذل ما يستوثق به من حقه ببذله بعد حين من القول. وهذا لا نكير فيه. ¬

_ (¬1) ابن حجر: فتح الباري: كتاب المغازي: باب غزوة مُوتة: 9: 52, 53. ابن هشام: تهذيب السيرة: 3: 427.

فإن قاسوا الرهن المتقدم على المعاملة فإن ذلك قياس يصح على مذهبهبم دون مذهبنا، فإن رجلًا إذا قال لرجل: دائنْ فلانًا، وعليّ ضمان ما تدايِنُه به، فإن ذلك ضمان لازم عندنا، إذا داينه بعد هذا القول بما يشبه أن يداين به ويثبت ذلك. وهو يمنعون ذلك، ولا يرون الضمان ينعقد بما يستقبل المعاملة كما قالوا في الرهن. وكذلك لو قال: ما داينتَ به أحد إلغرماء أو غصب أحد فعلىّ ضمانه. نختلف نحن فيه معهم. وقد ذكر ابن القصار أن من قال لرجل: اطرح متاعك في البحر، وعليّ ضمانه، فطرح الرجل متاعه في البحر، أنه لم يختلف في لزوم هذا الضمان، وإن كان ضمانًا تقدم الوجوبَ. فكذلك الرهن إذا تقديم ثبوتَ الحق. وهم ينفصلون عن هذا بأن هذا يجري مجرى المعاوضة فكأنه قال له اطرح متاعك، وأنا أعطيك قيمته عوضًا عنه، فلهذا أُلزِم ذلك، لأن حكم المعاوضة خارج عما نحن فيه. وابن القصار يرى أن هذا من الأسلوب الذي نحن فيه، (لأنه قيمة التزام قيمته) (¬1) قبل وجوبها ووجود سببها. وقد تقدم حكم ضمان دين يثبت فيما بعد، في كتاب الحمالة بما يغني عن بسطه ها هنا. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: الرهن يكون أنواعًا، منه ما يجوز ملكه وبيعه، ومنه مالًا يجوز ملكه ولا بيعه، ومنه ما يصح ملكه ولايصح بيعه، ومنه مايصح بيعه. واختلف في رهنه: ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأن نيَّتَهُ التزامُ قيمته.

فأما ما يصح بيعه وملكه، فواضح أنه يجوز رهنه، كالعقار والعروض والحيوان، وغير ذلك من ضروب الأموال التي يصح ملكها وبيعها فيجوز رهنها. وأما ما لا يصح ملكه ولا بيعه، فواضح أيضًا حكمه في كونه لا يصح رهنه، كالخمر والخنزير، وشبه ذلك مما لا يصح ملكه ولابيعه. وأما ما يصح ملكه ولا يصح بيعه، كأم الولد والمعتق إلى أجل، المدبّر، فإن هذا أيضًا (¬1) يصح رهنه, لأن فائدة الرهن الاستيثاق من الحق حتى يستوفي الحق من ثمن العين المرهونة. فإذا كانت العين المرهونة لا يجوز بيعها فلا فائدة في رهنها. وأما الثمرة قبل أن يبدو صلاحها، والأجِنّة التي في البطون التي لم توضع، فإنها يجوز رهنها بعد عقد البيع، وفي السلف، مقارنة له أو متأخرةً عنه. وهل يجوز رهنها في عقد البيع؟ فيه اختلاف في المذهب، لأجل مراعاة المآل، وهو ترقب مصيرها إلى حالةٍ يجوز البيع فيها. وهذا الترقب. يُلحقها بعقود الغرر التي لا يجوز عقد المعاوضة عليها في الشرع. لكن هذا متفق عليه في كون الغرر في نفس الثمن، أو نفس المثمون، وكأن، الرهن خارج عن الثمن والمثمون، عند من أجاز أخذه رهنًا في عقد البيع. وعلى هذا يجري الأمر في رهن المدبّر، إن مات سيده وعليه دين يَرُدُّ التدبير، أو ارتُهنت خدمتُه أيامَ حياته، ولا يُدرَى مبلغها. وأما ارتهان الكلاب التي اتخذت للضّرع أو للزرع أو للصيد، فارتهانها مبني على الخلاف في جواز بيعها، فمن أجاز بيعها أجاز رهنها، وميت منع بيعها منع رهنها لعدم الفائدة المقصودة في الرهن، وهو استيفاء الحق من ثمن الرهن. وأما ما يجوز بيعه واختلفوا في رهنه، فهو رهن المشاع. فعندنا وعند الشافعي أنه جائز. ومنع ذلك أبو حنيفة ورأى أن المشاع لا ينعقد فيه رهن، مثل ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين وظاهر التعليل يفيد: لا يصح.

أن يرهن نصف دار أو نصف عبد، فإن الرهن عنده لا يصح إلا أن ترهن الدار كلها أو العبد كله، فيكون هذا الرهن مفردًا محوزًا متميزًا ما رُهن عمّا لم يرهن. وذكر الشيخ أبو الطيب عبد المنعم، وهو أحد أشياخ شيوخي، تخريجَ مذهب أبي حنيفة من قول من قال من أصحابنا: إن هبة المشاع لا تصح، لكون القبض فيه لا يتأتى، فكذلك يَلزم على هذا. أن يمنع من رهن المشاع. وهذا النقل الذي نقله أو التخريج الذي خرجه، لم أسمعه من أحد من أشياخي، وإنما ذكر في بعض ما صنعه. واستدل أصحابنا على رهن المشاع بقوله تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) ولم يفرق بين كون الرهن مفردًا متميزًا، ولا بين كونه مشاعًا. والمعتمد عليه من طريق النظر أن الغرض من الرهن استيفاء الحق من العين المرهونة. وقد اتفق على جواز بيع المشاع، فيقتضي هذا الاتفاقُ على جواز بيعه أن يُتّفق على جواز رهنه, لأنه لو كان القبض فيه لا يتأتى لوجب أن يكون البيع فيه لا يجوز. فإذا أشعر الاتفاف على جواز بيعه يكون قبضه ممكنًا، اقتضى ذلك امكانَ القبض في كونه رهنًا. ولا وجه للمنع منه مع هذا الذي عللنا به الأصل المتفق عليه، وهو جواز البيع فيه. ويعتمد أبو حنيفة على أن الغرض. في الرهن ملك اليد لا ملك الرقبة، والعوض في المبيع ملك العين لا ملك اليد. وإذا كان الأمر هكذا فلا يتأتى ملك اليد في رهن المشاع لأن النصيب الذي لم يُرهن من حق مالكه أن يقول للمرتهن: اقْسِم معي منافع هذه الدار قسمة مهاياة، فتكون في يدك يومًا وفي يدي يومًا، وكذلك العبد يكون في يديك يومًا وفي يدي يومًا. والحكم عنده الجبر على هذه القسمة، فصار ذلك كالمشترط في عقد الرهن كون هذا النصيب من العبد في يد المرتهن يومًا وفي يد المشتري يومًا. ولو صرح بهذا الشرط في ¬

_ (¬1) البقرة: 283.

أصل العقد الرهن (¬1)، فقال الراهن: رهنتك داري على أن تكون يومًا بيدك رهنًا، ويومًا ترجع إلىّ ولا تكون لك رهنًا. لم يصحّ، فكذلك رهن المشاع إذا اقتضى الحكم فيه المنع في عقد الرهن. ويحترز أصحابه في تحديد هذا الاعتبار بقوله: إنّ معْنىً قارن الرهن العقد فأفسده قياسًا على ان من رهن داره على أنها تكون يومًا رهنًا، ويومًا بعده (لم يكن) (¬2) رهنًا في مسألة ناقضهم بها أصحابنا، وهي من أرهن جميع داره في دنانير، ثم سأل الراهنُ من بيده الرهن أن يمكّنه منَ بيع نصفها لينتفع بثمنه، ويبقى بيده النصف الآخر رهنًا بجميع حقه، فيجوز ذلك، ولا يَمنَع من صحة الرهن، مع كون المشترى لهذا النصف من حقه أن يدعُوَ من بيده النصف الذي هو رهن إلى هذه القسمة، فيقول له: تكون عندك الدار كلها يومًا، وعندي يومًا آخر. فقد صارت العلة المانعة عنده لرهن المشاع تتصور في هذه المسألة التي ذكرناها، فكأنه نقض العلة وخصصها. لكنه يقول: فإن هذا أمر طرأ على الرهن بعد انعقاد على الصفة التامة الكاملة، فلهذا لم يفسد هذا الرهن. وقد تكون حالة الابتداء تقتضي حكمًا بخلاف حالة ما بعدها فلهذا احترز القوم في الاعتبار الذي حَررَّوه بقولهم: معنًى قارن العقد فأفسده، على أن القوم يقولون بتخصيص العلة الشرعية، على ماذكرناه في أصول الفقه. فإذا قام لهم دليل على الجواز في هذه المسألة مع وجود العلة فيها لم يبطل عندهم أصل القياس. فإذا كان المقصود من الرهن ملك اليد لا ملك الرقاب، لم تؤثر المشاعة (¬3) في صحة البيع تكون اليد لا يُبْطِل ارتفاعُها عن الرقاب المملوكة حقيقةَ الملك، فكذلك في هبة المشاع, لأن القصد بها تملّك الرقاب، فلم يبطلها الإشاعة، بخلاف رهن المشاع فإنه المقصود منه قبض الرهن، وكونه في حكم يده، لا ملك الرقبة. فكل ما أثّر في هذا المقصود وهو رفع اليد مَنَع من صحة الرهن. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، رلعل الصواب: للرهن. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لا تكون. (¬3) هكذا في النسختين ولعل الصواب: الإشاعة.

وناقضهم أصحابنا أيضًا بمسألة أخرى وهي إذا قال رجل رجلين، أرهنتكما عبدي هذا في مائة دينار. فإن هذا الرهن يصح عنده وينعقد، وإن كان يتصور (فيه في صورة في) (¬1) رهن المشاع من كل واحد من المرتهنين لهذا العبد، من حقه أن يقول لشريكه في الرهنيّة: سلّمْ إليّ العبدَ يومًا وأسلمُه لك يومًا. وهذا أيضًا رفع لحكم اليد بمعنى قارن العقدَ فوجب أن يبطل الرهن. فأجاب أصحابه عن هذا بأن هذا رهَنَ جميعَ ملكه مفردًا مميزًا فلا يُلتَفَت بعد ذلك إلى ما يكون من حق الرجلين اللذين ارتهناه. لكن كل واحد منهما يأخذ هذا العبد يومًا نصفه بحق كونه مرتهَنًا عنده، ونصفه الآخر بحوزه نيابة عن صاحبه، على أن يفعل صاحبه غدًا مثل ما فعل هو من الحوز لنفسه، ونيابة عن صاحبه. والشريك بالملك لا يقال فيه:. إنه يحوز اليوم بحكم الرهن في النصف، وبحكم الرهن في النصف الآخر نيابة عن صاحبه، بل الشريك في الملك يحوز نصفه الذي يملكه بحق الملك في اليومين جميعًا وقد قلنا إن حق الملك لا يفتقر إلى حوز. وأصحابنا لا يرون هذا الاعتذار مقنعًا، ولا دافعًا لتصور رفع اليد بمعنًى قارن العقد. وسنتكلم نحن على صفة الحوز في زهن المشاع إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: جرى الرسم بأن الكلام على هذه المسألة مسوبقًا بالكلام على رهن المشاع بل يشار إلى كونها أصلًا فيها. فاعلم أن الرهن من شروط كماله وتمامه القبض. واختلف الناس: هل من شرط هذا العقد أن يكون مستمدًا أو يصحّ انقطاعه ولا يُبطل ذلك عقدَ الرهن؟ فمذهبنا أن الاستدامة شرط في صحته، فمتى رجع إلى يد الراهن، وردّه ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيه صورة.

إليه المرتهن بأىّ وجه كان، فإن الرهن يبطل. ووافقنا أبو حنيفة على ذلك، ولكنه استثنى أن يرفه إليه المرتهن وديعةً تكون عنده أو عارية يُعيرها له. فلم ير إبطال الرهن بذلك. وأما الشافعي: إنّ رده إلى يد المرتهن لينتفع به الانتفاعَ المعتادَ في مثل ذلك الرهن، ويعيده عند انقطاع المنفعة إلى المرتهن، لا يُبطل الرهنَ. فإذا رهنه دابّة، وعادت إلى يد الراهن يركبُها نهارًا بالبلد الذي هي به رهْن، ويردّها للمرتهن ليلًا، فإن ذلك لا يُبطل الرهنَ. وكذلك استخدامه العبدَ على هذا الرسم، ورجوع الرهن إليه لينتفع المنفعةَ المعتادةَ لا يؤثّر ذلك في الرهن، لقوله عليه السلام "الرهن مركوب ومحلوب" (¬1). ولا يراد بهذا أن المرتهن يركبه ويحلبه، وإذا لم يُرَدْ به هذا انصرف تأويله إلى الراهن يركبه ويحلبه. وأيضًا فإن حق المرتهن في تلك الرقبة (وذلك لمنفعة) (¬2) متابعة لها، وحق المرتهن في الاستيفاء وحفظه، إلى غير ذلك. فلا يُبطل أدنى الحقين آكَدَهما، فيكون حق المرتهن البيع (¬3) من انتفاع الراهن بملكه على وجه لا يضر المرتهن ولا يفسد رهنه. والمراد، عندنا، بالحديث أنه مركوب ومحلوب، ولكن لا يتولى ذلك الراهن بل يكون المرتهن يتولى ذلك من غير أن يعيده ليد الراهن. ويستدل أصحابنا بقوله تعالى فرهان مقبوضة (¬4) فوصَفها بالقبض، فوجب أن يستدام ذلك أيضًا حتى يُستوفى الحق, لأنه إذا شُرِط القبضُ حين عقد الرهن، والحق لم يحلّ، ولا وجبت المطالبة يه، فأحرى أن يُشترط ذلك عند الحاجة إلى الرهن، وأخذ الحق من ثمنه. وهذا لا يحصل إلا باستدامة القبض، مع أن قوله تعالى مقبوضة جعله كالصفة للرهن، فيجب أن يكون ذلكَ صفة ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وتلكَ المنفعة. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب، المنْعَ. (¬4) البقرة: 283.

لازمة. وإنما ذكرنا نحن هذه المسألة ها هنا لتعلقها بالمسألة التي قبلها، وبسط القول فيها يأتي فيما بعد إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: اختلف الناس في رهن المجهول، وضمان رجل مجهول. فعند مالك رضي الله عنه، أن من باع سلعة بدنانير معلومة على أن يعطيه المشتري رهنًا بَالثمن أو ضمينًا به، فإن ذلك جائز، (ويقتضي للمشتري) (¬1) بأن يدفع للبائع رهنا يكون ثقة بحقه يستوفي من ثمنه إذا بيع، الثمنَ المبيع به السلعة، وكذلك يعطيه ضمينًا مليئًا بالحق لا يَعْسُر تَناولُ الحق منه الذي ضمنه إذا توجه عليه. ومنع الشافعي وأبو حنيفة رهنَ المجهول، ونقل المزني عن الشافعي أنه يرى فسخ البيع المشترط في ثمنه رهن "مجهول" وقال المزني: هذا غلط، وإنما ينفسخ الرهن خاصة، لأجل ما فيه من جهالة، وأما البيع فمعلوم فلا ينفسخ، لكن يكون البائع بالخيار بين أن. يُمضيَ البيع (¬2) وبين أن يفسخه لعدم الرهن الذي بطل من ناحية الشرع. وهكذا الحكم في اشتراط ضمين مجهول، على ما حكيناه عن الشافعي والمزني. وسبب هذا الاختلاف أنه تقرر أن المبيع من شرطه أن يكون معلومًا، من غير خلاف في ذلك. واشتراط الشهادة بالثمن لا يلزم فيها التعيين من غير خلاف. وكأن مالكًا رضي الله عنه قاس اشتراط رهن المجهول على اشتراط الشهود المجهولين، ويوضح قياسه أن الله سبحانه أقام الشهادة على الحق مقام الرهن وجعل الرهن دَنِيًّا عن الشهادة إذا تعذرت الشهادة، فقال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ثم قال ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ويُقْضَى على المشتري. (¬2) هكذا في النسختين ولعل الصواب بلا رهنٍ.

بعد ذلك: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) فنبّه تعالى على أن الرهن يقوم مقام الشهادة في المقصود منَ الاستيثاق والأمْن ميت الجحود. فإذا وقع الاتفاق على أنه إذا باع سلعة، واشترط على المشتري أن يُشهِد على نفسه بالثمن، ولم يُسمِّ في اشتراطه الشهودَ، فإن هذا الشرطَ لا يُمنَع منه، ولا يُبطِل البيعَ, لأنا إذا خيّرنا المشترىَ، واشتُرِط عليه الرهن بالثمن أن يأتي برهن يكون فيه وفاء بالحق المرهون به، فإنه قد حصل الغرض المقصود من الاستيثاق، وإن لم يكن قد عُتن جنسُ الرهن في أصل البيع. كما يجْعل الاستيثاق بشهادة عدلين وإن لم يسمَّيا حين اشترط الشهادة. فإن قيل: الفوق بينهما أن الشهادة لا غرض في تعيينها، وشهادة عدلين يسقَيان زيدًا وعَفرًا، كشهادة عدلين يسميان بكرًا وخالدًا، بخلاف الرهن فإن الراهن قد يُوثر أن يرهن جنسًا يكون لا يضمنه، أو يؤثر الراهن جنسًا تشق حراسته وحفظه، ويؤثر المرتهن مالًا يشق حراسته وحفظه، كالحلي والثياب. فإذا تباعدت هذه الأغراض وجب فسادُ الشرط وإبطالُه، بخلاف الشهادة. وأجاب أصحابنا عن هذا بأن المقصو تحصيل ما يُوَفّى الثمن الذي وقع به الرهن، فإذا لم يسمّيا جنس الرهن ولا عيّناه أشعر بأنه لا غرض لهما, ولا مقصود عندهما سوى اعتبار كون الرهن يوفّى بالدين بِلا حاجة إلى أن يعايَن الرهن في حين الاشتراط، كما قال المخالف. وأيضًا فإنا لو سلمنا اختلاف الأغراض في ذلك، لكان في حكم التبَع للمقصود الذي ذكرناه، وإنما يراعى في الشرع المتبوع لا التابع. وبهذا ندافعهم عن قياسهم الرهنَ الذي لم يعيَّن على نفس المبيع الذي لا بد أن يعيَّن, لأن المقصود من المبيع ملك عينٍ على التأبيد يُنتفع بها على الوجه الذي يُنتفع (بها مثالها إذا) (¬2) كان هذا المقصودَ لم يصح ضبطُه مع عدم التعيين. ألا ترى ¬

_ (¬1) البقرة: 282، 283. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: به أمثالُها وإذا.

أن نفس المبيع يُعفى عنه (¬1) عن الجهالة بالاتباع، كما أجاز الشرع بيع الديار من غير كشف على أساسها وباطن سقفها وحيطانها، وما ذاك إلا تكون ذلك في حكم البيع (¬2)، فكذلك يعفى عن الرهن وإن لم يكن معينًا كونه تبعًا للحق الذي وقع به الرهن. فإن قيل: يلزمكم على هذا أن تجيزوا بيع سلعة بثمن معلوم على أن المشتري قال: أرتهنُك بثمنها شيئًا، أو أرهنك ما في كَمَا (¬3) أو ما في صندوقي. فأما قوله: أرهنك شيئًا، فقد التزم ابن القصار، من أصحابنا، أن ذلك لا يُمنع، ويقضي برهنٍ فيه وفاء. وهذا الذي قاله التفات منه إلى أنه ليس المقصود بقوله "شيئًا" إحالةً على جهالة، بل المراد به ما يراد بهذا الكلام لو أُطلق ولم يقيّد بقوله: شيئًا. ومعلوم أن الركن لابدّ أن يكون شيئًا، فلأجل هذا اطَّرح هذه الزيادَة. وأما قوله: أرهنك ما في كُمّي أو صندوقي، فإنهما أشعرا بذلك أن الرهن يتعين، والقصد منهما اعتبارُ ما يوفّي بالحق، بل أحاله على عينٍ محصورة لا يُدرى جنسها ولا مبلغها، فقد يكون في كمّه ما يعظم ثمنه، أو يكون في كمّه ما لا قيمة له، فيصيران ها هنا قاصدين إلى المخاطرة لمّا حضر الرهن، وأشار إلى عين موجودة لا يُدرَى ما هي، بخلاف إذا قال: أبيعك على أن تعطيني رهنًا، فإن هذا الإطلاق لا يقتضي تعيينًا ولا إشارة إليه، فلهذا كان ممنوعًا، والقُصُود معتبرة في العقود، ألا ترى أنه لو تزوّج امرأةً بعبدٍ، ولم يصفْه بالصفات التي. تجب في البياعات لصح النكاح وقُضِي فيه بعبد وسطٍ، وما ذاك إلا تكون النكاح مبناه على المسامحة والرغبة في الاتصال، والبياعات مبناها على المشاحّة والحرص على الغبن. فكذلك اشتراط رهن عينٍ معينٍ. ولو قال: أنكَحْكِ بعبد ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التبع. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: كُمّي.

في بيتي، لم يوسف، لم يجز ذلك تكون الأمر ها هنا أشير به إلى معيَّن لا تُعرف صنعته ولا سلامته من العيوب، فدل ذلك على صحة ما قلناه من اعتبار القُصود في العقود. وإذا وقع اشتراط الرهن أو الضمين معينًا فلا يلزم البائعَ قبولُ غيرِهما، وإن سدّ مسدَّهما, لأنه أشعر بالتسمية والتعيين أن له غرضًا في التعيين، فإذا لم يسمِّ حين الشرط أشعر أن غرضه في أن يعطَى ثقة بحقّه إلى غير ذلك. لكن لو اشترط شهادة شاهدين سمَّاهما، فأشهد غيرَهما عدالته (¬1) كعدالتهما فهذا يعتبر فيه هل له غرض في تعيينهما فيوفى له بشرطه، أو يكون لا غرض له فيجوز ذلك على القولين عندنا في اشتراط مالًا يفيد في عقود البيع: هل يوفى به أم لا؟ هذا الحكم عندي في هذه المسألة. ولأصحاب الشافعي فيها قولان: أحدهما: هذا الشرط مطَّرَح. والآخر: أنه يلزم الوفاء به. والأمر فيه ينحصر، عندي، إلى ما أشرنا إليه من رأْيى، وكأن من رأى من أصحاب الشافعي كون هذا الشرط مطّرَحًا تُصُوِّر فيه أنه لا يمكن أن يكون فيه غرض، فهذا طرحه. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: أمّا ما فيه عزر وتردّد بين السلامة والعطب، كالثمرة قبل زُهِوّها، فإن بيعها حينشذ لا يجوز، لأجل ما في ذلك من الغرر، والتردّد بين أن تَسْلَمَ إلى وقت يُومَن عليها أو تَهلَكَ قبل ذلك. وأما رهنها، فإذا لم يقارِن عقدَ بيعٍ، فإن ذلك جائز، كارتهان هذه الثمرة التي لم تزْه في أصل قَرْض أو بعدَهُ أو بعد إنعقاد بيع لم يُشتَرطْ فيه. وأمّا إن اشترطت في عقد البيع جائز (¬2) في ذلك قولين: أحدهما: إن ذلك جائز، بناء على أن الرهن له حصة من الثمن، فيصير كجزء من الثمن فيه غرر وتخاطر. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عدالتهما. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإِنّ.

وإذا قلنا بمنع اشتراطه في أصل عقد البيع فهل يفسُد ذلك البيعُ أم لا؟ فيه قولان جاريان على ما قدمناه في كتاب البيوع في أحكام الشروط الفاسدة المقارنة للبيع، وقد ذكرنا فيهما طريقة أشياخي مبسوطة هناك. وأما ارتهان الجنين، وإن كان من هذا النوع، لكنه أوْضحُ في الغور, لأن الثمرة موجودة مشاهدةٌ، وما يطرأ عليها من الآفات مترقَّب، والجنين لا يدرَى وجوده حين ارتهانه أوْ لا, ولو علم وجوده لم يُعلم هل يوضَع حيًّا أم ميتًا؟ فكان الغورُ فيه أشدَ من الثمرة. وقد مَنَع في كتاب الصلح أن يُرْتَهن الجنين. وأجازه ابن ميسّر وكان الابن (¬1) الغرر فيه أقل من الجنين وأكثر من الثمرة. ولو رهنه ثمرة لم تُخلق، (وأحال ما علم هل يخلق في شجرة معلومة) (¬2) لكان ذلك كرهن الجنين. ولو رهنه خدمة مُدَبَّرة يجوز عقد الإجارة فيها مدة معلومة لجاز ذلك. وأما خدمته سائر أيام حياته، فهو على الخلاف في رهن الغرر إذا قارن عقد بيع. (ولو رهنه رقبة فيها منفعة، فبطل ارتهان الرقبة، فهل يعود الرهن متعلقًا بمننمعة هذا الجنين أم لا؟ فيه قولان) (1). كمن ارتهن دارًا فثبت أنها محبَّسة على من هي رهن في يديه، فهل يعود الرهن إلى منفعة هذا الحبس أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: إنه لا يعود إلى المنفعة. وإذا بطل الرهن في الرقبة لكونها حُبُسا بطل في منفعتها. والثاني: إن الرهن يتعلق بمنفعتها (¬3) وكرائها، وكان ذلك كجزء منها ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. (¬2) هكذا في النسختين. (¬3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: برقبها.

يجوز بيعه ورهنه فلم يبطل هذا الجزء ببطلان ما أخدمه (¬1). وأما ارتهان عبد مرتدّ يجب قتله للردة أو عبد قَتَل عبدًا عمدًا حتى وجب عليه القصاص، فإن ذلك يعتبر فيه جواز بيعه، وإذا أجزنا بيعه أجزْنا رهنَه. وقد أجاز الشافعي بيعهما ورهنهما كالمريض المدْنف الذي يُخشى عليه الموت. ولكن إذا لم يعلم المرتهِن بذلك كان ذلك عنده يُرَدْ الرهن به. وقد تكلمنا نحن على ما يجوز بيعه في كتاب البيوع الفاسدة. ومما يلحق بهذا رهن جِلْد الميتة إذا دُبِغ: هل يحرم أم لا؟ وذلك مبني على الخلاف عندنا في المذهب في جواز بيعه إذا دُبِغ. وكذلك جلود السباع إذا ذكِّيتْ يُستباح بالذكاة جلدها، هل يصح بيع الجلد، وتعمَل فيه الذكاة أوْ لا تعملُ فيه التذكية؟ هذا أيضًا فيه اختلاف، وارتهانُه يجوز عند من أجاز بيع هذا الجلد إذا ذكّي، وتذكيته كتذكية الصيد، إذْ لا يمكن ذبحه. ويُمنع عند من لا يجيز بيعَه. ومما ينخرط في هذا السلك جواز ارتهان الأمَة، ولها ولد صغير في سن من لا يحل أو (¬2) يفرق بينه وبينها في البيع، فإن ذلك مما يجوز ويخالف حكم التفرقة بالبيع. وقد روي عن مالك أنها إذا رُهنت، ووجب بيعها في الذي هي موهونة به، فإنها تباع مع ولدها ويفَضُّ الثمن عليها وعلى ولدها، مما (¬3) قابل رقبتها أخذه المرتهن، وما قابل الولد تحاصّ فيه سائر الغرماء حتى المرتهن إذا كان بقي من دينه شيء. وقد ذكر بعض أصحابنا في هذا أن المذهب على قولين تعلّقًا بما في المستخرجة، فقال: اتُّفق على منع التفرقة بالبيع واختُلف في ذلك في الرهن. ففي المستخرجة عن مالك كراهة ذلك. قال يحيى بن عمر: فسألتُه (¬4) عن ذلك ابن وهب فقال: لا أرى به بأسًا. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أُخِذ منه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنْ. (¬3) هكذا في النستخين، ولعل الصواب: فَمَا. (¬4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فسألْتُ.

وعندي أن هذا الاختلاف، إن ثبت، فإنما يحسن إذا لم يفرَّق بين الولد وبين أمه تفرقَةً يلحقه الضررُ الشديد منها، ويلحقها من تعلق النفس به، إذا حيل بينه وبينها، الضرر أيضًا, لأن العلة في الاتفاق على منع التفرقة في البيع مراعاة الضرر الذي أشرنا إليه. وقد يكون الرهن مما يجوز بيعه باتفاق، ولكن يعرُض فيه عارض يمنع من رهنه، غيرُ هذه المعاني التىِ تكلمنا. عليها، مثل رهن الدانير والدراهم والفلوس، فإن ذلك يُمنع منه، إلا أن يُطبع عليها، حتى يحال بين المرتهن وبين التصرف فيها، فتوضع على يديه مطبوعًا عليها، فلا يخفى تصرفه فيها إذا اطُلِع على زوال الطبعْ. وإذا اطُّلع علي بنائه (¬1) عُلِم أنه لا (¬2) يتصرف فيها. وما ذلك إلا حماية الذريعة أن يكون الراهن والمرتهن قصدا إلى أن يقبض على جهة السلف وسمَّيا ذلك القبض رهنًا، واشتراط السلف في المداينة أو المبايعة يُمنع، والتطوع به كهبة المديان. وقد سلف القول فيها. وأما إذا كان الرهن مما يعرف بعينه، فلا يختلف في جواز أخذه رهنًا إذا كان لم يختلف في جواز بيعه. وإن كان لا يُعرف بعينه، وليس من الاثمان التي هي الدنانير والدراهم والفلوس، كالمكيل والموزون، فإن في ذلك قولين: المشهور منهما إلحاق ذلك بالدنانير والدراهم. وأجاز ذلك أشهب، وقال: إن التصرف في هذا الجنس لا يخفَي ولعله يشير بهذا التعليل إلى أن التصرف والسلف مما يقع في الدنانير والدراهم من واضع يده عليها. بغير إذن مالكها، ويبعد في العادة استخفاف مثل ذلك في المكيل والموزون من طعام كالقمح والزيت ومن سلع كالكتان والحرير. ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بقائه. (¬2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لمْ.

والجواب عن السؤال الثامن أن يقال: إذا اشترط البائع أن يكون ثمن المبيع مؤجلًا، على أن يبقى المبيع في يده رهنًا، فإن ذلك مما اضطرب فيه المذهب. ففي الموازية عن مالك: إن ذلك لا يجوز: يفسخ المبيع المُشتَرَط فيه هذا، إذا كان الاشتراط بقاءَ المبيع في يد البائع رهنًا. وأما إن كان الشرط خروجَه عن يد البائع إلى يد أمين، اتفقا عليه، فإن ذلك جائز. وقال ابن المواز لا يجب ذلك. وظاهر ما أشار إليه أنه كَره ذلك. ولو اشترط وقف الرهن في يد أمين غيرِ البائع جاز ذلك، إذا كان المبيع يؤمن تغيُّره كالعقار، ويمنع إذا كان يسْرع إليه التغيّر، كالحيوان. وأما اشتراط وضعه على يد أمين، فيجوز ذلك في العقار والحيوان. ولابن الجلاب منعْ ذلك في الحيوان خاصة، ولم يقيد باشتراط ذلك في يد البائع أو في يد أمين، وابن القصار، منا أصحابنا أجاز ذلك على الإطلاق في جنس البيع وفيمن يوضع على يديه. لكن ابن القصار ذهب إلى ذلك وهو كالمعتذر عن مخالفة المذهب فيه، فقال: يجوز ذلك عند مالك، ويمنع عنْ أبي حنيفة والشافعي، والظاهر من قول مالك أنه موافق لهما في منع ذلك، ولعل ذلك منه على جهة الكراهة، قال: وأنا أنْصرُ جوازه (وما نزل) (¬1) عليه أصول المذهب، فقال بعض الأشياخ: اختلف أصحابنا في ذلك، فمنهم من منعه، ومنهم من أجازه. وذكر أن هذا الخلاف من أصحابنا إذا لم يُشترط في رهن المبيع أجلٌ بعيدٌ، وأما لو اشتُرط فيه أجل بعيد فإنه يمنع قولًا واحدًا. نقلناه نحن. وبعض أشياخي أطلق الخلاف من غير تعرض لذكر قرْب أجل الرهن أو بعْده، ونقل ما قلناه من الخلاف. وتلخص في هذا الذي نقلناه نحن على التفصيل أن اشتراط وضع المبيع ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين.

على يد أجنبي غير البائع، جائزٌ عند الأكثر، في المشهور عندنا، إلا ما أشار ابن المواز أنه مكروه، وما تأوّله ابن القصار على صفة ما حكيناه عنه، والمنع من ذلك في الحيوان خاصة على ما نقلناه عن ابن الجلاب. وأما اشتراط بقائه رهنًا في يد البائع فثلاثة أقوال: مالك منع ذلك على الإطلاق، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعى. وابن القصار أجاز على الإطلاق، وأصبغ أجاز ذلك في العقار وما يؤمن عليه من التغير، ومنعه في الحيوان. والمانعون لذلك من أصحاب أبي حنيفة والشافعي يعتلّون للمنع بأن إجازة ذلك. يُؤدّى إلى التنافر والتناقض في الأحكام، وذلك أن عقد البيع يوجب تسليم المبيع، واشتراطَ ارتهانه يوجب حبس المبيع، والحبس والإطلاق مَعنَيان متضادان، فوجب القول بالمنع. لكن (¬1) القول بالجواز يوقع في التضاد، وأيضًا فإن المشتري قد ملك المبيع، وملْكُه على التأبيد لا يخرج من يده إلا باختياره. وفي اشتراط كونه رهنًا إخراجُه من ملكه بغير اختياره، إذا بيع عليه في الدين، وهذان أيضًا معنيان متنافران. والقائلون بالجواز يجيبون عن ذلك بأنه لو سلم المبيع ثم أعاده المشتري للبائع رهنًا، فإن ذلك جائز، فيقدر هذا المعنى في اشتراطه كونه رهنًا يبقى في يد البائع في أصل عقد البيع, لأنه إنما رهن ما صح ملكه له، ثم بعد صحة ملكه له عتمد على نفسه فيه رهنًا، فصار ذلك في معنى الرهن بعد القبض. وهذا يمنعهم من الاعتلال للمنع أيضًا بقولهم: إنه رهنُ مالم يستقر ملكه عليه، فأشبه أن يرهن عبدَ غيره، مع أنّا أيضًا نحن نقدر هذا بعد صحة الملك. وقد قدمنا في صدر هذا الكتاب أنّا نجيز أن يتقدم الرهن على عقد البيع، خلافًا للشافعي. وبالجملة أنه التمت في هذا إلى أنه تحجير على المشتري في المبيع، والتحجير ينافي موجب البيع من إطلاق التصرف. فإن هذا قد يلتفت إليه من منع هذا الاشتراط، ويدافعه عن ذلك من أجاز هذا الاشتراط بأن هذا التحجير ليس ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين ولعل اصواب: تكون.

بضربه لازمة على المشتري لكونه متى أتى بالثمن تسلم المبيع، فصار التحجير كأنه من قِبَله، والتحجير الممنوع أن يكون من قِبَل البائع اشتراطه. فإن راعينا أنه شراء معين اشتُرط ضمانُ البائع إلى أجل بعيد فإن ذلك يكون وجهًا للمنع. وقد يجاب عنه أيضًا بأن هذا ليس كاشتراط ضمان العين على بائعه، وأنه هو المقصود في هذا العقد، وإنما هو كاشتراط احتباس السلعة المبيعة بالثمن وشرط احتباس السلعة المبيعة بالثمن جائز، فكذلك هذا. لكن اشتراط حبس السلعة إنما جاز ذلك في بياعات النقود، وأما إذا كان التأجيل البعيد صار ذلك فيه معنى ما أشرنا إليه من القصد لاشتراط الضمان على البائع، ولهذا قال بعض أشياخي: لا يختلف المذهب في منع هذا الشرط إذا كان الخمن إلى أجل بعيد. كما حكيناه. والجواب عن السؤال التاسع أن يقال: إذا رهن عصير العنب، وهو حلو حلال، فصار خمرًا، ثم تخلل، فإنه يبقى على الملك على ما كان عليه قبل أنْ يصير خمرًا، من غير خلاف. وهكذا نقلوه (¬1) على حكم كونه رهنًا عند فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأبي حنيفة. وحكى بعض أصحاب أبي حنيفة أنه لا يعود رهنًا إلا بعقد مستأنف. وحكاه أيضًا بعض أصحاب الشافعي عن أبي حئيفة. وأنكر ابن القصار هذه الحكاية على من حكى من أصحابنا، ورأى أن أبا حنيفة مذهبُه كمذهبنا في هذه المسألة. وكذلك أنكر أبو الحامد الإسفراييني على من حكي ذلك عن أبي حنيفة أيضًا، ورأى أن مذهبه كمذهب الشافعي في ذلك. وكذلك أشار أبو حامد إلى إنكار من نقك أن هذا أيضًا حُكي عن الشافعي، وأن له قولًا بكونه لا يعود رهنًا. لكن ينبغي ألا ينكر الخلاف في هذه المسألة، فإن ابن القصار قال في كتابه: وقال قوم: لا يبقى على حكم كونه رهنًا ويفتقر في كونه رهنًا إلى تجديد ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: أبقوْهُ.

عقد مستأنف. وكأن هؤلاء رأوا أن المِلك أقوى من الرهن، فبقاه على الملك الأول، وكون زوال اليد عند لا يضعفه والرهن أضعف من الملك، وزوال يد الراهن عنه يضعف الرهن على الجملة، وقد أمر الشرع، لما صار هذا العصير خمرًا، بدفع (¬1) يد المالك عنه ويد المرتهن، فكأن يد المرتهن يقدّر ارتفاعها تقديرًا. ورأت الجماعة والجمهور أن الرهن يتعلق به حفان: حق الملك وحق الرهن، فإذا اتفق على أن حق الملك في هذه العين يبقى على ما كان عليه، فكذلك حق الرهن, لأنه تابع للملك ومن حقوق الملك. ولو كان عقد الرهن على الخمر، والراهن والمرتهن مسلمان، لم ينعقد هذا الرهن، تكون الحكم إراقةَ هذا الخمر. ولو كان الراهن ذميًا والمرتهن مسلمًا، لم ينعقد هذا الرهن في حق المسلم، بل يعاد إلى الذمي مالِكه، ولو بيع هذا الخمر لم يكن المسلم، الذي أخذه رهنًا، أحقّ به من غيره من الغرماء, لأن حيازته إياه كالعدم، فصار كمالِ الغريم (¬2) لم يحزه أحد من الغرماء. ولو كان الراهن مسلمًا والمرتهن ذميًا لأريقت على المسلم، وبطل حق الذميّ المرتهن فيها. والجواب عن السؤال العاشر أن يقال: حق هذه المسألة أن تذكر في كتاب الأشربة، ولكن لما جرى الرسم بذكرها في كتاب الرهن، في تصنيف البغداديين من أصحابنا وأصحاب الشافعي، اقتفيتُ أثرَهم في ذلك. واعلم أن تخليل الخمر لا يخلو من أحد وجهين: ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: برفْع. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: كمالٍ للغريم.

أحدهما: أن تكون تخلّلت من غير صنع المخلوقين في ذلك، لا بإلقاء شيء يخلّلها وينقلها عن كونها خمرًا، ولا ينْقلها من ظل إلى شمسٍ، أو هواء إلى هواء. أو يكون تخللها بعلاج أُبقيَ فيها وهو على قسمين: أحدهما أن يعالجها بالنقْل وتبديل الأهوية والأمكنة. والثاني أن يعالجها بشيء يلقيه فيها. فأما القسم الأول، وهو مصيرها خلًّا من غير علاج من إلقاء، فإنها تطهير ويحل بيعها، والتأدُّم بها، وتكون كسائر الخلول التي (تصير خمرًا) (¬1). وهذا مما حكى فيه بعض الأئمة إجماع الأمة على ذلك. لكن بعض أصحاب الشافعي اشترط في إباحتها وطهارتها تكون (¬2) هذا التخليل في خمرة قُصِد بها في أول عصرها أن تُتَّخذ خلًّا، حتى لا يكون عاصيًا فيما بعدُ (أنها من إمساكها) (¬3) لتصير خَمْرًا. وأما إذا تخللت بعلاج أو بالنقل من هواء إلى هواء أو مكان إلى مكان، من غير أن يُلقَى فيها شيء، فإن ابن القصار من أصحابنا، ذكر أنْ لا خلاف في هذه أنها تحل إذا صارت خلًا بهذا النوع من العلاج، وتطهُر. وذكر ذلك في احتجاجه عن الشافعي، ولعله أراد: لا خلاف بيننا وبينه، وإلا فبعض أصحاب الشافعي أجرى هذا العلاج بها مجرى علاجها بشيء يطرح فيها مما يخفلها في مقتضى العادة كالخل والبوْرق وما أشْبه ذلك، وأن ذلك يجري في بقائها على التحريم مجرى تخللها بشيء يُلقى فيها. وأما إن كان علاجها بشيء يلقى فيها فتخللت، فهذا مما اختلف الناس فيه، فذهب مالك إلى كونها تطهير بذلك، وتحلّ، وترتفع عنها أحكام الخمرية من حد شاربها وتفسيقه وكرِه أكلَها بعض أصحاب مالك، عبد الملك ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: أصلُها خمرٌ. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: كوْنَ. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: إن هو أمسكها.

وسحنون. وبمثل ما قال مالك قال أبو حنيفة. وذهب الشافعي إلى أنها ترتفع عنها أحكام الخمرية عن (¬1) التفسيق وحدّ شاربها، ونجاسة الخمرية. لكنها يبقى فيها حكم نجاسة خل تنجس بما ألقي فيه من بول أو غيره. وهل يسوغ التخليل لها ابتداء أو يحرم؟ حزمه الشافعي وأباحه أبو حنيفة. وأغْلى بعض أصحابه في ذلك، حتى رآه مشرَّعًا مندوبًا إليه عندهم. وكره مالك رضي الله عنه. وكأن هذه المسألة كالأصل فيما ذكرناه من الخلاف في تطهيرها وإباحية أكلها واستعمالها. ويحتج المبيحون لها بهذا العلاج بقوله تعالى {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} (¬2) فقيل: إنه النحل وأنه رزق حسن. ويؤكده قوله عليه السلام "نعم الإدام النحل" (¬3). وهذا الثناء عليه يؤكد كونه رزقًا حسنًا. وعم عليه السلام أنواع الخلول، ما تخلل منها، بعد أن كان خمرًا، بعلاج أو بغير علاج، أو ما لم يكن قطّ خمرًا. ويجيب أصحاب الشافعي عن هذا بأن ظاهر الآية التنبيه على ما أنعم به علينا مما يتخذه من نفس ثمرات النخيل والأعناب، لا فيما يكون يتخذ منها بواسطة، وهو التخليل بما يلقى. ويحتج المجيبون (¬4) لها أيضًا بما روى أنه عليه السلام (يُحِل الدباغُ الجلدَ كما يحلّ النحل الخمر) فكأنه - صلى الله عليه وسلم - جعل تحْليل الخمير بالتخليل كالأصل والدباغ في تخليلها (¬5) الجلد عند من رأى كون الجلد يطهر بالدباغ كالفرع. واحتجوا بأن لفعل الآدمي تأثيرًا في الاستباحة، ألا ترى أن الشاة إذا ماتت حتف أنفها لم تؤكل، فإذا ذُكِّيت أكلت، فقد صار الموت الذي وقع عن فعل ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: من. (¬2) النحل: 67. (¬3) المنذري: مختفى سنن أبي داود: 5: 328. حد 672. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: المُجيزون. (¬5) هكذا, ولعل الصواب: تحليله.

آدمي يبيع مالم يبعه الموت الذي وقع عن فعل الله سبحانه. وهذا وإن كان نوعًا من الاستدلال فإنه لا يطّرد في أصول الشرع، ألا ترى أن موت الإنسان من قِبَل الله لا يمنع ولده أن يرثه، ولو قتله ولدُه لم يرثْه، فقد صار ها هنا فعل الله سبحانه يتعلق به من الحكم ما لا يتعلق بفعل الآدمي، فلا يستنكر افتراق فعل الله سبحانه في تحليل الخمر وابن آدم لها، فيكون الحكم في ذلك مختلفًا. ويحتج أصحاب الشافعي على التحريم بما روي أن أبا طلبة ذكر للنبي عليه السلام أن عنده مال أيتام فاشترى لهم به خمرًا، يريد حين كانت الخمر مباحة، فلما حرمت سأل النبي عليه السلام عن حكمه، فقال له: أرقْها. فقال: يا رسول الله هَلآ أخلّلها؟ فقال: لا). فالأمر بالإراقة يقتضي منع التخليل، وقوله عليه السلام، لما سأله عن التخليل، لا، نهي عن تخليلها. وأيضًا فإن هذا مال أيتام، والشرع مبني على الاحتياط على مال الأيتام، وصونه عن التلف، فلو كان التخليل مباحًا يُصان به مال اليتامى لكون (¬1) - صلى الله عليه وسلم - يأمره به، ولا ينهاه عنه لما استفتاه في ذلك، ألا ترى أنه أشار بدباغ الجلد في شاة ميمونة لما كان مصلحة وصيانة للجلد. يقولون: إن الحديث الذي تعلق به المبيحون للتخليل من قوله عليه السلام" يحل الدباغ الجلد كما يحل النحل الخمر، ضعيف لم يثبت. ويقول أصحاب أبي حنيفة وأصحاب مالك المبيحون لذلك إن سؤال أبي طلبة كان حين نزل تحريم الخمر، وهي محبوبة كانت عندهم، فنمع عليه السلام من تخليلها لئلا يكون ذلك داعية إلى إفساد فِطامِهم عن شربها، فلما استقرّ الحكم بالتحريم وألِفُوا اجتنابها زالت هذه العلة. وهذا تأويل ضعيف, لأن أحكام الشرع وأوامر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونواهيه ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: لَكَان.

منسحبة على عموم الأزمان والأعصار، وتقرير النسخ فيها بالإمكان تطرّقٌ إلى فساد خطاب صاحب الشرع. ومما يعتمد عليه أصحاب الشافعي أنه متى ألقي في الخمر بورق أو خلّ، أو غير ذلك مما يخللها، تنجس الملقَى فيه ابن جاستها، وصار مائعًا فيها مخالطًا لأجزائها، وقد صارت نجسًا، فلهذا منع من استعمالها وأكلها. ويقول المبيحون لذلك: لما استحالت الخمر وطهُرت في نقسها زالت نجاسة ما خالطها مما ألقي فيها بزوال نجاسة ما نجّسه كالدن فإنه ينجس لمماسة أجزاء الخمر. وإذا تخللت الخمر من قبل الله سبحانه وطَهُرت طهُر الدنّ بطهارة ما نجّسه. ويمنع أصحاب الشافعي هذا القياس على طهارة الدنّ، فإن الدن إذا نجس لمماسة الخمر النِجسة فإذا طهرت فقد استحالت تلك الأجزاء التي ماسته، فيبقى طاهرًا على ما كان عليه قبل أن يماسها، وما يلقى في الخمر مما يخلّلها فقد صار مائعًا فيها وهو نجس, فلا يطهر بطهارة الخمر التي نجسة (¬1) لأدت أجزاءه لم تنقلب عينها كما انقلبت عين الخمر. وإذا وضح ما قلناه في هذه المذاهب والأدلة عليها، فقد وقع اضطراب في جواز (¬2) الخمر هل هو مما يؤثر؟، وكأن اليد عليها مما يرجح أم لا؟ فيه اضطراب، فقال بعض أصحابنا، فيمن غصب خمرًا فتخللت عنده: إنها تبقى للغاصب, لأن يد من غُصِبت منه كلايد، وحوزه كالعدم، فأشبه من خلل خمرًا لا يد لأحد عليها ولا حقّ لأحد فيها. وإذا قلنا: إن لوضع اليد عليها تأييدًا وترجيحًا رُدَّت إلى المغصوب منه وهذا مما ذكرناه في كتاب البيوع. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: [هي] نجسة. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: حَوْز.

والجواب عن السؤال الحادي (¬1) عشر أن يقال: الرهن يصح أن يؤخذ عن كل حق، وإن اختلفت أنواع الحقوق الثابتة في الذمم، بأن يكون ثمنَ مبيع بيع النقد (¬2)، أو بيع بثمن إلى أجل، أو ثمنًا لإجارة، أو صداقًا في نكاح، أو عرضًا (¬3) عن خلع، أو أرشَ جناية إلى غير ذلك من سائر الحقوق الثابتة في الذمم. وعلى هذا جمهور العلماء. وحكي عن بعضهم أنه لم يُجز الرهن إلا في السلمَ خاصة، تعلقًا منه بقوله تعالى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (¬4) إلى قوله تعالى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (4) فافتتح الآية بذكر الدين المؤجّل وهو السلم، ولو كان المبيع سلعة وثمنها دنانير مؤجلة لحسن دخولها في هذا الظاهر, لأنها مداينة إلى أجل، وإن كان العرف تسمِيَتها بيعة أجل. وإنما جرى العرف تسميته دفع دنانير في سلعة مؤجلة موصوفة بتسميتها سلمًا، فلأجل هذا قال هؤلاء لا يجوز الرهن إلا في السلم. وعندي أن القوم قد يتخيلون أن الرهن كالرخصة لأجل الضرورة، والحاجة الداعية إلى أن يرخص فيه، وإنما تدعو الضرورة في غالب الأمر إلى ذلك في السلَم لأن الرهن بدل مال عن مال يكون في الذمة، ويُخشى الفلَس عند مَحِلّ الأجل، فيقبض من المديان سلعة تكون بيده رهنًا، فيمنع الراهن من التصرف فيها ويعطل منفعته بها، ويحجر عليه بيعها والانتفاع بها. والأصل في الأملاك ألا تُحجَر على مالكها، فقد صار الرهن كالخارج عن الأصول، فلهذا لا يجوز إلا فيما نص الشرع عليه. ¬

_ (¬1) لم يذكر هذا السؤ الذي تعداد الأسئلة. ويصاغ: هل يؤخذ الرهن عن كل حق؟ (¬2) هكذا, ولعل الصواب: بالنقد. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: عِوَضًا. (¬4) البقرة: 282، 283.

ورأى العلماء أن معنى سائر الديون تساوي (¬1) في المقصود بالرهن، وهو الاستيثاق بالحق المطلوب، وكون دافع الرهن له في ذلك منفعة، فلم يعطل مارهنَه من ماله، أو يحجره على نفسه إلا بعوض وهو (¬2) أنفع له، ولولاه ما عومل ولا دُويِن. وهذا المعنى يشترك الحقوق فيه وقد قال تعالى: "وأشهدوا إذا تبايعتم " ثم قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعل الرهبان تقوم مقام الإشهاد عند تعذر الإشهاد، والإشهار (¬3) يجوز في سائر الديون والحقوق، فكذلك ما جعل ينوب (¬4) منابه. وقد منع الشافعي الرهن في كتابة المكاتب لأجل أن الدين غير ثابت، وللمكاتب أن يعجّز نفسه، ويفسخ الكتابة متى شاء، وهذا يمنع من الرهن, لأن الرهن، توثّق بالحق، وما ليس بثابت فلا يتوثق منه. ونحن نمنع هذا إذا كان الرهن من أجنبي تحمّل بكتابة المكاتب، ودفع رهنًا بما تحمل به, لأنّا لا (¬5) نجيز الكتابة يحمالة، كما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وكذلك منع الشافعي من أخذ الرهن بالدرَك في ثمن المبيع, لأنه يرى أن الدرك يحمل على التأبيد، فإذا باع رجل سلعة من رجل بمائة دينار على أن دفع البائع سلعة من عنده رهنًا للمشتري يأخذ ثمنها إن استُحِق المبيع من يده، فإن ذلك يكون مؤقّتًا بوقت معلوم، فيصح دفع الرهن به تطوعًا, وأما في أصل العقد فإن فيه مخاطرة, لأنه لا يدفع على التأبيد، فمتى وقع استحقاقٌ بيع الرهن في الثمن، فكأن الراهن عطّل مِلكًا من أملاكه على التأبيد، وهذا كإضاعة المال. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: تتساوَى. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: حذف الواو. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: الإشهاد. (¬4) هكذا, ولعل الصواب إضافة: [أَنه] ينوب. (¬5) هكذا, ولعل الصواب: حذف (لا).

وهذا التعليل قد يدافع فيه بأن دافع الرهن لو لم يعلم أن منفعته بما اشتراه ترْبي على المضرة بتعطيل منفعته بالرهن لَما فَعَل ذلك، فكأنه كمتلف سلعة ليُحصل بتلفها ما هو أنفع له منها، فهذا مما ينظر فيه. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى؛ ورضي عنه: ويلزم بمجر [القول] (¬1) والقبض شرط في صحته واستدامته، وليس بشرط في انعقاده. وإذا عقداهُ (¬2) قولًا لزم، وأجبر الراهن على إقباضه للمرتهن. فإن تراخى المرتهن في المطالبة به أو رضي بتركه في يده بطل. فإن قبضه ثم رده إلى الراهن بعارية أو وديعة أو استخدام أو ركوب بطل الرهن. ويجوز أن يَجْعلاه على يد أمين. قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة (¬3) أسئلة منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن الرهن يلزم بالقول؟ 2 - وما الدليل على أن القبض شرط في وجوب تعلق الحق به؟ 3 - وما صفة هذا القبض؟ 4 - وما الحكم في قبض المرتهن جُزْءًا شائعًا؟ 5 - وما الحكم في قبض المرتهن ما في يديه؟ 6 - وهل استدامة القبض شرط في صحته أم لا؟ 7 - وما الحكم فيه إذا رجع إلى يد الراهن بواسطة؟ 8 - وما الحكم فيه إذا استُحق؟ ¬

_ (¬1) كلمة ساقطة من (و). (¬2) في (و): عقدًا. (¬3) الأسئلة التي ذكرها ثمانية لا سبعة.

فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلف الناس في لزوم الرهن بالقول دون القبض: فذهب مالك رحمه الله أن الرهن يلزم بالقول ولا يفتقر كونه عقدًا لازمًا إلى القبض. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يلزم بمجرد القول، ولا يجبر الراهن على دفع الرهن إن امتنع من ذلك. ومذهبنا أنه يجبر على دفع الرهن، لكونه عندنا يلزم بمجرد القول كما يلزم البيع بمجرد القول، ويجبر البائع على دفع ما باع إذا قبض الثمن، وإن لم يقبضه جرى ذلك على تقدم ذكره في كتاب البيوع، لما ذكرنا الحكم فيمن يجبر على الدفع: هل البائع يدفع المبيع ثم يأخذ الثمن أو المشتري يدفع الثمن ثم يأخذ المبيع؟ وهذا الاختلاف مبني على ما اشتهر من الخلاف في الهبة: هل تلزم بمجرد القول، ويجبر الواهب على دفع الهبة أم لا؟ فعند أبي حنيفة والشافعي أن الواهب لا يجبر على دفع ما وهب ولا تلزم الهبة بمجرد القول. وعندنا أنها تلزم بمجر القول، وكذلك الرهن. وقد حكى ابن خويز منداد رواية شاذة في كون الهبة لا تلزم بمجرد القول. وأشار بعض أشياخي إلى تخريج ذلك من مسألة المدونة فيمن (عار رجل) (¬1) أرضًا ليبني فيها أو يغرس، ثم أراد أن يُخرجه لما بني وغرس فإنه يمكّن من ذلك إذا أعطاءه ما أنفق، ولم يكن ضربًا أجلًا لهذه العطية. وبعض أشياخي مَنَعَ هذا التخريج. وهذا يبسط في موضعه إن شاء الله ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: أعار رجلًا.

تعالى. والشافعي، وإن كان يرى أن الرهن لا يلزم بالقول، فإنه إذا اشتُرط في أصل عقد بيع ولم يتطوع المشتري بدفع الرهن، فإن البائع يكون له الخيار بين أن يُمضي البيعَ بلا رهن، أو يفسخ لعدم الشرط وهو الرهن. وسبب هذا الاختلاف في الرهن هل يلزم بالقول أم لا؟ التنازع في مقتضى قوله تعالى {وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (¬1) هل المراد بقوله تعالى {مَّقبُوضَةٌ} أي يقبضونها بعد عقد الرهن.، أولًا يكون لها حقيقة الرهن إلا بعد أن تصير مقبوضة؟ فيحملها مالك رضي الله عنه على أن المراد بها: تُقبض بعد عقد الرهن. ويحملها أبو حنيفة والشافعي على أن المراد به أن الرهن هو المقبوض. وكل واحد من المذهبين يتخرج بطريقة يسلكها من جهة البيان، ومن جهة الاعتبار. أما مالك فإنه يرى أنه لما تقدم قولَه تعالى "مَّقبُوضَةٌ" قَوْلُه "فرهان" فأثبت تسمية الرهن قبل ذكر القبض، ثم نعته بالقبض، اقتضى ذلك أن يكون رهْنًا قبل القبض، ولو كان لا يكون الرهن رهنًا حتى يُقبض لاستغنُيَ عن قوله {مَّقبُوضَةٌ}. ويرى المخالف أن قوله تعالى "مقبوضة" وصف لازم كقوله: ساحة واسعة، فإن الاتساع وصف لازم، فوجب بلزومه أن يكون كالشرط فيها. وهذا يقتضي أن الرهن لا يكون إلا مقبوضًا، ألا ترى أن قوله تعالى في كفارة القتل {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (¬2) يقتضي أن العتق في هذه الكفارة لا يجزى إلا بشرط الإيمان في الرقبة. فكذلك لا يصح الرهن ويلزم إلا بأن يصير مقبوضًا. وكذلك قوله تعالى {وَأَشهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مّنِكُمْ} (¬3) المراد به من هو عدل ¬

_ (¬1) البقرة: 283. (¬2) النساء: 92. (¬3) الطلاق: 2.

منكم حين الإشهاد، ولم يرد به أن يستشهد من ليس بعدل، ولكنه قد يُعدَّل بعد ذلك. وأيضًا فإن تخصيص الرهن بالذكر لا يراد به التنبيه ببعض الجنس على بقيته, لأن ما سوى الرهن من العقود أجناس مختلفة، والأولى التنبيه على ما هو أوْلى في الحكم, لأن البيع أقوى من الرهن، لكونه ينقل الملك، والرهن لا ينقله، فلو كان المراد التنبيه لذكر القبض في البيع الذي هو أقوى من الرهن لينبه به على أن ما هو أضعف منه أحق بأن يشترط فيه القبض، فدل ذلك على أن فائدة التخصيص بذكر القبض في الرهن يقتضي اختصاصه بهذا الحكم، وكونَ القبض شرطًا ونحن وإن سلمنا أن الآية محتملة للمذهبين فإنا نقابل ترجيحهم لتأويلهم بقوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (¬1) وهذا عقد في الرهن يؤمر بإلغائه (¬2). وقوله عليه السلام" المؤمنون عند شروطهم" (¬3). وأمّا الترجيح من جهة الاعتبار، فيقولون: إنه عقد لا عوض فيه، فأشبه الوصية، فإن للموصي أن يرجع عما وصّى به. ونحن نقابل هذا بأنه حق تبايع (¬4) للبائع، والبيع يلزم بالقول عندنا، أو بالقول والافتراق، فيجب أن يجري الرهن الذي هو تابع البيع مجرى متبوعه، فيلزم بالقول، ولا يفتقر إلى القبض كالبيع. ويقولون: فإنه وثيقة بالحق، والمقصود باشتراطه استيفاء الحق، فإذا سلمتم أنه لا يكون المرتهن أحقَّ به إذ لم يقبضه فلا فائدة فيه، وقد بطل المقصود به. ونجيبهم عن هذا، بأنه يلزم بالقول، ويجبر الراهن على إقباض الرهن ¬

_ (¬1) المائدة: 1. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: بإيفائه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) هكذا ولعل الصواب: تابع.

حتى يكون المرتهن أحق به عند الفلَس، فإن تراخى في قبضه تراخِيًا شعر بإسقاط حقه فيه، صار هو المسقطَ لحقَّه. وهذا عندنا فائدة قوله تعالى "فرهان مقبوضة" المراد به الثخصيص (¬1) على الفبادرة بالقبض، ليكون المرتهن أحق في الفلس والموت، بخلاف البيع فإن المشتري أحق بما اشتراه في فلس البائع أو موته. ونقول نحن فإن العقد إذا كان غير لازم لم يجعله القبض لازمًا، كالقراض فإن رب المال، ولو سلم المال إلى العامل، ثم أراد أن ينتزعه منه في الحال، لكان له ذلك، تكون عقد القراض غير لازم لم يجعله القبض لازمًا. أصله ما ذكرناه في القراض والجعالة والشركة والمعاملات، عكسه البيع لما أن كان لازمًا بمجرد العقد لم يجعله عدم القبض غير لازم. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد قدمنا التنازع في تأويل قوله تعالى "فرهان مقبوضة" هل المراد به أنها لا تكون رهنًا لازمًا إلا بالقبض، أو تكون رهنًا لازمًا قبل القبض، وإنما القبض شرط في كمال التوثقة بالرهن. فقد حصل من هذا أن أبا حنيفة والشافعي يريان القبض شرطًا في صحة كونه رهنًا ولزومه، ومالك يراه شرطًا في كون المرتهن القابض له أحق به إذا فلِّس الراهن أو مات، فيباع له الرهن، ولا يحاضه في ذلك غرماء الميت أو المفلّس. وإذا أمكن المرتهنَ القبضُ ففرّط فيه حتى فلّس الراهن أو مات أسقط حقه في تعلق دينه بثمن الرهن، وهذا (¬2) يختلف فيه. وإن وقع موته قبل أن يمضي من الزمن ما يتمكن المرتهن من القبض حتى فلّس الراهن أو مات، ففي ذلك قولان: هل يسقط حق المرتهن وإن لم يفرّط في القبض؟ أولًا يسقط لكونه لم يتراخ في طلب الرهن ولا فرّط في تحصيله ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: التحضيض. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: وهذا [لا] يختلف.

وقبضه؟ وهكذا اختلف عندنا في الهبات: هل يبطلها موت الواهب أو فلسه قبل أن يقبضها الموهوب له، إذا لم يفرط الموهوب له في القبض، مثل أن يهبه سلعة غائبة، أو دارًا غائبة، فخرج الموهوب له ليقبض ذلك، فمات الواهب، والموهوب له لم يصل إلى الموضع الذي به الهبة، فالحكم عندنا في الهبة والرهن إذا لم يحصل القبض في واحد منهما حكم واحد. وإن فرّط المرتهن في القبض فإن الرهن والهبة يبطلان، إذا وقع الموت أو الفلس و (بعد تفريطه) (¬1) في القبض الذي هو شرط في صحة إمضاء هذه العقود كالتارك لحقه، والمسقط لما ملك من ذلك. وإن لم يفرط في القبض فها هنا القولان. وسبب اختلاف المذهب في ذلك الالتفات إلى كون القبض مشترطًا في إمضاء الهبة والرهن معلّلًا بالتهمة شرعًا أو غيرَ معلل؟ فمن رآه معللًا بالتهمة اللاحقة بالواهب والراهن وهو أن من وهب عبدًا فأبقاه في يده ولم يسلّمه للموهوب (¬2) لم يستخدمه وينتفع به إلى أن مات، فإنه لو مكّن من ذلك لأمكن أن يقصد كثير من الناس أن يمنع من يرثه ممن يكرهه ويبغضه من أن يرث ماله بعد موته، من غير ضرر يلحق الواهب، فيحصل على الغرضين: غرضه في حرمان ابن عمه أن يرثه، والانتفاع بماله إلى أن يموت عنه، ونفسه لا تسمح بأن يذهب ماله وتبطل منفعته ليحصلَ له الغرض الآخر، وهو حرمان الوارث له ان يرثه. وكذلك في الرهن يمسكه (¬3) الراهن ماله لينتفع به، فإذا وقع الفلس والموت استأثر به الغريم الذي سمّاه له رهنًا دون سائر الغرماء لكونه معينًا لَه دون غيره من الغرماء. فإذا قلنا: إن القبض إنما اشترط لنفْي هذه التهمة فإذا لم يفرط الموهوب له في القبض، وإنما عاجل الواهبَ الموتُ، قبل إمكان ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: يُعَدُّ بتفريطه. (¬2) هكذا, ولعل الصواب حذف (لم). (¬3) هكذا, ولعل الصواب: يمسك.

القبض، فإن الهبة والرهن يمضيان، لارتفاع هذه التهمة. وإن قلنا: إن ذلك شرع غير معلل، أبطل عدمُ القبض الهبةَ سواء فرط الموهوب له في القبض أو المرتهن أو لم يفرط. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: إذا تقرر كون القبض شرطًا في تعلق المرتهن بثمنه، فإن القبض يَختلِف باختلاف المتملكات، وينضبط ذلك بالاستناد إلى العادات. ثم لا يخلو الرهن أن يكون منفردًا، لا شركة فيه، أو غير منفرد. فأمّا رهن شيء بكماله كدار أو عبد أو ثوب أو طعام، فإن القبض فيه أن يدفع (¬1) الراهن يده عن جميع الرهن، وتصير يد المرتهن على جميعه، على ما كانت يد الراهن عليه. فكان (¬2) ذلك الرهن مما ينقل من مكان إلى مكان كالثوب والعبد والطعام فإن القبض في ذلك أن يصير (¬3) المرتهن على جميعه وينقله من حيازة الراهن المالك له إلى حيازة نفسه والمكان الذي لا يد للراهن عليه. وإن كان مما لا ينقل ولا يزال به كالدار والبستان، فإن القبض فيه رفع يد الراهن وتسليم النظر فيه والذبّ عنه إلى المرتهن، وتفريغ ذلك من شواغل الراهن، وجميع ما ينفعه منه. فإن بقي مُغْلقًا خاليًا كان مفتاح ما يقفل منه بيد الراهن، وإن كانت أرضًا لا تُغْلق، ولا شاغل فيها للراهن، كفى في ذلك الإشهاد على تسليم الراهن لها، والذبّ عنها إلى المرتهن. وإن كانت ذلك مما يكترى واجب (¬4) الملك (¬5) كراءه والانتفاع بذلك، ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: يرفع. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: فإن كان. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: تصير [يَدُ]. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: وأحَبَّ. (¬5) هكذا, ولعل الصواب: المالكُ.

تولى عقدَ الكراء أو النظرَ فيه، وقبَضَه المرتهنُ ثم سلمه إلى الراهن. وإن كان حانوتًا، وفيه مختزنٌ للراهن، كمواعين أو غير ذلك، فإن تصرف الراهن في الحانوت بسبب مواعينه حتى يكون يفتحه متى شاء، ويغلقه متى شاء، من غير مطالعة المرتهن، فإن ذلك لا يكون حوزًا ولا قبضًا. ولو كان الراهن إنما رهن فيه الحانوت خاصة أو الدار خاصة، وفيها مختزَن له، فإن المرتهن متى سلّم إليه منَع الراهن من ذلك للحوائج وما كان مختزنًا، وحيل بينه وبين ذلك فإن القبض المصحِّح للرهن يحصل بهذا، وإن كانت قد بقيت فيه حوائج الرهن. هكذا قيل في هذا. وعندي فيه نظر إذا كان قد رهن مختزنًا فيه طعام، ولا منفعة فيه له في المختزن قبل أن يرهنه سوى كونه يختزن فيه الطعام أو الزيتَ إلى أن يحول سوقه بعد مدة طويلة فإن هذا قد ينقدح فيه أن القبض ها هنا لم يحصل تكون الراهن لم يتغير عليه من حال الرهن وما يقصد به شيء، إلا أن يقال: إن منْعَه من التصرف إلى هذا المخزن والدخول فيه متى شاء، يكون حاجزًا بينه وبين ما فيه، فيحصل القبض لأجل ذلك، فلا يبعد ما قيل فيه مما ذكرناه. وإذا تقرر كون القبض شرطًا في صحة الرهن، وصفة القبض كمن (¬1) يكون القابض هذا لا يشترط فيه إلا المنع من كون القابض هو الراهنَ، ومن يحل محله مِمّن هو تحت يده، ويده كيد الراهن، كعبد الراهن وولده الصغير الذي في ولأنه وتحت نظره. وإن اشترط (¬2) كون الرهن تحت يد هذا العبد أو هذا الولد الصغير لا يصح به القبض، ويقدر كأنه باقٍ تحت يد الراهن. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: كأن. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: اشتراط.

(وأما ما ولد الراهن البائع) (¬1) عنه فإن قبضه لا يفسد الرهن، بل يكون كقبض المرتهن. وزوجة الراهن كولده البائن، وقد قال ابن القاسم: إذا رهن زوجته خادمًا تخدمها في بيته، فإن ذلك لا يكون رهنًا بخلاف أن يهبها خادمه، وهي تخدمها في البيت، فإن ذلك يكون حوزًا لأنّ الهبة إذا رجعت إلى يد الواهب بعد صحة الحوز لم يبطل (¬2)، والرهن إذا رجع إلى يد الراهن بعد الحوز بطل الرهن. وحكى فضل بن مسلمة في وثائقه عن سحنون: إن رهَن خادمة لزوجته تخدمها لم يصح. وسنبسط الكلام في الزوجة ما وهبها زوجها من خادم أو قشّ وذلك في دار سكناهما، في كتاب الهبة والصدقة إلى غير ذلك من المسائل التي من هذا النوع إن شاء الله تعالى. كهبة ما عقد فيه وَجيبَة والخلاف في ذلك، هل قبض الواهب ثمن المنافع يمنع كون الموهوب له أو المرتهن حائزًا، كما لو بقيت المنافع تحت يد الراهن ينتفع بها، أولًا يمنع ذلك من صحة القبض, لأن ثمن المنافع ليس هو عين المنافع. وأما حوز القيَّم بأمور الراهن، والمتصرف في ماله وشؤونه، فقد وقع في الرواية أنه إن حاز جميع الرهن، كدار رهن الراهن جميعها فحازها القائم بشؤون الراهن للمرتهن بإذنه، فإن ذلك حوز لا يبطل الرهن. ولو كان إنما رهن الراهن نصف هذه الدار خاصة، وأبقى النصف الآخر على ملكه وتصرفه، فإن قبْض هذا القائم بشؤون الراهن (¬3) للنصف المرتهَن لا يكون قبضًا، لأجل أنه إذا كان جزءًا (3) من الدار في يد القائم بشؤون الراهن (¬4)، فإن قبض الجزء المرتَهن وكأنَه تحت يد القائم بشؤون الرهن لا ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: وأما ولدُ الراهن البائِن. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: تبطل. (¬3) هكذا، والصواب: الرهْن. (¬4) هكذا، والصواب: جزءٌ.

يصح، تكون الجزء الآخر الذي لم يُرتَهن يحوزه هذا القائم نيابة عن الراهن، وهو غير متميز من الجزء المرتهن، فقدّر كأن يد الراهن باقية على جميع الرهن. وقد قيل، في أحد القولين،: إنه لا يصح رهن نصف دار على أن تبقى يد الراهن على النصف الآخر، لما كان الرهن شائعًا غير متميز، فكذلك بقاء يد القائم، لا سيما أن القائم ها هنا لا يتبدل الح الذيه، وقد كانت يده على جميع الدار يحوزها الراهن، وبقيت يده على جميعها يحوز النصفَ منها للراهن والنصف للمرتهن، وإنما تبّدلت النية خاصة، ويد أخرى لم نظر (¬1) على هذا الرهن، بخلاف أن نظرًا (6) يد أخرى، وهي يد المرتهِن، فتحُوز مع الراهن نصف الدار. ولو كان الرهن وديعة أوْدعها الراهن، فحاز الموح جميعها للمرتهن فذلك حوز يصح معه الرهن ولو لم يحز في لك له لم يصح القبض. وقد اختلف لو كان المودع إنما رهن نصف الوديعة خاصة، وحاز المرتهِن نصفَها المرتَهَنَ، ونصفَها الراهنُ، لأجل كون يد المودع ها هنا حازت حقًا للمرتهِن لم يتميّز عن نصف الراهن، فكان القبض لم يصحّ. وإذا وضح الحكم في حيازة (من نسب) إلى الراهن بحيازة رجل أجنبي من الراهن لا تدركه تهمة في الحوز يصح معه القبض ويحل محل قبض المرتهن بنفسه. ولو اختلف الراهن والمرتهن فيمن يحوز الرهن، فقال الراهن: يحوزه العدل المؤتمَن. وقال المرتهن: أنا أحوزه. ولم يكن بينهما اشتراط في أصل العقد (¬2) الرهن في تعيين من يحوزه فإن القول قول من دعا إلى كونه بيد رجل يؤتمن عليه. وأما الراهن فقد يكره حيازة المرتهن لهذا الرهن خوفًا عليه أن يدعي ضياعه، فيحول بينه وبين ملكه أو يفرّط فيه حتى يضيع، أو يضيّعه، فلهذا ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: تَطْرَأ. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: عقد.

قُبِل قوله إذا ادعى (¬1) إلى حيازة رجل مؤتمن عليه وأما المرتهِن فإنه يقبل قوله إذا ادعى (1) إلى حيازة غيره ليكفيَ نفسَه مؤونة التكلّف للاحتفاظ عليه، ويكفي نفسه أيضًا مؤونة ضمانه وإذا (¬2) كان قابضه، فكان الحكم وقفَه على يد عدل، فمن دَعَا إلى الحكم قُبِل قوله. ولا (¬3) تنازعًا في عَيْن هذا العدل المؤتَمن، فدعا هذا الراهن إلى رجل، ودعا المرتهِن إلى رجل آخر، فقال محمَّد بن عبد الحكم: يدفع ذلك إلى القاضي لينظر من يوقف عنده. وبعض أشياخي تعقب هذا، ورأى أن الراهن إذا دعا إلى رجل عدلٍ يؤتمن على الرهْن، فإن قوله مقبول في ذلك تكون الملك له، فيختار لحفظه وصيانته من شاء من الثقاة، ما لم (يدفع إلى ثقة) (¬4) فيضر ذلك بالمرتهن. وكان ابن عبد الحكم ينفصل عن هذا بأن المرتهِن ينازع الراهن في عدالة من دعا إلى كون الرهن عنده، ويقول له: إنه غير ثقة. وقد يصْنع (¬5) الرهن الذي فيه حقه، فيفتقر حينئذ إلى النظر في ثقة من دعا إليه الراهن، ولا ينطق (¬6) في كونه ثقة ومأمونًا على ذلك إلا القاضي، فلهذا بدأ به في الأول، وصرف النظر إليه. لكن بعض أشياخي يرى أنه (¬7) ثبت عند القاضي أن من دعا إليه الراهن ثقة "فإنه يتعين تسليم هذا الرهن إليه دون أن يرجع في ذلك إلى رأي قاض أو غيره. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: دَعَا. (¬2) هكذا, ولعل الصواب حذف الواو. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: لو. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: يَدْعُ ألى [غير] ثقة. (¬5) هكذا, ولعل الصواب: يضيع. (¬6) هكذا, ولعل الصواب: ينظُر. (¬7) هكذا, ولعل الصواب إضافة: إنْ.

والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: لا يخلو رهن جزء من دار أو عبْد أو ثوب من أن يكون الجزء الآخر (ما كان) (¬1) للراهن أو لآخر غيره. فإن كان ذلك الجزء الذي لم يُرهن ملكًا للراهن، فهل يصح حوز المرتهِن للجزء الذي سلّم إليه رهنًا غير متميز من ملك الراهن أم لا؟ في ذلك قولان: 1 - أحدهما: إن ذلك لا يصح، تكون يد الراهن لم ترتفع عن الرهن ارتفاعًا كليًا، بل تصرفه في كل جزء من الدار إنما تصرف في شيء بعضه ليس برهن بل هو باق على ملكه. فإذا لم يتصور رفْع يده عن جملة الرهن إلا بأن يدفع الراهن للمرتهن جميع ما ملك من هذا الراهن الجزءَ الذي رهنه والجزءَ الذي لم يرهنه لأجل ما قدمنا. 2 - والقول الآخر: إن هذا حوز وقبض يصح به الرهن، قياسًا على بيع جزء شائع من الدار تصير يد المشري علي على الجزء المبيع، وتبقى يد البائع على الجزء الذي لم يبعه. ثم لم يمنع كون يد البائع على جزء شائع من صحة البيع، فكذلك لا يمنع من صحة الراهن (¬2) في الجزء الشائع مع بقاء يد الراهن على الجزء الآخر. وإذا قلنا بجواز ذلك،، وصحة كونه قبضًا وإن كان غير متميز، فإن الرهن يكون إذا قبض المرتهِن جميعَ ما بعضُه رهنٌ، الجزءَ المرتَهَن يضمنه للراهن إذا كان مما يغاب عليه، والجزءَ الآخرَ يكون في يده على جهة الأمانة، وكأنه وديعة عند (¬3) الراهن فلا يضمنه. فإن قيل: هَلا اختلِف في هذا، كما اختلف في ضمان الصانع المثالَ، فيقول من ضمن الصانع المثال الذي يأخذه ليصنع عليه بأن هذا المرتهن يضمن جميع ما قبضه رهنًا وأمانةً، تكون هذا الجزء المقبوض على جهة الأمانة إنما ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: مِلكًا. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: الرهن. (¬3) هكذا ولعل الصواب: من الراهن.

دعا إليه الحاجة إلى صحة حوز الرهن. قيل: ضمان الصانع إنما علة (¬1) المصلحة، على ما يذكر في كتاب تضمن الصناع إن الصنَّاع لو لم يضمنوا لادّعَوْا تلفَ ما دفِع إليهم، وبالناس ضرورة إلى دفع ذلك إليهم، وكذلك ما دُفع إليهم ليجعلوه مثالًا لما استَؤجروا عليه، ميت المصلحة تضمينهم له (¬2) في الرهن إنما الغرض المقصود به كون القابض للرهن أحق بثمن الرهن من غيره من الغرماء. وها هنا لا يكون أحق بثمن بعض الرهن الذي لم يجعلْه بيده رهنًا، وإنما جُعِل أمانةً، وإذا لم يكن أحق بثمنه من غير خلاف، لم يكن ضامنًا له، لأن الضمان إنما يتوجه في الرهبان وما في معناها لا في الأمانات. وكذلك اختلِف في صدقة الوالد على ولده بنصف دار أو سلعة في يده، والولد في ولايته، هل يصح كون الأب حائزًا للنصف الذي تصدّق به على ولده أم لا، لما كانت يده تحوز لنفسه ولغيرْه حوزًا على الشياع، على حسب ما قدمنا تعليله والخلاف فيه إذا رهن نصف داره؟ وأما لو كان الجزء الذي لم يُرهَن لغيز الراهن، مثل أن يكون دارٌ أو عبدٌ أو ثوب بين شريكين، ورهن أحدهما النصف الذي له ووضع المرتهِن يده على هذا النصف الدي جُعِل بيده رهنًا، فإن ذلك لا يخلو أن يكون مما لا يصح نقله والزوال به من مكان إلى مكان كالديار والأرضين، أو مما يصح نقله كالعبد والثوب وشبه ذلك، فإن كان ما لا يصح نقله وأن يزال به كالرّباعِ، فإن المذهب صحة الحوز للرهن إذا قبَض هذا النصفَ المرتهنُ، وهو جميع حق الدائن، وحلّت يد المرتهِن محل يد الراهن، فصار ينفرد بحيازة هذا النصف والذبّ عنه، على حسب ما كان ينفرد به الشريك الذي رهَن جميعَ نصيبه. وإن كان مما يزال به وينقل من مكان إلى مكان كالعبد والثوب ففي الذهب قولان: مذهب ابن القاسم إن ذلك يصح الحوز فيه كما صح هذا الحوز فيما لا ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: عِلَّتُه. (¬2) هكذا, ولعل الصواب إضافة [وَ].

ينقل من مكانه كالديار والأرضين، لعله كون يد الراهن ارتفعت عن جميع نصيبه الذي رهن، فلا يفترق الحكم بين أن يكون ذلك مما ينقل أوْ لا ينقل. ومذهب أشهب وعبد الملك، إن ذلك لا يصح, لأن الحوز إنما صح في الرباع لأن نقلها لا يمكن، فصار المقدور عليه في قدرة الخلق رفعَ يد الراهن عن نصيبه، وكونَ يد المرتهن تحل محله. وأمّا ما ينقل ويزال به فإنه يمكن فيه أن ينقله من مكان إلى مكان. وهكذا المعتاد فيه في قبضه يُطلب في الحوز أعْلى درجاته وهي نقْله من مكان إلى مكان ينفرد به المرتهن. وإذا تقرر هذا فإن هذا النصيب الذي رهنه الشريك ورفع يده عنه، ينبغي ألا يرهنه حتى يُعلم شريكَه بذلك، ويستأذنه فيه، لأجل أن الشريك الذي لم يرتهن نصيبه قد يدعو إلى بيع الجميع، لأجل ما عليه في بيع نصيبه منفردًا ميت البخس في الثمن، فإذا دعا إلى ذلك مُكَن منه، لكونه من حقه، فيؤدي ذلك إلى بيع النصيب المرتَهن فيه، فينتقل حقُّ المرتهِن من عين الرهن إلى حكم آخر. وهذا مما ينبغي أن يتوثق به بالرهن الذي لا يكون لأحد فيه حق في إزالة يد الراهن عنه إلا بعد قضاء الديْن الذي هو رهن به. فإذا استؤذن الشريك الذي لم يرْهَن في هذا، لم يكن له أن يدعُوَ إلى المفاصَلَة وبيع الجميع، حتى يحل أصل الدين، فيقبض المرتهن ديْنه، تكون الشريك قد أسقط حقه في الدعاء إلى المفاصلة، لما كان الرهن عن إذنه وقع. لكن لو أراد الشريك الذي لم يرهَن نصيبَه مفردًا، على أن يقبض إلى أجل الدين الذي نصيب تركه مرتهنٌ به، وهو أجل بعيد لا يجوز بيع المعَيَّنات على أن تُقبَض إليه، فإن في ذلك قولين: أحدهما إنه يمكن من ذلك. وذهب ابن ميسّر إلى أنه لا يصح هذا البيع، كما لا يصح بيع سلعة معينة تقبض إلى أجل بعيد، فكذلك هذا, لأن الشريك يبيع نصيبه على أن يَقبضَ إلى أجل بعيد. والقول الآخر: بالجوزا، علته أن بيع المعين على أن يقبض إلى أجل بعيد، دخل المتعاقدان عليه اختيارًا منهما، وهما قادران على أن يُعقَد البيع على أن تُقبَض السلعة المبيعة بالفور، فعدو لهما عما يقدِران عليه، وهو الغالب المألوف قصدًا إلى التخاطر في اشتراط تأخير

القبض إلى الأجل البعيد الذي قد تتغير السلعة قبل حلوله بالاشتراط لضمانها إلى أجل بعيد. وأما بيع هذا الشريك، الذي أذن له شريكه في رهن نصيبه، فإنه ها هنا لا قدرة له على أن يبيع نصيبه ليقبض بالفور، ويدعو المشتري لنصيبه إلى المفاصلة، ويُمنع من ذلك، كما كان الشريك الذي باع منه ممنوعًا. فإذا كان غير قادر على بيعه ليقبض على الفور، ومنعه الشرع من ذلك فلم يقصد المخاطرة، لكونه غير ممكَّن من العدول عنها لما أوجبت الأحكام منعَه من بيع نصيبه على الفور. وقد (تعذر من أصول المذهب بالمنع) (¬1) إذا عقد على جهة ما أوجبته الأحكام ففي ذلك قولان: هل يعذر المتعاقدان في هذا العقد لكونهما كالمغلوبين عليه أوْ لا يعذران في ذلك تكون العقد وقع باختيارهما ولم يجبرهما الشرع عليه، وإنما منعهما من التصرف فيه على أحد وجوهه؟ وعلى هذا الأصل تجري مسائل كثيرة نبهنا على بعضها في كتاب البيوع، وبسطنا القول في ذلك بما يغني عن إعادته ها هنا. فإن قيل قد اتفق المذهب على جواز بيع الغائب، واختلف القول في ضمانه، هل هو من المشتري أو من البائع. وفي بيع هذا الشريك لنصيبه الذي لم يرهنه إلى أن يقبض إلى أجل لم يُنَصّ فيه على هذا الاختلاف، بل جعل الضمان في هذا النصيب من مشتريه بالعقد، وإن كان أجل القبض يتأخر قيل (¬2) السلعة المبيعة إذا كانت غايته لا يصح في العق ان تقبض عقيب العقد، فصار القصد غيرَ متأت عقلًا، وها هنا يتأتى القبض ويتمكّن، وإنما منع الشرع من اشتراطه خاصة معجلًا إلى أن يسقط حقه في التعجيل للبيع من له أن يمنع منه، فلما صار القبض ممكنًا متأتيًا في الحال صار ذلك بخلاف ما لا يمكن قبضه عقلًا في الحال. وقد بسطنا هذا الذي أشرنا إليه في كتاب البيوع في ضمان ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) هكذا.

المحتبسة بالثمن وبيع الغائب. وإذا قيل في مسألة هذا الشريك: إن البائع يَسقط الضمان عنه بالعذر، فيجب له نقد الثمن على حسب ما بيناه في كتاب البيوع في أحكام بيع الغائب. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد بينا صفة القبض فيما في يد الراهن، منفردًا أو متميزًا أو مشاعًا. فأما ارتهان الإنسان شيئًا في يديه هو من غير أملاك الراهن، فإنه لا يخلو أن يكون ذلك في يديه غصبًا أو وديعة. فإن كان في يديه غصبًا، وحازه حوْزًا لم يأذن له الشرع فيه، فأتى مالكُه فجعله رهْنًا في يد الغاصب لديْن للغاصب عليه، وقد تمكن من أخذه، فإن فقهاء الأمصار مختلفون في زوال ضمان الغاصب عن هذا الغَصْب، بأن جعَلَه المالكُ رهنًا في يده، وأذن له في أن يُمسكه رهنًا في دين له عليه. فمذهبنا أن ضمان الغاصب يَسقط، ويُمحى حكمه بهذا الفعل الثاني، وهو إذن المالك في أن يبقى في يد الغاصب رهنًا. وبهذا قال أبو حنيفة والمزني من أصحاب الشافعي. وذهب الشافعي إلى أن ضمان الغاصب لا يَسقط، تكون المالك عقد فيه الرهنَ بعد أن كان غصبًا. وقد قدمنا نحن القول في كون الرهن يلزم بالقول، وأنه لا يقف لزومه، والجبر على تسليمه على شيء زائد على مجرد القول. وقد قدمنا عن الشافعي أنه لا يَلزم بمجرد القول. وسنتكلم على اختلافهم في ضمان الرهن. فعندنا أنه مضمون على الجملة، يضمنه بالأقل من قيمته، أو الحق الذي هو رهن به. فإذا تقررت هذه المذاهب على الجملة فسبب الاختلاف في زوال

الغصب إذا صُيّر الشيء المغصوب رهنًا، أن الشافعي يراه قد ثبت فيه ضمان الغصب بإجماع، ولم يحدث بعد ذلك سوى قول المالك: صيرته بيدك رهنًا، وقد كان بيده غصبًا، فلم يحصل سوى القول، والرهن لا يلزم بمجرد القول، واستصحاب القبض كابتدائه، فيسقط (¬1) حكم ضمان الغصب، تكون المالك في بقائه في يد الغاصب على وجه ينافي حكم الغصب, لأن ضمان الغصب لا يتساوى مع ضمان الرهن، بل يتنافيان في بعض وجوبهما (¬2)، ويصير (¬3) هذا الشيء المغصوب، إذا بقي في يد الغاصب رهنًا بإذن المالك، كأنه رهن يُستأنَف دفَعَه في دين استدانه، وكأنه رد الشيء المغصوب إلى مالكه، ثم دفعه إليه مالكُه بعد ذلك رهنًا. ووافقنا أبو حنيفة على هذا لأجل أنه يرى أن استدامة هذا القبض كابتدائه، وكأنه كان في يد الغاصب أوّلًا يحوزه لنفسه، ويخيَّل انه يتملّكه، ثم صار بحوزه على ملك راهنه، وكان (¬4) رهن رهنًا وإخراجه (¬5) من يده وأقبضه للمرتهن. وإذا حصل القبض لزم عقْده الرهن، وصار مضمونًا ضمان الرهبان. ولزم الرهن عند المزني، وصار غير مضمون تكون الرهن عنده غير مضمون. هذا سبب الاختلاف عندي في ذلك، وإن كان الأئمة الذين تكلموا على المسألة من أصحابنا كابن القصار، ومن أصحاب الشافعي كأبي حامد الإسفرايني لم يسلكوا هذه الطريقة، في البناء على الأصول، التي قدمنا، وإنما سلكوا طريق الحِجاج على حسب عادتهم في مسائك الخلاف. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: فَـ[لاَ] يسقط. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: وجوههما. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: أو. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: كأنّه. (¬5) هكذا, ولعل الصواب: أخْرجه.

في (¬1) ذلك أن هذا الغاصب لو اشترى الذي غصبه من مالكه بعد أن تمكن منه، لسقط ضمان الغصب باتفاق. ولذلك يجب بذل (¬2) عقد البيع عقد رهن أن يسقط ضمان الغصب أيضًا، طردًا للأصل في أن هذا العقد الطارئ ينفي حكم الأوّل وهو الغصب. ويفرق أصحاب الشافعي بين عقد الرهن في الشيء المغصوب وعقد البيع فيه، بأن عقد البيع يصيّره ملكًا للغاصب، وملك الإنسان لا يضمنه لغيره، والرهن لم يصيّر الشيء المغصوبَ ملكًا للغاصب، فلهذا لم يسقط ضمان الغصب .. وأما لو كان أبقى الشيءَ المغصوبَ. في يد الغاصب وديعةً لكان أصحاب الشافعي مختلفين في ذلك، منه من قال: يسقط بالإيداع كما يسقط بالبيع. ومنهم من قال: لا يسقط الضمان بالإيداع، بخلاف الرهن. وهؤلاء يلزمهم طلب التفرقة بين الإيداع والرهن. وهم يشيرون إلى أن التفرقة لا تتضح. ولو أذن المالك للغاصب في أن يُبقي الشيءَ في يده وديعة، لسقط الضمان عندنا أيضًا، بناء على ما قدمناه في أن الإيداع كالإبْراء من حكم الضمان. وأصحاب الشافعي يرون أن الإبراء من حقوق الذمة لازم باتفاق، وأما الإبراء من ضمان أعيانٍ لم تثبت في الذمة غرامة لأجلها، فإن الإبراء ميت ذلك فيه قولان عندهم. وإذا تقرر هذا، وتقدم الكلام فيما سلف في صفة القبض، فإن أصحاب الشافعي يرون أن من ارتهن شيئًا كان في يديه وديعة لمالكه، فإنه إن كان حيوانًا فلابد من إحضاره ومشاهدته, لأنه أذا كان عبدًا أو فَرَسًا في يديه وديعة، ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: مِنْ. (¬2) هكذا.

فأخذ منه صاحب العبد أو الفرس دينًا، وهما غائبان في دار المودَع أو بموضع اخر في البلد، فإنه لا بد من تصحيح القبض (¬1) والمشاهدة تكون (¬2) هذا الحيوان في القبضة، لجواز أن يكون العبد قد أبقَ من مكانه، والفرس قد نَدَّ من مكانه. وإن كان هذا مما (¬3) ينتقل بنفسه، كالعروض والطعام فعندهم فيه اضطراب، هل يكون كالحيوان لجواز أن يكون قد سُوق أيضًا، أو صادفه عقد الرهن مسروقًا، أولًا يكون كالحيوان لأن هذا الإمكان يبعُد يخلاف الإمكان في العبد؟ وكذلك عندهم اختلاف هل يراعى بعد عقد هذا الرهن أن يمضي من مدة يمكن فيها أن يمشي المرتهن إلى الشيء فيقبضه؟ فالمشهور عندهم مراعاتها. وقال رجل منهم: لا تراعى. ونحن قدمنا في كتاب البيوع الكلام في مراعاة مُضيّ قدر التسليم للبيع وذكرنا الكلام في المصارفة عن وديعة بدار المودَع، وعقد صرفها من مالكها وهما غائبان عنها، ما يُعلَم به وجه الحكم في ذلك عندنا. وكذلك ذكرنا ها هنا موت الراهن قبل إِمكان القابض (¬4)، وهذه المسألة تَردَّد بين هذه القواعد التي أشرنا إليها. والجواب عن السؤال السادس أن يقال: قد قدمنا أن القبض شرط في صحة الرهن، وكونَ المرتهن أوْلى به من غيره من غرماء الراهن. وبقي النظر بعد ذلك إذا حصل القبض المطلوب، على الوجه الذي وصفناه قبل هذا، ثم خرج الرهن من يد المرتهِن باختياره، وعاد ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: بِالمشاهدة. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: يكون. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: مما لاَ. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: القبض.

إلى يد الراهن، هل يبطل حكم القبض الأول ويزول حكم الراهن؟ وكون المرتهن أوْلى أم لا؟ هذا مما اختلف الناس فيه: فمذهب مالك أن عوْد الرهن إلى يد الراهن تمكين المرتهِن يُبطل الرهن، ويَمنع المرتَهِن أن يكون أوْلى به، إذا وقع الموت أو الفلس وهو بيد الراهن، ولا يراعى الوجه الذي عاد به إلى الراهن باختيار المرتهِن. وقال أبو حنيفة: إنْ عاد إلى الراهن بعارية أو إيدل، لم يبطل بذلك الرهين، وإن عاد بإجارة بطل الرهن. ويبطل (¬1) عندنا تصوّر الإجارة فيه؛ لأن المنافع المستأجرة على ملك الراهن، فكيف يشتري ما يملكه منها! اللهم إلا أن يقال: إن الراهن أكراه من المرتهن، ثم عاد المرتهن فأكراه من الراهن. فهذا قد يتصوّر من غير تقدير، وتأويل أن يؤاجَر الرهن بإذن المرتهِن من رجل أجنبي، ويتولى المرتهن ذلك على حقيقة مذهبنا. وذهب الشافعي إلى أن استدامة القبض ليس بشرط في صحة الرهن إذا كان قد حصل مقبوضًا قبل عوده إلى يد الراهن. وكشف الغطاء عن هذه المذاهب أنّ رقبة الرهن ومنافعه باقيتان على ملك الراهن، ولا ملك فيها للمرتهن، وإنما يتعلق له حق بعين الرهن يمسكه حتى يستوفي من ثمنها مالَه من دْين له عليه. والرقبة هي المرتهَنة وهي التي تعلق بها حق، فمن تعلق به (¬2) حقه بعين رقبة الرهن لاستيفاء دينه يوجب أن يمنع الراهن من عود رقبة المرتهن إليه والراهن يقتضي ملكه للمنفعة أن يحال بينها وبينه ويكون من حقها (¬3) استيفاؤها, ولا يمكن استيفاء منفعَة الرهن إلا ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: يَبْعُدُ. (¬2) هكذا, ولعل الصواب حذف (به). (¬3) هكذا, ولعل الصواب: حقّه.

بعد عوده إلى يد الراهن، إذا أراد أن ينتفع به بنفسه، لكن ملكه باقيا (¬1) عليه يقتضي تمكينه من ذلك، وتمكينه من ذلك يقتضي إبطال حق المرتهِن في تعلق حقّه بعين رقبة الرهن، فما الذي يغلَّب من هَذين الجانبين؟ هذا سبب الاختلاف بين المذهبين: فأبو حنيفة يغلّب حق المرتهِن، ويقول: المنافعْ، وإن كانت مملوكة للراهن، فليس ذلك يوجب أن يُستوفى ويقبضَه مالكُه، ألا ترى أن من اشترى سلعة حُبِسَتْ عنه بالثمن، فإنه، وإن ملك منافعها, لا يمكنَّ من استيفائها حتى يدفع الثمنَ. فقد تبين أن مجرد الملك لا يوجب التمكين من المنفعة. وأيضًا فإن حقيقة الرهن: ملكُ اليد بحفظه وبحوزه، والمنْع منه، ولهذا منع أبو حنيفة رهن المشاع، تكون حوْز اليد يحصوّر في المشاع، لكونه غيرَ متميّز ولا منفرد، كما تقدم بيانه. وإذا مكنْا الراهن من استيفاء المنفعة أدى ذلك إلى بطلان حكم اليد، وكل ما أدى إلى إبطال حكم اليد كان ممنوعًا. ويؤكد هذا بأن الشافعي، وإن قال: يتمكّن الراهن من استيفاء المنفعة بنفسه، فإنه إنما يستوفيها على حسب ما جرت به العادة، فلو رهن دابّة وقبضها المرتهِن لكان من حق الراهن، عند الشافعي، أن يركبها نهارًا بالبلد الذي هي رهنٌ به، ويردّها للمرتهن ليلًا يحفظها مع كون المالك أوْلى بحفظ ماله من غيره، وما ذاك إلا أن حكم اليد مغلَّب على حكم الملك. هذا كشف الغطاء عن سر ما ذهب إليه أبو حنيفة. والشافعي يقول: حق المِلكْ مغلّب على حكم اليد، في مثل هذا، ما لم يرد (¬2) تمكين المالك إلى تفويت حق المرتهن في رقبة الرهن، أو نقْصٍ من حقه فيها، فإذا غلّب حقّ المالك على حق اليد لم يمنع الراهن من استيفاء ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: لأنّ ملكه باقٍ. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: يُؤَدِّ.

المنفعة, لأن ثمرة المالك (¬1) الانتفاع به، وهو المقصود في الأَمْلاك، إذ لا يَملكُ عين الدواب إلا الله سبحانه الذي يوجدها ويُعدِمها متى شاء، وإنما يملك حق الانتفاع به، فمتى رهن شاة وطلب الانتفاع بأكلها مُنع من ذلك, لأن فيه تفويتا لحقَّ المرتهن من ذلك, لأنه يؤدي إلى نقْصِ حق المرتهِن. وكذلك كل ما أدّى إلى إخراج الرهن عن سلطان (¬2) والتمكين منه، فإنه يمنع، كما لو رهن دابة، وأراد أن يأخذها ليسافر بها، فإنه يمنع من ذلك، تكون السفر بها يمنع المرتهِن من التمكن منها، وكذلك إن أراد الراهن أن يحول بينه وبين الدابة ليْلًا أو نهارًا، فإنه لا يمكن من ذلك أيضًا، تكون ذلك يخرجها من حكم الرهبان (¬3) وعند التمكن من الرهن. فلهذا لم يمكن إلا من ركوبها، واستخدام العبد نهارًا دون الليل، على ما جرت به العادة في استخدام العبيد، وكذلك الدابة إن كانت لا تركب ولا تستخدم إلا نهارًا كانت مثل العبد. وهذا الذي حكيناه عن الشافعي هو المشهور من مذهبه، وهو يحكيه عن أصحابه من مسائل الخلاف، وأبو حامد الإسفراييني وهو من أئمة أصحابه، يشير إلى اختلاف قوله في هذا في كتابه (¬4)، فأكثرها يقول فيه ما حكيناه عنه، وفي موضع غير ذلك يقول: لا يمكن الراهن من الانتفاع بغير إذن المرتهِن، على حسب ما نقوله نحن. وذكر أن أصحاب الشافعي لهم طريقان في نقل مذهبه: فمنهم من يقول: مذهبه على قولين: أحدهما التمكين من استيفاء المنفعة، كما ذكرناه عنه. والثاني أنه لا يمكن من غير اختيار المرتهِن، كمذهب مالك، إذا طلب أن ينتفع بالرهن وقد رجع إليه. ومنهم من يقول: لم يختلف قوله في تمكينه من ذلك، كما قال في عامة كتبه، إذا كان الراهن ثقة. والذي قاله في موضع آخر من الكتب المشار إليها ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: المِلُك. (¬2) هكذا, ولعل الصواب إضافة: المرْتهِن. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: عن. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: كُتُبِه.

أراد به أنه لا يمكَّن إذا كان غير ثقة. وأشار أبو حامد الإسفرايني إلى اختيار هذه الطريقة وهذا التأويل .. وعند مالك إنَّ منعَ المالك من استيفاء المنافع لا سبيل إليه، لما قال أبو حنيفة: إنه يمنع من ذلك، ولو بطلت المنفعة وبطلت. وكذلك أيضًا لا يمكن منه تمكينا يعيده إلى يده، كما قال الشافعي، لكنه إذا آجره بإذن الراهن، وتولّى المرتهن ذلك، ولم يُعدْه إلى يد الراهن، فإن ذلك لا يبطل حكم القبض الأوّل، وأبو حنيفة إنما قصد الأبْطال إذا عاد بإجارة بعد أن يعود بعارية أو وديعة, لأن عقد الإجارة عنده (¬1) كلما لازم (حلّه، والوديعة ارتجاعها، وكذلك العارية،) فخالف ذلك حكم الإجارة. فهذا ضبط مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة: مالك والشافعي وأبي حنيفة على سبب الخلاف بينهم من جهة الاعتبار. وأما الظواهر فتنازعوا في قوله تعالى "فرهان مقبوضة" فقال أصحابنا: هذا ظاهره يقتضي استدامة القبض، لربطه حقيقة الرهن بالقبض، وإنما شرط القبض لأن في ذلك فائدتين: إحداهما كون المرتهن يتمسك بالرهن حتى يستوفي دينه منه، وهذا الاستيفاء هو المقصود، ولا يحصل هذا المقصود إلا يكون الرهن في يديه وقت الحاجة إلى بيعه، فصار ذلك كالصفة اللازمة للرهن كقوله: رجل قائم، وإنما يوسف بذلك في حال قيامه، فإذا انفصل عن القيام قيل: كان قائما، والبارى سبحانه لم يقل "كنتم قبضتموها" وأيضًا فإن للرهن فائدة أخرى ومن (¬2) استعجال الراهن في قضاء الدين لأنه إذا أجبل (¬3) بينه وبين الرهن، ومُنِع من الانتفاع به استعجل نفسَه بقضاء الدين ليفكَّ رهنَه، ويعود ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: وَهْىَ. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: جبل.

إليه الانتفاع به، فإذا كان ممكّنًا من الانتفاع به لم يحثّ نفسَه ويستعجلْها بقضاء الدين، فتبطل فائدة الرهن. ويقول الشافعي: لم يرد الله سبحانه بقوله "فرهان مقبوضة" القبض الحِسَيّ، بل القبض الحَكْميَّ، بدليل كون الرهن رهنًا وإن وضع على يد عين (¬1) المرتهن، وما ذلك إلا أنّه كقبض المرتهن من ناحية الحكم، فإذا كان المراد القبض الحكمي بدليل ما ذكرناه، وقد قبض الرهن، وكان عبدًا استخدمه في النهار، ويعيده ليلًا إلى المرتهن، فإن قبض المرتهن من ناحية الحكم لم يبطل، بل يُستصحَب القبضُ إلى أن يعود إليه بالليل. واستدل أصحاب الشافعي بقوله عليه السلام "الرهن مركوب ومحلوب" ولم يرد أن ذلك حق للمرتهن. وإذا اتفقنا على أن ذلك مما لا يملكه المرتهن لم يبق إلا صرفه إلى كون الراهن يركبه ويحلبه. ونحن نجيب عن هذا بأنه لم يذكر مَنِ الراكب ولا الحالب، فصار ذلك مجملًا من هذه الناحية، محتملًا بتناوله على أن المراد يُركَب بإجارة يتولى حلابها (¬2). وقد ذكرنا عن الشافعي أنه في المشهور عنه يجيز الانتفاع بالرهن، وإن عاد إلى يد المرتهن، في العبد بأن يستخدمه نهارًا ويعود بالليل إلى يد المرْتهن. ولو كانت دارًا لكان من حقه أن يعيدها إلى يَدِه يسكنها نهارًا وليلًا, لأن الديار هكذا ينتفع بها في العادة، بخلاف العبد. وعلى قوله الآخر: يمنع من سكناها إذا كان غير ثقة، على حسب ما ذكرناه لاختلاف أصحابه في تأويلًا الاختلاف. والجواب عن السؤال السابع أن يقال: قد فرغنا من الكلام على رجوع الرهن من يد المرتهن باختياره إلى يد ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: غير. (¬2) هكذا.

الراهن. وأما إن رجع بواسطة مثل أن يكتري الدار المرهونة رجل من المرتهِن بإذن الراهن، فينعقد الكراء بين المرتهن والمكتري، ثم يكتريها الراهن من هذا المكتري لها، فإن ابن القاسم رأى أن ذلك يبْطل الرهن ما دامت في يد الراهن، إذا قام الغرماء على الراهن، إن كان المكتري الذي أكراها من الراهن من جهة الراهن وبينه وبينه علاقة، وإن لم يكن بينه وبين الراهن اختلاط وعلاقة لم ييطل الرهن. وكأن ابن القاسم اعتبر التهمة في هذا وقدّر أن هذا المكتري إذا كان بينه وبين الراهن علاقة، فإن المرتهِن والراهن يتهمان على أن أظهرا الحوز للرهن زورصا، وباطنهما رجوعه إلى يد الراهن، وإنما جَعَلا هذا المكتري ذريعة إلى ما تحيّلا عليه من إظهار الحوز، وباطنهما خلافه. فإذا كان لا علاقة بينه وبين الراهن، بعدت التهمة. وهذا عندي مثلُ ما ذهب إليه فيمن حلف ألاّ يبيع ثوبه من فلان، فاشتراه منه رجل أظهرا أن الشراء له، وهو إنما اشتراه للمحلوف عليه ألا يباع الثوب منه. واعتبر في هذا كون المتولي للشراء من جهة المحلوف عليه، فيقع الحنث لكون البائع منه إذا علم أنه من جهة فلان صار ذلك كعلمه أنه إنما اشترى ذلك لفلان المحلوف عليه. وإن لم يكن من جهته لم يحنث الحالف. وهذا مثل ما حكيناه عنه في مسألة الرهن، وأن ابن حارث قد تعقب ما قاله ابن القاسم في مسألة الرهن، وجعل جواب ابن القاسم كالخارج عن المعروف من أصول المذهب، واستشهد بأن من له نصف دار رهنا لرجل، ثم اكترى نصيب شريكه أن هذا الاكتراء يُبطل الرهن، تكون يد الراهن رجعت إلى نصف الدار، وهو مشاع، فكأن يده (¬1) رجع رهنه إليه. فإذا بطل ها هنا مع بُعد التهمة، فأحرى أن يبطل الرهن إذا أخذه الراهن من يد مكتريه، ولو كان ليست بينه وبينه علاقة. وهذا السؤال الذي استشهد به، مذهب ابن قاسم أن يقوم المرتهن طالبا ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: بيده ..

إذ (¬1) بحيازه نصف الدار الذي صار في يديه رهنا بأن يدعو الرهن (¬2) الذي اكترى نصيب الشريك إلى المقاسمة إن كانت الدار تنقسم، حتى ينفرد بحيازة النصف الذي هو بيد (¬3) رهن، وتزول يد الراهن عنه على كل حال. وإن كانت الدار لا تنقسم أكريت وصار الكراء للراهن، نصفُه بسبب ملكه رقبة نصف الدار الذي جعله رهنا، ونصف الكراء عن منافع النصف الذي اكترى، فإذا خرجت الدار عن يد الراهن بالكراء صحَّ الحوز. ولو أن هذا الراهن لما اكترى نصف الشريك إنما سكن بعضَه، وبقي البعض لم يضع يدَه عليه، فإن ذلك مفضوض على النصيبيْن جميعًا، تكون ما بقي معطَلًا لم يُسكن بقي على الشياع تحت يد الراهن، (لذكر نصف الدار) (¬4) من شريكه وتحت يد المرتهن. هكذا مذهب ابن القاسم. وذكره اشهب في كتابه، وذكر ابن عبدوس عنه في مجموعته أن هذه الدار تجعل على يد من كانت بيده رهنا ليصح الحوز. وهذا الإطلاق الذي حُكي عن اشهب ما أراه ذهب إليه إلا لأجل ما صار إليه ابن القاسم من دعاء المرتهن إلى مقاسمة رقبة الدار اضرار بالرهن (¬5) , لأنه قد يَكْرَه القسمة، ويزيد (¬6) بقاء الدار شركة على حسب ما كانت لغرض له في ذلك، ولما يلحقه من الضرر بالقسمة، وفو لم يدخل مع المرتهن على التزام ما يضره، وإنما دخل معه على تصحيح الحوز. وإنما يجب النظر في أدنى ما يصح به، وما ذاك إلا برفع يد الراهن. ولو أن هذه الدار التي بين شريكين رهَنَ أحدُهما نصيبَه منها، وهو ¬

_ (¬1) كلمة غير واضحة، ولعلها: انفرادَه. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: الراهنَ. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: بيدِهِ. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: لِكراء نصف الدار. (¬5) هكذا, ولعل الصواب بالراهن. (¬6) هكذا, ولعل الصواب: يريد.

النصف، من رجل، فوضع هذا النصفَ على يد الشريك، فإن ذلك رهن صحيحٌ مَحُوزٌ. ولو أن هذا الشريك الذي لم يرهن قبض (¬1) نصيبَ شريكه إلى الآخر رهنا يحوزه لغيره، احتاج أيضًا إلى رهن نصيبه، فرهَنَه ووضع نصيبه على يد شريكه، فإن هذا الرهن ذكر ابن المواز أنه قد بطل، وأن ذلك سمعه من أصحاب مالك، تكون الدار رجعت بعد هذين الرهنين تحت يد الشريكين، على حسب ما كانا عليه قبل أن يرهن كل واحد منهما نصيبَه. قال: ولو أن الشريك الذي وضع نصيب تركه على يديه يحوز للمرتهن، رهَن نصيبه ولم يضعه على يد شريكه، لبطل نصيبُه خاصةً، وصحَّ رهنُ شريكه الذي بدأ برهن نصيبه. وإنما قال ابن المواز ببطلان نصيب الثاني تكون هذا الشريك بقي في يده نصيب شريكه الذي رهَن أوّلًا يحوزه للمرتهن، وقد صار يحوز جزءًا من الدار على الشياع غيرَ متميز من نصيب شريكه، فلهذا بطل ارتهان نصيبه خاصة. وهذا الذي قاله إنما ينبني على أحد القولين في أن من رهن نصف داره من رجل وبقي الراهن يجوز مع المرتهنن إن ذالك يمنع من صحة حوز الرهن، تكون الراهن تحوز (¬2) يدُه مع المرتهن بحق ما بقي له في الدار من نصيب لم يرهنه. وأما إن قيل بصحة الحوز فإنه ينبغي ألاّ يبطل رهنُ الثاني، وإن كانت يد الراهن باقية على نصيب شريكه يحوزه نيابة عن غيره. ومما يعتبر في حوز الرهن وضعفه أنّا قدمنا أن رجوعَ الرهن إلى يد الراهن باختيار المرتهن أن ذلك يُبطل الرهن، ولكن يشترك أن يرجع إليه، وأما لو لم يكن حصل من المرتهن سوى الإذن للراهن في الانتفاع، مثل أن يكون رهن رجل داره وقبض المرتهِن الدارَ كما يجب القبض، ويصح به الحوز، فأذن للراهن أن يأخذها، ويسكنها, ولم يسلمْها إليه، فسكنَها، فهل يكون مجرد ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: أَقْبَض. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: تجول.

الإذن إبطال للحوز المتقدم أوْ لا؟ فيه اختلاف: ذهب ابن القاسم إلى أن مجرد الإذن من المرتهن للراهن في سكنى هذه الدار يبطل الرهن، وأقام الإذنَ في ذلك، وإن لم يقع ما أذن فيه من السكنى، مقام المسكنى إن وقعتْ. وذهب أشهب أن مجرد الإذن لا يبطل الرهن. وذهب ابن حارث إلى أن مجرد الإذن يبطل الرهن إذا كانت الدار موضوعة على يد أمين يحوزها للمرتهن، بمجردُ (¬1) إذنه لم يبق له تأثير في الحوز، وكأن امساك الدار بيد أمين حتى يتسلمها الراهن المأذون له في سكناها إنما بقي بحكم الراهن (¬2). وأما إن كانت الدار بين المرتهن فإن مجرد الإذن لا يبطل الحوز, لأن الحوز معلوم حسًّا, ووجودًا، فكأن الحوزَ باقٍ حتى تخرج من يد المرتهن. وهذا الاختلاف عندي إنما يتصور إذا قام الغرماء عقيب الإذن، ولم ترجع إلى يد الراهن. وكأن ابن القاسم قدّر أن مجرد الإذن كالتصريح بإسقاط حق المرتهن في الرهن، وقد قدمنا في صدر هذا الكتاب أن الرهن يلزم بمجرد القول، وكذلك إسقاط الحق فيه يلزم بمجرد القول. وهذا شبّه بأصل المذهب على ما فلناه. وكأن أشهب استصحب حكم الحوز، وأبقى حكمه حتى يرتفع بوقوع ضده. فلما كان مجرد القول في عقد الرهن لا يصيّر الرهنَ رهنًا يتميز به المرتهن عن الغرماء حتى يقع الفعل وهو القبض، وكذلك حلّه ينبغي أن يرتبط أيضًا بعوْد الرهت إلى يد الراهن بعد الإذن. وكان ابن حارت لما ترجحت عنده الطريقتان غلّب إحْداهما عن الأخرى ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: فمجرّدُ. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: الرهن.

بتفصيل ما قال، فقدّر أن الرهن إذا كان بيد أمين ووقع الإذن، فإن يد الأمين بعد الإذن كيد الراهن، وإذا كان الرهن بيد المرتهن فالحوز باق على حكم ما كان حتى يقع ضدُّ ما كان عليه من وزال الدار من يد المرتهن. وكذلك لو اتفق المرتهن والراهن على أن يُعار هذا الرهن لرجل اتّفق على عاريته له، فهل يُبطل ذلك الرهنَ أم فيه أيضًا هذان القولان بين ابنْ القاسم وأشهب؟ فمن ذهب إلى صحة الرهن (زال الرهن وإن خرج من يد المرتهن بهذه العارية فإذا لم يرجع إلى يد الراهن والمعتبر في إبطال) (¬1) رجوعه إلى يد الراهن. ومن رأى إبطال الحوز بهذه العارية قدر أنها كهبة وهبها الراهن بغير عوض، وذلك يُشعر يكون ملكه رجع إليه، على حسب ما كان يتصرف فيه حيث شاء. ورجّح ابن حارث أيضًا هذين المذهبين بصرفهما إلى حالين، فرأى أن المستعير إن كان من جهة الراهن، وهو الراغب للمرتهن في أن يمكّن المستعير من الرهن، فمكنه المرتهِن، فإن ذلك كتمكين الراهن من رهنه، وإعادته إلى يده. وإن كان المُوثِر لهذه العارية والراغب فيها هو المرتهنَ فإن ذلك لا يُبطل الحوزَ، تكون الرهن لم يرجع إلى يد الراهن، وكأن يد الراهن لم تخرج عنه، فلهذا لم يُبطل الحوزَ، وطرد هذا التفصيل حتى في الإجارة للشيء المرتهن. ولو أن المرتهن أعار الرهن للراهن بشرط أن يرده إليه، فإن من حق المرتهن أن يطالبه برده إليه بما شرط عليه. وأما لو لم يشترط ذلك عليه، وقام الغرماء والرهن في يد الراهن، فإن الرهن قد بطل. وأما إن لم يقم الغرماء حتى ردّ الراهن الرهن إلى المرتهن فهل يكون المرتهن أوْلى به من الغرماء أم لا؟ ذهب مالك إلى أنه لا يكون أولى به، وذهب ابن القاسم إلى أنه يكون أولى به. وكأن مالكًا رأى أن العارية لما كانت مطلقة لم يشترط ارتجاعها أبطلتْ الرهن، وإذا بطل الرهن لم يردّ إلا بعقد آخر يجعلانه رهنًا للراهن والمرتهن، ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: رأى أن الرهن، إنْ خرج من يد المرتهن بهذه العارية، لم يرجعْ إلى يد الراهن، والمعتبر في إبطاله.

وها هنا لم يحصل ذلك منهما، فاستُصحِب حكم بطلان الرهن. ورأى ابن القاسم أن مجرد هذا الردّ المراد به تصيير الرهن على ما كان عليه أوّل مرة من كونه رهنًا، وأن مجرد لفظ العارية يقتضى هذا. وأما إن وقع الرهن: استحقاق لجميعه بطل الحوز من غير خلاف، ولم يكن للمرتهن حق في الرهن. فلو استُحِقْ بعضه فإن المستحق يكون شريكًا في الرهن، ويبقى نصيب الراهن بيد المرتهن رهنًا، ثم ينظر في هذا المستحق فإن كان مما ينقسم كان من حق المرتهن أو الراهن الدعاء إلى قسمته لينفرد هذا بملكه، وهذا برهنه، وإن لم يكن مما ينقسم، (¬1) وضعاه على يد أحدهما أو يد أجنبي برضى الراهن، فإن ذلك لا يُبطل حوز الرهن. وإن لم يكن الرهن حاضرًا نظر القاضي في ذلك في القسمة أو بيع الجميع، فإن توجه عنده بيع الجميع أخذ المستحِق نصف الثمن، وبقي نصف الثمن موقوفًا بيد المرتهِن بدلًا عن الرهن الذي أُخِذ من يده. هذا من مذهب ابن القاسم. ورأى أشهب أن الرهن إن بيع بعينٍ، وهي مثل الدين، أو بمكيل أو بموزون، وهو من جنس الدين، فإن ذلك يُعجَّل للمرتهن، إذ لا فائدة في وقفه، بل ربما لحقه ضرر من ذلك، وهو ضياع هذا الموقوف وشهدت بذلك بيّنة، فيغرم الراهن الدينَ وقد خسر الرهن. وإن بيع بغير جنس الدين فلا بد من وقفه لأنه لا يلزمه أن يقبض جنسًا غيرَ جنس دينه. ولو أتى الراهن برهن يكون مكان هذا الثمن الذي بيع به الرهن وأخذه معجلًا يتَّجر به إلى الأجل، لكان ذلك من حقه، لما يظهر فيه من فائدة له. وإنما يجب التعجيل للمرتهن قبل الأجل مع انتفاء الفوائد والأغراض للراهن. فإذا (¬2) تقرر هذا فإنه يجب النظر في الرهن إذا استُحِق جميعُه هل على ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: [وَ] وَضَعاه. (¬2) هذا جواب عن السؤال الثامن.

الراهن خَلَفُه أم لا؟ فذلك على قسمين: أحدهما: أن يكون الرهن المشترط في أصل عقد البيع أو القرض مضمونًا. والثاني: أن يكون معيَّنًا. فأما إن كان مضمونًا لم يعين في أصل الاشتراط فإنه قد تقدم الكلام على جواز اشتراط رهن غير معين بل مجهول جنسه، وذكرنا أن مالكًا وأصحابه يجيزون ذلك. ويُلزم من اشتُرِط عليه الرهن أن يأتي برهن يكون ثقة بمقدار الحق. خلافًا للشافعي في منعه الرهن المجهول. فإذا تقرر أنّا نجيز اشتراط رهن في الذمة غير معين، فإن الملتزِم للرهن يطالَب به، ويُجبر على إحضار ما يكون ثقة بمقدار الحق. فإن أحضر رهنًا هو بمقدار الحق ورضي به المرتهن، ولكن لم يقبضه حتى استُحِق هذا الرهن الذي أُحضر، فإن هذا الإحضار من غير تسليم للرهن لا يبرئ الراهن مما التزَم، ويكَلَّف احضارَ رهن آخر. وإن وقع الاستحقاق للرهن بعد أن قبضه المرتهن، فهل على الراهن خلَفه أم لا؟ في ذلك قولان: أحدهما: أنه يجبر على خلفه، وإليه ذهب سحنون. والثاني: لا يجبر على الخلف. وكأن هذا الخلاف راجع إلى أصل، عندنا الخلاف فيه معلوم، وهو كون ما أصله مضمون يتعين بالدفع، ويصير كأنه اشترط معينًا في أصل الشرط (¬1). أَوْ لا يتعين بالدفع، وقد تقدم في كتاب التفليس الكلام على هذا الأصل، وهو كون مكتري الدابة أحقَّ بركوبها إذا فلّس رب الدابة، وكان الحمْل مضمونًا على المُكري (فرأى مضمون) (¬2) أن ذلك لا يتعين بالدفع فإذا استحق الراهن ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: العقد. (¬2) هكذا.

المدفوع بقيت الذمة مطلوب (¬1) بما اشترط، حتى كأن الراهن لم يدفع رهنًا، وإذا لم يدفع رهنًا طُلب بما في ذمته من ذلك. ولو كان الرهن المشروط معيّنًا فاستُحِق قبل أن يقبضه المرتهن، فإن الراهن لا يجبر على خلَفِه, لأنه إذا التزم رهنًا معيّنًا، فإذا سلمه (¬2) كشف الغيب أنه لم يكن له، فلا يلزمه خلَفه, لأن يلتزبم عينًا أُخْرى، كما لو باع رجل سلعة معينة فاستحِقتْ فإنه لا للزمه دفع سلعة اخرى بدلًا مما استحق، لكنه لو تطوع بخلفه مما يَقُوم مقامَه، فهل يجبر المرتهن على قبوله أم لا؟ فيه قولان: ذهب ابن القاسم إلى أن المرتهن لا يجبر على قبول العوض من الرهن المستحَق, لأنه إنما شرط رهنًا بعينه، ولعله أن يكون له غرض في تعيين ما اشترط، فلا يلزمه قبول غيره. وذهب ابن الماجشون إلى أنه يلزمه قبول عوض الرهن الذي يقوم مقامه, لأن الغرض في الأكثر أن يحصل على ثقة حقه وما يستوفي من ثمنه دينَه، فلا يكون له مقال في امتناعه من قبول عوض الرهن إذا استُحِق. وإن لم يتطوع الراهن بعوض الرهن على مذهب عبد الملك أو تطوع به فلم يقبله المرتهن على مذهب ابن القاسم فإن ذلك يوجب الخيار للمرتهن في سلعته التي باعها واشترط رهنًا بها معيَّنًا، إن شاء البائع لهذه السلعة، ويمضي البيع فيها من غير رهن، وإن شاء أن يفسخ البيع إذا كانت قائمة لم تَفُت. وزاد بعض أشياخي في هذه المسألة قولًا ثالثًا، وهو سقوط حق المرتهن في خلَف الرهن وفي فسخ البيع، بل يكون البيع لازمًا له من غير رهن يأخذه بعوإلاستحقاق. وخَرَّج ذلك من قول مالك في الراهن إذا تعدى أو باع الرهن من قبل أن يقبضه المرتهن، فإن المرتهن لا مقال له في فسخ بيع الرهن، ولا في فسخ بيع سلعته التي أخذ بثمنها رهنًا، فإذا لزم المرتهنَ بيعه لسلعته، وأُسقِط ¬

_ (¬1) هكذا، ولعل الصواب: مطلوبة. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: [وَ] كَشَف.

مقالُه فيها وفي الرهن، مع تعدى الراهن في بيعه وظلمه في ذلك، فأحرى أن يَسقُط حقه في استحقاق الرهن والراهن لم يتعد في الاستحقاق. وهذا الذي خرّجه يمنع من صحته ما علَّلَه بعض الأئمة من أصحابنا. فابن القصار وغيره أشاروا إلى أن العلة في إمضاء بيع الراهن لرهنه تفريط المرتهن في قبضه، وتوانيه في طلبه، مع علمه أنه باق على ملك الراهن، وتحت يده، والمالك يتصرف في ملكه متى شاء، فصار المرتهن كالآذن له في بيع الرهن. ولو لم يكن من المرتهن توانٍ ولا تفريط في قبض الرهن. لكان له مقال في ردّ البيع. وهذا التعليل يمنع من هذا التخريج الذي حكيناه عن بعض الأشياخ, لأن الاستحقاق لم يكن من المرتهن فيه تفريط ولا توان، وإنما طرأ عليه ما لم يحتسب ولا يظت أن السلعة المرهونة تُستَحَق عليه. وإن كان هذا الرهن المشترط بعينه إنما يستحق (¬1) بعد القبض فلا مقال للمرتهن في خلَفه، ولا في فسخ بيع السلعة التي اشترط أخذ هذا الرهن المستحق رهنًا بثمنها. هذا إذا لم يكن الراهن عن (¬2) المرتهن في هذا الرهن، ورهنه إياه وهو يعلم أنه لم يُستحق من يده. وأما إن دلّس وغرّه بهذا الرهن، فرهنه وهو يعلم أنه سرقه وكتم ذلك عن المرتهن، فإن للمرتهن مقالًا. وسواء، إذا ثبت الغرور، كان الاستحقاق قبل قبض الرهن أو بعد قبضه، فابن القاسم مضى على أصله في أن الراهن الغار لا يجبر على الخلَف. وكذا ظاهر قوله: إن المرتهن لا يجبر على قبول رهنٍ آخر، وإنما يكون له الحكم في فسخ بيع سلعته التي باع إن كانت قائمة، وأخِذ قيمتها إن كانت فائتة، أو إمضاء بيعه فيها من غير رهن. وأما عبد الملك فرأى أن الراهن ها هنا يجبر على أن يأتي برهن آخر، ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: استُحِقَّ. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: غَرَّ.

وقدّر أنه لما دلّس وظلم وجب أن يُجبَر على عوض الرهن، والظالم أحق أن يحمل عليه. بخلاف كونه لم يغرّ فإنه إذا لم يغرّ لم يقع منه ظلم. ورأى سحنون أن عقوبته لا تكون بإلزامه رهنًا آخر، وإنما تكون بتعجيل الحق لما ظلم ورهن ما يعلم أنه لا ملك له فيه. ورأى ابن المواز أن الراهن لا يجبر على الخَلَف ولو غرّ، ولكن إن تطوع بالخلَف جبر المرتهن على قبوله لحصول غرضه في كونه قد صار في يده ثقة حقّه. ولو كان الرهن عبدًا فمات، أو دابة فنفقت، وذلك بعد قبض المرتهن، فإنه لا مقال له في الخلَف. وكذلك لا مقال له في سلعته التي باع، والاستحقاق بعد القبض أجروه مجرى الموت. وبعض أشياخي يشير إلى إنكار هذا القياس، ويرى أن الاستحقاق أظهر، لأن الراهن كأنه لم يدفع رهنًا لما دفع ما ظهر أنه لا يمكنه، والموت لا يَرفع الملكَ فلم يدفع إلا ملكه. ولا يقاس الاستحقاق بعد القبض على الموت. وقد ذكرنا الموضع الذي يكون للبائع فيه فسخ البيع، وارتجاع سلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن فاتت أو إنما البيع بلا رهن. والفوت ها هنا العيوب المفسدة من غير خلاف، وأما مجرد حوالة الأسواق ففيه الاختلاف: الأشهر أن ذلك فوت كالبياعات الفاسدة. وذهب ابن المواز إلى أنه ليس بفوت كالسلع المردودة بالعيب فإن حوالة الأسواق لا تمنع من الرد. وألزمه بعض الأشياخ على هذا أن يقول، فيمن باع سلعة بسلعة فاستحقت إحدى السلعتين فإن للمستحق من يده ما اشترى، له الرجوع في عين السلعة التي لم تُسحق إن كانت قائمة، وإن كانت فائتة أخَذَ قيمتَها. فينبغي على أصل ابن المواز أن تكون حوالة الأسواق فيها ليس بفوت. وسنبسط نحن الكلام على هذا في كتاب الاستحقاق.

وقد عورض بما وقع في الرواية من كون المرتهن بالخيار، إذا استُحِق الرهن من يديه، بين أن يُمضيَ البيع من غير رهن، أو يفسخ البيع ويأخذ سلعته إن كانت قائمة، أو قيمتها إن كانت فائتة. فإن هذا قد يوقع فيما لا يجوز فعله، لأنه إذا كانت السلعة قد فاتت وخيِّر بين إمضاء بيعه فيها، وقد باعها بعشرة دنانير، وأخْذ قيمتها، وقيمتُها ثمانية دنانير. فقد يكون سبق إلى نفسه اختيار أخذ القيمة، وهي ثمانية دنانير، ففسخ ذلك في عشرة دنانير يأخذها إلى أجل، وهذا لا يجوز. لكنه قد تقرر أيضًا أنه اختار أخذ الثمن، وهو عشرة دنانير مؤجلة، فعدل عنها إلى أن أخذ ثمانية، فصار ذلك ممنوعًا أيضًا من جهة أنه أخذ عن دين مؤجّل أقل منه نقدًا، وضعْ وتعجلْ يمنع. فإذا كان هذا التقدير يدور في الصرفين جميعًا فيوقِع في ممنوع منه فيهما جميعًا، ولا مَعْدل لهم عن أحدهما وجب أن يُسامَح في أن يَخْتار ما شاء منهما، لكونه لا معْدل له عنه، كمن باع عبدًا فأبق من يد مشتريه، وأفلس المشتري، فإن للبائع طلب الآبق، مع قدرته على أخذ الحصاص مع الغرماء، فكأنه كمشتري آبق بما ترك من الثمن. وكذلك لو اختار المحاصّة، وهو قادر على طلب الآبق، فكأنه باع الآبق بما يجب له في المحاصة في تمكينه من طلب الآبق لأجْل ما نبهنا عليه من طريق المنع من ذلك. وقد نبهنا في كتاب التفليس على هذا، وفيما تقدم من كتاب البيوع على هذا الأصل في من خيّر بين شيئين: عدو له عن أحدهما إلى الآخر لا يجوز على مقتضى الأصل بما يغني عن بسطه ها هنا، وذكرنا أن من ملَك أن يملِك هل يعدّ مالكًا أم لا, وهذا الاضطراب يستند إلى الأصل. قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه: وضمان الرهن من مرتهِنه إن كان مما يغاب عليه، إلا أن يقوم بهلاكه بينة. وإن كان مما لا يغاب عليه، كالعقار والحيوان، فضمانه من مرتهنه (¬1) وكذلك إن كان على يد أمين. ¬

_ (¬1) في غ، والغاني، راهنه. (وهو الصواب).

قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما حقيقة المذاهب في ضمان الراهن؟ 2 - وما يستدل به على ذلك من طريق الاعتبار (¬1)؟ فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلف الناس في ضمان الراهن، وما يستدل به على ذلك، على ثلاثة أقوال: ذهب أبو حنيفة إلى أن ضمان الراهن (¬2) على الإطلاق، وأيّ جنس كان، حتى قال: لو كان الرهن دارًا فانهدمت من غير سبب المرتهن في ذلك لضمنها. وقال الشافعي: لا يضمن المرتهن الرهن، قولًا على الإطلاق، أي جنس كان، وهو في يد المرتهن كالوديعة. وقال مالك: إن كان مما يغاب عليهن كالحليّ والثياب وما في معنى ذلك من المتملكات، فإنه يضمن، وإن كان مما لا يغاب عليه من المتملكات المرهونة فإنه غير مضمون بل تَلَفه من راهنه. هذا هو المعروف من مذهبه. وقد خرج بعض الأشياخ من المذهب قولًا آخر من ضمان الحيوان، فمنهم من خرج ذلك من اختلاف قول مالك في المدونة، فيمن باع عبدًا أو (¬3) احتبسه بالثمن فمات العبد، فقد قال مالك، في أحد قوليه: إن ضمانه من بائعه الذي أمسكه رهنًا بالثمن. وهذا يقتضي أنه يرى، في أحد قوليه، ضمان الحيوان في الرهبان. ¬

_ (¬1) سقط نص السؤال الثالث. وسننبه عليه في مكانه. (¬2) هكذا، والصواب: المرتهِن. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: وَ.

وبعض أشياخي يردّ هذا التخريج، ويرى أن سبب الاختلاف في قوله في ضمان العبد المحبوس بالثمن، ما اشتهر من الخلاف عندنا في ضمان المبيع هل يلزم المشتريَ بمجر العقد، أو لا يلزمه حتى يمضيَ بعد العقد من الزمن ما يُمكِن فيه البائع أن يسلم المبيع، ويمكنَ مشتويه منه، على حسب ما وقع الاختلاف فيه عندنا في كيّال الزيت إذا امتلأ اّو أهراق عقيب زمن امتلائه من غير أن يمضي بعد ذلك زمن يمكن فيه أن يفرِّغ في وعاء المشتري، فقد قيل: ضمانه من بائعه، وقيل: من مشتريه. وبعض الأشياخ يخرج الخلاف في ضمان الحيوان في الرهبان من مسألة ذكرها في المدونة من استعارة أحد الشريكين دابة ليحمل عليها مال الشركة، فذكر الحكم في مشاركة الشريك التي لم يستعرها في غرامة قيمتها إذا تلفت، ولم يقل: إنه لا يضمنها مستعيرها ولا شريكه، تكون العارية كالرهان لا يضمن منها ما لا يغاب عليه. وقد قيل: إن القصد بما جرى في المدونة. بيان حكم ما يلزم الشريك فيما فعله شريكه في مال الشركة، ولم يقصد بذلك بيان حكم الضمان, لأنه يمكن أن يكون قاضي المكان أن يحكم بضمان العارية في الحيوان، فبنى الجواب عمّا سئِل عنه من المشاركة في الغرامة على ثبوت الضمان لوجه مّا. ويستغنى عن هذا التخريج عندي: إن كان القصد إثبات اختلاف في المذهب في ضمان ما لا يغاب عليه من الرهبان بما ذكره القاضي أبو الفرج عن ابن القاسم فيمن ارتهن نصف عبدٍ وقبض العبد كله، فتلف، فقال ابن القاسم: لا يضمن إلا نصفه. والمعروف من المذهب لا يضمن منه شيئًا, لأن النصف في يده رهن، والحيوان لا يضمن في الرهبان. وأمّا ما يغاب عليه فلا يختلف القول عندنا في ضمان ما يرهنا منه لا تصريحًا ولا تخريجًا. لكن اختلفت الرواية عن مالك رضي الله عنه في سقوط الضمان فيه إذا قامت بينة بهلاكه، فروى ابن القاسم وغيره عنه أن الضمان يسقط

عن المرتهن. وروى عنه أشهب وابن عبد الحكم أن الضمان لا يسقط عن المرتهن ولو قامت بينة بهلاكه. ظاهر كلام ابن القصار، في نقله هذا الخلاف عن مالك، أنه مقصور على قيام البينة، وكون الراهن غيرَ مصدق لها في ذلك، وأما مجرد تصديق الراهن في تلف الرهن فإنه يُسقط الضمان عن المرتهن، وإنما اختلفت الرواية في قيام البينة خاصة في هلاك ما يغاب. فإذا تقررت هذه المذاهب، مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة في المقدار الذي يُضمن اختلف فيه أيضًا على ثلاثة أقوال: مذهب مالك وأصحابه أن المضمون قيمة الرهن، كانت قيمة الرهن أكثر من مقدرا الدين الذي أخرج الراهن أو أقلَّ. وذهب أبو حنيفة إلى أن المضمونَ الأقلُّ من الأمرين، إما قيمة الرهن، وإما مقدار الدين. وبذلك قال النخعي والثوري. وذهب شريح والحسن البصري إلى أن الرهن يُضمن بالدين ولو كان الدين أكثر من قيمة الرهن. فتلخص من هذا أن من تسلّف عشرة دنانير، وأعطى بها رهنًا مقداره عشرة دنانير، وضاع الرهن، فإن مالكًا وأبا حنيفة وشريحًا ومن وافقه متفقون على أن المرتهن يضمن عشرة دنانير. وإن كانت قيمة الرهن تخالف الدين بأن يكون الدين عشرة دنانير والرهن قيمته ثمانية أو بالعكس بأن تكون قيمة الرهن عشرة والدين ثمانية، فعند ممالك أن المضمون في الوجهين قيمةُ الرهن الثمانية أو العشرة. وعند أبي حنيفة أن المضمون ثمانية على كل حال في الوجهين جميعًا. وعند شريح ومن وافقه أن يستحق دينه الذي هو العشرة ولو كانت قيمة الرهن ثمانية. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلفت ألفاظ الآثار في ضمان الرهبان، فروي عنه عليه السلام أنه قال لا

يَغْلَقُ الرهن" (¬1) وروي عنه "الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه" (¬2) وروي عنه عليه السلام أنه قال "ذهب الرهن بما فيه" (¬3) وروي عنه: "أن رجلًا رهن فرسًا، فنفق الفرس في يد المرتهن، فتحًا كلما إلى النبي عليه السلام فقال للمرتهن: "ذهب حقك" (¬4). وجميع ما أوردناه من الآثار ليست بالنصوص الصريحة، وسنتكلم فيما بعد على معنى قوله "لا يغْلق الرهن" بضم القاف، ولو كان إعرابه يقتضي خبرًا والمراد به النهي الذي إعرابه لا يغلَقِ الرهن بكسر القاف لا بضمها تنكسر لالتقاء الساكنين. ولو (¬5) قال أبو عبيدة: فيه تأويلان: أحدهما: ما كانت تفعله الجاهلية من أنّ أجَل الدين إذا حلّ ولم يفك الرهن فإن المرتهن يفك الرهن بدينه. والثاني: أنه لا يذهب الدين بذهاب الرهن. وهذا التأويل يحسن لأصحاب الشافعي التعلق به على الجملة، ولنا نحن في الرد على من قال: إن الدين يذهب بذهاب الرهن، كما حكيناه عنهم. وأما قوله "الرهن من راهنه" فإنه يحتمل أن يراد بقوله "الرهن من راهنه" كما قال الشافعي، ويحتمل أن يريد به: الرهن من راهنه، أنه مال راهنه، حتى يدفع الإشكال في كونه يَسقط ملك راهنه عنهما (¬6) إذا حل الأجل ولم يفتكه. وقد قيل: إنه يحتمل أن يريد أن النفقة على الرهن من مال راهنه، وهذا تأويل فيه تعسّف، والأظهر أنه أراد به من راهنه في الضمان لا كونه مِلْكًا ¬

_ (¬1) نصب الراية: 4: 319. (¬2) نصب الراية: 4: 319. (¬3) نصب الراية: 4: 321 - 322. (¬4) نصب الراية: 4: 321. (¬5) هكذا ولعل الصواب: قد. (¬6) هكذا ولعل الصواب: عنه.

له ولكنه يُنْفق عليه. وقوله "غنمه" يعني منافعَه "وعليه غرمه" المراد به ضمانه منه إذا تلف. فسمّي المصيبة معًا هنا والجائحة غرمًا. وقد استبعد أيضًا هذا التأويل لأنه إنما يسمّي الغرم ما غرمه الإنسان لغيره، وأما ما أصيب به في ماله فإنه لاَ يسمى غرمًا. وقيل في تأويله: إن المراد بقوله "له غرمه" أي افتكاكه، (وكأنه استفادةُ بالفكاك غنم للرهن) (¬1) بعد أن كان كالخارج من ملك الراهن. وقوله "وعليه غرمه" يعني غرم الدين الذي يفتكه، فكأن الغنْمَ للراهن بأن يستفيد عين ماله، والغرم على الراهن بأن يدفع ما يفكّ الرهن به. وقوله "ذهب الرهن بما فيه" يحتمل أن يريد: ذهبت التوثقة بذهابه، ويحتمل أن يريد ذهب بما فيه أي يضمنه المرتهن حتى يسقط دينه. وقد قيل: إن هذا الحديث مرفوع على شريح وإنما أسنده إسماعيل بن أبي أمية وكان متهمًا برفع (¬2) الحديث. وكذلك قوله في الفرس المرهون الذي قال "ذهب حقك" يحتمل أن يريد ذهب حقك في التوثق بالرهن، فإنك لا تطلب رهنًا آخر. وقد أشار بعض أصحابنا إلى من سوانا من أهل المذهب يتعلق بظاهر الحديث وترك ظاهر حديث آخر. ونحن نبني الأحاديث جميعها فنقول: قوله "الرهن من الراهن" فيما لا يغاب عليه، ألا ترى أنه قال: "له غنمه، والاستغلال إنما يكون في الرباع والحيوان. ونجعل قوله لأذهب بما فيه" على أنه فيما يغاب عليه، فيُضمن، وصفة الضمان تُعلم من دليل آخر. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الأوضح: وكأن استفادته بالفكاك غُنمٌ للرهن. (¬2) هكذا والذي في نصب الراية: بوضع.

وأمّا طريق الاعتبار فإنها إنما تجري بين مذهب الشافعي الذي نفى ضمان الراهن على الإطلاق، ومذهب أبي حنيفة الذي أثبت الضمان فيها على الإطلاق. وأما نحن فإنا إن جررنا أقيسة في إثبات الضمان نوقضنا بقولنا، فيما لا يغب عليه: إنه غير مضمون. وإن نفيْنا الضمان نوقضنا بقولنا، فيما يغاب عليه،: إنه مضمون. والأوْلى بنا أن تقصر (¬1) على الآثار, ونبني ما تعارض منها على أن ما ظاهره نفي الضمان محمول على ما لا يغاب عليه، وما ظاهره إثبات الضمان محمول على ما يغاب عليه، على حسب ما قدمنا بيانه في طريق البناء. وإلى هذا أشار ابن القصار, ورأى اعتمادنا على هذا في نص المذهب علي بن اء الآثار من الاستناد إلى طريق الاعتبار لما قدمناه في طريق الاعتبار يجب أن تقدم لك فيها مقدمة تعلم منها منشأ الخلاف في الرهبان والعوادي والصنّاع وغير ذلك مما يُشكِّل حكم الضمان فيه مما اختلف الناس فيه. فاعلم أن من أوْدع وديعة فادعى المودَع الذي هي في يده ضياعَها، فإن الاتفاق حاصل على أنها غير مضمونة إذا ثبت ضياعها، والقول قوله في الضياع، على خلاف في تحليفه على صدقه في قوله، كما حصل الاتفاق على أن من تسلّف من رجل سلفصا فإنه إن ضاع في يده فقل (¬2) قبضه فإنه ضامن له. فلما رأينا في المسألة (¬3) على سقوط الضمان، وإجماعًا في أخرى على ثبوت الضمان، وجب أن يتطلب علة في كل واحد من هذين الأصلين. ولا يمكن التعليل في نفي ضمان الوديعة إلا بكونها لم ينتقل ملك ربها عنها, ولا في قبض قابضها له منفعة، فكأن يد قابض الوديعة يد مودعها، والإنسان إذا ضاع ماله وهو في يده لم يخْفَ أن لا يتبع به أحدًا. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: نقتصر. (¬2) هكذا ولعل الصواب: بعد. (¬3) هكذا ولعل الصواب إضافة: إجماعًا.

وأما القرض فإن هلك (¬1) القرض لا منفعة فيه للمقرض، بل يحرم عليه أن يُسلف لمنفعة تختصّ به، وكون الإنسان يضيع ملكه الذي في يديه فإنه لا خفاء يكون ضمانه عليه. فإذا تقرر حكم هذين الأصلين وعلتهما، فاعلم أن العلة العقلية لا تكون مركبة باتفاق، والعلة الشرعية يصح أن تكون مركبة. وقد قلنا: إن علة سقوط الضمان في الوديعة تركبا (¬2) من وصفين: أحدهما: كون ملك المودع لم ينتقل وكون حوز الحائز، لها، منفعة لرب المالك يحرسه ولا منفعة له في ذلك. وكذلك القرض انتقل الملك والمنفعة لمن انتقل الملك إليه وذلك أيضًا مركب من وصفين. فنظرنا بعد ذلك إلى الرهن فوجدنا ملك الراهن ولم ينتقل، فأشبه الرهن بهذا الوصف الواحد الوديعة. وأماْ الوصف الآخر في الوديعة فهو كون المنفعة للقابض، فإنه ها هنا مشكل، وذلك أنَّا لا نقدر أن نُصَمِّمَ على أَنْ لا منفعة للمرتهن في قبضه الرهنَ، كما نقول في الوديعة, لأنه لا شك أنه قبضه لمنفعة نفسه، وهي الاستيثاق بحقه لئلا يتلف بفَلَس من هو عليه. وكذلك أيضًا نقول: لا يمكن أن نصمّم على أن الراهق لا منفعة له في الرهن لأنه لولاه ما عومل بهذا الرهن عليه، فإذا أشكل الأمر فقصارى ما يقال فيه: إن أحد الوصيفين أشبه الوديعة شبها محقَّقًا، وهو كون الملك لم ينتقل في الرهن ولا في الوديعة، وأما الوصف الآخر ففيه بعض الاشتراك. فيقول الشافعي: ردّ هذا الفرع إلى أصل أشبه الفرع في أحد وصفي العلة شبها كلّيًّا، وفي الوصف الآخر شبهًا مشتركًا، فلا شك أن الشبه بوصف واحد وشطْرِ الآخر أوْلى من ردّ الفرع بالشبه في شطر أحد وصفي العلة. ويقول أبو حنيفة: إن العلة إذا ركبت من وصفين لو انفرد كل واحد منهما ما أثار الحكمَ، فإنهما إذا اجتمعًا ينبغي أن يُنظر الأقوى منهما في إثارة ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: هلاك. (¬2) هكذا ولعل الصواب: تركّبها.

الحكم، فيغلَّب على الوصف الآخر، والمغلَّب ها هنا كون القبض لمنفعة القابض، وهو المرتهن, لأنه طولَ أيام إمساك الرهن يختص بهذه المنفعة وهي حَبْسه عن ربه حتى يفتمنه، أو يبيعه وأخذ (¬1) ثمنه في دينه. فوجب بهذا التغليب الذي هو أقوى في إثارة الحكم أن يجب الضمان على المرتهن لكونه أشد منفعة من الراهن. وعلى هذا الأسلوب ينبغى أن يُنظر في ضمان العوادي والبرهان، كما سننبه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد أشار بعد أصحابنا إلى الالتفات إلى هذا الطريق من الاعتبار، فقال: قد علم أن الودائع لا تُضمَن، والاقتراض والتعدي يوجب الضمان، والرهانْ ما أشبهت شبهًا كليًا الودائعَ، ولا أشبهت شبهًا. كليًا الاقتراضَ، فيجب أن يكون لها حكم بين حكمين، وما ذاك إلا ما ذهبنا إليه من كون ما يغاب عليه يُضمن، وما لا يغاب عليه لا يضمن. فتحصل بهذه التفرقة عدم إلحاقه بأحد الأصلين إلحاقًا كليًّا. وهذا الطريق إذا عرضت (¬2) علي التحقيق في أصول الفقه ضعفت (2)، فالأوْلى التمسك في مذهبنا بما قدمناه. وقد رجح أصحاب الشافعي مذهبهم بأن الحق إذا كان له محلَّان لم يسقط الحق ويتلف بتلف أخذِ (¬3) المحلين، كديْن على رجل أعطى به ضمينًا، فإن موت الضمين وهو أخذ (3) المحلين لا يسقط. وكذلك يجب أن يكون الرهن (¬4) ذهاب الرهن، وهو أحد المحلين، لا يكون ذهابه مُسقطًا للدين، وإنما يَسقُط الديْن إن كان له محل واحد كالعبد إذا جنى ثم مات فإن حق الجناية قد سقط لسقوط محلها وهو العبد. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: يأخذ. (¬2) هكذا ولعل الصواب: عُرِض. ضَعُفَ. (¬3) هكذا ولعل الصواب: أَحَد. (¬4) هكذا ولعل الصواب: والأوْلى حذفها.

وهذا الذي قالوه لا يسلم لهم فيه التشبيه, لأن الضمين يحل محل المضمون، وكل واحد من المحلّين إذا ذهب بقي المحل الآخر، تكون الحق غيرَ معيَّن في الضمان، وإنما هو متردد بين ذمتين إن تعذّر الأخذ من أحدهما توجه علي (¬1)، والرهن مال الراهن، والدين في ذمته، والدين تعلق بعين الرهن، فكأنه بعض ذمة الراهن، وسقوط بعض ذمته لا يُسقِط عن البعض الآخر المطالبةَ بالدين. ومما يدن (¬2) النظر فيه في الترجيح بين المذهبين المتقدمين أن أصحاب الشافعي يقولون: إن الدين في الذمة، والرهنُ إنما أُخذ زيادة في تأكيده، ونفيًا لرهن الدين ومما (¬3) يجوز من تلفه. فإذا قضينا بأن الرهن مضمون وأنه إذًا ضاع سقط الدين صار مُرهنًا (¬4) للدين ومُضعِفًا له، وأصلح أن يكون مؤكدًا للدين ونافيًا للرهن (4) عنه والضعف. والقياس إذا أدى إلى عكس الموضوع، ومضادة الأصل بطل الفرع المؤدي إلى نقض أصله. ويقول أصحاب أبي حنيفة: (من القرض) (¬5) من الرهن استيفاء الحق منه، ولهذا أُخِذ، ومن استوفى دينه فقد ضمن ما استوفاه. ولو بطل أصل الدين لكان ضمانًا لما أَخَذ. فإذا تقرر أن المقصود منه استيفاء الدين (¬6) أو من ثمنه إن لم يكن الرهن من جنس الدين، يقتضي هذا كون الرهن مضمونًا لأنه إنما أَخذ لاستيفاء الدين منه، وضمانه يقرب من استيفاء الدين، وكل ما قرب من المقصود حُكم له بحكم ما قرب منه. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب إضافة (الآخر) بعد على. (¬2) هكذا ولعل الصواب: يَدِقُ. (¬3) هكذا ولعل الصواب: ومَا. (¬4) هكذا ولعل الصواب: مُوهِنًا. للوَهن. (¬5) هكذا ولعل الصواب: إنّ الغرَض. (¬6) هكذا ولعل الصواب إضافة: منه.

هذه طرق الترجيح بين المذهبين، وأما نحن فقد كنا قدمنا أن مالكًا رضي الله عنه اختلف قوله في ضمان ما يغاب عليه إذا قامت البينة على ضياعه، فإن قلنا برواية ابن القاسم عنه: أنّ الضمان يسقط بقيام البينهّ، أشعر ذلك بأن أصله كأصل الشافعي في نفي الضمان، وإنما ضمن ما يغاب عليه للتهمة بإخفائه، وكون المرتهن لا يمكن أن يظهر صدقه من كذبه، والذي لا يغاب عليه بعيد كذبه فيه لأنه قد يظهر كذبه فيه يأتي العبد حيًّا، الذي زعم أنه مات، فكأنه نحا نحو الشافعي، لكنه ضمن في مواضع التهمة، ورأى في ذلك المصلحة كما يضمَّن الصناع لأجل المصلحة. وكثيرًا ما يلتفت رضي أدله عنه إلى النظر في المصالح وحماية الذرائع وأنْزل التهمة منزل اليقين في مواضع قد عُلمت. وأما إن قلنا برواية أشهب عنه: أن الرهن مضمون ولو قامت البينة على ضياعه، فإن الأمر ها هنا مشكل في قاعدة مذهبه، هل يقول (¬1) أبو حنيفة: إن الأصل الضمان؛ وهذا يقتضي ضمان ما يغاب عليه وإن قامت البينة على ضياعه، لكن طرد هذا اقتضى أن يضمن ما لا يغاب عليه الآن ظهور هلاكه، ولو في الكذب بظهور سلامته، يحل محل البينة) (¬2). فهذا يجب أن ينظر فيه، وقد ذكرنا إذا ضمَّنَّا ما لغاب عليه ضمانه بقيمته غير ملحفتين فيه إلى مقدار الدين زاد على قيمة الرهن أو نقص؟ تكون هذا الرهن مضمونًا، ولو تعدى عليه المرتهن فأهلكه لضمن قيمته كما يضمن الغاصب قيمة ما أتلف. وذكرنا عن أبي حنيفة أنه إنما يضمن الأقلّ من قيمة الرهن أقل (¬3) من الدين، قال: إنما ضمّنتُ تكون المرتهن كأنه استوفى حقه بالرهن الذي أخذه، فلا يضمن إلا مقدار ما استوفاه. وإن كان الدين أقل من قيمة الرهن فلا يضمن الزيادة على الدين, لأنه ليس له استحفاء هذه الزيادة، بل إذا بيع الرهن في الدين وفضلت من ثمنه فضلة ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب إضافة: [بقول] أبي حنيفة، (¬2) هكذا. (¬3) هكذا ولعل الصواب: والأقل.

ردّها إلى الراهن، فلهذا يضمن هذه الزيادة لكونه لا حق له فيها. وأما من أسقط الدين ولو كان أكثر من قيمة الرهن، كما حكيناه عن حكم (¬1) فإنه يتعلق بظاهر قوله عليه السلام: ذهب الرهن بما فيه وعموم هذا يقتضى سقوط الدين وإن كان أكثر من قيمة الرهن. وإذا تقرر ما ذكرناه من الخلاف بين فقهاء الأمصار في ثبوت ضمان الرهبان أي جنس كان، كما قال أبو حنيفة، وبسقوط الضمان فيما لا يغاب عليه وبثبوته فيما يغاب عليه كما قال مالك، فلو وقع الشرط حين الارتهان بخلاف الحكم، مثل أن يشترط فيما يغاب عليه كما قال مالك أنه يأخذه رهنًا: إنه لا يضمنه. فإن فيه قولين: ذهب مالك وابن القاسم إلى إبطال هذا الشرط والرجوع إلى أصل الحكم فيما يغاب عليه أنه مضمون. وذهب أشهب إلى إثبات الوفاء بهذا الشرط، وإسقاط الضمان بهذا الاشتراط. وأما لو اشترط مالًا يغاب عليه انه مضمون عكس الحكم عندنا فيه فإن المنصوص أن الشرط باطل ويتخرج على القول بمراعاة الخلاف إمضاء هذا الشرط تكون أبي حنيفة يراه مضمونًا عليه بحكم الشرع كما قدمناه، ألا ترى أن في المدونة اختلاف قول مالك في بيع الغائب، فقال مرة: ضمان السلعة المبيعة وهي غائبة من بائعها، إلا أن يشترط أن الضمان على المشتري. وقال مرة أخرى: ضمانها على المشتري إلا أن يشترط ذلك على البائع. فأنت ترى كيف أثبت الضمان في محل بأصل الشرع، وأجاز اشتراط نقله إلى محل آخر. كذا كان رأي بعض أشياخي في تخريج الخلاف في اشتراط ضمان ما لا يغاب عليه من الرهبان من هذه المسألة المذكور فيها جواز اشتراط نقل الضمان من محلٍّ إلى محل، وهذا يظهر وجهه إذا قلنا بمراعاة الخلافة قولًا مطلقًا، وأما إذا قلنا بمراعاته إذا كان اختلافًا في المذهب وقلنا: إن المذهب لم يُنَص فيه على خلاف في إسقاط الضمان فيما لا يغاب عليه من الرهبان، فإنه يُقدح في تخريج هذا الخلاف. ¬

_ (¬1) هكذا.

والنظر عندي يقتضي في هذه الطريقة أن ما أشكلت الأدلة فيه وتقاومت أو كادت تتقاوم، فإنه يحسن فيه الوفاء بهذا الاشتراط. وما اتضحت طرق التخريج فيه فيكون بخلاف ذلك، وإذا اقتضى الشرع كون العقد موجبه إثبات الضمان أو سقوط نظر فيما (¬1) أولى أن يقدم: هل الوفاء بموجب العقد أو الوفاء بالشرط لقوله صلى الله عليه وسلم "المؤمنون عند شروطهم" (¬2) وهذا الخلاف الذي وقع مطلقًا، وحسن الخلاف فيه إذا كان الرهن في أصل عقد بيع أو عقد سلف، لأن الرهن هناك تكون له حصة من الثمن في المبيع، أو معناها في السلف. وأما لو كان هذا الاشتراط في رهن تطوع به الراهن بعد عقد البيع والسلف من غير شرط كان في أصلها، فإنه ها هنا قد لا يحسن الخلاف فيه على أصل المذهب لأنّ التطوع ها هنا بالرهن كالهبة والمعروف والإحسان، وإذا أضاف إلى هذا أنه تطوع بإسقاط الضمان فيه، وإن كان إسقاط الضمان معروفًا آخر فإن ذلك إحسان بعد إحسان فلا وجه للمنع فيه، بخلاف إذا كان ذلك في أصل العقد للبيع والسلف. ويؤكد هذا أن ما يغاب عليه في العوادي يُضمن عندنا. وهذان الإمامان اللذان اختلفا في اشتراط سقوط الضمان في الرهبان هل يوفّى به أم لا؟ اتفقا على ضمان ما يغاب عليه في العوادي، واتفقا على أن اشتراط إسقاط الضمان في العوادي يجب أن يوفى به. والذي فرّق بينهما، بين العوادي والبرهان، في هذا، إنما رأى أن الرهبان لها حصة في المعاوضات وأما العوادي فلا عوض فيها، وإنما هي هبة ومعروف، فإسقاط الضمان فيها معروف على معروف، فلا يُمنع. ولو ظهر هلاك ما يغاب عليه من الرهبان على الجملة دون التفصيل، مثل أن يكون الرهن ثوبًا فيأتي به المرتهن وقد قرضه الفأر، فهل يسقط عنه الضمان في قرض الفأر أم لا؟ أما إن ثبت انه قرْضُ فأرٍ، وثبت أنه غُلِب على ذلك بعد الاجتهاد في صيانته، ولم يفرط، فإن ضمان ذلك يسقط عنه ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: فيما [هو] أوْلى. (¬2) سبق تخريجه.

عند ابن القاسم. وأما إن ثبت أنه قرض فأر ولم يثبت أنه لم يفرط، فهل يصدَّق في قوله: إني لم أفرط، أولًا يصدق؟ في ذلك قولان: ذكر في المدونة في كتاب تضمين الصناع أنه لا يصدق إلا أن يثبت أنه قرض فأر وإنه لم يفرط. وذكر ابن حبيب أنه يصدق في أنه لم يفرط. وأما إن أتى به وقد أثر فيه السوس ففي ذلك قولان أيضًا: ذكر ابن حبيب أنه لا ضمان عليه، لكون السوس عنده أمر غالب يبعد منه. وفي الدمياطية عن ابن وهب أنه يضمن. وأما إن أتى به وقد أحرقت بعضه النار، ففيه أيضًا قولان في المدونة: إنه لا يضمن إذا ثبت أنه حرْق نار، كما لا يضمن لو ثبت كونه سُرق. ولمالك في الموازية أنه يضمن. قال ابن المواز: إلا أن يثبت أن ذلك (¬1) سبب له فيه. فأنت ترى ما ذكرناه من الخلاف في هذه الثلاث مسائل، وأن الأمر انحصر فيه على أن التلف إذا كان من فعل غير المرتهن أو الصانع فهل يسقط عنه الضمان بمجرد ثبوت هذا، لكون الفعل عُلم أنه وقع من غيره، أو يبقى حكم الضمان حتى يثبت أنه مغلوب في هذا التلف، ولم يتعدّ في تمكين غيره من هذا الفعل، كفأر وسوس, لأن هذه الأمور، وإن كان يعرف أنها من فعل غير المرتهن، فإنه أيضًا قد عُلم أنه من جهة العادة أن فعل التلف في قدرة المرتهن أن يمنعه منه، ويصون الرهنَ، فصار كمن قدر على صيانة مالِ مسلمٍ فلم يفعل، فإنه يضمنه، هذا بمجرد القدرة على صيانة مال مسلمٍ، فكيف في الرهبان والصناع!؟ وأربابها إنما أسلموا الرهن ليصونه المرتهن، فصار كمن التزم شيئًا فلم يفعله، فيتأكد وجوب الضمان عليهم في هذا في معاينة التلف لبعض الرهن والعلم بأنه من غير فعل المرتهن، فالشك في كونه أعان على تلفٍ بتفريطٍ أو لم يفق (¬2) على التلف، فذلك استصحاب لبراءة ذمته. وكون الأصل فيمن أضيف عليه فعل ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: لا سبب. (¬2) هكذا ولعل الصواب: يُعِنْ.

عدم (¬1) أو يقال الأصل ثبوت الضمان فلا يشقط يالشك. هذا ضبط المذهب في هذه الأقسام وبُيِّن الخلاف فيه. وأما إن لم يعاين حرق الرهن، ولكن احترق السوق الذي يكون فيه الرهن، وكان فيه الرهن غالبًا، فزعم المرتهن أنه احترق في جملة ما احترق، فأشار بعض المتأخرين إلى أن ظاهر كتاب ابن حبيب أنه لا يصدَّق, لأنه ذكر أن الحرْق إذا كان مشهودًا وأتى المرتهن ببعض الثوب، وقد احترق، فإنه يصدّق ويسقط الضمان عنه. ورأى أن اشتراط إحضار الثوب محروقًا يقتضي دليل الخطاب أنه إن لم يحضرْه فإنه لا يصدّق. ولكن هذا الذي ذكره لم يبين فيه وجه الاشتراط. وقد كان نزل عندنا سنة ثمانين وأربعمائة لما فتح الروم دمّرهم الله زوياة (¬2) والمهدية، وقتلوا كثيرًا من أهلها، ونهبوا الأموال من سائر الديار، وكثرت الخصومات مع المرتهنين من الصناع، وفي بلدٍ المشايخ من أهل العلم متوافرون فأفتى جميعهم بتكليف المرتهن والصانع البينة أن ما عنده من رهن، أو شيء يصنعه، قد أخذه الروم. وأفتيت أنا بأنهم مصدقون لأجل أن الغالب صدقهم فيما زعموا من التلف، كما أن مالكا أسقط ضمان ما لا يغاب عليه وإن لم يثبت تلفه بعينه، ولكن قنع بالعلم على الجملة أنه لا يستتر ولا يخفى ولو كان موجودًا لظهر، فإذا أقام بالبلد أيامًا كثيرة ينهب، وتخرج منه الخبايا كان ذلك آكد في غلبة الظن بأن مدعي ذهاب الشيء مصدّق، وغلبة الظن قد أشار مالك رضي الله عنه إلى اعتبارها في هذا، على حسب ما قلناه. وكان القاضي يعتمد على ما أفتيتُه به، فتوقف عن القضاء لأجل كثرة من خالفنا من المفتين، حتى شهد عنده عدلان أن الشيخ أبا القاسم السيوري رحمه الله، وهو شيخ الجماعة الذين خالفوني، ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: غرم. (¬2) هكذا ولعل الصواب: زُوِيْلة.

أمَّتي بمثل ما أفتيتُ به لما غلب الأعراب على القيروان ونهبوا ما فيها، فأنفذ الحكم بسقوط الضمان. ثم بعد ذلك وصل كتاب المنتقى لأبي الوليد الباجي ذكر فيه انه كان بطرطوشة لما احترقت. أسواقها فأفتى بتصديق من عنده رهن انه احترق في جملة ماله الذي الشأن خزنه في الأسواق، وذكر أنه يغلب على ظنه أن بعض أهل العلم وقفه على رواية عن أبي أمِن بمثل ذلك. ولهذا ذكرنا أن مذهبنا تصديق المرتهن فيما لا يغاب عليه، فإن ذلك مقتضى ما علّلنا به، فيما تقدم، من كون العبد والدابة لا يمكن في غالب العادة إخفاؤهما وسترهما، فيغلب على الظن صدق المرتهن في دعوى الضياع. وهذا أيضًا يقتضي متى ادعى من التلف ما يغلب على الظن أنه كذب فيه، فإنه لا يصدّق فيه، مثل أن يدعي موت الدابة وهو بموضع عمارة وجماعة فيُسألون عن ذلك، فإن صدقوه تأكد غلبة الظن بصدقه عدولًا كانوا أو غير عدول، وإن كذبوه وكانوا عدولًا غلَّب الظن كذبه فلم يصدّق وإن كانوا غير عدول لم ينقل الحكم عن تصديقه إلى تكذيبه قوم له ليسوا بعدول لتطرق التهم إليهم بأنهم كتموا ما علموا من موت الدابة لما طلبت منهم الشهادة، ويكتفي في خبر الحضور وتصديقهم بانهم رأوا دابة ميتة وإن لم يعلموا أنها الدابة التي كانت بيد المرتهن رهنًا. هكذا وقع في المجموعة. وهذا صحيح إذا كانت هذه الشهادة على صفة تغلب على الظن أن الدابة ليست هي عين الدابة التي بيد المرتهن، أو يكون الأمر مشكلًا فيستصحب الحكم في أن ما لا يغاب عليه لا يضمن. وإذا حكم بضمان الرهن لأجل كونه حبسه الذي هو في يديه لمنفعة نفسه، وهو أن يستوفي حقه ودينه منه، فلو سقط الدين بأن يُقضى، أو يسبَّق الرهنُ قبل أن يدفع الدينَ فإن الضمان لا يسقط، لكون الدين قد سقط بأن أداه من هو عليه، أو لم يستقر بالقبض إلا بعد قبض الرهن والعلة في هذا أن من أخذ رهنًا مضمونًا فأتاه الراهن بالدين وقبضه، ثم زعم بعد ذلك أن الرهن قد ضاع ولم يجده، فإنه لا يقبل قوله لأن الأصل أخذه على الضمان. فيستصحب

هذا الحكم حتى يرجع الرهن إلى دافعه، أو يمكنه المرتهن منه فيتركه على جهة الوديعة عنده. وكذلك إذا سأل رجل رجلًا في أن يسلفه دنانير ودفع إليه رهنًا بها فقبضه منه قبل أن يدفع الدنانير فإنه ضامن لأنه إنما أخذه على حكم الرهبان وحكمها الضمان فيما يغاب عليه. وكذلك لو سقط الدين بالهبة من المرتهن للراهن، وزعم المرتهن الواهب للدين أن الرهن ضاع بعد ذلك، فإنه لا يبرأ من ضمانه، وعليه قيمته إذا كان مما يغاب عليه. لكن أشهب ذكر في هذا أن المرتهن إذا طلبه الراهن الموهوب له الدين بقيمة الرهن فله الرجوع فيما وهب بمقدار قيمة الرهن خاصة، ولو كان الدين يزيد على قيمة الرهن لم يرجح به المرتهن الواهب، وذلك لأنه إذا وهب الدين وردّ عيْنَ الرهن لم يخسره (¬1) سوى شيء واحد وهو الدين. فإذا ضاع الرهن وغرم قيمته خسر خسارتين: الدينَ وقيمةَ الرهن. ومعلوم من جهة العادة أنه لو علم أنه إذا خسر الدين خسر شيئًا آخر لم يهب الدينَ، فصارت هبة (¬2) كالمشترط فيها إني أهبك الدينَ على ألا أخسر سواه وإن طلبتني بغرامة الرهن رجعتُ في هبتي. وأعلم أن الرهن يصحّ وإن كان موقوفًا على يدي عدل تراضيًا به ويكون من دفع المال لأجله كما لو قبضه لنفسه. ولم يخالف في ذلك فيما علمُت إلا ابن أبي ليلى فإنه منع من ذلك. وما أراه تعلق في ذلك إلا بقوله تعالى {ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} (¬3) وهذا وإن لم يذكر من هو القابض للرهن فسياق الخطاب يقتضي عنده أن القابض هو من له الدين يقبض الرهن توثقًا بحقه كما يستشهد الشهودَ توثقًا بحقه. ويردّ عليه بأن هذا الخطاب ليس فيه ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بخَسره. (¬2) هكذا ولعل الصواب: هبته. (¬3) البقرة: 282.

تصريح بمن يكون القابض، وأصول الشريعة تقتضي جواز النيابة في الحقوق المالية وهذا منها. أما دافع الرهن فإنه رضي بأمانة العدل ووثق به في حفظ عين رهنه وصيانته. وأما دافع الدين فرضي به في حفظ حقه حتى يستوفيه من عين الرهن أو من ثمنه، وكل واحد منهما استبانة في حقه في مال، والنيابة في الحقوق المالية لا تُمنع، ألا ترى أن رجلًا لو اشترى سلعة وملكها بالشراء، ووكل رجلًا على قبضها من البائع لحق ملكه فيها لجاز ذلك. وكذلك إذا وكله على قبض رهن لتعلق حقه بأخذه من ثمن الرهن، إذا تقرر جواز ذلك، فضمان هذا الرهن من الراهن عندنا ولو كان مما يغاب عليه. والشافعي أحق أن يقول بذلك لأنه لا يرى ضمان الرهن ولو كان في يد المرتهن. وأما أبو حنيفة فإنه يرى أن ضمان الرهن الموقوف بيد عدل من المرتهن. وسبب الخلاف في هذا ما أشرنا إليه من كون العدل الذي بيده الرهن وكيلًا للراهن ووكيلًا للمرتهن، وقد علم أن يد الوكيل كيد موكله. ورجح أبو حنيفة جانب الوكالة من جهة المرتهن؛ لأنه إنما كان محبوسًا بيد العدل لأجل حق المرتهن في استيفائه منه. وإذا كان ذلك كذلك فهو كوكيل المرتهن خاصة، ويد الوكيل كيد موكله، ورأينا نحن أن لا ترجيح لجانب المرتهن في الوكالة على جانب الراهن في الوكالة وأصلنا فيما لا يغاب عليه أنه غير مضمون. وكذلك هذا الرهن وإن كان يغاب عليه فهو في يد غير المرتهن فلا يتهم في إخفائه كما يتهم في ذلك إذا كان الرهن بيده. ومما يلحق بما نحن فيه ضمان فضلة الرهن، مثل أن يرهن رجل لرجل سلعة بمائة دينار يأخذها منه، ثم تسفف صاحب السلعة المرهونة سلفًا آخر على أن يكون حقه مرتهنًا به ما فضل من مقدار الدين الذي هو الأول، ورضي الأول بذلك، فإن المرتهن الثاني لا يضمن ما في يد غيره مما جُعِل رهنًا له من غير خلاف عندنا, لأن قدمنا أن ما في يد العدل لا يضمنه المرتهن مع (¬1) لتعلق حقه ¬

_ (¬1) بعد (مع) بياض مقدرا كلمة.

بعين ذلك الرهن، وكيف بهذا وقد لا يفضل فضلة من هذا الرهن عن حق الأول، ولا يكون للثاني تعلق فيه، وإذا تقرر أن المرتهن الثاني لا يضمنه، بلا خلاف عندنا، فهل يضمن الأوّلُ الذي في يده الرهن جميعَه أو إنما يضمن من قيمته مقدار مالَه من الدين لأن ما زاد على ذلك أقِرّ في يديه على جهة الأمانة، والمرتهن غير ضامن؟ فيه قولان: ذهب ابن القاسم إلى أنه لا يضمن من هذا الرهن إلا مقدار دينه، وما فضل يكون لصاحب الرهن. وقال أشهب بل يضمن الرهن كله. وسبب الخلاف في هذا أن الرهن أخذه أوّلًا على جهة ضمانه كله، ويمكن أن تَخول أسواقُه فلا يحصل إلا مقدار حق المرتهن الأول، فيصير الرهن كله محبوسًا عند الأول بحق الأول خاصة، ولا يكون فيه حق للثاني. وإذا أمكن أن يتعلق دينه بجميعه حتى لا تفضل منه فضلة فقد أخذه على الضمان في أوّل ما قبضه، فيبقى الضمان عليه في جميعه عند أشهب، ويرى ابن القاسم أنه إذا كان فيه فضلة عن حق الأوّل، وقد رضي الأول والراهن والمرتهن الثاني. يتعلّق (¬1) الحق بهذه الفضلة صار ما زاد، من قيمة الرهن على دين (¬2)، في يديه على جهة الأمانة لِرِضى الراهن والمرتهن ينقل (1) هذه الفضلة عن حكم الرهبان إلى حكم الأمانة. وإذا أنجزت أحكام الضمان في الرهبان ففى أي يوم تعتبر قيمة الرهن المضمون؟ فيه قولان: قيل: يوم قبضه؛ لأنه تلك الساعة أخذه على الضمان فكان الاعتبار يوم ثبوت أصل الضمان، ولا يلتفت إلى ما بعده. وقيل: بل تعتبر قيمته يوم الضياع, لأنه قبل ذلك موجود، والموجود لا يضمن، إنما يضمن ما يغاب عليه للتهمة في إخفائه، وإذا كان موجودًا لم ينظر أنه أخفاه، ألا ترى أنه لو قامت بينة على ضياعه سقط، عند ابن القاسم، عنه الضمان لانتفاء ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: يتعلّق - بِنَقْل. (¬2) هكذا ولعل الصواب: الدين.

التهمة. وهذا يقتضي أن تعتبر القيمة يوم الضياع. وقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه: ونَماء الرهن داخل معه إن كان مما لا يتميّز كالسمن، أو كان نسْلًا كالولادة والنِّتاج، وما في معناه فَسِيلُ النخل، وما عدا ذلك من كلة ولبن وصوف وما أشبه ذلك، فلا يدخل فيه إلا أن يشترطه. ونفقته على راهنه. ومال العبد ليس برهن معه ويثبت رهنًا بتقارُرِهما ما لم يفلّس الراهن (¬1) فلا يقبل إقرارهما بالإقْباض دون البينة. فإذا (¬2) كان فيه فضل جاز أخذ حق آخر عليه من مرتهنه، وكان رهنًا بهما. ويجوز من غيره بإذن المرتهن الأوّل. واختلف فيه إن لم يأذن، والرهن متعلق بجملة الحق وبأبعاضه، فمتى بقي جزء منه فهو رهن به. ولا يجوز غَلَق الرهن وهو أن يشترط المرتهن أنه له بحقه إن لم يأْتِ به عند أجله. قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة، منها أن يقال: 1 - ما الدليل على أن (¬3) الرهن لا يكون ملكًا للمرتهن؟ 2 - وما الدليل على أنه إذا كان ملكًا للراهن لا يدخل في الرهن؟ (¬4) 3 - وما الحكم في إفراد هذه الزيادة المنفصلة بالارتهان أو بيعها مع أصولها؟ 4 - وهل على رهن واحد؟ (¬5) ¬

_ (¬1) في الغاني، و (غ): وَلا. (¬2) في الغاني، و (غ): وإذا. (¬3) هكذا ولعل الصواب: أن [نماء] الرهن ... (¬4) هذا السؤال فيه سقط، ولعل نصّه الكامل هو: وما الدليل ...... لا يدخل [النماء] في الرهن؟ كما يتبيّن من تفصيل الجواب عن هذا السؤال. (¬5) هكذا، ويتبين من الجواب أن النص ينبغي أن يكون على النحو التالي: وهل يجوز ترادف دينين، على رهن واحد.

5 - وما حكم النفقة على الرهن؟ (¬1) فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: اختلف الناس في نماء الرهن وزيادته، إذا كان هذا النماء والزيادة متميزًا عن الرهن، هل ذلك ملك للمرتهن أو ملك للراهن تبعًا لأصل الرهن؟ فمذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور العلماء أن نماء الرهن تبع لأصله في كونه ملكًا للراهن. ومذهب ابن حنبل إلى أن (¬2) الرهن يكون ملكًا للمرتهن. ومذهب غيره من أهل الحديث إلى أن ذلك تبع للنفقة، فإن كان المرتهن هو المنفق على الرهن كانت الغلات ملكًا له، وإن كان الراهن هو المنفق على الرهن كانت له. ودائد (¬3) الجماعة على رد هذا المذهب قوله عليه السلام فيما رواه ابن حبيب عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا يُغلق الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه" والغنم هو النماء والغلة، وهذه لام التمليك، وقد أثبت النبي عليه السلام بهذا الفَضّ كونَ النماء ملكًا للراهن لقولهْ "وله غنمه". وقد روى الشعبي عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: "من أرهن دابة فعليه نفقتها وله ظهرها" وهذا نص في الرد على المخالف. ومن أوضح ما يحتج به فقهاء الأمصار حصول الإجماع على أن عين الرهن ملك للراهن، وإذا كان ملكًا للراهن وجب أن يكون نماؤه له، قياسًا على أصول الشريعة في أن من ملك الرقبة ملك نماءها. وأيضًا فإن من باع حيوانًا أو ¬

_ (¬1) هذا كل ما ذكر من الأسئلة، وسنتبيّن بقيتها من متابعة شرحه، وننبّه عليها في مكانها، إن شاء الله. (¬2) هكذا ولعل الصواب: أن [نماء] الرهن ... (¬3) هكذا ولعل الصواب: اعتمد.

حبسه حتى يعطَى ثَمنه فإن الغلة للمشتري لكونه قد ملك العين المبيعة بالشراء، وكذلك ملْك الراهن لعين الرهن يجب أن يكون نماؤه له. وبهذا احتج ابن القصار وغيره. وقد كنا نحن قدمنا في كتاب البيوع أن الغلة الحادثة في المبيع المحبوس بالثمن، حكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب وغيره، أنها للمشتري، وأشار إلى الاتفاق على ذلك وهكذا (¬1) يقتضي ما ذكرناه عن ابن القصار في هذه المسألة، وذكرنا أن بعض أشياخنا كان يرى أن ذلك جار على القولين في ضمان المحبوسة بالثمن، فمن قال: إن ضمانها من البائع وجب أن لكون الغلة له، ومن قال: إن ضمانها من المشتري، وجب أن لكون الغلة للمشتري. فهذا الذي احتج به ابن القصار قد كنا بسطنا القول فيه، وأشرنا إلى تخريج الخلاف فيه. على أن ابن القصار عقّب قوله هذا بأن الحديث الوارد فيه " الخراج بالضمان" إنما هو محمول على ملك الإنسان، ويضمنه ضمان الملك، والرهن لا يضمن إذا كان مما لا يغاب عليه، أو مما يغاب عليه وقامت البينة على ضياعه على إحدى الروايتين عن مالك. وأما ابن حنبل فإنه إن تعلق في كون الرهن ملكًا للمرتهن بقوله عليه السلام "الرهن مركوب ومحلوب" (¬2) وظن أن المراد بهذا المفعول الذي لم بسم فاعله أنه محمول على الراهن فدل أن هذا لم يصرَّح به في الحديث، والذي يكون له اليَد لم يُذكر، فيمكن أن يكون المراد مركوب ومحلوب للراهن، وهذا هو الظاهر، لما قدمنا من شهادة الأصول لبهون النماء تبعًا للنامي في الملك. وقد تعلق من رأى أن الغلة متابعة للإنفاق بقوله عليه السلام في بعض الأحاديث التي رواها أبو هريرة رضي الله عنه "الظهر يركب ويشرب الدَرّ" أو كمن (¬3) قال. وهذا لو ثبت حمل على أنه قضيّة في عين، المراد به أن الرهن رفعه المرتهن للحاكم لما لم يجد نفقة عليه فأمره بالإنفاق ويأخذ ذلك من الغلة. وهذا يضطر ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: هذا. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) هكذا ولعل الصواب: كما.

إليه ما قدمناه من الأحاديث الدالة على صحة ما قلناه، وكون أصل الشريعة شهد بصحة ما ذهبنا إليه في كون النماء تابعًا في الملك للنامي الذي كان عنه. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: اختلف الناس في دخول النماء الحادث، بعد عقد الرهن، في يد المرتهن، وهو متميز عن النامي، هل يدخل في الرهن تبعًا لما نما عنه، ويكون منه، أم لا؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنه يدخل في الرهن، قولًا على الإطلاق سواء كان النماء الحادث من جنس الرهن، كالولد وفراخ النحل، ومن غير جنسه كالدَّر والصوف وغلة الرباع. وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخل في الرهن على الإطلاق، سواء كان من جنس الرهن كالولد أو من غير جنسه مما عددناه. وذهب مالك إلى التفصيل، ورأى أن ما كان من جنس الرهن دخل في الرهن كالولد، وما لم يكن من جنسه لم يدخل في الرهن كالثمر والصوف واللبن مما عددناه. فأمّا الشافعي فإنه يعتمد على أن الرهن مجمع على كونه على ملك الراهن، ومن ملك شيئًا فإنه لا يسقط حقه من التصرف فيه إلا باختياره ورضاه، وهو لم يرض إلا بحبس عين الرهن، وقطع حقه في التصرف فيه، إلى أن يفديه، ولم يرَ ذلك فيما يكون عن الرهن من دَرّ أو ثمر أو غلة: كما لو باع سلعة لم يلزمه أن يبيع أخرى بغير اختياره. واستناد هذا إلى هذه الأصول استدلال واضح يردّ به على أبي حنيفة. ويستند مالك إليه أيضًا لكونه خالف الشافعي في الولد فأدخله في الرهن لآجل كون الأصول أيضًا تقتضي إجراء حكم الأمهات على أولادها، ألا ترى أن الولد تابع لأمه في الحرية وإن كان أبوه عبدًا، وفي الرق إذا كانت مملوكة وإن كان أبوه حرًا وطى بنكاح. وهكذا من فيه عقد من عقود الحرية، كالمكاتبة والمدبّرة والمعتقة إلى أجل، فإن أولاد من ذكرناه ينسحب عليهم حكم أمهاتهم في الحرية والرق وما ذاك إلا لكون الولد

يقدَّر كأنه عضو من الأم وإن انفصل عنها، وجميع أعضاء الحرة (¬1) تابع لها في الحرية والرق. وقد وقع الإجماع على أن السِّمن في الحيوان المرهون، وزيادة الطول في الأبدان، يدخل في الرهبان، وكذلك الولد لكونه يقدر كعضو من أعضائها. وهم يقولون بأن السمن لا يتميز عن بقية الجملة المرهونة ولا يصح بيعه مفردًا، والولد وغيره من الغلات يتميز عن جملة الرهن فيعرف مقداره، فلا يشبه الولدُ السمنَ في البدن. وأما إجْراء حكم الأمهات على الولد في الرق والحرية فإنما ذلك لأنها أحكام (كالسور النفيسة اللازمة) (¬2) وليست بعارضة فيها، والرهن معنى عارض ليس بلازم لذات الرهن. فإن كان الرهن لاحق فيه للمرتهن فبعد ذلك رضي الراهن أن يجعل له فيه حقًا في حبسه، ومتى افتكه فقد حل الدين، ولم يكن للمرتهن حق في حبسه. والأحكام والصفات العارضة الزائلة بخلاف الصفات والأحكام الثابتة الملازمة. وقد نوقض أبو حنيفة في مذهبه لما حكيناه عنه من أن الزوائد المنفصل (¬3) لا تدخل في الرهن كانت من جنس الرهن أو غير جنسه، فإنه يرى أنها غير مضمونة مع كونها مرهونة، وهو يرى أن الرهن مضمون على الإطلاق أيَّ جنس كان، كما تقدم ذكر مذهبه فيه. وقد اعتذر عنه في هذا بأن دخول الزوائد المنفصلة في الرهن ليس هو الأصل، وإنما حكم له بذلك بحكم التبعية للرهن. والضمان إنما يتعلق بأصل الرهن لكونه إنما أخذ ليستوفي من عينه أو من ثمنه ما هو رهن به، ولم يقصد إلى استيفاء الحق من زوائد قد لكون أو لا تكون، فيسقط حكم الضمان، لكون ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: المرأة. (¬2) هكذا ولعل الصواب: كالصُّوَر النفسية اللازمة. (¬3) هكذا ولعل الصواب: المنفصلة.

ذلك غير مقصود فيها، وثبتت الرهنية بحكم تبعها لأصولها. وهذا لا يتضح كونه فرقًا, كما أنّا نحن أيضًا نوقضنا بولد الأمة إذا جنت، وحملت بعد الجناية ووضعت، فإن مقتضى تعليل مذهب مالك رضي الله عنه يقتضي أن يدخل ولدها في حكم الجناية ويسلم معها في الجناية، أو يفدى، هو وهي، لكون أحكام الأمهات تجري في أحكام المولودات، وأن الولد كعضو من أعضاء أمّه. وهذا إنما يلزمنا الاعتراض به والنظر في الجواب عنه على إحدى الروايتين عن مالك. فقد روى عنه أن ولد الجناية (¬1) يدخل معها في حكم الجناية، فلا تُعتَرض هذه الرواية. وأما الرواية الأخرى عنه أنه لا يدخل في حكم الجناية فإن ابن القصار يشير إلى طريق الاعتذار عن هذا بأن الرهن تعلق الحق بعينه في أصل عقده بين راهنه الذي رهنه وبين من أخذه، ولو حاول الراهن نزعه من يد المرتهن فأمكن (¬2) من ذلك قبل استيفاء الحق. وأما الأمة الجانية فإن ربّها لم يعقد على نفسه عقدًا تعلق به حق المجني عليه، وهي باقية على ملكه حتى يختار تسليمها في الجناية، وله منع المجني عليه من قبضها وحوزها بأن يدفع إليه أرش الجناية، بخلاف الرهن الذي عقد على نفسه تعلق حق المرتهن بعينه أو بثمنه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: المرتهن ثلاثة أنواع: حيوان، ورباع، وأشجار. فأما الحيوان فقد تقدم أن ولد كل أنثى رهينة داخل معها في الرهن. هذا إذا حدث بعد عقد الرهن وقبضه، وكانت الأمّ حين عقد الرهن حاملًا به، فإنه يدخل معها في الرهن، ويكون حكم الولد حكمَها في الرهن، سواء كانت من ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: الجانية. (¬2) هكذا ولعل الصواب: ما مُكن.

الآدميات أو البهائم. وإذا عقد الركن وهي حامل به دخل معها في الرهن من عند (¬1) اشتراط، كما يدخل معها في البيع من عند (1) اشتراط. وفي الموازية أنه لا يجوز أن تُرهَن المرأة الحامل ويُشترط أن ولدها لا يدخل معها في الرهن. وأجرَى استثناء حملها في عقد الرهن مجرى استثنائه في عقد البيع بأن ذلك لا يجوز، وكذلك في الرهن. على أن المنع من ذلك في البيع لأجل الغرر، والبيع يُمنع فيه الغرر، والبيع (¬2) قد يجوز في (¬3) الغرر على صفة. لكن لمالك أن الولد مقدّر أنه كعضو من أعضائها وجب منع استثنائه في الرهن. كما لا يجب (¬4) أن يرهن أمة ويستثني بعض أعضائها غير مرهون معها. و (إنما إبراء) (¬5) الجنين بالركن فقد قدمنا ذكر الخلاف فيه، وأن المشهور من المذهب منع إفراده بالرهن، وذكرنا أن ابن ميسّر أجاز إفراده بالرهن. وإما إفراد الولد بالرهن بعد انفصاله من بطن أمه، فإنه روي عن ابن القاسم في وصيف رضيع رُهِن أنه لا يجوز ذلك إلا أن لكون معه أمه. وحُمِل قوله هذا على أنه أراد أن لكون أمه معه في التربية الممنوع من إسقاط حقها فيها، أو حق الولد. لكن ابن شعبان قال: لا يجوز رهن الولد دون أمه حتى يثغر، إلا أن يُرهن معها، كما لا تجوز التفرقة بينهما في البيع. وظاهر كلام ابن شعبان منع إفراده بالارتهان. وأما كلام ابن القاسم فهو أقرب إلى التأويل الذي تأوله عليه بعض الأشياخ. وأما إفراد الأم بالارتهان فقد روي أشهب عن مالك جوازَ ذلك. وإذا احتيج إلى بيع الأم بيع معها ولدُها، وفُضَّ الثمن بما قابل الأمّ (¬6) ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: غير. (¬2) هكذا ولعل الصواب: والرهن. (¬3) هكذا ولعل الصواب: فيه. (¬4) هكذا ولعل الصواب: يجوز. (¬5) هكذا ولعل الصعواب: أمّا إفْراد. (¬6) هكذا ولعل الصواب إضافة: [وَ] كان ...

كان المرتهن أحقَّ به، وما قابل الولد كان لسائر الغرماء (المرتهن للأم بما بقي وغيره من الغرماء) (¬1). وظاهر هذا أن المطلوب التفرقة في الارتهان في إفْراد الأم بذلك أو الولد، وهو يطابق التأويل الذي ذكرنا أنه تأوُّلٌ على ما قال ابن القاسم. وقد ذكر ابن شعبان أن العبد إذا كان له أمة استولدها فإنها وغيرَها من ماله لا تدخل في الرهن، ولكن ولدَه يدخل في الرهن لكونه من جنسه، وقد قدمنا أن ما كان من جنس الرهن دخل في الرهن. وهذا الذي قاله يفتقر إلى نظر, لأن ولد الأمة إنما أُلحِق بها لأنه يقدّر كعضو من أعضائها يلحقه ما يلحقها من حرية أو رق. وأمّا ولد الذكر فلا يقدّر كعضو من أعضائه، ألا ترى أن الاستدلال. الذي قد قدمنا في كون الولد تابعًا لأمه في حكم الرهن هوا الاتفاق على أحكام حريتها ورقها يجريان في ولدها، ويتبعها في ذلك، ولا يتبع أباه حريةً ولا رقًا. فهذا ينبغي أن يُتأمَّل. وقد وقع لمالك في أُرُوش الجنايات على العبيد أنها إذا أُخِذت دخلت في الرهن معهم من غير اشتراط مع كونها ليست من جنس الرهن، ولكنها عوض عن عضو ذهب من الرهن، وقد كان ذلك العضو مرهونًا فليكن عوضُه من الدنانير والدراهم رهنًا بدلَ ذلك العضو الذاهب، وأمّا مال العبد فإنه لا يكون رهنًا معه لأنه ليس بملكه كما يملك الحرّ مالَه لقدرة السيّد على انتزاعه، فلا يدخل في الرهن معه إلا بأن يُشترط ذلك، واشتراطه جائز وإن كان مجهولًا. وإفراد مال العبد بالشراء له لا يجوز مع الجهالة، ويجوز إفراده بالرهن مع الجهالة. وإذا اشترط المرتهن كونَ مال العبد رهنًا معه فأفاد العبد مالًا في أيام الرهن، فإن في الموازية والمجموعة أنه لا يكون، رهنًا، ولا يتناوله اشتراط كون مال العبد رهنًا معه, لأنه لم يكن حينئذ مالًا له. لكن لو ربح فيما في يديه لدخل هذا في الرهن، لأن ربح المال تابع له، كما نقول في الأرباح: إنها تبع لأصول الأموال في ¬

_ (¬1) هكذا، والكلام واضح بدونه.

الزكاة، وإن لم يحل عليها الحول. لكن ينبغي أن يُتَأمّل ما يتخرج من الأقوال في أن الأرباح في الزكاة تجري مجرى العوائد، هل يقتضي أيضًا هذا ألا تدخل الأرباح في الرهن إذا اشترط كون مال العبد رهنًا معه. وقد قيل في الوصايا: إنها لا تدخل في مال لم يَعلَم به الميت، وتدخل في أرباح المال الذي علم به. وقد تعقب بعض المتأخرين هذا، وقال بأن المعروف من المذهب أن من اشترى عبدًا بالخيار، واشترط ماله، فإنه إن استفاد فائدة في أيام الخيار كانت للمشتري. وذكر في كتاب المكاتَب على الخيار، إذا أفاد فائدة في أيام الخيار كانت له دون سيّده. ولكن هذا ذكر عن ابن القاسم فأشار بهذا إلى أن العبد المرهون إذا اشترط المرتهن دخولَ ماله في الرهن فإنه يدخل معه في الرهن ما استفاد في أيام كون الرهن محبوسًا عنده، من هبة أو غيرها. هذا حكم الحيوان فيما تعلق به من ولد أو مال. وأما (صوف الغنم) (¬1) إذا رُهنت وقد كمل صوفها، فإن ابن القاسم رآه داخلًا في الرهن معها، كما يدخل في البيع. ويراه أشهب غير داخل معها كلَبَنها. وأما حكم الثمار فإنها لا تدخل في الرهن إلا أن تُشترطَ، سواء كانت حين عقد الرهن مأبورة أو غير مأبورة، مزهية أو غير مزهية، قال ذلك ابن القاسم وأشهب، وهو أصل المذهب. لكن لو رهنت الأشجار وفيها ثمرة، وقد تنامت ويبست، فإن الأشياخ المتأخرين اختلفوا فيها: هل تدخل في الرهن، كما قال ابن القاسم في الصوف إذا تمّ: إنه يدخل في الرهن من غير اشتراط أم لا؟ فقال بعضهم: ينبغي، على أصل ابن القاسم، أن تدخل في الرهن بغير اشتراط، كما دخل الصوف إذا كمل بغير اشتراط. وذلك أن الثمرة ما دامت تحتاج إلى الشجرة في زيادتها ونموّها ونضجها، كانت غلّةً، ولا يختلف في أنها لا تدخل في الرهن، فإن يبست فاستغنت عن الشجر خرجت عن كونها غلةً، فسكوت الراهن عن استثنائها يوجب، على أصل ابن القاسم، أن تدخل في ¬

_ (¬1) هكذا، والأوْلى: الغنمُ.

الرهن كما كان سكوته عن الصوف إذا تمّ وكمل يوجب دخولَه في الرهن. ومنهم من أنكر ذلك، وقال بأن إطلاق البيع في شاة كمل صوفها يقتضي دخول صوفها معها في البيع، وإطلاق البيع في شجر قد كملت ثمرتها لا يقتضى دخول الثمرة في البيع، وما ذاك إلا لأنّ الصوف يقدر كعضو منها، وإنما يُنزع مْنها مصلحةً لها، وإلا فهو لازم لها مُتأبّد معها، والثمرة ليست بمتأبدة مع الشجر وإنما توجد من حين إلى حين. وإذا عقد الرهن في شجر أبِرّت فإن الثمرة لا تدخل في الرهن كما لا تدخل في بيع الشجرة إذا أطلق بيعها، على ما وقع في الحديث. فإذا بيعت الشجرة وفيها ثمر لم يؤثر فهي للمشتري، ولا يجوز أن يشترطها البائع. وفي الرهن لا لكون رهنًا بيد المرتهن لأن البيع نَقَل الملكَ عن الشجر فكان ما يظهر من ثمر لمن صار الملك إليه. والرهن لا ينقل الملك فبقيت الثمرة على ملك ربها. لكن إذا بيعت الشجر، (¬1) ثمر لم يؤبَّر، في الدين فقد وجب بيعها على الراهن فإنها تباع على ما هي عليه. وكذلك لو رهن أرضًا، وفيها بذْرٌ لم يظهر، فإنه إذا قام بالبيع لأجل الدين بيعت على ما هي عليه، لكون (استثناها فيها) (¬2) لا يجوز. ولو لم يقم بالبيع حتى نبت البذر وظهر، لاختلف فيه هل يكون ذلك كالشجر إذا بيعت وقد أُبرت ثمرتها, ولا يكون للمرتهن حق في الثمرة. ويجوز إفراد ثمار النخل والشجر بالارتهان وإن لم تظهر، وقد أجازوا ارتهانها سنين وقد عُلم أنها لم تظهر في السنة الثانية وما بعدها. والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: أما ترادف دينين على رهن واحد فلا يخلو من قسمين: أحدهما أن يكون ذلك من رجل واحد أو من رجلين. فإن كان من رجل واحد، مثل أن يرهن رجلًا رهنًا في مائة دينار تسلفها منه، وقيمة الرهن مائتان، ¬

_ (¬1) بياض، ولعله: وفيها. (¬2) هكذا ولعل الصواب: استثنائِها منها.

ثم يأتي الراهن بعد ذلك فيقول لمن بيده الرهن: أسلفْني مائة أخرى والذي بيدك من الرهن يكون رهنًا بالمائتين جميعًا، الأولى والثانية. فإن هذا مما اختلف الناس فيه: فذهب مالك رضي الله عنه إلى جواز ذلك وانعقاد الرهن بالمائتين جميعًا، وكون الرهن لا يؤخذ حتى يُوفِيَ الراهن بجميع المائتين الأولى والثانية. وذهب أبو حنيفة إلى المنع من كون ذلك رهنًا بالمائة الثانية. واختلف قول الشافعي في هذا، فقال في القديم مثلَ قولنا بصحة ذلك، وقال في الحديث مثل قول أبي حنيفة بإبطال كون الرهن رهنًا بالمائة الثانية. وكذلك اختلف اختيار صاحبي أبي حنيفة فوافقه على مذهبه الذي حكيناه عنه محمَّد بن الحسن. وأما أبو يوسف فخالفه، فقال مثلَ قولنا. وسبب الخلاف الالتفات إلى نكتة وهي النظر في كون الرهن محلًا لما يستدان عليه، فهل يكون الدين (¬1) يؤخذ عليه يَستحوذ على جميع الرهن ويَستغرقه حتى يستحيل أن يكون الرهن محلًا لدينٍ غيره، أو (¬2) يستحيل أن يكون محلًا لأحد الحالين؟ ألا ترى أن الرهن إذا دُفع في مائة دينار، فإن الرهن تابع لها والمائة مستحوذة على جميع أجزائه، فجميع أجزاء الرهن على الجملة، وكل جزء منه على التفصيل، قد استحقّتْه المائةُ الدينُ واستحوذت عليه، ولا يصح أن يكون الرهن كأنه في قبض المائة الأولى، وهو في قبْضة غيرها في زمن واحد. ومما يؤكّد ذلك أنه لو قضى من عليه الدين المائةَ كلَّها سِوى دانقٍ واحد منها لم يُمكَّن من الرهن حتى يقبض ذلك الدانق، لكون جميع أجزاء الرهن مقابلًا لكل جزء من الدين فَلّ أو جَلّ. فإذا كان الأمر كذلك استُبعد أن يكون الرهن الواحد الذي أخذ بمائة دينار بالأمس، يكون رهنًا بمائة أخرى تؤخذ ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: الذي. (¬2) هكذا ولعل الصواب: أوْ [لا] يستحيل ...

اليومَ. فهذا نظر أبي حنيفة، والنكتة التي يَلتفِت إليها. وأما مالك، والشافعي في أحد قوليه، فإنهما لم يسلّما له هذه القاعدة، ورأيا أنه لا يمتنع ترادُف دينين على رهن واحد، وليس ذلك لكون المحل الواحد محلًا لحالَّيْنِ معًا، ولا يتنافى في حكم العقل أن يكون هذا الرهن محبوسًا بالمائة الأولى وبالمائة الثانية. فإذا وجب بيعه وكانت في ثمنه فضلةٌ أخذها المرتهن من دينه الباقي عن الرهن. وإذا كانت قيمة الرهن مائتين وقد استدان صاحبه عليه مائة واحدة، فإنها وإن كانت هذه المائة تستولي على جميع أجزاء الرهن، فإنما ذلك إذا أنْفَضَّتْ قيمته حتى صارت لا زيادة فيها على هذه المائة الأولى. وأما إذا بقيت قيمته على ما كانت عليه حين الارتهان، وهي مائة دينار، فيقدر كأن المرتهن أسقط حقه في نصف الرهن، ولم يجعله رهنًا بها، وبقي نصف الرهن الآخر لا شغل فيه، ولاحقًا معلقًا به، فلم يمتنع ارتهانه، كما لو كان الارتهان بالمائتين جميعًا في عقد واحد. وهذا يتضح على أصولنا المجيزين لرهن المشاع، وأما هو فقد يقول: لا يصح ارتهان نصف الرهن مشاعًا، كما قدمناه عنه في صدر هذا الكتاب، إنْ خالفنا في هذا الذي صورناهْ في هذه المسألة، نقلْنا الكلام إليه، ونستشهد على صحة مذهبنا بأصول مقررة: منها أن الرهن المقصودُ منه الاستيثاق بالحقّ، فلا يمتنع أن يكون وثيقة بحق يأتي بعد الحق الأوّل، (ألا ترى استيثاق) (¬1) ثم مع هذا يجوز أن يتحمل لرجل بمائة دينار ويضمنها على رجل أَخر، ثم يضمن عليه مائة أخرى. فلما جاز ترادف حق بعد حق لرجل واحد على حميل واحد جاز أن يترادف دين على دين في رهن واحد لرجل واحد. وعندي أنه قد يجيب عن هذا بأنّا قد أشرنا إلى أن مذهبه المنع من رهن المشاع، بما صورناه في الرد عليه بأن الرهن بمعيّن ربما يُدعى إلى قسمته ¬

_ (¬1) هكذا، وفي الكلام سَقط.

وبيعه، حتى يؤثر ذلك في الحق، وذمةُ الحميل ليست من هذا القبيل. وكذلك احتج عليه أصحابنا بأنه يجوز أن يرهن رهنًا بمائة دينار يتسلّفها ثم يزيد الراهنُ المرتهنَ رهنًا آخر بتلك المائة بعينها. فإذا جاز ترادف رهن على رهن بحق واحد جاز ترادف دين على دين بحق واحد. وهذا قد يجيب عنه بأن الرهن مشغول بالدين، والدين مستحَق عليه، والرهن تابع للدين فلا يكون تابعًا لغيره، إذ لا يصح أن يكون الشيء تابعًا لشيئين في زمن واحد، وأما الدين فمتبوع، والمتبوع يصح أن يكون له توابع كثيرة، والرهن مشغول بالدين الأول فلا يكون مشغولًا بغيره، والدين غير مشغول بالرهن فيصح أن تُشتغَل به شواغل كثيرة. ومما يستدل به أصحابنا أيضًا أن العبد إذا جنى على رجل جناية، واستحق به رقبته، ثم كرر عليه جناية أخرى، فإنه من حق المَجنيّ عليه المطالبة بجنايتين مع كون العبد قد استحوذت على رقبته الجناية الأولى، ولم يمنع هذا من كونه تُستَحق رقبته جناية (¬1) أخرى. وكذلك الرهن، وإن استحقه الدين الأول، فلا يمتنع أن يستحقه الدين الثاني. وهم يجيبون عن هذا بأن الرهن إذًا ثبت حق إنسان تعلق به، فلا يجوز لراهنه أن يرهنه لرجل آخر، وإن كان يجوز أن يجعله رهنًا بدين كان من الرجل بعينه الذي داينه أوَّلًا، والجناية إذا كُرِّرت على واحد تعلقت بعين العبد. وكذلك لو كانت جناية على رجل ثم جنى على رجل آخر لتعلق حق الآخر بوقبة العبد، فلا يتعلق بالرهن من رجل آخر، فدلّ ذلك على افتراق الأصلين. ونحن نجيب عن هذا بأنّا لا نمنع أن يكون الرهن الذي بيد الأول رهنًا بدين استدانه الراهن من رجل آخر، إذا رضي الذي بيده الرهن، وإن لم يأذن ففيه اختلاف في المذهب نذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بجناية.

وقد قال ابن القصار: إن أظهر الروايتين عن مالك جواز ارتهان فضلة الرهن (وإذا) (¬1) لم يرضَ من بيده الرهن بذلك. وهكذا ذكر ابن الجلاب في تفريعه أن ارتهان فضلة الرهن لرجل آخر بغير إذْن من بيده الرهن لا يصحّ، وأما بإذنه ففيه روايتان. وها نحن نتكلم على سبب اختلاف هاتين الروايتين بعد أن يضبط بالتقسيم، فنقول: إذا رهن رجل رهنًا قيمته مائة دينار، وأخذ على الرهن نصف قيمته وهي خمسون، ثم أراد أن يتسلّف مِمّن بيده الرهن سلفًا آخر، وهو خمسون دينارًا بقية قيمة الرهن، فلا يخلو أن يكون الرهن بيد من أعطى السلف (¬2) وبيد عدل أُوقِفَ الرهنُ بيده. فإن كان الرهن بيد معطي الدين الأوَّلِ فقد ذكرنا خلاف فقهاء الأمصار في ذلك، وأَنّ مذهبَنا جواز ترادف دين على دين في رهن واحد، وهو يد دافع الدينين. وإن كان هذا الرهن موقوفًا على يد رجل آخر غيرِ معطي الدينين، فقد ذكرنا أن ما أُوقِف من الرهبان بيد غير المرتهن فإن ضمانه من ربّه. ولكن يبقى النظر في هذا الدين الثاني الذي ارتُهِن فيه فضلة الرهن على الدين الأول، فإن هذا العدلَ الموقوف الرهن على يده إن رضي بأن يحوز هذا الرهن بالدينين جميعًا فإنه يكون رهنًا بالدينين جميعًا، كما لو كان الرهن في يد دافع الدينين جميعًا, لأن يد هذا العدل الموقوف عنده الرهن كيده في باب الحيازة. وإن كان العدل لم يعلم بهذا الثاني، ولا رضي بأن يكون الرهن تحت يده وبحوْزِه إلا في الخمسين دينارًا الأولى فإنه يجري ذلك على القولين، وقد قدمنا ذكرهما وعلتهما حيث قلنا: إن المذهب على قولين في الهبات والبرهان. هل لا يصحان إلا بحيازة محسوسة أو يصحان عند ارتفاع التهمة الموجبة لافتقارهما إلى ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: وإِنْ. (¬2) هكذا ولعل الصواب: أو.

الحيازة، وهذه التهمة في كون الواهب إذا وهب ماله في صحته وأبقاه تحت يده ينتفع به إلى أن يموت فيأخذه الموهوب له فإن نفسه لا تسْمَح بذلك بل (¬1) يغني غيرَه ويبقى فقيرًا، فيؤدي ذلك إلى منعه من القصد إلى حرمان الوارث ما أوجب الشرع أن يرثه عنه. وكذلك في الرهبان إذا قال لأحد غرمائه: رهنتك داري وباقيًا (¬2) ساكنًا فيها إلى أن أفلس، فلو جعلناها رهنًا صحيحًا يستبدّ به من قَبِل هذه الدار رهن ذلك في دينه، ويختص به دون سائر الغرماء، أدى ذلك إلى إيثاره بماله غريمًا دون غيره، ولهذا افتقر الرهن إلى الحيازة. فإذا تُصوّر في بعض المسائل ارتفاع هذه التهمة التي لأجلها افتقر الرهن إلى الحيازة، فهل يرتفع الافتقار إليها لعدم العلة الموجبة لها، ويبقى الحكم باقيًا وإن ارتفعت علته؟ المذهب على قولين في هاتين المسألتين اللتين ذكرناهما. وهذا العدل إذا كان إنما حارٍّ الرهن في خمسين دينارًا إذا وصلت إلى دافعها رد الرهنَ إلى صاحبه، فسقط كونه رهنًا فإن الخمسين الأخرى إذا لم يعلم بها ولم يقصد إلى حيازتها لدافع هذه الخمسين فإن ذلك لا يصح على أحد القولين لعدم القصد إلى الحيازة. وعلى القول الآخر يصحّ ذلك, لأن هذا الرهن لا يَدَ لصاحبه عليه، ولا انتفاع له به، فلا تُتصور فيه التهمة التي ذكرناها في الافتقار إلى الحيازة. هذا بيان أحد القسمين. وأما القسم الآخر فهو أن يكون الرهن بيد دافع الخمسين الأولى، ولكن الراهن تسلّف من رجل آخر خمسين أخرى، وجعل الفضلة الباقية من قيمة الرهن رهنًا لهذا الثاني، فإن المشهورَ من المذهب المنصوصَ نصًّا لا إشكال فيه كونُ هذا الدين الثاني إنما يصحّ كونه رهنًا به بعد أن يصل الأوَّلُ إلى حقّه، بِشرط أن يعلم الذي بيده الرهن بهذه الاستدانة الثانية، ويرضى أن يحوز هذه ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بأنْ. (¬2) هكذا ولعل الصواب: بَقِيَ.

الفضلة لصاحب هذا الدين الثاني. فإن لم يعلم ذلك ولا رضي به فإنه لا يكون لدافع الدين الثاني في هذا الرهن حقّ بل يباع الدين الأوّل إذا وجب قضاؤه له، وما فضل عن دينه يحاصّ به سائر الغرماء دافعُ هذه الخمسين الأخرى، ومن سواه من الغرماء. ووقع لمالك في كتاب ابن المواز فيمن رهن رهنًا ثم استدان من رجل آخر دينًا، وجعل فضلة الرهن رهنًا، فقال مالك: لا يصح هذا الرهن الثاني إلا أن يحوزه لهذا الثاني غيرُ الأول. قال: لأن الأوّل إنما حاز لنفسه. هكذا روى ابن القاسم عنه في الموازية، وقام عقب هذه الرواية عن ابن مالك (¬1): إلا أن يعلم الأول بذلك ويرضى، بحوزه للثاني. وظاهر هذه الرواية أنه لا يصح هذا الرهن الثاني، وإن علم به الأوّل فوضي أن يحوزه له، لقول مالك في صحة هذا الرهن: لأن الأوّل إنما حاز لنفسه؛ بعد أن قال: لا يصح ذلك إلا أن يحوزه لهذا والآخَرِ غيرُ الأوّل الذي قبضه لنفسه. لكنه لم يذكره في السؤال الذي أجاب عنه مالك بحوز الموتهن الأوّل، علم بهذا الرهن الثاني أو لم يعلم به. لكن التعليل يقتضي أنه لا يصح هذا الرهن ولو علم به الأول ورضي بحوزه للثاني. لكن قول ابن مالك (1) عقيب ما نَقَل عنه: إلا أن يعلم الأوّل بذلك ويرضى به. كالمشير إلى تأويل قول مالك على كون الأوّل لم يعلم بالرهن. ولكن تعليل ذلك وظاهر كلامه خلاف ما أشار إليه ابن القاسم. وهكذا حمل بعض أشياخي هذه المسألة على قولين: أحدهما صحة هذا الرهن إذا رضي الأوّل بهذه الاستدانة الثانية وحَاز الفضلة لهذا الثاني. والقول الآخر: إن ذلك لا يصح ولو علم بهذا الأوّلُ ورضي بحوزها للثاني. لكنه خرّج: إذا لم يعلم بها الثاني ولا رضي بحوزها للثاني، أن هذه الفضلة لكون رهنًا للثاني، كما قيل فيمن أخْدَم عبده لرجل، وحازه هذا الرجل، ثم وُهبتْ رقبته لآخر، فإن هذه الهبة للرقبة تصحّ، وإن لم يعلم المُخدَم بهذه الهبة للرقبة، ولا رضي بحيازتها لمن وُهبت له. وهذا الذي قيل في هذا ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب حذف (ابن).

العبد المخدَم، وما خرجه بعض أشياخي من كون فضلة الرهن لكون رهنًا، وإن لم يعلم الأول بارتهان الثاني لها، مبنى على ما فرغنا منه الآن من كون الرهن لا يصح إلا بالحيازة المحسوسة لقوله تعالى "فرهان مقبوضة" (¬1) فشرط القبض في صحتها والقبض مشاهَد محسوس، فإذا لم يوجد لم يصح الرهن. أو يُراعى في صحة (¬2) ارتفاع يد الواهب عنه، وعلُم انتفاعه به، وإن لم يقبضه الموهوب له ولا قبضه المرتهن، كما بسطنا بيانه الآن. فإذا تقرر حكم هذا القسم وحكم هذه الفضلة المرهونة بدين ثان، فقد قدمنا ذكر الخلاف على الجملة في ضمان هذه الفضلة: هل يضمنها من بيده الرهن الذي أخذه عوضًا عما دفعه، أو لا يضمن هذه الفضلة، وأن ابن القاسم يرى أنه لا يضمن من هذا الرهن إلا مقدار دينه وهي الخمسون دينارًا، وما فضل عن ذلك فضمانه من ربه, لأن دافع الدين الثاني لم يقبض هذه الفضلة فلا يضمنها وهي في يد المرتهن الأول محبوسة بحق الثاني، فيجري مجرى الأمانة في يده ومجرى ما أوقف على يد عدل، فإن العدل لا يضمنه. وقد احتجّ أشهب لصحة مذهبه بأنه لو كان هذا الرهن بيد رجل على أنه لا يستحق منه إلا ما فضل عن دين رجل آخر، فإنه لا يضمنه لكونه إنما يستحق الفضلة وهي غير محققة. وبعض أشياخي يميل إلى أن ابن القاسم قد يخالفه في هذا الذي احتج به، ويجري فيه على أصله في كون ما سوى الفضلة لا يضمنه. وقد قال بعض الأشياخ: إنما يقتصر ابن القاسم على ضمان ما سوى الفضلة خاصة على من بيده الرهن إذا علم أن الرهن موجود حين رهن الراهن للثاني فضلته، وأما إذا لم يعلم وجوده فإنه يضمنه لجواز أن يكونْ قد تلف ولزمته غرامته قبل أن يرهن الفضلة. ¬

_ (¬1) البقرة: 282. (¬2) هكذا ولعل الصواب: صحّته.

وقد احتج بعض الناس لأشهب إذا قضى الدين الذي كان به رهنًا ثم زعم من هو بيده أنه ضاع فإن ذلك لا يُقبَل منه مراعاة لأصل قبضه لأنه إنما قبضه على الضمان فلا يصدّق في دعوى الضياع فيما يغاب عليه أنْ كان يقضي (¬1) الدين خرج عن كونه رهنًا. وهذا الاستدلال على ابن القاسم فيه نظر, لأنه أخذه على الضمان، ودعوى الضياع بغير بينة لا يقبل منه حتى يَرُد الرهن على صاحبه, لأن على اليد أن ترد ما أخذتْ. وكأنّ أشهب رأى أن هذه الفضلة غيرُ محقق حصولها لهذا الذي دفع الدينَ الثاني، لكون الرهن، وإن كانت قيمته عند الدفع مائة دينار، وأخذه رهنًا بخمسين دفعها، فإنه قد يحُول سوقُه فلا يساوي حين بيعه إلا مقدار دين الأول وهي الخمشون دينارًا، فيصير جميعه محبوسًا للأول وجميع ثمنه له كلَّه. وكأن ابن القاسم قدّر أن هذه الفضلة، لما كانت عند الارتهان الثاني موجودةً، استُصحِب وجودُها, ولم يُلتَفت إلى ما يمكن أوْلًا يمكن من تقصير ثمنها. ومما يلاحظ ما نحن فيه ما ذكره ابن المواز عن مالك، فيمن رهن رهنًا وأخذ عليه دينًا، وشرط في حين الارتهان أنه مبَدَّأٌ من قيمته مائة دينار، ثم ادّانَ فوجب بيع الرهن، فقال غرماء الراهن نحن أحقّ بهذه المائة التي شرط أن يأخذها لنفسه من ثمن الرهن، فإن ذلك لهم. وظاهر كلام مالك في هذا الإطلاق: أنه مَن بيده الرهن لم يبْقَ بعد هذه المائة دينار ما يأخذ منه جميع دينه، فإن ما بقي من دينه يبقى في ذمة الراهن، ولا يحاصّ الغرماء بالبقية التي بقيت له, لأن هذا الاشتراط لهذه، لمائة يقتضى ألاَّ حق لهذا الذي بيده الرهن في عين الرهن وهو مقدرا ما يقابل المائة، فكذلك لا يكون له حق في هذا الثمن. وهذا مما ينبغي أن يُنظر فيه، وما قصد من بيده الرهن بهذا الاشتراط هل أسقط حقَّه في هذه المائة أَلا يأخذَ دينه منها على حال، وإنما (¬2) أسقط حقه منها ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بقَضاء. (¬2) هكذا ولعل الصواب: أَو.

في حال دون حال، وعلى وجه دون وجه. وفي العتبية لان القاسم أن هذا الرهن لا يصح، وكأنه يشير إلى أن هذه الفضلة بعد المائة دينار إذا لم تكن مقدرة ولا مُتَيقّنًا وجودها عند بيع الرهن، وكأنه لم يَحز رهنًا لنفسه على حال. وهذا الذي عللناها به فلا يضمن هذا الرهن على كلام ابن القاسم، وأما على قول مالِك: إن الراهن يُبدَّأ بهذه المائة، فإن هذه الفضلة تجري على الخلاف الذي قدمناه بين ابن القاسم وأشهب. لكن هذا الشرط لما كان مشترطًا في أصل دفع الرهن حسُن أن يقول ابن القاسم: إنه لا يصح، وحسُن أن يُظَن به أنه يقول: إنه لا يضمن أيضًا. بخلاف إرتهان فضلة الرهن بعد أن أخذه من هو بيده على أنّ جميعه رهنًا في حقه. وما حدث بعد العقود بخلاف ما قارنها. وهذا مما ينبغي إن يُتأمل أن كان المراد بالرواية أن ذلك وقع في عقد واحد واشتُرط حين دفع الرهن. وإذا وضح صحّ القول في ارتهان فضلة الرهن إذا كان الرهن بيد مرتهنه أوَّلًا. فينبغي أن تعلم أنه إذا كان بيد غير مرتهنه بل وقف على يد عدل فاستدان الرافنُ عليه دينًا، وجعل ما فضل من قيمته عن دين المرتهن الأول رَهْنًا بيد العدل لهذا الرجل الثاني، فإن اشترط (¬1) علم العدل الموقوف بيده الرهن، ورضاه بأن يحوز هذه الفضلة للمرتهن الثاني لا بد منه، في المنصوص المشهور من المذهب، فيتخرج على أن الرهن يصحّ وإنْ لم يُحَزْ إذا ارتفعت التهمة، وحيلَ بينه وبينه، أَلا يُشترط علم العدل بهذا الارتهان الثاني لكون الراهن قد حيل بينه وبين الرهن، وقد قدمنا ذلك. وقد رأيت لسحنون أنه لا يُفتقر إلى علم من بيده الرهن في ارتهان فضلته من رجل آخر، قال: لأنه لا يعلم في هذا الارتهان الذي هو مقصور على ما فضل عنه. وظاهر كلامه أنه ذكر ذلك ولو كان ارتهان هذه الفضلة في رهن بيد المرتهن الأول ووجد ذلك مما قدمناه. ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: اشتراط.

هذا حكم الافتقار إلى رضي العدل الموقوف بيد (¬1) الرهن. وأما اعتبار رضي المرتهن الأول فقد ذكرنا عن سحنون ما يدل على أنه يُعتبر رضاه، وبيّنّاه ومهّدناه. وهكذا حكى ابن حبيب عن أصبغ أنه يعتبر رضي المرتهن الأول وأطلق هذا القول، ولم يفرّق فيه بين كون هذا الرهن الذي ارتُهِنت فضلته بيد عدل أو بيد المرتهن الأول. وذكر أصبغ عن مالك أنه يخالف هذا, ولا يعتبر اشتراط رضي المرتهن الأول بأنه لا ضرر عليه في هذا الارتهان الثاني إذا كان إنما يؤخذ ما فضل عن دينه. وهذا قاله أصبغ، ونَفْيُ الضرر عن الأوّل يتضح تصوره إذا كان أجل دين الأوّل وأجل دين الثاني الذي نُقِلت الفضلة رهنًا له يستويان حتى يكون دعوى الغريمين الأوّل والثاني إلى بيع الرهن ليُقضى من ثمنه دينُهما سَواء، ولا يقدر أحدهما أن يدعوَ إلى بيعه قبل أجل الآخر، أو يكون المرتهن الأول أجل دينه يحل قبل أن يحل دين المرتهن للفضلة ليكون قادرًا عَلى ادعاء (¬2) إلى بيع الرهن ليأخذ منه دينه كلّه. وأما لو كان دين المرتهن الثاني الذي ارتهن الفضلة يحل قبل أجل دين المرتهن الأوّل فها هنا قد يحصور ضررٌ يلحق المرتهن الأوّل إذا بيع الرهن للثاني، ولم يكن (¬3) المرتهن الأوّل من أخذ دينه من عين الرهن ولا من ثمنه، وقد يكون ثمنه وإن وُقف له لا يُومن له عليه الضياع، ويؤمن على الرهن نفسه إذا لم يُبَعْ. ففي هذا الوضع يتصور الضرر. ولكن (يحتج إلى ذكر) (¬4) الحاكم إذا دعا مرتهن الفضلة على البيع. وقد ذكر مالك في كتاب ابن المواز، لما سئل عن رجل أخذ رهنًا من رجل بدين له عليه يحل إلى ستة أشهر، ثم اشترى سلعة من رجل آخر بدين يحل إلى شهر، ورهن هذا الآخر ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بيَدِهِ. (¬2) هكذا ولعل الصواب: الدّعْوة. (¬3) هكذا ولعل الصواب: يُمَكّنْ. (¬4) هكذا ولعل الصواب: يحْتاجُ إلى إِذْن.

الذي باع منه السلعة ما فضل من قيمتها عن دين الأوّل. فقال مالك: أَعَلِم الآخَر بدين الأوّل؟ فقيل له: لم يعلم. فقال: يُباع الرهن ويُجعل منه للمرتهن الأوّل دينُه، ويأخذ الثاني ما فضل عن ذلك. وأطلق هذا الجواب من غير تفصيل لأجناس الرهبان وأجناس الدين. وفصل أشهب الجواب، وقال: إن كان الرهن مما يكال أو يوزن وديْن المرتهن الأوّل مثلُه في الجوْدة والدناءة والجنسية، فإنه يُعجَّل حق الأول على حسب ما حكيناه عن مالك. وأما إن كان دين الأوّل مما يكال أو يوزن، ولكنه مخالف بجنس (¬1) ثمن الرهن فإن الحق لا يُعجَّل للأوّل، بل يوقف له رهنًا. وكذلك لو كان الدينُ دراهمَ، وبيع الرهن بدنانيرَ، لم يُعجَّل الحق أيضًا للأول. وأما إن كان الرهن بيع بعَرْض فإن دين الأوّل لا يعجل ولو كان عرضًا مثل العرض الذي بيع به الدين. وزاد سحنون في الجواب الذي أطلقه مالك تفصيلًا آخر، فأشار إلى اعتبار دين الأوّل هل هو مِمّا إذا عُجِّل له أخبِر على قبول ذلك، فيكون تفصيل أشهب صحيحًا، أو يكون دين الأوّل مما لا يُجبر على قبوله إِنْ عجز (¬2) له قيلَ أجَله كعرض من بيع أو طعام من بيع، فإنه يشترط في هذا رضي المرتهن الأول لقبول ماعُجِّل له من حقه. وذكر ابن عبدوس عن سحنون كلامًا فهم منه عن سحنون أن الرهن، إذا كان يباع بثمن بخلاف دين المرتهن الأول، فإن الرهن لا يباع بل يبقى موقوفًا إلى أن يحل أجل الأول بجواز (¬3) أن يكون ثمن الرهن إذا بقي موقوفًا رهنًا بحق الأول إلى أن يحل أجل الأول فإنه قد تنقص قيمته حتى لا يمكن المرتهنَ الأول أن يستوفي جميع دينه منه، وهذا لا يرتفع الضرر عنه إلا بأن يمنع من بيع الرهن. وقد ذكرنا عن مالك أنه سأل السائل له عن علم الأحق (¬4) بدين الأوّل أم ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: لجنْس. (¬2) هكذا ولعل الصواب: عُجِّل. (¬3) هكذا ولعل الصواب: لِجَواز. (¬4) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: على الآخر. راجع كلام مالك أعلاه.

لا؟ فقيل له: لم يعلم. ودليل هذا الخطاب. أنه إذا عَلِم بدين الأوّل كان الجواب بخلاف ذلك واختلفت إشارات أهل المذهب إلى ما يكون الحكم إذا علم الآخر بدليل (¬1) الأول: فأما بعض الأشياخ فإنه تأوّل على مالك أنه إنما سأل، هل علم الآخر بدين الأول أم لم يعلم، لأجل أنه ذُكِر في السؤال أن الدين الثاني إنما كان عن ثمن بيع، فإذا علم هذا المرتهنُ الثاني بالفضلة بأنه قد سبقه دين يتأخر عن أجل دينه، والحكم يقتضي تعجيله، صار كمن باع سلعة واشترط تعجيل دين لم يحلّ، فإن ذلك لا يجوز, لأن تعجيل الدين قبل حلوله سلف والبيع إذا قارنه سلف فسد بغير خلاف. وهذا الذي تأوَّل هذا التأويل إنما يصح تأويلُه على أنه علِم أن الحكم يوجب تعجيل حق الأوّل ويوجب جبرَه على قبول ذلك، فكأنه كالقاصد إلى بيع اشترَط فيه السلفَ. وقد وقع في المستخرجة لأشهب ما يشير إلى أنه إذا علم الآخر بدين الأوّل بقي دينه مؤخرًا حتى يحل أجل دين المرتهن الأول. وكأنه، وإن اشترط في ثمن سلعته أن يحل إلى شهر، فعلمُه بأنّ الرهن الذي ارتهن فضلته قد سبق فيه حقّ لاخر قبله لا يحل الأول إلى ستة أشهر، كأنه أبطل الأجل الأول وصار أجل ثمن سلعته إنما يحل إلى ستة أشهر. وبعض أشياخي يشير إلى أن في هذا (¬2) من الغرر. فأما تلخيص هذا الاضطراب فإنه إذا كان ثمن الرهن مثل دين الأول، وهو مكيل أو موزون، فإن حق الأول يعجل، بغير خلاف، إذا لم يعلم الثاني بدين ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بِدَيْن. (¬2) كلمة غامضة، ولعلها: مَغْمَزًا.

الأول، ولكن اشترط ابن القاسم في هذا أن يكون إذا عجل دين الأوّل إذا بيع الرهن وفضلت فضلة إلى المرتهن الآخر، وأما إذا لم تفضل له فضلة بقي دين الأول إلى أجله ولم يُبَع الرهن إذ لَا فائدة للمرتهن الآخر في بيعه، وما لا فائدة له فيه فليس من حقه أن يدعو إليه. وإن كان ثمق الرهن مخالفًا لدين الأول فإن إطلاق جواب مالك يقتضي تعجيل دين الأوّل، وأشهب لا يوجب تعجيله بل يوجب إيقاف رهنٍ (¬1) بحقّ الأول. وسحنون، على ما حكيناه عن ابن عبدوس أنه فهمه عنه، بأن الحق لا يعجل، والرهن لا يباع للعلة التي ذكرنا. فصار إذا بجع الرهن بثمن بخلاف الدين فيه ثلاثة أقوال: تعجيل الحق إن حملْتَ جواب مالك على عمومه. وترْكُ التعجيل ووضع رهن (1) بحق الأول، والمنع من البيع لما يُخشى من انتقاص قيمة ثمن الرهن عن الرهن، ويلحَق الأول في ذلك ضرر يمنع من استيفاء دينه. وقد أشار بعض الأشياخ إلى اضطراب ما وقع في كتاب ابن المواز، مما نقلناه عنه ها هنا، وقال: إنه فرق بين أن يكون الرهن بقمح والدين بقمح، أو يباع بعوض والدين عرض، والقمح إذا كان مبيعًا فلا يجبر مشتريه على قبول تعجيله كالعروض. وقد فرق في الموازية بين أن يباع بعرْض أو بقمح. ولا يصح هذا إلا أن يكون بيعه بقمح كان الدين قمحًا من قرضه، وإذا بيع بعرض كان الدين عرضًا من بيع. وهذه التفرقة كأنها تنافي ظاهر هذا الكلام. ثم عقب قوله إذا بيع الرهن بعرض، وأشار إلى أن بيعه بعرض يكون تعدّيًا. فلهذا جعل هذه الزوائد فيها إشكال من وجوه وهو الذي تعقبه من كون البيع للرهن تعدّيًا إذا بيع بعوض، فإن ابن القاسم يقول: إنه تعدٍّ، كما اعترض به هذا المعترض، ذكر ذلك فيمن وكّله السلطان على بيع رهن فباعه بعرض. وقال أشهب إن باعه بعرض وهو من جنس الدين الذي بيع الرهن بسَبَبِه، ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: إيقافه رهنًا، ووضعه رهنًا.

فإنه يكون تعدياّ. لكن إن كانت فضلة عن قضاء الدين لكون بيع بعضه كافيًا في قضاء الدين لكانت هذه الزيادة تعدّيًا لا تفزم صاحب الرهن، ويكون المشتري بالخيار إذا (رد الرهن) (¬1) بيع هذه الفضلة لضرر الشركة الطارئة عليه. فأنت ترى هذا الذي أنكره بعض الأشياخ قد وقع لأشهب (ما إذا) (¬2) حمل ما في كتاب ابن المواز عليه لم يكن في الكلام تعقب. وفي هذا كفاية. هذا حكم الاشتراك في الرهن بغير حق محدود مقدر. ولو كان الاشتراك بحدٍّ محدود مقدَّر، مثلُ أن يسلف رجلان لرجل مائة في مائة، ثم يأْخذان بذلك رهنًا، فإنه إذا سلمه الراهن لأحد هذين الرجلين لم يضمن قابضه إلا حصّته منه، وهي النصف. وصحة (¬3) الآخر ضمانها من الراهن, لأنها كرهن لم يقبضه المرتهن ووافق (¬4) له على يدي عدل. ولو قضى المديان أحد هذين الرجلين ما أسلفه لاسترجع حصة هذا الذي مضى مما له عليه من الدين، وبقيت حصة الآخر الذي لم يقْضِ من دينه شيئًا بيد من كان الرهن بيده. ولكن هذا إنما يُبْنى جملى أحد القولين في صحة رهن نصف دار ويبقى النصف الآخر في يد الراهن. يحوزه مع من بيده الرهن المبقَّى في يده لأجْل ما لم يقض من الدين. ولو أن الراهن أسلمه إليهما جميعًا، فجعله أحدهما بإذن صاحبه، أو جعلاه، بيد أمين لهما لم يسقط الضمان عتهما لكون الراهن لم يرض بدفع الرهن لمن دفعاه إليه، ولا إِذْن له في ذلك. وها الذي ذكر في الروايات من كون الرهن (¬5) يرتجع حصته ما قابل ما ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: أراد الراهنُ. (¬2) هكذا ولعل الصواب: فإذا. (¬3) هكذا ولعل الصواب: حِصَّةُ. (¬4) هكذا ولعل الصواب: أوقِف. (¬5) هكذا ولعل الصواب: الراهن.

قضاه من الدين وتبينه (¬1) بعض الأشياخ على أن ذلك إنما يجري على أحد القولين في رهن حصّة المشاع إذا بقي بقيمته في يد الراهن يَحُوزُه مع المرتهن، فيلتفت فيه أيضًا إلى ما تقدم بيانه في كتاب البيوع من كون الشريكين في دين إذا قبض أحدهما حصّته من الدين فإن له أن يشارك الآخر، على المشهور من المذهب، وعلى التخريج الآخر لا يشاركه. فإذا قيل: إنّه لا يشاركه فيمن (¬2) اقتضى لم يكن في الرواية تعقب. فإن قيل: إنه يشاركه وليس له أن يُفرِد أحدَهما بالقضاء، فإنه إذا قضى أحدهما جميع دينه، وقاسمه شريكه فكأنّ جميعَ دينه لم يصل إليه، ومن لم يصل إليه جميع حقه كان له حبس الرهن في هذا. وينبني، على ما بسطناه في كتاب البيوع، من أن المشهور من المذهب المشاركة. هذا إذا كان الدين جنسا واحدًا، ودفعاه معًا. ولو دفع أحدهما الدين ثم دفع الآخر بعد ذلك ما لا آخر فإن ما اقتضاه أحدهما لا يشاركه فيه الآخر, لأن كل واحد منهما انفرد بالدفع على الآخر شركة بينه وبين الدافع الآخر. ولو أحْدثا الشركة بعد الدفع منهما جميعًا ورضيا بها لم يجز ذلك، على ما أشار إليه بعض الأشياخ. وقد اختلف في قسمة شريكين للدين بعد أن كانا شريكين فيه. وإحداث شركة بعد أن لم تكن أولى بالمنع على ما يقتضيه ما سنبين أصوله في كتاب الشركة. هذا إذا كان الرهن من رجل واحد، والمرتهن له رجلان. وأما لو كان دافع الرهن رجلين أخذا دينًا من رجل واحد فإنه إذا قضى أحدهما ما عليه من الدين أخذ حصّته من الرهن، وبقي يحوزها مع المرتهن. وهذا لا يقدح فيه (¬3) ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بيّنهُ. (¬2) هكذا ولعل الصواب: في ما. (¬3) هكذا، والكلام واضح بدونها.

في صحة الحوز، لكون مالك الرهن لم يرجع إلى يده شيء من رهنه. وقد ذكر في الموطأ وفي غيره من الدواوين المشهورة في هذه المسألة أن أحد الرجلين إذا قضى ما عليه من الدين فأراد أن يرتجع نصيبه الذي رهنه، وقد كان شريكه في الرهن أنَظر الراهنَ بدينه إلى سنة، فإن ذلك الرهن إن كان مما لا (¬1) ينقسم قسمة لا ضرر فيها على أحد الشريكين، ولا تعيب الرهنَ القسمةُ فإنه يقسم ويأخذ نصيبه منه مَن ادعى ما عليه ميت الدين. ولو كانت القسمة تنقصه وتعيبه لِبيع الرهن كلُّه، فإن تطوّع الذي أُنْظِر بدينه إلى سنة أن يسلم نصف ثمن الرهن إلى المرتهن، وهو ما يقابل ما عليه من الدين، فلا مقال في ذلك، وإن امتنع من تسليمه استُحلِف على أنه لم يُنظِرْه، ويؤخره إلى سنة ليبقى الرهن بثقة في حقه. فإذا حلف على ذلك عجِّل له حقّه. وأطلق مالك في الموطأ في هذه المسألة تعجيل هذا الحق. وفصل أشهب الجواب، على حسب ما قدمناه عنه في مسألة من ارتهن فضلة رهن، ودينُه يحل قبل دين المرتهن الأوّل، ورأى أن الحق إنما يعجَّل إذا كان مكيلًا أو موزونًا، مثل الدين الذي أخَذَ به الرهن، إذ لا فائدة في وقفه. وإما إن بيع الرهن بخلاف جنس الدين فإنه يوقف ثمنه رهنًا رجاءَ أن يحول سوقه. وذكر ابن القاسم في المستخرجة أن الراهن لو أتى برهن آخر لدُفع إليه ما يُحبس عليه من ثمن الرهن الذي بيع. وكأنه حمل ما أشار إليه مالك على أن الراهن معسر. وأما إذا كان موسرًا، وأتى برهن آخر ليأخذ ما وجب إيقافه من ثمن رهنه الذي بيع، لكان ذلك مِن حقه. ولو كان الذي لهذين الرجلين اختلف مقداره، فبيع من الرهن حصة الذي وجب له التعجيل فلم يف ثمن المبيع من الرهن كمالَ دينه، وبقي في يد الآخر الذي انظر ما فيه فَضْل عن حقه، لوجب بيع ما في يد الآخر الذي انظر بحقه ليأخذ الذي لم يكمل من دينه ¬

_ (¬1) هكذا، والكلام أوضح بدونها.

تمام دينه. وأما إذا لم تكن فضلة لأتْبع من نَقَص دينه ذمةَ غريمه بمقدار ما انتقص من دينه. وهكذا قال ابن القاسم فيمق أخذ رهنًا بدين مؤجل ثم طرأ غريم، وفي الرهن فضلة عن حق من هو بيده، لوجب بيع هذا الرهن ليأخذ هذا الغريم الطارئ دينَه معجَّلًا من هذه الفضلة، وتعجيل صاحب الدين المؤجل دينه، على حسب ما قدمناه من تعجيل الديون المؤجلة في مثل هذا مما نقلناه عن مالك مطلقًا، وعن أشهب وغيره مفصّلًا. ولو كان ما ينوب هذا الذي حل دينه من الرهن يُرْبي على مالَه من الدين لم يُبَعْ من نصيبه من الرهن إلا مقدرا دينه، وما فضُل عن ذلك يرجع إلى الراهن, لأن (من حقه قد أخذه بيده) (¬1) ما يأخذ منه دينه، والذي حقه قد حل يصل إلى حقه من بعض ما ينوبه من الرهن، فبقي ما فضل عن ذلك لا حقّ فيه لواحد من المرتهنين فيرجع إلى صاحبه على أحد القولين في كون بقاء يد الراهن على بعض ما رهن نصيبًا منه لا يُبطل الرهنَ، وعلى القول بإبطاله: يوقف له ليصح الرهن. ومما ينخرط في هذا الأسلوب المشاركة في الحيازة من جهة الراهن لا من جهة عين الرهن، مثل أن يرهن رجل رهنًا على أنه إنما يكون رهنًا في سنة، فإذا انقضت خرج عن كونه رهنًا. فإن مذفب ابن القاسم بطلان هذا الرهن، وأنه لا يكون رهنًا في السنة الأولى ولا فيما بعدها من السنين الأخَر. ورأى تغليب أحكام السنة الثانية على الأولى. وهو الأوْلى وقد شرط في حين دفع الرهن أنها لا لكون رهنًا، ومن حكم الرهن أن يتابد بيد قابضه حتى يقضي دينه، وبهذا يصح الحوز. ورأى أشهب أن الشرط باطل، وأن هذا الرهن يكون رهنًا في السنة ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: مَنْ حقُه بيده قد أخَذَ.

الأولى وفيما بعدها، تغليبًا لحكم السنة على ما بعدها، وقال: إن الشرط باطل، واحتج بأن من قال لعبده: أنت حرّ إلى أن يشرب، فإنه يكون حرًا، والشرط ساقط باطل. ولم يعجب يحيى بنَ عمر هذا التمثيلُ ولا رأى هذا حجةً. ولو كان السؤال بالعكس فدفع إليه سلعة، على أن لكون رهنًا في السنة الثانية ولا لكون رهنًا في السنة الأولى، لصح هذا الرهن، وكأنها في السنة الأولى لكون عنده وديعة، ومن كانت له وديعة بيد رجل فاستدان عليها دينًا من الذي هي بيده وديعةٌ، وجعلها رهنًا بيده، فإن ذلك يصح وتكون رهنًا. ومما يلحق بهذا كون الوصي على يتيم يجوز له أن يتسلف له ويرهن له أشياء مما له، كما لَه أن يبيع سلعة مما له فكذلك له أن يرهنها, ولو كان الوصي أسلف اليتيم من يده وقبض سلعة من مال اليتيم من نفسه، ولم (¬1) يحصلَ له إلا نيّة تبدّلت. ورأى أشهب أن ذلك يصح له إن شُهِد بذلك. وقد اختُلف أيضًا فيمن بيده وديعة لرجل يتسلف على بعضها الذي أودعها سلفًا، وجعل بعض الوديعة رهنًا بالسلف، وعقد ذلك على أن المودعَ حائز للذي أسلف. وهذا أيضًا مما اختُلف فيه، وفيه الاقتصار على نية تبدلت، مع كون يد من في يده الوديعة كيد من أودعها له، فيصير كانّ يد المودَع باقية على بعض الرهن وقد قدمنا ما في ذلك من الاختلاف. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إن حكم مَن يلزمه الإنفاق على الرهن هل هو الراهن أو المرتهن؟ فقد تقدم الكلام عليه على الجملة. ونحن الآن نفصّل فروعه. فإذا تقرر فيما سبق أن نفقة الرهن على الراهن عندنا، وعند جماعة الفقهاء، فإن الراهن إنما يتولى الإنفاق على وجه لا يؤثّر في حوز المرتهن ¬

_ (¬1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: حذف الواو.

ويرهنه (¬1)، ومن حق المرتهن أن يمنعه من تولي ما يؤثر في صحة حيازته للرهن، فلا يمكَّن الراهن إذا أراد الإنفاق على العبد أن يضمّه إليه ويحوزه المرتهن (¬2) ويضِفه إلى عياله وحوزه، لكن يدفع الإنفاق دفعًا لا يؤثر في حيازة المرتهن. وكذلك لو كان الرهن ربما يحتاج إلى الاسترمام والإصلاح فإن المرتهن يمنع الراهن من تولي ذلك بنفسه على وجه يؤثر في الجواز (¬3) أيضًا. وأما عقد الإجارة في الرباع وغيرها، فإن الراهن يتولاه بإذن المرتهن، فيقتصر على مجرد العقد، ولا يضيف إليه قبض الغلة على وجه يؤثر في الحوز. وهل للمرتهن أن يعقد الإجارة بإذن الراهن فإن ذلك سائغ. وإن تولاها بغير إذن الراهن نطْقًا أو ظهر من الراهن ما يدل على الإذن في ذلك فإن المذهب على قولين: أحدهما: أن المرتهن لا يُمنع من ذلك وينفذ عقده فيه، وإن كان قد استحب عبد الملك ابن الماجشون مطالعة الراهن إذا كان حاضرًا، فإن لم يطالعه المرتهن نفِّذ عقدُه. وهذا الاختلاف راجع إلى ما يتضمنه عقد الرهن، فهل يتضمن ذلك إذن الراهن للمرتهن في عقد الإجارة لكونه يكره في العادة تعطيل رَبْعه، واستقلال (¬4) عبده، ويعلم أنه محجور عليه، بالتصرف فيه، لحق المرتهن، فإن ذلك يقتضي إذنه للمرتهن في عقد الإجارة. أو يكون عقد الرهن لا يتضمن ذلك، والأصل أن منافع الرهن باقية على ملك الراهن، ومن له ملك فلا ينفذ عقدُ غيره فيه من غير إذنه، وإن كانت منافع الرهن (¬5)، كفا لا ينفذ عقد المرتهن في بيع رقبة الرهن لما كانت لم تنتقل عن ملك الراهن. وإذا قلنا: أن المرتهن لا يمكن من ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: رهنه. (¬2) هكذا, ولا يصح الكلام إلا بحذف: المرتهن. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: الحوْز. (¬4) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: واستغلال. (¬5) هكذا ولعل الصواب إضافة: له.

عقد إجارة الرباع والعبيد إلا بإذن الراهن فأبْقى الرهن معطلًا، والربع خاليًا، فإن قلنا: إن ذلك له بغير إذن الراهن، ولا مطالعة، وكان الراهن يرى الرهن خاليًا ولم يُنكِر ذلك حتى صار كالراضي بتعطيل الرهن، فإن المرتهن لا يختلف أيضًا عن هؤلاء في كونه غير ضامن لقيمة ما عطل من غلة الربع. وإن كان الراهن لا علْم عندهْ بذلك والدار المرهونة مما الغالب كونها لا تبقى معطلة فإن المذهب على قولين: قال عبد الملك: المرتهن يضمن قيمة المنافع التي عطلها. وقال أصبغ: لا يضمنها، كما لو وكل وكيلًا على كراء ربعه فلم يفعل، فإن الوكيل لا يضمن. وهذا الذي احتج به أصبغ قد يخالَف فيه. والخلاف مبني على كون الوكيل ممكَّنًا من عزْلة نفسَه عن الوكالة، مع غيبة الموكل، وقد قدمنا ما قيل في ذلك، وما وقع فيه من الاضطراب في كتاب الوكالات. ثم يلتفت في هذا إلى أصل آخر، وهو: أن من غصب دارًا وسكنها أو اغتلها، فإنه يردّ الغلة، في المشهور من المذهب. ولو أبقاها معطلة لم يرد العلةَ، وقيمةَ المنافع التي منع ربَّها منها، في المشهور من المذهب فهذا تحقيق القول في هذا الاختلاف في هذه المسألة. وقد اضطرب المذهب في إجبار الراهن على استرمام الربع المرهون إذا حدث فيه ما يحتاج إلى الاسترمام والإصلاح، فقال ابن القاسم في العتبية: إن ذلك مما يلزم الراهن، ويجبر عليه إن أباه. وظاهر المدونة: أنه لا يجبر على ذلك إن أباه, لأنه (قد أدى) (¬1) الراهن من إصلاح البئر إذا تهدمت، وقد ارتهن زرعًا أو نخلًا، فإن المرتهن إنْ أنفق في إصلاحها كان له الرجوع بذلك فيما حَي بإصلاحه واسترمامه من زرع أو رقاب نخل فيباع له من ذلك مقدرا ما أنفق فيه، وما فضل أخَذَه من دينه. فكأن من ذهب إلى الجبْر على الإصلاح، والقضية بذلك على الراهن فإنه يراه كالإنفاق على العبد, لأنه لو لم ينفق على ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: إذا أَبي.

عبده المرهون لهلك العبد، وبهلاكه يبطل حق المرتهن في التوثُق بدينه، فعلى الراهن إتمام التوثق بالرهن الذي دخل معه المرتهن عليه. وكأن من رأى أنه لا يجبر على ذلك يقول: لو مات العبد المرهون لم يكن على الراهن أن يُخْلفه، أو يأتي برهن آخر بدلَه, لأنه إنما التزم رهنَ عيْن، فإذا هلكتْ العين بأمر من الله سبحانه لم يلزمه أن يأتي ببدلها, لأن ذلك لم يلتزمه في أصل عقد الرهن. وكذلك الاسترمام لِما خُرِم من الربْع كأنه تعويض عن بدل عيْن هلكت من الله سبحانه، وإن حدث بعد عقد الرهن (¬1) لم يدخل عليه الراهن، بخلاف نفقة العبد فإنه يعلم حين عقد الرهن أنه لابذ لعبده من الإنفاق، فكأنه دخل على التزام ذلك، وكذلك ينبغي لو أرتهن تخلا، وشأنُها أن تُسْقى، ولابد للراهن من سقيها، فإن الراهن يُجبر على سقيها كنفقة العبد، بخلاف ما يحدث في الرهن بعوإنعقاد وحيازة المرتهن. والتحقحق في ذلك الالتفات إلى العوائد التي دخل عليها الراهن والمرتهنُ فيما قارن العقد، وفيما حدث بعده. وقد وقع في الروايات أن الرهن إذا كان من الأثقال، التي تححّاج إلى اختزان لا بد فيه من إجارة، فإن ذلك يلزم الراهنَ. وكأنه لما قارن العقد الحاجةُ إليه فكأن الراهن التزمه في حين العقد. وقد اختلف أيضًا في الرهن إذا احتيج إلى بيعه، ولا يتوصل إلى بيعه إلا بإجارة سمسار فقال ابن القاسم: إجارة السمسار على المرتهن. وروى ذلك عنه عيسى وأصبغ، وخالفاه فيما روياه فقالا: بل إجارة السمسار على الراهن. فكأن ابن القاسبم رأى أن بيع الرهن لمنفعة المرتهن وتناول حقه منه، ولا منفعة فيه للراهن، فكانت أجرة ذلك لمن انتفع. بخدمة السمسار، والذي انتفع به هو المرتهن دون الراهن. ومن خالفه في ذلك رأى أن على الراهن قضاء الدين الذي عليه، فعليه أن يصيّر الدين من جنس الدين الذي عليه، ولا يُنال ذلك إلا ببيعه، فكان ذلك نيابة ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصوإب إضافة: وَ.

عما يلزمه من قضاء الدين، فكانت أجرة ذلك عليه دون المرتهن. وكذلك ذكر ابن عبدوس من هذا المعنى، في كتاب تصير المسائل، اختلافا في العبد إذا كان رهْنًا فأبق، فطلبه مَنْ شأنُه طلب الأبّاق بجعل، فأتى به وقد استحق الجُعل، فعلى من يكون هذا الجعل؟ فذكر ابن سحنون قال: إن هذا الجعل على المرتهن. فكأنه رأى ما فعله من طلبه وأتى به يختص بمنفعة المرتهِن، فجَعَل إجارة ذلك عليه، كما قلنا في جُعل السمسار في أحد القولين. وذكر عن غير ابن سحنون من أتى بالآبق وهو مستحق لأخذ الجعل عليه، فإن هذا الجعل على الراهن, لأن فيه تثبيتَ ملك الراهن وعودَ عين ما ملك إلى يديه إذا قضى الدينَ الذي عليه. وقد قررنا أن نفقة العبد على الراهن، كما أن غلته له، ولكن يبقى النظر في وجهين اثنين أحدهما: أن الراهن إذا لم ينفق على هذا العبد، وأنفق عليه المرتهن، هل لكون نفقة المرتهن متعلقة بيمن (¬1) العبد لا (بدمته الرهن) (¬2) فيستوفي من عين العبد فإن فضل من ثمن العبد شيء كان ملكًا للراهن، فإن قصر ثمن العبد عن الإنفاق لم يرجع على الراهن بشيء. أو يكون الإنفاق متعلقًا بذمة الراهن، هذا لا يخلو من قسمين: أحدهما: أن يكون المرتهن إنما أنفق على العبد بأمر الراهن، أو أنفق عليه بغير أمر الراهن ولا إذنه في ذلك. فإن كان أنفق عليه بأمر الراهن، فإن ذلك يكون في ذمة الراهن يتبعه به المرتهن. ولو هلك الراهن لطلبت ذمته بالنفقة, لأنه لَمَّا أمر المرتهنَ بالإنفاق فكانه تسلّف ما أمره بإنفاقه، والسلف متعلق بالذمة. وأما إن كان الإنفاق من المرتهن بغير إذن الراهن، ففيه قولان: ذهب ابن القاسم إلى أنه يتعلق بذمة الراهن، كما لو كان الإنفاق بأمر الراهن. وذهب ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: بعيْن. (¬2) هكذا ولعل الصواب: بذمة الراهن.

أشهب إلى أنه لا يتعلق بذمة الراهن بل بعين الرهن، قياسًا على من أنفق على ضالّة وجدها، فإن الإنفاق يكون في عين الضالة تباع فيه، وإن قصر ثمنها على الإنفاق لم يُتبَع به الراهن (¬1). وفرق ابن القاسم بينهما لأجل أن الضالة لم يكن من ربها إذن في الإنفاق ولا فعل يدل على الإذن، فلهذا تعلق الإنفاق بعينها لا بذمة ربها، وأما الرهن فإن الراهن لما دفعه للمرتهن، وقد علم أنه لا بد من النفقة عليه، وهي واجبة عليه دون المرتهن، صار ذلك كالإذن للمرتهن في الإنفاق. ولو كان رب الرهن غائبًا فأنفق علبه المرتهن (فأخذ يتبعه) (¬2) بالإنفاق. وقال بعض الأشياخ يتبعه بالإنفاق بالغًا ما بلغ. ولو زاد الإنفاق على ثمن الرهن إذا بيع لكان من حق المرتهن أن يطلب بما بقي من الإنفاق. وخالف في ذلك بعضْ الأشياخ، ورأى أنْ لا مطالبة له على الراهن بما زاد من الإنفاق على ثمن الرهن، وكأنه قدّر أن من سوء النظر للغائب أن يُنفق على عبده أكثر من ثمنه، بل تحسين النظر له أن يُدْفَع إلى القاضي فيبيع العبد لئلا تتعلق بذمة مالِكه زيادةٌ على ثمنه. وكأن الراهنَ إنما أَذِن له في الإنفاق ما لم يجاوز قيمة العبد. وأما الكلام على الوجه الثاني وهو كون المنفق أوْلى بهذا الرهن من غرماء الراهن إن فُلِس الراهن فإنه قد وقع في المدونة، في هذا الوجه، كلام وقع فيه اضطراب بين الأشياخ. وذلك أنه إذا قال الراهن للمرتهن: أنفقْ على الرهن، ولم يَزِدْ على هذا اللفظ شيئًا، فإن المرتَهن لكون نفقته في ذمة الراهن، ولا يكون أحق بما فضل عن دينه الذي أحدثه ابراهن من غرماء الراهن. وإن كان زاد على هذا اللفظ زيادةً، وهي التصريح يكون الرهن مرهونًا ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: صاحبُها. (¬2) هكذا ولعل الصواب: فإنّه لا يتبعه.

بالإنفاق، كما هو مرهون بالدين، فقال الراهن للمرتهن: أنفق على الرهن، والرهن رهن بنفقتك، فإنه يكون أحق من غرماء الراهن بجميع الرهن حتى يستوفيَ دينه، ثم يستوفيَ نفقته. فما فضل بعد ذلك للغرماء. وكأنه تسلّف مالًا ينفقه على العبد ودُفِع العبد به رهنًا، أو ما فضل عن الدين الذي أخذ المرتهنُ الرهنَ به. وإن لم تكن الزيادة بهذا اللفظ ولكن قال: انفق على الرهن على أنّ نفقتك في الرهن، فإنه قال في المدونة، فمن أنفق على الرهن، بأمر الراهن، أنَّ له حبْسَه بالإنفاق. ولا يكون أحقَّ به منْ الغرماء إذا قال. أنفق ونفقتك في الرهن إلى (¬1) أن يقول: أنفق والرهن رهن بنفقتك. وظاهر الكتاب على ما نقلناه: معناه التفرقة بين اللفظين. وذهب ابن شبلون من الأشياخ المتقدمين، إلى التفرقة بين اللفظين، فلا يكون أحق إذا قال: أنفق ونفقتك في الرهن، ويكون أحقَّ إذا قال أنفق والرهن رهن بنفقتك. وإلى هذا مال بعض أشياخي، ورأى أن معنى هذا اللفظ وهو قوله: أنفق ونفقتك في الرهن أن ذلك (¬2) إمساكه وبيعه لتأخذ إنفاقك من ثمنه، فهو كمن عليه دين فدفع إلى من له الدين سلعة ليبيعها ويقبض من ثمنها. ولو قام الغرماء قبل بيعها لم يكن أحقَّ منهم بثمنها، لأن (دينه من جنس ثمنها لم يضرّ) (¬3) في يديه جنس دينه، ولا يكون أحق من الغرماء حتى يصبر في يديه جنس دينه. لكن لو صرح في هذا القسم بأن يقول: ولا يكون الإنفاق دينًا في ذمتي، لكان ها هنا أحق من الغرماء, لأن النفقة تعلقت بعين الرهن لا بالذمة. وذهب بعض الأشياخ إلى أنه لا فرق بين اللفظين، وحَمَل اللفظ في المدونة على أن فيه تقدمًا تأخيرًا، وإن مراده أنه أحق، سواء قال له: أنفق ¬

_ (¬1) هكذا ولعل الصواب: إلا. (¬2) هكذا ولعل الصواب: لك. (¬3) هكذا ولعل الصواب: دينه [ليس] من جنس ثمنها [فـ] لَمْ يصر.

ونفقتك في الرهن، أو قال له: أنفق والرهن رهن بنفقك، فإن معنى العبارتين أن الإنفاق يكون به الرهن رهنًا كما هو رهن بالدين. وقد وقع في المجموعة والموازية ما يؤكد تأويل هؤلاء، فقال: إن الإنفاق متعلق بذمة الراهق، أنفق بأمره أو بغير أمره، وللمرتهن حيسه حتى يأخذ إنفاقه، ولا يكون أحق من الغرماء إلا أن يقول: أنفق والرهن رهن ينفعك، بخلاف الضالة، لكونه قادرًا في الرهن على أن يرفع إلى الحاكم ليبيع الرهن، أو يقول له: أنفق ونفقتك في الرهن، فيكون أحق به من الغرماء. ولو كان الإنفاق بغير إذن الراهن فقد قدمنا أن أشهب يراه كالضالة يكون أحق بما أنفق على الضالة من صاحبها, ولا يكون عند ابن القاسم أحق بذلك ميت الغرماء, لأنا قدمنا عنه أنه يرى أن الإنفاق متعلق بذمة الراهن لا بعين الرهن، فلا يكون أحق من الغرماء. وذكر في المدونة أن له حبس الرهن إذا كان الإنفاق بأمر الراهن حتى يستوفي نفقته، ولم يصرح بذلك إذا كان الإنفاق بغير أمر الراهن وكأنه سلَف استقرّ في ذمته لا بإذن في حبْس شيء من ماله، وإن كان بأمْره فكأنه أذن له في حبس الرهن حتى يستوفي نفقته، كما مثلناه بمن عليه دين فقال لمن له الدين: خذ هذه السلعة فبعها واستوف دينك من ثمنها، فإنه، وإن كان له حبسها, ولا يكون أحق من الغرماء بها قبل بيعها. وظاهر الموازية والمجموعة أنّ له حبس الرهن بما أنفق ولم يشترط كون الإنفاق بإذن الراهن. ومما يلحق بما نحن فيه أن من ارتهن زرعًا، وامتنع المرتهن من الإنفاق على بئره، فلما انقطع ماؤها، وتهدمت، وتسفف الراهن مالًا أنفقه على البئر حتى يسقي، ولو لم يسق لهلك الزرع: أن المسلفَ للمال أحق بالزرع ممن هو في يديه رهن, لأنه بماله حي الزرع، ولولا ماله الذي أسلفه لم يحصل للمرتهن من الزرع منفعة. وحمل بعض الأشياخ هذه الرواية على أن المراد بها أن المسلف لهذا المال أخبر الذي أسلفه أنه ينفق ما تسلفه منه على إحياء هذا الزرع، ويكون الزرع بما تسلف رهنًا، وهذا يلاحظ ما نحن فيه من النفقة على العبد إنما حي بالإنفاق عليه، فلهذا أوردنا هذه الرواية.

والجواب عن السؤال السادس (¬1) أن يقال: ذكر القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب ها هنا حكم الإقرار بقبض الرهن، وكان الترتيب عندنا يقتضي أن يلحقه بالفصل المشتمل على أحكام الحيازة، ولكن أخرناه إلى حيث آخره. وهي مسألة اختلاف بين فقهاء الأمصار. فمذهبنا أن الحوز لا يكفي فيه ولا يثبت حكمه بمجرد إقرار الراهن أن المرتهن قد حازه عنه، وتصديق المرتهن له في ذلك إذا كان مما يُنْقل ويفتقر إلى مشاهدة فراغه من منافع الراهن، على حسب ما قدمنا تفصيله. وإنما ذهبنا إلى ذلك لأجل أن الأصل أخذ كل مُقرّ من الحائز في الأمر بإقراره في حقوق الخلق، ما لم يتعلق بإقراره مضرةٌ غير ميق أقرّ له بالحق، ويكون الإقرار مبطلًا لحق رجل غير من أقرّ له. وهاهنا لو اقتصرنا على مجرد إقرار الراهن بالقبض لأدّى ذلك إلى الاستغناء عن الإقباض ومعاينة الحوز. وقد قدمنا فيما سلف أن العلة في افتقار الرهن والهبات إلى الحيازات تصوّرُ التهمة في إبطال حقوق غير المقرّ (¬2) بأن يُؤْثِر غريمًا على سواه من الغرماء فيقول: كنتْ رهنته كذا وكذا، ولا يحاصّه الغرماء فيه، ويكون إقراره مبطلًا لحقهم في الديون التي لهم عليه. وهذا يقتضي اشتراط ما يدفع هذه التهمة وما ذلك إلا معاينة الحيازة وشهادة البيّنة بها. وأصل الشافعي اطّراح اتّهام الناس. والاضراب عن حماية الذرائع جَعَل مجردَ الإقرار كافيًا في صحة الحيازة، تغليبًا لحقّ المقرّ له، وإعراضًا عما يُتَّهم به في حق من لم يُقرّ له. فإن قيل: هلا فصّلتم القول في هذا كما فصّلتموه في إقرار المريض ¬

_ (¬1) هذا السؤال لم يذكر في تعداد الأسئلة ويمكن صياغته: ما حكم الإقرار بقبض الرهن؟ (¬2) هكذا, ولعل الصواب: المقرّ [له].

لوارث دون وارث، فأمضيتم الإقرار إذا تبيّنَ ارتفاع التهمة، مثلُ أن يقرّ لابن عمّه بدين في مرضه الذي مات فيه، وله ولد صغير، فإنّ هذا لم يختلف المذهب في صحة إقراره، ولو أضَرَّ الإقرار بولده (قبل المريض على طرف الحيازة وصار إلى الله سبحانه) (¬1) وهذه قرينة تدل على ارتفاع التهم، بخلاف الحي الصحيح ولهذا قبل مالك قول الجريح: إن فلانا هو جارحي، لما كان صائريم إلى الآخرة. ولا يتهم في قتل مسلم ظلمًا بخلاف دعواه في حال الصحة. وأيضًا فإن الإقرار بالرهن إقرار بعين قد استحقها الغرماء، وتعلق حقهم فيها، فليس له إبطال ما تعين فيه حقهم، وتعين حقهم فيه عند الفلس قد تأكّد حتى صار الغرماء مالكين لعين هذا الذي أقرّ به الميت مع كون ثبوت الدين في ذمة من أقرّ بهذا الرهن وإنه حوَّزه ثبَّت الدينَ، ولا يمنع من ثبوته في ذمته إقراره بأنه قد حوز الرهن، بخلاف الوارث الذي لم يثبت له الأصل الذي أقرّ به. وقد اختلف قول مالك في إقرار من أحاط الدين بماله، هل يجوز أم لا؟ مع أن في إمضائه إبطال حق من سواه من الغرماء. لكن يُضعِف التهمة كونُه خلّف في ذمته دينًا يوجب عليه مطالبته لمن (¬2) أقرّ له بعد إحاطة الدين بماله. فلو رددناه الآن لم نرده في المستقبل إذا أيسر المقرّ. هذا قصارى ما يظهر لي في التفرقة بين هذه الأصول المشهورة. والجواب عن السؤال السابع (¬3) أن يقال: أما الدين إذا أُخِذ دفعة واحدة على وجه واحد ودفع آخذه رهنًا به، فإن ¬

_ (¬1) هكذا، والكلام غير واضح (¬2) هكذا, ولعل الصواب: مِمَنْ. (¬3) هذا السؤال لم يذكر في تعداد الأسئلة، ويمكن صياغته: ما حكم الرهن إذا قبض المرتهن بعض دينه؟

كان (¬1) جزء من الدين متعلق بجميع أجزاء الرهن، حتى لو تسلّف مائة دينار واشترى بها سلعة، ودفع المشتري أو السلف (¬2) رهنًا بهذه المائة دينار، ثم قضى منها تسعة وتسعين دينارًا، فإنه لا يمكّن من أخذ رهنه ولا من أخذ شيء منه، ولو قل حتى يقضي الدينار الذي بقي عليه. وكان الأصل يسبق إلى النفس فيه أنه متى قضى جزءًا من الدين بطل ما يقابله من الرهن، ولكن المذهب على ما حكيناه. وبعض الأشياخ يرى أنه إنما عَدَل عن الأصل في هذا العادةُ جرتْ، واطراد الأمر في المتراهنين أن الراهن لا يأخذ من رهنه شيئًا إلا بعد كمال الدين الذي عليه. ويمكن عندي أن يُلتفَت في هذا إلى طريقة أخرى سوى العادة، وهي أن الراهن لو كان كلّما قضى من الدين جزءًا استردّ من الرهن جزءًا في مقابلته، لأثّر هذا في الحيازة. أمّا على القول بأن رهن الجزء المشاع لا يصح مع بقاء يد الراهن على جزء آخر، فإن هذا يؤكد ما حكيناه عن المذهب من كون الراهن يُمنع من أخذ شيء من الرهن، لئلا يفسُد الحوزُ، على (¬3) القول الآخر: إن ذلك لا يفسد الحوز وهو نافذ (¬4)، يلتفت إلى العادة التي أشار إليها بعض الأشياخ، وإلى المشقة في تبعيض الرهن حينًا بعد حين. وأما لو أخذ الرهن بديون شتى، فإن المشهور من المذهب ما قلنا أيضًا من كون الرهن لا يؤخذ منه شيء إلا بعد قضاء جميعها. وقد حكى ابن شعبان أنه يستردّ من الرهن بقدر الدين الذي قضى، استمساكًا بالأصل الذي أشرنا إليه. وقد اشتهر في المذهب فيمن أسلف رجلًا مائة دينار بغير رهن ثم أسلفه بعد ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: كُلَّ (¬2) هكذا, ولعل الصواب: المتسَلّف. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: [و] على ... (¬4) هكذا, ولعل الصواب: [و] يلتفت.

ذلك مائة أخرى على أن يدفع رهنًا بالمائة الثانية والمائة الأولى، فإن ذلك لا يجوز لكونه سلفًا جرّ منفعة، وإنما أسلف المائة الثانية لانتفاعه بأنه تولق في المائة الأولى بالرهن بعد أن كانت بغير رهن. فأما المائة الأولى فتبقى على ما كان (¬1) عليه بغير رهن, لأنه إنما دفع الرهن بها لمنفعته بالمائة الثانية. فإذا أبطلنا السلف في المائة الثانية ومنعْناه لم يصح في المائة الأولى رهنًا. لكن اختلف قول اين القاسم في هذا الرهن هل يبقى جميعهُ رهنًا بالمائة الثانية حتى يردها قابضها، أو يُفَضّ الرهن على المائتين جميعًا، فيبطل نصفه وهو ما قابل المائة الأولى، ويبقى نصفه رهنًا بالمائة الثانية. وهكذا ذكر في المدونة، وذكر في غيرها أن جميع الرهن يبقى رهنًا بالمائة الثانية. وهذا الذي اختار ابن المواز في كتابه بعد أن ذكر المذهب الآخر، وأشار إلى أن ذلك كأخذه رهنًا بعبدين، فاستُحِق أحدهما أو رده أحدٌ بعيب فإن جميع العبد (¬2) يبقر رهنًا بالعبد الآخر. وبعض أشياخي حاول أخذ الخلاف فيما ذكرناه من استحقاق أحد العبدين، ويراه جاريًا على القولين المتقدمين. وكذلك لو تزوج امرأة بمائة دينار، ثم طلقها قبل الدخول وقد كان دفع إليها رهنًا بالمائة، فسقط بالطلاق نصفها وهي الخمسون دينارًا، فإن الرهن يجري على القولين المذكورين، هل يبقى جميعه رهنًا بالخمسين الثانية بعد الطلاق، أو يسقطى نصف الرهن بسقوط نصف الصداق؟ وهذا الذي أجراه على القولين ينبغي، عندي، أن يلتفت إلى الاختلاف المشهور في الصداق: هل وجب كله بالعقد، فيحسن ها هنا بقاء جميع الرهن رهنًا بالخمسين الثانية، وإن قلنا: إن نصفه مترقَّب، ولا يثبت ويستقر إلا بالدخول حسن ها هنا الالتفات إلى الخلاف الذي ذكرناه لاختلاف حكم ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: كانت. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: الدين.

الخمسين الأولى والخمسين الثانية كما اختلف الحكم فيمن أسلف مائة بلا رهن، ثم أسلف مائة أخرى وأخذ رهنًا بالمائتين، لكون حكم المائتين قد اختلف، وقد قالوا: لو كانت الزوجة أمة، فأخذ السيد صداقها فأكله، ثم أعمقها قبل الدخول بها, ولا مال له، فإن عتقها ماضٍ، وهذا بناء على أن الصداق وجب كله بالعقد، فكان الزوج إنما وجب له الرجوع بنصف الصداق بعد أن نفذ العتق لا يؤثر في العتق. ولو قيل: إن نصفه مترقب لأمكن أن يقال: فإن سقوط نصف الصداق، ووجوب ارتجاعه من السيد يؤثّر، إلا أن يقال بأن الزوج لم يكن قادرًا على رد العتق حين أوقعه السيد، على كل مذهب، في الصداق هل جميعه مترقب أو نصفه، فإذا لم يكن قادرًا على رد العتق حين وقوعه، صار إيقاعه الطلاق مع علمه بذلك كالراضي بإجازة العتق وإتْباع ذمة السيد، وهذا يزاد بسطًا في موضعه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الثامن (¬1) أن يقال: قد تقدم ذكرنا للحديث الذي نهي فيه عن غلق الرهن، وأن مالكًا في الموطأ رواه عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يغلق الرهن" (¬2) والمرادُ بهذا النهي. وهذا الحديث، وإن كان مرسلًا، فقد أسند في غيره بزيادة في لفظه، فقال: عن ابن المسيب عن أبي هريرة وإنّ تأوُّل هذا الحديث مما تنازع فيه العلماء. فأمّا مالك فإنه بسط في موطئه بأن يرهن رجل عبَد رجل رهنًا في دين يكون له عليه إلى أجل على أن الراهن إنْ لم يأت بفكاك الرهن ويقضي الدينَ عند الأجل وإلا كان الرهن يتملكه المرتهن بالدين الذي له على الراهن. ¬

_ (¬1) هذا السؤال لم يذكر في تعداد الأسئلة، ويمكن صياغته: ما المراد بغلق الرهن. (¬2) سبق تخريجه.

وهذا الذي فسره به لا شك في أنْ الأصول تقتضي تحريمه لأن المرتهن الذي أخذ الرهن عن دنانير أسلفها أو عن ثمن سلعة باعها بهذا الشرط لا يدري ما الذي يحصل له: هل دينه يُعطاه عند حلول الأجل، فيردّ الرهن إلى راهنه، أو يتخلف الراهن عن قضاء الدين عند الأجل، ويكون الرهن مِلكًا للمرتهن وعِوَض الدين الذي وجب له على الراهن من سلف أو ثمن سلعة لا يدري هل يكون الدين الذي خرج من يده سلفًا عند قابضه أو ثمنًا للرهن الذي دفعه الراهن، وهذا لاخفاء بتحريمه لما فيه من الغرر، وكون ما دفعه تارة يكون سلفًا وتارة يكون بيعًا. وفيه معنى آخر من فسخ الدين في الدين لأنه كمن أخذ عن دين سلعة لم يتعجل تملكها وقبضها. وأما أبو عبيد فإنه ذكر أن فيه تأويلين: أحدهما أن الجاهلية كانت إذا لم يأت بفكاك الرهن عند أجله يملك الرهن، وهذا أيضًا هو تأويل مالك، ولكن جَعك هذا الفعل يكون مشترَطًا، وأبو عبيد جعله عادة في الجاهلية من غير أشتراط. والتأويل الثاني الذي ذكره أبو عبيد أن المراد أن الدين لا يذهب ولا يتلف الرهن كما قال أبو حنيفة أن الراهن إذا ضاع ذهب الدين، على التفصيل الذي حكيناه عنه فيما سلف. وقال الشافعي تأويله أن الرهن لا يكون على صفة لا يمكن فكاكه، ولكنهم استشهدوا بقول قائلهم: وفارَقتْكَ برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأضحى الرهن قد غلِقًا والمراد: أن الرهن ذهب بغير بدل، وكذا قلب هذا الشاعر أخذتْه وذهبتْ به من غير بدل منه، أو أخذته أخذًا لا يمكن انتزاع القلب منها، فأوقع هذا وتسلف رجل من رجل مالًا إلى أجل أو اشترى منه سلعة بثمن إلى أجل على أن

أعطاه رهنًا إن لم يفتكه منه عند الأجل وإلا ملك الرهن من هو في يديه ملكًا مؤبدًا، فإن هذا يفسخ إذا وقع فإن كان الدين سلفًا فسخ هذا السلف ورد الرهن، ورد المتسلف ما تسلف إلى الأجل الذي تسلف إليه, لأن دافع السلف أمنًا (¬1) رضي بالتأخير بشرط أن يأخذ ثقة بدينه، فإذا بطلت هذه الوثيقة لم يلزمه بقاء الدين إلى أجله من غير ثقة تبقى في يديه يأخذه منها دينه. وإذا كان الدين الذي أخذ ثمن سلعة باعها ودفع بثمنها رهنًا بهذا الشرط، فإن البيع ينفسخ أيضًا لَأن بائع السلعة أخرجها من يده ولا يرى (¬2) ما أخذه عوض سلعته هل الثمن الذي باعها به أو السلعة المرتهنة. وإذا فسخ الرهن وفسخ البيع رجع إلى كل واحد ما كان على ملكه، وله حبسمعتى يرجع إليه ما استحقه من الدين على الراهن، وهو السلعة، إن لم تفت، أو قيمتها إن فاتت. ويكون بذلك أحقَّ من الغرماء إن فلّس دافع الرهن. وهذا إذا كان اشتراط هذا الرهن حين عقد السلف أو حين عقد البيع لأن دافع هذا الدين الذي هو السلف أن (¬3) السلعة المبيعة لم يخرجه من يده إلا بعد ثقته برهن حصل عنده، فلهذا جعلناه أحق به من غيره من غرماء الراهن. وأما لو كان دفع هذا الرهن تطوعًا من الراهن من غير شرط كان في أصل السلف وفي أصل البيع، فإنه إنما ينفسخ الرهن خاصّة ويبقى السلف صحيحًا لا يطالب إلى أجله. وكذلك ثمن السلعة يبقى صحيحًا لا مطالبة به إلا إلى أجله. وإنما وقع الفسخ في الرهن خاصة لأن دافعه تطوع به على وجه لا يجوز، وهو أنه دفع هذا الرهن على أنه يرجع إليه بعيْنه إن أفتكه، أو يُملَك عليه ملكًا مَؤبَّدًا إن لم يفتكه عوضًا عما عليه من الدين. وإنما لم يكن أحق بهذا الرهن من الغرماء عند الفلس أو الموت لأنه لم ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: إنما. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: يدري. (¬3) هكذا, ولعل الصو اب: أوْ.

يُخرِج ما أخرج من يده بسبب هذا الرهن ولا لثقته به فيكون أحق به من غيره. وهكذا قال ابن حبيب في الرهبان الفاسدة: إنها إذا كانت بعد العقود لا يكون قابضها أحق بها من الغرماء لأنه لم يخرج من يده بسببها شيئًا، وقد قال في المدونة، في كتاب الحمالة، فيمن دفع لرجل مافة دينار إلى شهر من غير رهن أخده، ثم دفع إليه رهنًا على أن يؤخره بها شهرًا آخر: إن ذلك لا يجوز, لأن التأخير سلف، والتطوع بالرهن منفعة حصلت لمؤخر الدين، وسلف جر منفعة لا يجوز. وقال غيره: إنه لا يكون أحق بهذا الرهن من الغرماء. ذكر ذلك قولًا مطلقًا. وقال في الموازية، قولًا مفيدًا: إنه لا يكون أحق به من الغرماء إلا أن يدخل في الشهر الثاني الذي أخده إليه بسبب الرهن فيكون أحْق بالرهن حينئذ، لأنه كمن أخرج من يده شيئًا بسبب الرهن. وأشار بعض الأشياخ إلى أن هذا الذي في الموازية خلافٌ لما في المدونة، وأن الذي في الموازية أوْلى للعلة التي ذكرناها. واعلم أن هذا الرهن، إن كان فاسدًا، فإنه يجري في الضمان مجرى الرهبان "الصحيحة" فيضمنه قابضه (¬1) أن يجل الأجل، إن كان مما يغاب عليه، ولم تقم بينة بضياعه، على أصل ابن القاسم، ولا يضمنه إذا قامت البينة، وكذلك لا يضمنه إذا كان مما لا يغاب عليه، وإنما هذا لأنه قبل الأجل مقبوض مَحوز على جهة الرهن، لا على جهة الملك، فإذا حل الأجلِ تغيّر القصد بالحوز والنية فيه، فحازه قابضه على أنه ملك له، وثمنه الذي دَفع وقبضه على جهة الملك، وإن كان فاسدًا، فيضمنه حينئذ، كان مما يغاب عليه أوْ لا يغاب عليه، شهدت بتلفه بينة أو لم تشهد. ويجري ذلك مجرى البيوع إذا قُبِضت. هذا المشهور من المذهب. وإن فات هذا الرهن بعد حلول الأجل غرم قيمته يوم حل الأجل، لأنه حينئذ قابض له، وتقويم السلعة المبيعة بيعًا فاسدًا إنما يعتبر فيه يوم القبض. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب إضافة: [إلى] أن ...

هذا المشهور من المذهب في هذه المسألة. وقد ذكر إسماعيل القاضي في المبسوط عن ابن محمد الحكم أنه قال: إنما يضمن هذا الرهنَ قابضُه بعد الأجل يوم أفاته، بإعتاق في العبد، أو بناء في الربع، أو هدم، فيومئذ يُعتبر فيه القيمة. ورآه بخلاف أحكام البيوع، في المشهور من المذهب عندنا، وما ذاك إلا أن أصل قبضه على معنى الرهبان لا على معنى البياعات الفاسدة. وقد علم أنه قبل حلول الأجل إنما يُضمن ضمان الرهبان، فكذلك بعد الأجل لا تجب فيه القيمة إلا حين أفاته قابضه، فيصير كالرهن إنما يغرم قيمة المرتهَن يوم أفاته، فكأنه رأى أن تبديل النية وتغيُّرها فيما قبْل الأجل، وبعد الأجل لا يجري مجرى القبض الحسّي في البياعات الفاسدة. هذا الذي يمكن عندي أن يُوَجَّهَ به ما قال. وقد ذكر ابن المواز أن المشهور من المذهب في هذه المسألة أنه يُضمن بقيمته يوم حل الأجل. قال: وقد قيل: يضمن قيمته يوم الفوت. ولكنه لم يصرح بحقيقة الفوت، هل من فعل قابض هذا الرهن إذا هو فوَّت الرهن (¬1) من قبل الله سبحانه. فإن كان أراد أن الفوت من قبل قابض هذا الرهن، فهو الذي حكيناه عن المبسوط. وقد ذكر ابن عبدوس عن ابن عبد الحكم أنه يغرم قيمته يوم الفوت، وقيل: يوم حل الأجل. فإن كان هذا الرهن المشترَط فيه هذا الشرط الفاسد موقوفًا على يد عدل، وحل الأجل وهو في يديه، فإن المذهب على قولين، هل يضمنه دافع الدين يوم حل الأجل أم لا؟ فكأن من رأى أنه لا يضمنه دافع الدين عند حلول الأجل إذا كان الرهن في يد عدل قدّر أنه لم يحصل لدافع الدين إلا إذنُ مالك الرهن لدافع الدين بقبضه من يد العدل، وإذنُه كلا إذن لمّا أَذِن بما لا يجوز، وأمر بما نهى الله سبحانه عنه، فصار دافع الدين لم يحصل منه القبض، وإنما حصل منه التمكين من القبض، وهو تمكين لا يسوغ، وما لا يسوغ فكالعدم، فلهذا لا يضمنه. بخلاف إذا حل ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب إضافة: [أو] مِنْ قِبَل ...

الأجل، وهو في يده، فإن تجدّد نية أخرى تصيّره كمن استأنف قبضا لمبيع بيعًا فاسدًا، ولهذا قال بعض الأشياخ: إن مذهب ابن القاسم في البيع الفاسد أن مشتريه لا يضمنه ما دام في يد البائع، ولو كان البائع مكّنه منه فإن تمكينه لا حكم له لما كان منهيًّا عنه. فلا يلزمه على هذا أن يقول في هذه المسألة: إن الرهن إذا كان على يد عدل فإنه لا يضمنه المرتهن بحلول الأجل, لأن الذي حكيناه عن ابن القاسم، في تمكين البائع سلعتَه بيعًا فاسدًا، إنما حصل منه التمكين والسلعة في يد بائعها، فكان بائعها أحق بضمانها، وفي مسألة الرهن إذا كان على يد عدل مكّن الراهن من الرهن المبيع بيعًا فاسدًا، فيحسن ها هنا أن يقول: إن مشتريه شراء فاسدًا يضمنه بالتمكين، لما لم يكن هذا التمكن (¬1) منه في يد بائعه، وكأن الأجل، لما حل، صار هذا العدل وكيلًا للمرتهن خاصة، ويد الوكيل كيد موكّله، ولو قبضه مشتريه لضمنه، وكانت قيمته يوم القبض، وكذلك إذا قبضه وكيله. قال الفقيه أبو عبد الوهاب رحمه تعالى ورضي عنه: وإذا حل الحق، (¬2) وتعذر أخذه من الغريم باعه الوكيل على المرتهن، واستوفى المرتهن حقه من ثمنه، من كير حاجة إلى إذن حاكم. ويجوز أن يكون المرتهن وكيلًا في بيعه، وليس للراهن فسخ الوكالة. فإن لم يكن له وكيل (¬3) فإن المرتهن يُثبِت حقَّه ورهنه (¬4) عند الحاكم. قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى ورضي عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة، منها أن يقال: ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: المُتَمَكَّنُ. (¬2) في المغربية: أجَله. (¬3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وكيلًا. (¬4) في المغربية: يثبت حقه عند الحاكم وهنه. وفي الغاني: ويرهنه.

1 - ما حكم وكالة الراهن المرتهِن على بيع الرهن أو وكالته لعدلٍ وُقف الرهن على يديه؟ 2 - وهل لكون العهدة على العدل إذا باعه؟ 3 - وممّن يكون ضمان المشترَى إذا تلف في يد العدل؟ 4 - وهل يجوز اشتراط منفعة الرهن؟ 5 - ما هو الحكم في تسليم الرهن لأحدهما قبل المفاصلة (¬1). فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: قد تقرر في أصل الشرع أن مِلك الإنسان لا يباع عليه إلا بعد ثبوت سبب يوجب بيعَه عليه بغير اختياره. والذي تعلق حقه بالرهن توثُّقًا به ليستوفي دينَه منه لم يمْلِك بذلك عيْن الرهن فيكونَ له بيعه، وإنما ملك استيفاء دينه، وبالإجماع إذا فكّ الراهن الرهن، ودفع الدين الذي عليه لمن استحق التوثق بالرهن، فإنه يأخذ رهنه، ولا يمْنع منه. فإذا كان الأمر كذلك، وحلّ أجل الدين، وكان الراهن حاضرًا ولم يوكل أحدًا بحكم بيعه، فلا خفاء بأن مطالعته واستئذانه في البيع واجب، فهو حق من حقوقه لجواز أن يَشخ على خروج الرهن من يديه ويَدْفع مِنْ عنده ما هو رهن به، أو يتسلف عليه من رجل آخر ما يفك الرهن به، فإن طالعه على ذلك، ولم يُفكَّ الرهن أو أظهر العجز عن فكه، أمِر ببيعه وهو بيد المرتهن، أو بيد العدل، ويمنع من رجوعه إليه. فإن لذَ وامتنع باعه القاضي عليه. ولم (¬2) يكن حاضرًا لافتقر من بيده الرهن إلى مطالعة الحاكم، إلا أن لكون مطالعة الحاكم مما يتعذر ويشُق فإنه إنْ تولّى البيع، وأبدى العذر، نفذ بيعه، على ظاهر ما قال أشهب. ولكن المختار أن يحضر ¬

_ (¬1) سقط نص السؤال: وهذا ما يمكن فهمه من الجواب المطول. (¬2) هكذا, ولعل الصواب إضافة: [لو] لم ...

لذلك من العدول مما نفى (¬1) عنه تهمة الخيانة في الثمن، أو النقص في الاجتهاد. وأسقط أشهب، فيما رواه عن مالك، عنه المطالعة في رهن يخشى فساده إن أبْقي للمطالعة. فإن وكّل الراهن وكيلًا على البيع في أصل الرهن، فلا يخلو أن يكون هذا الوكيل هو العدل الذي تراضيا بوقف الرهن على يديه، أو هو المرتهن نفسه فإن كان الوكيل على بيع الرهن هو العدل الموقوف ذلك على يديه، فإن ذلك جائز عند فقهاء الأمصار. وإن كان الوكيل هو المرتهن، فقال ابن القصار وغيره من البغداديين: يجوز ذلك عند مالك رضي الله عنه، وإليه صار غيره من البغداديين، وهو مذهب أبي حنيفة. وذهب الشافعي إلى منع كون المرتهن وكيلًا على البيع، ولم يُجز اشتراط ذلك. وقد روي عن مالك أنه لم يُبح للمرتهن بيع هذا الرهن الذي جعل بيعه إليه إلا بعد مطالعة الحاكم إن لم يرض الراهن بالوفاء بالشرط، وامتنع من ذلك، ولم يفرق بين كون الرهن له قدْر وبال، أو كونه حقيرًا لا قدر له ولا بال، ولا كونه بيد المرتهن أو بيد عدل. لكنه، في هذه الرواية, رأى أنه، وإن كان منهيًا عن ذلك، فإنه إذا باعه بنفسه من غير مطالعة وأخذ بموجب الشرط نُفِّذ بيعه. ورُوي ذلك عن ابن القاسم أيضًا أد ذلك إنما يجوز له في الرهبان المحتقَرة التي لا قدر لها ولا بال، وأمّا ما له قدر وبال من الرهبان فإنه يفتقر في بيعه إلى استئذان الحاكم وأمره به، فإن لم يفعل فإن بيعه يفسخ ما لم يفُتْ. واختلف قول ابن القاسم في فسخه، كاختلاف قول غيره، كما حكاه عنه، لكونه انفرد بأن قال عن نفسه: ما لم يفت، فإن فات كان فيه الأكثر من الثمن أو القيمة. وقد ذكرنا أن البغداديين من أصحابنا أجازوا له الأخذ بهذا الشرط، وأن ينتفع من غير مطالعة، فصار المحتقَر من الرهبان يُنفَّذ البيع فيه دون اعتبار الفوات بغير خلاف عندنا، وإنما خالف فيه الشافعي، وما كان له قدر وبال من ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: ما يَنْفي.

الرهبان ففيه قولان: هل يفوت بالعقد (¬1) ولا يفوت بمجرد العقد، (ويعتبر فيه الفوات مع المرتهن عن ذلك ابتداء إلا ما حكيناه عن أصحابنا البغداديين (¬2) ورأيت ابن القصار ما رواه عن مالك من جواز اشتراط كون المرتهن وكيلًا على البيع، على أنه إنما نهي عن ذلك استحبابًا، وقد ذكرنا عن الشافعي أن ظاهر مذهبه منع ذلك إيجابًا. ولعل ابن القصار لما رأى قول مالك: إنه يفتقر المرتهن إلى مطالعة الحاكم، فإن لم يفعل نفذ بيعه، اعتقد من هذا أن نفوذ البيع يدل على أن يمينه (¬3) على جهة الاستحباب. ويمكن، عندي، أن يكون إنما نفذ البيع بمجرد العقد مراعاة للخلاف. وقد حكينا عن أبي حنيفة أنه يجيز ذلك وقد وقع في كتاب البيوع النهي عن عقود، وأمضاها إذا عقدت، كما تقدم ذكره هناك. وإذا تلخص ما ذكرناه من المذهب في جواز هذا الاشتراط أو النهي عنه، فهل للموكل أن يُسقط هذه الوكالة، ويعزل وكيله عنها؟ ذكر ابن القصار، فيمن وكل العدل الموقوف بيده الرهن على بيعه أن ليس ذلك من حقه، وذكر أنه رأى إسماعيل القاضي يشير إلى ذلك. وبعض أشياخي يرى أن البغداديين المجيزين لهذه الوكالة يمنعون الراهن من عزلة الوكيل، وأن مقتضى مذهب مالك وابن القصار، فيما حكيناه، فيما يمكن الراهن من عزلة هذا الوكيل. وذكر ابن القصار، في الرهن إذا كان موقوفًا على يد عدل، أن الراهن يُمنع من عزلة العدل عن وكالته على بيع الرهن عند الشافعي، وأن إسماعيل القاضي يشير إلى هذا، على حسب ما حكيناه عنه. ولكن ذكر ذلك في العدل، ولا فرق في هذا الحكم بين أن يكون الرهن بيد عدل، واشترط أن للعدل بيعه، أو بيد المرتهن واشترط أن للمرتهن بيعه. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: أو. (¬2) هكذا. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: نهْيَه.

واعلم أن نكتة الخلاف في هذه المسألة راجع إلى أن الأصل جواز هذه الوكالة، والوفاء بالشرط، كما ذكره ابن القصار عن مالك، وعن أبي حنيفة. وإنما عدل الشافعي عن هذا الأصل إلى أنه رأى أن هذه الوكالة للمرتهن تشتمل معنيين متنافرين متضادين، فمعلوم من جهة العادة أن الراهن يحرص على الاستقصاء في بيع الرهن، والمطاولة في الاجتهاد والنداء عليه، والمرتهن يحرص على ضد ذلك مق سرعة بيعه ليأخذ حقه منه. وإذا كانت الوكالة تشتمل على معنيين متنافرين بطلت في نفسها. وقد ذكرنا عنه أنه يبيح هذا الشرط في العدل الموقوف على يديه الرهن: أن يجعل البيع إليه، وما ذاك إلا لزوال هذه العلة في العدل, لأنه لا غرض له في الاستعجال كغرض المرتهن، فلا يتهم في التقصير في غرض الراهن والاجتهاد فيه، بخلاف المرتهن، ألا ترى أن من وكّل وكيلًا على بيع سلعة فإنه يُمنع أن يشتريها لنفسه, لأنه يتُهم على أن يشتريها برخص، وصاحب السلعة يحب أن تباع له غالية، فلما تنافر قصدهما مُنع الوكيل من أن يشتري لنفسه. وأجاب ابن القصار عن هذا بأن الوكيل إذا اشترى لنفسه، وظهر أنه اجتهد وانتفت عنه التهمة، فإن شراعه ماضٍ. وقد تكلما نحن في كتاب الوكالات على حكم شراء الوكيل لنفسه، وانفصل عما رآه الشافعي من تهمة المرتهن في هذا البيع بأن الراهن قد رضي بهذه التهمة. ودخل عليها، فلو وهبه الرهن لم يمنع من ذلك، فكيف إذا اتهمه بأن يحابي نفسه! ذلك أحرى أن يلزم رضاه به. وذكر أن هذا مثلُ قول الناس: رضي الخصمان وأبى القاضي. فهذه النكتة التي عول عليها الشافعي، وإن عوَّل على أن هذه الوكالة فيها خطر لنقلتها (¬1) يكون الراهن لم يأت عند الأجل بعد (¬2) الرهن، فلمن بيده الرهن بيعه والخطر لا يجوز. قيل له: فإن الوصية جائزة بشرط أن يموت ¬

_ (¬1) هكذا. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: بثمن.

الموصي، ولا يُدْرى متى يموت. وأمّا ما حكيناه عن مالك وابن القاسم من افتقار هذا الوكيل إلى مطالعة الحاكم فإن أشهب أشار في روايته عن مالك: أن الوكالة على هذا البيع بمحض الاختيار، كوكالة رجل آخر على بيع سلعة، لكنها لضرورة ما عليه من الدين، فقد يكون الرهن مما يشح عليه. ويكره بيعه، فلا تنبغي المبادرة إلى إخراجه من ملكه إلا بعد مطالعة الحاكم. إلى هذا المعنى أشار غير أشهب، قال: فإن أمد اشتهار السلع في المبيعات تختلف باختلاف أجناسها في مقتضى العادات، وليس أمد بيع الحيوان كأمد بيع الديار، فلهذا افتقر إلى مطالعة الحاكم ليجتهد. وأما تمكين الراهن من عزلة العدل الموقوف بيده الرهن عن بيعه بعد أن جَعل ذلك إليه، فقد ذكرنا ما فيه من الاختلاف، فكأن من جعل للراهن أن يعزل الوكيل عن هذه الوكالة أجرى ذلك على الأصل في أن للموكل أن يعزل وكيله. ومَن منع ها هنا العزلة فكأنه رأى أن هذه الوكالة قد تعلق بها حق لمن استوثق بهذا الرهن، والعزلة عن هذه الوكالة قد تضرّ به، ويحدث عنها مطاولة في قضاء حقه، فلهذا منع من العزلة. والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: مذهبنا أن من باع مال غيره بوكالة مق صاحب المال، أو وصية وصّاه على ذرية، فباع عليهم، أو أب باع علي بنيه الصغار، أو حاكم باع على مفلّس أو يتيم أو غائب، أو أمين حاكم، فإن جميع هؤلاء لا عهدة عليهم عندنا، وعند الشافعي. وأوجب عليهم العهدة أبو حنيفة لكنه استثنى من هؤلاء الحاكمَ وأمينَه لأجل أن إثبات الشيء إذا أدى إلى سقوط وجب أن يُمنع ذلك. والحاكم لو جعلنا علمه عهدة فيما باعه على يتيم أو مفلس، لكان إذا وقع استحقاق أو مطالبة برد الثمن فهو يكون الخصمَ فيها، ويدافع عن نفسه لئلا يضمن، وإذا كان خصمًا لم يجز حكمه وإذا لم يجز حكمه لم ينفذ بيعه وحكمه

بإمضاء البيع، فلهذا استثنى الحاكمَ وأمينه. وعندنا، نحن، أن جميع هؤلاء لو أوجبنا عليهم العهدة والضمان لم يدخل أحد في قبول وصية، أو قبول وكالة، أو بيع على غيره، بحكم الأبوة أو بحكم ولاية القضاء، وكل ما أدّى إلى أصك فساد من أصول الشريعة، وإلحاق ضرر عظيم بالناس، وجب أن يُمنع. وهذا بسطناه في موضعه. وإذا أوجب أبو حنيفة الضمان على من ذكرنا، فإنه إذا وقع استحقاق، ووجب للمشتري الرجوع بالثمن، فعندنا أنه إنما يرجع بالثمن على مالك السلعة التي بيعت عليه. وعند أبي حنيفة أنه يرجع بالثمن على العدل الذي باع الرهن، ويرجع هذا الوكيل البائع للرهن على المرتهن الذي تسلم ثمن هذه السلعة. وهكذا عندنا نحن إنما يجب الرجوع إذا وقع استحقاق على المرتهن الذي قبض ثمن السلعة التي بيعت في دينه. وكذلك الحاكم إذا باع على مفلس، وأخذ غرماؤه ثمن سلعته، ثم وقع استحقاق، فإن الرجوع عندنا وعند أبي حنيفة على الغرماء الذين قبضوا الثمن. وعند الشافعي أن الرجوع في الاستحقاق بثمن السلعة، التي قبض ثمنها الغرماء، على المديان الذي بيعت عليه السلع لأجل الغرماء القابضين للثمن. فنحن وإياه نتفق على أن لا عهدة على من ذكرنا، من وصي أو وكيل أو حاكم، ولكن الرجوع، إذا وقع الاستحقاق، عندنا على من قبض الأثمان، وعنده على من بيعت عليه. وتوجيه ذلك في موضعه. والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: إذا باع العدل الرهن بمقتضى وكالة الراهن له على بيعه إذا حل الأجل، ووجب لمن له الدين استيفاؤه، وضاع الثمن من يديه قيل أن يصير إلى المرتهن، فقد اختلف الناس في ذلك: فعند أبي حنيفة أن ضمان الثمن من المرتهن، وكذلك ضمان الرهن

بنفسه لو تلف قبل بيعه فإن ضمانه من المرتهن، وان كان على يدي عدل, لأنه يرى أن العدل وكيل لمن له الدين، ويد الوكيل كيد موكله، وهو يرى ضمان سائر الرهبان إذا كانت في يد المرتهن، منه، ويد العدل ها هنا كيد المرتهن. وأما الشافعي فإنه يرى أن ضمان هذه الأثمان من الراهن، وكذلك ضمان غير الرهن إذا تلف من الراهن، كما قدمناه في مذهبه، ومذهب أبى حنيفة. ونحن نرى أن ضمان الأثمان التي ضاعت بيد العدل الذي باع الرهن، بحكم وكالته على ذلك من المرتهن، كما ذهب أبو حنيفة إليه، ويرى ضمان الرهبان من الراهن إذا كانت مما يغاب عليها وما قامت بضياعها بينة، على أحد القولين اللذين قدمناهما. فأفا حكم ضمان الرهبان بنفسها، وسبب الخلاف فيها فقد مضى في موضعه مستقصى. وأما الاختلاف، الذي ذكرنا في هذا الثمن إذا ضاع في يد العدل، فنكتة الخلاف فيه ترجع إلى بيع المرتهن وقبضه للثمن، هل للجميع، وكأنه من الراهن الإذنُ له في البيع ويد ها هنا العدل (¬1) كيد الراهن، في الرهن وفي تمكينه، فيكون الضمان منه، أو يقال: إن العدل وكيل للراهن على مجرد العقد خاصة، ووكيل المرتهن على قبض الثمن, لأنه ملك استيفاءه لما صار الرهن ثمنًا، فتكون الأثمان من المرتهن, لأن العدل وكيل للمرتهن عدى قبض الثمن، ويد الوكيل كيد موكله، فيجب أن يكون ضمان الثمن من المرتهن الذي وكل العدل على قبضه؟ والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: ذكر بعض أصحاب الشافعي ضبط الشروط المقارنة لعقد الرهن، فذكر أن منها ما هو من موجبات الرهن شرعًا، ويستغنى عن ذكره، كقوله: أرهنك ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: ويدُ العدلِ ها هنا.

عبدي هذا على أنّ لك إمساكَه حتى أفْتكُّه، أو على (من حقه) (¬1) أن يباع لك إذا حل الأجل وعجزتُ عن القضاء، فذكْرُ هذا لا يفسد الرهن, لأنه أبان فيه حكم الشرع. وهذا مثل الشروط التي من مقتضى البيع: كقوله: أبيعك عبدي على أن التصرف فيه بحق المِلك. إلى غير ذلك مما يوجبه الشرع. وإن اشترط في الرهن شرطًا ليس هو من مقتضى الرهن فلا يخلو أن يكون إسقاطًا لبعض حق المرتهن من الرهن، كقوله: أرهنك إياه على أن لا يباع لك في الدين، وشبه ذلك. فهذا عندهم شرط باطل بغير خلاف. وإذا كان الشرط باطلًا لم يكن الرهن رهنا بغير خلاف عندهم، وذلك لأن الرهن القصد به الاستيثاق بالحق، ولَمّا شرط ألا يباع فقد منع المقصود منه، وأبطل حقيقة الاستيثاق، ولهذا بطل كونه رهنًا. وإذا كان الشرط زيادة في حق المرتهن، فإن الشرط باطل بغير خلاف، وذلك مثل أن يقول: أرهنك هذا الرهن على أنّ لك أن تتولى بيعه بنفسك دون مطالعة الحاكم، أو على أن لك الانتفاع به. فإذا كان هذا الشرط باطلًا، عندهم بغير خلاف، لمخالفة موجب الشرع في الرهبان، فهل يبطل كون هذا المشترَط فيه هذا الشرط رهنًا أم لا؟ عندهم فيه قولان: أحدهما: أنه يبطل كونه رهنًا، لمخالفة مقتضى الشرع، كما أبطل اشتراط نقص حق المرتهن كون الشرط ذلك رهنًا فيه بغير خلاف، أو لا يبطل كونُه، وَإن بطل الشرط، لكون الشرط الذي يُنقص من حق المرتهن أثّر في المقصود من الرهن. وما اشترط فيه زيادة في (¬2) حقوق الرهن فليس بقادح في المقصود الذي هو الاستيثاق، فلهذا لم يُبطل الشرطُ حقيقة الرهن. وإن قلنا ببطلان الشرط إذا كان نقصًا في حق المرتهن بغير خلاف، أو كان فيه زيادة لحق المرتهن على أحد القولين، وقارن ذلك بيعًا، فهل يفسخ ¬

_ (¬1) هكذا، والأوْضح: [أنَّ] من حقك [على العبد]. (¬2) كلمة غامضة تحتمل: في

البيع أم لا؟ عندهم فيه فولان: أحدهما: أن البيع يفسخ لأن الرهن له قسطه من الثمن، فإذا أبطلناه، والذي ينوبه من الثمن مجهول، عاد ثمن السلعة المبيعة مجهولًا، والبيع بثمن مجهول لا يجوز. أو يقال: إن البيع لا يفسخ, لأن الرهن عقدٌ منفردٌ مستقلّ بنفسه، ليس بشرط مشروط في أصل العقد، ففساده لا يسري إلى فساد ما قارنه بالتراضي، ولم يقارنه لإيجاب الشريعة. فهذا الصنف الذي ضبطه الشافعية في أحكام الشروط. وأما نحن، فإنا قدمنا، في الشروط، أن المذهب على قولين، بين ابن القاسم وأشهب، فيمن أخذ رهنًا على أنه يكون رهنًا عنده سنةً، فإذا انقضت السنة خرج عن كونه رهنًا، هل يبطل هذا الشرط ويبقى رهنًا في السنة الثانية، كما قال أشهب، أو يبطل كونه رهنًا في السنة الأولى وفي السنة الثانية؟ وهذا اشتراط يُنقص من حق المرتهن في الرهن، ثم فيه قولان، فلا يكاد يستمرّ في شرط يعود بنقض ما ذكروه من مذهبهم، لأجل ما حكيناه من الخلاف عندنا في هذه المسألة. ولكن تختلف أحكام الشروط باختلاف معانيها. وأمّا اشتراط ما فيه زيادة، فقد قدمنا نحن، فيمن أخذ رهنًا وشرط له الراهن أن له بيعه من غير مطالعة، أن فيه عندنا اختلافًا بيّنّاه في فصل قبل هذا. وها نحن نتكلم على شرط فيه زيادة في حق المرتهن، وهو اشتراط الانتفاع بالرهن. فاعلم أن من ارتهن رهنًا واشترط ذلك في أصل عقد سلعة باعها، فإنه إن لم يبيّن حقيقة الانتفاع بالرهن، كما بيّنْ في عقد إجارته، فإن ذلك لا يجوز لكون هذه المنفعة المشترطة لها حصة من الثمن، فصارت كالإجارة، والإجارة لا تجوز إلا على منافع معلومة. وكذلك يفتقر في اشتراط هذه المنافع إلى تحديد أجلَ معلوم، فإن سَلِم عقد هذه الإجارة مما يفسدها، كما بيناه، التُفِت إلى أصل آخر، وهو كونها عقدًا قارن عقدَ بيع، وعقد البيع يختلف فيه الغرر في ثمنه، وفيما قارنه مما هو كبعض ثمنه. فإن كان الرهن عقارًا، كالدور

والأرضين، جاز اشتراط الانتفاع به إذا ثبتت المنفعة، وضُرب أجلها, لارتفاع تصور الغرر في رهن العقار. وأمّا إن كان الرهن المشترط للانتفاع عروضًا أو حيوانًا، فإن مالكًا منع ذلك في المدونة، وذكر ابن القاسم إن علة منع مالك إياه كونُ الثياب والحيوان يغئرها الاستخدام، فلا يدرَى، عند انقضاء المنافع وحلول الدين، كيف يكون الرهن، هل يوفي بالحق لبقائه على حاله, أولًا يوفي لكثرة تغيره وانتقاصه، واشتراط رهن فيه غرر في أصل عمّد بيع لا يجوز، على هذا. وفي كتاب الحمالة من المدونة إن الحمالة إذا كانت فيها غرر لا تجوز، ويَبطل البيع الذي قارنها. وخالف أصبغ في بطلان البيع، كما تقدم بيانه. وقال ابن القاسم، عقيب حكايته عن مالك ما ذكرناه: وأما أنا فلا أرى بذلك بأسًا. وأشار إلى أن عقد الإجارة على انفراده يجوز، وإن كان المؤاجِر لعبده أو ثوبه لا يدري كيف يرجع إليه إذا انقضى أمد الإجارة، ثم مع هذه الجهالة لا تبطل الإجارة، فكذلك إذا عُمَدت على هذه الصفة، وقُرن معها عقد بيع. وذكر ابن المواز أن أشهب وأصبغ أجازا ذلك، وأن قول مالك اختُلف فيه. وأما إن كان اشتراط المنفعة في عقد قرض فإن ذلك لا يجوز، بغير خلاف قولًا على الإطلاق, لأن المنفعة إنما اشترطها المُسلِف بماله على أنْ جَعَل عِوَض السلف منفعةً ينالها من المتسلف، وهي الانتفاع بالرهن الذي دَفَع إليه. وأما إن كان هذا الاشتراط لهذه المنفعة بعد عقد البيع، وعقد القرض، فإن حكمها يستوي في كون ذلك لا يجوز, لأنها هدية المديان، وإنما سمَح له صاحب الرهن بالانتفاع برهنه بعد عقد البيع أو القرض رجاءَ أن لا يضيّق عليه في الطلب إذا حل الأجل، ويؤخرَه بالدين الذي له عليه، وتأخيره كالسلف، وما أباح له من الانتفاع هو عوض التأخير الذي يؤخره به. ولو صحّ في هذين الرجلين أنهما لم يقصدا لذلك لمُنع، حمايةً لغيرهما.

ولو كان الرهن بعد عقد البيع والسلف، فشرط الراهن أن للمرتهن الانتفاع به بإجارة، يجري ذلك على أحد القولين، فيمن عليه دين مؤجّل، فعامل من له الدين ببيع على النّقد. وذلك مذكرر في كتاب البيوع، ولأنه يتوفى منه في المسامحة هدية المديان، والزيادةُ، على حسب ما تقدم ذكره. وإذا صح حكم جواز اشتراط المنفعة في الرهن، على التفصيل الذي ذكرناه، ومنْع الشافعية ذلك على الإطلاق، فقد علمت أنّ هذا الرهن امتزج فيه حكمان متنافيان في أحكام الضمان، وقد عملت أن الرهن إذا كان مما يغاب عليه فإنه مضمون، كما تقدم بيانه، والمستأجَر للانتفاع به غير مضمون، على ما يذكر في كتاب الإجارات. وإذا ادّعى، هذا المرتهن لما يغاب عليه، وقد اشتوط المنفعة،: أنه ضاع، فهل يصدق في دعواه الضياع ويسقط عنه الضمان تغليبًا لحكم الإجارات، أو لا يصدق في ذلك، ويجب عليه الضمان، تغليبًا الأحكام الرهبان؟ فبسبب هذا الامتزاج في هذين الحكمين وقع الإشكال: ما الذي يغلب متهما على صاحبه: هل حكم الرهبان فلا يضمن؟ من الأشياخ من غلب حكم الرهبان وأوجب الضمان، ومنهم من غلب حكم الإجارة فأسقط الضمان، ومنهم من أفرد كل واحد بحكمه ورأى أن الأجزاء التي تنتَهك وتنعدم بالاستخدام لا تضمن، حتى لو اشترط منفعة لباس الثوب شهرًا وادّعى ضياعه، بعد يوم من يوم أخذه، فإنه يسقط عنه مقدار ما يُنقص الثوبَ اللباسُ. فإن نقصه في هذا الشهر ربع قيمته، رجع بمقدار ذلك على الراهن، من غير المبيع له، في قيمته لأجل ضرر الشركة. ولو لم يذعِ الضياعَ إلا بعد فراغ لكان في ذلك القولان المذكوران في كتاب الجُعْل والإجارة: هل تلزمه الإجارة كاملة، وإن سقط عنه ضمان العين أمْ لا تلزمه الإجارة، ويصذَق في سقوط الثمن كما صدق في ضياع عينِ مالٍ مستأجَرةٍ؟ وأشياخي الذي شافهتهم على المسألة، يعتبرون المقصود في هذا العقد، هل

قصدهم الإجارة فلا يضمن هذا الرهن، أو قصدهم الرهن فيضمن؟ ويستدلون على مراعاة القصد في هذا مما ذكر المدونة من أن الحمَّال، إذا فُلّس صاحب الأحمال، كان الإجمال (¬1) أحق بما حل (¬2) من الغرماء، وهو مع هذا لو ادّعى الضياع لما حمل من العروض لصدِّق, لأن المقصود في هذا العقد الإجارة لا الرهن، حتى إذا بلغ المكانَ الذي استؤجر على أن يبلّغ الأحمال إليه ولم يُعْطِه صاحب الأحمال إجارتَه أبقى عنده الأحمال رهنًا، وغاب عليها، فإنه حينئذ يضمنها. وهذا يشير إلى اتباع المقصود في هذه العقود. فإذا وضح هذا فإنه يلتفت إلى صحة الحوز في هذا، وقد قدمنا أن المرتهن إنما يكون أحق بالرهن إذا حازه. وظاهر مذهب ابن القاسم أن هذا يكون رهنًا مَحُوزًا، وإن امتزج فيه الحكمان: حكمُ الإجارة وحكم الرهبان، فكذلك لو استأجر هذا الثوب ثم ارتهنه فإن سحنونا ذكر أن مذهب ابن القاسم صحة الحوز، وإن تقدم فيه عقد الإجارة، كمن أخدم رجلًا عبده ثم تصدق به عليه، فذكر عبد الملك في الموازية والمبسوط أنه إذا استأجر شيئًا أمسكه رهنًا بعد ذلك بدين أسلفه لصاحب الرهن أن ذلك لا يكون حوزًا، قال: لأنه إنما قبضه أوَّلًا على حكم الإجارة، لا على حكم الرهن، فلا ينتقض الحكم الأول الذي هو حوز الإجارة. ولو كان الرهن سبق أوَّلًا ثم استأجر هذا الرهن فقد قال عبد الملك: إن الحيازة تصح، لكونه أولًا قبضه على حكم الرهن، فلا يتغير هذا الحكم. وذكر ابن المعذل لا يصح حوز هذا الرهن, لأن عقد الإجارة فيه بعد ارتهانه كالفسخ لارتهانه. وقد اختلف أيضًا في رهن ما هو مستأجر في يد غير المرتهن، فوقع لمالك: أن ذلك لا يكون محوزًا. وقال ابن نافع في المْبسوط: إنه يكون محوزًا. وقال ابن القاسم في الدمياطية، فيمن وجد جِمالًا ثم رهنها: إن المرتهن إن كان ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: الحمّال. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: حَمَل.

يقوم عليها ويعلفها فإن الحيازة تصح، وقدر أن هذا النوع من التصرف من المرتهن كالحيازة له، وهي أقصى ما يقدر عليه. والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد قدمنا جواز وقف الرهن على يد أمين، بتراضي الراهن والمرتهن، أو بحكم حاكم، وذكرنا حكم الضمان في ذلك. ولكن قد يخالِف هذا الأمين ما أُذِن له فيه من إمساك الرهن حتى يُقضى الدين، بأن يسلّمه إلى أحد الرجلين اللذين تراضيًا به، إما المرتهن وإما الراهن، فإن سلّمه المرتهن فضاع عنده ضمنه للراهن، وإن أسلمه للراهن ضمنه لبمرتهن. ولكن إذا سلّمه للراهن ضمن للمرتهن الأقل من قيمة الرهن أو الدين الذي أخذ به الراهن، (¬1) لأنه إن كان قيمة الرهن أقل من الدين فإنما أتلف على المرتهن قيمة الرهن، الذي لو لم يسلم إلى الراهن لباع الرهنَ وأخذ ثمنه في دينه. وإن كان الدين أقل من قيمة الرهن فإنما أتلف عليه الدينَ لأنه لا يستحق من الرهن إلا مقدار الدين، وما زاد على ذلك فلا يستحقه. وإن أسلمه للمرتهن، وقد حلّ أجل الدين، سقط حق المرتهن في الدين، وحوسب بقيمة الرهن في دينه. فإن تساويا ووجبت المقاصّة برئ الراهن من الدين، لاستحقاقه في ذمة المرتهن مثله، وبرئ الأمين الذي كان الرهن موقوفًا بيده أيضًا, لأنه لم يتلف على واحد منهما شيئًا. وأما إن وقعت المحاكمة في ذلك قبل الأجل، فإن الراهن لم يُستحق عليه الدين، فمن حقه أن يطالب عين الرهن لما (¬2) تعدى عليه فيه، وقد حصل التعدي من الأمين في دفعه للمرتهن، وحصل التعدي أيضًا من المرتهن في أخذه وقبول ذلك من الأمين، مع كونه لا يجوز له ذلك. فإن اختار مطالبة الأمين ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: الرهْن. (¬2) هكذا، والمعنى: مِمَّنْ.

بقيمة الرهن الذي تعدى عليه، وسلّمه لغيره، كان ذلك من حقه، وغرم هذا الأمين قيمة الرهن، ويستحقها الراهن فيأخذها إن أتى برهن يسد مسدَّها. وإن لم يأت برهن أُوقِفت هذه القيمة على يد أمين آخر، لظهور خيانة هذا الأمين الأوّل. فقد يحوز (¬1) أيضًا مرة ثانية. وغلب ها هنا حق الراهن لأنه مالك عينِ الرهن، وإنما للمرتهن التوثق بالرهن، والتوثق يحصل له إذا كان في يد أمين غير الأول الذي خان. وأما الراهن بحقه في عين الرهن، فهو أوْلى بأن يُنظَر له في صيانة عين ملكه، فإن أَغرمَ الراهنُ هذا الأمين قيمة الرهن، رجع بها على المرتهن الذي ضاع الرهن في يديه, لأنه غرم ذلك بسببه، ولم يسلم إليه الرهن على أنه ساقط عنه، وأنه ملتزم قيمتَه قضى (¬2) عنه، وإنما سلم على حكم الرهبان: الضمان فيما يغاب عليه، يُقضى بذلك على المرتهن, لأنه أخذه على حكم الرهبان التي تؤخذ لمنفعة المرتهن. لكن لو ضاع في يد المرتهن ببيّنة لسقطت عنه مطالبة هذا الأمين بما استخرج (¬3) من قيمة الرهن، لكونه سلطه عليه، وهو غير متعد في قبضه في حق الأمين وإن كان متعديًا في حق الراهن. وإذا كان من حق هذا الأمين أن يرجع على المرتهن بقيمة الرهن التي غرمها بسببه، فهل من حق المرتهن أن يمتنع من أدائها، ويقاصَّ بدينه عوضًا عنها، إذا لم يحل الأجل؟ هذا على قولين: أحدهما: إنه يمنع من المقاصة، ويغرم القيمة على مقتضى حكم التعدي. وعلى القول الثاني: له المقاصة, لأنا نجوّز صِدْقَه في أن الرهن قد ضاع له. ولو قامت بينة على ضياعه لم يغرمه، فلا يلزمه تعجيل القيمة إذا رضي بالمقاصّة مع هذا التجويز لصدقه. ولو اختار الراهن طلب المرتهن بحكم التعدي، وعدل عن طلب الأمين، لكان له أن يُغرمه القيمةَ. وإن طلبه بغرامة القيمة من جهة دعوى الضياع لجرى ذلك على القولين المتقدمين. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: يخون. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: قضاء. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: اسْتُغْرِم.

ولو كان الرهن موجودًا في يد هذا المرتهن، ولكن لم يعلم به الراهن حتى قام عليه، فوجده مفلّسًا، عليه غرماء يطالبونه بديونٍ، فهل يكون أحقّ بهم (¬1) بعين الرهن أوْ لا يكون أحق بل يكون كأحدهم في المحاصة بقيمة الرهن؟ المذهب في هذا على قولين: أحدهما: إنه يكون أحق. والثاني: إنه لا يكون أحق, وإليه ذهب ابن المواز. وقال عيسى بن دينار: إنه لا يكون أحق إذا كان الأمين عديمًا. فأجْرى على قوله أَلا يكون أحق إذا كان الأمين مليا يمكنه أخذ قيمة الرهن منه. وقال أصبغ: بل يكون أحق إذا كان الأمين عديمًا لا مال له. وعندي أن سبب هذا الاختلاف الالتفات إلى ما كنا قدمناه أن الرهن إذا رجع إلى يد الراهن، باختيار المرتهن وطوعه، سقط (في الرهن) (¬2) ولم يكن أحق به إذا وقع الفلس، وذلك بأن يرده الراهن إلى جهة الوديعة أو الإجارة، لكنه له ارتجاعه بعد رمنه على جهة الوديعة وبعْد رده على جهة الإجارة إذا انقضى الأجل ولم يقمْ الغرماء ولا فلِّس الراهن. ولو ظهر أنه إنما واجَر الراهن من الرهن لاعتقاده أن ذلك لا يُبطل الرهن، لكن (¬3) من حقه، فيما اختاره بعض أشياخي، أن يفسخ الإجارة. وهذا عندي يتعلق بأصل آخر ينظر فيه هل يمكن من فسخ الإجارة أم لا؟ ولو كان الرهن عبدًا، فأبق العبد من غير تفريط من المرتهن، وعاد بعد إباقه إلى سيده، ولم يعلم بذلك المرتهن حتى قام الغرماء، لم يبطل حق المرتهن في هذا الرهن، لكونه مغلوبًا على رجوعه إلى يد الراهن. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: منهم. (¬2) أي: في كونه رهنًا. (¬3) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: لكان.

وهاهنا قد يقال: إنه كالمغلوب لكون الأمين ردّ الرهن على الراهن بغير اختيار المرتهن، فأشبه إباقَ العبد. أو يقال ها هنا: إن المرتهن رضي بوقف الرهن عند هؤلاء (¬1) الأمين، مع تجوزه أن يرده إلى الراهن، فصار كأنه ليس بمغلوب على الردّ، بخلاف الإباق، مع كونه ها هنا أيضًا له مرجع بقيمة الرهن على هذا الأمين المتعدى، وينفرد بما يأخذ منه عن الغرماء، ويتبعه بذلك إن كان فقيرًا، ولا يكون أحق من الغرماء، مع كونه قد تميّز عنهم باستحقاق قيمة الرهن في ذمة رجل أحق (¬2) غير غريمه. فإذا قلنا: إنه يكون أحق بعين الرهن، وإن فلس الراهن، والرهن في يده، حكم له بأخذ الرهن وحاصّ بما يبقى له بعد ثمن الرهن من الدين. وإن قلنا: إنه لا يكون أحق, فإن هذا الأمين الموقوف على يديه الرهن قد أضَرَّ بالمرتهن في إعادته إلى يد الراهن، فللمرتهن مطالبة الرهن (¬3) بما أضر به ما فعله من إعادة الرهن للراهن. فمذهب جماعة من أشياخ القرويين وحذاقهم أنه يرجع المرتهن على الأمين بمقدار ما نقصه الحِصاص لأجل تسليم الرهن. ونحن نضرب لهذا مِثالًا يتبين به اختلاف طرق الأشياخ. فلهم في المسألة ثلاث طرق: 1 - أحدها: ما ذكرناه عن بعض حذاقهم، وإليه مال بعض مشايخ الصقلّيين. فإذا فرضنا أن الراهن عليه عشرون دينارًا للمرتهن، وعشرون دينارًا أخرى لرجل آخر لم يأخذ بها رهنًا، ففُلِّس الراهن، فوجدنا بيده الرهن الذي رده عليه الأمين، وقيمته عشرة دنانير، وفي يده مع ذلك عشرة دنانير أخرى، فقد صار الموجود في يده عشرين دينارًا، وهي نصف الأربعين التي عليه للرجلين، فيتحاصان في هذه العشرين التي هي عشرة منها ثمن الرهن، وعشرة أخرى ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: هذا. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: آخر. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: الأمين.

بيده. فإذا تحاصًا فإن كل واحد من هذين الرجلين يأخذ نصف حقه، وهي عشرة دنانير، فيقول، الذي دينُه أخذ له الرهنَ، للأمين: لو لم تسلم الرهن إلى الراهن وبقي في يديك لكنتُ أنا أحقَّ به، ولم يحاصَّني الغريم الآخر فيه بدينه، بل آخذ ثمنه وهو عشرة دنانير، فتبقى لي من ديني عشرة دنانير، وللغريم الآخر عشرون لا رهن له بها، فتكون المحاصة بيني وبينه على ما حكم به الحاكم الآن، وذلك أن العشرة التي أخذتها من ثمن الرهن سقط بها، وبقي لي النصف الآخر الزائد على قيمة الرهن، وهو عشرة لا رهن لي بها, وللغريم الآخر عشرون ولا رهن لي (¬1) بها، فتقع المحاصة بيني وبينه، على أن له ثلثي العشرة، وهو سبعة غيرُ ثلث، ولي أنا ثلثُها وهو ثلاثة دنانير وثلث، فيحصل في يدفيَ ثلاثة عشر دينارًا وثلث، عشرة منها هي التي حكم بها الحاكم، وثلاثة وثلث تجب بالمحاصة. ولو كانت على غير الصفة التي حكم لي الحاكم، فيُطلَب الأمين بثلاثة دنانير وثلث، وهي التي تعدَّى الأمينُ على الرهن من حقي هذا في الحصاص. ولو كان الرهن قد أفاته الراهن بأن يكون طعامًا فأكله، أو ثوبًا فلبسه، ووجد في يده عشرون دينارًا، لرجع المرتهن على الأمين بسبعة دنانير غيرِ ثلثٍ، وهي ضِعْفا ما يرجع به عليه لو كان الموجود في يده عينَ الرهن وعشرون (¬2) دينارًا, لأن الرهن إذا كان موجودًا وقع الحصاص للمرتهن بعشرة دنانير، لسقوط عشرة من دينه بالرهن الذي يأخذه لو بقي في يد الأمين، وإذا كان الرهن قد فات في يد الراهن وقيمته عشرون دينارًا ووقع الحصاص للمرتهن بعشرة دنانير في عشرين بيد الراهن. وفي المسألة الأولى يقع له الحصاص بعشرة، فلا شك أن الذي يجب له في الحصاص في عشرين دينارًا أضعاف (¬3) ما يجب له في الحصاص في عشرين (¬4)، وهو سبعة إلا ثلث. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: له. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: عشرين. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: ضِعْف. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: عشرة.

ولو فرضنا المسألة الأولى، وهي الحصاص بعشرة بقيت له بعد الرهن في عشرة قبالة (¬1) في الحصاص ثلاثة وثلث كضا بيناه، ثم طرأ للراهن عشرة أخرى، فإن حكم الحصاص، الذي ذكرناه، ينتقض بطريان مالِ الراهن (¬2)، وإذا انتقض فقد صار للراهن ثلاثون دينارًا، منها عشرة قيمة الرهن، والعشرة الأخرى التي قدرناها في السؤال الأول، والعشرة الأخرى طرأت، فهذه ثلاثون، تقسم بين الغريمين نصفين كما فعلناه في السؤال الأول، فيحصل للمرتهن خمسة عشر دينارًا, وتبقى له عشرة دنانير لا يشاركه فيها أحد، ويبقى له من دينه عشرة دنانير، وللغريم الآخر عشرون دينارًا، العشرة التي قدرناها مع الرهن، والعشرة الطارئة، فتضرب في العشرين المرتهن بالعشرة الباقية به، ويضرب بالغريم الآخر بجميع دينه وهو عشرون دينارًا، فينوب المرتهن من العشرة ثلثاها، وهو سبعة دنانير غير ثلث، فيضاف إلى العشرة التي هي ثمن رهن الذي هو أحق بها لو بقي الرهن في يد الأمين، فيضرب جملة ما يستحق سبعة عشر دينارًا غير ثلث، وقد أخذ خمسة عشر دينارًا، والذي أضرّ به تسليم الرهن دينارًا وثلثا. وهكذا لو كان الراهن وجد الرهن وقد فات، فإن التفريع على هذا يجري. فانظر ما حصل له في المحاصة وما نقصه، وأضرَّ به تسليم الرهن، فهو الذي يرجع به على الأمين. فهذه إحدى الطرق الثلاثة فيما يرجع به المرتهن على الأمين. وأما الطريقة الثانية، وهي طريقة الشيخ أبى محمَّد بن أبي زيد رحمه الله، وذلك أنه رأى أن هذا المرتهن قد تعدى الأمينُ عليه في تسليم رهنه إلى الراهنو فله أن يطالبه بقيمة الرهن الذي تعدى عليه، وقيمته عشرة دنانير، وقد أخذ الحصاص (¬3) أوَّلًا عشرة دنانير، على أنّ المحاصة كانت له بعشرين وبعشرين للغريم الآخر، فصارت ها هنا لما أخذ العشرة قيمةَ الرهن من الأمين ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: فما له. (¬2) هكذا, ولعل الصواب: مالٍ للراهن. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: بالحصاص.

قد سقط دينه، وبقي له المحاصة بنصف دينه الآخر الزائد على قيمة الرهن (¬1) من العشرة التي قبضها بالمحاصة نصفَها لأنه حاص أوّلًا بَعشرين وكشف الغيب أنه لما أخذ من العشرين عشرة من الأمين أنّ المحاصة إنما تجب له بعشرة، فيردّ من العشرة، التي أخذ نصفها في المحاصة، نصفَها وهو خمسة دنانير التي تمسّك بها من عشرة المحاصة، فذلك خمسة عشر دينارًا، وقد ردّ مِمّا أخذ في المحاصة خمسة دنانير بقيت من جملة دينه لكونه حصل في يده خمسة عشر دينارًا، ويضرب فيها الغريم الآخر بعشرة دنانير، وهي التي بقيت من دينه بعد العشرة التي أخذ في الحصاص، فيقضى له بثلثها، وهو ديناران غير ثلث، يضاف إلى الخمسة عشر فيحصل له سبعة عشر دينارًا غير ثلث. ونحا الشيخ أبو محمَّد في هذه الطريقة نحو ما ذكره يحيى بن عمر في مسألة المدونة، فيمن رهن زرعًا لم يبْدُ صلاحه، وفلّس الراهن، فإن الزرع لما كان لا يحلّ بيعه صار كالعدم، وحاص هذا المرتهن بهذا الزرع غرماءَ الراهن بجميع دينه. فإذا حل بيع الزرع فإنه تبطل المحاصة الأولى، ويرد نصفَ ما أخذ فيها إذا كان هو قد أخذ نصف دينه، والغريم الآخر نصفَ دينه. فيرد نصف ما أخذ في المحاصّة، ثم يتحاص فيه هو بما بقى له. وذهب بعض المتأخرين إلى طريقة ثالثة، وأنكر طريقة الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد، وقال: إنما يرجع المرتهن على الأمين في مسألتنا بخمسة دنانير، وذلك أن مِن حقه أن يُغرّم الأمين (¬2) وقيمة رهنه، وهو عشرة دنانير، ويبقى له من دينه عشرة يحاص بها. ويحاص أيضًا الأمين بالعشرة التي غرمها المرتهن، ويحاص الغريم الثالث، الذي له عشرون بغير رهن، بالعشرين دينارًا، فصار جملة ما على الراهن من الدين أربعين دينارًا، وفي يده عشرون دينارًا يتحاص فيها ثلاثة غرماء، المرتهن بالعشرة التي بقيت له بعد ما أخذ الأمين، والأمين ¬

_ (¬1) كلمة غامضة، ولعلها: فيَرُدُّ. (¬2) هكذا, ولعل الصواب حذف الواو.

بالعشرة التي غرمها المرتهن، والغريم الثالث يحاص بالعشرين جملة دينه. فالذي ينوب المرتهنَ والأمينَ في الحصاص في العشرين التي بيد الراهن عشرة دنانير، خمسة منها للمرتهن، وهي التي صارت له (¬1) حاص بالعشرة الباقية، وخمسة منها للاثنين، فيأخذ الأمين خمسة بالحصاص فيصير جملة ما غرم خمسة، ويأخذ المرتهن خمسة، يتمسّك بها مع العشرة التي غرمها له الأبن، فصار جملة ما يأخذ خمسة عشر دينارًا، منها عشرة التي غرم له الأمين، ومنها خمسة هي التي تنوبه في المحاصة مما بقي له. فلو فرضنا أنه بدأ بغرامة الأمين، وقدم ذلك على الحصاص، لكان الحكم ما ذكرناه بمن (¬2) كونه يحصل في يديه خمسة (¬3) دنانير، وهي ثلاثة أرباع حقه. فإذا لم يبدأ بغرامة الأمين وبدأ بالمحاصة فإنه يحاص عن نفسه وعن الأمين، فيجب أن يكون الذي يحصل له لو بدأ بغرامة الأمين هو الذي يُعْطى له في المحاصة، فإنها (¬4) يستغرم الأمين خمسة دنانير. واعتد صاحب هذا المذهب بلفظ وقع في الموازية وهو قوله "يحصل للمرتهن ثلاثة أرباع حقه". قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى ورضي عنه: وإذا اختلف المتراهنان في عين الرهن فالقول قول المرتهن (¬5). وإن اختلفا في قدر الحق فلا يخلو الرهن أن يكون باقيًا أو تالفًا. فإن كان باقيًا فلا يخلو أن يكون في يد المرتهن أو في يد أمين. ¬

_ (¬1) هكذا, ولعل الصواب: التي صارت له [لمّا] حاص ... (¬2) هكذا, ولعل الصواب: مِنْ. (¬3) هكذا, ولعل الصواب: خمسة عشرة دينارًا. (¬4) هكذا, ولعل الصواب: فإنه. (¬5) في الغاني إضافة: مع يمينه.

نجز ما وجد من الأمَّ النسخ منها بحمد الله تعالى وحسن عونه وتوفيقه. والصلاة على النبي وآله. وكان الفراغ من نسخه أواخر ذي الحجة سنة 1237، سبع وثلاثين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية. ولا حول ولا قوة إلا باللهِ العلي العظيم. "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. انتهى

§1/1